بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله
المتفرّد بوجوب الوجود والالوهية ؛ والمتوحّد بالأزلية والقيّومية والربوبية. كلّ
قويّ في قبضة قدرته أسير ؛ وكلّ عظيم في جنب عظمته ذليل حقير. هو الحقّ وما عداه
مضمحلّ باطل ؛ وهو الباقي وما سواه هالك زائل. جلّ عن إدراك العقول والأفهام ؛
وعزّ عن إحاطة البصائر والأوهام. فإلى الإسراء دلّ الإمكان والعبودية ونيل سرادقات
جمال الوجوب والربوبية ؛ وما للمسجونين في سجن حضيض الناسوت والعروج إلى ذروة
حقائق اللاهوت.
ونشهد أن لا إله
إلّا الله ، وحده لا شريك له بشهادة تبلغ سكّان صقع الملكوت ويستعظمها قطّان قدس
الجبروت.
ونصلّي على نبيّنا
المبعوث بالحقّ من الحقّ ؛ والمستغرق في الجمال المطلق ؛ طيّار جوّ الأزل والأبد ؛
وغوّاص غمرات بحر السرمد ؛ سبّاح عوالم الأفلاك ؛ ومخدوم أعاظم الأملاك. فصلوات
الله عليه وعلى عترته ، الأرواح العرشية في الأشباح القرشية ، والأنوار القدسية في
الهياكل العنصرية ، والجواهر الملكوتية في القوالب الناسوتية.
فيقول الشائق إلى
عالم الأنوار ، وطالب حقائق المعارف والأسرار ، مهدي بن أبي ذر النراقي ـ جعلهما
من صفوة الأخيار ـ : هذه لمعات عرشية تستضيء بها وجوه عوالم الأكوان ؛ وإشراقات
عقلية تتلألأ بها قلوب عرفاء الإخوان ؛ وأذوات نورية تروح مشام الأرواح ؛ وصادرات قدسية تحيي رميم
الأشباح ؛ نفحات ربّانية لا تمسّها اسراء سجن البدن ؛ ونفسات رحمانية آتية من جانب
القرن ؛ مكاشفات شهودية صافية عن شوائب العمى ؛ ومشاهدات حضورية تذكر عهود الحمى ،
بل غوامض أسرار ليست شريعة لكلّ وارد ؛ ومعارف أحرار لا يطّلع عليها إلّا واحد بعد
واحد ؛ أخذتها من مرئيّات العقول النورية بعد المسافرة إلى أوطانها ، واستفدتها من
عوالم الأنوار غبّ الالتجاء إلى سكّانها ؛ وأهديتها لمن أشرق قلبه بأنوار الجلال
ونودي من وراء سرادقات الجمال.
فخذها / A ١ / بقلب صفيّ عن كدورات عالم الطبيعة ؛ واستعدّ بشروق
نور الحقّ من افق الحقيقة ؛ ولا تظنّ بي أنّي جامد على اصول فرقة معيّنة ـ من
الصوفية أو الإشراقية أو الكلامية أو المشّائية ـ بل بإحدى يدىّ قاطع البرهان
وبالاخرى قطعيات صاحب الوحي وحامل الفرقان ؛ وبين عيني كون الواجب على أشرف
الأنحاء في الصفات والأفعال. فآخذ بما تقتضيه هذه القواطع وإن لم توافق قواعد واحد
من الطوائف ؛ وسمّيتها ب «اللمعات العرشية» ؛ وتنحصر في لمعات خمس :
أحدها : في الوجود
والماهيّة وبعض ما لهما من الأحوال.
وثانيها : في ما
يتعلّق بالمبدإ من صفات الجلال ونعوت الجمال.
وثالثها : في
كيفية إيجاده وإفاضته وساير ما يتعلّق بصدور الأفعال.
ورابعها : في
النفس الإنسانية وما يتعلّق بها من الأحوال والمآل.
وخامسها : في
النبوّات وكيفية الوحي ونزول الملك وساير ما يرتبط بهذا المقال.
__________________
اللمعة الأولى
في الوجود والمهيّة
[في أنّ صرف الوجود موجود]
صرف الوجود موجود
وإلّا لزم في الماهيّات الموجودة إمّا علّية المعدوم لوجود نفسه أو الدور أو
التسلسل.
والمراد به حقيقة
بسيطة قائمة بذاتها ، مجرّدة عن الماهيّة ، منشأ بنفسها لانتزاع الظهور الخارجي
المعبّر عنه بالوجود المطلق والعامّ والإثباتي والوجود بالمعنى المصدري ؛ بمعنى
أنّه منتزع من حاقّ حقيقتها بحيث لا يمكن تصوّرها منفكّة عنه ؛ بخلاف الماهيّات ؛
فإنّ شيئا منها لا يقتضي هذا الظهور بذاته ؛ إذ المراد بالماهيّة ما من شأنه
الاتّصاف به وعدمه ؛ وللعقل أن يلاحظه مجرّدا عنه. فإن وجد علّة الاتّصاف صارت
موجودة وإلّا كانت معدومة. فهي في حدّ ذاتها معدومة غير مقتضية للوجود ؛ كيف ولو
كان الوجود من لوازمها الذاتية لم ينفكّ عنها في التعقّل أيضا وانقلب الوجود
العقلي خارجيا؟! إذ لازم الماهيّة يلازمها في أىّ ظرف وجدت ولذا لا تنفكّ الزوجية
عن الأربعة في الظرفين.
ولا تظنّ «أنّ
الحرارة الخارجية لازم النار مع أنّها تنفكّ عنها في التعقّل» لأنّها
لازم حقيقتها
الخارجية دون ماهيّتها المطلقة.
وأمّا صرف الوجود
القائم بذاته فهو يقتضي الموجودية الخارجية بذاته ؛ بمعنى أنّها من لوازمها
الذاتية التي لا يمكن أن تنفكّ عنه أصلا. فكان حقيقته أنّه في الأعيان ولذا يمتنع
تعقّله ؛ إذ لو دخل في الذهن انقلب الوجود العقلي خارجيا أو بالعكس. فمعلوميته
منحصرة بكونه كذلك ومبدئيته للمطلق بنفس ذاته.
قيل : هذا الدليل منتقض بالماهيّة الموجودة للممكن. إذ قابل الشيء
كفاعله في وجوب تقدّمه عليه بالوجود مع أنّها متّصفة بالوجود من دون تقدّمها عليه
بالوجود.
اجيب : باعتبارية القابلية والمقبولية منها. إذ المتحقّق في الخارج
واحد والاتّصاف بالوجود والمغايرة بمجرّد الاعتبار ؛ وإذ يتأتّى مثله في الماهيّة
الواجبة فلا يلزم افتقارها إلى / B ١ / علّة خارجة.
والحقّ : أنّ هذا النقض مع القطع بتقدّم فاعل الشيء وقابله عليه شاهد
صدق على أصالة الوجود الخاصّ في الممكن جعلا وتحقّقا وكون الماهيّة الإثباتي
منتزعة عنه من دون تحقّق وجعل لهما بالذات كما يأتي ؛ إذ وروده إنّما هو على
أصالتها نظرا إلى أنّها مع قطع النظر عن الوجود معدومة. فلا معنى لتقدّمها عليه
حتّى يصحّ اتّصافها به وانتزاعه عنها.
وأمّا مع أصالة
الخاصّ فلتحقّقه في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن العامّ ، والماهيّة يتقدّم عليهما
ويصحّ انتزاعهما عنه وإن لم يتحقّق الاتّصاف الموجب للمغايرة الواقعية والقابلية
الحقيقة.
قيل : لو كانت الأصالة للخاصّ والماهيّة منتزعة جاز كونهما في
الواجب كذلك ؛ لعدم لزوم جعل يفتقر إلى علّة خارجة ؛ فلا يثبت كونه صرف الوجود.
قلنا ـ بعد تذكّر «أنّ الاعتباري إمّا وهمي لا يفتقر إلى حيثية
خارجية يناسبه ويصلح لمنشئية انتزاعه أو نفس أمري يفتقر إليها» ـ : إنّ الوجود
والماهيّة ليستا من
الأوّل وإلّا صحّ
انتزاع الوجود من العنقاء وكلّ ماهيّة من كلّ حقيقة بل من الثاني ؛ فلا بدّ لكلّ
منهما من حيثية مصحّحة لانتزاعه ؛ فلا بدّ في محلّهما من حيثيتين خارجيتين ؛
ويمتنع تحقّقهما في الواجب وإلّا لزم تركّبه وافتقاره ؛ فلا يصحّ انتزاعهما عنه
وإلّا لزم انتزاع مفهومين مختلفين لهما ـ اعتبارية [و] نفس أمرية ـ من البسيط من
كلّ وجه ؛ [و] قد ظهر بطلانه.
فالوجود الخاصّ
ممكن بالنظر إلى حيثية صدوره من العلّة ووجوبه الغيري ينتزع عنه العامّ. فبالنظر
إلى حيثية ذاته الممكنة وعدمه الذاتي تنتزع عنه الماهيّة ؛ فهو زوج تركيبي ؛
والوجود الواجبي لغنائه بذاته واستغنائه عن العلّة ليس له إلّا حيثية ذاته البسيطة
؛ فلا ينتزع عنه إلّا العامّ.
فكلّ حقيقة خارجية
ينتزع عنها صورتان هما الماهيّة والعامّ ممكن مركّب ذو ماهيّة ؛ وكلّ حقيقة لا
يمكن أن ينتزع عنها إلّا صورة واحدة هي الوجود العامّ واجب بسيط ؛ حقيقته عين
وجوده. فالوجود زائد على الماهيّة في الأوّل خارجا وذهنا لاختلاف الحيثية والصورة
؛ وعينها في الثاني في الظرفين لوحدتهما.
وأيضا : لو اريد بكون الواجب ذا ماهيّة خاصّة كونها جزءا له أو كونه
ذا جهة مصحّحة لانتزاعها ، لزم تركّبه. ولو اريد به انتسابها إليه بالمعلولية فلا
وجه للتخصيص ؛ إذ الكلّ عند الكلّ منتسب إليه وإن اختلفوا في كيفية النسبة.
فإن قيل : مفهومات الصفات في الاعتبارية كالماهيّة والعامّ ؛ فيلزم
استنادها إلى حيثيات في الذات متغايرة.
قلنا : يأتي جوابه في محلّه.
[في البرهان] على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة
يصير
حاصل البرهان : أنّ اللازم انتهاء سلسلة الوجودات الخاصّة إلى ما هو منشأ
بذاته لانتزاع
العامّ دفعا للدور والتسلسل ؛ ولا تكون له ماهيّة لما مرّ ؛ فهو صرف الوجود الحقّ
الواجب بذاته.
[في برهان آخر على أصالة الوجود]
حقيقة كلّ موجود
هو وجوده الخاصّ ، وهو الأصل في الجعل والتحقّق ؛ والماهيّة والعامّ منتزعان / A ٢ / عنه ؛ إذ الماهيّة المقابلة للوجود ليس الوجود عينا
لها وهو ظاهر ؛ ولا جزءا لها وإلّا لم يصحّ تجريدها عنه وتعلّقها بدونه ؛ فهي
كالعامّ اعتبارية ؛ فتحصّل المتحصّل منهما محال ؛ إذ ضمّ الاعتباري إلى مثله لا
يفيد إلّا الاعتباري ؛ وأيضا ممتنع تحقّق الاعتباري بنفسه ، بل لا بدّ أن ينتزع عن
غيره.
فلا بدّ في كلّ
موجود من أمر آخر متحقّق بنفسه أوّلا بدون العلّة أو بعد صدوره عنها ، وهو الوجود
الخاصّ.
ولا تظنّ أنّ
تحقّق الوجود بنفسه هو بعينه وجوبه بذاته ؛ إذ معنى وجوبه بذاته كونه مقتضى ذاته
من دون حاجة إلى فاعل وقابل ؛ ومعنى تحقّقه بنفسه عدم توقّف تحقّقه على وجود آخر
يقوم به ولو كان صادرا عن علّة ، بخلاف غير الوجود ، فإنّ تحقّقه فرع وجود يتّصف
به أو ينتزع عنه ؛ فلا يتمّ إلّا بتأثير الفاعل في وجوده واتّصافه به.
فالحاصل : أنّ الماهيّات لعدمها الأصلي واعتباريتها يفتقر في تحقّقها
إلى محقّق ؛ وتحقّقها بالعلّة ما لم ينضمّ إليها شيء آخر محال ؛ وبالعامّ كذلك ؛
إذ الاعتباري لا يكون محقّق الحقائق ومذوّت الذوات. فيكون بأمر ثابت متحقّق بنفسه
بعد صدوره عن العلّة ؛ وما هو إلّا الوجود الخاصّ.
وأيضا : العامّ اعتباري منتزع ، والمناسبة بين المنتزع والمنتزع عنه
لازمة ، والماهيّة لعدمها الذاتي لا تصلح لمنشئية الانتزاع ؛ فلا بدّ من تحقّق شيء
بالجعل
يناسبه وهو
الخاصّ.
وأيضا : كلّ موجود في الخارج متشخّص ، والماهيّة كلّية مبهمة ،
وتشخّصها بماهيّات الأعراض واللواحق باطل ؛ لأنّها مثلها في الكلّية والافتقار إلى
مشخّص ؛ وانضمام الكلّي إلى مثله ولو ألف مرّة لا يفيد التعيّن ؛ وبالعامّ فاسد ؛
لاشتراكه بين الكلّ ؛ وتخصّصه كذلك ؛ إذ التخصّص فرع التشخّص . فالطبيعة ما لم يتقيّد بالمشخّصات لم يتخصّص بالحصص.
فإسناد التشخّص إلى التخصّص غير معقول.
فالتشخّص بنحو
الوجود المعبّر عنه بالوجود الخاصّ دون اللواحق والعوارض ، يتوقّف بعينها أيضا
عليه ؛ فهي من لوازم نحو الوجود المشخّصة لأجله. فتشخّص كلّ شيء نحو وجوده كما يأتي بوجه أوضح.
فإن قيل : الخاصّ الإمكاني ليس العامّ من لوازمه الذاتية وإلّا كان
واجبا ، بل من عوارضه المفارقة. فيفتقر في اتّصافه به إلى العلّة ؛ فهو كالماهيّة
في البقاء على مقتضى الذات من صرافة الليس وعدم المنشئية لانتزاع العامّ بدون
تأثيرها وخروجه إلى الأيس والمنشئية له بنفسه ؛ فأثرها الموجب لهذه المنشئية إن
اقتضى التحقّق اقتضى فيهما وإلّا لم يقتض في شيء منهما ، لاشتراكهما في مقتضى
الذات وأثر العلّة ؛ فلا يعقل بينهما فرق إلّا في مجرّد التسمية ، ولذا لم يفرق
بينهما صاحب الشفاء وأطلق كلّا منهما / B ٢
/ على الأخير.
قلنا ـ بعد التنبّه على ضرورة تحقّق الحقائق وتحصّل المتحصّلات
واعتبارية الماهيّة المقابلة للوجود والعامّ ، وامتناع تحصّل المتحصّل منهما ووجوب
تحقّق متحقّق ينتزعان عنه ـ : هب أنّ الخاصّ بلا تأثير العلّة معدوم إلّا أنّه ـ كما
مرّ ـ بعد صدوره متحقّق بنفسه بلا افتقار إلى الماهيّة والعامّ ، بل هما منتزعان
عنه ؛ والماهيّة المقابلة للوجود لا يمكن صدورها قائمة بنفسها متحقّقة بدون وجود
تقوم به. إذ
__________________
المفهوم منها لا
يقوم بنفسه ، بل لا بدّ له من قابل متحقّق ينتزع عنه ؛ ولو سمّيت هذا المتحقّق
ماهيّة فلا مشاحّة في التسمية إلّا أنّا نقطع بأنّه غير ما يفهم ويراد منها.
فإن قيل : هذا المتحقّق لا يوجد بدون الظهور الخارجي المعبّر عنه بالعامّ
، فكيف يكون متحقّقا بدونه حتّى لا يكون تحقّقه بالاعتباري؟!
قلنا ـ بعد النقض بالخاصّ الواجب ـ : إنّ فرض عدم كلّ لازم يستلزم
فرض عدم ملزومه ؛ ولا يمكن ذلك لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته ؛ فهو لا يوجب
توقّف الملزوم على اللازم في التحقّق الخارجي ، بل الأمر بالعكس.
فالحاصل : أنّ صدور الشيء أو جعله أو إيجاده أو ما يرادفها من
العبارات عبارة عن إخراجه من الليس إلى الأيس ؛ وهو فعل يترتّب عليه نحو تحقّقه من
القيام بنفسه في الجوهر وموضوعه في العرض وبالانتزاع من غيره في الاعتباري. فإنّ
أنحاء التحقّق في الأشياء مختلفة ؛ فما يتوقّف تحقّقه على وجود الغير ـ كالماهيّة
المعدومة في حدّ ذاتها الموقوف تحقّقها على الوجود المتحقّق بنفسه القابل
لانتزاعها عنه ـ يتوقّف تحقّقها عليه ؛ وأمّا ما لا يتوقّف تحقّقه على غيره من
ماهيّة أو وجود كهذا الوجود المحقّق لهما ، فبالجعل يظهر في الخارج متحقّقا قائما
بنفسه منتزعا عنه الماهيّة. ثمّ كلّ متحقّق ـ بأىّ نحو كان ـ يلزمه انتزاع العامّ
عنه. فظهر أنّ المتحقّق بالأصالة في كلّ شيء نحو وجوده المعبّر عنه بالوجود
الخاصّ.
فإن رجعت وقلت : اعتبارية الماهيّة بمعنى الصورة الذهنية المعرّاة عن الوجود
الخارجي ممّا لا كلام فيه ؛ وقد صرّح به المحقّقون القائلون بحصول الأشياء بأنفسها
في الذهن ؛ حيث قالوا : إنّ الشيء ملحوظا بوجوده الخارجي يسمّى حقيقة تترتّب عليها
الآثار الخارجية ؛ ومتعرّى عنه يسمّى ماهيّة لا يترتّب عليها شيء منها ؛ وهو بهذا
الاعتبار لا تحقّق له في الخارج وإنّما له وجود عقلي فقط ، وإنّما الكلام في
منشأ انتزاع هذه
الماهيّة العقلية وهو الحقيقة الخارجية ؛ فللزوم أن نقول : إنّه متحقّق في الخارج
بالأصالة وليس هو صرف الوجود. فيكون ماهيّة خارجية. فالماهيّة إمّا عقلية غير
متحقّقة في الخارج أو خارجية متحقّقة فيه ويعبّر عنها بالحقيقة.
قلنا : هذه الحقيقة الثانية التي عبّرت عنها بالماهيّة الخارجية لا
يمكن أن يكون شيئا مقابلا للوجود ـ أي معرّى عنه ـ ومع ذلك كان له تحقّق خارجي.
فتحقّقها فرع ارتباطها / A ٣ / بالوجود.
وقد عرفت أنّ
مجرّد العامّ الاعتباري لا يمكن أن يحصّلها في الخارج ؛ فلا بدّ أن يكون فيه شيء
متحقّق قائم بنفسه لا يفتقر في تحقّقه إلى شيء آخر حتّى يكون محقّقا لها ؛ وما هذا
شأنه ـ أي متحقّق بنفسه مع قطع النظر عن ماهيّته ووجوده ـ ليس إلّا الوجود الخاصّ ؛ لعدم الواسطة بين الماهيّة
والوجود ؛ فإذ ليس هذه فهذا. فالحقيقة الخارجية التي منشأ انتزاع الماهيّة ليس إلّا
الوجود الخاصّ ؛ فهو المتحقّق والماهيّة من شئونه المنتزعة عنه.
[في استحالة تصوّر صرف الوجود]
قد دريت أنّ صرف
الوجود لا يمكن تعقّله ؛ إذ حقيقته أنّه في الأعيان ؛ فلا يمكن أن يوجد في الأذهان
كما صرّح به صاحب التحصيل وغيره من أساطين الحكمة والعرفان.
وأمّا الوجودات
الخاصّة الممكنة وإن أمكن أن تنفكّ عن الكون العيني إلّا أنّها أيضا مجهولة الكنه
غير ممكنة التصوّر ؛ لعدم تركّبها من جنس وفصل ، كما يأتي.
وأيضا : تصوّر الشيء إمّا حصول صورته أو نفسها ؛ وصورته إمّا شبحه ـ
كما ذهب إليه أهل الأشباح ـ أو ماهيّته المعرّاة عن الوجود الخارجي ـ كما اختاره
__________________
القائلون بحصول
الأشياء بأنفسها في الذهن ـ والوجود المتحقّق بنفسه الشامل لصرف الوجود الحقّ
والوجودات الخاصّة الممكنة ليس له شبح ؛ إذ شبحه إمّا عين الوجود أو عدم أو
ماهيّة.
والأوّل ليس شبحا
له ؛ والثاني بيّن الفساد ؛ والثالث لا يطابق الوجود ، مع أنّ المطابقة بين الشبح
وذي الشبح لازمة ليكون حصوله علما به ؛ وليست ماهيّة ذات وجود حتّى يتمكّن العقل
من تجريدها عن الوجود وأخذ الماهيّة الصّرفة ؛ ولا يتوهّم تمكّنه من تجريد الوجود
البحت أو الخاصّ الإمكاني منه ، لإيجابه تعرية الشيء عن نفسه أمّا في الأوّل فظاهر
؛ وأمّا في الثاني فلأنّ الفرض تحقّقه بنفسه ومنشئيته لانتزاع العامّ بعد صدوره عن
العلّة بدون افتقاره إلى ماهيّة أو وجود آخر ؛ والضرورة قاضية بأنّ تجريد مثله عن
الوجود الخارجي تجريد للشيء عن نفسه.
وبذلك يعلم ابتناء
المذهبين في التصوّر على أصالة الماهيّة ؛ إذ على أصالة الوجود تمتنع تعرية
الحقائق ـ أي الوجودات الخاصّة ـ عن الوجود حتّى تحصل منه في الذهن أنفسها أو
أشباحها ، بل تكون ممتنعة التصوّر غير معلومة بالعلم الحصولي. فالعلم بها إمّا
بالمشاهدة الحضورية إن أمكنت أو بآثارها ولوازمها من الوجود العامّ والماهيّات
المنتزعة عنها.
وقد ظهر ممّا ذكر
استحالة التصوّر في حقيقة الوجود وبداهته في العامّ ونظريته في الماهيّات إلّا
أنّها ليست متعرّاة عن الوجودات الخاصّة التي هي الحقائق حتّى تكون نفسها ، بل
منتزعة عنها وشئونات لها ؛ فليس بإزائها في الأعيان إلّا منشأ انتزاعها.
[في مراتب الإدراكات]
العلم الحضوري
انكشاف وجود الشيء ومشاهدته / B ٣ / جزئيا ؛ والحصولي أخذ
ماهيّته كلّيا.
فالعلم بوجوده من آثاره ولوازمه يشابه الأوّل من وجه والثاني من وجه. فالعلم بوجود
الواجب تعالى كلّي إلّا أنّ البرهان أفادنا تعيّنه.
ثمّ استحالة
معلومية صرف الوجود والخاصّ الإمكانى بالحصولي كجوازها بالآثار ممّا لا كلام فيه.
والحقّ : جوازها بالمشاهدة الحضورية للمجرّدين ؛ إذ منشأها بعد
التجرّد كمال الارتباط وكلّ مجرّد له ربط المعلولية بمبدئه وربط الصدور من واحد
لكلّ ممكن.
وحصر الربط في
الأربعة المشهورة ليس عقليا بل استقرائي ؛ والمناط كماله ؛ على أنّ ربط العلّية
والمعلولية كما يوجب علم العلّة بالمعلول يوجب العكس ، بل علم أحد المعلولين بالآخر
مع كمال التجرّد ؛ والتخلّف في الآخرين لانتفائه في أكثر المعلولات.
فالمشاهدة تدور مع
تجرّد النفس وجودا وعدما ، وزيادة ونقصانا. فيحصل كمالها بكماله ؛ وهو إنّما يكون
بعد استكمال قوّتيها ؛ وغاية كمالها تحصل بعد تخلّصها عن حجاب الطبيعة ورفضها
جلباب البدن وانخراطها في سلك العقول القادسة ؛ ولذلك لا تحصل في الدنيا إلّا
لأوحدي من المجاهدين في وقت دون وقت وفي الآخرة إلّا لبعض دون بعض ؛ وهذا النوع من
المعرفة ليس من الإنّ المأخوذ من الأثر ، بل هو الاستشهاد بالحقّ من الحقّ المشار
إليه في الكتاب الإلهي بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) والمأمور به في الأخبار بقولهم : «اعرفوا الله بالله» والمعبّر عنه باللقاء والرؤية في الصحف
__________________
الإلهية والكلمات
النبويّة.
وتوضيح ذلك : أنّ المدركات إمّا خيالية كالصور والأجسام أو عقلية كالذوات
المجرّدة والمعاني الكلّية ؛ وإدراك الأولى إمّا بالتخيّل أو برؤية العين ؛ وثبوت
الفرق بينهما ظاهر ؛ لأنّ من تخيّل إنسانا يجد صورته حاضرة في خياله كأنّه ينظر
إليها ؛ وإذا فتح العين ورآه أدرك بفرقه ؛ لا يرجع إلى الاختلاف بين الصورتين
لتوافقهما ، بل إلى التفاوت في الكشف والوضوح. فإنّ الصورة المتخيّلة كان لها نوع
وضوح ، وبالرؤية صارت أوضح. فالتخيّل أوّل الإدراك ، والرؤية استكمال له ، وهي
غاية الكشف وسمّيت رؤية لكونها غاية الوضوح لا لأنّها في العين ، بل لو كان هذا
الإدراك في عضو آخر أيضا سمّي رؤية.
وإذا ظهر ذلك في
الأولى فاعلم أنّ لإدراك الثانية أيضا مرتبتين ؛
إحداهما : المعرفة
القطعية من طريق الأثر
والاخرى :
استكمالها بزيادة الكشف بانفتاح بصر النفس
وبينهما من
التفاوت في زيادته أكثر ممّا بين المتخيّل والمرئي ؛ وهذا / A
٤
/ هو اللقاء والمشاهدة ؛ وإنّما يحصل ذلك بتجرّد النفس وخلاصها عن قشور البدن ؛
لأنّها ما دامت محفوفة بعوارضه ومقيّدة بسلاسل الطبيعة وأغلالها تمتنع مشاهدتها
للمعلومات المتعالية عن حيطة الخيال ؛ لأنّها حجاب عنها ، كما أنّ الأجفان حجاب عن رؤية البصر ؛ فإذا ارتفع الحجاب عنها بالموت : فإن
حصل لها في الدنيا بذر المشاهدة ـ أعني المعرفة ـ وما هو بمنزلة تصفية الأرض عن
الأشواك ـ أعني التخلّي عن الرذائل ـ انقلب معرفته في الآخرة
مشاهدة ، كما ينقلب النواة
__________________
شجرا والبذر ذرعا
؛ وإلّا لم يصل إلى مقام اللقاء ؛ إذ من لم يزرع البذر كيف يحصد ومن لم ينقّ الأرض
كيف ينمو زرعه؟! فمن لم يعرف الله في الدنيا كيف يراه في الآخرة؟! ومن لم يجد لذّة
المعرفة هنا كيف يجد بهجة اللقاء والنظر هناك؟! ومن لم يصقل نفسه كيف يستعدّ لشروق
نور الحقّ وتجلّي الكمال المطلق؟! وليس يستألف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في
الدنيا ؛ فلا يحسر المرء إلّا ما عليه مات ولا يموت إلّا ما عليه عاش ؛ ولا يكون
له في الآخرة إلّا ما حمله من الدنيا.
ثمّ تختلف درجات
المشاهدة والتجلّي باختلاف مراتب المعرفة والتجلّي ، كما يختلف النبات باختلاف
البذر بالكثرة والقوّة والحسّ ومقابلاتها. فالفاقد لهما رأسا محجوب عن الله أبدا ؛
والمحصّل يشاهد بحسب ما حصل ؛ ولا حدّ لمراتب الاختلاف في ذلك ؛ إذ بحر المعرفة لا
ساحل له ومراتبها غير متناهية. فكيف لا والواجب غير متناهي القدرة والكمال ؛ والإحاطة بكنه
جلاله وعظمته في حيّز المحال وما يمكن أن يدرك لا نهاية له. فكلّما ازدادت المعرفة
في الدنيا عدّة وشدّة اشتدّ اللقاء في الآخرة وضوحا وبهجة حتّى يصل إلى ما لا
يحتمله عظماء الإنسان. ثمّ إلى ما يخرج عن حيطة قرباء الإمكان.
وبالجملة : من لم يحصل شيئا من نور الإيمان لم يعقل حصوله وازدياده في
الآخرة ، بل إذا حصل منه شيء يزداد ويتمّ فيها ، كما قال سبحانه : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا
نُورَنا) وتمام النور إنّما نور في زيادة الكشف والإشراق.
ثمّ لا تظنّ أنّ
المعرفة في الوضوح والبهجة كالتخيّل ، وأنّ اللقاء فيهما كرؤية البصر ، وأنّ
زيادتهما في اللقاء بالنسبة إلى المعرفة كزيادتهما في رؤية البصر بالنسبة إلى
التخيّل ؛ فإنّ الأمر ليس كذلك ؛ إذ لا نسبة لما في حقيقة المعرفة واللقاء
__________________
من الكشف
والابتهاج ؛ وما بينهما من الفرق فيهما إلى ما في التخيّل ورؤية البصر في ذلك وما
يرى من قلبهما في معارفنا فإنّما هو لإطلاقها وضعفها ونقصانها كحجاب البدن وشهوته
وعلائق الدنيا ومكدّرات النفس ومشوّشاتها وقصورها عن / B ٤
/ الشوق إلى العوالي وانتقالها إلى السوافل ؛ وقلّما يخلو شيء من معارفنا عن شيء
من ذلك.
نعم قد تضعف هذه
الموانع فيلوح من جمال المعرفة ما يدهش العقل ويعظم بهجته ؛ وربّما يفطر القلب
عظمته ولكن حصوله كالبرق الخاطف لبعض المجرّدين ؛ وقلّما يدوم ، بل يعرض ما ينقصه
ويشوّش من الأفكار والخواطر ومع ذلك للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ابتهاجات لو عرض
عليهم الجنّة بأسرها بدلا عنها لم يستبدلوها بها.
ثمّ بعض مراتب
اللقاء والمشاهدة وإن حصل لبعض الكمّل في الدّنيا إلّا أنّه وإن قوى واشتدّ لا
يقاس بما يحصل منهما في الأخيرة. إذ البدن وإن ذاب بالمجاهدة لا يخلو عن الحجب
والممانعة ؛ والنفس ما لم تقطع عنه العلاقة لا يحصل لها حقيقة الانبساط والإحاطة.
[في تغاير الماهيّة والوجود مفهوما ولزومه لها ثبوتا]
لمّا ظهر أنّ
الماهيّة في نفسها معدومة ، فالوجود عن مفهومها خارج ؛ وإمكانها لا ضرورة وجودها
وعدمها ؛ فهي تغاير الوجود مفهوما ويستلزمه ثبوتا ؛ إذ لا ثبوت بدون الوجود.
والقول بتقرّر
المعدوم في الخارج سفسطة ؛ فهي بذاتها مع قطع النظر عن الوجودين لا يخبر عنها ولا
يصحّ أن يثبت لها شيء من اللوازم والأوصاف ، بل مسلوبة عن نفسها ؛ فلا يصحّ القول
بأنّ الماهيّة المعدومة في الخارج والذهن ماهيّة أو
ثابتة لنفسها ،
لتوقّف الصدق والثبوت على وعاء ولا وعاء سواهما. فمع قطع النظر عنهما لا صدق ولا
ثبوت ؛ وذلك لا ينافي عدم مجعوليتها بالجعل المركّب ؛ إذ ليس المراد به كون
الماهيّة ماهيّة وثبوتها لنفسها عند عدميّتها المطلقة ، بل في نفس الأمر ـ أي في
حدّ ذاتها وحاقّ حقيقتها ـ فإنّ المراد بنفس الأمر ذات الشيء وحقيقته ؛ وحدّ ذات
الشيء وحقيقته لا يخرج عن الوعائين ؛ إذ المراد بالوجود الخارجي ما يكون منشأ
للأثر الخارجي ، وبالذهني ما ليس كذلك ، وبالنفس الأمري ما يعمّهما. فنفس الأمر
يعمّ الخارج والذهن ؛ إذ ليس ورائهما شيء يكون مصدّقا له. فحدّ ذات الشيء إنّما يتحقّق في ضمن أحد الوجودين ولولاهما
لم يكن له ذات حتّى يتصوّر له حدّ وحقيقة. فكون الماهيّة ماهيّة أو عدم مسلوبيتها
عن نفسها أو تحقّقها لذاتها أو ثبوتها لنفسها أو أمثال تلك العبارات إنّما هو في
ضمن أحد الوجودين وبدونه على صرافة العدم. فلا معنى للقول بأنّها هي وأمثالها.
فمطابق الحكم بها على نفسها نفسها ولكن بعد صدورها ؛ إذ لا ماهيّة قبله وبعده يصدق
على نفسها بالضرورة الذاتية ؛ لأنّها من حيث هي ليست إلّا هي.
والحاصل : أنّ كونها هي يغاير موجوديتها بالمفهوم ويلازمها في
التحقّق. فللعقل أن يجرّدها عن الوجودين وإن لم ينفكّ هذا التجريد أيضا عن الوجود
الذهني.
والمراد بقولهم : «إنّ الجاعل لم يجعل الماهيّة ماهيّة ، بل جعلها / A ٥ / موجودة» أنّ كونها هي ليس بفعل الفاعل ، بل تابع
لوجودها في نفس الأمر. فإن وجدت في الخارج كان تابعا لوجودها الخارجي ، بل للجعل
وأثر الجاعل ؛ وإن وجدت في الذهن كان تابعا لوجودها الذهني ؛ ولو كان بفعل الفاعل
لم يتحقّق في الذهن.
فإن قيل : على ما ذكرت من كون الماهيّات الممكنة مع قطع النظر عن
الوجودين أعداما صرفة غير متصوّر لها ذات وحدّ ذات وحكم ، ولو عدم
المسلوبية عن
أنفسها فأيّ فرق بينها وبين الممتنعات المحضة حتّى تخصّص الأولى بالموجودية
وقابليتها والتمثّل في علم الأوّل تعالى متميّزة؟ فإن كان هذا التخصّص من ذواتها
لزم أن يثبت لها كونها هي وساير الأحكام مع قطع النظر عن الوجودين وإلّا كان
الجميع من الجاعل ؛ فتكون مجعولة بالجعل المركّب ويلزم صيرورة صرف العدم ماهيّة
خاصّة متميّزة ؛ ولا يخفى فساده.
قلنا : على ثبوت العلم الصوري للواجب لا ينفكّ شيء من الماهيّات
الممكنة والممتنعات المحضة عن الوجود العلمي ؛ وبذلك يتصحّح الامتياز بينهما
والحكم بقابلية الأولى للوجود العيني دون الثانية ؛ ولا تختصّ المعلومية بالأولى
حتّى يسأل عن المخصّص مع اشتراكهما في صرافة العدم قبلها.
فإن قيل : صورهما العلمية في مرتبة الذات معدومة ؛ فكيف يتعلّق العلم
بها مع عدميتها المحضة؟!
قلنا : هي مانعة للذات من دون انفكاك إلّا ما يوجبه التابعية من
التأخّر الذاتي.
فالذات بذاته
يقتضي تمثّلها لديه وترتّبها عليه ؛ والاقتضاء الذاتي لا يعلّل بعلّة كما أنّ
الأولى تابعة له في الشهود العيني أيضا على الترتّب العلّي والمعلولي باقتضاء
الذات بخلاف الثانية ؛ ولا يسأل عن علّة الاقتضاء ؛ إذ الذاتي لا يعلّل.
وأمّا على القول
بالحضوري دون الحصولي فما يتبع الذات في الشهود الخارجي تبعية الشبح لذي الشبح
والظلّ لذي الظلّ ـ أعني الماهيّات الممكنة ـ يصير متعلّق الانكشاف بخلاف ما لا
يتبعه من الممتنعات ؛ إذ ما لا وجود له في الخارج لا معنى لتعلّق الانكشاف به. نعم
يتعلّق بصورها المرتسمة في المدارك.
والحاصل : أنّ صرف الوجود الحقّ الواجب بذاته القيّوم لغيره يقتضي
بذاته أن يكون حقيقته الحقّة كما هو وأن تكون له صفات ولوازم ؛ ولا يسأل عن علّة
هذا الاقتضاء ولمّية كون هذه الصفة وامتيازها عن صفة أخرى ، لرجوع
الكلّ إلى اقتضاء
الذات ؛ وهو لا يعلّل ككون صرف الوجود إيّاه وهكذا ؛ وعلى هذا جميع الماهيّات الممكنة لكونها من أفعاله
اللازمة لذاته التابعة لوجوده ، كالذات والصفات في عدم السؤال عن لميّة اقتضاء
الذات لها وكونها إيّاها ؛ إذ لا معنى ولتعليل ذاتية الذات الذاتية / B ٥ / اقتضائها الذاتي ؛ وكما أنّه كان عالما بذاته وصفاته
كذلك كان عالما بالماهيّات اللازمة لذاته. فلا شيء في الوجود خارجا عن ذاته وصفاته
وأفعاله ؛ ولا يمكن انفكاك الأوليين عن الوجودين والثانية عن أحدهما.
[في معنى الإمكان في الوجودات الخاصّة]
معنى الإمكان في
الماهيّة قد عرفته وفي الوجودات الخاصّة عدم اقتضائها التحقّق بذاتها وتوقّفه على
ارتباطها بالواجب الحقّ. فهي حقائق متعلّقة به وذوات تابعة له ورشحات فائضة منه
وهي الكاشفة لنور الأنوار أوّلا والماهيّات تابعة لها في ظهورها وكشفها ، لكونها
منتزعة عنها ولولاها ما شمّت رائحة شيء من الظهورين وبقيت على احتجابها الذاتي
وعدمها الأصلي أزلا وأبدا.
[في التشخّص والتعيّن ، ومناط الافتراق في المتشاركات]
الافتراق في
المتشاركات في العرضي بالماهيّة وفي الجنس بالفصل وفي النوع بالعرضي وبالتشخّص ؛
وهو يطلق على المعنى المصدري ؛ ولا خلاف في أنّه التعيّن والامتياز عمّا عداه بحيث
ترتفع الشركة ؛ وعلى المشخّص ـ أي ما به التشخّص بالمعنى المصدري ـ وقد اختلف فيه
؛ والحقّ أنّه نحو الوجود. فتشخّص كلّ شيء وتعيّنه به وفاقا للمعلّم الثاني وجلّ
المحقّقين ، لا بالمادّة كما قيل ، ولا بأحوالها من الوضع والحيّز كصاحب التحصيل ،
ولا بالفاعل كبعض الأجلّة ، ولا
__________________
بالارتباط إلى
الوجود الحقّ كغير واحد من المتألّهة ، ولا بنحو الإحساس أو المشاهدة كما نسب إلى
أهل الحكمة ، ولا بنفس الذات المعيّنة كالشيخ الإلهي ، ولا بجزء تحليلي كالصدر
الشيرازي.
لنا أنّ كلّ وجود
متشخّص بنفس ذاته ولو لا نحو وجود الشيء أو قطع عنه النظر لم يخرج عن الإبهام
والعموم ولم يمتنع تجويز الشركة ولو ضمّ إليه ألف مخصّص ؛ إذ الامتياز غير
التشخّص. فإنّ الأوّل بالقياس إلى مشاركاته في العامّ ، والثاني باعتباره في نفسه
؛ ولذا ما لا يوجد له مشارك ـ كالواجب ـ لا يفتقر إلى مميّز زائد ؛ ومع ذلك يكون
متشخّصا بنفسه ؛ فلو لم يكن التشخّص بنحو الوجود لم يكن له تشخّص ؛ وهو باطل.
نعم التميّز يعدّ
المادّي للتشخّص الوجودي ويقرّبه إليه ؛ إذ المادّة ما لم يتخصّص استعدادها بواحد
معيّن من النوع لم يستحقّ لإفاضة الوجود ؛ وعلى هذا فيمكن بضرب إطلاق المشخّص على
كلّ مميّز ومعدّ لإفاضة الوجود ، بل على كلّ لازم الوجود وعلامته ؛ وبذلك يمكن
إرجاع أكثر الأقوال المخالفة إلى المختار ؛ إذ المراد من المادّة في الأوّل ليس
نفسها ؛ لأنّها في نفسها مبهمة غير متشخّصة ؛ فلا تكون مشخّصة لغيرها. إذ لا يرى
كيف يوجد شخصان من صورة أو هيئة في مادّة واحدة في زمانين وليس امتياز كلّ منهما
عن الآخر بالمادّة ، بل بالزمان ومميّزات أخر؟! فالمراد بها ما يحصل فيها من
خصوصية / A ٦ / الاستعداد الموجبة لإفاضة الهويّة
الشخصية ؛ فإنّ مادّة كلّ نوع ما لم تتخصّص باستعدادات جزئية لم تقبل الوجودات
الشخصية ؛ والمراد بأحوالها في الثاني لازم الوجود وعلامته ، كالوضع والحيّز والزمان
وغير ذلك من المميّزات المترتّبة على نحو الوجود ؛ ولذا لمّا رأى قائله بتبدّلها
مع بقاء الشخص حكم بأنّ للشخص وضع ما من الأوضاع
__________________
الواردة عليه في
زمان وجوده ولو لا إرادة اللازم والعلامة من الشخص لم يصحّ منه هذا الحكم ؛ إذ
الوضع كسائر الأشياء له ماهيّة وتشخّص ؛ والكلام في تشخّصه عائد. فإطلاق المشخّص في
الأوّل على معدّه وفي الثاني على لازمه.
وأمّا الفاعل فهو
معطي الوجود. فإطلاق المشخّص عليه إطلاق للمسبّب على السبب.
وأمّا الارتباط
فمعلوم أنّه عند القائل به وصف للوجود دون الماهيّة ؛ إذ الوجود الحقّ المتشخّص
بذاته عنده الأصل المشرق على الكلّ ، وساير الوجودات لمعاته وإشراقاته ،
والماهيّات أظلّة تلك الإشراقات وتوابعها. فكلّ شيء يرتبط به بوجوده دون ماهيّته.
فإطلاق المشخّص على الارتباط إطلاق للشيء على لازمه ووصفه.
وأمّا إطلاقه على
نحو الإحساس أو المشاهدة فإطلاق للشيء على ما يعلم به ؛ إذ الوجود لا يمكن العلم
به إلّا بالمشاهدة الحضورية أو على لازمه ؛ إذ مشاهدة الشيء والإحساس به فرع
وجوده.
وأمّا مذهب الشيخ
الإلهي فمبنيّ على ما ذهب إليه من أصالة الماهيّة في التحقّق وكون الوجود أمرا
ذهنيا غير متحقّق في الخارج. فالمشخّص حقيقة على هذا نحو الذات ـ أي الماهيّة
الخاصّة ـ دون الوجود ؛ فهو ممّا لا يمكن إرجاعه إلى المختار ويرد عليه أنّ غير
الوجود من نفس الشيء إمّا نفس الماهيّة المشتركة أو مع عوارض اخرى من كمّ وكيف
ووضع وغير ذلك ؛ وهو كغيره قائل بأنّ كلّا منها نفس تصوّره لا يمنع الشركة وأنّ
مجموع الكلّيات كلّي ؛ فالهويّات العينية لو قطع النظر عن وجوداتها الخاصّة
المتعيّنة بنفس ذاتها فأيّ شيء منها يوجب منع الشركة؟ فمجرّد الذات والماهيّة كيف
يصير متشخّصا بنفسه حتّى يكون مشخّصا لغيره؟!
وأمّا الجزء
التحليلي وإن أمكن حمله على نحو الوجود إلّا أنّ القائل به أنكر كونه حقيقة عينية.
فلا يمكن حمله لما يأتي من أنّ نحو الوجود حقيقة هو
الوجود الخاصّ
المتحقّق ؛ أعني الوجود التامّ والمستغني والمتقدّم والأشدّ ومقابلاتها دون مفهوم
التمامية والاستغناء وغيرهما. فما به التشخّص ليس إلّا الوجودات الخاصّة الواقعة
في الأعيان.
وبذلك يعلم أنّ
كون التشخّص بنحو الوجود إنّما يتأتّى على القول بأصالة الوجود في التحقّق وكونه
حقيقة عينية واعتبارية الماهيّة ؛ إذ على العكس ينحصر الوجود في العامّ الاعتباري وهو مشترك في الكلّ وانتزاعه فرع تحقّق الأفراد
؛ فلا يمكن أن يكون متشخّصا ؛ وحصصه أيضا امور انتزاعية عن الأفراد بعد تحقّقها ؛
فلا يمكن أن تكون متشخّصة ؛ وقد تقدّم أنّ الماهيّة أيضا لا تتشخّص بنفسها ولا
يضمّ مثلها ولو إلى غير النهاية. فلا يمكن أن يتحقّق التشخّص بدون الخاصّ / B ٦ /. فتحقّقه مع عدم إمكان حصوله من الماهيّة والعامّ
شاهد صدق على أصالته وكونه حقيقة عينية.
[في أنّ الوجودات الخاصّة متخالفة بذواتها والوجود العامّ حقيقة مشكّكة]
لمّا عرفت ثبوت
الوجودات الخاصّة وكونها حقائق متأصّلة وهويّات عينية متحقّقة في الخارج فاعلم أنّها
متخالفة بذواتها من دون اشتراك في ذاتي ؛ وتشخّصها بأنفسها ؛ بمعنى أنّ ذواتها
تقتضي التعيّن والامتياز. فذواتها بعينها أنحاء وجوداتها المشخّصة لأنفسها من دون
افتقار في تعيّنها إلى شيء آخر ؛ وما ينتزع عنها بعد تحقّقها من الماهيّات
والعوارض وإن حصل به نوع امتياز لها إلّا أنّه ليس من المشخّص الحقيقي ، بل من
توابعه ؛ لأنّه لازم الخاصّ ونعته. فتخصّصه به ليس تخصّصا بحسب ذاته ، بل باعتبار
ما معه من اللازم والوصف وكذا ما يلزمه من
__________________
التمامية والنقص
والاستغناء والفقر والشدّة والضعف وساير وجوه التشكيك بالنظر إلى ما ينتزع عنه من
الوجود العامّ وغيره من الأوصاف العرضية الانتزاعية وكذا المتحقّقة القائمة بها
كالسواد ومثله إلّا في الخاصّ الواجب وإن حصل له لأجلها نوع تميّز إلّا أنّها أيضا
من لوازم ذاته. فتخصّصه بها ليس تخصّصا بحسب ذاته ، بل باعتبار ما يلزمه بعد
تحقّقه.
وتوضيح ذلك : أنّ الوجودات الخاصّة لا تشترك في أمر ذاتى يقع فيه التشكيك
بالتمامية والكمال والاستغناء والتقدّم والشدّة ومقابلاتها وإلّا لزم اشتراك
الواجب والممكن في الحقيقة واختلافهما في الوجوه المذكورة ؛ وهذا الاختلاف إن لم
يكن اختلافا في الذات والحقيقة كان اختلافهما في مجرّد أمر عرضي وإن كان اختلافا
في الحقيقة نظرا إلى أنّ الذاتي إذا كان مقولا بالتشكيك يكون الاتّفاق والاختلاف
كلاهما في الحقيقة ويتّحد ما به الاتّفاق وما به الاختلاف لزم اشتراك الواجب
والممكن في الحقيقة واختلافهما أيضا فيه ؛ وفساده ظاهر ؛ ولو فرض اختلافهما في
ذاتي آخر أيضا لزم مع ما ذكر تركّب الواجب أيضا. فاللازم اختلافها بتمام الحقيقة
وعدم اشتراكها في ذاتي يكون اختلافها في الوجوه المذكورة فيه أيضا ، بل يكون
اشتراكها واختلافها فيها في امور عرضية منتزعة عنها من الوجود العامّ وغيره من
الأوصاف العرضية. فالمقول بالتشكيك هو الوجود العامّ المنتزع عنها مثلا ؛ فهو
المتّصف حقيقة بالوجوه المذكورة ؛ والوجودات الخاصّة المعروضة له تتّصف بها بالعرض
: ومعنى كون العامّ العرضي مقولا بالتشكيك أنّ صدقه على بعض الوجودات الخاصّة أو
انتزاعه عنه أقدم وأولى من صدقه على بعض آخر أو انتزاعه عنه ؛ ومعنى أشدّيته أنّ
المنتزع من البعض أشدّ وأجلى من المنتزع من بعض آخر.
ثمّ اتّصاف
الأفراد الخاصّة بهذه الوجوه إنّما هو بتبعية اتّصافه بها. فالمراد
بقولنا : «إنّ
وجود الواجب أقدم / A ٧ / من وجود الممكن ، ووجود الجوهر
أقوى من وجود العرض» أنّهما في الموجودية الانتزاعية ـ أي في المنشئية لانتزاع
العامّ أو غيره من المفهومات العرضية ـ أقدم وأقوى منهما ؛ وليس المراد أنّهما في
الوجود الذي هو حقيقتهما أقدم وأقوى منهما حتّى يلزم الاشتراك في الحقيقة والاختلاف
في مجرّد الوجوه المذكورة ؛ وهذا كما إذا قلنا : «إنّ الأجسام مختلفة في الضوء أو
السواد وبعضها أقدم أو أشدّ أو أولى» ليس المراد إلّا أنّ الضوء أو السواد القائم
بالبعض أشدّ وأقوى من القائم بالبعض الآخر أو أنّ البعض أقدم أو أولى بمحلّية هذا
العرض من البعض الآخر ؛ وليس المراد أنّ الأجسام مختلفة في الحقيقة وأنّ بعضها
أقدم أو أقوى أو أشدّ فيها مع اشتراكها في الكلّ.
ثمّ لا يلزم وقوع
جميع وجوه التشكيك في كلّ أمر عرضي. فربّما وقع بعضها في بعض المفهومات العرضية
دون بعض آخر. فلو فرض عدم جريان بعضها في الوجود العامّ لم يقدح في المطلوب وإن
كان الحقّ جريان الجميع فيه.
ثمّ اشتراك الوجود
الخاصّ الواجبي والوجودات الخاصّة الممكنة إنّما هو في مجرّد المفهومات الاعتبارية
من الوجود العامّ أو غيره دون الماهيّة والعوارض المتحقّقة القائمة بها كالسواد
والبياض وأمثالهما. إذ لا ماهيّة للواجب ولا يصحّ قيام الأعراض الخارجية بذاته ؛
وعلى هذا لا تكون للمقول بالتشكيك أفراد واقعية أصلا. إذ الوجودات الخاصّة امور
متخالفة بأنفسها ليست أفرادا حقيقة له ؛ وهو لاعتباريته لا تكون له أفراد متحقّقة
قائمة بالوجودات الخاصّة. فلا يلزم التشكيك في ذاتي أصلا ولا يختلف الحكم على قولي
المشّائين والإشراقيّين.
وأمّا الوجودات
الخاصّة الإمكانية فلاشتراك المتّفقة منها في النوع والماهيّة فعلى ما ذهب إليه
المشّاءون من عدم جواز التشكيك في الذاتي وإن لم يجز كون ماهيّتها النوعية مقولة
بالتشكيك حتّى يلزم اختلاف أفرادها في ذاتي بأحد وجوه
التشكيك لكن على
قول الإشراقي يجوز اختلافها بها في الماهيّة مع اشتراكها فيها أيضا ؛ فيختلف في
الذاتي بوجوه التشكيك وتكون للمقول بالتشكيك ـ أعني الماهيّة ـ أفراد واقعية. إذ
للماهيّة أفراد واقعية في الخارج وإن كان تحقّقها بتحقّق الوجود ـ كما يأتي ـ فالماهيّة
التي وقع فيها التشكيك إن اخذت بالنسبة إلى الوجودات الخاصّة يكون التشكيك فيها
تشكيكا في العرضي ؛ وإن اخذت بالنسبة إلى أفرادها المتحقّقة بالتبع يكون التشكيك
فيها تشكيكا في الذاتي ؛ وعلى هذا فالوجودات الخاصّة الممكنة كما يمكن اختلافها
بالوجوه المذكورة بالنظر إلى أوصافها الاعتبارية يمكن اختلافها بها بالنظر إلى ما
ينتزع عنها من الماهيّة.
ولا يمكن أن يقال : «الماهيّة الخارجية كالوجود الخاصّ في عدم تعقّل الكنه وكون
المعقول منها وجها من وجوهها / B ٧ / كالوجود العامّ بالنسبة إلى
الخاصّ» ولا أن يقال : «الماهيّة المعقولة كالوجود العامّ في كونه اعتباريا
انتزاعيا عن الوجود الخاصّ من دون تحقّق لها في الخارج أصلا» إذ لا ريب في أنّ
الماهيّة ترتسم بكنهها في الذهن وكلّ مرتسم بالكنه تكون حقيقته محفوظة في الخارج
والذهن مع تبدّل نحوى وجوده. فلا بدّ أن يكون للماهيّة تحقّق في الخارج بتبعية
تحقّق الوجود الخاصّ ويكون المرتسم منها في الذهن هو نفسها وحقيقتها. فتكون لها
أفراد واقعية. فمع وقوع التشكيك فيها تختلف أفرادها في الذاتي دون العرضي.
ثمّ للوجودات
الخاصّة الممكنة اشتراك في الأعراض المتحقّقة القائمة بها أيضا كالسواد والبياض
والضوء وأمثالها ، والكلّ متّفقون على وقوع التشكيك فيها. فهذه المفهومات التي وقع
فيها التشكيك إن اخذت بالنسبة إلى محالّها ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ يكون التشكيك
فيها تشكيكا في الأمور العرضية لكن إذا اخذت بالنسبة إلى أفرادها المتحقّقة
القائمة بمحالّها يكون التشكيك فيها تشكيكا في الذاتي. إذ لا ريب في أنّ لكلّ منها
أفراد واقعية وهو ذاتي لها. فالتشكيك فيها
بالنظر إليها
تشكيك في الذاتي. فالوجودات الخاصّة الممكنة تختلف أعراضها القائمة بها في الذاتي
وإن لم يختلف أنفسها. فكما يمكن اختلافها في الوجوه المذكورة بالنظر إلى أوصافها
العرضية الاعتبارية وما ينتزع عنها من الماهيّة يمكن اختلافها فيها بالنظر إلى
الأعراض المتحقّقة القائمة بها وإن لم يختلف أنفسها فيها أصلا.
فإن قيل : أفراد هذه العوارض كسائر الأفراد الموجودة لها وجود خاصّ
وماهيّة ، ووجوداتها الخاصّة مجهولة بكنهها مختلفة بأنفسها غير مشتركة في ذاتي ؛
فكيف جعلتها أفرادا واقعية للمشكّك ، أعنى السواد؟!
قلنا : المشكّك ماهيّة السواد ، وما اخذ أفرادا واقعية هي أفراد
هذه الماهيّة المتحقّقة في ضمن وجوداتها الخاصّة دون نفسها. فالمراد أنّ هذه
الأفراد أفراد واقعية لماهيّة مقولة بالتشكيك. فهي تتّصف بوجوه التشكيك أوّلا
وبالذات ، وأفراد الجسم ـ أعني وجوداته الخاصّة ـ تتّصف بها ثانيا وبالعرض نظرا
إلى القيام والمحلّية.
ثمّ المشّاءون
لعدم تجويزهم التشكيك في الذاتي يلزمهم كون التشكيك في السواد بالنظر إلى محالّه ـ
أعني أفراد الجسم ـ لا بالنظر إلى أفراد السواد القائمة به ، لكون السواد ذاتيا
لأفراده مع أنّ الضرورة قاضية باشتراك هذه الأفراد في حقيقة السواد ، واختلافها
فيه بالوجوه المذكورة كلّا أو بعضا. فهذا ممّا يبطل قولهم ويثبت قول الإشراقي.
ولو قيل
:
على ما ذكرت من
عدم اشتراك الوجودات / A ٨ / الخاصّة في ذاتي تختلف فيه أيضا
بالوجوه المذكورة وكون اختلافها بها بالنظر إلى أوصافها العرضية يلزم عدم صحّة
الحكم بكون بعضها من حيث الذات أقدم أو أكمل أو أقوى من بعض آخر مع أنّا نعلم أنّ
وجود الواجب بحقيقته الحقّة مع قطع النظر عن
أوصافه العرضية
أكمل وأقوى من الوجودات الخاصّة الممكنة.
قلنا : لا ريب في أنّ حقائق الوجودات الخاصّة مجهولة الكنه ـ كما
تقدّم ـ وما يعقل من أقدمية البعض أو أكمليته أو أشدّيته مفهومات إضافية مأخوذة
بالقياس إلى أوصاف عرضية كالوجود العامّ أو العلم بمعنى الانكشاف. فإذا قلنا : «إنّ
وجود الواجب أقدم أو أقوى من وجود الممكن» فكأنّا قلنا : «إنّه في الموجودية أو
انكشاف الأشياء له أقدم أو أقوى من وجود الممكن.» فالتقدّم والقوّة والكمال
ومقابلاتها إنّما تقع في الوجودات الخاصّة بالنظر إلى أوصافها العرضية دون حقائقها
المجهولة.
وما قيل : «إنّ الأولوية والأقدمية والأشدّية راجعة إلى الكمال ، وهو
لا يخرج عن حقيقة الوجود.»
ففيه : انّ المراد بالكمال إمّا مفهومه أو مبدأه ؛ والأوّل وصف
للوجود خارج عن حقيقته ؛ والثاني عين الوجود ولكن رجوع المفهومات المذكورة إليه
ممنوع. إذ لا معنى لكون مفهوم الأقدمية والأولوية عين حقيقة الوجود.
[في تعيّن الماهيّة وتحقّقها في الخارج ، واختلاف الوجودات واشتراكها]
ما جعلناه موجبا
للتعيّن الخارجي بذاته هو الخاصّ الشخصي دون النوعي أو ما فوقه. إذ كلّ ماهيّة
جنسية أو نوعية حقيقية أو إضافية ما لم ينضمّ إليه الفصل الأخير ـ أعني الوجود
الخاصّ الذي هو المشخّص ـ لا يمكن تحقّقه في الخارج ؛ وغيره من الفصول انضمامه إلى
الجنس إنّما يفيده نوع تعيّن وتشخّص في العقل. فالمراد بقولهم : «إنّ فصل الشيء
يحصّل وجوده» أنّه يحصّل له نوع وجود عقلى يقرّبه إلى الوجود الخارجى. فإن ضمّ
الفصل إلى كلّ جنس يقرّبه إليه حتّى إذا بلغ إلى النوع
الحقيقي وضمّ إليه
المشخّص ـ أعني الوجود الخاصّ ـ صار موجودا في الخارج بمعنى أنّ الخاصّ إذا تحقّق
فيه تحقّقت الماهيّة النوعية في ضمنه.
ثمّ القائل بأصالة الماهيّة يقول : «انضمام كلّ فصل إلى الماهيّة يخرجها عن نوع إبهام وعدم
تحصّل إلى نوع وجود وتعيّن في العقل حتّى إذا وصلت إلى ماهيّة نوعية استحقّت
لانضمام الفصل الأخير ـ أعني المشخّص ـ إليه ؛ فينضمّ إليها المشخّص بأحد المعاني
المردودة من العوارض الخارجية أو غيرها ؛ فتصير موجودة في الخارج.» وقد عرفت فساد
هذا القول.
وأمّا على ما
اخترناه من أصالة الوجود فموجودية الماهيّة النوعية في الخارج ليست بضمّ شيء من
الأمور المذكورة إليها ، بل بصدور الوجودات الخاصّة التي هي أفرادها وانتزاع هذه
الماهيّة عنها. فإنّ كلّ ماهيّة جنسية أو نوعية إنّما يكون وجوده بوجود المشخّص
الخارجي ـ أعني الوجود الخاصّ ـ فإنّ حقيقة كلّ شخص هو وجوده الخاصّ وهو مجهول
الكنه وإنّما / B ٨ / ينتزع عنه الوجود العامّ وماهيّته
الخاصّة ؛ والفرق بين المنتزعين أنّ العامّ لا تحقّق له في الخارج أصلا ،
والماهيّة متحقّقة فيه بتحقّقه كما يأتي.
ثمّ كلّ وجود خاصّ
ينتزع عنه العامّ وماهيّة يقال إنّه فرده وفردها مع أنّه في الحقيقة ليس فردا لشيء
منهما ، لكون الوجودات الخاصّة متباينة بأنفسها وما يشترك بينها ـ أعني الماهيّة
والعامّ ـ منتزع عنها ليس ذاتيا لها حتّى تكون أفرادا له. فالوجودات الخاصّة المندرجة تحت ماهيّة نوعية واحدة تشترك
عندنا في الماهيّة والعامّ وتختلف بحقائقها ، والمندرجة تحت نوعين كوجودات أفراد
الإنسان ووجودات أفراد الفرس تختلف بأنفسها وبالماهيّة وتشترك في مجرّد العامّ ؛
وعند القائل بأصالة الماهيّة فالوجودات الأولى لا تختلف بحقائقها ؛ إذ حقيقتها
الماهيّة وهي في الكلّ متّحدة ؛ والثانية تختلف بالحقيقة لاختلاف الحقيقة ، أعني
الماهيّة.
[في التكثّر والتشكيك في الوجود عند أهل الوحدة]
ما ذكرناه هو
مختار الحكماء وأمّا أهل الوحدة فينفون التكثّر الحقيقي عن الوجود والموجود ،
وينكرون التعدّد والاختلاف بتمام الحقيقة ومع ذلك يثبتون التشكيك في الوجود ؛
ولمخالفة ذلك لما تحكم به البديهة من تكثّر الموجودات بالحقيقة وجّهه بعضهم بأنّ
مرادهم من الوجود الواحد هو حقيقة العامّ البديهي ـ أعني معروضه الحقيقي ـ ولكن لا
بشرط التعيّن بالماهيّات وعدمه ؛ والواجب تلك الحقيقة لا بشرط عند الصوفي وبشرط لا
عند الحكيم. فكما يجوز أن يكون هذا المفهوم العامّ زائدا على الوجود الواجب
والوجودات الخاصّة الممكنة على تقدير كونها حقائق مختلفة ـ كما هو مذهب الحكيم ـ يجوز
أن يكون زائدا على حقيقة واحدة مطلقة موجودة هي حقيقة الوجود الواجب ـ كما ذهب
إليه الصوفية ـ ويكون هذا المفهوم الزائد اعتباريا غير موجود إلّا في العقل ويكون
معروضه موجودا حقيقيا خارجيا هو حقيقة الوجود ؛ والتشكيك الواقع فيه لا يدلّ على
عرضيته بالنسبة إلى أفراده ؛ أي تلك الحقيقة المتعدّدة بتعدّد القيودات
والاعتبارات ؛ فأفرادها ليست إلّا ذاتها من حيث تكثّرها الاعتباري بتقيّدها
بالماهيّات ؛ فمن حيث منشئيتها لانتزاع ماهيّة يكون فردا لنفسها.
والحاصل : أنّ أفرادها في الحقيقة هي الممكنات وهذه الحقيقة تكون
مشتركة بينها ذاتية لها ؛ والتشكيك فيها لا يدلّ على عرضيتها بالنسبة إليها ؛ إذ
لم يقم برهان على امتناع الاختلاف في الذاتيات.
وأقوى ما ذكروه «انّه
إذا اختلفت الماهيّة والذاتي في الجزئيات بالتشكيك لم تكن ماهيّتها واحدة ولا
ذاتها واحدا» وهو منقوض بالعارض ، لكونه واحدا مع وقوع التشكيك فيه. فكون حقيقة
الوجود مقولة بالتشكيك بالنسبة إلى / A ٩
/ أفرادها لا ينافي ذاتيتها لها ولا يرفع وحدتها.
وأيضا : الاختلاف بنفس الماهيّة كالذراع والذراعين من المقدار لا
يوجب تغايرها. على أنّ الاختلاف في أيّ حقيقة فرضت من الوجود أو العلم أو غيرهما
بكونها في شيء أقدم أو أقوى أو أشدّ أو أولى راجع إلى الاختلاف في الظهور دون
الحقيقة الظاهرة. فظهورها من حيث هي في قابل أتمّ من ظهورها في قابل آخر. مع أنّ
الحقيقة واحدة في الكلّ ؛ والاختلاف بين ظهوراتها لأجل المظاهر المقتضية لاختلاف
تعيّناتها فيها. فلا تعدّد فيها من حيث هي ولا تجزية ولا تبعيض.
ومستند الصوفية في
ذلك هو الكشف والعيان دون النظر والبرهان. فإنّهم لمّا توجّهوا بشراشرهم إلى جناب
الحقّ بتفريغ القلب بالكلّية عن التعلّقات الكونية ورفض القوانين العلمية مع توحيد
العزمية ودوام الجمعية والمواظبة على هذه الطريقة قذف الله في قلوبهم نورا يريهم
الأشياء كما هي ؛ وهذا النور يظهر في الباطن عند ظهور طور وراء طور العقل ؛
ولا يستبعد وجود ذلك ؛ إذ وراء العقل أطوار كثيرة لا يعرفها إلّا الله ؛ ونسبة
العقل إلى ذلك النور كنسبة الوهم إلى العقل. فكما يمكن أن يحكم العقل بصحّة ما لا يدركه الوهم كوجود
موجود لا في داخل العالم ولا في خارجه كذلك يمكن أن يحكم ذلك النور الكاشف بصحّة
ما لا يدركه العقل كوجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقيّد ولا يقيّدها التعيّن
مع أنّ وجود حقيقة كذلك ليس ممّا لا يدركه العقل بوجه. فإنّ أكثر العقلاء أثبتوا
وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ، ووجود حقيقة الوجود مثله.
والمقصود من
التمثيل رفع الاستحالة والاستبعاد دون الإثبات بالبرهان. إذ أدلّة وجود الطبيعي لا
يفيد المطلوب على القطع ، بل على الاحتمال. فالمناط في إثباته الكشف. نعم يمكن أن
يستدلّ عليه بأنّ مبدأ الموجودات موجود ولا يمكن
__________________
أن يكون غير حقيقة
الوجود ، لاحتياجه في التحقّق إلى الوجود ، وهو ينافي الوجوب. فتعيّن أن يكون
حقيقة الوجود. فإن كانت مطلقة ثبت المطلوب ، وإن كانت متعيّنة امتنع دخول التعيّن
فيها وإلّا تركّب الواجب. فتعيّن خروجه عنها. فالواجب محض الوجود والتعيّن صفة عارضة [له].
فإن قيل : يجوز أن يكون التعيّن عينه.
قلنا : التعيّن بمعنى ما به التعيّن يجوز أن يكون عينه ولكن لا
يضرّنا ؛ إذ ما به تعيّنه إذا كان ذاته كان هو في نفسه غير متعيّن وإلّا تسلسل ؛
وتعيّن الشخص لا يجوز أن يكون عينه ؛ لأنّه من المعقولات الثانية التي لا يحاذي
بها أمر في الخارج.
وحاصل هذا الوجه
يرجع إلى أنّ حقيقة الوجود الذي هو الواجب تعالى كالكلّي الطبيعي في الوحدة
والتحصّل ، بمعنى أنّه في نفسه أمر مطلق مبهم ليس له فعلية وتحصّل ، وليس التعيّن
عين ذاته بل عارض له ؛ وهذا أحد التوجيهات لتصحيح وحدة / B ٩
/ الوجود ؛ وهو في غاية الفساد ، كما يأتي في محلّه.
[في أنّ الوجود حقيقة عينية وما سواه يصير موجودا وذا حقيقة لأجله]
لمّا عرفت أنّ
الواجب صرف الوجود وأنّ حقيقة كلّ شيء هو خصوصية وجوده تعلم أنّ الوجود حقيقة
عينية وما سواه يصير موجودا وذا حقيقة لأجله ؛ وأنّه أولى منه في كونه موجودا وذا
حقيقة ، كما أنّ البياض أولى بكونه أبيض ممّا ليس ببياض ويعرضه البياض ؛ وكيف لا
يكون ذا حقيقة وأصلا في التحقّق مع أنّ نفس حقيقته أنّه في الأعيان. قال بهمنيار :
«وبالجملة فالوجود حقيقة أنّه في الأعيان لا غير ، وكيف لا يكون في الأعيان ما هذه
حقيقته ولذا لا يمكن تصوّره كما مرّ
مفصّلا.»
ثمّ على كونه ذا
حقيقة دون غيره سوى ما مرّ شواهد قطعية اخر :
[الأوّل :] أنّه لو وجد غيره في الخارج فتحقّقه فيه بنفسه بلا اعتبار
الوجود ممتنع ؛ ومعه :
إن كان الوجود
المعتبر زائدا عليه لزم أن يكون موجودا بدونه. إذ ثبوت شيء لآخر فرع ثبوت المثبت
له ؛ فننقل الكلام إلى الوجود المتقدّم ؛ فيلزم التسلسل.
وإن كان جزءا له
فالجزء الآخر إن تحقّق بدونه كان له وجود آخر ؛ فننقل الكلام إليه ويلزم التسلسل.
وإن كان تحقّق
الجزء الآخر به ؛ فهو الموجود بالذات والمتحقّق بالأصالة وغيره متحقّق به ؛ وهو
المطلوب. فما في الخارج من الحقائق إن كان صرف الوجود ـ كوجود الواجب ـ فلا تحقّق
فيه لغير الوجود بوجه ؛ وإن كان وجودا ذا ماهيّة ـ كالوجودات الخاصّة الممكنة ـ فالمتحقّق
منه بالذات هو الوجود من دون عروضه للماهيّة أو زيادته عليها حتّى يلزم منه ثبوتها
بدونه أو النقض في الفرعية ؛ إذ تحقّقه راجع إلى ثبوت الشيء لا ثبوته للشيء. فهو
بعد صدوره ثابت بنفسه متحقّق بذاته من دون توقّف تحقّقه على شيء آخر ، بخلاف
الماهيّة ؛ فإنّها منتزعة منه متحقّقة بتبعيته لا كتبعية الموجود للوجود ، بل
كتبعية الشبح لذي الشبح والظلّ للشخص.
وبالجملة : هو الموجود بالحقيقة دون الماهيّة ، كما أنّ المضاف
بالحقيقة هو نفس الإضافة دون معروضها ؛ ولذا قيل : الفطرة السليمة تشهد بأنّ
الماهيّة إذا كانت موجودة بنفس وجودها لا بوجود آخر قبل وجودها يكون الموجود
بالذات وبالأصالة منهما هو الوجود دونها ، كما أنّ المضاف بالأصالة نفس الإضافة
دون معروضها. فوجودها بوجوده ولولاه لما شمّت رائحة الوجود.
__________________
[الثاني :] أنّ العامّ ينتزع عن كلّ شيء وتحقّق المنتزع عنه لازم.
فتحقّقه إمّا بنفس هذا الانتزاع أو بالوجود أو غيره.
والأوّل : يوجب
الدور أو التسلسل.
والثانى :
المطلوب.
والثالث : بيّن
الفساد ؛ إذ غير الوجود لا يتحقّق ولا يحقّق.
وبذلك نعلم أنّ
منشئية الماهيّة الخارجية لانتزاع العامّ كتحقّقها من الخاصّ.
[الثالث :] أنّ الوجود / A ١٠ / لو لم تكن له أفراد حقيقية سوى
الحصص لما اتّصف بلوازم الماهيّات المتخالفة مع أنّ وجود الواجب متّصف بالغنى
ووجود الممكن بالفقر ، وهما من لوازمهما ؛ والحصص لعدم اختلافها وكون الكلّي مطلقا
بالقياس إليها غير متفاوت لا يمكن اتّصافها بالمتخالفات. فلا بدّ أن تكون له أفراد
واقعية يتّصف بها.
ولقائل أن يقول : المتّصف بهما وبأمثالهما هو الماهيّة دون الوجود ؛ إذ
المراد بهما استغناؤها وافتقارها في الاتّصاف بالوجود من السبب ذاتية.
فإن قيل : «لا معنى لاستغناء الماهيّة من حيث هي عن العلّة في
الموجودية» نرجع إلى بعض الأدلّة السابقة.
[الرابع :] أنّ الوجود لو لم تكن له حقيقة عينية بها موجودية الأشياء
وكان موجوديتها بنفس ماهيّاتها لم يتحقّق بينها حمل متعارف ، نحو : «زيد إنسان».
إذ مفاد هذا الحمل هو الاتّحاد بين المتغائرين مفهوما في الوجود ؛ والوجود الذي هو
ما به الاتّحاد لا يمكن أن يكون هو العامّ المنتزع ؛ لأنّه في الوحدة والتعدّد
تابع لما اضيف إليه من الماهيّات والمعاني ، والفرض تعدّد الموضوع والمحمول في
الماهيّة. فاتّحادهما في الخارج لا يمكن أن يكون به. إذ اتّحاده باتّحادهما. فالعكس يوجب
الدور. فلا بدّ أن يكون بالوجود الخاصّ المتحقّق بنفسه من دون احتياجه
في كونه ذا حقيقة
إلى حقيقة اخرى. فهو حقيقة كلّ ذي حقيقة والمتحقّق في الأعيان بنفسه ، وغيره ـ أعني
الماهيّات ـ يصير لأجله ذا حقيقة وواقعا فيها ولولاه لم يتحقّق بين الأشياء إلّا
الحمل الذاتي الذي مبناه الاتّحاد في المفهوم دون [الحمل] المتعارف الذي مفاده
الاتّحاد في الوجود.
[الخامس :] أنّ الوجود لو لم يكن بذاته أو بعد صدوره من العلّة متحقّقا
بنفسه لم يوجد شيء. إذ الماهيّة لا بشرط الوجود والعدم لا موجودة ولا معدومة ؛
وبشرط العدم معدومة ؛ وموجوديتها بانضمام العامّ إليها باطلة ؛ إذ ثبوت شيء لشيء
أو انضمامه إليه أو اعتباره معه فرع ثبوت المثبت له. على أنّ كلّا من الماهيّة
والعامّ لا يمكن تحقّقه بنفسه. فالحكم بتحصّل المتحصّل من انضمام أحدهما إلى الآخر
حكم بحصول الموجود من انضمام المعدوم بالمعدوم ، وهو غير معقول.
والقول بموجوديتها
بالانتساب إلى الوجود الحقّ لا محصّل له. إذ حصول النسبة فرع وجود المنتسبين. فلو
لم تكن للوجود صورة في الأعيان لم يتحقّق شيء فيها.
[السادس :] أنّ الوجود لو لم تكن حقيقة عينية لم تتحقّق للأنواع أشخاص.
إذ الماهيّة لا تأبى عن الكلّية والشركة ولو تخصّصت بألف كلّي ؛ ولا بدّ أن يكون
للشخص أمر زائد على الطبيعة المشتركة متشخّص بذاته ، وما هو إلّا الوجود الخاصّ.
فلو لم يكن متحقّقا في أفراد النوع / B ١٠
/ لم يتحقّق شيء منها في الخارج.
والقول بأنّ تشخّص
الماهيّات بانتسابها إلى الوجود الحقّ المتشخّص بذاته باطل بمثل ما مرّ ؛ فإن
النسبة بين الشيئين فرع تشخّصهما.
[السابع :] أنّ الوجود المحصّل للماهيّة إن لم يكن حقيقة قائمة بذاتها
كان عرضا إمّا قائما بالماهيّة متقوّما بها أو منتزعا عنها ووجود العرض بقسميه
متوقّف على وجود الموضوع ؛ فكيف يكون سببا لوجوده والمفروض أنّ الماهيّة موجود به؟!
هذا خلف.
وأيضا : لو كان انضمامه إليها انضماما خارجيا وجب كون كلّ منهما
موجودا في الخارج بوجود على حدة وليس الأمر كذلك ؛ ولو كان انضماما عقليا فلا بدّ
أن يتقدّم المنتزع عنه بالوجود على المنتزع.
وأيضا : لا مدخلية للانتزاع المذكور في وجود الماهيّة وتقرّرها.
فإن قيل : لا ندّعي أنّ الوجود المحصّل للماهيّة هو هذا الأمر
الانتزاعي حتّى يرد ما ذكر ، بل ندّعي أنّه كون الماهيّة بحيث ترتّب عليها الآثار
الخارجية.
قلنا : هذا الكون أيضا عرض متقوّم بها ؛ فلا يصير سببا لوجودها
سواء كان انتزاعيا كما هو الواقع أو أمرا عينيا. فتغيير العبارة غير نافع.
[في انقسام العارض إلى عارض الماهيّة وعارض الوجود]
إنّ القوم ذكروا
أنّ العارض على ضربين :
الأوّل : عارض الماهيّة من حيث هي ، كالفصل للجنس والشخص للنوع ؛
وهذا لا يحتاج إليه معروضه في حقيقته ومعناه ، بل في نحو وجوده وحصوله. فهو كالعرض
اللاحق لها وإن لم يوجد إلّا به. ألا ترى أنّ ماهيّة الجنس لا يفتقر إلى الفصل
بحسب المفهوم والمعنى ؛ إذ مفهومه خارج عن مفهومها ولاحق به معنى وإن لم توجد إلّا
به ؛ لأنّه المحصّل المقوّم لها ولا يمكن أن يكون لها مرتبة من التحصّل الوجودي بدونه
، بل حصّة الجنس كالحيوان يصير محصّلة موجودة بفصله المقسّم لا قبله. فهي متّحدة
معه في الوجود وإن كان عارضا لها بحسب تحليل العقل.
وبالجملة : الاتّحاد بحسب الوجود والعروض بحسب التحليل ؛ وكذا نسبة
__________________
الشخص إلى طبيعة
النوع في عروضه لها بحسب التحليل وصيرورتها موجودة به واتّحادهما في الوجود الخارجي.
الثاني : عارض الوجود بقسميه أو أحدهما ، كالزوجية للأربعة والسواد
للجسم والفوقية للسماء والكلّية للطبائع والنوعية للإنسان والجنسية للحيوان ؛ وهذا
ممّا يتوقّف وجوده على وجود موضوعه من دون عكس. فإنّ السواد يصير موجودا بالجسم
والجسم يصير به أسود لا موجودا ؛ وكذا الحكم في الانتزاعيات سواء كانت منتزعة من
الوجود الخارجي كالفوقية المنتزعة من السماء الموجودة في الخارج أو الذهني
كالكلّية المنتزعة من الطبيعة المطلقة الموجودة في الذهن أو فيهما كالزوجية
المنتزعة من ماهيّة الأربعة سواء كانت موجودة في الخارج أو الذهن.
وأمّا الحكم في
غير ذلك من الاعتباريات والسلوب / A ١١ / والإضافات ؛ فإنّ نحو وجود
جميعها فرع وجود معروضاتها والمعروضات لا تصير بها موجودة ، بل متّصفة بأوصاف اخر
سوى الوجود.
وبتقرير آخر : أنّ عارض الماهيّة كعارض الوجود إمّا لازم لها فيعرضها
بوجود لها أو مفارق عنها فيعرضها من حيث هي كالفصل للجنس والمشخّص للنوع.
والأوّل : داخل في عوارض الوجود ولوازمه باعتبار ؛ وهو مع كلّ عارض
للوجود لازم أو مفارق يتوقّف وجوده على وجود الموضوع بلا عكس.
والثاني : بالعكس ؛ أي يتوقّف وجود معروضه عليه بدون العكس.
ثمّ المحصّلون من
الحكماء صرّحوا بأنّ عروض الوجود للماهيّة كعروض عارضها المفارق في توقّف وجودها
عليه وعدم اتّصافها بمرتبة من التحقّق قبل اتّصافها به ، بل يصير بهذا الوجود ذات
حصّة من الوجود.
__________________
وإذ تقرّر ذلك نقول : لو لم تكن للوجود صورة عينية لم يكن عروضه للماهيّة على
النحو المذكور ، بل كان كسائر الاعتباريات اللاحقة للماهيّة بعد ثبوتها وتقرّرها.
فيجب أن يكون الوجود حقيقة عينية يتّحد مع الماهيّة وجودا في الخارج مغايرة لها
معنى ومفهوما في ظرف التحليل ؛ وهذه الحقيقة الوجودية هي بعينها حقيقة المشخّص كما
اختاره المعلّم الثاني والأقدمون من الحكماء. فالموجودية المصدرية نفس المشخّصية
المصدرية ، والوجود بمعنى ما به الموجودية عين ما به التشخّص بالمعنى المصدري ؛
والفرق بينهما بالمفهوم ؛ وليس المراد أنّهما مترادفان لفظا متّفقان مفهوما ، بل
المراد أنّهما من حيث الذات والهويّة متّحدان وبحسب المفهوم متغايران ؛ وهذا كما
يقال : «الوجود خير محض». فإنّ المراد به أنّ حقيقة الخير بالذات هي بعينها حقيقة
الوجود وإن تغايرا مفهوما ، لعدم ترادفهما.
فإن قيل : تسليم كون عروض الوجود للماهيّة كعروض عارضها من حيث هي
تسليم لأصالتها في التحقّق واعتبارية الوجود وإن صارت موجودة بهذا الوجود ؛ إذ لو
كان الوجود عارضا لها لم يكن من الأعراض القائمة بها ، كالسواد بالنسبة إلى الجسم
، بل كان من الاعتباريات الغير الموجودة ؛ فكيف حكمتم على هذا التقدير بكونه حقيقة
عينية متحصّلة بنفسها مع أنّ عروض الحقائق القائمة بأنفسها لغيرها محال؟
قلنا : ما ذكرناه إلزام للقوم بما قرّروه من إثبات العوارض
للماهيّة من حيث هي وجعل عروض الوجود لها من هذا القبيل وحكمهم بموجوديتها به مع تصريحهم
بعدم مدخلية الاعتباريات في وجود معروضاتها. فإنّها يلزم عليهم حينئذ كون الوجود
صورة عينية متحقّقة بنفسها معروضة للماهيّة لا أمرا عارضا لها كما ذكروه. إذ
العارض الاعتباري ـ على ما قرّروه ـ لا يمكن أن يكون سببا لوجود معروضه.
وأمّا على التحقيق
عندنا فلا عارض لها من حيث هي / B ١١ / لأنّها من هذه
الحيثية معدومة
الهويّة فاقدة عن الثبوت والتقرير والشيئية ، فكيف تتّصف بالعوارض؟! فعروضها لها
إنّما هو باعتبار أحد الوجودين أو كليهما ؛ وقد اصطلحوا على تسميته بالعرض
بالاعتبار الأوّل لعارض الوجود وبالعرض بالاعتبار الثاني لعارض الماهيّة ؛ ويمكن
تسميتها بالثاني بل هو الأوفق بملاحظة المعنى إلّا أنّ الكلام ليس في هذه التسمية
وإنّما الغرض إسقاط عارض الماهيّة من حيث هي ونفيه ؛ فينحصر العارض في عارض أحد
الوجودين وعارض كليهما ، سواء سمّي الأخير بعارض الماهيّة أو عارض الوجود.
وعلى هذا فعروض
العوارض للماهيّة لا بدّ أن يكون بعد وجودها في الذهن أو الخارج ؛ وموجوديتها في
الخارج لا يمكن أن تكون بالوجود الاعتباري الذي هو من العوارض. فلا بدّ أن تكون
بوجود متحقّق بنفسه ؛ وبعد تحقّقها وموجوديّتها بتبعيته تترتّب عليها لوازمها
وعوارضها.
ثمّ ما ذكر من
عروض الفصل والمشخّص لماهيّة الجنس والنوع من حيث هي مردود بمنع العروض ؛ إذ القدر
المسلّم عدم دخولهما في ماهيّتهما وكونهما من لواحقهما وذلك لا يثبت إلّا العرضية
دون العارضية ؛ والفرق بينهما غير خفيّ ؛ إذ العرضي ما يكون خارجا عن حقيقة ما
يصدق هو عليه غير ذاتي له وإن كان جوهرا لكلّ من الفصل والجنس بالنسبة إلى الآخر ؛
والعارض ما يكون عرضا تابعا في وجوده بوجود المعروض وإن كان ذاتيا لأفراده كالسواد
بالنسبة إلى أفراده ؛ والفصل جوهر وليس بعرض ؛ فلا يكون عارضا للجنس وإن كان عرضيا
له ؛ ولو اقتضى العرضية العارضية لكان الجنس أيضا عارضا للفصل لأنّه أيضا عرضي له
؛ إذ ليس عينه ؛ وهو باطل ؛ ولا جزء له وإلّا لزم الدور ؛ إذ حينئذ يتقوّم كلّ من
الجنس والفصل بالآخر ودخل الجنس في النوع مرّتين : إحداهما باعتبار نفسه والاخرى
لدخوله في الفصل الداخل فيه ؛ وذلك يؤدّي إلى اللغو ؛ وإذ يثبت
استلزام عارضية
الفصل للجنس للعكس ، يلزم بطلانها لبطلان العكس بالوفاق وعدم تعقّل كون كلّ من
الشيئين عارضا ومعروضا للآخر.
فإن قيل : مصحّح العارضية ليس مجرّد العرضية حتّى يلزم مساواتهما في
العارضية ، بل العرضية مع التابعية في الوجود.
قلنا : ذلك يثبت عكس المطلوب ؛ إذ التابعية في الوجود للجنس دون
الفصل.
فإن قيل : بناء التفرقة بينهما في العارضية على ما قرّروه من التفرقة
بين الجنس والمادّة والفصل والصورة ومن كون الجنس منتزعا من المادّة والفصل من
الصورة ؛ فكما يحكم العقل بعروض الصورة للمادّة واتّصاف المادّة بها كذلك يحكم
بعروض الفصل للجنس واتّصافه به ؛ إذ الذات واحدة والاختلاف بمجرّد الاعتبار.
قلنا : لو كان معنى الفرق ذلك يوجب أن يحكم / A ١٢ / بحلول الفصل في الجنس كما يحكم بحلول الصورة في
المادّة ، والحلول أعمّ من العروض ؛ إذ الحالّ قد يكون جوهرا ولا ينحصر في العرض حتّى يصحّ إطلاق العارض عليه ؛ ولو سمّي مطلق الحلول عروضا
فلا مشاحّة في التسمية لكنّ عروض الفصل بهذا المعنى لا يثبت المطلوب ؛ إذ المدّعى
إثبات كون الوجود عرضا بالمعنى المشهور وسببا لوجود معروضه مع أنّ الحقّ أنّ الفصل
وإن كان لاحقا وتابعا للجنس إلّا أنّه ليس عارضا له ولا حالّا فيه ، بل يتّحد معه
في الوجود ـ أي في وجود النوع ـ وكذلك الحال في المشخّص والنوع.
وتوضيح ذلك كما يأتي : أنّ ما يوجد ويتقوّم به كلّ ماهيّة بسيطة ومركّبة هو مبدأ
الفصل الأخير ؛ أعني المشخّص الذي هو نحو الوجود ؛ أي الوجود الخاصّ المتحقّق
بنفسه ؛ والطبيعة النوعية متّحدة معه في الوجود بمعنى أنّ وجودها بتبعية
__________________
وجوده وفي ضمنه ؛
وهذا معنى قولهم : «النوع متّحد مع الشخص في الوجود» أي وجود الشخص.
ثمّ هذا النوع
المتحقّق بتحقّق المشخّص المتّحد معه في الوجود له مبدأ فصل يتحصّل وتتقوّم به
الطبيعة الجنسية ؛ بمعنى أنّه يحصل لها لأجله نحو وجود ويحصل بخروجها عمّا كان لها
من مرتبة الإبهام إلى هذه المرتبة من التحصّل وإن لم يتحصّل بمجرّد ذلك في الخارج
ما لم ينضمّ إليها الفصل الأخير وهي متّحدة مع مبدأ فصلها في هذا النحو من الوجود
والتحصّل ؛ بمعنى أنّ وجودها بتبعية وجوده وفي ضمنه. فالجنس متّحد مع الفصل في
وجود النوع وهكذا الحال في ما هو فوق الجنس القريب من الأجناس البعيدة بالنسبة إلى
فصولها.
ثمّ جميع هذه
التحصّلات والوجودات التي للأنواع والأجناس إن كانت بملاحظة الفصل الأخير المتحقّق
بنفسه وكون هذا النوع والجنس متحقّقا في ضمنه يكون تحصّلات خارجية متعيّنة وحينئذ
يكون جميع الطبائع المندرجة في ضمن الشخص من النوع والأجناس المندرجة تحته موجودة
بوجود واحد هو وجود الشخص ويكون تحقّق الجميع بتبعية تحقّق مبدأ الفصل الأخير ـ أعني
الوجود الخاصّ للشخص المتحقّق بنفسه ـ ولا يمكن حينئذ انفكاك البعض عن البعض في
التحصّل وإلّا يكون تحصّلات ذهنية يمكن انفكاك بعضها عن بعض.
وممّا ذكر نعلم
أنّ اتّحاد الماهيّة مع الوجود في التحقّق والوجود أيضا بهذا النحو ؛ إذ الماهيّة
ليست إلّا أحد هذه الأنواع والأجناس ، والوجود ليس إلّا الخاصّ المتحقّق بنفسه ؛
أعني مبدأ الفصل الأخير ؛ هذا.
ويمكن أن يسلّم
عارضية الفصل والمشخّص للجنس والنوع بالمعنى المشهور ويقال : إنّهما لا يعرضان
لماهيّتهما من حيث هي ؛ إذ أنحاء الوجودات / B ١٢ / متفاوتة بالقوّة والضعف ، وطبيعة الجنس وإن كانت مبهمة
غير محصّلة
بالنظر إلى
أنواعها لكن لها في مرتبة ذاتها نحو وجود ونوع تحصّل يمتاز به عن غيرها ، وهذا
الوجود وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى وجود الأنواع والأشخاص المندرجة تحتها لكنّها
بحسب هذا الوجود يصلح لمعروضية حصّة من الفصل يحصل لها باعتباره وجود أقوى وأتمّ ،
ويتحصّل تحصّلا نوعيا ؛ وكذلك طبيعة النوع لها في حدّ ذاتها نحو وجود يتميّز به عن
غيرها ؛ وهذا الوجود وإن كان ضعيفا بالنسبة إلى الوجود الشخصي لكنّ الماهيّة بحسبه
يصلح لمعروضية المشخّص حتّى يتحصّل تحصّلا شخصيا ويحصل لها وجود أتمّ من الوجود
النوعي. فليست الطبيعة الجنسية أو النوعية ممّا لا يكون لها وجود أصلا ويصير
موجودا بعروض الفصل أو المشخّص ، بل عروضهما لهما من قبيل عروض المعقولات الثانية
للطبائع الكلّية إلّا أنّ عروضها للطبائع الكلّية من حيث وجوداتها الذهنية فقط ومن
حيث ملاحظة شيء آخر من العموم وغيره معها وعروض الفصل والمشخّص للجنس والنوع من
حيث كلا الوجودين ومن حيث هي هي بدون ملاحظة شيء آخر من العموم والخصوص وغيرهما
معها.
فإن قيل : القول بثبوت نحو تحصّل خارجي لماهيّة الجنس والنوع في حدّ
ذاتها مع قطع النظر عن الفصل والمشخّص ممّا لا محصّل له ، لما عرفت من أن
ماهيّتهما بدونهما معدومة صرفة وإنّما تحصّلهما بتبعية تحصّلهما. ففي الخارج يتّحد
الجنس والفصل والنوع والمشخّص في الوجود ، وفي الذهن ينتزع الجنس والنوع من الفصل
والمشخّص. فيحكم العقل بعروض الأوّلين للآخرين دون العكس.
وبذلك يظهر أنّه
لا عروض للآخرين للأوّلين بوجه. فلا يمكن الحكم بكون عروضهما لهما كعروض المعقولات
الثانية للطبائع الكلّية بأن يكون العروض في الذهن فقط ؛ إذ المراد به أن يحكم
العقل بكون ما هو العارض صفة للمعروض ومحمولا عليه نظرا إلى أنّ ثبوت نحو تحقّق
خارجي للمعروض بدون العارض بأن
لا يتصوّر للعارض
تحقّق سوى التحقّق الذهني. فإنّ النوعية التي عروضها للإنسان عروض ذهني فقط لا
تحقّق لها في الخارج أصلا وإنّما تحقّقها في الذهن فقط ؛ وأمّا الإنسان فله تحقّق
في الخارج وإن كان تبعيا ؛ وذلك لا يتصوّر بالنسبة إلى الجنس والفصل أو النوع
والمشخّص ، لما علمت من أنّ تحقّق الجنس والنوع في الخارج بتبعية الفصل والمشخّص ،
فكيف يحكم العقل بعروض الأخيرين للأوّلين ، بل يحكم بالعكس؟!
قلنا : لا ريب في أنّ الماهيّة الحيوانية أو الإنسانية من حيث هي
مع قطع النظر عن صيرورتها جنسا أو نوعا معدومة صرفة لكنّ صيرورتها / A ١٣ / جنسا أو نوعا لا يتحقّق إلّا بموجوديتها بوجود ضعيف
؛ بمعنى أن يتّحد به كما هو شأن كلّ ماهيّة مع الوجود. فالجنس أو النوع ماهيّة مع
وجود ضعيف مع قطع النظر عن وجود الفصل والمشخّص إلّا أنّها بضعف وجودها لا يمكن
تحصّلها التامّ بنفسها ما لم ينضمّ إليه المشخّص حتّى يحصل لها وجود أقوى ويتحصّل
لأجله في الخارج تحصّلا تامّا. فالجنس والنوع في الوجود الأقوى والتحصّل الأتمّ
يتوقّفان على الوجود الشخصي ؛ ومن حيث الوجود الضعيف وتحصّل ما لا يتوقّفان عليه ؛
فبهذا الوجود الضعيف معروضان للفصل والمشخّص ؛ لأنّ حصولهما فرع الجنس والنوع ؛
فتوقّف الجنس والنوع على الفصل والمشخّص من حيث التمامية والكمال والعكس من حيث
الإفاضة والصدور ؛ وعلى هذا فماهيّة الحيوان والإنسان مع قطع النظر عن كلّ وجود
منتزعة من الوجود الخاصّ المتشخّص ومتّحدة معه إلّا أنّها من حيث اعتبارها جنسا أو
نوعا يعتبر فيها وجود ضعيف يختصّ بها ويتّحد معه ؛ وحينئذ لا يحكم بالانتزاع ،
فتأمّل.
وبما ذكر يظهر أنّ
ما ذكر في التعاليم من «أنّ الناطق مثلا فصل مقسّم للجنس ومحصّل له نوعا» كلام
ظاهري لا يمكن حمله على حقيقته ؛ إذ له مفهوم هو «شيء
ما ثبت له النطق»
ومصداق هو «الإنسان» وشيء منهما لا يصلح لأن يكون فصلا مقوّما للنوع محصّلا للجنس.
أمّا الأوّل : فلأنّ المراد ب «شيء ما» إمّا مفهوم الشيء فهو أمر عرضي
شامل لكلّ شيء. فلو كان مع وصف النطق فصلا دخل العرض العامّ في مفهوم الفصل الداخل
في النوع ؛ فيكون العرضي ذاتيا ؛ هذا خلف ؛ أو ما يصدق عليه ، فهو عين الإنسان ؛
فيكون الفصل هو الإنسان الثابت له النطق ؛ فيكون الفصل مركّبا من النوع وغيره ؛ مع
أنّ النوع لا يدخل في الفصل ، بل الأمر بالعكس ؛ وأيضا يلزم التكرار في الحمل في
قولنا : «الإنسان ناطق» إذ معناه حينئذ أنّ الإنسان إنسان ناطق.
وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان فصلا لزم كون الفصل عين النوع لا جزئه ؛
وأيضا يلزم عدم فائدة في الحمل المذكور.
والتحقيق : أنّ لهذه الفصول المذكورة في التعاليم مبادئ هي الفصول
الحقيقة والأولى أمارات للثانية وما هي إلّا وجودات أضعف من الوجودات الخاصّة
الشخصية المتشخّصة بذواتها متّحدة معها نحو اتّحاد يعرفه العارفون أو جهات واقعية
لها تنتزع عنها هذه الفصول المذكورة في الألسنة.
والتوضيح : أنّ مراتب الوجودات متفاوتة بالقوّة والضعف والخصوص
والعموم. فالماهيّة / B ١٣ / الحيوانية وإن
كانت مبهمة غير محصّلة بالنسبة إلى أنواعها لكن لها وجود ما ليس بعرض خارجي أو
انتزاعي ، بل أمر أصيل عيني متميّز بذاته عمّا عداه من الوجودات ؛ وتلك النسبة
الحيوانية عارضة وأمارة ؛ ولكون هذا النحو من الوجود منهما غير ممكن الحصول بنفسه
في الخارج فله فصل حقيقي هو وجود أخير أخصّ وأتمّ يعبّر عنه بالناطق ويوصف به ،
ومن اتّحادهما يحصل وجود أخير يعبّر عنه بالإنسان ؛ وهذا الوجود وإن كان أتمّ
وأكثر تحصّلا من الأوّل إلّا أنّه أيضا لإبهامه وضعفه غير ممكن الحصول بنفسه في
الخارج. فله
أيضا فصل حقيقي هو
وجود أمر متشخّص بذاته قام بنفسه من دون حاجة إلى وجود أمر متّحد مع الوجود النوعي
نحو اتّحاد أتمّ وأقوى من الجميع يعبّر عنه بالمشخّص والوجود الخاصّ الشخصي ؛
وتحقّق ساير الوجودات النوعية والفصلية والجنسية به ؛ ولولاه لم يمكن تحقّقها ؛
فهي متحقّقة إلّا أنّ تحقّقها بتحقّقه ؛ والأعراض التي تسمّى بالعوارض المشخّصة هي
أمارات هذا الوجود ولوازمه.
وبالجملة : المتحقّق بنفسه هذا الوجود الخاصّ المتشخّص بذاته ؛ وما
عداه من الماهيّات والفصول الحقيقية إمّا وجودات ضعيفة مندمجة فيه متّحدة معه في
التحقّق والوجود أو جهات واقعية له متّحدة معه فيهما. فالأجناس والأنواع والفصول
الحقيقة هي تلك الوجودات الضعيفة المندمجة في الوجود الشخصي المتحقّق بذاته
المتحقّقة بتحقّقه أو الجهات الواقعية ، كما أنّ ما يسمّى بالعوارض المشخّصة ليست
مشخّصة في الحقيقة ، بل أمارات الوجود الشخصي المتشخّص بذاته المشخّص للماهيّة
النوعية والمحصّل لها ؛ لأنّ تلك العوارض وإن كانت كلّية لم تفد تشخّصا وإن كانت
جزئية فتشخّصها إنّما يكون بالموضوع لكونها أعراضا متقوّمة في الوجود والتشخّص
بالموضوع والمعروض إن تشخّص الموضوع بها فيلزم الدور ؛ وما قيل : «إنّ هذا دور
معية» لا محصّل له.
وممّا ذكر يظهر
أنّ الموجود من كلّ ماهيّة نوعية كالإنسان مثلا ليس إلّا الفرد وهو ليس إلّا وجود
خاصّ يندرج فيه وجود أضعف أو جهة واقعية تنتزع عنه النسبة الإنسانية المتخيّلة إلى
الجسمية والنموّ والحسّ والتعقّل. فحقيقة الشخص الإنساني وجود خاصّ متشخّص بذاته
مندرج فيه وجود آخر أضعف أو يتضمّن جهة واقعية تنتزع عنه الامور المذكورة.
ثمّ هذا الوجود
الأضعف أو الجهة منحلّ إلى وجودين أو جهتين ينتزع عنهما الجنس والفصل.
[في دفع الشبه الواردة على أصالة الوجود]
قد أورد على أصالة
/ A ١٤ / الوجود وكونه حقيقة عينية شبه
ضعيفة فلنشر إلى دفعها :
[الأولى :] أنّ الوجود لو كان حاصلا في الأعيان لكان موجودا ؛ إذ
الحصول هو الوجود وكلّ موجود له وجود ولوجوده أيضا وجود وهكذا إلى غير النهاية.
وجوابه : أنّه موجود بذاته ومتحقّق بنفسه من دون افتقاره إلى وجود
آخر ، بل هو الموجود بالذات وموجودية غيره به ولو لا تحقّقه بذاته لم يتحقّق به
غيره ؛ إذ غير المتحقّق لا يكون محقّقا لغيره ؛ ولو لم يطلق الموجود إلّا على ما
ثبت له الوجود وزاد على ذاته لم يطلق على الواجب لكونه صرف الوجود. مع أنّ إطلاقه
عليه مجمع عليه وعدم إطلاقه إلّا عليه لغة لو ثبت غير قادح ؛ إذ الحقائق لا يقتنص
من العرف واللغة ؛ وقد قام البرهان على أنّ ما يوجد به الغير أولى بأن يكون موجودا
، كما أنّ البياض أولى بأن يكون أبيض والضوء أولى بأن يكون مضيئا ؛ ولذلك لا يختصّ
الموجود في عرف الحكماء بما زاد عليه الوجود ، بل يعمّه كالماهيّة الموجودة وما هو
عين الوجود كالواجب. وقد صرّحوا بأنّ الوجود موجود بذاته. قال الشيخ : «إذا سئل :
هل الوجود موجود أو ليس بموجود؟ فالجواب انّه موجود. فإنّ الوجود هو الموجودية.»
واحتجّوا على ذلك
بأنّ التقدّم بين الزمانيات بالزمان وبين أضرابه بالذات ؛ وصرّح صاحب الإشراق بأنّ
المفارقات إنّيات صرفة ووجودات محضة ؛ والعجب أنّه مع هذا التصريح قال باعتبارية
الوجود.
ويؤيّد المطلوب قول الشريف : «إنّ مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا وإلّا لكان
العرض العامّ داخلا في الفصل ؛ ولو اعتبر في المشتقّ ما صدق عليه الشيء انقلب
مادّة الإمكان الخاصّ ضرورية ؛ لأنّ الشيء الذي له الضحك
هو الإنسان وثبوت
الشيء الشيء لنفسه ضروري. فذكر الشيء في تفسير المشتقّات بيان لما يرجع إليه
الضمير الذي يذكر فيه.»
وحاصله كما تقدّم : أنّه لا يراد بالناطق شيء ثبت له النطق سواء اريد بالشيء
مفهومه أو مصداقه ، للزوم أحد المحذورين. فالمراد به أمر بسيط وما هو إلّا أمر
متحقّق في الخارج بتبعية الوجود الشخصي ؛ أعني جهة منه أو وجودا ضعيفا متّحدا معه
في التحقّق ، كما مرّ. فظهر أنّ المراد بالمشتقّ ومصداقه وما يطابقه أمر بسيط لا
يعتبر فيه تركيب من الموصوف والصفة ولا يعتبر فيها الشيء لا عامّا ولا خاصّا ؛
وذكر الشيء في تفسيره بيان لمرجع الضمير الّذي لا بدّ أن يذكر في تفسيره من حيث
إنّه مشتقّ لا من حيث حقيقته البسيطة. فإنّه من حيث الاشتقاق يستتر فيه ضمير لا
يتمّ تفسيره بدون ذكره وذكره يتوقّف على ذكر مرجع له.
فإن قيل : لو كان الوجود أمرا عينيا موجودا بنفسه لزم أن يكون كلّ
وجود واجبا ؛ إذ لا نريد بالواجب إلّا ما يكون تحقّقه / B ٤١
/ بنفسه.
قلنا : الواجب ما يكون تحقّقه بذاته بلا احتياج إلى فاعل ، وساير
الوجودات يحتاج إليه إلّا أنّه بعد صدورها يقوم بنفسها بلا احتياج إلى وجود آخر.
[الثانية :] أنّ الوجود لو تحقّق في الخارج وكان موجوديته بمعنى تحقّقه
بنفسه من دون حاجة إلى وجود آخر لم يكن حمل الوجود على الوجود وعلى الماهيّة بمعنى
واحد. إذ حمله عليه حينئذ بمعنى تحقّقه بنفسه وعليها بمعنى ثبوت الوجود لها مع أنّ
إطلاق الموجود على كلّ موجود بمعنى واحد لثبوت الاشتراك معنى ؛ وكونه في الحملين
بمعنى المتحقّق بنفسه بيّن الفساد ؛ لعدم تحقّق الماهيّة بنفسها ؛ وبمعنى ما له
الوجود يوجب أن يكون للوجود وجودا وهو باطل ؛ لاستلزامه التسلسل عند عود الكلام
إلى وجود الوجود. فاللازم عدم صحّة حمله على الوجود وهو يوجب عدم كونه موجودا.
وجوابه : أنّ الموجود المحمول في الحملين بمعنى واحد هو المتحقّق
الثابت وإنّما اختلف الموضوعان بكون التحقّق لأحدهما بنفسه وللآخر بغيره الذي هو
الوجود. فالاختلاف إنّما يرجع إلى خصوصيات الموضوع لا إلى المحمول.
والحاصل : أنّ الاختلاف بين موجودية الماهيّة وموجودية الوجود لا يوجب
الاختلاف في إطلاق مفهوم الموجود المشترك بين الجميع. لأنّه إمّا معنى بسيط يعبّر
عنه في الفارسية ب «هست» ومرادفاته أو عبارة عمّا ثبت له الوجود بالمعنى الأعمّ ؛
أي سواء كان من باب ثبوت الشيء لنفسه ـ أعني عدم انفكاكه عن نفسه ـ أو [من] باب
ثبوت الغير له ، كمفهوم الأبيض والمضاف وغيرهما من المشتقّات. فإنّ مفهوم الأبيض
ما له البياض سواء كان عينه أو غيره ، واشتمال الأبيض على أمر زائد على البياض
إنّما لزم من خصوصية بعض الأفراد لا من نفس المفهوم ؛ فكذلك اشتمال الموجود على
أمر زائد على الوجود كالماهيّة إنّما ينشأ من خصوصيات الأفراد الممكنة لا من نفس
المفهوم المشترك ؛ ويؤيّد ذلك قول الشيخ : «واجب الوجود قد يعقل نفس واجب الوجود ،
كالواحد قد يعقل نفس الواحد ، وقد يغفل من ذلك أنّ ماهيّة ما إنسان أو جوهر آخر [من
الجواهر ؛ وذلك الإنسان هو الذي] هو واجب الوجود [كما أنّه قد يعقل] من الواحد
أنّه ماء أو هواء أو إنسان وهو واحد.» ففرق أوّل بين ماهيّة يعرض لها الواحد والموجود وبين
الواحد والموجود من حيث هو واحد وموجود ؛ وقوله : «إذ سئل هل الوجود موجود؟
فالجواب انّه موجود بمعنى أنّ الوجود حقيقته أنّه موجود. فإنّ الوجود هو الموجودية»
وقد تقدّم أنّ مصداق المشتقّ وما يطابقه أمر بسيط ليس فيه تركيب بين الصفة
والموصوف ؛ ولا يعتبر الشيء في الصفة مفهوما ومصداقا.
[الثالثة :] أنّ الوجود لو كان / A ١٥
/ حقيقة عينية توقّف ثبوته للماهيّة على
__________________
وجودها للقاعدة
الفرعية. فيتقدّم الوجود على الوجود ؛ وهذا ممّا أورد على اتّصاف الماهيّة بالوجود
سواء تحقّق في الخارج أم لا ؛ ولا يختصّ بالأوّل.
وجوابه على أصالته واعتباريتها : أنّ تحقّق الوجود في ما له ماهيّة لا يقتضي قابليتها له
واتّصافها به ؛ بل الوجود متحقّق بنفسه بعد صدوره من جاعله والماهيّة منتزعة عنه
متحقّقة بتحقّقه. فالنسبة بينهما اتّحادية لا ارتباطية. نعم تتّصف الماهيّة
بالوجود العامّ في ظرف التحليل ؛ لأنّه من عوارضها التحليلية ؛ وأمّا على العكس
فيمكن الجواب بأنّ الوجود عند القائل به ثبوت الماهيّة لا ثبوت شيء لها ولا
اثنينية بينهما حتّى يثبت لها ويقوم بها ، بل هي متّحدة مع الوجود الخارجي في
الخارج ومع الذهني في الذهن وإن أمكن تعقّلها بلا اعتباره والحكم بأنّ المفهوم من
أحدهما غير المفهوم من الآخر ؛ ويأتي لذلك مزيد توضيح.
[الرابعة :] أنّ الوجود لو قام في الأعيان فقيامه إمّا بالماهيّة
الموجودة فيلزم وجودها قبل وجودها أو المعدومية فيلزم اجتماع النقيضين أو المجرّدة
من الوجود والعدم فيلزم ارتفاعهما ؛ وهذا كسابقه لا تخصّص له بموجودية الوجود ، بل
ممّا أورد على زيادته وإن كان اعتباريا.
وجوابه ـ كما تقدّم ـ أنّ الوجود لو كان في الأعيان وليس بجوهر فيكون كيفا لصدق
حدّ الكيف عليه ؛ فيلزم مع تأخّره عن الموضوع المستلزم للدور أو التسلسل كون الكيف
أعمّ الأشياء مطلقا لأعمّيته من الوجود.
وجوابه : أنّ الجوهر والكيف وغيرهما من المقولات ماهيّات كلّية يكون
جنسا ونوعا وذاتية وعرضية. فالجوهر ماهيّة كلّية حقّها في الوجود الخارجي أن لا
يكون في الموضوع ، وقس عليه ساير المقولات ؛ والحقائق الوجودية هويّات عينية وذوات
شخصية متعيّنة بأنفسها غير مندرجة تحت كلّى ذاتي أو عرضي. فلا يكون جوهرا أو كيفا
أو عرضا آخر من الأعراض.
والحاصل : أنّ المقولات أجناس عالية متحصّلة وما تحتها من المفهومات
الكلّية إمّا
أنواع أو أعراض عامّة أو خاصّة. فأفرادها الخارجية لها أجناس وأنواع وأعراض
متحقّقة مشتركة بينها ، والوجودات ـ كما يأتي ـ ليست شيئا من هذه الكلّيات الذاتية
والعرضية ولا مندرجة تحت شيء منها ؛ فتكون حقائق عينية وهويّات شخصية متميّزة
بأنفسها ، غير مندرجة تحت كلّي متحصّل تنتزع عنها الماهيّات والوجود العامّ.
والفرق بينهما : أنّ الماهيّات متّحدة معها متحقّقة بتحقّقها في الخارج ،
والعامّ ليس له تحقّق في الخارج بوجه وما عدّ من الأعراض.
هذا هو المفهوم
العامّ العقلي المنتزع من / B ١٥ / الوجودات
الخاصّة وثبوته لها ثبوت المنتزع لمنشإ الانتزاع دون ثبوت المتحصّل الذاتي أو
العرضي لأفراده ؛ والمراد بكونه عرضا أنّه الخارج المحمول على الماهيّات.
وما ذكر إنّما هو
على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ؛ وعلى العكس فالجواب أنّه مخالف للأعراض ؛
لأنّ وجودها في نفسها وجودها لموضوعها ؛ فلها وجود وله وجود آخر ؛ وأمّا الوجود فهو بعينه وجود الموضوع لا
وجود العرض فيه والعرض مفتقر في تحقّقه إلى موضوعه دون العكس ، والأمر في الوجود
وموضوعه بالعكس ، هذا.
وبعضهم أجاب بأنّ
وجود الجوهر جوهر بجوهرية ذلك الجوهر لا بجوهرية اخرى ووجود العرض عرض بعرضية ذلك
العرض لا بعرضية اخرى.
وحاصله : أنّ كلّ ماهيّة من الجوهر والعرض لمّا كانت متّحدة مع
الوجود في الخارج ؛ فيكون وجود الجوهر المتّحد معه جوهرا بجوهريته وإن لم يكن في
نفسه مع قطع النظر عن الاتّحاد جوهرا.
[الخامسة :] أنّ الوجود لو كان موجودا :
__________________
[١.] فإن تقدّم
على الماهيّة لزم حصوله دونها ، فتقدّم الصفة على الموصوف وتتحقّق بدونه.
[٢.] وإن تأخّر
عنها لزم كون الماهيّة موجودة قبله ، فيلزم التسلسل.
[٣.] وإن كانا معا
كانت موجودة معه لا به ، فلها وجود آخر فيلزم التسلسل.
وبطلان التوالي
بأسرها موجب بطلان المتقدّم.
واجيب بأنّ اتّصاف
الماهيّة بالوجود أمر عقلي ليس كاتّصاف الشيء بالعوارض الخارجية حتّى يكون لهما
ثبوتان ويجرى فيهما الشقوق المذكورة ، بل هما في الخارج متّحدان بمعنى أنّ كونهما
فيه معا عبارة عن كون الوجود موجودا بذاته ، والماهيّة متّحدة معه موجودة به لا
بغيره ؛ فالفاعل إنّما يفيد وجود الشيء نفسه ، وهو في نفسه مصداق لحمل الماهيّة
عليه ، فلا تقدّم ولا تأخّر لأحدهما بالنسبة إلى الآخر ، بل ولا معيّة أيضا ؛ إذ
حصول شيء منها للشيء بالقياس إلى نفسه غير معقول.
والمراد بما قيل : «إنّ الوجود متقدّمة على الماهيّة» أنّه الأصل في التحقّق
والصدور ومصداق صدق المعاني الكلّية المسمّاة بالماهيّة والذاتيات عليه بذاته ،
كما أنّه مصداق العرضيات بواسطة وجود آخر يعرضه ؛ وليس تقدّمه على الماهيّة كتقدّم
العلّة على المعلول أو القابل على المقبول ، بل كتقدّم ما بالذات على ما بالعرض
وما بالحقيقة على ما بالمجاز.
والتحقيق ـ كما مرّ ـ : أنّ الوجودات الخاصّة / A١٦ / الإمكانية حيثيات واقعية راجعة
إلى نقصها وقصورها عن مرتبة الوجود الحقّ ؛ وهي متّحدة مع الوجودات في التحقّق
ومتحقّقة بتحقّقها ومتأخّرة عنها تأخّر اللازم عن الملزوم ؛ وهي الماهيّات
الخارجية التي تنتزع عنها الماهيّات المعقولة.
وبعضهم على أنّ
الماهيّات وجودات ضعيفة مندمجة في الوجود الشخصي المتحقّق بنفسه ومتّحدة معه بضرب من الاتّحاد ، ولضعفها
وبعدها عن صرف الوجود ممكن تعقّلها ؛ فينتزع العقل منها الماهيّات المعقولة.
ثمّ الوجودات
الخاصّة الإمكانية كلّما كانت في سلسلة الصدور أقرب إلى صرف الوجود الحقّ الموجد
للكلّ كانت حيثية الماهيّة والتركيب فيه أضعف وجهة الموجود فيه أشدّ ؛ وكلّما كانت
أبعد منه كان الأمر فيه بالعكس. أوّل المعلولات لضعف مهيته كأنّه وجود لا ماهيّة
له ، وآخرها لضعف وجوده كأنّه ماهيّة لا وجود له.
[السادسة :] أنّا قد نتصوّر الوجود ونشكّ في أنّه موجود ـ أي له الوجود ـ أم لا ،
والمعقول غير المشكوك ؛ فيكون له وجود زائد ؛ وكذا الكلام في وجود الوجود ،
فيتسلسل ؛ فلا بدّ أن يكون الوجود اعتباريا محضا ولا يكون حقيقة عينية حتّى يرده
السؤال بأنّا نعقله ونشكّ في كونه موجودا.
وجوابه : أنّ حقيقة الوجود لا يحصل في الأذهان حتّى يتصوّر ؛ إذ وجود كلّ موجود هو عينه الخارجي والخارجي لا ينقلب ذهنيا ؛
وما يتصوّر منه هو المفهوم الاعتباري المنتزع عنه ؛ والعلم بحقيقته إنّما هو
بالحضور الإشراقي والشهود العيني الذي لا يبقى معه الشكّ في هويّته.
ثمّ لو فرض إمكان
تصوّره وحصول حقيقته في الذهن فلا يشكّ في كونه موجودا من دون ثبوت وجود زائد له ؛
لأنّه الموجود بنفس ذاته والمتحقّق بمحض هويّته ؛ فهو وجود وموجود ؛ فمعنى كونه
موجودا أنّه ثابت بنفسه ومعنى ثبوت الوجود له أنّه ثابت لنفسه.
والأولى بهذا
السؤال أن يورد على القول بزيادة الوجود على الماهيّة فيقال : إنّا
__________________
نعقل الماهيّة
ونشكّ في وجودها أو نعقل عينه ، والمعقول غير المشكوك فيه والمعقول عنه ؛ فالوجود
زائد على الماهيّة.
وجوابه : أنّ زيادته عليها إنّما هو بحسب التحليل دون الخارج ،
لاتّحاده معها فيه من دون عروضه لها. / B١٦ /
[السابعة :] أنّ الوجود لو كان موجودا للماهيّة ، فله نسبة إليها
وللنسبة أيضا وجود ، فلوجود النسبة نسبة إليها ، وهكذا الكلام في وجود نسبة النسبة
فيتسلسل.
والجواب : أنّ حقيقة الوجود ليست وصفا زائدا على الماهيّة ثابتا لها
في الخارج ، بل هو عينها فيه وغيرها في الذهن بمعنى أنّ المتحقّق بالذات هو
الموجود ، والماهيّة متحقّقة بتبعيته ومتّحدة معه في الخارج ؛ فلا نسبة بينهما
إلّا بحسب اعتبار العقل [و] عند اعتباره يكون للنسبة وجود هو عينها بالذات وغيرها
بالاعتبار وله نسبة اعتبارية إليها وهكذا يتسلسل نسبة الوجود ووجود النسبة بحسب
الاعتبار إلى أن ينقطع بانقطاعه.
وإنّما ضيّعنا
الوقت وخرجنا بذكر هذه الشبهات عن وضع الكتاب ليعلم المحصّل أنّ ما اورد على هذا الأصل ممّا لا وقع له أصلا.
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ الوجود في كلّ شيء أمر حقيقي غير الانتزاعي ؛ أي الموجودية سواء كانت موجودية
الوجود أو الماهيّة ؛ فإنّ نسبة الانتزاعي إلى الحقيقي كنسبة الإنسانية إلى
الإنسان والأبيضية إلى البياض ، ونسبته إلى الماهيّة كنسبة الإنسانية إلى الضاحك ؛
ومبدأ الأثر وأثر المبدأ هو الحقيقي دون الانتزاعي المعدوم في الخارج والماهيّة
التي لو لا الوجود بقيت على عدمها الأصلي وما شمّت رائحة الثبوت ؛ وقد يأتي أنّ
المجعول بالذات ـ أي أثر الجاعل [و] ما يترتّب عليه بالذات ـ هو نحو الوجود بالجعل
البسيط دون الماهيّة ، كما أنّ الجاعل
__________________
بالذات مترتّبة
منه دونها بالموجود في الخارج هو الوجودات الخاصّة دون الماهيّات. كيف والمحكوم
بتقدّمه على كلّ اتّصاف وبمنعه عن طريان العدم لا يجوز أن يكون أمرا عدميا ومنتزعا
عقليا. فما هو إلّا حقيقة متحقّقة في الواقع مسمّاة بالوجود الحقيقي ؛ وهو عين
الحقيقة والتحقّق إلّا أنّه شيء متحقّق.
فما قيل : «إنّ الحكم بتقدّم الوجود على فعلية الماهيّة غير صحيح ؛ إذ
ليس للوجود معنى حقيقي إلّا الانتزاعي» مردود بما قرّرناه من كون الوجود الحقيقي
غير الانتزاعي وأنّه المتحقّق في الخارج ، والمحكوم بتقدّمه على فعلية الماهيّات
وتقرّرها ، ولولاه لم يكن لها فعلية وتقرّر.
[في كيفية اتّحاد الماهيّة والوجود واتّصافها به]
لمّا تقدّم مرارا
أنّ الماهيّة متّحدة مع الوجود بضرب من الاتّحاد وأنّها منتزعة منه فاعلم أنّ جهة
الاتّحاد في كلّ متّحدين هو الوجود ـ سواء كان اتّحادا بالذات كاتّحاد الإنسان
بالوجود أو الحيوان ، أو بالعرض / A ١٧ / كاتّحاده بالأبيض ـ ولولاه لم
يعقل الاتّحاد بين شيئين ؛ إذ بدونه لا تحقّق لشيء حتّى يتصوّر اتّحاده مع آخر في الخارج.
فجهة الاتّحاد بين
الأوّلين هو نفس الموجود المنسوب إلى الإنسان بالذات ؛ وبين الأوسطين هو الوجود
المنسوب إليهما بالذات ؛ وبين الأخيرين هو الوجود المنسوب إلى الإنسان بالذات وإلى
الأبيض بالعرض. فالاتّحاد بين شيئين فرع اتّحادهما في ما به التحقّق ؛ أعني الوجود
ما به التحقّق نفس أحدهما ، كما في اتّحاد الماهيّة بالوجود ؛ أو لا ، كما في اتّحاد الحيوان
بالإنسان ؛ وعلى أيّ تقدير لا يمكن استقلال كلّ منهما بالتحصّل والتحقّق وإلّا بطل
الاتّحاد وكان لكلّ منهما
__________________
وجود على حدة ؛
فلا محالة أحدهما انتزاعي والآخر حقيقي إذا كان أحدهما نفس ما به التحقّق ـ أعني
الوجود ـ أو كلاهما انتزاعي إذا كان ما به تحقّقهما غيرهما ، كما في اتّحاد ماهيّة
ـ كالحيوان ـ بالاخرى ـ كالإنسان ـ فإنّ ما به تحقّقهما ـ أعني جهة اتّحادهما ـ هو
الوجود ؛ وعلى هذا تتّحد الثلاثة في التحقّق بذاته والمتحقّق بذاته واحد منهما [و]
هو الوجود والماهيّات منتزعة منه. فثبت أنّ معنى اتّحاد الماهيّة بالوجود كونه متحقّقا
في الخارج بنفسه وانتزاعها عنه من جهة نقصانه اللازم لإمكانه.
على ما اخترناه من
أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة لا يرد إشكال في كيفية اتّصافها به نظرا إلى قاعدة الفرعية ؛ إذ حينئذ ليست الماهيّة أصلا يتّصف بالوجود حتّى
يرد أنّ مقتضى تلك القاعدة أن يكون لها قبل الاتّصاف ثبوت يصحّحه ومع قطع النظر عن
الوجود لا ثبوت لها ، بل الأصل حينئذ هو الوجود وهو متحقّق بذاته ثابت بنفسه من
دون افتقار في ثبوته إلى وجود آخر. فهو أمر أصيل عيني متحقّق ظاهر بنفسه ومحقّق
مظهر لغيره ؛ وأحقّ الأشياء بالتحقّق والثبوت وأوليها بالتجلّي والظهور ؛ إذ تحقّق
ذاته بذاته وظهور نفسه بنفسه ، بل هو عين التحقّق والظهور الحقيقيّين ومنشأ انتزاع
مفهوميهما الانتزاعيّين وبه تحقّق كلّ متحقّق في الخارج والأعيان ، وظهور كلّ ظاهر
في المدارك والأذهان ، وهو مذوت الذوات ، ومحقّق الحقائق ، وحاكي الماهيّات ، ومظهر
الظواهر ، وبه يصل كلّ ذى قدر قدره وينال كلّ ذي حقّ حقّه ؛ وحقيقته أنّه في
الأعيان فلا / B ١٧ / يدخل في
المدارك والأذهان ، ولو أمكن العلم به فهو بنوع من المشاهدة والعيان لا بإحاطة
عبارة وبيان. فهو حقّي الماهيّة والذات ، جلّي الإنّيّة والصفات.
__________________
وبالجملة : هو الأصل المتحقّق والماهيّة منتزعة منه ومتّحدة معه بضرب
من الاتّحاد ؛ وقد عرفت أنّ التحقّق والتحصّل في كلّ متّحدين إنّما هو لأحدهما
والآخر يكون اعتباريا وأنّ المتحقّق منهما هو الوجود ؛ ولو وجد متّحدان كلّ منهما
غيره لا بدّ أن يكون الوجود ثالثا لهما في الاتّحاد ليكون ما به تحقّقهما ويكون هو
المتحقّق من الثلاثة والآخران اعتباريان.
فالوجودات
الإمكانية لضعفها وقصورها وتناهيها يشتمل على جهات عدمية واقعية وحيثيات سلبية نفس
أمرية هي منشأ حكاية الماهيّات المختلفة وانتزاعها ؛ وعلى هذا لا مجال لثبوت
الماهيّة وعروضها للوجود.
ثمّ لاتّحادهما في
الوجود يكون الوجود نفس الماهيّة عينا ؛ فلا يتصوّر عروضها له واتّصافه بها ؛ فلا
مجال للتفريع في ثبوتها له أيضا.
وإطلاق الاتّصاف
على الاتّحاد الذي بينهما من باب التجوّز ؛ إذ الارتباط بينهما اتّحادي وليس
كالارتباط بين العارض والمعروض ، والصفة والموصوف ، بل من قبيل اتّصاف الجنس بفصله
في النوع البسيط ، كالنقطة عند تحليل العقل إيّاه إليهما من حيث هما جنس وفصل لا
من حيث هما مادّة وصورة عقليتان.
والتوضيح : أنّ كلّ نوع بسيط ـ كالنقطة ـ في الخارج شيء واحد بسيط
موجود بوجود واحد ، لكن لاشتمالها على جهتين واقعيتين هما جهة ماهيّته وجهة وجوده
يحلّلها العقل إلى جنس وفصل مأخوذين منهما ويحمل الفصل على الجنس من حيث الجنسية
والفصلية ؛ أي من حيث أخذهما لا بشرط لا من حيث كونهما مادّة وصورة عقليتين ؛ أي
من حيث أخذهما بشرط لا ؛ إذ من هذه الحيثية لا حمل ولا اتّصاف.
وبالجملة : النقطة في الخارج ليست إلّا شيء واحد له جهتان لأجلهما
يحلّلها
__________________
العقل إلى جنس
وفصل ؛ وليست مركّبة فيه من مادّة وصورة خارجيّتين متحصّلتين موجودين بوجودين
متغايرين يؤخذ منهما الجنس والفصل.
وهكذا الحال في
كلّ موجود ممكن ؛ أي الوجود الخاصّ الإمكاني ؛ فإنّه ليس في الخارج إلّا شيئا
واحدا ولكن لاشتماله / A ١٨ / على جهتين
واقعيّتين هما جهة الوجود المتحقّق وجهة القصور المستند إلى إمكانه يحلّله العقل
إلى ماهيّة ووجود ؛ والارتباط بينهما كالارتباط بين الجنس والفصل المأخوذين من
النوع البسيط كالنقطة بالتحليل لا المأخوذين من النوع المركّب كالإنسان ؛ لأنّه
مركّب من مادّة وصورة خارجيّتين متحصّلتين.
فإن قيل : قد حقّقت سابقا أنّ المتحقّق من كلّ موجود ممكن هو مبدأ
الفصل الأخير ـ أعني وجوده الخاصّ ـ وغيره ـ من الأنواع والأجناس والفصول الحقيقية
التي هي مبادئ الأنواع والأجناس والفصول التعليمية المنطقية ـ جهات واقعية له ،
متحقّقة بتحقّقه ، ومتّحدة معه في الوجود ، وينحصر وجود الكلّ فيه أو وجودات ضعيفة كذلك ، لعدم استقلالها بالتحقّق ؛ وعلى
هذا فلا فرق بين الجنس والفصل في النوع البسيط ، وبينهما في المركّب في
اعتباريتهما واتّحادهما في الوجود. فالتخصيص في التشبيه لا وجه له.
قلنا : لمّا كانت الماهيّة في كلّ موجود ممكن اعتبارية منتزعة من
وجوده الخاصّ المتحقّق ، متّحدة معه في الوجود ، لزم أن يكون المشبّه به جنسا
وفصلا لا يكون لهما مبدئان يختصّ كل منهما بوجود على حدة وإن كان ضعيفا ، كما في
الأنواع المركّبة من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود ضعيف ، ويحصل من
اجتماعهما وجود كامل ، بل يكونان متّحدين في الوجود ويكون الجنس منتزعا من الفصل
متحقّقا بتحقّقه ، كما في الجنس والفصل للنوع البسيط
__________________
على ما مرّ.
وأمّا الجنس
والفصل للنوع المركّب ـ فكما أشير إليه ـ مأخوذان من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ
كلّ منهما بوجود ضعيف على حدة غير مستقلّ ، ويحصل من اجتماعهما وجود أكمل هو وجود
النوع وإن كان وجوده أيضا غير مستقلّ وتوقّف على المشخّص الذي هو الوجود المتحقّق
بنفسه وكان الصورة أو المادّة الشخصية مع وجودها الضعيف موجود شخصي من أفراد نوع
المادّة أو الصورة ، كما أنّ الشخص من الماء مع وجوده الأقوى موجود شخصي من أفراد
نوع الماء.
وظاهر أنّ
الماهيّة في نفسها ـ أي مع قطع النظر عن وجودها الخاصّ المتحقّق ـ سواء جعلت جهة
عدمية واقعية له أو وجودا ضعيفا مندمجا فيه لا تحقّق لها أصلا وإنّما هي متّحدة
معه في الوجود / B ١٨ / ومنتزعة منه ،
وليس لها وجود على حدة متميّز عن الوجود الخاصّ المتحقّق ؛ فلا يصحّ تشبيهها
بالجنس والفصل للنوع المركّب ، لاختصاص كلّ منهما بوجود على حدة متميّز عن وجود
الآخر وإن كان ضعيفا ، بخلاف النوع البسيط ؛ فإنّ تحقّق جنسه بالفصل الذي هو
الوجود الخاصّ ـ على ما قرّرنا ـ وليس له وجود على حدة سوى وجود الفصل.
فإن قيل : إذا كان لكلّ من الجنس والفصل والنوع في النوع المركّب وجود
ضعيف على حدة لكان للماهيّة أيضا وجود ضعيف ؛ لأنّها ليست إلّا أحد هذه الامور ،
وحينئذ يكون الارتباط بين الماهيّة والوجود كالارتباط بين الجنس والفصل مطلقا من
دون فرق بين النوع البسيط والمركّب.
قلنا : اعتبار الوجود الضعيف مع الجنس أو الفصل يجعله موجودا
متضمّنا للماهيّة ونحو الوجود ، كسائر الموجودات الخاصّة ؛ والماهيّة التي يدّعى
كونها منتزعة من الوجود الخاصّ ومتحقّقة بتحقّقه هي المجرّدة من كلّ وجود ـ قويّا
كان أو ضعيفا ـ فالضعيف
كالقويّ في أنّه المتحقّق الذي تنتزع عنه الماهيّة ؛ إذ مراتب الوجودات الخاصّة
الإمكانية مختلفة في الشدّة والضعف : أشدّها وجود العقل الأوّل وأضعفها وجود
الهيولى ، وبينهما مراتب لا تحصى.
وعلى هذا فتشبيه
الارتباط بين الماهيّة المجرّدة والوجود الخاصّ بالارتباط بين الجنس والفصل اللذين
كلّ منهما موجود خاصّ برأسه ، مركّب من الماهيّة ونحو الوجود ، وإن كان ضعيفا غير
مناسب ، بل هو كالارتباط بين الجنس والفصل ، ووجوده الضعيف لكونه مثل ساير
الوجودات الخاصّة ؛ وإن رجع هذا التشبيه إلى كون المشبّه به فردا من المشبّه ؛
فالأنسب أن يشبّه بالارتباط بين الجنس والفصل في النوع البسيط ؛ إذ الجنس فيه هو
مجرّد الجوهر أو العرض الذي لا يتصوّر له بنفسه وجود على حدة ؛ وفصله هو الوجود
الخاصّ المتحقّق بنفسه.
وممّا ذكر يظهر
الفرق بين النوع البسيط والمركّب ، وجنسيهما وفصليهما ؛ والتوضيح : أنّ كلّ موجود
ممكن لتضمّنه جهتين هما جهة وجوده وجهة قصوره المستند إلى إمكانه ينتزع عنه بالجهة
الأولى الوجود العامّ وبالثانية الماهيّة ؛ وفي الجميع يتّحد الجهتان في الوجود / A ١٩/ وتكون جهة الماهيّة اعتبارية منتزعة من جهة الوجود.
ثمّ لو كان الممكن
نوعا بسيطا مجرّدا كالعقل انحصرت جهة الماهيّة بالجنس العالي ، كالجوهر الذي لا
يندرج فيه شيء آخر ، ويكون فصله هو الفصل الأخير ـ أعني الوجود الخاصّ ـ وينحصر
وجوده به ، ولا يكون له وجود آخر على حدة ، بل يكون منتزعا من هذا الوجود الخاصّ
متّحدا معه في التحقّق ولو كان نوعا مركّبا ولكن كان جسما بسيطا تقيّد الجوهر
بقيودات اخر كالقابلية للأبعاد الثلاث وصارت ماهيّة مركّبة منحلّة إلى جنس وفصل
مأخوذين من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ كلّ منهما بوجود ضعيف لما يتّحد مع وجود
الآخر وإن
لم يستقلّ كلّ
منهما بانفراده بالتحقّق ؛ ولو ينزل عن ذلك وصار جسما مركّبا ـ كالإنسان ـ ازدادت
القيودات وصارت ماهيّة مركّبة من جنس وفصل مأخوذين من مادّة وصورة خارجيّتين يختصّ
كلّ منهما بوجود أقوى من الوجود السابق. فإنّ مادّة الإنسان هو البدن ، وصورته
النفس ، ولكلّ منهما وجود خاصّ متميّز عن وجود الآخر وإن حصل من اجتماعهما وجود
أكمل هو وجود الإنسان.
ثمّ الدليل على
أنّ وجود كلّ ممكن عين ماهيّته خارجا ومتّحد بها نحوا من الاتّحاد أنّه لمّا ثبت أنّ
الوجود الحقيقي الذي هو مبدأ الآثار ومنشأ الأحكام وبه توجد الماهيّة ويطرد عنها
العدم أمر عيني لزم أن يكون وجود كلّ ماهيّة عينها ومتّحدا بها وإلّا إمّا أن يكون
الوجود جزءا منها أو بالعكس أو زائدا عليها عارضا لها أو بالعكس.
والأوّل : يوجب كون الماهيّة حاصلة الوجود قبل نفسها ؛ لأنّ وجود
الجزء قبل وجود الكلّ ، والفرض أنّ وجودها جزء لها ، فيتقدّم وجودها على نفسها ،
ووجود الشيء لا ينفكّ عن حصوله ، فيتقدّم حصولها على حصولها.
والثاني : يوجب تقدّمها عليه لتقدّم الجزء على الكلّ مع أنّ الفرض كون
تحقّقها به وتقدّمه عليها ، لما تقرّر من أصالته وموجوديتها به.
والثالث : يوجب تقدّم الوجود على نفسه ؛ لأنّ وجود الصفة والعارض بعد
وجود الموصوف والمعروض ؛ فعروض الوجود لها يوجب تأخّره عنها مع أنّ المفروض كونه
أمرا عينيا محصّلا للماهيّة ومتقدّما عليها ؛ فيلزم تقدّمه على نفسه ، بل تقدّمها
أيضا على نفسها ؛ وأيضا / B ١٩ / لتوقّف اتّصاف
الماهيّة بالوجود العارض على وجودها قبله يلزم تكرير نحو وجود شيء واحد من جهة
واحدة أو التسلسل في المترتّبات المجتمعة من أفراد الوجود ، وهو باطل بالبراهين
واستلزامه
__________________
انحصار غير
المتناهي بين حاصرى الوجود والماهيّة مع أنّه يستلزم المطلوب ـ أي كون الوجود عين
الماهيّة خارجا ـ بالخلف ؛ إذ قيام جميع هذه الوجودات بحيث لا يشذّ عنها وجود عارض
لا يمكن قيامها بالماهيّة الموجودة وإلّا لزم خلاف الفرض ؛ ولا بالغير الموجودة
للفرعية ؛ فبقي أن يكون عين الماهيّة في الخارج ؛ فيكون لها وجود غير عارض.
والرابع : يوجب عدم تضمّن الخاصّ الإمكاني لجهة عدمية واقعية تنتزع
عنها الماهيّة ؛ إذ مع تضمّنه لها وانتزاع الماهيّة منه لأجلها لا معنى للحكم
بكونها زائدة عليه عارضة له ، كعروض السواد للجسم ؛ إذ ليس في
الجسم منشأ انتزاع للسواد ؛ وعدم تضمّنه لها يوجب كونه في ذاته صرف الوجود معروضا
للماهيّة لعلّة خارجة من دون مدخلية للقوّة والعدم في حقيقته مع أنّ القصور
والافتقار وجهات القوّة والعدم من مقوّمات الوجودات الإمكانية ولوازمها. فكلّ وجود
ممكن متضمّن جهة عدمية يقتضيها بمحض حقيقته وتنتزع عنه الماهيّة لأجلها ؛ ولولاها
لم يكن انتزاعها كما في الواجب.
وبذلك يظهر أنّ
كلّ وجود تنتزع عنه الماهيّة لا يخلو عن التركيب ؛ وإذ ثبت عينية وجود كلّ ممكن
لماهيّته في العين نقول : لو كان عينها في المعنى والمفهوم أيضا لزم ترادف الوجود
للإنسان ـ مثلا ـ وكان حمله عليه كحمله على نفسه غير مفيد ؛ ولم يمكن تصوّر أحدهما
مع الغفلة عن الآخر ؛ والتوالي بأسرها باطلة ؛ فالمقدّم مثلها ؛ فيكون غيرها
مفهوما بحسب التحليل العقلي مع اتّحادهما هويّة في الخارج.
بقي الكلام في
كيفية اتّصاف الماهيّة بالوجود في ظرف التحليل بجريان الإشكال فيه أيضا وعدم
اندفاعه بما ذكر ؛ إذ تحليل العقل كلّ موجود إلى ماهيّة و
__________________
وجود وإثباته لها
ممّا لا ريب فيه ؛ فاتّصافها به في الذهن ممّا لا ينكر ؛ وهو فرع ثبوتها فيه ، للفرعية
؛ وإذا نقلنا الكلام إلى هذا الثبوت لكونه نوع وجود ثبت للماهيّة لزم التسلسل.
والدفع بنفي
الاتّصاف حقيقة / A ٢٠/ معلّلا بتحقّق الوجود بنفسه
وانتزاع الماهيّة عنه إنّما يتأتّى في ظرف الخارج دون الذهن ، لحصول الانفكاك
بينهما فيه بالتحليل وتفرّد كلّ منهما بثبوت على حدة فيه ؛ فيتحقّق الاتّصاف
بينهما فيه حقيقة ؛ فحديث الأصالة والانتزاع لا يتأتّى فيه ؛ فكلّ اتّصاف فيه
مسبوق بثبوت على حدة لها ، وكلّ ثبوت فيه يقتضي اتّصافا آخر ، فيلزم التسلسل.
وبتقرير آخر نقول : اتّصاف الماهيّة بالوجود وعروضه لها في ظرف التحليل ممّا لا
ريب فيه ؛ فعروضه إمّا للماهيّة الموجودة أو المعدومة أو لا الموجودة ولا
المعدومة.
والأوّل : يوجب الدور أو التسلسل
والثاني : يستلزم التناقض بملاحظة الفرعية
والثالث : يقتضي ارتفاع النقيضين ؛ وجواز ارتفاعهما عن المرتبة إنّما
يختصّ بمرتبة واقعية يكون لها نوع تحقّق سابق على النقيضين ، كمرتبة الماهيّة بالقياس إلى العوارض ،
كالجسم بالقياس إلى البياض ونقيضه ؛ فإنّ له وجودا في حاقّ مرتبة الجسمية مع قطع
النظر عنهما ؛ وهذا الوجود متقدّم بالذات عليهما ومصحّح لاتّصافه بهما وإن لم
ينفكّ في الخارج عن أحدهما ؛ وأمّا الماهيّة بالقياس إلى وجودها وعدمه فليس لها
مرتبة واقعية متحقّقة سابقة عليهما ؛ إذ ليس لها مرتبة وجود مع قطع النظر عن
وجودها ؛ فقياس عروض الوجود للماهيّة على عروض البياض للجسم وقياس خلوّها عن
الوجود والعدم على خلوّه في مرتبة وجوده
__________________
عن البياض
واللابياض قياس بلا جامع ؛ إذ قيام البياض ومقابله بالجسم فرع على وجوده ، وقيام
الوجود بالماهيّة ليس فرعا على وجودها ؛ إذ لا وجود لها إلّا بالوجود.
والتحقيق في هذا المقام على ما تندفع به الشكوك والأوهام أنّ الماهيّة الموجودة في
الذهن المنتزعة من الحقيقة الخارجية كالموجودة في الخارج لها وجود خاصّ ذهني لا
ينفكّ عنها بالتحليل ، والمنفكّ عنها هو مفهوم الظهور الذهني المعبّر عنه بالعامّ
الانتزاعي ؛ فكما أنّ الخاصّ الخارجي متّحد مع الماهيّة في الخارج ، ولا يتفرّد
كلّ منهما بوجود على حدة ، وليس بينهما اتّصاف حقيقة ، بل الاتّصاف بينهما يرجع
إلى الاتّحاد ونوع من الارتباط فكذلك الخاصّ الذهني متّحد معها في الذهن ولا يختصّ
كلّ منهما بوجود على حدة و/ B ٢٠ / ليس بينهما
اتّصاف حقيقة ولا يمكن تجريد أحدهما عن الآخر ؛ وكما ينتزع العقل من الخاصّ الخارجي
العامّ الاعتباريّ كذلك ينتزعه من الخاصّ الذهني إلّا أنّ الماهيّة لا يتّصف به في
الخارج حقيقة ، لعدم تحقّقه فيه ؛ ويتّصف به في الذهن ، لثبوته فيه. فالتحليل
والتجريد والتعرية والاتّصاف وما يرادفها من الألفاظ إنّما يقع بين الماهيّة وبين
العامّ لا بينها وبين الخاصّ ؛ وكما أنّها في ظرف الخارج متحقّقة بتحقّق الخاصّ
الخارجي فكذلك في ظرف الذهن متحقّقة بتحقّق الخاصّ الذهني.
والسرّ : أنّ الماهيّة من حيث هي لكونها معدومة غير ممكنة التحقّق
بنفسها لا يمكن وقوعها في أيّ ظرف فرض إلّا بتبعية وجود يليق بذلك الظرف ويمكن
تحقّقه فيه بنفسه ؛ ولا يمكن أن يكون هذا المتحقّق المحقّق للماهيّة هو العامّ
الاعتباري وإن أمكن تحقّقه بنفسه في ظرف الذهن ؛ لأنّ ذلك إنّما يكون بعد انتزاعه
عن موجود خارجي أو ذهني ؛ فحصوله فرع شيء آخر يكون منشأ لانتزاعه ؛ فلا يمكن أن
يتحقّق به غيره ؛ فتعقّل الماهيّة ليس إلّا انقلاب وجودها
الخاصّ الخارجي
إلى الخاصّ الذهني ؛ وليس عينه حتّى يلزم تعقّل الخاصّ الخارجي مع أنّه قد تقرّر
استحالته ، بل هو نشأة اخرى من الوجود حصلت الماهيّة فيها بعد انتزاعها عن النشأة
الأولى ؛ فهي في كلّ من النشأتين متحقّقة بالعرض ؛ وحقيقة النشأة الاخرى كالأولى
مجهولة الكنه ولا يمكن أن يعلم بالعلم الحصولي ، بل إنّما يعلم بالحضور الإشراقي ؛
فإنّ الخاصّ العقلي وإن كان في العقل إلّا أنّه لا يمكن له أن يحلّله إلى أجزاء
ويصل إلى كنهه ، بل إنّما يدركه بالحضور الإشراقي ؛ وما يجرّد عنه هو العامّ
الاعتباري.
ولا تتوهّمن أنّ
المراد من انقلاب الماهيّة من إحدى النشأتين إلى الاخرى أنّها تنفصل منها وتدخل
فيها حتّى يلزم خلوّها في مرتبة من النشأتين ، بل المراد أنّه مع حصول الاستعداد
بالنظر وتوجّه العقل يفاض عليه من المبادئ الفيّاضة موجود ذهنيّ هو الماهيّة بوجودها
، كما تفاض منها الموجودات الخارجية.
وبالجملة : لا فرق بين النشأتين من الوجود للماهيّة إلّا في أمرين :
أحدهما : أنّ العقل يتمكّن من انتزاع الماهيّة عن النشأة الأولى وإدخالها في الثانية
، ولا يتمكّن من نزعها من الثانية ؛ لأنّ / A ٢١ / ذلك فرع أن توجد نشأة اخرى يدخلها فيها بعد النزع ، و «ليس
ما وراء عبّادان قرية» وحصول الانفكاك بين الماهيّة والنشأة الثانية ـ أي الخاصّ
الذهني ـ في الذهن محال ، لما مرّ .
ثانيهما : أنّ العامّ الاعتباري غير متحقّق في الخارج ، ولا يمكن
ثبوته فيه بنفسه ، والمتحقّق فيه منشأ انتزاعه ، وبعد انتزاعه لا يلزم تحقّقه في
الخارج ، بل في الذهن ؛ ولذلك لا تكون الماهيّة متّصفة به في الخارج وأمّا في
الذهن فبعد انتزاعه عن موجود خارجي أو ذهني ؛ فيمكن تحقّقه فيه بنفسه واتّصاف
الماهيّة به حقيقة ؛
__________________
فتحقّق الماهيّة
في الذهن إنّما يتوقّف على وجودها الخاصّ الذهني وهو لا يتوقّف على شيء آخر ، بل
يتحقّق بنفسه تحقّقا يليق بظرفه ، وليس بينهما اتّصاف حقيقة حتّى يتوقّف على ثبوت
الموصوف ؛ وإذا نقل الكلام إليه يلزم التسلسل ، كما في الماهيّة ووجودها الخاصّ
الخارجي بعينه.
نعم لمّا كان
للعقل أن يجرّد العامّ الاعتباري ـ أعني ظهورها الذهني ـ عنها في الذهن ، وبعد
التجريد يكون له فيه ثبوت على حدة ؛ فإذا وصفها العقل به وأوقع الاتّصاف بينهما
يكون هذا الاتّصاف اتّصافا حقيقيا ، لثبوت الوصف في ظرف الاتّصاف ؛ فلا يرجع إلى
مجرّد الانتزاع وثبوت مبدئه ومنشأه ، بخلاف اتّصافها به في الخارج ؛ فإنّه يرجع
إلى مجرّد الانتزاع وتحقّق منشأه ؛ إذ لا تحقّق للصفة فيه أصلا ؛ ومثل هذا
الاتّصاف ـ أي الحقيقي ـ يتوقّف على ثبوت الموصوف ووجوده في ظرف الاتّصاف ؛ فإيقاع
العقل الاتّصاف بينهما فرع أن يلاحظها أوّلا مقارنة لوجود عامّ آخر ومتّصفة به ؛
إذ ما لم يلاحظها بظهورها الذهني لم يتمكّن من أن يصفها بالعامّ الذي جرّده منها ؛
وإذا نقلنا الكلام إلى ظهورها السابق وتجريده عنها و توصيفها به ثانيا وثالثا وهكذا لزم التسلسل في الاتّصافات
والتجريدات بالنسبة إلى العامّ الاعتباري ولا يلزم مثل هذا النسبة في الخارج ؛ إذ
لا ثبوت للعامّ فيه ولا اتّصاف لها به فيه حقيقة حتّى يتوقّف اتّصافها الخارجي به
على ثبوت آخر لها ، بل الموجود في الخارج ليس إلّا منشأ انتزاعه ؛ فهذا التسلسل
إنّما هو بحسب تحليل / B ٢١ / العقل واعتباره
؛ ولا ضير في مثله ، لانقطاعه بانقطاع اعتبارها.
والمحصّل : أنّ الواقع في الذهن ليس إلّا موجود خاصّ لا يمكن للعقل
تحليله إلى ماهيّة ووجود خاصّ ، وإنّما يمكنه أن يجرّد عنه وجوده العامّ مرّات غير
__________________
متناهية إلّا أنّ
هذه التجريدات لمّا كان بحسب اعتباره فيقطع بانقطاع اعتبارها.
فإن قلت : ظرف الخارج لمّا كان وعاء المتحصّلات ، وكلّ من الماهيّة
والوجود من الاعتباريات ، ولا يمكن تحصّل المتحصّل من اعتباريّين ، لم يكن بدّ من
إثبات وجود خاصّ متحقّق بنفسه بعد صدوره ليكون منشأ لانتزاعها وتتحصّل به الماهيّة
وتكون به موجوديتها ؛ وأمّا ظرف الذهن فهو وعاء الاعتباريات ، وإذ يحصل فيه العامّ
الاعتباري منفردا وعلى هذا فأيّ مانع من حصول الماهيّة فيه بنفسها من دون حاجة إلى
إثبات وجود خاصّ ذهني واتّحادها معه ؛ والحاصل فيه ليس إلّا الماهيّة الملزومة
للعامّ ؛ وتحقّقها فيه إنّما هو بنفسها ، لإمكان تحقّق الاعتباريات في الذهن. فهي
فيه أصل يتّصف بالعامّ ويقع بينهما بفعل العقل تجريدات واتّصافات غير متناهية.
فكلّ تجريد واتّصاف مسبوق بعامّ آخر حتّى ينقطع تحليل العقل. فهذا العامّ
الاعتباري والظهور البديهي لازم للماهيّة غير منفكّ عنها ولكنّها في تحقّقها
الذهني لا يفتقر إليه ، لتحقّقها فيه بنفسها ، لصلاحية الذهن لتحقّق الاعتباري فيه
بنفسه ؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إثبات وجود خاصّ ذهني.
قلنا : لا ريب في أنّ الماهيّة الموجودة في الذهن كالموجودة في
الخارج في أنّها بنفسها مع قطع النظر عن الوجود الخاصّ والعامّ لا يمكن تحقّقها
ولا يصحّ أن تكون موجوديتها بنفسها ؛ إذ الماهيّة في أيّ ظرف وقعت ـ من الخارج
والذهن ـ لا يمكن أن تكون موجوديتها بنفسها مع قطع النظر عن الوجودين منشأ لانتزاع
الوجود العامّ ؛ لأنّها في حدّ ذاتها محض الليس وصرف العدم ؛ فلا بدّ أن يكون ما
به موجوديتها هو الوجود في أيّ ظرف كانت ؛ والعامّ الانتزاعي لتوقّفه على منشأ
الانتزاع في أيّ ظرف فرض لا يمكن أن يكون ما به موجوديتها. فهي في أيّ ظرف وقعت لا
بدّ أن يتّحد مع وجود خاصّ / A ٢٢ / يكون به
تحقّقها وموجوديتها ؛ وهذا الوجود الخاصّ متحقّق بنفسه تحقّقا يناسب ظرف الوقوع.
فالخاصّ الذهني
إنّما يكون
متحقّقا بالتحقّق الذي يليق بالذهن وإن كان اعتباريا بالنظر إلى ظرف الخارج.
فالتحقيق : أنّ كلّ موجود خاصّ ـ سواء كان في الخارج أو أحد المدارك
العالية أو السافلة ـ إذا افيض من مبدأ الفيّاض بعد حصول شرائط وجوده لا بدّ أن
يكون فيه أصل متحقّق يكون محقّقا للماهيّة ومنشأ لانتزاع العامّ ؛ وما هو إلّا الوجود الخاصّ من دون فرق في ذلك بين
الخارج والذهن حتّى أنّ العامّ الاعتباري بعد انتزاعه عن الخاصّ وحصوله بنفسه في
الذهن يكون له وجود خاصّ ؛ لأنّه من حيث حصوله في مدرك خاصّ جزئي يكون جزئيا ؛
فيمكن انتزاع العامّ عنه أيضا ؛ وكذا الكلام في هذا العامّ ؛ فكلّ ما يقع في الذهن
ـ سواء اخذ من موجود خارجي أو ذهني آخر ـ قابل للتجريدات والتحليلات الغير
المتناهية بالنسبة إلى الوجود العامّ ولا يخرج من الخصوص والعموم باعتبارين ولو
وقع عليه تجريدات غير متناهية أو يحصل بعدها.
وبالجملة : كلّ ما يدخل في العين أو الذهن له أصل متحقّق هو الوجود
الخاصّ ؛ وهو مجهول الكنه غير ممكن التصوّر ؛ وله وجه انتزاعي معلوم التصوّر هو
العامّ الاعتباري العارض للماهيّة.
فإن قيل : التصوّر هو حصول ماهيّة الشيء بنفسها في الذهن مجرّدة عن
الوجود الخارجي الذي تترتّب عليه الآثار ، وليس للوجود ماهيّة كلّية ، ولا يمكن
تجريده عن نفسه.
قلنا : هذا محال في الخاصّ دون العامّ الذي هو وجه من وجوهه وشأن
من شئونه. فإنّه كما يعرض الماهيّة كذلك الماهيّة تعرضه ؛ لأنّه بعد حصوله في
الذهن يكون شيئا من الأشياء ذوات الماهيّات ؛ فيكون معروضا لها ومتّحدا معها بضرب
__________________
من الاتّحاد ،
وينتزع العقل منه وجودا عامّا آخر مغايرا له بالاعتبار ؛ وكما أنّ عند تصوّر
ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ تحصل في الذهن ماهيّة معرّاة عن هذا الوجود كذلك عند
تصوّر هذا الوجود تحصل ماهيّة في الذهن معرّاة عن وجوده الذي هو مغاير له
بالاعتبار.
ولعلّ هذا أمر
غريب عجيب ينبغي أن يتعجّب منه اللبيب حيث يكون شيء واحد عامّا وخاصّا ، مجهول
التصوّر ومعلوم التصوّر ، عارضا للماهيّة ومعروضا لها ، حاصلا في العين وفي الذهن
بالاعتبارين.
ثمّ التسلسل / B ٢٢ / اللازم من تصوّر وجود كلّ وجود لا ضير فيه ؛ لأنّه
تسلسل ينقطع بانقطاع الاعتبار ، كما تقدّم.
وبما ذكر يظهر
للمتأمّل شدّة سريان نور الوجود بقسميه في جميع الأشياء والمعاني بجميع الحيثيات
والاعتبارات ، وإحاطته بها ، ونفوذ حكمه فيها حتّى أنّ تجريد الماهيّة عن الوجود
متفرّع على وجودها.
[في كيفية اتّصاف الماهيّة بالوجود وعروضه لها بناء على أصالة الماهيّة]
جميع ما ذكر إنّما
هو على أصالة الوجود واعتبارية الماهيّة ؛ وأمّا على العكس فتحيّر القائلون به في
كيفية اتّصافها به وعروضه لها في الخارج والذهن بناء على أنّ ثبوته أو عروضه لها
أو اتّصافها به فرع ثبوتها بناء على قاعدة الفرعية ؛ وليس لها قبل وجودها ثبوت.
وبعبارة اخرى : اتّصافها بالوجود بمعنى الكون المصدري فرع أن يكون لها كون
مصدري ؛ فيلزم تقدّم كونها المطلق على كونها المطلق.
__________________
وقد ذكروا لدفع
ذلك وجوها كلّها مردودة مزيّفة.
[الأوّل :] ما ذكره الشيخ ومن تبعه وهو أنّ موجوديتها واتّصافها
بالوجود ليس إلّا ثبوت نفسها. فثبوت الوجود لها في العين أو الذهن نفس ثبوتها أو
وجودها لا ثبوت شيء أو وجوده لها ؛ وبين المعنيين فرق واضح ؛ والذي تجري فيه
الفرعية هو ثبوت شيء لشيء لا ثبوت شيء في نفسه ؛ فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في
نفسه. فمفاد قولنا : «زيد موجود» هو وجود زيد وثبوته لا وجود شيء آخر له ؛ فهو
بمنزلة قولنا : «زيد زيد» ؛ فلا معنى لجريان الفرعية فيه.
وما قيل : إنّ كلّ قضية لا بدّ لها من ذات الموضوع ومفهوم المحمول
وثبوته للموضوع ـ وهو معنى الرابطة ـ فإنّما هو بحسب تفصيل أجزاء القضية واعتبار
الأطراف بحسب المفهوم لا بحسب مصداقها. فصدق الحمل لكلّ محمول غير الوجود يتوقّف
على الثلاثة ؛ وللوجود إذا كان محمولا يكفيه الموضوع ونفس المحمول الذي هو وجوده
لا وجود شيء آخر له ؛ فلا يحتاج إلى الرابطة.
وفيه : أنّه لو سلّم أنّ ثبوت الوجود لها ثبوت نفسها لا ثبوت شيء
لها نقول :
هذا الثبوت معنى
مغاير لنفسها ليس عينها ولا جزئها ؛ وليس أيضا حقيقة متأصّلة مغايرة لها فيكون
عارضا لها ؛ فيعود الإشكال على الفرعية ؛ ولا تعقل ثبوتها بدوره الوجود. فالوجود الذي به ثبوتها إمّا عارض لها أو معروض أو
مباين عنها يثبت بالانتساب إليه.
فعلى الأوّل : يعود الإشكال للفرعية
وعلى الثاني : يخرج عن الموصوفية والأصلية
وعلى الثالث : يلزم ارتباط المعدوم / A ٢٣ / بالموجود ، وبطلانه من البديهيات العقلية.
__________________
[الثاني :] ما اختاره بعض المحقّقين من تبديل الفرعية بالاستلزام.
وحاصله : أنّ المسلّم استلزام ثبوت شيء لشيء لثبوت المثبت له لا
توقّفه عليه.
وقد علّل التبديل
بانتقاض الفرعية عنده باتّصاف الهيولى بالصورة ، لعدم تقدّمها عليها بالوجود
والماهيّة بالوجود لذلك وإلّا لزم الدور أو التسلسل في الوجودات.
ثمّ لمّا تفطّن
بأنّ اتّصاف الشيء بالشيء وعروضه له مشروط بعدم اختلاط الموصوف والمعروض بالصفة
والعارض ، والماهيّة مخلوطة ومتّحدة بالوجود الخارجي في الخارج وبالذهني في الذهن
وبالمطلق في نفس الأمر ؛ فلا يصحّ الحكم باتّصافها بالوجود ؛ فدفعه بأنّ للعقل أن
يجرّدها عن كلّ وجود وعارض حتّى عن الكون الذي لها في ظرف التجريد
ويصفها بالوجود. فهذا الظرف ـ أي ظرف التحليل ـ ظرف للاتّصاف به ؛ وما لها فيه
من الكون المصحّح للاتّصاف نحو من أنحاء وجودها في نفس الأمر.
ثمّ أورد بأنّ هذا
النحو من الوجود مقدّم على كلّ اتّصاف. فلو اعتبر تقدّمه لتمّ الكلام بلا انتقاض
الفرعية.
وأجاب بأنّ هذا
النحو من الوجود لا تقدّم له على نفسه مع أنّ الاتّصاف بهذا النحو على اعتبار
التقدّم موجب تقدّم هذا النحو على هذا النحو ؛ فلا يشترط التقدّم.
وفيه : أنّه بعد تسليم أنّ اتّصاف الماهيّة بالوجود في ظرف الذهن
يلزم مسبوقية كلّ اتّصاف بنحو من الوجود لها فيه ؛ إذ العقل ما لم يلاحظ الماهيّة
بنحو من الوجود العقلي لا يصفها بشيء.
__________________
وقوله : «هذا
النحو من الوجود لا تقدّم له على نفسه» غير نافع في المقام ؛ إذ لو سلّم ذلك فلا
ريب في أنّ للعقل أن يجرّدها عن هذا النحو من الوجود واتّصافها به ؛ والاتّصاف به يتوقّف على نحو آخر من الوجود لها في
العقل ، وكذا الكلام في هذا النحو ، ولا ينتهي إلى نحو من الوجود لا يمكن تجريده
عن الماهيّة وحمله عليها ولا يكون مسبوقا عن نحو آخر من الوجود لو سلّم أنّ هذه الأنحاء مختلفة ولا يتقدّم شيء منها على نفسه ، غاية الأمر
لزوم التسلسل في التجريدات والتعرية ولا ضير فيه ؛ لأنّه تسلسل ينقطع باعتبار
العقل ، كما تقدّم.
فظهر أنّ بعد
التزامه كون اتّصافها بالوجود في / B ٢٣ / ظرف التحليل
يلزمه توقّف الاتّصاف على وجودها فيه وتقدّمها عليه بالوجود كما هو مقتضى قاعدة الفرعية من دون فساد وعدم جريان حديث الاستلزام فيه ؛ وهذا
أحد الشواهد على بطلانه.
ثمّ إنّ عمدة
الإشكال على طريقة القوم إنّما هو في اتّصاف الماهيّة بالوجود في الخارج ؛ إذ
التسلسل المحال ـ بناء على تلك القاعدة ـ إنّما يلزم فيه نظرا إلى كون الوجودات
المتسلسلة فيه امورا واقعية مترتّبة متحقّقة فيه لا في الذهن ؛ إذ التسلسل في
الوجودات فيه إنّما هو بحسب الاعتبار ، فينقطع بانقطاعه ؛ فمع نفي الاتّصاف في
الخارج والقول باتّحادهما فيه ـ كما التزمه هذا المحقّق ـ أيّ حاجة إلى حديث
الاستلزام؟! مع أنّ القول باتّحادهما فيه ينافي ما ذهب إليه من أصالة الماهيّة ،
لما عرفت من أنّ ما به التحقّق في كلّ متّحدين في الوجود هو الوجود والآخر
اعتباريا.
ومع هذا كلّه يرد
عليه أنّ حقّية تلك القاعدة ممّا يحكم به ضرورة العقل ، ولذا
__________________
لم ينكرها أحد من
العقلاء ؛ والاستلزام ممّا لا دليل له ، بل البرهان قائم على بطلانه ؛ إذ لو كان
ثبوت شيء لشيء مستلزما لثبوت المثبت له لكان الثبوت الأوّل ملزوما للثبوت الثاني
والملزوم علّة للازمه ـ كما صرّح به الجماعة ـ فيلزم كون الثبوت الأوّل علّة
للثاني ومتقدّما عليه ، وهو بيّن الفساد.
قيل : المراد بالاستلزام هنا التلازم وعدم الانفكاك بمعنى أنّ
الثبوت الأوّل لا ينفكّ في الواقع عن الثاني ، سواء كان الثاني متقدّما عليه أو
متحقّقا به ؛ أي كان هذا الثبوت أي الثاني بذلك الثبوت أي الأوّل.
قلنا : عدم الانفكاك بين شيئين لا بدّ له من سبب يتحقّق به اللزوم
بينهما ، وهو إمّا أحد المتلازمين ـ لو كان أحدهما علّة للآخر ـ أو شيء ثالث ـ لو
كان كلاهما معلولين له ـ ولذا صرّحوا بأنّ كلّ متلازمين إمّا أحدهما علّة للآخر أو
كلاهما معلولان للثالث ؛ وهنا أحد الثبوتين ليس علّة للآخر وهو ظاهر ؛ ولا يمكن
استنادهما إلى ثالث يفيد بينهما اللزوم ؛ إذ كلّ متلازمين لا بدّ أن يكونا بحيث
كلّما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر مع أنّ الثبوت الثاني قد ينفكّ عن الأوّل قطعا.
قيل : المراد أنّ ثبوت شيء لشيء أو الحكم به يستلزم الحكم بثبوت
المثبت له.
قلنا : [هذا] خلاف المطلوب ولو سلّم فعلى سبيل الفرعية / A ٢٤ / دون الاستلزام.
وأيضا : ثبوت شيء لآخر في الواقع كثيرا ما ينفكّ عن فعلية الحكم
بثبوت المثبت له ؛ ومجرّد الإمكان خلاف المقصود.
ثمّ قد عرفت أنّ
الباعث لعدوله عن الفرعية إلى الاستلزام انتقاضها باتّصاف الماهيّة بالوجود
والهيولى بالصورة ، وعدم إمكان التفصّي عنه.
وقد عرفت وجه
التفصّي عن الأوّل وأمّا الثاني فيمكن دفعه بما تقدّم سابقا
__________________
من أنّ مراتب الوجودات
متفاوتة في الضعف والقوّة ، وأضعفها وجود الهيولى ؛ فاتّصافها بالصورة يتوقّف على
هذا الوجود وما يتوقّف من وجودها على الصورة هو وجودها التامّ النوعي أو الأتمّ
الشخصي.
والحاصل : أنّ للهيولى في مرتبة من الواقع وجودا ضعيفا ، ووجودها في
تلك المرتبة محض القابلية ، وفعليتها محض القوّة ؛ وهذا الوجود يصحّح الاتّصاف
بالصورة ، وبعده يحصل لها وجود أقوى وأتمّ ؛ وهكذا في مراتب الصور النوعية
والشخصية ؛ وبذلك يتصحّح التلازم بينهما ؛ وإتمامه بدون القول بذلك مشكل.
[الثالث :] ما ذهب إليه بعضهم وهو أنّ الاتّصاف بالوجود الخارجي إنّما
هو في الذهن ؛ إذ لا عروض في الخارج بمعنى أنّ العقل يحكم باتّصاف الماهيّة
بالوجود الخارجي وإن لم يكن في الخارج اتّصاف. فظرف اتّصافها به هو الذهن دون
الخارج. فقولنا : «زيد في الخارج موجود» قضية ذهنية مفادها «انّ زيدا الموجود في الذهن متّصف فيه بالوجود الخارجي» فالاتّصاف به فيه دون
الآخر.
وفيه : أنّ القضية الذهنية ـ كما صرّح به القوم ـ قضية يكون لخصوص
الوجود الذهني لموضوعها مدخل في اتّصاف ذات الموضوع بمبدإ المجهول وصدق مفهومه
عليه ، كما في قولنا : «الحيوان جنس» و «الإنسان نوع» وظاهر أنّ حمل الوجود على
زيد مثلا ليس من هذا القبيل ؛ لأنّ الحكم بكونه موجودا خارجيا حكم خارجي ومصداقه ذات الموضوع بحسب حاله في
الخارج لا بحسب حاله في الذهن.
[الرابع :] ما ذهب إليه بعض آخر وهو أنّ ثبوت الوجود الخارجي للماهيّة
متفرّع على وجودها في الذهن لا في الخارج ؛ بمعنى أنّ اتّصافها به وثبوته لها فرع
وجودها في ظرف آخر ـ أعني الذهن ـ فقولنا : «زيد موجود» ـ على هذا ـ
__________________
قضية خارجية إلّا
أنّ اتّصاف موضوعها بالموجود وثبوته له متفرّع على وجود [موضوعها] في الذهن.
فالفرق بين هذا
القول وسابقه أنّ القضية / B ٢٤ / على الأوّل
ذهنية مفادها أنّ ثبوت الوجود الخارجي لزيد إنّما هو في الذهن دون الخارج ؛ وعلى
الثاني خارجية مفادها أنّ زيدا متّصف بالوجود الخارجي في الخارج إلّا أنّ ثبوته له
لا يتوقّف على ثبوت الموضوع في الخارج بل في الذهن. ففي اتّحاد الماهيّة وجعلها
متّصفة بالوجود الخارجي يكفي تقدّم وجودها الذهني على الاتّصاف ولا يلزم تقدّمها
عليه في الخارج حتّى يلزم التسلسل في الوجودات.
وفيه : أنّ ما يحكم به صريح العقل من الفرعية أنّ الاتّصاف في كلّ
ظرف إنّما يتوقّف على ثبوت الموصوف في ذلك الظرف ؛ ولا مدخلية فيه ، لثبوته في ظرف
آخر. فالاتّصاف بالوجود في الخارج إنّما يتوقّف على وجود الموصوف فيه ، ولا يكفي
وجوده في ظرف آخر ـ ذهنا كان أو غيره ـ على أنّه إذا نقل الكلام إلى اتّصاف
الموضوع بالوجود الآخر في الظرف الآخر يلزم التسلسل في الوجودات والظروف ، وتلزم
موجودية الماهيّة مرّات غير متناهية ؛ وهذه الوجودات والظروف وإن كانت امورا
اعتبارية إلّا أنّها موجودة في الواقع على مقتضى الفرعية ؛ فليس التسلسل فيها ممّا
ينقطع بانقطاع الاعتبار.
[الخامس :] ما ذكره بعض آخر وهو أنّه ليس للوجود فرد حقيقي في الخارج
ولا للماهيّة اتّصاف حقيقي به ، بل اتّصافها به يرجع إلى ضرب من الانتزاع ؛ إذ
الوجود من الانتزاعيات ؛ ومصداق الحمل في قولنا : «زيد موجود» نفس هويّة زيد من
غير أن يكون هذا أمرا مسمّى بالوجود ؛ والفرق بين حمل الذاتيات على الشيء وبين
حمل الوجود على الممكن هو أنّ ملاحظة الذات كافية في الأوّل و
__________________
في الثاني يحتاج
إلى ملاحظة أمر آخر كانتسابه إلى الجاعل أو ترتّب أثر عليه من غير دخول ذلك الأمر
في مصداق الحكم ومطابق الحمل.
وفيه : أنّ ثبوت شيء لشيء ـ سواء كان من الانتزاعيات أو الخارجيات
ـ فرع ثبوت المثبت له في ظرف ذلك الثبوت. فالقول بانتزاعية الوجود غير مفيد.
[السادس :] ما اختاره بعض آخر وهو أن لا ثبوت للوجود ولا اتّصاف
للماهيّة به أصلا ـ لا عينا ولا ذهنا ـ بل هو مجرّد اعتبار الوهم الكاذب واختراعه
؛ ومناط صدق المشتقّ وحمله على شيء اتّحاده بمفهوم المشتقّ لا قيام مبدأ الاشتقاق
به ؛ لأنّ مفهوم المشتقّ كالموجود والعالم / A ٢٥ / والأبيض أمر بسيط يعبّر عنه بالفارسية ب «هست» و «دانا» و
«سفيد». فكون الشيء موجودا عبارة عن اتّحاده مع مفهوم الموجود لا قيام الوجود
قياما حقيقيا أو انتزاعيا ؛ ولا يحتاج إلى وجود أصلا ولا عروض له للماهيّة بوجه.
فالواجب عند هذا
القائل عين مفهوم الموجود لا عين الوجود ، وكذا الممكن الموجود وكذا في جميع
الاتّصافات بالمفهومات ؛ ومعنى كون الوجود عارضا للممكن عنده أنّه محمول عليه خارج
عن ماهيّته ليس بذاتي له ؛ والفرق بين الذاتي والعرضي من المشتقّ عنده ليس بكون ما
هو مناط الحمل ـ أعني الاتّحاد في الوجود ـ في الذاتي بالذات وفي العرضي بالعرض ؛ إذ لا وجود عنده ، بل بوقوع
المفهوم الذاتي في جواب ما هو دون العرضي.
وهذا القول ممّا لا محصّل له عند المخلصين ، وظهور فساده بحيث
لا يحتاج إلى بيان.
[السابع :] ما ذكره بعض آخر ونسبه إلى ذوق المتألّهين وهو أنّ موجودية الأشياء الممكنة عبارة
عن انتسابها إلى الوجود الواجب الحقّ ، وهو موجود بنفسه
__________________
من غير قيام حصّة
من الوجود به. فالوجود جزئي حقيقي والموجود مفهوم كلّى يصدق على ذلك الوجود وعلى
الماهيّات الإمكانية بسبب انتسابها إليه ؛ ومعيار موجودية الشيء ترتّب الأثر عليه.
وفيه : أنّ النسبة بين الشيئين فرع تحقّقهما بوجود غير تلك النسبة
؛ لأنّها أمر ثبت لهما. فثبوتها للماهيّة الممكنة فرع موجوديتها بانتساب آخر ،
نظرا إلى الفرعية ؛ وإذا نقلنا الكلام إلى هذا الموجودية والانتساب لزم التسلسل
فيهما ـ سواء كانت الموجودية أمرا اعتباريا أو خارجيا ـ إلّا أن يقال بالأعيان
الثابتة ، كما ذهب إليه فرقة من المعتزلة ؛ وهو بيّن الفساد.
[الثامن :] ما ارتكبه بعضهم من تخصيص قاعدة الفرعية بما عدا الاتّصاف بصفة الوجود.
وفساده في غاية
الظهور ؛ إذ الاستثناء في القاعدة العقلية غير معقول.
[في أنّ الوجودات الخاصّة هويّات بسيطة متخالفة بأنفسها وتشخّصها بنفس هويّاتها]
قد عرفت أنّ
المشخّص نحو الوجود كما اختاره المعلّمان وصاحب الإشراق ، وساير ما يحصل به
التميّز من الماهيّة والعوارض المادّية من توابعه ولوازمه. فتشخّص الوجودات
الخاصّة وتخصّصها بنفس ذواتها المتخالفة في أنفسها وأنحاء وجوداتها / B ٢٥ / المجهولة بالكنه وساير ما يلحقها من الماهيّات والعوارض
، بل أنحاء التشكيك من التقدّم والتأخّر والشدّة والضعف والغنى والفقر من اللوازم
والتوابع بمعنى أنّها من مقتضيات ذواتها المتخالفة ومنتزعاتها بعد تماميتها وليس
شيء منها نحو الوجود حتّى يكون نفس المشخّص. فتخصّص كلّ وجود بنفس
__________________
حقيقته وساير ما يلحقه من اللوازم والعوارض يترتّب عليه ؛ ولا
يمكن استناد تخصّص الوجودات الخاصّة الممكنة إلى مثل التقدّم والتأخّر والشدّة
والضعف وساير وجوه التشكيك ؛ لأنّها إنّما تقع في الوجود العامّ وهو عرضي بالنسبة
إلى الوجودات الخاصّة. فأوصافه خارجة عن حقائقها. فلا تكون ذاتية لها حتّى ترجع
إلى أنحاء وجوداتها ويكون التخصّص بها تخصّصا بنحو الوجود.
ولو كان الوجود
الذي يقع فيه التشكيك ـ أعني العامّ الاعتباري ـ ذاتيا لها حتّى يكون ما به
الاختلاف عين ما به الاتّفاق لا يمكن إرجاع أنحاء التشكيك إلى أنحاء الوجودات إلّا
أنّ ذلك بيّن الفساد ، لإيجابه التركيب واشتراك الواجب والممكن في الذاتي إن كان
تكثير هذا الوجود بفصول حقيقة ؛ ووحدة الوجود إن كان تكثيره بمجرّد تقييده بهذه
الأنحاء والمراتب الاعتبارية.
فالوجودات الخاصّة
هويّات بسيطة متخالفة بأنفسها غير مشتركة في ذاتي متواط أو مشكّك وتشخّصها بنفس
هويّاتها وأنحاء وجوداتها.
نعم على القول
بوحدة الوجود لمّا كان الوجودات الخاصّة الإمكانية أشعّة الوجود الحقّ وأضوائه
ومراتبه ومنازله في التقدّم والتأخّر والكمال والنقص والشدّة والضعف والغنى والفقر
يمكن أن يكون تخصّصها بهذه المراتب التي هي في الحقيقة عين حقائقها وأنحاء
وجوداتها. فإنّ القائلين بالوحدة قالوا : إنّ الوجود واحد هو الواجب الحقّ
والوجودات الإمكانية عبارة عن تطوّراته ومراتبه في التقدّم والتأخّر والغنى
والحاجة وغير ذلك ؛ وتخصّصه بالواجبية بنفس ذاته البسيطة وحقيقته المقدّسة عن كلّ
نقص وقصور وبمراتبه وتطوّراته بشئونه الذاتية وحيثياته العينية بحسب حقيقته
البسيطة ؛ وتخصيص هذه المراتب وتشخّصها إنّما هو بذواتها / A
٢٦ / الاعتبارية وحقائقها الارتباطية ؛ وأنت تعلم أنّ
__________________
مفاسد ذلك كثيرة ،
بل لا محصّل له عند المحصّلين من أهل النظر كما يأتي.
[في الآراء الموجودة حول متعلّق الجعل]
بطلان الجعل
المركّب سواء كان في الوجود ـ أي جعل الوجود وجودا ـ أو في الماهيّة ـ أي جعلها
ماهيّة ـ ممّا لا ريب ولا خلاف فيه ؛ إذ لا معنى لتوسّط الجعل بين الشيء ونفسه ،
لإيجابه أن يكون قبل الجعل غير نفسه ويجعله الجاعل نفسه ؛ فيلزم سلب الشيء عن نفسه
وهو باطل.
نعم كونه نفسه
بتبع إفاضة الجاعل نفسه ؛ فصدقه يتوقّف عليه ؛ إذ لو لم يجعله لم يصدق عليه أنّ
نفسه نفسه ، لمسلوبية المعدوم عن نفسه ؛ وهذا التوقّف ليس جعلا ولا محلّا للنزاع.
وبالجملة : كون الوجود أو الماهيّة متعلّق الجعل بالجعل المركّب ليس
محلّا للنزاع ؛ فمتعلّقه بالذات والمجعول بنفسه إمّا نحو وجوده العيني المعبّر عنه
بالوجود الخاصّ جعلا بسيطا مقدّسا عن كثرة موجبة لمجعول ومجعول إليه ـ كما اختاره
بعض المحقّقين ـ أو نفس الماهيّة كذلك ـ كما ذهب إليه أتباع الرواقيّين ـ أو مفهوم
الموجود بما هو موجود ـ كما يراه بعض المتأخّرين ـ أو اتّصاف أحدهما وارتباطه
بالآخر ـ كما نسب إلى المشّائين ـ والحقّ هو الأوّل ؛ إذ متعلّق الجعل بالذات ما
يكون بعد صدوره متحقّقا بنفسه وما هو إلّا الوجود الخاصّ ، لما تقدّم ؛ فيتعلّق
الجعل به بالذات وبتبعيته بالماهيّة ؛ بمعنى أنّ الواجب تعالى تجلّى وأفاض من ذاته
بذاته من دون أن يتفضّل منه شيء وجودات خاصّة بتقيّده بقيودات الماهيّة وعوارضها
ومقترنة بجهات عدمية وتوابعها ؛ وتلك الماهيّة كالعوارض والأمارات والأسامي لها
وجعل الوجود جعلا بسيطا ليس إلّا تلك الإفاضة.
__________________
ثمّ فساد المذهبين
الأخيرين ـ أعني كون المجعول بالذات مفهوم الموجود أو ارتباط أحدهما بالآخر أي جعل
الماهيّة موجودة ـ في غاية الظهور.
أمّا فساد الأوّل فلأنّ مفهوم الموجود أمر انتزاعي غير موجود في الخارج
والمجعول بالذات يجب أن يكون حقيقة عينية ؛ كيف وكلّ منتزع له منشأ انتزاع محقّق
في الخارج؟! فتحقّقه إمّا بالجعل فهو المجعول بالذات دون ما ينتزع عنه أو بدونه ؛
فيكون واجبا.
[١.] فإن / B ٢٦ / كان المنشأ لكلّ مفهوم واحدا لزم انحصار الحقيقة العينية
في واحد هو الواجب وكون ما عداه من معلولاته مجرّد مفهومات واعتبارات لا تحصّل له
؛ وهذا يرجع إلى مذهب الصوفية ويأتي ما فيه ، بل يرجع إلى عدم جعل ومعلول أصلا ؛
لأنّ مفهوم الموجود ينتزع عن كلّ حقيقة عينية بذاتها مع قطع النظر عن تأثير وتأثّر
؛ فيلزم انتفاء الإفاضة والاتّحاد والعلّية والمعلولية.
[٢.] وإن كان
متعدّدا لزم مع ما ذكر تعدّد الواجب بالذات.
وأمّا فساد الثاني فلأنّ الوجود على تقدير عرضيته ليس كسائر الأعراض حتّى
يرتبط بالماهيّة ويتعلّق بها وتتّصف الماهيّة به ، مثل جعل الجسم أسود حيث إنّه
بعد ثبوته يتّصف بالسواد ؛ فإنّها على تقدير أصالتها وثبوتها تكون موجودة ؛ فلا
معنى لارتباط الوجود بها واتّصافها به.
ثانيا : والقول
بأصالتها مع كون تحقّقها وثبوتها به لا محصّل له ، كما علم ممّا مرّ.
وأيضا : لو كان
المجعول بالذات هو الاتّصاف دون الوجود والماهيّة ، فإن كان أحدهما أو كلّ منهما
حقيقة عينية لزم تعدّد الواجب ؛ إذ لا يعنى به إلّا الواقع في العين بلا جعل ؛ وإن
كان كلاهما من الاعتباريات لزم اعتبارية جميع الموجودات المجعولة لاعتبارية
الاتّصاف ضرورة والوجود والماهيّة على هذا التقدير.
فإن قيل : الاتّصاف حقيقة عينية مجعولة بالذات ، والوجود والماهيّة
مجعولات
بالتبع.
قلنا : فالاتّصاف حينئذ وجود خاصّ أو ماهيّة على اختلاف المذهبين ؛
لأنّا لا نعني بالخاصّ والماهيّة إلّا حقيقة خارجية ؛ فيكون المجعول بالذات أحدهما
دون الاتّصاف.
ثمّ لو كان
مجعولية هذه الحقيقة التي هي الاتّصاف عبارة عن مجعولية اتّصافها بالوجود لزم
التسلسل ، بل يلزم أيضا عدم موجودية الحقيقة التى فرضت موجودة ، بل يكون الموجود
حقيقة اخرى هي الاتّصاف.
وأمّا المذهب
الثاني فإبطاله يحتاج إلى ضرب من البيان وبسط من الكلام ؛ لأنّه ممّا اختاره من
الأوائل بعض الأعيان ومن الأواخر جمع من الأعلام ؛ فيقول : المراد به أنّ المجعول
بالذات نفس الماهيّة جعلا بسيطا ، بمعنى أنّ الجاعل أخرجها من العدم والليس
واللاتقرّر إلى الوجود و/ A ٢٧ / الأيس والتقرّر بحيث يتبعها الوجود ؛ أي يصحّ أن ينتزع
العقل منها الوجود ويحكم عليها بأنّها موجودة تترتّب عليها الآثار.
وحاصله : أنّ الجاعل جعل أصل الماهيّة لا أنّه جعل الوجود مرتبطا بها
حتّى يرد عليه ما مرّ ؛ فما يقولون في بعض الأحيان : «إنّ الجاعل جعل الماهيّة
موجودة» إنّما هو لضيق العبارة ويدلّ على بطلانه وجوه من القواطع :
[الأوّل :] أنّ بنائه على كون الوجود عرضا انتزاعيا ؛ وقد عرفت أنّ
الوجود الخاصّ أمر أصيل عيني لا يمكن أن يعرض الماهيّة.
وأيضا : القائل به ـ أي بتعلّق الجعل بالماهيّة وسنخها جعلا بسيطا بحيث ينتزع عنها الوجود
ـ إمّا يقول بالوجود الخاصّ أو لا ؛ وعلى الأوّل إمّا يقول بتحقّقهما أو
اعتباريتهما أو بتحقّقها واعتباريته أو بالعكس.
__________________
والثلاثة الاول
باطلة قطعا.
والرابع يوجب
تعلّق الجعل به لا بها.
وعلى الثاني منشأ
انتزاع الوجود عنده إمّا نفس الماهيّة مع قطع النظر عن صدورها وارتباطها بالجاعل
أو مع وصف المجعولية والصدور أو حيثية ارتباطها بالجاعل وانتسابها إليه.
والأوّل بيّن
الفساد ؛ لأنّها في نفسها مع قطع النظر عن الوجود والصدور والارتباط معدومة صرفة ؛
فلا يمكن أن يكون منشأ لانتزاع الوجود ؛ ومع التسليم يكون واجبة لا ممكنة.
والثاني أيضا باطل
؛ لأنّ الماهيّة بنفسها لا يمكن تحقّقها ومنشئيتها لانتزاع الموجودية ؛ وثبوت
الوصف والحيثية المذكورين لها فرع تحقّقها وتقرّرها. فما لم يتحقّق لم ينتزع عنها
وصف المجعولية ولم يثبت لها الارتباط ؛ لأنّه فرع تحقّق المرتبطين ؛ والماهيّة مع
قطع النظر عن الوجود لا تحقّق لها حتّى يتصوّر ارتباطها بالجاعل وانتسابها إليه.
والحاصل : أنّها في نفسها معدومة وتأثير الفاعل فيها بإخراجها من
العدم وإبرازها إلى الأعيان بحيث يصير متحقّقة ومنشأ لانتزاع الموجودية لا يتصوّر
إلّا بفعل أو إحداث أمر أو حصول وصف فيها يوجب تحقّقها / B ٢٧ / ولا يتصوّر فعل موجب له إلّا إيجاد ما يمكن تحقّقه بنفسه
بعد صدوره ويكون منشأ لانتزاعها وما هو إلّا الوجود الخاصّ ؛ وحينئذ يكون هو
مجعولا بالذات دونها ولا يعقل إحداث أمر فيها موجب له إلّا إفاضة الوجود العرضي
عليها ؛ وهذا يرجع إلى كون المجعول بالذات اتّصافها به وقد عرفت فساده ؛ ولا
يتصوّر وجود وصف لها موجب له إلّا كونها مرتبطة بالجاعل ؛ وقد عرفت أنّها في نفسها
مع قطع النظر عن الوجود لا يمكن أن يصير مرتبطة به ، لكونها معدومة.
وبالجملة : الارتباط أمر اعتباري متفرّع على تحقّق المرتبطين ؛ فلا
يمكن أن يكون سببا له ؛ وتوهّم إمكان جعلها وإظهارها في الخارج متحقّقة مباينة عن
العلّة من دون ثبوت ربط لها وإحداث أمر فيها بيّن الفساد ؛ لأنّ الجعل والإظهار
والإخراج وما يرادفها مفهومات اعتبارية لا يوجب اعتبارها مع اعتباري آخر لا يمكن
أن يتحقّق بنفسه ـ أعني الماهيّة ـ تحقّقه وقيامه بنفسه ؛ فتحقّق الماهيّة
وتحصّلها فيه منفردة ومع اعتبار الاعتباريات معها من الوجود العامّ والجعل والصدور
وغيرها من الأوصاف الاعتبارية غير ممكن ؛ إذ ضمّ الاعتباري إلى مثله لا يخرجه عن
الاعتبارية.
وبذلك يظهر أنّها
مع قطع النظر عن الوجود لا يمكن صدورها وظهورها في الخارج ، لعدم امكان قيامها
وتحقّقها بنفسه بدونه وإن اعتبر معها الأوصاف الاعتبارية من المجعولية [و] الوجود
العامّ وأمثالها.
وبالجملة : لا يمكن تحقّقها في الخارج إلّا بتبعية الوجود الخاصّ الذي
يمكن أن يصدر متحقّقا مرتبطا بجاعله ؛ فإنّه حقيقة من شأنها التحقّق بنفسها
والارتباط بجاعلها بعد الصدور بخلاف الماهيّة. فالوجودات الخاصّة المشوبة
الإمكانية يمكن أن يصدر عن صرف الوجود الحقّ متحقّقة متحصّلة وصدورها ليس إلّا
ارتباطها به ارتباطا لا يعلم حقيقته وتابعيتها له تبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح
لذي الشبح ؛ لأنّ حقيقة العلّية هي الاستتباع.
والتوضيح : أنّ الصدور والتأثير من الفواعل المادّية إنّما هو بانفصال
شيء عنها ووقوعه في الخارج مبائنا منها ؛ ولوجوب المناسبة بين العلّة والمعلول / A ٢٨ / يجب أن يكون هذا المنفصل مناسبا لفاعله ومثالا له ؛ فإنّ
كلّ منفعل عن فاعل فإنّما ينفعل بتوسّط مثال واقع من الفاعل فيه وكلّ فاعل إنّما
يفعل في المنفعل بتوسّط مثال يقع منه فيه ؛ وذلك بيّن بالاستقراء ؛ فإنّ الحرارة
النارية يفعل
في جرم من الأجرام
بأن يضع فيه مثالها وهو السخونة وكذلك ساير القوى من الكيفيات والنفس الناطقة
إنّما يفعل في مثلها بأن يضع فيها مثالها وهو الصورة العقلية المجرّدة ؛ والسيف
إنّما يضع في الجسم مثاله وهو شكله والمسنّ إنّما يحدّد السكّين بأن يضع في جوانب
حدّه مثال ما ماسّه وهو استواء الأجزاء.
ثمّ تأثير الفواعل
المادّية ليس بالإفاضة والإيجاد بل بالتهيّؤ والإعداد وإيصال أثر من نفسها إلى
غيرها ؛ وأمّا تأثير القواهر المجرّدة العقلية وإنّما هو بإبداع ما لا وجود له
أصلا ولا يمكن ذلك بأن ينفصل المفاض من ذواتها البسيطة المجرّدة ؛ إذ الانفصال
والخروج من المجرّد غير معقول ولا بأن يظهرها في الخارج بعد ما لم يكن فيه بعدية
خارجية موجبة لحصول الانفكاك الخارجي بينهما من دون نحو من الاتّحاد وضرب من
الاتّصال بينهما ؛ إذ لو صدر شيء عن شيء من دون أن يكون مفصّلا عنه ومثالا له أو
مرتبطا به ومترتّبا عليه لزم أن لا تشترط المناسبة بين العلّة والمعلول وجاز أن
يصدر كلّ شيء من كلّ شيء ؛ وكيف يمكن أن يخرج من حاقّ العدم شيء من غيرها منفكّا
عنه في الخارج من دون أن يكون منفصلا عنه أو مرتبطا به مترتّبا عليه ومع ذلك يكون
مناسبا له ؛ فإنّ المناسبة فرع الخروج والانفصال أو الارتباط الذاتي وعدم الانفكاك
، بل لو لا أحد الأمرين لم يصحّ الحكم بأنّ هذا معلول لذاك ؛ لأنّه لو فرض حدوث
شيء ووجوده في الخارج بعد ما لم يكن فيه أصلا بعدية واقعية ولم يكن منفصلا عن شيء
ولا مرتبطا بشيء ؛ كيف يحكم بأنّ هذا معلول لهذا دون ذاك مع تساويهما في عدم نسبة
شيء منهما إليه بالارتباط والاتّصال أو الخروج منه؟!
وبالجملة : المناسبة بدون الارتباط محال والارتباط بدون التلازم
الخارجي والمعيّة الواقعية ممتنع ؛ إذ مع الانفكاك في الخارج لا معنى للارتباط ؛
لأنّ ثبوته حال عدم المعلول غير معقول ؛ إذ لا معنى لارتباط الموجود بالمعدوم وعند
وجوده يوجب أن
يحدث بحدوثه ؛ فيتوقّف حصول الارتباط به على حدوثه مع أنّ الحدوث والظهور بدون
الارتباط محال.
ولا تظنّن أنّ ما
ذكر ينافي ما اخترناه من الحدوث الدهري ويثبت ما ذهب إليه الحكماء من الحدوث
الذاتي ؛ فإنّ الأمر ليس كذلك كما سنشير إليه في محلّه.
فإن قيل : يمكن أن يكون موجب المناسبة مع الانفكاك في الخارج تعقّل
العلّة للمعلول وإرادة صدوره.
قلنا : لا ريب [في] أنّ الموجود الخارجي غير صورته المعقولة ؛
فكونها مرتبطة متّصلة بالعلّة متمثّلة في ذاتها بمقتضى ذاتها من غير انفكاك إنّما
يثبت المناسبة بينهما ولا يوجب المناسبة بين العلّة وذي الصورة مع انفكاكه عنها في
الخارج ؛ فكما أنّ الصورة المعقولة لا يجوز انفكاكها عنها في الخارج ويجب أن
تفيضها العلّة بمحض ذاتها من دون انفكاك بينهما ، بل اللازم مجرّد التقدّم الذاتي
حتّى يثبت الارتباط والمناسبة فكذلك الحكم في الصورة الخارجية من دون فرق ؛ إذ
لولاه ارتفع الارتباط والمناسبة ؛ فإفاضة المجرّد وجعله إنّما يكون بالاستتباع
والترتّب بالذات الناشئين من الربط المجهول كنهه بلا انفكاك خارجي بينهما ؛ إذ
الانفكاك الخارجي ينافي التلازم والارتباط بالذات.
فذات الحقّ الأوّل
اقتضى بذاته أن يترتّب عليه المعلول الأوّل ترتّبا ذاتيا ويتبعه تبعية الظلّ لذي
الظلّ من دون انفكاك بينهما لارتباط خاصّ لا يعلم حقيقته ؛ وذات المعلول الأوّل
اقتضى أن يترتّب عليه ويتبعه المعلول الثاني ويتبعه الثالث وهكذا على الترتيب
السببى والمسبّبى إلى آخر سلسلة الوجود.
فالعقل الأوّل
بمنزلة الظلّ للأوّل والثاني بمنزلة ظلّ ظلّه وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا ظلّ له
، أعني آخر سلسلة النزول.
ولا تظنّن أنّ هذه
الأظلال امور اعتبارية وشئون انتزاعية محضة ـ كما ذهب
إليه الصوفية ـ بل
امور محقّقة محصّلة في الخارج تترتّب عليها آثار خارجية وحقائقها هي وجوداتها
الخاصّة القائمة بأنفسها دون ماهيّاتها الاعتبارية / A ٢٩ / الانتزاعية منها ، لعدم امكان تحقّقها بذاتها كما تقدّم
؛ وليست اعتبارات عارضة للوجود الواجبي من دون تحقّق لها في نفسها حتّى يكون
الممكن مجرّد اعتبار ويكون حقيقة هو الواجب تعالى عن ذلك كما يظهر من كلام الصوفية
، بل هي حقائق مستقلّة مغايرة للحقيقة الواجبة تترتّب عليها آثار خارجية وإن أمكن
أن يقال إنّها بالنظر إلى ذاتها القاهرة الغير المتناهية أظلال وأشباح وامور
اعتبارية أو عدمية إلّا أنّ ذلك إنّما هو على سبيل الإضافة دون الحقيقة. فإن رجع
مراد الصوفية أيضا إلى ذلك فلا كلام لنا معهم.
وأيضا : إن كان مرادهم من كونها عوارض ومراتب وشئونا للوجود الحقّ
أنّها مرتبطة به ارتباطا لا يمكن معه أن يقال إنّها مزايلة عنه فهو أيضا ممّا لا
تنكره ؛ لأنّ بين الواجب ومعلولاته علاقة وربط مجهول لا يصحّ معه أن يقال إنّه
مزايل عنها أو مقارن لها ، كما أشار إليه وصيّ خاتم الرسل ـ صلوات الله عليها ـ بقوله
: «داخل فيها لا بمقارنة وخارج عنها لا بمزايلة » ومن عرف معنى التجرّد والعلّية وكيفية إحاطة العلّة
بمعلولاته والربط الخاصّ الذي بينهما يعلم أنّ الواجب الذي هو علّة للكلّ وفي غاية
التجرّد والإحاطة به والارتباط الذي بينه وبين معلولاته أقوى الارتباطات وأشدّها
لا يمكن الحكم عليه بالمزايلة والمقارنة وأمثالها ويأتي لذلك زيادة بيان.
وإذ ثبت أنّ منشأ
انتزاع الموجودية لا يمكن أن يكون ذات الماهيّة مطلقة ومقيّدة نقول : لا يمكن أيضا
أن يكون ذات الفاعل مع حيثية الارتباط وبدونها ؛ إذ
__________________
الوجود إمّا صفة
للموجود أو متّحد معه نحوا من الاتّحاد ؛ فلو انتزع من الجاعل لم يكن وصفا للمجعول
ولا متّحدا معه وإلّا لزم اتّحاد الجاعل والمجعول على أنّ ثبوت الارتباط حينئذ لا
يعقل كما لا يخفى وجهه. نعم ذات الفاعل مفيد للوجود وليس الكلام فيه.
ولا يمكن أيضا أن
يكون المنشأ نحو الجعل والعلّية ؛ إذ المراد به إمّا الجاعلية بالفعل أو بالإمكان ؛ فهي صفة
للجاعل وليست صفة للمجعول ولا متّحدة معه أو المجعولية والمعلولية كذلك ؛ فهي وإن
كانت صفة للمجعول لكن تحقّقها بعد وجود المجعول وتحقّقه / B ٢٩ / فكيف يكون منشأ لوجوده؟!
وأيضا : الإضافة فرع تحقّق المضافين ومتأخّرة عنهما بالوجود ؛ فلا
تكون متقدّمة عليهما أو على أحدهما ولا منشأ لوجود أحدهما ولا أمرا آخر وراء ما
ذكر نحو شأن من شئون الوجود الحقيقي ووجه من وجوهه وتجلّياته الفائضة من مبدئها
مجهولة الكنه والماهيّة ظاهرة الوجود والإنّية متخالفة بالحقيقة وبتبعية عوارضها
ولواحقها التي هي الماهيّات وتوابعها ؛ لأنّ هذا الشأن أو الوجه إن كان أمرا اعتباريا لم يمكن أن يكون منشأ
لانتزاع الوجود وإن كان أصيلا عينيا.
[١.] فإمّا أن
يكون عين الماهيّة الممكنة ، فيلزم كونها واجبة الوجود وخلاف الفرض أيضا ؛ إذ
المفروض زيادة الوجود.
[٢.] أو جزؤها ،
فيلزم تركّبها من الوجود وغيرها.
[٣.] أو عارضها ،
فيكون معروضها ـ وهو الماهيّة ـ متقدّما عليه بالوجود.
واللوازم بأسرها
باطلة. فلم يبق من الاحتمال إلّا كون هذا النحو من الوجود وهذا الشأن من الشئون ـ وهو
المعبّر عنه بالوجود الخاصّ ـ أمرا عينيا متحقّقا
__________________
مبائنا عن الواجب
ومعروضا للماهيّة الممكنة ويكون الماهيّة قيدا وعارضة له ؛ فيتعلّق الجعل به أوّلا
وبالذات وبها ثانيا وبالعرض.
قيل : قد ذكرت أنّه على تقدير جعل الماهيّة جعلا بسيطا وكونها
بذاتها منشأ انتزاع الموجودية يلزم كونها واجبة الوجود.
وفيه : أنّ هذا المحال لو لزم على هذا التقدير لزم على تقدير جعل
الوجود وكون ذلك النحو من الوجود مجعولا بالذات معروضا للماهيّة وتوابعها ومنشأ
لانتزاع الموجودية ؛ لأنّ ذلك النحو من الوجود لو كان بنفسه مجرّدا عمّا سواه منشأ
لهذا الانتزاع كان واجبا بذاته ، كما إذا كانت الماهيّة بذاتها منشأ له من دون فرق
واجب بالفرق بين الاعتبارين.
وحاصله : أنّ حقائق الممكنات وذواتها من حيث هي ليست إلّا ماهيّاتها
ولا حقائق لها دونها والأمر المسمّى بالوجود هو وجودها من حيث هي لا حقيقتها ولا
جزء حقيقتها. فلو كان أصل الماهيّة مجعولا والوجود عرضا منتزعا منها لزم كون حقائق
الممكنات التي هي الماهيّات واجبة الوجود ؛ إذ ليس المراد بالواجب / A ٣٠ / إلّا ما يكون بذاته منشأ لانتزاع الموجودية ؛ وأمّا لو كانت الوجودات الخاصّة مجعولة
ومستتبعة للماهيّات وكانت تلك الوجودات منشأ لانتزاع الموجودية لم يلزم انتزاعها عن ذوات الماهيّات وحقائق
الممكنات ، بل من تلك الوجودات المعلولة الخارجة من حقائقها ؛ لأنّها وجودات
الممكنات لا حقائقها ، والماهيّات التي هي حقائقها وذواتها عارضة لها ؛ فمنشأ
انتزاع الموجودية ليس حقائق الممكنات بأنفسها حتّى يلزم كونها واجبة.
نعم باعتبار
عروضها لتلك الوجودات واتّحادها معها نحوا من الاتّحاد يكون منشأ لانتزاع
الموجودية منها بالعرض.
__________________
قيل : لأنحاء الوجودات المعروضة للماهيات مدخلية في ذوات الممكنات
وحقائقها وليست خارجة عنها.
قلنا : لو سلّم فاللازم كون حقائق الممكنات عبارة عن مجموع
الوجودات المعروضة والماهيّات العارضة ، والموجودية المنتزعة ليست منتزعة من
المجموع حتّى يلزم كون حقائق الممكنات واجبة ، بل من المعروض بالأصالة ومن العارض
بالتتبّع ، والمعروض ليس واجبا ؛ لأنّ حقيقته فائضة من المبدأ غير مستقلّة في
الوجود وفي انتزاع الموجودية ؛ فلا يلزم كون حقائق الممكنات ولا كون وجوداتها
الخارجة عنها أو الداخلة فيها واجبة.
قيل : على تقدير جعل الماهيّات وانتزاع الموجودية عنها بذاتها
أيضا نقول إنّها ليست واجبة ؛ لأنّ حقائقها فائضة من المبدأ غير مستقلّة في الوجود
وفي انتزاع الموجودية عنها.
قلنا : إنّ الشيء إذا لم يكن نفس الوجود ولم يكن الوجود أيضا من
وجوهه وشئونه كالماهيّة ؛ فمحض انتزاع صفة الموجودية عنه بذاته يستلزم وجوبه
بالذات ولا ينفع فرض معلوليته وفيضانه من المبدأ ، بل هذا الفرض ينافي فرض
الانتزاع المذكور ؛ إذ الماهيّة التي هي غير الوجود وليس الوجود وجها من وجوهها لا
مناسبة لها لانتزاع الموجودية عنها إلّا إذا كانت واجبة ؛ إذ لو لم تكن واجبة لم
يحدث الجعل فيها أثرا يناسب انتزاع الموجودية عنها وأمّا إذا كان الشيء نفس / B ٣٠ / الوجود أو كان الوجود وجها من وجوهه فمحض انتزاع
الموجودية عنه بذاته لا يوجب كونه واجبا بالذات ؛ إذ هذا الانتزاع إمّا باعتبار أنّ سلب الشيء عن نفسه محال ، كما في انتزاع
الوجود الانتزاعي عن نفسه أو باعتبار أنّ سلب وجه الشيء عن ذي الوجه محال ، كما في
انتزاع [الوجود] الانتزاعي عن الوجود
__________________
الخاصّ.
ثمّ على هذا
التقدير لو كان المنتزع عنه غير معلول أيضا كما في انتزاع الموجودية عن صرف الوجود
الذي لا علّة له كان المنتزع عنه واجب الوجود.
ومحصّل الفرق : أنّ الوجودات الخاصّة لكون الوجود الانتزاعي من وجوهها إذا
افيضت من المبدأ أمكن أن تنتزع عنها الموجودية ؛ ففرضا الإفاضة والانتزاع فيها لا
يتنافيان ؛ وأمّا الماهيّات فالوجود ليس من وجوهها للتغاير الذاتي بينهما ؛ فلا
يمكن انتزاعه عنها بعد فرض الصدور ؛ لأنّه لا يمكن أن يؤثّر فيها أثر يصحّح
الانتزاع ؛ أي لا يتصوّر حصول الربط بينهما وبين المبدأ حتّى يكون هو المصحّح له ،
لما عرفت من أنّه فرع تحقّق مرتبطين ولا تحقّق لها بدون الوجود ؛ ولا يمكن أن يوجب
ضمّ شيء آخر يصحّحه ، كما ظهر في ما سبق. ففرض انتزاع الموجودية عن الماهيّة لا
يجامع فرض فيضانها من المبدأ ، لثبوت التنافي بين الفرضين. فهذا الفرض يؤدّي إلى
كونها واجبة بذاتها ثابتة بنفسها ؛ وهذا أيضا محال ؛ لأنّها من حيث هي لا يمكن أن
تكون واجبة منشأ لانتزاع الموجودية بنفسها ؛ لأنّ حقيقتها من حيث هي مغايرة للوجود
وتحقّقها إنّما يكون لأجله ؛ فلا يمكن أن تكون بذاتها مع قطع النظر عن الوجود
متحقّقة حتّى تكون بذاتها منشأ لانتزاع الموجودية ؛ وأمّا الوجودات الخاصّة فبعد
صدورها يمكن أن تقوم بنفسها وينتزع عنها الوجود العامّ لكونه من وجوهها. فانتزاعه
لا ينافي معلوليتها وفيضانه ؛ لأنّ الوجه ينتزع عن ذي الوجه بأىّ نحو كان ولقيامه
بنفسه بعد صدوره يمكن حصول الربط بينه وبين المبدأ.
[الثاني :] أنّ المجعول يجب أن يناسب الجاعل من وجه ويباينه من وجه ؛
إذ لو ناسبه من كلّ وجه لكان عين الجاعل لا مجعوله ؛ ولو باينه من كلّ / A ٣١ / وجه
__________________
امتنع الصدور ،
لاستحالة صدور نقيض الشيء عنه ؛ ولا ريب في أنّ صرف الوجود يناسب الجاعل من كلّ
وجه ؛ لأنّه عينه والماهيّة المحضة يباينه من كلّ وجه ؛ فيجب أن يكون المجعول
وجودا مشوبا بالماهيّة يتعلّق الجعل به بالذات وبها بالتبع ، والجهة المناسبة
كالنور والمباينة كالظلال ، والثانية تابعة للأولى.
لا يقال : إنّ الماهيّة المشوبة بالوجود الاعتباري أيضا يناسبه من وجه
هو جهة وجودها المنتزع عنها ويباينه من حيث ذاتها ؛ فيمكن أن تكون مجعولة ؛ لأنّ
المجعول بالذات يجب أن يكون حقيقة لها جهتان يناسب الجاعل بإحداهما ويباينه
بالاخرى ويجب أن يكون الجهتان داخلتين في ذاته ؛ ولا ريب في أنّ الوجود الخاصّ
الإمكاني حقيقة متضمّنة لجهة قصور ونقص لازمة لإمكانه تنتزع عنه لأجلها الماهيّة وجهة
كمال راجعة إلى ذاته ينتزع عنه لأجلها الوجود العامّ ؛ فيصلح للمجعولية ؛ وأمّا
الماهيّة فليست حقيقة يتضمّن لذاتها جهة كمالية داخلة في ذاتها ينتزع عنها الوجود
، بل هي من حيث هي مجرّد جهة نقص وقصور مباينة للجاعل من كلّ وجه ولا يتضمّن جهة
كمالية يناسبه بها ولا يمكن أن ينتزع عنها بنفسها الوجود العامّ.
والحاصل : أنّ المجعول بالذات يجب أن يكون حقيقة يمكن أن يقوم بذاتها
بعد صدورها من الجاعل ويكون مناسبة له بأصل حقيقتها ومباينة له بجهة عدمية داخلة
في ذاتها كما هو شأن الخاصّ الإمكاني ؛ والماهيّة لا يمكن أن يتحقّق بنفسها من دون
الوجود ولا يناسب الجاعل من حيث حقيقتها ولا يتضمّن جهة كمالية يناسبه بها ؛ فلا
بدّ أن يكون أمرا منتزعا ممّا هو متحقّق بذاته بعد الصدور ؛ وهو الوجود الخاصّ ؛
فلا يصلح بذاتها للمجعولية.
والمحصّل ممّا ذكر أنّ كلّ معلول مركّب
بذاته من جهتين
: جهة نورانية بها
يشابه الفاعل ويحاكيه وجهة ظلمانية بها يباينه وينافيه ؛ ويسمّى النورانية
وجودا والظلمانية
ماهيّة ؛ وهي غير صادرة بالذات عن الفاعل لأنّها جهة المباينة معه ولا ينبعث من
الشيء ما ليس عندها ؛ كيف ولو كانت صادرة منه لكانت جهة الموافقة / B ٣١ / فاحتاجت إلى جهة اخرى للمبائنة؟! فالمعلول من العلّة
كالظلّ من النور ؛ أي نسبته إليها نسبة النور المحسوس والضوء المنبثّ على الأجرام
إلى الشمس أو القمر أو غيرهما من الحقائق النّيرة بذاتها ، بل إلى نور قائم بذاته
لا إلى جسم منير ؛ فإنّ الضوء المنبثّ يشابهه من حيث ما فيه من النورية ويباينه من
حيث ما فيه من ثبوت الظلمة ؛ ولا ريب في أنّ الجهة الظلمانية في الظلّ والضوء
المنبثّ ليست فائضة من النور ولا هي من النور ؛ لأنّها يضادّه ، بل هي لازمة تابعة
لهذا النور الناقص الصادر بالذات عن النور الكامل ومنتزعة منه ؛ فكذلك الجهة المسمّاة
ماهيّة في الوجود الناقص الصادر عن صرف الوجود ليست فائضة منه بالذات ، بل هي
تابعة لهذا النحو من الوجود منتزعة منه ؛ وقد أشار الشيخ إلى ثبوت هذا التركيب في
كلّ معلول بقوله : «والذي يجب وجوده بغيره دائما فهو غير بسيط الحقيقة ؛ لأنّ الذي
له باعتبار ذاته غير الذي له من غيره وهو حاصل الهويّة منهما جميعا في الوجود ؛
فلذلك لا شيء غير ذات الوجود يعترى عن ملابسة ما بالقوّة والإمكان باعتبار نفسه ؛
فهو الفرد وما عداه زوج تركيبي.»
[الثالث :] وهو يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي أنّ الوجود كما ينقسم إلى
اعتباري انتزاعي وإلى أصلي عيني كذلك التشخّص ينقسم إلى اعتباري مشترك بين
التشخّصات معنى وهو كون الشيء بحيث امتنع صدقه على كثيرين ـ وبعبارة اخرى : كون
الشيء شخصيا وجزئيا حقيقيا ـ وإلى عيني أصلي هو مناط التشخّص ومفيد التعيّن ؛ أي
ما به يتشخّص الشيء ويتعيّن وما هو إلّا نحو الوجود المتشخّص بذاته المتعيّن بنفسه
؛ وقد تقدّم أنّ العوارض واللواحق من لوازم المشخّص وأماراته وليست عينه ؛ لأنّها
إن كانت كلّية لم يفد التشخّص وهو
المطلوب وإن كانت
جزئية كان لموضوعها مدخل في تشخّصها مع أنّ تشخّصه بها على تقدير كونها متشخّصة ؛
فيلزم الدور ؛ والقول بأنّه دور معيّنة باطل ؛ إذ تقدّم مشخّص الموضوع بمعنى مفيد
تعيّنه ومناطه بالتشخّص عليه كتقدّمه بالتشخّص على أعراضه تقدّم ذاتي ويتوقّف
المتأخّر منهما على المتقدّم توقّفا واقعيا ؛ فلو افتقر كلّ من العوارض ومعروضها
في / A ٣٢ / التشخّص إلى
الآخر لزم الدور المحال والدور الذي يسمّونه دور معيّنة ليس كذلك ؛ لأنّه نحو من
التلازم بين شيئين أفاد العلّية بينهما لزوما ومعيّة بأن أوقع بينهما علاقة موجبة لكون كلّ
منهما في مرتبة وجود الآخر غير منفكّ عنه وليس لأحدهما على الآخر تقدّم ذاتي
وتوقّف واقعي.
وأيضا : قد تزول تلك العوارض مع بقاء تشخّص معروضها مع أنّها لو
كانت مشخّصة له لزال تشخّصه بزوالها ، لاستلزام زوال العلّة زوال المعلول.
والقول بأنّ
المشخّص هو المطلق الباقي دون الخاصّ الزائل باطل ؛ إذ الكلّي لا يفيد تشخّص
الجزئي وإلّا كان كلّ عرض مفيدا لكلّ تشخّص.
وأيضا : لهذه العوارض وجود وتشخّص ؛ فإن كانت عين وجودها وتشخّصها ـ
أي كانت مناطا لانتزاعهما ومفيدة لهما ـ ثبت المطلوب إلّا أنّه خلاف المفروض وإن
كانت معروضة لهما وكانا زائدين على ذاتها لم يكن ذاتها مفيدة لهما ، بل المفيد
لهما على المفروض عوارض اخر ؛ وننقل الكلام إلى مفيد وجودها وتشخّصها ؛ فيلزم
الدور.
فثبت أنّ ما به
التشخّص غير العوارض وليس ذات الفاعل أيضا ؛ لأنّه كالوجود صفة للمتشخّص أو متّحد
معه ضربا من الاتّحاد ؛ وذات الفاعل ليس كذلك. نعم هو موجد للتشخّص بمعنييه وليس
الكلام فيه ولا نفس المادّة ، لعدم
__________________
تحقّقها لكلّ
متشخّص مع أنّها لو تحقّقت له لم تكن علّة مفيدة للتشخّص ، بل علّة قابلية معدّة
له ولا غيرهما من الامور التي توهّم أن تكون الموجودية بها من الماهيّة والجعل
والانتساب وغيرها ممّا مرّ لما تقدّم هناك بعينه ؛ فمناط التشخّص ليس إلّا نحو
الوجود الفائض من المبدأ الذي هو متشخّص بذاته ومتعيّن بنفسه ومتعلّق بهذا التشخّص
ومعروض لماهيّته .
وهذه المقدّمة وإن
تقدّم بيانها سابقا بوجه أوضح إلّا أنّا تعرّضنا لها هنا للإشارة إلى بعض فوائد
تركناها هناك ؛ وبعد تمهيدها نقول : إذا كان الوجود هو المجعول بالذات والماهيّة
تابعة له في الوجود فهو كما أنّه وجود بمعنى ما به الموجودية فكذلك هو تشخّص بمعنى
ما به التعيّن والامتياز ؛ فوجوده وتشخّصه بنفس ذاته ووجود الماهيّة وتشخّصها به ؛
فهو / B ٣٢ / وجود وموجود
ومتشخّص بالذات ومنتزع عنه بنفسه الوجود والتشخّص بالمعنى المصدري ، والماهيّة
موجودة ومتشخّصة به وينتزع عنها الوجود والتشخّص بالمعني المصدري باعتبار اتّحادها
مع الوجود الخاصّ المتحقّق بنفسه.
وعلى هذا فلا
إشكال بوجه وأمّا إذا كان المجعول بالذات هو نفس الماهيّة وكان الوجود عرضا منتزعا
منها فيلزم الإشكال ؛ إذ حينئذ كما يلزم أن لا يكون للماهيّة وجود بمعنى مفيد
الموجودية ومناط انتزاع الوجود بالمعنى المصدري كذلك يلزم أن لا يكون لها تشخّص
بمعنى مفيد التعيّن ومناط امتياز التشخّص بالمعنى المصدري ، لما مرّ من أنّها لا
يمكن أن تكون مفيدة للموجودية والتعيّن ؛ فلو لم يكن وجود أصيل هو مجعول بالذات لزم أن لا تكون الماهيّة موجودة ومتشخّصة
وهو باطل.
قيل : المتقرّر عند الجماعة أنّ الإمكان صفة ذاتية للممكن وكيفية
لنسبة
__________________
الوجود الذي هو
صفة له ومحمول عليه إلى الماهيّة المعروضة له ؛ وهذا على مجعولية الماهيّة بالذات
وأصالتها مستقيم وأمّا على مجعولية الخاصّ وأصالته فلا يستقيم لوجهين :
[الأوّل :] أنّه على هذا التقدير لا يكون الوجود صفة للماهيّة ، بل
موصوفا بها ومعروضا لها ؛ فلا يكون محمولا عليها ؛ فلا يكون الإمكان كيفية لنسبته
إليها.
[الثاني :] أنّه يلزم أن تكون حقائق الممكنات بأسرها واجبة الوجود ؛
لأنّ انتزاع الوجود بالمعني المصدري عن ذلك الوجود الذي هو المجعول بالذات
والمعروض للماهيّة الممكنة وأصل حقيقة الممكن ضروري لا يمكن سلبه عنه بخلاف
انتزاعه عن نفس الماهيّات ؛ فإنّه ليس بضروري ؛ لأنّها في ذاتها مسلوبة عنها ضرورة
الوجود والعدم وإنّما تحصل لها إحدى الضرورتين بالعلّة أو عدمها.
وأيضا : لا يمكن أن يطرأ العدم على ذلك الوجود المجعول بالذات
المتحقّق بنفسه كما يمكن أن يطرأ على الماهيّات ؛ فيكون كلّ حقيقة ممكنة واجبة الوجود.
والجواب عن الأوّل بوجوه :
[الأوّل :] أنّ الوجود الذي جعله القوم محمولا على ماهيّة الممكن
وجعلوا الإمكان كيفية لنسبته إليها إنّما هو العامّ الاعتباري دون / A ٣٣ / الخاصّ الأصيل ؛ وكون الأوّل عرضا انتزاعيا عن
الماهيّة ومحمولا عليها ممّا يقول به ولا ينكره.
[الثاني :] أنّ مناط حمل أحد الشيئين على الآخر إنّما هو اتّحادهما في
الوجود ـ سواء كان اتّحاد العارض مع المعروض أو بالعكس أو اتّحاد بعض الذاتيات مع
بعض آخر ـ ولذا قالوا الحمل اتّحاد المتغائرين مفهوما في الوجود. فكلّ متّحدين
يصحّ حمل كلّ منهما على الآخر ؛ فإذا اتّحد العارض والمعروض في الوجود صحّ حمل
كلّ منهما على الآخر.
__________________
ولا ينحصر الحمل
في حمل العارض على معروضه ، بل يصحّ عكسه أيضا كحمل الجنس على
الفصل على ما ذكره الجماعة.
نعم لو كان
المعروض موجودا بوجود مباين لوجود عارضه لم يصحّ حمله عليه ؛ وما نحن فيه ليس كذلك
؛ لأنّ الوجود والماهيّة متّحدان نحوا من الاتّحاد ، كما مرّ. فالوجود بمعنييه
يصحّ حمله على الماهيّة ؛ فيقال : «زيد موجود» بكلا معنيى الوجود ؛ ويصحّ حملها
أيضا على الوجود المتحقّق الأصيل ؛ فيقال : «الموجود ـ أو هذا الموجود ـ زيد» فحملها على
الموجود أي الوجود الموجود بذاته المنتزع عنه الوجود العامّ بنفسه ؛ وإذ ثبت أنّ
الوجود بمعنييه محمول على الماهيّة فيكون الإمكان كيفية لنسبة هذا الحمل.
ويطرأ هذا الإشكال بجوابه بأن يقال : إنّ الوجوب أيضا كالإمكان كيفية لنسبة الوجود إلى الذات ،
والوجود في الواجب عين ذاته وليس صفة له ؛ فلا يكون محمولا عليه ؛ فلا يكون الوجوب
كيفية للنسبة.
ويجاب بأنّ الوجود الذي يكون الوجوب كيفية للنسبة إلى الذات هو
الانتزاعي وهو زائد على الذات ومحمول عليه ؛ ولو سلّم أنّه يعمّ الزائد والعين
فالحمل أيضا صحيح ؛ لأنّ مناطه نحو من الاتّحاد واتّحاد الشيء مع نفسه صحيح ؛
فذاته تعالى بذاته وجود وموجود. فذاته باعتبار محمول على ذاته باعتبار آخر ؛
والمغايرة الاعتبارية بحسب المفهوم كافية في الحمل. فالوجوب على التقديرين كيفية
لنسبة الوجود إلى ذاته
تعالى ولا إشكال.
[الثالث :] أنّ الموجود المحمول على الواجب والممكن ليس بمعنى ما وقع
عليه الوجود الذي هو مصدر مبنيّ للفاعل ـ أعني الجعل ـ حتّى يراد به الشيء
__________________
المجعول ولا بمعنى
ما قام به الوجود الذي هو مصدر مبنيّ / B ٣٣ / للمفعول ـ أعني الموجودية ـ لأنّه
بهذين المعنيين لا يمكن حمله على الواجب ؛ فهو بمعنى ما يصحّ أن يحكم بثبوت الوجود
له سواء كان هذا الثبوت ثبوت العارض لمعروضه وهذا في الوجود الانتزاعي أو بالعكس
وهذا في الوجود الخاصّ أو ثبوت الشيء لنفسه كما في الواجب.
ويطرأ ذلك إطلاق
باقي الصفات كالعالم والقادر وغيرهما على الواجب والممكن ؛ فإنّ إطلاقها عليهما
ليس كإطلاق ساير المشتقّات ؛ فإنّ «العالم» لو كان بمعنى ما قام به صفة العلم لم يصحّ إطلاقه على الواجب تعالى ؛ لأنّ علمه تعالى
عين ذاته ، بل بمعنى ما ثبت له العلم ـ سواء كان هذا الثبوت ثبوت العارض كما في
العلم الانتزاعي ؛ أي انكشاف المعلوم على العالم ؛ وهذا يعمّ الواجب والممكن في
العلم بمعنى مناط العالمية في الممكنات أو ثبوت الشيء لنفسه المغاير له بالاعتبار
، كما في العلم بمعنى مناط العالمية في الواجب تعالى ؛ أعني ذاته تعالى بذاته ـ وعلى
هذا فيرتفع الإشكال ؛ إذ حينئذ حمل الوجود بمعنييه ونسبته إلى الممكن صحيح
والإمكان كيفية لهذه النسبة.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه أنّ المصحّح لحمل الوجود الأصيل المعروض
للماهيّة عليها ونسبته إليها في السابق هو اتّحادهما في الوجود ، لصحّة حمل كلّ من
المتّحدين على الآخر ونسبته إليه ؛ وفي هذا الوجه كون الموجود المحمول على
الماهيّة بمعنى ما ثبت له الوجود مع كون الثابت معروضا والماهيّة عارضة.
فلو قلنا : «زيد موجود بالوجود الخاصّ» معناه أنّ الوجود منسوب إليه
بالمعروضية ، كما إذا قلنا : «إنّه موجود ب [الوجود] العامّ» معناه أنّه منسوب
إليه
__________________
بالعارضية وإذا
قلنا : «الواجب موجود» فمعناه أنّ الوجود منسوب إليه بالعينية.
[الرابع :] لو سلّم أنّ الإمكان صفة ذاتية للماهيّة وكيفية لنسبة
الوجود إليها ؛ والمحمول يلزم أن يكون وصفا وعارضا للموضوع ؛ وعلى مجعولية الوجود
بالذات وانتزاعية الماهيّة لا يتصوّر ذلك.
نقول : كون الإمكان عبارة عن ذلك إنّما هو على أصالة الماهيّة
واعتبارية / A ٣٤ / الوجود وأمّا
على العكس فهو صفة للوجودات الخاصّة المجعولة بالذات وإمكانها عبارة عن ارتباطها
بجاعلها الحقّ وانتسابها إليه. فالواجب هو الوجود الحقّ القائم بذاته من دون
ارتباطه بشيء ، والممكن هو الوجود المرتبط بغيره المفتقر إليه بحيث لو لا ارتباطه
لكان معدوما صرفا ؛ هذا.
وأمّا الجواب عن الثاني فهو أنّ انتزاع الوجود بالمعنى المصدري عن الوجود المجعول
بالذات وإن كان ضروريا وطريان العدم عليه وإن كان ممتنعا إلّا أنّ ذلك بعد صدوره
عن العلّة وارتباطه بها وبدونهما معدوم محض لا يمكن أن يثبت له وجود أو شيئية فضلا
عن أن يكون انتزاع الوجود عنه ضروريا وطريان العدم عليه ممتنعا ؛ وما يكون وجوده
عن الغير بالصدور والارتباط لا يكون واجبا ، بل ممكنا ؛ إذ ما عدّ من لوازم الوجوب
الذاتي من ضرورة الوجود وامتناع طريان العدم إنّما هو إذا اقتضاه بحت الذات وصرف
الحقيقة لا إذا كان من الغير بالمجعولية والارتباط. فالوجودات الخاصّة لصدورها عن
الواجب وارتباطها به تكون ممكنة وإن لم يطرأ العدم على ذواتها المجعولة المرتبطة
من حيث إنّها وجودات وكان انتزاع الموجودية عنها ضروريا.
والحاصل : أنّ تلك الوجودات الفائضة من المبدأ المستتبعة للماهيّات
وإن كانت أصل حقائق الممكنات من حيث هي ومن حيث إنّ ذواتها وجودات وإن كان انتزاع
الموجودية عنها ضروريا وطريان العدم عليها ممتنعا لكن ثبوت تلك
الوجودات
للماهيّات الممكنة وكونها معروضة لها ليس ضروريا بالنظر إلى ذواتها ؛ وكذا إفاضة
الواجب الحقّ تلك الوجودات الممازجة بظلمات الأعدام والمقيّدة بقيود الماهيّات ليس
بضروري في حدّ ذاتها ؛ وكذا انتزاع الموجودية عنها من حيث كونها مجعولة ومستتبعة
للماهيّات ومن الماهيّات العارضة لها ليس بضروري لإمكان أن لا يكون شيء منها.
فعلى القول
بمجعولية الوجود تكون الماهيّات وذوات الوجودات / B ٣٤ / التي هي حقائق الممكنات ممكنة بهذه الاعتبارات جميعا ،
كما أنّه على القول بمجعولية الماهيّة وكون الوجود عارضا لها تكون الماهيّات ممكنة
، لعدم كون انتزاع الموجودية عنها من حيث هي ضروريا.
[الخامس :] أنّ لكلّ ماهيّة نوعية مثلا حصولات متعدّدة وتشخّصات
ووجودات متكثّرة موجبة لتعدّد الجعل ؛ وهذا التكثّر ليس تكثّرا في نفس الماهيّة ؛
لأنّها بنفسها لا يتكثّر ولا يتميّز ؛ ولا في لازمها ، لما مرّ من أنّ الماهيّة
بنفسها لا يقتضي الوجود والتشخّص الراجع إليه ؛ فلا يكونان من لوازمها ؛ فلو كان
المجعول نفس الماهيّة لم يحصل من الجعل إلّا واحد ؛ لأنّ صرف الشيء لا يتعدّد ولا
يتميّز ؛ فكيف يتكرّر نفس الماهيّة ويتعدّد جعلها من حيث هي هي مع أنّ تعدّد الجعل
وتكثّر المجعول ممّا لا ريب فيه؟!
فلا بدّ أن يكون
المجعول بالذات والصادر أوّلا على نعت الكثرة هي أنحاء المحصولات ـ أعني الوجودات
المتشخّصة بذواتها ـ وتتكثّر الماهيّة الواحدة بتبعية تكثّرها.
[السادس :] أنّ الماهيّة الموجودة إن انحصر نوعها في شخص كالشمس مثلا ،
فكونها هذا الموجود الشخصي مع احتمالها بنفسها التعدّد والاشتراك بين
__________________
الكثيرين :
[١.] إن كان من
قبل الجاعل فيكون المجعول بالحقيقة هو الوجود ؛ إذ كون تخصيص الماهيّة الكلّية
بهذا الوجود الخاصّ من الجاعل لا يتصوّر إلّا بأن يفيض هذا الوجود الخاصّ الذي تنتزع عنه هذه الماهيّة الكلّية ؛ إذ
مجرّد إفاضة نفسها لا يوجب كونها هذا الموجود الشخصي .
[٢.] وإن كان من
قبل الماهيّة نفسها فمع لزوم الترجيح من غير مرجّح ـ لتساوى نسبتها إلى أشخاصها
المفروضة ـ يلزم أن تكون قبل الوجود والتشخّص موجودة متشخّصة ؛ فيلزم تقدّم الشيء
على نفسه ؛ وهو ممتنع ؛ ومع ذلك إذا نقلنا الكلام إلى كيفية وجودها وتشخّصها لزم
الدور.
[السابع :] لو كانت الجاعلية والمجعولية بين الماهيّات وكان الوجود من
الاعتبارات العقلية ولا ريب في أنّ المعلول من لوازم العلّة ؛ فيلزم أن يكون
المجعول من لوازم ماهيّة الجاعل ولوازم الماهيّة اعتبارية ؛ فيلزم أن يكون العالم
بجواهرها وأعراضها اعتباريا إلّا المجعول الأوّل عند من اعترف بأنّ الواجب
عين / A ٣٥ / الوجود ؛ ومن
اعترف بحقيقية الوجود وكونه عين الواجب وكون فعله هو الوجود لزمه الاعتراف بأنّ
كلّ موجود يجب أن يكون فعله مثل طبيعته وإن كان ناقصا عنه قاصرا درجته عن درجته ؛
ففعل الله تعالى ليس إلّا إفاضة وجود مشوب بمهيّة ظلمانية وفعل فعله ليس إلّا
إفاضة وجود مشوب بمهيّة أظلم من ماهيّته.
[الثامن :] لو تحقّقت الجاعلية والمجعولية بين الماهيّات لزم وقوع
التشكيك والتفاوت بالأقدمية في نفس الماهيّة والمعنى الذاتي ؛ لأنّ بعض أفراد
الجوهر علّة لبعض آخر ؛ فإنّ الجواهر المفارقة بعضها علّة للبعض وهي علّة للأجسام
، والمادّة
__________________
والصورة علّتان
للجسم المركّب منهما ؛ والعلّة في ذاتها أقدم من المعلول ، بل لا معنى لهذا النحو
من التقدّم والتأخّر إلّا العلّية والمعلولية ؛ فإذا كان كلّ من العلّة والمعلول
ماهيّة كانت ماهيّة العلّة بما هي هي مقدّمة على ماهيّة المعلول ؛ فإذا كانتا
جوهرين كانت جوهرية العلّة بما هي جوهرية أسبق من جوهرية المعلول ؛ فيلزم التشكيك
في نفس الماهيّة وفي المعني الذاتي ؛ وهذا باطل ؛ إذ لا أولوية ولا أوّلية لماهيّة
جوهر على ماهيّة جوهر آخر في تجوهرها ولا في كونه جوهرا ـ أي محمولا عليه معنى
الجوهر الجنسي ـ بل تقدّم أحد الجوهرين على الآخر إمّا في الوجود ، كتقدّم العقل
على النفس أو في الزمان ، كتقدّم الأب على الابن.
وبالجملة : ما به التقدّم إمّا الوجود أو الزمان ؛ ولا يمكن أن يكون
نفس الماهيّة والمعنى الذاتي مع أنّ ثبوت الجاعلية والمجعولية بين الماهيّات يقتضي
كونه أحدهما.
[التاسع :] أنّ ثبوتهما بينهما يوجب كون ماهيّة كلّ ممكن من مقولة
المضاف واقعة تحت جنسه ، لما مرّ من لزوم التعلّق الذاتي والارتباط المعنوي بين
الجاعل والمجعول بالذات. فتعقّل ماهيّة كلّ معلول يتوقّف على تعقّل فاعله ؛ وكلّ
ما لا يمكن تعقّله إلّا مع تعقّل غيره فهو من مقولة المضاف ؛ فيلزم ما ذكر ؛ وهو
باطل.
لا يقال : هذا يرد على مجعولية الوجود أيضا ؛ لأنّ مقولة المضاف كغيره
من المقولات التسع إنّما هي من أقسام الماهيّة دون الوجود. فالأجناس العالية
المسمّاة بالمقولات وكلّ ما له حدّ نوعي له جنس وفصل يجب أن يكون واقعة تحت إحدى
المقولات العشر ؛ فإذا كانت بذاتها متعلّقة مرتبطة بغيرها تكون واقعة تحت مقولة
المضاف ؛ وأمّا الوجود / B ٣٥ / فلا جنس له ولا
فصل وليس هو بكلّي ولا جزئي متخصّص زائدة على ذاته ؛ فهو بالنظر إلى ذاته لا يقع
تحت شيء من المقولات وإن كان مرتبطا بغيره منتسبا إليه. نعم ما له ماهيّة يقع تحت
مقولة
بتبعية الماهيّة.
ومن هنا يظهر أنّ
الواجب تعالى مع أنّه مبدأ كلّ شيء وإليه نسبة كلّ أمر ليس من مقولة المضاف ،
تعالى من أن يكون له مجانس أو مماثل أو مشابه أو مناسب علوّا كبيرا.
[العاشر :] أن الماهيّة لو كانت في حدّ نفسها مجعولة لكان مفهوم
المجعول محمولا عليها بالحمل الأوّلي الذاتي الراجع إلى الاتّحاد في المفهوم لا
بالحمل الصناعي الشائع فقط الراجع إلى الاتّحاد في الوجود ؛ إذ كون الماهيّة
مجعولة في نفسها وفي حدّ ذاتها يقتضي أن يتّحد مفهومها مع مفهوم المجعول في
الحقيقة ، كما أنّ كون الإنسان حيوانا ناطقا في حدّ ذاته يقتضي كون مفهومه متّحدا
مع مفهوم الحيوان الناطق في الحقيقة وكون حمله عليه حملا أوّليا ذاتيا ؛ ولذلك
صرّحوا بأنّ حمل حدّ مفهوم عليه حمل أوّلي ذاتي كحمل نفسه عليه.
والحاصل : أنّ الحمل بين الشيء وما له في حدّ ذاته وحاقّ حقيقة حمل
ذاتي أوّلي ؛ فمع كون الماهيّة مجعولة في ذاتها يكون المجعول محمولا عليها بالحمل
الأوّلي ؛ وذلك يقتضي أن يكون أثر الجاعل مجرّد مفهوم المجعول دون غيره من
المفهومات ؛ لأنّ كلّ مفهوم مغاير لمفهوم آخر ؛ إذ لا اتّحاد بين المفهومات من حيث
المعنى والماهيّة ؛ ولا يتصوّر الحمل الذاتي إلّا بين مفهوم ونفسه أو بينه وبين
حدّه كقولنا : «الإنسان إنسان» أو «حيوان ناطق» ؛ وأمّا قولنا : «الناطق ضاحك» فهو
الحمل الصناعي الذي مناطه الاتّحاد في الوجود دون الذاتي الذي مناطه الاتّحاد في
المفهوم. فإذا كان المجعول بالذات هو الوجود الخاصّ والماهيّة منتزعة عنه ، فكلّ
مفهوم متّحد مع الخاصّ والماهيّة في الوجود يكون أثرا للجاعل وأمثال هذا المفهوم
كثيرة ؛ وأمّا إذا كان المجعول بالذات نفس الماهيّة فينحصر أثر
الجاعل في ما يتّحد مع نفس الماهيّة في المفهوم ولاتّحادها مع مفهوم
المجعول ومغايرته لسائر المفهومات لا يتّحد مع مفهوم آخر ؛ فينحصر أثر الجاعل في
مفهوم / A ٣٦ / المجعول ؛ وذلك
باطل.
واستدلّ بعضهم على
عدم تعلّق الجعل بالماهيّة ب «أنّها لو كانت بحسب جوهرها مفتقرة إلى الجاعل لزم
كونها منعوتة به في حدّ نفسها ومعناها بأن يكون الجاعل معتبرا في قوام ذاتها بحيث
لا يمكن تصوّرها بدونه ؛ وليس كذلك ؛ فإنّا قد نتصوّر كثيرا من الماهيّات بحدودها
ولا نعلم حصولها بعد فضلا عن حصول فاعلها ؛ إذ لا دلالة لها على غيرها ؛ ومن
الماهيّات الموجودة ما نتصوّرها ونأخذها من حيث هي هي مع قطع النظر عمّا سواها ؛
لأنّها بهذا الاعتبار ليست إلّا نفسها. فلو كانت في حدّ نفسها مجعولة متقوّمة
بالعلّة مفتقرة إليها في القوام لم يمكن أخذها من حيث هي هي مجرّدة عمّا سواها ،
كما لا يمكن ملاحظة معنى الشيء إلّا مع ملاحظة أجزائه ومقوّماته. فإذن أثر الجاعل
وما يترتّب عليه والمجعول هو وجود الشيء دون ماهيّته إلّا بالعرض.
فإن قيل : فعلى هذا يلزم أن يكون وجود الجاعل مقوّما لوجود المجعول
غير خارج عنه ؛ إذ المجعولية لو اقتضى التقوّم بالجاعل لم يكن في ذلك فرق بين
الماهيّة والوجود.
قلنا : نحن نلتزم أنّ وجود المعلول متقوّم بوجود علّته تقوّم النقص
بالتمام والضعف بالقوّة والإمكان بالوجوب.
وليس لك أن تقول : نحن نتصوّر وجود المعلول مع الغفلة [عن] وجود علّته الموجبة
له ؛ فلا يكون متقوّما به ؛ لأنّا نقول : لا يمكن العلم بخصوصية نحو من الوجود
إلّا بمشاهدة عينية ؛ وهي لا يتحقّق إلّا من جهة مشاهدة علّته الفيّاضة ؛ و
__________________
لهذا قالوا :
العلم بذي السبب لا يحصل إلّا بالعلم بسببه» انتهى.
وهذا الدليل مبنيّ
على وحدة الوجود وكون الجعل والإيجاد عبارة عن تنزّله وتطوّره وكون الممكن المعلول
مرتبة من مراتبه ودرجة من درجاته وشأنا من شئونه وقيدا من قيوده ؛ فكان كلّ ممكن
معلول هو علّته الواجبة بعد تنزّلها عن سماء الإطلاق إلى أرض التقيّد وتحوّلها عن
غيب الوحدة إلى شهادة التكثّر وانحطاطها عن ذروة الكمال إلى حضيض النقصان. فيكون المجعول بالذات هو الوجود
المقيّد تقيّد الماهيّة الظلمانية دون نفسها ؛ وحينئذ يتقوّم كلّ معلول بعلّته ؛
لأنّه في الحقيقة هو العلّة بعد عروض نقص وقصور لها / B ٣٦ / فحقيقته حقيقة العلّة.
وظاهر أنّ مشاهدة
الوجود المقيّد الناقص يتوقّف على مشاهدة المطلق الكامل ؛ ونحن لا نعتقد ذلك ولا
نؤمن به ، بل نقول : المعلول شيء متحقّق بنفسه مباين عن علّته إلّا أنّه مرتبط بها
نحوا من الارتباط ، كما يأتي. فهو يتوقّف عليها في الموجودية والتحصّل لا في
الحقيقة والتقوّم ؛ هذا.
وعلى مجعولية
الوجود شبه واهية مبنية على أخذ الوجود المجعول بالمعنى الاعتباري أو بمعنى واحد
في الكلّ ؛ ولظهور ضعفها لم نتعرّض لها وقد ذكرناها مع جوابها في بعض رسائلنا.
ثمّ القائل بمجعولية الاتّصاف احتجّ
بوجوه :
[الأوّل :] أنّ مناط الاحتياج إلى الفاعل هو الإمكان وهو كيفية نسبة
الوجود إلى الماهيّة ؛ فالمحتاج إلى الفاعل وأثره التابع له أوّلا هو النسبة.
وجوابه : أنّ المناط في الإمكان أن لا يكون ذات الممكن من حيث هو
منشأ لانتزاع الوجود عنه ، بل يكون ذلك بملاحظة صدوره عن علّته بخلاف الوجوب ؛ وقد
تقدّم التفصيل في ذلك.
__________________
[الثاني :] أنّ الوجود زائد على الماهيّة ؛ فهي بذاتها لا يمكن أن يكون
مصداقا لحمل الموجود عليها وإلّا لم يكن فرق بينه وبين الذاتيات ؛ وإذا كان
المجعول بالذات نفس الماهيّة يلزم أن يكون مصداقا للحمل المذكور ؛ وهو خلف.
وجوابه : أنّ الماهيّة قبل المجعولية ليست مصداقا لحمل مطلقا وبعد
صدورها تصدق عليها الذاتيات بملاحظة حيثية. فصدقها عليها بمجرّد التوقيت ـ أي في
وقت كونها مجعولة ـ ويصدق الوجود عليها بملاحظة صدورها عن العلّة ؛ وهذه الملاحظة
خارجة عن نفسها لكنّ الصدق المذكور يتوقّف عليها.
فالفرق بين
الذاتيات والوجود عدم توقّف حملها على ملاحظة حيثية وتوقّف حمله على ملاحظة حيثية
خارجة عن نفس الماهيّة ؛ فإنّ الإنسان حال صدوره يصدق عليه أنّه ناطق ولا يتوقّف
هذا الصدق على تقيّده بالصدور عن علّته وأمّا صدق الموجود عليه فيتوقّف على تقيّده
به ؛ إذ ماهيّة الإنسان مع قطع النظر عن حيثية الصدور والارتباط لا يصدق عليها
الوجود ولو في حال صدورها.
وعلى هذا فما ذكر
في الاحتجاج من «أنّ المجعول بالذات لو كان نفس الماهيّة يلزم / A ٣٧ / أن يكون مصداقا لحمل الوجود عليها ؛ فلا يحصل الفرق بين
الذاتيات والوجود مع كونه زائدا على الماهيّة» ممنوع ؛ فذلك لا ينتهض حجّة لنفي
مجعولية الماهيّة ولا لنفي مجعولية الوجود الخاصّ لو اجري فيه ؛ إذ كما عرفت أنّ
المصداق لحمل الذاتيات هو الماهيّة أو الوجود الخاصّ بدون حيثية الارتباط ولحمل
الموجود هو أحدهما في حال الارتباط معها إلّا أنّك قد عرفت أنّ ارتباط الماهيّة من
حيث هي بالعلّة غير معقول.
فلا يمكن تعلّق
الجعل بها بالذات ، بل المجعول بالذات هو الوجود الخاصّ والماهيّة مجعولة بالعرض
وبعد مجعوليتها بالعرض تصير مرتبطة بالعلّة أيضا بالعرض وتصير مصداقا لحمل
الذاتيات بلا ملاحظة حيثية الارتباط ولحمل
الوجود مع
ملاحظتها.
[الثالث :] أنّ مجعولية كلّ من الماهيّة أو الوجود يقتضي تقدّمه على
الآخر ؛ وهذا التقدّم ليس شيئا من الأقسام الخمسة السابقة.
والجواب : أنّ لكلّ منهما تقدّما على الآخر. فتقدّمه عليها يلحق
بالتقدّم الذاتي وتقدّمها عليه قسم آخر من التقدّم يسمّى سبق الماهيّة ؛ وهذا السبق ليس إلّا في الذهن ولحاظ العقل ، والتقدّم في الخارج
إنّما هو للوجود ؛ ومن هذا القبيل تقدّم الجنس على الفصل. هذا مع أنّ اتّصاف
الماهيّة بالوجود يستلزم تقدّمها عليه ضرورة تقدّم الموصوف على الصفة نظرا إلى
قاعدة الفرعية. فهذا الإيراد لو ورد لورد عليهم أيضا هذا.
واحتجّ القائل بمجعولية الماهيّة بأنّ كلّ واحد من الوجود والاتّصاف أمر عقلي غير موجود في
الخارج ، والمجعول بالذات يجب أن يكون حقيقة عينية ، وما هي إلّا الماهيّة.
فالجاعل يبدعها أوّلا ؛ وجعلها يستلزم موجوديتها ؛ ومجعولية كلّ من الوجود
والاتّصاف بالعرض وكذا الحكم في جميع الذاتيات ولوازم الماهيّات ؛ فإنّ جعلها تابع
لجعلها ولا يحتاج إلى جعل جديد ؛ وكذا الحكم في كون الذات ذاتا ؛ فإنّ ذات المعلول
كالإنسان إذا صدر عن علّته لا يحتاج بعد صدورها إلى جاعل يجعل تلك الذات إيّاها ،
بل ذلك تابع لصدورها ؛ وليس مجعولية الذات ولوازم الماهيّات بجعل مؤلّف ولا بنفس
ذلك الجعل البسيط كما اختاره المحقّق الدواني.
والجواب : ما عرفت من أنّ / B ٣٧ / الوجود الذي هو المجعول بالذات ليس أمرا اعتباريا ، بل
هو حقيقة عينية ؛ والماهيّات ولوازمها وذاتياتها وكون الذات ذاتا امور اعتبارية
مجعولة بالعرض.
__________________
ثمّ المعروف من
بعض مشايخ الصوفية أنّ المجعول أوّلا هو الوجود المنبسط ؛ فإنّ للوجود عندهم مراتب
ثلاث :
الأولى : الوجود الذي لا يتعلّق بغير ولا يتقيّد بقيد ؛ وهو مبدأ
الكلّ.
الثانية : الوجود المتعلّق بغير ، كالعقول والنفوس والطبائع والأجرام
والموادّ.
الثالثة : الوجود المنبسط الذي شموله وانبساطه على هياكل الأعيان
والماهيّات ليس كشمول الطبائع الكلّية والماهيّات العقلية ، بل على وجه يعرفه
العارفون ولا يهتدي إليه إلّا الراسخون ؛ ويسمّونه بالنّفس الرحماني اقتباسا من
قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) وهو الصادر الأوّل في الممكنات عن العلّة الأولى بالحقيقة
ويسمّونه بالحقّ المخلوق به وهو أصل وجود العالم وحياته ونوره الساري في جميع ما
في السموات والأرض في كلّ بحسبه حتّى أنّه يكون في العقل عقلا وفي النفس نفسا وفي
الطبع طبعا وفي الجسم جسما وفي الجوهر جوهرا وفي العرض عرضا ونسبته إليه تعالى
كنسبة النور المحسوس والضوء المنبثّ على الأجرام العلوية والسفلية إلى الشمس وهو
غير الوجود الإثباتي الرابطي الذي كسائر المفهومات الكلّية والعقلية لا يتعلّق بها
جعل وتأثير ووجودها نفس حصولها في الذهن كما هو الشأن في جميع المعقولات المتأصّلة
؛ فإنّه لا ريب في أنّ لها وجودا لكن وجودها نفس حصولها في الذهن ، بل الحكم كذلك
في مفهوم العدم واللاشيء واللاممكن واللامجعول ؛ فإنّه لا فرق بين هذه المفهومات وغيرها من المفهومات في
كونها ليست إلّا حكايات وعنوانات لامور إلّا في أنّ أمثال هذه المفهومات عنوانات
لامور باطلة الذوات وغيرها عنوان لحقيقة موجودة.
ولا يخفى أنّ الحكماء لقولهم بتعدّد الوجود والموجود ذهبوا إلى أنّ
الجعل
__________________
إيجاد أمر مباين
عن ذات الجاعل هو الوجود الخاصّ أو الماهيّة.
وأمّا الصوفية
فلقولهم بوحدتهما وعدم المباينة بين العلّة والمعلول فالجعل عندهم بنحو آخر يعبّر
عنه / A ٣٨ / تارة بتجلّي
الحقّ وآخر بانبساط المطلق وأمثال ذلك ، بل الخلاف بين الصوفية وغيرهم راجع في
الحقيقة إلى كيفية الجعل ؛ إذ الكلّ متّفقون على أنّ الواجب واحد هو صرف الوجود
وإنّما الخلاف في أنّ ما صدر عنه بالجعل بالترتيب اللائق هل هو امور متحصّلة
متحقّقة مباينة عن ذاته أو امور اعتبارية هي شئوناته وتطوّراته؟ فذهب الصوفية إلى
الثاني وغيرهم إلى الأوّل ؛ ولمّا كان تحقيق ذلك من أهمّ المقاصد ـ إذ يبنى عليه
أكثر المطالب ـ فلنشر إلى ما ذكروه في بيان وحدة الوجود ثمّ نأتي بما هو الحقّ
عندنا وقبل ذلك لا بدّ أن نشير إلى كيفية وجود الكلّي الطبيعي. فنقول :
عدم وجود الطبيعي
ـ أي الماهيّة من حيث هي بوصف الاشتراك ـ في الخارج مجمع عليه وإنّما الخلاف في
وجوده في ضمن الأشخاص بوجود مغاير لوجودها أو بوجودها ؛ أي كون وجوده بمعنى وجودها
وموجوديتهما بوجود واحد هو وجودها.
والحقّ الأخير ،
لاستحالة الوجود في الخارج بدون التشخّص ؛ فإن تغاير الوجودان فمع تحقّق وجوده
بتشخّص الفرد ترتفع المغايرة ويلزم الخلف ؛ وبغيره يلزم التسلسل ووجود ما لا
يتناهى في الخارج ؛ فالموجود فيه هو الشخص ؛ أي الطبيعة بنحو وجودها اللازم لها
فيه ؛ لما مرّ من أنّ المشخّص نحو الوجود وتلزمه عوارض معيّنة ؛ فهي شيء واحد
بالعموم له أنحاء من الوجود فيه ولا يتحقّق إلّا مع واحد منها ؛ وإن شئت قلت : شيء
واحد ذو درجات وتنزّلات يحصل بفعلية كلّ منها شخص خارجي ؛ وإن شئت قلت : شيء مطلق
له قيودات يحصل بكلّ منها شخص في الخارج.
ولا نطمئنّ من هذه
العبارات أنّ الطبيعة هي الأصل وأنحاء الوجودات عوارضه المتحقّقة بتحقّقها ، بل
الأمر بالعكس ؛ فإنّ الوجودات الخاصّة هي الأصل في التحقّق والطبائع ـ أعني
الماهيّات ـ متحقّقة بتحقّقها في الخارج ومع قطع النظر عنها معدومة صرفة ـ كما
عرفت مرارا ـ ثمّ العقل ينتزع عن كلّ شخص ـ أي وجود خاصّ ممكن ـ هذه الطبيعة ؛ وهي
في الجميع متّحدة لكونها مأخوذة من المشترك فيه وإن لم يوجد هو وحده بدون التشخّص
في الخارج ؛ ولكونها مجرّدة مأخوذة عن كلّ واحد لا يأبى عن / B ٣٨ / الصدق والحمل على الجميع مع كونها متشخّصة في الذهن ؛ إذ
نسبة المجرّد إلى أشخاصه المادّية متساوية.
وبذلك يظهر ـ كما
سبق ـ أنّ ما يوجد وتتقوّم به الماهيّة البسيطة أو المركّبة هو مبدأ الفصل الأخير
ـ أعني المشخّص الذي هو نحو الوجود ـ وساير ما يوجد منها ويتّحد بها من الفصول
والصور بمنزلة اللوازم الوجودية لهذا المبدأ وإن كان كلّ منها مقوّما لحقيقة اخرى
بحسب وجودها. فحقائق الفصول ليست إلّا الوجودات الخاصّة التي هي أشخاص حقيقية.
فالموجود من كلّ شيء في الخارج هو نفس الوجود والعقل ينتزع عن نفس ذاته مفهومات
كلّية عامّة أو خاصّة ومن عارضه أيضا كذلك ؛ فيحكم عليها بمفهومات جنسية وفصلية
وعرضية عامّة أو خاصّة ؛ فما يحصل في العقل من نفس ذاته يسمّى بالذاتيات وما يحصل
فيه من جهة اخرى يسمّى بالعرضيات. فالذاتي متّحد معه ومحمول عليه بالذات والعرضي
بالعرض.
فالمراد من وجود
الطبيعي في الخارج أنّ الماهيّة من حيث هي في ضمن الشخص موجودة
بمعنى أنّها موجودة بوجوده ؛ أي موجودة معه بوجود واحد لا بوجود مغاير ، بأن ينسب
الوجود إليها كما ينسب إليه ، كما نسب إلى الحكيم ولا
__________________
عدم موجوديتها
أصلا ، أي ولو بوجوده ، كما زعمه المتكلّم.
والحاصل : أنّ الوجود الخاصّ هو الأصل في التحقّق والمتشخّص بذاته
وينتزع الماهيّة والذاتي من نفسه والعرضي من وجود متعلّق به. فالمتحقّق في الخارج
من جميع الحقائق المترتّبة من أعمّ الأجناس إلى أخصّ الأنواع هو الفرد وما هو إلّا
الوجود الخاصّ المتشخّص المشخّص بنفس ذاته ، والعقل ينتزع عنه الماهيّات المندمجة
فيه ؛ فينتزع عن زيد مثلا معنى الإنسانية المركّبة من جنسها الذي هو الحيوان ومبدأ
فصلها الذي هو الناطق ؛ أعني نحو وجودها ؛ ولا يمكن تحقّقها إلّا بانضمام مبدأ
الفصل الأخير ؛ أعني التشخّص الذي هو نحو وجود الشخص. فحقيقة الإنسان بالحقيقة هو
وجوده الخاصّ وإن لم يكن لهذا الوجود في نفسه تحقّق ، بل كان تحقّقه بوجود الشخص
وبعد تحقّقه به ينتزع العقل منه الحيوانية. ثمّ حقيقة الحيوان أيضا مركّبة / A ٣٩ / من جنس وفصل هو نحو وجودها والعقل ينتزع عنها الجسم مثلا
وهكذا الحكم في الجسم وما فوقه ؛ وكلّ جنس وفصل أقرب إلى الشخص يكون أقرب إلى
التحقّق من الأبعد منه.
ويعلم ممّا ذكر
أنّ المراد من اعتبارية الماهيّة وعدم تحقّقها في الخارج ـ كما اخترناه ـ هو عدم
تحقّقها فيه مع قطع النظر عن الوجود لا مطلقا ؛ لأنّها موجودة في ضمن الوجود
الخاصّ ومتحقّقة بتحقّقه وإن كانت في نفسها معدومة ؛ إذ هي ليست إلّا الكلّي
الطبيعي كما أنّ الوجود الخاصّ ليس إلّا الشخص. فمعنى قولنا : «الكلّي الطبيعي
متّحد مع الشخص في الوجود والتحقّق» هو بعينه معنى قولنا : «الماهيّة متّحدة مع
الخاصّ فيهما.»
وبالجملة : الماهيّة مع معدوميتها في ذاتها متحقّقة بتحقّق [الوجود]
الخاصّ وموجودة بوجوده في الخارج ؛ لأنّها متعلّقة بالكنه وكلّ مرتسم بالكنه محفوظ
الحقيقة في الخارج والذهن وإنّما التبدّل فيه في نحو الوجود وكلّ متحفّظ الحقيقة
فيهما يكون
متحقّقا فيهما ؛ فتكون الماهيّة متحقّقة في الخارج وإن كان تحقّقها بتبعية تحقّق
الوجود الخاصّ.
وبذلك يعلم أنّ
كلّ وجود خاصّ إمكاني له جهتان :
[١.] جهة ينتزع
عنها العامّ
[٢.] وجهة تنتزع
عنها الماهيّة
والثانية حقيقتها
ما يعقل ويرتسم في الذهن ؛ فهي معقولة بالكنه ومتحقّقة في الخارج بتحقّق الوجود
الخاصّ.
والأولى مجهولة
بالكنه وما ينتزع عنها ـ أعني الوجود العامّ ـ ليس كنهها ، بل وجه من وجوهها.
وبذلك يظهر الفرق
بين الماهيّة والعامّ مع اشتراكهما في الاعتبارية بالنظر إلى الذات ؛ فإنّ
الماهيّة موجودة بتبعية الخاصّ في الخارج والعامّ لا وجود له أصلا فيه ؛ إذ بإزائه
في الخارج ليس نفس حقيقته ، بل منشأ لانتزاعه ؛ فلا يصدق كون العامّ موجودا فيه
بوجه.
ثمّ على ما ذكر ـ من
كون الموجود من الحقائق الجنسية والنوعية هو الشخص وكون المقوّم والمحصّل لكلّ
ماهيّة هو وجودها الخاصّ وكون موجوديتها راجعة إلى وجود الفرد ؛ أي كونها موجودة
معه بوجود واحد من دون تحقّق لها بنفسها ـ يظهر أنّ تحقّق الكلّي الطبيعي فرع أن
يوجد الفاعل أفراده في الخارج حتّى ينتزع العقل منها الماهيّة ويحكم بوجودها في
ضمنها.
ثمّ مع قطع النظر
عن الامور الخارجة ـ أي اختلاف المادّة في الاستعداد ـ من حقّ كلّ ماهيّة لوحدتها
ووحدة فاعلها أن لا تتكثّر / B ٣٩ / ويكون لها نحو
واحد من الوجود تتحقّق به في الخارج حتّى يكون نوعها منحصرا في الفرد بأن يوجد
الفاعل لوحدته ووحدتها فردا تتحقّق هذه الماهيّة في ضمنه من دون إيجاد أفراد
متكثّرة ؛ إذ ذات
الفاعل من حيث هو مع قطع النظر عن الامور الخارجة لا يقتضي إفاضة التشخّصات
المتكثّرة على ماهيّة واحدة ؛ والماهيّة لوحدتها وعدم اختلاف فيها ـ بل معدوميتها
قبل وجود أفرادها ـ لا تقتضي شيئا أصلا فضلا عن أن تقتضي إفاضة الفاعل التشخّصات
المتكثّرة عليها ولا يجوز أن يتكثّر بنفسها أو بلازمها بدون انضمام التشخّصات
إليها ، لمعدوميتها قبل وجود أفرادها ؛ فلا معنى لاقتضائها التكثّر أو غيره.
وأيضا : يلزم أن لا يوجد واحد شخصي منها ؛ إذ التكثّر بدون ضمّ
التشخّص يوجب عدم تحقّق الشخص.
فظهر أنّ الكلّى
الطبيعي ـ أي الماهيّة من حيث هي ـ لا يمكن أن يتكثّر ـ أي تتعدّد أفرادها بنفسها
أو بلازمها ـ فلا بدّ في تكثّر كلّ معنى نوعي في الأشخاص من أمر خارج يقبل التكثّر
والانقسام إلى امور متساوية في الحقيقة بسبب حدوث حالات عرضية مختلفة مستندة إلى
امور متكثّرة بذاتها حتّى إذا انقسم وتكثّرت أجزائه بحدوث تلك الحالات استحقّت هذه
الأجزاء لاختلافها لأن تفاض عليها وجودات خاصّة وتشخّصات مختلفة ؛ وهذا الأمر هو
المادّة المنقسمة إلى أقسام متساوية هي موادّ الأشخاص لأجل ما يحدث فيها من الاستعدادات
المختلفة المستندة إلى الحركات الفلكية والأوضاع السماوية التي هي متكثّرة بذاتها.
وتوضيح ذلك : أنّ لكلّ جسم فلكي أو عنصري مادّة إلّا أنّ مادّة كلّ جسم
فلكي لا يقبل إلّا صورة خاصّة واحدة هي المفاضة عليها في بدو الفطرة ولا يمكن أن
ينفكّ عنها ؛ فلا يختلف استعدادها ولا يمكن أن يحدث فيها استعداد آخر غير ما كان
لها أوّلا من الاستعداد الفطري ولا يقبل التأثّر من جسم آخر ؛ ولهذا لا يكون في
الفلكيات كون وفساد وأمّا مادّة الجسم العنصري ففيها استعدادات متجدّدة غير
متناهية أودعها الله فيه بعلوّ قدرته / A ٤٠ / لتكوّن أنواع المركّبات.
فقيل : لكلّ استعداد صورة خاصّة ولذا صار عالم العناصر عالم الفساد
والأكوان ومحلّ التغيّر والحدثان ؛ وكلّ ما فيه من التغيّر مستند إلى حركات
الأفلاك وأشعّة الكواكب ؛ ولدوام حركاتها واختلاف أوضاعها بالقياس إلى العنصريات
وكون تأثيرها فيها لأجل أوضاعها اختلف تأثيرها فيها بحسب المكان والزمان ؛ ولمّا
لم تكن مادّة شيء من الأفلاك مستعدّة لتغيّر ما لها من الصورة لم تكن في الفلكيات مادّة مشتركة بين
الصور المتعدّدة بخلاف مادّة العناصر ؛ فإنّ مادّة كلّ عنصر قابلة لصور متجدّدة
غير متناهية ولصور ساير العناصر. فمادّة العناصر مشتركة بين جميع الصور العنصرية
ولذلك قال الحكماء : «مادّة العناصر واحدة ومادّة الأفلاك متكثّرة بحسب تكثّر
صورها.»
وعلى هذا ، فكلّ
معنى نوعي له مادّة خارجية لا بدّ أن تكون مادّته الأولى واحدة ، بل المادّة
الأولى لجميع الأنواع والصور واحدة سواء كانت جزء الجسم ـ كما ذهب إليه المشّاءون
ـ أو نفس الجسمية البسيطة ـ كما اختاره الإشراقيّون ـ فالمادّة الأولى لجميع
العنصريات الواقعة تحت فلك القمر واحدة. فأفاض عليها أوّلا عاشر العقول الفعّالة
بإعانة أفلاك أربعة أو أقلّ الصور النوعية البسيطة الأربعة ؛ وتخصيص كلّ منها
بجزئه الخاصّ لاختلاف أجزاء المادّة المتّحدة في الاستعداد بحسب قربها وبعدها من
الفلك وحركته ؛ فكأنّها انقسمت أوّلا في مرتبة ذاتها المتقدّمة على الصور النوعية
إلى أقسام أربعة لأجل اختلاف نسبتها إلى الفلك وحركته. ثمّ أفيضت عليها الصور
الأربعة على الترتيب الواقع لأجل المناسبة ؛ وهذا هو السرّ في تكثّر الجسمية
المطلقة أوّلا وقبولها الصور النوعية المختلفة مع وحدتها وتشابه أجزائها.
ثمّ هذه العناصر
الأربعة تصير مادّة لأفراد الأنواع المركّبة من المواليد الثلاثة ؛
__________________
إذ لا معنى لحدوث
النوع بوصف النوعية والكلّية لما مرّ. فكلّ جزء من بسائط العناصر حصل له استعداد
يناسب وجودا شخصيا من نوع خاصّ يفاض عليه ما يناسبه من التشخّص ويحصل هذا الشخص من
هذا النوع وما حصل له استعداد آخر يناسب تشخّصا آخر / B ٤١ / من هذا النوع يفاض عليه هذا التشخّص ويحصل شخص آخر من
هذا النوع ؛ وهكذا الحكم في جميع أفراد هذا النوع وأفراد كلّ نوع آخر يحصل من
العناصر البسيطة بلا واسطة. فمنشأ تكثّر النوع في الأشخاص اختلاف الاستعدادات
والاستحالات الواقعة في مادّية الموجبة لاختلاف ما يفاض عليها من الوجودات الشخصية
؛ واختلاف الاستعداد لأجل أسباب سماوية وأوضاع فلكية ؛ ولذلك لا يوجد شخصان
متماثلان من كلّ جهة ؛ إذ ذلك فرع اتّحادهما في السبب ـ أعني الوضع الفلكي ـ وعلوّ
القدرة اقتضى عدم تماثل وضعين من الفلك من جميع الجهات ، كما برهن عليه في محلّه.
فالأفراد التي
تفاض عليها الصور الشخصية كلّها في التشخّص مختلفة وبعضها يشترك في نوع الصورة
بمعنى أنّ العقل ينتزع عن الجميع معنى واحدا نوعيا. فهذه الأفراد هي الأشخاص
المندرجة تحت نوع واحد وغيرها من الأفراد التي لا ينتزع عنها هذا المعنى المشترك
لا يكون من أشخاص هذا النوع ، بل من أشخاص أنواع اخر ؛ وكلّ عدّة منها يشترك في
معنى نوعي يكون مندرجة تحت نوع واحد.
ثمّ قد تصير هذه
الأشخاص الحاصلة من بسائط العناصر أوّلا مادّة لأفراد أنواع اخر من المركّبات
الجمادية والنباتية والحيوانية ؛ وهذه الأفراد أيضا مادّة لأفراد نوع آخر وهكذا إلى
أن ينتهي إلى أفراد لا تصير مادّة لشيء ؛ فإنّك ترى أنّ بعض أجزاء العناصر بسبب ما
يحصل فيها من الاستحالات الصادرة من الأوضاع الفلكية يصير مادّة لحدوث البرّ مثلا
وهو بسبب ما يحصل فيه من الاستعداد
المستند إلى أسباب
سماوية وأرضية تصير مادّة لمني إنسان أو حيوان وهو مادّة لبدن إنسان أو فرس وهكذا
إلى ما يرجع بالانحلال إلى البسائط ؛ وفي جميع المراتب تكون المادّة مادّة لتشخّص
من النوع بسبب حصول استعداد خاصّ يوجب هذا الوجود الشخصي.
وإذ عرفت ذلك فاعلم أنّه قد ورد عن مشايخ الصوفية في بيان وحدة الوجود مقالات
مخالف ظاهرها القواعد العقلية والنقلية كقولهم : «إنّ الوجود واحد سار في هياكل
الماهيّات سريانا مجهول الكنه» وقولهم : «إنّ الواجب هو الوجود المطلق» و «إنّه
أظهر الأشياء وهو عينها» و «إنّ حقيقة / A ٤١ / الوجود شيء واحد وهو عينه تعالى وقد تلبّست بملابس
الأكوان وتعيّنت بماهيّات الأعيان وتجلّت في المظاهر والمجالي وتكثّرت بالظهور في
السوافل والعوالي وكلّها من شئوناته الطارية واعتباراته العارضة وتطوّراته اللاحقة»
وقد صرّحوا بأنّ درك ذلك إنّما هو بالكشف والعيان ولا يمكن بالنظر والبرهان ؛
وذكروا لإيضاح ذلك أمثلة كالموج والبحر ، والنور والشمس ، والشجر والنواة ، والنور
والظلال ، والواحد والأعداد ، والحروف والمداد ، والشمعة والمرايا ، وغير ذلك ممّا
يشابهها ؛ ولا ريب في أنّ من أخذ بظاهر قولهم ربّما وقع في ورطة التمثيل والتشبيه
؛ إذ من شاهد الوجود كلّه واحدا ساريا في الكلّ وما عرف كيفية وحدته ومعيّته
فربّما شبّهه بممكن وظنّ أنّه متصوّر بصور الأشياء ، بل ربّما قال : «إنّه هي»
نعوذ بالله من ذلك.
وربّما غرق في
غمرة الحلول والاتّحاد ؛ إذ من شاهد الوجود الحقّ ظاهرا في مظاهره ومراياه ولم
يعرف كيفية ظهوره ولم يفرق بين الظاهر والمظهر ربّما حكم بحلوله فيها أو اتّحاده
معها ؛ وهو مذهب النصارى ، بل أشنع منه بكثير ؛ لأنّهم قالوا : إنّ الحقّ حلّ في
عيسى عليهالسلام أو اتّحد معه ؛ وذلك يوجب القول بحلوله في جميع عباده أو
اتّحاده مع كلّ ما سواه من الموجودات الشريفة والخسيسة. فاللازم من
مذهب النصارى ثبوت
إلهين أو ثلاثة ؛ ومن ذلك ثبوت آلهة غير متناهية.
وربّما وقع في
مهلكة الاتّحاد الذي هو في الأصل بمعنى الميل عن الحقّ إلى الباطل ؛ والمراد به
هنا الميل عن الظاهر الحقّ إلى الباطن الباطل ، إذ من رأى الوجود واحدا ظاهرا في
الكلّ ولم يفرق بين الظاهر والمظهر ربّما مال عن ظاهر الشريعة الحقّة إلى ما زعمه
باطنا لها مع كونه باطلا ؛ فيترك الظاهر الحقّ ويأخذ بالباطل الذي زعمه باطنا ،
كما جرى عليه الإسماعيلية الموسومة بالملاحدة.
وربّما وقع في
مفسدة الإباحة لأنّ من ذكر ربّما رأى كلّ شيء حسنا ويكون الكلّ عنده جائزا مباحا ؛
فيستوي عنده السعيد والشقيّ والفاجر والتقيّ ولا يفرق بين الحلال والحرام ويخرج عن
التعبّد بالأحكام / B ٤١ / فلا يبالي
بالفسق والفجور ويرتكب أنواع الفواحش والشرور.
وربّما ضلّ في
مقام الجمع والفرق ؛ أعني شهود الحقّ بلا مشاهدة الخلق وعكسه ؛ إذ صاحب الجمع يلزمه
إسناد جميع الآثار ـ خيرها وشرّها ـ إلى الحقّ وحده ويعطّل الخلق رأسا ؛ وهو مذهب
الجبرية ؛ وصاحب الفرق يلزمه إسناد جميع الأفعال إلى الخلق وتعطيل الحقّ مطلقا ؛
وهو مذهب المفوّضة. ثمّ الآخذ بظاهر كلامهم ربّما اعتقد عدم تحقّق للواجب بدون
المظاهر والمجالي ؛ فلا يرى له تحقّقا خارجا عن جميع الأشياء ؛ وذلك كفر صريح
أنكره الشرائع والأديان ، بل أهل الوحدة والعرفان ؛ ولذا قال بعض العارفين
المصرّين على إثبات الوحدة : إنّ بعض الجهلة من المتصوّفة المتقلّدة الذين لم
يحصلوا طريق العرفاء وتوهّموا لضعف عقولهم أن لا تحقّق بالفعل للذات الأحدية
المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحدية وغيب الهويّة وغيب الغيوب مجرّدة عن
المظاهر والمجالي ، بل المتحقّق هو عالم الصورة وقواها الروحانية والله هو الظاهر
المجموع وهو حقيقة الإنسان الكبير ؛ وذلك القول كفر فضيح وزندقة صرفة لا يتفوّه به
من له أدنى مرتبة من
العلم ؛ ونسبته
إلى أكابر الصوفية افتراء محض يتحاشى عنه أسرارهم وضمائرهم.
ثمّ ما ذكروه من
الوجود المطلق وتجلّيه في مجالي الماهيّات وتطوّره وسريانه وتنزّله غير متحصّل
المعنى بحسب الظاهر.
وقد ذكر المتأخّرون في توجيه كلامهم
وجوها كلّها باطلة :
الأوّل : ما أشرنا إليه سابقا وحاصله أنّ مرادهم أنّ الوجود حقيقة
واحدة مطلقة عن التعيّن بالماهيّات وعدمه وهو حقيقة الوجود العامّ البديهي ؛ أي
معروضه حقيقة وهو الواجب تعالى والتعيّن خارج عنها عارض لها ، كما في الكلّي الطبيعي ؛ ومعروض كلّ
عين يحصل فرد منها وأفرادها ليست إلّا تلك الحقيقة المتعدّدة بتعدّد القيودات
والتعيّنات. فمن حيث منشئيتها لانتزاع ماهيّة يكون فردا لنفسها ؛ فأفرادها في
الحقيقة هي الممكنات وهي مشتركة بينها ذاتية لها والتشكيك فيها لا تدلّ على
عرضيتها لها ، لعدم القطع باستحالة الاختلاف في الذاتيات على أنّ الاختلاف في تلك
الحقيقة يرجع إلى اختلاف / A ٤٢ / ظهوراتها في
المظاهر لا في ذاتها الظاهرة ؛ والعقل كما لا يأبى عن وجود موجود لا في خارج
العالم ولا في داخله لا يأبى أيضا عن وجود حقيقة مطلقة محيطة لا يحصرها التقيّد ولا يفيدها
التعيّن كالكلّي الطبيعي.
على أنّ ما ذكروه
لا يدلّ إلّا على إثبات ذات مطلقة محيطة بالمراتب العقلية والعينية منبسطة على
الموجودات الخارجية والذهنية فاقدة في ذاتها لتعيّن يمنع من ظهورها مع تعيّن آخر
من التعيّنات الإلهية والخلقية ؛ فلا مانع من أن يثبت لها تعيّن يجامع ساير التعيّنات ولا ينافي شيئا منها ويكون عين ذاتها
غير زائد عليها لا خارجا ولا ذهنا بحيث إذا تصوّرها العقل بهذا التعيّن امتنع عن
فرضه مشتركا بين كثيرين اشتراك الكلّي بين جزئياته لا عن تحوّله وظهوره في الصور
الكثيرة و
__________________
المظاهر الغير
المتناهية علما وعينا وشهادة وغيبا بحسب النسب المختلفة والاعتبارات المتغائرة.
وحاصله : أنّ حقيقة الوجود الذي هو الواجب تعالى كالكلّي الطبيعي في
الوحدة والتحصّل بمعنى أنّه في نفسه مطلق منهم ليس له فعلية وتحصّل بنفسه وليس
التعيّن عين ذاته ، بل عارض له.
وبتقرير آخر : الواجب طبيعة الوجود من حيث هي هي [من] غير اشتراط قيد عدمي
أو وجودي زائد على ذاتها وكما أنّ حقيقة الإنسان وطبيعته من حيث هي أمر وجداني
قائمة بذاتها وقد تكثّرت بالعوارض المشخّصة وصارت أشخاصا كذلك حقيقة الوجود شيء
واحد قد تكثّرت بملابس الأكوان وماهيّات الأعيان واعتبارات عارضة ؛ وهذا في غاية
الفساد. إذ عرفت أنّ وجود الطبيعي إنّما هو بتبعية الفرد الذي هو الوجود الخاصّ ،
وهو المتحصّل والمتحقّق بالأصالة ، والطبيعي ـ أي الماهيّة ـ منتزع عنه ؛ فهو غير
مستقلّ بالموجودية ، بل يحتاج إلى الانضمام بالتعيّنات والتشخّصات ، ووجوده وجود تبعي ضعيف ؛ فلو كان الحقيقة الواجبة مثله لزم أن
يكون التحقّق بالأصالة للماهيّات وتكون هذه الحقيقة منتزعة عنها متحقّقة بتحقّقها
؛ إذ على هذا نسبتها إلى الماهيّات التي بها تعيّنها كنسبة الطبيعي إلى الوجود
الخاصّ الذي به تحقّقه ؛ وفساده ظاهر مع أنّه يلزم أن تكون وحدة الوجود كالوحدة
النوعية / B ٤٢ / أو الجنسية مع
أنّ ظاهر كلامهم أنّها ضرب آخر من الوحدة.
وأيضا : نفي كون التعيّن عين ذاته يوجب افتقاره في تحصّله إلى غيره
وهو ما في الوجوب.
وأيضا : يلزم أن يكون تشخّص الوجودات الخاصّة الممكنة ، بل تشخّص
__________________
الوجود الحقّ
الماهيّات وعوارضها ؛ وهذا باطل كما مرّ.
وإثبات تعيّن يكون عين ذاته ويجامع ساير التعيّنات يوجب النقص
والقصور ؛ إذ مثل هذا التعيّن تعيّن ضعيف وإنّما يكون لضعف الوجود ونقصانه لا
لتماميته وكماله ؛ ولذا يمتنع أن تختلط الجواهر العقلية والمجرّدات النورية
لتماميتها مع غيرها ؛ فعلّتها التي هو التامّ فوق التمام أولى بعدم الاختلاط
والمجامعة.
فإن قيل : إمكان المجامعة مع ساير التعيّنات إنّما هو لقوّة الوجود
والتعيّن لا لضعفهما ؛ ولذا نقل أنّ بعض الكمّل لقوّة نفوسهم وغاية تجرّدها يتمثّل
في آن واحد بأبدان كثيرة مثالية متشابهة ومشابهة للبدن العنصري ؛ وقد نقل أنّ امير
المؤمنين عليهالسلام حضر في إفطاره في آن واحد في مجالس متعدّدة وقوله عليهالسلام : «من يمت يرني» شاهد صدق على ذلك.
قلنا : لا ريب في أنّ التعيّن الأقوى لا يمكن أن يقارنه الأضعف ؛
إذ لو قارنه مقارنة فعل وتأثير لزم تأثّر الواجب واحتياجه في بعض مراتب تحصّله
إليه مع أنّه لا يتصوّر الحاجة إلى الأضعف مع وجود الأقوى ؛ وإن قارنه مقارنة
تأثّر وانفعال كمقارنة المعلول للعلّة لم يكن الأضعف حقيقة تعيّنا للواجب بل
لمعلوله ؛ ويتأتّى ذلك بوجه أوضح.
وما نقل من تمثّل
الكمّل بأبدان متعدّدة في آن واحد ففيه أنّ تعلّق النفس بها
__________________
وإن كانت في غاية
كمالها وتجرّدها إنّما هو تعلّق تدبير وتصرّف لاستكمالها بهذه الأبدان ؛ وتجلّي
الحقّ في مجال الممكنات لا يمكن أن يكون كذلك.
والحاصل : أنّ تلك الحقيقة المطلقة الغير المتعيّنة إن كانت مع قطع
النظر عن التعيّن الذي يلحقها بتبعية الماهيّات متحصّلة موجودة لزم خلاف الفرض ؛
لأنّ كلّ موجود متحصّل متعيّن قطعا ؛ إذ لا معنى لتحقّق الشيء وفعليته مع إبهامه
وعدم تعيّنه وإلا افتقرت في التحصّل والموجودية وفي تقيّدها بالماهيّات وتعيّنها
بالمشخّصات إلى غيرها ؛ إذ [ما] هو المبهم المعدوم يمتنع أن / A ٤٣ / يصير سبب الوجود نفسه أو تقيّده بغيره.
والغرض : أنّ كلّ ما هو غيرها من الماهيّات معلول له ؛ فلا يمكن أن
يكون تحصّلها وتعيّنها لأجله.
وأيضا : الماهيّة لا بشرط شيء تحمل على أفرادها ؛ فلو كانت طبيعة
الوجود لا بشرط هو الواجب والممكنات أفرادها لزم حملها عليها وهو يوجب كون
الممكنات المتغيّرة والمحدثات الفانية واجبة قديمة ؛ وهو باطل.
وأيضا : تلك الأفراد إن كانت واجبة لزم وجود آلهة غير متناهية ؛ وقد
كفرت النصارى بإثبات الثلاثة فما ظنّك عن إثبات واجبات غير متناهية ؛ وإن كانت ممكنة لم تكن مستندة في
وجوداتها الشخصية إلى حقيقة الوجود المشترك فيه ، لعدم تحقّقها في ذاتها ؛ إذ
الفرض أنّ تحقّقها في ضمن هذه الأفراد ؛ فإمّا أن يستند إلى واجب آخر أو يستغني
الممكن عن المؤثّر ؛ وكلاهما باطل.
وأيضا : ما تترتّب عليه الآثار الخارجية إنّما هو الأفراد العينية
والوجودات الخارجية الشخصية ؛ وطبيعة الوجود التي هو الواجب على هذا التقدير لو
ترتّب عليها أثر خارجي فإنّما يكون في ضمن تلك الأفراد ، لانحصار تحقّقها و
__________________
موجوديتها فيه ؛
فيلزم أن يكون تحقّق الحقّ الأوّل تعالى في ضمن أفراد الممكن وحصر صفاته في
صفاتها. فلو لم يكن لها وجود وصفات لم يكن له أيضا وجود وصفات ؛ وكلّ ما لم يكن
معلوما ومقدورا لها لم يكن معلوما ومقدورا له تعالى ؛ فيكون ذاته تعالى طبيعة
مبهمة تابعة لوجود الممكنات وصفاتها ؛ تعالى ربّنا عن ذلك مع أنّ الواجب لو كان
طبيعة مطلقة غير متعيّنة في نفسها وكان تعيّنها بالماهيّات لزم أن لا يكون له تحقّق
بالفعل خارجا عن جميع الأشياء وثبوت في الواقع مع قطع النظر عن المظاهر والمجالي
والمرايا ؛ وقد عرفت أنّه كفر صريح تدفعه ضرورة الدين وأنكره جميع العرفاء
والموحّدين.
ثمّ لا ريب في أنّ
ما في الخارج من الموجودات المجرّدة والمادّية والأشخاص الجوهرية والعرضية امور
متحقّقة متحصّلة تترتّب عليها آثار خارجية ؛ وما هي على هذا التقدير إلّا الوجود
المطلق المبهم المتقيّد بالماهيّات ؛ والماهيّات عندهم امور اعتبارية ؛ والوجود
المطلق لعدم تعيّنه في نفسه ليس له تحقّق بالفعل / B ٤٣ / في ذاته فكيف يحصل منهما وهما اعتباريان أمر متحقّق
متحصّل؟!
وبالجملة : وجوه الفساد في هذا التوجيه ممّا لا يحصى كثرة.
[الثاني :] أنّ المراد بالوجود المطلق هو صرف الوجود المتعيّن بذاته
بشرط أن لا يدخل فيه شيء من تعيّنات الماهيّة وإن قارنه تعيّنات غير متناهية ؛ إذ
لم يعتبر فيه عدم الاقتران ، بل عدم الدخول.
وبتقرير آخر : المراد به الوجود بشرط لا شيء ؛ أي باعتبار عدم الاقتران
بمعنى أن يلاحظ بحيث كان ما يقارنه زائدا عليه منضمّا إليه ؛ فإذا اعتبر المجموع
كان الوجود جزءا مقدّما عليه في الوجودين ؛ فيمتنع حمله على المجموع ـ أي الفرد ـ لانتفاء
شرط الحمل وهو الاتّحاد في الوجود.
فالفرق بين هذا
الوجه وسابقه أنّ الوجود في الأوّل اخذ بمنزلة الجنس للممكنات ـ أي لا بشرط ـ ولذا
كان محمولا عليها وهنا اخذ جزءا ومادّة عقلية لها ولذا لا يحمل عليها ؛ وعلى هذا
لا بدّ أن يحمل قولهم : «إنّه عين الأشياء» على التجوّز.
وفيه : أنّ الوجود الذي هو حقيقة الواجب لو كان جزءا ومادّة
للممكنات لزم تركّب حقائقها من الواجب وغيره ؛ وفساده ظاهر وأيّ عاقل يقول : إنّ
الوجود الذي هو جزء الحمار مثلا واجب عالم قادر قديم أزلي إلى غير ذلك من صفات
الواجب؟! تعالى الله عمّا يقوله الظالمون علوّا كبيرا.
[الثالث :] أنّ المراد بالمطلق هو محض الوجود المتعيّن بنفسه إلّا أنّ
له وحدة مبهمة في حدّ ذاته ؛ فيلحقه كثرة الشئون وتعدّد الصور والفنون ، وهذا
اللحوق لا ينافي الوحدة المبهمة وإنّما ينافي المعيّنة ؛ وشاكلته في ذلك شاكلة
الهيولى بالنسبة إلى الصور ولذا قال بعضهم : «إنّ الواجب تعالى هيولى الهيولى وكما
أنّ الهيولى مع تعيّنها لها وحدة لا تزول بطريان الكثرة وتوارد الاتّصال والانفصال
؛ وما يلحقها من الوحدة والكثرة ليس من قبل ذاتها ، بل من قبل الصور الحالّة فيها
؛ ومن حيث الذات ليست متّصلة ولا منفصلة ولا واحدة ولا كثيرة ، بل إنّما تتّصف
بجميع ذلك بالعرض ؛ فكذلك الوجود المطلق.»
وفيه : أنّ الواجب على هذا يكون مادّة / A ٤٤
/ خارجية للممكنات ، فيخرج عن وجوب الوجود ويكون أضعف وجودا وآخر مرتبة من الممكن
؛ إذ الهيولى ـ كما حقّق في محلّه ـ مفتقرة في الوجود إلى الصورة ؛ فهي في ذاتها
قوّة محضة وقابلية صرفة شأنها الإبهام والانفعال وإنّما يحصل لها التعيّن والفعلية
لأجل الصورة ، والواجب منزّه عن جميع ذلك.
[الرابع :] أنّ المراد بالمطلق صرف الوجود الواحد المتعيّن في ذاته من
جميع
الجهات إلّا أنّه
مع ذلك يتصوّر لكلّ صورة ويتشكّل بكلّ شكل ويتطوّر بكلّ طور ويظهر في كلّ مظهر ويتشأّن بكلّ شأن ويتجلّى في كلّ مجلى ويتراءى في كلّ مرئي
؛ فهو حقيقة واحدة متفاوتة في المظاهر التي هي الماهيّات شدّة وضعفا وكمالا ونقصا
؛ ولكون الوجودات المتفاوتة قائمة بالماهيّات متعيّنة بتعيّناتها لم يلزم أن يكون
اختلافها في نفس حقيقة الوجود ليلزم التشكيك في الذاتي ، بل في تعيّناتها التابعة
للماهيّات المختلفة ، بل الاختلاف في الحقيقة راجع إلى الاختلاف في ظهور آثار
الوجود قلّة وكثرة وضعفا وشدّة. فمع قطع النظر من الماهيّات لا اختلاف في حقيقة
الوجود من حيث هي أصلا ؛ وعلى هذا يكون الفرق بين هذا المذهب ومذهب الحكماء أنّ
الحكماء يخصّون الواجبة بحقيقة الوجود بشرط أن لا يتعيّن بشيء من الماهيّات ؛ وعلى
هذا المذهب يكون الواجب تلك الحقيقة لا بشرط أن يتعيّن بشيء منها ؛ فيكون كلّ
حقيقة وجودية واجبة إذا اعتبرت من حيث هي مقطوعة النظر عن التعيّن بالماهيّات
وممكنة باعتبار أخذها بشرط التعيّن ، بل الماهيّات في الحقيقة هي التعيّنات
والواجب هو الحقيقة المطلقة ؛ فلا يلزم تعدّد وتكثّر في الواجب ولا كون شيء من
الممكنات فردا له ولا كون الواجب غير متعيّن في نفسه كالكلّي الطبيعي أو متعيّنا
بتعيّن لا ينافي ساير التعيّنات ؛ لأنّه حينئذ متعيّن بنفس ذاته وتعيّنه ينافي
ساير التعيّنات إلّا أنّه / B ٤٤ / مع هذا التعيّن يقارنه تعيّنات
الماهيّات مقارنة تأثّر وانفعال كمقارنة المعلول للعلّة لا مقارنة فعل وتأثير
كمقارنة العوارض المشخّصة للماهيّات ؛ فلا يقارنه شيء من تعيّناتها على وجه
الافتقار وتوقّف ضرب من تحصّله عليه ، بل يقارنه كما يقارن المعلول لعلّته.
والمحصّل : أنّ حقيقة الوجود مع تعيّنها في نفسها وتحقّقها في ذاتها قد
تعدّدت
__________________
بتعيّنات الماهيّات
وتصوّرت بكلّ صورة ، كما أنّ الصورة الشخصية الخارجية مع وحدتها وتشخّصها تتراءى
في مرايا شتّى وتتمثّل في أذهان لا تعدّ ولا تحصى. ألا ترى أنّ الشمعة ترى في
مرايا متعدّدة ولا تخرج بذلك عن وحدتها وتعيّنها في ذاتها؟! وقد نقل عن بعض
مشايخهم أنّه ظهر في آن واحد في أمكنة متعدّدة ؛ وكما أنّ الواحد مع وحدته يسري في
الأعداد ويظهر بصورها وليس شيئا منها ، بل هو هو والأعداد شئونه وتطوّراته ؛ وكما
أنّ المداد مداد في نفسه ومتعيّن في حدّ ذاته ومع ذلك يتصوّر بصور الحروف والكلمات
وهي نفسه باعتبار وغيرها باعتبار آخر والبحر بحر في ذاته واحد باعتبار نفسه
ويتصوّر بصور الأمواج والأنهار وهي شئون عارضة لها ولا تنثلم وحدته بكثرتها.
البحر بحر على
ما كان من قدم
|
|
إنّ الحوادث
أمواج وأنهار
|
لا تحجبنّك
أشكال تشاهدها
|
|
عمّن تشكل فيها
؛ فهي أستار
|
وكما أنّ النواة
تتصوّر بصورة الشجرة والنواة نواة والشجرة شجرة إلّا أنّ إحداهما أصل والآخر فرعها
وكما أنّ الشمس واحدة في ذاتها ولا تعدّد فيها بحسب نفسها ومع ذلك تتكثّر بحسب إشراقاتها على الأشياء.
ويرد على هذا
الوجه أنّ الواجب إذا كان متحقّقا بذاته ومتعيّنا بنفسه ومع ذلك لحقته تعيّنات الماهيّة
فلا يخلو إمّا أن يرفع هذا التعيّن تعيّنه الذاتي ويتعيّن بهذا التعيّن فقط ،
ففساده ظاهر ؛ إذ حينئذ يكون مقارنة هذا التعيّن للواجب على وجه التأثير وتوقّف
تحصّله عليه وهو مع ظهور فساده يخالف ما صرّح به الموحّد من أنّ مقارنة هذا
التعيّن على وجه التأثّر والانفعال أو لا يرفعه ، بل / A ٥٤ / يجامعه وحينئذ إمّا أن يكون معروض ثاني التعيّنين ذاته
المعيّنة الشخصية بأن تكون الماهيّات متّحدة معه في الوجود لازمة له منتزعة عنه
كما تكون لازمة للوجودات
__________________
الخاصّة منتزعة
عنها متّحدة معها في التحقّق عند الحكيم أولا.
والأوّل باطل ؛ إذ
انتزاع الماهيّة عن الوجود فرع أن يكون له حيثية سوى حيثية صرافة الوجود المنتزع
عنها الوجود العامّ ؛ فإنّ انتزاع الماهيّة عن الخاصّ الإمكاني عند الحكيم إنّما
هو لكونه ذا حيثية عدمية لأجل قصوره ؛ فتنتزع عنه الماهيّة لأجلها والوجود العامّ
ينتزع عن ذاته الوجودية ؛ فصرف الوجود المتقدّس عن جميع الحيثيات لا يعقل انتزاع
ماهيّة عنه ؛ على أنّه تعالى لوحدته الصّرفة وتعيّنه الشخصي ـ كما هو الفرض ـ لا
يعقل أن ينتزع عنه جميع الماهيّات المختلفة.
وعلى الثاني :
إمّا أن يكون معروض التعيّن الثاني هو الوجودات الخاصّة بأن تكون الماهيّات منتزعة
عنها وتكون تلك الوجودات مباينة عنه تعالى إلّا أنّها لكونها معلولة له تعالى يصحّ
بضرب من المجاز أن يقال : إنّه تعالى يتعيّن بها ؛ إذ المعلول نوع تعيّن لعلّته ؛
فهذا مذهب الحكيم والأمر في هذا الإطلاق المجازي هيّن أو يكون معروضه الوجود المنبسط بأن يكون الصادر الأوّل عنه تعالى هو هذا
الوجود وهو لإطلاقه وانبساطه يتقيّد بقيود الماهيّات ؛ وقد تقدّم تصريحهم بأنّ
للوجود مراتب ثلاث إحداها هو المنبسط وهو غير الوجود العامّ وليس كالكلّي الطبيعي
، بل شموله للأشياء وتقيّده بقيود الماهيّات على وجه لا يعرفه إلّا الراسخون ؛
وبعضهم صرّح بأنّ نسبته إلى الوجود الواجبي كنسبة الضوء المحسوس المنبسط إلى الشمس
؛ وفي كلام بعضهم أنّه الوجود الواجبي بعد تنزّله عن المرتبة الواجبة كما أنّ
الممكن هذا المنبسط بعد تقيّده بالماهيّات ؛ وصرّحوا بأنّه واسطة صدور الكثرة عن
الوحدة ؛ وغير خفيّ أنّ ما أثبتوه من المراتب الثلاث للوجود ـ أعني المرتبة
الواجبة والوجود المنبسط والمقيّد الذي هو الممكن ـ :
[١.] إمّا يجعل التغاير / B ٤٥/ بينها اعتباريا عقليا حتّى لا يكون في الواقع إلّا
__________________
المنبسط المقيّد
بالماهيّات إلّا أنّه إذا اعتبر مع قطع النظر عن إطلاقه وانبساطه يكون هو المرتبة
الواجبية من دون أن يكون لها تحقّق على حدة وراء تحقّق المنبسط بأن تتوهّم أنّ
الوجود كان شيئا مندمجا ؛ فصار منبسطا ؛ ففساده ظاهر ؛ إذ الواجب حينئذ لا يكون
إلّا هذا المنبسط ؛ واعتبار مرتبة اخرى له هو المرتبة الواجبية إنّما هو في لحاظ
العقل من دون أن يكون له تحقّق واقعي خارجا عنه وثبوت نفس أمري مع قطع النظر عنه ؛
فلا يحصل وجود حقّ يكون المنبسط فعله مع أنّهم صرّحوا بأنّ الوجود الحقّ هو الحقّ
والمنبسط فعله ؛ وإذا كان المنبسط هو الواجب يقول : إنّه إن كان أمرا مطلقا مبهما
فيكون كالكلّي الطبيعي وقد عرفت فساده ؛ وإن كان متعيّنا بنفسه متشخّصا بذاته ومع
ذلك تعيّن بتعيّنات الماهيّات ؛ فيرد عليه أيضا ما مرّ.
[٢.] أو يجعل
التغاير بينها واقعيا ويجعل المنبسط وجودا ظلّيا بمعنى أنّه بالنسبة إلى الوجود الواجبي كالضوء المنبثّ على الأجرام العلوية
والسفلية بالنسبة إلى الشمس ؛ وهذا الظلّي مرآت الماهيّات بمعنى أنّه
يحاكيها ، كما أنّ الضوء الصادر من الشمس يحاكي الأجسام المختلفة إلّا أنّ للأجسام
تحقّقا مع قطع النظر عن الضوء والماهيّات لا تحقّق لها بدون المنبسط ، بل هي
منتزعة عنه ؛ فهو الواسطة في تكثّر الفيض.
وعلى هذا وإن كان
للواجب تحقّق خارجا عن المنبسط والممكنات إلّا أنّ ما ذكروه من انبساطه وإطلاقه
وتقيّده بالماهيّات ليس لنا سبيل إلى دركه بحيث يطابق القواعد العقلية ؛ وغاية ما
يفهم منه أن يكون المراد أنّه أمر واحد ذاتي مشترك بين الماهيّات بأسرها حتّى يكون
الفرق بين مذهب الحكيم ومذهب الصوفي بعد اتّفاقهما على أنّ الأصل في التحقّق
والمجعولية هو الوجود أنّ الحكيم يقول : إنّ الأصل في التحقّق والصدور على الترتيب
اللائق هي الوجودات
__________________
الخاصّة المتباينة
المتخالفة بأنفسها والماهيّات تنتزع عنها وهي غير مشتركة / A
٤٦ / في أمر ذاتي وإنّما تشترك في أمر عرضي هو الوجود العامّ
؛ والصوفي يقول : إنّ ما يعبّر عنه الحكيم بالوجودات الخاصّة إنّما هي وجود واحد
يحاكي جميع الماهيّات ذاتي مشترك بين جميعها. فالعقل الأوّل مثلا عند الحكيم وجود
خاصّ مباين عن ساير الوجودات الخاصّة وتنتزع عنه الماهيّة الخاصّة وعند الصوفي
مرتبة من الوجود المنبسط تنتزع عنها الماهيّة الخاصّة.
ويرد عليه أنّ
الوجودات الخاصّة إذا كانت متباينة متخالفة بأنفسها ، فانتزاع ماهيّة خاصّة عن كلّ
منها ممّا لا فساد فيه ؛ وأمّا إذا كانت أمرا واحدا متحقّقا بنفسه تابعا للواجب
تعالى تبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح لذي الشبح ولم يكن تحقّقه بتبعية تحقّق
الأشخاص ، فانتزاع الماهيّات المتخالفة الغير المتناهية منه غير معقول ؛ إذ الواحد
لا يناسب الامور المتخالفة وانبساطه ليس بمعنى كونه ذا أجزاء مختلفة حتّى تنتزع عن
كلّ منها ماهيّة خاصّة تناسبه وليس أمرا واحدا كلّيا يتحقّق في الخارج بتحقّق
الفرد كالكلّي الطبيعي حتّى يصحّ وجوده بتبعية الأفراد ؛ إذ الفرض أنّه متحقّق مع
قطع النظر عنها ولو كان وجوده وجودا ظلّيا.
هذا ما يقتضيه
النظر إلّا أنّهم أيضا ذكروا أنّ النظر لا يستقلّ بدرك كيفية وحدته وانبساطه
وشموله للماهيّات ، بل يتوقّف ذلك على ضرب من التصفية والتصقيل ؛ وقد ذكروا أنّه
رفيع الدرجات ذو المعارج وهو ما به الاشتراك المتحقّق في الممكنات ؛ وقد صرّحوا
بأنّ ملاك تحقّقها أمر واحد هو حقيقة الوجود المنبسط وهو فعل الله لا ذاته.
وحاصل كلامهم : أنّ للأشياء في الموجودية ثلاث مراتب :
الأولى : مطلق الوجود الصّرف بلا تعلّق بغيره ولا تقيّد ؛ وهو الذات
الأحدية والغيب المطلق ولا اسم له.
الثانية : المقرون المقيّد بالماهيّة ، كالعقول والنفوس والطبائع
والأجسام وعوارضها.
الثالثة : المنبسط المطلق الذي ليس شموله على سبيل الكلّية وليست
وحدته عددية ؛ لأنّه مع كلّ شيء بحسبه ؛ فلا ينحصر في حدّ ؛ إذ مع القديم قديم ومع
الحادث حادث ومع المجرّد مجرّد ومع المجسّم مجسّم ومع الجوهر جوهر ومع العرض عرض ؛
والبيان عن كيفية شموله وإحاطته قاصر إلّا بضرب من التمثيل ؛ وبهذا يمتاز عن
الوجود / B ٤٦ / المتقدّس
الواجبي الذي لا يدخل تحت التمثيل ونسبته إلى الموجودات نسبة البحر إلى الأمواج
والهواء إلى الأجسام وجنس الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ؛ وهو غير الوجود الإثباتي
الانتزاعي الاعتباري الغير الموجود.
والحقيقي بمراتبه
الثلاث موجود ؛ والثالثة مادّة الممكن ؛ وإذا أطلق الوجود المطلق على الحقّ
فالمراد المعنى الأوّل لا الأخير ؛ وصرف الوجود هو الله والمطلق ـ أي الفيض
الانبساطي دون العامّ الانتزاعي ـ فعله والمقيّد أثره وهو الممكنات كالعقل والنفس
والجسم وغيرها ؛ فإنّ كلّا منها محدود بمهيّة خاصّة وأوّل ما ينشأ من الذات
الأحدية والوجود الحقّ الذي لا نعت له ولا اسم ولا رسم هو هذا المنبسط المسمّى
بنفس الرحمن والحقّ المخلوق به وحقيقة الحقائق وحضرة الأسماء والمشيّة ؛ «خلق الله
الأشياء بالمشيّة والمشيّة بنفسها.» وهذا النشو والمنشئية ـ أي نشو المطلق من الواجب ـ ليس
فاعلية ومفعولية ولا علّية ومعلولية على الوجه المعتبر في الوجودات المقيّدة ، بل
هو راجع إلى التعلّق والتابعية كتبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح لذي الشبح ؛ فالوجود
الحقّ منشأ لهذا
__________________
الوجود الشامل
باعتبار وحدته الذاتية الغير العددية والجنسية والنوعية ؛ وبواسطته يؤثّر في
الأشياء بوجوداتها الخاصّة التي لا يزيد على الوجود المطلق المنبسط ، كالحروف والكلمات
الإنسانية التي لا تزيد على النفس الخارج من جوفه المارّ على المخارج.
والمناسبة بين
الحقّ والخلق إنّما هي بواسطة هذا المنبسط. فأوّل الموجودات المقيّدة العقل الأوّل
المحلّل إلى الوجود والماهيّة المخصوصة ؛ والعقل يحكم بتقدّم الوجود بما هو وجود
مطلق على الماهيّة بما هي محدودة ؛ لأنّها ما لم يجب بالوجود لم يوجد. فأوّل ما
ينشأ من الحقّ الوجود المطلق ويلزمه بحسب مراتبه ماهيّات مخصوصة وإمكان خاصّ ؛
فالأحدية الواجبة منشأ الوجود المطلق ؛ والواحدية الأسمائية إله العالم وجودا
وماهيّة. فسبحان من ربط الوحدة بالوحدة والكثرة بالكثرة وإلّا لم تكن بين المؤثّر
والمتأثّر مناسبة ؛ وذلك ينافي التأثير و/ A ٤٧ / الإيجاد.
هذا ما ذكروه في
بيان المنبسط وأحكامه وعلى ما صرّحوا به من كونه صادرا عن الواجب تعالى وفعلا له
تعالى وإن لم يلزم كون الواجب طبيعة مطلقة ولا متعيّنا بتعيّنات الماهيّات وملزوما
لها حتّى تكون لذاته حيثيات متغايرة إلّا أنّ ما ذكروه من معنى وحدته وإطلاقه
وتقيّده بالماهيّات ممّا يصعب دركه ومع ذلك إثبات مثله يتوقّف على دلالة ولا
دلالة.
وربّما يستدلّ
عليه بتوقّف ارتباط الكثرة بالوحدة وصدورها منها عليه ؛ إذ الواحد من جميع الجهات
لا يناسب الكثرة حتّى يمكن أن يصدر عنه ؛ فلا بدّ أن يصدر منه أوّلا واحد له درجات
ومراتب يناسب الكثرة حتّى يصدر من جهة وحدته عن الواحد الحقّ ويصير منشأ الكثرة من
جهة تكثّره وما هو إلّا هذا
المنبسط ويشابهه بوجه الحركة السرمدية الرابطة بين القديم والحادث.
وفيه : أنّ هذا الارتباط يمكن حصوله بالعقل الأوّل كما ذكره
الحكماء ؛ ويمكن أن يقال : كون المنبسط أوّل الصوادر أدخل في علوّ القدرة من كون
العقل الأوّل أوّلها ؛ إذ على الأوّل يصدر عنه تعالى أوّلا موجود واحد يلزمه
وينتزع عنه جميع الماهيّات ؛ وكأنّ الكلّ صدر منه تعالى أوّلا مع حصول الارتباط
وكون الصادر من الواحد واحدا ؛ وعلى الثاني يتوقّف إتمام الفيض على وسائط كثيرة.
ثمّ على الثاني
تنحصر معلولات الواجب تعالى في الموجودات الخاصّة المقيّدة ـ أعني العقول والنفوس والأجسام وعوارضها
ـ وعلى الأوّل يثبت معها مثل هذا الموجود العظيم العالم القادر الذي يكون العقل
الأوّل شأنا من شئونه ؛ إذ على القول به يكون كلّ موجود مقيّد عبارة عن ماهيّة خاصّة منتزعة عن درجة من درجاته
ومرتبة من مراتبه. فمع ثبوت الموجودات المقيّدة المعلولة للواجب تعالى يثبت في
جملة معلولاته هذا الموجود أيضا وعلى مذهب الحكيم لا يثبت ذلك ؛ فتأمّل.
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ القول بكون الواجب مع تعيّنه بذاته متعيّنا بكلّ تعيّن ومتشكّلا بكلّ شكل
ومتلبّسا بكلّ / B ٤٧ / صورة غير صحيح
؛ وما ذكروه من الأمثلة لا يثبته ؛ لأنّها وردت بطريق الرمز ؛ والأخذ بظاهرها يزيد
في الإشكال ويبعّد عن المطلوب ؛ فإنّ سريان الواحد في الأعداد وحصولها منه ليس
إلّا بملاحظة تكرّره وانضمامه إلى مثله ؛ والله سبحانه منزّه عن التكرّر وعن أن
تحصل من تكرّره الأشياء ؛ وظهور البحر بصور الأمواج ليس إلّا لتزايد في حجمه أو
اختلاف في وضعه أو نحو ذلك ؛ وظهور النواة بصورة الشجرة وأغصانها وأوراقها ليس
إلّا
__________________
بنفوذ الأجزاء
المائية والهوائية في جوهره وازدياد حجمه بذلك مع تغيّر تشخّصه إلى أن تحصل الشجرة
؛ وظهور المداد بصور الحروف والكلمات ليس إلّا بتغيّر وضعه وحصول هيئة خاصّة له ؛
والله تعالى منزّه عن جميع ذلك ومن اعتقد فيه شيئا من ذلك فهو زنديق كافر.
وما ذكروه من ظهور
شخص واحد في آن واحد في أمكنة متعدّدة إن كان بمعنى أنّ ذلك الشخص ببدنه العنصري
يظهر كذلك فبطلانه ظاهر وإن كان بمعنى أنّ نفسه الناطقة لكمال تجرّدها وقوّتها
يمكن أن يتعلّق بأبدان متعدّدة مثالية متشابهة ومشابهة للبدن العنصري في الهيئات
والصفات كلّا أو بعضا فلا ننكره إلّا أنّ تعلّق النفس ببدن أو أبدان وإن كانت في
غاية كمالها وتجرّدها إنّما هو تعلّق تدبير وتصرّف ، لاستكمالها ؛ وتجلّي الحقّ في
مجالي الممكنات لا يمكن أن يكون كذلك ؛ وكذا ظهور الصورة الشخصية الواحدة في مرايا
متكثّرة وأذهان متعدّدة ؛ وظهور الشمس وإشراقها على مظاهر متفرّقة وروازن متبدّدة
إن كان بمعناه الظاهر من كون تلك الصور المتعدّدة حاصلة من ذلك الشخص بحسب تعدّد
المظاهر واستعداداتها ؛ وهو أصل لها وكلّ منها ظلّ لوجوده وصورة محاكية له بحيث
يكون الحكم عليها وبها حكما عليه وبه ؛ وكذا تلك الإشراقات الحاصلة من الشمس أنحاء
لوجودها وأظلال مضاهية لها ظهرت على كلّ مظهر بحسب استعداده وأشرقت عليه بقدر
قابليته.
ففيه : أنّه يكون على هذا التقدير وجودات الممكنات أظلالا لوجوده
تعالى / A ٤٨ / ومضاهية ومحاكية
إيّاه حتّى يكون تصوّر كلّ منها ولو بالوجه عنوانا لتصوّره تعالى مطابقا له ؛
فيكون وجود الكلاب والذّباب والبقّة مضاهيا لوجود الحيّ القديم وتصوّرها عنوانا
لتصوّره ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
نعم إن كان بمعنى
أنّ تلك الصور والأضواء ليس لها تحقّق وتقرّر في ذاتها ، بل تحقّقها بتبعية الشخص وإشراق الشمس ؛ وكذا
تلك المظاهر ليس لها صور وضوء في نفسها ، بل ما يحصل فيها من الصور والأضواء إنّما
هو من قبل أصلها وذي ظلّها بحسب نسبها المختلفة واستعداداتها المتفاوتة ؛ وكذلك
الممكنات الموجودة لكونها قائمة بموجدها وأظلّة لوجوده وموجودة بإضافتها إلى
مبدعها ومرشّحة عن فيضه وجوده ومتقرّرة بالانتساب إلى جاعلها ومتحقّقة بالارتباط
بفاعلها ؛ فليس لها في حدّ ذاتها ثبوت وتقرّر وحصول وتحقّق وإنّما ثبوتها من تلقاء مبدئها وبارئها.
فإن لاحظت بنظر
البيان والبرهان ترى وجوده تعالى ظهر بالمظاهر ؛ فإن أبصرت بعين الحقيقة والعيان
ترى الأشياء ظهرت بوجوده تعالى ؛ فهو الذي ذهب إليه كبراء الصوفية وعظمائهم على ما
فهمته وينطبق عليه قول الحكماء أيضا ؛ والقواعد العقلية لا ينافيه ، بل يساعده بعد
جعل المجعول بالذات والممكن المرتبط بالعلّة هي الوجودات دون الماهيّات على ما
يشير إليه في التحقيق الذي يذكره.
ثمّ هنا وجوه اخر
ذكرها جماعة في تصحيح وحدة الوجود أوردناها في رسالتنا المسمّاة ب «قرّة العيون» وبيّنّا فسادها ، فلا حاجة إلى ذكرها هنا.
[في اتّفاق آراء أكابر الصوفية وأساطين الحكمة في توحيد الحقّ]
كأنّك بعد ما عرفت
من فساد الوجوه المذكورة لا تشكّ في أنّ أكابر الصوفية وعظمائهم وأعلام العارفين
وقدمائهم لا يدينون الله بأمثالها ؛ لأنّها أولوا
__________________
المجاهدات العظيمة
وذوا النفوس القدسية السليمة ؛ فلا تظنّ بمثلهم أن يعتقدوا عن آخرهم في باب
التوحيد ما لا يليق بساحة قدسية ويحكم بديهة / B ٤٨ / العقل بفساده وقبحه ؛ وكذا لا تشكّ في أنّ أساطين الحكمة
وقدماء الفلسفة يبعد اتّفاقهم على خلاف الحقّ في مسئلة التوحيد ؛ لأنّهم أصحاب
الأنظار الثاقبة وأرباب التأييدات الإلهية ؛ فلا ينبغي لهم أن يخطئوا في أصل
المعارف واسّها.
فالحقّ أنّ عقيدة
الكلّ في التوحيد واحدة والخلاف إنّما نشأ من اختلاف المتأخّرين في فهم كلامهم
والغفلة عن بعض مقاصدهم ؛ وبيان ذلك يتوقّف على تنبيهات :
[الأوّل :] لا خلاف بين الكلّ في أنّ الواجب تعالى صرف الوجود والنور ،
ومحض الإنّية والظهور ، متعيّن بذاته من كلّ وجه ، ولا كثرة فيه من جهة ، مطلق من
جميع القيود التي هي نقائص الإمكان وقصورات طوارق الحدثان ، محقّق الحقائق
والأعيان ومظهر ماهيّات الأكوان ، ومحض الفعلية والكمال ، وأتمّ التامّ وفوق
التمام ، ومجرّد عن كلّ قيد حتّى عن الإطلاق والتجريد ، ومنزّه عمّا سواه حتّى عن
التنزيه والتقديس.
وإطلاق الوجود
المطلق على هذا المعنى لإطلاقه من قيود الماهيّات شايع ، كما يطلق الماء المطلق
على الماء الذي لا يتقيّد بشيء ينافي كونه محوضة الماء وصرافته ، بل هو أولى من
إطلاقه على المطلق الشامل ؛ وما في كلام كبراء الصوفية من إطلاق الوجود المطلق على
الواجب تعالى إنّما هو بهذا المعنى.
[الثاني :] قد تقدّم أنّ المجعول بالذات وجودات خاصّة مقيّدة بظلمات
الماهيّات والإمكان ، ممازجة بالقصور والنقصان ، مشوبة بالأعدام والبطلان ، فاقدات
للمراتب الكمالية سيّما المرتبة الجامعة لجميع أنحاء الكمالات الذاتية التي لصرف
الوجود الحقّ ، نازلات عن تلك المرتبة إلى مراتب النزولات
الإمكانية وهي
تحاكي الماهيّات التابعة لها تبعية الظلام للضوء والشبح لذي الشبح والاسم للمسمّى
واللفظ للمعنى ؛ وهي مجهولة الكنه ليس لها جنس ولا فصل ولا حدّ ولا رسم.
وجميع ذلك إنّما
هو لعوارضها أعني الماهيّات المجعولة بالعرض وإنّما جعلها وإيجادها بترتّبها على
الوجود الحقّ وارتباطها / A ٤٩ / به وانتسابها
إليه وتبعيتها له تبعية العكس للأصل والظلّ لذي الظلّ ؛ وهذا الجعل هو المعبّر عنه
تارة بتجلّي الحقّ في مجالي الماهيّات واخرى بتنزّله إلى مراتب التقيّدات ؛ إذ
ظاهر أنّ المراد بتنزّله ليس نزوله بمعناه الظاهر وانحطاطه عن مرتبة الكاملة ونقصه
عن كمالاته الذاتية وخروجه عن صرافة الوجود وبحت العقلية ؛ إذ لا يتصوّر في حقّه
الحركة والنقص والقوّة والتبعيض والتجزية وأمثال ذلك ، بل لمّا كان من شأن المعلول
أن يناسب العلّة من وجه ويباينها من وجه ؛ وبعبارة اخرى : لمّا كان معلول الشيء من
حيثية هو ومن حيثية ليس هو ؛ فكلّ معلول كأنّه علّة متنزّلة عن مرتبة الذاتية. فالتعبير
عن الجعل بالمعنى المذكور بتنزّل العلّة لا يراد به أنّ العلّة بنفسها انحطت عن
مرتبتها وخرجت عن محوضة فعليتها ، بل المراد به أنّ معلولها الصادر عنها بالجعل
كأنّه علّته المنحطّة عن مرتبتها الذاتية والخارجة عن كمالاتها العقلية.
[الثالث :] قد ظهر ممّا مرّ أنّ المعلولية يلزمها التعلّق والارتباط
والتبعية ؛ فكلّ معلول متعلّق بالعلّة مرتبط بها تابع لها تبعية الظلّ لذي الظلّ ؛
ولا ريب في أنّ وجود المتعلّق المرتبط نفس تعلّقه وارتباطه ؛ إذ لو لا تعلّقه
وارتباطه ، لكان محض العدم ؛ فوجود كلّ متعلّق مرتبط ليس في الحقيقة إلّا نفس
تعلّقه وارتباطه ، كما أنّ وجود المعقول والمحسوس ليس إلّا نفس معقوليته أو
محسوسيته ؛ إذ لو لا التعقّل والإحساس لم يوجد شيء هو المعقول والمحسوس ؛ فكلّ
معلول مع اعتبار تعلّقه
__________________
وارتباطه بعلّته
أمر مغاير لعلّته ، متحقّق في الخارج ، له آثار خارجية ؛ ومع قطع النظر عنه معدوم
صرف.
وبعبارة اخرى : كلّ معلول بالنظر إلى علّته أمر متحقّق ومتحصّل ؛ وبالنظر
إلى ذاته أمر اعتباري. فالتحقّق والتحصّل في الحقيقة ليس إلّا للعلّة. فالناظر إلى
المعلولات بملاحظة العلّة أو في حال الغفلة أو بحسب الظاهر وجليل النظر يراها
حقائق متحصّلة في الخارج ذوات آثار خارجية ؛ والناظر إلى ذواتها مع قطع النظر عن
علّتها وعند / B ٤٩ / التثبّت والتحقيق
وبحسب الواقع ودقيق النظر يراها اعتبارات محضة وامورا تعلّقية ارتباطية ، بل مجرّد
تعلّقات وارتباطات وشئون وحيثيات للعلّة ؛ ويرى أن لا حقيقة لها سوى علّتها ؛
فالعلّة هي حقيقتها ؛ إذ حقيقة الشيء ما به تحقّقه وتحقّق المعلول إنّما هو بعلّته.
وبالجملة : من عرف معنى العلّة والقيّوم وحقيقة العلّية والقيّومية
يعلم أنّ المعلول ولو كان بعد صدوره أمرا لا يحتاج في تحقّقه وقيامه بنفسه إلى أمر
آخر سوى علّته كالوجودات الخاصّة بالنظر إلى ذاته أمر اعتباري لا تحقّق له ؛ إذ ما
للغير يرجع إليه ؛ فيبقي هو في نفسه محض الفقر والفاقة.
وإذ عرفت ذلك نقول : لا ريب في أنّ الكلّ متّفقون على أنّ الواجب صرف الوجود
التامّ ، فوق التمام ، المطلق عن كلّ قيد والمعرّى عن كلّ نقص وعيب ؛ وعلى أنّ
جميع الوجودات الخاصّة المقيّدة بظلمات الماهيّات الإمكانية معلولة مجعولة له ،
صادرة ظاهرة منه ؛ وأنّ هذه المعلولية والصدور إنّما هو بالترتّب عليه والتعلّق
والارتباط به والانتساب والإضافة إليه ؛ فكأنّها أظلال قائمة به ولا تقرّر ولا
تحقّق بها في نفسها ، بل إنّما ثبوتها وتقرّرها من تلقائه.
فهي بأحد
الاعتبارين المذكورين محض النسبة والإضافة ؛ ولذا قيل :
__________________
«التوحيد إسقاط
الإضافات» وبالاعتبار الآخر امور متباينة متحقّقة واقعية. فحقيقة العلّية
والقيّومية ومقابلهما تقتضي وجود الوحدة والكثرة وإن كان كلّ منهما باعتبار.
فالمحدّديون الناظرون بعين الباطن إلى البواطن لا يرون إلّا الواحد ؛ والمشاهدون
بعين الظاهر إلى الظواهر لا يرون إلّا الكثرة ؛ والعارفون الناظرون بالعينين
الجامعون للمراتب يرون الوحدة في عين الكثرة وبالعكس.
وعلى ما ذكرناه
ينطبق كلمات الجميع ولا ينافيه شيء من تصريحاتهم وتلويحاتهم ؛ وبيان ذلك إجمالا
أنّ ما ذكره الحكيم من «أنّ الوجودات الخاصّة المجعولة امور متحقّقة أوجدها الله
تعالى / A ٥٠ / مباينة منفصلة
عنه على الترتيب العلّي والمعلولي» صحيح ينطبق على ما ذكر ؛ إذ حقيقة الإيجاد
والإفاضة والعلّية والقيّومية وأمثالها إنّما هي الاستتباع بمعنى أن تستتبع ذات
العلّة ذات المعلول استتباع ذي العكس لعكسه وذي الظلّ لظلّه ؛ إذ المعلول يلزم أن
يكون من سنخ العلّة نظرا إلى ثبوت المناسبة بينهما ؛ والسنخية تقتضي كون المعلول
مترشّحا من العلّة إمّا بالخروج والانفصال منها كما في العلل المعدّة وهو محال في
حقّه تعالى أو بالتبعية والارتباط كما في العكوس والأظلال ؛ وبدون أحد الأمرين لا
يتصوّر الإفاضة والصدور ؛ لأنّ صدور معدوم عن علّة من دون ارتباط وتعلّق بينهما
ينفي المناسبة بينهما ووجود المناسبة يقتضي ترتّب المعلول على علّته من دون فصل
زماني بينهما ؛ إذ مع الفصل ترتفع المناسبة ؛ لأنّ ثبوت المناسبة مع معدومية أحد
المتناسبين غير معقول ؛ فالمعلول مترتّب على العلّة ترتّب الظلّ على ذي الظلّ ؛
ولا ريب في أنّ الظلّ أمر متحصّل مباين عن ذي الظلّ من جهة وإن كان تحقّقه وتحصّله تبعيا.
فالوجودات الخاصّة
التابعة المرتبطة بصرف الوجود متحقّقة مع اعتبار
__________________
الارتباط تحقّقا تبعيا ظلّيا. فقول الحكيم بكونها متحقّقة ناظر إلى هذا
الاعتبار ، بل تحقّق الوجودات الإمكانية بملاحظة ارتباطها بعلّتها أقوى من تحقّق
الظلّ مع ارتباطه بذي الظلّ ؛ إذ فرق بين ظلّ الأجسام وظلّ من الأجسام هو ظلّ بعض
أظلاله المنزّلة منه بمراتب كثيرة ، بل التفسير بالظلّ إنّما هو للتنوير والتوضيح
وإلّا فالفرق من الثرى إلى الثرياء.
وكذا ينطبق عليه
قول الصوفية [من] أنّ الوجودات والماهيّات الإمكانية امور اعتبارية تنتزع عنه
وأنّها أضوائه وأظلاله وشئونه واعتباراته وليست امورا متحقّقة مباينة ؛ فإنّه ناظر
إلى الاعتبار الآخر ـ أعني ملاحظة ذات المعلول من حيث هو مع قطع النظر عن العلّة ـ
فإنّه بهذه الملاحظة أمر اعتباري غير متحقّق / B ٥٠ / وإن كان بالنظر إلى الظاهر ومشاهدتنا أمرا متحصّلا ، كما
أنّ الوجود التعلّقي الارتباطي الظلّي متحقّق بحسب الظاهر واعتبار الارتباط إلّا
أنّه بالنظر إلى حقيقته وذاته مجرّد اعتبار.
والحاصل : أنّه عند الحكيم والصوفي يلزم ذاته الكاملة لبساطتها
الصّرفة ووحدتها المحضة معلول عقلي بمنزلة ظلّه لا يتصوّر في الممكنات مثله في
البساطة والبهاء والكمال وهو عند أكثر الصوفية الوجود المنبسط ؛ فيصدر عنه
بالتبعية والترتّب أوّلا هذا الوجود ثمّ تتبعه الماهيّات الإمكانية وتلزمه
بانتزاعها من درجاته ومراتبه ؛ وعند الحكيم العقل الأوّل وهو بمنزلة ظلّه تعالى
ويلزمه أيضا ظلّ أو أظلال وهكذا يستتبع كلّ ظلّ أظلالا إلى أن ينتهي إلى الأجسام
الكثيفة التي لا ظلّ لها ؛ وكما أنّ الأجسام الكثيفة لا ظلّ لها بنفسها ولو وقع
عليها ضوء من مضيء تحصل لها أظلال فكذلك الماهيّات بأسرها من المجرّدات والمادّيات
لكثافتها وخلوّها في أنفسها عن ضوء الوجود لا أظلال لها ؛ إذ ما لا تحقّق له كيف
يحصل منه
__________________
ظلّ؟! وبعد
استضاءتها بضوء الوجود الحقيقي تكون لها أظلال.
وعلى هذا جميع
الموجودات بمنزلة الأظلال والتوابع والشئون واللوازم للواحد الحقّ على الترتيب
المذكور ؛ وبأحد الاعتبارين امور محقّقة وبالاعتبار الآخر امور انتزاعية اعتبارية.
وكذا ينطبق عليه
قول بعض الصوفية : «إنّ الواجب حقيقة الأشياء» لما عرفت من أنّ حقيقة الشيء ما به
تحقّقه ، ومحقّق الأشياء وما به تحقّقها هو الواجب ـ تعالى شأنه ـ وكذا ما ذكروه
من «أنّه تعالى تجلّى في المظاهر والمجالي» لما عرفت من صدق التجلّي على إفاضة
الوجودات المقيّدة بترتّبها عليه وارتباطها به وتبعيتها له ؛ فإنّه يعبّر عنه
بتجلّيه في مجالي التقيّدات من غير أن ينزل هو أو ينقص من مرتبة الكاملة وتجب
الفعلية ومن غير حلول واتّحاد وزندقة وإلحاد وتعطيل وتشبيه وتجزية وتبعيض ؛ فهو في علوّ مرتبته خارج عن كلّ
شيء وإن لم يخرج منه شيء ؛ فسبحان الذي لا يخلو من وجوده شيء وهو في علوّ مجده
وكبريائه خارج / A ٥١ / عن الجميع «داخل
في كلّ شيء لا بمقارنة وخارج عنها لا بمزايلة» .
اين طرفه حديثى
است كه آن ظاهر وپنهان
|
|
در هيچ نشد داخل
ودر هيچ به در نيست
|
وكذا ينطبق عليه
ما ذكره من تنزّل الواجب وكون الممكنات عبارة عن تنزّلاته ، كما تقدّم وجهه.
ومن تأمّل حقّ
التأمّل في كلمات المحصّلين من العرفاء والحكماء يجد اتّفاق الكلّ على أنّ
الممكنات مع كونها متحقّقة متغايرة ومغايرة للواجب سبحانه بملاحظة الواجب وعلّيته
لها ليست إلّا امور اعتبارية تعلّقية ظلّية بالنظر إلى
__________________
ذواتها. فانظر إلى
قول الأعرابي وهو قدوة الوجودية : «ولقد نبّهتك على أمر عظيم إن تنبّهت له وغفلته
فهو عين كلّ شيء في الظهور ما هو عين الأشياء في ذاته تعالى ، بل هو هو والأشياء
أشياء» فإنّه نصّ في أنّ الأشياء الممكنة الموجودة مغايرة للحقّ إلّا أنّ ظهورها
وتحقّقها به سبحانه ؛ فهي في أنفسها محض العدم والافتقار.
ثمّ انظر إلى قول
الشيخ ابن سينا في تعليقاته وهو رئيس الحكماء : «الوجود المستفاد من الغير كونه
متعلّقا بالغير مقوّم له كما أنّ الاستغناء عن الغير مقوّم لواجب الوجود بذاته ؛
والمقوّم للشيء لا يجوز أن يفارقه ؛ إذ هو ذاتي له» بأنّه يفيد أنّ الوجودات الإمكانية لا حقائق لها متأصّلة
سوى كونها مضافة إلى موجدها ومتعلّقة به وما يجرى مجرى ذلك وأن ليس لها هويّة
مستقلّة سوى هويّة مفيضها وأنّها إنّيات تعلّقية وشئونات للوجود الحقّ وأشعّة
وظلال النور المطلق ولا يمكن ملاحظتها ذواتا منفصلة وإنّيات مستقلّة ؛ لأنّ
التابعية والتعلّق بالغير والفقر والفاقة عين حقائقها لا أنّ لها حقائق على حيالها
عرض لها التعلّق بالغير والحاجة ، بل هي في ذواتها محض الفاقة والتعلّق ؛ فلا
حقائق لها إلّا كونها توابع لحقيقة واحدة. فالحقيقة واحدة والباقي شئونها وفنونها
وحيثياتها وأطوارها ولمعات أنوارها / B ٥١ / وظلال ضوئها وتجلّيات ذاتها.
والحاصل : أنّ المستفاد من كلامه أنّها بالنظر إلى أنفسها محض الإضافة
والفاقة وإن كانت متحقّقة ثابته بالعلّة.
ثمّ التحقيق أنّ
ما ذكرناه ، بل ما ذكره غيرنا من أعلام الحكماء وأعيان الصوفية في حقيقة الوجود
وكيفية إفاضتها وتجلّيها إلى شئونها إنّما هو على سبيل التلويح والتلميح والتمثيل
والتوضيح دون البرهان والتحقيق ؛ لأنّ الوجود الحقّ أجلّ
__________________
شأنا من أن تدركه
العقول والأفهام وأعظم قدرا من أن تصل إليه الأفكار والأوهام ؛ وكيفية تجلّيه
وإيجاده أعلى وأسنى من أن يعبّر عنها بعبارة أو يومئ إليها بإشارة ؛ فإنّ العبارة
في معرفة حقيقته حجاب والإشارة إلى الكشف عن وجه بارقته نقاب. كيف وهو مجهول الكنه
والذات ، بل غير معلوم الاسم والصفات؟! فليس له حدّ وبرهان ولا يمكن دركه بإشارة
وبيان ، بل لو أمكن لأمكن عن المشاهدة والعيان [و] يكون الطالب عند تلك المشاهدة
فانيا في المطلوب والشاهد مستغرقا في المشهود ؛ فلا يبقى حينئذ إشارة ومشير.
ومحصّل ما ذكرناه أنّ الوجودات الخاصّة الإمكانية المعلولة المجعولة للواجب
بالتبعية والتعلّق والارتباط والترتّب امور متحقّقة من حيث إنّها توابع وشئون
وأظلال وفنون للواجب الحقّ ولها آثار واقعية نفس أمرية ، كما أنّ لأظلال الشمس
وغيرها من الأجسام المضيئة تحقّقا واقعيا وأثرا خارجيا وإن كان الفرق بين ظلّ
الحقّ وظلّ الشمس في التحقّق وترتّب الأثر كالفرق بينهما. فتلك الوجودات الخاصّة
لها تحقّق واقعي وأثر خارجي إلّا أنّ تحقّقها تبعي ووجودها ظلّي بمعنى أنّ ما به
تحقّقها وموجوديتها هو المتبوع وذو الظلّ أعني الواجب تعالى. ففي الحقيقة تحقّقها
وآثارها منه تعالى ؛ فهي لكونها تابعة فبالنظر إلى أنفسها مع قطع النظر عنه تعالى
محض الفقر والحاجة. / A ٥٢ /
وبالجملة : هذه الوجودات الخاصّة لكونها تبعية ظلّية إذا اخذت بشرط شيء ـ أي بشرط
التبعية والتعلّق ـ تكون امورا متحصّلة ذوات آثار خارجية ، ويعبّر عن تحقّقها
بالتحقّق الظلّي ؛ وإذا اخذت لا بشرط شيء ـ أي لا بشرط التبعية ولا بشرط عدمها ـ تكون
امورا اعتبارية يعبّر عنها بالشئون والحيثيات والفنون والاعتبارات والأظلال
والتنزّلات والأضواء والتطوّرات وأمثال ذلك ؛ وإن
__________________
اخذت بشرط لا ـ أي
بشرط عدم التعلّق والارتباط بالعلّة ـ فهي محض العدم وصرف اللبس ؛ ولكونها مرتبطة
متعلّقة به تعالى تعلّق الظلّ بذي الظلّ والعكس بالأصل لا يكون الواجب تعالى خارجا
عنها ولا داخلا فيها. فهو «خارج عنها لا بمزايلة وداخل فيها لا بمقارنة.»
وعلى ما ذكر من
كون التحقّق وعدمه والخروج والدخول بالاعتبارين لا يلزم تناقض وتدافع ؛ على أنّا
نقول : من عرف حقيقة القيّومية والعلّية والمعلولية يعلم ـ مع قطع النظر عن كون
العلّية بمعنى الاستتباع والمعلولية بمعنى التبعية والتعلّق ـ أنّ المعلول من حيث
هو معلول بالنظر إلى علّته أمر ثابت متحقّق مغاير لعلّته وبالنظر إلى نفسه لا
تقرّر له ولا تحصّل. ففي الحقيقة لا وجود إلّا وجوده ولا تحقّق إلّا تحقّقه وإذا لم
يكن له تقرّر مستقلّ بالنظر إلى نفسه يصدق كونه شأنا واعتبارا له تعالى.
ثمّ هذه الوجودات
الخاصّة المعلولة المجعولة التابعة المرتبطة به تعالى لمّا لم يكن لها في نفسها مع
قطع النظر عن العلّة الواجبة تقرّر ـ كما هو شأن الوجود الظلّي التبعي ـ لا تكون
أشياء منفصلة عرض لها التعلّق والارتباط ، بل يكون نفس التعلّق والارتباط ؛ إذ لو
كانت امورا مرتبطة بالعلّة بارتباط لم تكن مجعولة بالذات ، بل كان المجعول بالذات
ارتباطها لا أنفسها مع أنّ العرض كون المجعول بالذات أنفسها والمجعول بالذات
المرتبطة بالعلّة لا بدّ أن يكون / B ٥٢ / نفس الارتباط ؛
فيكون أمرا اعتباريا وشأنا للعلّة لا أمرا منفصلا مرتبطا بارتباط زائد.
والتوضيح : أنّ المراد بنفس الارتباط ليس اعتباريا محضا كأنياب الأغوال
وإلّا لزم أن لا يكون مرتبطا إذا لم يعتبره العقل وهو خلاف البديهة ؛ لأنّ المعلول
مرتبطة بعلّته سواء اعتبر العقل ارتباطه أم لا ؛ فيكون له مصداق حقيقي نفس
__________________
أمري ؛ وحينئذ
إمّا يحمل على المعلول أنّه مرتبط في ذاته بالعلّة بالتواطؤ أو بالاشتقاق ؛ فعلى
الأوّل يكون عين الارتباط وعلى الثاني يكون المرتبط ارتباطه ؛ فلا يكون ذاته
مجعولة وهو خلاف الفرض.
وبالجملة : متى سلّم أنّ المعلول في ذاته مرتبطا بالعلّة فلو لم يكن
عين الارتباط لكان شيئا مرتبطا ويكون ذلك الشيء مرتبطا بالارتباط لا بذاته ؛ فيكون
الارتباط مرتبطا بالذات والذات بواسطته ، والمرتبط بالذات هو المجعول ؛ فلا يكون
المعروض مجعولا ، بل المجعول ارتباطه.
وممّا توضح
المطلوب من وجه أنّ الصور المخترعة للنفس مع كونها امورا متحقّقة من حيث قيامها
بالنفس وتعلّقها به ليس وجودها إلّا نفس معقوليتها ؛ فهي إذا اخذت بشرط شيء ـ أي
بشرط القيام والمعقولية ـ تكون متحصّلة وإذا اخذت لا بشرط تكون اعتبارية وإذا اخذت
بشرط لا ـ أي بشرط عدم المعقولية والقيام ـ تكون معدومة محضة ؛ إذ وجود
المعقول نفس معقوليته ؛ فإذا اخذ بشرط عدم معقوليته يكون صرف العدم.
وبالجملة : الصور العقلية شئون النفس واعتباراته ؛ ولذا قيل : إنّ
الفاعل إذا كان تامّ القدرة والفاعلية غير محتاج إلى معاون وآلة كلّما يتصوّره
يوجد في الخارج ؛ والواجب لكونه في غاية مراتب القدرة ارتسم ما تعقّله من النظام
الجملي في لوح الخارج ، بل التحقيق أنّ نسبة ظرف الخارج ونفس الأمر إلى واجب
الوجود كنسبة ظرف الذهن إلينا ؛ ونسبة إيجاده حقائق الأشياء وأعيان الموجودات في
الخارج إليه تعالى كنسبة تصوّر المفهومات المخترعة في الذهن إلينا. فظرف الخارج في
الحقيقة / A ٥٣ / بمنزلة ظرف
الذهن له.
فإن قيل : إفاضة الواجب الوجودات الخاصّة وجعله إيّاها إمّا بإخراجها
من
__________________
كتم العدم بعد
معدوميتها الصّرفة بعدمية ذاتية أو زمانية من دون ارتباط بينها وبينه ولا انتسابها
إليه وتعلّقها به بأن تكون بعد صدورها منه امورا منفصلة مباينة منه بلا تعلّق
وانتساب وارتباط أو بإظهارها متعلّقة مرتبطة به مضافة منتسبة إليه.
والأوّل باطل قطعا
، لاقتضائه انتفاء المناسبة والتلازم بين العلّة والمعلول ؛ إذ الانفصال والمباينة
من كلّ وجه بلا ربط وتعلّق ونسبة يرفع التلازم والمناسبة قطعا ؛ كيف لا والتلازم
أقوى التعلّقات والارتباطات؟! وأيضا يلزم إمكان تقرّرها وتحقّقها وبقائها مع
انتفاء العلّة الواجبة ؛ وفساده ظاهر.
والثاني ـ أي
جعلها وإفاضتها مرتبطة متعلّقة به ـ إنّما يكون بترتّبها عليه وتبعيتها له كتبعية
الظلّ لذي الظلّ والعكس لذي العكس. فجعلها حينئذ بتبعيتها له وترتّبها عليه ؛ ولا ريب في أنّ التبعية والترتّب فرع
الربط والنسبة ؛ إذ بدون الارتباط والاضافة لا يتصوّر الترتّب والتبعية. فتحقّق
التابع فرع نسبته إلى المتبوع ؛ وحينئذ يرد الإشكال من وجهين :
[الأوّل :] أنّ النسبة والإضافة والارتباط وما يجري مجرى ذلك فرع وجود
المنتسبين والمضافين والمرتبطين ، فكيف يكون موجودية أحدهما ـ أي الوجودات الخاصّة
ـ بذلك الانتساب المتوقّف ثبوته وتقرّره على وجود ذلك الظرف؟!
[الثاني :] أنّ هذا الارتباط والإضافة والانتساب إمّا نفس المرتبط
والمضاف والمنتسب حتّى يكون الوجودات الخاصّة مجرّد ارتباطات وإضافات ونسب للواجب
بأن يكون إضافات حقيقية ؛ أي مضافة بالذات لا باعتبار عروض الإضافة لها ويكون
وجودها من حيث هي وجودها من حيث مضافة كالابوّة ؛ إذ ليس وجودها سوى أنّها مضافة
إلى غيرها بأن يكون الوجود الخاصّ شيئا له
__________________
ارتباط وإضافة
حقيقية ؛ فعلى الأوّل يكون المجعول / B ٥٣ / بالذات ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ أمرا اعتباريا منتزعا
من الواجب تعالى ؛ إذ مع كونها مجرّد إضافات لازمة تابعة بذاتها لذات الواجب
منتزعة عنه بلا توسّط إضافة اخرى تكون نسبتها إليه كنسبة الابوّة المنتزعة بذواتها
عن محالّها لا يمكن أن تكون امورا متحقّقه في الخارج ؛ إذ المتحقّق المباين لا
يكون تبعيته وارتباطه إلّا بإضافة حقيقية أو معيّة وتلازم ؛ وإذا كانت اعتبارية لا
يكون المجعول بالذات أمرا محقّقا ؛ وهو خلاف ما تقرّر سابقا من كون المجعول بالذات
أمرا متحقّقا متحصّلا وخلاف ما حكمتم به من أنّ الوجودات الخاصّة مع تعلّقها
بالعلّة ، بل مع بقائها ـ لأنّه لا ينفكّ عن التعلّق ـ امور متحقّقة ذوات آثار
خارجية ، بل خلاف البديهة ؛ إذ قد عرفت وفاق الكلّ على أنّ للواجب تحقّقا خارجا عن جميع الموجودات الممكنة ؛ فللواجب تحقّق
مغاير لوجود الفلك مثلا والضرورة قاضية بأنّ الفلك الموجود المشاهد الذي مغاير
للواجب في التحقّق والوجود ، بل في الإدراك والتعقّل والآثار أمر متحقّق له آثار
خارجية بشرط وجود الواجب ، لما عرفت من أنّ المعلول مع قطع النظر عن العلّة
محض العدم.
وعلى هذا ، فالقول
باعتباريته خلاف البديهية على أنّ كون تلك الوجودات الخاصّة مجرّد ارتباطات
وإضافات عارضة للواجب بذاتها إنّما يتصوّر إذا وجد امور متحقّقة تكون هذه الإضافات
إضافات وارتباطات بينها وبين الواجب ؛ إذ الإضافة والنسبة بمعناها المتعارف إنّما
تكون بين شيئين إلّا أنّ الإضافة إنّما هي نسبة متكرّرة والنسبة أعمّ من أن تكون
متكرّرة أم لا ؛ ولذا قيل : إنّ النسبة تكون لطرف واحد والإضافة تكون للطرفين ؛
مثلا إذا أخذت السقف مستقرّا على الحائط أخذت النسبة من جهة السقف المستقرّ وحكمت بأنّ السقف له نسبة
إلى
__________________
/ A ٥٤ / الحائط ؛ وأمّا جانب الحائط فلا نسبة فيه إلى شيء ؛ أي
من حيث هو حائط ؛ وأمّا إذا أخذت النسبة من حيث السقف مستقرّ على مستقرّ عليه
والحائط مستقرّ عليه مستقرّا ، فعكست النسبة وصارت إضافة ؛ فكلّ نسبة لا تؤخذ من
الطرفين جميعا من حيث هي نسبة فهي نسبة غير إضافة وكلّ نسبة يؤخذ الطرفان فيها من
حيث النسبة فهي إضافة.
فظهر أنّ كلّا من
النسبة والإضافة علاقة بين شيئين إلّا أنّها إن اخذت من أحد الطرفين فهي نسبة ؛
وإن اخذت من كليهما فهي إضافة ؛ فلو كانت الوجودات الخاصّة إضافة أو نسبة للواجب
يلزم أن يكون نسبة له إلى غيرها وليس الأمر كذلك وكذا لو كانت ارتباطا لزم أن يكون
ارتباطا بين الواجب وغيره وهو باطل. فإطلاق النسبة والإضافة والارتباط بمعناها
الظاهر عليها غير صحيح ، بل إنّما يصحّ إذا اخذت بمعنى اللازم له لذاته أو التابع
والمنتزع عنه كذلك ، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة ؛ فإنّه يصدق عليها اللازم لذاته والتابع والعارض والمنتزع ولا يصدق عليها النسبة
والإضافة والارتباط.
وعلى الثاني ـ أي
كون انتساب الوجودات الخاصّة إلى الواجب وارتباطها به بواسطة إضافة اخرى غير ذاتها
، كما في انتساب الابن إلى الأب بواسطة الابوّة ـ لا تكون تلك الوجودات المرتبطة
مجعولة بالذات ، بل يكون المجعول بالذات إضافتها وارتباطها ؛ وعلى هذا لا تكون تلك
الوجودات مجعولة بذاتها ولا مرتبطة بالعلّة بذاتها ، فلا تكون معلولة بذاتها ؛
فتخرج عن المعلولية بالكلّية ؛ إذ المعلول ما هو بذاته أثر ومفاض ومرتبط بالعلّة ،
كما أنّ العلّة ما هو بذاته موجد ومفيض ؛ وعلى المفروض يكون المعلول المجعول بذاته
هو وصفها الخارج من ذاته وهذا الوصف هو المرتبط بالواجب لذاته ولو فرض ارتباطه به بارتباط
__________________
آخر وجب الانتهاء
إلى مرتبط بذاته دفعا للدور أو التسلسل.
وبالجملة : إذا كان المجعول بذاته هذه الإضافة الخارجة عن حقيقة الوجودات / B ٥٤ / الخاصّة لم تكن تلك الوجودات معلولة بالذات ؛ هذا خلف.
قلنا ـ بعد التنبيه على أنّ إطلاق المرتبط والمنتسب والمضاف على الوجودات الخاصّة ليس بمعنى الشيء الذي يرتبط
بالواجب بارتباط آخر ، لما تقدّم من المحذور ، بل بمعنى نفس الارتباط والنسبة
والإضافة لا بمعناها المتعارف المستلزم لوجود الطرفين وإلّا لزم أن تكون الوجودات
الخاصّة نسبة بين الواجب وغيره وتنتزع عن الواجب وغيره بملاحظة هذا الغير كالابوّة
المنتزعة عن الأب بملاحظة الابن ، بل بمعنى اللوازم والتوابع بذاتها والمتعلّقات
والمترتّبات بأنفسها على ذات واحدة من دون توقّف على ملاحظة ذات آخر
ولا على علاقة اخرى تكون رابطة بينها وبين الواجب ، بل ذات الواجب بذاته يستتبعها
وهي بأنفسها يلزمها ويتبعها ـ : إنّ اللوازم والتوابع لشيء بذاتها تختلف في
التحقّق والاعتبارية باختلافه ؛ فإنّ الماهيّة لكونها ضعيفة الوجود والتحقّق تابعة
فهما للوجود الخاصّ يكون لازمها أمرا اعتباريا كالزوجية لماهيّة الأربعة ؛ والوجود
الخاصّ الإمكاني لكونه أقوى منها في التحقّق وإن كان مشوبا بظلمة العدم يكون
للازمه نوع تحقّق أضعف من تحقّقه كالحرارة للنار والبرودة للماء ؛ فإنّهما لازمان تابعان لهما مترتّبان بذاتهما على ذاتهما
من دون توسّط أمر آخر تابعيتهما لهما لأجله ولهما نوع تحقّق أضعف من
تحقّقهما وكذا النور التابع للمضيء والظلّ التابع لذي الظلّ ؛ فإنّ تبعيتهما نفس
ذاتهما من دون توسّط علاقة اخرى رابطة بين التابع والمتبوع ولهما نوع تحقّق وإن
كان تبعيا.
__________________
وبالجملة : تختلف التوابع واللوازم في التحقّق والاعتبارية باختلاف المتبوعات والملزومات
فيهما. فلازم صرف الوجود الحقّ ينبغي أن يكون في التحقّق والثبوت أقوى من كلّ تابع
وإن كان مترتّبا عليه بذاته متعلّقا به بنفسه مترشّحا عنه من دون توقّف على واسطة
اعتبارية ، وأيّ دلالة وبرهان على أنّ ما يلزم كلّ شيء ويتبعه يلزم أن يكون
اعتباريا / A ٥٥ / والعقل إذا لم ينقبض من لزوم
اعتباري محض أو نفس أمريّ لشيء وترتّبه عليه بذاته لا ينقبض أيضا من لزوم أمر
متحقّق لذات كاملة في التحقّق ويترتّب عليه من دون توقّف على أمر آخر ؛ إذ ليس
ترتّب النور على المضيء وتبعيته ولزومه كلزوم الزوجية للأربعة في عدم واسطة رابطة
بينهما مع النور الشمسي الشمس أمر متحقّق ينوّر الظلم ويوضح البهم ويشفي ويمرض
ويحيى ويهلك ويصلح ويفسد وينبت ويحرق إلى غير ذلك من الآثار الخارجية العجيبة
والأفعال الواقعية الغريبة ؛ والزوجية مجرّد اعتبار لا يترتّب عليها أثر خارجي ؛
فماهيّة الأربعة لكونها اعتبارية موجودة في الذهن لا يوجد لازمها أيضا إلّا فيه ،
فترتّبها عليه ترتّب ذهني ؛ والجسم المضيء لكونه متحقّقا موجودا في عالم الحسّ
لازمه أيضا يوجد فيه وترتّبه عليه ترتّب حسّي ؛ وصرف الوجود الحقّ لكونه متحقّقا
في عالم التجرّد فما يتبعه ويلزمه ويترشّح عنه بلا واسطة يكون متحقّقا فيه ويكون
ترتّبه ترتّبا يليق بذلك العالم وترتّبا يكون بين المجرّدات. نعم مقتضى معلوليته
وتبعيته أنّه لو قطع النظر عن علّته يكون محض العدم.
فثبتت الاعتبارات
المذكورات ويحصل به الجمع بين كلمات الكلّ من أعيان الحكماء وأعلام
العرفاء ويطابق ما جاء به أرباب الوحي وأصحاب الشريعة. فجميع الوجودات الخاصّة
الإمكانية فائضة مترشّحة من الوجود الحقّ على
__________________
الترتيب اللائق
الذي يحصل به ربط الوحدة بالكثرة ؛ فيترشّح بعضها من بعض ويترتّب بعضها على بعض
إلى آخر سلسلة الوجود نظرا إلى أنّ إيجاد الواجب للأشياء على هذا النحو من ربط
المسبّبات بالأسباب أشرف وأكمل وعلى علوّ القدرة أدلّ من إيجاد كلّ شيء بذاته من
دون مدخلية لغيره من معلولاته فيه بالتأثير والشرطية ؛ إذ كلّ ما له تأثير ومنشئية
أثر أشرف من نفسه إذا كان فاقدا لذلك ؛ ولا ريب في أنّ المصنوع كلّما كان أشرف كان
الصنع أقوى وأتمّ. كيف / B ٥٥ / وانتفاء التأثير ومنشئية الآثار
والخواصّ عن الأشياء يوجب تعطيلها في الوجود؟! وهو لا يناسب علوّ القدرة على أنّه
لا مناسبة للأشياء الخسيسة مع الحقّ الأوّل والجمال المطلق حتّى يصدر عنه بلا
واسطة.
وبذلك يظهر أنّ
كون الوجودات الخاصّة المعلولة متحقّقة ذوات آثار خارجية أنسب بعلوّ القدرة من
كونها اعتبارية فاقدة للآثار العينية.
نعم لو قطع النظر
عن تابعيتها للواجب ولوحظت من حيث ذواتها الإمكانية لكانت محض الأعدام كما مرّ
مرارا.
ثمّ كما ظهر وعاء
كلّ لازم وتابع هو وعاء متبوعه وملزومه ؛ فالماهيّة لمّا كان وعائها هو الذهن ،
فلازمها لا يكون إلّا فيه ؛ ولكونها متّحدة مع الوجود الخاصّ في الخارج يكون فيه
بحيث يصحّ أن ينتزع عنها لازمها ؛ والوجودات الخاصّة الإمكانية لمّا كان وعاؤها
الخارج مع كونها مشوبة فيه بظلمات الأعدام ، فتوابعها أيضا كذلك ؛ وأمّا الوجود
الحقّ الذي هو صرف التحقّق وحقيقته هو أنّه في الأعيان ولا يمكن أن يدخل في أوعية
الأذهان فينبغي أن يكون لازمه أيضا كذلك إلّا أنّه لتنزّله عن مرتبة وجود العلّة
وانحطاطه عن بحت الوجود يكون مشوبا بظلمة العدم مخلوطا بالماهيّة المنتزعة عن
حيثية عدمية.
__________________
هذا مع أنّ
الوجودات الخاصّة الإمكانية لو كانت بأسرها اعتبارية فإمّا أن يكون جميعها لازمة
لذات الواجب مترتّبة عليه من دون واسطة أو يكون اللزوم والتبعية بالوسائط. فعلى
الثاني يلزم عليه الاعتباري ومنشئيته للآثار الخارجية وهو بيّن الفساد ؛ وعلى
الأوّل صرف الوجود الحقّ إمّا أن يكون متعيّنا بذاته متشخّصا بنفسه ؛ فلا معنى
لانتزاع المختلفات ولو كانت اعتبارية عن ذات البسيطة المتشخّصة
المتقدّسة عن شوائب الكثرة واختلاف الجهات أو يكون كلّيا مبهما كالطبيعي فقد ظهر
فساده أو مطلقا منبسطا ذا درجات ومراتب فيلزم / A ٥٦ / كونه عين الوجود المنبسط ؛ وقد عرفت أنّ القائلين به
إنّما يقولون إنّه فعله لا عينه لما عرفت من فساد القول بالعينية. فعلى القول به
يكون الوجودات الخاصّة من مراتب أوّل معلولاته ؛ لأنّه من مراتب ذاته المقدّسة ؛
وعلى هذا ما يلزم ذاته ويتبعه أوّلا هذا الوجود ، والماهيّات تكون عارضة لدرجاته منتزعة
عنها ؛ ويكون الفرق حينئذ بين قول القائلين به وقول الحكيم أنّ حقيقة الممكنات
عندهم شيء واحد هو الوجود المنبسط وإنّما يحصل التعدّد والتعيّن بالماهيّات ؛
وعنده امور متعدّدة مختلفة متباينة هي الوجودات الخاصّة.
فالمنبسط عند
الصوفية بمنزلة الوجودات الخاصّة عند الحكيم. فعلى القول به وإن لم يلزم نقص وقصور
لساحة عزّه وكبريائه إلّا أنّ إثبات وجود مثله وإدراك إطلاقه ودرجاته وتقيّده بالماهيّات المختلفة وتخصيص كلّ درجة منه بمهيّة خاصّة مع
عدم كونه ذا أجزاء مختلفة ممّا لا يمكن بطريق النظر. فتثبت في هذا المقام الذي
زلّت فيه الأقدام ، وحارت فيه العقول والأفهام ، وانكسرت فيه رءوس الأقلام ؛ ولعلّ
ما أرشدتك إليه هو الصراط المبين الذي لا ينبغي أن ينحرف عنه إلى الشمال واليمين.
__________________
هذا وقد أجاب
بعضهم عن الإشكال الأوّل بأنّ للوجودات وجودين أحدهما في الشهود العلمي قبل الوجود
العيني وسمّوها باعتبار هذا الوجود مخاطبة بخطاب (كُنْ) ومنتسبة إلى الوجود الحقّ ومستضيئة منه الوجود الآخر الذي
هو في الشهود العيني كما يشهد به قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خلق الله الخلق في ظلمته ثمّ رشّ عليه من نوره» إذ الظاهر أنّ المراد بالخلق في الظلمة هو الإيجاد في
الشهود العلمي وبالرشّ من نوره هو الإيجاد في الأعيان ؛ ويشير إليه قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وعلى هذا يكون للموجودات / B ٥٦
/ الإمكانية ثبوت في العلم قبل وجودها في الخارج ؛ فيحصل الارتباط بينها وبين
الواجب نظرا إلى هذا الثبوت وإن لم يوجد في الخارج.
والقول بهذا
الثبوت العلمي نظير قول المعتزلة بثبوت المعدومات الممكنة إلّا أنّ المعتزلة لعدم
قولهم بالوجود الذهني نسبوا هذا الثبوت إلى الخارج وسمّوه ثبوتا خارجيا واسطة بين
الوجود والعدم ؛ والصوفية نسبوه إلى حضرة العلم وسمّوه بالوجود العلمي ؛ وفيه أنّ
تلك الأعيان الثابتة في الشهود العلمي إمّا تكون مجعولة بجعل الجاعل كما يشير إليه
لفظ «خلق» في الحديث و «جعل» في الآية ، لإشعارهما بأنّ الأشياء في تلك الظلمة
وذلك الثبوت مجعولة مخلوقة أوّلا.
فعلى الأوّل إن كان ذلك الثبوت بانتساب آخر للماهيّات إلى الجاعل وهكذا
فيلزم التسلسل في تلك الثبوتات بحسب الواقع ونفس الأمر ، وهذا باطل ؛ وإلّا لم يكن
كلّ ثبوت ووجود بالانتساب ؛ هذا خلف.
وعلى الثاني تكون تلك الماهيّات في ثبوتها العلمي واجبة لا ممكنة ؛
والمقرّر
__________________
خلافه ؛ لأنّ كلّ
ثبوت ووجود من تلقاء فيضه سبحانه ، والماهيّات في أنفسها أعدام صرفة لا تقرّر لها
بوجه. نعم لو قيل بوجوب ذلك الثبوت العلمي بذاته وكونه في مرتبة وجود الواجب ـ كما
قال بعضهم ـ لأمكن القول بكون موجودية الماهيّات أو الوجودات الخاصّة بالانتساب
الذي لا يتوقّف على وجود أحد الطرفين الذي هو الوجودات الخاصّة أو الماهيّات إلّا
أنّ هذا القول بيّن الفساد.
فالحقّ أنّ
الموجودات العلمية كالعينية مجعولة معلولة ؛ أي تابعة لذات الواجب مترتّبة عليه
بالذات. فذات الواجب سبحانه علّة لتمثّل نظام الكلّ في ذاته ومترتّبة عليه ، كما
أنّه علّة لظهوره في الخارج وترتّبه عليه فيه.
ثمّ الواجب كما
أنّه علّة تامّة لإيجاد الكلّ فكذلك علّة تامّة للعلم به من دون توقّف على شرط
واستعداد ؛ وبعض المدارك كالنفس الإنسانية لمّا لم يكن بذاته علّة لارتسام الأشياء
/ A ٥٧ / في ذاتها ، بل
فيضان الصور وارتسامها فيها على حسب استعدادها وحصول شرائطها ؛ فلا تترتّب الصور العلمية على مجرّد ذاتها ، بل يحصل الصور فيها على
حسب استعدادها وتهيّأها.
وعلى هذا فالمراد
من الآية والحديث أنّ الوجودات الممكنة كلّها مجعولة ؛ والثبوت العلمي أيضا مجعول
مفاض من الواجب تعالى إلّا أنّ مراتبها لمّا كانت متفاوتة فالثبوت العلمي لضعفه
وعدم ترتّب أثر عليه وعلى الماهيّات في تلك المرتبة إلّا أنّ كونها منشأ للعلم
سمّي ذلك الثبوت ثبوتا علميا وسمّيت الماهيّات في تلك المرتبة أعيانا ثابتة وسمّي
كلاهما ظلمة وظلمات بالنسبة إلى نور الوجود الذي يفيضه الجاعل بعد تلك المرتبة
بحيث تعرضه الماهيّات وتوابعها ويصير هذا الوجود وكذا الماهيّات معه منشأ للآثار
الخارجية ولذلك سمّي الوجود في المرتبة الثانية نورا.
__________________
وأمّا ما ذكره هذا
القائل من أنّ الأشياء بالثبوت العملي مخاطبة بخطاب (كُنْ) فمراده أنّ توجّه الخطاب إلى مخاطب لا بدّ أن يكون مسبوقا
بثبوته قبل هذا الخطاب ؛ فلو لا ثبوت الأعيان الممكنة في الشهود العلمي لما أمكن
توجّه خطاب الإيجاد إليها ولما حصل وجود لها.
ومقتضى كلامه أنّ
الموجودات في وجوداتها العينية التفصيلية مسبوقة في خطاباتها الإبداعية والتكوينية
التي بها تحصل لها أنوار الموجودات العينية بثبوت علمي على التفصيل وهي بذلك
الثبوت علوم تفصيلية بحقائقها العينية ؛ وأمّا في خطاباتها التي لها ثبوتها العلمي
فغير مسبوقة بثبوت آخر كذلك ، بل ذات موجدها التي هي أصلها ومنشأها وعلم إجمالي
بها كافية بذاتها في هذا الخطاب ؛ وجليّة الحال فيه ممّا ذكرناه ظاهرة.
[في أنّ الماهيّات مجعولة بتبع الوجودات]
يتّضح بها ما
ذكرناه من الجمع بين القولين من ثبوت الكثرة والوحدة والجعل والتجلّي والإفاضة
والظهور وفي المظاهر الاول.
قد سمعت في الكتب
العقلية أنّ المعلول يناسب العلّة من وجه ويباينها من / B ٥٧ / وجه ؛ ولا ريب في أنّ الوجودات الخاصّة الإمكانية
الفائضة منه تعالى كذلك ؛ فإنّها من حيث الأصل والسنخ واحدة مناسبة له تعالى ومن
حيث نقصان الكمالات وتبعية الماهيّات لها متعدّدة مباينة له سبحانه ؛ وكان المراد
بوحدة الوجود وكثرة الشئون ليس إلّا ذلك ؛ وإطلاق الوجود المنبسط أيضا على تلك
الوجودات نظرا إلى وحدتها من حيث الأصل والسنخ غير بعيد ؛ وهذا الوجود
__________________
كما أنّه وجود فهو
أيضا موجود ، كما أنّ النور منوّر ؛ فكما أنّ الوجود واحد بالأصل والسنخ ومتكثّر
باعتبار التقيّدات ونقصان الكمالات وتبعية الماهيّات ، فكذلك الموجود بهذا المعنى
ـ أي الموجود المجعول بالذات الذي هو الوجود ـ واحد ومتكثّر بالاعتبارين ؛
والمجعول بالعرض ـ أعني الماهيّات ـ متعدّدة بأنفسها ؛ لأنّها لوازم النقائص
المتكثّرة بالإضافة إلى الكمالات ؛ فصرف الوجود الحقّ واحد في غاية الكمال والجمال
، وجامع لجميع الكمالات الذاتية ؛ والوجودات الفائضة منه المتّحدة في الأصل والسنخ
فاقدة لهذه الكمالات كلّا أو جلّا ؛ ولاختلافها في هذا الفقد يتكثّر ويتعدّد
بمراتب الفقدان والعدمات المضافة إلى تلك الكمالات لا بالعدم الصّرف حتّى يرد أنّ
حقيقة العدم كحقيقة الوجود المقابلة لها واحدة لا تعدّد ولا تمايز فيها ، فكيف
تتكثّر الوجودات بالعدم الذي لا تعدّد ولا تمايز فيه؟!
فكلّ وجود فاقد
لمرتبة من المراتب الكمالية حقيقة بنفسها ممتازة عمّا سواه بذاته وحقيقته لا
بالماهيّة. نعم الماهيّات أظلال وأشباح لتلك الوجودات وكالأسماء والأمارات لها ؛
إذ لا يمكن التعبير عن تلك الوجودات أو الإشارة إليها بخصوصياتها إلّا بها (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) . فالماهيّات عوارض تلك الوجودات المقيّدة لا مثل ساير
العوارض ، بل عروضها له كعروض الاسم للمسمّى واللفظ للمعنى ؛ وهي ما شمّت رائحة
الوجود بالذات ، بل إنّما شمّتها بالعرض من قبل معروضاتها ؛ أعني الوجودات الخاصّة
التي هي شمّتها بالذات من قبل مفيضها وموجدها / A ٥٨ / الذي هو صرف الوجود وبحت الفعلية والنور. فالماهيّات
مجعولة بالعرض ؛ أي بتبعية الوجودات التي هي مجعولة بالذات.
__________________
[في استحالة إدراك الواجب إلّا بتوسّط المجالي ، لشدّة ظهوره]
الواجب صرف الوجود
والظهور وبحت الإنّية والنور ؛ ولشدّة ظهوره لا يمكن إدراكه إلّا بتوسّط المظاهر
والمجالي. أولا ترى أنّ بعض الأنوار الحسّية كالنور الشمسي مثلا مع كونه من أنزل
مراتب تنزّلات النور الحقيقى قد بلغ من شدّة الظهور والإشراق بحيث لا يدركه
الأبصار سيّما أبصار الغوامش والخفافيش ؛ وبهذا الاعتبار صار مخفيّا ومحجوبا لكنّه
بحيث إذا ارتبط بالأشباح والأظلال واشتبك مع الأعدام والظلام بحسب أطواره
وتنزّلاته ومراتبه ودرجاته واحتجب بالحجب بحسب شئونه واعتباراته صار بحيث يمكن أن
يدركه الأبصار بحسب استعداداتها.
وكلّ من تلك
الأنوار المشتبكة فائضة من نور الشمس وموجودة بواسطته ؛ فهي مظاهرها ووسائط ظهورها
وأدلّة وجودها ولو لم يكن ذلك الارتباط والاشتباك لم يكن لنور الشمس ظهور في
الأبصار مع أنّها في حدّ ذاتها في غاية الظهور والجلاء وأنّ تلك الأظلال والأشباح
فاقدة للنور في أنفسها وأنّ الشمس إذا ظهرت بنفسها لم يبق لها نور ووجود وإن كان
ظهور نور الشمس بها مع أنّ ظهورها بحسب الحقيقة بنورها ؛ فصارت غاية الظهور
والجلاء سببا للبطون والخفاء ؛ والارتباط والاشتباك بالحجب والأستار موجب للبروز
والانجلاء ؛ وهذه الانوار بحسب السنخ والأصل واحدة وبحسب المظاهر والمجالي
متكثّرة.
فكذلك صرف الوجود
الحقّ مع كونه في غاية الجلاء والظهور ، بل عين الظهور والنور ومنه يفاض كلّ نور
ووجود ، بلغ من شدّة الظهور والنورية حدّا لا يمكن
__________________
أن تدركه البصائر
وتعرفه الضمائر ؛ فتجلّى بقدرته الظاهرة في مجالي المظاهر والأعيان وفي هياكل
الماهيّات والأكوان بأن أفاض من ذاته بذاته وجودات مقيّدة بقيود / B ٥٨ / نقائص الإمكان ، مشتبكة بظلمات الأعدام والفقدان ، ممازجة بالماهيّات الإمكانية ،
مخلوطة بالحجب الظلمانية ، مختلفة بحسب ذواتها وفقد الكمالات ، متباينة باختلافها
في حصول بعض الفعليات حتّى يمكن أن يدركها العارفون لخروجها عن صرافة الوجود
والنور وممازجتها بظلمات الإمكان والقصور وينتقلوا منها إلى الوجود الحقيقي الذي
هو مبدأها وموجدها ؛ فهي بحسب تقيّداتها واشتباكها بالماهيّات مظاهر وجود الحقّ ؛
لأنّها لقصورها ونقصان كمالاتها لا بدّ أن ينتهي إلى وجود كامل بالذات مستجمع
لجميع الكمالات لكنّها بحسب ذواتها بحيث لو لم يظهر الوجود الحقّ ولم يظهرها
بالإفاضة والجعل لم يكن لها ولا للماهيّات التابعة لها ثبوت وظهور.
فالوجود الحقّ
لغاية ظهوره صار محجوبا خفيّا وباحتجابه وبطونه صار ظاهرا جليّا ؛ فسبحان من احتجب
بغير حجاب وستر بغير ستر ، علن فبطن وبطن فعلن ؛ فبالحقّ ظهر الخلق وبالخلق ظهر
الحقّ ؛ وإن اختلف الظهوران فكلّ من الحقّ والخلق مرآة لمشاهدة الآخر من وجه ؛
وكما أنّ المرآة الحسّية لا بدّ أن لا يكون لها صبغ ولون حتّى يظهر فيها المرئي
وكذا المرئي لا بدّ أن يكون له صبغ ولون في الجملة ليظهر صورته فيها ، كذلك المرآة
المعنوية التي هي الماهيّات لا بدّ أن لا يكون لها في حدّ ذاتها لون الوجود
المقيّد ، بل يجب خلوّها عن ألوان الوجودات حتّى يمكن أن يظهر فيها المرئي الذي له
لون الوجود في الجملة ؛ أعني صور الوجودات المقيّدة المعبّر عنها بلسان الشرع
بصبغة الله ومن الله صبغة ؛ ولذا
__________________
كانت الماهيّات في
أنفسها أعداما صرفة تتراءى فيها تلك الوجودات الممتزجة بأعدام النقائص وفقد
الكمالات ؛ وكما لا يمكن أن تتكرّر صورة المرئي في المرآة الواحدة فكذلك لا يمكن
أن يتكرّر ظهور الوجود المقيّد في الماهيّة ، كما شاع من الصوفية أنّ الله تعالى
لا يتجلّى في صورة مرّتين ؛ وكما لا يمكن أن يظهر في المرآة صرف النور الغير
الممازج بلون الظلمة والكثافة / A ٥٩ / فكذلك لا يمكن
أن يظهر في الماهيّة صرف الوجود الحقّ المعرّى في ذاته بذاته عن التقيّد والظلمة
اللذين هما بمنزلة الصبغ واللون.
[في أنّه تعالى أصل الكلّ ومبدؤه وموجد الجميع ومنشئوه ، وفي أنحاء تجلّياته
ومظاهره]
ذات الله الذي هو
بذاته محض الوجود وصرف الإنّية والنور ، بحت الغيب وغيب الغيوب ، بل فوق كلّ غيب
وظهور ، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ومنبع كلّ بهاء وكمال ، ومنشأ كلّ
حسن وجمال ، أصل كلّ أصل وفرع ، ومصدر كلّ أثر وفعل ، تجلّى من المرتبة الأحدية
الذاتية وغيب الهويّة الواجبية إلى المرتبة الإلهية وحضرة الأسماء والصفات
الجلالية إجمالا وتفصيلا وجمعا وفرادى على نحو لا يعرفه العارفون ، بل يعجز عن معرفته الراسخون.
فكما أنّ ذاته
بذاته وجود وموجود باعتبار ، فكذلك علم وعالم باعتبار ، وقدرة وقادر باعتبار إلى
آخر صفاته العليا وأسمائه الحسنى على الترتيب العقلي الواقعي ؛ فإنّ العقل يلاحظ
أوّلا ذاته الموجودة ووجوده ثمّ الحيّ وحياته ثمّ العالم وعلمه ثمّ القادر وقدرته
إلى آخر الأسماء والصفات ثمّ تجلّى من تلك الحضرة
__________________
الوحدانية
والمرتبة الإلهية إلى حضرة الربوبية والخالقية ، أي إلى مظاهر تلك الأسماء والصفات
بإيجاد المظاهر الإبداعية والتكوينية وإفاضة المجالي الأمرية والخلقية وإظهار
المرايا الآفاقية والأنفسية بنحو آخر من التجلّي وراء الأوّل ؛ فإنّ تجلّي الذات
إلى حضرة الأسماء والصفات إنّما هو بالجهات والاعتبارات وكلّها عين الذات باعتبار
؛ وأمّا تجلّيه إلى مظاهره فليس كذلك ؛ لأنّها غير الذات غيرية واقعية إلّا أنّها
مناسبة له مناسبة المعلول للعلّة والفرع للأصل والظلّ للنور.
الحاصل : أنّه أفاض من ذاته بذاته مظاهر لأسمائه وصفاته على مناسبة
يعرفه العارفون وبعضها مظاهر جمعها إجمالا وتفصيلا معا وبعضها مجالي بعضها كذلك
وهي مترتّبة بعضها فوق بعض وبعضها مناسب لبعض وبعضها مناف لبعض ؛ وهذا الترتيب
والتقدّم والتأخّر الواقعة في مراتب تجلّيات الذات إلى / B ٥٩ / حضرة الأسماء والصفات وكذا إلى مظاهرها يسمّى تارة
بالتقدّم بالحقّ واخرى بالتقدّم بالحقيقة واخرى بالتقدّم بالذات ؛ ولا مشاحّة في
التسمية.
فالعالم بجميع
أجزائه ـ وهو الإنسان الكبير ـ مظهر جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا من الجلالية
والجمالية والمركّبة منهما باعتبار ومجلى اسم الله الذي هو الجامع للأسماء كلّها ؛
لأنّه اسم للذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية باعتبار آخر ومظهرية جميع العالم
تفصيلية عينية وتميزية.
والإنسان ـ وهو
العالم الصغير ـ مرآة صغيرة هي مظهر لمشاهدة جميع أسمائه وصفاته مشاهدة بين
الإجمال والتفصيل ، كالعالم بجميع أجزائه ؛ فهو مختصر منتخب من العالم الكبير الذي
هو تفصيل الحضرة الأحدية والحضرة الإلهية والحضرات الأسمائية والصفاتية وخلاصة
حضرات الأسماء والصفات وكتاب الموجودات.
والحاصل : أنّه تعالى تجلّى إلى عالم الإنسان ؛ أي أفاض وجودا كاملا
مستتبعا للماهيّة
الإنسانية ؛ فجعله موجودا متّصفا بصفاته إلّا أنّ وجوده وصفاته عين ذاته ، ووجود
الإنسان وصفاته غير ذاته ؛ فهما في أصل الصفات مشتركان وإنّما التفاوت بالعلّية
والزيادة والوجوب والإمكان والتمامية والنقصان وساير الأحكام التي
تحصل للصفات بانتسابها إلى الموصوف من القدم والحدوث والكمال والقصور والتعلّق
بغيره من المادّة أو الماهيّة والتجرّد عنه بالكلّية ؛ فالعقل إذا يجرّد الصفات عن
الأحكام التي بها التفاوت يجد كلّها موجودة في الإنسان. فهو مأمور بأن يثبت للواجب
ما يجده في العالم وفي نفسه من صفات الكمال ، كما أنّه مأمور بالإيمان بوجود موجود
يكون على أشرف أنحاء الوجود والصفات ؛ ومقدّس عن كلّ نقص يجده في العالم وفي نفسه.
وعند هذا يظهر
سرّ قوله
: «من عرف نفسه فقد
عرف ربّه» ولا لغيرك ما ذكرناه حتّى تعقل عن جلالة الربّ وتجري على
الأقدام في وادى إثبات الصفات.
فيقع في مبدأ
الهلاكة فيضلّ ؛ فإنّ / A ٦٠ / ما ذكرناه
تنبيه وتلويح لا إيقان وتحقيق بالأسر ؛ إذن الناسوت مزيل سرادقات جمال اللاهوت. «فكلّ
ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم» يا للتراب وربّ الأرباب.
هرچه آن بر هم نهاده دست عقل وحسّ
ووهم
|
|
كبريايش سنگ بطلان اندر آن انداخته
|
__________________
به خيال در نگنجد ، تو خيال خود مرنجان
كما يصحّ أن يقال : إنّ ذاته تعالى تجلّى من مرتبة ذاته الأحدية إلى حضرة
أسمائه وصفاته ثمّ إلى مظاهرها كذلك يصحّ أن يقال : إنّ حضرة الأسماء والصفات
تجلّى إلى مظاهرها. فذاته تعالى كما أفاض من ذاته صفاته فكذلك صفاته التي هي عين
ذاته باعتبار وتجلّيات ذاته باعتبار آخر وأسبابه التي هي عبارة عن ذاته ملحوظا مع
صفاته أفاضت صفات المخلوقين وأسمائهم ؛ وكما أنّ ذواتهم مظاهر ذاته وصفاتهم مظاهر
صفاته ومجعولات ذاته كذلك هي مجعولات صفاته التي هي عين ذاته وأسمائه التي هي ذاته
بملاحظة صفاته ؛ والكلّ راجع إلى الذات الحقّ وصرف الوجود المطلق ؛ فهو أصل الكلّ
ومبدؤه وموجد الجميع ومنشئوه.
[في مراتب عالمى الكبير والصغير ، وأنّه تعالى أصل الوجود ومبدأ الكمال]
مجموع العالم وهو
الإنسان الكبير كشخص واحد له ظاهر هو عالم الحسّ والظاهر والملك والشهادة المطلقة
، وباطن هو عالم البرزخ والمثال والشهادة المضافة والملكوت الأسفل ؛ ولهذا الباطن
باطن هو عالم الأرواح والعقول وعالم الملكوت الأعلى والغيب المضاف ، ولهذا الباطن
أيضا باطن هو الغيب المطلق وعالم الجبروت وحضرة الأسماء والصفات الإلهية ، ولهذا
الباطن أيضا باطن هو غيب الغيب ومنقطع الإشارة وحضرة الوجود البحت ومرتبة الأحدية
وهو النور المفيض لكلّ نور والظهور المظهر لكلّ ظهور والوجود الموجد لكلّ وجود ، وتلك
المراتب مترتّبة بعضها فوق بعض والعوالم / B ٦٠ / الثلاثة الاول مظاهر ذاته ومجالى أسمائه وصفاته.
وإذ عرفت ذلك في
مجموع الموجودات الذي هو الإنسان الكبير فاعلم أنّ حكم الإنسان الذي هو العالم
الصغير وخلاصة الموجودات وفذلكة حساب الكائنات وآخر النشأت الإمكانية باعتبار وأوّلها باعتبار آخر كذلك ؛ إذ له ظاهر
هو البدن ، ولهذا الظاهر باطن هو القوى السارية فيه ، ولهذا الباطن أيضا باطن هو
النفس المجرّدة ، ولهذا الباطن باطن هو الروح القدسي ـ أعني العقل الأخير الواقع في
سلسلة العقول الطولية ـ ولهذا الباطن أيضا باطن إلى أن ينتهي إلى الوجود الحقّ
الحقيقي.
وكما أنّ مراتب
الحسّ والمثال والأرواح والعقول من أجزاء العالم والمرتبتين الأخيرتين خارجتان
عنها وإنّما يصل بعض أجزائه ـ أعني العقول ـ إليهما بالاتّصال فكذلك هذه المراتب
الثلاث داخلة في الإنسان والمرتبتان الأخيرتان خارجتان منه وإنّما يصل بعض أجزائه
وهو النفس المجرّدة إليهما بالاتّصال.
وكما أنّ البدن
وقواه وما في القوى من النفوس والصور الجزئية والنفس المجرّدة وما فيها من الصور
الكلّية والعقول وما يثبت فيها من الامور اللائقة كلّها من فيض الحقّ ومظاهر
أسمائه وصفاته لكن بالترتيب ؛ فإنّ حياة البدن بالقوى السارية فيه وحياتها بالنفس
المجرّدة وحياتها بروح القدس وحياته بالأخرة بالوجود الحقّ كذلك حال مجموع العالم
؛ فإنّ حياة مجموع الأجسام بالطبائع والقوى السارية فيها وحياتها بالنفس القدسية
المتصرّفة في تلك القوى وحياتها بالعقول وحياتها بالوجود الحقيقي الذي هو الحيّ
بذاته الكامل في صفاته ، فلا وجود ولا موجود ولا حيّ ولا حياة ولا كامل ولا كمال
ولا علم ولا عالم ولا قدرة ولا قادر إلّا هو تعالى شأنه.
__________________
[في حضرات الأسماء والصفات ، والعوالم التي هي أفعاله تعالى ومظاهر أسمائه
وصفاته ، وكيفية الصدور]
لا ريب / A ٦١ / في أنّ الفعل معناه التأثير أو الأثر نفسه والصفة مبدأ
والاسم في شأنه إنّما يطلق على الذات المقدّسة مع ملاحظة صفة من صفاته ؛ لأنّ
ملاحظة الذات بذاته من حيث ذاته غير ممكن ؛ وكما أنّ صفاته تعالى بكثرتها منحصر
اصولها في أربعة أقسام فكذلك أسمائه الحسنى منحصر في هذه الأربعة ، لما عرفت من
أنّها يطلق على الذات بملاحظة الصفات.
وبيان التربيع في
صفاته أنّ صفاته تعالى إمّا سلبية أو ثبوتية ، والسلبية صفات مفهوماتها السلوب المضافة
إلى أشياء اخر كان يلاحظ فيها نفي ما لا يليق بجنابه وسلب ما لا ينبغي أن يسند إلى
بابه من نقائص الحدثان وقصورات الإمكان ؛ وذلك كالغنى والتسبيح والتقديس ،
والأسماء بإزائها الغنيّ والسبّوح والقدّوس ؛ والثبوتية صفات مفهوماتها ثبوت أمر
ليس سلبيا وهي إمّا مفهومها مجرّد الإضافة كالخالقية والرازقية ؛ والاسم في هذه
المرتبة كالخالق والرازق ؛ ويسمّى هذا القسم عند بعض بصفات الفعل وعند آخرين ترجع
هذه الإضافات كلّها إلى أمر واحد هو صفة الذات ـ أعني المبدئية للكلّ ـ أو مفهومها
أمر ثبوتي سوى الإضافة ؛ وهذا القسم إمّا لا يحتاج في الحقيقة إلى الإضافة إلى
الغير ولا تعرضه الإضافة أيضا كالحياة والبقاء ؛ والاسم في هذه المرتبة مثل الحيّ
والباقي ؛ وإمّا لا يحتاج في الحقيقة إلى الإضافة لكن تعرضه الإضافة ، كالعلم
والقدرة والسمع والبصر ؛ والأسماء في هذه المرتبة كالعالم والقادر والسميع والبصير
؛ فإنّ كونه عالما وقادرا لا يتوقّف على وجود المعلوم والمقدور وكذا كونه سميعا
وبصيرا ؛ لأنّه تعالى عالم إذ لا معلوم وقادر إذ لا مقدور وسميع وبصير وإن لم يكن
مسموع ولا مبصر إلّا أنّه تعرض لهذه الصفات الإضافة إلى الغير.
وهذه الأقسام
كلّها صفات الذات إلّا القسم الثاني فإنّه مختلف فيه في أنّه مجرّد إضافة أو يرجع
إلى صفة الذات.
والأسماء / B ٦١ / والصفات الجلالية عبارة عن السلبية ، والجمالية عن
الثبوتية عند جماعة ؛ وعند آخرين الجلالية عبارة عمّا يدلّ على القهر والغلبة ،
كالقهّار والجبّار والمتكبّر ، والجمالية عبارة عمّا ينبئ عن اللطف والرحمة ،
كالرحمن والرحيم واللطيف ؛ ولا مناقشة في الاصطلاح.
فظهر أنّ الأسماء والصفات بحسب أصولها
أربعة :
[١.] سلبية
[٢.] وثبوتية ؛ هي
مجرّد الإضافة
[٣.] وثبوتية لا
يتوقّف تحقّقها على الإضافة ولا يعرضها أيضا ؛ وهي الحقيقة المحضة
[٤.] وثبوتية لا
يتوقّف عليها ولكن يعرضها ؛ وهي الحقيقة ذات الإضافة.
وبعضهم قال في
تربيع الأسماء : إنّ أسمائه تعالى منحصرة في أسماء الذات وأسماء الصفات وأسماء
الأفعال ، وأسماء الصفات على قسمين ؛ فالمجموع أربعة.
وبيان ذلك : أنّ الاسم إنّما يطلق على الذات باعتبار نسبة وتعيّن ما ؛
وذلك الاعتبار إمّا اعتبار أمر عارض عدمي إضافي ، كالأوّل والآخر والسبّوح
والقدّوس ؛ لأنّها عبارة عن الذات مع اعتبار الأوّلية والآخرية والتسبيح والتقديس
عن النقائص وهي امور إضافية عدمية ؛ ويسمّى هذا القسم أسماء الذات أو اعتبار أمر
وجودي يعتبره العقل من غير أن يكون زائدا على الذات في الواقع ؛ فهو إمّا لا
يتوقّف على تعقّل الغير ووجوده ، كالحيّ وواجب الوجود ؛ فإنّهما عبارتان عن الذات
مع اعتبار الحياة ووجوب الوجود وهما عين الذات وتعقّلهما لا يتوقّف على تعقّل
الغير أو يتوقّف على تعقّل الغير دون وجوده ، كالعالم والقادر والسميع
والبصير ؛ فإنّها
عبارة عن الذات مع اعتبار العلم والقدرة والسمع والبصر التي هي غير زائدة على
الذات ولكن يتوقّف تعقّلها على تعقّل الغير وإن لم يتوقّف على وجوده لكونه عالما
إذ لا معلوم وقادر إذ لا مقدور وهكذا ؛ يسمّى هذان القسمان أسماء الصفات وإمّا أن
يتوقّف على وجود الغير وعلى تعلّقه به معا ، كالخالق والرازق ؛ ويسمّى هذا القسم
أسماء الفعل. فالأقسام الأوّلية أربعة.
ولو شئت عدّدتها
في التقسيمين ثلاثة بجعل الأسماء التي للإضافة بقسميها في التقسيم الأوّل وأسماء
الصفات بقسميها في الثاني قسما واحدا ولا مشاحّة في ذلك.
وأمّا الاسم الذي
هو الذات مع اعتبار استجماعه لجميع الصفات ، كاسم «الله» الذي هو للذات المقدّسة
المستجمعة لجميع الصفات الكمالية فهو أصل الأسماء وجامعها / A
٦٢ / ويسمّى بالاسم الأعظم والإمام الأعظم والرئيس الأقدم وهو
ليس قسما خامسا أو رابعا ، بل هو عبارة عن مجموع الأقسام وداخل فيها ، بل هو
عينها.
وإذ عرفت أنّ اصول
حضرات الأسماء والصفات أربعة فاعلم أنّ العوالم التي هي أفعاله تعالى ومظاهر
أسمائه وصفاته مع كثرة أشخاصها وعدم تناهيها منحصرة أيضا في أربعة :
الأوّل : عالم الملك والشهادة ؛ وهو عالم الأجسام وما فيها من القوى
والطبائع ؛ ووجوده بديهي محسوس ؛ وينقسم إلى العرش والكرسيّ والسموات والأرضين وما
فيهنّ وما بينهنّ وما تحتهنّ وما فوقهنّ.
والثاني : عالم المثال ؛ وهو عند المشّائين موجود في القوى الدرّاكة
الفلكية والأرضية ، وليس عالما قائما في نفسه خارجا عن عالمى المحسوسات والمعقولات
؛ وعند الإشراقيّين عالم برأسه قائم بذاته موجود بين المحسوسات و
المعقولات وليس
قائما بإحداهما ؛ والامور المشاهدة في النوم إنّما يكون في هذا العالم.
[الثالث :] عالم النفوس الشاملة للنفوس المجرّدة المتعلّقة بالأفلاك
المنطبعة الحالّة فيها وليس لها حال منتظر إلّا ما يفاض عليها من الكمال والفعلية
بتحريك الأجرام بأن تشبه وتناسب بالحقّ الأوّل والعقول القادسة الفعلية من كلّ جهة
وللنفوس الإنسانية المجرّدة التي هي ناقصة في أنّ الحدوث يتكامل بالتدبّر والتصرّف
في الأبدان.
ومن عالم النفوس
عالم الجنّ والشياطين وأشباههم ؛ ويسمّى عالم النفوس بعالم الملكوت الأولى.
[الرابع :] عالم العقول المسمّى بالملكوت الأعلى والملأ الأعلى هي
موجودات مرتّبة
عند المشّائين ؛ وعددها كترتيبها مشهورة.
ومن ذلك العالم
عالم الملائكة المقرّبين باختلاف مراتبهم من مهيمنين والمستغفرين والصافّين
والحافّين والمسبّحين ؛ وعالم الأرواح من روح القدس وغيرها.
فالعوالم أربعة إن
عددت عالم المثل عالما برأسه كما عليه الإشراقيّون ؛ وثلاثة إن لم يكن عالما برأسه
كما / B ٦٢ / ذهب إليه
المشّاءون.
وأمّا عالم
الأعيان الثابتة في الخارج كما ذهب إليه المعتزلة فبيّن الفساد وفي العلم كما عليه
الصوفية ؛ فعلى تقدير ثبوته فليس عالما يكون مظهرا لأسمائه وصفاته ؛ إذ لا تترتّب
عليه آثار إلّا في الشهود العلمي والحضور الانكشافي ؛ فهو ليس عالما
خارجيا آخر.
__________________
وأمّا عالم
الإنسان الصغير الجامع لجميع العوالم فهو وإن كان مظهرا أعظم ونظيرا للاسم الجامع
الأقدم وزبدة الكلّ ومنتخب الجلّ إلّا أنّه ليس عالما برأسه ، بل هو عبارة عن
مجموع العوالم وداخل فيها.
ولنا أن نقول بعبارة اخرى : كما أنّ اصول الحضرات الأسمائية والصفاتية أربعة أو ثلاثة
كذلك اصول المظاهر وأمّهات النشئات الكونية أربعة أو ثلاثة : النشأة الدنيوية
والبرزخية والاخروية المنقسمة إلى النشأة الجنّتية والنشأة النارية ؛ فإن جعلت الاخروية نشأتين فالنشئات أربعة وإن جعلت واحدا
فثلاثة.
وجميع تلك العوالم
والنشئات مظاهر الأسماء وواقعة تحتها ومناسبة لها ؛ وأعداد اصولها مطابقة لأعداد
اصولها وكلّ منها مظهر لما يناسبه وكلّها مرتّبة وفي كلّ مرتبة مراتب لا تحصى كثرة
ولكنّها ليست على السواء ؛ لأنّ بعضها مظهر اسم واحد وبعضها مظهر الأكثر من واحد
وبعضها مظهر الجميع تفصيلا وإجمالا ؛ فلكلّ موجود حظّ من بعض أسمائه دون كلّها سوى
الإنسان ؛ فإنّ له رتبة المظهرية للكلّ ولذا صار قابلا للخلافة الإلهية ؛ فحظّ
الملائكة إنّما هو من اسم السبّوح والقدّوس ؛ فإنّه بعض أسمائه ؛ قالوا : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) وهذا القول من اقتضاء التعظيم والتبجيل ولذلك ما عصوا
ربّهم قطّ ؛ وحظّ الشياطين من اسم الجبّار والمتكبّر ؛ فإنّه أيضا بعض أسمائه ،
كما قال رئيسهم : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وهذا القول من اقتضاء التكثّر ؛ ولذلك عصى وغوى ؛ وكذلك
لكلّ موجود حظّ لا يشاركه فيه غيرها ؛ وليس هذه الخصوصية إلّا لاقتضاء الاسم الذي
هو داخل تحته ؛ والإنسان مظهر جميع الأسماء الجلالية والجمالية : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ولذلك عصى تارة وأطاع اخرى ؛ وليس
__________________
المراد بآدم هو / A ٦٣ / أبو البشر وحده ، بل هو وذريّته المستعدّون بحسب فطرتهم
الأصلية لتعليم الأسماء الإلهية وظهورها فيهم بالقوّة أو الفعل كما يومئ إليه قوله
تعالى : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ـ الآية ـ وكلّ من كان فعلية ظهور هذه الأسماء فيه كلّا أو
جلّا أكثر كان أكمل من غيرها ، كالأنبياء والأوصياء بحسب مراتبهم ؛ وكلّ من كان
ظهورها فيه على أكمل الوجوه وأقواها وأتمّها وعلى أعلى مراتب الفعلية الممكنة في
نوع الإنسان فهو أشرف الكلّ وقدوة الجميع ؛ والفيض المتوسّط بين الخلق والحقّ
والبرزخ بين الموجودات الإمكانية والوجود المطلق هو منتهى شئون الأعيان والحدّ
المشترك بين الوجوب والإمكان (وَعَلَى الْأَعْرافِ
رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) ويسمّى هذه المرتبة عند أهل الله بالوجود المحمّدي والنور
الأحمدي.
ولك أن تقول بعبارة اخرى : إنّ مجموع العوالم بتفاصيلها مظهر جميع الأسماء تفصيلا
وبجملتها مظهر اسم «الله» تعالى وهو الاسم الأعظم إجمالا وبحسب ظاهرها ؛ والنشأة
الدنيوية مظهر اسم «الظاهر» و «الرحمن» وبحسب باطنها ؛ والنشأة الاخروية مظهر اسم «الباطن»
و «الرحيم».
وكذا الإنسان
بتفاصيله مظهر جميع الأسماء تفصيلا أدون من تفصيل العالم وبجملته مظهر اسم «الله»
والاسم الأعظم إجمالا أكثر من إجمال العالم ؛ وهو بحسب الظاهر مظهر اسم «الرحمن» و
«الظاهر» ، وبحسب الباطن مظهر اسم «الرحيم» و «الباطن». فالعالم بجملتها في كفّة
الميزان والإنسان في كفّة اخرى مع أنّه منها وداخل فيها.
ومن تأمّل في ما
ذكرناه وأدرك حقيقة معناه يجد من علوّ قدر الله وجلاله و
__________________
عظمته وكبريائه ما
يبهر العقول ويدهش به أفهام الفحول.
[في جعل الوجودات الخاصّة عند الصوفية والمتكلّمين والحكماء]
قد عرفت أنّ
المجعول بالذات هو الوجودات الخاصّة دون الماهيّات وأنّ الجعل إنّما هو التعلّق
والتبعية ؛ والغرض هنا بيان أنّ جمعها مجعولة للواجب تعالى ابتداءً كما تراه قوم
من الصوفية والمتكلّمين أو أنّ جمعها ليست مجعولة له بلا واسطة ، بل إنّما الجعل
والصدور منها بالترتيب السببي والمسبّبي كما / B ٦٣ / اختاره الحكماء. فيقول جمهور الحكماء : إنّ أوّل الصوادر منه سبحانه جوهر قدسي بسيط وبتوسّطه
يتكثّر شعب الوجود ويتفجّر ينابيع الفيض والجود ؛ واحتجّوا على ذلك بامتناع صدور
الكثرة عن الواحد الحقيقي بلا واسطة ؛ إذ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛
واستثناء الآثار المتعدّدة إلى المؤثّر الواجب الحقيقي لا يمكن إلّا بتعدّد الإله
كصدورها عن النفس الناطقة بتوسّط الأعضاء والقوى الحالّة فيها أو بتعدّد الشروط
والقوابل كصدور الآثار والحوادث المتكثّرة في عالم العناصر عن العقل الفعّال
لتعدّد الشرائط والقوابل ؛ وأمّا الواحد الحقيقي الذي ليس لفعله آلة ولا تعدّد
شرائط وقوابل ـ كالحقّ الأوّل ـ فلا يجوز أن يصدر عنه أوّلا إلّا أثر واحد ؛ إذ لا بدّ أن تكون بين العلّة والمعلول مناسبة تامّة
يصدر بها ذلك المعلول عنها وإلّا جاز أن يصدر كلّ شيء عن كلّ شيء إذا كانت المناسبة لازمة بينهما.
نقول : لو صدر معلول عن علّة واحدة من كلّ جهة بمناسبة خاصّة
بينهما ؛ فلو صدر عنها معلول آخر ، فإن كان صدوره بتلك المناسبة اتّحدت المعلولات
__________________
لاتّحاد العلّة
والمناسبة ؛ ولو كان بمناسبة اخرى لزم اشتمال العلّة على جهات متعدّدة ؛ وهو خلاف
الفرض.
وبتقرير آخر : لو صدر عن الواحد من حيث هو واحد «ا» و «ب» مثلا و «ا» ليس «ب»
فقد صدر عنه عن الجهة الواحدة «ب» وما ليس «ب» ؛ وذلك يوجب اجتماع النقيضين.
وبتقرير آخر : لو صدرت الكثرة عن الواحد الحقيقي وجب أن يكون مناسبا لها والكثرة
من حيث هي متغايرة له ؛ فلو كانت العلّة الواحدة من حيث هي واحدة مناسبة لتلك
الكثرة من حيث هي كثرة لكانت مغايرة لنفسها مع أنّها من حيث الوحدة مناسبة لنفسها
؛ هذا خلف.
ثمّ الظاهر اتّفاق
الكلّ على امتناع صدور معلول واحد عن علل متعدّدة مع أنّ ما استدلّوا به عليه يجرى
مثله في صدور المتعدّدة عن الواحد. / A ٦٤ /
والتحقيق : أنّ استحالة ذلك ممّا لا ريب
فيه وما ذكرناه من الأدلّة وغيرها تامّة غير قابلة للمنع ؛ فلو كان المتعدّد
معلولا لواحد وجب أن يكون إمّا في مراتب متعدّدة أو تكون للواحد جهات متكثّرة
بتكثّر المعلول حتّى يكون صدور الكثرة عنه باعتبارها.
ثمّ الأشاعرة كبعض
المتكلّمين خالفوا الحكماء في تلك المقدّمة ـ أعني استحالة صدور الكثرة عن الواحد
الحقيقي ـ وجوّزوا استنادها إليه ولذا صرّحوا باستناد الممكنات برمّتها حتّى أفعال
العباد إليه سبحانه بلا واسطة مع تنزّهه عن شوائب التركيب والكثرة.
والصوفية وقوم آخر
من الكلاميّين وافقوا الحكماء في تلك المقدّمة إلّا أنّهم أثبتوا للواجب صفات ونسب
وإضافات مغايرة لذاته مفهوما لا مصداقا وذهنا
__________________
لا خارجا ؛
وجوّزوا صدور الكثرة عنه أوّلا لأجلها.
وبطلان مذهب
الأشاعرة ومن وافقهم من المتكلّمين ظاهر لا يحتاج إلى بيان وما قرّرناه من أدلّة
امتناع صدور الكثرة عن الوحدة حجّة عليهم على أنّ الأشاعرة وإن جوّزوا استناد
الآثار المختلفة إلى الله تعالى لكنّهم لمّا أثبتوا للواجب تعالى صفات حقيقية
زائدة على ذاته يلزمهم أن لا يقولوا بكونه واحدا حقيقيا ويلتزموا بتركّبه تعالى من
الذات والصفات تعالى ربّنا عن ذلك ؛ فهم في أوّل الأمر خارجون عن هذا المقام ؛
والمتكلّمين الذين وافقوهم في جواز صدور الكثرة عن ذاته لمحض تعدّد الإرادة وتكثّر
المشيّة من غير اعتبار كثرة اعتبارية حتّى السلوب والإضافات منعوا تلك المقدّمة
الحقّة المبرهنة عليها من دون حجّة.
ثمّ لو كان مذهبهم
أنّ صدور الكثرة عنه على الترتيب لا يمكن توجيه كلامهم على ما وافق الحقّ إلّا أنّ
ظاهر كلماتهم أنّه بدونه مع أنّ الظواهر الواردة من الشريعة مشعرة بالترتيب كقولهم
: «أوّل ما خلق الله العقل» أو «القلم» أو «الروح» أو «النور» أو «الماء» وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) و (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) وقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) .
__________________
أمّا المتكلّمون
الموافقون / B ٦٤ / للحكماء في تلك
المقدّمة فقالوا : إنّ ذاته واحد حقيقي من كلّ جهة لكن لا ينافي وحدته الحقّة
الحقيقية كثرة الاعتبارات من السلوب والإضافات ؛ فإنّه لا زال مسلوبا عنه صفات
الممكنات وأحوالها ومتّصفا بالإضافات ، ككونه تعالى عالما قادرا خالقا رازقا إلى
غير ذلك من الإضافات ؛ فيمكن أن تصدر عنه الكثرة باعتباره الإضافات والسلوب المتكثّرة
؛ وهذه الاعتبارات والقول بصدور الكثرة لأجلها نظير ما أثبته الحكماء من الجهات
والاعتبارات في العقل الاوّل وإسناد صدور الكثرة إليها ؛ والفرق أنّ الجهات
والاعتبارات الحاصلة في العقل بعضها مجعول بالذات كالوجود وبعضها مجعول بالعرض
كالماهيّة والإمكان والتعقّل ، والاعتبارات الحاصلة للواجب من السلوب والإضافات
فإنّما هي منتزعة من ذاته بذاته وكلّها راجعة إلى وجوب الوجود والقيّومية المطلقة
؛ فلا يلزم تكثّر وجهات واقعية في ذاته تعالى ؛ ومعنى انتزاعها عن ذاته أنّه لو
وجد الغير الذي كان من شأنه الانتزاع لا ينتزعها عنه ولا يتوقّف حصولها له تعالى
على وجود الغير في الخارج ؛ إذ الفرض توقّف وجوده منه على هذه الاعتبارات ؛ فلو
توقّف حصولها أيضا عليه لزم الدور ؛ أيضا لو توقّفت هذه السلوب والإضافات على وجود
الغير في الخارج لزم عدم اتّصاف الواجب بها قبله ؛ فيلزم أن لا يكون الواجب قبل
إيجاد الصادر الأوّل عالما قادرا مريدا متكلّما إلى غير ذلك من الصفات الآفاقية
ولا مسلوبا عنه الجسم والجوهر والعرض وأمثالها ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
فثبوت هذه الاعتبارات يتوقّف على تعقّل الغير على فرض وجوده لا على ثبوته فيه ؛
ووجود الغير في الخارج يتوقّف على تعقّلها على النحو المذكور ؛ فلا يلزم شيء من
المحذورين.
وأورد عليهم بأنّ هذه السلوب والإضافات المتعدّدة لا بدّ من وجودها في
ظرف حتّى / A ٦٥ / يصير منشأ
لصدور الكثرة مع أنّها ليست موجودة في الخارج و
هو ظاهر ولا في
علم الغير وإلّا كانت موقوفة على ثبوته ولزم الدور ولا في علم الواجب تعالى وإلّا
لزم التكثّر في ذاته ؛ فمن أين يحصل حتّى تستند الكثرة إليها؟!
وأجابوا بأنّ حصولها في علم الله تعالى الإجمالي أو غيره على وجه
لا يلزم التكثّر في ذاته ؛ وتفصيل ذلك يحتاج إلى تفصيل ليس هنا محلّه.
وبالجملة : يمكن أن يقال : إنّ تعدّد السلوب والإضافات إنّما يقتضي
وجود المسلوب والمضاف وجودا عليما إجماليا لا وجودا علميا تفصيليا ؛ وهذا النحو من الوجود أيضا مجعول لكن لا تترتّب عليه الآثار
الخارجية وهذه الوجودات العلمية الإجمالية منشأ لصدور الممكنات العينية بالوجود
الأصلي التفصيلي على الترتيب أو بدونه.
والمحصّل : أنّ هؤلاء المتكلّمين وافقوا الحكماء في القول بالمقدّمة
المذكورة وخالفوهم في قولهم بحصول الاعتبارات لذاته كما قرّرناه وعدم قدحها في
وحدته الحقّة كما أنّ الحكماء قالوا بحصول الاعتبارات في العقل الأوّل وأيضا
الحكماء قالوا بصدور الكثرة عنه تعالى على الترتيب ولا يعلم من مذهب هؤلاء
المتكلّمين أنّه على الترتيب أو بدونه لكنّ الظاهر قولهم بالترتيب نظرا إلى ثبوته
بالنقل.
هذا ما ذكره هؤلاء
المتكلّمون مع التنقيح والتوضيح وأنت تعلم أنّه فرق بين الاعتبارات الحاصلة في
العقل الأوّل والاعتبارات الحاصلة للواجب. فإنّ العقل بعد صدوره عن الواجب تعالى
يلزمه المعلولية والانحطاط عن صرافة الوجود والوجوب الذاتي ؛ جهات عدميته راجعة إلى
النقص والقصور ؛ وهذه الجهات امور واقعية يوجب نوع تركيب في ذاته ؛ إذ لا ريب في
أنّ الجهة التي تنتزع عنها الماهيّة مغايرة في الواقع للجهة التي ينتزع عنها
الوجود العامّ ؛ والقول ببساطته ووحدته
__________________
من جميع الجهات
فاسد ؛ فهو بكلّ جهة تناسب معلولا يمكن أن يصدر عنه وأمّا الواجب تعالى فلا ريب في
/ B ٦٥ / أنّه صرف
الوجود المتقدّس عن كلّ جهة واقعية إلّا أنّه مع وحدته الحقّة وبساطته التامّة
حقيقته أنّه مجرّد والواجب الوجود وقيّوم للكلّ ؛ وكلّ واحد من هذه الثلاثة ـ أعني التجرّد ووجوب الوجود
والقيّومية المطلقة ـ راجعة إلى صرافة الوجود ؛ إذ فرض عدم بعضها يوجب خروجه عن
الصرافة والمحوضة ؛ فهي لا يوجب تكثيرا وتعدّد جهة فيه ؛ وهذه الثلاثة ليست معلولة
له تعالى ولا جهات واقعية مغايرة للذات ، بل هي غنيّ الذات وفي مرتبته ما يتراءى
من مغايرة مفهوماتها للذات إنّما هو مجرّد اعتبار العقل وتحليله ، ولا مغايرة في
الواقع بوجه.
ثمّ وجوب الوجود
يلزمه الحياة والأزلية والأبدية وغيرها من الصفات الكمالية من دون لزوم تكثّر
وتعدّد ؛ فهي أيضا ثابتة في مرتبة الذات من غير معلولية لها والتجرّد يلزمه العلم
الكمالي وهو أيضا غنيّ الذات وجميع الصفات الإضافية لازمة للقيّومية المطلقة ؛
ومبدأ الجميع وإن كان غنيّ الذات إلّا أنّ مفهوماتها المتغائرة بالتغاير الواقعي
نظرا إلى انتزاعها عن الامور المتغائرة معلولة له تعالى غير موجودة في مرتبته ،
مترتّبة على القيّومية المطلقة ؛ ولترتّبها عليها ورجوعها إليها لا يوجب تكثّرا
وتعدّد جهة في الذات ؛ وكما أنّ عدم وجودها في مرتبة الذات لا يوجب نقصانها لعدم
كونها كمالا لها ؛ إذ المعلول لا يكون كمالا للعلّة ، فكذا عدم ثبوتها قبل وجود
المعلول الأوّل لا يوجب نقصا في الذات مع أنّها كما لا يتقدّم عليه لا يتأخّر عنه
أيضا بل ثبوتهما في مرتبة واحدة متأخّرة عن الذات بالتأخّر الذاتي دون الزماني.
فظهر أنّ هذه
الاعتبارات وإن كانت ثابتة للواجب تعالى إلّا أنّ ثبوتها على
__________________
وجه لا يوجب
تكثّرا وتعدّد جهة في ذاته الأقدس ؛ فلا يوجب شيء منها جهة واقعية في الذات حتّى
يمكن أن يصدر عن الذات باعتبارها شيء وباعتبار جهة اخرى شيء آخر ، بل المسلّم حينئذ أن يكون الصادر عنه واحدا / A ٦٦ / مناسبا له في هذه الصفات على النحو الذي يمكن
تحقّقه في أشرف الممكنات ؛ فاللازم حينئذ أن يصدر عنه أوّلا شيء يناسب ذاته
الكاملة من وجه بحيث يكون مظهرا جامعا إجماليا لجميع صفاته الثبوتية والسلبية
والجلالية والجمالية وما هو إلّا العقل الأوّل ؛ فهو المظهر الجامع الإجمالي
للواجب تعالى وأسمائه وصفاته وبتوسّطه تحصل لها مظاهر عينية تفصيلية ومجالي حقيقية
خارجية.
فإن قيل : يمكن أن يكون علمه تعالى قبل الإيجاد بالمسلوبات والمضافات
المتكثّرة سببا لصدور الكثرة عنه تعالى بأن يكون الذات مع اعتبار كلّ واحد منها
علّة لصدور بعض الأشياء.
قلنا : علمه الحقيقي الكمالي ليس إلّا بحت الذات فلا تكثّر فيه ؛
وعلمه الحضوري الإضافي الإشراقي لا يكون إلّا مع وجود المعلوم في الخارج أو بعده ؛
فلا يتقدّم حتّى يصير سببا لصدوره ؛ والعلم الصوري التفصيلي على فرض صحّته إنّما
هو على الترتيب السببي والمسبّبي عند القائلين به ؛ فما ترتّب عليه في الخارج أيضا
كذلك.
وأمّا الصوفية
فإنّهم وإن وافقوا الحكماء في المقدّمة المذكورة وامتناع صدور الكثرة عن الواحد
الحقيقي من حيث هو واحد إلّا أنّهم خالفوهم في المبدأ الأوّل والصادر الأوّل
وكيفية الصدور ؛ فإنّهم أثبتوا للواجب صفات ونسبا مغايرة لذاته عقلا لا خارجيا ؛
وجوّزوا صدور الكثرة عنه بتوسّطها ؛ وقالوا : إنّه تعالى من حيث وحدته الذاتية لا
يثبت له إلّا واحد من تلك الصفات والاعتبارات وبواسطته يلحقه
__________________
سايرها وبواسطة
تكثّرها تحصل كثرة وجودية حقيقية ؛ وصرّحوا بأنّ حصول الكثرة الوجودية إنّما هو
على الترتيب ؛ واختلف كلامهم في الصادر الأوّل :
فقال بعض المتأخّرين منهم : «إنّ للوجود مراتب :
أوليها : الوجود الذي لا يتعلّق بغيره ولا يتقيّد بقيد ؛ وهو الحريّ
بأن يكون مبدأ الكلّ.
وثانيتها : الوجود المتعلّق بغيره من العقول والنفوس والطبائع والموادّ
والأجرام.
وثالثتها : الوجود البسيط الذي ليس شموله وانبساطه على نحو / B ٦٦ / عموم الكلّيات الطبيعية ولا خصوصه على سبيل خصوص
الأشخاص المندرجة تحت الطبائع النوعية أو الجنسية ، بل على نهج يعرفه العارفون
ويسمّونه النفس الرحماني وهو الصادر الأوّل عن العلّة الأولى وهو أصل العالم
وحياته ونوره الساري في جميع السماوات والأرض في كلّ بحسبه وليس هو الوجود
الانتزاعي الإثباتي الذي هو كسائر المفهومات الكلّية.
وإلى هذه المراتب
وقعت الإشارة في كلام بعض العرفاء حيث قال : «الوجود الحقّ هو الله والوجود المطلق
فعله والوجود المقيّد أثره» ومراده من الأثر نفس الماهيّات ؛ إذ هي بمنزلة قيود
الموجودات الخاصّة وهي ليست مجعولة إلّا بالعرض» انتهى ؛ وهذا كما ترى صريح في أنّ
الصادر الأوّل هو الوجود المنبسط.
وقال العارف القونوي : «إنّ ذلك الصادر الأوّل عندنا هو الوجود العامّ المفاض على
أعيان الممكنات ـ يعني الأعيان الثابتة ـ وهذا الوجود مشترك بين العالم الأعلى الذي هو أوّل موجود
عند الحكيم المسمّى بالعقل وبين ساير الموجودات ؛ وليس كذلك الصادر الواحد الذي هو
العقل الأوّل كما ذكره أهل
__________________
النظر من الفلاسفة
؛ وهذا الوجود العامّ ليس بمغاير في الحقيقة للوجود الحقّ الباطن المجرّد عن الأعيان
والمظاهر إلّا بنسب [و] اعتبارات كالظهور والتعيّن والتعدّد الحاصل له.»
وقال بعض العرفاء بعد نقل هذا الكلام : «إذا لم يكن الوجود العامّ مغايرا للوجود الحقّ بالحقيقة لم
يكن الصادر هو الوجود العامّ باعتبار حقيقته ، بل باعتبار نسبة العموم والانبساط ؛
فإنّه لو لم ينبسط الأوّل ولم يتصوّر بصور الأعيان الثابتة في العلم لم يتحقّق قابل أصلا وبعد ما تحقّقت القوابل لو لم ينبسط عليها في الخارج لم يوجد موجود عيني
أصلا وبهذه النسبة الانبساطية تحقّقت النسبة الأسمائية للذات الإلهية إلى الحقائق
الكونية في مرتبة العلم الإلهي ؛ فهي سابقة على ساير الاعتبارات ؛ إذ لا حاجة لها
إلى اعتبار آخر ، بل الاعتبارات كلّها مرتّبة عليها ؛ وانبساط الوجود / A ٦٧ / بصور القوابل كلّها ليس في مرتبة واحدة بناء على أصل
امتناع صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي ؛ فيجب أن يظهر بصورة قابل من القوابل وينشأ
منها التصوّر بصور القوابل ، بل ينشأ بعضها من بعض ؛ وأمّا انبساطه على القوابل
لإيجادها في العين ؛ فلا يلزم أن يكون على تلك النسبة ؛ ويمكن أن يكون الصادر
أوّلا بالوجود العيني أكثر من واحد كما ذهب إليه الصوفية» انتهى.
وقال هذا القائل
أيضا بعد تقريره مذهب الحكماء والصوفية : «فقد ظهر من هذا التقرير أنّ الصادر الأوّل على مذهب
الحكماء موجود عيني لا موجود في مرتبته وهو العقل الأوّل ؛ وعلى مذهب الصوفية نسبة
عقلية اعتبارية سابقة على ساير الاعتبارات لا العقل الأوّل ؛ فإنّهم يثبتون في
مرتبته موجودات اخر.»
وظاهر هذه الكلمات
أنّ الصادر الأوّل هو نسبة عقلية سابقة على ساير الاعتبارات ويترتّب عليها ما
عداها من النسب الاعتبارية. فبين هذه الكلمات و
__________________
الكلام الأوّل
بحسب الظاهر تدافع ؛ وجمع بعضهم بين الكلامين دفعا للتدافع بأنّ مرادهم أنّ
الصادر الأوّل في الشهود العلمي هو تلك النسبة العقلية الاعتبارية وفي الوجود
العيني هو الوجود العامّ المطلق ؛ بمعنى أنّ صرف الوجود الحقّ الذي هو المرتبة
الذاتية الإلهية انبسط أوّلا في الشهود العلمي ؛ أي ظهر في علمه بالماهيّات
والحقائق الكونية ، وحصلت نسبة أسمائه الحسنى إلى تلك الحقائق في مرتبة علمه ثمّ
انبسط في الشهود الخارجي ؛ فتقيّد بصور الماهيّات الكونية ؛ فله نسبتان انبساطيتان
:
إحداهما : في الشهود العلمي ؛ ويلزم فيها الترتيب بأن يظهر فيه العقل
الأوّل أوّلا ثمّ الثاني وهكذا إلى آخر الموجودات.
والاخرى : في الشهود العيني بأن يتقيّد فيه بقيود الماهيّات والحقائق
الكونية ولا يلزم فيها الترتيب ، بل يمكن أن يتقيّد بجميعها في مرتبة واحدة.
وأنت تعلم أنّ
النسبة الأولى ـ أي الانبساطية ـ في الشهود العلمي إنّما يرجع إلى القول بالعلم
الحصولي ؛ فلا يرد / B ٦٧ / عليها إلّا
مفاسد هذا القول.
وأمّا النسبة
الثانية ؛ أي الانبساطية في الخارج :
[١.] فإن كان
مرادهم منها أنّها انبساط الوجود الحقّ وتقيّده بقيود الماهيّات بمعنى أنّ الوجود المنبسط هو بعينه الوجود
الحقّ الواجبي وقد لحقه الانبساط والتقيّد ، فهو مع ظهور فساده كما تقدّم وتصريح
المحقّقين منهم كالشيخ السمناني وغيره بأنّه فعله ومغاير له بالتغاير الواقعي يوجب
أن لا يكون المعلول الأوّل نفس الوجود ، بل انبساطه ونسبته إلى الماهيّات في
الأعيان ، فيكون الشهود العيني كالعلمي في أنّ المعلول الأوّل فيه هو النسبة
الاعتبارية.
[٢.] وإن كان
مرادهم منها صدور الوجود المنبسط منها بمعنى أنّ الوجود
__________________
المطلق المنبسط
أمر مغاير للوجود الحقّ وهو فعله ومعلوله وبعد صدوره عنه مقيّد لانبساطه
بالماهيّات بمعنى أنّها عارضة لمراتبه ودرجاته ؛ فالنسبة الانبساطية الخارجية
حينئذ لهذا المعلول المنبسط بالنسبة إلى الماهيّات لا للوجود الحقّ ؛ وإسناد
النسبة إليها إنّما هو بضرب من المجاز ؛ فعلى هذا وإن لم تلزم المفاسد المؤدّية
إلى الكفر والزندقة إلّا أنّه يبقي الكلام في أنّ المراد من وحدته وإطلاقه وعمومه
ما ذا؟ وتقيّده بالماهيّات بأسرها في مرتبة واحدة أو على الترتيب على أيّ نحو؟ ولا
يكون مخالفا لصريح حكم العقل.
وقد ذكروا أنّ
إطلاقه وعمومه ليس كإطلاق الطبائع الكلّية ولا خصوصه كخصوص الأشخاص المندرجة تحت
تلك الطبائع ؛ فيبقي من محتملات معاني الإطلاق والوحدة له وجوه :
الأوّل : أن يكون إطلاقه كإطلاق المادّة العقلية أو الهيولى ؛ وحينئذ
لا يكون بنفسه موجودا بوجود عيني مستقلّ تترتّب عليه الآثار الخارجية مع أنّ
كلامهم في الصادر الذي يكون كذلك ؛ وقد تقدّم تفصيل القول في هذا الاحتمال وفساده.
الثاني : أن يراد من إطلاقه نحو الإطلاق الذي في الصورة الواحدة
الشخصية المترائية في مرايا متعدّدة والمتمثّلة في أذهان متكثّرة ؛ وحينئذ يكون
متشخّصا لا عامّا ومطلقا وإن لم يكن / A ٦٨ / تشخّصه كتشخّص الأشخاص المندرجة تحت الطبائع الكلّية ؛
إذ الوجود ليس له ماهيّة كلّية ولا جزئية مع أنّه يرد عليه ما تقدّم مضافا إلى أنّ
اعتبار الإطلاق بهذا المعنى في الوجود الذي هو المعلول الأوّل لأيّ شيء ؛ فإن كان
اعتباره لأجل أن تكون الأعيان الثابتة موجودة باعتبار انتسابها إليه ويكون كلّ ماهيّة
من حيث انتسابها بالقياس إليه بمنزلة صورة مرتسمة في مرآة أو ذهن بالقياس إلى ذي
الصورة ؛ فهذا باطل :
أمّا أوّلا : فلانتسابه على القول بالأعيان الثابتة وموجوديتها بالانتساب
وكون
الوجود معنى
انتزاعيا وقد تقدّم فساده.
وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا مخالف لما ذكروه من أنّ موجودية الأعيان الثابتة
إنّما هو بانتسابها إلى الوجود الحقّ لا إلى الوجود الذي هو معلوله الأوّل.
وإن كان اعتباره
لأجل شيء آخر لا يمكن دركه فلا يتعلّق كلامنا بمثله.
[الثالث :] أن يراد من الوجود المطلق الوجود الأصيل الصادر من الأوّل
تعالى ؛ وهو المعروض للماهيّة ؛ ويراد من الوجود المقيّد نفس الماهيّة العارضة له
؛ وللوجود بهذا المعنى وإن كان أفرادا متعدّدة متباينة إلّا أنّ تعدّده إنّما هو
بقيود الماهيّات وهي من حيث الأصل والسنخ واحدة ؛ فوحدتها وإطلاقها إنّما هو من
حيث الأصل والسنخ وقد تقدّم في كلامنا أنّ حمل الوجود المطلق على الوجودات الخاصّة
بهذا الاعتبار غير بعيد إلّا أنّ عبارتهم لا يساعده ؛ لأنّ الصادر الأوّل على هذا
الوجه وجود خاصّ معروض لماهيّة من الماهيّات على اعتبار الترتيب أو وجودات خاصّة
معروضة للماهيّات على عدم اعتباره لا وجود مطلق واحد فائض على كلّ أعيان الموجودات
كما يشعر به عباراتهم وكذلك الماهيّات ليست هي الوجود المقيّد ، بل هي التقيّد
نفسه ؛ فالوجود المقيّد هو الوجود المعروض للماهيّة نفسه.
[الرابع :] أن يراد بالوجود المعروض لماهيّة كلّية عامّة كماهيّة / B ٦٨ / الجوهر المستتبع لوجود معروض لماهيّة كلّية اخرى كماهيّة
مطلق العرض ؛ فإنّ الوجود بهذا المعنى ليس مطلقا كالإطلاق للطبائع الكلّية ولا متشخّصا كتشخّص الأشخاص المندرجة تحت
الطبائع ؛ إذ ليس له ماهيّة كلّية ولا جزئية وهو مقدّم على الوجودات الخاصّة
المعروضة كماهيّات خاصّة لماهيّة العقل الأوّل مثلا لتقدّم طبيعة الجوهر ومفهومه على العقل الذي هو فرد منه ولذا صار
أوّل الصوادر وحياة
__________________
العالم ومقدّما
على كلّ أجزائه.
وفيه : أنّ الوجود بهذا المعنى يرجع إلى وجود الجنس أو النوع ؛ وقد
تقدّم أنّه وجود ضعيف متّحد مع وجود الشخص متحقّق بتحقّقه ؛ فلا يكون وجودا عينيا
مستقلّا في التحقّق حتّى يكون متعلّق الجعل بالذات على أنّ الوجود بهذا المعنى
متعدّد ذاته للوجود الحقّ كالوجودات الخاصّة وليس واحدا مطلقا حتّى
يكون فعله ؛ فإنّ مبنى كلامهم هنا على الفرق بين الفعل والأثر وتخصّص الأوّل
بالواحد المطلق من كلّ جهة والثاني بالتعدّد المقيّد ولو ببعض الجهات.
[الخامس :] أن يراد بالوجود المطلق المعنى المصدري ـ أي الإيجاد
والإفاضة ـ الذي باعتباره تكون الآثار ـ أعني الوجودات الخاصّة ـ حاصلة في الأعيان
ويتعلّق ذلك الإيجاد بكلّ وجود وموجود صار عامّا ومطلقا وفعلا.
وفيه : أنّ الوجود بهذا المعنى لا يكون صادرا عينيا ؛ فلا يصلح لأن
يكون مجعولا بالذات ؛ فإنّ الإيجاد كالنسبة العقلية التي هي أوّل صادر في الشهود
العلمي في عدم كونه من الأعيان الخارجية وعدم ترتّب أثر عليه في الخارج وجعله
صادرا أوّلا واسطة بين الشهود العلمي والوجود العيني بيّن الفساد.
وقد ظهر أنّ
الإطلاق في الوجود الذي هو أوّل الصوادر عندهم بأيّ معنى اخذ لا يخلو عن شيء.
لست أقول : لا محصّل له على القطع ، بل أقول : شيء لا أفهمه بحيث لا
يرد عليه شيء.
ثمّ بعض ما نقلناه
يدلّ على أنّ الأعيان الثابتة التي هي الماهيّات كان لها ثبوت / A ٦٩ / في حدّ ذاتها ثمّ انبسط الوجود عليها فصارت موجودات
عينية ؛ فالأعيان الثابتة باعتبار كونها قوابل موجودات عينية مجعولة وباعتبار
أنفسها ليست
__________________
مجعولة ؛ وهذا
بيّن الفساد ؛ إذ الماهيّات من حيث أنفسها معدومات صرفة ولا ثبوت لها ؛ وكذا يدلّ
على أنّ الصادر الأوّل يمكن أن يكون أكثر من واحد وعلى أنّ صدور الموجودات في
الخارج يمكن أن لا يكون على ترتّب ؛ وهذا مخالف للعقل والنقل.
ثمّ بعض العرفاء
الذي نقلنا كلامه أوّلا مع تصريحه في كلامه المذكور بأنّ الصادر الأوّل هو الوجود
المطلق المنبسط قال في موضع آخر في بيان الصادر الأوّل : «وأوّل فيضه تعالى موجود
وحداني مفارق الوجود والتأثير عن المادّة ؛ وهو العقل الأوّل» وهذا تناقض صريح.
ثمّ ما في الكلام المنقول آخرا [من] أنّ الفرق بين انبساط الوجود بالظهور في صور القوابل وانبساطه على القوابل لإيجادها في العين لم يظهر
لى وجهه.
وإذا ظهر جليّة
الحال في ما ذكره الصوفية فلنبيّن كيفية الصدور على ما هو الحقّ المختار وهو فرض
الحكماء ؛ فنقول : على ما تقرّر من صحّة المقدّمة المذكورة لا يمكن استناد كلّ الموجودات إليه ابتداءً نظرا إلى وحدته
الحقيقية من كلّ جهة ؛ فلا بدّ في صدور الكثرة عنه تعالى من ترتّب يحصل به الربط
بين الوحدة الصّرفة والكثرة ؛ فنقول : أوّل الصوادر منه تعالى ـ كما ذكره الحكماء
ـ موجود أحديّ الذات والهويّة ، مفارق عن المادّة ذاتا وفعلا ؛ ويسمّى بالعقل
الأوّل والعنصر الأوّل وعقل الكلّ ؛ وهو أشرف الممكنات وأعظمها بالحدس وبقاعدة
الإمكان الأشرف ، ونسبته إلى العقول الباريات نسبة النور المحمّدى صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أنوار الأنبياء والأولياء في القابلات ، وهذا الصادر
الأوّل وإن كان من جهة صدوره عن المبدأ ومجعوليته بالذات واحدا بسيطا لكن تلزمه
وتتبعه اعتبارات وحيثيات هي مجعولة بالعرض وليست هي فرضية محضة ولا موجودات عينية
،
__________________
بل اعتبارات
واقعية وجودية أو عدمية هي شروط وآلات لصدور الكثرة الحاصلة بعدها والصادر الأوّل
عنه أو / B ٦٩ / عن المبدأ أو
بوساطته.
وغير خفيّ أنّ وجود هذا الموجود القدسي المعبّر عنه بالعقل الأوّل ممّا لا ريب فيه ، فإنّ العقل
يحكم على القطع بأنّ الواحد الحقيقي لا يصدر عنه أكثر من واحد ؛ فمعلول الواحد
الحقيقي من جهة وحدته لا بدّ أن يكون ذاتا واحدة من حيث هي مجعولة بالذات وإن
لزمها بعد الصدور اعتبارات ناشئة بعضها عن بعض وكثرات اعتبارية أو حقيقية مجعولة
بالعرض وصادرة بالتبع ؛ ولكونها مجعولة بالعرض لا تنافي وحدة العلّة ولا وحدة المعلول
المجعول بالذات ؛ فالصادر الأوّل عن الحقّ الأوّل بالذات ذات واحدة من جهة صدورها
عنه بالذات وبتوسّط تلك الاعتبارات ـ سواء كانت جهات حاصلة في المعلول الأوّل أو
اعتبارات ملحوظة مع العلّة الأولى ـ تصدر عنها الكثرات.
وعلى هذا فنقول : إنّ الحقّ الأوّل تجلّى أوّلا من حضرة الذات والمرتبة
الواجبية إلى حضرة الأسماء والصفات والمرتبة الإلهية على الترتيب الذي يلاحظه
العقل والنهج الذي لا يعرفه إلّا الراسخون ؛ أي ترتّب على ذاته الحقّة التي هي صرف
الوجود صفاته العليا وأسمائه الحسنى ووصفه العقل بها أيضا على الترتيب الملحوظ له.
ثمّ لمّا أراد
بإرادته الأزلية والحكمة الربّانية أن يتجلّى من تلك الأسماء والصفات إلى الأعيان
الخارجية ويظهر لها مظاهر عينية تفصيلية ومجالي أصيلية حقيقية تجلّى أوّلا من
الحضرة الأسمائية والصفاتية والمرتبة الإلهية إلى جوهر قدسي لا يتصوّر في الممكنات
مثله في الشرافة والبهاء ؛ أي أفاض وجودا خاصّا معروضا للماهيّة أكمل من كلّ
الموجودات الإمكانية وأنقص بالمراتب الغير
__________________
المتناهية ، بل ما
أزيد عن غير المتناهي بقدر الغير المتناهي عن الوجود الحقّ ؛ إذ لا ربط له إلّا
بالمعلولية والافتقار وما له من الكمال يرجع الى معلوليته وصدوره من ذلك الوجود
الحقّ.
وهذا الجوهر
القدسي المعبّر عنه بالعقل الأوّل مظهر جامع إجمالا لجميع صفاته الثبوتية والسلبية
والجلالية والكمالية ؛ / A ٧٠ / وكما أنّ
العلّة الأولى لها صفات كمالية هي عين ذاته وصفات إضافية تترتّب على ذاته وصفات
سلبية منشأها ذاته بذاته ، كذلك لا بدّ أن تكون في هذا المعلول الأوّل أظلال هذه
الصفات وفروعها ليكون مناسبا لعلّته الحقّة المقتضية مناسبة أقرب من مناسبة ساير
الموجودات لها ؛ ولا بدّ أن تكون هذه الصفات مع كونها أنقص من صفات الحقّ الأوّل بمراتب
غير متناهية أكمل من صفات ساير الممكنات بينهم المناسبة.
وجميع هذه الصفات
لهذا المعلول الأوّل مجعولة بالعرض وتوابع لجعل وجوده ، بل هي شئون ذاته وفنون
وجوده ومترتّبة ترتيبا يلاحظه العقل كما في صفات المبدأ الأوّل ؛ والترتّب إنّما هو في لحاظ العقل وفي
ترتّبه من مراتب الواقع لا في الخارج ؛ إذ لا ترتّب ولا تقدّم ولا تأخّر فيه أصلا.
ومحلّ العقل
الأوّل في المرتبة البدوية هو محلّ النور المحمّدي والوجود الأحمدي المنظور إلى
السرّ العلوي والفيض المرتضوي المتجلّي إلى أنوار الأئمّة الأحد عشر وأرواحهم
القدسية ونفوسهم الكاملة النورية في المرتبة العودية ، كما نطقت به الأخبار
الصحيحة الصريحة.
ثمّ العقل كما
يدلّ على وجود ما تقدّم من الوجوه البرهانية يدلّ عليه أيضا تلويحات فرقانية
وتصريحات معصومية كقول النبىّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما رواه العامّة والخاصّة بطرق عديدة : «أوّل ما خلق
الله العقل» وقول أمير المؤمنين عليهالسلام على ما
__________________
رواه السيّد
المرتضى وغيره بعد ما سئل عن العالم العلوي : «صور عالية عن الموادّ خالية عن
القوّة والاستعداد. تجلّى لها ربّها ؛ فأشرقت وطالعها فتلألأت وألقى في هويّتها ؛
فأظهر عنها أفعاله وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّاها بالعلم والعمل فقد تشابهت
جواهر أوائل عللها ؛ وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شاركت السبع الشداد.»
ويدلّ عليه دليلان آخران ذكرهما الحكماء
:
والأوّل : أنّ
الأفلاك متحرّكة على الاستدارة والدوام. أمّا الأوّل باطل وأمّا الثاني فلكونها
حافظة في الجملة للزمان الذي لا نهاية لامتداده كما ثبت في محلّه ؛ والوجه في
انحفاظ الزمان لها أنّه مقدار غير قارّ. فيجب أن يكون محلّه هيئة غير قارّة هي
الحركة ولا حركة يحتمل الدوام / B ٧٠ / سوى حركة الفلك
لكونه مصونا عن الفساد كما تقرّر في محلّه ؛ فهى محلّ للزمان وحافظة له ؛ هذا وإن
اختصّ بالفلك الأعظم إلّا أنّ ساير الأفلاك كذلك بالحدس ؛ وهذه الحركة لكونها
مستديرة لا تكون طبيعية ؛ لأنّ المستديرة تطلب وصفا ثمّ تتركه ؛ والمطلوب بالطبع
لا يكون مهروبا عنه بالطبع ولا قسرية ؛ إذ لا قسر حيث لا طبع ؛ فهي إرادية والحركة
الإرادية تكون لغاية لا محالة ؛ وهي لا يجوز أن يكون نفس الحركة ؛ لأنّها ليست
مطلوبة لذاتها ، بل ليتأدّى إلى غيرها وهو المراد بالغاية ؛ وهي إمّا حسّية شهوية
أو غضبية ؛ وهما مختصّان بالأجسام التي لها مادّة منفعلة وتلتذّ بالملائم وتتأذّى
من غيرها كما في أنواع الحيوانات ؛ والأفلاك ليست كذلك.
وأيضا : كلّ حركة لجذب ملائم أو دفع منافر على النحو الموجود في
الحيوانات متناهية وحركة الأفلاك غير متناهية ؛ فغايتها عقلية كما في حركاتنا
__________________
الصادرة عن عقلنا
الفعلي ؛ ودوام الحركة إنّما يكون لدوام الطلب الذي يقتضيه العشق ؛ فتكون تلك
الغاية أمرا معشوقا عقليا ولا يكون أمرا غير متحصّل الذات وإلّا وجب أن يتحصّل
بالحركة ؛ إذ لو لم يتحصّل بها لكان الطلب طلبا للا شيء وهو محال ؛ والشيء المحصّل
بالحركة إمّا أين أو وضع أو كمّ أو كيف أو ما يتبعها من كمالات الجسم ؛ وحينئذ
تكون الحركة لنيل ذات المعشوق الذي هو أحد الامور المذكورة.
فهذا المعشوق
المطلوب الغير المتحصّل إمّا أن يحصّل بالحركة وقتا ما أو لا يحصّل أبدا. فعلى
الأوّل يجب انقطاع الحركة والطلب عند حصوله ؛ وعلى الثاني يلزمه طلب المحال وهو
محال من المتصوّر العقلي المحض ؛ فبقي أن يكون أمرا متحصّلة الذات وحينئذ لا يمكن أن يكون المطلوب بالحركة حصول
ملاقاته أو موازاته أو مناسبته أو أمثال ذلك من الحالات المشتركة بين المتحرّك
وهذا المعشوق المتحصّل ؛ أي الحالات التي يكون حصولها بالحركة للمتحرّك بملاحظة
نسبته إلى هذا المعشوق ؛ فبقي أن يكون المطلوب بالحركة نيل حال يشبه حاله ؛ أي نيل
الشبه به في صفة الكمال. فلا يمكن أن يكون ذلك نيل شبه يستقرّ ككمال ما قارّ يوجد
فيه شبيها بكمال المعشوق وإلّا / A ٧١ / لزم الوقوف إن
حصل الميل والحركة ، وطلب المحال إن لم يحصل. فبقي أن يكون نيل شبه لا يستقرّ ، بل
يستقرّ نوعه بالتعاقب وما ذلك إلّا بأنّ النفوس الفلكية تعقّلت أمرا قدسيا كاملا
هو فوقها وأشرف منها وله كمالات غير متناهية ؛ فعشقه إلى التشبّه به ولا يحصل
التشبّه إلّا بخروجها عن القوّة وحصول الفعلية له ؛ وذلك لا يحصل إلّا بتحريك
أجسامها حتّى تخرج أوضاعها الممكنة من القوّة إلى الفعل ؛ ولمّا كانت كمالات ذلك
المعشوق العقلي غير متناهية فكذا كانت أوضاعها الممكنة غير متناهية ؛ فلا يزال
__________________
منفصلة لكمالاته
ومتحرّكة للتشبّه به ومخرجة بذلك أوضاعها الممكنة من القوّة إلى الفعل ؛ ولعدم
تناهي الكمالات والأوضاع الممكنة تستمرّ تلك الحركة إلى غير النهاية ولا يزال يحصل
لها بالحركة التشبّه به والاستفاضة منه ويفيض على السافل لا من حيث إنّ هذه
الإفاضة إفاضة على السافل ، بل من حيث إنّها تشبه بالكامل العالي في الخروج من
القوّة إلى الفعل.
ثمّ لو كان الفلك
واحدا لأمكن أن يجعل الكامل المتشوّق هو الواجب سبحانه لكن لمّا كانت الأفلاك
وحركاتها متعدّدة لا يمكن أن يكون ذلك هو الواجب ، بل يجب أن يكون متعدّدا.
فثبت وجود جواهر
قدسية متعدّدة بتعدّد الأفلاك مع زيادة واحد ؛ وبذلك ثبت وجود تعدّد العقول كما
يأتي ؛ وغير خفيّ أنّ مبنى هذا التقرير على أنّ الأنفس الفلكية بعد تصوّرها كمالات
المعشوق القدسي تنبعث منها إرادة كلّية إلى الحركة لتحصل لها الفعلية ويشبه بها
إلّا أنّ الإرادة الكلّية أمر واحد نسبتها إلى جزئيات الحركات نسبة واحدة ؛ فلا يوجب الحركة الجزئية ؛ والحركة الكلّية لا وجود لها ما لم تتشخّص ولم
تصر جزئية. فلا بدّ من تغيّر الإرادات وتجدّدها وكونها جزئية حتّى تحصل الحركة.
ألا ترى أنّك لو
أردت الذهاب إلى موضع لا يوجب ذلك حركة برجلك بالتخطّي إلى جهة معيّنة ؛ ما لم
يتجدّد لك إرادة جزئية للتخطّي إلى الموضع الذي تخطّيت إليه لم تحدث تلك الخطوة
بتصوّر جزئي لما وراء تلك الخطوة وتنبعث عنه إرادة جزئية اخرى للخطوة الثانية وإنّما / B ٧١ / تنبعث من الإرادة الكلّية التي تقتضي دوام الحركة إلى
حين الوصول إلى المقصد. فيكون الحادث حركة وإرادة
__________________
وتصوّرا ؛ فالحركة
حدثت بالإرادة [والإرادة] حدثت بالتصوّر الجزئي مع الإرادة الكلّية والتصوّر الجزئي حدث بالحركة
وهكذا على الاتّصال إلى الوصول إلى المقصود.
فعلى هذا القياس
حركة السماء ؛ فإنّ النفس الفلكية بعد تعقّلها المعشوق القدسي وكماله تنبعث عنها
إرادة كلّية إلى الحركة للتشبّه به. فتجدّد لها إرادة جزئية بتوسّط بعض القوى
المنطبعة لحركة ما. ثمّ حدث بتلك الحركة تصوّر جزئي لما وراء تلك الحركة وتنبعث من
هذا التصوّر مع الإرادة الكلّية إرادة جزئية اخرى لحركة ما اخرى هكذا إلى غير
النهاية على الاتّصال نظرا إلى عدم تناهي الغاية والأوضاع الممكنة في الفلك.
والتحقيق : أنّ تجدّد الإرادات الباعثة على الحركة المتشابهة إنّما هو
لتجدّد الهيئات النورية والابتهاجات العقلية في النفس الفلكية من المعشوق القدسي.
فالتقرير الأتمّ أن يقال : إنّ النفوس الفلكية بعد تعقّلها جمال المعشوق وكماله ينبعث
فيها العشق والشوق ، وينبعث منهما الحركة الموصلة إلى المطلوب من التشبّه به ؛ وهذا المعشوق المتشبّه به هو
الحقّ الأوّل بوساطة من يتقرّب إليه من العقول القادسة النورية. فكلّ واحد من
النفوس الفلكية إنّما ينال من معشوقه ابتهاجات متوافرة ولذّات متكاثرة وواردات
نورية وإفاضات عقلية وأنوار دائمة التواصل كما لا تخفى كيفية ورودها على النفوس
البشرية السالكين إلى الله والمستغرقين في ملاحظة جماله والمقرّبين المشتاقين إلى
لقائه.
ثمّ تتبع تلك
الهيئات النفسانية النورية حركات متشابهة تخرج أوضاعها من القوّة إلى الفعل. فإنّ
الفلك لو ثبت على وضع واحد بقيت ساير الأوضاع أبدا بالقوّة ؛ ولما كان جميع
الأشياء فيه بالفعل إلّا الأوضاع ولم يمكن الجمع بين
__________________
الجميع دفعة ؛
والقاصر عن استبقاء نوع لاستبقاء أشخاصه معا إنّما يستبقيه ويستحفظه بتعاقب / A ٧٢ / أشخاصه. فأخرج على التعاقب الدائم أوضاعه من القوّة إلى
الفعل انفعالا لجرمها عن هيئات نورية شوقية لنفسها ، كما ترى أنّك حين تفكّرك في
شيء من المعقولات بقوّتك المفكّرة تتبعه حركات وهيئات من بدنك ؛ فإنّ هيئات النفس
والبدن يتعدّى من كلّ إلى حاجته ويترشّح من حركاتها الخير الدائم والبركات على
السافل فيضا لا قصدا ؛ هذا.
وتجويز انقطاع
الحركة الفلكية لثبوت حدوث الأجسام باطل ؛ إذ الحدوث لا يستلزم الانقطاع على أنّه
لا نزاع في عدم انقطاع الزمان لثبوت الخلود في الجنّة والنار إلّا أن يقال : «يكون
الزمان أمرا موهوما محضا» وفيه ما فيه.
[و] وضع الحصر في
ما ذكر من أقسام الطلب لاحتمال أن يكون طلب المحسوس لأمر آخر كمعرفته ؛ إذ التشبّه
به ضعيف ؛ إذ حصر الطلب في الحسّي والعقلي حصر في متقابلين ؛ لأنّ المراد منهما
إمّا الجزئي والكلّي وإمّا ما يدرك بالحسّ وما لا يدرك به ؛ وأمّا حصر الحسّي في
الجذب والدفع ، فلأنّ كلّ متصوّر جزئي لا يكون جذب ملائم ولا دفع منافر عند المدرك
لا يصلح أن يكون عرضا له بالضرورة ؛ ومنع امتناع طلب المحال أضعف ؛ لأنّ ذلك
الامتناع في الإرادة المنبعثة عن إرادة كلّية يتصوّر بها الجوهر العاقل المجرّد في
غاية الظهور.
[في أنّ علّة الجسم لا يكون واجب الوجود ولا جسما آخر ؛ وفي كيفية صدور الكثرات]
إنّ علّة الجسم لا
يجوز أن يكون واجب الوجود بلا واسطة ، لما تقدّم ؛ ولا جسم آخر ؛ لأنّ فعل الجسم
وتأثيره إنّما هو بصورته ؛ لأنّ فاعليته إنّما يكون من حيث
__________________
موجوديته بالفعل
وموجوديته بالفعل إنّما هو بصورته وفعله إنّما يكون بمشاركة الوضع ؛ فلا يكون
فاعلا لما لا وضع له ؛ وعلى هذا نقول ـ بعد التنبيه على أنّ فاعل الجسم يكون فاعلا
بجزئيه أوّلا ؛ لأنّ فعل المركّب مسبوق بفعل أجزائه / B ٧٢ / ـ : لو صدر جسم عن مثله لزم أن تكون القوّة الجسمية ـ أعني
صورة الجسم الفاعل ـ مؤثّرة في ما لا وضع له ـ أعني كلّ واحد من جزئى الجسم الصادر
ـ وهو محال.
وهذا الدليل ينفي
علّية الجسم للجسم مطلقا والدليل الخاصّ بالمطلب وهو عدم العلّية والمعلولية بين
الأجسام المحيطة بعضها ببعض هو أنّه لا ريب في أنّ المحوي لا يمكن أن يكون علّة
للحاوي ؛ إذ تعليل الأقوى بالأضعف ظاهر الفاسد ؛ والعقل لا يحتمل جوازه ؛ ولا يمكن
العكس أيضا ؛ إذ نقول ـ بعد التنبيه على أنّ الجسم ما لم يتشخّص لا يمكن أن يكون
موجودا فضلا عن أن يكون موجدا وأنّ المعلول وجوبا ووجودا متأخّر عن العلّة لوجوب
تقدّمها بالذات على معلولها. فالمعلول لو اعتبر في مرتبة وجود العلّة كان حاله
حينئذ مجرّد الإمكان ؛ لأنّه لم يجب بعد وكلّ ما لم يجب ومن شأنه أن يجب فهو ممكن
؛ وأنّ الشيئين اللذين بينهما معيّة وملازمة بحيث لا يمكن أن ينفكّ أحدهما من الآخر ؛ فإنّهما
لا يتخالفان في الوجوب والإمكان ؛ لأنّ تخالفهما في ذلك يرفع التلازم ـ : إنّ
الحاوي لو كان علّة للمحوي يسبقه متشخّصا وحينئذ كان وجود المحوي إذا اعتبر مع
وجود الحاوي المتشخّص موصوفا بالإمكان لكن عدم الخلأ في داخل الحاوي أمر يقارن
اعتباره اعتبار وجود المحوي بحيث لا يمكن انفكاكه عنه ؛ فإذن يلزم أن يكون عدم
الخلأ أيضا مع وجود الحاوي المتشخّص ممكنا لكنّه في جميع الأحوال واجب وإلّا كان
الخلأ ممكنا مع أنّه ممتنع لذاته قطعا.
قيل : لا نسلّم أنّ الخلأ ممتنع لذاته وإلّا لكان عدمه واجبا
لذاته لكن وجوب
__________________
عدمه بالذات ينافي
وجوب ما يلازمه ـ أعني وجود المحوي ـ بالغير وإلّا لأمكن الانفكاك بينهما وتحقّق
عدمه في مرتبة متقدّمة على وجود المحوي مع أن تحقّق عدم الخلأ في داخل الحاوي في
مرتبة لا يوجد فيها وجود المحوي غير معقول ؛ فيجب أن لا يكون الخلأ ممتنعا لذاته
حتّى يمكن / A ٧٣ / أن يتحقّق
الخلأ في مرتبة متقدّمة على وجود المحوي ويكون عدمه في مرتبة وجوده.
قلنا : وجوب المحوي على فرض كونه معلولا للحاوي لمّا لم يتحقّق في
مرتبة وجوب الحاوي فيتصوّر هناك ـ أعني في مرتبة وجوب الحاوي ـ خلأ في داخله لا
محالة وعدم ذلك الخلأ المتصوّر إنّما يجب ويتحقّق مع وجوب وجود المحوي في داخله في
مرتبة متأخّرة عن وجوب الحاوي ووجوب المحوي أيضا إنّما يتحقّق مع عدم الخلأ
المتصوّر في داخل الحاوي ؛ فهما ـ أعني وجوب وجود المحوي بالحاوي ووجوب تحقّق عدم
الخلأ المتصوّر في داخله ـ معان في التحقّق ومتلازمان في الوجود والتصوّر ؛ فيكون
على هذا الفرض عدم هذا الخلأ مع كونه واجبا بالذات واجبا بالغير كوجود المحوي ؛
ولامتناع ذلك ـ أي كون الواجب بالذات واجبا بالغير ـ يلزم أن يكون تأخّر وجود
المحوي من وجود الحاوي ؛ أي كونه معلولا له ممتنعا بالذات في من لا يدّعي الملازمة
بين مطلق وجوب المحوي ومطلق عدم الخلأ ، بل بين وجوب المحوي بالحاوي وبين عدم
الخلأ المتصوّر في داخل الحاوي اللذين لزم كون كلّ منهما واجبا بالغير في هذا
الفرض.
ثمّ يستدلّ بها
على امتناع كون المحوي معلولا للحاوي. فالمحوي مع كونه معلولا للحاوي يكون ممتنعا
لذاته لا واجبا بغيره وإلّا لزم كون عدم الخلأ أيضا واجبا بغيره مع أنّه واجب
لذاته ؛ فالمحوي إنّما يكون واجبا بغيره إذا لم يكن معلولا للمحوي وحينئذ لا ندّعي
ملازمته مع عدم الخلأ الذي هو واجب بالذات ؛
إذ حينئذ لا
يتصوّر خلأ ؛ فالمحوي إذا فرض معلولا للحاوي فهو ممتنع بالذات في نفس الأمر وواجب
بالحاوي بحسب الفرض ؛ والملازمة بين وجود المحوي وبين عدم الخلأ مع هذا الفرض ـ أي
فرض كونه معلولا للحاوي ـ لا يستلزم الملازمة بين واجب بالغير في نفس الأمر ـ أعني
وجود المحوي إذا كان معلولا لغير الحاوي ـ وبين واجب بالذات ـ وهو عدم الخلأ ـ ليلزم
التنافي بينهما. / B ٧٣ /
والحاصل : أنّ المحوي لو لم يكن معلولا للحاوي ، بل كان معلولا لغيره
يكون وجوده مع وجود الحاوي ـ أي يتحقّقان في مرتبة واحدة ـ فلا يتحقّق للحاوي
تقدّم عليه في الوجود حتّى يتصوّر إمكان الخلأ في داخله ويلزم وجود الخلأ في مرتبة
وجود الحاوي وتقدّمه على وجود المحوي مع عدم كونه معلولا له ؛ فيضطرّ إلى منع كون
الخلأ ممتنعا بالذات ؛ إذ حينئذ لا يتصوّر خلأ كما في صورة معلولية المحوي للحاوي.
فعلى فرض عدم معلوليته للحاوي لا يتصوّر خلأ حتّى إذا التزم كونه ممتنعا بالذات وكون عدمه واجبا بالذات كان منافيا
لكون ما يلازمه ـ أعني وجود المحوي ـ واجبا بالغير ويحتاج إلى منع كونه ممتنعا
بالذات ؛ وعلى فرض معلوليته للحاوي وإن تحقّقت الملازمة بين عدمه ووجود المحوي
بحسب هذا الفرض ولزم منه المحال ـ أعني كون الواجب بالذات واجبا بالغير ـ إلّا
أنّا نقول : إنّ هذا المحال إنّما نشأ من فرض محال آخر هو معلولية المحوي للحاوي.
فإن قلت : الحاوي والمحوي كلاهما ممكنان ، فيمكن خلوّ مكانيهما عنهما
، فيلزم الخلأ.
قلنا : الخلأ إنّما هو البعد في داخل المحيط الذي لا حشو له لا
لعدم المحض. فالخلاء إنّما يلزم إذا وجد محيط لا حشو له لا إذا وجد بعد موهوم غير
محاط بجسم أو أجسام ، لرجوع ذلك إلى العدم المطلق كالبعد المتوهّم فوق الفلك
__________________
الأعظم.
فإن قلت : المقرّر عند الحكماء أنّ الفلك الحاوي يكون مع جوهر عقلي هو
علّة للفلك المحوي ومتقدّم عليه وما مع المتقدّم متقدّم ؛ فيلزم من تقدّم الحاوي
عليه وجود الخلأ.
قلنا : ما مع المتقدّم بالزمان متقدّم وأمّا ما مع المتقدّم بالذات
فليس متقدّما بالذات ، كما أنّ ما مع العلّة ليس بعلّة ؛ وليس هذا التقدّم ـ أي
تقدّم العقل على الفلك المحوي ـ إلّا بالعلّية والذات. فالأفلاك بل الأجسام كلّها
بما هي أجسام متكافئة الوجود بلا تقدّم وتأخّر بينها بالذات. فالعقول العشرة يصدر
بعضها عن بعض بالتقدّم الذاتي. ثمّ / A ٧٤ / يصدر عن الجميع الأفلاك والعناصر في مرتبة واحدة ـ أي
يصدر عن كلّ عقل فلك معيّن على النحو المشهور بين القوم من دون تقدّم لبعضها على
بعض ـ فلكلّ عقل سابق تقدّم ذاتي على العقل المتأخّر عنه وللجميع تقدّم ذاتي على
الأجسام التي كلّها في مرتبة واحدة من دون تقدّم وتأخّر بينها. فالمراد بكون الفلك
الحاوي مع العقل الذي هو علّة المحوي هو أنّ كليهما صادران عن عقل واحد ولا يلزم
أن يكون صدورهما في مرتبة واحدة ، بل صدور العقل يتقدّم بالذات على صدور الفلك
الحاوي.
ثمّ النظر الدقيق
يقتضي عدم التفاوت بين تقدّم ذاتي واحد وتقدّمات ذاتية كثيرة. فتقدّم العقل الأوّل
على العقل العاشر أو على الأجسام كتقدّمه على العقل الثاني في أنّ ملاك التقدّم هو
الذات وفي انحصار التقدّم في التقدّم في مرتبة الذات من دون فرق بينهما بالزيادة
والنقصان في التقدّم في الخارج والزمان ؛ وإذ ثبت أنّ علّة الجسم لا يجوز أن يكون
واجب الوجود ولا جسما آخر ولا يجوز أن يكون النفس أيضا علّة الجسم بجوهرها ؛ لأنّ
تأثيرها إنّما يكون بواسطة الجسم وقواه ؛ فلا تأثير لهما في إفاضة الجسم وإيجاد
حقيقته وإن أمكن تأثيرها في
أعراضه وأحواله.
فظهر أنّ الأفلاك
لا يمكن أن يكون بعضها علّة بعض وأنّ الواجب أيضا ليس علّة لها بلا واسطة. فيجب أن
يكون صدورها بواسطة جوهر قدسي مجرّد ذاتا وفعلا ؛ وهو المعبّر عنه بالعقل ؛ ولكون
الأفلاك متعدّدة يثبت تعدّد العقول وهو المطلوب.
وإذ عرفت أنّ أوّل
الصوادر من الحقّ الأوّل هو العقل وفيه جهات واقعية محمولة بالعرض فاعلم أنّ
الحكماء أثبتوا عقولا عشرة ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون العقول أقلّ منها بالنظر إلى
الأفلاك التسعة الكلّية وإن جوّزوا تكثّرها بتكثّر الأفلاك الجزئية والكواكب
الثابتة والسيّارة.
ثمّ عندهم في
تعيين الجهات والاعتبارات المجعولة بالعرض في العقل الأوّل وفي ما / B ٧٤ / بعده من العقول على ما يحصل به التكثّر الواقع طرق :
[الأوّل :] ما ذكره المحقّق الطوسي ؛ وهو أنّه بعد صدور المعلول الأوّل
يمكن أن يصدر عنه وحده شيء وعن الواجب بتوسّطه شيء آخر ؛ فيصدر في المرتبة الثانية
شيئان لا تقدّم لأحدهما على الآخر.
ولو جوّزنا أن
يصدر عن المعلول الأوّل بالنظر إلى الواجب شيء صدر في المرتبة الثانية ثلاثة أشياء
؛ وهكذا شأن الكلام على هذا النهج ؛ فيظهر جواز صدور أشياء كثيرة في المرتبة
الثالثة من دون تقدّم لأحدها.
ثمّ قال : «وإذا ثبت هذا نقول : إذا صدر المعلول الأوّل فله هويّة
مغايرة للأوّل بالضرورة ؛ ومفهوم كونه صادرا غير مفهوم كونه هويّة. فهنا أمران
معقولان : أوّلهما المسمّى بالوجود والثاني الهويّة اللازمة له وهو المسمّى
بالماهيّة. فهي من حيث التحقّق تابعة لذلك الوجود ؛ لأنّ المبدأ الأوّل لو لم يفعل
شيئا لم يكن ماهيّة أصلا.
ثمّ إذا قيست
الماهيّة إلى الوجود عقل الإمكان ؛ فهو لازم لتلك الماهيّة بالقياس
إلى وجودها ؛ وإذا
قيس أحدهما إلى المبدأ الأوّل عقل الوجوب ؛ ولذا جاز اتّصاف كلّ من الماهيّة
والوجود بالإمكان والوجوب.
ثمّ إذا اعتبر كون
الوجود الصادر من الأوّل قائما بذاته لزمه أن يكون عاقلا لذاته ؛ وإذا اعتبر ذلك
مع الأوّل لزم أن يكون عاقلا للأوّل.
فهذه ستّة جهات في
المعلول الأوّل : وجود وماهيّة وإمكان ووجوب وتعقّل للذات وتعقّل للأوّل تعالى»
إلى آخر ما ذكره.
وأنت تعلم أنّ
الاعتبارات المذكورة في كلامه أوّلا مغايرة للاعتبارات التي ذكرها آخرا. فإنّ
الأولى ليست جهات حاصلة في المعلول الأوّل بخلاف الثانية.
[الثاني :] ما ذكره الشيخ الرئيس ؛ وهو أنّ للمعلول الأوّل ذاتا
وحالتين : حالة له بالنظر إلى مبدأ وحالة له بالنظر إلى ذاته. أمّا ذاته فمقوّم من
مختلفين الوجود الحاصل من مبدئه وماهيّته الإمكانية ؛ وأمّا حاله بالنظر إلى مبدئه
فوجوبه من مبدئه وتعقّله / A ٧٥ / له وأمّا حاله
بالنظر إلى ذاته فإمكانه وتعقّله لذاته ؛ وهو باعتبار حاله بالنظر إلى مبدئه يكون
مبدأ لعقل آخر وباعتبار حاله بالنظر إلى ذاته يكون مبدأ لفلك. فيكون الأمر الصوري
ـ أي حاله بالنظر إلى مبدئه ـ علّة للكائن الصوري ـ أعني العقل الثاني ـ والأمر
الأشبه بالمادّة ـ أي حاله بالنظر إلى ذاته ـ مبدأ للكائن المناسب للمادّة ـ أعني
الفلك الأوّل ـ ثمّ الأمر الأشبه بالمادّة ـ أعني حاله بالنظر إلى ذاته ـ إمّا
حاله من حيث كونها بالقوّة ـ أعني الماهيّة والإمكان ـ أو حاله من حيث كونها
بالفعل ـ أعني الوجود وتعقّل الذات ـ فهو بالاعتبار الأوّل مبدأ لهيولى الفلك
وبالثاني مبدأ لصورته.
ولا فرق بين هذا
الطريق وما ذكره المحقّق آخرا إلّا في إرجاعها الاعتبارات الستّة هنا إلى ثلاثة
وجعلها مبدأ لعقل وفلك لا غير. فكان الوجه في ذلك الاختلاف أنّ ما ذكروه إيراد
مثال وتقرير للوجه الممكن في تصحيح الكثرة
بطريق الاحتمال ،
والأخذ بالأليق لا يحقّق الحال على القطع والبتّ.
[الثالث :] ما ذكره بعض الفضلاء ؛ وهو أنّ في العقل الأوّل بعد صدوره
عن المبدأ الحقّ أربع اعتبارات :
[١.] وجوده ؛ وهو
له من الأوّل تعالى
[٢.] وماهيّته ؛
وهي له من ذاته
[٣.] وعلمه
بالأوّل ؛ وهو له بالنظر إلى الأوّل
[٤.] وعلمه بذاته
؛ وهو له بالنظر إلى نفسه
وبهذه الاعتبارات
الأربعة يصدر عنه عقل وصورة فلك ومادّته ونفسه ؛ وهكذا في العقل الثاني.
وقد أسقط في مبدأ
الطريق من الاعتبارات الستّة اثنان هما الوجوب الغيري والإمكان الذاتي وجعلت
الأربعة مبدأ لأربعة هي العقل ونفس الفلك وهيولى وصورته. ففرقه عن الوجهين
السابقين ظاهر والتوجيه في الاختلاف كما تقدّم.
[الرابع :] ما ذكره بعض الأذكياء ؛ وهو أنّ العقل الأوّل عاقل لمبدئه
ولذاته ولصفات ذاته.
[١.] فهو باعتبار
إدراكه للمبدإ ووصول نور إشراقه إليه / B ٧٥ / آلة لإيجاد المبدأ ثاني العقول.
[٢.] وباعتبار
إدراكه بوجوده الفائض من المبدأ آلة لإيجاده النفس المجرّدة المتعلّقة بالعرش ؛
أعني الفلك الأعظم.
[٣.] وباعتبار
إدراكه لإمكانه آلة لفيضان الصورة الجسمية للعرش.
وساق الكلام إلى
آخر العقول وهو لم يعد نفس وجوده وماهيّته وإمكانه من الاعتبارات ، بل اعتبر
إدراكها ولم يعتبر إدراك الوجوب الغيري ؛ وقد عرفت أنّ
__________________
الأمر في مثل هذا
الاختلاف هيّن ؛ إذ مرادهم إبداء الاعتبارات المصحّحة لصدور الكثرة على سبيل
الإمكان والتحرير لا على طريق القطع والتحقيق.
[الخامس :] ما ذكره بعض المتأخّرين ؛ وهو أنّ العقل الأوّل ملتئم
الماهيّة لا محالة من جنس واحد وفصل واحد ؛ لأنّه أوّل الحقائق المتحصّلة في عالم
الإمكان. فجنسه أوّل الأجناس وفصله أوّل الفصول ونسبة الجنس إلى الفصل كنسبة
المادّة إلى الصورة ؛ وحيث إنّ الأفعال والآثار إنّما تصحّ عن الشيء باعتبار الفصل
وهذا الفصل الواحد لا يصدر عنه إلّا شيء واحد هو العقل الثاني والعقل الثاني أيضا
له فصل واحد هو مبدأ صدور شيء ثالث والفصل الأوّل من حيث هو واحد بعد ما صدر عنه
العقل الثاني لا يجوز أن يصدر عنه شيء آخر لكن باعتباره مع الفصل الثاني يصير غير
كلّ واحد منهما ؛ فيمكن أن يصدر من العقلين لأجل الفصلين شيء رابع حتّى يكون
الصادر عن العقل الثاني شيئين في مرتبة واحدة ؛ فبهذا الطريق يتكثّر شعب الوجود
ويتفجّر ينابيع الفيض والجود وكلّما يتباعد عن مرتبة الأحدية الخالصة تتكثّر
الجهات وتتضاعف الاعتبارات حتّى يحصل من ذلك عدد يصحّ أن يكون واسطة لصدور فلك
الثوابت بكثرة ما فيه من الكواكب.
وقد أورد هذا المتأخّر على الوجوه السابقة أنّ غرض المشّائين في هذا
المقام من كلماتهم إنّما هو تمثيل لكيفية صدور الكثرة / A ٧٦ / عن الواحد الحقّ لا تحقيق لها ؛ لأنّ الجهات التي تصلح
لها إنّما هي جهات يمكن أن يكون مصدرا ومنشأ كالنور والحرارة في النار للتنوير
والتسخين ؛ والاعتبارات التي ذكرها الحكماء مثل الإمكان والوجوب بالغير والعلم
بالمبدإ والعلم بالذات ليست معاني تصلح لذلك وإلّا لكان كلّ ما له هذه الجهات يفعل
هذه الأفعال ، كما أنّ كلّ ما له جهات النار يفعل بحسبها فعل النار.
وفيه : أنّ مراد القوم من الجهات والاعتبارات التي اعتبروها في
العقل لتصحيح صدور الكثرة هي الاعتبارات التي تصلح أن تكون شروطا وآلات تختلف بها
اعتبارات علّية العلّة الأولى لصدور الكثرة لا الجهات التي تصلح لأن تكون عللا
مستقلّة أو وسائط مؤثّرة حتّى تكون امورا عينية موجودة كالنور والحرارة في النار
للتنوير والتسخين ؛ ولا ريب في أنّ تلك الاعتبارات التي ذكرها الحكماء ممّا يصلح
لأن تختلف به اعتبارات علّية الأولى لصدور الكثرة ؛ إذ الامور الاعتبارية والعدمية
الواقعية تصلح لذلك.
ثمّ الطريق الذي
ذكره ليس بشيء ؛ لأنّ المعلول الأوّل إذا كان مركّبا من الجنس والفصل على ما ذكره
ولا ريب في أنّ هذا التركيب وإن كان تركيبا تحليليا عقليا لكنّه تركيب حقيقي واقعي :
[١.] فهو إمّا أن
يقول بأنّ الجنس والفصل أجزاء عقلية منتزعة من الأجزاء الخارجية ـ أعني المادّة
والصورة ـ كما هو المشهور بين القوم من أنّ الجنس منتزع من المادّة والفصل من
الصورة وأنّ الجنس بأيّ اعتبار يكون مادّة والفصل بأىّ اعتبار يكون صورة وأنّ ما
لا مادّة له ولا صورة لا يكون له جنس وفصل ؛ فعلى هذا يلزم أن يكون الصادر كثيرا
بالذات مركّبا من الجنس والفصل ، بل من المادّة والصورة مع أنّ هذا المتأخّر
اعتقاده أنّ الجعل يتعلّق أوّلا [و] بالذات بالماهيّة والوجود أمر اعتباري عرضي
تابع للماهيّة و مجعول بالعرض لا بالذات ؛ فتعلّق الجعل بجزئي الماهيّة أيضا بالذات ويكونان أمرين / B ٧٦ / متحقّقين ويتكثّر الصادر الأوّل قطعا ولا مجال للقول
بتعلّق الجعل بأحدهما بالذات وبالآخر بالعرض. نعم على القول
بتعلّق الجعل أوّلا وبالذات بالوجود [و] ثانيا وبالعرض
__________________
بالماهيّة تكون
الماهيّة وأجزاؤها من الاعتباريات. فالمتحقّق في الخارج لا يكون إلّا أمر واحد هو
الوجود الخاصّ وتكون له حيثية عدمية واقعية تنتزع عنها الماهيّات وحينئذ لا يلزم
التركيب الحقيقي في الصادر الأوّل إلّا أنّ ذلك لا يلائم معتقد هذا القائل وما
ذكره من كون الجنس والفصل مأخوذين من المادّة والصورة الخارجيّين ومنشأين للآثار
الخارجية.
وبالجملة : إذا كان مراده أنّ الجنس والفصل مأخوذان منهما ولزم من ذلك
التركيب والتكثّر في الصادر الأوّل يبطل ما استند إليه القوم من أنّ الواحد لا
يصدر عنه إلّا الواحد ؛ وأيضا يكون الصادر الأوّل مادّيا لا مجرّدا ؛ هذا خلف.
[٢.] وإمّا أن يقول بأنّ الجنس والفصل من الأجزاء التحليلية
المحضة ولا يلزم أن تكون منتزعة من الأجزاء الخارجية ؛ فحينئذ يكون الفصل أيضا من
الامور الاعتبارية ويكون مثل الاعتبارات التي ذكرها الحكماء ولا يصلح أن يكون
مصدرا للآثار الخارجية بزعم هذا القائل مع أنّ بناء الوجه الذي ذكره لتصحيح الكثرة
على أنّ فصل العقل الأوّل لكونه مصدرا للآثار الخارجية وواحدا يصدر باعتباره عقل
ثان وهو أيضا مركّب من الجنس والفصل ؛ ففصله واحد بسيط يصدر عنه عقل ثالث ؛ وإذا
اعتبر هذا العقل مع فصل العقل الأوّل صدر عنه عقل رابع وهكذا إلى أن يحصل عدد يصحّ
أن يكون منشأ لصدور الأفلاك والكواكب بأسرها.
ولا ريب في أنّ
تصحيح الكثرة على هذا الوجه لا يتوقّف على تركّب العقل من الجنس والفصل. فاعتبار
تركّبه لا طائل تحته ؛ إذ يكفي أن يقال : الصادر من الحقّ الأوّل أمر واحد بسيط هو
العقل الأوّل وهو واسطة لصدور العقل الثاني والعقل الثاني أيضا بانفراده واسطة
لصدور عقل ثالث وباعتباره مع العقل الأوّل واسطة
لصدور عقل رابع
وهكذا إلى أن تنتهي النوبة إلى الأفلاك ؛ وهذا هو الطريق / A ٧٧
/ المذكور في الكلام الأوّل المنقول عن المحقّق الطوسي.
ويمكن أن يقال : غرض هذا القائل تصحيح [صدور] الكثرة عن الواحد بناء على ما
تقرّر وثبت عنده من تركّب الماهيّة من الجنس والفصل وكونها مجعولة بالذات ، وهو
كما ترى.
فالتحقيق : أنّ الجهات المصحّحة لصدور الكثرة هي التى ذكرها جمهور
الحكماء والأمر في ما وقع في كلامهم من الاختلاف في عددها أو في تعيين ما يستند
إلى كلّ جهة هيّن ، لما عرفت.
والأصوب في كيفية تصحيح صدور الكثرة أن
يقال
: إنّ العقل الأوّل
باعتبار نسبته إلى الحقّ الأوّل وجهته الراجعة إليه من الوجود ووجوب الوجود
وتعقّله لهما وللحقّ الأوّل يقتضي أمرا أشرف وهو العقل الثاني ؛
وباعتبار ماهيّته وتعقّله لها يصدر عنه نفس الفلك الأقصى المحرّكة بالشوق إليه ؛
وباعتبار إمكانه في نفسه وتعقّله له يصدر عنه جرم هذا لفلك. ثمّ من العقل الثاني
بالجهات المذكورة يصدر عنه أيضا عقل وفلك الثوابت ونفسه من الثالث أيضا بالجهات
المذكورة عقل ونفس وفلك زحل وهكذا إلى أن تتمّ الأفلاك التسعة والعقول العشرة ؛
والعقل العاشر يصدر عنه باعتبار إمكانه وتعقّله له الهيولى أو الجسمية المشتركة التي للعناصر وباعتبار
ماهيّته وتعقّله لها صورها النوعية وباعتبار وجوده ووجوب وجوده وتعقّله لهما
نفوسها الناطقة ؛ وهذه الامور الثلاثة إنّما تصدر من حيث حقيقتها ونوعيتها.
فالجملة من الجهات
المذكورة التي هي الحيثيات الفاعلية ؛ وأمّا تعدّدها من حيث الأشخاص وتعقّلها
فإنّما هو باعتبار جهات قابلية تحصل بكثرة الموجبات
__________________
للاستعدادات
المختلفة. فإنّ تكثّر حيثيات الفاعل يوجب التخالف النوعي في الأثر ؛ لأنّ آثار
الحقائق المختلفة مختلفة ؛ وأمّا التعدّد الشخصي لنوع واحد فلا يحصل إلّا باختلاف
القابل أو استعداده ؛ لأنّ الفاعل متساوي النسبة إلى جزئيات النوع الواحد ؛
والماهيّة / B ٧٧ / متّفقة في الجميع ولازم النوع
كذلك ؛ فما به الاختلاف لا بدّ أن يكون من العوارض اللاحقة للنوع التي يمكن حدوثها
وزوالها ؛ وكلّ ما هو كذلك فعروضه يفتقر إلى المادّة.
وبالجملة : الفاعل من جهة واحدة يجوز أن يفعل أعدادا كثيرة من نوع واحد
، بل أنواعا مختلفة أيضا لاختلاف القوابل عند المشّائين ؛ واعتبر ذلك بشعاع الشمس
الواقع على الزجاجات المختلفة اللون.
وأمّا الرواقيّون
فعندهم صدور الأنواع المتكثّرة المتكافئة كأنواع الأجسام العنصرية يحتاج إلى
اختلاف نوعي إمّا في الفاعل أو في جهات تأثيره ؛ ولمّا لم يكن في العقل العاشر من
الجهات والحيثيات ما نفى تكثّرها بتكثّر الأنواع التي في عالمنا فذهبوا إلى أنّ
عدد العقول أكثر من عدد الأفلاك والعناصر ، بل عندهم لكلّ نوع من الأنواع
الجسمانية عقل هو ربّ نوعه ومدبّر طلسمه ورادّ عنايته بأشخاصه ؛ فيكون عدد الجواهر النورية والقواهر
العقلية كعدد الأنواع الجسمانية من الفلكية والعنصرية البسيطة والمركّبة ، بل يزيد
على ذلك أيضا ؛ لأنّ العقول ليست عندهم منحصرة في فواعل الأجسام وليست الأجسام
تبتدئ في الوجود حيث تبتدئ العقول في الوجود ؛ إذ العقل الثاني ليس فيه من الجهات
ما يكفي لصدور الفلك الثامن وما فيه من الكواكب المختلفة الحقائق ؛ وأيضا الأجسام
ـ كما سبق ـ متكافئة الوجود ، ليس بعضها علّة بعض. فينبغي أن يكون عللها أيضا
عقولا متكافئة واقعة في سلسلة عرضية بعد تحقّق السلسلة الطولية. فالعقول
__________________
عندهم على ضربين :
أحدهما : القواهر الأعلون الواقعة في سلاسل الطوال سوى التي وقعت في
أواخر تلك السلاسل.
وثانيهما : الواقعة في سلسلة واحدة عرضية وهي أرباب الأنواع وصواحب
الأصنام الجرمية المسمّاة بالمثل النورية الأفلاطونية.
والضرب الأوّل على
تفاوت درجاتهم أشرف من الضرب الثاني لنزولهم وقربهم بالأجسام ؛ وتفصيل ذلك يطلب من
كتب الشيخ / A ٧٨ / الإلهي ك «حكمة
الإشراق» وغيره ؛ هذا ؛ وقد أورد على الطرق المذكورة بأسرها إيرادان جوابهما ظاهر
:
[الأوّل :] أنّه لو كانت سبب صدور الكثرة عن العلّة الأولى كثرة الجهات الواقعة في ذات المعلول
الأوّل كالوجوب والإمكان والتعقّلين ؛ فإن كانت هذه الكثرة صادرة عن العلّة الأولى
فلا يخلو إمّا أن تكون صادرة منها أو على الترتيب. فعلى الأوّل يجوز أن يصدر عن
الواحد أكثر من الواحد ؛ وعلى الثاني لا يكون المعلول الأوّل ؛ وإن لم يكن صادرة
عن العلّة الأولى ؛ فيجوز أن تحصل كثرة من غير استناد إلى العلّة الأولى.
والجواب : أنّ الصادر عن العلّة الأولى أمر واحد بسيط لا كثرة فيه ؛
وهو ـ على ما اخترناه ـ وجود خاصّ فائض عن الحقّ الأوّل وإنّما لحقته الكثرة من
جهة لحوق الماهيّة به من غير جعل وتأثير ، بل لضرورة صدور ذاته عن ذات الحقّ الأوّل. فالصادر الأوّل هو الوجود
وتتبعه الهويّة اللازمة لذلك الوجود ـ أعني الماهيّة ـ من غير تعلّق جعل بها أوّلا
وبالذات بل ثانيا وبالتبع ثمّ يتبعه الإمكان والوجوب ثمّ التعقّلان ، كما مرّ.
__________________
فكلّ هذه الكثرة
ما سوى الوجود مجعولات بالعرض ؛ وعلى ما اختاره غيرنا من أصالة الماهيّة فالصادر
الأوّل أيضا أمر واحد بسيط هو ماهيّة العقل الأوّل ويتبعه الوجود ثمّ الإمكان
والوجوب ثمّ التعقّلان. فكلّ هذه الكثرة بالحقيقة أمر واحد مناسب للعلّة الأولى
الواحدة ومن جهة كثرته الواقعة بالعرض منشأ لصدور الكثرة ؛ فلا إشكال.
وأنت خبير بأنّه ـ على ما اخترناه من كون المجعول بالذات هو الوجود ـ لا يرد
إمكان إخلال هذا ولا غيره ؛ وأمّا على كون المجعول بالذات هو الماهيّة وإن كان هذا
الإشكال مندفعا ـ كما ذكر ـ إلّا أنّه يرد إشكال آخر وهو أنّه على القول بأنّ كلّ
ماهيّة ممكنة فهي مركّبة من الجنس والفصل يكون جهة العقل الأوّل أيضا كذلك ـ كما
تقدّم في كلام بعض المتأخّرين ـ وهذا التركيب ليس اعتباريا محضا ، بل هو تركيب
حقيقي واقعي ، كما صرّحوه به. فالماهيّة عبارة / B ٧٨ / عن الجنس والفصل وفيها كثرة حقيقية صادرة عن الواحد الحقّ ومجعولة بالذات ؛ إذ لا مجال للقول
بأنّ أحدهما مجعول بالذات والآخر مجعول بالعرض ، كما في الوجود والماهيّة.
فهذا الإشكال على
تقدير كون الماهيّة مجعولة بالذات وارد غير مندفع ؛ وأمّا على المختار من جعل
الوجود فلا يرد أصلا ؛ إذ الماهيّة حينئذ اعتبارية مجعولة بالعرض بكلا جزئيها إن
كان لها جزء ؛ وهذا أيضا من الشواهد على كون المجعول بالذات هو الوجود.
[الثاني :] أنّ الإمكان والوجوب عدميّان والمعدوم يستحيل أن يكون علّة
للموجود ؛ وأيضا الإمكان مثلا معنى واحد مشترك بين الإمكانات ؛ فلو كان علّة لكان
كلّ إمكان يصلح لأن يكون علّة وحينئذ يمكن أن يكون كلّ ممكن علّة بنفسه ولغيره ؛
فيخرج عن الإمكان ؛ وقس على الإمكان الوجود والوجوب.
__________________
والجواب ـ بعد تسليم عدمية الوجوب واشتراك الامور الثلاثة وعدم القول
بالتشكيك ـ أنّ هذه الاعتبارات ـ كما مرّ ـ ليست عللا مستقلّة بأنفسها ولا عللا
متوسّطة ، بل هي شروط وآلات تختلف بها أحوال العلّة والعدميات والاعتبارات
والمشتركات التي تختلف باختلاف الإضافات تصلح لذلك قطعا.
[في أحكام الوجود العامّ ولوازمه]
للوجود العامّ
أحكام ولوازم :
[الأوّل :] أنّه بديهي التصوّر لا يمكن تعريفه ؛ إذ ما يرادفه من الكون
والثبوت والظهور الخارجي ممّا يدركه كلّ أحد بلا رويّة وليس شيء أعرف منه حتّى
يعرف به ولذا ما ذكروه من تعاريفه إمّا دوري أو أخفى ؛ ولقضاء الضرورة بأعرفيته من
كلّ شيء تكون بداهيّته أيضا بديهية. فما ذكروه في بيانه تنبيه عليه كقولهم : «لمّا
وجب انتهاء سلسلة الاكتساب إلى أوّلي التصوّر وجب كونه أعرف الأشياء وأعمّها ؛ إذ
اشتراط الأظهرية في المعرّف يقتضي تعريف العامّ بالخاصّ ، ولا شيء أعمّ وأبسط من الوجود ؛
وقولهم : «التعريف إمّا بالحدّ أو الرسم ؛ والأوّل ينفي عن الوجود لكونه بالجنس
والفصل المنتفيين عنه لأعمّيته المطلقة وكذا الثاني لأنّه بالأعرف و/ A ٧٩ / لا أعرف منه.»
[الثاني :] أنّه مشترك معنى ؛ إذ لا ريب
في أنّ الوجود العامّ المرادف للكون البديهي والظهور العيني ثابت لكلّ موجود وزائد على حقيقته المتحقّقة في الخارج ؛
ولذا انعقد الإجماع على ثبوته للواجب وتكفير القائل بالاشتراك اللفظي لو علم
بفساده ؛ أي إيجابه سلب الظهور العيني المعبّر عنه في الفارسية ب «هستى»
__________________
عنه .
وبتقرير أوضح نقول
: لو كان اشتراك الوجود بين الواجب والممكن بمجرّد إطلاق اللفظ لم يكن صدقه على
الواجب بالمعنى الّذي نفهمه ونتصوّره ونعبّر عنه بالكون والثبوت والحصول والتقرير
وأمثالها ونعبّر عنه بالفارسية بقولنا : «بودن». فلا يصدق قضية «الله موجود» بهذا
المعنى ؛ فلا بدّ أن يصدق نقيضها وهو قولنا : «الله ليس بموجود»
بهذا المعنى ؛ لامتناع ارتفاع النقيضين ؛ وهو كفر صريح وزندقة صرفة.
وقد استدلّ عليه :
[١.] بأنّه لو
اختلف الوجود في الأشياء لم يوجد شيء واحد يحكم عليه بعدم اشتراكه ، بل كانت هنا
مفهومات متغايرة غير متناهية ؛ فلا بدّ من اعتبار واحد واحد ليعرف أنّه مشترك فيه
أم لا.
[٢.] وبأنّ
الشرائط التي هي ضرب من الوجود واحدة في جميع القضايا مع اختلافها في الموضوع
والمحمول.
[٣.] وبأنّ الذهن
يتردّد في خصوصيات الماهيّات مع الجزم بمطلق الوجود ؛ ولو كان الوجود المطلق
مختلفا في الأشياء لما حصل الجزم بثبوته لما لا يعلم حقيقته كما إذا رأينا حادثا ؛
فإنّا نجزم بأنّ له مؤثّرا موجودا مع أنّه يمكن أنّ يتردّد في أنّه واجب أو ممكن
جوهر أو عرض.
[٤.] وبأنّ مفهوم
نقيض الوجود ـ وهو العدم ـ واحد بالضرورة ؛ فلو لم يكن الوجود أيضا واحدا لزم
بطلان الحصر بين الوجود والعدم ؛ لأنّه إذا كان الوجود مشتركا لفظيا كان قولنا : «هذا
الشيء إمّا موجود أو معدوم» بمنزلة قولنا : «هذا
__________________
الشيء إمّا إنسان
مثلا أو معدوم» / B ٧٩ / والحصر الأخير
باطل بالضرورة فكذا الأوّل الذي بمنزلته بخلاف ما إذا كان العدم أيضا مشتركا لفظيا
؛ فإنّ الحصر الأوّل حينئذ بمنزلة قولنا : «هذا الشيء إمّا إنسان وإمّا ليس بإنسان»
لأنّ العدم حينئذ يكون رفعا للإنسان ؛ لأنّه رفع للوجود المقابل ـ أعني الإنسان في
هذا الفرض ـ لكنّ بطلان الحصر باطل بالضرورة ؛ فيكون الوجود مشتركا معنويا.
[٥.] وبأنّ الوجود
يقسّم إلى وجود الواجب ووجود الممكن ، ووجود الممكن إلى وجود الجوهر ووجود العرض
وهكذا ؛ فيجب أن يكون الوجود مشتركا بين جميع أقسامه ضرورة اشتراك المقسم بين
الأقسام.
والحقّ : أنّ المطلب أجلى من هذه الأدلّة ، لإمكان المناقشة فيها
بوجوه ذكرناها في بعض كتبنا هذا.
وقد أورد على الاشتراك معنى أنّه لو كان الوجود مشتركا معنويا بين
وجود الواجب والوجودات الإمكانية وهذه الوجودات إمّا أفراده أو حصصه فظاهر أنّه
ليس ذاتيا لأفراده جنسا أو نوعا ، لإيجابه التركيب في الوجود الواجبي وكون وجوده بديهيّ التصوّر وغير ذلك من المفاسد الآتية المرتّبة
على كون الوجود جنسا أو نوعا هو عرضي لأفراده ؛ ولا ريب في أنّ ما به الاشتراك
العرضي تابع لما به الاشتراك الذاتي ؛ فما لم يكن بين الامور المختلفة قدر مشترك
ذاتي لا يفرض لها قدر مشترك عرضي ؛ إذ العرضي الانتزاعي معلول للمعروض المنتزع عنه
؛ ولا بدّ أن تكون بين العلّة والمعلولات مناسبة تامّة. فالمعلول إذا كان واحدا لا
بدّ أن تكون علّته أيضا واحدة ؛ فلا يصحّ أن ينتزع معنى واحد بالذات عن أشياء
متباينة متخالفة بالماهيّة التي لا يكون بينها قدر مشترك ذاتي أصلا ؛ فلا بدّ أن
يكون بينها قدر مشترك ذاتي واحد بالذات مناسب لذلك المشترك العرضي حتّى يكون
__________________
هذا العرض عارضا
له منتزعا منه ، كما أنّ مفهوم الماشي إنّما يعرض لأفراده المتخالفة لأجل الحيوان
الذي هو القدر المشترك الذاتي بينها ومفهوم الكاتب والضاحك إنّما يعرض لأفرادهما
لأجل مفهوم الإنسان الذي هو مشترك ذاتي / A ٨٠ / بينها ؛ وعلى هذا لو كان الوجود العامّ العرضي مشتركا
بين وجود الواجب والوجودات الإمكانية لزم اشتراكهما في معنى ذاتي ؛ فيلزم تركّب
الواجب ؛ وهو باطل.
والجواب : أنّ جميع تلك الوجودات الخاصّة باختلافها مشتركة في كونها
متعلّقة مرتبطة لذاتها بالواجب تابعة لازمة بنفسها له ، وتعلّقها به ولزومها له
ذاتي لها ؛ إذ الافتقار عين حقائقها ؛ ولا ريب في أنّ مناط انتزاع الوجود المطلق
ومنشأه هو هذا التعلّق واللزوم الذاتي ؛ إذ كلّ مرتبط بصرف الوجود
بذاته تنتزع عنه الموجودية ولو لا ارتباطه وتعلّقه به لكان معدوما صرفا. فمنشأ
انتزاع الموجودية المطلقة ليس إلّا الوجود الواجبي أو الوجودات الخاصّة اللازمة له
المرتبطة به بذاتها التي هي أظلاله وتوابعه وعكوسه ولوازمه وارتباطاته ومراتبه ؛
ولاشتراك جميعها في التعلّق والارتباط الذاتي بصرف الوجود وكونها مناسبة له
مترشّحة عنه واتّحادها من حيث الأصل والسنخ ينتزع عنها معنى واحد هو الوجود المطلق ؛ ومن حيث اختلافها
وتغايرها بالجهات العدمية الراجعة إلى أنحاء قصوراتها تنتزع عنها الماهيّات المختلفة ؛
ولتفاوتها في القرب والبعد من الحقّ الأوّل وفي أنحاء الكمالات الوجودية يكون
الوجود المنتزع عنها مقولا بالتشكيك ؛ ومثال ذلك من وجه أنّ الشمس إذا وقعت في
المرايا المتعدّدة أوّلا بلا ترتيب وتوسّط أو بالترتيب وتوسّط بعضها لبعض بأن يقع
__________________
عكسها أوّلا في
مرآة وتقع عكس هذا العكس في مرآة ثانية وعكس عكس العكس في ثالثة وهكذا ينتزع عن
جميعها معنى واحد هو الضوء مع التعدّد والاختلاف في منشأ الانتزاع.
ثمّ الحقّ : أنّ تلك المقدّمة ـ أعني استلزام القدر المشترك العرضي
للقدر المشترك الذاتي ـ قطعية لا يقبل المنع لما مرّ ؛ فلا بدّ من تسليمها.
والجواب بما
ذكرناه والقدح فيها تارة بالفرق بين الوحدة الشخصية والوحدة الكلّية العامّة واخرى
بالفرق بين العلّية بمعنى الإيجاد والتأثير وبين العلّية مطلقا أعمّ / B ٨٠ / من التأثير ؛ وكون الشيء موقوفا عليه لشيء آخر في الجملة
في أحد الوجودين باطل ، لاشتراك الدليل.
فإن قيل : هذه المقدّمة ينتقض بمثل الإمكان والمعلولية المشتركين بين الجوهر والعرض والمجرّد والمادّي ومثل الزوجية
والفردية المشتركين بين أزواج العدد وأفرادها مع اختلاف مراتب الأعداد بالماهيّة
ومثل الحرارة المشتركة بين النار والشمس والحركة. فإنّ جميعها مشتركات عرضية بين
الأشياء المتخالفة المذكورة مع فقد المشترك الذاتى لها.
قلنا : التأمّل يعطي عدم الانتقاض بشيء من المذكورات ؛ أمّا
بالإمكان والمعلولية ونحوهما ؛ فلأنّها تابعة لمشترك ذاتي هو الماهيّة المطلقة
الذاتية لكلّ ممكن ومعلول.
فإن قيل : الذاتي إمّا جنس أو نوع أو فصل ؛ وظاهر أنّ الماهيّة
المطلقة ليست فصلا وكذا لا يمكن أن يكون نوعا للجوهر والعرض والمجرّد والمادّي ؛
لأنّ اختلاف أفراد النوع الحقيقي بالتشخّص لا بالحقيقة ، والاختلاف بين المذكورات
إنّما هو بالحقيقة ؛ وكذا لا يمكن أن يكون جنسا لها ؛ إذ الجنس لا بدّ أن يتحصّل
__________________
أنواعه بالفصول
وليس هنا معنى من المعاني وحقيقة من الحقائق يصحّ أن يكون فصلا مقوّما للماهيّة
ومحصّلا لأنواعها ؛ ولا يمكن أن تكون تلك الفصول هي معاني الجوهر والعرض والمجرّد
والمادّي وحقائقها ؛ لأنّ تلك المعاني أنواع للماهيّة المتحصّلة ؛ فلا يصحّ أن
تكون فصولا محصّلة لأنفسها.
قلنا : الماهيّة جنس للجوهر والعرض والمجرّد والمادّي ، وفصولها
إنّما هي وجوداتها الخاصّة.
فإن قلت : الجنس لا بدّ أن يكون له في مرتبة ذاته نحو من التحصّل
ويكون في تحصّله النوعي محتاجا إلى الفصل ؛ والماهيّة في حدّ ذاتها صرف العدم وليس
لها في مرتبة ذاتها تحصّل جنسي يصير هذا التحصّل بوجود الجوهر أو العرض محصّلا أقوى هو التحصّل النوعي.
قلت : قد عرفت سابقا أنّ نحو التحصّل الذي يكون لكلّ جنس عال في
مرتبة ذاته إنّما هو في ضمن / A ٨١ / السافل ؛ فأيّ
مانع من أن يكون للماهيّة في ضمن الجوهر في مرتبة ذاته نحو تحصّل وبوجود الجوهر
يحصل تحصّل نوعي وذلك كتحصّل الجوهر في ضمن الجسمية المطلقة وتحصّلها
في ضمن الحيوان وهكذا ؛ والتفرقة تحكّم .
وقد عرفت أنّ هذه
التحصّلات إنّما هي في العقل والتحصّل الخارجي إنّما هو بالفصل الأخير الذي هو
الوجودات الشخصية.
ولا يبعد أن يقال : إنّ مثل الإمكان والمعلولية راجع إلى الافتقار وهو ذاتي
الممكن والمعلول ؛ إذ الموجود المطلق الذي هو أعمّ المفهومات العرضية ينقسم إلى
الوجود الغنيّ والوجود المحتاج ؛ ولكون الاحتياج مستلزما لنوع تركيب
__________________
يكون بمنزلة الفصل
للمحتاج والممكن والمعلول وأمثالها ؛ إذ الاحتياج مترتّب على الجهة العدمية
المستلزمة للتركيب بخلاف الغنى ؛ فإنّه لا يوجب تركيبا ؛ لأنّه من لوازم صرافة
الوجود ؛ فهو عين الذات الواجبة.
وأمّا عدم
الانتقاض بالزوجية والفردية لأنّهما أيضا تابعان لقدر مشترك ذاتي هو الخصوصية
الشاملة لأعداد الأزواج أو الأفراد ؛ فإنّ مطلق الكمّ كما ينقسم أوّلا بفصلين هما
الاتّصال والانفصال ؛ والكمّ المتّصل ينقسم إلى أجناس أو أنواع بفصول معيّنة فكذلك
الكمّ المنفصل أيضا ينقسم أوّلا بفصلين هما الخصوصية الشاملة لأعداد الأزواج
والخصوصية الشاملة لأعداد الأفراد وإن لم يكن لتلك الخصوصية اسم معيّن وتلك
الخصوصية ذاتي بمنزلة الفصل لتلك المراتب من الأعداد ـ أي الأزواج أو الأفراد ـ وتنتزع
عنها الزوجية أو الفردية ؛ وقس على ذلك انتزاع الحرارة المطلقة عن النار والشمس
والحركة ؛ فإنّ لها خصوصية شاملة لها مناسبة للحرارة المطلقة تنتزع عنها تلك
الحرارة وإن لم يعلم اسم تلك الخصوصية ؛ فإنّ بديهة العقل قاضية بأنّ انتزاع / B ٨١ / الحرارة عنها دون ساير الأشياء إنّما هو لأجل مناسبتها
لها دونها وإلّا لم يكن معنى لترتيبها عليها دونها ؛ فإذا كانت تلك الحرارة
المترتّبة على الثلاثة معنى واحدا غير مختلف الحقيقة وجب أن يكون جهة المناسبة
أمرا واحدا ذاتيا للكلّ ؛ وهو ظاهر.
فإن قيل : هنا برهان يدلّ على بطلان تلك المقدّمة ؛ وهو أنّ القوم
ذكروا أنّ الجنس ذاتي للأنواع وعرضي بالنسبة إلى فصولها ؛ إذ لو لم يكن عرضيا
بالنسبة إليها مع اندراجها تحته وصدقه عليها لكان جنسا لها أيضا ؛ فيلزم دخول
الجنس في النوع مرّتين تارة باعتبار جزئيته للنوع واخرى باعتبار جزئيته للفصل ؛
وهو باطل بالضرورة.
وأيضا : يلزم الدور ؛ لأنّ تحصّل الجنس بالفصل ؛ فلو كان الجنس جزءا
له لكان تحصّل الفصل أيضا به ؛ لأنّ تحصّل الكلّ بالأجزاء.
وعلى هذا نقول : لو كان ما به الاشتراك العرضي مستلزما لما به الاشتراك
الذاتي لكان الجنس الذي هو مشترك عرضي بين الفصول مستلزما لذاتي آخر يتناوله هو
جنس لتلك الفصول وهي أنواع له ويكون تحصّل هذا الجنس بفصول اخر ويكون اشتراك هذا الجنس بين تلك الفصول الاخر أيضا
كاشتراك العرضي ؛ فيكون مستلزما لذاتي آخر هو أيضا جنس لتلك الفصول الاخر وهي أيضا
أنواع له ؛ فيكون تحصّل هذا الجنس أيضا بفصول ثالثة وهكذا ؛ فيلزم التسلسل في
أجزاء الأنواع المحصّلة في الواقع ؛ وهذا باطل.
وأيضا : يلزم امتناع تصوّر كنه الماهيّة المحصّلة ؛ وهذا أيضا باطل.
فيجب أن لا يكون
القدر المشترك العرضي مستلزما لقدر مشترك ذاتي استلزاما كلّيا.
قلنا : في هذا البرهان مغالطة ؛ لأنّ الذاتي إنّما يكون جنسا
متحصّلا بالفصول إذا كان ذاتيا للحقائق المتحصّلة المركّبة ؛ وأمّا إذا كان ذاتيا
للامور الاعتبارية أو الحقائق البسيطة فلا يكون جنسا حقيقيا محتاجا إلى فصول حقيقية
في تحصّله ، بل يكون تعدّده وتكثّره بمراتب اعتبارية أو جهات عدمية لا تكون فصولا
حقيقية يكون هذا / A ٨٢ / الذاتي جنسا
لها ، مثلا الحيوان لكونه ذاتيا للإنسان والفرس والبقر وغيرها من الأنواع
المتحصّلة المركّبة يكون جنسا حقيقيا لها متحصّلا بفصول حقيقية هي الناطق والصاهل
وغيرها ؛ ولكون الجنس مشتركا عرضيا بين الفصول يكون الحيوان بالنسبة إلى الناطق
والصاهل وغيرهما من فصوله مشتركا عرضيا ؛ ولاستلزام المشترك العرضي للمشترك الذاتي
يكون لتلك الفصول
__________________
مشترك ذاتي هو
الحسّاس ينتزع عنه المشترك العرضي المذكور ـ أعني الحيوان ـ ثمّ الحسّاس لكونه
ذاتيا لهذه الفصول التي هي حقائق بسيطة لا يكون جنسا حقيقيا لتلك الفصول حتّى يكون
تلك الفصول أنواعا له ويتوقّف تحصّله على فصول حقيقية اخر ، بل إنّما يتكثّر ويصير
ناطقا وصاهلا وغير ذلك بتقيّدات وجهات عدمية لا تكون فصولا يكون الحسّاس مشتركا
عرضيا بينها ويتوقّف على جنس آخر وهكذا حتّى يلزم التسلسل.
ثمّ بعضهم قال : إنّ القدر المشترك العرضي إذا كان منتزعا من نفس المعروض
بذاته من دون مدخلية شيء آخر أصلا فهو مستلزم للقدر المشترك الذاتي ؛ وبذلك دفعوا
الشبهة الكمونيّة في التوحيد ؛ وأمّا إذا كان منتزعا من المعروض مع مدخلية شيء آخر
فلا يستلزم ذلك ؛ واشتراك دليل الاستلزام بين القسمين يدفع هذا التفصيل.
فإن قيل : الوجود المطلق ذاتي بالنسبة إلى حصصه ؛ لأنّها عبارة عن ذلك
المطلق مع قيد إضافته إلى فرد فرد ؛ فتلزم المحذورات المذكورة في حصّة الوجود
الواجبي.
قلنا : لا يلزم محذور بوجه ؛ لأنّ حصّة الوجود الواجبي ليس عين
ذاته ، بل هو أمر حاصل بملاحظة العقل بمعنى الوجود الكلّي مضافا إلى ذاته تعالى ؛
وتركيب الحصّة / B ٨٢ / عبارة عن هذا
الأمر ولا محذور فيه ؛ وهذه الحصّة غير ذاته ومتأخّرة عنها وعن ذلك المعنى الكلّي
أيضا ولا محذور أيضا في تأخّرها عن الكلّي ، كما لا محذور لو كان الأمر بالعكس ؛
أي كانت هذه الحصّة متقدّمة على ذلك الكلّي.
وقد تلخّص ممّا
ذكر أنّ الوجود بالمعنى العامّ الانتزاعي زائد في الجميع زيادة ذهنية ومشترك بين
الكلّ اشتراكا عرضيا معنويا ؛ وبمعنى مناط الموجودية
ومنشأ انتزاع
المعنى الأوّل عين في الواجب وزائد في الممكن ؛ لأنّ فيه جهة تعلّقه بموجده ؛ فإن
لوحظ جهة وحدة هذا المناط ولوحظت الوجودات بحسب أصلها ومفيضها فإمّا لا يكون مشتركا أصلا أو يكون مشتركا معنويا
من دون لزوم محذور ؛ وإن لوحظ جهة كثرته ـ أي من حيث كون وجودات الممكنات مقيّدات
بقيود الأكوان ومفروضات لماهيّات الإمكان ـ فالاشتراك لفظي ؛ لأنّ تلك الوجودات
بالمعنى المذكور حقائق مختلفة متباينة ليس بينها قدر مشترك أصلا ؛ فإنّ بعضها صرف
الوجود غير معروض للماهيّة وتوابعها أصلا وساير الأفراد معروضات لماهيّات متخالفة
بالذات.
نعم للعقل أن
يخترع منها مفهوما من المفهومات كمفهوم مناط الموجودية ونحوه مشتركا بينها إلّا
أنّه يكون عرضا بالنسبة إلى تلك الموجودات مشتركا بينها لفظا ؛ إذ ليس بينها في
الواقع قدر مشترك حتّى يكون الاشتراك معنويا.
فإن قلت : اشتراك هذا المفهوم لفظا يوجب محذور اشتراك الوجود العامّ
الانتزاعي لفظا أيضا ؛ إذ حينئذ لا يصدق بأنّه موجود بالمعنى الذي صدق على الممكن
؛ فيلزم أن يصدق نقيضه وهو الله معدوم ؛ وهو كفر وزندقة.
قلنا : فرق بين الصورتين وإنّما المحذور يختصّ بإحداهما ؛ لأنّ صفة
الموجود إذا كانت مأخوذة من معنى الوجود الانتزاعي يكون الاشتقاق حقيقيا ويكون
معناه أنّ ذلك الشيء موصوف بالوجود ومنشأ لانتزاعه وأنّه ممّا تترتّب عليه الآثار
الخارجية ؛ فإذا لم يصدق / A ٨٣ / هذا على الواجب
مثلا لم يصدق عليه أنّه ممّا تترتّب عليه الآثار ؛ فيكون معدوما قطعا ؛ فيصدق عليه
المعدوم ؛ وأمّا إذا كانت مأخوذة من معنى مناط الموجودية يكون الاشتقاق جعليا
ويكون معناه أنّه منسوب إلى الوجود ويكون معنى هذه النسبة في الممكن أنّه متعلّق
جعل الجاعل
__________________
وفي الواجب أنّه
منسوب إلى الوجود الذي هو عين ذاته ؛ فعلى هذا إذا لم يصدق هذا المعنى الذي في
الممكن على الواجب لم يلزم أن يصدق عليه أنّه معدوم ، بل يصدق عليه أنّه ليس
متعلّق جعل الجاعل ؛ لأنّه واجب الوجود والوجود عين ذاته ؛ وهذا هو المطلوب.
[الثالث :] أنّه مقول على أفراده الخارجية بالتشكيك ؛ وأنحائه ثلاثة :
الأولوية والأقدمية والأشدّية ومقابلاتها ؛ وجميعها يقع في الوجود ؛ فإنّ الوجود
في العلّة والجوهر أولى وأقدم منه في المعلول والعرض ، وفي الوجود القارّ أشدّ منه
في غيره كالزمان ؛ فإنّ وجوده أضعف من وجود الجسم ؛ إذ الأثر المترتّب عليه أقلّ
من الأثر المترتّب على وجود الجسم ؛ فيكون أشدّ ؛ إذ المراد بالشدّة والضعف هنا
كثرة الآثار وقلّتها لا حركة الماهيّة في الوجود على نحو الحركة في الكيفيات ؛
فإنّها منفية في الوجود ، كما صرّحوا به ؛ وفي الواجب أولى وأقدم وأشدّ منه في
الممكن ؛ لأنّه في الواجب مقتضى ذاته وفي الممكن من الواجب ؛ فيتّصف وجوده تعالى
بالأنحاء الثلاثة الكمالية ووجود الممكن بمقابلاتها.
ثمّ المراد من كون
الوجود المطلق مقولا بالتشكيك أنّ إطلاقه على بعض الأفراد وصدقه عليه أولى وأقدم و
أشدّ من إطلاقه على بعض آخر وصدقه عليه ؛ فالتشكيك إنّما يقع في نفس هذا
المفهوم العامّ العرضي بالنسبة إلى الوجودات الخاصّة ؛ فاختلافها
بالتشكيك إنّما هو بالنظر إلى أمر عرضي لها دون ذاتي لها ؛ إذ
الوجود المطلق ـ كما عرفت ـ عرضي بالنسبة إليها وإنّما هو ذاتي بالنسبة إلى حصصه ؛
فهى مختلفة بالتشكيك / B ٨٣ / في الذاتي وما
به الاختلاف فيها عين ما به الاتّفاق ؛ فالوجودات الخاصّة اختلافها إنّما هو
بأنفسها وأنحاء
__________________
وجوداتها المجهولة
بالكنه وساير ما يلحقها من الماهيّات والعوارض وأنحاء التشكيك من التقدّم والتأخّر
والكمال والنقص والشدّة والضعف والغنى والفقر من اللوازم والتوابع بمعنى أنّها من
مقتضيات ذواتها المتخالفة ومنتزعاتها بعد تماميتها وليس شيء منها من ذاتياتها.
فيتخصّص كلّ منها بنفس حقيقته وساير ما يلحقه من اللوازم والعوارض يترتّب عليه ؛ ولا
يمكن استناد تخصّصها وتميّزها إلى أنحاء التشكيك ؛ لأنّها إنّما يقع في العامّ
الانتزاعي ولكونه عرضيا لها تكون أوصافه خارجة من حقائقها ؛ ولو كان اختلافها بمجرّد
التشكيك في وجود ذاتي لها لزم اشتراك الواجب والممكن في الحقيقة وكون الاختلاف
والتكثّر بمجرّد هذه الأنحاء الاعتبارية ؛ وهو باطل.
ثمّ التحقيق : أنّ الأنحاء الثلاثة تقع في الوجودات بنفس هويّاتها وفي
غيرها من المعاني والماهيّات بوساطتها. فقول المشّائين بتقدّم العقل على الهيولى
بالطبع وجزئي الجسم عليه بالطبع ؛ إذ العلّية راجع إلى التقدّم في الوجود لا في
الماهيّة أو في حمل الذاتي كالجوهر عليها ؛ ففي الوجود ما به التقدّم والتأخّر وما
فيه متّحد ؛ وفي غيرها من المعاني والماهيّات كأجزاء الزمان والعقل والنفس والأب
والابن مختلف ؛ إذ الأوّل فيها هو الوجود والثاني نفس وذاتها وماهيّاتها. فالتقدّم
والتأخّر في الوجود لنفسه وفي غيره لأجله ؛ وكما أنّ تقدّم بعض الأجسام على بعض في
الوجود لا في الجسمية فكذا تقدّم العلّة على المعلول والاثنين على الثلاثة ؛ فإن
لم يعتبر الوجود فلا تقدّم ولا تأخّر.
وبعض من صرّح
بعروض التقدّم والتأخّر بالذات للوجود وبواسطة لغيره جعل ما به وما فيه في أجزاء
الزمان لنفسه وحكم / A ٨٤ / باتّحادهما فيه
وكذا جعل الأوّل في الأب والابن الزمان وقد عرفت أنّه الوجود لا غير. نعم هما في
__________________
الوجود نفسه مع
قطع النظر من غيره ؛ فلا يعرضان إلّا لنفسه ؛ وفي ما يكون التقدّم فيه بالعلّية أو
الطبع كالعقل والنفس وإن كان ما به وما فيه بالذات هو الوجود إلّا أنّ التقدّم
والتأخّر يعرضان لماهيّتهما بواسطته ؛ فيتّصفان بتبعيته بما فيه دون ما به لاختصاصه
بالوجود ؛ وأجزاء الزمان مثلهما في ما ذكر إلّا أنّهما يتّصف بما به أيضا بالعرض ؛
فهي تتّصف بهما بالعرض ويتّحد فيها هذان العرضيان ؛ وفي الأب والابن يعرض التقدّم
والتأخّر أوّلا للوجود وبواسطته للزمان وبتبعيته لهما. فما به وما فيه بالذات هو
الوجود والزمان يتّصف بهما بالعرض وذاتهما يتّصف بالعرض بالثاني دون الأوّل.
[الرابع :] أنّه زائد على الماهيّة في جميع الموجودات من الواجب
والممكن ، والواجب وإن لم تكن له ماهيّة إلّا أنّ وجوده الخاصّ قائم مقامها في هذا
الحكم بمعنى أنّ الوجود المطلق زائد على وجوده الخاصّ الذي هو صرف الوجود ؛
والمراد من عينية الوجود في الواجب أنّه عين الوجود الحقيقي القائم بذاته لا
أنّه عين هذا المفهوم المشترك ؛ فإنّه زائد في الجميع بلا خلاف.
ثمّ على ما هو
التحقيق من ثبوت الوجودات الخاصّة للممكن يكون هذا المفهوم العامّ زائدا عليها أيضا
كما في الواجب بلا تفاوت ؛ وقد عرفت أنّ الأصل في التحقّق هو الوجود الخاصّ ؛ وكلّ
من المطلق والماهيّة منتزع عنه ؛ وعلى هذا يكون الماهيّة في الممكن أيضا زائدا على
وجوده الخاصّ ؛ فإنّ المراد من الزيادة هو المغايرة في المفهوم دون الخارج ؛ إذ
المتحقّق في الخارج هو الوجود الخاصّ أو الماهيّة ؛ وليس بهذا المفهوم تحقّق في
الخارج ، بل هو منتزع عن أحدهما. فالانتزاع هو منشأ الحكم بالزيادة وهو ثابت في
الماهيّة أيضا بالنظر إلى الوجود الخاصّ على المختار ؛ فإنّ المتحقّق في الخارج
حينئذ ليس إلّا الوجود الخاصّ و
__________________
الماهيّة منتزعة
عنه باعتبار ما لحقه / B ٨٤ / من الجهة
العدمية القصورية ، كما أنّ الوجود المطلق منتزع عنه باعتبار جهة الوجودية
الكمالية.
ثمّ هذا الحكم ـ أعني زيادة الوجود على الماهيّة ـ ممّا اتّفق عليه
جمهور الحكماء ومحقّقوا المتكلّمين وإنّما خالفهم أبو الحسن وأبو الحسين وأتباعهما
القائلون بأنّ وجود كلّ ماهيّة عبارة عن نفس حقيقتها ؛ والحقّ أنّ هذا الحكم بديهي
وضرورة العقل قاضية به ومع ذلك تدلّ عليه وجوه من الأدلّة :
[الأوّل :] أنّ تعقّل الوجود قد ينفكّ عن تعقّل الماهيّة ؛ أي تعقّل الماهيّة
ولا يعقّل وجودها الخارجي ـ أي ظهورها العيني ـ وهو ظاهر ولا وجودها الذهني ؛ لأنّ
تعقّل الشيء لا يستلزم تعقّل ذلك التعقّل.
والحاصل : أنّ تعقّل الماهيّة وإن كان عبارة عن وجودها في الذهن لكنّ تعقّلها
غير تعقّل وجودها في الذهن ؛ فإنّ تعقّل وجودها في الذهن غير وجودها فيه بالاعتبار
؛ لأنّ التعقّل غير المتعقّل بالاعتبار وإن كان عينه بالذات في بعض الصور ؛ وإذا
انفكّ الوجود عن الماهيّة في التعقّل ثبت أنّه لا يكون نفسها ولا داخلا فيها وإلّا
لامتنع انفكاك تعقّله عن تعقّلها.
وبمثل هذا الدليل
يثبت زيادة المطلق والماهيّة على الخاصّ ؛ لأنّ تعقّلهما دون الخاصّ لكونه مجهول
الكنه ؛ ويؤكّد المطلوب أنّا نعقّل الماهيّة ونشكّ في وجودها الخارجي والذهني ؛
ولو لم يكن الوجود زائدا عليها وكان ذاتيا لها لما انفكّ في التعقّل عنها ؛ إذ
تعقّل الشيء يستلزم تعقّل ذاتياته.
فإن قيل : حاصل هذا الدليل أنّا نتصوّر الماهيّة ولا نصدّق بوجودها ؛
فالماهيّة معلومة ـ أي تصوّرا ـ والوجود ليس بمعلوم ـ أي تصديقا ـ فلا يتّحد الوسط.
__________________
قلنا : التعقّل أعمّ من التصديق ؛ فلا وجه لحمل الكلام على ما ذكرت
، بل المراد أنّا نتصوّر الماهيّة ولا نتصوّر وجودها أو أنّا نصدّق / A ٨٥ / بثبوت الماهيّة وذاتياتها بمعنى أنّها هي هي من غير
تصديق بثبوت الوجود العيني أو الذهني لها.
فإن قيل : محصّل الدليل أنّا نعقّل الماهيّة مع الغفلة عن وجودها الخارجي والذهني ؛ وهو لا
يدلّ على زيادة المطلق.
قلنا : زيادة كلّ منهما يستلزم زيادته ، بل نقول : زيادة المطلق
بمعنى مغايرة مفهومه مع مفهومها في البداهة بحيث لا يحتاج إلى تنبيه أيضا والمحتاج إلى التنبيه إنّما هو
زيادة قسميه لا من حيث مفهومهما أيضا ، بل بحسب حصصهما وما يظنّ كونه أفرادا لهما بحسب ماهيّة ماهيّة.
[الثاني :] أنّ الوجود لو لم يكن زائدا على الماهيّات لكان إمّا عينها
أو جزءا لها ؛ وكلاهما محال.
أمّا الأوّل : فلأنّ الوجود معنى واحد في جميع الوجودات ؛ فلو كان عين
الماهيّات لاتّحدت الماهيّات في جميع الموجودات ولم تتحقّق مغايرة ذاتية بين
ماهيّة وماهيّة ؛ وهو باطل بالضرورة.
وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان جزءا لهما فلكونه جزءا مشتركا يكون لها جزء
آخر يحصل به الاختلاف ؛ ولا بدّ أن يكون ذلك الجزء موجودا ، لامتناع تقوّم الموجود
بالمعدوم ؛ فيلزم كون الوجود جزءا لهذا الجزء أيضا ؛ إذ المفروض أنّ الوجود جزء
لجميع الموجودات ؛ فهذا الجزء أيضا يحتاج إلى ما به الاختلاف وهو أيضا يجب أن يكون
موجودا لما ذكر وهكذا ينتقل الكلام إلى أجزاء الأجزاء ؛ فيلزم أن لا تنحصر أجزاء
الماهيّة ، بل تكون غير متناهية ؛ وهو محال :
[١.] أمّا على فرض
كون الوجود جزءا خارجيا للماهيّة ـ مع كون هذا الفرض
__________________
باطلا ؛ لأنّ
الوجود العامّ من المعقولات الثانية الاعتبارية ـ فللزوم التسلسل ؛ ضرورة كون تلك
الأجزاء مترتّبة في الوجود.
[٢.] وأمّا على
فرض كونه جزءا عقليا فلأنّه حينئذ يكون جنسا أو مستلزما للجنس ؛ فيكون هناك فصل
موجود والوجود جزء له أيضا وهكذا إلى غير النهاية ؛ فيلزم امتناع / B ٨٥ / تعقّل ماهيّة من الماهيّات بالكنه ؛ وهو باطل ؛ لأنّا
نعقّل بالضرورة كثيرا من الماهيّات بالكنه بمعنى تصوّر جميع ذاتياته الأوّلية
والثانوية على أنّها يجب كونها مرتسمة في المبادئ العالية مع كونها مترتّبة ؛
فيلزم التسلسل.
وهذا على ما هو
الحقّ المشهور من عدم تحقّق الأجزاء العقلية متمايزة في الخارج ؛ لأنّ الأجزاء
العقلية لكونها متّحدة في الوجود لا تقدّم لها على الكلّ ؛ وأمّا على الرأي
السيّد السند من أنّه لا منافاة بين الاتّحاد في الوجود الخارجي وبين التقدّم ؛ إذ
التقدّم راجع إلى حقيقة في الوجود وهو لا ينافي اتّحاد المتقدّم والمتأخّر في الوجود
، لجواز أن يكون نسبة الوجود إليه من حيث إنّه جزء أحقّ من نسبته إليه من حيث إنّه
كلّ وآئدة بما تكرّر في كلام الشيخ من تقدّم الطبيعة من حيث هي على الطبيعة
الشخصية والكلّية تقدّم البسيط على المركّب نظرا إلى أنّ الطبيعة لا بشرط شيء
متّحدة مع الطبيعة بشرط شيء في الوجود ؛ فيكون لها تقدّم على الكلّ بحسب الخارج
وتكون تلك الأجزاء مترتّبة فيه ؛ فيلزم التسلسل.
وأيضا على
التقديرين لا بدّ من الانتهاء إلى البسيط ؛ لأنّ الكثرة مطلقا لا بدّ اشتمالها على
واحد غير كثير هو مبدئها ؛ فتنتهي سلسلة التركيب إليه لا محالة ؛ هذا خلف ؛ ومنع
ذلك في الكثرة من الأجزاء العقلية قياسا على الكثرة الفرضية من انقسام المقادير
مكابرة ؛ إذ الأجزاء العقلية متمايزة في حدّ ذواتها وفي نفس الأمر بخلاف الأجزاء
الفرضية في المقادير ؛ فإنّ حصولها بمجرّد تحليل العقل وتعمّله.
__________________
وأورد على هذا الدليل بأنّه إنّما يدلّ على أنّ الوجود ليس عينا في جميع
الموجودات ولا جزءا لجميعها ولا يلزم من ذلك كونه زائدا في الجميع ؛ لاحتمال أن
يكون زائدا في بعض وعينا أو جزءا في البعض نظرا / A ٨٦ / إلى أنّه مقول بالتشكيك وليس متواطيا حتّى يكون مقتضاه
في الكلّ واحدا.
واجيب بأنّه إذا كان بذاته مقتضيا للأحوال الثلاثة ـ أي الزيادة
والعينية والجزئية ـ كان كلّ حصّة من حصصه متّصفا بتلك الأحوال الثلاثة ؛ فيكون
وجود الواجب مثلا عارضا لبعض الماهيّات جزءا لبعضها وعينا لبعضها ، لامتناع تخلّف
مقتضى الذات ؛ وهو كما ترى.
والأصوب في الجواب أن يقال : إنّ كونه عينا أو ذاتيا لبعض الماهيّات المتخالفة بالذات
دون بعضها ينافي وحدته ولو مع التشكيك ؛ إذ عين ماهيّة مخالفة بالذات لما هو ذاتي
أو عارض لماهيّة اخرى ؛ فيلزم تكثّره بالذات ؛ هذا.
وأورد بعضهم على هذا الدليل بأنّ مذهب الصوفية أنّه ليس في الواقع إلّا ذات واحدة لا
تركّب فيها أصلا ، بل لها صفات هي عينها وهي حقيقة الوجود المنزّه في حدّ ذاتها عن
شوائب العدم وسمات الإمكان ؛ ولها تقيّدات بقيود اعتبارية بحسب ذلك يتراءى موجودات
متمايزة ؛ فيتوهّم من ذلك تعدّد حقيقي ؛ فما لم يقم برهان على بطلان ذلك لم يتمّ
ما ذكر من عدم اتّحاد الماهيّات واشتراك الوجود ؛ إذ لا يثبت حينئذ وجود ممكن
أصلا.
وأجاب عنه الشريف المحقّق بأنّ هذا خروج عن طور العقل ؛ فإنّ البديهة
شاهدة بتعدّد الموجودات تعدّدا حقيقيا وأنّها ذوات وحقائق متخالفة بالحقيقة دون
الاعتبار فقط ؛ والذاهبون إلى تلك المقالة يدّعون استنادها إلى مكاشفاتهم
ومشاهداتهم وأنّه لا يمكن الوصول إليها بمباحث العقل ودلالته ، بل هو مفرد هناك
كالحسّ في إدراك
المعقولات ؛ وأمّا المعتقدون بدرجات العقل والقائلون بأنّ ما شهد له فمقبول وما شهد
عليه فمردود ذاته لا طور وراء طوره ؛ فيزعمون أنّ تلك / B ٨٦ / المكاشفات والمشاهدات على تقدير صحّتها مؤوّلة بما يوافق
العقل. فهم بشهادته بديهية عندهم مستغنون عن إقامة برهان على بطلان أمثال ذلك
ويعدّون تجويزها مكابرة لا يلتقت إليها ؛ وجليّة الحال في قول الصوفية قد ظهرت في
ما سبق.
ثمّ الظاهر أنّ ما
ذكروه لا ينافي الحكم المذكور ـ أعني القول بزيادة الوجود على الماهيّة واعتباراته
ـ وما ذكره القوم من زيادة الوجود على الماهيّة إنّما المراد منه زيادة الوجود
العامّ الانتزاعي عليها والصوفية لا ينكرون هذا الوجود ولا مغايرته مفهوما
للماهيّات وهو ظاهر ؛ إذ ظاهر أنّ مرادهم بوحدة الوجود هو أنّ الوجود الحقيقي واحد
والماهيّات المتخالفة شئونه.
[الثالث :] أنّ الوجود لو لم يكن زائدا على الماهيّة لم يتحقّق ممكن
أصلا ؛ لأنّ الإمكان عبارة عن تساوي نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم ؛ فلو كان
الوجود المطلق عين الماهيّة أو جزئها لم تتحقّق نسبة أصلا ؛ لأنّها إنّما تكون بين
متغايرين فضلا عن التساوي.
وأيضا كيف يكون
نسبة الشيء إلى عينه أو جزئه كنسبته إلى ارتفاعه؟!
قيل : من يزعم أنّ الوجود نفس الماهيّة يقول : إنّ بعض الماهيّات
يقتضي لذاتها كونها تلك الماهيّة في الخارج وهو الواجب لذاته وبعضها كالإنسان مثلا
يحتاج في كونه إنسانا في الخارج إلى غيرها وهو الممكن ؛ وليس هناك أمر يكون نسبة
الماهيّة إليه وإلى سلبه على السواء ؛ ولو سلّم فالمغايرة الاعتبارية كافية كما في
__________________
إدراك الإنسان
نفسه ؛ فلا يلزم من تحقّق الإمكان تحقّق وجود مغاير للماهيّة في المفهوم.
قلنا : كون الماهيّة تلك الماهيّة في الخارج مفهوم مغاير لمفهوم الماهيّة قطعا وهذا المفهوم هو المسمّى بالوجود ؛ لأنّه
كون الماهيّة إلّا أنّه زيد عليه قيد تلك الماهيّة وحينئذ نقول : إذا لم تقتض
الماهيّة لذاتها الاتّصاف بذلك المفهوم ولا عدم الاتّصاف به كان هناك مفهوم وراء
الماهيّة نسبة الماهيّة إليه وإلى سلبه على السواء ؛ فقد تحقّق [أنّ] الإمكان / A ٨٧ / بمعنى تساوى النسبة.
ثمّ على ما ذكرناه
من أنّ نسبة الشيء إلى نفسه أو جزئه لا يكون كنسبته إلى سلبهما لا حاجة إلى
التمسّك بكون الإمكان نسبة يقتضي طرفين حتّى يرد أنّ التغاير الاعتباري كان في ذلك.
وقد أورد عليه إيرادات ضعيفة اخر أوردناها بجوابها في قرّة العيون .
[الرابع :] أنّ الوجودات لو لم يكن زائدا على الماهيّة لكان
[١.] إمّا عينها
فلا يكون لحمل الوجود عليها في قولنا : «السواد موجود» مثلا فائدة ؛ إذ يكون
بمنزلة قولنا : «السواد سواد.»
[٢.] وإمّا جزئها
فلا يتوقّف حمله عليها على الاستدلال ؛ إذ ذاتي الشيء بيّن الثبوت له عند تعقّله
بالكنه ؛ ولا شكّ في كون بعض الماهيّات المتعقّلة بالكنه ـ كما مرّ ـ لكن إنّا نحتاج في كثير من الماهيّات المتعقّلة بالكنه إلى الاستدلال في
حمل الوجود عليها ؛ فلا يكون الوجود جزءا لها.
[الخامس :] أنّه لو لم يكن زائدا :
[١.] فإن كان عين
الماهيّة لزم التناقص ؛ إذ حينئذ قولنا : «السواد ليس بموجود»
__________________
بمنزلة قولنا : «السواد
ليس بسواد» وهو حكم باجتماع النقيضين ؛ والمراد بالتناقض إمّا أنّ شيئا ما ثبت له
السواد مثلا ارتفع عنه السواد أو معناه المصطلح وهو اجتماع قضيتين متناقضيتن في
الصدق ؛ إذ لنا قضية صادقة في الواقع وهي قولنا : «السواد ليس بسواد » أو «الموجود ليس بموجود » ولمّا كان قولنا : «السواد ليس بموجود» بمنزلة قولنا : «السواد
ليس بسواد» أو «الموجود ليس بموجود» كان مناقضا لتلك القضية الصادقة ؛ فيلزم
اجتماع النقيضتين مع أنّا نعلم أنّ قولنا : «السواد ليس بموجود» لا يستلزم التناقض
بشيء من المعنيين.
[٢.] وإن كان
جزئها وهو مشترك بين الواجب والممكن ؛ فيلزم تركّب الواجب ؛ إذ كلّ ما له جزء فله جزء آخر بالضرورة.
وقد أورد على هذين الوجهين أيضا إيرادان جوابهما ظاهر مع أنّك قد عرفت / B ٨٧ / أنّ الحقّ أنّ الدعوى بديهية وهذه الوجوه تنبيهات ؛ فلا
تضرّ عدم تماميتها.
ثمّ إنّ القائل
بالعينية احتجّ عليها بأنّ الوجود لو لم يكن عين الماهيّة وليس جزءا منها
بالاتّفاق لكان زائدا عليها قائما بها. فما لم تصفه بالموصوف فإمّا أن يقوم
بالماهيّة الموجودة أو بالماهيّة المعدومة ، لعدم الواسطة. فعلى الأوّل يلزم أن
تكون الماهيّة موجودة قبل وجودها ؛ وعلى الثاني يلزم أن تكون الماهيّة موجودة
ومعدومة ؛ وهو اجتماع النقيضين ؛ وأيضا يلزم قيام الموجود بالمعدوم ؛ وهو محال.
وأنت تعلم أنّ هذا
الإشكال إنّما يتأتّى على القول بأصالة الماهيّة وكون الوجود عارضا لها وأمّا على
ما اخترناه من أصالة الوجود الخاصّ المتحقّق بذاته وكون كلّ من الماهيّة
والوجود العامّ منتزعا عنها فلا إشكال أصلا.
__________________
[الخامس :] أنّه ليس جنسا لما تحته ؛ إذ لو كان جنسا لأفراده لكان
امتيازها بفصول مقوّمة ؛ فيلزم تركّب الواجب من الجنس والفصل.
واستدلّ عليه أيضا
بأنّه لو كان جنسا لأفراده وكان امتيازها بفصول مقوّمة والفصل المقوّم لا بدّ أن
يكون موجودا ؛ إذ غير الموجود لا يكون مميّزا ومقوّما للموجود ؛ فيلزم
أن يكون الفصل مشاركا للنوع في ماهيّة الجنس. فالجنس يحمل عليه كما يحمل على
النوع. فإذن يستدعي الفصل فصلا آخر والكلام في ذلك الفصل الثاني كالكلام في الأوّل
؛ فيلزم ترتّب الفصول إلى غير النهاية.
وبتقرير آخر : لو كان جنسا ففصله إن كان موجودا كان فصل الشيء نوعا له ؛
إذ يحمل عليه الجنس وإلّا لزم تقوّم الموجود بالمعدوم.
وأورد على التقريرين بأنّ فصول الجواهر جواهر مع أنّها ليست أنواعا لها ؛ إذ
الجنس بالنسبة إلى النوع ذاتي وبالقياس إلى الفصل عرضي ؛ فعلى هذا يمكن أن يكون
الوجود جنسا بالنسبة إلى الأنواع المندرجة تحته / A ٨٨
/ وأمرا عرضيا بالنسبة إلى فصولها ؛ فلا يكون حمله عليها كحمله على الأنواع حتّى
يحتاج إلى فصل آخر ويلزم التسلسل أو يكون فصل الشيء نوعا له وأنت خبير بأنّ كلّا
من الجنس والفصل والنوع لكونه جزءا عقليا لا بدّ له من مبدأ خارجي. فالمتحقّق في
الخارج ليس إلّا وجود خاصّ ـ أي وجود له جنسية عدمية خاصّة ـ فيؤخذ أوّلا من وجوده
الذي هو بمنزلة صورته المشخّص ومن جهته العدمية الخاصّة الماهيّة النوعية
الإنسانية مثلا.
ثمّ العقل يحلّل
هذه الماهيّة لتركيبها إلى جنس وفصل ويأخذ الجنس من مادّة هذه الماهيّة والفصل من
صورتها التي هي وجودها الخاصّ وإن كان تحقّقه في العقل دون الخارج. ثمّ العقل
يحلّل هذا الجنس أيضا ـ أعني الحيوان ـ إلى جنس
__________________
وفصل آخرين
ومادّته إلى مادّة وصورة آخرين ويأخذ الأوّل من الأولى والثاني من الثانية ويحلّل
هذا الجنس وهذه المادّة أيضا وهكذا إلى ما لا جنس له.
وعلى هذا لو كان
الوجود المطلق جنسا وكان له فصل لا بدّ لهما من مبدأ خارجي ؛ ولا ريب [في] أنّ
مبدأ الوجود المطلق لا يمكن أن يكون هو الحيثية العدمية الخارجية التي تنتزع عنها
الماهيّات ولا شيئا من الأجناس والفصول التي تنتزع عنها بالواسطة أو بدونها ؛
لأنّها مبدأ الأجناس والفصول هي غير الوجود. فبقي أن يكون مبدئه هو نفس الوجود
الخارجي ؛ وعلى هذا لا يبقى شيء آخر يمكن أن يكون مبدأ لفصله ، بل لا يبقى شيء
يمكن أن يكون فصلا له ؛ إذ مادّة الجنس ومبدئه لا يمكن أن يكون مبدأ لفصل أو نفسه
؛ وساير الأجناس والفصول لا مدخلية لها بالوجود حتّى يصلح لأن يكون فصلا له أو
مبدأ فصله ؛ إذ هي راجعة إلى الماهيّة التي لا يوجد في مفهومها الوجود أصلا.
وعلى هذا ، لو
قرّر الدليل ب «أنّه لو كان جنسا لوجب أن يكون له فصل ولا يوجد شيء يصلح لأن يكون
/ B ٨٨ / فصلا له لما ذكر» لم يرد عليه
شيء.
واستدلّ عليه أيضا
بأنّ الوجود لو كان جنسا كان الفصل المقسّم للجنس مقوّما لماهيّته مع أنّ حاجة
الجنس إلى الفصل في تحصّل وجوده دون تقرير ماهيّته وتقويم معناه.
وجه الملازمة : أنّ الوجود إذا كان له فصل مقسّم كان محصّلا لوجوده ،
والفرض أنّ الوجود نفس حقيقته ومعناه ؛ فيكون محصّلا لحقيقته ومقرّرا ومقوّما
لمعناه وماهيّته ؛ فينقلب المقسّم مقوّما.
وأورد عليه بأنّ حاجة الجنس إلى الفصل المقسّم إنّما هو للموجودية ؛
فلو كان الوجود هو الجنس لم يلزم أزيد من احتياجه إليه في الموجودية ولا ضير فيه ؛
إذ ليس للوجود موجودية بنفسه ؛ فلا مانع من احتياجه فيها إلى فصل من دون
حاجة له إليه في
تقويم ماهيّته التي هي الوجود. فالوجود المطلق من حيث هو ليس موجودا ويحتاج في
موجوديته إلى منشأ انتزاع عن وجود خاصّ أو ماهيّة ؛ فيجوز كونه جنسا
وكون هذا المنشأ لانتزاعه فصلا له بمعنى توقّف موجوديته عليه من دون توقّف حقيقته
التي هي نفس الوجود عليه.
وفيه : أنّ الوجود الخاصّ الذي يصلح عليه الموجودية لا يمكن أن
يكون فصلا له ؛ إذ هو مبدأ نفس الوجود الذي فرض جنسا ؛ ومادّة الجنس
ومبدئه لا يمكن أن يكون فصلا ؛ لأنّه شيء خارجي والفصل جزء عقلي.
وعلى هذا فالأصوب
في تقرير هذا الدليل أيضا أن يقال : إنّ الوجود لو كان جنسا احتاج إلى فصل مقسّم
مع أنّ الوجود إن كان موجودا بنفسه لم يفتقر إلى فصل ؛ وإن احتاج في موجوديته إلى
شيء آخر ؛ فهذا الشيء لا بدّ أن يكون هو الوجود الخاصّ ؛ إذ غيره من الماهيّة ؛
وما يوجد منها كذا هو مبدأ لغير الوجود من الأجناس والفصول ؛ والوجود الخاصّ
لتحقّقه في الخارج لا يمكن أن يكون فصلا ، لكون الفصل جزءا عقليا.
وممّا ذكر / A ٨٩ / يظهر أنّ الوجود لا يمكن أن يكون نوعا أيضا ، لإيجاب
النوعية التركّب في الواجب والافتقار إلى الفصل ؛ ولا يوجد شيء يصلح لأن يكون فصلا
له لما تقدّم ؛ ولا فصلا منطقيا ولا حقيقيا هو مبدأ المنطقي ؛ إذ المنطقي ماهيّة كلّية والوجود زائد
عليه ؛ وأيضا الوجود المطلق أعمّ الأشياء ؛ فلا يكون مميّز الشيء أحد العرضين العامّ والخاصّ ، لنوعية كلّ منهما بالقياس
إلى أفراده الذاتية وإن كان عرضا بالنسبة إلى غيرها ؛ وقد ظهر أنّه لا يمكن أن
يكون نوعا.
والتحقيق : أنّ كلّا من الكلّيات الخمسة يعتبر فيه أن يكون له أفراد خارجية
__________________
وبذلك يفرق بين
الكلّيات المنطقية والمفهومات الاعتبارية ؛ والوجود المطلق ليس له أفراد محقّقة ؛
لأنّه زائد على الوجودات الخاصّة ومنتزع عنها ؛ وما يقال في بعض الإطلاقات : «إنّها
أفراده» تجوّز وحصصه المنتزعة عنها امور اعتبارية غير محقّقة ؛ فلا تتحقّق له
أفراد واقعية ؛ فلا يمكن أن يكون جنسا أو نوعا أو فصلا وهو ظاهر ولا أحد العرضين
العامّ والخاصّ ؛ لأنّهما بالنسبة إلى أفرادهما الذاتية نوعان وإن كانا بالنظر إلى
غيرها عرضيّين.
وللانحصار الكلّي
في الخمسة وعدم كون الوجود شيئا منها يظهر أنّ الوجود ليس كلّيا وإطلاق الكلّى
عليه في بعض الأحيان تجوّز باعتبار المشابهة وليس على الحقيقة ؛ إذ الظاهر وفاقهم
على أنّ الكلّية والجزئية من عوارض الماهيّة دون الوجود.
وإذ ثبت عدم
جنسيته ونوعيته لما تحته يظهر كون الوجودات الخاصّة هويّات بسيطة تشخّصاتها بأنفسها
من دون احتياج إلى تشخّص ذاتي أو عرضي ولا يكون أفرادا للمطلق.
ثمّ لكون المطلق
أعمّ الأشياء وتحقّقها دون نفسها يظهر أنّه كما ليس أحد الكلّيات الخمسة ليس له
أيضا شيء منها ؛ فلا جنس له ولا فصل ولا نوع ، بل هو بسيط غير مركّب من الأجزاء مطلقا لا / B ٨٩ / المحمولة ولا غيرها ؛ لأنّ الجزء مطلقا لا محالة شيء
ويعرضه كون وتحقّق والوجود إنّما هو نفس ذلك الكون والتحقّق دون هذا الشيء ولا
المركّب منه ومن غيره.
والحاصل : أنّه بعد ملاحظة أنّ الوجود أعمّ الأشياء وأنّه كون الشيء
وتحقّقه لا أمر آخر يحكم العقل ضرورة بأنّه لا يمكن أن يكون له جزء أصلا ؛ وقد
تنبّه على ذلك أيضا بأنّه لو كان له جزء فإمّا أن يكون موجودا فيلزم تقدّم الشيء
على
__________________
نفسه أو يكون
معدوما فلزم تقوّم الشيء بنقيضه ، فإنّ الوجود يعرض لجميع المقولات ؛ فلو كان له جزء لكان معروضا لذلك الوجود ولزم أن يكون شيء عارضا لنفسه ؛ ولكون ذلك من باب التنبيه
لا يضرّه إمكان المناقشة فيه.
[السادس :] أنّه أخصّ من الشيء مفهوما ؛ لأنّ الشيء بعمومه يتناول
الوجود المطلق والماهيّة المقابلة للوجود وأفرادهما الخاصّة وللوجود المركّب
منهما. فالفرق بينهما بالعموم والخصوص ؛ وتساوقه تحقّقا بمعنى أنّ الوجود يستلزم
الشيء ولا ينفكّ عنه ؛ أي ما ثبت له الوجودية ثبت له الشيئية وكذا العكس ؛ أي أنّ
الشيء يستلزم معنى الوجود ولا ينفكّ عنه ؛ فكلّ ما ثبت له الشيئية ثبت له
الموجودية. فكلّ متحقّق في الخارج أو الذهن يصدق عليه الموجود يصدق عليه الشيء
أيضا وبالعكس ؛ ولا يمكن أن يتحقّق أحدهما في أحد الظرفين بدون الآخر ؛ والماهيّة
المجرّدة عن اعتبار الوجود وهي التي تؤخذ مقابلة للوجود وإن كانت مغايرة للوجود
مفهوما لأنّها فرد للشيء دون الوجود إلّا أنّها لا تتحقّق في أحد الظرفين إلّا مع
الوجود. فلا تكون شيئا ما لم تكن موجودة.
ثمّ لزوم الشيء
للموجود متّفق عليه بين الكلّ والعكس ـ أي لزوم الموجود للشيء ـ أيضا ثابت عند
الحكماء ومحقّقي الكلاميّين ؛ إذ البديهة قاضية بأنّ الشيء الخارجي أو الذهني لا ينفكّ عن الوجود
؛ وخالفت / A ٩٠ / المعتزلة في
ذلك وقالوا : «الشيء بحسب التحقّق أيضا أعمّ من الموجود ؛ إذ المعدوم الثابت شيء
وليس بموجود» وهذا مبنيّ على ما ذهبوا إليه من ثبوت المعدومات ؛ وحاصل كلامهم أنّ
المعدوم الممكن شيء ؛ أي الماهيّة المنفكّة عن الوجود ثابتة متقرّرة في الخارج.
فعندهم الثبوت والتقرّر أعمّ من الوجود ومساوق للشيئية ؛ و
__________________
المعدوم الممتنع
منفيّ وليس بثابت. فالمنفيّ عندهم أخصّ من العدم ومقابل للثبوت. فالكلّ متّفقون
على أنّ الممتنع المسمّى بالمنفيّ عند المعتزلة ليس بشيء ؛ وعند الحكماء وأكثر
المتكلّمين الممكن المعدوم أيضا ليس بشيء لعدم ثبوته ؛ والمعتزلة جعلوا الثبوت مقابلا للنفي وأعمّ من
الوجود والعدم أعمّ من النفي ؛ وذلك لأنّهم جعلوا الممكن المعدوم ثابتا وقالوا
بأنّه شيء ؛ إذ الثبوت والشيئية عندهم بمعنى واحد ومتلازمان.
وهذا القول منهم
بإزاء القول بالوجود الذهني للحكماء ؛ فإنّ الكلّ متّفقون على أنّ ثبوت الماهيّات
وتحقّقها إمّا في حدّ ذاتها بحيث لا تترتّب عليها الآثار أو بحيث تترتّب عليها
الآثار لكنّ المعتزلة ينسبون الوجهين إلى الخارج ويخصّون الأخير باسم الوجود ؛
والحكماء يسمّون كليهما وجودا ويقولون : الوجه الأوّل من الثبوت لا يتصوّر إلّا في
المدارك وهو الوجود الذهني ؛ ويفسّرون العلم بحصول صورة المعلوم في الذهن ؛
والمعتزلة جعلوا العلم نسبة متحقّقة بين العالم والمعلوم أو صفة حقيقية قائمة بذات
العالم موجبة للعالمية الموجبة لهذه النسبة ؛ ولهذا أمكنهم إنكار الوجود الذهني.
ولا يخفى أنّ حكم العقل ضرورة بعدم الفرق بين الثبوت والحصول والوجود
يبطل قولهم بتوسّط الثبوت بين الوجود والعدم. فيبطل ما فرّعوا عليه من ثبوت
الشيئية بدون الوجود ويثبت عدم انفكاك ثبوت الشيئية لأمر عن ثبوت الوجود له وإن
تغايرا مفهوما / B ٩٠ / ومعنى ؛ إذ
المعدوم الصّرف الذي لا ثبوت له في الخارج وفي شيء من المدارك لا معني لثبوت
الشيئية له. نعم كلّ ماهيّة يثبت له أحد الوجودين يمكن أن يلاحظه العقل معنى
مغايرا للوجود.
وبالجملة : الحقّ ـ كما صرّح به المحقّقون ـ أنّ امتناع كون الماهيّة
متقرّرة في
__________________
الخارج منفكّة عن
الوجود بديهي غير محتاج إلى الاستدلال ؛ إذ بعد ملاحظة أنّ المراد من الوجود إنّما
هو مجرّد تحقّق الماهيّة وكونها دون أمر زائد على ذلك لا مجال لتجويز أن تكون
الماهيّة في الخارج بلا كون فيه ؛ ولو جوّزه مجوّز كان مكابرا لمقتضى عقله.
ثمّ من جعل هذه
الدعوى ـ أي امتناع ثبوت المعدومات ـ نظرية استدلّ عليه بوجهين :
أحدهما : أنّ المعدوم لو كان ثابتا لامتنع تأثير القدرة في شيء من
الممكنات ؛ واللازم باطل بالضرورة والاتّفاق.
بيان اللزوم : أنّ التأثير إمّا في نفس الذات وهي أزلية والأزلية تنافي
المقدورية عند المتكلّمين كافّة وإمّا في الوجود وهو باطل ؛ إذ الوجود ليس بموجود
ولا معدوم حتّى يتصوّر تعلّق القدرة والتأثير به :
[١.] أمّا عند
القائلين بالحال فظاهر ؛ لأنّهم قالوا : إنّ المعلوم إن لم يكن له ثبوت في الخارج
فهو المعدوم وإن كان له ثبوت في الخارج فإمّا باستقلاله وباعتبار ذاته فهو الموجود
وإمّا باعتبار التبعية لغيره فهو الحال مثل العالمية والقادرية والوجود الإثباتي
وأمثالها. فالحال واسطة بين الموجود والمعدوم ؛ لأنّه عبارة عن صفة للموجود لا
تكون موجودة ولا معدومة.
[٢.] وأمّا عند
غيرهم فلأنّ الموجود لا ترد عليه القسمة بمعنى أنّه كون الشيء وتحقّقه وليس من حيث
هو وجود وكون للشيء شيء من الأشياء ؛ فلا يتّصف بهذه الحيثية بالكون أو نقيضه ؛ / A ٩١ / فلا يكون موجودا ولا معدوما وإنّما المتّصف بالكون أو
نقيضه والمنقسم إليهما ما هو شيء من الأشياء وأمّا في الاتّصاف ـ أي اتّصاف
الماهيّة بالوجود ـ وهو أيضا باطل ؛ لأنّ الاتّصاف منتف في الخارج وإلّا
__________________
لكان ثابتا فيه ؛
فكان متّصفا بالثبوت فيه واتّصافه بالثبوت أيضا كان ثابتا فيه ؛ [فكان] متّصفا
بالثبوت هكذا إلى غير النهاية ؛ فيلزم التسلسل المحال ؛ إذ لا فرق في إجراء أدلّة
بطلان التسلسل بين الموجودات في الخارج والثابتات فيه ؛ وإذا كان الاتّصاف منتفيا
في الخارج بالمعنى المقابل للثابت على ما هو مصطلحهم كان ممتنعا والممتنع غير
مقدور بالاتّفاق. فظهر أنّ القول بثبوت المعدومات ينافي القول بثبوت القدرة.
وثانيهما : أنّ الموجودات منحصرة متناهية باتّفاق المتكلّمين لإجرائهم
أدلّة امتناع التسلسل مطلقا من غير اشتراط الترتّب والاجتماع في الوجود ؛ وظاهر
أنّ المناط في صحّة جريانها هو مطلق الثبوت والتقرير والكون في الخارج من دون
اشتراط أمر زائد على ذلك وهو حاصل في الموجودات والثابتات ؛ واعتبارهم كون الوجود
أخصّ ومعتبرا فيه ما لا يعتنى في الثبوت لا يوجب التفرقة بينهما في التناهي وعدمه
؛ إذ لا حدّ لهذه الخصوصية في صحّة إجراء أدلّة بطلان التسلسل ؛ فيلزمهم القول
بانحصار الثابتات وتناهيها مع أنّ مذهبهم إنّ أشخاص كلّ ماهيّة نوعية غير متناهية
في العدم.
ثمّ المعتزلة
تمسّكوا في ثبوت المعدومات بوجوه ضعيفة أعرضنا عنه لظهور دفعها هذا وعلى ما مرّت
الإشارة إليه من عدم الواسطة بين الوجود والعدم وكون الوجود مرادفا للثبوت والعدم
مرادفا للنفي ويبطل القول بالحال كما ذهب إليه جماعة من المعتزلة وطائفة من
الأشاعرة ؛ فإنّهم ـ كما أشرنا إليه ـ قالوا : إنّ المعلوم إن لم يكن له ثبوت في
الخارج فهو المعدوم وإن كان له ثبوت فيه فإمّا باستقلاله و/ B
٩١ / باعتبار ذاته فهو الموجود وإمّا باعتبار التبعية لغيره
فهو الحال وهو واسطة بين الموجود والمعدوم ؛ لأنّه عبارة عن صفة للموجود لا تكون
موجودة ولا معدومة
، مثل العالمية والقادرية ونحو ذلك ؛ إذ لا معنى للموجود إلّا ذات لها صفة الوجود والصفة
لا تكون ذاتا ؛ فلا تكون موجودة ؛ فتكون صفة للموجود لا تكون بمعدومة أيضا لكونها ثابتة في الجملة
؛ فهي واسطة بين الموجود والمعدوم.
والحقّ : أنّ بطلان الحال بهذا المعنى ضروريّ ؛ فإنّ الموجود ما له
تحقّق والمعدوم ما ليس كذلك ولا واسطة بين النفي والإثبات.
ثمّ لمثبتين الحال
حجج واهية لا حاجة إلى ذكرها لظهور ضعفها.
ولمّا ثبت بطلان
القولين ـ أي القول بثبوت المعدومات والقول بالحال ـ يبطل ما فرّعوا عليهما كما
ذكر في الكتب الكلامية.
[السابع :] أنّه يساوق الوحدة بمعنى أنّه متّحد معها تحقّقا وإن غايرها
مفهوما ؛ وتحقيق المقام أنّ المعروف من المشّائين أنّ الوحدة عرض قائم بمحلّها
والمشهور من الإشراقيّين أنّها كالوجود من الامور الاعتبارية الموجودة في الذهن
دون الخارج ؛ والحقّ ـ كما ذهب إليه جماعة من المحقّقين ـ أنّ الوحدة والوجود
متّحدان في الحقيقة والمصداق مختلفان في المفهوم والاعتبار ؛ فحقيقة الوحدة
كالوجود من الامور العينية وما هو إلّا الوجود الخاصّ لكلّ شيء وليست من السلوب
والاعتباريات الذهنية والمعقولات الثانية ولا من الأعراض القائمة بالمادّيات
والمجرّدات وهي كالوجود مشتركة بين الوحدات معنى ، مقولة على أفرادها بأنحاء
التشكيك ولا يخلو شيء من الأشياء في مرتبة من المراتب عنها وكلّ ماهيّة موجودة من
أيّ حيثية اخذت فهي واحدة من تلك الحيثية ولا تنفكّ عنها ماهيّة موجودة وإن لم تكن
الوحدة ماهيّة شيء ولا جنسا ولا نوعا لها وهي كالوجود متّحدة مع الماهيّات في
الوجود زائدة عليها بحسب التصوّر.
__________________
وبالجملة : الوحدة
كالوجود لها مفهوم عامّ انتزاعي مغاير لمفهوم الوجود العامّ إلّا أنّها لا ينفكّ
عنه ومثله في الأحكام ، ولها حقيقة خارجية متحصّلة في الخارج هي عين الوجود الخاصّ
، متّحدة مع الماهيّة في التحقّق ضربا من الاتّحاد.
والدليل على ذلك أنّه لا ريب في أنّ كلّ وجود خاصّ لا ينفكّ عن وحدة خاصّة
وبالعكس كما أنّ الوجود العامّ لا ينفكّ عن الوحدة العامّة وبالعكس وإن اختلفا
بالمفهوم ، بل لو سألت الحقّ لم ينفكّ أحدهما عن الآخر في ظرف التحليل أيضا كما
أنّ الماهيّة أيضا لا ينفكّ فيه عن الوجود. فصرف الوجود الحقّ القائم بذاته هو صرف
الوحدة الحقّة القائمة بذاتها ؛ إذ كما هو بذاته منشأ لانتزاع الموجودية عنه كذلك منشأ
انتزاع الواحدية عنه. فإنّ المراد من كونه صرف الوجود أو الوحدة أنّه بذاته منشأ
انتزاعه ؛ وكذا الحكم في غيرهما من الصفات الكمالية الإلهية ؛ فمصداق الجميع
وحقيقته هو ذاته بذاته وإن اختلف مفهوماتها ؛ ولرجوع الجميع إلى وجوب الوجود
والقيّومية المطلقة لا يلزم في الذات حيثيات متغايرة والوجودات الخاصّة الإمكانية
كما أنّها وجودات مشوبة بالأعدام والماهيّات فائضة من الوجود الحقّ فكذلك هي وحدات
مشوبة بالكثرات صادرة من الوحدة الإلهيّة ؛ لأنّ صدق الوجود على كلّ منها باعتباراته بعد صدوره منشأ
لانتزاع الموجودية عنها. فيجب أن تصدق عليه الوحدة أيضا ؛ لأنّه بعد صدوره منشأ
لانتزاع الواحدية عنه.
وممّا يدلّ على عينية الوحدة للوجود في
الخارج
أنّ وحدة زيد مثلا
لو لم يكن عين وجوده بأن يكون له وجود ووحدة مغايرة له لكان لوحدته وجود آخر ؛
فتحصل هناك وجودات ؛ فيكون لهما وحدتان ، لاستحالة حصول الاثنينية بدون وحدتين ؛
إذ لكلّ موجود وحدة ولكون الوحدتين مغايرتين للوجودين كما
__________________
هو الفرض يكون
للوحدتين وجودان آخران وللوجودين / B ٩٢ / وحدتان آخرتان
وهلمّ جرّا ؛ فتتضاعف الوحدات والموجودات متسلسلة إلى غير النهاية.
وإذ ثبت أنّ وحدة
كلّ شيء عين وجوده المتّحد مع ماهيّته في التحقّق والموجودية ؛ والاتّحاد في
الوجود يوجب الحمل ؛ فيلزم أن يكون وحدة الجوهر كوجوده جوهر بذلك الجوهر لا
بجوهرية آخر ولا أنّ ماهيّتهما ماهيّة الجوهر حتّى يكون الجوهر مقوّما لماهيّتهما
؛ إذ لا ماهيّة لهما ؛ وذلك كما أنّ فصل الحيوان حيوان بمعنى أنّه متّحد له في
الوجود ولا أنّ الحيوان مقوّم لماهيّته وكذا وحدة العرض ووجوده عرض بنفس عرضيته لا
بعرض آخر.
ثمّ صاحب الإشراق
ومن تبعه لمّا زعموا أنّ التسلسل المذكور في الدليل إنّما لزم من فرض كون الوجود
والوحدة من الموجودات العينية فذهبوا إلى أنّهما غير موجودين في الأعيان ، بل هما
من الاعتباريات ؛ فلا يلزم التسلسل الباطل ؛ وأنت تعلم أنّ التسلسل إنّما يلزم لو
كانا متغايرين في الوجود وعلى ما اخترنا من اتّحادهما فلا يلزم التسلسل أصلا.
ثمّ القول
باعتباريتهما في غاية السقوط ؛ ولاتّحادهما كلّ ما يبطل اعتبارية الوجود ـ كما
تقدّم ـ يبطل اعتبارية الوحدة أيضا وما يبطلها أيضا أنّ للوحدة آثارا خارجية
وأفعالا واقعية ؛ فإنّ الاتّصال الحقيقي وهو نوع من الوحدة يقتضي آثارا خارجية لا
يوجبها المنفصل ؛ وقس على ذلك ساير الوحدات ؛ والاعتباري الذهني لا يقتضي أمثال
هذه الآثار.
وبما ثبت من أنّها عين الوجود في الخارج وهو حقيقة عينية قائمة
بنفسها ـ كما مرّ ـ يبطل قول الشيخ وساير المشّائين بعرضيته.
__________________
اللمعة الثانية
في مايتعلّق بالواجب
من إثبات وجوده وصفاته وأفعاله
[في إثبات وجود الواجب تعالى]
الحقّ : أنّ إثبات وجوده من الضروريات / A ٩٣ / بل وجوده عند أهل البصائر أظهر الأشياء ؛ وشدّة ظهوره
ولمعانه صار سببا لخفائه على البصائر الكلّية والعقول الضعيفة وخفافيش الزمان
وغوامش ظلمة الإمكان ؛ ولذلك اضطرّ العقلاء إلى إقامة البراهين والاستدلال عليه
بوجوه قطعية مورثة لليقين ولهم طرق في ذلك أظهرها طريقة الإلهيّين المبتنية على
النظر في نفس الوجود وطبيعته وإثبات افتقاره إلى مبدأ واجب لذاته ويمكن أن يقرّر
بوجوه :
[الأوّل :] ما تقدّم مفصّلا من أنّ صرف الوجود القائم بذاته موجود
وإلّا لم يوجد موجود وهو الواجب لذاته.
ومجمله : أنّ الموجود إمّا حقيقة الوجود ـ أي صرفه الذي لا يشوبه شيء
من ماهيّة وحدّ ونهاية ونقص وقصور وعموم وخصوص ـ وهو الواجب لذاته ؛ ويجب أن يكون
موجودا ؛ إذ لو لم يكن صرف الوجود موجودا لم يوجد شيء من الأشياء ؛ إذ غيره إمّا
ماهيّة من الماهيّات أو وجود خاصّ مشوب بعدم وقصور ؛ وكلّ ماهيّة غير الوجود فهي
في حدّ ذاتها معدومة وإنّما تصير موجودة ومتحقّقة
بالوجود لا بنفسها
؛ كيف ولو اخذت بنفسها مطلقة أو مجرّدة عن الوجود لم يكن نفسها نفسها فضلا عن أن
تكون موجودة؟! لأنّ ثبوت الشيء لشيء فرع ثبوت المثبت له في نفسه ؛ فهي لكونها
معدومة في نفسها لا يمكن أن يصير سببا لوجود نفسها أو غيرها ؛ إذ علّية المعدوم
لوجود نفسه أو غيره غير معقولة ؛ والوجود الخاصّ المشوب بمهيّة أو نقص وعدم لكونه
غير صرف الوجود يكون فيه تركيب من الوجود بما هو وجود ومن خصوصية اخرى ؛ وكلّ
مركّب متأخّر عن بسيطه ومفتقر إليه ؛ فلا يمكن أن يكون واجبا بذاته ؛ فلا بدّ أن
يكون معلولا لغيره ؛ فهذا الغير إن كان محض الوجود الذي لا يشوبه شيء ثبت المطلوب
وإن كان وجودا خاصّا آخر مشوبا بالعدم ننقل الكلام إليه ؛ فيدور أو يتسلسل أو
ينتهي إلى حقيقة الوجود الذي لا يشوبه عدم وقصور ؛ والأوّلان باطلان ؛ فيتعيّن
الثالث.
[الثاني :] أنّا نجد بديهة أمرا نسمّيه بالوجود ؛ وهو أمر حقيقي قائم /
B ٩٣ / بذاته بالضرورة
أو الحدس أو الكشف ؛ فلا يكون له مبدأ وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ فهو
الواجب لذاته.
[الثالث :] أنّه لو كان شيء موجودا لكان واجبا لذاته أو لغيره ؛ إذ
الشيء ما لم يجب لم يوجد ؛ والأوّل المطلوب والثاني ينتهي إليه شيء ما موجود
بالضرورة ؛ فيلزم وجود الواجب لذاته دفعا للدور والتسلسل.
[الرابع :] أن يقال في موجود ما : إنّ تساوي وجوده وعدمه بالنظر إلى
ذاته و ترجّح أحدهما بالأولوية احتاج إلى العلّة وينتهي إلى
الواجب لذاته وإن ترجّح بالوجوب ثبت المطلوب.
[الخامس :] الوجود أمر واقعي ؛ فهو إمّا موجود بنفس ذاته أو بوجود زائد
أو غير موجود ؛ فعلى الأوّل ثبت المطلوب وعلى الثاني يلزم التسلسل وعلى الثالث
__________________
يكون له منشأ
انتزاع ؛ فهذا المنشأ إن كان منشأ بذاته من غير افتقار إلى شيء آخر حتّى الانتساب
إلى الغير كان واجبا لذاته وإلّا عاد الكلام حتّى ينتهي إلى الواجب لذاته ؛ وهذا
الطريق بتصريح الإشارات استدلال بالحقّ عليه وطريقة الصدّيقين الذين يستشهدون
بالحقّ لا الخلق عليه وإليه اشير في الكتاب الإلهي بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) .
وهذه الوجوه لا
يتوقّف على شيء سوى إبطال الدور والتسلسل أو إبطالهما مع إبطال الأولوية الذاتية ؛
وبطلان الثلاثة ظاهر محرز في الكتب العقلية ؛ ولو قيل : «مجموع الموجودات الممكنة
في حكم ممكن موجود واحد في جواز طريان العدم عليه ؛ فالمجموع كممكن واحد في
الافتقار إلى علّة خارجة عن ذاته» لم يتوقّف على شيء أصلا.
ومن جملة الطرق :
[١.] طريقة جمهور
الحكماء المبتنية على النظر في الإمكان والاستدلال منه على وجود واجب بالذات غير
ممكن.
[٢.] وطريقة
الحكماء المتكلّمين المبتنية على النظر في الحدوث والانتقال منه إلى محدث غير
حادث.
[٣.] وطريقة
الطبيعيّين المبتنية على النظر في الحركة والتغيّر والاحتجاج به على محرّك غير
متحرّك ولا متغيّر أصلا.
[٤.] وطريقة اخرى
مبتنية على النظر في أحوال / A ٩٤ / النفس
الإنسانية وخروجها من القوّة إلى الفعل والانتقال منه إلى ما هو بالفعل من جميع
الجهات بحيث ليس فيه ثبوت من القوّة أصلا.
وكيفية الاستدلال بهذه
الطرق يعلم من المقايسة على الطريقة الأولى ؛ و
__________________
قد ذكرنا تفصيلها
لها في كتاب جامع الأفكار ولوضوح المطلوب لا نطيل الكلام هنا بذكرها.
[في وحدة الواجب تعالى]
الواجب واحد في الذات ـ أي ذاته ـ بسيط من كلّ جهة ، غير مركّب من
ماهية ووجود أو حيثية اخرى ، بل هو صرف الوجود وفي الصفات ـ أي صفاته عين ذاته ـ وفي
وجوب الوجود ـ أي ينحصر وجوب الوجود فيه ـ ولا واجب سواه في الالوهية والفعل ـ أي هو المتفرّد بصنع
العالم وإيجاده ، لا شريك له في الإيجاد والصنع ـ فلا مؤثّر غيره ؛ وفي الوجود عند
الصوفية ـ أي ينحصر الوجود فيه بمعنى أنّ الوجود منحصر وواحد هو الواجب ولا موجود سواه ؛ وعلى هذا فالتوحيد ـ وهو في
الأصل جعل المتعدّد الواقعي أو الفرضي واحدا عليما كجعل أشخاص كثيرة نوعا واحدا
والأنواع المتعدّدة جنسا واحدا وهكذا إلى الأجناس العالية وجعلها حقيقة واحدة أو
عمليا كجعل الأدوية الكثيرة معجونا واحدا ؛ والمراد به في الشرع إثبات واحد في
المذكورات ونفي ما عداه ـ ينقسم إلى توحيد ذاتي وتوحيد صفاتي وتوحيد الوهي وتوحيد
وجودي ؛ وهنا مقامات أربعة :
[المقام الأوّل]
في بيان التوحيد الذاتي ؛ أي إثبات بساطته ذاتا من جميع الجهات
وعدم تركيب ذاته من شيئين أو حيثيتين أو أكثر
وبالجملة : إثبات كونه صرف الوجود البسيط من كلّ جهة ؛ وهذا المطلوب قد
ثبت
__________________
ممّا سبق ، لما تقرّر
من أنّ الواجب صرف الوجود المتقدّس عن شوائب التركيب والكثرة وأنّه الوجود
المتحقّق بذاته المحقّق لجميع الحقائق وأنّ الوجود الذي هو حقيقة الواجب أمر أصيل
محقّق قائم بذاته ، بسيط من جميع الجهات والحيثيات ، وهو بذاته منشأ لانتزاع
الوجود العامّ ، وهو حقيقة الوجود وما سواه من الوجودات الإمكانية صادرة منه ،
مترشّحة عنه ، تابعة له تبعية الظلّ لذي الظلّ والشبح لذي الشبح ؛ ولا نعني من حقيقة
الوجود إلّا ما هو قائم بذاته / B ٩٤ / متحقّق بنفسه
ومنشأ لانتزاع العامّ من حيث حقيقته وحاقّ ذاته وإن كان مجهول الكنه.
وعلى هذا فحقيقة
الوجود أمر أصيل قائم بذاته والوجود العامّ منتزع عنه بمعني أنّه اعتبار من
اعتباراته ؛ وعلى هذا ليس الواجب فردا من هذا العامّ لما يأتي ولا نائبا مناب
الوجود في انتزاع العامّ عنه حتّى لا يكون وجودا في الحقيقة ويكون إطلاق العينية
بضرب من المجاز لظهور بطلانه كما يأتي ، بل كما ذكرنا أنّه حقيقة الوجود ولا حقيقة
موجودة سواه والعامّ أمر اعتباري منتزع عنه والوجودات الخاصّة الإمكانية متحقّقة
بالارتباط به ولو لا ارتباطها به لكانت أعداما صرفة ؛ فهو محقّقها وحقيقتها ؛ فهي من حيث الأصل والسنخ والحقيقة واحدة ومن حيث
قصوراتها ونقصانها واستتباعها لما هيّأتها متكثّرة متعدّدة.
وممّا يدلّ على عينية الوجود في الواجب
وكونه صرف الوجود أنّ الوجود لو
كان زائدا فيه مغايرا له لكان إمّا جزئه أو عارضه أو معروضه.
والأوّل : يوجب التركيب المستلزم للاحتياج المنافي لوجوب الوجود ؛
وهذا لو كان كلّ من الجزءين موجودا متحصّلا ولو كان كلاهما أو أحدهما أمرا
اعتباريا لزم مع ذلك حصول الموجود المتحقّق الذي هو الواجب من اعتباريّين أو من
متحصّل واعتباري ؛ وهذا باطل.
__________________
وعلى الثاني : يلزم أن يكون معروضه متقدّما بالوجود على هذا العارض ـ سواء كان عارضا انتزاعيا
أو غير انتزاعي ـ لأنّ المعروض والمنتزع عنه متقدّم في الواقع على العارض
والمنتزع. فلو كان وجود المعروض والمنتزع عنه بهذا الوجود لزم تقدّم الشيء على
نفسه ؛ ولو كان بوجود آخر لزم التسلسل ؛ لأنّا إذا نقلنا الكلام إلى الوجود الآخر
وهكذا والمفروض أنّ الكلّ عارض ومعروضه موجود بوجود آخر غير هذا الوجود العارض لزم
وجود المعروض مرّات غير متناهية.
وأيضا : لا بدّ للعارض مطلقا / A ٩٥ / من علّة وعلّته إن كانت ذات المعروض لزم أن يكون شيء
واحد فاعلا وقابلا من جهة واحدة وإن كان غيره لزم احتياج الواجب في وجوده إلى غيره
؛ وهو باطل.
وبتقرير آخر : أنّ معروض الوجود لا بدّ أن يكون بحيث لا يكون له في حدّ
ذاته وجود حتّى يصحّ أن يعرض له الوجود. فيلزم أن يكون ذات الواجب في حدّ ذاته غير
موجود ؛ ويصير بعروض الوجود له موجودا ؛ فلا يكون واجب الوجود.
وأيضا : عروض العارض مطلقا يتوقّف على وجود المعروض والمفروض عدم
وجود له [مع] قطع النظر عن عارض الوجود ؛ فلا يصحّ العروض ولا يكون الذات أيضا
واجب الوجود.
وعلى الثالث : لمّا كان الواجب هو العارض للوجود يلزم افتقار الواجب في الوجود
إلى معروضه الذي هو الوجود سواء كان أمرا انتزاعيا أو غيره ؛ فلا يكون لذاته تعالى
في حدّ ذاته وجود أصلا ؛ ولو كان انتزاعيا لزم مع ذلك عروض الأمر الأصيل المتحصّل
المتحقّق للأمر الاعتباري ؛ وهو باطل.
__________________
[في ما يراد من عينية الوجود وذات الواجب ، وما يرد عليه]
اعلم أنّه على ما
أصّلناه من كون صرف الوجود أمرا أصيلا قائما بذاته متحقّقا بنفسه هو الواجب وكون
الوجود العامّ أمرا انتزاعيا محضا ومن عدم حصول الموجودية به لا يرد إشكال على
العينية كما ذكرناه.
وعلى ما ذهب إليه
جماعة من انحصار الوجود بهذا العامّ الاعتباري يرد على العينية أنّ الوجود لا يكون
عين ذات الواجب ؛ لأنّ الوجود أمر انتزاعي غير أصيل وذات الواجب أصيل قائم بذاته ؛
وكيف يمكن أن يكون الاعتباري عين الأصيل المتحصّل؟!
وأيضا : ذاته مجهول الكنه والحقيقة ، والوجود العامّ بديهي التصوّر
؛ وهما متنافيان ؛ فلا يجوز اتّحادهما.
وقد أجاب بعضهم عنه بأنّ المراد بالعينية هو العينية المجازية بمعنى أنّ ذات
الواجب / B ٩٥ / تعالى نائب
مناب الوجود في كونه سبب الوجود نفسه ومنشأ لانتزاع حقيقة الوجود عنه من غير علّية
ومعلولية وتأثير وتأثّر ومن غير مدخلية شيء آخر في هذا الانتزاع.
ومحصّله : أنّ ذاته تعالى بحيث يصحّ انتزاع صفة الوجود عن حاقّ حقيقته
وموجوديته بذاته لذاته ـ سواء حصل هذا الانتزاع بالفعل أم لا ـ فمنشأ انتزاع صفة
الوجود في الممكن نحو جعل الجاعل أو ارتباطه به أو أمرا آخر غير ذاته وفي الواجب
محض ذاته بذاته. فذاته عين الوجود بهذا الاعتبار ؛ أي من حيث إنّه نائب مناب
الوجود في المنشئية لتحقّق ذاته ولانتزاع الوجود العامّ عنه وإن لم يكن حقيقة
الوجود وكان الوجود زائدا عليه في الذهن وفي لحاظ العقل. فذات الواجب ليس وجودا
بالحقيقة إلّا أنّه لمّا كان نائبا مناب الوجود في منشئيته
لتحقّق نفسه
ولانتزاع الوجود العامّ يقال إنّه وجود بالمجاز. فالعينية مجازية لا حقيقية حتّى
يرد الإشكال المذكور ؛ وأنت تعلم أنّ العينية لو كانت بهذا المعنى والمفروض أنّ
الوجود أمر انتزاعي لكان ذات الواجب غير الوجود ونائبا منابه وكان الوجود زائدا
عليه في الذهن ومنتزعا عنه ، كما اعترفوا به ؛ ومن المعلوم أنّ المنتزع عنه لا بدّ
أن يكون متقدّما بالوجود على المنتزع ؛ والمفروض أنّ المنتزع عنه مع قطع النظر عن
المنتزع ليس له وجود ؛ فيلزم أن لا يكون لذات الواجب في مرتبة من مراتب ذاته ـ أعني
في مرتبة تقدّمه على الوجود الانتزاعي ـ وجود ، بل لا يكون له وجود في مرتبة
الانتزاع أو في مرتبة صحّة الانتزاع وهاتان المرتبتان بعد مرتبة الذات بالذات ؛
وفساده ظاهر.
فإن قيل : المسلّم تقدّم المنتزع عنه في مرتبة من مراتب لحاظ العقل
فقط لا في الواقع ؛ فلا يلزم أن لا يكون لذات الواجب في مرتبة من مراتب الواقع
ونفس الأمر وجود ، بل في لحاظ العقل فقط.
قلنا : هذا التقدّم / A ٩٦ / كما أنّه في لحاظ العقل كذلك هو في الواقع وفي نفس الأمر
أيضا ؛ ولو سلّم أنّه ليس في الواقع ، بل في مرتبة من مراتبه فنقول : هذا القدر من التقدّم للازم منه أن لا يكون لذاته تعالى وجود في
مرتبة من مراتب الواقع محذور ينافي وجوب الوجود قطعا.
وأيضا : إذا لم يكن ذاته حقيقة الوجود فكيف يمكن أن ينتزع عنه
الوجود العامّ الذي هو من أشعّة الوجود الحقيقي؟! فإنّ المناسبة بين المنتزع
والمنتزع عنه لازمة.
وبعضهم أجاب عن الإشكال المذكور بأنّ الوجود وإن كان أمرا انتزاعيا لكنّه معنى كلّي له
أفراد متعدّدة فرد منها قائم بذاته متشخّص بنفسه واجب لذاته وهو عين ذات الواجب
عينية حقيقية وساير الأفراد قائمة بالغير ؛ أي هي عوارض
__________________
الماهيّات وهي
وجودات الممكنات ؛ ففرد من الوجود عين الواجب في الخارج والذهن عينية حقيقية وساير
الأفراد عين الممكن في الخارج وزائد عليه في الذهن.
ولا يخفى : أنّ القائل بهذا القول إن قال بالاشتراك اللفظي يرد عليه
أنّه على القول بعدم حقيقة مشتركة بين وجود الواجب ووجودات الممكنات أصلا وكون
الاشتراك بمجرّد إطلاق لفظ الوجود ـ كما هو مقتضى الاشتراك اللفظي ـ يلزم أن لا
يكون الوجود الواجبي فردا من حقيقة الوجود الذي هو أمر انتزاعي عنده وليس حقيقة
الوجود أمرا كلّيا مشتركا بين الوجود الواجبي ووجودات الممكنات ؛ فكيف يصحّ أن
يقال : إنّ فردا من الوجود قائم بذاته هو عين الواجب على أنّ القول بالاشتراك
اللفظي بيّن الفساد ، كما سبق.
وإن قال بالاشتراك معنى فردّ عليه أنّ أفراد حقيقة واحدة وحصصها لا
بدّ أن تكون متّفقة الحقيقة والمعنى في تلك الحقيقة متماثلة العوارض والآثار ولا
تكون بينهما غاية التباعد والتباين ولا كانت حقائق مختلفة أفرادا وحصصا من حقيقة
واحدة ؛ ولا ريب [في] / B ٩٦ / أنّ الاختلاف
بالنحو المذكور ـ أعني بالقيام بالذات والقيام بالغير ـ اختلاف بالجوهرية والعرضية
؛ والمختلفان بالجوهرية والعرضية لا يجمعهما حقيقة واحدة نوعية أو جنسية ؛ فكيف
يمكن أن يكون الوجود كلّيا ومشتركا معنويا بين أفراد مع اختلافها بالقيام بالذات والقيام بالغير؟!
وأيضا : لو كان الوجود بالمعنى المذكور ـ أعني الأمر الانتزاعي
البديهي ـ قائما بذاته وهو عين الواجب لكان الواجب معلوم الكنه وبديهي التصوّر ؛
إذ الاختلاف بين الحقيقة وبين أفرادها إنّما يكون بمجرّد الكلّية والجزئية
وتوابعهما لا في أصل المعنى ؛ لأنّ الفرد هو بعينه تلك الحقيقة مع بعض اللواحق
والعوارض والخصوصيات ، ولا دخل لهذه في أصل الحقيقة والمعنى.
__________________
وأيضا : لو كان الوجود الواجبي فردا للعامّ الكلّي افتقر في تعيينه
إلى الفصل والتشخّص كما هو شأن الأفراد المندرجة تحت كلّياتها ؛ فيلزم تركيبه
واحتياجه ـ سواء كان حقيقة جنسية أو نوعية أو شبيهة بهما أم لا ـ إذ لزوم التركّب
في الجزئيات المندرجة تحت الجنس أو النوع أو ما يشبههما نظرا إلى افتقارهما إلى
مقوّم من الفصل أو التشخّص ممّا لا ريب فيه ؛ ولا ريب أيضا في أنّ الأفراد
المختلفة بالقيام بالذات والقيام بالغير لا يجمعها معنى جنسي أو نوعي ؛ ولا يمكن
أن يكون الوجود العامّ عرضيا أيضا بالنسبة إلى الوجود الواجبي ووجود الممكنات ؛ إذ
على القول بأنّ ما به الاشتراك العرضي يستلزم ما به الاشتراك الذاتي ـ كما هو
التحقيق ـ يلزم أن يكون لهذا العامّ العرضي الانتزاعي معني آخر جنسي أو نوعي هو ما به
الاشتراك بين تلك الأفراد ؛ وقد ظهر بطلانه ؛ ولا يمكن الجواب بمثل ما مرّ ؛ لأنّه
يتوقّف على أصالة الوجود فلا يتأتّى على اعتباريته ، كما هو المفروض هنا.
وعلى عدم
الاستلزام ـ كما هو رأي جماعة ـ فإن كان هذا الأمر العرضي انتزاعيا فردّ عليه ما
تقدّم ؛ وإن كان عرضيا متحصّلا غير انتزاعي لكانت حقائق أفراده / A ٩٧ / التي بعضها عين الواجب وبعضها عوارض الماهيّات الممكنة
امورا اخر بسيطة أو مركّبة وراء هذا المعنى العرضي ؛ فإن كانت تلك الامور وجودات خاصّة أحدها
قائم بذاته متحقّق بنفسه هو عين الواجب والبواقي قائمة بغيرها هي وجودات الممكنات
؛ فيثبت خلاف مطلوب الخصم ؛ إذ عنده ينحصر الوجود العامّ ؛ وإن كانت ماهيّات صرفة
هذا العامّ عرضي لها ؛ فتكون تلك الماهيّات علّة لها ؛ وهو أيضا باطل ؛ إذ
الماهيّات من حيث هي مع قطع النظر عن الوجود لا تكون علّة لشيء أصلا فضلا عن أن
تكون علّة لوجود نفسه.
__________________
على أنّه لو سلّم أنّ
هذا العرضي المنتزع عن ماهيّات الممكنات أو عن وجوداتها التي فرض أنّها أفراد
الوجود المطلق وهو عارض لها نقول : إنّ تلك الوجودات لمّا كانت عوارض الماهيّات ـ على
ما هو الفرض ـ فإمّا أن لا تكون لها حقائق وراء هذا المعنى العرضي ؛ وهذا مع كونه
خلاف الفرض يبطل كون العامّ عرضيا لها ، بل يلزم أن يكون ذاتيا لها ، وإمّا أن
تكون لها حقائق وراء هذا المعني العرضي ؛ فحينئذ إمّا أن تكون تلك الوجودات أعراضا
وعرضيات الماهيّات ؛ فتكون أعراضا خارجية مثل السواد والبياض والحرارة والبرودة ؛
وهو باطل لم يقل به أحد وإمّا أن تكون امورا عينية أصيلة معروضة للماهيّات ؛ فلم يقل به الخصم ؛ أو أجزاء الماهيّات
فلم يقل به أيضا أحد مع أنّه يلزم تحصّل الماهيّة من الوجود وممّا ليس بوجود ولا
موجود.
[المقام الثاني]
في بيان التوحيد الصفاتي أي كون صفاته عين ذاته
وكأنّك بعد ما
عرفت معنى عينية الوجود في الواجب وزيادته في الممكن وكذا كيفية اشتراكه بينهما ،
يمكنك أن تعرف ذلك في ساير صفاته تعالى بالمقايسة. / B ٩٧ /
وتحقيقه : أنّ الوجود كما له معنيان :
أحدهما : المعنى المصدري ؛ أي الوجود العامّ المعبّر عنه بالظهور
الخارجي
وثانيهما : الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو منشأ انتزاع هذا
الوجود
كذلك للصفات معنيان :
أحدهما : المعاني الانتزاعية المصدرية ، كالظهور الإشراقي الانكشافي
و
__________________
التمكّن من العقل
ويعبّر عنهما ب «دانستن» و «توانستن» وأمثالهما ؛ ولا شكّ في أنّها زائدة في
الواجب والممكن كِلَيهما في الذهن ؛ واشتراكها بينهما وبين أفراد الممكن اشتراك
معنوي ؛ وهذا المعنى كلّي عرضي صادق على الجميع بنحو واحد.
وثانيهما : اتّصاف الحقيقة التي هي منشأ انتزاع المعاني الانتزاعية
ومناط فهمها وهي زائدة في الممكن زيادة واقعية خارجية ؛ لأنّها إمّا ملكات أو
كيفيات زائدة أو إضافات وعين في الواجب عينية حقيقة واقعية ؛ لأنّها فيه تعالى عين
ذاته تعالى وإلّا لزم أن يكون ذاته محلّا لحلول الصفات ومفتقرا إلى غيره في صفاته
الكمالية وهو نقص متنزّه عنه تعالى ؛ فذاته هو العلم الحقيقي الكمالي والقدرة الحقيقية
الكمالية والحياة الحقيقية الكمالية إلى آخر الصفات. فكما أنّه تعالى صرف الوجود
القائم بذاته والوجود العامّ الاعتباري ينتزع عنه كذلك هو صرف العلم الحقيقي
القائم بذاته الذي هو منشأ انتزاع العلم الانكشافي الإشراقي وصرف القدرة الحقيقية
التي هي منشأ انتزاع التمكّن عن العقل ؛ فذاته بذاته عين العلم الحقيقي الكمالي
وعين القدرة الحقيقية الكمالية وعين الحياة الحقيقية الكمالية.
والحاصل : ذاته بذاته هو بعينه كلّ واحد من الصفات الحقيقية الكمالية
؛ أي منشأ انتزاع مفهوماتها كما في الوجود بعينه ؛ والذات ليس الصفة حقيقة إلّا مجازا ؛ فليس نائبا مناب الصفات ـ أي
نائبا مناب ما هو منشأ الانتزاعي ـ في الممكنات من غير أن يكون حقيقتها ـ كما ذهب
إليه بعضهم ـ ولا فردا من مفهوم الصفة بأن يكون كلّ واحد من مفهوم / A ٩٨ / الصفات كلّيا انتزاعيا أو جنسيا أو نوعيا أو عرضيا له أفراد
متعدّدة بعضها قائم بذاته وهو ذات الواجب والبواقي قائمة بغيرها هي صفات الممكنات
من الملكات أو الكيفيات أو غيرها ؛ إذ يرد على هذين المذهبين في الصفات ما أوردنا
عليهما في الوجود بلا تفاوت.
__________________
فالتحقيق ـ كما ذكرناه ـ أنّ الذات كما أنّه وجود وموجود بذاته لذاته ومناط
الموجودية كذلك فهو مناط انتزاع الصفات الكمالية بأسرها. فالذات كما أنّه وجود
وموجود بذاته كذلك هو مناط الحياة والحيّ والعلم والعالم والقدرة والقادر إلى آخر
الصفات الكمالية ، بل هذه الصفات في الحقيقة هي أنحاء تجلّيات الوجود الحقّ ومراتب
شئون الموجود المطلق واعتبارات الذات باعتبار وعينه باعتبار آخر.
[في الأنحاء الثلاثة لصفات الواجب]
اعلم أنّ صفاته تعالى :
[١.] إمّا حقيقية
كمالية ، كالحياة والقدرة والعلم وأمثالها ؛ وهي لا يزيد على ذاته ، بل عين ذاته
بمعنى أنّ ذاته بذاته وبنفس حقيقته من غير مدخلية شيء آخر منشأ لانتزاعها عنه
ومصداق لحملها عليه ؛ وحاصله ـ كما تقدّم ـ أنّ ذاته نفس هذه الصفة الحقيقية
الكمالية ومنشأ لانتزاع مفهومها عنه.
[٢.] وإمّا إضافية
محقّقة ، كالخالقية والرازقية والمبدئية وأمثالها ؛ وهي زائدة على ذاته بمعنى أنّ
مجرّد ذاته ليس منشأ لانتزاعها عنه ، بل منشأ انتزاعها الذات مع ما اضيف بها إليه
كالمخلوق والمرزوق ؛ ولذلك هي متأخّرة عنهما معا.
[٣.] وإمّا سلبية
محضة ، كالقدّوسية والسبّوحية والفردية وأمثالها.
فإن قيل : الأقسام الثلاثة من صفاته تعالى مفهومات واقعية متغايرة ؛
والذات لكونه صرف الوجود بسيط من جميع الجهات ليس فيه شائبة التكثّر أصلا. فكيف
يمكن أن ينتزع عنه هذه المفهومات الواقعية المتغائرة؟! مع أنّ المناسبة بين
المنتزع والمنتزع عنه لازمة. فانتزاعها عنه تعالى يثبت حيثيات / B ٩٨ / متعدّدة وجهات متكثّرة في ذاته ؛ فيلزم تركّبه واحتياجه
، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
__________________
قلنا : جميع هذه الصفات راجعة إلى حيثية الذات وصرافة الوجود ؛
بمعني أنّ منشأ انتزاع جميعها الذات من غير لزوم التركّب وثبوت حيثيات متعدّدة ؛
فإنّ الوحدة الحقّة والبساطة الصّرفة المحضة لعدم تناهيها يلزمها لذاته تكثّر
الأسماء والصفات من غير إيجابه لتعدّد الجهات والحيثيات.
وبيان ذلك : أنّ صرف الوجود الحقّ يلزمه لذاته وجوب الوجود والقيّومية
المطلقة الإيجابية للأشياء ؛ أي المقوّمية لغيره ؛ أي تبعية ما سواه له في التحقّق
وترتّبه عليه ولزومه له ؛ ووجوب الوجود يندرج تحته جميع الصفات الحقيقية الكمالية
من الحياة والبقاء والقدم والسرمدية والأبدية والقدرة والعلم ؛ ويلزمه سلب الإمكان
والنقص المندرج تحته جميع الصفات السلبية كالقدّوسية والسبّوحية والفردية وغيرها ؛
فإنّ جميعها يرجع إلى سلب واحد هو سلب الإمكان والنقص ؛ والقيّومية الإيجابية
يندرج تحتها جميع الصفات الإضافية من الخالقية والرازقية واللطف
والرحمة والقهر والغلبة والإحاطة إلى آخر الصفات الإضافية.
فإن قيل : لا ريب في أنّ جميع الصفات الإضافية لازمة للقيّومية
المطلقة إمّا على الاندراج أو الترتّب السببي والمسبّبي كصدور الأشياء عنه تعالى ؛
وكذا لا ريب في أنّ بعض الصفات الكمالية ـ كالحياة والبقاء والسرمدية وأمثالها ـ يرجع
إلى وجوب الوجود بأحد الوجهين وفي أنّ جميع الصفات السلبية يرجع إلى سلب واحد بأحد
الوجهين وهو لازم لوجوب الوجود ولكن يبقي الكلام في وجوب الوجود وفي العلم وفي
القدرة والقيّومية الإيجابية التى هى المبدئية للأشياء ؛ فإنّ هذه مفهومات أربعة
متغايرة ؛ ولذا كثيرا ما يحصل الانفكاك بينها.
فكم من عالم عاجز
وقادر جاهل وعالم / A ٩٩ / أو قادر غير واجب ؛ فكيف يمكن
__________________
أن تنتزع هذه
المفهومات مع تغايرها الواقعي عن وحدة صرفة لا يتصوّر منه شوائب الكثرة وتعدّد
الحيثية؟!
قلنا : وجوب الوجود ليس إلّا تأكّد الوجود وقيامه لذاته. فانتزاع
مفهومه لا يقتضي حيثية سوى الذات ؛ والعلم مقتضى تجرّده تعالى التامّ ؛ وتجرّده
عين بساطته الصّرفة ووحدته الحقّة. فهو أيضا لا يقتضي حيثية سوى بساطته الحقّة
التي لا يوجب التعدّد والتكثّر ، بل يؤكّد الوحدة ؛ والقدرة في الواجب ليس إلّا
اتّحاد الأشياء وتبعيتها له مع العلم والمشيّة على الوجه الأصلح. فليس هو أمرا مغايرا
لقيّوميته.
ولو قلنا : القدرة هو التمكّن فنقول : هو صفة حقيقية يصدر بها الأشياء
منه تعالى ؛ فالصفة حقيقة هو القدرة ، والصدور والمبدئية أمر مترتّب عليها.
ومحصّل ذلك : أنّ ذاته تعالى صرف الوجود الحقّ البسيط من كلّ جهة ويفيض
من حيث تجرّده العلم ومن حيث حقيقته القدرة على صدور الأشياء منه على الترتيب
الواقع ؛ وبعد الصدور ينتزع عنه جميع الصفات الإضافية.
ولنا أن نقول : إنّ هذه المفهومات في الواجب وإن تغايرت من حيث المفهوم
إلّا أنّها متلازمة لا يقتضي التكثّر في حيثية واحدة هي حيثية الذات.
قال : صرف الوجود القائم بذاته ينتزع عنه وجوب الوجود والقيام
بذاته والبقاء والسرمدية والأزلية والأبدية ؛ فإنّها مفهومات متعدّدة مع أنّ
جميعها يرجع إلى معنى واحد.
ولنا أن نقول : إنّ بسيط الحقيقة من كلّ جهة كما هو جميع الأشياء ـ أي
يشتمل على جميع موجوداتها كما يأتي ، إذ مسلوبية البعض عنه يوجب تركّبه ونقصانه ـ فكذلك
هو يشتمل على جميع الصفات الكمالية ؛ إذ سلب البعض يوجب التركّب
__________________
والنقصان ؛ ولعدم
تناهية وتقييده لا يلزم التركّب و/ B ٩٩ / التكثّر.
وقد تلخّص ممّا
ذكر أنّ الصفات الحقيقية الكمالية هي التي منشأ انتزاعها مجرّد الذات من غير مدخلية
شيء آخر فيه ، كالحياة والبقاء والعلم والقدرة بمعني التمكّن من الفعل ؛ والصفات
الإضافية هي التي انتزاعها يتوقّف على وجود متعلّق ، كالمبدئية والقيّومية
والخالقية والرازقية ؛ والقدرة بمعني إيجاد الأشياء مع العلم ؛ فإنّ صدق القادر
بهذا المعني عليه تعالى ـ أي الموجد بالعلم ـ يتوقّف على الفعل الذي هو الإيجاد ؛
وحصول متعلّق هو الموجد ؛ وجميع الصفات الإضافية راجعة إلى صفة إضافية واحدة هي
المبدئية والقيّومية الإيجابية للأشياء ؛ والقيّومية مترتّبة على الذات التي هي
عين القدرة الكمالية ؛ وساير الصفات الكمالية ـ أي مفهوماتها ـ أيضا مترتّبة على
الذات ؛ ولتلازمها أو رجوعها إلى صفة واحدة لا يلزم التعدّد جهة وحيثية في الذات ؛
فإنّ الصفات الحقيقية في الحقيقة لا يتكثّر ولا يتعدّد ولا اختلاف فيها إلّا بحسب
التسمية وليكن كلّها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات ؛ فإنّ ذاته
مع كمال وحدته وفردانيته يستحقّ هذه الأسماء والصفات لا بحيثية اخرى وراء حيثية
ذاته ، كما قال ثاني المعلّمين : «وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ،
حياة كلّه» لا أنّ شيئا منها علم وشيء آخر قدرة يلزم التركّب في ذاته ولا أنّ شيئا
فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته تعالى الحقيقية وجميع صفاته
السلبية أيضا يرجع إلى سلب واحد هو لازم وجوب الوجود ؛ فكلّ صفة حقيقية وإضافية
بمعنى المبدأ والمنشأ هو الذات. فمجرّد ذاته بذاته منشأ الكلّ ؛ وهذا معنى عينيتها
للذات ؛ وبمعنى المفهوم أمر منتزع عنه إلّا أنّ / A ١٠٠ / انتزاع الصفات الإضافية يتوقّف على إيجاد الواجب للأشياء
وحصول متعلّق لها ؛ وبهذا الفرق سمّوا الأولى الكمالية الحقيقية
__________________
بمعنى أنّ الذات
بذاته بلا واسطة شيء مبدأ لها ومنشأ لانتزاعها ؛ ولو توقّف المنشئية فيها على غيره
لزم النقص ؛ وأمّا الصفات الإضافية فلا يلزم كون الذات وحده منشأ لانتزاعها ، بل
المنشأ هو الذات بواسطة فعل صادر عنه ؛ وهذا معنى زيادتها عليه ؛ وتعدّدها
وتكثّرها لا يوجب تعدّد الجهات في ذاته تعالى ، لما ذكرنا.
وشيء من مفهومات
هذه الصفات ـ سواء كانت كمالية أو إضافية ـ ليس كمالا للواجب لمعلوليتها وانتزاعها
عنه ، بل كماله ومجده بكونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات بلا واسطة أو بواسطة
؛ أي كماله وعلوّه بنفس ذاته لا بشيء آخر ؛ ولذلك كون الصفات الإضافية متكثّرة
زائدة على ذاته لا يخلّ بوحدانيته ؛ إذ كمال الذات ينحصر بالذات وغيره ليس كمالا
له وداخلا في حقيقته ؛ فزيادته بمعني توقّف صدوره على واسطة ؛ وتكثّره لا يوجب
افتقار الذات ولا تكثّره ؛ وقد عرفت أنّ صفاته الإضافية لا يتكثّر معناها ولا
يختلف مقتضاها وإن كانت زائدة على ذاته ؛ لأنّ إضافاته مع اختلافها وتعدّد أساميها
يرجع إلى معنى واحد [وجهة] واحدة هي قيّوميته الإيجابية للأشياء ؛ فمبدئيته بعينه
رازقيته وبالعكس وهما لطفه ورحمته وبالعكس وهكذا في جميعها ؛ وإلّا صار اختلافها وتكثّرها إلى اختلاف ذاته ؛ وكذا جميع السلوب
يرجع إلى معنى واحد هو سلب الإمكان ؛ ولذا قال الشيخ الإلهي : «وممّا يجب أن تعلمه
وتحفظه أنّه لا يجوز أن تلحق الواجب إضافات مختلفة يوجب اختلاف حيثيات فيه ، بل له
إضافة واحدة هي المبدئية يصحّ جميع الإضافات كالرزّاقية والمصوّرية ونحوهما
ولاسلوب منه كذلك ، بل له سلب واحد يتبعه جميعها وهو سلب الإمكان ؛
فإنّه / B ١٠٠ / يدخل تحته سلب
الجسمية والعرضية وغيرهما ، كما يدخل تحت سلب الجمادية عن الإنسان سلب الحجرية
والمدرية عنه وإن كانت السلوب لا تتكثّر على كلّ حال.
__________________
فظهر أنّ إضافته
إلى الأشياء إضافة واحدة مطلقة بحسب المعنى وهذه الإضافة كذاته تعالى لا يتغيّر
بتغيّر ما اضيف إليه من حيث إنّها إضافة مطلقة وإن تغيّرت بحسب تغيّرها في أنفسها
من حيث إضافة متخصّصة بهما ؛ لأنّ تلك الصفات تستلزم التعلّق إلى أمر كلّي ومرزوق
كلّي وغيرهما بالذات وإلى الجزئيات المندرجة تحت ذلك الكلّي بالعرض ؛ وهذا الأمر
الكلّي الذي هو متعلّق الصفة بالذات لا تتغيّر أصلا ومن هذه الحيثية لا تتغيّر
الصفة أيضا مطلقا ولتغيّر الجزئيات المندرجة تحته تتغيّر الإضافات الجزئية العرضية
؛ فصفاته الإضافية وإن كانت زائدة على ذاته تعالى لكنّها لا تختلف بحسب معانيها في
أنفسها حتّى يوجب تكثّر حيثيات في ذات الأوّل تعالى والتجدّدات الواقعة فيها إنّما
هي بالقياس إلى الأشياء المتعلّقة من حيث تجدّدها وتعدّدها في أنفسها أو بقياس
بعضها إلى بعض ؛ وأمّا بالنسبة إلى الأوّل تعالى فليست إلّا واحدة غير متجدّدة ؛
فإضافته تعالى إلى الأشياء إضافة واحدة ثابتة بحسب المعني وهي :
[١.] إمّا مترتّبة
بالترتّب السببي والمسبّبي على حسب ترتّب معلولاته ؛ وهذا في السلسلة الطولية ؛
فإنّ المبدئية المطلقة المندرجة تحته جميع الصفات الإضافية من الخالقية والراحمية
والقهر والغلبة وغير ذلك يتعلّق أوّلا بالصادر الأوّل وبتوسّطه بالثاني ثمّ
بالثالث وهكذا إلى أواخر السلسلة الطولية ؛ وهذا لا يوجب تكثّرا في ذاته تعالى ،
كما لا يوجب صدور الأشياء الكثيرة المترتّبة تكثّرا في ذاته ؛ وهذا معنى قول
الحكماء : «نسبة الأوّل إلى الثاني أمّ جميع النسب.»
[٢.] وإمّا
متجدّدة على حسب تجدّد متعلّقاتها المتجدّدة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض كما /
A ١٠١ / في بعض السلاسل العرضية كأفراد الحيوان
مثلا ؛ فإنّها تتجدّد وتتصرّم وتوجد وتعدم ؛ وبحسب ذلك الاختلاف تختلف إضافة تلك
الصفات من حيث إنّها متخصّصة بها ؛ فإنّ زيدا يكون في وقت ما مرزوقا ومخلوقا
ومرحوما وفي وقت
لا يكون كذلك إلّا أنّ ذلك لا يوجب تغيّرا في ذاته تعالى ؛ لأنّها بالنسبة إلى ذات
الأوّل تعالى في درجة واحدة لا يتجدّد ولا يتصرّم ؛ لأنّ ذاته وصفاته ليست زمانية
لتجرّده وإحاطته به ؛ فلا يتصوّر في حقّه العينية والحضور والتجدّد والتصرّم
وإنّما هي للمسجونين في سجن الزمان ؛ ولإحاطته بالزمان وكونه بجملته عند شهوده كان
واحدا تكون نسبته إلى المتجدّدات والزمانيات المتعاقبة المتصرّمة نسبة واحدة
ومعيّة قيّومية غير زمانية ؛ فكلّ حادث زماني بالنسبة إليه تعالى
في الشهودين لا مجرّد الشهود العلمي أزلا وأبدا مخلوق ومرزوق ومرحوم ومعلوم ومصوّر
ومقهور إلى غير ذلك ؛ إذ كونه بالنسبة إليه في وقت دون وقت يوجب كونه زمانيا
ومحاطا بالزمان ؛ وهو متعال عنه ؛ وهذا معنى قول بعض العارفين : «ليس عند ربّك
صباح ومساء» وإلى هذا يشير قول الشيخ في التعليقات : «الأشياء كلّها عند الأوائل
واجبات وليس هناك إمكان البتّة.» فإذا كان شيء لم يكن في وقت فإنّما يكون من جهة القابل لا
من جهة الفاعل ؛ فإنّه كلّما حدث استعداد من المادّة حدثت فيها صورة من هناك ؛ إذ
ليس هناك منع ولا بخل ؛ فالأشياء كلّها هناك واجبات لا يحدث وقتا ويمتنع وقتا ولا
يكون هناك كما يكون عندنا.
[في الصفات الكمالية للواجب تعالى]
ذهبت الأشاعرة إلى
أنّ صفاته الكمالية موجودات زائدة على ذاته تعالى ؛ وذهب بعض علمائنا إلى أنّ
صفاته بهذا المعني راجعة إلى السلوب ؛ فقولنا : «الله عالم» بمعني أنّه ليس بجاهل
وقولنا : «قادر» بمعني أنّه ليس بعاجز وهكذا ؛ وهذان
__________________
القولان في طرفي /
B ١٠١ / الإفراط والتفريط ؛ وهما
باطلان.
ويرد على الأوّل أنّ تلك الصفات الزائدة إن كانت معلولة لغيره تعالى كان
ذاته تعالى في صفاته الكمالية محتاجا إلى غيرها ؛ وإن كانت معلولة له تعالى لزم
كونه فاعلا وقابلا معا ؛ وإن كانت واجبة لزم تعدّد القدماء والاحتياج إلى الغير
أيضا.
وأمّا القول
الثاني فهو يوجب التعطيل وينافي القواطع العقلية الدالّة على وجوب اتّصافه بالصفات
الكمالية والنعوت الجلالية والجمالية ؛ ويخالف الظواهر المتواترة من الكتاب
والسنّة المصرّحة باتّصافه بالأوصاف الكمالية ؛ وأمّا ما ورد في كلامهم من نفي الصفات عنه تعالى كقوله عليهالسلام : «كمال الإخلاص نفي الصفات عنه» وقوله : «إنّ نظام توحيد الله نفي الصفات عنه تعالى»
فالمراد به نفي الصفات الزائدة ؛ فهو يبطل قول الأشعري.
وما ورد عنهم في
رجوع تلك الصفات إلى السلوب فمرادهم به أنّه لو اطلقت هذه الصفات عليه إطلاقا
ثبوتيا فربّما توهّم أنّه مثل الإطلاق في الممكنات في أنّ مناطها ومنشأ انتزاعها
غير ذاته ؛ فلأجل هذا التوهّم أرجعوها إلى السلوب وأوّلوها إليها ؛ والغرض أنّهم عليهمالسلام أرجعوها إلى السلوب لئلّا يتوهّم زيادتها ؛ إذ إطلاق
الصفات بالمعنيين ـ أي المعنى الحقيقي الكمالي والمعنى الانتزاعي ـ عليه تعالى
إطلاقا ثبوتيا في كلامهم أكثر من أن يحصى ؛ ولذلك وللإشارة إلى أنّ صفات الممكنات
من تجلّيات صفاته ـ كما أنّ ذواتهم ووجوداتهم من تجلّيات ذاته ووجوده
ـ وإلى أولوية العلّة باتّصافها بتلك الصفات من المعلول ورد عنهم عليهمالسلام ما يدلّ على أنّه تعالى «حيّ» بمعنى واهب الحياة للعالمين و
«عالم» بمعنى واهب العلم للعالمين و «قادر» بمعني واهب القدرة للقادرين وأمثال ذلك
؛ ولا دلالة حينئذ لشيء من هذه الأخبار على الاشتراك اللفظي كما توهّمه بعضهم.
__________________
[المقام الثالث]
في بيان التوحيد الالوهي ؛ أي تفرّده لوجوب الوجود وصنع العالم
أمّا الأوّل
فلإثباته طرق قطعية برهانية :
[الأوّل :] وهو مبنيّ على ما قرّرناه من كون الواجب صرف الوجود الحقّ
القائم بذاته ومحض الموجود المطلق المتعيّن / A ١٠٢ / بنفسه.
وبيانه : أنّ حقيقة الواجب وذاته إذا كان صرف الوجود المطلق المتعيّن
بنفس ذاته امتنع تعدّده وتكثّره ؛ إذ لا يعقل تعدّده من غير أن يعتبر فيه تقيّد وتعيّن ؛ وكلّ متعدّد اعتبر في كلّ منهما تعيّن وتقيّد لا
يمكن أن يكون وجودا مطلقا تعيّنه بنفس ذاته وموجودا صرفا تشخّصه بعين هويّته ؛ إذ
صرف الوجود المطلق إنّما يقتضي تعيّنا واحدا هو عين هويّته ولا يمكن أن يختلف
مقتضاه مع وحدته وصرافته ؛ فمن حيث صرافته لا تعدّد فيه وإنّما يتوهّم تعدّده
بتعدّد تعيّنه وتعيّنه لا يمكن أن يتعدّد ؛ إذ مقتضاه لا يكون إلّا واحدا ولا يمكن
أن تفرض وجودات خاصّة متمايزة بأنفسها كلّ منها واجب الوجود بذاته ؛ إذ هذه
الوجودات المتمايزة لا يمكن أن يكون كلّ منها صرف الوجود ؛ إذ صرف الشيء من حيث هو
لا يتعدّد ؛ فالتعدّد فرع أن يتقيّد بمهيّة خاصّة ؛ وذلك يتوقّف على ما قرّرناه من
تقيّده بجهة عدمية تنتزع عنها الماهيّة ؛ فيلزم فيه التركّب والافتقار ؛ فيكون
ممكنا.
وبوجه أوضح نقول : إنّ كلّ حقيقة كلّية واحدة ، بل كلّ مفهوم كلّي عامّ واحد
بالذات إذا تعدّدت أفراده :
[١.] فإن كانت تلك
الحقيقة الكلّية حقيقة جنسية احتاجت في تعدّد أنواعها إلى مميّزات هي الفصول.
[٢.] وإن كانت
نوعية احتاجت في تعدّد أفرادها إلى مميّزات هي المشخّصات.
__________________
وتلك الفصول
والمشخّصات لا بدّ أن تكون ممتازة بعضها عن بعض إمّا بأنفسها أو لاتّصافها بصفات
هي ممتازة بأنفسها كالتقدّم والتأخّر وإن كانت عرضية ؛ فعلى ما قرّرناه من استلزام
ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي لا بدّ أن يكون تعدّد أفرادها
بالفصول والمشخّصات. نعم على ما ذهب إليه الأكثر من منع هذا الاستلزام يجوز أن
يكون تعدّد أفرادها بأنفسها ؛ إذ على هذا يجوز أن يكون ذلك المشترك العرضي منتزعا
من ذاتين / B ١٠٢ / بسيطتين
متباينتين من كلّ وجه غير مشتركين في ذاتي أصلا ويكونان فردين لذلك المشترك العرضي
باعتبار عروضه لهما وانتزاعه عنهما وصدقه عليهما.
وبالجملة : الطبيعة الواحدة إذا كانت إحدى الثلاثة المذكورة يجوز
تعدّدها بأحد الوجوه المسطورة إلّا أنّ شيئا منها لا يمكن أن يكون واجبا ؛ إذ
الجنسية والنوعية والعرضية ينافي الواجبية ـ كما عرفت من كلماتنا السالفة ـ وأمّا
إذا لم يكن شيئا من هذه الثلاث ، لم يكن كلّية ولا جزئية أيضا ؛ إذ الكلّية والجزئية
إنّما يوجد في ذوات الماهيّات ؛ وصرف الوجود الحقّ متقدّم عنها ؛ فلا يمكن تعدّدها
وتكثّرها ؛ إذ تلك الحقيقة حقيقة واحدة وحدته ذاتية متعيّنة بنفسها متشخّصة بذاتها
مطلقة إطلاقا لا ينافي وحدتها ، بل يكون إطلاقها على وحدتها وكمال فرديتها ؛ فهي
تستدعي بذاتها تشخّصها وتعيّنها ؛ فلا يمكن تعدّدها وتكثّرها وإن كان شيء واحد
باعتبار واحد عن نفسه ولكان الواحد من حيث وحدته الذاتية متعدّدا من حيث التعدّد
الذاتي ، وهذا محال ؛ إذ لا يعقل كون الشيء الواحد عين نفسه وغيره وواحدا ومتعدّدا
؛ فيثبت من ذلك أنّ صرف الوجود المطلق الذي هو الواجب واحد لا شريك له ويستحيل
تعدّده.
وبتقرير آخر نقول : كما أنّ للوجود معنيين :
__________________
أحدهما : أمر انتزاعي زائد على ذاته تعالى زيادة ذهنية.
والآخر : أمر أصيل قائم بذاته ومناط الموجودية وهو عينه تعالى عينية
حقيقة ، كذلك لوجوب الوجود الذي هو تأكّد الوجود ولزومه معنيان :
أحدهما : أمر انتزاعي هو كيفية نسبة الوجود إلى الذات أو الماهيّة
مطلقا.
وثانيهما : أمر أصيل قائم بذاته هو مناط الأوّل ومنشأ لزومه واستحالة
انفكاكه ؛ وهذا عين ذاته حقيقة ، كما أنّ الأوّل زائد عليه ذهنا.
وكما أنّ الوجود
المطلق حقيقة واحدة وحدة ذاتية ليست كلّية ولا جزئية وهو مع ذلك متعيّن بذاته
متشخّص بنفسه ، كذلك وجوب الوجود حقيقة واحدة مطلقة متعيّنة بذاتها متشخّصة بنفسها
وليست معني / A ١٠٣ / جنسيا ولا
نوعيا حتّى يتعدّد بانضمام الفصول والمشخّصات ولا معنى عرضيا حتّى أمكن على القول
بعدم استلزام ما به الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي أن يكون له فردان
بسيطان متميّزان بذاتهما مشتركان في هذا المعنى العرضي على ما هو معنى الشبهة
الكمونيّة ، بل ـ كما عرفت ـ أنّها حقيقة واحدة متشخّصة بنفس ذاتها متعيّنة في
حاقّ هويّتها غير مشتركة أصلا وتعيّنها مقتضى ذاتها ؛ فلا يقتضي إلّا تعيّنا واحدا
وتشخّصا خاصّا ؛ فلو فرض الواجب متعدّدا لزم أن لا يكون ما فرض متعدّدا متعدّدا ؛
وعلى هذا ففرض التعدّد محال فضلا عن المفروض ، فلو بلغ فارض في الاستقصاء في فرض
التعدّد وكان ما فرضه واحدا ؛ لأنّ الواحد من حيث هو واحد لا يكون متعدّدا
والمتعدّد من حيث هو متعدّد لا يكون واحدا غاية الأمر أن يفرض ثالث وبملاحظته يفرض
التعدّد في ذلك الواحد ؛ إذ بدون ذلك فرض التعدّد محال ؛ إذ لو فرض ذلك الواحد فردين
فلا ريب في أنّهما متساويان من كلّ الوجوه لتساويهما في الذات وفي الصفات وفي
الأفعال وفي وجوب الوجود بالذات وفي الوحدة الذاتية وفي عينية الوجود وفي البساطة
ونفي التركيب و
غير ذلك ؛ فلا
يتصوّر هناك شيء يكون ما به الامتياز بينهما إلّا أن يلاحظ ثالث ويفرض أنّ أحدهما
واجد له ؛ إذ له نسبة خاصّة إليه من العلّية أو المعلولية أو المحاذاة أو الموازاة
أو المشاكلة أو المجانسة أو المماثلة وأمثالها والآخر ليس له شيء من ذلك.
ولا يخفى : أنّ هذا الفرض مع ما فيه من المفاسد الشنيعة يرد عليه أنّ
ذلك الوجدان أو تلك النسبة إن كان صفة كمال فالفاقد له يكون ناقصا ؛ فلا يكون واجب
الوجود من جميع الجهات وإلّا فيكون الواجد له ناقصا ؛ فلا يكون واجب الوجود .
وأيضا : إذا كان التعدّد في الواجب بمجرّد هذا الثالث لا شيء آخر
ولا ريب في أنّ امتياز الفردين من الواجب لا بدّ أن يكون في مرتبة ذاتيهما وحدّ
حقيقتهما / B ١٠٣ / بحيث لا يكون
التعيّن والامتياز متأخّرا عن ذاتهما حتّى يكونا واحدا في مرتبة الذات ثمّ يحصل
الاثنينية والتعدّد ؛ فيلزم من حيث توقّف الامتياز على هذا الثالث وعدم تعقّل
امتياز آخر أن يكون هذا الثالث موجودا في مرتبة ذاتهما ؛ فلا يكون متأخّرا عنهما
ولا معلولا لهما ؛ فيكون هو أيضا واجب الوجود مثلهما ولا بدّ أن يكون هو أيضا
ممتازا عنهما حتّى يمكن أن يفرض ثالث بينهما والمفروض توقّف الامتياز على ملاحظة
الآخر ؛ فلا بدّ أن يفرض شيئان آخران أحدهما بين الثالث وأحد الوجهين والآخر بينه
وبين الآخر ؛ فيكون واجب الوجود خمسة وهكذا إلى ما لا نهاية له ؛ وهذا محال ؛ ولا
يبعد أن يحمل على ذلك كلام الإمام الصادق عليهالسلام وحديث الزنديق حيث قال : «ثمّ يلزمك إن ادّعيت فرجة ما
بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما ؛ فيلزمك ثلاثة. ثمّ
يلزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة ؛ فيكونوا
__________________
خمسة. ثمّ تتناهى
في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة» انتهاء بأن يكون المراد بالفرجة هو ذلك الأمر الثالث على
ما به الامتياز.
وفيه أنّ حمل الفرجة على ما به الامتياز يوجب كون واجب الوجود
أربعة على فرض التعدّد لا ثلاثة كما هو مذكور في الحديث ؛ إذ لكلّ من الوجهين
مميّز على حدة.
فإن قيل : المميّز وإن كان اثنين لا يلزم كون الواجب أزيد من الثلاثة
؛ إذ ما به الاشتراك بالنظر إلى ذاته واحد ؛ فتحصل ثلاثة أحدها ما به الاشتراك
والآخران ما به الامتياز.
قلنا : كلام الإمام ظاهر في أنّ الفرجة هو ما به الامتياز وأنّه
واحد ؛ وأيضا امتياز ما به الامتياز عن الفردين الذين هما كالشخص تحت النوع أو
كالنوع تحت الجنس ؛ وكذا عن ذات ما به الاشتراك وكذا امتياز ما به الاشتراك عن
الفردين أو عمّا به الامتياز لا يلزم أن يكون لمميّز آخر سوى ذاته ، بل الامتياز
بين ما به الامتياز وما به الاشتراك أو الفردين إنّما هو بمجرّد الذات ؛ فعلى أيّ
معنى حملت الفرجة لا يلزم على فرض حصول الثلاثة ـ أعني / A ١٠٤ / الفردين وما به الامتياز ـ أن يتحقّق أمران آخران حتّى
يتحقّق خمسة قدماء ؛ قس على ذلك ما بعده إلى ما لا نهاية له في الكثرة.
وأعلم أنّ هذا الطريق ـ كما أشرنا إليه ـ مبنيّ على أنّ حقيقة الوجود [و] وجوب
الوجود حقيقة واحدة متشخّصة بنفسها متعيّنة بذاتها لا يمكن فرض التعدّد فيها ؛
وعلى أنّ وجوب الوجود عين ذاته عينية حقيقية ؛ ولا يخفى أنّ بعد ثبوت
__________________
هذا الأصل ـ كما
هو مقتضى الزمان الصحيح ـ يمكن أن تقرّر الدليل على التوحيد بوجوه :
أحدها : ما تقدّم من أنّ صرف الوجود المطلق المتعيّن بذاته لا يمكن
تعدّده ؛ لأنّ صرف الشيء من حيث هو لا تعدّد فيه وإنّما يتعدّد المعنى الواحد
بانضمام التعيّنات المتعدّدة [و] صرف الوجود لا يقتضي إلّا تعيّنا واحدا ؛ إذ
الواحد من حيث هو واحد لا يقتضي تعيّنات متعدّدة والتعيّنات المتعدّدة فرع تعدّد
المقتضي مع أنّ المقتضي واحد. فالواجب الذي هو صرف الوجود لا يعقل إلّا واحدا ،
وإلى هذا أشار الشيخ الإلهي بقوله : «صرف الوجود الذي لا أتمّ منه كلّما فرضته
ثانيا وإذا نظرت فهو هو ؛ إذ لا تميّز في صرف شيء.» فذاته بذاته يدلّ على وحدته
كما قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .
[ثانيها :] أنّه لو تعدّد لزم الترجّح بلا مرجّح ؛ إذ نسبة صرف الوجود
إلى ما فوق الواحد من جميع مراتب الأعداد متساوية ؛ فاقتضاؤه مرتبة منها دون غيرها
ترجّح بلا مرجّح.
[ثالثها :] أنّه لو تعدّد الواجب الذي هو صرف الوجود فكان اثنين مثلا ؛
فلا يخلو إمّا أن يتّحدا في الحقيقة أو لا ؛ فعلى الأوّل علّة اختلافهما يكون أمرا
غير حقيقتهما وغير الوجود المتأكّد ؛ فيلزم إمكان أحدهما أو كليهما ؛ وعلى الثاني
يكون وجوب الوجود عارضا لهما أو لأحدهما ؛ وقد يثبت أنّ حقيقة واجب الوجود ليس
إلّا نفس الوجود المتأكّد.
[رابعها :] أنّه لو تعدّد الواجب لا يمكن أن يكون / B ١٠٤ / أثر أحدهما بعينه هو أثر الآخر ، لاتّفاقهما في الحقيقة
؛ أعني وجوب الوجود الذي هو معني واحد وعين كلّ منهما ؛ فاستناده إلى أحدهما دون
الآخر يوجب الترجيح بلا مرجّح ؛ وإلى
__________________
كليهما يوجب صدور
أمر واحد بالتشخّص عن متعدّد ؛ وكلاهما باطل.
[خامسها :] أنّه لا يمكن تعدّد الواجب الذي هو صرف الوجود ؛ إذ الوجود
حينئذ نفس ماهيّة كلّ منهما ولازم النوع متّفق والعارض الغريب يوجب التخصيص
الخارجي ؛ ولا يمكن أن يخصّص كلّ منهما نفسه بشيء ؛ إذ التخصيص فرع التخصّص ولا أن
تخصّص كلّ منهما صاحبه بشيء ؛ لإيجابه تقدّم تخصيص كلّ منهما على تخصّص مخصّصه ؛
فيتقدّم تعيّنه على تعيّن نفسه ؛ وفساده ظاهر ؛ ويمكن أن تقرّر بوجوه آخر أيضا
إلّا أنّه لا حاجة إليها لظهور كفاية ما ذكر للمطلوب.
[سادسها :] الدليل المشهور وهو أنّه لو تعدّد الواجب لكان مفهوم وجوب
الوجود مشتركا بين الفردين ؛ فإن كان هذا المفهوم جنسا لهما فلا بدّ أن يتميّز كلّ
منهما عن الآخر بفصل مميّز ؛ وإن كان نوعا لهما فلا بدّ أن يتميّز كلّ عن الآخر
بمشخّص ؛ فيلزم التركّب في ذات كلّ منهما من ما به الاشتراك وما به الامتياز.
وأورد عليه الشبهة الكمونيّة وهي أنّه لم لا يجوز أن يكون مفهوم وجوب
الوجود عرضيا مشتركا بين الفردين منتزعا عن ذات كلّ منهما زائدا عليهما زيادة
ذهنية ويكون الفردان بسيطين من كلّ وجه ممتازين بذاتهما متباينين بأنفسهما حتّى
يكون ما به الامتياز ذات كلّ منهما بذاته لا أمرا آخر من فصل أو مشخّص ولا يكون
بينهما قدر مشترك وذاتي حتّى يلزم التركيب.
وجوابه : أمّا أوّلا فبما تقدّم من استلزام ما به الاشتراك العرضي
لما به الاشتراك الذاتي ؛ فالتركيب لازم.
وأمّا ثانيا فبأنّ
وجوب الوجود / A ١٠٥ / لو كان عرضيا
لا فتقر عروضه لكلّ منهما إلى علّة ؛ فعلّته إمّا ذات غير المعروض ؛ فيلزم افتقار
الواجب في وجوب الوجود ، بل في وجوده إلى غيره ؛ فلا يكون واجبا بالذات أو ذات
المعروض
بلا اتّصافه بوجوب
الوجود ؛ فيلزم أن يكون غير واجب الوجود علّة لوجوب الوجود ، بل يلزم أن يكون غير
الموجود علّة لوجود نفسه ؛ وهو باطل ؛ إذ مع اتّصافه بوجوب الوجود فإن كان عين ما
هو المعلول لزم تقدّم الشيء على نفسه وإن كان غيره ننقل الكلام إليه ؛ فيلزم
التسلسل.
فإن قيل : علّة العروض على الشبهة الكمونيّة هي ذات المعروض ؛ إذ
مبناها على أنّ هنا ذاتين مجهولي الكنه ، متميّزين بنفسها ، كلّ منهما منشأ بذاته
لانتزاع الموجودية ومفهوم وجوب الوجود كما أنتم تقولون : إنّ ذات الواجب تعالى
بذاته منشأ لذلك.
قلنا : نحن نقول : إنّ ذات الواجب تعالى صرف الوجود القائم بذاته
وهو واحد لا يمكن التعدّد فيه ؛ وصرف الوجود الذي لا تعدّد فيه يمكن أن يكون منشأ
بذاته لانتزاع الموجودية ومفهوم وجوب الوجود ؛ وأمّا على الشبهة الكمونيّة فالذات
لا يمكن أن يكون صرف الوجود ؛ إذ لو كان صرف الوجود لم يكن التعدّد فيه ؛ فإنّ
الذات عندنا وعلى الشبهة الكمونيّة أيضا وإن كان مجهول الكنه ومنشأ لانتزاع الموجودية ووجوب الوجود بذاته إلّا أنّا
نقول : ما يقتضي ذاته بذاته الموجودية هو صرف الوجود الحقّ القائم بذاته ولذا يحكم
بأن لا يجوز التعدّد فيه وأمّا مع الحكم بجواز التعدّد فلا يمكن الحكم بأنّه صرف
الوجود ، بل لا بدّ أن يقال : إنّ ذات كلّ منهما ماهيّة خاصّة وإن كانت مجهولة
الكنه كما قال به ابن كمونه ؛ ومع كونه ماهيّة خاصّة لا يمكن أن يكون منشأ بذاتها
للموجودية ووجوب الوجود ؛ إذ الفاقد في مرتبة ذاته عن الوجود الحقيقي و/ B ١٠٥ / الانتزاعي لا يمكن أن يكون منشأ لموجودية نفسه.
[سابعها :] أنّه لو تعدّد الواجب وكانا اثنين مثلا ؛ فإنّ اختلافي
الكمال بأن
__________________
يكون لأحدهما كمال
لم يكن حاصلا للآخر لزم تركّب هذا الآخر من جهتي الفعل والقوّة وكان ناقصا وإن تساويا في
الاتّصاف بما هو كمال للموجود المطلق وكان كلّ كمال حاصل لأحدهما حاصلا بعينه
للآخر لم يكن بينهما امتياز ؛ فيلزم ارتفاع الاثنينية.
فإن قيل : كلّ منهما متّصف بما هو كمال للموجود المطلق من دون تفاوت
ولكنّهما متميّزان بذاتهما ـ أي ذات كلّ منهما متميّز عن ذات الآخر بنفس ذاته ـ ومع
ذلك كلّ منهما يقتضي بذاته الاتّصاف بما هو كمال للموجود المطلق بلا تفاوت نظرا
إلى جواز اشتراك المتباينين ذاتا في اقتضاء أمر عرضي واحد وعدم استلزام ما به
الاشتراك العرضي لما به الاشتراك الذاتي ؛ فذات كلّ منهما حقيقة كلّ كمال ؛ أي كلّ
كمال حقيقي ؛ وهو بذاته منشأ لانتزاع مفهوم كلّ كمال كما يقولون في الواجب تعالى.
قلنا : على فرض تسليم جميع ما ذكر لا ريب في أنّ حقيقة الكمال ذات
كلّ منهما ولاختلاف الذاتين وتباينهما من كلّ وجه يكون كلّ منهما فاقدا لكمال
حقيقي هو ذات الآخر ؛ فيلزم نقصان كلّ منهما.
[ثامنها :] أنّ واجب الوجود يجب أن يكون تامّا فوق التمام وأن يكون له
القاهرية المطلقة والغلبة والاستيلاء والإحاطة على كلّ ما سواه بالغلبة ؛ إذ أشدّ
الابتهاجات للذات المجرّد العامّ أن يرى ذاته فوق الكلّ قاهرا عليه محيطا به وكون
الجميع تحته بالمعلولية والمغلوبية والصدور والتبعية ؛ فوجود مساويه أو أقوى منه
ضعف وفتور في حقّه ؛ إذ المشاركة في الوجود نقص وقصور ، ألا ترى أنّ كمال الشمس في
تفرّدها في معني الشمسية ؛ فلو كانت معها شمس اخرى ولم يتفرّد بكمال معنى الشمسية
كان ذلك نقصانا في حقّها؟! فلو لم يتفرّد الأوّل
__________________
سبحانه في وجوب
الوجود واشترك معه فيه غيره كان ناقصا ؛ إذ المعيّة يوجب / A
١٠٦ / المساواة في الرتبة [و] النقصان في الكمال.
وهذا الدليل وإن لم يكن من البرهانيات وأمكن أن يناقش فيه بعض المناقشات
إلّا أنّه عند الذوق السليم في غاية المتانة ومن وصل إلى مقام التجرّد وشمّ روائح
ابتهاجات عالم الأنوار والمجرّدات يراه أقوى من أكثر أدلّة المقام هذا.
[أمّا الثاني :] أعني التوحيد الالوهي المعبّر عنه بالتوحيد الفعلي أي
تفرّده بصنع العالم وكون الإله المؤثّر في العالم واحدا ؛ فالدليل عليه أنّه بعد
ما ثبت التوحيد الالوهي بمعنى تفرّده بوجوب الوجود يثبت استناد جميع الموجودات
الإمكانية إليه وصدورها منه ولا ينافيه تحلّل الوسائط ؛ لأنّها شروط ومعدّات ؛
وأصل الإفاضة والإيجاد منه تعالى ؛ لأنّه لمّا ثبت أنّ الواجب بذاته هو الوجود
الحقيقي والموجود في حدّ ذاته وغيره ليس موجودا في نفسه وإنّما يكون موجوديته باعتبار
انتسابه إليه وارتباطه به وأنّ التأثير والإيجاد حقيقة إنّما هو إفادة الفاعل ذات
المعلول متعلّقة ومرتبطة بنفسه بحيث يصير ارتباطها به مبدأ لانتزاع الوجود منها
ومصداقا لحمل الموجود عليها ؛ إذ الشيء ما لم يكن موجودا في نفس حقيقته لا يصير
غيرها بارتباطه به موجودا ؛ وقد يثبت أنّ التأثير والإيجاد الحقيقي والفاعلية
الحقيقية يختصّ بواجب الوجود الحقيقي وهو واحد كما قرّرناه ؛ فلا مؤثّر في الوجود إلّا هو ؛
وكما أنّ كونه موجودا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره موجودا أصلا كذلك
كونه موجدا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره شرطا في التأثير وإنّما يلزم
منه نفي التأثير والفاعلية عن غيره لكون الوجود مطلقا معلولا له تعالى [و] لا
ينافي إثبات الوسائط والروابط مثل العقول والنفوس والقوى كما ذهب إليه الحكماء ؛
إذ لا تأثير للوسائط
__________________
عندهم إلّا في
التصحيح والإعداد دون التأثير والإيجاد كما توهّمه أبو البركات من ظاهر كلامهم
وشنّع به عليهم.
وقد صرّح بما ذكرناه المحقّقون من
الحكماء.
قال الشيخ الرئيس / B ١٠٦ / في الإشارات : «إنّ الأوّل يبدع جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع وبتوسّطه جوهرا عقليا وجرما
سماويا.»
وقال الشيخ الإلهي في الهياكل النورية : «ليس أنّ حركات الأفلاك توجد الأشياء ولكنّها تحصل
الاستعدادات ويعطي الحقّ الأوّل لكلّ شيء ما يليق باستعداده.»
وقال أيضا : «والجواهر العقلية وإن كانت فعّالة إلّا أنّها وسائط جود
الأوّل وهو الفاعل وكما أنّ النور القويّ لا يمكن النور الضعيف من الاستقلال
بالإنارة فالقوّة القاهرة الواجبة لا تمكن الوسائط لوفور فيضه وكمال قوّته.»
وقال صاحب التحصيل : «وإن سألت الحقّ فلا يصحّ أن تكون علّة الوجود إلّا ما هو
بريء من كلّ وجه من معنى ما بالقوّة ؛ وهذا هو صفة الأوّل لا غير ؛ إذ لو كان تفيد
الوجود ما فيه معنى بالقوّة سواء كان عقلا أو جسما كان للعدم شركة في إفادة الوجود
وكان لما بالقوّة شركة في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل.»
وقال الفخر الرازي : «الحقّ عندي أنّه لا مانع من استناد كلّ الممكنات إلى الله
تعالى لكنّها على ضربين : منها ما إمكانه اللازم لماهيّته كاف في صدوره عن الباري
تعالى ؛ فلا جرم أن يكون فائضا عنه من غير شرط ؛ ومنها ما لا يكفي إمكانه ، بل لا
بدّ من حدوث أمر قبله لتكون الامور السابقة مقرّبة للعلّة المفيضة إلى الامور
__________________
اللاحقة ؛ وذلك
إنّما ينتظم بحركة دورية.»
ثمّ إنّ تلك
الممكنات متى استعدّت استعدادا ما ما صدرت عن الباري تعالى بلا منع وبخل وحدثت بلا
تأثير في الوسائط أصلا في الإيجاد ؛ وبذلك صرّح غيرهم من الحكماء ومحقّقي
المتكلّمين.
ثمّ لو سلّم أنّ
أصل الإفاضة والإيجاد بين الوسائط فلا يكون ذلك حقيقة ؛ لأنّ المعلول من حيث هو معلول إنّما تحقّقه بارتباطه بالعلّة وتحقّقه تبعيّ ؛
فكيف يكون تأثيره تأثيرا حقيقيا؟! بل هو راجع إلى الأوّل تعالى وإنّما يستند
التأثير إليها بضرب من المجاز ؛ فالموجودات الإمكانية في الحقيقة صادرة عنه تعالى
ومرتقية إليه ؛ فالأشياء كلّها بالقياس إليه تعالى محدثة ونسبته تعالى إلى ما سواه
نسبة / A ١٠٧ / ضوء الشمس لو
كان قائما بذاته إلى الأجسام المستضيئة عنه المظلمة بحسب ذواتها ؛ فإنّه بذاته
مضيء وبسببه يضيء كلّ شيء ؛ وأنت إذا شاهدت إشراق الشمس على موضع وإناريته بنورها
ثمّ حصول نور آخر من ذلك النور حكمت بأنّ النور الثاني من الشمس وأسندته إليها ؛
فكذا حال وجودات الأشياء ؛ فالكلّ من عند الله تعالى.
وممّا يدلّ على هذا التوحيد ـ أي تفرّده
بصنع العالم ـ ارتباط أجزاء
العالم بعضها ببعض على الترصيف الحقيقي والنظم الحكمي ؛ فإنّ من فتح عين بصيرته
وشاهد نظام الجملى ونظر إلى أجزائه يعلم أنّ أجزائه مرتبطة بعضها ببعض ويتوقّف
بعضها على بعض ومتشابكة كأنّها شيء واحد ؛ ولا ريب [في] أنّ ذلك أقوى دليل على أنّ
مبدعها واحد وكما أنّ كلّ واحد من أجزاء شخص واحد وإن وجد ممتازا
عن غيره من الأعضاء بحسب الطبيعة لكنّ كونها مع ذلك مؤتلفة
__________________
تأليفا طبيعيا ،
مرتبطة بعضها ببعض ، متوقّفة بعضها على بعض ، منتفعة بعضها من بعض ، منتظمة في
رباط واحد تدلّ على أنّ مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد ؛
فكذلك الحال في أجسام العالم وقواها ؛ فإنّ كونها مع انفصال بعضها عن بعض وتفرّد
كلّ منها لطبيعة خاصّة وفعل خاصّ ، ممتاز به عن غيره ، مرتبطة منتظمة في رباط واحد
، مؤتلفة ايتلافا طبيعيا يدلّ على أنّ مبدعها واحد ؛ فإنّه قد ثبت أنّ بين الأجسام
العظام التي في العالم تلازما وكذا بينها وبين أعراضها ، بل بين أكثر الأعراض
ومحالّها ؛ فإنّ استحالة الخلأ وامتناع خلوّ الأجسام المستقيمة الحركات عمّا يحدّد
جهات حركاتها تدلّ على التلازم بين الأرض والسماء ؛ وامتناع قيام العرض بذاته
وخلوّ الجوهر عن الأعراض يوجب التلازم بينهما ؛ ولا ريب في أنّ اللزوم أو التلازم
يوجب الانتهاء إلى علّة واحدة ؛ فالمؤثّر في العالم لا يكون إلّا / B ١٠٧ / واحدا ؛ فكلّ جسم وجسماني ينتهي في وجوده إلى ذلك المبدأ
الواحد الذي دلّ وجود هذه الأجسام على وجوده ؛ والمجرّدات من العقول والنفوس التي
أثبتها الحكماء إمّا علل لهذه الأجسام أو مدبّرة لها ؛ وإثبات مجرّدات لا تكون
عللا ولا مدبّرة لا دليل عليه ولم يقل به أحد من الحكماء ؛ فلكلّ جسم أو جسماني أو
مجرّد مرتبط بالأجسام والجسمانيات تأثيرا أو تدبيرا منته إلى مبدأ واحد هو الواجب
بالذات.
ولو كان للعالم
صانعان ليتميّز صنع كلّ واحد منهما عن صنع غيرها وكان ينقطع الارتباط فيختلّ
النظام كما في قوله تعالى : (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ
بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) وفي قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) أي في مجموع السموات عقولا كانت أو نفوسا أو أجساما ومجموع
الأرضيات سواء كانت عنصريات أو طباعا أو نفوسا وكما أنّ حركات الرقص وإن وجدت
متباينة
__________________
متضادّة كالبسط
والقبض في الأعضاء وكالتعويج والتقويم فيها والسرعة والبطء لمّا كانت مجموعة
منتظمة متناسبة متناجذة مع ما لها من النظم العجيب والرصف الأنيق الذي سير الناظر
إليه يدلّ على أنّ وحدتها التأليفية ظلّ لوحدة طبيعية واحدة ؛ ولو لم يكن كذلك لم
يكن ملتئمة متناسبة ، بل كانت مختلّة النظم متبدّدة الوضع ؛ كذلك كون جبلّة العالم
مع تفنّن حركاتها وتخالف أشكالها وتغيّر آثارها المتولّدة من الأجسام العالية
الأجسام والسافلة مؤسّسة على الايتلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالّة بوحدتها
الطبيعة الاجتماعية على الوحدة الحقّة الحقيقية.
فإن قلت : لم لا يجوز أن يتعدّد الواجب
بأن يكونا اثنين مثلا ويتّفقا على أن يوجد أحدهما هذا العالم المحسوس والمعقول
والآخر عالما آخر لا علم لنا به أو يوجد أحدهما السماء والآخر الأرض أو يوجد
أحدهما الموجودات بأسرها والآخر لا يوجد / A ١٠٨ / شيئا مع كونه واجبا قديما؟
قلنا : هذه الاحتمالات الثلاثة باطلة :
أمّا الأوّل : فلما ثبت في محلّه من استحالة وجود عالمين في بقعة الإمكان
ومن كون العالم بجملته وكثرته عالما واحدا أجزائه مرتبطة بعضها ببعض وليس في
الوجود عالم آخر سوى هذا العالم المشاهد المحسوس والمعقول. على أنّه لو سلّم جواز
وجود عالمين أو أكثر نقول : إيجاد العالم الآخر إن كان صفة كمال فأحد الواجبين
يكون فاقدا لها وهذا نقص لا يليق بواجب الوجود لذاته ؛ وإن لم يكن صفة كمال
فالواجب الآخر يجب أن يكون منزّها عنه مع أنّ كلّ واجب فرض يجب أن يكون مساويا
لواجب آخر فرض في الذات والصفات الكمالية وعلى اختصاص كلّ من الواجبين بإيجاد عالم
يلزم اختلافهما في الصفات والكمالات.
وأمّا الثاني : فلما ذكرناه في الأدلّة.
وأمّا الثالث : فلامتناع شمول واجب الوجود في مطمورة التعطّل وزاوية
الإمكان والفقدان.
وممّا يدلّ على هذا التوحيد برهان التمانع الذي استفاده العلماء من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) وقوله : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) وبيّنه الصادق عليهالسلام في حديث الزنديق وحقّقه بعض المحقّقين على ما ينطبق على
القواعد العقلية ؛ وحاصله أنّه لو تعدّد الواجب وكانا اثنين مثلا :
[١.] فإن كان كلّ
منهما عاجزا ضعيفا غير مستقلّ بإيجاد العالم لم يكن شيء منهما واجب الوجود ؛ إذ
العجز ينافي وجوب الوجود.
[٢.] وإن كان
إحداهما قويّا قادرا على إيجاد العالم بالاستقلال والآخر ضعيفا عاجزا عنه لم يكن
العاجز واجبا لما ذكر وانحصر واجب الوجود في الأوّل.
[٣.] وإن كان كلّ
منهما قويّا قادرا بالاستقلال على إيجاد العالم ؛ فإذا فرضنا أنّ خلق العالم هو
مقتضى العناية الأزلية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ أو مقتضى العلم بالأصلح كما هو
رأي محقّقي المتكلّمين حتّى يكون العقل واجبا وتركه قبيحا ممتنعا فلا يخلو :/ B ١٠٨ /
[١.] إمّا أن
يتعلّق قدرة كلّ منهما ومشيّته على إيجاده
[٢.] أو يتعلّق
قدرة كلّ منهما ومشيّته على الإيجاد دون الآخر
[٣.] أو لا يتعلّق
قدرة شيء منهما ومشيّته على الإيجاد.
[١.] فإن تعلّق
قدرة كلّ منهما ومشيّته على الإيجاد فالفعل إمّا أن يقع ويتحقّق في الخارج أو لا.
فعلى الثاني يلزم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة وكذا يلزم أن يكون
الممكن آبيا عن قبول الوجود مع كونه مقتضى العناية الأزلية والعلم بالأصلح مع وجود
__________________
العلّة التامّة مع
أنّه قد تقرّر أنّ جميع الممكنات من حيث إنّها ممكنة ـ سواء كان لوجودها شروط أو
لا ـ متساوية النسبة في جواز الصدور عن الواجب الوجود وأنّ الوجود الممكن إذا كان
مقتضى العناية الأزلية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ أو مقتضى العلم بالأصلح ـ كما ذهب
إليه مشاهير المتكلّمين ـ فهو يجب فعله ويمتنع تركه.
وعلى الأوّل ـ أي وقوع الفعل بقدرة كلّ منهما ومشيّته ـ فلا ريب [في] أنّ
هذا الوقوع إنّما هو على الترتيب السببي والمسبّبي دون وقوع الجميع دفعة ؛ إذ ذلك
محال ، لما ثبت في محلّه ؛ فيلزم توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد
بالتشخّص وهو أيضا محال.
[٢.] وإن تعلّق
قدرة أحدهما ومشيّته على الإيجاد دون الآخر فيلزم في الآخر لزوم تخلّف المعلول عن
العلّة التامّة وجواز ترك مقتضى العناية الأزلية أو العلم بالأصلح مع كونه مستلزما
للمطلوب أيضا ؛ لأنّ كلّ من تعلّق قدرته ومشيّته على مقتضى العناية أو العلم
بالأصلح فهو واجب الوجود دون الآخر وإن فرض وقوع الفعل بقدرة أحدهما دون الآخر مع
مشيّة الآخر له ؛ فيلزم الترجيح بلا مرجّح مع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة
أيضا.
[٣.] وإن لم
يتعلّق قدرة شيء منهما ولا مشيّته على الإيجاد ؛ فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة
التامّة وعدم تعلّق مشيّة الواجب وقدرته على الفعل الذي هو مقتضى العناية والعلم
بالأصلح ؛ وهذا أيضا محال.
[المقام الرابع]
في بيان التوحيد الوجودى ؛ أي كون وجود الحقّ واحدا هو الله تعالى
وما عداه شئونات واعتبارات وتجلّيات له
فكما أنّ التوحيد
الالوهي مبناه على نفي أشياء / A ١٠٩ / غير موجودة في
الأعيان ؛
أعني الآلهة
المفروضة في الأذهان وإثبات إله واحد كذلك التوحيد الوجودي مبناه على نفي أشياء
موجودة في الأعيان ـ أعني الكثرات المتحقّقة في حيّز الإمكان ـ والانتهاء إلى وحدة
حقّة حقيقية متقدّسة عن النقصان.
وبعبارة اخرى : كما أنّ التوحيد الالوهي مبناه على إثبات الأشياء ـ أعني
الممكنات وصفاتها وأفعالها ـ والقول بأنّها لإمكانها محتاجة إلى مؤثّر واجب بالذات
واحد في الصفات ومن جميع الجهات وكون الجميع في الحقيقة والواقع مستندة إليه صادرة
عنه كذلك معنى التوحيد الوجودي على نفي الوجودات الفاقدة بذواتها وسلب الصفات
الناقصة في كمالاتها ؛ أعني وجودات الممكنات وصفاتهم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى
وجود عيني قائم بالذات كامل في الصفات وفي جميع الجهات.
وبعبارة اخرى : كما أنّ مبنى القسم الأوّل من التوحيد الالوهي على نفي واجب
الوجود غير الله وإثبات انحصار وجوب الوجود فيه والثاني على إثبات ذوات الممكنات وصفاتهم ، وسلب التأثير
والإيجاد عنهما إثبات انحصارهما في الله سبحانه ، فكذلك مبنى التوحيد الوجودي
على نفي وجودات الممكنات وصفاتهم وأفعالهم واستهلاكها في وجود الواجب وصفاته
وأفعاله ؛ وغير خفيّ أنّ هذا التوحيد يختلف باختلاف الأقوال في تصحيح وحدة الوجود
؛ فكلّ من أثبت الوحدة بنحو أثبت هذا التوحيد بذلك النحو ؛ وقد عرفت أنّ الحقّ الجامع بين
أقوال العارفين والحكماء أنّ الوجود الأصيل القائم بذاته هو الوجود الواجبي
والممكنات موجودات بوجودات ظلّية تبعية ؛ أي أنّها بملاحظة العلّة وتحقّقها لها
وجودات ظلّية تبعية ومع قطع النظر عن العلّة معدومات صرفة ؛ إذ البداهة حاكمة
__________________
بأنّ ما به
تحقّقها وحقيقتها هو علّتها ـ أعني الواجب سبحانه ـ / B ١٠٩ / فهي مع ملاحظة العلّة وتحقّقها متحقّقة إلّا أنّ تحقّقها
في الحقيقة يرجع إلى تحقّق العلّة ؛ إذ لو لا تحقّقها لم تكن متحقّقة.
وعلى هذا فيصحّ ما
ذكره الصوفية من أنّ الوجودات الإمكانية شئونات واعتبارات وتجلّيات وارتباطات
للوجود الحقّ الواجبي ولا تحقّق لها وإنّما التحقّق والتحصّل هو للوجود الواجبي ؛ لأنّ مرادهم أنّها بالنظر إلى أنفسها
مع قطع النظر عن العلّة اعتبارات محضة ، بل معدومات صرفة ؛ وهذا الكلام حقّ لا
ينكره أحد من العقلاء وأرباب الشرائع ؛ وليس مرادهم أنّها مع ملاحظة العلّة
وتحقّقها لا تحقّق لها ؛ إذ هذا خلاف البديهة والنظر ؛ إذ ذلك يؤدّي إلى سلب
التحقّق عن العلّة.
وكذا ما ذكره
العقلاء وأرباب النظر من إثبات الوجودات الخاصّة المتحقّقة المتكثّرة للممكنات
أيضا حقّ ؛ إذ مرادهم أنّ التحقّق لتلك الوجودات إنّما هو مع ملاحظة العلّة
وتحقّقها لا بدونه ؛ إذ عدم التحقّق لها ومعدوميتها مع عدم اعتبار العلّة ـ كما
عرفت ـ ممّا لم ينكره أحد من العقلاء وأرباب الشرائع ؛ فمرادهم هو ما ذكرناه من
أنّ تحقّقها إنّما هو مع ملاحظة العلّة.
وعلى هذا فالتوحيد الوجودي عبارة عن كون الوجود الأصيل القائم بذاته
المتحقّق بنفسه مع قطع النظر عن جميع ما سواه واحدا وكون ما سواه امورا ظلّية
ارتباطية تبعية متحقّقة بغيرها معدومة بالنظر إلى أنفسها.
فالجاهل بحقيقة
الحال لا يرى إلّا الكثرة ؛ والجهلة بحقيقة العلّية والمعلولية يرى هذه الكثرة
كثرة متحقّقة بنفسها.
وأمّا البارقون
الواقفون على حقيقة الحال فيرون الوحدة والكثرة معا ولكن كلّ منهما باعتبار ويرى
كلّا منها مرآة للآخر.
__________________
فالعارف الواقف
بأنّ الواجب تعالى بحت الوجود وصرف الموجود وبأنّ ذوات الممكنات وحقائقها ـ أي
وجوداتهم الفاقدة بذواتهما ـ وكذا / A ١١٠ / صفاتهم
وأفعالهم الناقصة في كمالاتها من أنحاء تجلّيات ذاته وشئون صفاته وأفعاله يرى
ويشاهد بعين العيان أنّ كلّ وجود وموجود وكلّ صفة وموصوف وكلّ فعل وفاعل ومفعول من
الممكنات باطلة دون وجهه الكريم وهالكة مع قطع النظر عن الارتباط به تعالى
ومستهلكة في حبّ ذاته ومستغرقة في علوّ أسمائه وصفاته وفانية في سموّ أفعاله
وآثاره.
فهو يشاهد في
الكلّ ذاتا ؛ أي وجودا صرفا مطلقا كاملا متقدّسا عن العدم والنقص متجلّيا على
الكلّ ؛ وكذا يشاهد صفات مطلقة واجبة منبسطة في صفات الممكنات وفعلا مطلقا لا مدخل
لتأثير الغير فيه ولا تقارنه شائبة من القوّة والنقص كما في أفعال الممكنات ؛
فإنّها ناقصة مقارنة للقوّة ومرتبطة بفعل الواجب على وجه التقويم بحيث لو لا
ارتباطها به وانبساطه عليها وتأثيره فيها لم يكن لها اسم ولا أثر ؛ فكلّ فعل وأثر
في سلسلة العرض الإمكانية فانية ومستهلكة في فعله تعالى وكذا في السلسلة الطولية
وإن توقّف تأثيره فيها في بعض وتجلّيه عليه على بعض آخر كتوقّف الأفعال الطبيعية
مثل الحرارة والبرودة على النار والماء والأفعال الاختيارية كأفعال العباد وآثارهم
على ذواتهم وساير الأسباب المنتهية إلى مسبّب الأسباب الذي هو ناظم سلك الوجود
ومبدأ كلّ فيض وجود.
وكان هذا العارف
السالك جعل في قوله واعتقاده ومشاهدته العيانية الحقائق المتكثّرة ـ أعني الوجودات المتكثّرة الإمكانية ـ حقيقة واحدة ـ أي
وجودا واحدا ـ والصفات المتكثّرة الإمكانية صفة واحدة مطلقة والأفعال المتكثّرة
فعلا واحدا. فهو :
__________________
[١.] نظر أوّلا
إلى حقيقة كلّ شيء ورجع قهقرى إلى أصله الصادر منه حتّى وصل إلى صرف الوجود القديم
القائم بذاته الذي ليس في الخارج موجود بوجود أصيل ثابت / B ١١٠ / إلّا هو وصفاته وكمالاته.
[٢.] ونظر إلى كلّ شيء غير الواجب حتّى عرف حقيقته وعرف أنّ الوجود
فيه زائد على ذاته متقوّم لغيره متفرّع على أصله وهو الوجود الحقّ القيّوم وأنّ
وجود كلّ شيء هالك بالنظر إلى ذاته وثابت بقيّوميّته ؛ فمن حيث ذاته فان باطل ومن
حيث ارتباطه بموجده الحقّ باق ثابت.
[٣.] ونظر إلى حقيقة كلّ وجود وموجود وعرف أنّه بأيّ وجه حقّ ثابت
وبأيّ وجه خلق باطل ومن أيّ جهة واحد ومن أيّ جهة متكثّر ؛ فيرى الوجود الحقّ في
كلّ شيء ومعه ويرى رجوع الكلّ إليه ويشاهد الحقّ باقيا والخلق زائلا أزلا وأبدا (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فيرى الممكنات بأسرها وذرّات الوجود برمّتها بذواتها
وصفاتها وأفعالها هالكة زائلة مع قطع النظر عنه بحيث لو فرض انقطاع ارتباطها
بمبدعها الحقّ لا نطوى بساط الممكنات وصارت بقعة الإمكان قاعا صفصفا.
هذا هو البيان الإجمالى في هذا التوحيد
ـ أي التوحيد الوجودي ـ وإن شئت توضيح المقام فاعلم أنّه كما أنّ للواجب تعالى ذاتا هو صرف الوجود وصفات هي عين
ذاته تعالى وأفعالا صادرة عن ذاته بذاته من غير مدخلية لتأثير الغير فيه أصلا
وآثارا هي مظاهر صفاته تعالى ؛ وهي ذوات الممكنات ووجوداتهم واصول صفاتهم كذلك
للممكنات ذوات هي وجوداتهم وصفات زائده على ذواتهم وأفعال ذات جهتين ؛ فمن جهة
منتهية إلى مسبّب الأسباب ومتقوّمة بالفاعل
__________________
المطلق في الكلّ
ومن جهة اخرى مستندة إلى ذواتهم وآثار مترتّبة على أفعالهم هي إمّا الذوات
الاعتبارية أو الصفات الغير الأصلية أو الأفعال كذلك. ففي بادئ النظر للتوحيد
الوجودي أربع مراتب :
[١.] توحيد الذات
؛ وهو أن يرى ذوات الممكنات هالكة في ذاته تعالى.
[٢.] وتوحيد
الصفات ؛ وهو أن يرى صفات الممكنات مستهلكة في صفاته تعالى.
[٣.] وتوحيد الأفعال
؛ و/ A ١١١ / هو أن يرى أفعالهم مستغرقة في
أفعاله تعالى.
[٤.] وتوحيد
الآثار ؛ وهو أن يرى آثارهم مضمحلّة في آثاره تعالى.
وفي دقيق النظر
للتوحيد الوجودي ثلاث مراتب :
[١.] توحيد الذات
[٢.] وتوحيد
الصفات
[٣.] وتوحيد
الأفعال
إذ توحيد الآثار
ساقط عن درجة الاعتبار ؛ لأنّه على قياس ساير التوحيدات مرجعه إلى توحيد آثار
الممكنات واصول صفاتهم ؛ فيرجع هذا التوحيد إلى ملاحظة فناء آثار الممكنات في
ذواتهم وصفاتهم ؛ وظاهر أنّه لا فائدة في مثله ولا يحصل معرفة الله سبحانه بحصول
مثل هذا التوحيد. فالمعتبر من مراتبه هي الثلاث الاول ـ أعني توحيد الذات وتوحيد
الصفات وتوحيد الأفعال ـ والأصل والعمدة هو توحيد الذات وبإيضاح حاله يتّضح حال
الأخيرين ـ أعني توحيد الصفات وتوحيد الأفعال ـ فنقول في بيانه : إنّ العارف
السالك إذا صار موحّدا بالتوحيد الالوهي حصل له نوع قرب إلى جهات الحقّ وكلّما قوى
هذا التوحيد اشتدّ القرب حتّى يستعدّ لفيضان بعض المعارف الحقيقية والمواهب
الغيبية والابتهاجات الروحية على نفسه ويشرق نور الحقّ من جانب القدس على مرآة
قلبه وورد وارد عليه من عالم القدس إن لم يصر ملكة له ، بل زال بظهور صفات
نفسه سمّي ذلك في عرف الصوفية حالا وإن صار ملكة ورسخت فيه سمّيت مقاما ؛
والمقامات كلّها حجب نورانية إلّا مقام الجمع وجمع الجمع.
والجمع مقابل
الفرق والفرق هو الاحتجاب عن الحقّ بالحقّ بأن يرى في كلّ الأشياء الخلق ويرى
الحقّ مغايرا لها من كلّ الوجوه ويرى بقاء الرسوم الخلقية بحالها ؛ وفي هذا المقام
أخطار كالخوف من الوقوع في مفسدة تعطيل الفاعل المطلق وأمثاله ؛ والجمع في عرفهم
مشاهدة الحقّ في كلّ الأشياء مع الغفلة عن الأشياء / B ١١١
/ أنفسها بأن تفني في نظره الرسوم الخلقية ولا يرى إلّا الحقّ ويسمّى هذا المقام
مقام المحو والفناء ؛ إذ لو كان أيّية السالك وتعيّنه باقيا ـ أي مشاهدا ملحوظا له
ـ لما حصل له هذا المقام ـ أي شهود الحقّ بدون الخلق ـ وفي هذا المقام أيضا أخطار
كالوقوع في مهلكة الكفر والزندقة والإلحاد والحلول والاتّحاد.
وأمّا جمع الجمع
فهو مشاهدة الخلق قائما بالحقّ بأن يشاهد في جميع الموجودات الحقّ ويلاحظ
الاثنينية والغيرية ولا يحتجب برؤية الوحدة عن الكثرة ولا برؤية الكثرة عن الوحدة
ويرى الأشياء كما هي وكما ينبغي. فعند صاحب هذا المقام تكون الكثرة مرآة للوحدة [والوحدة]
مجلاة للكثرة ؛ وهو أعلى مقامات العارفين وأرفع درجات السالكين وليس فيه خوف
الوقوع في مفسدة ؛ ولذا ورد في كلام هذه الطائفة : «عليكم بهذا المقام ؛ فإنّ جامعه الموجد الحقيقي وإيّاكم والجمع
والتفرقة ؛ فإنّ الأوّل يورث الزندقة والإلحاد والثاني تعطيل الفاعل المطلق.»
ثمّ هذا المقام ـ أي
مقام جمع الجمع ـ يسمّى بجامع الجمع أيضا وبمقام البقاء بالله ويسمّى أيضا الصحو
والفرق الثاني والفرق بعد الجمع ؛ لأنّ السالك يتنزّل
__________________
بعد مقام الجمع
المحض والفناء المطلق والوحدة الصّرفة إلى هذا المقام الذي هو محو وفرق باعتبار.
وهذا المقام وإن
كان في بادئ النظر مقاما واحدا لكنّه في الحقيقة مقامان :
أحدهما : أن يكون فيه الكثرة مرآتا للوحدة ويرى فيه الحقّ ظاهرا
والخلق باطنا ، كما أنّ الصور المنطبعة في المرآة يشاهد أوّلا ثمّ المرآة ثانيا ؛
ولهذا الاعتبار يسمّى في عرفهم بقرب النوافل ، كما ورد في الخبر : «لا يزال العبد
يتقرّب إلى بالنوافل حتّى أحببته ؛ فكنت سمعه الذي يسمع بي وبصره الذي يبصر بي» الحديث.
وحاصله : أنّ العبد إذا رأى كلّ كمال مستهلكا و/ A ١١٢ / مستغرقا في كماله تعالى الذي هو عين ذاته لم يكن في نظره
كمال إلّا هو ؛ فصار الحقّ في جميع كمالاته من الوجود والسمع والبصر واليد والعلم
والقدرة وغيرها لرجوع كلّها في نظره إلى كمال الحقّ الذي هو عين ذاته ؛ فيصير
العبد متخلّقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة وينظر في كلّ شيء إلى الحقّ أوّلا وإلى
الخلق ثانيا.
[ثانيهما :] أن تكون الوحدة فيه مرآة للكثرة ويرى فيه الخلق ظاهرا
والحقّ باطنا ، كما أنّ أمر المرآة والمرئي كذلك ؛ وبهذا الاعتبار يسمّى عند بعضهم
بقرب الفرائض لما ورد في الخبر أنّه تعالى يقول على لسان عبده : «سمع الله لمن
حمده» وعلى هذا فيرى الوحدة في الكثرة والخلق ظاهرا والحقّ باطنا ؛ وعلى هذا
فالمقامات الحاصلة في التوحيد الوجودي الذاتي بحسب جليل النظر ثلاثة :
__________________
الفرق والجمع وجمع
الجمع ؛ وبحسب الدقيق منه أربعة نظرا إلى كون الثالث مقامين ؛ وهذه الأقسام إنّما
هي بحسب المراتب الطولية وكلّ منها له عرض عريض ومراتب متنازلة ومتصاعدة ويختلف
بحسب اختلاف أحوال السلّاك وفي كلّ منها يرى السالك وجودات الممكنات وذواتهم
بأسرها مستغرقة في جنب ذاته سبحانه.
وبتقرير آخر : نقول أنّ العارف السالك إذا ترقّى في السلوك والسير ، وتدرّج في
مراتب القرب ونفى الغير ، يرى بعين العيان أنّ محقّق الحقائق ومذوّت الذوات هو
الوجود الواحد الحقّ ، ووجودات الممكنات أظلاله وفروعه وتجلّياته وشئونه ؛ ولو لا
ارتباطها بأصلها لكانت كلّها باطلة هالكة زائلة ؛ وإذا عبر عن مراتب الكثرات
الصورية والمعنوية يصل إلى مقام التوحيد الذاتي العياني ويشاهد الحقّ في الكلّ
ولاحظ الكلّ قائما بالحقّ وارتفع الحجب عن عين بصيرته ؛ فيشاهد في جميع الأشياء
بالنظر الأوّل نور الوجود الواحد المطلق ؛ ويرى الحقّ في الكلّ ظاهرا والخلق باطنا
؛ ويكون الخلق عنده / B ٢١١ / مرآة للحقّ كما هو شأن المرآة
والمرئي في الظهور والبطون ؛ ولذا إذا لوحظ شبح من بعيد يلاحظ أوّلا موجوديته ثمّ
ساير أحواله ؛ وهذا هو مقام جمع الجمع بالمعنى الأوّل من المعنيين المذكورين ويقول
صاحبه : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله» ويسمّى صاحبه بذي العين.
وقد يشاهد هذا
السالك أوّلا الخلق ثمّ الحقّ ويكون الحقّ عنده مرآة للخلق والخلق ظاهرا والحقّ
باطنا عكس المقام الأوّل ويقول صاحبه : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده» لأنّ
الوجود الحقيقي لمّا احتجب ظهوره في حجب التعيّنات واستتر لغاية جلاله صار
التعيّنات كالحجاب له ؛ ولذا يقع النظر الأوّل إلى الحجاب
__________________
ثمّ إلى ما ورائه
؛ وهذا هو مقام جمع الجمع بالمعنى الثاني ويسمّى صاحبه بذي العقل ؛ لأنّ مشاهدته
مقتضى العقل ، كما أنّ مشاهدة صاحب المقام الأوّل مقتضى عين البصرة والعيان.
وقد يكون العارف
السالك بحيث لا يشاهد إلّا الحقّ ؛ ويسمّى هذا المقام ـ كما سبق ـ مقام الجمع
ومقام المحو ومقام الفناء ؛ وقد عرفت أنّ فيه بعض الأخطار ولذا كان المقام الأوّل
أعلى منه ؛ وقد يشاهد الخلق في كلّ الأشياء ويرى الحقّ مغايرا لها من كلّ الوجوه
ويرى بقاء الرسوم الخلقية بحالها ؛ وهذا هو مقام الفرق وهو أنزل المقامات.
وقد يندرج العارف
السالك في مراتب القرب ويحصل له المقامان الأوّلان ويصير ذا العين وذا العقل ،
ويشاهد الحقّ وأعيان الممكنات من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر ؛ فكلّ منهما عنده
ظاهر وباطن باعتبار آخر ويصير كلّ منهما عنده مرآة للآخر ؛ فهو قد يقول : «ما رأيت
شيئا إلّا ورأيت الله فيه» وقد يقول : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه»
ويسمّى صاحب هذا المقام بذي العين والعقل ؛ ويسمّى هذا المقام مقام السير في الله
والسير مع الله ومقام جمع الجمع أيضا ، كما سبق. / A ١١٣ /
وتختلف أحوال تلك
المقامات كلّها سيّما المقام الأوّل الذي هو أعلى المقامات بحسب اختلاف أحوال
السالكين وبحسب اختلاف حالات شخص واحد في أوقات مختلفة ؛ ولعلّ قول سيّد الرسل صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل» إشارة إلى أقصى مراتب مقام جمع الجمع ؛ وفي كلّ من تلك
المقامات ومراتبها يلاحظ توحيد الذات واضمحلال ذوات الممكنات و
__________________
وجوداتهم في جنب
ذاته تعالى ووجوده : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) .
وما ذكره جماعة من
مراتب السير والسلوك ـ أعني السير إلى الله والسير مع الله والسير في الله ـ راجعة
إلى هذه المقامات بأن يكون السير إلى الله إشارة إلى مقام الفرق والسير مع الله
وفي الله إشارة إلى مقام جمع الجمع بقسميه ومقام الجمع أيضا راجع إلى أحد الآخرين.
وهاهنا مقام آخر
أرفع وأعلى من الكلّ ويشتمل على الجميع مع الزيادة ويسمّى مقام السير من الله وهو
مخصوص بالأنبياء وأوصيائهم عليهمالسلام وهو أن يصير العارف كاملا في جميع المقامات ويصل إلى
أقصاها ويبلغ في الكمال إلى حدّ يستعدّ لأن يرسله الله إلى إرشاد عباده وهدايتهم ويكون واسطة بينه وبينهم في إيصال فيضه إليهم ويكون برزخا
بين عالمى الأمر والخلق وعالمى الغيب والشهادة ويكون له جنبتان إحداهما في عالم
التجرّد والاخرى في عالم الحسّ ، يستفيض بالأولى من العالم الأعلى ويفيض بالاخرى
على سكّان العالم السفلى ؛ ولهذا المقام كسائر المقامات عرض عريض ودرجات ومراتب
تختلف بحسب اختلاف مراتب الأنبياء والأولياء.
وحاصل جميع
المقامات المذكورة في التوحيد الوجودي الذاتي أن يشاهد العارف في كلّ الأشياء
وجودا بحتا حقّا ونورا صرفا محضا وذاتا قائما بذاته حقّا ويكون عنده وجودات
الممكنات وذواتهم بأسرها مرتفعة مضمحلّة في جنب هذا الوجود الحقّ والذات / B ١١٣ / الواحد المطلق.
وإذا عرفت جليّة
الحال في التوحيد الوجودي الذاتي فقس عليه حال التوحيد الوجودي الصفاتي والتوحيد
الوجودي الأفعالي ؛ فإنّ العارف السالك كما يشاهد جميع ذوات الممكنات فانية
مضمحلّة في ذاته تعالى كذلك يشاهد
__________________
جميع صفاتهم فانية
مضمحلّة في صفاته تعالى ولا يرى لغيره صفة كمالية أصلا ، بل يرى صفات كلّ الأشياء
كذواتهم ووجوداتهم مظاهر ومجالي لصفاته تعالى ويرى صفاته تعالى في الأشياء ظاهرة ؛
وهذا هو التوحيد الصفاتي وهو في أقسام المقامات والمراتب وكون كلّ منها ذا عرض
عريض بحسب اختلاف أحوال السالكين كالتوحيد الذاتي بعينه ؛ ويسمّى هذا التوحيد في
عرف الطائفة بالطمس وكذا يشاهد السالك جميع أفعال الأشياء فانية في أفعال الحقّ
ومضمحلّة [في] جنب فعل الفاعل المطلق ويشاهد في كلّ فعل وتأثير فعل الحقّ وتأثيره
وقدرته وقوّته ؛ ولا يرى مؤثّرا في الوجود ولا فاعلا مستقلّا إلّا هو ؛ وهذا هو
التوحيد الأفعالي.
[في ما حصل للعارف السالك بعد الوصول إلى مراتب التوحيد وتصفية النفس تحليتها
واستغراق الوقت بذكر الله]
وأعلم أنّ العارف
السالك إذا وصل إلى هذه المقامات ـ نعني التوحيدات ـ وصفّى نفسه عن رذائل الصفات
وحلّيها بفضائل الأخلاق واستغرق وقته بذكر الله تعالى حصل له مرتبة العروج إلى
الأفلاك والكواكب والارتباط مع روحانيات ملأ الأعلى وملائكة الملكوت وسكّان عالم
القدس ويشرق قلبه بالأنوار الإلهية والابتهاجات العقلانية ويشاهد ذاته وصفاته
وأفعاله فانية في تجلّيات أنوار اللاهوت ويبقى بعد الضياء في الله باقيا بالبقاء
بالله ويرى بعين العيان ونور البصيرة وجه الحقّ بالحقّ.
وبالجملة : يحصل له بسبب ارتباطه بذلك العالم وتوجّهه إلى مبدأ الحقّ
وبسبب تصفية مرآة قلبه الذي هو مرآة حقائق الأشياء ومجلاة لصورها مناسبة للعالم
المعنوي بحيث يتمثّل في سرّه صور جميع الأشياء من المادّيات و
المجرّدات وإن لم
/ A ١١٤ / يكن لتلك
المجرّدات بحيث ذواتها وجود حسّي ولا صورة حسّية لكنّها يظهر وينكشف بروحها
متشكّلة بأشكال المحسوسات متمثّلا بمثل المادّيات ويصير متجلّية عليه بالصور
المناسبة لمقام ذلك العارف وحاله.
فإن لم تقدر يا أخي! أن تدرك أمثال ذلك وتصل إلى حقيقته ؛ فلا تبادرنّ إلى
إنكاره ؛ فإنّه واقع في حيّز الإمكان ، كما ورد في الأخبار المعتبرة أنّ روح
الأمين ظهر بصورة دحية الكلبي وساير الصور الحسّية على خير البشر وورد في الأخبار
المتفرّقة أنّ بعض الملائكة ظهر بصورة شخص على بعض الكمّل من الأولياء ، بل على
بعض الزهّاد والعبّاد ؛ وإذا وصل العارف إلى هذا المقام تتجلّى عليه من مبدئه
وموجده تجلّيات ذاتية وصفاتية وأفعالية وآثارية مناسبة لحاله ومقامه ؛ والغالب أن
يكون التجلّي الآثاري أثرا متلبّسا بملابس الأكوان وعالم الشهادة ؛ فيتمثّل بمثل
عالم الحسّ من الصور الحسّية والجسمانية ، وأكثره أن يكون بصورة إنسان كامل ؛
ويسمّى هذا التجلّي باصطلاح القوم بالتجلّي الصوري وبالتباس أيضا ؛ وأكثر
التجلّيات الأفعالية إنّما تكون بالأنوار المتلوّنة كالنور الأبيض والأخضر والأحمر
؛ وأكثر التجلّيات الصفاتية تكون بالتجلّي بالصفات الكمالية ، مثل العلم والقدرة
والإرادة أمثالها ؛ وأمّا في التجلّي الذاتي فيتجلّى من حضرة القدس ذات من الذوات
النورية أو آية من الآيات البهيّة مصوّرة بالصور الحسّية ولا سيّما الصور المألوفة
؛ فيصير العارف فيه فانيا مطلقا بحيث لا يبقى له علم وشعور بذاته ولا بصفاته ولا
بشيء آخر أصلا ، كما قال سبحانه (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) .
وهذه التجلّيات
تختلف بحسب قوّتها وضعفها وصفاتها وكدورتها وزيادتها ونقصانها وأوقاتها وحالاتها
المختلفة بأحوال السالكين ؛ فهذه التجلّيات للأنبياء
__________________
وأوصيائهم عليهمالسلام تكون / B ١١٤ / أعلى وأتمّ
وأقوى وأكمل منها بالنسبة إلى غيرهم وتختلف أيضا بحسب مراتبهم العليّة ولكنّهم عليهمالسلام قد يحتاجون في التجلّيات الغير الذاتية إلى توسّط تلك وإن
كان ذواتهم الشريفة وأرواحهم النورية أشرف من ذلك الملك.
ولهذا المقام
تفصيل محرّر في موضعه ؛ وبيانه على الإجمال : أنّ الأنبياء عليهمالسلام لمّا وصلوا إلى مقام جمع الجمع وشاهدوا الكثرة في عين
الوحدة وبالعكس وحصلت لهم ملكة العروج والنزول والصعود والهبوط على أكمل وجه بحسب
مراتبهم العليّة ودرجاتهم السنيّة صاروا مستعدّين لمنصب النبوّة والولاية وإرشاد
الخلائق وهدايتهم.
ثمّ لمّا كان لهم
كمال الارتباط والاتّصال بالعالم الإلهي العلوي فهم متنزّهون عن الارتباط بالعالم
السفلى والاتّصال بكثرات العالم الدنيوي ؛ إذ قوّة تجرّدهم بلغت حدّا رفع المناسبة
بينهم وبين موجودات العالم الجسماني ؛ فلا مناسبة بوجه بينهما كما لا مناسبة أصلا
بين هذه الكثرات وبين موجدها الحقّ ؛ فلم يمكن الإفاضة والاستفاضة والإرشاد
والاسترشاد لاشتراط المناسبة في الجملة بين المفيض والمستفيض ؛ فلا جرم اقتضت
العناية الإلهية والرأفة الربّانية أن ينزّلهم من مراتبهم العليّة ومدارجهم
السنيّة إلى العالم السفلى لإرشاد عباده وتنوير بلاده ؛ فإنّ إيجاد الكائنات إنّما
هو بمحض الفيض والجود ؛ فلا يليق بالفيّاض الجواد أن يبخل عباده الضالّين في بيداء
الجهالة والهلاكة وكان من المحال أن تحصل المناسبة بين الواجب سبحانه وهذه الكثرات
وإن يحصل لكلّ عبد بالنسبة إلى خالقه الحقيقي قرب يوجب المناسبة بينهما بحيث يصير
هذا العبد مستعدّا لاستفاضة من الله تعالى بلا واسطة ، بل الممكن حصول هذا / A ١١٥ / القرب وهذه المناسبة بينه تعالى وبين بعض الكمّل من
عباده.
وبيان ذلك : أنّ قربه سبحانه بالنسبة الى جميع عباده ، بل كلّ مخلوقاته
وإن كان على السواء ؛ لأنّ قربه تعالى بالنسبة إليهم إنّما هو من حيث العلّية
والإحاطة والوجود والشهود إلّا أنّ قربهم إليه ليس على السواء ؛ إذ قربهم إليه من
حيث المعلولية والمخلوقية والارتباط والاستعداد والسلوك وحصول التجرّد والتصفية
والكلّ وإن كانوا في القرب المترتّب على المعلولية والمخلوقية والارتباط على
السواء إلّا أنّهم مختلفون في القرب بحسب السلوك العرفاني.
فظهر أنّ قرب
الحقّ إلى عباده مغاير لقربهم إليه وبينهما بون بعيد ؛ كيف وهو أقرب إليهم من حبل الوريد وهم من حيث ذواتهم وأنفسهم في غاية البعد من حضرته؟! كيف
والقرب الذي من طرق الحقّ سبحانه إليهم على وتيرة واحدة أزلا وأبدا لا يزيد ولا
ينقص ولا يتغيّر ، بل هو ثابت واقع من الأزل إلى الأبد وليس مختصّا بزمان ولا مكان
والكلّ فيه على السواء وليس لأحد فيه مزيّة على الآخر؟!
وأمّا القرب الذي
من طرق العباد فلا يحصل إلّا بعد استعدادهم وسلوكهم ومجاهدتهم وسعيهم في تحصيل
العلم والعمل ، وتصقيل نفسهم عن الكدورات والرذائل بمصاقيل الشريعة ، وتطهيرها عن
أقذار عالم الطبيعة وتصفيتها عن الهواجس النفسانية بالمجاهدات الشرعية ، وتجريدها
عن العلائق البشرية الحسّية ، وتخليصها عن العوائق البدنية الجسمية ، واتّصافهم
بصفات الحقّ والتخلّق بأخلاقه ، وتوجّههم بشراشرهم إلى قدس الجبروت ، وانقطاعهم
بالكلّية إلى صقع الملكوت ، والإعراض عن اللذّات الجسمانية والمشتهيات النفسانية ،
والتعوّد بصدق الأقوال وحسن الأفعال ، وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق ونقائص
الأعمال ، والتجلّي / B ١١٥ / بشرائف الصفات
وفضائل الملكات ، والاجتناب عن الإفراط والتفريط في القول والعمل ، والتزيّن بزينة
الكرام الكمّل ،
__________________
والاشتغال
بالطاعات الشرعية والوظائف الدينية ، والمواظبة على العبادات ، والاجتهاد في تحصيل
السعادات ، والمداومة على الصمت وقلّة الكلام ، وتقليل الأكل والشرب والمنام ،
وصرف الأوقات في الذكر والفكر والانس بالله تعالى إلى غير ذلك من أسباب لا تحصى ؛
فإنّ من وفّقه الله لتحصيل هذه الشرائط يحصل من طرفه القرب إلى ربّه تعالى وتحصل
له المناسبة بينه وبين الحقّ ؛ وإذا قطع مثله جميع المقامات والمراتب وحصل له
الاتّصال التامّ بالعالم العلوي وإن ارتفع المناسبة بينه وبين الكثرات إلّا أنّه
تمكّن حصولها بعد إنزاله عن مرتبة العليّة بخلاف حصولها بين الله تعالى وبين
الكثرات ؛ فإنّه غير ممكن.
فالأنبياء عليهمالسلام بعد طيّهم جميع المقامات وارتباطهم بعالم القدس واتّصالهم
بالعلويات والملكوت الأعلى أنزلهم الله سبحانه تفضّلا منه على عباده من معارج
القدس إلى مهابط الأكوان ؛ فصاروا متوسّطين بين أوج الوجوب وحضيض الإمكان حتّى
يتمكّنوا من الأخذ من العالم العلوي والإيصال إلى سكّان العالم السفلي بإصعادهم من
حضيض عالم الناسوت إلى أوج قدس صقع الجبروت وردعهم عن مشاركة سكّان عالم الزور
وإيصالهم إلى مرافقة قطّان دار السرور بحسب استعداد كلّ شخص وقابلية كلّ عبد لزمرة
الرسل كلتا الملكتين والجنبتين ـ أعني ملكتي الصعود والهبوط وجنبتى العروج والنزول
ـ لكنّهم لمّا صاروا بأمر (اهْبِطُوا) وبحكم الحقّ ـ جلّ شأنه ـ مشتغلين بمصالح العباد ومتوغّلين
في إصلاح البلاد ومرتبطين بالعالم السفلى ؛ فإذا حصل لهم التوجّه إلى العالم
العلوي مع ذلك التقيّد والارتباط والتوغّل والإيصال / A ١١٦ / احتاجوا في التجلّيات غير الذاتية إلى توسّط ملك ليس له
كلتا الجنبتين والملكتين ، بل له ملكة الصعود والعروج فقط ولذلك يكون النبيّ
محتاجا في صعوده وعروجه إلى ذلك الملك مع
__________________
كونه أفضل وأشرف
منه بمراتب شتّى وكذا إذا حصل لهم التوجّه التامّ إلى العالم العلوي يحتاجون في
هبوطهم ونزولهم إلى جذب جاذب من السفليات وقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لبعض أزواجه : «كلّميني» أو «اشغلني» كان لهذا.
وبالجملة : لمّا كان للأنبياء عليهمالسلام ملكة الاتّصال بكلّ من العالمين ؛ فإذا حصل لهم اتّصال
بأحدهما لا يمكنهم الصعود والهبوط منه إلّا بإعانة واحد من أهل العالم الآخر من
ملك روحاني يذكّر رؤيته العالم العلوي ويشوّقه إليه ويزيل ميله إلى العالم الدنيا
الحسّي أو شخص جسماني يوجب تكلّمه أو رؤيته السقوط عن الروحانيات والركون إلى
الجسمانيات.
[في الفرق بين مذهب العرفاء والأشاعرة في التوحيد الأفعالي]
إيّاك أن تتوهّم
ممّا قرّرناه لك في توحيد الأفعال أنّه مذهب الأشاعرة ولا تفاوت بينهما إلّا
بالعبارة حيث إنّ مبنى التوحيد الوجودي الأفعالي على أنّ جميع الأفعال مستهلكة في
فعله تعالى وتأثيره ، ومضمحلّة في جنب فاعليته المطلقة ولا فاعل إلّا هو ولا مؤثّر
في الوجود إلّا هو ؛ والأشاعرة أيضا يقولون : «أن لا فاعل ولا مؤثّر في الوجود
إلّا هو» واستندوا جميع الأفعال حتّى قبائح أفعال العباد إليه تعالى وقالوا : «إنّ
ذوات العباد كالآلات لأفعاله تعالى» وهذان القولان مبناهما واحد ؛ فقول العارفين
في التوحيد الوجودي الأفعالي يرجع إلى قول الأشاعرة ؛ وهو باطل لاستلزامه بطلان
الثواب والعقاب وكون التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب عبثا وصدور العبث من
الحكيم قبيح ؛ لأنّ بين الكلامين غاية البعد بحسب المعنى والمقصود وإن توهّم في
بادئ النظر / B ١١٦ / قرب بينهما
بحسب اللفظ ؛ إذ المراد بالتوحيد العياني هو مشاهدة وجود الحقّ وصفاته وأفعاله
بلا اعتبار وجود
الغير وصفاته وأفعاله معه ؛ والموحّدون ما وصلوا إلى مقام هذا التوحيد وما ادّعوا
وصولهم إليه إلّا بعد فنائهم من أنفسهم وخلاصهم عن مشاهدة الغير الذي هو وجودهم
ووجود ساير الممكنات المعبّر عنه بالشرك الخفيّ.
وأمّا الأشاعرة
فأثبتوا للعباد وجودات متحقّقة وذوات مستقلّة ومع ذلك أسندوا أفعالهم إلى الله
سبحانه مطلقا ؛ فهم مشركون في توحيد الأفعال بالشرك الخفيّ كما أنّهم مشركون في
التوحيد الالوهي بالشرك الخفيّ ؛ فهم ما خلصوا في هذا القول من رؤية الغير الذي هو
وجودهم ووجود غيرهم المعبّر عنه بالشرك الخفيّ ؛ وإن أسندوا جميع الأفعال إلى الله
سبحانه من دون نسبة شيء منها إلى محلّه الخاصّ الصادر منه ذلك الفعل ؛ وقالوا :
هذه أفعال الله تعالى من غير فرق إلّا بالآلية ونحوها.
وأمّا الموحّدون
وإن قالوا بعدم فاعل مستقلّ بالتأثير إلّا الله إلّا أنّهم نسبوا كلّ فعل من أفعال
العباد إلى محلّه الخاصّ الذي صدر منه ذلك الفعل ؛ فقالوا : هذا فعل آدم وذاك فعل
الشيطان وهذا فعل موسى وذاك فعل فرعون.
وبالجملة : مبنى توحيد الموحّدين على قصر الوجود والصفة والفعل حقيقة
على واحد هو علّة الكلّ واستهلاك ما عداه من الممكنات ذاتا وصفة وفعلا بالنسبة
إليه نظرا إلى أنّ المعلول من حيث هو معلول لا تحقّق له مع قطع النظر عن العلّة
وإن كان له نوع تحقّق بملاحظة علّته ؛ وبهذه الملاحظة اعترفوا بتحقّق الكثرة
وإسناد كلّ فعل إلى محلّه الخاصّ ، وإثبات التأثير والتأثّر بين الموجودات
الإمكانية ؛ فبالملاحظة الأولى يندفع التفويض وبالثانية الجبر ؛ وبناء جبر الأشعري
على إثبات وجودات الممكنات من العباد وغيرهم بالاستقلال وعدم استهلاكها في جنب ذات
الله أصلا ؛ فهذا / A ١١٧ / نوع من الشرك
الخفيّ وإسناد جميع أفعال العباد المستقلّين بالوجود من خيرها وشرّها وحسنها
وقبيحها إلى
الله سبحانه من
دون قدرة وتمكّن للعباد فيها ؛ وهذا جبر صريح يبطل التكليف والثواب والعقاب
والجنّة والنار ؛ فالموحّدون تبعوا آدم في قوله : (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) والأشاعرة تبعوا الشيطان في قوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) وعلى هذا فما اعتقده العارفون من التوحيد الوجودي الأفعالي
يكون أحد التوجيهات للأمر بين الأمرين الوارد عن أمّتنا الراشدين صلوات الله
عليهم.
وحاصله : أنّ الأفعال مع كونها بأسرها مستهلكة في جنب فعله تعالى
صادرة عن محالّها ؛ فالفعل ثابت للعبد لمباشرته إيّاه وصدوره منه وقيامه به ؛ فلا
جبر ؛ ومسلوب عنه من حيث هو هو ومن حيث وجوده في نفسه ؛ إذ لو قطع النظر عن
ارتباطه بوجود الحقّ لكان معدوما وكذا فعله ؛ إذ كلّ فعل متقوّم بوجود فاعله ؛
وعلى هذا فلا تفويض أيضا ؛ وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) حيث أسند الفعل إلى العبد ومع ذلك نفاه عنه وأسنده إلى
الله ؛ فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا كان الفعل بالاعتبار الظاهري وفي بادئ النظر صادرا
عن العبد وبالاعتبار الواقعي وفي دقيق النظر صادرا عنه سبحانه.
وغير خفيّ أنّ هذا التوحيد الصحيح للأمر بين الأمرين وإن كان في نفسه
أظهر وأحسن من التوجيهات التي أبداها العلماء الإمامية له ؛ إذ لا ريب في ثبوت
الاعتبارين لفعل العبد واستهلاكه وعدميته بأحد الاعتبارين وثبوته وتحقّقه
بالاعتبار الآخر إلّا أنّه لا تندفع به شبهة الجبرية ويرد عليه مثل ما يرد على
ساير التوجيهات من لزوم الجبر وعدم التمكّن من ترك فعل أو فعل ما ترك أو لزوم
الترجيح بلا مرجّح ؛ إذ نقول : صدور الفعل من العبد من حيث هو منسوب إليه وصادر
عنه لا من حيث استهلاكه واضمحلاله في فعل الحقّ إن كان واجبا لازما بحيث لا يتمكّن
/ B ١١٧ / العبد من خلافه
لزم الجبر وإن لم يكن واجبا وتمكّن العبد
__________________
من الترك أيضا
حتّى يكون قادرا على كلّ من الطرفين ومتمكّنا منه بلا تفاوت ؛ فاختياره أحد
الطرفين وإرادته له دون الآخر لا بدّ له من مرجّح ؛ فإن كان المرجّح تصوّر نفع
عاجل أو آجل للطرف المختار وضرر كذلك للطرف الآخر نقول : لم حصل هذا المرجّح لهذا العبد
وحصل خلافه لعبد آخر واختار الطرف الآخر ؛ فإن كان ذلك بإرادة الله تعالى لزم
الجبر وإن كان باقتضاء ماهيّة العبد أو وجوده الخاصّ لزم الجبر أيضا ؛ إذ العبد مع
اقتضاء ذاته ذلك لا يتمكّن خلافه وإن كان المرجّح أوّلا هو إرادة الله تعالى أو
اقتضاء ماهيّة العبد أو وجوده الخاصّ لزم الفساد المذكور أيضا.
فظهر أنّ ما ذكره
العارفون من التوحيد الوجودي الأفعالي وإن لم يكن في نفسه مذهب الجبرية ولا راجعا
إليه إلّا أنّه ليس ممّا يتصحّح به الأمر بين الأمرين بحيث لا ترد عليه شبهة ، بل
يرد عليه ما يرد على ما ذكره غيرهم من الحكماء والمتكلّمين.
وهذا إذا فرض
الكلام في فعل العبد من حيث إنّه صادر عنه ومنسوب إليه ؛ فإنّ الوارد عليه حينئذ
ما يرد على ما ذكره غيرهم من الحكماء والمتكلّمين ؛ ولو لوحظ استهلاكه في فعل
الحقّ واسند الكلّ إلى العلّة ـ كما هو مقتضى النظر الأدقّ ـ فيكون لزوم الجبر في
بادئ النظر أظهر.
وغاية الجواب الذي ذكره لاندفاع هذه
الشبهة أنّ اختيار أحد
الطرفين إنّما هو باقتضاء ماهيّة العبد على أصالتها أو باقتضاء وجوده الخاصّ على
أصالته كما هو الحقّ ؛ وهذا الاقتضاء وإن كان واجبا إلّا أنّه بالاختيار والوجوب
بالاختيار لا ينافي الاختيار ؛ وهو كما ترى يدلّ على عدم تمكّن العبد من الطرف
الآخر ؛ فيلزم عدم قدرة العاصي على ترك المعصية والرجوع إلى الطاعة ؛ فلا فائدة في
__________________
تكليفه ويصحّ من
الحكيم زجره وتعذيبه.
وربّما يقال : إنّ الوجودات الخاصّة هي علل الأفعال / A ١١٨ / ومقتضياتها إلّا أنّ بعضها ممّا هو يقتضي في نفسه اختيار
الطاعة والثواب من دون حاجة إلى إرشاد ووعظ وبعضها ممّا يقتضي في نفسه اختيار
المعصية والعقاب من دون تأثير لإرشاده ووعظه وبعضها ممّا لو اهمل ولم يصل إليه
إرشاد أو موعظة ونصيحة يقتضي ارتكاب المعاصي ولو ضمّ إليه نصح ناصح وإرشاد مسترشد
يرجع إلى الحقّ والطاعة ؛ فالباعث من التكليف وإرسال الرّسل وإنزال الكتب إصلاح
القسم الأخير وإبراز حقائق القسم الثاني وأصلحية القسم الأوّل ؛ لأنّ ما هو صالح
وحسن في نفسه يصير بالإرشاد والموعظة والنصيحة أصلح وأحسن.
[في أقسام الوحدة ووجوه المناسبة والمباينة بين الوحدة الصّرفة والوحدات
الإمكانية]
قد عرفت أنّ
التوحيد جعل شيئين أو أكثر شيئا واحدا ؛ و في الشرع الإقرار بكون الإله وواجب الوجود واحدا ؛ وبعبارة
اخرى : إثبات وحدانية الواجب وإله العالم ؛ والمراد بالوحدة هو الوحدة الحقيقية لا
الأعمّ منها ومن غير الحقيقية .
وتوضيح ذلك : أنّك قد عرفت في كلماتنا السالفة أنّ الوحدة تساوق الوجود ،
بل هو عينه ؛ بمعنى أنّهما متّحدان في المصداق والخارج ومتغايران في المفهوم
الاعتباري ؛ ولذا يساوقه في القوّة والضعف ؛ فكلّ ما وجوده أقوى وأتمّ يكون وحدته
أيضا كذلك.
والوحدة :
[١.] إمّا حقيقية
والموصوف بها الواحد الحقيقي وهو ما لا ينقسم بوجه لا في
__________________
الخارج ولا في
الذهن ولا في الحدّ ولا في الكمّ ولا بالقوّة ولا بالفعل ولا إلى ماهيّة ووجود
بالتحليل الفعلي ولا إلى ذات وصفة بالتفصيل الوهمي ؛ وهذا ما لا سبب له إلّا ذات
ذلك الواحد بذاته وما هو إلّا صرف الوجود الحقّ القائم بذاته.
[٢.] أو اعتبارية
غير حقيقية ؛ وهي / B ١١٨ / أن تكون أشياء
متعدّدة مشتركة في أمر واحد هو جهة وحدتها ؛ وهذه الجهة إمّا اتّحاد في الجنس وهو
المجانسة أو في النوع وهو المماثلة أو في الكمّ وهو المساواة أو في الكيف وهو
المشابهة أو في الوضع وهو المطابقة ؛ وهذه الامور كالتناسب والهويّة من جملة أحوال
الوحدة بمعنى أنّها جهة وحدة الاعتبارية وفي كلّ منها شائبة الكثرة ، كما أنّ في
مقابلاتها كالخلاف والتناقض والتضادّ والغيرية وأمثالها شائبة وحدة.
فالواحد إمّا واحد
بالجنس أو بالنوع أو بالشخص ؛ وهو إمّا منقسم في العقل والخارج أو في العقل فقط ؛
والأوّل ينقسم إلى واحد بالاتّصال وإلى واحد بالتركيب ؛ والثاني إمّا ذو وضع وهو
النقطة أو غير ذي وضع كالمفارقات من العقول والنفوس.
وشرافة كلّ موجود
إنّما هو بقربه من الوحدة الحقيقية وبعده عن الكثرة ؛ ولمساوقة الوحدة للوجود لا
يخلو موجود عن وحدة ما ، كما أنّه لا يخلو عن وجود ما حتّى أنّ العشرة في عشرتها
وكثرتها لا يخلو عن اعتبار وحدة كما أنّها لا يخلو عن اعتبار وجود.
ثمّ إنّ الوحدة
الاعتبارية المتحقّقة في الطبائع الإمكانية ظلّ للوحدة الحقّة الصّرفة فائضة منها
مباينة عنها بوجه ومناسبة لها بوجه ؛ كما أنّ وجوداتها ظلّ للوجود الصّرف الحقّ
القائم بذاته ومباينة عنه بوجه ومناسبة له بوجه ؛ والمباينة بينهما بوجوه :
منها : أنّ الوحدة في الطبائع الإمكانية وعوارضها ومعروضاتها ليست وحدة حقيقية ، بل هي
اعتبارية ؛ إذ فيها تركيب من الأجزاء الخارجية أو الوهمية ؛ وأقلّ التركيب فيها أن
يمكن تحليلها إلى جنس وفصل وماهيّة ووجود حتّى أنّ الأجناس العالية والفصول
البسيطة يمكن تحليلها إلى ذات وصفة في الوهم ؛ وأمّا الوحدة الصّرفة الحقّة
الحقيقية الواجبة فليست عارضة ولا معروضة لشيء ولا تركيب فيها لا من الأجزاء الخارجية ولا الذهنية ؛ ولا يمكن للعقل
تحليلها إلى جنس وفصل ولا للوهم تفصيلها إلى ماهيّة و/ A ٩١١
/ وجود ولا إلى ذات وصفة ، بل هي عين صرف الوجود الذي هو عين ذاته البسيطة من كلّ
وجه.
ومنها : أنّ الوحدة في الطبائع الإمكانية غير قائمة بذاتها ، بل
وجودها قائم بغيره ؛ وليست مجهولة الكنه ؛ ووحدة عددية ؛ أي يمكن أن تحصل بتكرّرها
الكثرة ؛ إذ حقيقة الكثرة ليست إلّا الوحدات المتكرّرة ؛ فكلّ واحد من أقسام
الواحد المحقّق في الطبائع الإمكانية من الواحد بالشخص لشخص واحد والواحد
بالنوع لنوع واحد والواحد بالجنس لجنس واحد والواحد بالاتّصال لخطّ واحد يمكن أن يتكرّر وتحصل من تكرّره الكثرة ؛ فتحصل مثلا عشرة
أشخاص وعشرة أنواع وعشرة أجناس وعشرة خطوط.
وأمّا الوحدة
الحقّة الحقيقية الصّرفة الواجبية فهي مجهولة الكنه وقائم بذاتها ، وتشخّصها عين
ذاتها ، وتكرّرها ممتنع بالذات في الخارج والذهن ؛ فلا يمكن أن تتكرّر هذه الوحدة
وتحصل عدّة منها ؛ فتحصل وجودات صرفة وواجبات متعدّدة ؛ ولا يتصوّر تألّف كثرة
عددية منها ، لما تقدّم من أنّ كلّ ما يفرض أنّه ثان لها فهو هي بعينها ولذا (كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ
ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لأنّ هذا القول وإن
__________________
صدر منهم
لاعتقادهم بتعدّد الواجب وكونه ثلاثة وهذا كفر إلّا أنّه كفر من جهة اخرى
أيضا وهو أنّ هذا القول يشعر باعتقادهم كون الله تعالى ثالث ثلاثة ؛ أي جاعل
الاثنين ثلاثة بدخوله فيهم وانضمامه معهم ؛ فتحصل بذلك كثرة عددية ؛ وهذا الاعتقاد أيضا باطل وإن لم يكن كلّ واحد من تلك الكثرة
واجبا ، بل كان الاثنان اللذان حصل منهما بانضمام الواجب إليها كثرة ممكنين ؛ إذ
كلّ واحد يحصل بانضمامه إلى غيره كثرة هو واحد عددي وهو من خواصّ الممكن ؛ ولا
يؤخذ في الواجب ، بل هذا الاعتقاد ـ أي اعتقاد تكرّر وحدته وكون وحدته عددية ـ يستلزم
/ B١١٩ / الاعتقاد
بتعدّد الواجب قطعا ؛ لأنّ وحدته تعالى إذا تكرّرت لا يكون هذا التكرّر إلّا
بتعدّد الواجب ؛ ولو قالوا : «إنّ الله تعالى ثالث اثنين» كانوا حينئذ كافرين
بالاعتبار الأوّل ؛ أي باعتبار اعتقادهم تعدّد الواجب دون الثاني ؛ أي اعتقادهم
تألّف الكثرة من وحدته ؛ إذ حينئذ لا يلزم تألّف الكثرة من تكرّر وحدته وكون وحدته
عددية ؛ إذ المراد من كونه تعالى ثالث اثنين أنّه تعالى باعتبار الشهود الوجودي
والحضور العلمي ثالث كلّ اثنين ؛ ولا ريب في كونه تعالى بهذا الاعتبار ثاني كلّ
واحد وثالث كلّ اثنين ورابع كلّ ثلاثة وهكذا ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) .
ثمّ على ما ذكرنا
إنّ الوحدة الحقّة الحقيقية الصّرفة حقيقة قائمة بذاتها مستلزمة لنفي الكثرة مطلقا
ولا يتصوّر تكرّرها لكونها مساوقة للوجود وكون وجوده سبحانه عين ذاته ؛ وقال الشيخ
: إنّها معنى سلبي يستلزمه نفي الكثرة.
وعلى التقديرين
ليس معني وجوديا قائما بغيره يستلزم نفي الكثرة ، كما هو شأن الوحدة في الطبائع
الإمكانية.
__________________
قال في التعليقات : «إنّ وحدة الأوّل تعالى» إلى قوله : «هو من لوازم نفي
الكثرة.»
وأمّا المناسبة بين الوحدة الحقّة
الواجبية وبين الوحدات الإمكانية فمن حيث إنّ كلّ واحد يساوق الوجود ، بل هو عينه. فالوحدة الواجبية عين الوجود الحقّ الواجبي والوحدات الإمكانية عين الوجودات
الخاصّة الممكنة ؛ وكما أنّ الوجودات الإمكانية كلّما كانت أقرب إلى حضرة الوجود
الحقّ من حيث الصّرافة والعقلية والكمال يكون أكمل وأشرف فكذلك حال الوحدات
الإمكانية بالقياس إلى حضرة الوحدة الحقّة الواجبية ؛ ولذا ترى أنّ الواحد بالشخص أكمل أفعالا وآثارا من / A ١٢٠ / الواحد بالنوع وهو من الواحد بالجنس وكذا ما ليس فيه
تركيب خارجي كالمجرّدات لكونه أقرب إلى الوحدة الحقّة من المركّبات أشرف وأعلى
منها وما فيه تركيب خارجي ومزاجه أقرب إلى الاعتدال الحقيقي وأنسب بالوحدة أكمل
وأقوى أفعالا وآثارا ممّا ليس كذلك.
ومن وجوه المناسبة بين الوحدة الحقيقية
والوحدة العددية
: أنّ الوحدة
الحقيقية كما أنّها مبدأ الكثرات الإمكانية بمعني أنّها موجدها ومفيضها وجاعلها
ومبدعها ـ أي مبدأها الفاعلي ـ كذلك الوحدة العددية مبدأ الكثرات العددية بمعني
أنّها ممّا يحصل بتكرّره العدد وتتألّف منه الكثرة ـ أي كالمبدإ الفاعلي لها ـ فإفادة
الواحد العددي للعدد مثال وظلّ لإفادة الواحد الحقّ للكثرات الإمكانية ؛ وكون
الأعداد مراتب الواحد وظهوره فيها مثال لكون الموجودات الإمكانية مظاهر ومجالي
لوجود الواحد الحقّ وصفاته وأسمائه ؛ وظهور الواحد الحقّ بالأعداد الظاهرة بالمعدودات مثال
لظهور الواحد الحقّ بالوجودات الخاصّة الإمكانية الظاهرة بالماهيّات.
__________________
وكما أنّ العدد مع
غاية تباينه مع الوحدة لا يخلو عنها ؛ فإنّ الواحد ليس بعدد والعدد ليس بواحد مع
أنّ العدد ليس سوى الوحدة المتكرّرة ؛ فينفي ما يثبته بعينه كذا الحقّ ليس بخلق
والخلق ليس بحقّ مع أنّ الخلق لا يخلو عن فيض الحقّ ؛ فسبحان الذي خارج عن كلّ شيء
لا بمزايلة وداخل فيه لا بمقارنة .
وإذ عرفت ذلك
فاعلم أنّه ينبغي للعارف السالك أن ينفي عنه سبحانه جميع أنحاء الوحدات الإمكانية
ويثبت له مفهوم الوحدة الحقّة الحقيقية وإن لم يعرف مصداقها وحقيقتها ؛ إذ حقيقته الوحدة ومصداقها مجهولة الكنه لا يمكن معرفتها
كمعرفة أصل ذاته و وجوده.
وما ذكرناه من نفي
الوحدة العددية عنه تعالى قد تكرّر في كلام المعصومين عليهمالسلام كقولهم : «واحد لا بتأويل العدد» وعلى هذا ينبغي أن يؤوّل قول سيّد الساجدين عليهالسلام في الصحيفة : «لك يا إلهى! وحدانية / B ١٢٠ / العدد» لما ذكرناه من أنّ الوحدة العددية لمّا كانت ظلّا للوحدة
الحقّة الحقيقية ومناسبة لها بوجه صحّ نسبتها إليه تعالى وإن كانت مباينة عنها
بوجوه شتّى كما ذكرناه. على أنّه يمكن أن تكون هذه النسبة نسبة المعلولية والصدور
وكونها مفاضة عنه.
ثمّ الظاهر أنّ
الواحدية والأحدية بمعني واحد وهو نفي التركيب بحسب الوجود العيني من الأجزاء
الخارجية وبحسب التحليل العقلي من الجنس والفصل وبحسب التفصيل الوهمي من الماهيّة
والوجود ومن الذات والصفة ؛ وفي بعض الأخبار المرويّة عن الباقر : «أنّ الواحد
والأحد بمعني واحد وهو المنفرد الذي لا نظير له» وقال بعض العارفين : «إنّ الحضرة
الأحدية لا نعت لها وكلّ ما
__________________
ينعت به فهو من
الحضرة الواحدية. فعلى هذا يكون الفرق بينهما أنّ الأحد ما هو مجهول الكنه من كلّ وجه ولا
يمكن نعته ووصفه ولا توصيفه بشيء من الصفات ؛ والواحد ما يمكن أن يوصف بالصفات
الكمالية» وقال بعض آخر : «إنّ الحضرة الأحدية مرتبة الذات والحضرة الواحدية مرتبة
الأسماء والصفات» وقال بعض آخر : «إنّ الوجود الحقّ القائم بذاته وحدة غير زائدة
على ذاته وهي اعتباره من حيث هو هو وهي بهذا الاعتبار ليست نعتا للواحد ، بل عينه
؛ وهي المراد عند المحقّقين بالأحدية الذاتية ؛ وهي إذا اعتبرت مع انتفاء جميع
الاعتبارات سمّيت أحدية وإذا اعتبرت مع ثبوتها سمّيت واحدية.»
وإذ عرفت جليّة الحال
في التوحيد الالوهي وفي التوحيد الوجودي فكذا عرفت سابقا التوحيد الذاتي والتوحيد
الصفاتي فأعلم أنّ التحقيق أنّ كلمة التهليل المشهورة بكلمة التوحيد ـ أعني لا إله
إلّا الله ـ تفيد هذه الأقسام الأربعة من التوحيد ومنطبقة على جميعها ؛ وأمّا
انطباقها على التوحيد الالوهي فظاهر ؛ إذ لو اريد بالإله معناه المتبادر الوارد في
الشرع ـ أعني المعبود بالحقّ ـ فإفادته للتوحيد الالوهي ـ أعني انحصار واجب / A ١٢١ / الوجود وصانع العالم فيه سبحانه ـ ظاهر ؛ ولو اريد به المطلوب والمحبوب من كلّ وجه
فأفادت التوحيد الوجودي ؛ إذ المطلوب والمحبوب من كلّ وجه ليس إلّا الله سبحانه ؛
فينبغي للعارف المتكلّم بهذه الكلمة أن يريد بالإله المعنيين حتّى يفيد
التوحيدين.
ثمّ لمّا كان
المراد بلفظ الجلالة هو الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية والمنزّه عن جميع
النقائص الإمكانية فثبت التوحيدين الأوّلين ـ أعني التوحيد الذاتي والتوحيد الصفاتي ـ إذ
زيادة الوجود على ذاته تعالى وكذا زيادة صفاته
__________________
على ذاته نقص
وعينيتها له كمال. فيثبت من هذه الكلمة الطيّبة المباركة جميع التوحيدات الأربعة ؛
ولذلك قال بعض الأكابر : «إنّ هذه الكلمة أعلى كلمة وأشرف لفظة نطق بها في الإسلام
، منطبقة على جميع مراتب التوحيد» رزقنا الله الوصول إليها والعروج إلى معارجها.
[في أنّ واجب الوجود عالم بذاته وبجميع الموجودات]
وتدلّ عليه وجوه
من القواطع :
[الأوّل :] أنّ العلم كمال مطلق للموجود من حيث إنّه موجود ؛ وكلّ كمال
للواجب يجب أن يكون حاصلا له بالفعل ؛ لأنّه كامل باعتبار ذاته ؛ فواجب الوجود
عالم بالفعل بذاته وبجميع الموجودات.
[الثاني :] لو كان جاهلا بذاته وبالأشياء كان ناقصا ؛ إذ الجهل نقصان ؛
كيف وغير العالم لا فرق في الحقيقة بالنظر إلى ذاته بين وجوده وعدمه وكأنّه معدوم
؛ إذ غير المدرك لا يكون حيّا ؛ إذ الحيّ هو الفعّال الدرّاك ؛ فغير العالم
الدرّاك بمثابة الميّت والميّت بمنزلة المعدوم ؛ فيكون غير العالم المدرك حين
وجوده بالنظر إلى ذاته كحين عدمه من دون فرق.
[الثالث :] قد ظهر من التفتيش عن النفوس وإدراكاتها أنّ مناط العلم
ومصحّحه هو التجرّد والاستقلال بالذات وموجبه بالفعل حضور الشيء عنده. فكلّ مجرّد مستقلّ بالذات عاقل وواجب الوجود لكونه
صرف الوجود يكون له غاية التجرّد ؛ / B ١٢١
/ فهو عالم بذاته وبجميع ما عداه من الموجودات ؛ إذ العلم بالعلّة يستلزم العلم
بالمعلول نظرا إلى ثبوت غاية الارتباط بينهما.
[الرابع :] أنّه تعالى مبدأ لجميع الموجودات التي منها العلماء بذواتهم
ومنها
__________________
الصور العلمية ؛
فيكون عالما بذاته ؛ إذ العلّة أشرف من المعلول والعالم من الجاهل ؛ وفيّاض العلوم
وملهمها عالم بالضرورة العقلية ؛ ومن علمه بذاته وكونه مبدأ لجميع الموجودات يثبت
عموم علمه ؛ أي كونه عالما بجميع الموجودات معقولة كانت أو محسوسة ، كلّية كانت أو
جزئية ؛ إذ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.
[الخامس :] الحكم والمصالح المودعة في الموجودات على ما يخبر عنه قوّة
التفكّر يدلّ على كون موجدها عالما بها ؛ وهذا أمر في غاية الظهور ؛ فيكون واجب
الوجود عالما بجميع الموجودات.
[في كيفية علمه تعالى]
اعلم أنّه لا خلاف
بين العقلاء في كونه تعالى عالما بذاته وبجميع الموجودات وإنّما اختلفوا في كيفية
علمه تعالى ؛ وتحقيق ذلك مع ساير ما يتعلّق بمبحث علمه تعالى إنّما يتمّ ببيان امور :
[الأوّل :] العلم إمّا حصولي [و] هو ما يكون بارتسام صور المعلومات ،
كعلمنا بمهيّة الإنسان وحقيقة السماء والكواكب وغيرها أو حضوري وهو ما يكون بحضور
ذوات المعلومات وانكشافها عند العالم ، كعلمنا بأنفسنا وقوانا وما ارتسم فيها.
ولا بدّ في
الحضوري بعد تجرّد المدرك من وجود المعلوم في الخارج وثبوت ربط بينه وبين العالم
ليصحّ انكشافه لديه ؛ ولو لا اشتراط الارتباط بينهما لكان كلّ مجرّد عالما بجميع
الأعيان الخارجية ، وهو باطل ، لعدم انكشاف أكثرها عند أكثر النفوس المجرّدة ؛
والربط المصحّح إمّا كون المدرك نفس المدرك أو آلة له أو معلولا له.
__________________
وأمّا الحصولي فلا
يشترط فيه وجود المعلوم في الخارج ؛ لأنّه إمّا فعلي أو انفعالي ؛ والفعلي إمّا
حقيقي أو غير حقيقي.
والحقيقي ما
يتمثّل في ذات العلّة الحقيقية من صور معلولاتها قبل وجودها في الخارج ويصير هذا
التمثّل منشأ لإيجادها في الخارج ؛ فإنّ العلّة الحقيقية ـ أي الفاعل / A ١٢٢ / التامّ ـ بعد تعقّل ذاتها بذاتها يتقرّر في ذاتها ما
يصدر عنها من المعلولات بصورها وحقائقها وما يترتّب عليها من اللوازم والآثار
والتناسب والتخالف وما ينتزع عنها من المعاني الكلّية على وجه كلّي متقدّس عن
التغيّر والتبدّل.
وغير الحقيقي ما
يرتسم في ذوات العلل المعدّة من الصور المخترعة للأشياء بعد ملاحظة أشباهها
ونظائرها في الخارج ؛ وذلك كارتسام صور الأبنية الخاصّة المخترعة في نفس البناء
بعد ما شاهد في الخارج ما يشابهها من أنواع الأبنية وموادّها وصورها ؛ وهذا الفعلي
كأنّه مأخوذ من الانفعالي.
والانفعالي ما
ينتزع عن الأشياء الخارجية من صورها وحقائقها ولوازمها وآثارها وما بينها من
التخالف والتناسب وما يتعلّق بها من المعاني الكلّية ؛ وذلك كعلومنا بالأعيان
الخارجية ؛ فإنّا لمّا شاهدناها ارتسم في نفوسنا صورها ثمّ أدركنا حقائقها وما
يترتّب عليها من الخواصّ والآثار والمناسبات وأسباب الاتّفاقات والاختلافات.
فالفعلي الحقيقي لا يتوقّف على وجود المعلوم مطلقا وغير الحقيقي لا
يتوقّف على وجود شخصه وإن توقّف على وجود نوعه وشبهه ؛ والانفعالي يتوقّف على وجود
شخص المعلوم في الخارج.
ثمّ الحصولي
الفعلي لا يكون إلّا على وجه كلّي والانفعالي ما يأخذه الحواسّ
__________________
من صور الأشياء
المحسوسة وأحوالها الجزئية يكون على وجه جزئي وما يأخذه العقل من الأحوال والمعاني
الكلّية يكون على وجه كلّي.
وأمّا الحضوري فلا
يكون إلّا جزئيا وإن كان متعلّقا بالكلّيات المرتسمة في بعض المدارك ؛ فإنّ صورة
الإنسان الكلّي الحاصلة في النفس علم حصولي كلّي بالقياس إلى الإنسان الخارجي وعلم النفس بهذه الصورة المرتسمة ـ أي انكشافها
لديها ـ علم حضوري جزئي ؛ وكذا ظهور جميع الصور الجزئية والكلّية المرتسمة في
المدارك العالية والسافلة لتلك المدارك أو لما فوقها من مدارك اخر علم حضوري جزئي.
والحاصل : أنّ ما يعلم / B ١٢٢ / بارتسام صورته حصولي إمّا كلّي أو جزئي ؛ وما يعلم
بالمشاهدة الإشراقية حضوري جزئي ؛ وعلى ما ذكر فالنسبة بين العلم الحصولي والعلم
الكلّي بالعموم مطلقا ؛ إذ كلّ علم كلّي حصولي وبعض الحصولي ليس كلّيا كالصور
والمعاني الجزئية المرتسمة في بعض القوى ؛ وبين الحصولي والعلم الجزئي بالعموم من
وجه وهو ظاهر ؛ وبين العلم الحضوري والعلم الكلّي بالمبائنة ، لعدم صدق كلّ منهما
على الآخر ؛ وبين الحضوري والعلم الجزئي بالعموم والخصوص مطلقا ؛ إذ كلّ حضوري
جزئي وبعض الجزئي ليس حضوريا كما علم.
[الثاني :] الحضوري لا يتعلّق إلّا بإنّية المدرك ووجوده ولا يعلم به
ماهيّته وحقيقته ؛ والعلم بالحقيقة إنّما هو الحصولي ؛ إذ العلم بالحقيقة إنّما
يكون بمعرفة الأجناس والفصول وهو علم صوري كلّي ؛ والحضوري الإشراقي إنّما هو
بظهور الشيء وانكشافه عند المدرِك ؛ وما هو إلّا معلومية وجوده. نعم لو ارتسم
حقائق الأشياء بالعلم الحصولي في بعض المدارك وانكشف هذا المدرك بما ارتسم فيه
__________________
عند مجرّد آخر
بالعلم الحضوري كانت الحقائق معلومة لهذا المجرّد بالعلم الحضوري للارتسام
المذكور.
وعلى هذا فلو
انحصر علم الواجب سبحانه بالحضوري لزم أن تخرج من علمه معرفة المعاني الكلّية
وحقائق الأشياء وكنهها ، لقضاء الضرورة بأنّ العلم بعدم اجتماع النقيضين وبحقيقة
السماء والعقل مثلا ليس حضوريا ، بل ما هو إلّا الحصولي الكلّي ؛ فلو لم يكن له
علم حصولي لم يمكن تعقّله الحقائق والمعاني الكلّية إلّا بارتسامها في بعض
المدارك.
[الثالث :] العلم يطلق على معاني :
الأوّل : ما له
الانكشاف ومنشأه ؛ وهو العلم الحقيقي.
الثاني : نفس
الانكشاف والظهور ؛ وهو العلم الحضوري.
الثالث : ما يقتدر
به على استحضار المنكشفات بالذات ، كالقوّة والملكة التي للعالم.
وما به الانكشاف
في العلم الحضوري ذات العالم والمعلوم ؛ وفي الحصولي الصور العقلية المرتسمة في ذات العالم. ففي العلم الحضوري للمجرّد بذاته
يتّحد العلم الحقيقي والعالم والمعلوم / A ١٢٣ / ولغيره يتّحد العلم والعالم باعتبار ، بل العلم والمعلوم
أيضا باعتبار ولا يتّحد العالم والمعلوم ؛ وفي الحصولي يتّحد العلم والمعلوم ؛ إذ
الصور العقلية التي هي معلومة بالذات عين العلم. فمن حيث منشئيتها للانكشاف ـ أي
انكشاف ذاتها للنفس ـ علم حقيقي ؛ إذ من حيث كونها منكشفة عندها معلومة.
[الرابع :] لا ريب في أنّ العلم الكمالي للواجب تعالى إنّما هو نفس
ذاته ؛ إذ الكمال له سبحانه ينحصر بذاته ومبدئيته لإيجاد الأشياء وانكشافها لديه
وغير
__________________
ذلك ممّا يتصوّر
حتّى نفس الإيجاد والانكشاف من فعله تعالى ؛ وفعل الشيء لا يكون كمالا له ؛ فذاته بذاته
منشأ لانكشافها ولا مدخل لغير ذاته في ذلك شرطا كان الغير أو فاعلا أو غاية أو
معدّا أو غير ذلك ؛ إذ مجرّد ذاته المقدّسة هو الموجد للأشياء والمنشأ لانكشافها
بمجرّد إيجادها ؛ ومنشئية غيره في ذلك يفضي إلى افتقاره وإمكانه ، تعالى عن ذلك.
فذاته بذاته نفس العلم الحقيقي الكمالي بالأشياء الثابتة الدائمة والمتغيّرة
الكائنة والفاسدة التي في الوجود كلّياتها وجزئياتها من حيث إنّها جزئية ومتغيّرة
وكائنة وفاسدة بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.
وبالجملة : ذاته بذاته لذاته منشأ لحضور جميع الأشياء الكلّية والجزئية
والثابتة والمتغيّرة ، وظهورها وانكشافها على ما هي عليه من الكلّية والجزئية
والثبوت والتغيّر على وجه لا يلزم تغيّر في ذاته المتقدّسة وإن لزم من وجود
الأشياء وعدمها وكونها وفسادها حدوث إضافة وانعدام اخرى ؛ فهي راجعة بنحو ما إلى
الجزئيات المتغيّرة لا إلى ذاته ؛ إذ كونه عالما هو عين كونه مبدأ وخالقا ؛ وكما
لا يوجب حدوث الخلق ولا عدمه تغيّرا في ذات الخالق كذلك لا يقتضي تغيّر المعلومات
تغيّرا في ذات العالم.
[الخامس :] لا ريب في ثبوت العلم بالمعني الثاني ـ أي الانكشافي
الإشراقي ـ للواجب بالنسبة إلى الأشياء الموجودة بأسرها ـ أي المجرّدة والمادّية
والعينية والظلّية ـ فإنّ جميعها / B ١٢٣ / بعد وجودها
منكشفة على الوجه الجزئى لا يشذّ عن علمه مثقال ذرّة من عوارضها وتشخّصاتها ؛ وهذا
العلم ـ كما علمت ـ إنّما يتعلّق بوجوداتها الخارجية من حيث مشاهدته لها
بالحضور الإشراقي دون حقائقها و
__________________
لوازمها وآثارها
والمعاني المنتزعة عنها إلّا من حيث ارتسامها في المدارك ؛ فإنّها من هذه الحيثية
حاضرة عنده تعالى معلومة له بالعلم الحضوري. فربّما كان بهذا الاعتبار صورة شيء
واحد وحقيقته حاضرا عنده سبحانه بحضورات غير متناهية.
ثمّ منشأ هذا
العلم هو العلم الحقيقي الكمالي ؛ أي ذاته سبحانه وذوات الأشياء الموجودة ؛
ومصحّحه هو الربط الخاصّ بين العلّة ومعلولاتها. فمثل العلم الحقيقي وانكشاف
الأشياء الموجودة لديه بمحض ذاته لذاته كمثل الشمس ووقوع ضوئه ونوره على الأجسام
عند قوم أو كمثل نفس الضوء القائم بذاته وتنوّر الأجسام بشروق أشعّته عند آخرين ؛
فكما أنّ الاستضاءة والتنوّر بشعاع الشمس فرع تحقّق الجسم في الخارج فكذلك ظهور
الأشياء وانكشافها عند الواجب سبحانه فرع وجودها في الخارج ؛ وكما أنّ الاستضاءة
موقوف على ربط المقابلة فكذلك الانكشاف موقوف على ربط العلّية والمعلولية.
وبالجملة : جميع الأشياء المبدعة والكائنة المعقولة والمحسوسة منكشفة
عنده تعالى بالانكشاف الشهودي سواء كانت ذوات العقلاء وعلومهم وسواء كانت القوى
الخيالية والحسّية وإدراكاتها أو غير ذلك من الموجودات ؛ لأنّ جميعها يصدر عن
الواجب منكشفة عنده ؛ فلا يعزب عن علمه شيء من الأشياء.
فإن قلت : أليس مدار المعقولية عندهم على التجرّد عن المادّة ، فكيف
تصير الجسمانيات معقولة بأنفسها لا بصورها المنتزعة عن موادّها؟!
قلنا : إنّ ذلك إنّما يكون في الأشياء التي لم تتحقّق للعاقل
بالقياس إليها علاقة وجودية وإحاطة قهرية ؛ فإذا تحقّق ذلك كفى للعاقلية مجرّد
الإضافة / A ١٢٤ / الشهودية
الإشراقية ؛ وإلى هذا يشير كلام بعضهم : «إنّ المادّيات والزمانيات بالنسبة إلى
مباديها غير مادّية ولا زمانية» أي آثار المادّية والزمانية ـ أعني
العينية والخفاء ـ
مرتفعة عنه.
[السادس :] قد ظهر ممّا ذكر أنّ الأشياء قبل وجودها يمتنع أن تكون
معلومة بالعلم الحضوري ؛ لأنّه ـ كما علم ـ مجرّد الظهور العيني أو الظلّي للشيء ؛ وكيف يظهر الوجود بوصف الخارجية
مع عدم تحقّقه في الخارج ؛ فإنّ ذلك تناقض صريح ؛ ففرض العلم بالوجود الخارجي مع
المقيّد منه في الخارج يوجب الجهل ، لكونه من قبيل العلم بعالمية زيد مع كونه
جاهلا.
فالعلم بوجود
الشيء قبل تحقّقه في الخارج لا يمكن أن يكون حضوريا ، بل يكون حصوليا ؛ إذ العلم
بوجود الشيء لا من طريق الإشراق والانكشاف ومشاهدته في الخارج ، بل من الاستدلال
والنظر علم حصولي كلّي ؛ إذ ما يعلم وجوده بالاستدلال إنّما يعلم بالأوصاف الكلّية
؛ فيدخل في الذهن حقيقته أو مثاله ثمّ يحكم بالدليل على كونه موجودا في الخارج ؛
وما هو إلّا الحصولي. فالمعلوم بالحضوري ينحصر في ما كان موجودا مشاهدا في الخارج أو الذهن ؛ وذلك بعد حصول
الربط بينه وبين المجرّد المدرك.
وعلى هذا فعدم
العلم بالأشياء قبل وجودها علما حضوريا ليس نقصا ، كما أنّ عدم العلم بتجرّد الجسم
كذلك ؛ إذ السلب لانتفاء الموضوع ؛ وعلى هذا ففرض عدم علم الواجب بالأشياء بالعلم
الحضوري قبل إيجادها لا يوجب نقصا له لما ذكر ؛ ولأنّ العلم الحضوري الانكشافي ليس
كمالا له تعالى وإنّما كماله هو العلم الحقيقي الذي هو عين ذاته ونفسه ؛ وغيره من
انكشاف الأشياء وارتسام الصور ليس كمالا له تعالى ، لأنّهما من فعله المتأخّر عن
مرتبة ذاته وفعل الشيء لا يكون كمالا له وإنّما كماله مبدئيته لهما وما حالهما
إلّا كحال ساير صفاته الإضافية التي هي من أفعاله المتأخّرة عن ذاته وتحقّقها فرع
تحقّق متعلّقاتها ولا يوجب / B ١٢٤ /
__________________
تجدّدها وحدوثها
وانتفائها نقصا وتغيّرا في ذاته الأقدس.
وبالجملة : عدم علم الواجب بالأشياء قبل إيجادها بالعلم الحضوري ليس
نقصا له تعالى ، كما أنّ حصوله قبله وبعده ليس كمالا له ؛ ففرض عدم انكشاف الحوادث
له قبل وجودها وتجدّد الإضافة الإشراقية بعده وإن لم يوجب نقصا فيه تعالى إلّا أنّ
الحقّ أنّ عدم انكشاف الحوادث وغيرها له تعالى إنّما هو في مرتبة الذات وتأخّره عن وجوده سبحانه
إنّما هو بالذات لا بالزمان أيضا ؛ ولم يذهب أحد إلى لزوم تحقّق الانكشاف في مرتبة
الذات ؛ لأنّ هذا ممّا أنكره العقل والشرع ؛ إذ الانكشاف صفة إضافية ناشية عن
الذات ومعلولة لها ، فكيف يكون في مرتبتها؟! وكيف يجوز أن تكون هذه الصفة غير
معلولة له تعالى مع أنّ القواطع العقلية والنقلية مصرّحة بأنّ ما عدا ذاته تعالى
من الذوات والصفات العينية والاعتبارية معلولة له تعالى بلا واسطة أو بواسطة؟!
وبالجملة : لا خلاف بين العقلاء في كون العلم الحضوري الإشراقي للواجب
مطلقا معلولا له ومتأخّرا عن مرتبة الذات وإنّما الكلام في أنّ هذا العلم بالحوادث
إنّما يتجدّد بحدوثها حتّى يكون تأخّره عن الذات تأخّرا زمانيا أو يكون حاصلا له
تعالى قبل حدوثها حتّى يكون تأخّره بمجرّد التأخّر الذاتي؟!
والحقّ هو الثاني
وتحقّقه له قبل إيجاد الحوادث لا لأنّ عدمه قبله نقص له تعالى لما ذكرناه ، بل
لأمرين آخرين :
أحدهما : أنّ جميع صور الموجودات الكلّية والجزئية على ما عليه
الوجود مرتسمة في المعلول الأوّل الذي تأخّره عن الواجب إنّما هو في مجرّد مرتبة
الذات عند الحكيم ؛ والواجب تعقّل هذا المعلول مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل
بأعيانها ؛ أي تكون مشاهدة له منكشفة عنده ؛ فبمجرّد صدور أوّل المعلومات الذي
__________________
تأخّره إنّما هو
بمجرّد الذات تكون الأشياء بأسرها منكشفة عنده لكونها مرتسمة فيه وللزوم انكشاف
وجود المعلول مع ما ارتسم فيه عند علّته ؛ فهذا الانكشاف / A
١٢٥ / لأجل كونه من لوازم العلّية والمعلولية لا لأنّه كماله
تعالى وعدمه نقص ؛ إذ المعلول الأوّل متأخّر بالذات عنه تعالى ؛ فلو كان انكشافه
بما فيه كمالا له لزم فقد الكمال في مرتبة الذات ، وهو باطل ؛ وأيضا يلزم افتقار
الأوّل تعالى في كماله إلى غيره وهو فاسد ؛ فالكمال له تعالى ليس إلّا علمه
الحقيقي الكمالي الذي هو محض ذاته الموجب بذاته لانكشاف الكلّ بعد حصول شرطه وصدور
كلّ موجود منكشفا عنده بما فيه إنّما هو لازم العلّية والمعلولية لا يكون ذلك علما
كماليا. فلو كان أوّل المعلولات حادثا بالحدوث الدهري أو الزماني لم يكن عدم علمه
الحضوري به وبسائر الأشياء في وعاء عدمها من الدهر أو الزمان نقصا له تعالى ، لما
عرفت من أنّ العلم الحضوري إنّما هو انكشاف الوجود الخارجي ؛ وما لا وجود له في
الخارج لا معني لانكشاف وجوده الخارجي.
والعجب أنّ المحقّق الطوسي بعد إبطاله الحصولي والطعن والردّ على
قائله اختار الحضوري وصحّحه بهذا الوجه مع أنّه اختار في تجريده كون العالم حادثا
بالحدوث الزماني كما فهمه الأكثرون أو الدهري كما احتمله الباقون. فلو كان هذا
العلم كمالا له لزم مع افتقاره في كماله إلى الغير فقده عنه في زمان غير متناه أو
دهر لو فرض وقوع زمان فيه لكان غير متناه ؛ وكأنّه رجع في شرحه
للإشارات عن مختاره في التجريد وحينئذ وإن اندفع هذا الفساد والتناقض إلّا أنّه إن
كان هذا العلم كمالا عنده يرد عليه ما تقدّم من كونه فعله تعالى ومتأخّرا عن ذاته
، وكمال الشيء لا يكون كذلك.
ويمكن أن يقال : إنّ هذا العلم ليس كمالا عنده إلّا أنّه لمّا كان من لوازم
العلّية
__________________
والمعلولية ومطابق
الواقع ونفس الأمر والمثبتون للحصولي كالشيخ وأتباعه يثبتونه ليفهم الحضوري رأسا
وحصرهم علمه تعالى في الحصولي الكلّي الذي يخرج عنه الجزئيات ؛ فأورد عليهم ما
أورد من مفاسد الحصولي وأثبت الحضوري بهذا الوجه لكونه من لوازم العلّية والمعلولية وعدم تأخّره عن
مرتبة / B ١٢٥ / الحصولي ؛ إذ
كلّ واحد منهما فعل الواجب تعالى ومتأخّر عنه ذاتا ؛ فإنّ علّيته لتمثيل الصور في
ذاته وانكشافها عند القائل بالحصولي في مرتبة علّيته لإيجاد أوّل المعلولات بما
فيه وانكشافه عند القائل بالحضوري ؛ ولا يخفى أنّ هذا التوجيه من قبله لا يلائم
كلامه في شرح رسالة العلم.
[ثانيهما :] أنّه قد تقرّر ويثبت أنّ علمه تعالى كذاته تعالى ليس زمانيا
؛ فليس له نسبة إلى الزمان بأن يكون بعض الأزمنة بالنسبة إليه حالا وبعضها ماضيا
وبعضها مستقبلا ، بل نسبة كافّة الزمانيات إليه نسبة واحدة ، كما أنّ نسبة قاطبة المكانيات
إليه كذلك ؛ وليس له تعالى بالنسبة إلى شيء من الزمانيات قبلية أو بعدية أو مقارنة
زمانية لعدم اختصاصه بشيء من الأزمنة ، بل وجوده محيط بكلّية الزمان ، كما أنّه
ليس له تعالى بالنسبة إلى شيء من الأمكنة فوقية أو تحتية أو مقارنة مكانية لعدم
اختصاص وجوده بواحد من الأمكنة ، بل هو محيط بكلّية المكان. فالامتداد الزماني
بطوله بالنسبة إليه تعالى كان واحد ، كما أنّ الامتداد المكاني بفسحته بالنسبة
إليه تعالى كنقطة واحدة ؛ وعلى هذا فزمان وجودنا في الحضور والشهود الخارجي عنده
كزمان وجود آدم مثلا وكذا وجودنا في الوجود والحضور العينى كوجوده عليهالسلام ؛ فتكون الحوادث بأسرها كالمبدعات حاضرة عنده موجودة لديه
في الشهود العيني أزلا وأبدا ؛ فيكون الجميع منكشفة عنده معلومة له بالعلم
الحضوري.
__________________
ولا يتوهّم أحد
أنّ في ذلك التزام قدم الحوادث ؛ لأنّا نقول : إنّ كلّ حادث موجود في الأزل وحاضر عنده تعالى ، بل
نقول : إنّ كلّ حادث في وقت وجوده حاضر لديه ومنكشف عنده مع كونه في الأزل.
فإن قيل : إحاطته تعالى بكلّية الزمان وكونه بطوله بالنسبة إليه كان
واحدة إلّا أنّ ذلك بحسب الشهود العلمي الارتسامي لا بحسب الشهود الخارجي ؛ إذ ما
لا وجود له لنفسه كيف يكون موجودا لغيره وحاضرا عنده؟! نعم لو فرض وجود / A ١٢٦ / الزمان بكلّيته ـ أي بمجموع طوله وامتداده مع جميع ما يوجد في أجزائه
موجودا ـ لكان الجميع موجودا عنده حاضرا لديه بحسب الشهود الخارجي ؛ وأمّا إذا لم
يكن موجودا في الخارج ، بل كان الموجود فيه آنا واحدا ؛ فلا يعقل حضور الجميع ؛ إذ
حضور ما لم يوجد عنده تعالى وهو في الأزل غير معقول ؛ فالحوادث إذا لم تكن موجودة
في الأزل فكيف يعقل حضورها عنده تعالى في أوقاتها مع عدميتها أو عدمية الأوقات؟! كيف يعقل أن يكون
غير الموجود لنفسه موجودا لغيره مع أنّ الوجود الغيري والرابطي للشيء فرع وجوده
لنفسه؟!
قلنا : أمثال تلك الشبهات إنّما تتطرّق في قلوب المسجونين في سجن
الزمان والمحبوسين بقيود الموادّ والمكان نظرا إلى قياسهم المجرّد المتعالي عن
الزمان والمحيط به على المادّي الزماني المحاط به ؛ فإنّ من ألف بالزمان
ووقع في حيطته وانتسب إليه بحيث بعضه بالنسبة إليه ماض وبعضه حال وبعضه مستقبل
يتوهّم أنّ كلّ موجود حاله بالنسبة إلى الزمان كذلك ولا يمكنه أن يعقل خلاف ذلك ؛
أعني وجود موجود متعال عن الزمان محيط بكلّيته بحيث يكون كلّ جزء منه مع
__________________
ما فيه من الحوادث
حاضرا لديه موجودا عنده ؛ وأمّا قاطع البرهان وأنظار المجرّدين عن قيود الموادّ
وجلابيب الأبدان فيقتضي كون المجرّد خصوصا صرف الوجود المتعالي عن شوائب المادّية
متقدّسا عن الانتساب إلى الزمان ومحيطا به وكون جميعه بالنسبة إليه واحدا وحضوره بكلّيته ووجوده برمّته عنده في الأزل.
وبيان ذلك : أنّ الزمان من لواحق الحركة التي هي من لواحق الجسم. فلمّا
كان الواجب منزّها عن الجسمية استحال أن يكون في زمان.
وأيضا : إن أوجد
الواجب تعالى الزمان وهو [فيه] لزم كون الزمان متقدّما على نفسه وإن أوجده بدون أن
يكون فيه كان غنيّا في وجوده وعلمه وساير صفاته عنه.
والتوضيح : أنّه لو كان الواجب و/ B ١٢٦ / صفاته كالعلم وغيره زمانيا ـ أي منتسبا إليه بالقرب والبعد
والمضيّ والحالية والاستقبال ـ لكان مادّيا لا مجرّدا ؛ إذ النسبة بين الشيئين
بالقرب أو البعد الزماني فرع كون الشيئين كليهما مادّيّين كما في النسبة بينهما
بالقرب أو البعد المكاني بلا تفاوت ؛ فإنّه لو جاز حصول النسبة الزمانية بين
الواجب وجزء من الزمان أو حادث واقع فيه لجاز حصول النسبة المكانية بينه وبين جزء
من المكان أو جسم حاصل فيه ، لعدم تعقّل التفرقة بين الأمرين بوجه ، لاشتراكهما في
كون أحد طرفى النسبة مجرّدا متعاليا عن المكان والزمان وكون الآخر جسما أو جسمانيا
؛ وعدم كون كلّ من الشيئين من النسب المعنوية التي يمكن تحقّقها بين المفارقات
لقضاء الضرورة بأنّ النسبة الزمانية كالمكانية في عدم كونها من النسب المعنوية ،
بل هي من المادّية التي لا توجد إلّا في المادّيات ؛ وعلى هذا لو كان الموجود
الحاضر عنده في كلّ وقت منحصرا
__________________
بالزمان الحالي وما فيه من الحوادث ولم يكن الزمان بكلّيته من الأزل إلى
الأبد وما فيه من الحوادث الغير المتناهية حاضرة عنده موجودة لديه منكشفة له ،
لكان نسبته تعالى إلى بعض الأزمنة كزماننا هذا مع ما فيه من الحوادث
أقرب بالقرب الزماني من نسبته إلى بعض آخر بما فيه كالزمان إلّا في بعد ألف سنة مع ما
فيه من الحوادث ؛ وأيضا كان نسبة بعض الأزمنة كزمن آدم بما فيه إليه تعالى بالمضيّ
ونسبة بعضها إليه كزماننا بالحالية ونسبة بعضها كالزمان الآتي بعد سنة في الأكثر
بالاستقبال ؛ وهذا ـ كما عرفت ـ مستحيل ، لكونه من خواصّ المادّيات ؛ فاللازم إمّا
عدم وجود شيء من الأزمنة والحوادث عنده وعدم علمه بالحضور الإشراقي والانكشافي
بشيء منها وهو بيّن البطلان أو حضور الكلّ ووجوده عنده وعلمه به وهو المطلوب.
وما ذكر من أنّ ما
لم يوجد لنفسه ولا بالنسبة إلى غيره من الحوادث والمادّيات كيف يكون موجودا للواجب
سبحانه؟! مغالطة ناشية من قياس الغائبة على الشاهد والمجرّد / A ١٢٧ / المتعالي عن الزمان على المادّي الواقع فيه ؛ فإنّ
الزمان بما فيه من الحوادث لكونه تدريجي الوجود ممتنع الحصول بكلّيته دفعة لا يمكن
أن يجتمع أجزائه في الوجود ولا أن يكون كلّ جزء منه أو حادث واقع فيه موجودا حاضرا
عند حادث آخر لضيق عالمه ووقوعه في سجن الزمان ولا يكون شيء منه موجودا لنفسه مع
ملاحظة النسبة بينه وبين مثله ؛ وأمّا الواجب لتعاليه عن الزمان لا يكون للزمان
بالنسبة إليه امتداد يقع الواجب فيه ويحيط الزمان به ؛ فالأجزاء بأسرها والحوادث
برمّتها عنده في الأوّل والأبد على نسبة واحدة ؛ فكلّ جزء منه وحادث بالنسبة إليه
تعالى موجود لنفسه وله تعالى وحاضر بالشهود الإشراقي العيني لديه وبالنسبة إلى
مثله معدوم وغائب وكلّ جزء
__________________
من الزمان وحادث
من الحوادث وآخر في وقته لا في وقت آخر عنده تعالى منكشف لديه من دون لزوم تغيّر
وتجدّد.
[السابع :] الحقّ عندى ثبوت العلم الحصولي بالأشياء للواجب أيضا قبل
إيجادها وبعده بمعنى أنّ ذاته الذي هو العلم الحقيقي الكمالي ، كما أنّ كماله في
مبدئيته ومنشئيته لانكشاف وجودات الأشياء في مرتبة متأخّرة عن مجرّد مرتبة الذات :
[١.] إمّا لوجودها
العينى ؛ وهذا يختصّ بالمبدعات
[٢.] أو لارتسام
الكلّ في أوّل العقول
[٣.] أو لوجوده
وحضوره عند الواجب تعالى وان لم يوجد في الخارج.
وهذان الوجهان
يعمّان المبدعات والحوادث.
كذلك كمال ذاته
الذي هو العلم الحقيقي مبدئيته لارتسام صور الأشياء وتمثّلها في ذاته وهو العلم
بحقائقها كما عليه المحقّقون لا بأشباحها وأمثلتها كما عليه الآخرون ؛ إذ المرتسم
في العقل من السماء قبل إيجاده أو رؤيته كونه جسما بسيطا مستديرا متحرّكا ؛ وهذا
عند التحقيق حقيقته لا شبحه ومثاله ؛ فحقائق الأشياء إنّما يعلم بهذا العلم لا
بالحضوري إلّا مع ارتسامها / B ١٢٧ / في بعض
المدارك.
وهذا العلم للواجب
تعالى إنّما يكون فعليا ؛ لأنّه تعالى بنفس ذاته القاهرة اقتضى اختراع حقائق
الأشياء وصورها على ما هي عليه في ذاته وتمثّلها في علمه قبل وجودها. ثمّ صار هذا
الاختراع والتمثّل علّة لإيجادها ؛ وما هو إلّا العلم العقلي ولا يكون إلّا كلّيا
؛ إذ الشيء قبل وجوده إنّما يعلم بالأوصاف الكلّية من الأجناس والفصول واللوازم
ولا يحصل من انضمام الكلّيات بعضها إلى بعض وإن بلغت إلى غير النهاية إلّا الكلّي
؛ وكذا الحال في العلم بآثارها وأحوالها وما
ينتزع عنها
ويترتّب عليها من المعاني ؛ فإنّه يكون كلّيا لكلّيتها وليس فيه تغيّر وتجدّد ، بل
هو على وجه واحد مستمرّ من الأزل إلى الأبد لا تفاوت فيه قبل الإيجاد وبعده ؛
ويعلم به الكلّيات والجزئيات الحادثة على وجه ثابت ؛ ولا يلزم من تجدّد وجود
الحوادث وعدمها تجدّد وتغيّر في هذا العلم ؛ إذ علمه بها في الأزل أنّ كلّا منها
موجود في وقت كذا وعلى صفة كذا وحال كذا ومعدوم في غيره ؛ ولا يتبدّل ذلك بتبدّل
الأزمنة والحالات بخلاف الحضوري ؛ فإنّه لتوقّفه على الوجود الخارجي يلزم أن
تتجدّد المشاهدة الحضورية بتجدّد الوجود الخارجي لكلّ حادث وينعدم بانعدامه ولا
بأس به لما عرفت من عدم كونه كمالا وكونه من قبل الإضافات الممتنعة حصوله بدون
متعلّق خارجي كالإيجاد والخلق والرازقية وأمثالها ؛ فبالحصولي يعلم كون الحادث
الفلاني موجودا في وقت كذا ؛ فإذا بلغ هذا الوقت ووجد الحادث تعلّق العلم بوجوده
وهذا التعلّق هو الحضوري الانكشافي ؛ وكذا بالحصولى يعلم انعدامه في وقت كذا ؛
فإذا بلغ هذا الوقت وانعدم انعدمت الإضافة الإشراقية المتعلّقة بوجوده الخارجي ؛
وهذا مع قطع النظر عمّا ذكرناه من كون الحوادث بأسرها موجودة للواجب تعالى حاضرة
عنده في الشهود الخارجي أزلا وأبدا ومعه ـ كما هو الحقّ ـ يكون الحضوري في الثبات وعدم التغيّر والتجدّد / A ١٢٨ / كالحصولي.
ثمّ الحضوري ليس
كمالا للذات لكونه متأخّرا عنها وفعلا له تعالى ؛ لأنّه ـ كما مرّ ـ اقتضى بذاته
تمثّل النظام الكلّي على ما هو عليه في ذاته ؛ ولذا لا يكون عدم تحقّق هذا العلم
في مرتبة ذاته نقصا له ؛ إذ الكمال الحقيقي ليس إلّا ذاته الذي هو العلم بالمعنى
الأوّل.
ثمّ الدليل على
ثبوت هذا العلم له تعالى مع عدم كونه كمالا هو الدليل على
__________________
ثبوت ساير الصفات
والإضافات التي أنفسها ومفهوماتها ليست كمالا له كإيجاد الأشياء وانكشافها بعد
وجودها والرازقية والرحمة والعلّية والإحاطة ؛ فإنّ الدليل على ثبوتها كون مبدئيته
تعالى لها كمالا له وإن لم يكن أنفسها كمالا له ؛ إذ البديهة قاضية بأنّ مبدئيته
لانكشاف الأشياء وإيجادها وخلقها وحفظها كما يكون كمالا كذلك مبدئيته لتمثيلها
وارتسامها في علمه أيضا يكون كمالا ؛ إذ العالم العقلي الإلهي لا يقصر في الدلالة
على الكمالية وعلوّ القدرة عن إيصال الرزق إلى الحيوانات ، بل عن بعض العوالم
الخارجية مع أنّ العقل حاكم بأنّ هذا النظام الكلّي بما اشتمل عليه من الحكم
العجيبة والمصالح الدقيقة لا يمكن أن يكون بدون علم سابق ؛ ومن أنصف من نفسه يعلم
أنّ الذي أبدع الأشياء أوجدها من العدم إلى الوجود سواء كان العدم ذاتيا أو زمانيا
[و] يعلم تلك الأشياء بحقائقها وصورها وآثارها اللازمة لها الذهنية والخارجية قبل
إيجاده إيّاها ؛ كيف والعناية الإلهية المفسّرة بالعلم الأزلي العقلي المتعلّق
بالكلّيات والجزئيات على وجه كلّي السابق على وجودات الأشياء ممّا اتّفق عليه
أساطين الحكمة وأعاظم العقلاء؟! وما هو إلّا العلم الحصولي ؛ فنفيه يبطلها.
وبالجملة : العقل يأبى من صدور هذا النظام الأكمل المتّسق المرتبط بعضه
ببعض على وجه الحكمة والمصلحة من دون علم سابق مع عدم فساد فيه ، كما يأتي في ردّ
شبه المنكرين له ؛ وعلى ما اخترناه من ثبوت العلم الحضوري معه يتحقّق له العلم
بالجزئيات على الوجه / B ١٢٨ / الجزئي أيضا ؛
فلا ينحصر علمه بالكلّيات حتّى يلزم فساد خروج الجزئيات عن علمه.
وممّا يؤكّد إثبات
الحصولي أنّه لولاه لزم عدم علمه بحقائق الأشياء لما عرفت من أنّ الحضوري هو العلم
بالوجود الخارجي فقط ؛ ولا يعلم به الحقائق إلّا من حيث ارتسامها في بعض المدارك ؛
ومعلوم أنّ معلومية الحقائق بالحصولي أقوى
وأظهر من
المعلومية بارتسامها في بعض المدارك ؛ وبعبارة اخرى : معلوميتها بتمثّلها في الذات
أظهر وأقوى من معلوميتها بارتسامها في بعض المدارك ومشاهدتها فيها ؛ ومع ذلك يخرج
عنه العلم بحقيقة أوّل المدارك الذي يرتسم فيه الحقائق لعدم ارتسامه في مدرك.
ثمّ أورد على العلم الحصولي إشكالات
ضعيفة ؛ فلنذكرها بجوابها :
[الأوّل :] أنّه يوجب اتّحاد الفاعل والقابل ؛ وهو باطل ؛ إذ الفاعل
شأنه الإفاضة والقابل شأنه الاستفاضة ؛ وهما متقابلان لا يمكن استنادهما إلى جهة
واحدة ؛ واستنادهما إلى جهتين متغايرتين يوجب التركّب في ذاته تعالى.
وجوابه : أنّ جهة الفاعلية والقابلية في لوازم البسيط متّحدة ؛ فإنّ
لوازمه إنّما تترتّب على حقيقته من حيث هي ؛ فهو من حيث إنّه قابل فاعل ؛ ففيه فيه
وعنه شيء واحد ؛ وهذا الحكم مطّرد في لوازم جميع البسائط. فجهة الصدور والقبول في
الأربعة بالنسبة إلى الزوجية واحدة ؛ فالقبول فيها بمعنى مطلق الموصوفية
والمعروضية لا بمعنى الاتّصاف والانفعال ، كما هو معناه الظاهر.
وتوضيح ذلك ؛ أنّ السبب في استحالة الفاعلية والقابلية في ذات بسيطة أنّ
القابل للشيء لا يكون في حدّ ذاته فاقدا له وفاعله في حدّ ذاته واحد ؛ فكلّ فاعل
قابل يجتمع فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ وذلك باطل ؛ وأمّا مطلق المحلّية والموصوفية
فلا يعتبر في مفهومه الفقدان ؛ فلو كان شيء محلّا لمعلوله كان موصوفا به غير فاقد
له في حدّ ذاته ؛ فإنّ المعلول وإن لم يكن موجودا في مرتبة العلّة إلّا أنّها مع
ذلك ليست في حدّ ذاته فاقدة له ؛ إذ المعلول فائض عن العلّة والفائض عن الشيء / A ١٢٩ / لا يكون مفقودا له.
ثمّ لو لم توصف
علّة الشيء به لزم عدم اتّصاف شيء من الماهيّات البسيطة بلوازمه ؛ إذ الماهيّة
علّة للازمها ؛ والتزام ذلك وتخصيص الموصوفية بالماهيّات
المركّبة مكابرة.
[الثاني :] أنّه يستلزم كونه سبحانه محلّا للأعراض ولمعلولاته الممكنة.
وجوابه : أنّه لا منع فيه إذا لم ينفعل عنها بأن يكون من خارج ولم
يستكمل بها ؛ إذ مع الانفعال يلزم التغيّر في ذاته ومع الاستكمال يلزم تركّبه
وافتقاره في كماله إلى فعله ؛ وأمّا بدونهما فليس فيه فساد.
[الثالث :] أنّه يوجب كونه فاعلا للكثرة ومحلّا لها ؛ وهو ينافي وحدته
الصّرفة وبساطته الحقّة.
والجواب : أنّ صدورها عنه على ترتيب السببي والمسبّبي كصدور الأشياء الخارجية عنه ؛ فذاته بذاته اقتضى تمثّل
صورة المعلول الأوّل في ذاته وبتوسّطه صورة المعلول الثاني وهكذا كما قالوا في
كيفية صدور الأشياء الخارجية عنه تعالى ؛ ومعلوم أنّ الكثرة الحاصلة بعد الذات
على ترتيب السببي والمسبّبي لا تنثلم بها وحدة الذات ولا تقدح في بساطته الحقّة ؛
فهي ترتقي إليه وتجتمع في واحد محض ؛ إذ الترتيب يجمع الكثرة في واحد.
[الرابع :] أنّه يقتضي كون الأوّل تعالى موصوفا بصفات زائدة غير إضافية
ولا سلبية ؛ إذ الصور الحاصلة في ذاته امور حقيقية وهي عبارة عن العلم ؛ فاتّصاف
الواجب بها اتّصاف بصفات زائدة حقيقية غير إضافية.
وفيه : أنّ معنى اتّصاف الشيء بعرض هو أن يكون ذلك العرض محمولا عليه أو مبدأ المحمول عليه ؛ وهذه الصور اللازمة له تعالى ليست محمولة عليه ؛
وهو ظاهر ؛ ولا مبدأ لمحمول عليه ؛ لأنّ العالم الذي هو محمول عليه تعالى ومن
الصفات الحقيقية ليس حمله عليه باعتبار تلك الصور ، بل باعتبار كونه مبدأ و
__________________
مصدرا لها ؛ أي
كون ذاته بذاته بحيث تصدر عنه تلك الصور منكشفة لديه ؛ والعالمية التي تلك الصور
مبدأ لاتّصافه تعالى بها وحملها عليه هي العالمية الإضافية ؛ والاستحالة في
احتياجه تعالى في اتّصافه بالصفات الإضافية إلى غيره كما في الإيجاد وغيره ؛
والامتناع في الحاجة إلى الغير إنّما هو في الصفات / B ١٢٩ / الحقيقية.
[الخامس :] أنّ القول بالحصولي يوجب مسبوقية كلّ موجود معلول للواجب
بصورة عقلية ؛ إذ على هذا القول يقال في كلّ موجود عيني أو عقلي إنّه وجد لأنّه
عقل لا أنّه وجد لأنّه وجد ولا أنّه عقل لأنّه عقل ؛ ولا ريب في أنّ صورة المعلول
الأوّل موجود معلول له تعالى ؛ فيلزم أن تسبقه صورة عقلية اخرى ثمّ ينتقل الكلام
إلى هذه الصورة السابقة وهكذا ؛ فيلزم التسلسل في الصور العقلية ؛ أي يكون قبل كلّ
صورة عقلية صورة عقلية اخرى إلى غير النهاية.
وجوابه : أنّ هذه الصورة المعقولة نفس وجودها عنه تعالى نفس عقله لا
تمايز بين الحالين ولا ترتّب لأحدهما على الآخر ؛ فهي من حيث هي موجودة معقولة
وبالعكس ؛ فإيجاده تعالى تلك الصور عين علمه بها ؛ فلا حاجة إلى علم آخر ؛ لأنّ
كلّ إيجاد لا يكون عين العلم يحتاج في حصوله من الفاعل المختار إلى علم سابق ؛
وأمّا إذا كان الإيجاد عين العلم فلا يتوقّف على علم آخر.
[السادس :] أنّه يوجب كون المعلول الأوّل غير مباين لذاته ؛ وهو باطل.
وفيه : أنّه إن اريد بعدم مباينة المعلول الأوّل لذاته قيامه بذاته
وارتسامه فيه فبطلانه عين محلّ النزاع ؛ وإن اريد به كون صورته عين الواجب تعالى
بناء على أنّ صدور كلّ معلول إنّما هو بتوسّط صورته السابقة ؛ فلو لم يكن صورة المعلول الأوّل عين حقيقة
الواجب تعالى لزم التسلسل في الصور العقلية ؛ لأنّه إذا كان كلّ
__________________
صورة وجدت عنه
لأنّها عقلت فيكون قبل كلّ صورة عقلية صورة عقلية اخرى ؛ فيلزم التسلسل ؛ إذ معنى
قولنا : «كلّ صورة وجدت عنه لأنّها عقلت» لا يرجع إلّا إلى مسبوقية كلّ صورة باخرى
وإلّا رجع إلى قولنا : «عقلت لأنّها عقلت» أو «وجدت لأنّها وجدت».
فجوابه : ما تقدّم من أنّ هذه الصورة نفس المعقولة ، وجودها عين
تعقّلها.
[السابع :] أنّه يوجب خروج الوجودات والجزئيات عن علمه تعالى ؛ إذ
الحصولي ليس إلّا العلم بالماهيّات والحقائق على الوجه الكلّي ؛ فلا يتناول العلم
بنفس الوجودات والتشخّصات.
وجوابه : / A ١٣٠ / أنّ هذا إنّما
يرد على القائلين بالعلم الحصولي فقط ؛ وأمّا على ما اخترناه من ثبوت العلم
الحضوري الإشراقي له تعالى أيضا فيكون عالما بالوجودات والجزئيات على الوجه الجزئي
أيضا.
[الثامن :] أنّ ارتسام الصور في ذاته على الترتيب السببي والمسبّبي
يوجب انفعال ذاته تعالى عن الصورة الأولى ؛ لأنّها علّة استكماله تعالى بحصول صورة
ثانية ؛ والوجه في كونها كمالا له أنّها لمّا كانت في ذاتها ممكنة الوجود لا يكون
حصولها بالفعل ، بل بالقوّة ؛ ولا ريب في أنّ كون ذاته بالقوّة نقص له ؛ فانتفاء القوّة إنّما يكون بوجود الصورة ؛ فيكون وجودها كمالا له ؛
إذ مزيل النقص مكمّل ؛ فالصور السوابق يكون مكمّلة وذاته مستكملة ؛ والمكمّل أشرف
من المستكمل مع أنّ ذاته تعالى أشرف من كلّ شيء.
وجوابه ـ بعد النقض بصورة صدور الموجودات الخارجية عنه لإجراء الدليل
المذكور فيه بلا تفاوت ـ : أنّ فعلية تلك الأشياء من الصور العقلية والموجودات
الخارجية إنّما هو من الواجب تعالى ووجوبها مترتّب على وجوبه ، وليس هناك
__________________
فعل وقوّة ؛ إذ
صدورها عنه إنّما هو بعد تماميته وفعلية ذاته من كلّ جهة ؛ وما يصدر عنه من الصور
والموجودات الخارجية إنّما هي امور خارجة عن ذاته تعالى ؛ فليس لتلك الأشياء إمكان
من حيث انتسابها إلى مبدئها ؛ والانفعال إنّما يلزم لو انتقل ذاته من معقول إلى
معقول ، كما في العلوم النفسانية أو تفاض معقولاته على ذاته من غيره ، كما في علوم
المبادي ؛ وأمّا إذا كانت المعقولات لازمة لذاته ـ كما في لوازم الماهيّات البسيطة
ـ فلا يلزم من الانفعال شيء.
[التاسع :] أنّ تلك الصور المرتسمة في ذاته تعالى إمّا أن تكون لوازم
ذهنية له تعالى أو لوازم خارجية أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين ؛ والأوّل
والثالث باطلان ؛ إذ لا يتصوّر للواجب إلّا نحو واحد من الوجود هو الوجود الخارجي
الذي هو عين ذاته ؛ وكذا الثاني ؛ إذ اللوازم الخارجية لا تكون إلّا حقائق خارجية
/ B ١٣٠ / مع أنّ تلك
الصور المرتسمة في ذاته إمّا أعراض ذهنية أو جواهرها جواهر ذهنية وأعراضها أعراض
كذلك.
وجوابه : اختيار كون تلك الصور لوازم عقلية وما ذكر من أنّ الواجب
تعالى ليس له إلّا نحو واحد من الوجود هو الوجود الخارجي مسلّم ولكنّ المراد به
أنّ ذاته من حيث ذاته مع قطع النظر عن الامور الخارجة عن حقيقته فهو بحت الوجود
الخارجي وليس أمرا ذهنيا ؛ ولا ينفي ذلك كون الامور الخارجة عن ذاته المتمثّلة فيه امورا عقلية
لازمة له ؛ وهو ظاهر.
[العاشر :] أنّ المعلول الأوّل وصورته إن صدر معا عن الواجب تعالى لزم
صدور الكثرة من الواحد ؛ وإن كان الصادر منه مجرّد صورته وكان صدور المعلول الأوّل
مشروطا بصورته ـ كما تقتضيه اصولهم ـ لزم أن تكون الصورة الأولى علّة لحصول اللازم
المباين ـ أعني المعلول الأوّل ـ ولحصول صورة
__________________
اخرى هي صورة
المعلول الثاني ؛ فيلزم أن يعقل الواحد المحض باعتبار صورة واحدة من جهة واحدة
فعلين مختلفين.
واجيب بأنّ ذاته من حيث ذاته علّة لوجود المعلول الأوّل ومن حيث
علمه بذاته علّة لعلمه بالمعلول الأوّل.
وردّ بأنّه ينافي ما اتّفقوا عليه من أنّ علمه بالأشياء علّة
لوجودها ؛ إذ على الجواب المذكور وجود المعلول الأوّل وعلمه تعالى به ـ أعني
ارتسام صورته في ذاته سبحانه ـ في درجة واحدة ؛ فلا يتقدّم العلم على الإيجاد مع
أنّ الباعث لهم في إثبات الصور في ذاته تعالى ليس إلّا كون علمه تعالى بكلّ شيء
سببا لوجود ذلك الشيء في الأعيان ؛ فإذا لم يكن الصورة العقلية للمعلول الأوّل
موجبا لوجوده يبطل أصل مذهبهم.
وربّما يجاب بأنّه لا ريب في أنّ العلم بالعلّة من كلّ وجه ومن حيث هو
علّة مستلزم للعلم بالمعلول ؛ ولا ريب في أنّ العقل الأوّل معلول له تعالى ؛ فعلمه
بذاته الذي هو علّة العقل الأوّل مستلزم لعلمه به ؛ فذاته من حيث ذاته علّة لوجود
العقل الأوّل في الخارج ومن حيث تعقّله لذاته علّة لتعقّله له ، كما ذكروه ؛ فصدور
كلّ معلول عنه تعالى وعلّيته مستلزم / A ١٣١
/ لعلمه بهذا لمعلول.
وما ذكروه من أنّ
علمه بالأشياء علّة لوجودها ليس مرادهم به إلّا ذلك الاستلزام ـ أي استلزام العلّية والصدور للعلم بالمعلول الصادر ـ فإنّ هذا العلم
من مقتضيات العلّية والمعلولية ولوازمها ؛ وليس مرادهم به أنّ العلم علّة واقعية
وسبب حقيقي لوجود المعلوم وكيف يصحّ القول بأنّ الأعراض الاعتبارية علّة واقعية
لأشياء خارجية محقّقة؟! وإذا لم يكن العلم علّة واقعية لا يلزم سبقه وتقدّمه على
المعلول الصادر حتّى يقال : إنّ صدور المعلول الأوّل عنه تعالى مشروط
__________________
بسبق صورته وحصول
صورة المعلول الثاني أيضا مشروط بسبق صورة ذلك المعلول الأوّل ؛ فيلزم صدور أمرين
مختلفين من الواحد الحقّ باعتبار صورة واحدة من جهة واحدة ؛ فليس مرادهم إلّا أنّ
هذا العلم من لوازم العلّية والمعلولية من دون اشتراط تقدّمه وتأخّره.
وعلى هذا كما يكون
العلم بالمعلول الأوّل لازما مقارنا لصدوره وحصوله في الخارج يكون لازما سابقا
للعلم بالمعلول الثاني ؛ ولا محذور في شيء منهما ؛ إذ هذا العلم في التحقّق ليس
علّة ولا شرطا حقيقيا للصدور حتّى لا يجوز علّية أو شرطية لأمرين مختلفين ، بل هو
لازم العلّية والمعلولية ؛ فيجتمع مع صدور جميع المعلولات وحصول صورها بذات الحقّ
الأوّل من حيث وجوده وذاته علّة لوجود المعلول الاوّل ومن حيث تعقّله لذاته علّة لارتسام
صورته في ذاته ؛ وهذان ـ أي وجود المعلول الأوّل وارتسام صورته ـ في درجة واحدة.
ثمّ من حيث إيجاده
للمعلول الأوّل علّة لوجود المعلول الثاني ومن حيث تعقّله علّة لتعقّله وهكذا إلى
آخر مراتب الوجود ؛ وكلّ معلول من تلك المعلولات من حيث وجوده واسطة إيجاد المعلول
الذي بعده ومن حيث تعقّله لذاته تعقّل ذات ذلك المعلول الذي بعده ؛ وهذا التوسّط
والتعقّل في مرتبة واحدة ؛ ولا يلزم سبق التعقّل على التوسّط ، بل هما متلازمان
كما في الواجب ؛ والعقل الأوّل من حيث وجوده واسطة فيضان وجود العقل الثاني من
الله سبحانه ومن حيث تعقّله لذاته يرتسم صورته في ذاته وهكذا / B ١٣١ / إلى آخر سلسلة الوجود.
وعلى هذا فما
أثبته الحكماء من العناية حقّ إلّا أنّه لكونه من لوازم العلّية والمعلولية لا
لأنّه علّة الإيجاد والصدور.
وأنت تعلم أنّ هذا
الجواب لا يخلو عن مناقشات عمدتها أنّ صريح كلام الحكماء أنّ العناية ـ وهو علمه
بالنظام الجملي ـ علّة لوجوده ؛ ومرادهم من العلّية
وإن كانت هو
الشرطية إلّا أنّه لا ريب في لزوم تقدّم الشرط على المشروط.
فهذا الجواب لا
يلائم كلامهم ؛ فالأظهر في الجواب أن يقال : إنّ حصول كلّ صورة معلول وإن كان من
لوازم العلّية والمعلولية إلّا أنّ تقدّمه بالذات أو بالزمان على صدوره لازم ولا
يلزم صدور الكثرة من الوحدة ؛ لأنّ صورة العقل الأوّل مثلا لها حيثيتان :
إحداهما : حيثية كونها صورة له من حيث إنّه يعقل الأوّل ؛ وبهذه الحيثية واسطة صدوره.
والثانية : حيثية كونها صورة له من حيث إنّه علّة تعقّل الثاني
والمتعقّل له ؛ وبهذه الحيثية واسطة حصول صورة العقل الثاني ؛ وقس على ذلك ما
بعده.
[الحادي عشر :] قد ظهر ممّا ذكر أنّ محصّل ما اخترناه في كيفية علم الباري
تعالى هو أنّ له علما حقيقيا كماليا هو تحيّث ذاته بذاته وعلما حصوليا صوريا وعلما
حضوريا انكشافيا بجميع الأشياء قبل وجودها وبعده ؛ ومبدأهما ومنشأهما هو ذاته الذي
هو العلم الحقيقي إلّا أنّ منشأ الحصولي مجرّد ذاته بذاته ومبدأ الحضوري قبل
الإيجاد ؛ فهو ذاته مع المصحّحين المذكورين وبعده هما ووجوداتها العينية أيضا ؛
وقد يعبّر عن ذاته الذي هو العلم الحقيقي بالعلم الإجمالي الكمالي وبالمعقول
البسيط ولا ضير فيه ؛ إذ ذاته لمّا كان مصدرا لمفصّلات من الوجودات والانكشافات
والمنكشفات بأسرها ؛ فيصحّ أن يقال : إنّه تعالى مجمل الكلّ ؛ بمعنى أنّه لكونه
مبدأ لجميع الموجودات فكأنّه يتضمّن كلّها وجميعها مندمجة فيه ؛ وأنّه العلم
الإجمالي بجميع الأشياء ؛ بمعنى أنّه منشأ انكشاف جميعها ؛ وأنّه المعقول البسيط ؛
بمعنى أنّ العلم به بمنزلة العلم بالكلّ ؛ فكأنّه معقول واحد يشتمل على جميع
المعقولات.
__________________
ثمّ ممّا يؤيّد ما
اخترناه ويوضحه أنّ النفس الإنسانية اصطفاها الله من / A ١٣٢ / بين مخلوقاته للمرتبة الجامعية وخصّصها من بينها
بالخلافة الإلهية وجعلها مظهرا جامعا وعالما صغيرا انموذجا من العالم الكبير ليكون
عارفا بالله وبأسمائه وصفاته وواقفا على نعوت جلاله وجماله وشرائف أفعاله ويكون في
العالم خليفته ومصدرا لأشباه ما يصدر عنه من الأفعال والآثار ؛ فلذلك أودع فيها ما
له من الصفات والأفعال ناقصة مشوبة بشوائب القصور والفتور على ما يليق بها
وتتحمّله ؛ إذ لو لم يتّصف بها ولم يكن انموذج منها فيها لم يقدر على تصوّرها ولم
يتمكّن من معرفة جنسها وقبح نقائصها ؛ وإذا لم يعرفها كيف يمكنه إثباتها لربّها
وباريها. فكلّ ما تثبته النفس لربّها يجب أن يكون انموذج منه فيها وإن كان ناقصا
مشوبا بالأعدام وما يسريها في غاية الكمال والتمامية وفوق التمام ؛ وإلى ذلك يشير
قوله تعالى : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» .
وإذ علمت ذلك نقول
:
إنّ ما للنفس المجرّدة الإنسانية من العلم وأقسامه وكيفيته على وجه
القصور والنقصان ينبغي أن يكون للواجب تعالى على نحو الكمال والتمامية وفوق الكمال
؛ إذ لا ريب في أنّ المبدئية والمنشئية لما يشاهد في النفس من العلوم كمال
للموجود.
فنقول : لا شبهة في ثبوت الأقسام الثلاثة المذكورة من العلم ـ أعني
العلم الحقيقي والحضوري والحصولي ـ للنفس ؛ فيجب أن يكون لباريها أيضا إلّا أنّ
جميعها فيه على وجه التمامية والكمال وفيها على وجه القصور والنقصان.
بيان ذلك : أنّ النفس لإمكانها وضعف تجرّدها واختلاط وجودها بظلمة
الماهيّة والعدم ليست بحيث يكون ذاتها بذاتها منشأ لانكشاف الوجودات و
__________________
ارتسام الحقائق
والصور ؛ فأعطاها الله قوّة نظرية زائدة على ذاتها هي مبدأ الانكشاف والارتسام.
فالعلم الحقيقي ـ أعني منشأ الانكشاف ـ ثابتة للنفس إلّا أنّه على وجه النقصان ،
لزيادته على ذاتها وفي الواجب عين ذاته.
ثمّ النفس لا
تتمكّن بوساطة تلك القوّة من أن تنكشف عليها الوجودات وترتسم فيها الحقائق برمّتها
، لضعف تلك / B ١٣٢ / القوّة وعدم
الارتباط بين النفس وبين كلّ شيء. فالمعلوم لها من الوجود بالعلم الحضوري
الانكشافي في ما يوجد بينه وبينها مصحّح الانكشاف ؛ وما هو إلّا ذاتها وآلاتها
وقواها وما يرتسم فيها ؛ فإنّ المصحّح في الأوّل إيجاد العاقل والمعقول ؛ وفي
البواقي الربط التامّ. فكلّ نفس يعلم وجود ذاتها وبدنها وقواها ؛ والمعلوم لها
بهذا العلم ليس إلّا وجوداتها المشاهدة لها ولا يعلم بذلك حقائق شيء منها ؛ وأمّا
الواجب فلكونه علّة الكلّ وارتباط الجميع به بالمعلولية تكون الوجودات بأسرها
منكشفة مشاهدة له بالعلم الحضوري وكذا النفس بوساطة تلك القوّة لا يتمكّن بضعفها
من أن يرتسم فيها صور الكلّ ، بل الحاصل لكلّ نفس من حقائق الموجودات ما يستعدّ له
لأجل قوّتها النظرية قوّة وضعفا واستقامة واعوجاجا وجودة ورداءة بخلاف الواجب
سبحانه ؛ فإنّ ذاته القاهرة بحيث تتمثّل فيه بذاته صور الأشياء بأسرها وحقائقها
على ما هي عليه من دون خروج شيء منها.
ثمّ هذان العلمان
ـ أي الحضوري والحصولي ـ يختلفان في الواجب والنفوس بالظهور والخفاء ؛ فإنّهما في
الواجب في الظهور والجلاء في غاية الكمال والتمامية وفوق التمام وفيها لا يخلو عن
الخفاء والظلمة ؛ هذا والنفوس بحسب اختلاف قوّتها وتجرّدها مختلفة في مراتب الكثرة
والقلّة والجلاء والخفاء.
ثمّ القوّة
النظرية في النفس بمنزلة الذات في الواجب في أنّه العلم الإجمالي و
__________________
المعقول البسيط
كما يظهر وجهه ممّا مرّ ؛ وفي النفس معنى آخر يعبّر عنه بالعلم الإجمالي والمعقول البسيط وهو الصورة الواحدة البسيطة النورانية التي يأخذها من معقولاته المفصّلة التي لا يستحضر تفصيلها ؛ فإنّ كلّ
نفس يقدر على أخذ صورة بسيطة من معقولاته المتعدّدة التي لا يستحضر تفصيل بعضها ؛
وهذه أيضا يختلف ظهورا وخفاء وقربا وبعدا إلى التفصيل بحسب اختلاف النفوس في
القوّة والتجرّد والفعلية.
[الثاني عشر :] قد ظهر ممّا ذكر أنّه لا تغيّر ولا تجدّد في شيء من علميه /
A ١٣٣ / الحصولي
والحضوري.
أمّا الأوّل : فلأنّه علم على وجه واحد كلّي مستمرّ من الأزل إلى الأبد لا
تفاوت فيه قبل الإيجاد وبعده ؛ ويعلم به الكلّيات والجزئيات الحادثة على وجه ثابت
كلّي ولا يلزم من تجدّد وجود الحوادث وعدمها تجدّد وتغيّر فيه ؛ إذ علمه بها في
الأزل أنّ كلّا منها موجود في وقت كذا وحال كذا وصفة كذا ومعدوم في غيره ؛ وظاهر
أنّ ذلك لا يتبدّل بالأزمنة والحالات.
وأمّا الثاني : فلأنّه على ما ذكرناه من حضور الحوادث عنده بالارتسام في
العلل القريبة ومن تعاليه عن الزمان وكونه بأسرها عنده بمنزلة أن يكون الزمان بجميع أجزائه والحوادث الزمانية بأسرها حاضرة
عنده أزلا وأبدا على وجه واحد متميّز من دون تجدّد وتغيّر في الحضور ؛ وبذلك يظهر
وجه عدم كون علمه زمانيا.
ثمّ بعد صيرورتها
موجودة بالوجودات العينية في أوقاتها الخاصّة وإن صار وجودها العيني أيضا من
مصحّحات الحضور وفيه تغيّر وتبدّل لحدوثه وانعدامه إلّا أنّ ذلك لا يوجب تغيّرا في
علمه تعالى ؛ لأنّ هذا الوجود لا يوجب حضورا له
__________________
تعالى لم يكن
متحقّقا قبله ؛ إذ ما يفيده من الحضور كان متحقّقا له تعالى بالوجهين المذكورين ؛
فهو لا يفيد له تعالى شيئا لم يكن له حتّى يلزم التغيّر على أنّه لو
سلّم تجدّد نحو مشاهدة حضورية له بتجدّد الوجود الخارجي وانعدامه بانعدامه لا يلزم
التغيّر في ذاته تعالى ؛ لأنّه من الإضافات الخارجة عن ذاته تعالى ولذلك من جعل
مصحّح العلم الحضوري منحصرا في الوجود الخارجي ولم يصحّحه بالوجهين المذكورين ، بل قال بتوقّفه على مجرّد الوجود العينى قال : يلزم أن تتجدّد مشاهدته
الحضورية بتجدّد الوجود الخارجي لكلّ حادث وتنعدم بانعدامه ولكنّه لا بأس به ؛
لأنّ هذا العلم ليس من علمه الكمالي ، بل هو من قبيل الإضافات الممتنعة بدون
متعلّق خارجي ، كالإيجاد والخلق والرازقية وأمثالها ؛ لأنّه / B ١٣٣ / ـ كما عرفت ـ عبارة عن العلم بالوجود الخارجي ؛ فمع عدمه
لا معنى لتعلّق العلم به.
[الثالث عشر :] المخالفون لما اخترناه في كيفية علمه تعالى فرق :
[١.] فمنهم من جعل
علمه تعالى منحصرا في الحصول الكلّي وهم جمهور المشّائين ؛ ويرد عليهم خروج الجزئيات والوجودات
الشخصية عن علمه تعالى مع أنّه لا معنى لنفي العلم الحضوري مع وجود المقتضي له وهو
حضور الشيء عند المجرّد القائم بذاته على أنّ مبدئيته تعالى له صفة كمالية وإن لم
يكن نفسه كمالا ؛ فنفيه المستلزم لنفي مبدئيته تعالى له يوجب سلب صفة كمالية عنه ،
تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ثمّ الظاهر أنّهم
لم يجعلوا علمه تعالى منحصرا في الصور حتّى يرد عليهم أنّه لو انحصر علمه المقدّم في فيضان الصور
المنكشفة لزم أن لا يكون له تعالى علم كمالي أصلا ؛ إذ الحقّ أنّ علمه تعالى عندهم
لا ينحصر بها ، بل يثبتون له علما كماليا
__________________
ويعبّرون عنه
بالفعل البسيط الذي هو مبدأ المعقولات المفصّلة ـ أعني الصور المرتسمة ـ وهو ذاته
بذاته. فهم يثبتون له علما حقيقيا كماليا هو عين ذاته إلّا أنّهم جعلوه مبدأ
لانكشاف مجرّد الصور دون الوجودات العينية ؛ فالإيراد إنّما يرد عليهم من هذه
الجهة لا من جهة نفيهم العلم الكمالي رأسا.
[٢.] ومنهم من
اكتفى في علمه بالحضوري وصحّحه بما تقدّم من أنّ جميع صور الموجودات الكلّية
والجزئية على ما عليه الوجود مرتسمة في المعلول الأوّل ؛ والواجب سبحانه يعقل هذا
المعلول مع تلك الصور لا بصور غيرها ، بل بأعيانها ؛ أي تكون مشاهدة له منكشفة
لديه.
وهذا هو مختار
المحقّق الطوسي بعد إبطاله الحصولي ببعض الوجوه المذكورة بجوابها ؛ وقد عرفت أنّ
هذا مسلّم من حيث إنّ وجود المعلول في الخارج مع ما ارتسم فيه يلزمه الانكشاف عند
علّته لا من حيث إنّ ذلك كمال له وغيره نقص.
فإن كان مراده أنّ
ذلك من لوازم العلّية والمعلولية وأنّ مبدئيته تعالى له كمال لا أنّ نفسه كمال له
؛ فهو صحيح إلّا أنّه يرد عليه جواز التصحيح بغير الارتسام أيضا وعدم المقتضي لنفي
الحصولي ؛ وما / A ١٣٤ / احتجّ به عليه
قد عرفت جوابه.
وإن كان مراده أنّ
ذلك ـ أي العلم الانكشافي ـ كمال له ؛ فترد عليه مفاسد كثيرة يظهر بعد الإحاطة بما
تقدّم.
[٣.] ومنهم من
اكتفى في علمه بالحضوري أيضا ولكن صحّحه بمجرّد ما تقدّم من كون نسبة كافّة
الزمانيات إليه نسبة واحدة وحضور الكلّ عنده على نسبة واحدة أزلا وأبدا ؛ وهم
جماعة من محقّقي المتأخّرين ؛ ويرد عليه مثل ما اورد على سابقه.
[٤.] ومنهم من
اكتفى بالحضوري أيضا ولكن صحّح علمه بالأشياء قبل الإيجاد بالعلم الإجمالي ؛ فقال
: «إنّ الأشياء قبل إيجادها معلومة به وهو العلم
الكمالي بالأشياء
منكشفة عنده قبل إيجادها إجمالا وبعده تفصيلا والعلم التفصيلي ليس كمالا» ثمّ فسّر
الإجمالي بتفسيرين :
أحدهما : التمكّن من حصول انكشاف الأشياء بعد إيجادها ، ومثاله ملكة
استخراج العلوم.
وثانيهما : أنّ الواجب لكونه علّة الجميع وكون الكلّ لوازم ذاته ورشحات
وجوده يكون ذاته كمحلّ ما يصدر عنه مفصّلا ؛ وهي مندمجة فيه حتّى أنّ الوهم ربّما
يذهب إلى أنّ هذه الحقائق المتعدّدة اتّحدت في ذاته سبحانه ؛ وعلى هذا فعلمه بذاته
عين علمه بالأشياء مجملا و بمنزلة المعقول البسيط ؛ فإنّه علم إجمالي بالنسبة إلى
المعقولات المفصّلة ؛ وكان محصّل ذلك يرجع إلى ما ذكره المعلّم الأوّل في أثولوجيا
من أنّ بسيطة الحقيقة كلّ الأشياء بمعنى أنّه يشمل على جميع كمالاتها مع الزيادة ؛
أي أنّ جميع الوجودات مندرجة فيه ؛ إذ الكمال ينحصر في الوجود ، وغيره ـ أعني الماهيّات ـ نقص وقصور. فصرف الوجود الذي
هو بسيطة الحقيقة يتضمّن جميع مراتب الموجودات ولا يسلب عنه شيء منها وإنّما
المسلوب عنه ماهيّات الأشياء التي هي نقائص وقصورات.
والدليل عليه أنّه لو كان فاقد المرتبة من مراتب كمال الموجود المطلق لا
بدّ أن يكون له قوّة ذلك الكمال فيكون قابلا له ؛ إذ لو لم يكن قابلا له لكان ذلك إمّا لأجل أنّه
نقص له ؛ فلا يكون ما / B ١٣٤ / فرض كمالا
للموجود المطلق كمالا له ؛ هذا خلف ؛ وإمّا لأجل أنّ هذه الحقيقة البسيطة ليس من
شأنها وزيّها أن يقارن إلى ذلك الكمال ويتّصف به ، بل المتّصف به ما هو أعظم شأنا
وأجلّ قدرا منها في مراتب الوجود ، كما أنّ الجماد ليس له قوّة العلم وليس قابلا
له وليس من شأنه أن
__________________
يتّصف به ؛ إذ القابل
له والمتّصف به ما هو أعلى رتبة منه في مراتب الوجود ؛ وكذا الإنسان ليس قابلا
للاتّصاف بوجوب الوجود لما ذكر ؛ وعلى هذا فيكون المتّصف بذلك الكمال أعلى رتبة
ممّا فرض بسيط الحقيقة ؛ فيكون هذا المتّصف أولى بأن يكون بسيط الحقيقة ؛ فما فرض
بسيط الحقيقة لا يكون في الحقيقة بسيط الحقيقة.
فظهر أنّ بسيط
الحقيقة إذا كان فاقدا لكمال يكون له قوّة ذلك الكمال ؛ ولا ريب في أنّ له فعلية
بعض الكمالات أيضا ؛ فيجتمع فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب ؛ فلا يكون
بسيط الحقيقة.
وبما ذكر ظهر أنّ
فقده بعض النقائص ومسلوبيتها عنه لا يوجب التركيب ؛ لأنّه لا يقتضي جهة زائدة على
الذات ؛ فإنّ منشأ سلب النقائص والقصورات ومصداقه إنّما هو بحت ذاته الذي هو صرف
الفعلية ؛ فإنّ البسيط الذي هو محض الفعل من كلّ جهة يصلح بحت ذاته بذاته أن يكون
منشأ ومصداقا لسلب كلّ نقص وصفة غير كمالية من دون الافتقار إلى جهة زائدة على
ذاته وحيثية مغايرة لهويّته ، بخلاف سلب صفة كمالية ؛ فإنّ ذاته من حيث فعليته لا
يمكن أن يكون منشأ ومصداقا لسلبها ؛ فلا بدّ أن تكون فيه جهة عدمية زائدة على ذاته
حتّى يكون منشأ ومصداقا لسلب هذه الصفة الكمالية ؛ وغير خفيّ بأنّ العلم الإجمالي
بالمعنى الأوّل مع حمله على ظاهره ـ أعني نفس التمكّن والقوّة ـ يرجع في الحقيقة
إلى نفي العلم بالأشياء عنه تعالى قبل إيجادها ؛ إذ القوّة على العلم ليس علما ،
كما أنّ قوّة الكتابة ليست كتابة ؛ كيف والفرق بين المجمل والمفصّل / A ١٣٥ / بنحو الإدراك مع اتّحاد الحقيقة وحقيقة القوّة مغايرة
لحقيقة العلم ـ أعني الانكشاف ـ نعم إن اريد بالتمكّن ما به التمكّن ويقال : «إنّ
ذات الواجب بذاته مبدأ الانكشاف» فلا ضير فيه إلّا أنّه يرد عليه أنّه أىّ حاجة
إلى التوصيف بالإجمالي ؛ فإنّ الواجب بذاته علم حقيقي كمالي بالأشياء ؛ أي مبدأ
انكشافها ؛ والعلم الحقيقي بهذا المعنى ليس إجماليا
بالنسبة إلى
انكشاف الأشياء مفصّلة ؛ إذ المجمل والمفصّل متّحدان ذاتا ؛ وذات الواجب ليس مجمل
الانكشاف ، بل مبدئه وعلّته.
وبالجملة : لا بدّ على هذا أن يراد بالعلم الإجمالي بالأشياء مبدأ
انكشافها ؛ فلا يكون الإجمالي بمعناه الظاهر المتعارف ؛ وعلى أىّ تقدير يلزم عدم
كون الأشياء منكشفة له على التفصيل قبل إيجادها مع أنّ المقتضي له وهو أحد الوجهين
المذكورين موجود.
وأمّا الإجمالي
بالمعنى الثاني فحاصله أنّ ذاته تعالى لمّا كان مبدأ للأشياء بأسرها ومشتملا على
كمالاتها نظرا إلى ما تقدّم من أنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء فصحّ
أنّ يقال بضرب من التجوّز إنّه مجمل الكلّ ومعقول بسيط بمعنى أنّ تعقّله بمنزلة
تعقّل الكلّ ؛ ولا ريب في أنّ ذلك إطلاق مجازي ولا يرجع حاصله إلّا إلى ما ذكرناه
من أنّ ذاته علم حقيقي بمعني أنّه مبدأ الانكشاف ؛ ولا يلزم منه إيجاب انكشافه
لانكشاف الأشياء ؛ غاية الأمر نظرا إلى المقدّمة المذكورة إيجابه لانكشاف كمالاتها
وعلى وجه الإجمال والاندماج ؛ فلا يعلم به الماهيّات بوجه ؛ وعلى أىّ تقدير يلزم
عدم انكشاف الوجودات والماهيّات على التفصيل وقد عرفت وجود المقتضي له.
[٥.] ومنهم من
اقتصر على الحضوري أيضا وصحّحه بأنّ مجرّد حضور العلّة يكفي لحضور جميع المعلولات
وانكشافها على التفصيل وإن لم يوجد في الخارج ؛ إذ المعلولات لوازم ذات العلّة
ورشحات وجوده ؛ فكأنّها مندمجة فيه اندماجا مقدّسا عن شوائب التكثّر والتركّب ؛
وهذا الاندماج يصحّح انكشافها التفصيلي وإن لم يوجد / B ١٣٥ / بعد في الخارج ؛ وضعف ذلك بعد الإحاطة بما ذكرناه ظاهر.
__________________
[٦.] ومنهم من ذهب
إلى أنّ ذاته تعالى كما هو مظهر جميع أسمائه وصفاته كذلك هو مرآة لانكشاف الأشياء
بأسرها عليه تعالى ومجلى يرى به وفيه صور الموجودات برمّتها من غير حلول واتّحاد ؛
إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود يغاير وجود صاحبه والاتّحاد يستدعي
ثبوت أمرين يشتركان معنى في وجود واحد ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات وهنا
ليس كذلك ، بل ذاته بمنزلة مرآة يرى فيها صور الموجودات بأسرها وليس وجود المرآة
وجود ما يتراءى فيها أصلا.
والتوضيح : أنّ ما يظهر في المرآة ويتراءى من الصور ليست هي بعينها
الأشخاص الخارجية كما ذهب إليه الرياضيّون القائلون بخروج الشعاع ؛ ولا هي صور
منطبعة فيها كما اختاره الطبيعيّون ؛ ولا هي من موجودات عالم المثال كما زعمه
الإشراقيّون ، بل هذه الصور موجودات لا بالذات بل بالعرض وبتبعية وجود الأشخاص
المقترنة بجسم مشفّ وسطح صقيل على شرائط مخصوصة ؛ فوجودها في الخارج وجود الحكاية
بما هي حكاية وكذلك وجود الماهيّات والطبائع الكلّية في الخارج ؛ فالكلّي الطبيعي
ـ أي الماهيّة من حيث هي ـ موجودة بالعرض ؛ لأنّه حكاية الوجود وليس معدوما مطلقا كما عليه المتكلّمون ولا موجودا
أصيلا كما ذهب إليه الحكماء ، بل له وجود ظلّي تبعي.
وأنت تعلم أنّ
محصّل هذا الوجه أنّ الأشياء لمّا كانت لوازم ذاته وتوابع وجوده فهي كالأظلال
والعكوس له ؛ فهو كمرآة حاكية لها وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ الصور الظاهرة في
المرآة إنّما هي توابع الأشخاص الخارجة عن المرآة وإن كانت المرآة حاكية لها.
فالمتبوع والحاكي هنا متغايران ؛ وأمّا الأشياء التابعة للواجب الظاهرة منه فهي مع
كونه تعالى حاكيا لها تابعة له أيضا في الوجود لكونه
__________________
علّة لها.
فالمتبوع والحاكي هنا متّحدان.
وبالجملة : لمّا كانت الأشياء بمنزلة العكوس / A ١٣٦ / والأظلال له وهو يحاكيها دائما ولا ينفكّ عنه تعالى
وإنّما تأخّرها عنه مجرّد التأخّر الذاتي ؛ فتكون منكشفة عنده دائما ويكون العلم
به تعالى أيضا مستلزما للعلم بها ؛ إذ العلم بالملزوم والمتبوع يستلزم العلم
باللازم والتابع ؛ وهذا على فرض تسليمه إنّما يوجب انكشاف المبدعات والمعلولات
القريبة لديه والمطلوب إثبات كون الحوادث قبل وجودها منكشفة لديه.
[في قدرته تعالى]
من صفاته الكمالية
القدرة ؛ ولا ريب ولا خلاف بين العقلاء في ثبوتها له تعالى وإنّما الخلاف في أنّ
حقيقة القدرة الثابتة له تعالى ما ذا؟ فنقول : القدرة يطلق على معان أربعة :
[الأوّل :] صدور الفعل عن الفاعل بالعلم والإرادة والمشيّة ؛ وأنّه
يستحيل انفكاكه عنه ولو بالنظر إلى الذات ؛ وبتقرير آخر : كون
ذاته بذاته بحيث يصدر عنه الفعل على وفق العلم والإرادة ؛ والقدرة بهذا التقرير في
الحقيقة هي الصفة الكمالية وبالتقرير الأوّل ـ أعني نفس الصدور ـ صفة إضافية
مترتّبة عليه ؛ والإيجاب المقابل للقدرة بهذا المعنى كون الفاعل بحيث يصدر عنه
الفعل بلا علم وإرادة كالطبائع ويقال له الإيجاب الطباعي.
[الثاني :] إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى ذات الفاعل من حيث هو
فاعل وإن وجب صدور الفعل بالنظر إلى الداعي ؛ فالإمكان هنا مجرّد الإمكان الذاتي
دون الوقوعي ؛ والإيجاب المقابل له هو امتناع الترك من الفاعل لذاته لا
__________________
لأجل الداعي.
[الثالث :] إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في وقت وإن وجب في
وقت آخر. فالإمكان هنا إمكان وقوعي ولكنّه في وقت وإن كان وقتا موهوما لا في جميع
الأوقات.
[الرابع :] إمكان الفعل والترك بالنظر إلى الداعي في جميع الأوقات ولو
في آن الحدوث ؛ فالإمكان هنا إمكان وقوعي في جميع الأوقات ؛ والإيجاب المقابل له
هو امتناع الترك من / B ١٣٦ / جهة لزوم
الداعي ونحوه من شرائط التأثير في وقت من الأوقات ؛ ويعبّر عنه بالإيجاب الخاصّ.
وإذ عرفت ذلك فاعلم أنّ القدرة بالمعنى الأخير ممّا تفرّد بإثباته الأشاعرة
ونفاه الفلاسفة والمعتزلة جميعا إلّا أنّ المعتزلة لقولهم بالحدوث الزماني ووقوع
الترك في زمان موهوم غير متناه لعدم وجود الداعي فيه قالوا بالإيجاب الخاصّ
المقابل له ؛ أعني امتناع الترك في وقت وجود الداعي وهو وقت حدوث العالم ؛
والفلاسفة لقولهم بالحدوث الذاتي وعدم وقوع الترك في وقت من الأوقات قالوا
بالإيجاب المطلق ؛ أعني امتناع الترك في جميع الأوقات لأزلية الداعي.
ثمّ الأشاعرة
إنّما أثبتوا القدرة بهذا المعنى للواجب تعالى لنفيهم الإيجاب مطلقا وتجويزهم
الترجيح بلا مرجّح ؛ فقالوا : أوجد الله تعالى العالم في الوقت الذي أراد في الأزل
أن يوجده فيه بدون مرجّح سوى تعلّق الإرادة ؛ وبالإرادة لا يجب الفعل ، بل كان له
أن لا يوجد العالم ؛ لأنّه لا يسأل عمّا يفعل ؛ ولا ريب في بطلان ما ذهبوا إليه ؛
لأنّ الفعل ما لم يجب لم يوجد ؛ واختيار الفاعل المختار أحد الطرفين بمجرّد
الإرادة من دون مرجّح ظاهر البطلان ؛ فالحقّ انتفاء القدرة بهذا المعنى عنه تعالى.
وأمّا القدرة
بالمعنى الثالث ـ أي إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى
الداعي في بعض
الأوقات وإن وجب الصدور في وقت آخر ـ ممّا أثبته المعتزلة للواجب تعالى ؛ فإنّهم
لمّا قالوا بحدوث العالم ومسبوقيته بالعدم الزماني قالوا : إنّ صدوره في الوقت
الذي وجد وجب بالنظر إلى الداعي وأمّا قبله ـ أعني في زمان عدمه ـ كان كلّ من
صدوره ولا صدوره بالنظر إلى الداعي ممكنا ؛ والفلاسفة لقولهم بقدم العالم وعدم الانفكاك بينه وبين الواجب تعالى أنكروا ثبوت
القدرة بهذا المعنى للواجب تعالى وقالوا بالإيجاب المقابل لها ـ أعني امتناع الترك
بالنظر إلى الداعي في جميع الأوقات ـ وأوردوا على المعتزلة / A ١٣٧ / بأنّ ثبوت القدرة بمعنى إمكان الفعل والترك بالنظر إلى
الداعي في زمان عدم العالم لا معنى له ؛ إذ ظاهر أنّ في زمان الترك لم يوجد داعي
الفعل ؛ فمع عدمه يكون الترك واجبا ؛ كما أنّه مع وجوده يكون الفعل واجبا كما
اعترفتم به ؛ فلا يثبت في زمان الترك بالنظر إلى الداعي القدرة المفسّرة بالإمكان.
وبالجملة : اللازم على [ما] ذكروه بالنظر إلى الداعي وجوب الترك في وقت
ووجوب الفعل في وقت آخر ؛ فأين القدرة بالمعنى المذكور؟
وعلى أىّ تقدير
إنّ القائل بأحد الحدوثين ـ أعني الزماني أو الدهري ـ وبمسبوقية العالم بالعدم
الزماني أو الواقعي لا بدّ أن يعتقد القدرة بهذا المعنى ؛ إذ مع انتفائها لا يكون
العالم مسبوقا بعدم حتّى يتحقّق فيه ترك العالم أو إمكان الترك والفعل.
وأمّا القدرة
بالمعنى الثاني ـ أعني إمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات وإن وجب الصدور
بالنظر إلى الداعي ـ فقد صرّح بعضهم باتّفاق المثبتين والفلاسفة على ثبوتها للواجب
سبحانه ونفي الإيجاب المقابل لها عنه تعالى.
وفيه أنّ الفلاسفة مصرّحون بامتناع ترك صدور النظام الكلّي عن
الواجب
__________________
بالنظر إلى
الإرادة التي عين الذات ؛ فعدم الصدور عندهم ممتنع بالنظر إلى الذات ؛ فكيف يكون
الصدور واللاصدور ممكنا عندهم بالنظر إلى ذاته تعالى؟!
فإن قيل : المراد من القدرة بهذا المعنى هو الإمكان بالنظر إلى الذات
مع قطع النظر عن الإرادة لا معها أيضا.
قلنا : لمّا كانت الإرادة في الواجب عين الذات ، فقطع النظر عنها
هو بعينه قطع النظر عن الذات.
والحاصل : أنّ الإرادة سواء فسّرت بعلمه تعالى بالوجه الأصلح ـ كما
اختاره المحقّق الطوسي والمعتزلة ـ أو بنفس علمه بنظام الخير ـ كما ذهب إليه
المشّاءون ـ أو بنفس علمه بذاته ـ كما نسب إلى الاشراقيّين ـ أو بما يلزم علمه
بذاته وبالنظام الصادر عنه من الرضاء والابتهاج والحبّ والعشق وأمثال ذلك هي عين
ذاته عندهم ؛ بمعنى أنّ ذاته بذاته / B ٧٣١
/ فرد من الإرادة التي هي أحد الامور المذكورة قائم بنفسه وهو العلم أو الابتهاج
الحقيقي الكمالي ومنشأ بنفس ذاته لانتزاع مفهومهما الإضافي.
فالصدور لو وجب
بالنظر إلى الذات أيضا ؛ إذ حيثية الذات هي بعينها حيثية علمه وقدرته وإرادته ، بل
حيثية جميع صفاته الكمالية ، كما أنّ حيثية قيّوميته و علّيته هي بعينها حيثية جميع صفاته الإضافية كما تقدّم.
وعلى هذا فإذا وجب
صدور العالم بالإرادة التي هي نفس الذات ؛ فيكون صدوره أيضا واجبا بالنظر إلى
الذات ؛ فنسبة القول بإمكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات إلى الحكماء غير
صحيح ؛ وأيضا جمهور الحكماء مصرّحون بأنّ الواجب تعالى علّة مستقلّة لإيجاد العالم
وفاعل تامّ الفاعلية وترتّب الفعل على الفاعل التامّ المستقلّ واجب ؛ فلا يعقل
نسبة إمكانه إليهم ؛ فإنّ القدرة فينا لمّا كانت
__________________
من الكيفيات
النفسانية ومصحّحة للفعل وتركه وقوّة على الشيء وضدّه وتعلّقها بالطرفين على
السواء ؛ فلا يكون فينا تامّة ؛ إذ مبادئ أفعالنا الاختيارية كالتصديق بترتّب
الفائدة والشوق والإجماع المسمّى بالإرادة والكراهة تكون واردة علينا من خارج ؛
فجميع ما يكون لنا من إدراك عقلي أو ظنّي أو تخيّلي وشوق ومشيّة وإرادة وحركة يكون
بالقوّة لا بالفعل ؛ والقدرة فينا هي بعينها القوّة ؛ وأمّا في الواجب فهى الفعل
فقط ؛ إذ ليس له جهة إمكانية ؛ فلا يعقل تفسيرها بالإمكان.
وأيضا : أنّهم قاطعون بأنّ فعل الواجب الحقّ منزّه عن غرض وغاية
زائدة على ذاته ، بل ذاته كما هو فاعل الكلّ فهو غايته أيضا ؛ بمعنى أنّه فعل
وأفاض ؛ لأنّه مبدأ الإفاضة ؛ وهذه المبدئية صفة كمالية له لا يمكن أن يتخلّف عنه
لا لأنّه يصير بتلك الإفاضة فيّاضا.
وبالجملة : أنّه تعالى أوجد لاقتضاء صفة كمالية هي عين ذاته ذلك لا لأن
يكتسب بذلك صفة كمالية لم تكن له حاصلة قبل ذلك ؛ ولا ريب في أنّ الصدور لو لم / A ١٣٨ / يجب بالنظر إلى ذاته ، بل كان كلّ من الصدور واللاصدور
ممكنا بالنظر إلى الذات لاحتاج في اختيار الصدور على اللاصدور إلى مرجّح زائد على
ذاته عائدا إلى ذاته أو إلى غيره ؛ وعلى التقديرين يكون فعله معلّلا بغرض أو غاية
زائدة على ذاته ؛ فيلزم استكماله بهذا الغرض ؛ إذ الفاعل العالم المتمكّن من الفعل
أو الترك إذا اختار أحد الطرفين لو لم يكن معانيا لا بدّ أن يكون هذا الاختيار
لأجل مرجّح إمّا نفع عائد إليه من كسب محمدة أو دفع مضرّة ؛ أو إلى غيره ؛ وإيصال
النفع إلى الغير إذا لم يكن باقتضاء الجود الذاتي فلا بدّ أن يكون للفاعل فيه غرض
يرجع إلى ذاته أيضا وكلّ فاعل لغرض يكون مستكملا بذلك الغرض ؛ إذ لو لم يكن ذلك
كمالا له ومع ذلك فعله كان عبثا.
فظهر أنّ القدرة
على رأي القائلين بعينية الإرادة للذات وبكونه تعالى تامّ
القدرة والقوّة ،
متقدّسا عن شوائب العجز والقصور ، متنزّها عن لواحق النقص والفتور ، هو المعنى
الأوّل الذي اتّفق الكلّ من الحكماء والملّيّين على ثبوته للواجب تعالى ؛ وهو كونه
تعالى بحيث يصدر عنه الفعل بالعلم والمشيّة ؛ وهذا ينطبق على رأي كلّ واحد من
القائلين بعينية الإرادة التي هي الداعي إلى الفعل.
والدليل على ثبوته للواجب هو أنّ بعد ثبوت استناد العالم إليه وكونه عالما بذاته
وبالأشياء يثبت القدرة بهذا المعنى ـ أي المعنى الأوّل ـ ولا مجال لتطرّق الشبهة
فيه.
وأمّا التعريف
للقدرة الخاصّ بكون الإرادة هي العلم بالأصلح ؛ فالإيجاد يترتّب عليه على نحو ما
تعلّق به ولذلك قالوا بحدوث العالم لاعتقادهم أنّ الوجه الأصلح هو كون العالم
حادثا بالحدوث الزماني.
وأمّا التعريف
الخاصّ بكونها نفس العلم بالنظام الأوفق فهو كونه تعالى بحيث يتبع فعله علمه بنظام
الخير ؛ وعلى هذا يكون العالم حادثا بالحدوث الذاتي ؛ إذ المنشأ لإيجاد العالم إذا
كان / B ١٣٨ / مجرّد هذا
العلم فلا بدّ أن يترتّب عليه ويكون تأخّره عنه بمجرّد التأخّر الذاتي.
وأمّا الخاصّ
بكونها نفس العلم بالذات ؛ فهو كونه تعالى بحيث يتبع فعله علمه بذاته ؛ فإنّ
الإشراقيّين المنكرين للعلم الحصولي بالأشياء لم يجعلوا العلّة الباعثة للإيجاد هو
العلم العقلي الحصولي ، بل قالوا : إنّ الباعث لإيجادها منكشفة بالعلم الحضوري الإشراقي هو علمه بنفس ذاته ؛ فالإرادة
عندهم مجرّد هذا العلم.
وأمّا على جعل
الإرادة ما يلزم العلم بالذات بنظام الخير من الابتهاج والرضاء والحبّ والعشق
وأمثالها ممّا يتضمّن معنى ما يعبّر عنه في الفارسية نحو «استن» ؛ فتعريفها هو
كونه تعالى بحيث يتبع فعله رضاه أو ابتهاجه بذاته وفعله.
__________________
ثمّ جمهور
المتكلّمين على أنّه تعالى فاعل بالقصد وجعلوا الإرادة هي القصد ؛ وردّ عليهم
باستلزامه التكثّر والتجسّم ؛ ويأتي تحقيق الحقّ في حقيقة إرادته سبحانه.
فظهر أنّ قدرته
تعالى عند الحكماء هو كونه تعالى بحيث يصدر الفعل بالعلم والإرادة من دون التخلّف
؛ وبتقرير آخر : كونه بحيث يتبع فعله علمه أو ترتّب فعله على علمه وأمثال ذلك ؛
فنسبة إمكان الصدور واللاصدور إليهم غير صحيح ، لتصريحهم بوجوب الصدور ؛ والأدلّة
المذكورة يساعدهم ؛ وليس على وجوب اتّصافه بإمكان الصدور واللاصدور دليل قاطع
يطمئنّ به النفس.
وما قيل : «إنّ
هذا الإمكان صفة كمالية ؛ إذ المتمكّن من الترك بالنظر إلى ذاته أقوى من غير
المتمكّن ؛ فانتفاؤه عنه نقص له» ضعيف ؛ إذ بعد ثبوت أنّ كون ذاته
بذاته مبدأ لإيجاد العالم صفة كمالية له وعدم مبدئيته له نقص يلزم وجوب ترتّب
الصدور على ذاته ؛ إذ إمكانه يرفع مبدئيته التامّة التي هي الصفة الكمالية ، بل
يوجب كون صفة كمالية له تعالى بالقوّة لا بالفعل مع أنّه تعالى منزّه عن شوائب
القوّة والإمكان ، وجميع الصفات الكمالية حاصلة له بالفعل وبالوجوب.
وليت شعري أيّ فرق
بين العلم بمعنى انكشاف الأشياء عليه تعالى وبين القدرة بمعنى صدورها / A ١٣٩ / عنه تعالى ؛ فإنّه كما يجب انكشافها عنده وليس في وجوبه
نقص له تعالى ، بل النقص في إمكانه ، فكذلك لا يلزم نقص في وجوب صدورها عنه ، بل
النقص في إمكانه.
نعم لمّا كان
اللازم من وجوبه الحدوث الذاتي للعالم وهو يستلزم عدم تناهي العالم من جانب الأزل
وادّعى جماعة إجماع الملّيّين على تناهية لا بدّ من القول بمسبوقيته من القدم
الزماني كما عليه المتكلّمون أو الواقعي كما اختاره جماعة
__________________
من أهل الديانة ؛
وحينئذ لا بدّ أن يفسّر القدرة بما كان ملزوما للحدوث بأن يقال : هي كونه تعالى
بحيث يصدر عنه العالم بالعلم والمشيّة في الوقت الذي يمكن صدوره فيه من دون تخلّف
؛ وبتقرير آخر : هو كونه بحيث يتبع فعله علمه في الوقت الذي يصلح للتبعية وأمثال
ذلك.
[في عموم قدرته تعالى]
اتّفق الفلاسفة
والملّيّون على عموم قدرته سبحانه وهذا العنوان وإن كان مجمعا عليه إلّا أنّه وقع
التنازع في المقصود منه :
فقيل : المراد منه أنّ قدرته تعالى شاملة لجميع الممكنات الموجودة
؛ أي جميع الموجودات مستندة إلى إرادته وقدرته بلا واسطة غيره.
وقيل : المراد به أنّ جميع الموجودات مستندة إلى قدرته سواء كان
بلا واسطة أو بواسطة.
وقيل : المراد به أنّ ما هو ممكن بالإمكان الذاتي مقدور له تعالى ؛
أي أنّه تعالى يقدر على إيجاده بلا واسطة أو بواسطة ؛ فجميع الممكنات الموجودة مستندة
إليه تعالى بلا واسطة أو بواسطة ؛ وجميع الممكنات المعدومة ـ أي ما هو ممكن في
حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر سواء وجد في وقت أو لم يوجد أصلا لأجل مصلحة ـ مقدور
له تعالى بواسطة أو بدونها ويمكن له تعالى أن يوجده بالنظر إلى ذاته وإن لم يمكن
بالنظر إلى أمر خارج من مصلحة راجعة إلى النظام الكلّي.
وقيل : المراد به أنّه تعالى يقدر على إيجاد كلّ ممكن ذاتي موجود
أو معدوم بلا واسطة غيره بالنظر إلى ذاته ، مثلا يقدر على إيجاد حركة / B ١٣٩ / زيد بلا واسطة زيد وعلى إيجاد ممكن ذاتي لم يوجد ولا
يوجد قطّ كذلك ؛ فالممكنات
الموجودة بأسرها واقعة بقدرته تعالى بلا واسطة غيره والممكنات
المعدومة مقدورة له بلا واسطة أيضا.
والظاهر : أنّ الاحتمالين الأوّلين غير مقصودين لأحد من العنوان
المذكور لثبوتهما بعد إثبات التوحيد وحدوث العالم بأىّ معنى كان ، بل يثبت أحدهما
بمجرّد أدلّة إثبات الصانع ؛ فلا حاجة إلى تجشّم استدلال آخر مع أنّهم ذكروا
لإثبات هذا العنوان أدلّة على حدة.
والاحتمال الآخر
هو مقصود الأشاعرة من العنوان المذكور ؛ لأنّهم قالوا : المراد منه أنّ ما سوى
الذات والصفات من الموجودات واقعة بقدرته وإرادته ابتداءً بلا واسطة غيره ؛ وكلّ
ممكن الوجود بذاته يمكن صدوره عنه بحيث لا يجب عليه شيء ولا يمتنع عليه شيء. نعم
عادة الله جارية بإيجاد بعض دون بعض ؛ وضعف ذلك من حيث نفي التوسّط وحديث جريان
العادة الموجب للترجيح بلا مرجّح لا يخفى على أحد.
والاحتمال الثالث
ممّا نسب إلى المحقّقين من الكلاميّين والحكماء ؛ لأنّهم قالوا : إنّه تعالى من
حيث ذاته وقدرته الكاملة قادر على إيجاد كلّ ممكن ذاتي لكنّ إرادته وعنايته
متعلّقة بتامّ الكائنات على الوجه الأكمل الأصلح بحال الكلّ ؛ والقوابل مستعدّة
بحسب مشيّته لقبول بعض أنحاء الوجودات دون بعض ؛ فكلّ ما يدخل من الممكنات في
الوجود قائما هو على وفق مشيّته وعنايته وملاحظته لنظام الخير إمّا بالذات
كالخيرات أو بالعرض كالشرور ؛ وجميعها مستند إليه تعالى ولا يدخل في الوجود شيء
إلّا وهو معلول قدرته وإن كانت بوسائط وأسباب راجعة إليه وليس شيء من تلك الوسائط
مضادّا له في حكمه ولا منازعا له في سلطانه وكلّ ما لا يدخل في الوجود من
الممكنات قائما هو أيضا لأجل
__________________
عنايته وعلى وفق
مشيّته وملاحظته / A ١٤٠ / لنظام الخير
ولكنّها مقدورة له تعالى بالنظر إلى ذاته وقدرته بلا توسّط وبتوسّط بعض أسباب
وشروط راجعة إليه ؛ فهو قادر على إيجاد ما لم يوجد ولن يوجد من الممكنات من حيث
ذاته إلّا أنّ عدم إيجاده لأجل العناية وملاحظة نظام الخير كما يقولون في ساير
التخصيصات الواقعة في النظام الكلّي.
وقد استدلّوا على
عموم القدرة بهذا المعنى ـ أي على قدرته على إيجاد الممكنات المعدومة بالنظر إلى
ذاته ـ بأنّ علّة المقدورية ـ أعني الإمكان ـ عامّة مشتركة بين جميع
الممكنات الموجودة والمعدومة ؛ فيكون جميعها مقدورة له تعالى.
ولا يخفى : أنّ هذا الاحتمال الثالث الذي هو أرجح الاحتمالات لعموم القدرة ينسب إلى أهل التحقيق من الحكماء والمتكلّمين.
وحاصله : أنّ معنى عمومية القدرة هو أنّه كما أنّ جميع الممكنات
الموجودة مقدورة له وقد وجدت بأسرها بقدرته سبحانه بلا واسطة أو بواسطة فكذلك جميع
الممكنات المعدومة ؛ أي كلّ ما هو ممكن بالنظر إلى ذاته وإن امتنع بسبب غيره مقدورة
له تعالى بواسطة أو بدونها بالنظر إلى ذاته تعالى وإن لم يوجد بالنظر إلى العناية
ومصلحة راجعة إلى نظام الخير ؛ وأنت تعلم أنّ العناية بمعنى العلم بنظام الخير
والعلم به أو مصلحة راجعة إليه هو عين الذات أو راجع إلى حيثية الذات بمعنى أنّ
الذات بذاته منشأ ومبدأ له وما يصدر أو لا يصدر لأجل مقتضى الذات يكون واجب الصدور
أو اللاصدور بالنظر إلى الذات ؛ فلا معنى لإمكان صدوره ومقدوريته
بالنظر إلى الذات.
والحاصل : أنّ كلّ ما وجد كان واجب الصدور بالنظر إلى الإرادة الراجعة
إلى حيثية الذات وكلّ ما لم يوجد كان ممتنع الصدور بالنظر إلى عدم الإرادة الراجعة
__________________
إلى الذات أيضا ؛
إذ الذات التي ليست له صفة بالقوّة وجميع صفاته فعلية إذا لم يصدر عنه شيء يكون
عدم الصدور لعدم اقتضائه / B ١٤٠ / الراجع إلى
حيثية الذات ؛ كيف وكلّ ما تعلّقت به الإرادة التي هي العلم الناشئ عن مجرّد الذات
بذاته صار واجب الصدور بالنظر إلى الذات ؛ وتوهّم الإمكان في صدوره بالنظر إليه
باطل ؛ إذ كما أنّ الإرادة التي هي نفس العلم واجبة الصدور بالنظر إلى الذات وإلّا
لا بدّ لمرجّح لوجوبه ولا يعقل مرجّح غير الذات لحصول علّة الفعلي وكذلك ما يترتّب
عليها من صدور الأشياء على الوجوب واجب الصدور بالنظر إلى الذات ؛ إذ كما أنّ
إرادة وجوده ما لم يوجد أصلا كانت ممتنعة بالنظر إلى الذات ولا معنى لإمكانها ؛ إذ
معه لا بدّ لمرجّح يرجّح عدمها ـ أي عدم حصول الفعلي للذات ـ وهذا باطل سواء كان
هذا المرجّح أمرا وجوديا وهو ظاهر أو عدميا ـ أعني عدم علّة الوجود ـ وهو أيضا
باطل ؛ لأنّ ذلك يرفع كون الواجب بذاته علّة لعلمه الفعلي كذلك وجود ما لم يوجد
لعدم الإرادة ممتنع بالنظر إلى الذات أيضا.
وبالجملة : ما لا يوجد أصلا ليس له علّة الوجود وعلّة الوجود هو الواجب
تعالى إمّا بواسطة أو بدونها ؛ فإذا لم يكن لشيء علّة الوجود تكون علّيته مفقودة
عن الواجب ولا تكون له بالنظر إلى ذاته علّية له ؛ فكيف يمكن أن يكون مقدورا له
بالنظر إلى ذاته؟!
وإن شئت بيان ذلك بوجه أوضح نقول : لا ريب في أنّه على قاعدة الإمكان الأشرف الموروثة من
القدماء لا يوجد ممكن أخسّ إلّا وقد وجد ما يتصوّر من الممكن الأشرف قبله بمعنى
أنّ ما يصدر عن الواجب أوّلا هو ما لا يتصوّر أقرب إليه منه ولا يعقل في الممكنات
أشرف منه بحيث لا يمكن أن يتصوّر بينهما في المرتبة شيء يكون واسطة بينهما بأن
يكون أخسّ من الواجب وأشرف من الصادر الأوّل وكذا الحال في ما يصدر عن الصادر
الأوّل بالنسبة إليه وفي ما
يصدر عن الصادر
الثاني بالنظر إليه وعن الثالث بالقياس إليه وهكذا إلى آخر السلسلة الطولية / A ١٤١ / الذي يبلغ من ضعف الوجود والقرب من العدم حدّا لا
يمكن أن يكون واسطة لصدور شيء أصلا.
[١.] ففي السلسلة
الطولية كلّ ما كان ممكنا قد وجد وما لم يوجد لم يكن ممكنا حتّى يتصوّر مقدوريته
بالنظر إلى الذات.
[٢.] وأمّا في
السلاسل العرضية وإن تصوّرت فيها ممكنات ذاتية لم توجد إلّا أنّ ترتّب السببي
والمسبّبي الذي هو مقتضى العناية الناشية عن بحت الذات الإلهية اقتضى وقوع تلك
السلاسل على النحو الواقع ؛ إذ الممكن من جهات التكثّر الموجبة لتكثّر المعلولات
في السلاسل العرضية إنّما هو ما حصل في الواقع وما لم يحصل من المعلولات الممكنة
فيها لم توجد له علّة مقتضية لوجوده وعدم العلّة مستند إلى العناية الناشية عن
مجرّد الذات ؛ فأمثال هذه الممكنات ليس للواجب تعالى علّية بالنسبة إليها لا بلا
واسطة ولا بواسطة ؛ فلا معنى لمقدوريتها بالنظر إلى ذاته تعالى ؛ وأمّا التخصّصات
الواقعة في الممكنات الموجودة من خصوصية القدر والكمّ والكيف والوضع وأمثالها دون
غيرها مع إمكانه الذاتي إنّما هو مستند إلى العناية أيضا أو إلى وجوداتها الخاصّة
نظرا إلى أنّ استناد أمثال المذكورات إلى وجودات الأشياء بعد تحقّقها ممكن بخلاف
استناد أصل وجوداتها.
فعلى الأوّل ـ أي كون التخصّصات المذكورة مستندة إلى العناية الناشية عن
محض الذات ـ لا يكون غيرها كأن يكون قطر الفلك الأعظم أضعاف الواقع وجرم أحد
النيّرين أو بعض الكواكب أعظم أو أصغر من الواقع وغير ذلك بالنظر إلى الذات كما
ظهر وجهه.
وعلى الثاني وإن أمكن أن يقال بإمكان غيرها بالنظر إلى الذات واستناد ما
هو الواقع إلى نحو الوجود واقتضاء خصوصية الوجودات إلّا أنّ أصل الوجودات
الخاصّة لمّا كان
صدورها بمقتضى العناية الراجعة إلى الذات والكلّ يرجع إليه في الحقيقة ؛ فلا يبقى
إمكان مقدورية الغير بالنظر إلى ذاته تعالى.
وقد ظهر أنّ
الممكنات / B ١٤١ / المعدومة لا يعقل ولا يتصوّر في
السلسلة الطولية حتّى يمكن أن يكون مقدورة له تعالى بالنظر إلى ذاته ويتصوّر في
السلاسل العرضية واللواحق العرضية من القدر والكيف والوضع وغير ذلك إلّا أنّها
لعدم تعلّق العناية لحصولها وعدم علّية من جانب المبدأ لوجودها لا يمكن أن يكون
متعلّق القدرة ولو بالنظر إلى الذات.
ثمّ لا أدري أنّ
مجرّد إمكان الصدور بالنظر إلى الذات مع امتناع الصدور لأجل الغير أيّ كمال للذات
الإلهية حتّى يكون عدمه نقصا له تعالى؟!
ثمّ إنّ هذا الغير
الذي منع الصدور هل هو غير واقع بعنايته الذاتية ومشيّته الأزلية الراجعة إلى ذاته
أو واقع بها؟! والأوّل كفر صريح والثاني يوجب اقتضاء الذات بذاته عدم صدوره ؛ فكيف يكون
صدوره ممكنا بالنظر إلى الذات؟!
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ شيئا من الاحتمالات الأربعة لعموم القدرة ممّا لا وقع له.
والتحقيق عندي أنّ المراد بعمومية القدرة هو أنّ صدور جميع ما تقتضي صدوره
في السلسلة الطولية قاعدة الإمكان الأشرف من صدور الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهى إلى
ما لا يتصوّر أخسّ منه في الوجود ـ كالهيولى الأولى ـ تعلّقت به القدرة وخرج من
العدم إلى الوجود ؛ ولم يبق بين موجودين متّصلين في هذه السلسلة فرجة يمكن أن
يتخلّل فيها ممكن آخر يكون أخسّ من الأوّل وأشرف من الثاني ، بل وقع بين أجزاء هذه
السلسلة اتّصال في قرب كلّ لاحق إلى سابقة في الشرافة والكمال بحيث لا يتصوّر معه
أن يقع بين جزءين منها ممكن آخر يكون مغايرا بنحو من المغايرة لسائر أجزائها ؛ فلا
يتصوّر في الممكنات
__________________
ممكن أشرف وأقرب
إلى المبدأ الأوّل من الصادر الأوّل ثمّ الثاني ثمّ الثالث وهكذا إلى الانتهاء ؛
فالصادر الأوّل متّصل بصرف الوجود وآخر الصوادر متّصل بصرف العدم وكذا صدور كلّ ما
يقتضي صدوره في السلاسل / A ١٤٢ / العرضية من
قضية ترتيب الصدور ، وترتّب السببي والمسبّبي ؛ وجهات التكثّر الواقعة في العلل
العرضية من تكثّر الأنواع والأفراد والعوارض والآثار وغير ذلك قد تعلّقت به القدرة
وأخرج من العدم إلى الوجود ولم يبق شيء يمكن أن يوجد بالنظر إلى جهات التكثّر
وحصول علّته ولا يوجد ، بل كلّ ما كان ممكن الوجود بالنظر إلى ترتيب الصدور
المستند إلى العناية الإلهية تعلّقت به القدرة وصار موجودا ؛ وكلّ ما لم يوجد لم
يكن ممكن الصدور بالنظر إلى الترتيب وملاحظة العلل والأسباب وإن كان ممكنا بالنظر
إلى ذاته ومفهومه.
فالمراد من عموم
القدرة في السلسلة الطولية هو أنّ جميع ما كان ممكنا في تلك السلسلة بالنظر إلى
ذاته صار موجودا ومتعلّقا للقدرة الكاملة ؛ وفي السلاسل العرضية هو أنّ جميع ما
كان ممكنا بالنظر إلى العلل والأسباب صار متعلّق القدرة وموجودا ؛ ولم يخرج شيء من
الممكنات الذاتية في الأولى والممكنات بالنظر إلى العلل والأسباب في الثانية عن تناول القدرة ؛ وما لم تتعلّق به القدرة إمّا
لم يكن ممكنا بالنظر إلى ذاته وذات العلّة أو لم يكن ممكنا بالنظر إلى ذات العلّة
؛ فلا يبقى شيء يكون ممكنا بالنظر إلى ذات العلّة ولا يكون موجودا متعلّقا للقدرة.
فإن قلت : ما أنكرته هو بعينه أحد الاحتمالين الأوّلين اللذين قلت
إنّهما يثبتان بثبوت التوحيد وحدوث العالم ؛ إذ حاصل ما قرّرته واخترته هو أنّ
جميع الموجودات الواقعة في السلاسل الطولية والعرضية تعلّقت به القدرة الإلهية
بأحد
__________________
الوجهين وخرج من
الوجود إلى العدم ؛ وهذا هو أحد الاحتمالين ، بل هو القدر المشترك بين الاحتمالات
الأربعة.
قلت : البون بينهما ظاهر لا يخفى ؛ والفرق بينهما من الثرى إلى
الثريّا ؛ فإنّ مبنى الاحتمالين الأوّلين على استناد جميع الممكنات / B ١٤٢ / الموجودة إلى القدرة الإلهية بأحد الوجهين لا أن يكون
بعضها مستندا إلى قدرة اخرى بالاستقلال مع تجويز تصوّر بعض الممكنات
الذاتية والغيرية في السلاسل الطولية والعرضية ؛ ومبنى ما ذكرناه على تعلّق القدرة
بإيجاد كلّ ممكن ذاتي وغيري فيها وصدور الجميع بالقدرة الكاملة وعدم خروج شيء منها
عن تعلّقها.
[في إرادته تعالى]
ومن صفاته
الكمالية الإرادة ؛ وقد اتّفق الملّيّون والحكماء على كونه تعالى مريدا وغير خفيّ أنّ إيجاد العالم منه
تعالى إنّما يتحقّق بإرادته تعالى ؛ فإرادته ما يصير سببا للإيجاد.
وهي عند المشّائين
من الحكماء عبارة عن العلم بنظام الخير ؛ لأنّهم قالوا : إنّ العلم الحصولي العقلي
بالأشياء هو سبب إيجادها.
وعند الإشراقيّين
منهم هي العلم بنفس ذاته المقدّسة ؛ لأنّهم لمّا أنكروا العلم الحصولي وجعلوا علم
الواجب منحصرا في الحضوري قالوا : علمه تعالى بنفس ذاته هو الباعث لإيجاد الأشياء
منكشفة لديه.
وعند جماعة
كالمحقّق الطوسي وجمهور المعتزلة هو العلم بالأصلح ؛ لأنّهم قالوا : إنّه الباعث
لإيجاد الأشياء في الوقت الذي وجد فيه.
وعند المتكلّمين
هو القصد بمعناه الظاهر.
__________________
وظاهر كلام جماعة
من الحكماء أنّ الإرادة ما يلزم العلم بالذات وبنظام الخير من الابتهاج والرضاء
والحبّ وأمثال ذلك ممّا يتضمّن معنى المعبّر عنه بالفارسية ب «خواستن» ولا يخفى
أنّ القدرة فينا هو التمكّن من الفعل ؛ والمشيّة هو القصد أو الميل إلى الفعل أو
الترك بحسب المصلحة أو المفسدة بحيث يحتملها جميعا ؛ والاختيار إيثار أحد الطرفين
وترجيحه وتعيّن الميل إليه بحسب المصلحة ؛ والإرادة تعلّق القصد بعنوان العزم
والجزم إلى أحد الطرفين اللذين اختاره ومال إليه.
وبعبارة اخرى : هي شوق متأكّد يحصل عقيب داع هو تصوّر الملائم تصوّرا علميا
أو ظنّيا أو تخيّليا موجبا لتحريك الأعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الملائم.
وعلى / A ١٤٣ / ما ذكر فالمشيّة بعد تعيين أحد الطرفين يصير اختيارا
والاختيار بعد العزم والجزم يصير إرادة. فالمختار من ينظر في أحد الطرفين ويميل
إليه والمريد هو الناظر العازم إلى الطرف الذي مال إليه. فالاختيار متوسّط بين
المشيّة والإرادة ؛ لأنّ الفاعل شاء أوّلا ثمّ يرجّح أحد الطرفين ثمّ يعزم عليه. فالمشيّة
إذا عزمت يصير إرادة ؛ والتفرقة بين هذه الامور وكونها على النحو المذكور ـ كما
أشرنا إليه ـ إنّما هو بالنسبة إلينا ؛ فإنّها متغايرة فينا مفهوما ومصداقا
ومغايرة للعلم الذي هو انكشاف الامور الخارجة عن نفوسنا أو الصور المرتسمة فيها ؛
فلبراءته عن النقص والكثرة وكونه تامّا فوق التمام لا تكون هذه الامور فيه متغايرة
، بل حقيقة الجميع ومصداقها أمر واحد شخصي هو مجرّد الذات بذاته. نعم يتغاير بمجرّد
المفهوم. فالذات من حيث مبدئيته لانكشاف الأشياء علم ومن حيث تمكّنه من صدورها
بالوجوب ـ أي من حيث ترتّب صدورها عليه وتابعيتها له ـ قدرة ومن حيث منشئيته
للرجحان المطلق مشيّة ومن حيث مبدئيته لرجحان خصوصية أحد الطرفين اختيار ومن حيث
منشئيته لتبعيته ولزومه إرادة.
فذاته بذاته منشأ
ومبدأ لهذه الامور وانتزاعها عن غير مدخلية شيء آخر ومبدئيته لكلّ منها في ضمن
فاعليته التامّة ومبدئيته المطلقة وقيّوميّته الحقّة للكلّ ؛ فإنّ مبدئيته للجميع
وصدور الكلّ منه بالوجوب يندرج فيه مبدئيته للرجحان المطلق ورجحان أحد الطرفين
وإيجابه. فمنشأ انتزاع هذه المفهومات وغيرها صرف الذات بذاته ؛ وأمّا فينا فلهذه
الامور مبادئ مختلفة متعدّدة بعددها ، حادثة في نفوسنا ؛ إذ مبدأ الرجحان المطلق
قصد وميل ضعيف يحدث فينا ؛ وهو المراد بالمشيّة ؛ ومبدأ رجحان أحد الطرفين ميل
أقوى من الأوّل يحدث ؛ وهو المراد بالاختيار ؛ ومبدأ إيجابه ميل قويّ و/ B ١٤٣ / قصد مؤكّد ؛ وهو المراد بالإرادة.
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ المعنى الحقيقي الكمالي للإرادة كغيرها من صفاته تعالى هو مجرّد الذات بذاته
ولها معنى إضافي مترتّب على الحقيقي ـ أعني الذات ـ وهو الذي يترتّب عليه الفعل بلا
واسطة ويصير الصدور لأجله واجبا ؛ فإنّك قد عرفت أنّ الإرادة ما يتبعه الفعل
ويلزمه وذات الواجب سبحانه بذاته وإن كان مبدأ الكلّ ومصدره ويترتّب الجميع عليه
إلّا أنّ ذلك مسبوق بعلمه تعالى بذاته وبما يصدر عنه. فوجوب الصدور إنّما هو بعد
العلم أو ما يلزمه ويليق بالواجب تعالى من الرضاء أو البهجة أو الحبّ أو أمثال ذلك
ممّا يتضمّن ما يعبّر عنه في الفارسية ب «خواستن».
فالإشراقيّون
المتكثّرون للعلم الحصولي القائلون بأنّه تعالى فاعل بالرضاء بمعنى أنّ إيجاده في
العالم لا يتوقّف على علم فعلي حصولي ، بل بمجرّد علمه بذاته تصدر عنه الأشياء
منكشفة لديه ، قالوا : إنّ إرادته هو علمه بذاته لترتيب الصدور عليه من دون توقّفه
على شيء آخر.
والمشّاءون
القائلون بأنّ فاعليته للصور المرتسمة في ذاته بالرضاء لصدورها عنه بمجرّد علمه
بذاته من دون توقّفها على صور اخرى وللأشياء الخارجية
بالعناية ؛ بمعنى
أنّ العناية التي هي العلم الحصولي الفعلي بنظام الخير هو السبب لصدور الأشياء
الخارجية ، قالوا : إنّ إرادته هي علمه بذاته وعلمه بنظام الخير ؛ لأنّهما سببا
صدور الصور العلمية والأشياء العينية.
والقائلون بالحدوث
الزماني لمّا التزموا بالانفكاك بين الواجب والعالم لم يمكنهم أن يجعلوا مجرّد العلم
بالذات أو به وبالنظام الجملي علّة الإيجاد وإلّا لم يقع الانفكاك ، [و] قالوا :
الإرادة التي هي باعث الإيجاد هو العلم بالأصلح ؛ وقد تعلّق في الأوّل بإيجاد
العالم في الوقت الذي وجد.
ثمّ ظاهر كلام بعض
/ A ١٤٤ / الحكماء وصريح
جماعة من المتكلّمين أنّ الإرادة لمّا كانت صفة يترتّب عليها الفعل ونحن نرى ونعلم
أنّ مجرّد العلم لا يصير سببا لذلك ؛ فلا بدّ أن يتبع العلم ويلزمه معنى آخر
يتضمّن ما يعبّر عنه في الفارسية ب «خواستن» وهو حقيقة الإرادة دون ملزومه الذي هو
العلم.
فقال الأوّلون : هو ما يلزم علمه بذاته وبمعلولاته من الرضاء والابتهاج أو
الحبّ أو العشق أو أمثال ذلك ممّا يتضمّن المعنى المعبّر عنه ب «خواستن» ولكن على
وجه متقدّس عن التغيّر والانفعال والاستكمال بالغير ؛ وبالجملة على وجه يليق بجناب
قدسه.
وقال الآخرون : هو القصد الخاصّ الباعث للفعل بمعناه المعروف الذي تفهمه من
ظاهر لفظ الإرادة والمشيّة.
ولا يخفى أنّ القائل بالقصد إن أراد به القصد الحادث في وقت الإيجاد ففساده ظاهر بأىّ معنى أخذ ؛
إذ لا يكون الواجب محلّا للحوادث ؛ وإن أراد به القصد اللازم للعلم بالأصلح في الأزل المترتّب عليه بمعنى
أنّه بعد علمه الأزلي بالأصلح ؛ أعني بإيجاد العالم على النحو الواقع في الوقت
الذي حدث وتعلّق
__________________
قصده في الأزل
أيضا بإيجاده في الوقت الذي وجد وإن أراد بالعلم بالأصلح والقصد ما يوجب الاستكمال
والتكثّر ففساده ظاهر ؛ وإن أراد بهما ما يلزم الذات من العلم بنظام الخير وأطلق عليه الأصلح
لكونه في الواقع خيرا أو أفضل ما يتصوّر من النظام وممّا يلزم هذا العلم من الرضاء
أو الابتهاج أو نحوه إلّا أنّه التزام تخلّل العدم الواقعي بين الواجب والعالم
نظرا إلى إجماع الملّيّين فبان تحقيقه.
وبذلك يظهر جليّة
الحال في قول من جعل الإرادة مجرّد العلم بالأصلح من دون التزام معنى آخر هو
القصد.
والتحقيق في هذا المقام أنّ الذات ـ كما تقدّم ـ هو غير الإرادة بمعناها الحقيقي
بمعنى أنّ ما هو الحقيقة والكمال من الإرادة هو ذاته بذاته ؛ فهو العلم الحقيقي
والابتهاج الحقيقي ؛ فمصداق هذه الثلاثة وحقيقتها أمر واحد / B ١٤٤ / هو الذات. ثمّ يلزم الذات معنى إضافي هو انكشاف الذات
وصور الأشياء الخارجية عنده والابتهاج بالذات ومعلولاته ؛ إذ أشدّ علم بأشدّ معلوم
يوجب أشدّ الابتهاج ؛ والانكشاف والابتهاج بهذا المعنى لكونهما إضافيّين فهما
مفهومان متغايران وإن اتّحدا في الحقيقة والمصداق ؛ وكلّ منهما يطلق عليه الإرادة
بالمعنى الإضافي ؛ فالإرادة لمّا كانت ما يصدر لأجله الفعل وصدور العالم إنّما هو
عن ذات هو حقيقة العلم والإرادة والابتهاج وغيرها من صفاته الكمالية وتنتزع عنه
إرادة إضافية هى العلم الإضافي الانكشافي والابتهاج الإضافي اللائق بجناب قدسه ؛
أي ما لا يوجب انفعالا وتغيّرا في ذاته وهما لازمان للذات متقدّمان على الإيجاد ؛
فيصحّ إطلاق الإرادة عليهما واستناد الإيجاد إلى كلّ من الثلاثة ـ أعني الذات
والعلم والابتهاج الإضافيّين ـ باعتبارات ؛ فإنّ الذات من حيث إنّه علم الكلّ في
الحقيقة والجميع رشحات فيضه وجوده هو الإرادة بمعناها الحقيقي وما
__________________
يلزمه أوّلا ـ أعني
العلم الإضافي الانكشافي بذاته وبالصور المرتسمة في ذاته ـ لمّا كان متقدّما على
الإيجاد فهو متوقّف عليه ؛ فيصحّ إطلاق الإرادة عليه بهذا الاعتبار وكذا الحال في
ما يلزم هذا العلم من الابتهاج الإضافي.
ولا تظنّن أنّ
ابتهاجه بما يصدر عنه وجه له يوجب استكماله بغيره والتفات العالي إلى السافل ؛ لأنّه
لمّا علم ذاته الذي هو أجلّ الأشياء بأجلّ علم يكون مبتهجا به أشدّ الابتهاج ومن
ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عنه من أجل أنّه يصدر عنه ؛ فالواجب يريد الأشياء
لا لأجل ذواتها من حيث ذواتها ، بل لأجل أنّها صدرت عن ذاته.
قالوا : إنّه لهذا المعنى في الإيجاد نفس ذاته تعالى وكلّ ما كان
فاعليته لشيء على هذا السبيل لا يكون فاعلا وغاية معا لهذا الشيء.
وما قيل : «إنّ
العالي لا يريد السافل ولا يلتفت إليه في فعله وإلّا كان / A
١٤٥ / مستكملا به ، لكون وجوده أولى له من عدمه والعلّة لا
يستكمل بالمعلول» لا ينافي ما ذكرناه ؛ إذ المراد من الإرادة والالتفات المنفيّين
عن العالي بالقياس إلى السافل هو ما يكون بالذات لا بالعرض ؛ فلو أحبّ الواجب
معلوله وابتهج به وأراده لأجل كونه أثرا من آثار وجوده ورشحا من رشحات فيضه وجوده
لا يلزم أن يكون وجوده له خيرا وبهجة ، بل بهجته إنّما هي بما هو محبوب بالذات وهو
ذاته الذي كلّ كمال وجمال رشح من كماله وجماله ؛ فلا يلزم من حبّه وإرادته له
استكماله بغيره ؛ لأنّ المحبوب والمراد بالحقيقة نفس ذاته ، كما أنّك لو أحببت
إنسانا فتحبّ آثاره من حيث إنّها آثارها لا من حيث ذواتها لكان محبوبك في الحقيقة
ذلك الإنسان لا تلك الآثار.
وبما ذكرناه صرّح الشيخ في المبدأ
والمعاد حيث قال في بيان إرادته : «هذه الموجودات كلّها صادرة عن ذاته ومن مقتضى ذاته ؛ فهى غير متنافية له
ولأنّه
تعشق ذاته ؛ فهذه
الأشياء كلّها مرادة لأجل ذاته ؛ فكونها مرادة له ليس لأجل غرض ، بل لأجل ذاته
ولأنّها مقتضى ذاته ، مثلا لو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما صدر عن شيء على هذه
الصفة فهو غير مناف لذلك الفاعل وكلّ فعل يصدر عن فاعل وهو غير مناف له ؛ فهو
مراده.
فإذن الأشياء
كلّها مرادة للواجب تعالى وهو المراد الخالي عن الغرض ؛ لأنّ الغرض في رضاه بصدور
تلك الأشياء عنه أنّه مقتضى ذاته المعشوقة ؛ فيكون رضاه بتلك الأشياء لأجل ذاته ؛
فيكون الغاية في فعل ذاته ؛ ومثال هذا إذا أحببت شيئا لأجل إنسان كان المحبوب
بالحقيقة ذلك الإنسان ؛ فالمعشوق المطلق هو ذاته ؛ ومثال الإرادة فينا إنّا نريد
شيئا فنشتاقه لأنّا محتاجون إليه ؛ وواجب الوجود يريده على الوجه الذي ذكرناه
ولكنّه لا يشتاق إليه ؛ لأنّه غنيّ عنه ؛ فالغرض لا يكون إلّا مع الشوق ؛ فإنّه
يقال : لم طلب هذا؟ / B ١٤٥ / فيقال : لأنّه
اشتاقه ؛ وحيث لا يكون الشوق لا يكون الغرض» انتهى.
وقال في التعليقات : «ولو أنّ إنسانا
عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود ثمّ كان ينظّم الامور التي بعده على مثاله
حتّى كانت الامور على غاية النظام لكان غرضه بالحقيقة واجب الوجود بذاته الذي هو
الكمال ؛ فإن كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل [فهو] أيضا الغاية والغرض.»
[في أنّه تعالى ليس له غرض في أفعاله غير نفس ذاته]
لمّا ظهر أنّ علمه
بالنظام الأوفق هو الداعي لصدور الأشياء عنه على وجه الخير والصلاح وهو عين ذاته ؛
فيكون الداعي عين ذاته ؛ فهو الفاعل والغاية في الإيجاد معا بمعنى أنّه كما هو
العلّة الفاعلية للإيجاد فهو الغاية له أيضا ؛ أي ذاته بذاته
__________________
اقتضى إفاضة
الموجودات وترشّحها منه ؛ ففعل الله تعالى معلّل بالغاية إلّا أنّ الغاية نفس
ذاته. فما ذهب إليه الحكماء من أنّ أفعال الله تعالى غير معلّلة بالغرض إنّما
أرادوا به غاية هي غير نفس ذاته من كرامة أو محمدة أو لذّة أو إيصال نفع إلى ذاته
أو غيره أو غير ذلك ممّا يترتّب على الفعل ؛ لأنّ الغرض بهذا المعنى يوجب استكمال
الفاعل به والله تعالى متقدّس عن ذلك ، بل الحقّ أنّ كلّ فاعل يفعل ليس له غرض حقّ
في ما دونه ولا قصد صادق لأجل معلوله ؛ لأنّ ما يكون لأجله قصد يكون ذلك المقصود
أعلى من القصد بالضرورة ؛ فلو كان إلى معلول قصد صادق غير مظنون لكان القصد معطيا
لوجود ما هو أكمل منه وهو محال ؛ وما يرى من وقوع القصد كثيرا إلى ما هو أحسن من
القاصد وقصده فإنّما هو على سبيل الغلط والخفاء والجزاف وإلّا عند التحقيق
والإتقان وصدق القصد والغرض الحقّ يكون الغرض والمقصود أكمل من القاصد.
فإن قيل : لو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف
يحصل منه الوجود على غاية من الإتقان ونهاية من التدبير والإحكام ؛ ولا يمكن لأحد
أن ينكر الآثار العجيبة والأفعال الدقيقة الحاصلة في العالم من تكوّن الأشياء على
وجه تترتّب عليه الحكم والمصالح ، كما يظهر من التدبير في الآيات الآفاقية
والأنفسية / A ١٤٦ / ومنافعها التي
ظاهرة لكلّ ذي عين ظاهرة فضلا عن ذي عين باطنة ، كوجود الحاسّة للإحساس ومقدّم
الدماغ للتخيّل ووسطه للتفكّر ومؤخّره للتذكّر والحنجرة للقوت والخيشوم لاستنشاق الهواء والأسنان للمضغ والرية للتنفّس وغير ذلك من المصالح
المودعة في بدن الإنسان والمنافع المشتملة عليه حركات الأفلاك وأوضاع مناطقها
ومنافع النيّرين وساير الكواكب ممّا لا تفي بذكره الألسنة والدفاتر؟!
__________________
قلنا : ما ذكرت من وجود المنافع والمصالح في الآفاق والأنفس ممّا
نعلمه ولا نعلم كثيرا ، بل ما لا نعلمه أكثر ممّا نعلمه ؛ بل المحقّق الخبير يعلم أنّ الحكم
والمصالح المودعة في العالم الكبير والصغير ممّا لا يحصى كثرة ولا يتناهى عدّة
وشدّة ولكنّ ذلك لا يوجب أن تكون لفعله تعالى علّة غائية خارجة عنه ؛ لأنّ ذاته تعالى لا يحصل منها الأشياء إلّا على أتمّ ما
ينبغي وأبلغ ما يتصوّر من المنافع والمصالح ؛ لأنّ ذاته منبع الخيرات ومنشأ الكمالات ؛ فيصدر منه كلّ ما يصدر على أقصى
ما يتصوّر في حقّه من الخير والكمال والرتبة والجمال سواء كان ضروريا له كوجود العقل للإنسان والنبيّ للامّة أو غير ضروري كإنبات الشّعر
على الأشفار والحاجبين وتقعير الأخمصين من القدمين ، بل نقول : عناية كلّ علّة لما
يعدّها سبيله ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ هذا السبيل من أنّها لا يجوز أن يعمل عملا
لأجل معلولها ولا أن يستكمل بها دونها. اللهمّ! إلّا بالعرض لا بالذات ولا أن يقصد
فعله لأجل المعلول وإن كان يعلمه ويرضى به.
وبالجملة : إثبات الغرض في فعله لا يوافق القواعد العقلية إلّا أنّ
الظواهر الشرعية تدلّ عليه ؛ وعلى هذا فاللازم اتّباعها والتزام أنّ الغاية في فعل
الواجب إذا كان مصلحة الغير ونفعه لا يوجب الاستكمال وإن لم يكن كذلك في أفعالنا.
ثمّ إنّ الواجب
تعالى كما هو غاية للأشياء بالمعنى المذكور كذلك هو غاية بمعنى أنّ جميع الأشياء
لكونها طالبة / B ١٤٦ / للكمال وهو
كمال الأتمّ والتامّ فوق التمام يطلب التشبّه به والوصول إليه بحسب ما يتصوّر في
حقّها ويمكن في طبائعها ؛ فلكلّ منها شوق وعشق إراديا كان أو طبيعيا ؛ ولذا حكم
الإلهيّون بسريان العشق والشعور في جميع الموجودات على تفاوت درجاتهم واختلاف
__________________
طبقاتهم (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ويحسّ شوقا إليها ويجتهد ويسعى في الوصول لديها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) .
فالواجب سبحانه
أوّل الأوائل من جهة وجوده وذاته وكونه علّة فاعلية لجميع ما سواه وعلّة غائية
لإيجاد الكلّ ، وآخر الأواخر من جهة كونه غاية أخيرة يقصده الأشياء ويتشوّق إليه
إرادة وطبعا ويتحرّك ويسعى في التشبّه به والوصول إليه بقدر الإمكان والمتصوّر في
حقّ كلّ منها ؛ لأنّه الوجود الحقّ والخير المطلق والكمال التامّ وفوق التمام والمعشوق
الحقيقي والمقصود الأصلي ؛ فمصحّح الاعتبار الأوّل ذاته بذاته ومصحّح الثاني صدور
الأشياء عنه على وجه يلزمها عشق يقتضي حفظ كمالاتها الأوّلية والشوق إلى تحصيل ما
فقد عنها من الكمالات الثانوية لتشبه بمبدئها بقدر الإمكان.
[في حياته تعالى]
اتّفق الكلّ على
أنّه سبحانه حيّ وقد تواتر من شرايع الأنبياء إطلاق الحياة عليه تعالى وهي في
الحيوان صفة تقتضي الحسّ والحركة الإرادية. فالحياة بهذا المعنى يتمّ بإدراك هو
الإحساس وفعل هو التحريك منبعثين عن قوّتين مختلفتين ؛ ولا ريب في تنزيهه تعالى عن
الحياة بهذا المعنى ؛ ولا يمكن أيضا أن تكون حياته صفة زائدة عن ذاته توجب العلم
والقدرة ، كما ذهب إليه الأشاعرة.
فالحقّ ـ كما ذهب إليه الحكماء وبعض المعتزلة ـ أنّ حياته تعالى
كونه بحيث يصدر عنه العلم والفعل. فالحيّ هو الدرّاك الفعّال بمعنى أنّ ذاته بذاته
مبدأ ومنشأ للدرك والفعل ؛ فإنّه لا ريب في أنّ الحياة مبدأ للأفعال والآثار الصادرة عن الحيّ
__________________
من العلم والقدرة
والحسّ والحركة ؛ وهذا المبدأ في الحيوان صفة زائدة على ذاته وأمّا في الواجب فنفس
ذاته ؛ إذ ذاته بذاته يعلم ويفعل ؛ وبالجملة حياته كسائر صفاته الكمالية / A ١٤٧ / ينقسم إلى :
[١.] حياة حقيقية
؛ أي ما يكون الواجب باعتباره حيّا ؛ أعني فعّالا درّاكا ، وبعبارة اخرى : ما يكون
منشأ ومبدأ لانتزاع مفهوم الحياة ؛ أي مفهوم الدرّاكية والفعّالية ؛ وهي عين ذاته
وصرف وجوده الحقّ.
[٢.] وإضافية
منتزعة عن الأولى ؛ وهي مفهوم الحياة ؛ أعني الدرّاكية والفعّالية.
[في سمع الواجب وبصره]
أجمع الملّيّون
على أنّ الباري سبحانه سميع بصير ؛ وقد ثبت ذلك بالتواتر والضرورة من دين نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبالجملة : لا خلاف في ذلك بين المسلمين من المتكلّمين والحكماء وإنّما
الخلاف في تعيين المراد من سمعه وبصره تعالى ؛ فالحصوليّون النافون للعلم الحضوري
أرجعوهما إلى العلم الحصولي الكلّي بالمسموعات والمبصرات ؛ فقالوا : المراد بكونه
سميعا بصيرا أنّه عالم بالمسموعات والمبصرات على الوجه الكلّي المستفاد من العلل
والأسباب الكلّية كعلمه بسائر الأشياء ؛ والقائلون بالعلم الحضوري الجزئي أرجعوهما
إلى نفس علمه الإشراقي الجزئي بالمسموعات ـ أعني الحروف والأصوات ـ والمبصرات ـ أعني
الأجسام والأضواء والألوان ـ وهو مختار بعض أشياخنا الإمامية وشيخ الأشاعرة إلّا
أنّه قائل بكونهما زائدين على الذات ؛ وغيره ممّن ذكر قائل بأنّهما نفس الذات ؛
فالذات من حيث
__________________
هو مدرك بذاته
للمبصرات بصر ومن حيث هو مدرك للمسموعات بذاته سمع.
والحاصل : أنّ المعنى الحقيقي من السمع والبصر نفس ذاته بذاته وهو
منشأ لانتزاع المعنى الإضافي عنهما ؛ أعني مفهوم علمه الإشراقي الشهودي بالمسموعات
والمبصرات.
والزيادة عند
الأشعري والعينية عند غيره مبنيّ على أخذ كلّ منهما في مطلق العلم ، بل ساير الصفات.
وذهب أكثر
المتكلّمين إلى أنّهما صفتان زائدتان على العلم مغايرتان له وهما الإدراكان
الخاصّان البديهيّان المعبّر عنهما في العربية ب «الرؤية» و «الاستماع» وفي
الفارسية ب «ديدن» و «شنيدن» وليس قولهم هذا مبنيّا على اعتقادهم التجسّم ومباشرة
الأجسام ، بل على اعتقادهم على أنّ الإحساس في حقّه تعالى يحصل بلا آلة لبراءته عن
القصور ؛ فإنّهم قالوا : احتياجنا في الإحساس إلى الآلة / B ١٤٧ / لعجزنا وقصورنا ؛ وذات الباري تعالى لبراءته عن القصور
يحصل له بلا آلة ما لا يحصل لنا إلّا بها ؛ فتلك الأشياء التي ندركها نحن بالحواسّ الظاهرة والباطنة وبالقوى الجسمانية يدركها
الواجب أيضا بهذا الوجه الذي ندركها لكن لا بالآلات المذكورة ، لغنائه عنها واحتياجنا إليه
إنّما هو لقصورنا.
والحقّ رجوعهما إلى العلم الحضوري الجزئي بالمبصرات والمسموعات كما
هو المشهور بين مشايخنا الإمامية ، بل ادّعى بعضهم وفاق أصحابنا عليه وكلام العلّامة
الطوسي في شرح الرسالة صريح فيه وإن أمكن حمل عبارته في التجريد على مذهب المعتزلة
؛ وعلى هذا كما دلّت الشريعة النبوية والضرورة الدينية على ثبوتهما كذلك يدلّ
العقل أيضا عليه ؛ إذ كلّ دليل عقلي يدلّ على كونه عالما بالأشياء على الوجه
الجزئي يدلّ على كونه عالما بالمبصرات و
__________________
المسموعات كذلك ؛
وعلمه الحضوري الإشراقي وإن تعلّق بجميع المحسوسات من المشمومات والمذوقات
والملموسات إلّا أنّ الشرع منع من إطلاق الشامّ والذائق واللامس عليه سبحانه
وإنّما أجاز إطلاق مجرّد السميع والبصير عليه لكونهما ألطف الحواسّ وأقربها إلى العلم وإشعار غيرهما بالملاصقة والملامسة والتجسّم
وإرجاعهما إلى العلم الحصولي الكلّي قد ظهر فساده ممّا مرّ ، لخروج التشخّصات [و]
التخصّصات حينئذ من علمه ؛ وحملهما على حقيقتهما ـ أعني الإدراكين الحسّيين
المعروفين المعبّر عنهما بالإبصار والاستماع ـ يوجب النقص والقصور ، لتوقّفهما على
الآلة وتأثّر الحاسّة والمباشرة وحصول نوع من القرب والمقابلة وخروج الشعاع أو
الانطباع وغير ذلك ممّا هو من خواصّ الأجسام ؛ ولو لم يحمل على حقيقتهما وحملا على
إحساس منزّه عن الآلة والانفعال وغيرهما من شرائط الرؤية لم يبق له معنى سوى العلم
الحضوري الإشراقي ؛ إذ الإدراك على الوجه الجزئي مع كونه غير الإحساس بمعناه
المعروف البديهي ليس إلّا الانكشاف الشهودي.
وبالجملة : كونهما زائدين على نفس العلم بالمسموعات والمبصرات على
الوجه الجزئي لا يتصوّر إلّا بأن يكون إدراكهما / A ١٤٨ / بالإحساس ؛ إذ غيره في إدراكهما على الوجه الجزئي ليس
إلّا العلم بهما على الوجه الإشراقي الشهودي ؛ وحقيقة الإحساس لا يحصل إلّا بتأثير
الحاسّة وهو ممتنع في حقّه تعالى ؛ فلا يبقى لإدراكهما على الوجه الجزئي معني آخر
سوى العلم على الوجه الجزئي الإشراقي.
والمحصّل : أنّ المراد بهما إمّا الإحساس المخصوص أو العلم بالمبصرات
والمسموعات ؛ والأوّل لا يحصل إلّا بالآلة وتأثّر الحاسّة ولا يتصوّر ذلك في حقّه
سبحانه ؛ فتعيّن الثاني ؛ أعني علمه تعالى بهما على الوجه الجزئي الحضوري و
__________________
الانكشافي
الإشراقي الشهودي وهو لا ينافي التجرّد عن الموادّ والآلات وتدلّ على ثبوته له
تعالى الدلالة العقلية ؛ إذ تقرّر في ما سبق أنّه تعالى عالم بجميع الجزئيات على
الوجه الجزئي ومن جملتها المبصرات من الألوان والأضواء والأجسام والمسموعات من
الحروف والأصوات ؛ فيكون الواجب تعالى عالما بها علما إشراقيا حضوريا وينكشف لديه
انكشافا نوريا شهوديا بنفس ذاته التي به يظهر ويتنوّر كلّ شيء ؛ فذاته بهذا الوجه
سمعه وبصره ؛ وعدم وصفه بالشام والذائق واللامس مع تعلّق العلم الشهودي الحضوري
بالشمومات والمذوقات والملموسات على الوجه الجزئي كتعلّقه بالمبصرات والمسموعات
بلا تفاوت ، لعدم ورود هذه الألفاظ في الشريعة ، لإيهامها النقص والتجسّم.
وعمدة احتجاج
القائل بأنّ المراد بهما الإحساس المخصوص أنّ الشرع أطلق لفظي السمع والبصر عليه
تعالى وهما حقيقتان فيه ؛ وجوابه ظاهر.
وأنّ إدراك
المحسوسات من حيث إنّها محسوسات بالوجه الإحساسي يدخل فيه بعض خصوصياتها التي يخرج
منها لو لم يدرك بهذا الوجه وأدركت بالعلم الحضوري ؛ ولا ريب في أنّ الإدراك على
وجه يشمل على جميع الخصوصيات أكمل من الوجه الذي خرج بعضها ؛ ولمّا حكم العقل بأنّ
الواجب سبحانه علّة لجميع الأشياء بجميع خصوصياتها وأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم
بالمعلول ؛ فيحكم بأنّه يجب أن لا يخرج شيء من الخصوصيات عن علمه ؛ فيجزم بأنّه
تعالى يرى المبصرات بالنحو الإحساسي البديهي بلا آلة ويسمع المسموعات / B ١٤٨ / أيضا بهذا الوجه.
وفيه
أنّ العلم الحضوري
الذي للواجب تعالى لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات ؛ لأنّه أشدّ ظهورا وجلاء من جميع
الإدراكات سواء كان علما كلّيا حصوليا أو علما جزئيا حضوريا أو إحساسا بالحواسّ
الظاهرة والباطنة.
وبالجملة : علمه الحضوري بالمبصرات والمسموعات عين الظهور والانجلاء
بحيث لا يخرج عنه شيء من الخصوصيات الثابتة للإحساس سوى ما هو نقص من تأثّر
الحاسّة والانطباع أو خروج الشعاع والمباشرة وغير ذلك ؛ فلا حاجة إلى التزام
الإحساس بالنحو الثابت لنا مع اشتماله على النقص ؛ والقول بأنّ الإحساس الثابت له
تعالى هو إدراك المحسوسات بخصوصياتها المعيّنة بدون الآلات والمباشرة والتأثّر
والانفعال وغير ذلك ممّا يعتبر في الإحساسات الثابتة لنا لا يرجع إلى معنى محصّل
سوى العلم الحضوري.
فإن قيل : المعلوم بالعلم الحضوري مجرّد الوجود العيني أو الذهني
وبالإحساس يعلم الوجود مع الخصوصيات الزائدة على الوجود.
قلنا : الخصوصيات المعلومة بالإحساس ليست إلّا خصوصيات الوجود وهي
يعلم بالعلم الحضوري أيضا وما هو غير الوجود وخصوصياته ليست إلّا الحقائق
والماهيّات وهي امور كلّية لا يعلم بالحضوري ولا بالإحساس ، بل إنّما يعلم بالعلم
الحصولي ؛ والخصوصيات للماهيّات ليست إلّا خصوصيات وجوداتها ؛ إذ الماهيّات لا
تتخصّص إلّا بأنحاء وجوداتها. قال : ماهيّة كلّ محسوس من الجسم وعوارضه من الألوان
والأضواء والطعوم والروائح وغيرها من عوارضها مفهومات كلّية ولا تتشخّص إلّا
بأنحاء وجوداتها ولو ضمّ إلى جسم أعراض غير متناهية لا يتشخّص إلّا بملاحظة خصوصية
الوجود.
فإن قلت : المعلوم للنفس من بدنها بالعلم الحضوري مع قطع النظر عن
إدراكات قواها الظاهرة والباطنة ليس إلّا وجود جسم متعلّق به من غير علم لها
بأحواله وعوارضه من لونه وشكله و/ A ١٤٩ / ملاسته وخشونته
وحسنه وقبحه وطوله وقصره وغير ذلك من عوارضه ولواحقه ؛ ويظهر ذلك بأن يفرض تولّد
إنسان فاقد عن جميع الحواسّ الظاهرة بأن يتولّد أعمى وأصمّ فاقدا للشمّ و
الذوق واللمس
ويبقى على تلك الحالة حتّى يبلغ سنّ البلوغ ؛ فإنّه المعلوم لنفسه حينئذ من بدنها
مجرّد وجود شيء جزئي متعلّق بها من دون علم لها بشيء آخر من عوارضه المذكورة
والخصوصيات المعيّنة ؛ وأمّا لو كان لها حواسّ فيظهر لها بالإحساس مضافا إلى وجود
البدن جميع المذكورات ؛ فبمجرّد الإبصار يعلم مثلا كونه جسما أبيض طويلا أو قصيرا
حسنا أو قبيحا ذا نعومة أو خشونة إلى غير ذلك من عوارضه ولواحقه ؛ فبالإحساس يعلم
ما لا يعلم بالعلم الحضوري.
قلت : هذه مغالطة نشأت من عدم التدبّر في كيفية العلم الحضوري
للنفس وللواجب.
وبيان ذلك بوجه يرتفع به المغالطة
والاشتباه
أنّ النفس لقصورها
ونقصانها ومباينتها عن الأشياء وعدم وجود علاقة وربط مصحّح للحضور بينهما لا يمكن
لها أن يدرك بذاتها شيئا من الأشياء لا على الوجه الكلّي الحصولي ولا على الوجه
الجزئي الحضوري ؛ فأعطاها الله سبحانه بعلوّ قدرته ووفور رحمته قوّة نظرية تمكّنت
بها من انتزاع الحقائق والصور الكلّية عن الأشياء وتجريدها منها على نحو ترتسم نفس
تلك الحقائق والصور في لوح ذاتها وإن كانت تلك الأشياء مباينة عنها ولم يكن بينهما
علاقة وارتباط أصلا وبعد الانتقاش تصير امورا جزئية حاضرة للنفس لحصول علاقة
الحالّية والمحلّية وإن كانت بالنسبة إلى الأشياء الخارجية العينية كلّية وحينئذ
تكون تلك الحقائق والصور منكشفة مشاهدة للنفس بالعلم الحضوري ؛ فبهذا الوجه حصل له
العلم الكلّي الحصولي بالأشياء العينية من المادّيات والمجرّدات والجزئي الحضوري
بصورها المرتسمة في ذاتها ولم يتمكّن بمجرّد هذه القوّة من / B ١٤٩ / إدراك المعاني الجزئية والعلم الحضوري بالأشياء المادّية
والمجرّدة وعوارضها ولواحقها ؛ فأراد الله
__________________
تعالى بعميم لطفه
أن يكون لها العلم الحضوري الجزئي أيضا بالأشياء العينية من حيث إنّها عينية
والمعاني الجزئية بحسب الإمكان ؛ ولمّا لم يكن بينها وبين شيء من الأشياء ارتباط
يصحّح الحضور الموجب للانكشاف إلّا ما كان بينها وبين بدنها وقواه ؛ وما هو
المرتبط بها منه أيضا ليس البدن مع عوارضه الخاصّة ولواحقه المخصوصة ، بل البدن
المطلق الذي حقيقته الجسم الخاصّ مع أجزائه الأصلية التي لو فقد شيء منها لم يبق
حقيقة البدن ؛ وكذا الحال في قواه ؛ وأمّا ما يلحقه ويعرضه من الكيفيات والكمّيات
والأوضاع وغير ذلك ممّا هو خارج عن حقيقة البدن ؛ فليس ممّا يرتبط بها ويكون بينها
وبينه علاقة يصحّح الحضور.
فالنفس بالنظر إلى
مجرّد ذاتها وقوّتها النظرية إنّما يرتبط بها مجرّد البدن المطلق وقواه المطلقة ؛
فبالنظر إلى ذاتها وقوّتها النظرية ينحصر علمها الحضوري بهذا البدن وقواه وليس لها
علاقة الحضور بعوارض بدنه من اللون والهيئة والشكل والحسن والقبح والطول والقصر
والملاسة والخشونة وغير ذلك ولا بغيرها من الأشياء المباينة عنها وعن بدنها ؛ فخلق
الله تعالى لها بحسب استعدادها قوى اخرى سوى القوّة النظرية مرتبطة بها حاضرة
لديها وجعلها ؛ فيمكّنه من إدراك المعاني الجزئية والأشياء العينية الجزئية
وانتزاع صورها بشرائط مخصوصة عن الجواهر والأعراض اللاحقة لتلك الأشياء أو لبدنها
بحيث يرتسم في تلك القوى حتّى تكون هذه الصور المرتسمة مرتبطة أيضا بالنفس ، كما
أنّ محالّها ـ أعني تلك القوى ـ مرتبطة بها ؛ فتصير تلك الصور معلومة لها بالعلم
الحضوري ، كما أنّ محالّها أيضا كذلك ؛ فمن تلك القوى قوّة وهمية متمكّنة من
انتزاع المعاني الجزئية مرتسمة في ذاتها وبعد ارتسامها فيها يكون حاضرة عند النفس
فنشاهدها بالعلم الحضوري ؛ [و] قوّة باصرة متمكّنة من إدراك / A ١٥٠ /
المبصرات من
الألوان والأجسام والأضواء إمّا بالانطباع أو بخروج الشعاع ؛ وعلى التقديرين تصير
تلك الأجسام والألوان والأضواء المدركة بقوّة الباصرة حاضرة عند النفس بواساطتها ؛
[و] قوّة سامعة متمكّنة من إدراك الأصوات والحروف حتّى ترتسم فيها وتصير حاضرة عند
النفس ؛ وقوّة شامّة تدرك المشمومات ؛ وذائقة تدرك المذوقات ؛ ولامسة تدرك
الملموسات حتّى تصير تلك المدركات مرتسمة في تلك القوى وتصير حاضرة عند النفس.
ثمّ لمّا لم يكن
لتلك القوى أن يكون إدراكاتها دائمية ؛ إذ البصر قد ينظر إلى بعض الأشياء وقد لا
ينظر ، والسمع قد يسمع بعض المسموعات وقد لا يسمع ، وكذا الحال في ساير القوى ؛
وظاهر أنّها إذا لم يشتغل بإدراكاتها بالفعل لا يكون شيء من مدركاتها مرتسمة في
ذواتها حتّى يكون حاضرة عند النفس ؛ فخلق الله تعالى قوّة خيالية وجعلها خزانة لما
تدركه الحواسّ من الصور بأن جعل في تلك القوّة الخيالية قدرة تأخذ بها جميع ما
تدركها الحواسّ الظاهرة من الصور وبأن جعل في تلك القوّة الخيالية قدرة تأخذ بها
جميع ما تدركها الحواسّ الظاهرة من الصور وتحفظها وخلق قوّة حافظة وجعلها خزانة
للمعاني الجزئية ؛ فشأنها أن تأخذ كلّ ما تدركه الواهمة من المعاني الجزئية حتّى
تكون جميع الصور والمعاني الجزئية التي أدركتها الحواسّ الظاهرة والواهمة حاضرة
للنفس دائما مشاهدة لها بالعلم الحضوري ولا تكون عند عدم اشتغال القوى المدركة
بالإدراك جاهلة غير عاملة بشيء منها بالعلم الحضوري.
فحصل للنفس بتوسّط
تلك القوى العلم الحضوري بالمعاني الجزئية وجميع الأشياء العينية المادّية من
الجواهر والأعراض ؛ فتمكّنت من العلم بحقائق جميع الأشياء على الوجه الكلّي الحصولي
وبوجوداتها على الوجه الجزئي الحضوري
__________________
إلّا العلم
الحضوري بالجواهر المجرّدة من العقول والنفوس ؛ إذ ليس لها علاقة ذاتية بين النفس
وبينها حتّى يمكن لها أن تشاهدها بالحضور لذاتها ولا / B ١٥٠ / يمكن أن تشاهدها بقواها ؛ لأنّ قواها لقصورها ومادّتها
لا يمكن لها أن تدركها على وجه الارتسام حتّى تصير حاضرة للنفس بتوسّطها ؛ فخرج عن
علمها العلم الحضوري بالمجرّدات ـ أي العلم الحضوري الشهودي الإشراقي بوجوداتها ـ نعم
يمكن أن يبلغ بعض النفوس في التجرّد والقوّة حدّا يحصل لها ملكة الاتّصال بالعقول والنفوس الفلكية ويشاهدها
مشاهدة حضورية شهودية ومثل هذه النفس لا يخرج عن علمها شيء.
فظهر أنّ كلّ واحد
من الإحساسات والإدراكات الجزئية والحقيقية علم حضوري انكشافي للنفس إلّا أنّ حصول
هذا الظهور والانكشاف لها يتوقّف على أفعال مخصوصة لتلك القوى بأن يصير إلى حدّ من
القرب والبعد بالنسبة إلى الأشياء المدركة ويصل منها شيء إليها بالانطباع أو خروج
الشعاع مثلا ؛ وقس على ذلك ما في الشرائط المعتبرة في الإحساسات ؛ فبعد حصولها
يحصل للنفس علم إشراقي انكشافي بتلك الأشياء ؛ وهذا القسم من العلم الحضوري للنفس
يعبّر عنه بالإحساس لتوقّفه على أفعال وحركات لقوى حسّية جسمية ؛ فإذا حصل شرائط
الرؤية بين البصر وجسم خاصّ يحصل للنفس علم حضوري انكشافي بهذا الجسم يعبّر عنه
بالرؤية والإبصار ؛ وإذا فقدت تلك الشرائط زال هذا العلم عن النفس أيضا إلّا أنّ
القوّة الخيالية لمّا حفظت تلك الصورة المبصرة وارتسمت هذه الصورة فيها فيشاهد بعد
فقد الإحساس هذه الصورة في لوح الخيال ويطالعها مطالعة حضورية.
فظهر أنّ عدم علم
النفس بعوارض البدن مع قطع النظر عن قواها إنّما هو
__________________
لأجل أنّ المرتبط
المتعلّق بها إنّما هو البدن المطلق والعلم الحضوري بعوارضه يتوقّف على توسّط
القوى الحسّاسة ؛ وهذا العلم المتوقّف على توسّطها ـ أي أصل انكشاف هذه العوارض
وظهورها ـ ليس إلّا العلم الحضوري للنفس وإن توقّف حصول هذا الظهور والانكشاف على
أفعال للقوى وحصول شرائط بينها وبين تلك العوارض المدركة حتّى / A ١٥١ / ترتسم المحسوسات في تلك القوى فتشاهدها النفس
فيها.
وعلى هذا لا تكون
بين الإحساس والعلم الحضوري للنفس مغايرة حتّى يقال باشتمال الإحساس على زيادة لا
يوجد في العلم الحضوري.
ثمّ لو سلّم أنّ
الإحساس ليس علما حضوريا للنفس ، بل هو إدراك خاصّ لقوّة خاصّة ـ أي علم شهودي
انكشافي لتلك القوّة ـ نقول : لا ريب في أنّ ما يشتمل عليه إحساس البدن بالقوّة
الباصرة مثلا من الزيادة بالنسبة إلى العلم الحضوري للنفس به إنّما هو لوجود
العلاقة والارتباط للنفس بالنسبة إلى البدن المطلق دون عوارضه ولو كان لها ارتباط
بالنسبة إلى العوارض أيضا لكان علمه الحضوري بالبدن كالإحساس في التمامية والظهور
أو أقوى منه.
وعلى هذا نقول : إنّ بين الواجب وبين جميع الأشياء الخارجية من المجرّدات
والمادّيات من جواهرها وأعراضها ولواحقها ومتعلّقاتها ارتباط العلّية والمعلولية
، وهو أقوى الارتباطات والعلاقات ؛ فيكون علمه الحضوري بجميعها في التمامية
والظهور والجلاء أقوى من إحساسنا بمراتب ؛ فما يحصل للنفس من الإدراكات الحصولية
والحضورية بواسطة قواها النظرية والباطنة والظاهرة يحصل للواجب بذاته لذاته من دون
حاجة إلى شيء آخر لكمال قوّته وعلوّ قدرته ؛ فذاته عين العلم بالكلّ من الحقائق المجرّدة
والمادّية والوجودات
__________________
العينية من
المبصرات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات ؛ [و] هو المبدأ والمنشأ
للعلم الحصولي والحضوري بالكلّ ؛ وأمّا النفس فلقصورها ونقصانها وعدم ارتباطها
بالأشياء العينية يفتقر في العلم بالأشياء إلى قوى زائدة على ذاتها ؛ فيفتقر إلى
بعضها لإدراك الحقائق وإلى بعضها لإدراك المعاني الجزئية وإلى بعضها لإدراك وجودات
الأشياء العينية من المبصرات والمسموعات وغير ذلك هو المعبّر عنه بالإحساس ؛ وهذا
التفصيل والتوضيح في علم النفس يقرّر ويؤكّد ما قرّرناه من ثبوت العلمين ـ أعني
الحصولي والحضوري ـ كليهما للواجب ، كما أشرنا إليه في ما سبق. / B ١٥١ /
[في كلامه تعالى]
قد تواتر من
الأنبياء وأطبقت الشرائع كلّها على أنّه تعالى متكلّم ؛ إذ ما [من] شريعة إلّا ورد
فيها أنّه سبحانه أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ؛
وقد اختلفوا في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه على أقوال لا حاجة لنا إلى ذكرها ، بل
نشير إلى ما هو الحقّ عندنا.
فنقول : الكلام يطلق على ثلاثة معان :
أحدها : القدرة على إحداث الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وقوّة
إلقائها إلى الغير.
وثانيها : نفس هذا الإحداث والإلقاء ؛ وهو المعنى المصدري.
والغالب اختصاص
كلّ من هذين المعنيين باسم التكلّم دون الكلام سيّما المعنى الأوّل.
وثالثها : ما به التكلّم ؛ أي نفس الحروف والأصوات.
ثمّ لا ريب في أنّ
تكلّمه سبحانه بالمعنى الأوّل هو بعينه قدرته على خلق
الأصوات والحروف
في بعض الأجسام ؛ فكونه متكلّما بهذا المعنى هو كونه قادرا على إحداث الكلام في
جسم من الأجسام ، كما أن إطلاق المتكلّم بهذا المعنى علينا باعتبار قوّتنا على
إحداث الكلام في بعض الأجسام التي لنا قدرة على تحريكها ، كالهواء وغيره.
ثمّ هذه القدرة والقوّة وهو التكلّم بالمعنى الأوّل هي منشأ
التكلّم بالمعني الثاني ؛ إذ إحداث الحروف والأصوات فرع القدرة عليه ؛ وهذه القدرة
فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من إلقاء ما في روعنا إلى الغير بإحداث الحروف
والأصوات في الهواء ؛ وفي الواجب عين ذاته ، بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ إحداث
الأصوات والحروف ومناط إيجادها من دون افتقار إلى صفة زائدة وملكة قائمة ،
فيخلّفها في أىّ جسم يريد لإفادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده.
وعلى هذا يكون
التكلّم بهذا المعنى عين ذاته سبحانه ؛ أي ذاته بذاته هو منشأ الإلقاء الفعلي ؛ أي
إحداث الحروف والأصوات في جسم من الأجسام لإعلام الغير.
وبما ذكر ظهر أنّ
المتكلّم من قام به التكلّم ؛ وهذا أحد المعنيين الأوّلين ، لا من قام به الكلام ـ
أي ما به التكلّم ـ أعني الحروف والأصوات.
ثمّ لا ريب في أنّ
التكلّم بالمعنى الأوّل ـ أي / A ١٥٢ / القدرة على
إيجاد الأصوات والحروف في جسم من الأجسام لإعلام الغير ـ ثابت له بالشرع والعقل ،
لدلالة أدلّة عموم القدرة عليه ؛ وهو قديم ؛ لأنّه عين ذاته ؛ إذ معنى قدرته على
إيجاد الأصوات والحروف أنّ ذاته بذاته منشأ لإيجادهما ، كما أنّ معنى قدرتنا عليه
أنّ فينا ملكة قائمة بذواتنا بها نمكّن من إفادة مخزوناتنا العلمية إلى غيرنا.
__________________
وأمّا التكلّم
بالمعني الثاني ـ أي إحداث الصوت والحروف بالفعل لإعلام الغير ـ فلا ريب في حدوثه
وثبوته بالشرع دون العقل ؛ إذ لا طريق للعقل إلى إثبات تحقّق الإلقاء الفعلي عنه
سبحانه وإنّما عرف من الشريعة النبوية بما ورد فيها بالتواتر القطعي المؤكّد
بالمعجزات من أنّ الواجب تعالى أنزل ما أنزل من الكتب إلى أنبيائه وأوجد الكلام في
ما أوجد لإعلام بعض أصفيائه.
وبعد ثبوت التكلّم
بالمعني الثاني يثبت الكلام بالمعني الثالث أيضا ؛ لأنّ التكلّم الفعلي لا ينفكّ عمّا به التكلّم من الأصوات
والحروف ؛ فهو أيضا حادث.
وبما ذكر ظهر أنّ
قول العلّامة الطوسي : «وعمومية قدرته يدلّ على ثبوت الكلام» إشارة إلى إثبات
الكلام بالمعنى الأوّل ؛ يعني أنّ قدرته شاملة لجميع الممكنات ومن جملتها إلقاء
الكلام ـ بمعنى الحروف والأصوات ـ الدالّ على المعنى المراد إلى الغير ، لأنّ
إعلامه بعموم قدرته يدلّ على الكلام بمعنى قوّة الإلقاء ، والثابت
من عبارته إنّما هو هذا المعنى فقط وأمّا التكلّم بمعنى نفس الإلقاء المستلزم لما
به التكلّم إنّما يثبت من الشرع.
فبالعقل والشرع
يثبت الكلام بمعانيه الثلاثة ؛ أعني قوّة الإلقاء الثابت بالفعل ونفس الإلقاء وما
به التكلّم اللازم له ، وهما ثابتان بالشرع.
[في ابتهاجه تعالى وحبّه]
أجلّ مبتهج بشيء
هو الواجب تعالى ؛ أي هو مبتهج بذاته وصفاته وأفعاله من حيث إنّها صادرة منه
ومترشّحة عنه ابتهاجا لا يمكن حصول شبهه وما يدانيه ، بل ما له نسبة متناهية إليه
لأحد من الذوات النورية والجوهر القدسية والعقول القادسة والنفوس الكاملة ؛
والمراد بابتهاجه نظير ما يعبّر عنه في حقّنا باللذّة
__________________
/ B ١٥٢ / والفرح ؛ فإنّ ابتهاجه بهذا المعنى بجمال ذاته وكمالاته
وأفعاله من حيث إنّها بصفاته ورشحات جوده ولوازم وجوده بحيث لا يدخل تحت وصف.
ثمّ المعروف من
تعريف الابتهاج أو اللذّة أو مثلهما من الألفاظ أنّه إدراك الملائم ومقابله ـ أعني
الألم ـ هو إدراك المنافر.
وقال
الشيخ
: «اللذّة هي إدراك
ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ؛ والألم هو إدراك ونيل
لوصول ما هو عند المدرك آفة وشرّ.»
وقال المحقّق الطوسي في شرح هذا الكلام : «وكأنّه لم يقتصر على الإدراك واعتبر معه النيل ـ أعني
الإصابة والوجدان ـ أيضا ؛ لأنّ إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ، ونيله لا
يكون إلّا بحصول ذاته ؛ واللذّة لا تتمّ بحصول ما يساوي اللذيذ ، بل إنّما تتمّ
بحصول ذاته ؛ وإنّما لم يقتصر على النيل لأنّه لا يدلّ على الإدراك إلّا بالمجاز ؛
وإنّما قال : «لوصول ما هو عند المدرك» ولم يقل : «لما هو عند المدرك» لأنّ اللذّة
ليست هي إدراك اللذيذ فقط ، بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذّ ووصوله إليه ؛ وإنّما
قال : «ما هو عند المدرك كمال وخير» لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس إلى
الشيء وهو لا يعتقد كماليته وخيريته ؛ فلا يلتذّ به ؛ وقد لا يكون كذلك وهو يعتقده
؛ فيلتذّ به ؛ فالمعتبر كماليته وخيريته عند المدرك لا في نفس الأمر.»
وكأنّ ما ذكره
الشيخ لا يخلو عن مناقشات وتكلّفات. فما هو المشهور في تعريفهما من إدراك الملائم
أو الكمال أو الخير والمؤثر من حيث هو كذلك وإدراك المنافر أو النقص أو الشرّ أقرب
إلى التحصيل.
__________________
ثمّ الظاهر من
التعريف ـ كما ترى ـ أنّ اللذّة أو البهجة هو مجرّد إدراك الملائم والكمال ،
والألم مجرّد إدراك المقابل لا ما يتبع هذا الإدراك من الصفة والحالة التي تشاهد
فينا بعد إدراك الملائم والمنافر من الهيئة والحالة الانفعالية المعبّر عنها
بالاهتزاز والفرح أو السرور أو الغبطة أو أمثال ذلك ؛ فإنّ ما يتصوّر زيادته على
نفس الإدراك في كلّ واحد من الإدراكات الحسّية والوهمية والعقلية ليس إلّا هذا
المعنى المعبّر عنه بالسرور ومثله كاهتزاز النفس و/ A ١٥٣ / نشاطها وغير ذلك ؛ وربّما تبعت بعض الإدراكات العقلية
حالات ملذّة وابتهاجات نورية لم يكن نفس الفرح والسرور ، بل هي حالات لا يمكن أن
يخبر عنها بالاسم والتعريف ، بل يتوقّف إدراكها على الوصول إليها بالوجدان ؛
والمستفاد من التعريف أنّ المناط في حقيقة اللذّة والألم هو إدراك الملائم
والمنافر سواء تبع هذا الإدراك حالة اخرى أم لا ومع المباينة يسمّى هذا الإدراك مع ما لا ينفكّ عنه من الحالة لذّة دائما ولا
يختصّ اسم اللذّة والألم بتلك الحالة فقط دون متبوعه ؛ وعلى أىّ تقدير لا ريب في
أنّ ما يزيد على الإدراك فينا ـ أىّ معنى كان ـ هيئة انفعالية مكملة لنا والواجب سبحانه منزّه عن مثله. فالابتهاج فيه تعالى
نفس الإدراك الأتمّ مدركا وإدراكا وهو أجلّ الابتهاجات ، وليس هو مجرّد
الإدراك ، بل الملائم من حيث هو كذلك. فالبهجة في حقّه تعالى نفس تعقّله ما هو
ملائمه وكماله ؛ أعني ذاته وما يصدر عنه من حيث إنّه صادر عنه.
وبالجملة : ابتهاجه تعالى إمّا مجرّد تعقّله المذكور أو مع ما يتبعه
ممّا يليق بشأنه تعالى من صفة إضافية ناشية من تعقّله الناشي من محض ذاته بأن لا
يكون ممّا يوجب الانفعال والاستكمال ويعبّر عنه بالبهجة والرضاء والبهاء وأمثالها.
__________________
والتحقيق : أنّ مفهوم الابتهاج في حقّه المغاير لمفهوم الإدراك ويترتّب
عليه ترتّب اللازم على الملزوم وإن كان المصداق واحدا ؛ ويعبّر عن ابتهاجه بالرضاء
والمحبّة والعشق والإرادة ؛ فكلّ هذه الامور في حقّه تعالى يرجع إلى ابتهاجه بذاته
وبما يصدر عنه من حيث إنّه فعله ومعلوله ورشحة جوده وفيض وجوده ؛ وإطلاق هذه الأسامي
عليه تعالى وان كان إطلاقا حقيقيا بحسب وضع اللغة إلّا أنّها إذا اطلقت على الله
وعلى غيره لم يطلق عليهما بمعنى واحد في درجة واحدة حتّى أنّ اسم الوجود الذي هو
أعمّ الأشياء اشتراكا لا يشتمل الواجب والممكن على نهج واحد ؛ إذ الوجودات
الإمكانية أظلال وأشباح للوجود الحقّ ، ومع ذلك ليس إطلاق الوجود على ما سوى الله
مجازا لغويا ، بل مجازا عرفانيا ؛ وهكذا الحكم / B ١٥٣ / في ساير الأسماء والصفات ، كالعلم والقدرة والإرادة
وغيرها ؛ فإنّ كلّ ذلك لا يشبه فيه الخلق بالخالق ؛ والواضع إنّما وضع هذه الأسامي
أوّلا للخلق ثمّ وقع الانتقال منها إليه تعالى ؛ فالبهجة واللذّة والرضاء والمحبّة
والعشق في حقّ الخلق يصحبها نقص وقصور وشين وفتور ؛ وأمّا في حقّ الخالق فهي
مقدّسة عن النقائص الإمكانية ، بل على نحو لا يوجب انفعالا وتغيّرا وحدوثا
وتبدّلا.
ثمّ لبيان أنّ
ابتهاجه سبحانه أجلّ الابتهاجات وأشدّها ، بل لا نسبة لأجل بهجة متصوّرة لشيء من عوالى الموجودات الإمكانية إلى بهجته نقول : إنّ
الابتهاج ـ كما عرفت ـ هو إدراك الكمال الذي هو الملائم ؛ وهو حسّي وخيالي وعقلي.
فاللذّة الحسّية
هي ما يصل إلى النفس بوساطة الحواسّ الظاهرة من الحالة الانفعالية الملذّة عند
الإبصار والاستماع والشمّ والذوق واللمس.
والخيالية
والوهمية ما يصل إليها بتوسّط الخيال والوهم من الهيئة الملذّة عند
__________________
تخيّل الصور
الملائمة وتوهّم المعاني الجزئية الموافقة الموجبة للرجاء.
ثمّ الملائم
المحسوس أو المتوهّم أو المتخيّل إن كان ملائم القوّة الغضبية كالغلبة أو توهّمها كان التذاذ النفس به لأجل قوّتها الغضبية ؛ وإن كان ملائم
القوّة الشهوية كأكل ما تشهيه ومباشرة ذات جمال أو توهّمهما كان التذاذها به لأجل
قوّتها الشهوية.
والعقلية ما يصل
إليها من الابتهاج عند تعقّل المعاني الكلّية النورية أو ملاحظة الذوات المجرّدة
بالمشاهدة الحضورية بتوسّط قوّتها النظرية من دون افتقارها إلى ساير القوى.
ثمّ كلّ واحد من
هذه اللذّات الثلاث ومقابلاتها من الآلام يختلف بحسب اختلاف الإدراك والقوى
المدركة والمعنى المدرك . فلذّة الطعام والجماع يختلف بحسب اختلاف قوّة شهوتهما
وبحسب اختلاف الطعام والموطوء طيبا وجمالا وبحسب اختلاف الإدراك شدّة وضعفا ؛
فلذّة النظر إلى الوجه الجميل على قرب وفي موضع مضيء أتمّ من لذّته عنه على بعد
وفي موضع مظلم ؛ لأنّ إدراك الشيء على قرب وفي الضوء أتمّ من إدراكه على بعد وفي
الظلمة ؛ / A ١٥٤ / وقس على ذلك
حال اللذّة الوهمية والعقلية والآلام الثلاثة ؛ فكلّما كان القوّتان ـ أي الوهمية
والعاقلة ـ أقوى وإدراكهما أشدّ ظهورا وجلاء بالنظر إلى عدم الشاغل ورفع المانع ،
والمعنى المتوهّم أو المعقول أشرف وأحسن كان لذّتهما أقوى ؛ وكذا حال آلامهما.
ثمّ هذه اللذّات
الثلاثة ومقابلاتها مختلفة بحسب الجنس أيضا ؛ إذ لا ريب في أنّ القوّة كلّما كانت
أقوى في نفسها وأشرف في جنسها كان لذّتها أقوى ؛ وعلى هذا فلذّة العقليات أقوى من
لذّة الوهميات والمتخيّلات ، ولذّتهما أقوى من لذّة
__________________
الحسّيات ؛ إذ
القوّة العقلية أشرف من الوهمية والوهمية من الحسّية ؛ وكذا لذّة درك الحقائق
الكلّية والذوات النورية والتفرّد بمناجات الله والتجرّد إلى جناب قدسه والوصول إلى لقائه والاستغراق في لجّة انسه
أحبّ عند كلّ كامل بهيّ النفس رزين العقل من لذّة الرئاسة والجاه والغلبة على الأعداء وهو من لذّة
الهريسة والحلواء والجماع بالمليحة الحسناء والجميلة العذراء.
وبالجملة : كلّ من أدرك حقائق اللذّات الثلاث يستحقر لديه الحسّية عند
الوهمية والوهمية عند العقلية ؛ ولذا يرى أنّ لذّة الغلبة المتوهّمة ولو في أمر
خسيس كالنرد والشطرنج ربّما يؤثر على لذّة مطعوم أو منكوح يظنّ أنّها أقوى اللذّات
الحسّية ولذّة نيل الحشمة والجاه يؤثر عليها أيضا والكريم يؤثر لذّة إيثار الغير
على نفسه في ما يحتاج إليه ضرورة على لذّة التمتّع به وكبير النفس يؤثر لذّة
الكرامة المتوقّعة من محافظة ماء الوجه أو من الإقدام على الأهوال مع عدم العلم
بنيلها على اللذّات الحسّية إلى حدّ يتحمّل آلام الجوع والعطش ويقاسي أهوال الموت
والهلاك معها ؛ ولا يختصّ ذلك بالإنسان ، بل في الحيوانات ما يشاركه في ذلك ؛ فإنّ
كلب الصيد يؤثر اللذّة الوهمية التي ينالها من توقّع إكرام صاحبه إيّاه على لذّة
أكل الصيد والراضعة من الحيوانات يؤثر اللذّة الوهمية التي تجدها من توهّم سلامة
ولدها على لذّة سلامة نفسها ؛ وربّما كان وقوعها في المخاطرات والأهوال لحماية ولدها
أعظم كثيرا من وقوعها فيها / B ١٥٤ / لحماية نفسها.
فظهر أنّ اللذّات
الحسّية الباطنة أعظم وأقوى من الحسّية الظاهرة ؛ فتكون العقلية أقوى من الباطنة
بمراتب أولى وأظهر.
وممّا يدلّ على أنّ اللذّة العقلية أقوى
من الحسّية وقسيمها أنّ الحسّية
__________________
لا تكون إلّا في
آلة جسمية وهي قد يفسد بإدراك مدركاتها القويّة ؛ فإنّ لذّة العين في الضوء وألمها
في الظلمة ؛ والضوء القويّ يفسدها وكذا الصوت القويّ يفسد السمع ؛ وأمّا القوّة
العقلية فلقيامها بنفسها وبرائتها عن التغيّر والاستحالة يتقوّى ويزداد نورا
بإدراك مدركاتها القويّة وكلّما أدركت معنى عقليا أجلى وأقوى صارت قوّته أكثر ؛ وهي
أقرب الموجودات الأرضية إلى الحقّ الأوّل وأشدّها مناسبة له.
وممّا يدلّ أيضا على المطلوب أنّ العقل يدرك الشيء على ما هو عليه وينال حاقّ جوهرة ولبّ
ذاته مجرّدا عن القشور والمقرّبات ؛ وأمّا الحسّ فلا يدرك جوهر الشيء مجرّدا عن
قرائبها القريبة ، بل إنّما يدرك الأشياء مختلطة مشوبة بغيرها ؛ فلا يحسّ باللون
ما لم يحسّ معه الطول والعرض والوضع والأين وامور اخرى خارجة عن حقيقة اللون.
وأيضا إدراك العقل
يطابق ما عليه المدرك في الواقع ولا يتفاوت ، وإدراك الحسّ يتفاوت ؛ فيرى الشيء
الواحد مختلفا في العظم والصّغر لأجل اختلاف القرب والبعد ؛ وقد يغلط بحيث يرى
العظيم في غاية العظمة صغيرا في غاية الصغر ؛ فإنّه يرى الشمس
بقدر اترجّة مع أنّه يقرب مائة وسبعين مثلا لمقدار كرة الأرض والعقل
إذا راعى القوانين المرآتية وخلص عن القوّة الوهمية لا يقربه الغلط والخطأ ؛ وقد
تقدّم أيضا أنّ مدركات العقل الذوات المجرّدة النورية وذات الحقّ الأوّل الذي يصدر
عنه كلّ كمال وجمال وبهاء وجلال والماهيّات الكلّية الأزلية ، ومدركات الحسّ
الأجسام وعوارضها ولواحقها ؛ ولا ريب في أنّ المدرك كلّما كان أشرف وأكمل كان
اللذّة أقوى وأتمّ ؛ فإذن لا قياس للذّات الحسّية إلى العقلية.
__________________
فإن قيل : لذّة أكثر الناس بالحسّيات من المطاعم والمناكح وبالرئاسات
الوهمية وآلامهم / A ١٥٥ / بفقدها أشدّ من
لذّتهم بالعلوم وألمهم بالجهل.
قلنا : قد يحصل للإنسان موجب اللذّة ولا يشعر بها لغفلته عنه أو
اشتغاله بغيره ، كالمتوغّل في الكفر ؛ فإنّه لا يشعر بما يذكر عنده ويسمعه من
الألحان والنغمات الطيّبة ؛ فلا يلتذّ بها أو لآفة غيّرت مزاجه ؛ فلا يحسّ لشهوة
الطعام كالذي عرض له بوليموس أو لضعف القوّة المدركة كالبصر الضعيف ، فإنّه لا
يلتذّ بالضوء ، بل يتأذّى به وإن كان موافقا لذيذا بالنسبة إلى البصر السليم.
وعلى هذا نقول : سبب كون اللذّة الحسّية في الأكثر أقوى وأشدّ من العقلية
خروج أنفسهم عن مقتضى الأصل ، لأجل الإلف بالمحسوسات والمادّيات وعروض ما أخرجها
عن جبلّتها وحقيقتها من العادات الرديّة والآفات العظيمة والعوارض المنافية
لجوهرها وصحّتها ؛ فهذه الآفات والعوارض لها بمنزلة المرض والخدر للعضو ؛ فكما أنّ العضو الخدر لا يحسّ بالنار المحرقة وإذا
زال الخدر أحسّ بها فكذلك عوارض البدن وعوائق المحسوسات أوجبت للنفس مرضا يمنعه عن
الالتذاذ بما هو ملائم لأصلها وموافق لجوهرها ، وإذا زالت تلك العوارض بمفارقة النفس عن البدن أدرك لذّة العلم إن
كان عالما حسن الخلق وألم الجهل إن كان جاهلا رديّ الخلق.
وإذ ظهر أنّ
اللذّة العقلية أقوى من اللذّتين الاخريين وأنّ مراتب العقلية مختلفة باختلاف
العقل والعاقل والمعقول ؛ فكلّما كان العاقل أقوى وتعقّله أشدّ وأجلى ومعقوله أشرف
وأجلّ كان لذّته أقوى وأتمّ ؛ فيظهر من ذلك أنّ الواجب تعالى أجلّ مبتهج بشيء ؛
لأنّه عاقل لذاته على ما هو عليه من البهاء والجمال ولما ينشأ من ذاته ـ أي النظام
الأعلى ـ من حيث إنّه ينشأ منها ؛ فهو من حيث كونه
__________________
عاقلا أجلّ
الأشياء وأعلاها وأشدّها قدرة وأقواها ، ومن حيث كونه عقلا أشدّ التعقّلات وأعلاها
وأظهرها وأجلاها ، ومن حيث كونه معقولا أشرف المعقولات وأبهاها وأرفعها وأسناها ؛ فهو إذن أقوى عاقل لأجلّ معقول بأتمّ تعقّل بما هو عليه
من الكمال والجلال.
ثمّ قياس ابتهاجه
/ B ١٥٥ / أيضا إلى
ابتهاج غيره من الملائكة والعقول والنفوس الفلكية والإنسانية كقياس كماله إلى
كمالهم ؛ فزيادة ابتهاجه تعالى بجمال ذاته وباستيلائه على الكلّ علما وعينا على
ابتهاج غيره بقدر أشرفية ذاته وزيادة استيلائه العلمي والعيني على ذاته واستيلائه
؛ وأنت تعلم أنّ هذه الزيادة تزيد على الغير المتناهي بقدر الغير المتناهي ، إذ لا
نسبة للذات الممكن المعلول مع استيلائه العلمي المفاض عن علّته والعيني المستفاد
مع تعلّقه بالبعض دون الكلّ مع الذات الواجب الموجد للكلّ المستولي على الكلّ علما
وعينا بالاستيلاء الذاتي.
كيف وقد يعاضد
البرهان والعيان على أنّ ابتهاج المجرّدين ـ من الملائكة المقرّبين والعقول
القادسة ـ والنفوس ـ من الفلكية والإنسانية ـ بملاحظة جمال الحضرة الربوبية
ومطالعة جلال جناب الألوهية أزيد وأشدّ كثيرا من ابتهاجهم بأنفسهم؟!
ولذا قال بعض العارفين : لو لم يكن له تعالى من الابتهاج بإدراك جماله إلّا ما لنا
من اللذّة بعرفانه مهما قطعنا النظر عن غيره وتوجّهنا شراشرنا إلى جناب قدسه واستشعرنا ما يمكننا أن ندركه من عظمته وجلاله وبهائه
وجماله وصدور الكلّ منه على أحسن ترتيب وانتظام وانقياد الجميع على طريق التسخير
الجعلي ودوام ذلك أزلا وأبدا من غير إمكان تبدّل وتغيّر لكان لا يقاس بها لذّة مع
__________________
أنّ إدراكه لذاته
لا يناسب بوجه إدراكنا ؛ لأنّا لا ندرك من ذاته وصفاته إلّا امور جميلة يسيرة.
ثمّ لمّا عرفت أنّ
الابتهاج والعشق والحبّ والرضاء والسرور وأمثالها ألفاظ متقاربة متّحدة المدلول
وهو العلم بكمال الشيء وجماله مع ما يلزمه من الحالة البهيّة النورية ؛ وتلك
الحالة في الحقيقة راجعة إلى العلم بحيثية كونه كمالا وخيرا ومؤثرا ؛ فحقيقة العشق
والحبّ والابتهاج ومثلها هو إدراك المؤثر من حيث إنّه مؤثر ؛ فإدراك الكمال يوجب
حبّه ، لكون الكمال مؤثرا.
فعلم أنّ الأوّل
تعالى عاشق ومحبّ لذاته ولما صدر عنه من النظام الجملي من حيث إنّه تابعة ولازمة
ورشح ذاته وفيض / A ١٥٦ / وجوده على وجه
واحد ثابت مستمرّ ؛ لأنّه تعالى مبتهج بهما ولكن على نحو مقدّس عن الانفعال
والتغيّر والتجدّد كما يليق بذاته الواجبة وصفاته الكمالية ؛ فالعشق والحبّ في
حقّه بمعناهما الحقيقي وليس بمجاز عن إيصال الثواب للطاعات كما زعمه الزمخشرى
وجماعة من المتكلّمين.
نعم ـ كما أشرنا
إليه ـ إطلاق الأسماء والصفات على الواجب وغيره مع كونه حقيقة فيهما ليس بمعنى
واحد في درجة واحدة ؛ فالوجود والعلم والقدرة والإرادة ليس إطلاقها على الواجب والممكن
على نهج واحد وإن كان حقيقتا فيهما ؛ لأنّها في الواجب قائمة بذاتها ؛ لأنّها عينه
تعالى وفي غاية التمامية والكمال ، ولا يشوبه نقص وقصور وزوال ولا تغيّر وتجدّد
وتبدّل الحال ؛ وفي الممكن أظلال وأشباح لوجود الحقّ وصفاته ، ومشوبة بالقصور
والنقائص والتجدّد والتغيّر والأعدام. فالمحبّة في حقّ الخلق يصحبها نقص وقصور ؛
وأمّا في حقّ الخالق سبحانه فمنزّهة عن التغيّر والقصور والتجدّد والفتور.
فحاصل معنى محبّة الله سبحانه لخلقه
ـ
كما أشير إليه سابقا ـ أنّ من أحبّ ذاتا تامّة فوق التمام في جميع الكمالات لا بدّ
أن يحبّ ما ينشأ من هذه الذات بذاته من اللوازم والآثار المنبعثة عنه من دون
مدخلية للغير. فإن كان لتلك اللوازم والآثار حيثية اخرى سوى كونها لوازما وآثارا
لهذه الذات يمكن أن تتعلّق بها محبّة استعلائية لأجل تلك الحيثية الاخرى التي هي
غير جهة كونها لازمة وتابعة ؛ وأمّا إذا لم تكن لهذه اللوازم والتوابع حيثية سوى
كونها توابع ولوازم كما هو الشأن في حقائق الممكنات بالقياس إلى الوجود الحقّ
الأوّل ؛ فلا يمكن تعلّق الابتهاج بها إلّا من جهة الابتهاج بالذات ؛ فابتهاجه
سبحانه بمخلوقاته يرجع إلى الابتهاج بذاته ، بل ابتهاج كلّ أحد بلوازم الحقّ
الأوّل وتوابعه وآثاره هو الابتهاج بذاته. ألا ترى أنّ من أحبّ عالما أحبّ تصنيفه
من حيث إنّه تصنيفه ، وجميع العالم بأجزائه وجزئياته ووجوداته وحقائقه وصوره
وهيئاته وعوارضه تصنيف الله / B ١٥٦ / تعالى بلا
حيثية اخرى.
ولمّا ثبتت محبّته
تعالى لذاته وهي عين علمه بذاته المستجمعة لجميع الكمالات من حيث إنّها مستجمعة
فتثبت محبّته للوازمه وتوابعه التي هي الموجودات الإمكانية بأسرها ؛ ولمّا كان
وجود الممكن في نفسه وكونه أثرا من آثار قدرته تعالى أمرا واحدا بلا اختلاف ؛ إذ
الوجودات الإمكانية هي ارتباطات وجود الحقّ وتجلّياته وجهات كمال جوده وحيثيات فيض
وجوده ؛ فابتهاجه بذاته ينطوي فيه ابتهاجه بجميع لوازمه وآثاره ، كما أنّ علمه بها ينطوي في علمه بذاته.
ثمّ لمّا كانت
الوجودات الإمكانية متفاوتة في الكمال والنقص والشرافة والخسّة والقرب والبعد بدوا
وعودا من الوجود الحقّ ؛ فتكون محبّته تعالى بالنسبة
__________________
إليها متفاوتة ؛
فأحقّها بها أشرف الممكنات وأقربها إليه في إحدى السلسلتين. ثمّ يتلوه في المحبّة
ما يتلوه في درجات الشرافة والكمال والقرب [إلى] الحقّ المبدأ الفعّال وهكذا إلى
أن ينتهى إلى أخسّ الموجودات وأضعفها وأبعدها من الحقّ الأوّل في سلسلة البدو وهو
الهيولى الأولى أو إلى أشقى الأشقياء وأرذل المخلوقات في سلسلة العود وهو الشيطان
؛ ولا يلزم من التفاوت في محبّة الله سبحانه بالنسبة إلى خلقه اختلاف وتغيّر ونقص
في ذاته ؛ إذ معنى محبّته للشيء ـ كما عرفته ـ إدراكه له من حيث إنّه مؤثر ؛
فإدراك كلّ كامل وكمال محبّته ؛ لأنّه مؤثر. فمعنى كون أحد الشيئين أحبّ إليه من
الآخر أنّه مدرك له بعنوان أنّه أكمل وأخير وآثر من الآخر لا يلزم في ذلك اختلاف
وتعيّن في علمه أو ذاته. نعم لو كان محبّته هو الإدراك المذكور مع ما يترتّب عليه
ممّا يشاهد فينا من الهيئة الانفعالية لزم التغيّر والاختلاف في ذاته وكونه محلّا
لانفعالات مختلفة.
وقد عرفت أنّ ما
يسند إليه سبحانه من البهجة والرضاء والحبّ والعشق والإرادة وغيرها من الألفاظ
المختلفة الراجعة إلى معنى واحد متقدّس عن ذلك ؛ فله سبحانه حبّ عامّ لجميع ما صدر
عنه وهو كونه مدركا من حيث كونه لازما / A ١٥٧ / له صادرا عنه ؛ فإنّه من هذه الحيثية ـ أي حيثية تابعيته
له تعالى وترشّحه منه وكونه مبدأ له خير وكمال ؛ فإدراكه من حيث اللزوم
والتابعية إدراك للمؤثر من حيث إنّه مؤثر ؛ وحبّ خاصّ لبعض عباده وهو كونه مدركا
له من حيث إنّه أكمل وفي مراتب الوجود إليه أقرب ؛ ولا ريب في أنّ أكمليته
وأقربيته إليه سبحانه يوجب زيادة كشف الحجاب عن قلبه حتّى يراه بباطنه وزيادة
الإفاضات الملكوتية والابتهاجات الروحية عينه ، بل زيادة يمكّنه من التصرّف في
موادّ الكائنات. فحبّه الخاصّ لبعض عباده يرجع إلى كشف الحجاب عن قلبه
__________________
والفوز بلقائه
والوصول إلى رؤيته ومشاهدته لا إلى ميله تعالى إليه ليستريح بمشاهدته أو يزيل
توحشّه بأنّه .
ثمّ الباعث لحبّه
الخاصّ بالنسبة إلى بعض عباده ؛ أي كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه من القرب إليه إن
كان قوّة استعداده ؛ فيكون حبّه تعالى له أزليا ؛ بمعنى أنّه يستند إلى إرادته
الأزلية وعلمه بنظام الخير ؛ ويسمّى ذلك بالفيض الأقدس وإليه اشير بقوله عليهالسلام : «السعيد سعيد في الأزل» وإلى مقابله بقوله : «الشقىّ
شقيّ لم يزل» وان كان فعل العبد الصادر عن توفيق الله وهدايته وتسهيله
فسبيل الحقّ الذي يكشف به الحجاب عن قلبه كان حبّه تعالى له حادثا بحدوث السبب
المقتضي له المسمّى بالفيض المقدّس وإليه اشير بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ؛ فيكون اشتغال العبد بالنوافل وتوفيقه تعالى إيّاه له
سببا لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه ووصوله إلى مرتبة قربه ؛ وكلّ ذلك من
محبّة الله ولطفه.
وإيّاك أن تفهم
ممّا ذكرنا من كون هذا القسم من المحبّة حادثا أنّ ما هو صفته تعالى محدث ؛ فيلزم
أن يكون محلّا للحوادث ، تعالى عن ذلك ، بل المراد منه أنّ سبب هذه المحبّة
الخاصّة لمّا كان حادثا في وقت خاصّ فيكون تعلّق المحبّة ـ أي تعلّق العلم ـ بكون هذا العبد خيرا كاملا في هذا الوقت لا بمعني حدوث هذا
العلم للواجب في هذا الوقت ، بل بمعنى كونه عالما في / B ١٥٧ / الأزل بأنّ هذا العبد يصير خيرا مستحقّا للقرب والوصول
إلى درجة اللقاء في وقت كذا بسبب كذا من دون تغيّر وتجدّد في علمه هذا أزلا وأبدا
، كما في علمه بسائر الحوادث الجزئية ؛ هذا.
__________________
وقد أورد أبو حامد
الغزالي مثالا يظهر به الفرق بين المحبّة التي بحسب تنزيه الله تعالى عنه وبين
المحبّة الخالية عن النقص التي نصف الله تعالى بها وهو أنّ الملك قد يقرب عبده من
نفسه ويأذن له في كلّ وقت أن يحضر بساطه ويحاوره لميل الملك ورغبته إليه إمّا
ليستريح برؤيته أو يستشيره في بعض اموره أو يلتذّ بمكالمته ومحاورته أو يهيّئ له
أسباب شرابه وطعامه أو غير ذلك ؛ فيقال الملك : «يحبّ هذا العبد» ومعنى حبّه له
حينئذ ميله إليه وهذه هي المحبّة التي منشأها قصور المحبّ عن الكمال الأتمّ والله
تعالى منزّه عن ذلك ؛ وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه ، بل يأذن له أن
يحضر بساطه ويتصرّف في مملكته لا لاحتياجه إليه في جلب نفع أو دفع ضرّ لكون العبد
في نفسه متّصفا بالكمالات النفسية والأخلاق الفاضلة المرضيّة بحيث يستحقّ مرتبة
القرب من حضرة الملوك بحسب ذاته وصفاته ، لا يكون الملك محتاجا إلى قربه ؛ فإذا
رفع الملك الحجاب عنه يقال : «قد أحبّه» وإذا اكتسب بعض الأخلاق الفاضلة الموجبة
لزيادة كشف الحجاب يقال : «قد حبّب نفسه إلى الملك» وهذا المعنى من المحبّة يليق
بالأوّل تعالى لا المعنى الأوّل بشرط أن لا يفهم منه عروض تغيّر له تعالى عند
تجدّد القرب ؛ فإنّ الحبيب هو القريب من الله والقرب منه تعالى بالبعد من الرذائل
والتخلّق بأخلاق الله تعالى ؛ فهو قرب بالمعنى والصفة لا بالمكان ؛ وحصول قرب
للعبد بعد ما لم يكن له وإن اقتضى تغيّر وصف وحال له إلّا أنّه لا يوجب تبدّل صفة
له تعالى ؛ لأنّه سبحانه لا يزال على ما كان من أزل الآزال على ما تقدّمت الإشارة
إليه.
ثمّ الواجب سبحانه
كما هو معشوق لذاته من ذاته كذلك هو معشوق من غيره وهو جميع الموجودات الصادرة منه
المعلولة له المفتقرة إليه ؛ فإنّ جميعها عاشقة له مبتهجة به وأجلّ / A ١٥٨ / لذّاتها هو ابتهاجها به واستغراقها في ملاحظة جمال وجهه
ومشاهدة عظمته ؛ فما من موجود إلّا وله عشق طبيعي وشوق غريزي إلى
صرف الوجود وبحت
النور والأوّل الحقّ والخير المطلق ؛ وعلى هذا فلابتهاج الموجودات وعشقها مراتب
متفاوتة ؛ فأجلّ الابتهاجات وأقوى مراتب العشق هو عشق الواجب وابتهاجه بذاته وبما
يصدر عنه من حيث إنّه يصدر عنه ويتلوه عشق المبتهجين به وبذواتهم لا من حيث هم هم
، بل من حيث كونهم مبتهجين به وهم الملائكة القدسية والجواهر العقلية ؛ فإنّهم
يعرفون أنفسهم بالأوّل ومن الأوّل وهم على الدوام في مطالعة جماله وملاحظة عظمته
وكبريائه ؛ وأمّا لذّتهم بأنفسهم فإنّما هي من حيث كونهم معلولين له ، مرتبطين
إليه ، مترشّحين من فيضه وجوده ، تابعين لذاته ووجوده.
وبالجملة : لذّتهم بأنفسهم وتغيّرها من الموجودات الإمكانية من حيث
إنّهم يرونها عبيدا وخدمة للأوّل سبحانه ؛ فإنّ من عشق ملكا فهو كما يكون مبتهجا
به يكون أيضا مبتهجا بحشمه وخدمه وقومه وجنده إلّا أنّ هذا الابتهاج يرجع حقيقة
إلى الابتهاج بالملك وإلى هذا المعنى يشير قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «إلهي كفى بي فخرا أن يكون لي ربّا وكفى لي عزّا أن أكون
لك عبدا.»
فظهر أنّ لذّة
المجرّدات القادسة أيضا بذاته تعالى وبمخلوقاته من حيث إنّه مخلوقاته ولكنّها أدون
بمراتب غير متناهية من ابتهاج الحقّ سبحانه.
وبعد المرتبتين في
العشق والابتهاج مرتبة العشّاق المشتاقين المتحرّكين إلى طلب جمال الله تعالى وهم
النفوس الفلكية.
وبعد هذه المراتب
في العشق مرتبة النفوس الإنسانية التي وصلت إلى غاية كمالها وفازت إلى مرتبة
الوصول والاستغراق في لجّة عظمة الله بحيث لا يرى في عظمة الله العقلية غير الله
ولا يرى في الوجود مؤثّرا سوى الله ووصلت إلى
__________________
مقام الفناء
المسمّى عند العرفاء بالولاية وفازت بمرتبة السابقين المقرّبين ووصلت إلى مشاهدة
جمال ربّ العالمين وهم الذين أخرجوا أوّلا قوّتهم العقلية من القوّة إلى الفعل ؛
فانتقشت بالوجود / B ١٥٨ / كلّه على
ترتيبه وأدركت الأوّل تعالى وما يتلوه من الملائكة القدسية والجواهر العقلية وما
بعده من الموجودات الفلكية والعنصرية هذه النفوس وإن لم يحصل لهم وصول تامّ ما
دامت متعلّقة بالبدن ؛ فلا يحصل لهم ما يمكن في حقّهم من العشق والابتهاج في
الدنيا لابتلائهم بالبدن وعوائقها إلّا أنّها إذا فارقت البدن بالموت أو حصل له ما
يحصل للمتمرّدين من جلباب البشرية ـ أعني ملكة خلع البدن ـ حيث ما شاء يحصل له
غاية الابتهاج ؛ فيلحق بالملإ الأعلى ويصير من المقرّبين إلى زلفى وهنا لجّة
الوصول وغاية سفر السالكين ونهاية مقصد المسافرين ، وهو معنى السعادة الحقيقية في
حقّ الإنسان.
وبعد تلك المراتب
الأربع مرتبة النفوس الناطقة الإنسانية المتوسّطة ؛ وهي مختلفة بحسب القرب والبعد
من الكمال ، فعشق كلّ منها بالحقّ وابتهاجه بحسب كماله وفعليته في العلم والعمل.
وبعدها مرتبة
النفوس الإنسانية الناقصة وهي القريبة بالنفوس الحيوانية وهي النفوس المنغمتة في
عالم الطبيعة والمنغمرة في الشهوات واللذّات الحسّية والمنقلبة في المنقلبات
الحيوانية وهي التي كفرت بأنعم الله وصرفت قواها الشهوية والغضبية في غير ما خلقت
لأجله ؛ فضلّت ضلالا بعيدا وخسرت خسرانا مبينا.
ثمّ لا يخفى أنّ الفرق بين الحبّ والعشق أنّ العشق إنّما هو إفراط الحبّ
؛ فالحبّ ـ كما سبق ـ هو إدراك المؤثر من حيث هو مؤثر ؛ فإفراط هذا الإدراك هو
العشق ؛ وكلّما كان الإدراك أتمّ والمدرك أشدّ خيرية كان العشق أشدّ ؛ وظاهر أنّ
الإدراك لا يكون
إلّا بالوصول ؛ ففي الإدراك الناقص يتحقّق الوصول الناقص وفي التامّ يتحقّق التامّ
؛ والمراد بالوصول هو حضور تلك المعاني بعينها عنده بارتسامها في ذاته وللذوات
المجرّدة النورية والجواهر العقلية القدسية بحضورها لديه وانكشافها بين يديه ؛
فيشاهدها بالعلم الحضوري ؛ فهذه المشاهدة هي وصول الفعل إلى ذواتها ووجوداتها ؛
وإدراك الخيال والوهم للصور الخيالية والمعاني الجزئية هو حضورهما لديهما بالارتسام / A ١٥٩ / فإنّ ذات المدرك لتلك القوّتين وحقيقته هو نفس الصور والمعاني
الجزئية دون الامور الخارجية ؛ فالوصول في إدراكهما إنّما هو بوصولهما إليهما ؛
وإدراك الحواسّ للمحسوسات إنّما هو بحضور ذواتها العينية وحقائقها الخارجية عندها
بالارتسام أو بنحو آخر ووصولها إليها ؛ فالوصول في إدراكها إنّما يكون بالوصول إلى
وجوداتها العينية ؛ فلذا ما لم يصل الجسم المذوق إلى الذائقة لا يحصل الإدراك
المسمّى بالذوق ؛ وما لم يصل الشيء الملموس الخارجي إلى اللامسة لم يتحقّق الإدراك المسمّى باللمس ؛
وقس على هذا غيرهما ؛ واذا لم ينفكّ الوصول عن الإدراك ولم يتحقّق الإدراك التامّ
إلّا مع الوصول التامّ فالعشق التامّ لا يكون إلّا مع الوصول التامّ ويكون ذلك ـ كما
مرّ ـ ابتهاجا تامّا ولذّة تامّة ؛ فإذن العشق الحقيقي هو الابتهاج بتصوّر حضور
ذات ما هي المعشوقة.
ثمّ لا يخفى أنّ الشوق من لوازم العشق ؛ لأنّه الحركة إلى تتميم هذا
الابتهاج بحصول ما هو التامّ من الحضور والوصول ؛ فإنّ مراتب الحضور متفاوتة ؛ إذ
التمثيل الخيالي حضور ضعيف والحسّي أقوى منه والشهود الإشراقي أتمّ منه إلّا أنّ
اللازم بالنظر إلى تعريفه وحقيقته لزومه للعشق الناقص ؛ إذ الحقيقي الكامل لا
ينفكّ عمّا هو الأتمّ من الابتهاج والحضور والوصول ؛ وعلى هذا فالعشق
__________________
الحقيقي الكامل لا
يلحقه الشوق ؛ إذ المعشوق فيه حاضر في كلّ وقت من كلّ وجه ؛ والشوق لا يتصوّر إلّا
إذا كان المعشوق حاضرا من وجه غائبا من وجه ولذلك يتقدّس عشقه سبحانه عن الشوق ؛
لأنّه تعالى نال معشوقه من كلّ وجه دائما ، وكلّ مشتاق إلى مرغوب فإنّه قد نال منه
شيئا وفاته شيء ؛ وكذا يتقدّس عشق الملائكة القدسية والعقول النورية أيضا من الشوق
لبراءتهم عن القوّة ؛ فالشوق إنّما يكون في ساير مراتب العشق ؛ أعني عشق النفوس
الفلكية والإنسانية ؛ فإنّ النفوس الفلكية من حيث هم عشّاق قد نالوا نيلا ومن حيث
هم مشتاقون قد فقدوا فقدا لعدم وصولهم إلى الغاية القصوى من / B ١٥٩ / الوصول في حقّهم ولذا يصحبها قوّة وهجران أبدا ؛ فهم
واجدون في عين الحرمان وواصلون حين الفرقان ؛ ولا محالة يغشيهم نوع دهشة وحيرة
وأذى لذيذ ؛ لأنّه من قبل المعشوق والأذي الذي يصل من المعشوق إلى العاشق يكون
لعبده لذيذ ؛ لأنّه يتصوّر وصول أثر المعشوق به إليه ووصول الأثر أثر الوصول وهاتان
الجهتان ـ أي جهتا اللذّة والأذي ـ في النفوس الفلكية بإزاء الرجاء والخوف في
النفوس الإنسانية الفاضلية الصالحة.
وأمّا النفوس
الإنسانية فإن كانت كاملة في العلم والعمل واصلة إلى الغبطة العليا والسعادة
العظمى في حياتها الدنيا وبه كان أجلّ أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ؛ فشبوقها
يؤدّي إلى الطلب ؛ فإن أدّى الطلب إلى النيل بطل الطلب وخفّت البهجة ووصلت إلى
مرتبة الفناء المسمّاة في عرف العرفاء بالولاية ؛ ففازت بمرتبة المقرّبين ولحقت
بالملإ الأعلى ؛ فإنّ الإنسان له سبيل إلى الوصول إلى هذه المرتبة ـ كما تقدّمت
الإشارة إليه ـ وإن لم يؤدّ طلبها إلى النيل لا يخلص عن علاقة الشوق في الحياة
الدنيا وربّما خلصت عنها في الحياة الاخرى ؛ والنفوس الناقصة المنكوسة المغموسة في
عالم الطبيعة غير خالية بحسب جبلّتها وفطرتها عن
__________________
الشوق إلى الخير
الأقصى إلّا أنّها لانتكاسها في عالم الطبيعة وتقيّدها بقيودات الأجسام لا تمكنها
الوصول بوجه ؛ فيكون شوقها سبب تأذّيها في المعاد.
[في سرّ كون إدراكه تعالى أتمّ الإدراكات]
السرّ في كون
إدراكه تعالى أتمّ الإدراكات حتّى يلزم منه كون ابتهاجه أجلّ الابتهاجات وكذا عشقه
وحبّه أنّ مطلق الإدراك يتوقّف على نورية المدرك والمدرك ؛ وكلّما كانت النورية
أشدّ كان الإدراك أجلى وأتمّ ؛ فكما أنّ الظهور والجلاء في رؤية الباصرة وإدراكها
المبصرات بحسب النورانية فيهما فكذلك الجلاء والانكشاف في إدراك المجرّدات للأشياء
بحسب نورانيتها ؛ فلو كان المدرك والمدرك في غاية النورية لكان الإدراك في غاية
الجلاء والانكشاف ؛ ولكون الأوّل تعالى صرف النور و/ A ١٦٠ / منوّر النور ونور كلّ نور يكون إدراكه أجلى الإدراكات
وأظهرها ؛ ولإدراكات غيره من العقول والنفوس والقوى الباطنة والظاهرة مراتب في
الظهور والخفاء بحسب مراتبها في النورانية وهي غير متناهية.
[في فرح من تنوّر بمعرفة ربّه وأشرق بأضواء انسه وحبّه]
من النفوس
الإنسانية نفس تنوّرت بمعرفة ربّه وأشرقت بأضواء انسه وحبّه واستشعرت بالارتباط
الخاصّ الذي بين العلّة والمعلول والاتّحاد الذي بين الجاعل والمجعول ، وعلم أنّه
أقوى النسب والروابط ؛ فعرف من ذلك نسبته الشريفة إليه وانتساب الكلّ إليه ،
وتيقّن بأنّ الموجودات بأسرها من رشحات
__________________
وجوده والكائنات
برمّتها صادرة من فيضه وجوده ، وأنّ الأعيان الممكنة متساوية في ارتضاع لبان
الوجود من ثدي واحدة ، والحقائق العينية سواسية في شرب ماء الفيض والجود من مشرع
الوحدة الحقّة ، كان فرحانا بالحقّ وبكلّ شيء ويدوم فرحه ؛ إذ الفرح بالحقّ يدوم
بدوام العلم ؛ فلا ينفكّ عنه وإن ورد عليه ما يوجب الحزن ؛ والفرح ومثله لا يبالي
بغير الحقّ ولا يطلب سواه وكلّ كمال عنده قليل بالنظر إلى معرفته وحبّه وانسه
واستغراقه في لجّة توحيده ؛ إذ حبّ الله يصل إلى حدّ لا يشعر المحبّ معه إلى شيء
آخر أصلا ؛ إذ البصيرة الباطنة أصدق من البصيرة الظاهرة وجمال الحضرة الربوبية
أوفى من كلّ جمال ؛ لأنّه الجمال البحت الخالص وكلّ جمال في العالم سواه فهو مختلط
ناقص ؛ ففرحه به يزيل كلّ ترح ويفرح بكلّ شيء يراه من دون تفاوت ؛ لأنّه لا ينظر إلى
سواه من حيث إنّه هو حتّى يظهر التفاوت ، بل إنّما ينظر إلى الكلّ من حيث انتسابه
إليه والكلّ في الانتساب إليه سواسية ؛ فلا جرم يكون فرحانا بكلّ شيء يراه متواضعا
له من دون تفاوت.
به جهان خرّم از
آنم كه جهان خرّم از اوست
|
|
عاشقم بر همه
عالم كه همه عالم از اوست
|
[في أنّ واجب الوجود بالذات واجب
الوجود من جميع الجهات]
واجب الوجود
بالذات واجب الوجود من جميع الجهات ؛ والمراد به أنّ جميع كمالاته ـ أي كلّ ما هو
كمال للموجود المطلق ـ / B ١٦٠ / حاصل له تعالى
بمحض ذاته أزلا وأبدا من غير افتقار فيه إلى غيره ؛ ولا يجوز أن يكون كلّ كمال
يمكن له
__________________
حصوله لم يحصل في مرتبة ذاته.
والدلالة عليه بعد
ما تقرّر من أشرفية الفاعل من فعله واستناد الكلّ إليه بواسطة أو بدونها وعدم كون
فعل الشيء كمالا له لأشرفية الفاعل من فعله وغير الأشرف لا يكون كمالا للأشرف أنّ
ما فقده في مرتبة لا يمكن أن يكون في الواقع كمالا ؛ إذ إيجاده إمّا منه أو من بعض
معلولاته ، وفعل الشيء وفعل فعله لا يكون كمالا له.
فإن قيل : ما ذكرتم في كلّ كمال يمكن أن يوجد له لا للموجود المطلق
لجواز أن يوجد لممكن ما هو كمال للمطلق ولم يحصل له.
قلنا : إيجاده إمّا منه أو من غيره ؛ فذاته أشرف منه كما علم ؛ فلا
يكون كمالا له ؛ وإذا لم يكن كمالا له لم يكن كمالا للموجود المطلق ؛ إذ كماله كماله بالضرورة.
وأيضا : اتّصاف الممكن بما هو الكمال دونه سبحانه يوجب أشرفية المعلول
من العلّة ؛ وهو باطل.
قيل : العلم والقدرة ونحوهما معلولة للواجب ؛ فلا يكون كمالا له.
قلنا : ما هو المعلول منها غير كمال وما هو الكمال غير معلول ؛
فإنّ الكمال الحقيقي ليس إلّا ذاته وكذا العلم والقدرة وغيرهما ، كما تقدّم
مفصّلا.
وممّا يدلّ على المطلوب أنّه لو وجد كمال للموجود المطلق ولم يتحقّق له في مرتبة
ذاته ، بل كان ممكن الحصول له بأن يحصل له بعد مرتبة ذاته لكان له قوّة ذلك الكمال
قبل حصوله ؛ ولا ريب في ثبوت فعلية بعض الكمالات له أيضا ؛ وظاهر أنّ حيثية
الفعلية غير حيثية القوّة ؛ فيتحقّق فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب في
ذاته ؛ وهو باطل.
__________________
[في أنّه تعالى تمام الأشياء]
واجب الوجود تمام
الأشياء ؛ بمعني أنّ جميع كمالات الأشياء حاصل له ولا يمكن أن يوجد كمال شيء من
الأشياء أن يكون كمالا للموجود المطلق ولا يتحقّق له.
وفرق هذه المسألة
عن المسألة السابقة أنّ مبنى الأولى على أنّه لا يمكن أن يوجد كمال في الموجود
المطلق لا يحصل له بذاته في مرتبة ذاته ، بل حصل له بعد الذات بإيجاده أو بإيجاد
غيره ؛ ومبنى الثانية على أنّه لا يمكن أن يوجد كمال لبعض الأشياء الموجودة
/ A ١٦١ / لا يتحقّق له أصلا ؛ ولذا لا
يمكن أن يستدلّ على الثانية بما استدلّ أوّلا على الأولى ؛ وهو أنّ ما لم يحصل له
في مرتبة ذاته ثمّ حصل لا يكون كمالا له ـ كما تقدّم ـ بل لا بدّ أن يستدلّ عليه
بما ذكر أخيرا من لزوم التركيب في ذاته.
وحاصله : أنّه تعالى بسيط الحقيقة وقد تقدّم أنّ كلّ بسيط الحقيقة
تمام الأشياء الوجودية ، كما صرّح به المعلّم الأوّل وغيره.
والمراد به أنّ
جميع كمالات الأشياء ـ أي وجوداتها ـ حاصلة له وإنّما يخرج عنه أعدامها ونقائصها ؛
فكما أنّ كلّه الوجود فكذلك هو كلّ الوجود.
وبيان ذلك ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ أنّه تعالى لو فقد مرتبة من الكمال الذي هو الوجود فلا يخلو
إمّا أن يكون قابلا لها أم لا.
فعلى الأوّل : يكون له جهة القبول وفيه أيضا جهة الفعلية لبعض الكمالات ؛
فيجتمع فيه جهتا الفعل والقوّة ؛ فيلزم التركيب في ذاته ؛ وهو باطل.
وعلى الثاني : فعدم قابليته لتلك المرتبة من الوجود :
[١.] إمّا لأجل
أنّها ليست كمالا له وإن كانت كمالا لبعض الأشياء ؛ وهذا
__________________
خلاف الفرض ؛ لأنّ
المفروض كون تلك المرتبة لا للموجود المطلق ؛ إذ المقصود من قولنا : «إنّ بسيط
الحقيقة تمام الأشياء الوجودية» أنّ كلّ كمالات الأشياء التي هي كمال للموجود
المطلق يتضمّنها بسيط الحقيقة ؛ فخلوّه عمّا ليس كمالا للموجود المطلق غير قادح في
المطلوب ؛ فجميع ما يسلب عن الواجب من الصفات كالجسمية والجوهرية والعرضية
والكمّية والكيفية من هذا القبيل ؛ أي ليس كمالا له ؛ فإنّ قولنا : «الواجب ليس
بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا كمّ ولا كيف» يرجع إلى سلب الأعدام والنقائص ؛ وسلب
السلب وجود وسلب النقصان كمال الوجود.
[٢.] وإمّا لأنّها
كمال للموجود المطلق ومع ذلك ليس الواجب تعالى قابلا له ؛ فذلك إنّما يتصوّر إذا
كان له قصور في مراتب الوجود بحيث لا يكون من شأنه أن يتّصف بهذه المرتبة من
الكمال ، كما أنّ الجسم في مراتب الوجود بحيث لا يمكن وليس من شأنه لقصوره أن يقبل
الوجود النفسي وكذا النفس ليس لها قبول الوجود العقلي والعقل ليس له قبول الوجود
الواجبى والعرض ليس له قبول الوجود الجوهري ؛ فيلزم / B ١٦١
/ أن يكون الواجب أنقص من بعض الموجودات وأقلّ مرتبة منه ؛ وهو باطل.
فإذن يجب أن يكون
بسيط الحقيقة تمام كلّ شيء. فواجب الوجود لكونه بسيط الحقيقة تمام كلّ الأشياء على
وجه أشرف وألطف ؛ ولا يسلب عنه شيء إلّا النقائص والأعدام والإمكانات والماهيّات ؛
فهو تمام كلّ شيء وتمام الشيء أحقّ بذلك الشيء من نفسه ؛ فهو أحقّ من كلّ حقيقة
بالصدق عليها.
والحاصل : أنّ الواجب ـ كما تقدّم ـ صرف الوجود والوجود المطلق ؛ فلا
يتصوّر وجود يكون فوقه وأكمل منه ؛ فكلّ وجود يكون تحته وأضعف منه ؛ فيجب أن يكون
مشتملا على كلّ الوجودات التي هي تحته وأضعف منه مع
بساطته الصّرفة
ووحدته الحقّة ؛ فإنّ الوجود كلّما كان أقوى تحقّقا وأتمّ تحصّلا كان مع بساطته أكثر
حيطة بالمعاني وأجمع اشتمالا على الكمالات المتفرّقة في الأشياء التي هي غيره ،
كما يظهر من المراتب الاستكمالية المندرجة في الكمال من الصورة إلى صورة متعاقبة
على المادّة بحسب تكامل استعداداتها لقبول صورة بعد صورة إلى أن يبلغ صورة أخيرة
يصدر منها جميع ما يصدر عن السوابق مع الزيادة لاشتمالها من جهة قوّة الوجود على
مبادئ تلك الأفاعيل بأسرها مع وحدتها وبساطتها.
فالوجود الواجبي
لكونه أقوى الوجودات وأتمّها تحصّلا يكون مع إطلاقه وبساطته الحقّة ووحدته الصّرفة
مشتملا على ساير الوجودات المقيّدة بالماهيّات. كيف وهو فاعل كلّ وجود مقيّد وكماله ؛ ومبدأ كلّ فضيلة
وكمال أولى بذلك الكمال من ذي المبدأ؟! فمبدأ كلّ الأشياء وفيّاضها يجب أن يكون
كلّ الأشياء على وجه أرفع وأعلى.
ألا ترى أنّ في
السواد الشديد يوجد جميع الحدود السوادية التي مرتبتها دون مرتبة ذلك الشديد على
وجه أبسط وفي الحرارة الشديدة يوجد جميع الحرارات الضعيفة التي أضعف من هذه
الشديدة وإن لم يشتملا على خصوصياتها العدمية وتعيّناتها الراجعة إلى النقص
والقصور وكذا في المقدار العظيم / A ١٦٢ / يوجد جميع
المقادير التي دونه من حيث حقيقة مقداريتها لا من حيث تعيّناتها العدمية من
النهايات والأطراف ؛ فالخطّ الواحد الذي هو عشرة أذرع مثلا يشتمل على الذراع
والذراعين إلى تسعة أذرع من الخطّ على وجه الجميعة الاتّصالية وإن لم يشتمل على
أطرافها العدمية التي يكون لها عند الانفصال عن ذلك الوجود الجمعي وتلك الأطراف
العدمية ليست في حقيقة الخطّية التي هي طول مطلق
__________________
حتّى لو فرض وجود
خطّ غير متناه لكان أولى وأليق بأن يكون خطّا من هذه الخطوط المعدومة المنفصلة
وإنّما هي داخلة في حقيقته هذه المحذورات الناقصة لا من جهة حقيقتها الخطّية ، بل
من جهة ما لحقها من النقائص والقصورات.
فكذلك حال أصل
الوجود وقياس إحاطة الوجود الجمعي الواجب الذي لا أتمّ منه بالنظر إلى الوجودات
المقيّدة المحدودة بحدود الأعدام والقصورات وقيود الماهيّات والإمكانات ؛ فإنّ
جميع الأعدام والنقائص خارجة عن حقيقة الوجود المطلق داخلة في الوجود المقيّد ؛
ولا تظنّن أنّ الوجود الصّرف المطلق الجمعي الواجبي هو بعينه تفيد وتفضل إلى
الوجودات المقيّدة المنفصلة الإمكانية المشوبة بالأعدام حتّى يكون مثال الوجود
الجمعي الواجبي وتقييده بالوجودات المنفصلة الإمكانية مثال مقدار واحد متّصل طويل
الفصل هو بعينه إلى مقادير قصيرة منفصلة بحيث يبطل وجوده الجمعي وتحصل وجودات
ضعيفة منفصلة ويتوقّف حصول الوجود الجمعى ثانيا على رفع الانفصالات وحصول الاتّصال
بينها ؛ فإنّ ذلك في غاية الفساد ، بل كفر صريح وزندقة صرفة ، لإيجابه أن لا تكون
للوجود الواجبي نشأة اخرى وراء نشأة الوجودات الإمكانية وأن لا يكون له تحقّق
وتحصّل خارجا عن المظاهر والمجالي ، بل المراد أنّ الوجود الجمعي الواجبي موجود
متحقّق بذاته وله نشأة وراء نشأة الممكنات وله تحقّق مغاير لتحقّقها وإنّما أوجد
وأفاض بالوجودات الإمكانية الضعيفة المشوبة بالأعدام والماهيّات ؛ ولكون وجوده
تامّا فوق التمام و/ B ١٦٢ / علّة الكلّ
وموجده يكون تمام الوجودات الإمكانية ؛ بمعنى أنّ ما هو الكمال منها لا يخرج عنه ،
بل يكون مشتملا عليه ؛ وليس المراد أنّ هذه الوجودات كما هي في الممكنات وعلى نحو
ما هي عليه من الكمالية في الواجب ؛ فهيهات إنّ ذلك من الأوهام الفاسدة ، بل
المراد أنّ هذه الوجودات من حيث وجوديتها وكماليتها لا يكون الواجب فاقدا ولكنّ
تحقّقها فيه على
وجه أعلى وأشرف وأكمل بحيث لا مقايسه ولا نسبة متناهية بل غير متناهية بين ما هو
في الواجب وما هو في الممكنات ؛ وليس حقيقة ما هو في الواجب وكيفية اشتماله له
معلومة لأحد ؛ فإنّ العالم الربوبي عظيم جدّا ولا يمكن أن يدركه أحد من الممكنات
المعلولة وما يظهر لنا من معارفه مشتهيات وتخيّلات مهيّجة للأشواق ومقرّبة إلى ما
هو الواقع ببعض الجهات.
وما يتوهّم من
ظاهر كلام بعض الصوفية من انفصال الوجود الجمعي الواجبي بعينه إلى الوجودات
المقيّدة الإمكانية ، كقول بعضهم في تفسير قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا
رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الرتق إشارة إلى وحدة حقيقة الوجود الواحد البسيط والفتق
إلى تفصيلها سماء وأرضا وعقلا ونفسا وملكا ؛ وكما أنّ الوجود حقيقة سارية في جميع
الموجودات على التفاوت والتشكيك بالكمال والنقص فكذا صفاته الحقيقية التي هي العلم
والقدرة والإرادة والحياة سارية في الكلّ سريان الوجوب على وجه يعلمه الراسخون.
فجميع الموجودات حتّى الجمادات جمّة عالمة ناطقة بالتسبيح شاهدة لوجود ربّها عارفة
بخالقها ومبدعها ليس محمولا على ما يتراءى منه في بادئ النظر كما يؤمئ إليه قوله :
«على وجه يعلمه الراسخون.»
والحقّ الذي يجب
أن يعتقده في هذا المقام كلّ موحد ديّن وهو أشرف الأنحاء في علوّ ذاته وقدرته
وقوّته وأفضل الوجوه في كيفية صنعه وإفاضته بحسب أذهاننا القاصرة هو ما تقدّم من
أنّه تعالى صرف الوجود التامّ الغير المتناهي من حيث الموجودية والكمال والقدرة
والقوّة كما يأتي الإشارة إليه ؛ وقد أفاض النظام الأكمل الأعلى الذي لا يعقل ولا
يتصوّر ؛ ولا يمكن في الواقع نظام وخلق أحسن وأفضل منه ؛ وهو مشتمل على المجرّدات
والمادّيات و
__________________
الجواهر والأعراض
؛ وهي وجودات خاصّة ذوات / A ١٦٣ / ماهيّات
مترتّبة في الصدور أوّلها متّصل في الكمال والقوّة بالمبدإ وآخرها بالعدم وهو
الهيولى ؛ وكلّها مباينة عن الواجب الحقّ إلّا أنّ المناسبة بين العلّة والمعلول
لمّا كانت لازمة وجب أن يكون إفاضته وإيجاده بمعنى الاستتباع وكون تلك الوجودات
تابعة لازمة له مترتّبة عليه ولكن بحيث لا ينافي الحدوث الذي أثبته الملّة ؛ وغاية
ما يمكنها من التمثيل لهذه التبعية أن يمثّلها بتبعية الظلّ لذي الظلّ والعكس لذي
العكس وإن كان الأمر في الواقع أجلّ من ذلك ؛ فهذه الوجودات الإمكانية وجودات
ظلّية تابعة للوجود الحقّ الواجبي وإنّما ظلّيتها بالنسبة إلى هذا الوجود المتأكّد
الحقّ ؛ فما بين ظلّ الشمس وظلّ الوجود الحقّ من الفرق كالفرق بين الحقّ والشمس.
ثمّ تقدّم أنّه من
رجوع المعلولية إلى التبعية وكون الوجودات الإمكانية كالأظلال للوجود الحقّ
الواجبي ومن شدّة الارتباط بين العلّة والمعلول ومن كون المعلول مع قطع النظر عن
العلّة محض اللاشيء وإن كان بملاحظتها متحقّقا متحصّلا ، يمكن الجمع بين قول
الصوفية القائلين بوحدة الوجود وقول الحكماء القائلين بتعدّده بأن يكون مراد
الحكماء أنّ الوجودات الإمكانية بملاحظة الواجب وتحقّقه امور متعدّدة متحقّقة تصدر
منها الآثار الخارجية والأفعال الواقعة وإن كانت مع قطع النظر عن الواجب معدومة
غير متحقّقة ؛ فلها حين وجودها في نظر العارف ملاحظتان :
إحداهما : ملاحظتها من حيث أنفسها مع قطع النظر عن استنادها إلى
الواجب الحقّ ؛ وبهذه الملاحظة تكون في نظره محض العدم واللاشيء.
وثانيتهما : ملاحظتها من حيث معلوليتها للواجب الحقّ القائم بذاته
وارتباطها به ؛ وبهذه الملاحظة امور متحقّقة متكثرة.
وأمّا الصوفية فما
ذكروه في بيان الوحدة كلمات يمكن حملها على ما ذكر ؛
ولو كان في كلام
بعضهم ما لا يمكن الحمل عليه فهو مخالف لصريح العقل والنقل.
منها : قولهم : «إنّ الممكنات امور اعتبارية» وهذا بالنظر إلى إحدى
الملاحظتين ـ أعني اعتبارها من حيث أنفسها مع قطع النظر عن علّتها ـ صحيح ؛ إذ
ظاهر أنّ المعلول في نظر الناظر إلى حقيقة الشيء من حيث هو مع قطع النظر عن علّته
مجرّد اعتبار.
ومنها : قولهم : «إنّ الممكنات شئون الحقّ / B
١٦٣ / وارتباطاته واعتباراته» وهذا أيضا صحيح من حيث إنّها
مرتبطة به سبحانه بأنفسها لا بارتباط آخر ؛ فهي بالنسبة إليه تعالى كلوازم
الماهيّة بالنسبة إليها ؛ وقد تقدّم أنّهم يسمّون المرتبط بالشيء بذاته بنفس
الارتباط.
ومنها : قولهم : «إنّها تجلّياته وظهوراته ومظاهره ومجاليه ومراياه
وأمثال ذلك» وهذا أيضا يمكن حمله على ما ذكرناه بأن يقال : إنّ الوجود الحقّ
الواجبي في غيب الغيوب ومكمن الخفاء وإنّما يظهر للبصائر بما هو بمنزلة أظلاله
وعكوسه التي هي الوجودات الإمكانية ؛ فهي مظاهره وظهوراته ومجاليه وتجلّياته.
ومنها : قولهم : «إنّها تنزّلاته وتطوّراته» وهذا أيضا يمكن حمله
على ما ذكر من حيث إنّ ظلّ الشيء وعكسه التابع له الناشي من ذاته الواقع من علوّ
مرتبة الذات إلى الأسافل نوع تنزّل وتطوّر له.
ومنها : قولهم : «إنّ الحقّ باطن الخلق والخلق ظاهره» وهذا أيضا
صحيح من حيث إنّه تعالى في غيب الغيوب وإنّما ظهوره بمخلوقاته التي هي بمنزلة
مراياه ومظاهره.
ومنها : قولهم : «الوجود الحقّ الواجبي سار في الممكنات» وذلك أيضا
يمكن حمله على ما ذكر بأن يقال : إنّه إشارة إلى شدّة الارتباط بين الواجب
والممكنات وكونها متحقّقة بتحقّقه وموجودة بوجوده ؛ فهو ما به موجوديتها ؛ فكأنّه
سار فيها ؛
وحمله على ما هو
ظاهره من كونه ساريا فيها بمعنى العارض لها ممّا لا معنى له ولا يمكن أن ينسب إلى عاقل.
ومنها : قول بعضهم : «إنّ الواجب أظهر الأشياء وهو عينها» وما تشابه
ذلك ممّا في كلامهم من إطلاق الواجب على بعض الممكنات ؛ وقولهم بأنّه الحقّ ؛ وهذا
أيضا يمكن أن يكون إشارة إلى شدّة الارتباط بينها ؛ فإنّ الحقّ أنّ الارتباط الذي بين العلّة والمعلول أقوى الارتباطات
وأشدّها ، بل هو أقوى وأشدّ من الارتباط الذي بين أجزاء شيء واحد ؛ والعارف الذي
صفى نفسه عن كدورات الطبيعة وحصل له التجرّد التامّ يشاهد بنور البصيرة هذا
الاتّحاد ؛ وربّما ظهر له في بعض خلساته ومجاهداته هذا الاتّحاد بحيث يغيب ويغفل
عن الاثنينية بالكلّية ؛ فتصدر عنه أمثال هذه الكلمات دفعة / A ١٦٤ / بلا فكرة ورويّة.
ومنها : ما ذكروه من أنّ للوجود ثلاث مراتب :
أوليها : الإطلاق الصّرف وهو الواجب.
وثانيتها : مرتبة الانبساط.
وثالثتها : مرتبة التقيّد وهو الممكن ؛ وقد تقدّم جليّة الحال فيه.
وبالجملة : لا إشكال في أكثر كلماتهم ولو في ظواهرها وإنّما الإشكال
والالتباس في بعض كلماتهم التي يدلّ بظاهرها على أنّ الوجود الواجبي هو بعينه صار
ممكنا أو على أنّ بعض الممكنات بعنوان التعيّن أو كلّها أو كلّ واحد منها هو
الواجب ؛ وغير خفيّ بأنّ ظاهر أمثال هذه الكلمات لا يمكن أن يكون مقصودا لأحد. فإن
كان مرادهم عنه ما ذكرناه فلا كلام وإلّا فليترك مع قائله ؛ فإنّه أعرف بما قال.
فالحاصل : أنّا نشاهد بالعيان ونعلم بالبرهان أنّ في الخارج موجودات
__________________
متكثّرة متحقّقة
ذوات آثار خارجية ؛ فالشقوق العقلية المتصوّرة في حقّها لا يخلو عن احتمالات :
الأوّل : أن تكون أشياء متحقّقة متحصّلة ، ذوات صفات وآثار خارجية
مباينة عن الواجب الحقّ ، معلولة له بالصدور عنه بعد عدمها المستمرّ الواقعي من
دون مناسبة وربط بينهما ؛ وهذا باطل من حيث إيجابه لارتفاع المناسبة بين العلّة
والمعلول.
الثاني : أن تكون وجودات خاصّة مشوبة بالماهيّات متحقّقة متحصّلة ،
ذوات آثار خارجية ، معلولة للحقّ الأوّل بالارتباط والتبعية ويكون ارتباطها به
كارتباط الظلّ لذي الظلّ ؛ ومباينتها عنه ؛ كمباينته عنه ، ويكون نشأة الواجب غير
نشأتها وإن كان كلّ ما لها من النشأة والتحقّق والآثار بالواجب تعالى ؛ وهذا هو
المختار الذي قرّرناه.
الثالث : أن تكون حقائق متحصّلة ذوات آثار ، كلّ منها واجب الوجود من
دون أن يكون واجب آخر خارجا عنها يكون هي معلولة له بشيء من الأنحاء المتصوّرة في
المعلولية والإفاضة ؛ وهذا أعظم مراتب الشرك وأشدّها.
الرابع : أن يكون مجموع هذه الموجودات ـ أي مجموع العالم ـ هو الواجب
دون كلّ شخص منه بأن يكون العالم كلّه كشخص واحد هو / B ١٦٤ / الواجب وكلّ فرد من الموجودات جزءا منه لا أن يكون
معلولا له ؛ وهذا أيضا كفر صريح ليس مذهبا لأحد من الصوفية.
الخامس : أن يكون لجميع هذه الموجودات أمر مشترك بينها مبهم غير
متحصّل كالكلّي الطبيعي هو الواجب ويكون تعيّنه بتقيّده بهذه الوجودات أو
الماهيّات الخاصّة حتّى يكون المبهم الغير المتحصّل هو الواجب والمتعيّن هو الممكن
؛ ويكون إيجاده عبارة عن تقيّده بالتعيّنات والتشخّصات ؛ وهذا باطل من
حيث إنّ المبهم لا
يصلح للواجبية لكون وجوده أضعف الوجودات ولا يمكن أن يكون المبهم بنفسه منشأ
للتأثير ولو بتقيّده بالتعيّنات وهو ظاهر.
السادس : أن يكون لها أمر مشترك متحصّل متعيّن بذاته هو واجب الوجود
ومع ذلك يقيّد بجميع هذه القيودات المتعيّنة من الوجودات والماهيّات الخاصّة ويكون
تقيّده بها عبارة عن إفاضته إيّاها ؛ وهذا الاحتمال يحتمل وجوها :
منها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتحصّل هو الوجود الصّرف
المتعيّن بذاته ويكون المراد بتقيّده بالوجودات الإمكانية هو استتباعه لها على
الترتيب السببي والمسبّبي وتكون التبعية كتبعية الظلّ لذي الظلّ ؛ وهذا هو ما
اخترناه ولا ضير فيه.
ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن الذي هو الواجب
وجودا مطلقا منبسطا ذا درجات ومراتب ويكون تقيّده بالممكنات عروجا لدرجاته ومراتبه
بأن تكون عارضة لذاته المنبسطة ويكون هذا التقيّد والعروض هو إيجاده وجعله وتكون
هذه الممكنات العارضة وجودات خاصّة متحقّقة متحصّلة بتحقّق غير تحقّق المعروض.
وبالجملة : تكون امورا عينية متحقّقة بأنفسها ذوات آثار خارجية إلّا
أنّها عارضة لذات هذا الوجود المنبسط ؛ وهذا فساده ظاهر ؛ إذ لا معنى لعروض الشيء
المتحقّق بنفسه والموجود الخارجي المتحصّل لذات الواجب مع أنّه لا يعقل كيفية
درجاته ولا يعلم مخصّص لعروض الممكنات لبعض درجاته وعروض بعض آخر لبعض درجاته
الآخر.
ومنها : أن يكون الأمر كما ذكر إلّا أن تكون الممكنات / A ١٦٥ / العارضة لدرجاته امورا اعتبارية غير متحصّلة حتّى يكون
مثاله مثال البحر والأمواج ؛ وهذا أيضا باطل ؛ لأنّ هذه الممكنات العارضة إن كانت
امورا اعتبارية واقعية نفس
أمرية فلا معنى
لعروضها لذات الواجب ؛ ولا يعلم أيضا وجه التخصّص لاختصاص بعضها بالعروض لبعض
درجاته وبعضها ببعض آخر ؛ وإن كانت اعتبارية محضة كأنياب الأغوال ؛ فهو بيّن
الفساد ؛ لأنّا نعلم بالبديهة أنّ هاهنا امورا مختلفة بالاختلاف الواقعي ومتعدّدة
بالتعدّد الواقعي ؛ فيلزم أن يكون التعدّد أيضا أشياء واقعية عينية منشأ للآثار
الخارجية ؛ فإنّ المراد بالأمر الواقعي العيني ليس إلّا ما تصدر عنه الآثار
الخارجية ونحن نرى ترتّب الآثار الخارجية على الأشياء المشاهدة والمعلومة بالبرهان
؛ وجعل الكلّ من الآثار ومنشأها من الاعتباريات بيّن الفساد.
وأيضا : يلزم أن ينحصر معلول الواجب تعالى في الاعتباري المحض مع
أنّه لا ريب في أنّ المعلول كلّما كان أتمّ وجودا وأقوى وأكثر آثارا في الخارج
يكون علّته أيضا أعلى وأكمل ؛ فيلزم منه إذن فرض وجود واجب له معلولات متحقّقة
ذوات آثار خارجية أشرف من هذا الواجب.
وأيضا : هذه الممكنات العارضة الاعتبارية إن كانت لها نشأة وتعقّل
وراء نشأة الواجب وتعقّله تكون اعتبارية وإلّا فيلزم أن تكون النشئات والتعقّلات
التي نشاهدها من الممكنات هي بعينها نشأة الواجب وتعقّلاته ولا يكون له وراء هذه
النشئات والتعقّلات نشأة وتعقّل آخر ؛ وهو أيضا باطل.
ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن بذاته هو صرف الحقّ
المتشخّص بالمشخّص الجزئي من دون أن يكون له انبساط وإطلاق يكون بمعنى الانبساط ؛
وإطلاق الإطلاق عليه في بعض الأحيان بمعنى عدم تقيّده في مرتبة ذاته بشيء من
القيود ؛ وتعيّنه إنّما هو بنفس ذاته ؛ وهذا الوجود المتعيّن المتشخّص مع جزئيته
قد تقيّد بكلّ قيد وتشخّص بكلّ تشخّص وتعيّن بكلّ تعيّن وتلبّس بكلّ لباس كوني
وظهر في كلّ مظهر وتجلّى في كلّ شيء وانضمّ إلى
/ B ١٦٥ / كلّ وجود خاصّ وماهيّة ؛ ومثال ذلك ما نقل عن بعض الكمّل
أنّه رأى في آن واحد في مجامع متكثّرة ؛ وهذا أيضا باطل ؛ إذ ما نقل من ظهور شخص
واحد في آن واحد في مجالس متعدّدة إن كان بمعنى ظهوره في آن واحد في تلك الأمكنة
ببدنه العنصري ؛ فهو ظاهر الفساد ؛ وإن كان بمعنى ظهوره فيها ببدنه المثالي فلو
سلّم جوازه فلا يجوز مثل ذلك في الواجب ، إذ تعلّق نفس واحد بأىّ بدن ـ سواء كان
عنصريا أو مثاليا ـ إنّما هو تعلّق تدبير وتصرّف لاستكمال تلك النفس وجلّ
جناب الحقّ من أن يكون تجلّيه في مجالي الممكنات من هذا القبيل.
وأيضا : ما ظهر فيه الوجود الحقّ الواجبي ـ أعنى الوجود الخاصّ
الإمكاني أو الماهيّة الخاصّة الإمكانية أو هذا الشخص الممكن أو ذاك أو غير ذلك
ممّا يعبّر عن المظهر والمجلى به ـ إمّا أن يكون له تحقّق وتحصّل مغاير لتحقّق
الحقّ المتجلّي فيه أم لا بل يكون أمرا اعتباريا واقعيا نفس أمري أو اعتباريا محضا
؛ وعلى التقادير إمّا أن يكون لوجود الواجب نشأة وتعقّل وراء نشأة كلّ شخص ممكن
وتعقّله أو لا بل ينحصر نشأته وتعقّله بهذه النشأة والتعقّلات المشاهدة والمعلومة
في الممكنات ؛ وفساد كلّ واحد من هذه الشقوق ممّا لا يخفى بعد الإحاطة بما سبق.
ومنها : أن يكون المراد بالأمر المشترك المتعيّن بذاته الذي هو
الواجب صرف الوجود الجزئي الغير المنبسط لكن تنزل أوّلا وانبسط وصار وجودا منبسطا
ثمّ تنزل وتقيّد بالممكنات حتّى يكون مثاله مثال ماء منجمد ذابّ فصار بحرا ذا
أمواج ؛ ويرد عليه جميع مفاسد الوجوه الثلاثة المتقدّمة مع أنّ الانبساط الذي لا
يخلو عن التغيّر والاختلاف لا يعقل عروضه للوجود الحقّ الواجبي.
ثمّ ظهور البحر
حينئذ بصورة الأمواج ليس إلّا بتزايد في حجمه وتغيّر في
__________________
وصفه. فتقدّر وجود
الواجب بعد انبساطه لو كان بهذا المعنى لزم تغيّره واختلافه ، تعالى عن ذلك علوّا
كبيرا.
السابع : أن يكون للممكنات أمر مشترك منبسط وهو الوجود المنبسط وتكون الماهيّات الإمكانية اعتبارية
وعارضة لدرجاته / A ١٦٦ / ولا يكون هذا
الأمر المنبسط هو الواجب ، بل يكون معلولا للوجود الحقّ الواجبي المجعول من كلّ
جهة ؛ وهذا يرجع إلى أنّ المعلول الأوّل هو هذا المنبسط وهو الوجود الخاصّ لجميع
المعلولات وماهيّاتها عارضة له. فالفرق بينه وبين ما ذكره الحكماء أنّه يلزم على
هذا أن يكون الوجودات الخاصّة للممكنات واحدا ؛ وعلى ما ذكره الحكماء يكون متعدّدة
؛ وقد تقدّم في ما سبق وجه فساده.
الثامن : أن يكون الوجود الحقيقي منحصرا في واحد هو الوجود الواجبي ولا يكون للممكنات وجود حقيقية ، بل كان
موجوديتها بمجرّد الانتساب إلى حضرة الوجود الحقيقي ؛ وهذا هو المذهب المعروف بذوق
المتألّهين ؛ وقد تقدّم وجه فساده.
هذه هي الوجوه
المتصوّرة في هذا المقام بحسب الاحتمال العقلي ؛ وقد عرفت أنّ كلّ واحد منها لا
يخلو عن فساد سوى ما ذكرناه ولسنا نتصوّر احتمالا آخر حتّى نتأمّل في صحّته أو
فساده ؛ فتثبّت في المقام ؛ فإنّه من مزال الأقدام وفيه يتميّز الكفر عن الإسلام.
[في أنّه تعالى غير متناهي القوّة والشدّة ، وما سواه متناه محدود]
واجب الوجود غير
متناهي القوّة والشدّة وما سواه متناه محدود ؛ وذلك لما
__________________
عرفت من أنّه محض
حقيقة الوجود الذي لا يشوبه شيء غير الوجود ؛ فلا يلحقه حدّ ونهاية ؛ إذ لو كان له
حدّ ونهاية كان له تخصّص وتجدّد بغير حقيقة الوجود ؛ فيحتاج إلى سبب تخصّصه
وتجدّده ؛ فلم يكن محض حقيقة الوجود.
وتوضيح ذلك : أنّ كلّ وجود خاصّ إمكاني وكلّ ماهيّة خاصّة إمكانية لقصوره
عن الحيطة التامّة محدود بحدود خاصّ جامع ومانع تخرج عنه أشياء كثيرة ولا يكون
متحقّق الوجود في جميع المراتب الوجودية ؛ فتتحقّق قبل وجوده الخاصّ مرتبة من
مراتب نفس الأمر لا يكون هو موجودا في تلك المرتبة وإن كان موجود خاصّ آخر متحقّقا
فيها.
وأمّا الواجب
تعالى فلكونه صرف الوجود المطلق عن كلّ قيد لا يكون له حدّ محدود في الوجود ولا
ماهيّة محدودة بحدّ خاصّ فاقد لأشياء كثيرة ولا توجد مرتبة في الواقع لم يكن هو
موجودا في تلك المرتبة ؛ فإنّ معنى كونه وجودا صرفا بحتا أنّه ليس له جهة اخرى غير
الوجود وتأكّده ؛ فجميع حيثياته حيثية واحدة هي حيثية / B ١٦٦ / وجوب الوجود ؛ فلا حدّ له ولا نهاية في الوجود ؛ فهو غير
متناه في الوجود ؛ بمعنى أنّ كلّ وجود ذي قوّة وشدّة فرض له فوجوده أشدّ منه ولا
ينتهي إلى حدّ محدود في الشدّة ؛ فهو غير متناه في مراتب الشدّة والكمال كلّ مرتبة
منها متناه في عدّة الآثار والأفعال ؛ فلا يخلو عنه وجود شيء من الأشياء ؛ ولو كان
لوجوده نهاية كان بإزاء وجوده جهة وبإزاء نهايته جهة اخرى ؛ فلم يكن واحدا حقيقيا
وكان ذا ماهيّة مخصوصة ؛ فكلّ واحد حقيقي يجب أن يكون غير متناهي الشدّة والقوّة ؛
فيكون كلّ الأشياء الوجودية ، كما مرّ.
فالواجب سبحانه لا
نهاية له ولا حدّ ولا يعتريه قوّة إمكانية ولا نقص ولا يلحقه ماهيّة ولا يشوبه
عموم وخصوص ولا جنس له ولا فصل ولا تشخّص له بغير ذاته ولا صورة له كما لا فاعل له
ولا غاية له كما لا نهاية له ، بل هو صورة
ذاته ومصوّر كلّ
شيء وذاته كمال ذاته وكمال كلّ شيء ؛ لأنّه بالفعل من جميع الوجوه ؛ فلا برهان
عليه ولا معرّف له كما لا حدّ له ؛ فهو الذي دلّ على ذاته [بذاته] وتنزّه عن
مجانسة مخلوقاته.
__________________
اللمعة الثالثة
في كيفية ايجاده وافاضته
وصدور أفعاله
[في قاعدة الإمكان الأشرف]
المعروف من
المعلّم الأوّل أنّ الممكن الأشرف يجب أن يكون أقدم من الممكن
الأخسّ في مراتب الوجود وأنّ الأخسّ إذا وجد لا بدّ أن يكون الأشرف قد وجد قبله ؛
وهذا أصل عظيم نافع في كثير من المباحث ، منشعب من أصل امتناع صدور الكثرة عن
الواحد ؛ ويسمّى بقاعدة «الإمكان الأشرف» وقد استعملها الشيخ في ترتيب نظام الوجود
وبيان سلسلة البدو والعود ؛ وصاحب الإشراق في إثبات العقول والمثل النورية ؛ وصاحب
الشجرة الإلهية في بعض المباحث.
وبالجملة : هي قاعدة مبرهنة مقبولة مسلّمة عند القدماء والمتأخّرين ؛
والبرهان عليها يمكن أن يقرّر بوجوه :
الأوّل : أنّه لو وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف مع إمكانه قبله لزم أن
يصدر من الواحد الحقّ ما لا يناسبه من الكثرة ؛ إذ لا ريب في أنّ المعلول المناسب
للعلّة الواجبة التي هي صرف الوحدة هو ما كان فيه الجهات العرضية ـ أي اللازمة
للمجعولية ـ أقلّ ما يتصوّر / A ١٦٧ / في كلّ معلول
ممكن ؛ أي لا يتصوّر في الممكنات المعلولة ممكن أقلّ تكثّرا منه وغيره ممّا هذه
الجهات فيه أكثر لا يكون
__________________
مناسبا له ؛ ولا
ريب في أنّ تلك الجهات في الأخسّ أكثر من تلك الجهات في الأشرف ؛ فإذا صدر منه
الأخسّ دون الأشرف لزم صدور الكثرة الغير المناسبة للواجب عنه ؛ وهو محال.
الثاني : أنّ الأخسّ لو وجد قبل الأشرف فإن لم يوجد الأشرف أصلا فعدم
صدوره إمّا لعدم إمكانه فهو خلاف المفروض أو لموانع خارجة عن العلّة والمعلول فهي
غير متصوّرة في المقام أو لعدم تماميته في علّة الأخسّ وقصورها بأن يستدعي الأشرف
جهة مقتضية له أشرف ممّا عليه واجب الوجود ؛ فيكون عدم حصوله في الخارج مع إمكانه
لعدم علّته من جهة أنّه بمرتبة من الشرافة يستدعي علّة أشرف من علّة الأخسّ ؛ فهو
ظاهر الفساد ؛ إذ علّة الأخسّ هو الواجب تعالى ؛ فيلزم أن يقتضي الأشرف علّة أشرف
منه ؛ وهو محال ؛ لأنّه تعالى في الذات والكمال فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى
شدّة وعدّة ، وإن جاز وجوده ولكن مع الأخسّ أو بعده وبواسطته لزم صدور الاثنين من
الأوّل في مرتبة واحدة أو كون المعلول أشرف من علّته.
الثالث : لو وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله لزم خلاف الفرض أو جواز
صدور الكثير عن الواحد أو الأشرف عن الأخسّ أو وجود جهة أشرف ممّا عليه الأوّل
تعالى ؛ إذ وجود الأخسّ إن كان بواسطة الأشرف لزم الأوّل وإلّا فإن جاز صدور
الأشرف من الواجب لزم الثاني أو من الأخسّ لزم الثالث وإن لم يجز شيء منهما لزم الرابع.
فيثبت أنّ وجود
الممكن الأخسّ قبل الأشرف محال ؛ فيمتنع أن يتخلّف عن وجود الواجب الذي لا يتصوّر
أشرف منه وجود الممكن الأشرف ويجب أن يكون أقرب إليه وأن يكون الوسائط بينه وبين
آخر المعلولات التي لا أخسّ منه
__________________
الأشرف ؛ فالأشرف
من مراتب العلل والمعلولات بأن يصدر الأخسّ من الأشرف من دون جواز العكس إلى آخر
المراتب للأدلّة المذكورة.
[في عدم جريان قاعدة الإمكان الأشرف في الحوادث وما تحتها]
هذه القاعدة إنّما
تطّرد وتجري في المبدعات وما فوق / B ١٦٧ / الكون ممّا
يكون التأثير والتأثّر فيه بحسب الإفاضة والإيجاد دون الحوادث وما تحتها ممّا يكون التأثير والتأثّر فيه بحسب الشرطية والإعداد
وإلّا لم يكن بعض الأشخاص الحادثة ممنوعا عمّا هو أشرف وأكمل له ولم يكن بعضها
الأخسّ متقدّما على بعضها الأشرف مع أنّا نرى أنّ أكثر الخلق ممنوعون عمّا يتصوّر
ويجوز في حقّهم من الكمالات العقلية الحسّية مع أنّ حصولها لهم أشرف وأكمل من عدم
حصولها لهم. فكلّ شخص فاقد للكمالات الممكنة في حقّه أخسّ من هذا الشخص إذا كان
متّصفا بها ؛ فقد وجد هذا الممكن الأخسّ قبل وجود الممكن الأشرف ؛ وكذا ترى أنّ
الأخسّ في سلسلة الإعداد متقدّم على الأشرف كالنطفة متقدّم على الحيوان والبيضة
على الدجاج والنواة على الشجر والأب الجاهل الشقيّ على الابن العالم التقيّ وهكذا.
فيظهر من ذلك أنّ
جريان القاعدة إنّما هو في الثابتات والإيجاد دون الحوادث والإعداد ؛ والسرّ أنّ
المبدعات تابعة في الشرافة والخسّة لعللها ؛ فلا يتصوّر فيها اختلاف إلّا
باختلافها واختلاف جهاتها وعللها ، لكونها دائمة الوجود ، ثابتة متعالية عن حركات
الأفلاك وتأثيراتها ، لا يكون فيها تجدّد وتغيّر واختلاف ؛ فلا يتخلّف مقتضيا ؛ فيكون معلولاتها أيضا كذلك ؛ فإذا اقتضى الفاعل
__________________
الأشرف أن يصدر
منه الأشرف فالأشرف يجب أن لا يتخلّف ذلك عنه ، لعدم عائق له ؛ فلا يكون شيء من
المبدعات ممنوعا عن شيء من كمالاته الممكنة في حقّه ولا شيء منه أخسّ متقدّما على
شيء منه أشرف.
وأمّا الحوادث
فلكون شرافتها وخسّتها تابعة لاستعدادات مختلفة مستندة إلى حركات وأوضاع سماوية
مختلفة ؛ فيجوز فيها أن يمنع بعضها عن بعض كمالاتها ويتقدّم الأخسّ فيها على
الأشرف ، لاختلاف الاستعدادات المستندة إلى اختلاف الحركات والأوضاع الفلكية.
[في ما أورد على قاعدة الإمكان الأشرف]
قد أورد على
القاعدة المذكورة إيرادان :
أحدهما : أنّ وجود جهة أشرف ممّا عليه الواجب وإن كان ممتنعا بالذات
ولكنّ الممتنع بالذات استحال أن / A ١٦٨ / يكون ممكنا
بالذات ؛ إذ الامتناع والإمكان الذاتيّان لا يجتمعان نظرا إلى أنّ الشيء الواحد
بالنظر إلى ذاته لا يكون ممتنعا وممكنا وإلّا لزم الانقلاب ولكنّه يكون ممكنا
بالقياس إلى الغير ؛ إذ معنى إمكان الشيء بالقياس إلى الغير أن يكون هذا الغير
مستدعيا لإمكان هذا الشيء بالاستدعاء الأعمّ من العلّية بمعني أنّ وجود هذا الشيء
وعدمه إذا اعتبر بالنسبة إلى هذا الغير كانا بالنظر إليه متساويين وإن لم يكن هذا
الغير علّة لهذا التساوي وكان في الواقع ممتنعا ؛ وعلى هذا فيجوز أن يكون جهة أشرف
ممّا عليه الواجب ممتنعة بذاتها ومع ذلك كانت ممكنة بالقياس إلى الممكن الأشرف
الذي لم يوجد قبل الأخسّ ؛ وعلى هذا فعلّة الممكن الأشرف هذه الجهة الممكنة
بالقياس إليه وعدم وجوده لامتناعها في الواقع وبالنظر إلى ذاتها.
__________________
والجواب عنه بوجهين :
الأوّل : أنّ كلّ كمال ممكن في ذاته أو بالقياس إلى الغير ، بل كلّ
كمال متصوّر ومعقول يجب أن يكون متحقّقا بالفعل في الواجب تعالى ؛ لأنّه في الكمال
والشرافة فوق غير المتناهي بقدر الغير المتناهي ؛ فهذه الجهة التي فرضت أشرف ممّا
عليه الواجب لو كانت ممكنة بالقياس إلى الممكن الأشرف وجب أن تكون موجودة في الواجب
تعالى ؛ إذ بعد ما ثبت أنّه واجب الوجود من جميع الجهات وأنّه كلّ الأشياء
الوجودية ـ أي يشتمل على جميع كمالات الممكنات ـ وأنّه غير المتناهي في الكمال لا
يمكن ولا يتصوّر كمال بالقياس إلى شيء من الأشياء إلّا ويكون موجودا فيه. فالجهة
الممكنة علّته بالقياس إلى الممكن الأشرف ، بل كلّ جهة كمالية متصوّرة تكون موجودة
في الواجب تعالى ولا يكون فاقدا لها ؛ ولا تكون هذه الجهة ممتنعة لذاتها ، بل تكون
واجبة لوجودها في الواجب تعالى ؛ فما هو الممتنع لذاته من الجهة التي يكون أشرف
ممّا عليه الواجب هو ما لا يكون ممكنا بالقياس إلى شيء أصلا ، بل ما لا يمكن
تصوّره وتعقّله ولا يدخل في مدرك من المدارك ؛ إذ كلّ كمال وشرافة يدركه أحد من
المدارك يكون موجودا في الأوّل تعالى ؛ / B ١٦٨ / فقولهم : «الامتناع الذاتي يجامع الإمكان بالقياس إلى
الغير والشيء الواحد يجوز أن يكون ممتنعا لذاته وممكنا بالقياس إلى الغير» إنّما
هو إذا لم يوجب فرض إمكانه بالقياس إلى الغير وجوده في الواجب المقتضي لوجوبه
المستلزم لخلاف الفرض ؛ أي خروجه من الامتناع الذاتي ، كما إذا اعتبر اجتماع
النقيضين مثلا بالقياس إلى بعض الممكنات ؛ فإنّه لا يؤدّي ذلك إلى وجوده في الواجب
حتّى يلزم خلاف الفرض.
الثاني : أنّ المجعول بالذات والصادر من الفاعل ـ كما عرفت ـ هو
الوجود الخاصّ دون الماهيّة. نعم بعد صدوره يحلّله العقل إلى وجود وماهيّة ؛
فالماهية تابعة
للوجود ومنتزعة
عنه ؛ فالإمكان ـ سواء جعل وصفا للوجود بمعنى كونه متعلّقا مرتبطا بالأوّل تعالى
أو وصفا للماهيّة بمعنى عدم اقتضائها شيئا من الوجود والعدم ـ يكون تابعا للوجود ؛
فالممكن في الحقيقة هو الوجود وجميع سلسلة الوجودات ينتهي إلى الواجب تعالى ؛ فلا
يتصوّر ممكن من الممكنات لا يكون وجوده ـ إذا فرض ـ مستندا إلى الواجب بالواسطة أو
بدونها ولا أن يكون بحيث يستدعي إمكان وجوده علّة هي غير الواجب فضلا عن أن يكون
ممتنعة بالذات ؛ فالممكن الأشرف الذي فرض عدم وجوده إذا اقتضى وجوده علّة لا بدّ
أن تكون تلك العلّة هي الواجب تعالى بلا واسطة أو بواسطة ؛ ولا يمكن أن تكون جهته
ممتنعة بالذات.
وثانيهما : أنّ الواجب ـ كما مرّ ـ غير متناه في الوجود ؛ فيشتمل على
مراتب غير متناهية من الوجود ؛ فلو صدر منه الأشرف فالأشرف إلى ما لا أخسّ منه في
الوجود ـ كما تقتضيه القاعدة المذكورة ـ لزم أن يصدر منه جميع تلك المراتب الغير
المتناهية من الوجود في السلسلة الطولية ؛ فيلزم أن يصدر منه وجودات خاصّة غير
متناهية مجتمعة مترتّبة بالترتّب الذاتي ؛ وهو محال ؛ مع أنّه يلزم كون غير
المتناهي محصورا بين حاصرين ؛ وهو بيّن الفساد ؛ وأيضا : العقول إمّا ماهيّات
نورية ـ أي أنوار محضة متّفقة في حقيقة النورية متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال
والنقص ـ كما هو مقتضى ذوق الإشراق أو وجودات خاصّة متفاوتة / A ١٦٩ / أيضا بالشدّة والضعف والكمال والنقص في معنى عرضي هو
الوجود العامّ كما هو المختار عندنا أو معنى ذاتي هو طبيعة الوجود المطلق وهو
حقيقة بسيطة خارجية كما ذهبت إليه بعض الصوفية ؛ وعلى التقادير يلزم أن يوجد بين
كلّ عقلين واقعين في سلسلة العلّية والمعلولية وبين الواجب والعقل الأوّل أفراد
غير متناهية ؛ إذ ما من مرتبة من الشدّة إلّا ويتصوّر بينها وبين كلّ من طرفيها
الموجودين مرتبة اخرى ، بل مراتب غير متناهية هي أشدّ ممّا تحتها وأضعف ممّا
فوقها ؛ فتجري
فيها القاعدة المذكورة وتحكم بوجودها ؛ فيلزم أن توجد بين كلّ عقلين عقول غير
متناهية مجتمعة مترتّبة بالترتّب الذاتي ، محصورة بين حاصرين ؛ وهو باطل بوجهين.
والجواب : انّا نلتزم أنّ مراتب الوجود الصادرة منه تعالى غير متناهية ـ كما
تقتضيه القاعدة المذكورة ـ ولكن لا يلزم عدم تناهي سلسلة العقول
الطولية ؛ إذ ذلك إنّما يكون إذا اشتمل كلّ من العقول على مراتب متناهية من الوجود
؛ وهو ممنوع ؛ إذ كلّ عقل لقربه بصرف الوجود وضعف الجهة العدمية ـ أعني الماهيّة ـ
فيه يشتمل على مراتب وحدود غير متناهية من الوجود ؛ وكونه ذا ماهيّة لا يوجب
محدوديته [و] عدم تناهيه ، لضعف الماهيّة فيه وقربه إلى صرافة الوجود ؛ فالواجب
لكونه صرف الوجود يشتمل على جميع المراتب الوجودية على وجه جمعي أعلى وأشرف [و]
كلّ مرتبة منها غير متناهية ويصدر عنه جميع الموجودات على وجه أفضل وأكمل لا
يتصوّر فوقه في العلوّ والشرافة ؛ والصادر الأوّل لغاية قربه منه يشتمل على بعض
المراتب الوجودية التي كلّ منها أيضا غير متناه وبواقيها يختصّ بالعالم الربوبي.
ثمّ الصادر الثاني يشتمل على مراتب أقلّ من المراتب التي يتضمّنها الصادر الأوّل
وإن كانت غير متناهية أيضا وهكذا إلى العقل الآخر.
ومن تأمّل في حال
النفس الناطقة الإنسانية وكثرة عوالمها واشتمالها على حدود ومراتب وجودية كثيرة
يزول تعجّبه عن إحاطة العقول على مراتب وجودية غير متناهية ؛ فإنّ النفس مع وحدتها
وبساطتها وخروج جميع الأجزاء البديهية من الأعضاء والروح الحيواني والمدركات
الذهنية والماهيّات / B ١٦٩ / العقلية عن
هويّتها وإنّيتها لذهولها عن جميعها وغيبته عنها وعدم ذهولها وغيبتها عن ذاتها لها
درجات وحدود ذاتية ، بل ليست محدودة في حدّ معيّن ومرتبة
__________________
خاصّة لا يتعدّاها
؛ فإنّها بذاتها تعقل المعقولات وتدرك المتخيّلات والمتوهّمات والمحسوسات ؛ فإنّ
المدرك لجميعها بالذات هو النفس وإن كانت القوى الجزئية من الخيال والوهم والحواسّ
الظاهرة شروطا وآلات ومعدّات لإدراكها الأشياء المتخيّلة والمتوهّمة والمحسوسة
واستعمالها لتلك الآلات مخصّصا لحدوث إدراكاتها.
ومن زعم «أنّ
النفس يدرك المعقولات بذاتها وما سواها من المتخيّلات والمتوهّمات والمحسوسات
بالآلات بمعنى أنّ المدرك لها بالذات هي الآلات دون النفس» فقد أخطأ ؛ إذ المستعمل
لآلة جزئية في أمر جزئي لا بدّ أن يدركهما وإلّا لم تكن الآلة آلة ، بل حيوانا
مبائنا منضمّا إلى غيره ؛ فيلزم أن يكون مثل البصر والسمع فينا حيوانا مباين الذات
عنّا وصار بصورته ومادّته ونفسه وجسده عضوا من أعضائنا ؛ وفساده ممّا لا يخفى.
فظهر أنّ النفس مع
وحدة وجودها وهويّتها لها درجات ذاتية من حدّ العقل إلى حدّ الطبيعة والحسّ ؛ فلها
مقام في عالم العقل ومقام في عالم المثال ومقام في عالم الحسّ والطبيعة ؛ وكلّ
واحد من هذه المقامات له درجات ومراتب متفاوتة شدّة وضعفا وكمالا ونقصا ؛ فإذا
كانت النفس حالها كذلك مع بعدها عن أوّل الأنوار ومنبع الجود وغاية هبوطها ونزولها
عن افق العزّة وسماء الوجود ؛ فما ظنّك بالعقول القادسة التي هي في غاية القرب إلى
النور المحض وصرف الوجود ؛ فلكلّ منها وحدة جمعية تنطوي فيها حدود ومراتب غير
متناهية فرضية موجودة بوجود واحد إجمالي أعلاها متّصل بأدنى مراتب سابقة وأدناها
متّصل بأعلى درجات لاحقة هذا.
والجواب عن التقرير الأوّل للشبهة بالتزام تناهي مراتب العقول
وتخصيص
__________________
عدم التناهي
بالمرتبة الخاصّة بالواجب ؛ وعن التقرير الثاني لها بمنع تصوّر المراتب / A ١٧٠ / والحدود الغير المتناهية بين كلّ مرتبة من المشكّك وبين
كلّ طرفيه يخالف قواعد الحكيمين وينافي تصريحات الفرقتين.
[في ترتيب صدور الموجودات على مقتضى قاعدة الإمكان الأشرف]
مقتضى القاعدة
المذكورة أن يبتدأ الوجود من الأشرف فالأشرف على الترتيب السببي والمسبّبي حتّى
ينتهي إلى أخسّ الموجودات ؛ وقد علمت أنّ العلّية والجعل والإفاضة وأمثالها راجعة
إلى الاستتباع وأنّ المعلولية والمجعولية راجعة إلى التعلّق والتبعية ؛ فهويّات
الثواني متعلّقة على ترتيبها بالأوّل تابعة له.
ومقتضى القاعدة أن
يكون أوّل الصوادر أشرف الموجودات وأجلّها ؛ وما هو إلّا العقل ، لقضاء الضرورة
بأشرفيته من ساير الموجودات الإمكانية من النفوس والطبائع والقوى والأجسام بأسرها
؛ وقد بيّنّا سابقا من جهة لزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ومن طريق كون العقل
أوّل الصوادر وأشرنا إلى كيفية صدور الكثرة وإلى عدد العقول عند المشّائين وأشرنا
إلى أنّ ما ادّعاه في هذا التحديد هو كون الأفلاك تسعة ؛ وأمّا الإشراقيّون فلا
يصحّ عندهم هذا التحديد ولا ما ذكره المشّاءون من جهات الكثرة وكيفية صدورها ، بل
طريقهم في جميع ذلك نحو آخر.
وبيانه إجمالا ـ بعد ما يعلم [من] أنّ الإشراقيّين يعبّرون عن العقول بالقواهر وعن المجرّدات بأسرها والنفوس المجرّدة بالأنوار
وعن الواجب بنور الأنوار وعن الأجسام الفلكية والعنصرية بالبرازخ ـ : أنّهم ذكروا أوّلا أنّ ما ذهب إليه
__________________
المشّاءون في بيان
صدور الكثرة عن الواحد الأحد وترتيبها ليس بمستقيم ؛ لأنّ النور الأقرب ـ أي العقل
الأوّل ـ إذا صدر من نور الأنوار ثمّ حصل من النور الأقرب نور مجرّد آخر هو العقل
الثاني وبرزخ هو الفلك الأعلى ثمّ حصل من النور الثاني نور ثالث هو العقل الثالث
وبرزخ هو فلك الثوابت وهكذا يحصل من عقل عقل وفلك إلى أن تحصل عشرة عقول وتسعة
أفلاك وعالم العناصر ـ كما يقوله المشّاءون ـ لزم أن يوجد في النور الذي يصدر منه
فلك الثوابت من جهات / B ١٧٠ / الكثرة ما يصحّ
أن تصدر لأجلها تلك الكواكب المذكورة فيه بكثرتها ؛ وهذا غير ممكن ؛ إذ أعداد هذه
الكواكب غير محصورة ؛ لأنّها أكثر من قطرات البحار وذرّات الرماد ؛ فلا يمكن أن
تحصل هذه الكثرة من النور الأقرب وهو ظاهر ولا من أحد الأنوار العالية ـ أي الأقرب
إلى المبدأ من الأنوار المفيضة للأفلاك التي تحته ـ إذ ليس فيه جهات كثرة يصحّ
صدور تلك الكثرة سيّما على رأي من جعل في كلّ عقل جهة وجوب وإمكان لا غير ؛ ولا من
أحد الأنوار السافلة ـ أي الأبعد من المبدأ بالقياس إلى بعض الأنوار المفيضة لبعض
الأفلاك التي تحته ـ إذ لا يتصوّر أن يكون برزخ النور السافل كالثامن مثلا أكثر من
برزخ النور العالي كالثالث مثلا وفوقه ولا أن يكون كواكبه أكثر من كواكبه ، لوجوب
كون البرزخ الصادر من السافل أصغر من العالي وأسفل مكانا وأقلّ كوكبا منه.
فثبت أنّ ما أثبته
المشّاءون من العقول وجهاتها لا يكفي لصدور الكثرة التي في الكواكب مع أنّ كلّ
كوكب في كثرة الثوابت له وضع وموضع وقدر معيّنة مخصوصة ولا بدّ من اقتضاء مفيض
يتخصّص به ؛ لأنّ هذا التخصّص ليس من ماهيّة الثامن ولوازمها لاستواء نسبتها إلى
جميع المواضع منه ، لبساطة الأجرام الفلكية وكونها على طبيعة واحدة.
هذا إذا كانت
الثوابت متّفقة بالنوع حتّى تحتاج إلى العلل الكثيرة في
التخصّص ولو كانت
مختلفة بالنوع فامتناع صدورها أظهر ؛ إذ حينئذ تحتاج إلى العلل الكثيرة في
الإيجاد.
وأيضا : لا بدّ للأجسام المثالية الثابتة عندهم من علل عقلية ولا
يمكن استنادها إلى شيء على طريقة المشّائين ؛ فإذن يجب أن تكون الأنوار القاهرة
المجرّدة عن البرازخ وعلائقها كثيرة غاية الكثرة بحيث يمكن أن تصدر عنها الكثرة
البرزخية والمثالية ولا يلزم أن يصدر من كلّ منها برزخ مستقلّ ـ أي فلك تامّ ـ حتّى
يرد أنّه لو كان كذلك لكان الأفلاك أكثر من الواقع ؛ إذ يصدر من بعضها برزخ غير
مستقلّ ـ أي كوكب مركوز في المستقلّ ـ والطريقة / A ١٧١
/ الإشراقيّة التي يتصحّح بها صدور الكثرة المشاهدة عن الواحد ويظهر منها كثرة
الأنوار وعدم انحصارها في أعداد محصورة ـ كما ذكره المشّاءون ـ هي الطريقة
المبتنية على إشراق كلّ نور عال على ما تحته ومشاهدة كلّ نور سافل لما فوقه وانعكاس الشعاع من بعض الأنوار القاهرة على بعض وحصول
الترتيب الأليق والنظم الآنق بين الانعكاسات الشعاعية.
وتحقيق هذه الطريقة متوقّف على بيان
قواعد إشراقيّة :
الأولى : لا ريب في كثرة البرازخ ـ أي الأفلاك الكلّية والجزئية ـ وكلّ
واحد من هذه البرازخ غير غنيّة لإمكانها ، بل مفتقرة في تحقّقها إلى نور مجرّد ،
لما سبق من أنّ حركتها حركة مستديرة إرادية وكلّ حركة مستديرة إرادية لا بدّ لها
من محرّك حيّ هو نفسه الناطقة المتصرّفة فيه التي هي نور مجرّد قائم بذاته ؛ ولمّا
لم يمكن أن يصدر من نور الأنوار غير نور واحد هو النور الأقرب ـ أعني العقل الأوّل
ـ وليس فيه جهات كثرة كما في نور الأنوار ـ أعني الواجب تعالى شأنه ـ إذ جهات
الكثرة في النور الأقرب ـ سواء كانت ذاتية أو عرضية ـ ترجع إلى كثرة
__________________
جهات علّته ـ أعني
نور الأنوار ـ وتكثّر الجهات فيه محال ؛ فكذا فيه أيضا وفي البرازخ كثرة كما ظهر ؛
فإن حصل بالنور الأقرب برزخ واحد ولم يحصل منه نور مجرّد توقّف الوجود عنده ولم
يحصل شيء من الأنوار والبرازخ لامتناع صدورها من الجسم وليس كذلك لظهور الكثرة في
البرازخ والأنوار المدبّرة لها وإن حصل من النور الأقرب أيضا نور مجرّد ومن هذا
النور نور مجرّد آخر وهكذا ولم توجد في شيء من هذه الأنوار جهات تكثّر لزم أن لا
يتأدّى الصدور إلى صدور البرازخ ، لتركيبها من الهيولى والصورة ، الممتنع صدورهما
من شيء لا اثنينية فيه.
ثمّ ما دام يحصل
من كلّ من هذه الأنوار نور آخر فيمتنع أن يحصل الجوهر الغاسق ؛ لأنّ النور من حيث نوريته لا يحصل منه جوهر غاسق ؛ لأنّ
المعلول لا بدّ أن يكون مناسبا للعلّة من بعض الوجوه مع أنّه لا مناسبة بين الغاسق
والنور من حيث إنّه نور ؛ فلا بدّ أن يكون النور الأقرب بحيث يصدر منه برزخ ونور
مجرّد.
والوجه في صحّة / B ١٧١ / ذلك الصدور أنّ له اعتبارين : فقره في نفسه
لإمكانه وغنى بالأوّل لوجوبه به ؛ فله تعقّل فقره وهو هيئة ظلمانية له وتعقّل
وجوبه بنور الأنوار ؛ فهو يشاهد ذاته ويشاهد نور الأنوار لعدم الحجاب بينهما ؛ إذ
الحجب إنّما يكون بالبرازخ والغواسق والأبعاد ؛ ولا جهة ولا بعد لنور الأنوار ولا
للأنوار المجرّدة مطلقا ؛ فإذا شاهد النور الأقرب نور الأنوار وهو مشاهد لذاته
أيضا يستظلم نفسه بالقياس إليه ؛ إذ النور الأتمّ يقهر النور الأنقص ؛ فمن مشاهدته
نور الأنوار يظهر فقر نفسه واستغناء نور الأنوار في ذاته ؛ فبظهور فقره له
واستغساق ذاته عند مشاهدة جلال نور الأنوار في ذاته بالنسبة إليه يحصل منه ظلّ هو
البرزخ الأعلى ـ أعني الفلك الأعظم ـ وباعتبار غناه ووجوبه بنور الأنوار و
__________________
مشاهدة جلاله
وعظمته يحصل منه نور مجرّد آخر ؛ فالبرزخ ظلّه والنور القائم ضوؤه ؛ وظلّه إنّما
هو لظلم فقره وضوؤه لنورية وجوبه بنور الأنوار ؛ وكذا النور الثاني يقتضي بالنظر
إلى ما فوقه جوهرا مجرّدا وبالنظر إلى بعضه جرما سماويا وهكذا إلى أن تتكثّر جواهر
عقلية مقدّسة وأجسام فلكية.
وهذا ما صرّح به
الشيخ الإلهي في الهياكل ؛ والمصرّح به في حكمة الإشراق أنّ السلسلة الطولية من العقول وهي المعبّر عنهم بالاصول
والقواهر الأعلين إنّما تصدر عنها العقول دون الأجسام ؛ فيصدر عن كلّ بالجهة
الأشرف عقل قاهر في السلسلة الطولية وتغيّرها من الجهات عقول عرضية كما يأتي.
الثانية
:
النور السافل إذا
لم يكن بينه وبين العالي حجاب يشاهد العالي ويشرق نور العالي عليه ؛ ولا ريب [في]
أنّه ليس بين الأنوار المجرّدة عن الموادّ حجاب ؛ لأنّه من خاصّية الأبعاد
الجرمانية وهي مجرّدة عنها ؛ ولهذا لا يحجب بعضها بعضا ؛ فكلّ سافل حتّى النور
الأبعد يشاهد العالي حتّى نور الأنوار وكلّ عال حتّى نور الأنوار
يشرق على السافل شعاعه حتّى على النور الأبعد ؛ إذ من طبيعة النور الإشراق على كلّ
ظلّ مستعدّ ؛ فكلّ نور عال يشرق شعاعه على النور السافل إشراقا عقليا يسمّى الوجود
؛ / A ١٧٢ / فالنور الأقرب
يشرق عليه شعاع من نور الأنوار وهو يشاهده مشاهدة حضورية ؛ ولا يلزم من ذلك أن
يتكثّر جهة نور الأنوار بإعطاء الوجود المنوّر الأقرب والإشراق عليه وكذا على باقي
الأنوار ؛ لأنّ ما هو الممتنع الموجب المتكثّر إنّما هو أن يوجد شيئان عن نور
الأنوار ـ أي عن مجرّد ذاته ـ وهاهنا ليس كذلك ؛ إذ الصادر منه إنّما هو وجود
النور الأقرب وأمّا شروق نوره عليه وكذا على باقي الأنوار إنّما هو لصلاحية
__________________
القابل واستعداده
لقبول ذلك وعشقه إليه وعدم الحجاب ؛ فهاهنا جهات كثيرة وهي القوابل المتعدّدة
واستعداداتها وعشقها وعدم الحجاب الذي هو شرط إشراق العالي على السافل ؛ والشيء
الواحد يجوز أن تحصل منه أشياء متعدّدة لتعدّد أحوال القوابل واختلافها.
الثالثة : مشاهدة أحد النورين للآخر غير إشراق شعاع ذلك الآخر على
النور المشاهد.
واستدلّ صاحب الإشراق على المغايرة بأنّ العين يشاهد الشمس مثلا والشمس يقع شعاعها على العين
وظاهر أنّ وقوع شعاع الشمس على العين غير مشاهدة العين لها ؛ إذ شعاع الشمس يقع
على العين حيث كانت العين ومشاهدتها للشمس لا يكون إلّا بمسامتته للبصر على مسافة بعيدة ؛ فلو فرض قرب مفرط للعين بالنسبة
إلى الشمس يقع عليها شعاعها ولا تحصل مشاهدتها لها.
ولا يخفى أنّ الاستدلال على المغايرة بين المشاهدة ووقوع الشعاع في
الأنوار العقلية بتغايرهما في الأنوار الحسّية لا يخلو عن شيء ؛ إذ شعاع النيّر
الحسّي كالشمس يقع على ما يراها وما لا يراها. فالمغايرة بينهما في الأنوار
الحسّية ظاهر وليس الأمر كذلك في الأنوار العقلية ؛ إذ شعاع النور
العقلي لا يقع إلّا على نور عقلي يشاهده ؛ فلا يقع شعاعه على المادّيات ، كما
اعترفوا به.
والسرّ أنّ المشاهدة يتوقّف على عدم الحجاب بين الرائي والمرئي
ونورية المدرك الرائي ؛ ووقوع الشعاع إنّما يتوقّف على مجرّد عدم الحجاب لا غير ؛
وظاهر أنّ عدم الحجاب بين النيّر / B ١٧٢ / الحسّي وغيره
يحصل بمجرّد عدم حيلولة جسم آخر ؛ فيقع شعاعه على ذلك الغير وإن لم يكن نوريا من
شأنه المشاهدة ؛
__________________
فيحصل الانفكاك
بين المشاهدة ووقوع الشعاع في الأنوار الحسّية والعقلية ؛ وأمّا عدم الحجاب بين النور العقلي وغيره إنّما
يكون بتجرّدهما عن شوائب المادّية ؛ ومجرّد تجرّد أحدهما يوجب ارتفاع الحجاب من
أحد الجانبين دون الآخر مع أنّ عدم الحجاب المعتبر والمشاهدة ووقوع الشعاع هو عدمه
من الجانبين ؛ وهذا يتحقّق في الأنوار الحسّية بمجرّد عدم الحائل ـ كما ذكر ـ وأمّا
في الأنوار العقلية فلا يتحقّق إلّا بتجرّد الطرفين ونوريتهما وبراءتهما عن شوائب
المادّية ؛ وتجرّدهما كما يوجب عدم الحجاب بينهما يوجب مشاهدة كلّ منهما للآخر
أيضا. فالتجرّد والنورية فيهما يستلزم كلّا من المشاهدة ووقوع الشعاع. فهما متلازمان
فيها لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر بخلاف الأنوار الحسّية ؛ فإنّ انفكاك الثاني
فيها عن الأوّل ممكن لما ذكر ؛ فلا يناسب أن يستدلّ بمغايرتهما في إحداهما على
مغايرتهما في الاخرى.
والأولى أن يستدلّ على مغايرتهما في الأنوار العقلية بمغايرة المنشأ
؛ فإنّ منشأ وقوع الشعاع ومخرجه في النورين العالي والسافل هو العالي ومنشأ
المشاهدة ومحلّ حصوله هو السافل ؛ ومع تغاير المصدرين لا ريب في تغاير الصادرين
عنهما.
فإن قيل : مشاهدة بعض الأنوار المجرّدة لبعضها بالعلم الحضوري ممّا
يعرف معناه ووجهه ولكنّ المراد من الشعاع الواقع من بعضها على بعض ممّا لا نفهمه
ولا طريق لنا إلى إثباته .
قلنا : المراد به إشراق عقلي ونور معنوي يفاض من العوالي على
السوافل تحدث فيها بهجة وغبطة ؛ وهو كمشاهدة السوافل للعوالي فرع ارتفاع الحجاب
الذي هو المادّية ؛ فكلّما كان تجرّد السافل أشدّ كان مشاهدته للعالي والشعاع
__________________
الواقع منه عليه
أشدّ ؛ وكلّما كان أضعف كانا أضعف.
والطريق إلى
إثباته هو التأمّل في أحوال النفس الناطقة ؛ فإنّا نرى ونشاهد أنّه كلّما ازداد
تجرّدها ونوريتها بتخلّيها عن الرذائل الجسمانية والهواجس النفسانية وتحلّيها / A ١٧٣ / بالفضائل العلمية والعملية يصير استعدادها بمشاهدة ما فوقها من العوالي بالعلم الحضوري ؛ وفيضان الإشراقات العقلية والأنوار المعنوية منها عليها أكثر ؛
فإذا كانت النفس مع قصور تجرّدها قابلة لمشاهدة ما فوقه وإشراقه عليها بالأشعّة
العقلية فما ظنّك بالأنوار الصّرفة والعقول المحضة ومشاهدة بعضها لبعض ووقوع
الأشعّة العقلية من بعضها على بعض؟!
الرابعة : لكلّ نور عال قهر بالنسبة إلى النور السافل وللسافل محبّة
بالنسبة إليه ؛ إذ العالي علّة والسافل معلوله ؛ والعلّية يلزمها القهر ، و المعلولية يلزمها المحبّة والذلّة ؛ فالنور السافل من حيث
المرتبة لا يحيط بالعالي ؛ لأنّ العالي لشدّة نوريته يقهر السافل ولكنّ مقهوريته
لا تمنعه من أن يشاهده العالي ، لما تقدّم من أنّ خواصّ النور المجرّد مشاهدة جميع
الأنوار المجرّدة لعدم الحجاب بينها وإن لم يتمكّن من الإحاطة به ، كما أنّ النور
البصري يشاهد الشمس ولا يمكن لضعفه عن الإحاطة بها لشدّة نوريتها وكذا النور
العرضي يحيط الأشدّ منه بالأضعف ويغلب عليه حتّى ربّما يتوهّم عدمه.
ألا ترى أنّ نور
الشمس والأنوار إذا تكثّرت والعالي قهر على السافل والسافل عشق وشوق إلى العالي ؛ فنور
الأنوار له قهر بالنسبة إلى ما سواه من الأنوار وغيرها من الموجودات لشدّة نوريتها
وقوّة إشراقه العقلي الغير المتناهي ؛ لأنّه لا يقف عند حدّ يتصوّر بالعقول ، بل
هو فوق ما يتناهى بما لا يتناهى وتعشق
__________________
هو نفسه ؛ لأنّ
كماله ظاهر له ؛ فهو أجمل الأشياء وأكملها وظهوره لنفسه أشدّ من كلّ ظهور لشيء ولا
يعشق غيره من حيث هو غيره ، بل من حيث إنّه صادر منه ومترشّح من جوده كما تقدّم ؛
وغيرها من الأنوار العقلية يعشقه ويحبّه حبّا أكثر من حبّه لنفسه ؛ إذ محبّة كلّ
نور سافل لنفسه مقهورة في محبّته لنور العالي ؛ فللنور الأقرب مثلا مشاهدة لنور
الأنوار وشروق منه عليه لعدم الحجاب بينهما / B ١٧٣ / كما تقدّم ؛ ومحبّة له ولنفسه ؛ ومحبّته لنفسه مقهورة في
قهر محبّته لنور الأنور ؛ لأنّه يدركهما ولا ريب في أنّ إدراك الملائم والكمال
يقتضي المحبّة والعشق ؛ فكلّما كان المدرك أكمل وأجمل كان ألذّ وأحبّ ؛ ولا ريب في أنّ نور الأنوار أكمل الذوات وأجملها ؛ فيلزم
أن يكون محبّة كلّ نور له وابتهاجه به أشدّ من محبّته لنفسه وابتهاجه ؛ فمحبّة
النور الأقرب ، بل كلّ نور مجرّد لنور لأنوار أشدّ من محبّته لنفسه بحيث إنّ
محبّته لنفسه مقهورة مضمحلّة مستهلكة في جنب محبّته لنور الأنوار ؛ وبالقهر اللازم
لكلّ عال بالنسبة إلى ما دونه والمحبّة اللازمة لكلّ سافل بالنسبة إلى ما فوقه
انتظم الوجود كلّه.
الخامسة : إشراقات الأنوار بعضها على بعض ليس بانفصال شيء منها ووصوله
إلى النور القابل المجرّد ، بل هو نور شعاعي يحصل منه بإفاضة عليه ، لاستعداده
بقبوله وعدم الحجاب بينهما ، كما في إشراق الشمس على ما يصل منها كالأرض ؛ فإذا
حصل مقابلة بين النورين بعدم الحجاب أفاض النور المفارق العالي هيئة نورية شعاعية
على النور السافل ؛ فإنّ نسبة الأنوار المجرّدة إلى نور الأنوار الذي هو شمس عالم
الأنوار في قبول الأشعّة الشمسية الإلهية كنسبة الأرض إلى الشمس في قبولها الأشعّة
الشمسية الجرمية ؛ فكما أنّه إذا ارتفع الحجاب بين الأرض والشمس استنارت بنورها كذلك إذا ارتفع الحجاب بين
__________________
الأنوار المجرّدة
وبين نور الأنوار استنارت بنوره ؛ وكما أنّ إشراق الشمس على العين مثلا غير
مشاهدتها لها فكذلك إشراق نور الأنوار على الأنوار المجرّدة غير مشاهدتها له كما
تقدّم ؛ ويسمّى النور الحاصل في الأنوار المجرّدة من نور الأنوار في عرف
الإشراقيّين بالنور السانح وقد يستعمل في مطلق إشراقات الأنوار بعضها على بعض من غير
تخصّصه بالنور الشارق من نور الأنوار وهو نور عارض للأنوار المجرّدة غير داخل في
حقيقتها ؛ والنور العارض ينقسم إلى ما يكون في الأجسام وإلى ما يكون في الأنوار
المجرّدة ؛ فإنّ النور العارض مفتقر إلى ما يقبله ويقوم به من الجواهر القائمة
بأنفسها ـ عقلية كانت أو حسّية ـ وقد تقدّم منّا بيان أوضح في حقيقة النور السانح.
وإذ عرفت هذه / A ١٧٤ / المقدّمات فاعلم أنّ ذوق الإشراق في صدور الكثرة أنّ
أوّل ما يجب بالأوّل تعالى ويصدر عنه جوهر قدسي ونور إبداعي لا يمكن أشرف منه ،
لما تقدّم من قاعدة الإمكان الأشرف ؛ فإنّ مقتضى تلك القاعدة أنّ ذات الحقّ لا
يفيض الأخسّ ويترك الأشرف الممكن ، بل يلزم ذاته الأشرف فالأشرف ، كما أنّ عكس
النور الأشرف من عكس عكسه وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا عكس له ؛ وهذا النور
الأوّل الإبداعي منتهى الممكنات في سلسلة العلّية وليس ورائه إلّا نور الأنوار وهو
ـ كما مرّ ـ واجب غنيّ بالأوّل تعالى وممكن مفتقر في نفسه. فبالنظر إلى وجوبه
واستغنائه بالأوّل تعالى ومشاهدة جلاله وكبريائه يقتضي جوهرا قدسيا آخر هو النور
الثاني بلسان الإشراق والعقل الثاني في عرف المشّائين ؛ وبالنظر إلى إمكانه وفقره في
نفسه ومشاهدة نقص ذاته وقصوره بالنسبة إلى كبرياء الأوّل يقتضي جرما سماويا هو
الفلك الأعلى.
__________________
ثمّ النور الثاني
بالنظر إلى ما فوقه ـ أي بالنظر إلى وجوبه واستغنائه بما فوقه ومشاهدة عظمته
بالنسبة إليه ـ يقتضي جوهرا قدسيا آخر هو النور الثالث ؛ وبالنظر إلى فقره وإمكانه
ومشاهدة نقصه يقتضي جرما سماويا هو الفلك الثوابت وهكذا إلى أن ينتهي
إلى العقل العاشر والفلك التاسع ؛ أعني فلك القمر وعالم العناصر.
وهذه السلسلة
الطولية للعقول وهي العقول العالية التي لا علاقة لها بالربوبية بالأصنام الموجودة
في عالم المثال ولا بالأجسام الواقعة في عالم العناصر.
وهذا على ما في
الهياكل النورية وأمّا الظاهر من حكمة الإشراق ـ وهو الأوفق بقواعدهم ـ أنّ النور الأقرب إذا صدر من نور
الأنوار ، فمن مشاهدته له يحصل نور قاهر آخر ؛ ومن هذا النور الثاني أيضا يحصل
بمشاهدته لما فوقه نور آخر وهكذا إلى أن تتكثّر الأنوار القاهرة طولا ؛ ولا يحصل
من شيء منها جسم مثالي أو فلكي أو عنصري لشدّة نوريتها وقوّتها ، بل الأجسام إنّما تصدر عن العقول العرضية التي تصدر عن
هذه العقول الطولية بالجهات التي هي غير آحاد المشاهدات كما يأتي.
وبالجملة : مع إثباتهم هذه العقول الطولية مشاهدة نور أثبتوا / B ١٧٤ / سلاسل عرضية كثيرة للعقول باعتبار جهات اخرى في العقول
الواقعة في السلسلة الطولية ملحوظة مع الجهتين المذكورتين أو منفردة عنهما وهي
الانعكاسات الإشراقية والمشاهدية والقهر والغلبة والمحبّة والذلّة إفرادا وتركيبا
ووحدة وجمعا ، منضمّة بجهتى الغنى والفقر أو إحداهما أو غير منضمّة إليهما بملاحظة
الهيئات والنسب الواقعة بين تلك الجهات ؛ وأسندوا إلى تلك العقول العرضية ونسبها
المنضمّة
__________________
العقلية الصادرة
عن العقول الطولية باعتبار الجهات المذكورة ونسبها المعنوية ساير الموجودات
المثالية والجسمية وهيئاتها ونسبها وتخصيصاتها من الكواكب الثابتة والسيّارة
والأصنام المثالية والأجسام العنصرية وتخصيصاتها في الوضع والقدر والحيّز وغير
ذلك.
وبيان ذلك : أنّه قد تقدّم في المقدّمات أنّ لكلّ نور عال إشراقا على النور السافل وقهرا وغلبة بالنسبة إليه ولكلّ نور سافل مشاهدة لكلّ نور عال
ومحبّة وذلّة بالنسبة إليه ؛ وعلى هذا فكلّ واحد من الأنوار الطولية يشاهد نور
الأنوار ويقع عليه شعاعه وإشراقه ، لما عرفت من أنّ الأنوار القاهرة ينعكس النور
الشعاعي من بعضها على بعض ؛ فكلّ عال يشرق على ما تحته في أيّ مرتبة وبعد كان حتّى
أنّ النور الأقرب يشرق على كلّ ما تحته إلى النور الأبعد ؛ فكلّ سافل يقبل الشعاع
من نور الأنوار بتوسّط ما فوقه ؛ فالنور الأقرب يقبل النور السانح ـ أي الشعاع
الفائض منه ـ مرّة بلا واسطة والنور الثاني يقبله منه مرّتين : مرّة بلا واسطة
واخرى بواسطة النور الأقرب ؛ والنور الثالث يقبله منه أربع مرّات : مرّتين من
انعكاس مرّتى صاحبه ـ أعني القاهر الثاني ؛ فإنّ الفائض عليه من الأشعّة كان
شعاعين ؛ فينعكس كلّ منهما إلى القاهر الثالث ـ ومرّة من نور الأنوار بلا واسطة
ومرّة من النور الأقرب أيضا بلا واسطة ؛ فهذه أربع مرّات ؛ والنور الرابع يقبله
منه ـ أي من نور الأنوار ـ ثماني مرّات : أربع مرّات من انعكاس / A ١٧٥ / مرّات صاحبه وهو النور الثالث ومرّتين من انعكاس مرّتي
الثاني ومرّة من النور الأقرب ومرّة من نور الأنوار بغير واسطة ؛ وهكذا تتضاعف
الأنوار السانحة في النزول إلى حدّ تعجز القوى البشرية عن الإحاطة ؛ فإنّ النور
الخامس يقبل من الشعاع الفائض ستّ عشر مرّة : ثمانى مرّات ينعكس عليه من الرابع
وأربع مرّات من الثالث و
__________________
مرّتين من الثاني
ومرّة من النور الأقرب ومرّة من نور الأنوار بلا واسطة ؛ وهكذا يقبل السادس اثنين
وثلاثين مرّة والسابع أربع وستّين مرّة إلى أن يحصل ما لا يحصى كثرة ؛ لأنّ
الأنوار المجرّدة العالية لا يحجب بين السافل وبين نور الأنوار ، لعدم الحجاب ؛
لأنّه من شاحية الأنوار وشواغل البرازخ ؛ فالشعاع الفائض من نور الأنوار الذي هو
شمس عالم الأنوار واقع على جميعها لكنّ الواقع على كلّ عال لأكثرية استعداده أشدّ
وأقوى من الواقع على السافل لقلّة استعداده ؛ ولذا ينعكس هذا الشعاع الواصل من نور
الأنوار إلى العالي بواسطة أو بغير واسطة منه إلى السافل أيضا ؛ فيجتمع في كلّ
سافل مع النور السانح الفائض إليه من نور الأنوار بغير واسطة جميع الأنوار السانحة
الفائضة منه إلى العوالي بواسطة أو بدونها.
واعتبر ذلك من
تقابل أجسام مضيئة أحدها في غاية الضياء والنورية وأشدّ الكلّ ضياء وثانيها أضعف ضوءا منه والثالث أضعف ضوءا من الثاني وهكذا إلى ما
لا أضعف منه ؛ كأن يفرض حصول المقابلة بين الشمس والزهرة والمشتري والشعرى
والعيّوق وغيرها من الكواكب على نحو يكون ترتيب الوقوع فيها على ترتيب الأشدّية
ضوءا بأن يكون أضوأ منها أقرب إلى الشمس ثمّ الأضوأ فالأضوأ إلى آخرها ؛ فإنّه لا
ريب في أنّ شعاع الشمس يقع على جميعها بلا واسطة إلّا أنّ الواقع على الأقرب إليها
أشدّ من الواقع على الأبعد منها ؛ ولذا ما يقع من شعاعها على الأقرب ينعكس منه إلى
الأبعد ؛ فهذا العكس يصل إليه أيضا مضافا إلى ما وصل إليه من الشمس بلا / B ١٧٥ / واسطة.
ثمّ لا ريب في
أنّه لكلّ عقل نور ذاتي مع قطع النظر عمّا ينعكس إليه من الأنوار السانحة الفائضة
من نور الأنوار بواسطة أو بدونها ؛ لأنّه نور في نفسه ـ أي
__________________
أوجده الله تعالى
نورا ـ فيجتمع فيه النور الذاتي والأنوار العارضة ؛ فكما تنعكس منه الأنوار
العارضة إلى ما تحته فكذلك ينعكس منه نوره الذاتي إليه تعالى بواسطة وبدونها ؛ فمع
ملاحظة هذا النور يقال في بيان كمّية الأشعّة أنّ النور الأوّل يقبل الشعاع من نور
الأنوار مرّة بلا واسطة ؛ والثاني يقبله منه ثلاث مرّات : مرّة منه بلا واسطة
ومرّتين بواسطة نورى الأوّل السانح والذاتي ؛ والثالث يقبله منه سبع مرّات : مرّة
منه بلا واسطة ومرّتين بواسطة نورى الأوّل وأربع مرّات بواسطة أنوار الثاني :
الثلاثة السانحة والواحد الذاتي وهكذا.
فالأنوار كلّها
بالنسبة إلى الواجب ذاتية إلّا أنّ ما يصل إلى كلّ عقل أزلا هو نوره الذاتي بلا
واسطة وما يصل إليه بتوسّط غيره من العقول هو نور نوره الذاتي أو نور نور نوره
الذاتي وهكذا.
وأمّا بالنسبة إلى
العقول فهي عارضة فائضة إليه بواسطة أو بدونها ؛ فكلّ نور سانح منه تعالى واقع واصل
إلى واحد من العقول واقع منه على ما تحته يصدق عليه أنّه نور من الواجب وقع بوساطة
هذا العقل على ما تحته ويصدق عليه أيضا أنّه نور عارض لهذا العقل أشرق منه على ما
تحته.
فكما يصحّ نسبة
إشراق هذه الأنوار السانحة إلى الواجب تعالى ـ كما ذكرناه ـ تصحّ نسبته إلى العقول
؛ فيقال في بيان تكثّر الانعكاسات : إنّ النور الأوّل يشرق عليه مرّة من نور
الأوّل بنوره الذاتي بلا واسطة والثاني يشرق عليه ثلاث مرّات : مرّة من الواجب بلا
واسطة ومرّتين من النور الأوّل الأقرب بنوره السانح والذاتي ؛ والثالث يشرق عليه
سبع مرّات : مرّة من الواجب ومرّتين من الأوّل بنورية السانح والذاتي وأربع مرّات
من الثاني ؛ وثمانية مرّات من الثالث وهكذا.
ولا تظنّن / A ١٧٦ / أنّ ما يصل إلى كلّ سافل من الأنوار السانحة يكون
الفائضة
__________________
من الأقرب إليه
لقربه أشدّ من الفائضة من الأبعد منه ؛ فإنّ ذلك باطل ؛ إذ نور كلّ سافل مقهور في
جنب نور العالي ؛ إذ النور الأشدّ لا يمكّن الأضعف من التأثّر والإنارة ؛ فالأنوار
العرضية والذاتية الفائضة من العوالي إلى كلّ سافل يكون الفائضة منها من كلّ أبعد
منه أشدّ من الفائضة من كلّ أقرب إليه ، بل يكون الفائضة من الأقرب مقهورا في
الفائضة من الأبعد وجميع الأنوار الفائضة الذوات النورية الإمكانية إلى سافل ـ سواء
كانت من أشعّة الأنوار السانحة الفائضة إليها من نور الأنوار أو من أشعّة أنوارها
الذاتية ـ مقهورة مستهلكة مضمحلّة في جنب الفائضة إليه من نور الأنوار بلا واسطة
كما يظهر من المثال المفروض في الشمس والكواكب.
وبذلك يظهر أنّ
هذا الحكم أولى في إفاضة أصل وجود كلّ موجود ؛ فتأثّرات الوسائط في إيجاد كلّ ممكن
مجرّد أو مادّي باطل مضمحلّ في جنب تأثّر الواجب الحقّ فيه بلا واسطة.
ويعلم من ذلك أنّ
كلّ معلول ـ سواء كان مجرّدا أو مادّيا ، بسيطا أو مركّبا ، طوليا أو عرضيا ـ ما
يصل إليه من الواجب بلا واسطة من التأثّر في أصل وجوده ومن الفيض السانح الطاري
أشدّ بمراتب ممّا يصل منهما من الوسائط بأسرها إليه مع أنّ الوسائط بذواتها
ووجوداتها وما يترشّح إليها ومنها كلّها منه تعالى ؛ فما يصل منها إلى ما تحتها من
التأثيرات والفيوضات الظاهرة والباطنة لا يكون إلّا منه ولا أثر لها عند التحقيق ؛
فإنّ الجواهر العقلية القدسية وإن كانت متعالية إلّا أنّها وسائط وجود الأوّل وهو الفاعل لها ولآثارها
حقيقة. فما أثبته الحكماء من ترتيب الوجود لا ينفي تأثير الأوّل في غير الصادر
الأوّل كما فهمه بعض الأوهام العامّية ، بل إنّما الغرض منه بيان جهات يصلح منشأ
لصدور الكثرة عن ذاته
__________________
الأحدية لا في
التأثّر عنه ؛ والعجب في من يرى فعل فاعل / B ١٧٦ / بلا واسطة منه ولا يرى منه فعل فعله ويرى تأثّره في
الأوّل أكثر وأشدّ من تأثيره في الثاني مع استوائهما في الانتساب إلى واحد.
وبالجملة : لا كلام في استناد الكلّ إليه حقيقة وإنّما الكلام هنا في
أنّ هذه التأثّرات والإفاضات والإشراقات التي منه تعالى حقيقة ويثبت في بادئ النظر
إليها مستهلكة في جنب الفائض منه تعالى بلا واسطة بالنسبة إلى كلّ معلول ، كما هو
ذوق الإشراق ومعتقد أكثر أئمّة الكشف وكبراء الصوفية من أنّ الفيض الإلهي يصل إلى
معلولاته بالوسائط وبدونها وأنّ التأثير الذي هو بالواسطة مغلوب مقهور تحت التأثير
الذي هو بالواسطة ؛ إذ الحقّ الواجب بذاته لشدّة قوّته ونوريته لا يمكّن الوسائط
من ظهور آثارها.
وبذلك يظهر أنّ
الوسائط من العقول والنفوس المتوسّطة في وصول أثر الأوّل إلى كلّ معلول كلّما يكون
أقرب إليه في سلسلة الوساطة والآلية يكون العدمية من حيث الظهور ووصول أثره إليه
وإيصاله له به وكلّما كان أبعد منه من حيث التوسّط والآلية يكون أقرب إليه من جهة
الظهور والاتّصال ووصول الأثر ؛ لأنّ الأبعد أنور وأقوى وأكمل في حقيقة النورية
والقوّة.
ألا ترى أنّ بياضا
وسوادا لو كانا في سطح واحد يتراءى البياض أقرب إلينا من السواد ؛ لأنّه يناسب
الظهور ولذلك يتراءى من تعاكس الأضواء البياض ومن انتفائها السواد.
فالأقرب من الكلّ
إلى الكلّ من حيث الظهور واتّصال الأثر والارتباط هو نور الأنوار ؛ لأنّه النور
التامّ الذي لا يمازجه ظلمة النقص أصلا ؛ فالفيوضات الظاهرة والباطنة التي يصل منه
إلينا بوساطة العقول والنفوس الكاملة وغيرها مضمحلّة تحت الفيوضات الواصلة منه
إلينا بلا واسطة ؛ وكذا ارتباطنا بالوسائط و
اتّصالنا بالأنوار
الفائضة منها وظهورها لنا مستهلكة في ارتباطنا به وظهوره لنا واتّصالنا بنوره إلّا
أنّ درك ذلك يتوقّف على شدّة تجرّدنا. فالواجب سبحانه في العلوّ الأعلى بذاته
المتعالية عن مراتب النقص والدنوّ الأدنى لشدّة نوره ؛ فسبحان من هو على البعد
الأبعد من جهة علوّ رتبته وعلى القرب / A ١٧٧ / الأقرب من جهة نوره الغير المتناهي شدّة.
وبعد ما عرفت [من]
أنّ المراد من الأنوار السانحة والأشعّة العقلية هي الإشراقات المعنوية
والابتهاجات العقلية والأضواء الروحية ؛ فإن خلصت نفسك من عوائق الطبيعة وسلاسلها
وحصل لها ضرب من التجرّد ومع ذلك عرفت حقيقة العلّية والمعلولية ومقهورية المعلول
واستهلاكه في جنب العلّة ورجوع سلسلة المعلولات بأسرها إلى العلّة الأولى وكونها
بذواتها وأوصافها وآثارها رشحة من رشحات جودها وفيضها وكونها ـ أي العلّة الأولى ـ
صرف الوجود الحقّ الغير المتناهي وجودا ونورية وقدرة وعلوّا واضمحلال كلّ وجود
ونور وقوّة وقدرة تحت وجوده ونوريته وعلوّ قدرته لا ينبغي أن يشكّ في ما فصّلناه
من إشراق كلّ عال على سافل بالواسطة وبدونها ، واضمحلال جميع الإشراقات الراجعة
إليه في الحقيقة تحت إشراقه بلا واسطة وكونه أقرب من الكلّ إلى الكلّ ، بل من
الشيء إلى نفسه من حيث الظهور والإحاطة والاتّصال العقلاني والاتّحاد المعنوي
والقرب الحقيقي.
وقس على إشراق كلّ
عال على سافل في كونه بواسطة وبدونها واستهلاك ما بالواسطة تحت ما بدونها مشاهدة
كلّ سافل للعالي ؛ فإنّه أيضا يكون بواسطة وبدونها ؛ فإنّ كلّ مجرّد له مشاهدة نور
الأنوار وموجد الكلّ بلا واسطة ومشاهدته في الوسائط التي بينهما من الأنوار ، بل
في كلّ نور مجرّد ، بل في كلّ شيء ؛ إذ المعلول بما هو معلول مرآة العلّة ؛
فالعارف يرى علّة الكلّ في الكلّ ؛ فمن عرف
حقيقة العلّية
والمعلولية لا يرى من المعلول في نظره الدقيق إلّا العلّة وربّما يجعل مشاهدة ما فوقه من الذوات
القدسية مشاهدة لنفسه ويجعل ما تصوّره إجمالا من مشاهدته التي هو فوق مشاهدته مشاهدة
لنفسه فتصير مشاهدته أقوى وأشدّ ؛ وعلى أيّ تقدير مشاهدته له تعالى بلا
واسطة أقوى ممّا هو بالواسطة إلّا أنّ المشاهدة بلا واسطة يتوقّف على شدّة التجرّد
وقوّته ولا يتيسّر بدونه ، كما قيل :
چشم آلوده ما از
رخ جانان دور است
|
|
بر رخ او نظر از
آينه پاك انداز
|
ثمّ مراتب
المشاهدة بالطريقين تختلف شدّة وضعفا / B ١٧٧ / وصفاء وكدورة باختلاف التجرّد شدّة وضعفا ؛ وكلّما قوى المشاهدة من
السافل اشتدّ الإشراق من العالي.
وبالجملة : قد ظهر ممّا قرّرناه أنّه تحصل في كلّ سافل من إشراق كلّ
عال عليه بالواسطة وبدونها ومن مشاهدة ذلك السافل له انعكاسات إشراقية شعاعية
وانعكاسات شهودية مشاهدية ؛ فإذا لوحظت هذه الانعكاسات الشعاعية والمشاهدية كلّا
وبعضا وآحادا وجمعا وإفرادا وتركيبا تحصل في كلّ عقل له جهات كثيرة ؛ لأنّه
باعتبار كلّ نور من هذه الأنوار المتضاعفة بالانعكاسات الإشراقية والمشاهدية يصير
نورا مغايرا لنفسه باعتبار نور آخر ؛ لأنّ الإشراقات العقلية الواقعة على الأنوار
المجرّدة الحيّة تقتضي صيرورة المشرق عليه كالمشرق ؛ واعتبر ذلك من إشراق العقل
على النفس وصيرورتها مثله في التجرّد ومشاهدة المجرّدات ؛ واحدس منه أنّ النور
العالي إذا أشرق على السافل يصير السافل مثله في ما ذكرناه.
وبالجملة : يصير نورا آخر غير ما كان أوّلا باعتبار قرب رتبته من العقل
الذي
__________________
أشرق عليه بخلاف
ما إذا كانت الإشراقات على ما لا حياة له ؛ فإنّها لا تقتضي إلّا اشتداد النورية
في المحلّ ولا تقتضي صيرورة المحلّ نورا مجرّدا أو مماثلا للأصل أشرق عليه ؛ فكلّ
واحد من هذه الانعكاسات الشعاعية والمشاهدية إفرادا وتركيبا ثنائيا أو ثلاثيا أو
رباعيا وهكذا إلى ما لا نهاية له يكون في كلّ عقل جهة مصحّحة لصدور عقل في سلسلة
عرضية عنه ولوقوع هذه الانعكاسات على ترتيب وانتظام عقلي وإنّيات نورية تتحقّق بين
العقول العرضية أيضا هيئات نورية عقلية ؛ فيصدر عنها الموجودات المثالية وغيرها من
الكواكب والموجودات الحسّية على هيئات حسّية حسنة تقتضيها الهيئات النورية الواقعة
بين العقول العرضية.
ثمّ إذا لوحظت
فهذه الجهات التي هي الانعكاسات الإشراقية والمشاهدية مع جهتى المحبّة والقهر
وجهتى الغنى والفقر / A ١٧٨ / ومع ذوات
القواهر الجوهرية آحادا وجمعا وإفرادا وتركيبا تتضاعف الجهات أضعافا كثيرة.
ثمّ لا ريب في
أنّه تتحقّق بين تلك الجهات مشاركات ومناسبات عجيبة وهيئات نورية ؛ إذ حصول
الأنوار العقلية العرضية يتوقّف على جهات عقلية ومشاركات ومناسبات بينها ؛ فبين
كلّ واحد من الأشعّة الإشراقية والمشاهدية والذوات الجوهرية الاستغناء والفقر
والمحبّة والقهر ، وبين مثله وغيره مناسبة ومشاركة ، وكذا بين واحد ومتعدّد ، وبين
متعدّد ومتعدّد ومماثل أو مخالف ؛ فإذا لوحظت هذه المناسبات مع الجهات المذكورة
تحصل أعداد تزيد على غير المتناهي ؛ وكلّ واحد يصلح لأن يحصل منه شيء فيحصل من كلّ
جهة من الاستغناء والفقر والمحبّة والقهر والإشراق والمشاهدة والمناسبة شيء ومن
كلّ ذات جوهرية شيء وكذا من كلّ اثنين وثلاثة وأربعة متّفقة فصاعدا إلى غير
النهاية ؛ فيحصل منها ما لا نهاية له من العقول والأنوار العرضية بمناسباتها و
هيئاتها ونظمها
النورية العجيبة.
وعلى هذا فالمحصّل على ذوق الإشراق على
ما هو المستفاد من كتاب حكمة الإشراق ـ الذي هو المخصوص بأنّ ما هو مقتضى ذوق
الإشراق ـ أنّ النور الأوّل
إذا صدر عن نور الأنوار فمن أعظم جهاته وأشرفها الذي هو مشاهدته لنور الأنوار وما
يصل إليه من الإشراق الكامل يحصل منه نور قاهر آخر ، ومن مشاهدته أيضا لما فوقه ،
بل لنور الأنوار يحصل منه قاهر ثالث وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما لا يمكن أن يصدر
عنه قاهر آخر ؛ إذ الأنوار المنعكسة بعضها من بعض ينتهي إلى ما لا ينعكس منه نور
لضعف نوريته ؛ فهذه هي السلسلة الطولية من العقول وهي الاصول والقواهر الأعلون ؛
ولا ينحصر في عشرة ، بل متكثّرة ذاهبة إلى الحدّ المذكور وربّما كانت أكثر من مائة
ومأتين وألف وألفين ؛ وهذه السلسلة صادرة بعضها عن بعض بمجرّد آحاد المشاهدات
والأشعّة الكاملة وأنّ الموجد الحقيقي للكلّ هو الله سبحانه لما مرّ غير مرّة ؛
ولا علاقة لشيء منها بشيء من الأجسام / B ١٧٨ / المثالية والفلكية والعنصرية بالإيجاد والربوبية
والتدبير والتصرّف ، لعلوّ مرتبتها وشدّة نوريتها ؛ فهي العقول المستغرقون في
مشاهدة جلال الحقّ وجماله والجواهر القدسية المهيمنون بملاحظة أنوار كبريائه
وعظمته.
ثمّ صدرت عنها
لسائر الجهات المذكورة ومناسباتها العجيبة وهيأتها النورية عقول كثيرة عرضية
بهيئات وانتظام وترتيب شريفة عجيبة نورية على ما هو مقتضى هيئات الجهات المذكورة ؛
والعقول العرضية الصادرة عن الجهات التي هي أشرف يكون أشرف من الصادرة عن الجهات
التي هي أخسّ ؛ ولمّا كانت جهات المشاهدات مطلقا ـ أي ولو كانت مشاهدات الوسائط انضمّت إلى غيرها من جهات الفقر والغنى والقهر والمحبّة ـ أشرف
من جهات الأشعّة مطلقا تكون
__________________
العقول الصادرة من
جهات المشاهدات علل العوالم المثالية وأرباب أصنامها وطلسماتها لكون الموجودات
المثالية أشرف من موجودات عالم الحسّ ، لكثافتها وظلمتها ؛ فتكون علل الأولى أيضا
أشرف من علل الثانية بشرط أن تكون تلك المشاهدات مشاهدات نور الأنوار لا منفردة ،
بل منضمّة إلى غيرها من الجهات المذكورة أو مشاهدات الوسائط منفردة أو منضمّة ،
لما عرفت من أنّ آحاد جهات مشاهدة نور الأنوار علل صدور السلسلة الطولية من العقول
وتكون العقول الصادرة من جهة الأشعّة العالية الشديدة مع جهتى الفقر والاستغناء
وجهتى القهر والمحبّة كلّا أو بعضا علل الأجسام الفلكية وأرباب الأصنام السماوية
بكراتها الكلّية والجزئية والصادرة من جهات الأشعّة النازلة الضعيفة بملاحظة
الجهات الأربعة أيضا بعضها أو كلّا علل عالم العناصر وأرباب أصنامها وطلسماتها ؛
إذ الأشعّة العالية أشرف من النازلة ؛ فتكون العقول الصادرة عن القواهر الطولية
بتوسّطها أرباب الأصنام الفلكية التي هي أشرف من الأصنام العنصرية والصادرة عنها
بتوسّط الأشعّة النازلة أرباب الأصنام العنصرية التي هي أخسّ من الأصنام الفلكية ؛
ويمكن أن يقال : النفوس الفلكية أشرف من الموجودات / A ١٧٩ / المثالية والعقول الصادرة عن القواهر بوساطة المشاهدات
علل نفوس الأفلاك وأجسامها والصادرة عنها بجهات الأشعّة العالية علل عالم المثال
والصادرة عنها بجهات الأشعّة النازلة علل عالم العناصر.
وقد ذكرنا أنّ
الظاهر من بعض كلماتهم أنّ الأفلاك تصدر عن العقول الطولية ولكنّ الأوفق بقواعدهم
من أشرفية العقول على النفوس مطلقا ومن قاعدة الإمكان الأشرف أن يكون الصادر من
العقول الطولية طبقات العقول العرضية ويكون الصادرة عنها من جهة المشاهدات التي هي
أشرف الجهات مع بعض جهات اخرى ـ أعني الاستغناء والفقر والمحبّة والقهر ـ أشرف
طبقاتها ويكون عللا
لأشرف ما تحتها من
عالم المثال وعالم الأفلاك وعالم العناصر والصادرة عنها بجهات الأشعّة العالية الشديدة التي هي أقرب إلى جهات المشاهدات في الشرافة مع
بعض جهات اخرى سيّما القهر والمحبّة أقرب إلى الطبقة الأولى في الشرافة ؛ فيكون
عللا لما هو أقرب إلى العالم الأوّل في الشرافة ؛ والصادرة عنها بجهات الأشعّة
النازلة التي هي أخسّ الجهات أدون طبقاتها ؛ فهي علل عالم العناصر.
وعلى هذا فطبقات العقول أربعة :
[١.] طبقة العقول
الطولية التي هي الأعلون القواهر
[٢.] وطبقة أرباب
الموجودات المثالية
[٣.] وطبقة أرباب
الموجودات الفلكية
[٤.] وطبقة أرباب
الموجودات العنصرية
وطبقات المجرّدات
خمسة : هذه الأربعة وطبقات النفوس المجرّدة الفلكية والعنصرية.
والطبقة الأولى لا
علاقة لها بالبرازخ أصلا ـ أي لا بالربوبية ولا بالتدبير والانطباع ـ والثلاثة
الثالثة ـ أعني العقول العرضية ـ لها علاقة الربوبية دون التدبير والانطباع ؛
والأخيرة ـ أعني النفوس الناطقة ـ لها علاقة التدبير دون الربوبية والانطباع.
ثمّ لا ريب في
أنّه يجب أن تكون لكلّ نوع من أنواع العوالم المثالية والفلكية والعنصرية علّة من
العقول المغايرة لعلّة نوع آخر ؛ فلا يمكن أن تكون بإزاء نوعين علّة واحدة منها
سواء كان نوعا متكثّر الأفراد أو منحصرا في واحد ، كما في الفلكيات.
__________________
ولا ريب في أنّه /
B ١٧٩ / يوجد في عالم
المثال كلّ ما يوجد في عالم الحسّ من الأفلاك والكواكب والعناصر ومركّباتها
والنفوس والقوى المتعلّقة بها ؛ فلا يكون عدد العقول التي هي علل الأنواع المثالية
ـ أعني الأنوار المشاهدية ـ أقلّ التي هي علل أنواع العالمين الآخرين ـ أعني
الأنوار الإشراقية ـ فكما أنّه لا بدّ في الأنوار الإشراقية من نور هو أعظمها
نورية وعشقا وهو علّة الفلك الأعلى الحسّي كذلك لا بدّ وأن يكون في الأنوار
المشاهدية نورا هو أعظمها وهو علّة الفلك الأعلى المثالي ؛ وكما أنّ الفلك الأعلى
المحيط بكلّ من العالمين أكمل الأجسام وقاهرها فكذا تكون علّيته في الأنوار
المشاهدية والإشراقية أشرفها وأكملها.
وعلى هذا يبلغ
أعداد العقول إلى ما لا يحصى كثرة ؛ وإذا كانت الكواكب في كلّ من العالمين مختلفة
بالنوع ولو قيل بوجود عقول عرضية لا تصير علّة لشيء من الأنواع المثالية والحسّية
كما يأتي ؛ فيكون أعدادها غير متناهية.
ثمّ إنّهم أسندوا
كلّ ما في العوالم الثلاثة من التخصّصات والسعدية والنحسية والاختلاف في الألوان
والطعوم والروائح وما بينها من التوافق والمؤالفة والتباغض وغير ذلك إلى الهيئات
والنسب والنظم والترتيب الواقعة في العقول لأجل ما تقتضيه المناسبات والمشاركات
الواقعة في الجهات المقتضية لها ؛ فبحسب ما تقع أرباب الأصنام والطلسمات تحت أقسام
المحبّة والقهر والاعتدال تختلف تلك الأصنام المعلولة لها من الكواكب وغيرها من
الأجسام في ذلك كسعدية المشتري والزهرة ونحسية زحل والمرّيخ واعتدال عطارد وغير
ذلك من أحوال الكواكب وساير الأجسام.
وبالجملة : جميع ما في العوالم الثلاثة من الذوات وأوصافها ولوازمها
وعوارضها وهيئاتها وتخصيصاتها أظلال لتلك العقول النورية ونسبها وهيئاتها النورية
العقلية.
ثمّ استدلّ على ثبوت هذه الكثرة في
العقول بوجوه :
منها : أنّه أدلّ على علوّ القدرة الإلهية.
ومنها : قاعدة / A ١٨٠ / الإمكان الأشرف
؛ فإنّها تقتضي وجود هذه الأرباب والأنواع النورية المجرّدة العقلية ؛ لأنّها أشرف
من الأنواع المثالية والجسمانية لتجرّدها عن الموادّ والتقدّر والتكلّم بالكلّية ؛
وقد وجد الأخسّ ـ أعني عالم المثال وعالم الأفلاك والعناصر ـ فيجب أن يوجد الأشرف
ـ أعني الأنواع المجرّدة النورية ـ قبلها.
وبالجملة : ما في العالم الجسماني من الذوات وعجائب الترتيبات والنظم
البديع والترتيب المحكم وكذلك [ما] في عالم النفوس من العجائب الروحانية لا ريب في
أنّهما في العالم النوري العقلي أشرف وأبدع ممّا في هذين العالمين ؛ فيجب نظيرها
في ذلك العالم نظرا إلى القاعدة المذكورة.
ومنها : أنّ الأنواع الموجودة في عالمنا هذا ليست عن مجرّد الاتّفاق
؛ لأنّ الاتّفاق لا يكون دائما ولا أكثريا ؛ وهذه الأنواع الموجودة عندنا دائمة محفوظة
لا تتغيّر أبدا ؛ فإنّه لا يكون غير الإنسان عن الإنسان وغير البرّ عن البرّ وهكذا
؛ فالأنواع المحفوظة عندنا ليست عن مجرّد الاتّفاق ؛ لأنّ الامور الدائمة الثابتة
على نهج واحد لا تنتهي إلى الاتّفاقات المحضة ؛ فلا بدّ لها من علل ولا يتصوّر لها
علل غير تلك العقول العرضية القائمة بذاتها في عالم النور ؛ وهي الأنواع النورية
التي هي علل هذه الأنواع المثالية والجسمانية وأربابها والمدبّرة لها وتغشى بها
وتحفظها وتفيض عليها الهيئات المناسبة كالألوان الكثيرة العجيبة التي في رياش
الطاوس ؛ فإنّ علّتها ربّ نوعه لا اختلاف أمزجة الرشية على ما يقوله المشّاءون ؛
إذ لا برهان لهم على ذلك ولا قدرة لهم على تعيين أسباب تلك الألوان وكذا
__________________
جميع الهيئات
الواقعة في الأجسام والأفعال المختلفة فيها من التغذية والتنمية والتوليد وغير ذلك
؛ فإنّه لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأفعال المختلفة في النباتات عن قوى بسيطة عديمة
الشعور وفينا عن أنفسنا وإلّا لكان لنا شعور بها ؛ فالحكم بمثل هذه الأحكام من غير
مراعاة قانون محفوظ مضبوط غير / B ١٨٠ / صحيح ؛ فلا بدّ
أن يكون لكلّ نوع من الأصنام المثالية والأجسام الفلكية والعنصرية ـ من بسائطها
ومركّباتها ـ ربّ في عالم النور هو عقل مدبّر لذلك النوع وحافظ له ولأشخاصه
ومتساوي النسبة إلى جميعها في دوام فيضه عليها واعتنائه بها ، مفيض عليه الهيئات
المناسبة وهو الغاذي والمتمنّي والمولد في الأجسام النامية ؛ فكأنّه هو الأصل
والحقيقة وهي الفروع.
وبالجملة : جميع ما في هذه العوالم الثلاثة من الذوات والأوصاف
والهيئات أظلّة لذوات تلك الأرباب النورية وإشراقاتها ونسبها المعنوية النورية
حتّى أنّ رائحة المسك ظلّ لهيئة نورية في ربّ نوعه ؛ وتلك الهيئات النورية العارضة
للأرباب النورية والنسب المختلفة المعنوية اللازمة لها إنّما يفاض عليها من
مباديها التي هي القواهر الأعلون للجهات المذكورة ؛ فتظهر صورها في أصنامها
الجسمانية.
وإذ ثبت أنّ علل
الأصنام المثالية والجسمانية لا بدّ أن تكون أنوارا مجرّدة [فيكون] بين الجسمانيات
تكافؤ من حيث إنّه ليس بعضها علّة بعض وليس فيها ما هو أشرف من الآخر من كلّ وجه ،
بل كلّ أشرف من الآخر بوجه أخسّ منه بوجه ومساو له بوجه ؛ فيجب أن يكون بين عللها ـ وهي
الأنوار العقلية أيضا ـ تكافؤ يوازي تكافؤ معلولاتها ؛ إذ غير المتكافئة لا يكون
عللا للمتكافئة وبالعكس ؛ فيلزم أن يكون طائفة من الأنوار العقلية بحيث لا يكون
بعضها علّة لبعض ، بل يكون معلولة لغيرها ولا أشرف منه من كلّ وجه ، بل كان كلّ
أشرف من
__________________
آخر بوجه أخسّ منه
بوجه آخر.
ولا يتصوّر أن توجد
أنوار قاهرة متكافئة بالمعني المذكور عن نور الأنوار دفعة بلا ترتيب ، لما مرّ من
أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد ؛ فلا بدّ أن تصدر عنه أوّلا أنوار عقلية
متوسّطة طولية لا تكافؤ بينها ، بل يكون كلّ عال علّة لما دونه وأشرف منه ولا تكون
لها علّية للأصنام المتكافئة ، لاستحالة حصول المتكافئة من غير المتكافئة ، بل
تصدر عنها أنوار عقلية عرضية متكافئة متكثّرة لأجل تكثّر مناسبات / A ١٨١ / أشعّة هذه القواهر الطولية وتكون هذه ـ أي العرضية
المتكافئة ـ علل الأجسام المتكافئة.
ولكون بعضها أشرف
من بعض بوجه وأخسّ منه بوجه آخر نظرا إلى اقتضاء كمال الأشعّة الفائضة من الأعلين
ونقصها يقع مثل ذلك ـ أي الأشرفية من وجه والأخسّية من وجه ـ في معلولاتها ـ أعني
الأجسام والطلسمات ـ ولذلك يكون نوع متسلّطا على نوع من وجه لا من جميع الوجوه ؛
فإنّ الإنسان متسلّط على الأسد من وجه والأسد متسلّط عليه من وجه آخر ؛ وكذا حكم
جميع الأنواع الجسمية.
ولو كانت
الترتيبات الجسمية في الأفلاك صادرة عن العقول المترتّبة الطولية لكان المرّيخ
أشرف من الشمس والزهرة مطلقا ، لكون فلكه فوق فلكها وكذا من جميع ما تحته ، لما
ذكر ؛ وليس كذلك ؛ فإنّ الفلكيات بعضها أعظم كوكبا وبعضها أعظم فلكا وبعضها أشرف
من بعض وأخسّ منه بوجه ؛ فيجب أن يكون بين عللها وأربابها أيضا تكافؤ من هذه
الوجوه ؛ إذ آثار المعلول مستفادة من آثار العلّة ؛ والفضائل الدائمة الثابتة لا
تبتني على الاتّفاقات ، بل على مراتب العلل المستمرّة الوجود الدائمة الثابتة ؛
فلا بدّ أن يكون الأجسام العلوية والسفلية وتدبيراتها من النفوس الناطقة المجرّدة
وما ينطبع فيها من النفوس والقوى الجزئية وأوصافها ولوازمها من غلبة بعضها على بعض
وذلّة بعضها لبعض من التوالف والتحابب و
التناكر والتباغض
والترتيب والانتظام والاتّصال والالتيام والقرب والبعد وما لها من الهيئات
والأوضاع والتخصيصات كلّها مستندة إلى الأنوار العرضية ، لأجل ما فيها من الهيئات
النورية والانتظامات العجيبة والاختلافات بزيادة النورية والقوّة والغلبة ونقصانها
التي سرت إليها من العقول القاهرة الطولية لأجل جهاتها المتكثّرة من القهر
والمحبّة والاستغناء والوجوب بنور الأنوار والإمكان والفقر بالنظر إلى ذواتها
والأشعّة الإشراقية المشاهدية / B ١٨١ / وما بينها من المناسبات
والمشاركات وهيئاتها النورية المعنوية.
وعلى هذا ،
فالنفوس الناطقة الفلكية والإنسانية تكون صادرة من تلك العقول العرضية من الجهة
الأشرف ـ أعني وجوبها واستغنائها بعللها ـ والأجسام صادرة عن الجهة الأخسّ ـ أعني
إمكانها وفقرها ـ ويكون الترتيب الواقع في الثوابت ظلّا لترتيب عقلي.
وبالجملة : يكون جميع ما في العوالم الثلاثة أظلّة لعوالم العقول
العرضية.
ولا يجوز إسناد
التخصّصات ووجوه التكافؤ المذكورة إلى تصوّرات نفوس الأفلاك ؛ لأنّها أيضا لا بدّ
أن تكون مستندة إلى علل تكون فوقها ؛ ولا معنى لاستناد ما في الأفلاك وكواكبها من
السعدية والنحسية والاختلاف في القدر والضوء إلى تصوّرات نفوسها ؛ وهو ظاهر.
ثمّ المشّاءون
لمّا أسندوا ما في عالم الأفلاك وعالم العناصر من التخصّصات والاختلافات في
المقادير والأوضاع وساير وجوه التكافؤ إلى ما أثبتوه من العناية ـ أعني تعقّل
الواجب نظام الوجود على ما هو عليه ـ فإنّهم قالوا : إنّ هذا التعقّل علّة لوجود
الموجودات على ما هي عليه بحسب الذوات والأوصاف والهيئات والتخصّصات وغيرها ؛ فردّ
عليهم صاحب الإشراق بإبطال العناية نظرا إلى ما تقرّر عندهم من كون علم الواجب
عنده حضوريا إشراقيا جزئيا لا حصوليا
فعليا كلّيا ؛
فإنّ العناية هو العلم الحصولي الكلّي بالنظام الأعلى قبل وجوده.
وأنت تعلم أنّ
إسناد التخصّصات ووجوه التكافؤ والهيئات والاختلافات الواقعة في الأجسام الفلكية
والعنصرية لا يتوقّف على إبطال العناية ونفيها ؛ لأنّها لا ينافي الإسناد المذكور
؛ فإنّ العناية هو العلم الفعلي الكلّي بنظام الخير على ترتيب السببي والمسبّبي ؛
فلا يتعلّق بشيء من أجزاء النظام سواء كان ذاتا أو صفة أو هيئة أو شيئا من
التخصّصات إلّا ويتعلّق لغلبة المناسبة له وبسببه الخاصّ ؛ فلا يمكن أن يسند وجود
شيء من الأجسام أو عوارضها / A ١٨٢ / بلا واسطة إلى
العناية ويقال : إنّ صدوره منه من دون توسّط علّة اخرى ؛ ولذا لا يمكن أن يسند شيء
من الموجودات إلى علّة لا تناسبه أو قام الدليل على عدم جواز ذلك كإسناد صدور
مجرّد عن جسم أو جسماني ويقال : إنّ ذلك من مقتضيات العناية.
وعلى هذا فالهيئات
والتخصّصات والاختلافات ووجوه التكافؤ الواقعة في الأجسام الفلكية والعنصرية لا
بدّ أن تسند مع القول بالعناية أيضا إلى علل خارجية تناسبها وتصلح لعلّيتها لها
ثمّ يسند وجود الكلّ على الترتيب العلّي والمعلولي إلى العناية دون علل مناسبة لها
؛ أعني العقول.
فظهر أنّ العناية
لا تنافي إثبات العقول العرضية لأجل وجود بعض معلولات لا يمكن أن يسند صدورها إلى
علل خارجية اخرى في ترتيب الصدور غير تلك العقول العرضية ، لعدم المناسبة. فصاحب
الإشراق ما كان له حاجة في إثبات العقول العرضية إلى إبطال العناية وكان له أن
يجيب بعدم المنافاة إلّا أنّها لمّا كانت عنده في نفسها باطلة أجاب بإبطالها. فمن
أثبتهما معا فله أن يجيب بعدم المنافاة.
ومنها : تصريح النبوّة الأولى بوجود عقول نورية مدبّرة وتلويح نبوّة
نبيّنا إليه ؛ فإنّ المعروف أنّ هرمس الجهمي المسمّى بوالد الحكماء هو إدريس
النبيّ و
__________________
قد أسند الكلّ
إليه القول به ونقل عنه أنّه قال : إنّ ذاتا روحانية ألقت إلى المعارف فقلت : من
أنت؟ قال : أنا طباعك التامّ.
وقد نقل عن المسيح
عليهالسلام أنّه قال : «إنّي ذاهب إلى أبي وأبيكم روح القدس» وكان
الأوائل يسمّون ربّ النوع بروح القدس ويطلقون الأب عليه ، بل على كلّ مبدأ من
المبادئ.
وقد جرى شيخ
الإشراق على هذا الاصطلاح حيث قال في الهياكل النورية : «ومن جملة الأنوار القاهرة
أبونا وربّ طلسم نوعنا ومفيض نفوسنا ومكمّلها روح القدس المسمّى عند الحكماء
بالعقل الفعّال» وكان مراده بالحكماء هم الإشراقيّون ؛ إذ روح / B ١٨٢ / القدس والعقل الفعّال عند المشّائين عبارة عن العقل
العاشر الذي هو علّة لوجود هيولى العناصر بذاته وتصوّرها بواسطة الاستعداد الحاصلة
من الحركات السماوية ؛ وقد تواتر عن نبيّنا عليهالسلام بل عن ساير الأنبياء كثرة الملائكة وعدم تناهي جنود الله
تعالى وفيه تلويح إلى المطلوب وورد عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «أتاني ملك الجبال وملك البحار وملك السحاب» وأمثال هذا الخبر أكثر من أن يحصى.
ومنها : اتّفاق أولى المجاهدات من المتألّهين وأساطين الحكمة عليه ،
كحكماء الفرس والفهلوة بأسرهم ومعظم حكماء اليونان ، كسقراط وأفلاطون وفيثاغورث وأنباذقلس وآغاذاثيمون وغيرهم وقد ادّعوا
اطّلاعهم على
__________________
وجودها بالمشاهدة
الحقّة المتكرّرة المترتّبة على انسلاخهم عن الهياكل الظلمانية وبإيصالهم بها عند
خلع الأبدان الناسوتية ؛ وحكى أفلاطون عن نفسه أنّه خلع الظلمات ـ أي التعلّقات
البدنية ـ وشاهدها ؛ وأيضا نقل عنه أنّه قال : «إنّي رأيت عند التجرّد أفلاكا
نورية.»
وقد كان حكماء
الفرس يسمّون كثيرا من أرباب الأنواع بأسام : فسمّوا ربّ صنم الماء «خرداد » وربّ الأشجار «مرداد» وربّ النار «ارديبهشت» وبالجملة
يسمّون ربّ كلّ نوع باسم يخضعون له حتّى أنّهم تقدّسون ربّ نوع النبتة المسمّاة
بهوم التي كانت يدخل في أوضاع نواميسهم ويسمّونه «هوم ايزد» وقال صاحب الإشراق : «بعض
الفهلوة ـ وكأنّه زرادشت الحكيم ـ كان يسمّى المخلوق الأوّل «بهمن» والثاني «ارديبهشت»
والثالث «شهريور» والرابع «اسفندارمذ» والخامس «خرداد» والسادس «مرداد» ؛ وقد خلق
بعضهم من بعض كما يوجد السراج من السراج من غير أن ينقص من الأوّل شيء ؛ وزعم
زرادشت أنّه رآهم واتّصل بهم وأخذ منهم العلوم الحقيقية.» وكان اصطلاحه تخالف اصطلاح الأكثر ؛ وعلى أيّ تقدير لا
شبهة في وفاقهم على وجود أرباب الأنواع النورية.
[في نقد الأدلّة القائمة على ثبوت العقول العرضية]
اعلم أنّ هذه
الأدلّة وإن أمكن المناقشة في / A ١٨٣ / بعضها إلّا أنّ
مجموعها يفيد المطلوب ـ أي ينتهض بإثبات عقول عرضية ـ لكنّ ما ذكروه من كيفية صدور
العقول الطولية والعرضية وعدد طبقاتها وتعيين جهات كلّ من الطولية والعرضية
__________________
لا يخلو من إجمال
واختلاف وفساد ؛ فإنّ محصّل ما ذكروه ـ على ما مرّ ـ أنّ العقول منحصر [في] سلسلة
واحدة مترتّبة طولية يصدر بعضها عن بعض بجهات آحاد المشاهدات والإشراقات الكاملة
والصادر عن كلّ واحد واحد لا أكثر وثلاث طبقات عرضية غير مترتّبة يصدر عن السلسلة
الطولية لسائر الجهات آحادا وتركيبا وافرادا وجمعا وهي أرباب أنواع العوالم
الثلاثة ؛ فإنّ عبارة حكمة الإشراق وشرحه في المقام بعد بيان إشراق كلّ عال على
سافله ومشاهدة كلّ سافل لما فوقه وبيان كيفية تكثّر الانعكاسات الإشراقية
والمشاهدية هكذا : «فيحصل عدد من القواهر المترتّبة كثير بعضها عن بعض باعتبار
آحاد المشاهدات وعظم الأشعّة التامّة التي هي آحاد الإشراقات الكاملة وهي القواهر الاصول الأعلون.
ثمّ يحصل من هذه
الاصول بحسب تراكيب الجهات ـ أعني الفقر والاستغناء والقهر والمحبّة ـ ومشاركات
تلك الجهات والمناسبات التي بينها كما بمشاركة جهة الفقر مع الشعاعات وكذا بمشاركة جهة
الاستغناء معها وكذا بمشاركة جهة القهر معها وكذا بمشاركة جهة المحبّة معها
وبمشاركة أشعّة قاهر واحد بعضها مع بعض وبمشاركات أشعّة أنوار قاهرة
ومشاهداتها وبمشاركات ذواتها الجوهرية وبمشاركات بعض أشعّة مع بعض
أشعّة غيره أعداد كثيرة لا ينحصر في حدّ ؛ إذ يحصل من كلّ جهة بانفرادها شيء
وبمشاركة كلّ نور من الأنوار في جهة من الجهات شيء وكذا من كلّ اثنين أو ثلاثة أو
أربعة منها فصاعدا الشيء وكذا حكم كلّ جهة مع المناسبات التي بينها ويحصل من الاصول بمشاركات أشعّة الجميع سيّما الضعيفة
النازلة في الجميع مع جهة الفقر / B ١٨٣ / الثوابت وكريها
و
__________________
صور الثوابت
المناسبة باعتبار مشاركة أشعّة بعض مع أشعّة بعض ؛ أي تحصل هذه الصور باعتبار
مشاركة أشعّة بعض مع أشعّة بعض آخر ويحصل من الاصول بمشاركات أشعّة الجميع مع جهة الاستغناء والقهر والمحبّة
والمناسبات العجيبة بين الأشعّة الشديدة الكاملة وبين الأشعّة الباقية ـ أعني غير
الكاملة من الضعيفة والمتوسّطة ـ الأنوار القاهرة أرباب الأصنام النوعية الفلكية [و]
طلسمات البسائط والمركّبات العنصرية وكلّ ما تحت كرة الثوابت من العلويات والسفليات البسيطة والمركّبة ؛ فمبدأ كلّ من
هذه الطلسمات ؛ لأنّ هو نور قاهر هو صاحب الطلسم والنوع العالم النوري.»
ثمّ قال ـ بعد
إطالة القول في بيان أنّ ما في الأجسام من السعدية والنحسية وساير وجوه الاختلاف
وما يتضمّنها من التعظيم العجيب والإحكام والإتقان لا بدّ أن يستند إلى علل عقلية
مختلفة بحسب وقوعها تحت أقسام المحبّة والقهر والاعتدال ـ : «فالأنوار المجرّدة
تنقسم :
[١.] إلى أنوار
قاهرة ؛ وهي التي لا علاقة لها مع البرازخ لا بالانطباع ولا بالتصرّف ؛ ففي
الأنوار القاهرة :
[الف.] أنوار قاهرة أعلون ؛ وهي الطبقة الطولية في النزول العلّي ،
فائض بعضها من بعض ، غير حاصل منها شيء من الأجسام ، لشدّة نوريتها وقوّة جواهرها
وقربها من الوحدة الحقيقية وقلّة الجهة الظلمانية فيها ؛ ولو حصل من كلّ واحد جسم
لترتّب الأجسام كترتّب عللها من غير تكافئ ؛ واللازم باطل والملزوم مثله.
[ب.] وأنوار قاهرة صورية أرباب الأصنام ؛ وهي الطبقة العرضية
المتكافئة الغير المترتّبة في النزول العلّي ؛ وهي أرباب الأصنام النوعية
الجسمانية ؛ وهي
__________________
قسمان : أحدهما
يحصل من جهة المشاهدات وثانيهما من الإشراقات الحاصلين من الطبقة الطولية ؛ ولأنّ
الأنوار الحاصلة من المشاهدات أشرف من الحاصلة من الإشراقات وكان العالم المثالي
أشرف من العالم الحسّي حسب صدور عالم المثال عن الأنوار المشاهدية وعالم الحسّ عن
الإشراقية ؛ فالأشرف علّة للأشرف والأخسّ للأخسّ وبين العالمين تكافئ ؛ فإنّ كلّ /
A ١٨٤ / ما في عالم
الحسّ من الأفلاك والكواكب والعناصر ومركّباتها والنفوس المتعلّقة بها يوجد مثله
في عالم المثال.
[٢.] وإلى أنوار
مدبّرة للبرازخ وإن لم تكن منطبعة فيها ؛ وتحصل تلك المدبّرات ـ أي النفوس الناطقة
ـ مع هيئاتها النورية من كلّ صاحب صنم في ظلّه البرزخي باعتبار جهة عالية نورية
والبرازخ من جهة نازلة» انتهى.
وظاهر هذا الكلام
بملاحظة سوابقه ولواحقه ـ كما نرى ـ بعيد ممّا نسبناه إليهم من انحصار العقول في
سلسلة واحدة طولية صادرة بعضها من بعض بجهتى آحاد المشاهدات والأشعّة الكاملة
الشديدة وثلاث طبقات عرضية هي علل أنواع العوالم الثلاثة بسائر الجهات المذكورة
آحادا وجمعا وافرادا وتركيبا.
وأنت خيبر بأنّ
هذا لا توافق قواعدهم ؛ إذ :
[١.] لو أرادوا
أنّه بعد تمامية السلسلة الطولية المترتّبة بصدور بعضها عن بعض يصدر عنها بسائر
الجهات المذكورة طبقات ثلاث من عقول عرضية مختلفة باختلاف الجهات وذوات القواهر
الطولية وهي أرباب أنواع العوالم الثلاثة وعللها ، ففيه ـ مع مخالفته لما في
الهياكل من صدور العقول الطولية بعضها عن بعض بجهة الوجوب
والاستغناء بالوجوب لا بجهة المشاهدات والأشعّة ، بل صدور
__________________
الأفلاك أيضا منها
ـ أنّ هذا يوجب تخلّف المعلول عن علّته التامّة ؛ إذ لا ريب في حصول بعض الجهات
المقتضية لصدور بعض العقول العرضية لبعض العوالي قبل تمامية السلسلة الطولية ؛
فيحصل له الاستقلال بصدوره ؛ فيعطّله عنه ؛ وتوقّفه على تماميتها يوجب تخلّف
المعلول عن علّته التامة ؛ وأيضا يوجب أشرفية معلول السافل عن معلول العالي ، بل
أشرفية معلول الشيء بوسائط عن معلوله بلا واسطة ؛ إذ بنائهم على أشرفية كلّ واحد
من السلسلة الطولية على كلّ واحد من الصفات العرضية ؛ فيلزم أشرفية العاشر مثلا مع
كونه معلولا للتاسع عن بعض عقول عرضية صادرة من العقل الأوّل ببعض جهاته المتحصّلة
بمجرّد صدوره.
[٢.] وإن أرادوا
أنّ العقل الأوّل بعد صدوره يصدر عنه بأشرف الجهات عقل أكمل يعدّ من الطولية
وبسائر جهاته عقول مختلفة أخسّ منه / B ١٨٤ / يعدّ من العرضية ثمّ يصدر من الأكمل عقل آخر يعدّ من
الطولية أيضا ومن العقول العرضية المختلفة بعض الأنواع المثالية أو الفلكية وهكذا
إلى أن تتمّ السلسلة الطولية وأرباب أنواع العوالم الثلاثة ؛ فيلزم أن يصدر بعض
العقول العرضية قبل صدور بعض العقول الطولية وأن يصدر بعض الموجودات المثالية والمجسّمة
الفلكية ، بل العنصرية قبل صدورهما ؛ فيلزم صدور الأخسّ قبل صدور الأشرف ؛ ولا ريب
في بطلانه ؛ لأنّه خلاف ما تقرّر عندهم من قاعدة الإمكان الأشرف.
والتحقيق في هذا المقام على ما تقتضيه
الاصول والقواعد أن يقال
: العقل الأوّل بعد
صدوره يكون له وجوب واستغناء بالواجب وإمكان وفقر في نفسه ومحبّة وذلّة ومشاهدة له
تعالى ؛ ويكون للواجب قهر وإشراق عليه ؛ فمن هذه الجهات المتحصّلة منفردة ومنضمّة
بعضها مع بعض مع ما يحصل بينها من المناسبات تصدر عنه عقول على عدّة تقتضيها تلك الجهات مختلفة في الشرافة و
__________________
الكمال باختلافها.
ثمّ الجهات
المتحصّلة المتصوّرة لتلك العدّة بالنظر إلى أنفسها وبالنظر إلى ما فوقها منفردة
ومنضمّة بعضها مع بعض إذا لوحظت مع مناسباتها ومشاركاتها تخرج عن حدّ الإحصاء ؛
فتصدر عن هذه العدّة بجهاتها المتصوّرة المتحصّلة وهيئاتها النورية طبقة اخرى أكثر
عددا من سابقها أكثرية لا يمكن الإحاطة بها وتكون أيضا مختلفة لاختلاف عللها وهكذا
تصدر من كلّ طبقة طبقة اخرى على ما تقتضيه قاعدة الإمكان الأشرف إلى أن ينتهى إلى طبقة لا يمكن لضعف
قوّتها ونوريتها أن تصدر منها طبقة عقلية ؛ فتصدر عنها العوالم الثلاثة المختلفة
باختلافها أو علل تلك العوالم ـ أعني أرباب الأنواع والمثل النورية ـ بناء على
اختلاف البراهين في تفسير المثل ، كما يأتي.
فتكون للعقول
طبقات كثيرة طولية وعرضية كلّها مترتّبة وإن اختلفت أفراد كلّ سلسلة طولية وطبقة
عرضية بالشرافة والقوّة والنورية ؛ وكثرة الطولية على ما يقتضيه الإمكان الأشرف
والعرضية ما تقتضيه / A ١٨٥ / جهاتها
المتحصّلة المتصوّرة ومناسباتها ومشاركاتها إفرادا وتركيبا وآحادا وجمعا بالنظر
إلى أنفسها وبالنظر إلى ما فوقها.
والتوضيح : أنّ عدد آحاد كلّ طبقة عرضية على ما تقتضيه الجهات
المتحصّلة في الطبقة السابقة عليها ؛ وعدد أصل الطبقات العرضية بقدر عدد آحاد كلّ
واحد من السلاسل الطولية ؛ وعدد كلّ طبقة طولية ما يقتضيه الإمكان الأشرف ؛ وعدد
أصل السلاسل الطولية بقدر عدد آحاد الطبقة الأخيرة من العرضية التي هي أكثر
الطبقات آحادا ولكن تكثّر التكرّر من آحاد العقول في السلاسل الطولية حتّى أنّ
الواجب والعقل الأوّل يتكرّر في كلّ واحد من السلاسل الطولية وكلّما يحصل
__________________
التنزّل يصير
تكرّر الآحاد أقلّ. ثمّ يكون ما لكلّ طبيعة من الانتظام والترتيب والهيئة العجيبة
النورية على ما يقتضيه النظم والترتيب والهيئات التي في سابقها التي هي عللها.
وبالجملة : تكون للعقول طبقات كثيرة يبلغ أعداد مثل الطبقة الثالثة
والرابعة حدّا يخرج عن الإحصاء ؛ فكيف بالطبقات التي بعدهما؟! وكلّ من الطبقات
منتظمة انتظاما عجيبا ويشتمل على هيئات نورية بهيّة ؛ وآخر طبقاتها وأنزلها هي طبقة أرباب أنواع العوالم الثلاثة وأشرف أفراد هذه الطبقة
علل الأنواع المثالية وأوساطها علل الفلكية وأخسّها علل العنصرية ؛ وهذه العقول
وإن بلغت في الكثرة حدّا يزيد أعدادها على أعداد ما وجد ويوجد من أفراد جميع أنواع
النباتات والحيوانات (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) ـ الآية ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) ـ الآية ـ إلّا أنّها مع ذلك ليست غير متناهية ، لوجوب
تناهي سلاسلها الطولية وجهاتها المتصوّرة هذا.
والظاهر : أنّ مراد الإشراقيّين أيضا هو ما ذكرناه إلّا أنّ ما ذكره
صاحب الإشراق ـ من كون القواهر الطولية التي خصّصها بعدم علاقتها بالبرازخ
بالربوبية والعلّية صادرة عن جهتى آحاد المشاهدات والإشراقات الكاملة ـ يأبى عن
ذلك. / B ١٨٥ /
[في ما يقال في تفسير المثل الأفلاطونية]
اعلم أنّ
الإشراقيّين ذهبوا إلى ما أثبته أفلاطون ومعلّمه سقراط من المثل المسمّاة بالمثل
الأفلاطونية والمثل الإلهية والمثل النورية هي الطبقة النازلة الأخيرة من
__________________
العقول العرضية ؛
واستدلّوا على إثباتها ببعض الوجوه المتقدّمة ؛ وعلى هذا فإطلاق المثل عليها كأنّه
باعتبار علاقة الربوبية التي لها بالنسبة إلى الأصنام والطلسمات والمناسبة التي
بين العلّة والمعلول ؛ فإنّ المثلية قد تطلق على المناسبة تجوّزا ؛ ولا يمكن أن
يراد بالمثلية معناها الحقيقي حتّى يكون المراد أنّ كلّ عقل فرد حقيقي من النوع
الذي هو ربّه ومدبّره بمعنى أنّه فرد منه مجرّد قائم بذاته وساير الأفراد غير
مجرّدة وقائمة بغيرها والفرد المجرّد القائم بذاته هو ربّ ساير الأفراد وعلّتها
ومربّيها والقيّم بحفظها وتدبيرها ؛ إذ لا يمكن أن يكون العقل فردا من نوع الإنسان
أو الفرس أو البراذين وأمثالها ؛ وهو ظاهر.
ومن المتأخّرين من
جزم بأنّ المراد بها أرباب الأنواع إلّا أنّها ليست تلك العقول العرضية ، بل مراد
أفلاطون وتابعيه أنّ لكلّ نوع من الأنواع الجسمانية فردا كاملا في عالم الإبداع
وأنّه هو الأصل والمبدأ لسائر أفراد هذا النوع وهي فروعه ومعلولاته وآثاره ؛ وذلك
الفرد لتماميته وكماله لا يفتقر إلى محلّ بخلاف ساير الأفراد ؛ فإنّها لضعفها في
الوجود ونقصها في الجوهر مفتقرة إلى مادّة وعوارضها ؛ فالموجودات الطبيعية لها صور
مجرّدة في العالم الأعلى لا تفسد ولا تدثر ، بل هي باقية ثابتة وما يفسد ويدثر
إنّما هي الموجودات التي هي أصنام لها ؛ ونسبة هذه الأصنام إلى تلك الصور المجرّدة
التي هي أرباب أنواع نسبة الفروع إلى الأصول ؛ وكذلك الهيئات والنسب والأشكال التي لها بمنزلة أظلال الهيئات العقلية ونسب معنوية في أربابها النورية.
وبالجملة : كلّ واحد من الموجودات الطبيعية صنم وطلسم لموجود عقلي نوري
هو ربّ نوعه حتّى أنّ هذه الأرض الحسّية صنم لأرض عقلية وكذا يكون
__________________
في عالم الصور
العقلية أفلاك وكواكب وشمس وقمر وخمسة متحيّزة وثوابت واثنا عشر برجا / A ١٨٦ / وسبعة وعشرون منزلا وثلاثمائة وستّون درجة كلّها عقلية
نورية ؛ وكما أنّ الموجودات الطبيعية والأصنام البرزخية بعضها كمال البعض وبعضها
أعلى من بعض وبعضها أصل بعض وفرع بعض آخر وبعضها مفيض وبعضها مستفيض ، فكذلك الحال
في أربابها العقلية النورية حتّى أنّ الأرض العقلية أنزل رتبة من جميع الصور العقلية ، منزلتها منزلة قبول الآثار
العقلية والأضواء المعنوية عمّا فوقها بلا زمان ومكان ؛ وربّ النوع الإنساني
المسمّى بروح القدس أشرف أرباب ساير الأنواع الحيوانية والنباتية ، بل نسبته إليها
كنسبة صاحب كلّ صنم إلى صنمه في كونه أصلا له.
والحاصل : أنّ هذا البعض من المتأخّرين جعل كلّ نوع متكثّر الأفراد أو
منحصر في الفرد على قسمين :
أحدهما : حسّي جسماني
وثانيهما : عقلي نوري
فبإزاء جميع
الأنواع الفلكية والعنصرية في العالم الأعلى أنواع نورية قائمة بذواتها هي أرباب
الأنواع الجسمية ؛ فبإزاء الإنسان الحسّي مثلا إنسان مجرّد نوري في العالم العقلي
هو فرد للطبيعة النوعية الإنسانية إلّا أنّه قائم بذاته ومقوّم للإنسان الحسّي
وكلّ ما له من الصفات واللوازم يكون لهذا الإنسان العقلي أيضا إلّا أنّها عقلية ،
كما أنّ ذاته وحقيقته أيضا عقلية ؛ وهكذا الحكم في جميع الأنواع الجسمية ؛ وأوّل
المثل الأفلاطونية إلى الأنواع النورية بهذا المعني واستشهد على ذلك :
أوّلا : بقول الشيخ : «ظنّ قوم أنّ القسمة يوجب وجود شيئين في كلّ
شيء كالإنسانين في معنى الإنسانية : إنسان فاسد محسوس وإنسان معقول مفارق
__________________
أبدي لا يتغيّر ؛
وجعلوا لكلّ واحد منهما وجودا ؛ فسمّوا الوجود المفارق وجودا مثاليا ؛ وجعلوا لكلّ
واحد من الامور الطبيعية صورة مفارقة وإيّاها يتلقّى العقل ؛ إذ كان المعقول شيئا
لا يفسد وكلّ محسوس من هذه فاسد ؛ وجعلوا العلوم والبراهين ينحو نحو هذه وإيّاها
يتناول» وكان المعروف بأفلاطون ومعلّمه سقراط يفرّطان في هذا القول ويقولان إنّ للإنسانية
معنى واحدا موجودا تشترك فيه الأشخاص / B ١٨٦ / ويبقي مع بطلانها وليس هو المعنى المحسوس للتكثّر الفاسد
؛ فهو إذن العقول المفارقة.
وثانيا : بكلمات يلتقطه من أثولوجيا للمعلّم الأوّل كقوله في الميمر
الرابع منه : «إنّ وراء هذا العالم سماء وأرض وبحر وحيوان ونبات وناس وسماويّون
وكلّ من هذا العالم سماويّ وليس هناك شيء أرضي البتّه» وقوله فيه أيضا : «إنّ الإنسان الحسّي إنّما هو صنم
للإنسان العقلي والإنسان العقلي روحاني وجميع أعضائه روحانية ، ليس موضع العين غير
موضع اليد ولا مواضع الأعضاء كلّها مختلفة لكنّها في موضع واحد» وقوله في الميمر الثامن : «إنّ الشيء الذي يفعل به النار
إنّما هي حياة نارية وهي النار الحقيقية ؛ فالنار إذن التي فوق هذه النار في
العالم الأعلى هي أحرى بأن تكون نارا ؛ فإن كانت نارا حقّا فلا محالة أنّها حيّة
وحياته أرفع وأشرف من حياة هذه النار ؛ لأنّ هذه النار صنم لتلك النار.»
فقد بان وصحّ أنّ
النار التي في العالم [الأعلى] هي حيّة وأنّ تلك الحياة هي القيّمة بالحياة على
هذه النار ؛ وعلى هذه الصفة يكون الماء والهواء ؛ فإنّهما هناك حيّان كما هما في
هذا العالم إلّا أنّهما في ذلك العالم أكثر حياة ؛ لأنّ تلك هي التي تفيض على هذين
الحياة.»
__________________
وقوله فيه أيضا : «إنّ هذا العالم الحسّي كلّه إنّما هو مثال وصنم لذلك ؛ فإن
كان هذا العالم حيّا فبالحريّ [أن يكون ذلك العالم الأوّل حيّا ؛ وإن كان هذا
العلم تامّا فبالحريّ] أن يكون ذلك العالم أتمّ تماما وأكمل كمالا ؛ لأنّه هو
المفيض على هذا العالم الحياة والقوّة والكمال والدوام ؛ فإن كان هذا العالم تامّا
في غاية التمام فلا محالة أنّ هناك الأشياء كلّها التي هنا إلّا أنّها فيه بنوع
أعلى وأشرف كما قلنا مرارا. فثمّ سماء ذات حياة وفيها كواكب مثل هذه الكواكب التي
في هذه السماء غير أنّها أنور وأكمل وليس بينها افتراق كما نرى هاهنا ؛ وذلك لأنّها ليست
جسمانية ؛ وهناك أرض ذات سباخ لكنّها كلّها عامرة وفيها الحيوانات كلّها الطبيعية
والأرضية التي هنا ؛ وفيها نبات مغروس في الحياة وفيها بحار وأنهار جارية [وما
يجري] جريا حيوانيا / A ١٨٧ / وفيها حيوانات
الماء كلّها ؛ وهنا هواء وفيه حيوانات هوائية حيّة شبيهة بذلك الهواء ؛ والأشياء التي هناك كلّها حيّة وكيف لا تكون حيّة
وهي في عالم الحياة المحض لا يشوبها الموت البتّة؟! وطبائع الحيوان التي هناك مثل
طبائع هذه الحيوانات إلّا أنّ الطبيعة هناك أعلى وأشرف من هذه الطبيعة ؛ لأنّها
عقلية ليست حيوانية.
فمن أنكر قولنا وقال : من أين يكون في العالم الأعلى حيوان وسماء وساير الأشياء
التي ذكرناها؟
قلنا : إنّ العالم الأعلى هو الحىّ التامّ الذي فيه جميع الأشياء ؛
لأنّه ابدع من المبدع الأوّل التامّ ؛ ففيه كلّ نفس وكلّ عقل ؛ وليس هناك فقر ولا
حاجة البتّة ؛ لأنّ الأشياء التي هناك كلّها مملوءة غنى وحياة كأنّها حياة تغلى
وتفور ؛ وجرى حياة تلك الأشياء إنّما ينبع من عين واحدة لا كأنّها حرارة واحدة أو
ريح واحدة فقط ،
__________________
بل كلّها كيفية
واحدة فيها كلّ كيفية ، يوجد فيها كلّ طعم ؛ ونقول إنّك تجد في تلك الكيفية
الواحدة طعم الحلاوة والشراب وساير الأشياء ذوات الطعوم ؛ وقواها وساير الأشياء
الطيّبة الروائح وجميع الروائح وجميع الألوان الواقعة تحت البصر وجميع الأشياء
الواقعة تحت اللمس وجميع الأشياء الواقعة تحت السمع ـ أي اللحون كلّها وأصناف
الإيقاع ـ وجميع الأشياء الواقعة تحت الحسّ وهذه كلّها موجوده في كيفية واحدة مبسوطة على ما وصفناه ؛
لأنّ تلك الكيفية حيوانية عقلية تسمع جميع الكيفيات التي وصفناه ولا تضيق عن شيء
منها من غير أن يختلط بعضها ببعض وبنفس وينفد بعضها ببعض ، بل كلّها فيها محفوظة كأنّ كلّا منها
قائم على حدة.»
وقوله في الميمر العاشر : «إنّ كلّ صورة طبيعية في هذا العالم فهي في ذلك العالم إلّا
أنّها هناك بنوع أفضل وأعلى ؛ وذلك لأنّها هنا متعلّقة بالهيولى وهي هنالك بلا
هيولى ؛ وكلّ صورة طبيعية هاهنا فهي صنم للصورة التي هناك الشبيهة بها ؛ فهناك
سماء وأرض وحيوان وهواء وماء ونار ؛ فإن كان هناك هذه الصورة / B ١٨٧ / فلا محالة أنّ هناك نباتا أيضا.»
ولا يخفى : أنّ ما ذكره هذا البعض من كون ربّ كلّ نوع فردا من هذا النوع كاملا قائما بذاته يرد على ظاهره أنّ اختلاف أفراد
نوع واحد بالعلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية والقيام بالذات والقيام بالغير
غير معقول ؛ فكيف يجوز لحقيقة واحدة أن يقوم بعضها بنفسه وبعضها بغيره؟! إذ
الحقيقة لو اقتضت القيام بالذات لكان جميع أفرادها قائمة بذواتها وإن اقتضت الحلول
لاستحال قيام بعضها بذاته.
__________________
والقول ب «جواز
اختلاف نوع واحد كمالا ونقصا وغنى وفقرا معلّلا بأنّ حقيقة الوجود مع بساطته
مختلفة بالوجوب والإمكان والاستغناء عن المحلّ والافتقار إليه ؛ فإنّ استغناء بعض
الوجودات عن المحلّ إنّما هو لكماله وكماله لجوهريته وقوّته وافتقار بعضها إليه
لغاية نقصه وهو لعرضيته وضعفه وكذا إضافته إلى جسم بكونه نفسا له ضرب من القصور
والحاجة ؛ فلا يلزم من حلول شيء في محلّ ذاتا أو فعلا حلول ما يشاركه في النوعية
بعد التفاوت بينهما في الشدّة والضعف» يرد عليه أنّ اختلاف طبيعة واحدة بوجوه
التشكيك لا بدّ أن يكون اختلافا لا يخرج أفراد تلك الطبيعة عن الاتّفاق في الحقيقة
النوعية ولا يدخل بعضها في حقيقة اخرى كالاختلاف بمجرّد أكثرية الآثار وأقلّيتها
وأشدّية الظهور وأضعفيته.
ولا ريب في أنّ
الاختلاف بمثل الجوهرية والعرضية والعلّية والمعلولية والتجرّد والمادّية ليس من
هذا القبيل ؛ فإنّ الأفراد المختلفة فيها لو جاز كونها داخلة في حقيقة نوعية واحدة
لم يوجد نوعان مختلفان ؛ فإنّ الاختلاف الذي بين هذا الفرس وهذا الإنسان ليس أشدّ
من الاختلاف الذي بين هذا الجوهر وهذا العرض وبين الواجب وبعض معلولاته.
وما ذكره من
التعليل ضعفه ظاهر ممّا مرّ ؛ فإنّ الوجود المختلف بأنحاء التشكيك هو العامّ
الانتزاعي ، والوجودات الخاصّة ليست أفرادا له ، بل التحقيق / A ١٨٨ / ـ كما مرّ ـ أنّها مختلفة بأنفسها وفرد منها قائم بذاته
متحقّق بنفسه والبواقي معلولة له متحقّقة بالانتساب إليه ؛ ولا يوجد ذاتي مشترك
بينها حتّى يلزم اختلاف حقيقة واحدة في الوجوب والإمكان والاستغناء عن المحلّ
والافتقار إليه.
وكلمات المعلّم الأوّل لا بدّ أن يحمل إمّا على ما مرّ من العقول النازلة
__________________
العرضية ؛ والوجه
في تسميتها بالسماء أو الأرض أو الحيوان أو الإنسان أو النبات أو غير ذلك ما أشرنا
إليه من الوجه في إطلاق الثلاثة ؛ أعني علاقة الربوبية ومناسبة العلّية والمعلولية
على الصور المثالية ؛ فإنّ كلّ ما في الأفلاك والعنصريات يوجد في عالم المثال
أيضا ؛ ويؤيّد ذلك ما اشتهر بين الجماعة من أنّ المعلّم الأوّل خالف معلّميه ـ أفلاطون
وسقراط ـ وغيرهما من الأقدمين كآغاذاثيمون وغيرها في إثبات المثل العقلية الإلهية
حتّى أنّ المعلّم الثاني لمّا أراد أن يجمع بين الرأيين في مقالته المشهورة أوّل
المثل النورية إلى الصور العلمية القائمة بذاته ؛ هذا.
والظاهر : أنّ العقل لا تنقبض عن الحكم بأن توجد بين العقول الصّرفة
والنفوس الناطقة ذوات مجرّدة نورية يصدر عنها ما يصدر عن أفراد الإنسان والحيوان
والنبات والجماد ولكن تكون هذه الآثار الصادرة عنها كذواتها نورية عقلية ؛ وما
يوضح ذلك أنّ الإنسان قد يحصل له الترقّي في مراتب العلم والعمل بحيث يتجاوز عن
النفوس ومراتبها ويتّصل بالعقول وعوالمها ؛ ولا ريب في أنّ مثله لا يعدّ من العقول
الصّرفة ، بل يعدّ من أفراد الإنسان وكلّ ما يكون للإنسان من الحواسّ والالتذاذات
والآثار يكون له أيضا إلّا أنّ كلّها على وجه عقليّ نوريّ ؛ فلا ضير في أن يطلق
عليه الإنسان العقلي إطلاقا وإن كان مجازيا ؛ وإذا جاز ذلك في بعض الأنواع في
السلسلة العودية الكونية فأيّ مانع من جوازه في جميع الأنواع في السلسلة النزولية
الإبداعية؟! بل الحقّ ثبوته / B ١٨٨ / لقاعدة الإمكان
الأشرف ؛ إذ وجود فرد مجرّد نوريّ لكلّ نوع من الأنواع الفلكية والعنصرية على
النحو المذكور ـ أي بحيث يكون متّصفا بصفات هذا النوع ومصدرا لآثاره على وجه عقليّ
نوريّ بحيث يكون متوسّطا بين العقول الصّرفة التي لا التفات لها إلى
__________________
البرازخ أصلا
والنفوس الناطقة بأن تشابه الأولى في عدم الافتقار إلى البرازخ ذاتا وفعلا وتشابه الثانية
من حيث تعلّقه بها بالرتبة والعلّية والاتّصاف بصفاته وآثاره على وجه عقليّ متقدّس
عن القصور والنقص ـ ممكن وهو أشرف من هذا النوع إذا كان مثاليا أو فلكيا أو عنصريا
؛ وقد وجد الأخسّ ؛ فيجب أن يوجد الأشرف قبله ؛ فلكلّ نوع فرد مجرّد نوريّ عقليّ
قائم بذاته تصدر عنه آثار هذا النوع ، بل يكون له كلّ ما يوجد له إلّا أنّ جميعها
على وجه عقليّ نوريّ ؛ وهو ربّ هذا النوع وحافظه ويفيض على ساير أفراده ما يستعدّ
له من القدرة والقوّة والعلوم والابتهاجات وغيرها.
فربّ نوع الإنسان
الذي هو أشرف أرباب العالم العنصري هو القيّم بتربية الأفراد الإنسانية وحفظها
ومفيض العلوم والأنوار عليها بحسب استعداداتها ؛ وقد يرتقى في بعض أفراده بالتجلية
والتحلية بشرائف الصفات والإحاطة بحقائق الأشياء بحيث يحصل له كمال التجرّد
والنورانية ؛ فيتمكّن عن خلع جلباب البدن والاتّصال به ؛ فيصير نورا مجرّدا مثله
ويكون واسطة بين العقول الصّرفة والنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان المثالية أو
الفلكية أو العنصرية ؛ وقد يحصل لبعض النفوس هذا الاتّصال بعد الموت الطبيعي لا
قبله ؛ وعلى التقديرين مع اتّصاله به وصيرورته شبيها به في التجرّد والنورية لا
يكون في الشرافة والكمال مثله وداخلا في ربّ الأرباب وإن تمكّن من التأثير
والإفاضة على ما دونه ؛ إذ الإنسان العقليّ الذي هو ربّ النوع نور إبداعي / A ١٨٩ / واسطة لإيجاد جميع الأفراد الإنسانية وله التمكّن التامّ
في أنحاء التصرّف في جميعها ومحيط بكلّها وهي بأسرها بمنزلة أظلاله ؛ فأنّى ذلك
لمن يتّصل به نحو الاتّصال من الأفراد الإنسانية وإن حصل له غاية النورية والتجرّد
ويمكّن من بعض التصرّفات والإضافات على ما تحته من الأفراد؟!
وبالجملة : هذه الذوات النورية المعبّر عنها بأرباب الأنواع والأصنام
ليست عقولا صرفة لا تناسب الأنواع البرزخية والأصنام الجسمية بوجه ، ولا علاقة لها
بها لا بتصرّف وانطباع ولا بعلّية وربوبية ، ولا التفات إليها أصلا ؛ ولا نفوسا
ناطقة متعلّقة بالأجسام تعلّق تصرّف وافتقار في الفعل ، بل هي واسطة بينهما ؛
لأنّها أعلى وأشرف من النفوس من حيث عدم الافتقار في الفعل إلى جسم وأخسّ من
العقول من حيث التفاتها إلى الأجسام وتعلّق بها تعلّق الربوبية ، بل كونها مماثلة
لها في الأوصاف والآثار وكون الاختلاف بينهما ذاتا وصفة بالتجرّد والمادّية
والعقلية والحسّية.
وعلى هذا فطبقة
أرباب الأنواع طبقة من المجرّدات واسطة بين العقول الصّرفة والبرازخ صادرة من
الطبعة الأخيرة للعقول ؛ فإنّ هذه الطبقة النازلة الأخيرة لم يمكن لضعفها أن تصدر
عنها العقول ؛ فتصدر عنها طبقة مجرّدة نورية واسطة بين العقول والبرازخ ، مختلفة
في النورية والكمال والقوّة باختلاف عللها التي هي الطبقة الأخيرة النازلة من العقول
وتصدر عنها الكثرة البرزخية من العوالم الثلاثة باختلافها.
وممّا يؤكّد وجود
أرباب الأنواع بالمعنى المذكور التأمّل في أحوال الإنسان وعوالمه وإدراكاته
واتّصالاته بالعوالم ؛ فإنّك قد عرفت أنّ النفس الناطقة الإنسانية لكونها خليفة
الله ومظهرا جامعا إجماليا وانموذجا للكلّ ونسخة منحصرة من العوالم بأسرها انطوت
فيها / B ١٨٩ / جميع النشئات
إجمالا ولها قوى تتمكّن بها عن إدراك جميعها والاتّصال بكلّها ؛ فكلّ نشأة خارجية
يوجد انموذج منها فيها ؛ ولذلك تتمكّن من إدراك هذه النشأة والاتّصال بها وكذا كلّ
نشأة يوجد فيها يجب أن تتحقّق هذه النشأة على وجه التفضّل والكمال في الخارج ؛
ولذلك يمكن أن يستدلّ بوجود كلّ نشأة في أحدهما على وجوده في الآخر.
وعلى هذا القول لا
ريب في أنّ للنفس الناطقة خمس نشئات :
الأولى : النشأة الحسّية الظاهرة التي بإزاء عالم الحسّ والشهادة ؛ ولها قوى ظاهرة تدرك بها الأشياء الحسّية
وموجودات هذا العالم ولها ملكة الاتّصال بها ، بل أكثر النفوس لاستغراقها في
العلائق البدنية وانهماكها في الشهوات الجسمانية وعدم حصول التجرّد التامّ لها
متّصلة بهذا العالم ومستغرقة فيه بحيث غفلت عن ساير النشئات والعوالم.
الثانية : النشأة الخيالية المثالية التي بإزاء عالم المثال والأشباح
؛ ولها قوى حسّية ناطقة تدرك بها الصور المثالية الجزئية والأشباح بلا مادّة جسمية
، كما هو شأن موجودات عالم المثال ؛ ولها أيضا ملكة الاتّصال بهذا العالم بحسب
استعدادها.
الثالثة : النشأة النفسية التي بإزاء عالم النفوس المعبّر عنه
بالملكوت الأسفل ؛ ولها قوّة نظرية عقلية تتمكّن بها عن إدراك الحقائق والمعاني
الكلّية بالعلم الحصولي والجزئيات المجرّدة والمادّية بالعلم الإشراقي الشهودي
إلّا أنّها ما لم يحصل لها التجرّد التامّ لا تتمكّن من هذا الإدراك بذاتها من دون
توسّط جسم أو جسماني ؛ فيتوقّف إدراكها الكلّيات على أن تنتزعها عن الأشياء
الجسمانية المدركة لها بتوسّط القوى الظاهرة والباطنة والجزئيات بارتسامها في بعض
آلاتها ؛ وهذا هو المرتبة النفسية ؛ إذ النفس من حيث إنّها نفس تفتقر في فعلها
وإدراكها إلى الأجسام. ثمّ لها بحسب استعدادها أن تتّصل بعالم النفوس وتلاقي
النفوس الكاملة الفلكية والعنصرية.
الرابعة : النشأة / A ١٩٠ / العقلية
المشوبة ببعض الصفات الجسمية ؛ فإنّها إذا حصل لها ضرب كامل من التجرّد تتمكّن به
من إدراك المعقولات بذاتها من دون افتقار إلى الجسم والآلات الجسمانية ؛ أي لا
تحتاج في إدراك المعقولات الكلّية إلى
__________________
انتزاعها عن
الأشياء الجسمية الخارجية وفي مشاهدة الذوات المجرّدة أو غيرها إلى توسّط آلات
إلّا أنّها لم تبلغ في التجرّد مرتبة تكون معقولاتها بقوّتها النظرية عقلية صرفة
وخالصة بالكلّية عن شوائب الأوصاف الجسمية ، بل تكون مدركاتها مع كونها نورية عقلية مشوبة بالصفات البرزخية والمثالية ؛
فتدرك المسموعات والمبصرات والمذوقات والملموسات كلّها بقوّتها النظرية على وجه
عقلي نوراني إلّا أنّ إدراكها هذا سمع عقلي وبصر عقلي وذوق عقلي وهكذا ؛ فيجب أن يكون
بإزاء هذه النشأة في النفس عالم في الأعيان توجد فيه أنوار مجرّدة [على]
هذه الصفة وما هو إلّا عالم أرباب الأنواع المتوسّطة بين العقول الصّرفة والنفوس
الناطقة ؛ فإنّها ـ كما عرفت ـ أنوار مجرّدة إلّا أنّها لانحطاطها عن مراتب العقول
متّصفة بالأوصاف الجسمانية على وجه عقلي ؛ فلها سمع عقلي وبصر عقلي وذوق عقلي
وحركات دورية عقلية إلى غير ذلك من أوصاف البرازخ التي هي أربابها. ثمّ النفس بحسب
استعدادها تتمكّن من إيصالها بهذه الأرباب النورية سيّما بربّ نوعها الذي يسمّونه
بروح القدس.
الخامسة : النشأة العقلية الصّرفة التي بإزائها عالم العقول المعبّر
عنه بعالم الجبروت والملكوت الأعلى ؛ فإنّ النفس إذا حصلت لها غاية التجرّد
والصفاء ونهاية النورية والضياء تتمكّن بذاتها من دون توسّط الأجسام والآلات أن
تعقل بقوّتها النظرية المعقولات الكلّية من الصور والمعاني على وجه إجمالي بسيط
معبّر عنه بالعقل البسيط ؛ وعلى وجه تفصيلي في غاية التميز والوضوح ؛ وتشاهد الجزئيات من الذوات
المجرّدة والمادّية الجوهرية والعرضية بالعلم الانكشافي الإشراقي على وجه يكون ما
تعقله وتشاهده معقولا صرفا لا يشوبه
__________________
شيء من الأوصاف
المادّية والنعوت / B ١٩٠ / الجسمية كما هو
شأن العقول الصّرفة. فالنفس حينئذ كأنّها عقل محض وتحصل لها حينئذ بحسب استعدادها
ملكة الاتّصال بعالم العقول والأخذ منها ؛ وقد يحصل لها الترقّي بحيث يتجاوز عنها
ويحصل لها القرب الحقيقي بموجد الكلّ ؛ وهو المرتبة الخاتمية المعبّر عنها بمقام (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).
وقد ظهر بذلك أنّ
النفس الناطقة مع انحطاطها عن افق الإبداعيات وهبوطها إلى أرض المادّيات وابتلائها
بعوائق الشهوات الخسيسة وتقيّدها بقيود البدن وسلاسل الطبيعة احتوت على جميع
النشئات الوجودية وانطوت فيها كلّ المراتب الكونية.
وبالجملة : هي مع انحطاط درجتها من بين الأنوار القدسية والجواهر
المجرّدة النورية وسيعة الميدان سريعة الجولان وفي جبلّتها الاتّصال إلى كلّ
العوالم والنشئات ومن شأنها التنقّل في جميع المراتب والدرجات ولها من المرتبة
الجمعية والقرب الحقيقي إلى المبدأ ما لا يوجد لغيره.
نه فلك راست
مسلّم ، نه ملك را حاصل
|
|
آنچه در سرّ
سويداى بنى آدم ازوست
|
وقد ظهر ممّا ذكر
أنّ كلّ ربّ صنم متّصف بخواصّ صنمه إلّا أنّه على وجه عقلي ؛ فربّ نوع كلّ حيوان يكون
حسّاسا إلّا أنّ جنسه يكون عقليا ؛ فنسبة هذا الحسّ إلى الحسّ العقلي كنسبة هذا
الحيوان اللحمي إلى الحيوان العقلي ؛ فالحسّ الذي في هذا العالم الأدنى لا يشبه
الحسّ الذي في العالم الأعلى ؛ فإنّ الحسّ هناك على نهج المحسوسات التي هناك ؛
وعلى هذا لا يرد القول بأنّ الحيوان إذا كان في العالم الأعلى وجب أن يكون حسّاسا
؛ لأنّ الحسّاس فصله والحسّ ليس إلّا انفعالا من صورة طبيعية جسمانية ؛ فكيف يمكن
أن يكون في الجواهر العالية
__________________
المجرّدة حسّ وهو
موجود في الجوهر الأدنى؟!
ثمّ لا ريب في أنّ
ما يترتّب على الحسّ العقلي لا يمكن أن يترتّب على هذا الحسّ. نعم لمّا كان كلّ
صنم متعلّقا ومتّصلا بربّ نوعه كتعلّق هذه النار الكائنة بتلك النار المبدعة ؛
فيكون حسّه أيضا متعلّقا ومتّصلا بحسّه ؛ فيكون بصر الحيوان السفلي متعلّقا
ومتّصلا / A ١٩١ / ببصر الحيوان العقلي وكذا سمعه
بسمعه وشمّه بشمّه وذوقه بذوقه ولمسه بلمسه ؛ فكلّ إنسان حصل له التجرّد التامّ
واتّصل بالإنسان العقلي تحصل له هذه الحواسّ العقلية الباطنية [و] الامور الغائبة
؛ حيث قال في البصر : «زويت لي الأرض ؛ فرأيت مشارقها ومغاربها» وفي السمع : «أطّت السماء» وفي الشمّ : «إنّي لأجد نفس الرحمن من جانب القرن» وفي الذوق : «أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني» وفي اللمس : «وضع الله على كتفي يده ؛ فأحست بردها بين
قدمي» وكان ما ورد عن سيّدنا أمير المؤمنين عليهالسلام من ختمة القرآن بأسره في آن ركوبه إنّما كان باللسان
والنطق العقليين ؛ وما ورد عن نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم من «أنّ هذه النار غسلت سبعين ماء ثمّ أنزلت» إشارة إلى
أنّ هذه النار الجسمانية من مراتب تنزّلات النار العقلية. فكما أنّ الإنسان العقلي
يفيض بنوره على هذا الإنسان السفلي بوسائط مترتّبة في العوالم العقلية والمثالية
كلّها أناسي متفاوتة المراتب والنشئات كذلك بين النار العقلية والنار السفلية
تنزّلات مترتّبة ؛ والاغتسال بالماء إشارة إلى تنزّل مترتبها عن كمال حقيقتها
النورية وضعف
__________________
تأثيرها وتنقّص
جوهرها وانكسار كيفيتها.
ثمّ ما ذكرناه في
تفسير المثل النورية هو الظاهر من كلام أفلاطون حيث قال : «إنّى رأيت أفلاكا نورية»
والمصرّح به في كلام المعلّم الأوّل حيث قال : «إنّ في الإنسان الجسماني الإنسان
النفساني والإنسان العقلي ؛ ولست أعني هو هما لكنّي أعني أنّه يتّصل بهما لأنّه
صنم لهما ؛ وذلك لأنّه يفعل بعض أفاعيل الإنسان العقلي وبعض أفاعيل الإنسان النفسي
؛ وذلك أنّ في الإنسان الحسّي كلمات الإنسان النفساني وكلمات الإنسان العقلي ؛ فقد
جمع الإنسان الحسّي كلمتى الكلمتين إلّا أنّها فيه قليلة ضعيفة ندرة ؛ لأنّه صنم
للصنم.»
فقد بان أنّ
الإنسان الأوّل حسّاس إلّا أنّه بنوع أعلى وأفضل من الحسّي الكائن في الإنسان
السفلي وإنّما ينال / B ١٩١ / الحسّ من الإنسان الكائن في
العالم الأعلى العقلي ـ كما بيّنّاه ـ وقال أيضا : «إنّ هذه الحسائس عقول ضعيفة
وتلك العقول حسائس قويّة.»
وقد تعرّض في
مواضع كثيرة من أثولوجيا لدفع ما ربّما يورد من الشكوك على هذا النحو من الوجود
فقال في موضع على سبيل السؤال : «إنّه إن كان في العالم الأعلى نبات فكيف هو هناك؟
وإن كان ثمّة نار وأرض فكيف هما هناك؟ فإنّه لا يخلو من أن يكونا حيّين أو ميّتين
؛ فإن كانا ميّتين مثل ما هاهنا [فما] في الحاجة إليهما هناك؟ وإن كانا حيّين فكيف
يحييان هناك؟»
فأجاب بقوله : «أمّا النبات فنقدر أن نقول : إنّه هناك حيّ [لأنّه هاهنا
حيّ أيضا] وذلك أنّ في النبات كلمة فاعلة محمولة على حياة [وإن كانت كلمة النبات
الهيولانية حياة ؛] فهي إذن لا محالة نفس ما ؛ وأحرى أن تكون هذه الكلمة في النبات
الذي في العالم الأعلى وهو النبات الأوّل إلّا أنّ تلك الكلمة واحدة كلّية وهذه
كثيرة لها متعلّقات جزئية ؛ فهو النبات الأوّل الحقّ والذي دونه نبات ثان و
__________________
ثالث ؛ لأنّه صنم
لذلك النبات ؛ وإنّما يحيى هذا [النبات] بما يفيض عليه ذلك [النبات] من حياته ؛
فأمّا هذه الأرض فلها أيضا حياة ما وكلمة فعّالة ـ كما وقعت الإشارة إليه ـ فإن
كانت هذه الأرض الحسّية التي هي صنم حيّة فبالحريّ أن تكون تلك الأرض العقلية حيّة
أيضا وهي الأرض الأولى وأن تكون هذه أرضا ثابتة لها شبيهة بها.»
وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «لم كانت هذه الحيوانات الغير الناطقة هناك؟ فإن كانت لأنّها
كريمة فيّ أهناك أكرم جوهرا
وأشرف؟»
فأجاب «بأنّ العلّة في ذلك أنّ البارئ الأوّل واحد فقط من جميع
الجهات وأبدع العالم واحدا أيضا ؛ ولم يكن وحدانية المبدع كوحدانية المبتدع
بالضرورة وإلّا لكانتا شيئا واحدا وهو محال ؛ فلا بدّ من أن يكون في وحدانية المبدع
كثرة ؛ لأنّه بعد الواحد الحقّ مطلقا فلا محالة أنّه كثير ؛ لأنّ الكثير خلاف
الواحد ؛ لأنّ الواحد هو التمام والكثير هو الناقص وإن كان / A ١٩٢ / المفضول عليه في حيّز الكثرة فلا أقلّ من أن يكون اثنين
؛ وكلّ واحد من ذينك الاثنين يتكثّر أيضا ـ على ما وصفناه ـ وقد يوجد للإثنين الأوّلين حركة وسكون وفيهما عقل وحياة غير أنّ ذلك العقل
ليس هو كعقل واحد منفرد لكنّه عقل فيه جميع العقول وكلّها منه وكلّ واحد من العقول
فهو كثير على قدر كثرة العقول وأكثر منها.
فقد بان أنّه لم
يكن العالم الأعلى ذا صور كثيرة وإن كانت صور الحيوان كلّها فيه حيّة.»
وقال أيضا في موضع آخر على سبيل السؤال
أيضا
: «قد يجوز لجاعل أن
يجعل الحيوانات الكريمة في العالم الكريم [الأعلى] وأمّا الحيوانات الدنيّة
__________________
فلن يجوز أن يقول
: إنّها هناك؟»
فأجاب عنه بمثال واحد فقال : «إنّ الإنسان الذي في العالم الأسفل ليس كالإنسان الذي في
العالم الأعلى ؛ فإن كان هذا الإنسان ليس مثل ذلك الإنسان فلم يكن ساير
الحيوانات التي هناك مثل هذه ، بل تلك أكرم وأفضل.»
وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «ما بال الناطق العالي إذا صار هنا روّى وفكّر وساير
الحيوان لا يروّى ولا يفكّر إذا صار هاهنا وهي كلّها هناك عقول؟»
فأجاب «بأنّ العقل مختلف ؛ فإنّ العقل الذي في الإنسان غير العقل
الذي في ساير الحيوان ؛ فإن كان العقل في الحيوانات العالية مختلفا فلا محالة أنّ
الرويّة والفكرة فيها مختلفة ؛ وقد نجد في ساير الحيوانات أعمالا ذهنية.»
وقال في موضع آخر بعنوان السؤال أيضا : «إن كانت أعمال الحيوانات ذهنية فلم لم تكن أعمالها كلّها
بالسواء؟ وإن كان النطق علّة للرويّة هاهنا فلم لم يكن الناس كلّهم سواء بالرويّة
لكن رويّة كلّ واحد منهم غير رويّة صاحبه؟»
فأجاب «بأنّ اختلاف الحياة والعقول إنّما هي لاختلاف حركات الحياة
والعقل ؛ فلذلك كانت حيوانات مختلفة وعقول مختلفة إلّا أنّ بعضها أنور وأظهر وأشرف
من بعض ؛ وذلك أنّ من العقول ما هو قريب من العقول الأولى ؛ فلذلك / B ١٩٢ / صار أشدّ نورا من بعض ومنها ما هو ثان وثالث ؛ فلذلك صار
بعض العقول التي هاهنا إلهية وبعضها ناطقة وبعضها غير ناطقة لبعدها من تلك العقول
الشريفة ؛ وأمّا هناك فكلّها ذو عقل ؛ فلذلك صار الفرس عقلا وعقل الفرس فرس ولا
يمكن أن يكون الذي يعقل الفرس إنّما هو عاقل الإنسان ؛ فإنّ ذلك محال في
__________________
العقول الأولى ؛
فالعقل الأوّل إذا عقل شيئا ما كان هو وما عقله شيئا واحدا ؛ فالعقل الأوّل لا
يعقل شيئا لا عقل له ، بل يعقله عقلا نوعيا وحياة نوعية ؛ وكانت الحياة الشخصية
ليست بعارية للحياة المرسلة ؛ فكذا العقل الشخصي ليس بعادم للعقل المرسل ؛ فاذا كان هذا هكذا فالعقل الكائن
في بعض الحيوان ليس هو بعادم للعقل الأوّل ؛ فكلّ جزء من أجزاء العقل هو كلّ
يتجزّى به عقل ؛ فالعقل للشيء الذي هو عقل له هو الأشياء كلّها بالقوّة ؛ فإذا صار
بالفعل صار خاصّا أخيرا بالفعل وإذا كان أخيرا بالفعل صار فرسا أو شيئا آخر من
الحيوان ؛ وكلّما سلكت الحياة إلى أسفل صار حيّا دنيّا خسيسا ؛ وذلك أنّ القوى الحيوانية
كلّما سلكت إلى أسفل ضعفت وخفيت بعض أفاعيلها العالية ؛ فحدثت منها حيوان دنيّ
ضعيف ؛ فإذا صار ضعيفا احتال له العقل الكائن ؛ فتحدث الأعضاء القويّة بدلا [ممّا
نقص] عن قوّته ، كما لبعض الحيوان أظفار ولبعضه مخاليب ولبعضه قرون ولبعضه أنياب
على نحو نقصان قوّة الحياة فيه.»
وقال في موضع آخر وبعنوان السؤال أيضا : «إن كانت قوّة النفس تفارق الشجرة بعد قطع أصلها فأين تذهب
تلك القوّة أو تلك النفس؟»
فأجاب «بأنّها تصير إلى المكان الذي لم يفارقه وهو العالم العقلي
، وكذلك إذا فسد جزء النفس البهيمي تسلك النفس التي كانت فيها إلى أن يأتي العالم
العقلي وإنّما يأتي ذلك العالم لأنّ ذلك العالم مكان النفس وهو العقل لا يفارقه
والعقل ليس في مكان ؛ فالنفس إذن ليست في مكان ولا يخلو عنها مكان.»
وقد ظهر من كلمات
المعلّم الأوّل أنّ كلّ ما يوجد في العوالم الجسمية يوجد في العالم العقلي ؛
والفرق بينهما بالعقلية والجسمية ؛ فكلّ ما في الأفلاك والعناصر
__________________
من الذوات
والأوصاف والآثار كما يوجد في عالم المثال يوجد في عالم الأنوار أيضا إلّا أنّ
الجميع في العالم السفلي على وجه المادّية وفي العالم المتوسّط المثالي على الوجه
المثالي وفي العالم العقلي على الوجه العقلي النوري.
بقي الكلام في أنّ
ربّ كلّ نوع مع ساير أفراده المثالية والجسمية كيف يكون داخلة تحت نوع واحد
ومعدودة من أفراد حقيقية نوعية واحدة مع ثبوت الاختلاف بالعلّية والمعلولية
والتجرّد والمادّية وبالقيام بالذات والقيام بالغير وبالجوهرية والعرضية؟!
والتحقيق : أنّ ربّ كلّ نوع ليس فردا حقيقيا لهذا النوع وليس إطلاق هذا
النوع عليه إطلاقا حقيقيا ، بل هو إطلاق مجازي باعتبار المناسبة والمماثلة في
النعوت والأوصاف بوجه غير مصحّح للإطلاق الحقيقي. فالذات المجرّدة النورية في بدو
الفطرة التي يعبّر عنها بالإنسان العقلي وإن اتّصف بما يتّصف به الإنسان وحصلت لها
ما يحصل له من السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس بل اليد والرجل والرأس وغير ذلك
ولكن كان ذلك على وجه عقلي لا يكون فردا حقيقيا للإنسان ؛ إذ الفرد الحقيقي له ما
له أعضاء خاصّة متمايزة منفصلة بعضها عن بعض وكانت له صفات وأفعال مخصوصة على
الوجه الخاصّ المعروف المشاهد ؛ وما يطلق عليه الإنسان العقلي ليس كذلك ؛ إذ ليس
له أعضاء متمايزة ولا أوصاف معروفة مشاهدة ، بل ما هو إلّا جوهر مجرّد عقلي مخالف
للإنسان الحسّي بالحقيقة والذات وبما اشير إليه من العلّية والمعلولية والتجرّد
والمادّية وغيرها ؛ فلا معنى لدخولهما تحت نوع واحد ، بل مصحّح الإطلاق هو ما مرّ
مرارا ؛ وليس مثل هذا الإطلاق إلّا إطلاقا مجازيا ؛ فلو فرض أنّ بياضا صار قائما
بذاته فإنّه كان في البياضية أقوى وأكمل إلّا أنّه / B ١٩٣ / ليس فردا حقيقيا من البياض المتعارف ؛ إذ
__________________
حقيقته ما كان
عرضا قائما بغيره ؛ فالإنسان العقلي وإن كان أقوى وأتمّ في الإنسانية إلّا أنّه
ليس فردا حقيقيا لهذا الإنسان المتعارف.
ثمّ لا تظنّن أنّه
لو فرض أو سلّم جواز كون الإنسانية حقيقية واحدة مختلفة بمجرّد أنحاء التشكيك ـ أي
بالكمال والنقص والقوّة والضعف وغيرها ـ ولذلك جاز اختلاف أفرادها بالعلّية
والمعلولية والغنى والفقر والجوهرية والعرضية وغير ذلك ، لرجوع هذا الاختلاف إلى
الاختلاف بالكمال والنقص والقوّة والضعف ؛ ويكون لذلك أحد أفرادها الحقيقية
الإنسان العقلي المخالف لسائر أفراده في الوجوه المذكورة يلزم جواز ذلك في الوجود
أيضا بأن يكون حقيقة بسيطة أحد أفرادها الواجب بالذات وساير الأفراد معلولة له ؛
لأنّ ذلك يوجب تركّب الواجب ، وهو محال ؛ فالوجود المشترك بين الواجب وغيره لا
يكون ذاتيا لهما ، بل يكون أمرا اعتباريا عارضا.
وأمّا كون الإنسان
حقيقة مشتركة بين الإنسان العقلي وغيره وذاتيا لها لا يوجب محذورا عقليا ؛ إذ
اللازم منه التركيب في الإنسان العقلي ولا ضير فيه ، لجواز ذلك بلا خلاف.
ثمّ هاهنا أقوال اخر في تأويل المثل
النورية الأفلاطونية :
الأوّل : ما ذكره المعلّم الثاني في مقالته المسمّاة بالجمع بين
الرأيين ؛ وهو أنّ مراد أفلاطون وسقراط وغيرهما من الأقدمين بها هي الصور العلمية
القائمة بذاته تعالى المعلومة له بالعلم الحصولي الفعلي ؛ فإنّها باقية غير
متغيّرة وإن تغيّرت وزالت الأشخاص الزمانية والمكانية.
وفيه : أنّ هذا ينافي ما نقل عنهم من كلماتهم وينافي تشنيعات
المتأخّرين وإيراداتهم عليهم ؛ فإنّه قد نقل عنهم أنّ لكلّ نوع جسماني فردا كاملا
قائما بذاته ؛ و
__________________
نقل عن أفلاطون ـ كما
تقدّم ـ أنّه قال : «رأيت أفلاكا نورية» وعن هرمس ـ كما سبق ـ أنّه قال : «إنّ
ذاتا روحانية ألقت إلى المعارف. فقلت : من أنت؟ فقال : أنا طباعك التامّ»
ومنافاة ذلك لما تقدّم من كلمات المعلّم الأوّل ممّا لا يخفى ؛ وقد شنعوا / A ١٩٤ / عليهم بأنّه يلزم على القول بالمثل أن تكون في عالم العقول
خطوط وسطوح وأفلاك وحركات تلك الأفلاك وأدوارها وأن توجد هناك علم النجوم وعلم
اللحون وأصوات مؤتلفة وطبّ وهندسة ومقادير مستقيمة ومنحنية وأشياء حارّة وباردة وكيفيات منفعلة وفاعلة وكلّيات
وجزئيات وصور وموادّ وغير ذلك من الشناعات كما ذكره الفارابي في مقالته ؛ وظاهر
أنّ ذلك ينافي كون المثل هي الصور العلمية.
والثاني : ما ذكره الشيخ ؛ وهو أنّ المراد منها الطبائع النوعية في
الخارج ـ أي الكلّي الطبيعي للأشخاص ـ وهو الماهيّة لا بشرط شيء بناء على عدم
فرقهم ـ بظنّ الشيخ ـ بين الماهيّة لا بشرط شيء وبينها بشرط لا شيء ؛ فإنّ الكلّي
الطبيعي الموجود في الخارج بالعرض هو الماهيّة لا بشرط شيء ؛ وما ذكره أفلاطون من
وجود الطبيعة المجرّدة القائمة بذاتها هي الطبيعة بشرط لا ؛ فهو بظنّ الشيخ لم
يفرق بين الاعتبارين للماهيّة ؛ إذ بناء على عدم التفرقة بين الوحدة النوعية
والوحدة الشخصية أو عدم التفرقة بين تجرّد الشيء بحسب ملاحظة العقل الذات في مرتبة
لا تدخل فيها العوارض وبين تجرّده في الوجود الخارجي عن العوارض ؛ فحكموا بوجود
الماهيّات المجرّدة عن العوارض في الخارج بناء على وجودها بعين وجود أشخاصها مع
عوارضها ولواحقها المادّية وجودا متكثّرا في العين متوحّدا في الحدّ والنوع.
وفيه : أنّ جلالة قدر أفلاطون ومعلّمه سقراط وغيرهما من أساطين الحكمة
__________________
أعظم من أن تشتبه
عليهم هذه الاعتبارات العقلية. كيف والكلّي الطبيعي على التحقيق ـ كما مرّ ـ غير
موجود في الخارج ولا في العقل إلّا بالعرض بمعنى أنّ الموجود بالذات والأصالة هو
الوجود الخاصّ ؛ لأنّه أمر متشخّص في ذاته دون الماهيّة ؛ فهي متحقّقة بتبعية
تحقّقه؟! والفرق بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المجرّدة أنّ الأولى توجد في
الخارج بالعرض بخلاف الثانية فإنّها لا توجد في الخارج أصلا ـ أي لا بالذات ولا
بالعرض ـ وإنّما توجد في العقل فقط.
الثالث : ما ذكره جماعة ؛ وهو أنّها عبارة عن الأشباح المثالية
المقدارية / B ١٩٤ / الموجودة في
عالم المثال وهو عالم متوسّط بين عالم المجرّدات وعالم المادّيات.
وفيه : أنّ تلك المثل ـ على ما صرّحوا به ـ نورية مجرّدة موجودة في
عالم العقول ؛ وهذه الأشباح المعلّقة والصور المثالية ذوات أوضاع مقدارية منها
مستبشرة مثلا لا تتنعّم بها السعداء وهي صور حسنة جميلة بهيّة بيض كأمثال اللؤلؤ
المكنون ومنها صور ظلمانية موحشة سود أزرق مكروهة تتعذّب بها الأشقياء وتتألّم
النفوس من مشاهدتها. على أنّ القائلين بالمثل الإلهية الأفلاطونية كما قالوا بها
وصرّحوا بوجودها قالوا بوجود الأشباح المعلّقة والصور المثالية أيضا ؛ فهم مصرّحون
بوجود الأمرين ، فكيف يجوز تأويل أحدهما بالآخر؟!
الرابع : ما ذكره بعضهم وهو أنّ المراد منها نفس هذه الصور المادّية
الشخصية من حيث كونها حاضرة عنده تعالى معلومة له بالعلم الحضوري ؛ فإنّها من هذه
الحيثية العلمية الانتسابية يكون لها ثبوت على وجه كلّي ؛ لأنّها غير محتجبة بحسب
هذه الثبوت بالأغشية المادّية المكانية ولا بالقشورات والملابس التجدّدية
الزمانية.
وفيه : أنّه لا ريب في تعدّد هذه الأشخاص وتكثّرها وتكثّر
تعيّناتها الحسّية ؛
والمنقول عنهم أنّ
لكلّ نوع جسماني فردا مجرّدا أبديا واحدا ؛ فحمل كلامهم على الأشخاص المادّية غير
صحيح.
[في كيفية حدوث العالم]
قد ظهر ممّا ذكر
أنّ العقلاء بأسرهم ـ من الحكماء والكلاميّين ـ متّفقون على صدور العالم وحدوثه
منه تعالى ؛ وإنّما وقع الخلاف بينهم في كيفية حدوثه.
فالمعروف من مذهب
الحكماء أنّ اصول العالم ـ أعني العقول والأفلاك وكلّيات العناصر ـ حادثة بالحدوث
الذاتي ؛ والمراد به تأخّر وجودها عن الواجب تأخّرا بالذات ؛ أي بحسب المرتبة
العقلية لا في الخارج ؛ فلا يتحقّق بين الواجب والعالم انفصال في الخارج.
ومذهب جمهور
المتكلّمين أنّها حادثة بالحدوث الزماني ؛ والمراد به تأخّر وجودها عنه تعالى
تأخّرا زمانيا ؛ فيتحقّق بينهما عدم زماني ممتدّ ؛ لأنّه ينتزع عنه / A ١٩٥ / تعالى قبل وجود العالم زمان موهوم هو وعاء هذا العدم ؛
فيسند هذا العدم إليه.
وذهب بعض
المتأخّرين إلى أنّها حادثة بالحدوث الدهري ؛ والمراد به تأخّر وجودها عنه تعالى تأخّرا انسلاخيا
انفكاكيا ـ أي وجودها بعد العدم الصريح المحض الذي ليس زمانيا ولا سيّالا ولا
متكمّما ولا متقدّرا ـ فالعالم منفكّ عن الواجب في الواقع ونفس الأمر إلّا أنّ هذا
الانفكاك ليس زمانيا.
__________________
والحاصل : أنّه مسبوقية الوجود بالعدم الصريح المحض لا مسبوقية بالذات
، بل مسبوقية انسلاخية انفكاكية غير زمانية ولا متقدّرة.
فتلخيص أقسام
الحدوث أنّ الذاتي عبارة عن وجود العالم بعد عدمه في لحاظ العقل و الواقع ؛ والزماني عبارة عن وجوده بعد عدم واقعي كمّي ؛
والدهري عبارة عن وجوده بعد نفي صريح واقعي غير كمّي ؛ والوجه في تسمية القسم
الأخير من الحدوث بالدهري أنّ الأوعية عند الحكماء ثلاثة :
الأوّل : وعاء تحت الوجود الثابت الحقّ المتعالي عن سبق العدم على
الإطلاق ؛ ويسمّى بالسرمد.
الثاني : وعاء الموجود بعد العدم الصريح المرتفع عن افق التقدّر
واللاتقدّر ، كالعقول والأفلاك ؛ ويسمّى بالدهر.
الثالث : وعاء الامور المتغيّرة المتقدّرة السيّالة المسبوقة بالعدم
الزماني ، كالحوادث ؛ ويسمّى بالزمان.
وكما أنّ وعاء
وجود هذه الامور هو الزمان فكذا وعاء عدمها أيضا هو الزمان ؛ وكما
أنّ وجود الموجودات بعد العدم الصريح هو الدهر فكذا وعاء عدمها أيضا هو الدهر. فأولى
الأسماء للحدوث بحسب سبق العدم الصريح هو الحدوث الدهري ؛ وأمّا بحت الوجود المتعالي
عن سبق العدم على الإطلاق فلا يتصوّر له عدم حتّى تكون له وعاء ، بل الوعاء له ـ أي
السرمد ـ إنّما هو وعاء وجوده ؛ ولا يتصوّر الاختلاف في الأوعية باختلاف الأوقات ؛
فوعاء كلّ من الموجودات الثلاثة هو وعائه المختصّ به في كلّ وقت ؛ فوعاء الوجود
الخالص هو السرمد ولو بعد تحقّق الوعاء بين الأخيرين ؛ لأنّه محيط بهما ؛ فلا فرق
في عدم
__________________
انتسابه إليهما
وتعاليه / B ١٩٥ / عنهما قبل
وجودهما وبعده ؛ وكذا وعاء الموجود بعد العدم الصريح هو الدهر ولو بعد وجود الزمان
، لتعاليه عنه وإحاطته به ؛ فلا يتصوّر انتسابه إليه.
واستدلّ الحكماء بوجوه عمدتها أربعة :
الأوّل : أنّ العالم لو كان حادثا بالحدوث الزماني أو الدهري لزم
تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ؛ إذ ذاته تعالى بذاته علّة مستقلّة لإيجاد
العالم ؛ لأنّه الجواد الحقّ والفيّاض المطلق وتامّ في ذاته وصفاته التي هي عين
ذاته ؛ فمجرّد ذاته بذاته في الأزل كاف في صدور العالم عنه ؛ فالتخلّف الموجب
للانفكاك الزماني أو الخارجي الواقعي محال.
الثاني : أنّه تعالى في الذات والصفات والأفعال على أشرف ما يتصوّر
ويعقل من الكمال والبهاء ، وتامّ في الكلّ وفوق التمام ؛ فيجب أن يدوم فيضه ويستمرّ من غير الانقطاع له من البداية والنهاية
ويكون ما يترشّح منه من المعلولات غير متناه شدّة ومدّة وعدّة ؛ إذ الفاعل الذي لا
يتناهى فعله أقوى وأشرف ممّن يتناهى فعله ؛ والأليق بعلوّ قدرته وعظم سلطانه أن لا
يتناهى إفاضة وجوده ؛ وانقطاع الفيض عنه قصور على علوّ قدرته وفتور على عظيم قوّته
، بل وهن على حريم سلطنته التامّة الكبرى ونقص لا يليق بساحة جبروته القاهرة
العظمى.
واجيب عنهما بأنّ التخلّف والانقطاع قصور العالم وعدم قبوله الوجود
الأزلي ؛ فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة قصور العلّة وعدم
تماميتها ؛ وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة من نقصان جوهره عن
قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : «إنّ العالم لم يكن ممكنا قبل
ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه» والإمكان شرط في التأثير والمقدورية ، و
__________________
الوجوب والامتناع
تخيّلاتهما ؛ وثبوت الإمكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ؛ إذ لا يلزم من
أزلية إمكانه امكان أزليته ؛ إذ إمكان أزلية الشيء إنّما يتحقّق إذا كان إمكانه
الوقوعي أزليا.
ألا ترى أنّ
الحادث بشرط كونه حادثا إمكانه أزلي / A ١٩٦ / وليس أزليته ممكنا؟! لاستحالة أزلية الحادث من حيث إنّه
حادث ؛ والإمكان الذاتي متحقّق في الأزل فلا انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه فلا
قدم ؛ فلمّا زال المانع من جهة وصار ممكنا بالإمكان الوقوعي وجد ؛ فلا تأخّر في
الإفاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول عن علّته التامّة.
ثمّ سلّم أنّ
المجرّدات من العقول والنفوس يمكن قبولها أزلية الوجود ؛ فلا ريب في أنّ العالم
الجسماني لا يقبلها ، لما يأتي من تناهي الامتدادات والزمان والحركة ؛ فكما أنّ
عالم الأجسام يتناهى وينقطع الامتداد المكاني بالفلك الأقصى فلا يلزم منه قصور في
غائية العلّة ، بل يعلّل ذلك إلى العناية الكلّية وأصلحية النظام الأعلى أو إلى
عدم قبول العالم الجسماني امتدادا مكانيا أكثر من ذلك ؛ فكذلك الحكم في الامتداد
الزماني بلا تفاوت.
والتوضيح : أنّ المكان والزمان يتساويان في الأحكام ومرتضعان من ثدي
واحدة ؛ فالعلّة في انقطاع البعد الزماني وتخصّصه بما وجد إنّما هي العلّة في
انقطاع البعد المكاني وتخصّصه بالبعد الموجود ـ أعني قدر قطر الفلك الأعظم ـ من
دون زيادة ونقصان ؛ والعلّة في ذلك :
[١.] إمّا العناية
الكلّية الراجعة إلى نظام الخير بمعنى أنّ الذات لكونها في غاية الكمال والتمامية
افيضت أن يكون معلولها أيضا كذلك ؛ فعقل ذلك النظام على هذا النحو الذي هو غاية
الكمال والخيرية وأوجده على ما عقل وحينئذ كما أنّ
__________________
انقطاع البعد
المكاني وتخصيصه بالقدر الواقع مستندان إلى العناية ولا قصور في تمامية العلّة ولا
في أشرفية فعله ؛ فكذلك الانقطاع الزماني وتخصيصه بالقدر الواقع مستندان إليها من
دون قصور في تمامية العلّة.
[٢.] وإمّا عدم
قبول العالم الجسماني شيئا من أنحاء الوجود قدرا ووقتا وكمّا وكيفا إلّا النحو
الذي وجد ؛ فكما أنّه ليس من شأنه قبول عدم التناهي في الامتداد المكاني كما يفيد
أدلّة بطلان التسلسل وعدم تناهي الأبعاد كذلك ليس من شأنه قبول عدم التناهي في
الامتداد الزماني لتلك الادلّة أيضا. فتناهي فيوضاته الجسمانية وانقطاعها نظرا / B ١٩٦ / إلى اقتضاء حقيقتها ذلك لا يقدح في علوّ قدرته وعدم
تناهي كماله وقوّته.
وقد اجيب عن الدليلين أيضا بأنّ التخلّف عن العلّة التامّة وانقطاع الفيض عن الفيّاض
المطلق إنّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد
المعلول فيه ؛ فلا يتصوّر ذلك إلّا بكون تلك العلّة زمانية والواجب تعالى من حيث
ذاته وصفاته الحقيقية منزّه عن الزمانية والانتساب إلى أجزاء الزمان ، بل هو خارج
عن سلسلة الزمان والزمانيات ـ سواء كانت متناهية كما عليه الملّيّون أو غير
متناهية كما عليه الحكماء ـ ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة ؛ ولا يلزم من تناهي
زمان وجود الممكنات كونه تعالى موجودا في زمان لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من
تناهي مكانها موجوديته تعالى في مكان كذلك ؛ فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف
المستحيل؟!
نعم عند الملّيّين
له تعالى قبليّة على جميع الممكنات سوى القبليّة بالعلّية لكن ليست قبليّة متعذّرة
متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها ، بل منشأ انتزاعها هو اختصاص جميع
الموجودات الممكنة بالزمان عندهم إمّا [من] حيث
الذات والحقيقة
وإمّا من حيث العلاقة الذاتية وتناهي الزمان وإحاطته تعالى عليه وتعاليه من حيث الذات والصفات
عنه.
وليس المراد من
لفظة «كان» في الحديث المشهور كونه تعالى في زمان موجود لكونه من العالم أيضا ؛ ولا
موهوم لبطلانه عند المحصّلين.
وليس المراد من
توصيفه بالدوام والأزلية والقدم وأمثالها كونه تعالى موجودا في زمان غير متناه ،
تعالى عن ذلك ؛ كيف وقد ورد عن الحجج عليهمالسلام أنّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له تعالى متى وأنّه كان
ولا مكان ؛ فخلق الكون والمكان ؛ وأنّه قبل القبل بلا قبل ؛ وأنّه لا يوصف بزمان
ولا مكان ؛ وأنّه لم يزل بلا زمان ومكان ؛ وأنّه الآن كما كان ؛ وأمثال ذلك.
والحاصل : أنّ التخلّف إنّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد
المعلول فيه ؛ ووجود العلّة لا في زمان ، بل في حاقّ الواقع بلا امتداد بدون
المعلول المطلق عليه اسم التخلّف ؛ لأنّه فرع تخلّل الامتداد والفصل وتحقّق ظرف
يتحقّق فيه التخلّف ؛ والواجب / A ١٩٧ / لتعاليه عن
الزمان يتقدّس عن الانتساب إليه بالقرب والبعد ، بل نسبته إلى جميع أجزائه نسبة
واحدة ؛ فالزمان المتناهي وغير المتناهي بالنسبة إليه على السواء ؛ فكما لا تخلّف
على تقدير عدم تناهيه فكذلك على فرض تناهيه ؛ إذ كلّ منهما بالنسبة إليه كان واحدا
؛ فكلّ من زمان غير متناه أو مكان كذلك لو فرض مع استحالته حصوله في وعاء
كبريائه ـ أعني السرمد ـ لم يزد من آن أو نقطة واحدة ؛ فله معيّة بالكلّ إلّا
أنّها ليست معيّة زمانية أو مكانية وكذا له بعد عنه إلّا أنّه ليس بعدا زمانيا أو
مكانيا ؛ فسبحان من هو داخل في كلّ شيء لا بمقارنة وخارج عنه لا بمزايلة وفي القرب الأقرب إليه بالإحاطة والظهور و
__________________
في البعد الأبعد
منه بالعلوّ والقهر الأتمّ.
وهذا الجواب إنّما
يتأتّى من قبل القائل بالحدوث الدهري لا الزماني ، كما لا يخفى وجهه.
الثالث : أنّ العالم لو كان حادثا لكان مسبوقا بمادّة ـ كما هو الشأن
في كلّ حادث ـ إذ إمكان وجوده متقدّم على وجوده ؛ وليس ذلك الإمكان قائما بذاته ،
لعدم جوهريته ؛ ولا بالفاعل ؛ لأنّه غير القدرة ؛ ولا يقوم بالفاعل غيرها ولا
بالماهيّة ؛ لأنّه غير الإمكان الذاتي المجامع للوجود ؛ فلا بدّ أن يقوم بمادّة
الحادث أو موضوعه أو متعلّقه ؛ فلو كان العالم حادثا كانت له مادّة سابقة على جميع
أجزائه ؛ هذا خلف.
واجيب بأنّ الإمكان السابق على وجوده هو الذاتي مع اعتبار قيد
العدم ؛ فتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه معه لملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه وهو
أمر اعتباري لا وجود له في الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهيّة ، بل هو بعينه
الإمكان الذاتي ؛ ولا فرق إلّا بانضمام قيد العدم وعدمه ؛ فمع ملاحظة قيد العدم لا
حاجة إلى محلّ وبدونه منتزع عن الماهيّة.
نعم لو كان العالم
قبل وجوده موصوفا بصفات الموجودات كالقرب والبعد وأمثالهما لكان له إمكان استعدادي
هو القوّة المصحّحة لهذه الصفات قبل وجوده ؛ وحينئذ يحتاج إلى مادّة / B ١٩٧ / حاملة لتلك القوّة وذلك كالجنين قبل وجوده ؛ فإنّه يتّصف
بالبعد والقرب من الوجود ؛ فيعلم من ذلك أنّ له قوّة قائمة بمادّة سابقة على وجوده
؛ فإن قامت بالغذاء مثلا يتّصف بالبعد من الوجود وإن قامت بالنطفة يتّصف بالقرب
منه وقس عليه النطفة بالقياس إلى الغذاء وإلى مادّته وهكذا إلى أن يصل إلى المادّة الأولى.
__________________
وظاهر أنّ القائل
بالحدوث لا يثبت الإمكان الاستعدادي له قبل وجوده ؛ لأنّه يدّعي كونه مبدعا لا في
زمان ؛ ولا يعقل للمبدع أن تسبقه المادّة ؛ لأنّ سبقها لا يكون إلّا للمتّصف
بالقرب والبعد المتحقّقين في الزمان ؛ فالمبدع الذي لا يحتاج إليه لا يفتقر إليها
أيضا وإلّا احتاج العالم إليها مع كونه حادثا بالحدوث الذاتي أيضا ؛ إذ إمكان
وجوده متقدّم بالذات على وجوده ؛ وليس قائما بذاته ولا بالفاعل ولا بالماهيّة إلى
آخر ما تقدّم.
الرابع : أنّ حدوث العالم يوجب تناهي الزمان وتناهيه يوجب سبق عدمه
على وجوده سبقا لا يجامع السابق المسبوق ؛ وذلك لا يكون إلّا بزمان ؛ فيكون قبل
الزمان زمان وهكذا إلى ما لا بداية له.
وجوابه : أنّ [سبق] عدم الزمان المتناهي على وجوده لا يحتاج إلى زمان
آخر يكون ملاكا له ؛ لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما ، بل إذا ثبت عند العقل تناهيه
ينتزع عنه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوده تقدّما لا يجامع المتقدّم به
المتأخّر ، كتقدّم أجزاء الزمان بعضها على بعض ؛ ولا فرق إلّا بالتقدير وعدمه ،
كما ينتزع عن تناهي المكان تقدّما لعدمه عليه.
وظاهر أنّ هذا
الجواب أيضا يتأتّى من قبل القائل بالحدوث الدهري دون الزماني.
وقد ظهر من ذلك
أنّ أدلّة الحدوث الذاتي للعالم الجسماني لا تنهض حجّة على القائل بالدهري.
ثمّ ممّا يدلّ على
بطلان الحدوث الذاتي المرادف للقدم الزماني تناهي العالم من جانب البداية بمعني
أنّ الامتداد المفروض في وجود الأجسام الفلكية والعنصرية من الحركة والزمان / A ١٩٨ / متناه ؛ ويدلّ عليه أمران :
أحدهما : ما قرّرناه وأثبتناه في جامع الأفكار وغيره من كتبنا
العقلية من
جريان أدلّة إبطال
التسلسل في الامور المتعاقبة وإن لم تكن مجتمعة في الوجود ؛ ونحن نشير إلى كيفية
جريان طرقه في تناهي الحركة والزمان ليقاس عليه البواقي :
فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريره أنّه لو جاز عدم تناهي الحركة أو
الزمان لكان لنا أن نفرض من جزء معيّن منهما إلى ما لا بداية له جملة واحدة. ثمّ
نفرض من جزء قبله إليه جملة اخرى. ثمّ نطبق بين الجملتين من طرف الجزءين ؛ فإن حصل
التطبيق والتساوي من الطرف الآخر لزم تساوي الكلّ والجزء ؛ وإلّا لكان الأوّل
متناهيا وكذا الأكثر ؛ إذ الزائد على المتناهي متناه.
ومنها : أنّ الحركة والزمان لو كانا أزليّين غير متناهيين لكان عدد
دورات كلّ من الأفلاك وعدد حركة كلّ من درجة ودقيقة وثانية وهكذا إلى غير النهاية
غير متناه وكذا كان عدد كلّ من السّنين والشهور والأيّام والساعات والثواني
والثوالث وهكذا إلى غير النهاية غير متناه ؛ ولا ريب في أنّ عدد الثوالث أكثر من
عدد الثواني وأقلّ من عدد الروابع ، وعدد حركات الدرجات أكثر من عدد الدورات وأقلّ
من عدد حركات الدقائق وهكذا في البواقي ؛ وما هو أقلّ من غيره يكون متناهيا فكذا
ما هو أكثر منه بقدر متناه ؛ فيجب تناهي الأزمنة والحركات.
ومنها : أنّ الدورات الماضية والأيّام الخالية لو كانت غير متناهية
لتوقّف حدوث كلّ حادث على انقضاء ما لا نهاية له من الدورات والأيّام ؛ وهو محال ؛
لأنّ الانقضاء فرع التناهي من الطرفين ؛ وغير المتناهي ولو من طرف واحد يمتنع
انقضائه ؛ لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق له طرفان ؛ ومع
عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا يعقل أن تنقضي الحركة ؛ إذ الزمان المبتدأ من
__________________
ذلك الطرف ويصل
إلى الطرف للآخر المنقطع ؛ فمع فرض عدم التناهي من البداية يلزم أن لا يوجد حادث
أو / B ١٩٨ / يكون ما فرض
غير متناه متناهيا.
ثمّ لو فرض عدم
تمامية الدليلين الأوّلين وأمثالهما نظرا إلى ما جوّزه صاحب الإشراق من وقوع
التفاوت بالزيادة والنقصان في غير المتناهي فلا ريب في تمامية الثالث ؛ إذ إمكان
القطع من البداية إلى النهاية ، بل حصوله بالفعل كما هو الفرض من انقضاء الحركة
والزمان من البداية وخروجهما إلى الفعل على التدريج حتّى وصل إلى هذا الجزء
المنقطع الذي فرض تناهيه يوجب إمكان العكس ؛ والبديهية قاضية بأنّ ذلك لا ينفكّ عن
التناهي.
الثاني : ممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية إجماع
الملّيّين عليه ؛ فإنّه قد يثبت بالتواتر القطعي وفاق الأنبياء وأوصيائهم ومن تبعهم من العلماء والحكماء
وأولو العقول القويّة على تناهيه وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصّرف بحيث لا
يتطرّق إليه شوب تجوّز وتأويل ؛ وقد ادّعى هذا الإجماع غير واحد من مشاهير العلماء
والأخبار به أيضا متواترة ؛ منها الخبر المشهور «كان الله ولم يكن معه
شيء» وظاهر أنّ المعيّة المنفية فيه ليست معيّة ذاتية حتّى يكون المراد منه إثبات
التقدّم الذاتي للواجب تعالى على العالم ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يعرفه أهل اللسان وليس
مألوفا من عرف صاحب الشرع ولا تنتقل إليه أذهان السامعين ولا يوافق ألسنتهم مع
أنّه تعالى قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) فالمراد بالمعيّة المنفية إمّا الزمانية حتّى يكون المراد
إثبات تقدّمه تعالى على العالم بالزمان أو الدهرية حتّى يكون المراد إثبات تقدّمه
عليه بحسب الواقع والخارج ؛ ولظهور بطلان القول بالزمان الموهوم وانتزاعه عن ذاته
تعالى و
__________________
عدم معقولية
اتّصال الواجب بالعالم أو انفصاله عنه أو معيّته معه بالزمان يتعيّن الثاني ـ كما
يأتي توضيحه ـ وإذ ثبت بالعقل والنقل تناهي العالم من البداية ثبت بطلان القدم
المستلزم لعدم تناهيه.
ثمّ نقول
:
الحدوث الزماني
أيضا ممّا يبطله العقل ؛ إذ المراد به ـ كما مرّ ـ تحقّق زمان موهوم غير متناه بين
الواجب والعالم ؛ وقد صرّحوا بأنّه امتداد واقعي نفس أمري لا فرق / A ١٩٩ / بينه وبين هذا الزمان إلّا بالليل والنهار ؛ وليس المراد
منه الزمان التقديري الذي هو الامتداد بمجرّد التقدير من دون أن يكون له واقعية
ونفس أمرية ؛ فإنّ العقول البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان إلى صقع الدهر يخترع
لإلفها بالزمان أمرا ممتدّا تقديريا تخيّليا لا تحقّق له بوجه ، بل هو مجرّد تخييل
وتقدير ؛ وهذا ممّا لا ينكره [أحد] ؛ إذ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس
الأمر قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس محض.
وبالجملة : الزمان الموهوم الذي أثبته المتكلّمون هو كمّ واقعي وشيء
متصرّم نفس أمري ؛ وثبوت هذا الشيء قبل إيجاد العالم أو تخلّله بينه وبين الواجب
يبطله العقل بوجوه :
منها : أنّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم الصّرف امتداد وتصرّم
وتمايز وتجدّد ونقص ونهاية ولا نهاية ؛ لأنّ كلّها من لوازم الحركة ؛ ولا يتصوّر
شيء آخر ينتزع عنه هذا الامتداد ؛ والقول بانتزاعه عن استمرار وجود الواجب بيّن
الفساد ؛ إذ انتزاع مثله عن صرف الوجود الحقّ الثابت المتعالي عن الحركة والزمان
غير معقول ؛ كيف والمناسبة بين المنتزع والمنتزع عنه لازمة؟! وأيّ مناسبة بين
الوحدة الصّرفة الثابتة وهذا الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس
الأمري؟! وأنّى يجوز عاقل أن يقوم مثل هذا الشيء السيّال المنقضي المتجدّد
__________________
بصرف الوجود
المتنزّه عن التغيّر والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان والمتعالي عن حيطة
الزمان والمكان؟!
ومنها : أنّ هذا الامتداد لكونه متحقّقا في حاقّ الواقع ونفس الأمر
ـ كما يلتزمونه ـ ومنتزعا عن الواجب وكونه تعالى قديما أزليا يلزم أن يكون غير
متناه ؛ فتجري فيه أدلّة بطلان التسلسل ؛ فيكون باطلا ؛ كيف ومع عدم تناهيه يمتنع
أن تنقضي أجزائه الغير المتناهية ويخرج إلى الفعل حتّى يصل نوبة الوجود إلى الجزء
المتّصل بالعالم؟!
ومنها : أنّ المتقدّس عن الغواشي والعلائق والمتعالي عن حيطة الزمان
وما يثبت إليه يكون مع أىّ امتداد فرض ـ موجودا كان أو موهوما ـ معيّة غير متقدّرة
/ B ١٩٩ / ونسبته إلى
جميع أجزائه وحدوده نسبة واحدة وإحاطته بالكلّ على نهج واحد ؛ فإذن اختصاص العالم
بحدّ من حدوده لا يفيد تأخّره وتخلّفه عنه تعالى ؛ كيف وإذا كان استناد الزمان
الموجود بالقياس إليه على هذا النهج والزمان الموهوم أجدر بكون نسبته إليه كذلك ؛
فالعدم الزماني لكلّ حادث في زمان موجود أو موهوم لا يجوز أن يكون فاصلا بينه وبين
الواجب تعالى ؛ لأنّ ذلك فرع أن يتوهّم الواجب عند رأس الزمان ويجعل ذا وضع وإشارة؟!
وبطلانه ظاهر.
وبالجملة : انفصال الزمان الذي هو من الأعراض الجسمية بين المجرّد المتعالي
عن الجسمية وعوارضها غير معقول ؛ لأنّ ذلك يوجب اتّصافه بصفات الأجسام ؛ وعلى هذا
فلا يتصوّر نسبة زمانية أو مكانية من المعيّة واللامعيّة والاتّصال والانفعال
والقرب والبعد وأمثالها بين الواجب وبين العالم وأجزائها ؛ فما له من المعيّة
والتقدّم والقرب وأمثالها بالنسبة إليه إنّما هو بمعنى آخر يليق بساحة قدسه
وكبريائه.
ومن جوّز من
المتكلّمين مقارنة وجوده تعالى للزمان وانتسابه إليه بالقرب و
البعد والمعيّة
فقد أبعد عن الحقّ بمراحل.
والعجب ممّن يريد
حفظ قواعد الشريعة كيف يجوّز مثل ذلك مع أنّ ما ورد في الشريعة من الأخبار الدالّة
على تقدّس ذاته من الانتساب إلى الزمان بأيّ طريق كان أكثر من أن يحصى. فقد روى
شيخنا الأقدم ، محمّد بن يعقوب الكليني عنه أيضا عليهالسلام أنّه قال : «من زعم أنّ الله من شيء أو في شيء أو على شيء
فقد كفر» وفي توحيد الصدوق عن الكاظم عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى لا يوصف بمكان ولا يجرى عليه
زمان» وعنه عليهالسلام : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يوصف بمكان ولا زمان ولا
حركة ولا انتقال ولا سكون» وعنه عليهالسلام : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ كان لم يزل بلا زمان ، بل هو
خالق الزمان والمكان والحركة والسكون وهو الآن» وأمثال هذه الأخبار بلغت حدّ التواتر.
ومن تأمّل في كلام
عليّ عليهالسلام في نهج البلاغة يعلم أنّ من وصف الله تعالى بالزمان ونسبه
إليه ليس / A ٢٠٠ / من الموحّدين
ولا من العارفين بالله وصفات كماله ونعوت جلاله وجماله.
ومنها : أنّ الزمان والمكان ـ كما عرفت ـ يتساويان في الأحكام
ومرتضعان من ثدي واحدة ؛ فكما أنّ وراء الامتداد المكاني ـ أعني فوق الفلك الأقصى
ـ عدم صرف لا خلأ ولا ملأ ولا امتداد ولا لا امتداد ولا نهاية فكذلك وراء الامتداد
الزماني عدم صريح لا امتداد ولا لا امتداد ولا استمرار ولا لا استمرار ولا زيادة
ولا نقصان ولا نهاية ولا لا نهاية ؛ والفرق بين المكان والزمان في ذلك بيّن
البطلان ؛ وعلى هذا فلا معنى للقول بالزمان الموهوم قبل وجود العالم.
__________________
ومنها : أنّ القائل بالزمان الموهوم معترف بأنّه شيء ممتدّ واقعي
نفس أمري وقديم أزلي وعاء عدم العالم ؛ وهذا يخالف لما ثبت من الشريعة وانعقد عليه
إجماع أهل الملّة من عدم قديم في نفس الأمر سوى الواجب تعالى.
ومنها : أنّ حدود ذلك الامتداد متشابهة ؛ إذ لا اختلاف في العدم ولا
مخصّص من استعداد أو حركة أو غير ذلك ؛ فاختصاص حدوث العالم بالحدّ الذي وجد فيه
دون حدّ آخر قبله ترجيح بلا مرجّح.
ويمكن الجواب عن هذا بأنّ قبول العالم للوجود لعلّة كان متوقّفا على انقضاء هذا
القدر وانتهائه إلى هذا الحدّ.
ومنها : أنّ منشأ ثبوت هذا الامتداد إنّما هو تحقّق موجود ما ـ أيّ
موجود كان ـ لأنّهم قالوا : إنّ الباعث لتحقّقه إنّما هو وجود الواجب بملاحظة
بقائه ؛ فما دام الواجب موجودا ينتزع عنه هذا الامتداد ـ سواء كان قبل إيجاده أو
بعده ـ ولا فرق إلّا بأنّه إذا وجد العالم ينطبق هذا الامتداد على الحركة والزمان
؛ ولذا قيل : إنّ هذا الامتداد بمنزلة المذروع وحركة الاطلس بمنزلة الذراع ؛
فبحركته يستمرّ هذا الامتداد ؛ فيصير قطعة منه نهارا واخرى ليلا واخرى اسبوعا
واخرى شهرا واخرى سنة ؛ وإذا انتزع هذا الامتداد من الواجب بملاحظة بقائه مع وحدته
وتجرّده وتعاليه عن الزمان لانتزع بطريق أولى من كلّ موجود ـ مجرّدا كان أو مادّيا
حيوانا / B ٢٠٠ / كان أو نباتا
أو جمادا أو غير ذلك ـ فيتعدّد ذلك الامتداد بتعدّد أفراد جميع الأنواع بحسب
بقائها إن متناهية فمتناهيا وإن غير متناهية فغير متناه ؛ فيتحقّق في العالم
امتدادات واقعية نفس أمرية غير متناهية وإن انطبق بعضها على بعض إلّا أنّ التغاير
بينهما متحقّق كما بين الزمان الموهوم والزمان الذي هو مقدار الحركة الدورية.
ولقائل أن يقول : إذ سلّم وجود هذا الزمان الموهوم فيلتزم انتزاعه عن كلّ فرد
من أفراد
الموجودات وإن بلغ عدده أضعاف أفراد الموجودات على أنّها متداخلة بعضها مع بعض
ومتوقّفة بعضها على بعض.
فهذا الوجه كسابقه
لا ينتهض حجّة مستقلّة للمطلوب. فالعمدة هي الحجج السابقة.
ثمّ نقول ـ تأكيدا للإبطال ـ : هذا الزمان المتقدّم على العالم إمّا أن يكون موجودا أو
موهوما.
فعلى الأوّل : يكون ممكنا داخلا في ما سوى الله ؛ فيكون وجوده أيضا مسبوقا
بالعدم ، لما مرّ من تناهي الامتدادات الموجودة وللإجماع والنصوص مع أنّ الزمان
إذا كان ظرفا للعدم الأولى يجب أن يكون قديما لا حادثا ؛ فيلزم التناقض ؛ وأيضا
إذا كان الزمان موجودا قابلا للمساواة واللامساواة كان كمّا والكمّ عرض مفتقر إلى محلّ ومحلّه لا يكون إلّا
مادّيا ؛ فيلزم قدم ذلك المادّي ؛ وهو باطل بالإجماع والأخبار ، بل بالدلالة
العقلية أيضا.
وعلى الثاني : فإن كان موهوما صرفا اختراعيا كأنياب الأغوال لم يكن عدم
العالم قبل وجوده في ظرف هو الزمان ، بل يكون عدمه عدما صريحا خالصا ؛ وإن كان
موهوما منشأ الانتزاع ننقل الكلام إليه ؛ فهو إمّا واجب أو ممكن ؛ والأوّل باطل لما
مرّ ؛ وعلى الثاني يكون مادّيا ؛ فهذا المادّي إن كان قديما لزم خلاف الإجماع
ومقتضى الأخبار ؛ وإن كان حادثا لم يجز أن يكون مسبوقا بعدم يكون في هذا الزمان ؛
إذ الفرض حدوثه وتأخّره عن عدمه ؛ فيكون عدمه في زمان آخر وهكذا إذا نقل الكلام
إليه ؛ فيلزم التسلسل وهو باطل أو يكون عدما صرفا بحتا لا في الزمان ؛ فثبت تحقّق
العدم البحت الواقعي قبل العالم.
وإذ ثبت بطلان / A ٢٠١ / الحدوث الذاتي بثبوت بطلان عدم تناهي الزمان
__________________
الموجود وبطلان
الزماني ببطلان الزمان الموهوم يثبت حقيقة الحدوث الدهري وهو مسبوقية العالم بعدم
صريح واقعي لو قدّر وجود الزمان فيه لكان غير متناه.
ثمّ هذا الحدوث
مستلزم للحدوث الذاتي أيضا ؛ لأنّ تأخّر العالم عن الواجب بالعدم الصريح الواقعي
مستلزم للتأخّر الذاتي الذي هو محض الفاقد المرادف للحدوث الذاتي ؛ فالحدوث الدهري
مستلزم للذاتي بخلاف العكس ، كما أنّ الزماني مستلزم لهما دون العكس ؛ فالمراد بما
ذكر من بطلان الحدوث الذاتي هو بطلان انحصار الحدوث فيه ، كما عليه الفلاسفة.
ثمّ تحقيق الكلام في الحدوث الدهري
وتوضيح معناه وتحقيق حقيقته على ما لا تبقى فيه شبهة هو أنّه لا ريب في أنّ تقدّم الواجب والعدم على العالم على
القول بالحدوث الذاتي تقدّم بالذات ويسمّى بالتقدّم العقلي ؛ لأنّه اعتبار يخترعه
العقل من تلقاء نفسه وليس تقدّما بحسب الخارج والواقع ؛ وعلى القول بالحدوث الزماني تقدّم بالزمان بمعنى أنّهما
متقدّمان بالزمان على العالم ؛ وعلى القول بالدهري تقدّم دهري بمعنى أنّهما متقدّمان
عليه بحسب الدهر الذي هو الواقع ونفس الأمر. فهذا التقدّم ـ أي التقدّم الدهري ـ ليس
شيئا من أقسام التقدّم الخمسة المشهورة ، بل هو قسم آخر مغاير لها ؛ ولا ضير فيه.
والحاصل : أنّ العالم مع حدوثه ـ بأيّ معنى اخذ من الأقسام الثلاثة
للحدوث ـ مسبوق بالعدم إلّا أنّ العدم على الأوّل لعدم تناهي الحركة والزمان مجرّد
عدم ذاتي هو مجامع للعلّة والمعلول وليس عدما واقعيا يمكن أن يفرض فيه وجود شيء
إذا وجد فيه يكون متقدّما على العالم وما هو إلّا العدم الذي يلزم ماهيّة الممكن ؛
وهو وإن كان عدما في مرتبة من المراتب هي مرتبة وجود العلّة إلّا أنّه ليس ممّا
يمكن أن يقع به الفصل بين العالم وبين الواجب فصل بينونة ، بل
__________________
المتحقّق بينهما
معه وصل كينونة لو أمكن وقوع الفصل والوصل بين الواجب وبين غيره بشيء ؛ وأمّا
العدم على الثاني فهو عدم زماني / B ٢٠١ / ممتدّ متصرّم ؛
وهو باطل ؛ وأمّا على الثالث فهو عدم واقعي صريح غير مجامع للعلّة والمعلول ويحصل
به فصل بينونة بينهما لو فرض جواز الفصل بين الواجب وبين غيره بشيء ؛ ولو فرض وقوع
الحركة أو الزمان فيه لكانا غير متناهيين ؛ فهذا العدم هو بعينه العدم الذي أثبته
المتكلّم سابقا على العالم إلّا أنّه يقول بتحقّق زمان غير متناه موهوم نفس أمري
لظهور بطلانه ـ كما تقدّم ـ وإن امكن تقدير زمان غير متناه وتخييله فيه بخلاف
العدم الذاتي ؛ فإنّه لا يمكن التقدير والتخييل أيضا فيه.
فإن قيل : هذا العدم الواقعي إن اتّصف بالسابقية وحصل به الفصل بين
الواجب والعالم وكان له وعاء البتّة ، فيكون قولا بالزمان الموهوم ؛ وإن يتّصف
بالسابقية ولم يحصل به الفصل لزم الحدوث الذاتي.
وبتقرير آخر : إن كان العدم والوجود في وعاء الدهر متعاقبين كانا زمانيين
وإن كانا مجتمعين في الحالة الواحدة لزم الحدوث الذاتي.
والجواب : أنّ الفصل بين الحوادث الزمانية إنّما هو بالزمان ولا يعقل
الانفصال والانفكاك بينهما إلّا به ؛ وأمّا الفصل بين الثابت والحادث ـ كالواجب
والعالم ـ إنّما هو بالدهر الذي هو نسبة بينهما ووعاء للزمان ولكلّ ما يوجد مبدعا
في غير زمان ولعدمه أيضا.
قال أرسطو في أثولوجيا : «اصول العالم وأركانه كالأفلاك والعناصر ليست موجودة في
الزمان ، بل في الدهر.»
وصرّح أساطين
الحكمة بأنّ كون الثابت مع مثله سرمد ومع المتغيّر دهر وكون المتغيّر مع مثله
زمان. فالدهر وعاء للمبدعات من غير زمان ولعدمها السابق
عليها ؛ وحقيقة
هذا الوعاء حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ؛ وكون عدم العالم في هذا الوعاء فاصلا بين
الواجب وبين العالم كناية عن كون الواجب ثابتا في الخارج والواقع وفي حدّ ذاته مع
كون العالم معدوما بحيث لو فرض زمان في هذا الواقع المعبّر عنه بالدهر الذي كان
الواجب فيه موجودا والعالم معدوما لكان غير متناه وإن لم يكن في هذا الواقع وفي
العدم المحقّق فيه امتداد وتصرّم وتجدّد.
وحاصله : / A ٢٠٢ / أنّه كان الواجب موجودا في
الواقع الذي يعبّر عنه بالدهر ولم يكن معه عالم وفي متن الدهر وإن لم يكن زمان
وامتداد إلّا أنّه يمكن فرضه وتخييله ، كما تقدّم. فالزمان التقديري التخييلي الذي
تحقّق فيه الواجب ولم يتحقّق فيه العالم غير متناه ؛ ولو فرض وقوع الزمان الموجود
في هذا الزمان التقديري وانطباقه عليه لكان غير متناه. فحقيقة الحادث الدهري أن
يسبقه العدم الصريح الواقعي في متن الدهر وحاقّ الواقع وليس فيه امتداد زماني وفصل
كمّي إلّا بمجرّد التقدير والتخييل إلّا أنّ [هذا] الانفكاك والفصل لمّا لم يكن
زمانيا يتعسّر عليهم تعقّل الانفكاك الدهري ولكنّ المسافرين من
صقع الزمان والزمانيات يعرفون بصفاء عقولهم وتجرّد نفوسهم هذا الانفكاك والفصل
ويعلمون أنّه مع عدم توهّم تجدّد وتجزّى هناك يتحقّق به الانفكاك بين الواجب
والعالم وعدم المعيّة بينهما في الوجود الواقعي ؛ ولا يلزم من الانفكاك في الوجود
والتحقّق ثبوت الامتداد والتجزّي ؛ لأنّهما من خواصّ الزمانيات ؛ وليس وجود الواجب
زمانيا ؛ ولا معنى لاتّصال العالم وانفكاكه عنه في الحقيقة ؛ ومرادنا من الانفكاك
والفصل ـ كما اشير إليه ـ ارتفاع المعيّة بين الواجب والعالم في الوجود والتحقّق
الواقعي بحيث يصحّ أن يقال : «كان الواجب بالمعنى الذي يصحّ الآن ولم يكن العالم.»
ولو شئت زيادة توضيح نقول : لو لم يوجد انفكاك واقعي بين العالم والواجب
__________________
بحيث لو فرض تحقّق
الزمان فيه لكان غير متناه لزم إمّا كون الواجب محلّا للزمان الواقعي النفس الأمري
أو عدم تناهي الزمان والحركة من جانب البداية أو كون بقاء الواجب بقدر زمان متناه
؛ والكلّ قطعي البطلان ؛ فلا بدّ أن يكون بين الواجب والعالم امتداد واقعي لو فرض
فيه الزمان لكان غير متناه ؛ وهذا الانفكاك إنّما هو في وعاء الواقع ـ أعني الخارج
ـ وظاهر أنّ الخارج من حيث هو خارج ليس شيئا موجودا على حدة مغايرا للموجودات
الخارجية ، بل هو حدّ ذات الشيء ومرتبته في / B ٢٠٢
/ الوجود. فالخارج المتحقّق للواجب كونه ثابتا موجودا بذاته وقائما بنفسه لا في
زمان ولا في مكان ولا مع شيء آخر من الموجودات ؛ ويعبّر عنه بالسرمد ؛ وللمجرّدات
ونفس الزمان والأفلاك والعناصر كونها موجودة بغيرها لا في زمان ولأعدامها كونها
ثابتة كذلك ويعبّر عنه بالدهر ؛ وللحوادث اليومية كونها موجودة في الزمان والمكان.
فنحن إذا أردنا أن
نعبّر عن كون الواجب موجودا بذاته بدون شيء آخر نقول : «موجود في السرمد» تجوّزا ؛
وإذا أردنا أن نعبّر عن ثبوت عدم العالم قبل وجوده لا في زمان نقول : «إنّه في
الدهر» على سبيل التوسّع مع أنّ السرمد والدهر ليسا شيئين موجودين منفردين.
فالسابق على وجود العالم ليس إلّا عدمه الصّرف ووجوده الواجب الحقّ ؛ ولا يلزم مع
ذلك معيّة الواجب للعالم في الخارج ؛ إذ لا نسبة بينه وبين غيره من الموجودات بوجه
حتّى يتصوّر بينهما معيّة في الوجود الخارجي ؛ فإنّ المجرّد الصّرف القائم بذاته
يتعالى عن الانتساب إلى الزمان [و] أيّ معيّة ومقارنة يكون له
بالنسبة إلى الزمان والزمانيات ؛ لأنّ المعيّة والمقارنة في الشيئين في الزمان فرع
كونهما زمانيين ؛ وإذا انتفت المعيّة عنه يثبت انفكاكه عن العالم وإن لم يكن
انفكاكا زمانيا ؛ فإنّه لو فرض قدم الزمان لكان منفكّا عنه
__________________
بهذا المعني أيضا
إلّا أنّه مع قدمه لا يتحقّق قبل العالم عدمها الصريح الواقعي الذي يصدق لأجله «الواجب
كان فيه ولم يكن العالم.» فلم يتحقّق الفصل الدهري ولا الزماني ؛ وأمّا مع تناهي
العالم والزمان فيتحقّق قبله عدم واقع محض يصحّح صدق كون الواجب فيه دون العالم
ويصدق أنّه لو وجد فيه زمان لكان غير متناه ؛ إذ جميع الأزمنة بإزائها وآثارها ؛
بل أضعاف أضعافه لعدّة غير متناهية لو فرض وقوعها فيه يوسعها وحينئذ يتحقّق الفصل
الدهري الواقعي وإن لم يتحقّق الفصل الزماني.
وممّا يوضح
ذلك
قياس الزمان على
المكان بالنسبة إليه تعالى ؛ فإنّ الواجب مع عدم كونه في مكان وعدم انتسابه إليه /
A ٢٠٣ / بقرب أو بعد أو
معيّة يمكن أن يقال بتحقّق الانفكاك بينه وبين كلّ مكان إلّا أنّه ليس بانفكاك
مكاني ؛ ويرجع حقيقة هذا الانفكاك إلى عدم تحقّق نسبة مكانية بينهما.
وكذا الحكم في
الزمان بعينه ؛ فكما يصدق أنّه تعالى مباين عن كلّ مكان وموجود في ما لم يوجد
متمكّن فيه كذلك يصدق أنّه مباين عن كلّ زمان وموجود في ما لم يوجد العالم فيه.
وممّا يوضح قبول العدم الواقعي المذكور لوقوع الأزمنة فيه وإحالته بها
واتّصافها بالامتداد والزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه أنّه لو فرض وجود الواجب
تعالى وحده بدون تحقّق شيء من الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات إلى هذا الآن
فعلى هذا الفرض يلزم أن لا يتحقّق قبل هذا الآن غير واجب الوجود ؛ فلا يتحقّق
امتداد أصلا ، بل المتحقّق هو الواجب في الواقع ونفس الأمر ولا ثبوت لغيره سوى عدم
الغير ـ أعني عدم الواقعي البحت ـ مع أنّه بعد فرض وجود العالم فيه ـ كما هو المطابق
للواقع ـ حصل فيه الامتداد القابل للزيادة والنقصان ؛ فإنّ
__________________
الامتداد الحاصل
من وقت حدوث العالم إلى هذا الآن أكثر من الحاصل من زمان نوح إلى هذا الآن ؛ وظاهر
أنّ الزمان بامتداده إنّما وقع في وعاء الواقع والدهر الذي لو لم يوجد فيه زمان لم
يتحقّق فيه إلّا العدم الصّرف ؛ فكما يصدق أنّ الزمان الذي وجد في العدم الصّرف له
امتداد وتصرّم يصدق أنّ العدم الخالص الذي لم يوجد فيه الزمان وهو العدم الواقعي
للعالم بحيث لو فرض فيه وجود الزمان لكان غير متناه.
فإن قيل : هذا الواقع المسمّى بالدهر الذي هو وعاء عدم العالم إن كان
معدوما صرفا فكيف يتحقّق به الانفكاك الواقعي ويكون وعاء للموجود من الواجب أو
غيرها من المجرّدات؟! وإن كان موجودا قديما لزم وجود قديم سوى الله وإن كان حادثا
لزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم.
وأيضا : الدهر إمّا ثابت بنفسه من غير حاصله ؛ فيكون واجبا ؛ وهو
باطل أو بالواجب لذاته ومعلول له ؛ فإن كان منتزعا عنه تعالى لزم قيامه / B ٢٠٣ / بذاته تعالى ؛ وهو محال ، لبطلان قيام مثله بالواجب على
أنّ ما قام به كيف يصير ظرفا للعالم ولغيره من المبدعات وإن لم يكن منتزعا عنه
تعالى؟! بل كان موجودا منفصلا عنه تعالى قديما أو حادثا ؛ فمع لزوم كون الواجب
موجودا لا في الدهر والواقع يعود بعض الإشكالات المتقدّمة أيضا.
قلنا : أمّا أوّلا فإنّ الواقع والخارج ونفس الأمر والدهر وما يساوقها ممّا
لم يختصّ بإثباته القائلون بالحدوث الدهري ، بل الكلّ متّفقون على ثبوته ،
فالترديد فيه بأنّه كذا أو كذا مع فساد كلّ شيء يرد عليهم أيضا والجواب الجواب ولا
فرق منشأ بين الحكماء والمتكلّمين في ذلك إلّا أنّ الحكماء يقولون : «إنّ الواقع
لا ينفكّ عن وجود العالم» والمتكلّمون يقولون : «إنّه لا ينفكّ عن الزمان الموهوم»
ونحن نقول : «ينفكّ عنهما ويحصل به الانفكاك» وجواب ذلك
قد تقدّم.
وأمّا ثانيا : فإنّ الواقع أو الخارج أو نفس الأمر أو الدهر أو ما يرادفها
ليس إلّا حدّ ذات كلّ شيء ومرتبته ؛ فوجود كلّ شيء في الواقع هو كونه في حدّ ذاته
ومرتبته ؛ فهو من لوازم وجود كلّ موجود ؛ فليس موجودا منفصلا ولا معدوما صرفا ، بل هو شيء واقعي نفس أمري له منشأ انتزاع هو موجود
ما ؛ وهو في القديم قديم وفي الحادث حادث وفي كلّ موجود بحسبه ؛ فالواقع الثابت
للواجب تعالى هو ما يليق بذاته وليس هو ثابتا لغيره وكذا الثابت للعقول غير الثابت
للأفلاك وهكذا ؛ وليس شيئا ممتدّا كالزمان حتّى يقال : لا يناسب أن ينتزع عن ذاته.
قلنا : إنّا نختار من الترديدات كونه قديما منتزعا عن ذاته تعالى ولا يلزم
فساد ؛ لأنّ حدّ ذاته ومرتبته ليس شيئا مغايرا له حتّى يلزم وجود قديم سواه ؛ وهذه
المرتبة ليست لغيره حتّى يلزم أن يكون ما ينتزع عنه وعاء لغيره.
وعلى هذا يتّضح ما ذكر من حصول الانفكاك بين الواجب والعالم ؛ لأنّ منشأ الانفكاك حقيقة بين
الأشياء إنّما هو حدود ذواتها ومراتبها ؛ فالانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ؛
ونفي المعيّة عنهما لا يتوقّف على / A ٢٠٤ / تخلّل شيء على
حدة ، بل هما يحصلان بمجرّد اعتبار وجودهما في حدّ ذاتهما وتحقّقهما في مرتبة
حقيقتهما المستلزم لتخلّل العدم ، لعدم الفرق بينهما. فوجود الواجب في حدّ ذاته
وحاقّ مرتبته يكفي لانفكاكه عن العالم وعدم وجوده معه ؛ وهذا الحدّ والمرتبة هو المعبّر
عنه بالدهر أو السرمد ؛ فالدهر أو السرمد ليس سببا على حدة أزليا مساوقا للواجب في
الوجود.
انظر إلى كلام
بارع المحقّقين حيث قال في شرح رسالة العلم : «أزليته تعالى
__________________
إثبات سابقيته على
غيره ونفي المسبوقية عنه ؛ ومن تعرّض للدهر أو الزمان أو السرمد في بيان الأزلية
فقد ساوق غيره في الوجود» ومراده أنّ جعل أحد الثلاثة شيئا مغايرا له في الوجود
وظرفا له يوجب الفساد المذكور لا أنّ مجرّد الإطلاق بعد الإرجاع إلى الحدّ
والمرتبة أيضا يوجبه بالحدّ الذي للقديم ـ أي الواجب بذاته ـ في الوجود هو السرمد
؛ ولا شيء في هذا الحدّ سوى ذاته ولا نسبة وجود ولا عدم ؛ والذي للحادث الدهري
المبدع في العدم الواقعي هو الدهر ؛ ولا شيء في هذا الحدّ والمرتبة إلّا المبدعات
الحادثة بالحدوث الدهري وأعدامها الواقعية السابقة على وجودها ؛ والحدّ الذي
للحوادث اليومية هو الزمان وهو وعاء وجودها وأعدامها السابقة عليها ؛ وكلّ سابق من
الحدّ وذي الحدّ وإن وجد مع اللاحق منهما إلّا أنّ الحدّ اللاحق ليس ظرفا ومرتبة
له ؛ والواجب وإن كان موجودا مع الدهر والزمان بمعنى أنّ بعد وجودهما أيضا موجود
إلّا أنّه يتقدّس عن الانتساب إليهما ؛ وهذا إنّما هو على تقدير تناهي الزمان وكون
العالم بأسره من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر حادثة بالحدوث الدهرى ؛ أي
مبدعة بعد العدم الواقعي.
ولو فرض مع تناهي
الزمان كون العالم الجسماني كذلك و كانت المجرّدات من العقول وغيرها حادثة ذاتية ـ أي بمجرّد
العدم الذاتي دون الواقعي ـ كان السرمد حدّ وجود الواجب والأعدام الذاتية
للمجرّدات ، والدهر حدّ وجودها ووجود اصول الأجسام / B ٢٠٤ / والحركة والزمان وأعدامها الواقعية السابقة عليها.
ولو فرض مع الحدوث
الذاتي للمجرّدات عدم تناهي الزمان ـ كما هو مذهب الحكماء ـ كان السرمد حدّ وجود
الواجب والعدم الذاتي للمجرّدات والعالم الجسماني ، والدهر حدّ وجودهما ؛ ويمكن
جعل حدّ العدم الذاتي للمجرّدات
__________________
أيضا الدهر أو جعل
وجودهما أيضا من السرمد ؛ إذ أمثال ذلك مجرّد اصطلاح وإطلاق لا مشاحّة فيه ؛
والمناط أنّ حدّ وجود كلّ من الواجب والمجرّدات واصول الأجسام والحوادث الزمانية
مغاير لحدّ وجود الآخر.
ثمّ على ما ذكر [ثبت]
حدوث العالم الجسماني بالحدوث الدهري كما يثبته العقل أيضا نظرا إلى ما تقدّم من
تناهي الامتدادات في العالم الجسماني من البداية ؛ ولا ينافيه علوّ القدرة وأشرفية
استمرار الفيض وعدم تناهيه في الاستطاعة وتناهيه ؛ لأنّ ذلك فرع قابلية المعلول واستعداده ؛
والعالم الجسماني لقصوره في مراتب الوجود لا يقبل من حيث حقيقته عدم التناهي كما
تقتضيه البراهين ؛ وأمّا المجرّدات فلا يدلّ دليل عقلي على حدوثها الدهري
ومسبوقيتها بالعدم الواقعي الذي لو فرض فيه امتداد لكان غير متناه ؛ فلا ضير عقلا
من كون العقول وغيرها من المجرّدات حادثة بالحدوث الذاتي وكون غيرها من الأفلاك
والعناصر حادثة بالحدوث الدهري. فالمناط في حدوثها كذلك إجماع الملّيّين والظواهر
من الكتاب والسنّة هذا ومن المتأخّرين.
قد بلغ الكتاب هنا
إلى النصف والمناسب أن يجلّد ما بعده بجلد آخر. الحمد لله الموفّق لإتمامه إلى هنا ونسأله التوفيق في إتمام ما بقي من الكتاب
؛ وإنّي قد استكتبت هذا الكتاب وكتبت بعضه بيدي ؛ وأنا العبد المذنب الجاني محمّد
...
الكاشاني الشهير
... ولوالديه وفّقهم لتحصيل مراضيه. / A ٢٠٥ /
__________________
تصوير نسخه اساس




فهرستها
١.
آيات
٢.
روايات
٣.
اشعار
٤.
اعلام
٥.
گروه ها
٦.
كتابها
٧.
منابع ومآخذ
١. آيات
(أَنَّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ كانَتا)
|
٣٩٠
|
(لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)
|
٢٦٥ ، ٢٦٧
|
(إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها)
|
١٥١
|
(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ)
|
٢٩١
|
(أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ)
|
١٦٣
|
(نَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)
|
١٦٣
|
(اهْبِطُوا)
|
٢٨٣
|
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها)
|
١٦٧
|
(أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى)
|
١٣ ، ٢٣٥
|
(وَجَعَلَ الظُّلُماتِ
وَالنُّورَ)
|
١٤٨
|
(ثُمَّ اسْتَوى
إِلَى السَّماءِ)
|
١٦٧
|
(وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)
|
١٠٥
|
(ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ)
|
١٦٧
|
(وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها)
|
١٦٣
|
(رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي)
|
٢٨٦
|
(وَعَلَى
الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ)
|
١٦٤
|
(رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا)
|
٢٨٦
|
(وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)
|
٢٦٧
|
(شَهِدَ اللهُ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)
|
٢٥٨
|
(وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ)
|
١٦٤
|
(قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً)
|
٤٤٦
|
(وَلَوْ أَنَّ ما
فِي الْأَرْضِ)
|
٤٤٦
|
(كَفَرَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ)
|
٢٩٠
|
(وَما أَرْسَلْنا
مِنْ رَسُولٍ)
|
٤٧٧
|
(كُلُّ شَيْءٍ
هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)
|
٢٧٢ ، ٢٧٨
|
(وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)
|
٢٨٦
|
(كُنْ)
|
١٤٨ ، ١٥٠
|
(يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)
|
١٥
|
(لَذَهَبَ كُلُّ
إِلهٍ بِما خَلَقَ)
|
٢٦٥
|
(يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا)
|
١٥
|
(لَنْ تَرانِي
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)
|
٢٨٠
|
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ)
|
٣٧٧
|
٢. روايات
أبيت عند ربّي
|
٤٥٩
|
ثمّ يلزمك إن
ادّعيت فرجة ما بينهما
|
٢٥٦
|
أتاني ملك
الجبال وملك البحار
|
٤٣٩
|
خلق الله
الأشياء بالمشيّة
|
١٢٦
|
اشغلني
|
٢٨٤
|
داخل في كلّ شيء
لا بمقارنة
|
٨٤ ، ١٣٦ ، ١٣٩ ،
٤٧٣
|
أطّت السماء
|
٤٥٩
|
زويت لي الأرض
|
٤٥٩
|
اعرفوا الله
بالله
|
١٣
|
السعيد سعيد في
الأزل
|
٣٧٧
|
إلهي كفى بي
مخبرا أن يكون لي ربّا
|
٣٧٩
|
الشقىّ شقيّ لم
يزل
|
٣٧٧
|
إنّ الله تعالى
لا يوصف بمكان ولا يجرى عليه زمان
|
٤٨٠
|
صور عالية عن
الموادّ خالية عن القوّة
|
١٨١
|
إنّ الله كان لم
يزل
|
٤٨٠
|
فكلّ ما
ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ
|
١٥٦
|
إنّ الله لا
يوصف بمكان
|
٤٨٠
|
كان الله ولم
يكن معه شيء
|
٤٧٧
|
أنّ الواحد
والأحد بمعني واحد
|
٢٩٣
|
كلّميني
|
٢٨٤
|
إنّ لي مع الله
وقت
|
٢٧٧
|
لا يزال العبد
يتقرّب إلى بالنوافل
|
٢٧٥
|
أنّ هذه النار
غلست
|
٤٥٩
|
لك يا إلهي!
وحدانية العدد
|
٢٩٣
|
إنّى ذاهب إلى
أبي وأبيكم
|
٤٣٩
|
من زعم أنّ الله
من شيء
|
٤٨٠
|
إنّى لأجد نفس
الرحمن
|
٤٥٩
|
من عرف نفسه فقد
عرف ربّه
|
١٥٦ ، ٣٢٠
|
أوّل ما خلق
الله الروح
|
١٦٧
|
من يمت يرني
|
١١٧
|
أوّل ما خلق
الله العقل
|
١٦٧ ، ١٨٠
|
واحد لا بتأويل
العدد
|
٢٩٣
|
أوّل ما خلق
الله القلم
|
١٦٧
|
وضع الله على
كتفى
|
٤٥٩
|
أوّل ما خلق
الله الماء
|
١٦٧
|
يعلم أنّ من وصف
الله تعالى بالزمان
|
٤٨٠
|
أوّل ما خلق
الله النور
|
١٦٧
|
|
|
٣. اشعار
الف. عربى :
البحر بحر على
ما كان من قدم
|
١٢٢
|
لا تحجبنّك
أشكال تشاهدها
|
١٢٢
|
ب. فارسى :
اين طرفه حديثى
است كه آن ظاهر وپنهان
|
١٣٦
|
چشم آلوده ما از
رخ جانان دور است
|
٤٢٨
|
به جهان خرّم از
آنم كه جهان خرّم از اوست
|
٣٨٤
|
نه فلك راست
مسلّم ، نه ملك را حاصل
|
٤٥٨
|
به خيال در
نگنجد ، تو خيال خود مرنجان
|
١٥٧
|
هرچه آن برهم
نهاده دست عقل وحسّ ووهم
|
١٥٦
|
٤. كسان
آدم
(ـ أبو البشر) ١٦٤ ، ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٣٠٥ ، ٣٠٨
آغاذاثيمون
٤٣٩ ، ٤٥٣
ابن
كمونه ٢٦٠
أبو
البركات ٢٦٣
أبو
الحسن (ـ شيخ الاشاعرة) ٢١٣ ، ٣٥٣
أبو
الحسين ٢١٣
أبو
حامد الغزالي ٣٧٨
إدريس
(ـ هرمس / والد الحكماء) ٤٣٨
أرسطو
(ـ المعلّم الأوّل) ٣٢٥ ، ٣٨٦ ، ٤٠٣ ، ٤٤٩ ، ٤٥٢ ، ٤٥٣ ، ٤٦٠ ، ٤٦٣ ، ٤٨٤
الأعرابي
١٣٧
أفلاطون
٤٣٩ ، ٤٤٠ ، ٤٤٦ ، ٤٤٧ ، ٤٤٩ ، ٤٥٣ ، ٤٦٠ ، ٤٦٥ ، ٤٦٦
أنباذقلس
٤٣٩
الباقر
(ع) ٢٩٣
بهمنيار
(ـ صاحب التحصيل) ١١ ، ١٩ ، ٣١ ، ٢٦٣
دحية
الكلبي ٢٨٠
|
|
روح
الأمين ٢٨٠
روح
القدس ١٥٨ ، ١٦٢ ، ٤٣٩ ، ٤٤٨ ، ٤٥٧
زرادشت
٤٤٠
الزمخشرى
٣٧٤
سقراط
٤٣٩ ، ٤٤٦ ، ٤٤٩ ، ٤٥٣ ، ٤٦٥ ، ٤٦٦
سيّد
الساجدين (ع) ٢٩٣
السيّد
السند ٢١٥
السيّد
المرتضى ١٨١
الشريف
المحقّق ٤٥ ، ٢١٦
شيخ
الإشراق (ـ صاحب الإشراق / الشيخ الإلهي) ٢٠ ، ٢١ ، ٤٥ ، ٧٥ ، ١٩٨ ، ٢٣٠ ، ٢٤٩ ،
٢٥٨ ، ٢٦٣ ، ٤٠٣ ، ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤٣٧ ، ٤٣٩ ، ٤٤٠ ، ٤٤٦ ، ٤٧٧
شيخ
الرئيس ابن سينا (ـ صاحب الشفاء / رئيس الحكماء) ٩ ، ٢١ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ٦٨ ، ٩٠ ،
١٣٧ ، ٢١٥ ، ٢٣٠ ، ٢٥١ ، ٢٦٣ ، ٢٩١ ، ٣٠٥ ، ٣٤٨ ، ٣٦٦ ، ٤٠٣ ، ٤٤٨ ، ٤٦٦
الشيخ
السمناني ١٧٤
|
الشيطان
٢٨٥
صاحب
الشجرة الإلهية ٤٠٣
الصادق
(ع) ٢٥٦
الصدر
الشيرازي ٢٠
الصدوق
٤٨٠
عليّ
(ـ أمير المؤمنين (ع) / سيّدنا / وصيّ خاتم الرسل) ٨٤ ، ١١٧ ، ١٨٠ ، ٣٧٦ ، ٤٥٩ ،
٤٨٠
عيسى
(ع) ١١٣
الفخر
الرازي ٢٦٣
فرعون
٢٨٥
فيثاغورث
٤٣٩
القونوي
١٧٢
الكاظم
(ع) ٤٨٠
الكليني
(محمّد بن يعقوب) ٤٨٠
المحقّق
الدواني ١٠٤
المحقّق
الطوسي (ـ العلّامة الطوسى / بارع
|
|
المحقّقين)
١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٦ ، ٣٠٤ ، ٣٢٤ ، ٣٣٢ ، ٣٤٣ ، ٣٥٤ ، ٣٦٢ ، ٣٦٥ ، ٤٨٩
المسيح
(ع) ٤٣٩
المعلّم
الثاني (ثاني المعلّمين) ١٩ ، ٣٧ ، ٢٤٨ ، ٤٥٣ ، ٤٦٥
المعلّمان
(المعلّم الأوّل والمعلّم الثاني) ٧٥
ملك
البحار ٤٣٩
ملك
الجبال ٤٣٩
ملك
السحاب ٤٣٩
موسى
(ع) ٢٨٥
مهدي
بن أبي ذر النراقي ٢
ميرداماد
٤٦٨
نبىّ
(ـ نبيّنا / سيّد الرسل) ١٤٨ ، ١٨٠ ، ٢٧٧ ، ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، ٤٣٨ ، ٤٣٩
|
٥. گروه ها
أئمّة الكشف ٤٢٦
الأئمة (ع) ١٨٠
أتباع الرواقيّين ٧٧
الإخوان ٢
الأخيار ٢
أرباب الشرائع ٢٧٠
أرباب النظر ٢٧٠
أرباب الوحي ١٤٥
أساطين الحكمة ١١ ، ١٣١ ، ٣١١ ، ٤٣٩ ،
٤٦٦ ، ٤٨٤
الإسماعيلية ١١٤
الأشاعرة (ـ الأشعري) ١٦٦ ، ١٦٧ ، ٢٢٧
، ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٨٤ ، ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٣٣٠ ، ٣٣٧ ، ٣٥٢ ، ٣٥٤
اشراقيّون (ـ اشراقىّ / اشراقية) ٢ ،
٢٥ ، ١١١ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ٢٢٨ ، ٣٢٨ ، ٣٣٢ ، ٣٣٤ ، ٣٤٣ ، ٣٤٥ ، ٤١١ ، ٤٢٠ ، ٤٣٩ ،
٤٤٦
أصحاب الشريعة ١٤٥
|
|
أصحابنا ٣٥٤
الأصفياء ٣٦٥
أعاظم العقلاء ٣١١
الأكثرون (ـ الأكثر) ٣٠٤ ، ٤٤٠
الإلهيّون ٢٣٣ ، ٣٥١
أمّتنا ٢٨٦
الأنبياء (ـ الرسل) ١٦٤ ، ١٧٨ ، ٢٧٨ ،
٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، ٣٥٢ ، ٣٦٣ ، ٣٦٥ ، ٣٩٠ ، ٤٣٩ ، ٤٧٧
الأوائل ٤٣٩
الأوصياء ١٦٤ ، ٢٧٨ ، ٢٨١ ، ٤٧٧
الأولياء ١٧٨ ، ٢٧٨ ، ٢٨٠
أهل الأشباح ١١
أهل البصائر ٢٣٣
أهل التحقيق ٣٣٨
أهل الحكمة ٢٠
أهل الديانة ٣٣٦
أهل اللسان ٤٧٧
أهل الله ١٦٤
|
أهل النظر ٧٧ ، ١٧٢
أهل الوحدة ٢٩ ، ١١٤
بعض الأجلّة ١٩
بعض الأذكياء ١٩٢
بعض أشياخنا الإمامية ٣٥٣
بعض الأعيان ٧٩
بعض الأكابر ٢٩٥
بعض الجهلة ١١٤
بعض الصوفية ١٣٦
بعض العرفاء (ـ بعض العارفين) ١١٤ ،
١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٨ ، ٢٩٣ ، ٣٧٣
بعض علمائنا ٢٥١
بعض الفضلاء ١٩٢
بعض الفهلوة ٤٤٠
بعض المتأخّرين ٧٧ ، ١٧٢ ، ١٩٣ ، ١٩٩
، ٤٦٨
بعض المحقّقين ٦٩ ، ٧٧
بعض مشايخ الصوفية ١٠٥
الجبرية ١١٤ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧
الجماعة ٧١ ، ٤٥٣
جمع من الأعلام ٧٩
الحصوليّون ٣٥٣
حكماء (ـ حكيم / فلاسفة) ٢٩ ، ٨٣ ،
١٠٥ ، ١٠٧ ، ١١١ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٢٨ ، ١٣٠ ، ١٣٤ ، ١٣٥ ، ١٣٦ ،
١٣٧ ، ١٤٥ ، ١٤٧ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٨ ، ١٦٩ ، ١٧١ ، ١٧٣ ، ١٧٨ ، ١٨١ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ،
١٩٣ ، ١٩٤ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ،
|
|
٢١٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٣٥ ، ٢٥٠ ، ٢٦٢ ،
٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٨٤ ، ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، ٣٠٣ ، ٣١٨ ، ٣٢٨ ، ٣٣٠ ،
٣٣١ ، ٣٣٢ ، ٣٣٤ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤ ، ٣٤٦ ، ٣٥٠ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣ ،
٣٩١ ، ٣٩٨ ، ٤٢٥ ، ٤٣٩ ، ٤٦٨ ، ٤٧٠ ، ٤٧٢ ، ٤٨٨
حكماء الفرس ٤٣٩ ، ٤٤٠
حكماء اليونان ٤٣٩
الخاصّة ١٨٠
ذوق المتألّهين ٧٤
الراسخون ١٠٥ ، ١٢٣ ، ١٥٤ ، ١٧٩ ، ٣٩٠
الرواقيّون ١٩٧
الرياضيّون ٣٢٨
الزهّاد ٢٨٠
السابقون ٣٨٠
السالكون (ـ السالك) ١٨٤ ، ٢٧١ ، ٢٧٣
، ٢٧٤ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٩٣ ، ٣٨٠
الصدّيقين ٢٣٥
الصوفية (ـ المتصوّفة / الصوفي) ٢ ،
٢٩ ، ٣٠ ، ٧٨ ، ٨٤ ، ١٠٥ ، ١٠٦ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٣٥
، ١٣٧ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٥٤ ، ١٦٢ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٧١ ، ١٧٣ ، ١٧٨ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢٣٦
، ٢٧٠ ، ٢٧٤ ، ٣٩٠ ، ٣٩١ ، ٣٩٤ ، ٤٠٨ ، ٤٢٦
الطائفة ٢٧٤ ، ٢٧٩
|
الطبيعيّون ٢٣٥ ، ٣٢٨
العامّة ١٨٠
العباد ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ٢٨٣ ، ٢٨٤ ، ٢٨٥ ،
٢٨٦ ، ٣٧٦ ، ٣٧٧
العبّاد ٢٨٠
العرفاء (ـ العارفون / العارف) ١٦ ،
٤٣ ، ١٠٥ ، ١١٤ ، ١١٩ ، ١٣٠ ، ١٣٤ ، ١٣٦ ، ١٤٥ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٥ ، ١٧٢ ، ٢٥١ ،
٢٦٩ ، ٢٧١ ، ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٤ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ٢٨٤ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ،
٢٩٣ ، ٢٩٤ ، ٣٨٠ ، ٣٨٢ ، ٣٩١ ، ٤٢٧ ، ٤٨٠
العقلاء ٣٠ ، ٧١ ، ٢٣٣ ، ٢٧٠ ، ٣٠٣ ،
٤٦٨
العلماء ٤٧٧
علماء الإمامية ٢٨٦
الفهلوة ٤٣٩ ، ٤٤٠
القائل بأصالة الماهيّة ٢٨
القائل بالحصولي (ـ المثبتون للحصولي)
٣٠٥
القائل بالحضوري ٣٠٥
القائلون بالحال (ـ المثبتون الحال)
٢٢٦ ، ٢٢٨
القائلون بالحدوث الدهري ٤٨٨
القائلون بالحدوث الزماني ٣٤٦
القائلون بخروج الشعاع ٣٢٨
القائلون بالعلم الحضوري ٣٥٣
القائلون بوحدة الوجود ٧٦ ، ٣٩١
القدماء (ـ الأقدمون) ٣٧ ، ٢٥٢ ، ٣٣٩
،
|
|
٤٠٣ ، ٤٥٣ ، ٤٦٥
قدماء الفلسفة ١٣١
القوم ٣٧ ، ٧٠ ، ٧٢ ، ١٨٩ ، ١٩٤ ، ١٩٥
، ٢٠٦ ، ٢١٧ ، ٢٨٠
الكرام ٢٨٢
الكلّ ١٤٥ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٣٥٢
الكمّل ١٦ ، ١١٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ ،
٣٩٧
المتأخّرون ١١٥ ، ٣٢٤ ، ٤٠٣ ، ٤٤٧ ،
٤٤٨ ، ٤٦٥ ، ٤٩١
المتألّهة (ـ المتألّهون) ٢٠ ، ٤٣٩
المتكثّرون للعلم الحصولي ٣٤٥
المتكلّمون (ـ المتكلّم / الكلامية /
الكلاميون) ٢ ، ١٠٨ ، ١٦٥ ، ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٦٩ ، ٢١٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧ ،
٢٣٥ ، ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، ٢٨٧ ، ٣٢٨ ، ٣٣٥ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨ ، ٣٤٣ ، ٣٤٦ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤ ،
٣٧٤ ، ٤٦٨ ، ٤٧٨ ، ٤٧٩ ، ٤٨٨
المحدّديون ١٣٤
المحصّلون ٣٦ ، ٧٧ ، ١٣٦ ، ٤٧٣
المحقّقون ١٠ ، ١٩ ، ١٧٤ ، ٢٢٥ ، ٢٢٨
، ٣٠٩
المخلصون ٧٤
المسلمون ٣٥٣
المشّاءون (ـ المشّائية) ٢ ، ٢٤ ، ٢٦
، ٧٧ ، ١١١ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٩٣ ، ١٩٧ ، ٢١١ ، ٢٢٨ ، ٢٣٠ ، ٣٢٣ ، ٣٣٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٥
، ٤١١ ، ٤١٢ ، ٤١٣ ، ٤٢٠ ، ٤٣٤ ، ٤٣٧ ، ٤٣٩
المشاهدون بعين الظاهر ١٣٤
|
مشايخنا الإمامية ٣٥٤
المعتزلة ٧٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥
، ٢٢٧ ، ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٤٣ ، ٣٥٢ ، ٣٥٤
المعصومون (ـ الحجج) ٢٩٣ ، ٤٧٣
المفوّضة ١١٤
المقرّبون ٣٧٣ ، ٣٨٠ ، ٣٨٢
الملائكة ٢٨٠ ، ٤٣٩
الملاحدة ١١٤
|
|
الملّة ٣٩١
الملّيّون ٣٣٤ ، ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٤٣ ،
٣٤٧ ، ٣٥٣ ، ٤٧٢ ، ٤٧٧ ، ٤٩١
الموحّدون (ـ الموحّد) ١١٩ ، ١٢٢ ،
٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٤٨٠
النبوّة الأولى ٤٣٨
النصارى ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٨
|
٦. كتابها
أثولوجيا ٣٢٥ ،
٤٤٠ ، ٤٤٩ ، ٤٥٠ ، ٤٥١ ، ٤٦٠ ، ٤٦١ ، ٤٦٢ ، ٤٦٣ ، ٤٨٤
الإشارات ٢٣٥ ،
٢٦٣
تجريد الاعتقاد
٣٠٤ ، ٣٥٤
التحصيل ١١ ، ١٩
، ٢٦٣
التعليقات ١٣٧ ،
٢٩٢ ، ٣٤٩
التوحيد ٤٨٠
جامع الأفكار
٢٣٦ ، ٤٧٥
الجمع بين
الرأيين ٤٦٥
حكمة الإشراق
١٩٨ ، ٤١٥ ، ٤٢١ ، ٤٣٠ ، ٤٣٤ ، ٤٤٠ ، ٤٤١ ، ٤٤٢
|
|
الشجرة الإلهية
٤٠٣
شرح الإشارات
٣٠٤
شرح رسالة العلم
٣٠٥ ، ٣٥٤ ، ٤٨٩
الشفاء ٩
الصحيفة ٢٩٣
قرّة العيون ١٣٠
، ٢١٨
اللمعات العرشية
٢
المبدأ والمعاد
٣٤٨
نهج البلاغة ٤٨٠
هياكل النور ٢٦٣
، ٤١٥ ، ٤٢١ ، ٤٣٩ ، ٤٤٣
|
٧. منابع ومآخذ
قرآن مجيد ؛ ترجمه
دكتر ابو القاسم امامى ؛ تهران : انتشارات اسوه ، چاپ أوّل ، ١٣٧٧ ش.
نهج البلاغة ؛
ترجمه دكتر سيّد جعفر شهيدى ؛ چاپ هفتم ؛ تهران : شركت انتشارات علمى وفرهنگى ،
١٣٧٤ ش.
١. أثولوجيا ؛
فلوطين ؛ تحقيق عبد الرحمن بدوى ؛ الطبعة الأولى ؛ قم : انتشارات بيدار ، ١٤١٣ ق.
٢. الإشارات
والتنبيهات ؛ شيخ الرئيس ابن سينا ؛ الطبع الثانى ؛ دفتر نشر الكتاب ، ١٤٠٣ ق.
٣. انيس الموحّدين
؛ ملّا محمّد مهدى نراقى ؛ تصحيح وپاورقى شهيد آيت الله قاضى طباطبايى ؛ چاپ دوّم
؛ تهران انتشارات الزهراء ، ١٣٦٩ ش.
٤. بحار الأنوار ؛
الشيخ محمّد باقر المجلسى ؛ الطبعة الثانية ؛ بيروت : مؤسّسة الوفاء ، ١٩٨٣ م.
٥. تاريخ حكماء
وعرفاء متأخّر بر صدر المتألّهين ؛ منوچهر صدوقى سها ؛ تهران : انتشارات انجمن
اسلامى حكمت وفلسفه ايران ، ١٣٥٩ ش.
٦. التحصيل ؛
بهمنيار بن المرزبان ؛ تصحيح وتعليق مرتضى مطهّرى ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
دانشگاه تهران ، ١٣٤٩ ش.
٧. ترجمه وشرح
حكمة الإشراق ؛ سيّد جعفر سجّادى ؛ تهران : انتشارات دانشگاه تهران ، ١٣٦١ ش.
٨. ترجمه محبوب
القلوب ؛ مير سيّد احمد اردكانى ؛ تصحيح على اوجبى ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : سازمان
چاپ وانتشارات ١٣٧٩ ش.
٩. التعليقات ؛
الشيخ الرئيس ابن سينا ؛ مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى حوزه علميه قم ، ١٣٧٩
ش.
١٠. تقويم الإيمان
؛ مير محمّد باقر داماد الحسينى ؛ حقّقه وقدّم له على اوجبى ؛ الطبعة الأولى ؛
تهران : مركز نشر ميراث مكتوب ، ١٣٧٦ ش.
١١. التوحيد ؛ شيخ
صدوق ، تهران : كتابخانه صدوق ، ١٣٨٥ ق.
١٢. الجمع بين
رأيى الحكيمين ؛ ابو نصر الفارابى ؛ تحقيق الدكتور البير نصرى نادر ؛ الطبعة
الثانية ؛ تهران : انتشارات الزهراء ، ١٤٠٥ ق.
١٣. الحكمة
المتعالية ؛ صدر الدين شيرازى ؛ الطبعة الثالثة ؛ بيروت : دار إحياء التراث العربى
، ١٩٨١ م.
١٤. الخصال ؛
الشيخ الصدوق ؛ تحقيق على أكبر الغفّارى ؛ قم : مؤسّسة النشر الإسلامى.
١٥. دائرة المعارف
بزرگ اسلامى ؛ زير نظر كاظم موسوى بجنوردى ؛ تهران ، ١٣٦٧ ش.
١٦. دائرة المعارف
فارسى ؛ به سرپرستى غلامحسين مصاحب ؛ تهران : شركت سهامى كتابهاى جيبى ، ١٣٥٦ ش.
١٧. الذريعة إلى
تصانيف الشيعة ؛ الشيخ آقا بزرگ الطهرانى ؛ الطبعة الثالثة ؛ بيروت : دار الأضواء
، ١٤٠٣ ق.
١٨. روضات الجنّات
؛ محمّد باقر خوانسارى ؛ قم : مؤسّسه اسماعيليان ، ١٤٠١ ق.
١٩. رياض العلماء
؛ ميرزا عبد الله افندى اصفهانى ؛ تحقيق سيّد احمد الحسينى ؛ قم : مطبعة الخيّام ،
١٤٠١ ق.
٢٠. ريحانة الأدب
؛ محمّد على مدرّس تبريزى ؛ چاپ چهارم ؛ تهران : انتشارات خيّام ، ١٣٧٤ ش.
٢١. شرح الإلهيات
من كتاب الشفاء ؛ باهتمام دكتر مهدى محقّق ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : مؤسّسه مطالعات
اسلامى ، ١٣٦٥ ش.
٢٢. شرح حكمة
الإشراق ؛ قطب الدين شيرازى ؛ باهتمام مهدى محقّق وعبد الله نورانى ؛ چاپ أوّل ؛
تهران : مؤسّسه مطالعات اسلامى ، ١٣٨٠ ش ..
٢٣. شرح فصوص
الحكمة ؛ محمّد تقى استرآبادى ؛ به اهتمام محمّد تقى دانش پژوه ، چاپ أوّل ، تهران
: مؤسّسه مطالعات اسلامى ، ١٣٥٨ ش.
٢٤. شرح المقاصد ؛
سعد الدين تفتازانى ؛ تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة ؛ الطبعة الأولى ؛ بيروت :
عالم الكتب ، ١٣٩٨ م.
٢٥. شرح المنظومة
؛ حاج ملّا هادى سبزوارى ؛ قم : انتشارات دار العلم.
٢٦. شرح المواقف
فى الكلام ؛ مير سيّد شريف الجرجانى ؛ مصر : محمّد افندى ، ١٣٢٥ ق.
٢٧. الشفاء ؛ ابن
سينا ؛ قم : منشورات مكتبة آية الله المرعشى ، ١٤٠٤ ق.
٢٨. الصحاح ؛
اسماعيل بن حمّاد الجوهرى ؛ تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
اميرى ، ١٣٦٨ ش.
٢٩. عوالى اللئالى
؛ ابن أبى الجمهور الأحسائى ؛ تحقيق مجتبى العراقى ؛ قم : ١٤٠٣ ق.
٣٠. عيون أخبار
الرضا عليهالسلام ؛ شيخ صدوق ابن بابويه ؛ ترجمه وتصحيح على اكبر غفّارى ؛
چاپ أوّل ؛ تهران : نشر صدوق ، ١٣٧٣ ش.
٣١. غرر الحكم
ودرر الكلم ؛ عبد الواحد بن محمّد تميمى آمدى ؛ شارح جمال الدين محمّد خوانسارى ؛
مقدمه وتصحيح وتعليق مير جلال الدين حسينى ارموى «محدّث» ؛ تهران : مؤسّسه
انتشارات وچاپ دانشگاه تهران ، ١٣٧٣ ش.
٣٢. فهرست الفبايى
كتب خطّى كتابخانه مركزى آستان قدس رضوى ؛ محمّد آصف فكرت ؛ چاپ أوّل ؛ مشهد :
انتشارات آستان قدس رضوى ، ١٣٦٩ ش.
٣٣. فهرست
ميكروفيلمهاى كتابخانه مركزى دانشگاه تهران ؛ محمّد تقى دانش پژوه ؛ چاپ أوّل ؛
تهران : انتشارات دانشگاه تهران ، ١٣٤٨ ش.
٣٤. فهرست نسخه
هاى خطّى دانشكده حقوق دانشگاه تهران ؛ نگارش محمّد تقى دانش پژوه ؛ چاپ أوّل ؛
تهران : انتشارات دانشگاه تهران.
٣٥. فهرست نسخه
هاى خطّى فارسى ؛ احمد منزوى ؛ تهران : مؤسّسه فرهنگى منطقه اى.
٣٦. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه آيت الله روضاتى ؛ محمّد على روضاتى ؛ اصفهان : نفائس المخطوطات
، ١٣٤١ ش.
٣٧. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه دانشكده إلهيّات ومعارف اسلامى دانشگاه تهران ؛ گردآورى وتنظيم
سيّد محمّد باقر حجّتى با تحقيق ونظارت محمّد تقى دانش پژوه ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
دانشگاه تهران ، ١٣٤٥ ش.
٣٨. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه عمومى آيت الله مرعشى ؛ نگارش سيّد احمد حسينى ؛ چاپ دوّم ؛ قم.
٣٩. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه عمومى اصفهان ؛ تهيه وتنظيم جواد مقصود همدانى ؛ چاپ أوّل ؛
تهران : آبان ١٣٤٩ ش.
٤٠. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى ؛ عبد الحسين حائرى ؛ چاپ أوّل ؛ تهران :
چاپخانه مجلس ، ١٣٥٥ ش.
٤١. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه مدرسه سپهسالار ؛ محمّد تقى دانش پژوه وعلى نقى منزوى ؛ تهران :
انتشارات دانشگاه تهران.
٤٢. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه مركزى دانشگاه تهران ؛ محمّد تقى دانش پژوه ، چاپ أوّل ؛ تهران
: انتشارات دانشگاه تهران ، ١٣٣٩ ش.
٤٣. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه ملّى ملك ؛ زير نظر وتأليف ايرج افشار ومحمّد تقى دانش پژوه.
٤٤. فهرست نسخه
هاى خطّى كتابخانه وزيرى يزد ؛ نگارش محمّد شيروانى.
٤٥. فهرستواره
نسخه هاى خطّى مجموعه مشكاة ؛ تنظيم محمّد شيروانى ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
كتابخانه مركزى ومركز اسناد شماره ١١ ، ١٣٥٥ ش.
٤٦. القاموس
المحيط ؛ مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي ؛ تحقيق مكتب تحقيق التراث فى
مؤسّسة الرسالة ؛ الطبعة الثالثة ؛ بيروت : مؤسّسة الرسالة ، ١٩٩٣ م.
٤٧. القرّة العيون
؛ ملّا محمّد مهدى نراقى ؛ تعليق وتصحيح ومقدّمه سيّد جلال الدين آشتيانى ؛ تهران
: انتشارات انجمن حكمت وفلسفه ايران ، ١٣٥٧ ش.
٤٨. الكافى ؛
محمّد بن يعقوب الكلينى ؛ تهران : دار الكتب الإسلامية ، ١٣٨١ ق.
٤٩. كشف الظنون عن
أسامى الكتب والفنون ؛ حاجى خليفه ؛ بيروت : دار الفكر ، ١٩٨٢ م.
٥٠. كمال الدين
وتمام النعمة ؛ محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه (شيخ صدوق) ؛ قم : مؤسسة النشر
الإسلامى ، ١٤٠٥ ق.
٥١. لغتنامه ؛ على
اكبر دهخدا ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات دانشگاه تهران ، ١٣٧٣ ش.
٥٢. اللمعة
الإلهية والكلمات الوجيزة ؛ ملّا محمّد مهدى نراقى ؛ تعليق وتصحيح ومقدّمه سيّد
جلال الدين آشتيانى ؛ تهران : انتشارات انجمن حكمت وفلسفه ايران ، ١٣٥٧ ش.
٥٣. المباحث
المشرقية ؛ الفخر الرازى ؛ الطبعة الثانية ؛ قم : انتشارات بيدار ، ١٤١١ ق.
٥٤. المبدأ
والمعاد ؛ ابن سينا ؛ تحقيق عبد الله نورانى ؛ تهران : مؤسّسه مطالعات اسلامى ،
١٣٦٣ ش.
٥٥. المبدأ
والمعاد ؛ صدر الدين محمّد بن ابراهيم الشيرازى ؛ مقدّمه وتصحيح سيّد جلال الدين
آشتيانى ؛ تهران : انتشارات انجمن حكمت وفلسفه ايران ، ١٣٥٤ ش.
٥٦. مثنوى معنوى ؛
جلال الدين محمّد بن الحسينى البلخى ثمّ الرومى ؛ تصحيح رينولد نيكلسون ؛ به
اهتمام دكتر نصر الله پورجوادى ؛ تهران : مؤسّسه انتشارات امير كبير ؛ چاپ دوّم ،
١٣٧٣ ش.
٥٧. مجمع الأمثال
؛ أبو الفضل أحمد بن محمّد النيسابورى ؛ بيروت : دار مكتبة الحياة ، ١٣٩٥ م.
٥٨. مجموعه
مصنّفات شيخ اشراق ؛ تصحيح سيّد حسين نصر ؛ چاپ دوّم ؛ تهران : مؤسّسه مطالعات
وتحقيقات فرهنگى ، ١٣٧٢ ش.
٥٩. مستدرك
الوسائل ؛ شيخ حسين نورى ؛ قم : مؤسّسة آل البيت عليهالسلام لإحياء التراث ، چاپ أوّل ، ١٤١٥ ق.
٦٠. معانى الأخبار
؛ الشيخ الصدوق ؛ تحقيق على أكبر الغفّارى ؛ قم : مؤسّسة النشر الإسلامى ، ١٣٧٤ ش.
٦١. المعجم الفقهى
؛ لوح فشرده ؛ الإصدار الثالث ؛ قم : مركز المعجم الفقهى ، ١٤٢١ ق.
٦٢. معجم المفهرس
لألفاظ أحاديث بحار الأنوار ؛ زير نظر على رضا برازش ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
وزارت فرهنگ وارشاد اسلامى ، ١٣٧٢ ش.
٦٣. معجم المفهرس
لألفاظ أحاديث الكتب الأربعة ؛ زير نظر على رضا برازش ؛ چاپ أوّل ؛ تهران : انتشارات
احياء كتاب ، ١٣٧٣ ش.
٦٤. المعجم
المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ؛ محمّد فؤاد عبد الباقى ؛ بيروت : دار إحياء التراث
العربى.
الثالثة ؛ بيروت :
دار المعرفة ، ١٩٩٣ م.
٦٥. منتخباتى از
آثار حكماى إلهى ايران ؛ تهيه وتحقيق سيّد جلال الدين آشتيانى ؛ چاپ دوّم ؛ قم : انتشارات
دفتر تبليغات اسلامى ، ١٣٦٣ ش.
٦٦. من لا يحضره
الفقيه ؛ أبو جعفر الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمى ؛ تصحيح على
اكبر الغفّارى ؛ قم : جماعة المدرسين فى الحوزة العلمية ، ١٣٦٣ ش.
٦٧. المواقف فى
علم الكلام ؛ عبد الرحمن الإيجى ؛ بيروت : عالم الكتب.
٦٨. وسائل الشيعة
؛ محمّد بن الحسن الحرّ العاملى ؛ قم : مؤسّسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ، ١٣٧٢ ش.
٦٩. هياكل النور ؛
شهاب الدين يحيى سهروردى ؛ تصحيح ومقدّمه محمّد كريمى زنجانى اصل ؛ چاپ أوّل ؛
تهران : نشر نقطه ، ١٣٧٩ ش.
|