
بسم الله الرحمن
الرّحيم
نحمدك اللهم يا من
أتقن بحكمته صنائع الملك والملكوت وأحكمها اصولا وفروعا ، وثناء عليك يا من فطر
العقول من عوالم الجبروت ثم بهرها بعالم الشهادة فضلا عن عوالم الغيب بما ابدع فيه
من دقائق الحكم المرتبة فصولا ففصولا ، وأشرف تحياتك وتسليماتك على أشرف صحفك
البارعة ونسخك الجامعة التي فرت بها مشكلات متن الوجوب ، وجمعت فيها بين كتاب
التدوين والتكوين وفرقت بها بين الحق والباطل والكفر والإيمان ، فهي على ميزان
الجمع والتفرقة قرآن وفرقان : محمد وآله الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين ولعنة
الله على أعدائهم الى يوم الدين.
وبعد : فقد شرّفت
خواطرى ، وكرمت نواظرى بمطالعة هذه التعليقة الأنيقة ، لا بل هي اللآلئ المكنونة
والدراري المصونة ، التي قذف بها لجي خاطر مولانا وعمادنا وشيخنا واستادنا قدوة
الحكماء الراسخين ، واسوة العرفاء الشامخين ، عيلم العلماء المحققين ، وانموذج
الفقهاء والمجتهدين المتطلع في العلوم المحمدية ، الجامع لشتات الفنون العقلية
والنقلية ، المنيب الأواه ، المستقر في بحار معرفة الله عما دب محار المتهجدين ،
وأبو ذري منابر المجتهدين شعر وأنحاء القول فيه : علم عيلم ، ضرب الزجاج لنور الله
في المثل ، الشيخ الأوحد الأمجد شيخنا الحاج الشيخ أحمد الشيرازي مولدا النجفي
مهاجرة ومسكنا ، عمر الله به من مدارس العلوم دوارسها ، واثمر بتحقيقاته من أصول
التحقيق مغارسها.
وقد علق ـ دام ظله
ـ هذه التعليقة الشريفة على الفصول ، التي وقفت دون مشكلاتها أذهان جملة من الفحول
، ولم يتهيأ لجل المحصلين الى تحصيل اكثر مطالبها الوصول ، وكانت احوج كتاب الى
حاشية تكشف عن وجوه مخدراته النقاب ، وتعليقة ترفع عن محاسن غامضاته الحجاب ،
لإحكام مبانية ودقة معانيه ، وابتناء جملة من مطالبه على علم عزيز الحصول ، ومن
جهل الأكثر به وقصور جم عن نيله عاد بينهم مطروحا في زوايا الخمول
ولكن لا غرو في
ذلك عليه ، فان نسبتهم اليه كضراء الحسناء قلن لوجهها حسدا وبغيا «انه لذميم» ،
وهو ـ دام ظله ـ رباني تلك العلوم ، وفرداني هاتيك المعالم والرسوم ، عمادها بل
عميدها ، وواحدها بل وحيدها.
ولما لم يتفق الى
الآن من يعطي هذا الكتاب حقه ، ولا يتيسر لأوحدي من الناس من يجمع رتقه وفتقه
انتدب ذلك الجناب بهمة تسهل عندها الصعاب ، فحل رموزه وفتح كنوزه ، وسهل مصادره
وموارده ، واستخرج ذخائره وفوائده ، وأبان الحق له وعليه ، وتصدى لنصول المعارضة
والإيرادات فدفعها عنه بكلتي يديه.
وكان اشتغاله
بتحبير ذلك التحرير المروزي بتطريز نسايج الحرير أيام تدريسه ذلك الكتاب على حوزة
من أفاضل الطلاب في المدرسة الفتحية المشرفة بجوار صحن الروضة الحيدرية ـ على
مشرفها آلاف الثناء والتحية ـ فجاءت بحمد الله تعالى وحسن توفيقه بأحسن مما كانت
ترتجيه الآمال ، وفوق ما كان نفوس الطلاب تطلبه بلسان الحال والمقال ، ينتفع
ويرتفع بها المنتهى والمبتدي ، ويغترف ويقتطف من بحارها وأزهارها المجتني والمجتدي
فحق لذي الطبائع
السليمة والمطابع لو طبعتها بسواد إنسان العيون على الأبصار والمسامع ، وقل لمبتغي
الدقائق وطلاب الحقائق لو اتخذوا مراجعتها ورودا ، وصيروها روضة يستشفون من
مضامينها رياضيا وورودا
فلعمر الله لقد
أبدع فيما أودع ، وأبهر فيما أظهر ، واغرب عما اعرب وأنصف فيما صنف ، واجاد وزاد
فيما أفاد.
وله ـ دام ظله ـ رسالة
أنيقة تتضمن تحقيق مسألة رشيقة ، هي مسألة جواز دفع الخمس الى المنتسب الى هاشم
بالأم ، وهي مسألة بافرادها بالبحث عنها حقيقة ، وقد تجاوز فيها من قنطرة المجاز
الى الحقيقة ، وسماها (قسطاط القسط في إحقاق حق السبط) ، وكان القول بالجواز عنده
هو الجيد ، ولا غرو فسيد الأقوال قول السيد.
فنسأل الله تعالى
أن يديمه علم هداية الأنام ، ورافع راية التحقيق في شرايع الاسلام ، بمحمد صلىاللهعليهوآله الكرام ، صلوات الله عليهم الى يوم القيام ، وحمد الله هو
المبدأ والختام.
حرره بيده الفانية
الخاطئة راقم برده وناظم عقده مؤسّسه ومنتهيه المذنب الخاطئ محمد حسين بن الشيخ
على آل موسى بن جعفر كاشف الغطاء
قد تم بحمد الله
الملك المنان سلخ جمادي الآخرة سنة ١٣٢٤ ه.
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد
الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله
على أعدائهم اجمعين ، الى قيام يوم الدين.
قوله
«قده» : وذكر نبذة من مباديه اللغوية.
اعلم أن المبادئ
هي ما يبتنى عليه العلم ، وهو إما تصورات وإما تصديقات :
أما التصورات فهي
حدود اشياء تستعمل فيه ، وهي إما موضوعه وإما جزء من موضوعه وإما جزئي تحت موضوعه
وإما عرض ذاتى لموضوعه ، وهذه الاشياء إما أن يكون التصديق بوجودها وابنيتها مقدما
على العلم كالموضوع وما يدخل فيه من الجزء والجزئي ، وإما أن يكون التصديق بوجودها
وابنيتها إنما يحصل في العلم نفسه ، كالأعراض الذاتية للموضوع
فحدود القسم الأول
بحسب الماهية ويكون جواب ما الحقيقية ، إذ هي بعد الفراغ عن التحقق والوجود ،
وحدود القسم الثاني ـ اذا حدد بها وذكرت على سبيل المبدأ التصورية ـ كانت بحسب
الأسماء وشروحا لفظية وحدودا اسمية وجواب ما الشارحة الذي يقال له بالفارسية «پاسخ
پرسش نخستين» ، اذ بعد لم يتحقق وجود القسم الثاني هلية البسيطة ، بل علم تحققه
ووجوده في العلم لا قبله ، ويمكن أن تصير تلك الحدود بعد العلم بوجود القسم الثاني
حدودا حقيقية وجوابا لما الحقيقية كما لا يخفى.
وأما التصديقات
فهي المقدمات التي تؤلف منها أقيسة العلم ، وهي إما بينة وإما مأخوذة ببينة ،
والقسم الأول يجب قبوله ويسمى بالعلوم المتعارفة ، وهي مبادئ على الاطلاق. والقسم
الثاني يجب تسليمه ليبتنى عليه ، ومن شأنه أن يبين في علم آخر ، فيكون من المقاصد
والمسائل لذلك العلم الآخر ومن المبادئ لهذا العلم المبنى عليه.
وهذه المبادئ
المأخوذة إن كان تسليمها مع مسامحة ما وعلى حسن الظن بالعلم والمعلم سميت «أصولا
موضوعة» ، وإن كان مع استنكار وتشكيك تسمى «مصادرة» ، وقد تكون مقدمة واحدة أصولا
موضوعة عند شخص ومصادرة عند شخص آخر وتسمى «الحدود» والواجب تسليمها «أوضاعا».
ثم المبادئ مطلقا
إما عامة أو خاصة ، فالمبادئ التصورية العامة من الاجناس والأعراض العامة ،
والمبادئ التصورية الخاصة هي الفصول والخواص ، والمبادئ التصديقية الخاصة مثل
قضايا مخصوصة لها خصوصيات بمطالب مخصوصة ، والمبادئ التصديقية العامة المشتركة
بخلافها ، مثل أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا اكثر شركة واشمل عموما
وسعة في المبادئ التصديقية ، حتى يقال لها «مبدأ المبادئ وأول الأوائل في الأزمان».
ومعلوم أن استنتاج
جميع المطالب موقوف عليه ، إذ الاستدلال على المطلوب والنتيجة إما بالقياس
المستقيم وإما بالقياس الخلفي ، ففي الأول اذا ثبت المطلوب فما لم يلحظ استحالة
اجتماع النقيضين لم يتم المرام ، لجواز أن يكون نقيض النتيجة ايضا حقا مع قطع
النظر عن استحالة اجتماع النقيضين ، وفى الثاني اذا بطل نقيض النتيجة جاز أن تكون
النتيجة أيضا باطلة مع قطع النظر عن امتناع ارتفاع النقيضين ، ومع ملاحظته تكون
النتيجة حقا فيتم المرام.
فاذا تقرر ما
ذكرنا فنقول : مراده ـ قدسسره ـ بالمبادئ
اللغوية المبادئ التصورية ، إذ ذكر ـ قدسسره ـ في هذه المقدمة
حدود الكلي والجزئي والمشترك والمترادف والحقيقة والمجاز ، وهي حدود الأعراض
الذاتية. ويحتمل على بعد أن يكون مراده المبادئ التصديقية ، وكون تلك الحدود
تصديقات باعتبار
حملها على محدوداتها والاذعان الحاصل منها.
ووجه نسبة هذه
المبادئ الى اللغة في قوله «المبادئ اللغوية» هو تعلق هذه المبادئ باللغة
وارتباطها بها ، لا كونها من المسائل المعنونة في كتب اللغة وفنها ومقاصدها ـ كما
هو ظاهر غير خفي.
ومراده «قده» من
اللغة التي هي منسوب اليها إما اللغة بالمعنى الأخص المقابل للعرف العام والخاص
وإما بالمعنى الاعم الشامل لهما ، وعلى الأول فيعلم حال العرفين بالمقايسة بخلاف
الثاني. ولا يخفى أن الثانى أنسب بالمقام.
قوله
: وربما يذكر فيها بعض ... الخ
وجه الاستطراد هو
أنه لما جرى ذكر الحقيقة والمجاز وبيان مفهومهما ناسب أن يبحث في أن لهذين
المفهومين مصداقا بالنسبة الى الشرع ام لا؟
وبعبارة اخرى :
بعد وضوح مفهومهما ينبغي أن يلاحظ هل لهما تحقق ووجود بحسب الشرع ، فذكر مباحث
الحقيقة الشرعية فاستتبعت مباحث الصحيح والأعم كما هو واضح.
وأما مباحث استعمال
اللفظ في اكثر من معنى فوجه الاستطراد فيها هو أن الكلام راجع الى أن هذين
المفهومين هل يقعان ويتحققان في صورة الاجتماع أم لا؟
وأما مباحث المشتق
فلما لم تكن طويلة الذيل متفننة المسائل متشعبة الفروع كمباحث الأوامر والنواهي
والعام والخاص وغيرها حتى تستقل بعنوان ، فناسب أن تذكر في المقدمة ـ فافهم.
قوله
: فسيأتي بيانه في موضوعه.
يعني في مباحث
الاجتهاد والتقليد عند ذكر الشروط والامور التي يتوقف الاجتهاد عليها.
قوله
«قده» : وكأن هذا مراد من فسره بأسفل الشيء.
المفسر هو
الفيروزآبادي صاحب القاموس ، ووجه التعبير بلفظ كأن الدال على التحير والترديد هو
أنه يحتمل أن يكون مراد الفيروزآبادي معنى أعم مما فسره به «قده» لأنه قد يقال
أسفل الشىء وإن لم يكن فيه ابتناء اصلا ، كما يقال «أسفل الوادي» ، وليس فيه
ابتناء لا حسا وهو ظاهر ولا عقلا لان اسفل الوادى وأعلاه متساويان في المقومية
للوادي وعدمها ، ولا يكون الأسفل موقوفا عليه والأعلى موقوفا.
قوله
«قده» : ومن فسره بالقاعدة التي ... الخ
معطوف على قوله «من
فسره بأسفل الشيء» فيكون مدخولا لكلمة كأن الدالة على التحير ، ويكون وجه التعبير
بها هو ان المراد بالابتناء ان كان أعم من الحسي والعقلي وبالقاعدة هي اساس
البنيان العقلي والحسي الذي يسمى بالفارسية «شالوده» او كان المراد بالابتناء هو
خصوص الحسي وبالقاعدة أعم لم يكن الحدان متساويين متوافقين. نعم ان أخذا على نهج
واحد بحسب العموم والخصوص تساويا وتوافقا.
قوله
: وقد يطلق ويراد به معنى السابق.
الظاهر أنه أراد
السابق بالسبق الزماني الشامل لسبق الزمانيات بعضها على بعض وسبق أجزاء الزمان
بعضها على بعض ، لوضوح أن المثالين
الأولين من قبيل
الاول والاخيرين من قبيل الاخير.
قوله
«قده» : وليس بنيا على المعنى السابق.
يعني ليس هذا
المعنى وهو السابق راجعا الى المعنى الذي سبق ذكره وهو ما يبتنى عليه الشيء.
قوله
: إذ لا يفهم منه معنى البناء.
وجه حصول معنى
البناء فى الاول دون الاخير هو أنه في الاول حركة استكمالية طولية ، ولا ريب في ان
فى الاستكماليات لهسا ثم لبسا وربحا ثم ربحا لا؟؟؟؟ لبس وخلع وربح وخسران ،
فالكمال اللاحق والصورة اللاحقة تبنى على الكمال السابق والصورة السابقة ، غاية
الامر تحذف عن الصورة السابقة نقصها. وهذا بخلافه في الاخير ، حيث أن بين البياض
والسواد مثلا تضادا وتقابلا وتخالفا ، فلا بد من زوال أحد الضدين في تحقق الضد
الآخر ، إذ عدم المانع شرط ، فليس القابل للضد الآخر الا المحل من حيث هو دون
المحل المتلبس بالضد ، لان القابل لا بد وأن يجتمع مع المقبول ، والمحل المتلبس مع
الضدين يستحيل أن يجتمع مع الضد الآخر وإلّا اجتمع فيه الضدان فلا يكون قابلا فلا
يكون مبنى فلم يحصل البناء وهو المطلوب.
وبهذا البيان
البرهانى ظهر اندفاع ما لعله يتوهم من حصول معنى البناء في الاخير أيضا ، بتقريب
أن المحل لا بد وأن يكون موجودا حتى يكون قابلا ، إذ الكلام في القابل الخارجي دون
القابل التحليلي التعملي العقلي ، ولا ريب في أن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ولا
ريب في أن الاعراض المكتنفة بالشيء إما أمارات التشخيص على ما هو الحق عندنا وإما
مشخصات على مذهب القوم فلا بد من اعتبارها في تشخص الشيء. فالبياض مثلا لا بد من
اعتباره في
المثال الاخير حتى
يكون المحل متشخصا موجودا متحققا ، فيصير قابلا للسواد مثلا ، فتحقق فيه البناء
وحصل.
وتوضيح الاندفاع
هو أن البياض ضد ومانع عن وجود السواد فكيف يكون مصححا لقبوله لتحققه؟
وأما تشخيص المحل
فليس بخصوص هذا البياض بل بمطلق الالوان والاعراض كما هو واضح ، إذ ليس المشخص
وامارة التشخص خصوص لون مثلا وإلّا بطل الشخص بكليته بتبدل ذلك اللون كما هو ظاهر ـ
فافهم فان فى المقام بعد كلاما لا يسع الوقت ذكره.
قوله
«قده» : لوجود العلاقة ...
وهى علاقة
المشابهة ، لان بين المعنى الحقيقي والمجازي مشابهة في كونها موقوفا عليه : أما في
المثالين الاولين فالامر ظاهر ، وأما في الأخير فلأن قولنا في الاصل فيهما بمعنى
الزمان السابق علة معدة لوجود الزمان اللاحق ، فيكون موقوفا عليه.
قوله
: يطلق غالبا ...
وجه التقييد
بالغلبة هو أنه قد يطلق الاصل على الكتاب فيقال له أصل أي كتاب ، وقد يطلق على اصل
العدم عند عدم الدليل إن جعل أصلا مستقلا على حدة.
قوله
«قده» : واحترز به عن فهم غيره.
يعني احترز بقوله «عن
غرض المتكلم» عن فهم غير غرض المتكلم من مطالب أخر ومقاصد أخرى.
قوله
«قده» : وفهمه بغير كلامه.
يعني احترز بقوله «من
كلامه» عن فهم غرض المتكلم لا من كلامه بل من قرائن حالية مقامية وقرائن اخرى
خارجة.
قوله
«قده» : وكأن هذا مراد من فسره.
وجه التعبير بلفظ
كأن الدال على التحير والتردد هو أن قول المفسر بأنه هيئة ... الخ يحتمل وجهين :
(الأول) ـ أن يكون
مراده بالمعاني مقابل الصورة. وبعبارة أخرى أن يكون مراده بالمعاني المعاني
الجزئية المدركة للوهم والعقل المقيد والمضاف والمحبة الجزئية والعداوة الجزئية
وغيرها ، ومراده بما تحس الصور الجزئية المحسوسة بالحواس الظاهرة بل الحس المشترك
المسمى ببنطاسيا والهيئة باصطلاح المشائين بمعنى العرض في لسان الاشراقيين ، فيكون
حاصل التفسير هو أن الادراك هيئة نفسانية وكيف نفسانى بها يتحقق ويدرك وينال
المعاني الجزئية المتعلقة بالصورة المحسوسة الجزئية كمحبة زيد وعداوة عمرو ، فعلى
هذا يكون الفهم أخص من الادراك ويكون نحوا خاصا من الادراك
ويحتمل أن يكون
مراده بالمعاني المدرك بالذات مقابل المدرك بالعرض ويكون المراد بما تحس المدرك
بالعرض ، فيكون مساويا للادراك.
وبيان ذلك : هو أن
المدرك إما أن يدرك بالذات وإما أن يدرك بالعرض ، والمدرك بالذات هو الذي لا يدرك
بصورة زائدة بل يدرك بنفسه كالصورة الحاصلة لانفسنا حيث انها لا تحتاج في إدراكها
الى صورة اخرى والمدرك بالعرض هو الصورة الحاصلة في الخارج المنغمرة في المواد
الموجبة للجهل والاحتجاب ، ولا بد في إدراكها من نزع الصورة عن المادة
وتجريدها عنها
لتحصل لها وجود نوري فيحصل العلم والانكشاف ، فعلى هذا يكون المعنى : هيئة نفسانية
بها تنال المدركات بالذات الشاملة للمعاني والصور كما هو واضح.
ولا يذهب عليك ان
تلك المدركات بالذات وإن كانت عين العلم وبعبارة أخرى تلك المعاني وإن كانت عين
تلك الهيئة النفسانية ذاتا ، حيث أن العلم والمعلوم والادراك والمدرك متحدان ذاتا
إلّا انه يكفى التعدد الاعتباري ، اذ لا يخفى ان تلك الهيئة إن لوحظت كونها
انكشافا فتكون علما ، وان لوحظت كونها منكشفا بلا حاجة الى صورة زائدة وهيئة أخرى
تكون معلوما ـ فافهم بعون الله وحسن تأييده.
قوله
«قده» : وكأن هذا مراد من فسره بسرعة ـ الخ
المقصود من
المبادئ المقدمات ومن المطالب النتائج ، ووجه التعبير بلفظ كأن واضح ، اذ ظاهر
الحدين متغايران ، كما اعترف به «قده» ، مضافا الى أن الحد الأول لم تؤخذ فيه
السرعة ، بل المأخوذ فيه اعم من أن يكون على وجه السرعة أو غيرها كما لا يخفى.
قوله
«قده» : وقد ضعف الاول.
مراده من الأول هو
التفسير بمطلق الادراك ، ومن الثانى هو التفسير بجودة الذهن.
قوله
«قده» : بل هو حقيقة فى عرفهم ممنوع.
بل لعل الاستعمال
في الاعم يكون مجازا بمعونة القرينة ، كما فى قولهم «العلم إن كان إذعانا للنسبة
فهو تصديق وإلّا فتصور» ، وكما في قولهم «الحد والقول الشارح موجب للعلم بالمحدود».
قوله
«قده» : إلّا أنه مجاز باعتبار العرف واللغة ...
إن كان استدراكا
عن قوله «متداولا» فلا يخفى بعده لفظا ومعنى أما بعده لفظا فواضح ، وأما بعده معنى
بل عدم صحته فلأن المجازية عند العرف واللغة لا يكون منافيا لمطلق التداول في عرف
اهل الميزان بل ينافي التداول الحقيقي ، فلا يصح الاستدراك.
وإن كان استدراكا
عن قوله «بل هو حقيقة فى عرفهم» يصح لفظا ومعنى ، إلا أنه يبقى قوله «وإن كان
متداولا» بلا استدراك.
ولا يخفى عدم صحته
وسلاسته ، فحق العبارة أن يقول : وان كان متداولا على وجه الحقيقة في عرفهم إلا
أنه مجاز بحسب العرف العام واللغة كما هو واضح. وأما علاقة التجوز بحسبها فهي
علاقة العموم والخصوص ، حيث أنه استعمل العلم الموضوع للادراك التصديقي وهو الخاص
في مطلق الادراك وهو العالم.
قوله
«قده» : كمجازية إطلاقه ـ الخ.
إن كان المطلق
عليه والمستعمل فيه خصوص الاعتقاد الظني فالمجاز مجاز استعاري علاقته المشابهة ،
إذ الاعتقاد الظني مشابه للاعتقاد الجزمي في كونه راجحا ، وان كان المطلق عليه
مطلق الاعتقاد فالمجاز مجاز إرسالي وعلاقته العموم والخصوص ، حيث استعمل اللفظ
الموضوع للخاص وهو الاعتقاد الجزمي في العام وهو مطلق الاعتقاد.
قوله
«قده» : وهو الظاهر.
ما استظهر ـ قدسسره ـ بالنسبة الى
انتفاء الأخير وهو المطابقة لو سلم بتقريب : ان العلم الغير المطابق للواقع ليس
بعلم ، إذ العلم هو
الانكشاف وليس فيه
انكشاف أصلا إذ ليس فيه منكشف بل هو جهل مركب ، فبصحة السلب يعلم أن لفظ «العلم»
مجاز في غير المطابق ، إلّا انه غير مسلم بالنسبة الى انتهاء الثابت ، اذ لا ريب
في انه لا يتبادر من لفظ العلم العلم الذي لا يزول به تشكيك المشكك ويكون ثابتا
حتى يكون علامة لكون اللفظ مجازا في غير الثابت ، حيث أن تبادر الغير علامة
المجازية. ولا شبهة في انه قلما يتفق في النظريات علم لا يمكن زواله بالتشكيك ،
فيلزم أن لا يكون غالب العلوم علما حقيقة.
ولا يذهب عليك أنه
بناء على المجازية في الغير الثابت والغير المطابق تكون العلاقة علاقة العموم
والخصوص ، حيث ان لفظ العلم موضوع لخصوص المطابق الثابت ، فاستعمل في الأعم ـ فافهم.
قوله
«قده» : وهي الهيئة الراسخة ـ الخ.
قد سلف منا أن
الهيئة في مصطلح المشائين هو العرض في لسان الاشراقيين ، والمراد منها هو العرض
الحاصل للنفس الذي يسمى بالكيف النفساني ، ومراتبه الكيفيات النفسانية الأربع : «الأولى»
الخطرة وهي التي تخطر بالبال وتذهب كالبرق. «والثانية» الحالة وهي التي تحل في النفس
ولا تذهب بسرعة إلا انه يسهل زوالها. «والثالثة» الملكة وهي التي تحل في النفس
وترسخ فيها بحيث يعسر زوالها. «والرابعة» الاستقامة وهي التي تكون حالة فى النفس
راسخة فيها بحيث يمتنع زوالها.
والمصنف «قده» فسر
الملكة بتفاسير ثلاثة : «الأول» الهيئة الراسخة الناشئة عن الممارسة فيما أضيف
اليه الملكة ، مثلا ملكة الفقه كيف نفساني وهيئة ترسخ في النفس ويكون رسوخها ناشئا
عن الممارسة
فى الفقه الذي
تضاف اليه الملكة فيقال ملكة الفقه مثلا. «والثاني» الهيئة الراسخة الناشئة وان لم
يكن رسوخها ناشئا عن الممارسة فيما أضيف اليه ، وهو المعني بقوله : مطلقا. «والثالث»
مطلق التهيؤ أي وان لم يكن راسخا ، فيكون قوله «مطلق التهيؤ» معطوفا على قوله «الهيئة
الراسخة».
ولا يذهب عليك أنه
إن كان المراد بالتهيؤ هو تهيؤ النفس بتلك الهيئة وتصورها بتلك الصورة. وبعبارة
اخرى كون تلك الهيئة والصورة حالة فيها حاصلة فلا ريب في فساده ، وإن أريد الحالة
مقابل الملكة لا أنها هي هي ـ كما هو مقتضى التحديد والتفسير وان كان المراد به
القوة والاستعداد والقابلية كما سيصرح به فيما سيأتي ـ فهو أوضح فسادا.
ولا ريب في أن
مجرد القابلية ليست ملكة ، وسيجيء بيان منشأ المغالطة إن شاء الله تعالى.
قوله
«قده» : بالغلبة أو النقل ...
أى بالوضع التخصصي
التعيني أو الوضع التخصصي التعييني كما هو ظاهر يحتمل رجوعه الى النقل ، يعني
الظاهر كون العلم حقيقة في الملكة على وجه النقل والوضع التعييني ، لكن ما استظهره
غير ظاهر بل ممنوع ، بل الظاهر بل المقطوع حصول الوضع التعيني.
ويحتمل رجوعه الى
قوله «لكنه حقيقة» يعني أن الظاهر حصول الحقيقة والوضع ، فيكون ما استظهره حقا ،
إلا أنه لا يخفى ما في هذا الاحتمال من البعد.
قوله
«قده» : وإطلاقه عليه مبنى ـ الخ.
يحتمل أن يكون مراده
أن اطلاقه على وجه الحقيقة مبني على اخذه بمعنى الإدراك. بتقريب : ان لفظ «العلم»
لم يوضع لخصوص التصور حتى يكون إطلاقه عليه على وجه الحقيقة ، بل وضع بحسب العرف
الخاص الميزاني لمطلق الإدراك ، فيكون إطلاقه على التصور حقيقة اذا كان من باب
الإطلاق والانطباق. ولكن فيه : ان الغرض ليس تعدد خصوص المعاني الحقيقية للعلم ،
والشاهد عليه ذكره «قده» في اطلاقات العلم اطلاقه على المسائل مع تردده «قده» كما
سيجيء في كون الإطلاق على وجه الحقيقة أو المجاز.
ويحتمل أن يكون
مراده أن مطلق إطلاقه على التصور مبني على أخذه بمعنى الإدراك. والتقريب هو : ان
التصور لا يمكن أن يكون معنى مجازيا للعلم بمعنى التصديق ، لعدم العلاقة ، فبقي أن
يكون مجازا له بمعنى الإدراك الذي هو موضوع له بحسب العرف الخاص الميزاني ، فيكون
استعماله في خصوص التصور مجازا لتحقق علاقة العموم والخصوص. ولكن فيه :
ان التجوز بالنسبة
الى العلم بمعنى التصديق ممكن لتحقق علاقة المشابهة ، حيث أن التصور يشابه التصديق
في كونه انكشافا ، فيكون استعمال اللفظ الموضوع للتصديق في التصور استعارة ـ فافهم.
قوله
«قده» : ولو بالقوة.
بيانه هو ان مسائل
كل علم هي قضايا واقعية أو محمولات منتسبة الى موضوعاتها بحسب الواقع وان لم
يعلمها عالم. مثلا : الفاعل مرفوع بحسب الواقع وان لم يدركها أحد. فمسائل كل علم
من شأنها أن تصير
معلومة ، فتكون
معلومات بالقوة ، فيكون اطلاق المعلوم عليها من باب علاقة الأول.
ولا يخفى أن هذا
يصير من باب سبك المجاز من المجاز ، حيث انه أطلق العلم على المعلوم ثم اطلق
المعلوم على ذات المعلوم وهو المعلوم بالقوة تأمل تنل.
قوله
: والظاهر أن هذا المعنى ... الخ.
يعنى أن اطلاق
العلم على التصديق بالاعتبار الأخير ـ أي المنع من النقيض ـ ثابت بحسب العرف
واللغة ، واستعمال الأحكام في التصديقات المانعة من النقيض شائع في العلوم ولا
سيما علم الميزان. ولكن الميزانيين كثيرا يستعملون الأحكام في التصديق بالمعنى
الأعم ، أي وإن لم يكن مانعا من النقيض.
قوله
«قده» : بعلاقة المجاورة أو الحلول.
بيانه هو أنه لا
ريب في أن الإذعان والتصديق متعلق بالنسب الحكمية وحالّ فيها ، فتكون العلاقة
علاقة الحلول ، وأما اطلاق الاحكام على المسائل فان أريد بالمسائل المحمولات
المنتسبة فلا ريب في أن الانتساب قيد خارج مجاور للمحمولات ويكون ذلك الانتساب
محلا للاذعان والتصديق فلا جرم تكون الاحكام بمعنى التصديقات التي هي حالة في
الانتساب الذي هو مجاور للمسائل مجاورة لها ، فتكون العلاقة علاقة المجاورة ، وان
كان المراد بالمسائل القضايا فتكون العلاقة علاقة الجزء والكل.
قوله
«قده» : ان اعتبرت من حيث انتسابها ـ الخ.
اذ من الواضح انه
لو لم يعتبر انتساب الوجوب الى شيء بل علم
الوجوب من غير
انتساب لم يكن فقها ، وهو واضح.
قوله
«قده» : ولا يصح حملها حينئذ على التصديقات.
مقصوده ـ قدسسره ـ أن الفقه هو
التصديقات الشرعية الحاصلة للمستنبط ، وأما الإدراك المتعلق بتلك التصديقات فليس
بفقه.
وبعبارة أخرى :
الفقه هو العلم البسيط دون العلم المركب ، وهو العلم بالعلم ، اذ لا ريب في انه
اذا علم انسان الاحكام الشرعية المعهودة فهو فقيه سواء التفت الى علم أو لم يلتفت
، وهذا واضح.
نعم اذا أريد من
الأحكام تصديقات الشارع لا تصديقات المستنبط صح ، إذ الفقه بالحقيقة هو العلم
بتصديقات الشارع. إلا أن هذا الحمل مع بعده ـ حيث أن الظاهر من الأحكام بمعنى
التصديقات هو تصديقات المستنبط ـ لا يختص بمن يرى صحة التصديقات للشارع ، بل هذا
الحمل لا بد منه لمن يرى صحة التصديقات ومن لم يرها ، لأن هذا الحد للفقه مشترك
بين الكل ولا بد له من معنى يصح على مذاق الكل ، وهذا الحمل غير صحيح على مذاق
البعض.
بيان ذلك : إن
العلم على قسمين : حضوري ، وحصولي. والعلم الحضوري هو علم الشىء بذاته وعلم العلة
بمعلوله وعلم الفاني بالمفنى فيه ، والعلم الحصولي هو العلم بما عدا هذه الأمور.
ولا بد في العلم الحصولي من حصول صورة زائدة في ذات العالم ، بخلاف العلم الحضوري
حيث انه لا يحتاج الى ارتسام صورة ومئونة زائدة ، ولا ريب فى أن المقسم للتصور
والتصديق هو العلم الحصولي الارتسامي.
قال شارح منطق
حكمة الإشراق : ان العلم الذي هو مورد القسمة الى التصور والتصديق فى فواتح كتب
المنطق هو العلم المتجدد الذي لا يكفي
فيه مجرد الحضور ،
بل يتوقف على حصول مثال المدرك في المدرك ، اذ هو المقصود هناك ، فان المعلومات
المنطقية لا تتجاوز عنه ، لا مطلق العلم الشامل له وللعلم الإشراقي الذي يكفى فيه
مجرد الحضور كعلم الباري تعالى وعلم المجردات المفارقة وعلمنا بأنفسنا ، وإلا لم
ينحصر العلم في التصور والتصديق ، إذ التصور هو حصول صورة الشيء في الذهن والتصديق
يستدعي تصورا ، وعلم الباري تعالى وعلم المجردات بجميع الأشياء وعلمنا بذواتنا
يستحيل أن يكون بحصول صورة كما بيّن في موضعه ، فلا يكون تصورا ولا تصديقا. وأما
العلم بالأشياء الغائبة عنا ـ أي بما هو غير ذاتنا لأنها لا تغيب عنا ـ فلا بد أن
يكون لحصول صورها فينا ـ انتهى.
وحينئذ نقول : إن
علم الواجب تعالى بجميع ما عداه يكون علما حضوريا شهوديا نوريا إشراقيا على مذاق
أهل الحق ، فليس له تصور وتصديق أصلا ، بل علمه تعالى أجل واشمخ وأبهى وأسنى ، فلا
يكون له تصديقات على مقالة الحق ، وإنما يكون له التصديقات على مقالة من قال في
علمه بالصور المرتسمة.
وبلسان آخر نقول :
إن الحق أن العلم كسائر الصفات الحقيقية المحضة والحقيقية ذات الاضافة عين ذاته
المقدسة الكريمة. ومن المعلوم أن ذاته الأقدس ليس تصورا ولا تصديقا ، فكذلك علمه
تعالى.
وهذا كله مع أن
ظاهر الاصطلاح لا يساعد على حمل الاحكام على تصديقات الشارع ، حيث أن الفقه بحسب
ظاهر الاصطلاح هو تصديقات المستنبط لا العلم بتصديق الشارع كما هو واضح.
هذا كله توضيح
مرامه زيد في علو مقامه ، ولكن يمكن أن يراد من الاحكام تصديقات المستنبط ، ويكون
المراد هو العلم المتعلق بالتصديقات تعلق الأجناس بأنواعها ، ومن الواضح أن مطلق
الادراك المراد من لفظ
«العلم» جنس للتصديق ، فلا يكون المراد من العلم الا التصديقات لا
علما آخر متعلقا بها ليكون علما مركبا ـ فافهم.
قوله
«قده» : او لأولها الى الأحكام التكليفية.
بناء على كون
الأحكام الوضعية تابعة منتزعة عن الأحكام التكليفية
قوله
«قده» : لظهور أن العلم بهذا الامر النسبي ـ الخ.
بيانه : هو ان
الفقه لا شك في كونه عبارة عن العلم بالكلام الموجه لا العلم بتوجيه الذي يحصل
للعالم والجاهل على حد سواء ، بل يحصل العلم بالتوجيه في الكلام اللفظي للجاهل
باللغة كما لا يخفى ، فلا يكون فقها.
وفيه : انه لا ريب
في أن المراد من التوجيه ليس مفهومه المتساوى بالنسبة اليه الكل بل مصداقه ، وكذا
المراد بالكلام ليس مفهومه بل مصداقه الخاص لا مطلق المصداق ، كما ان المراد
بالتوجيه ليس هو مطلق المصداق بل المصاديق الخاصة. ولا شبهة في أن العلم بوجود
إيجاب الصلاة وهكذا فقه.
إن قلت : إن الفقه
هو العلم بأن الصلاة واجبة لا بايجاب الشارع. قلت : لا ريب في أن الايجاب عين
الوجوب ، والتوجيه عين الموجه ذاتا وان اختلفا اعتبارا ، كما ان الوجود عين
الايجاد ذاتا وهوية وغيره مفهوما ولا ينبغي لك أن تتوهم أن التوجيه والموجه
والايجاب والوجوب وان اتحدا ذاتا إلّا أن الفقه إنما هو بالاعتبار الثاني ، لأنه
لا شبهة في ان العلم بايجاب الشارع الصلاة مثلا من الفقه ، وهو الاعتبار الأول.
قوله
«قده» : ولا مستفادا من الأدلة ...
بيانه : هو ان
التوجيه من مقولة التضايف ، وهو مضاف حقيقي ، ولا ريب في ان الاضافات من الأمور
الاعتبارية والعناوين الانتزاعية التي ليست موجودة بمعنى وجودها بإزائها بل بمعنى
وجود منشأ انتزاعها ، فيكون وجودها تابعا لوجود منشأ انتزاعها ، فكذلك دركها
ونيلها يكون بمنشإ انتزاعها ، وذلك كالفوقية حيث أنها في الوجود والتعقل تابعة
لأطرافها ، فلا يحتاج إلى دليل في ادراكها فضلا عن أن يحتاج الى الأدلة الأربعة ،
وكذلك التوجيه يكون في الوجود والتحقيق تابعا للمتكلم الموجه والكلام الموجه ، وفي
الادراك والتعقل تابعا لدرك المتكلم بالحس البصري وادراك الكلام الموجه بالحس
السمعي ، فلا يكون محتاجا الى الأدلة ـ كما هو واضح.
وفيه : ما مر آنفا
أن التوجيه عين الموجه ذاتا ، فاذا صحح كون الكلام الموجه فقها ـ كما سيجيء عن
قريب ـ يصح كون التوجيه المصداقي الذي هو عين الكلام الخاص المصداقي فقها كما هو
ظاهر. مضافا الى انا لو سلمنا المغايرة فلا شبهة في تبعية العلم بالتوجيه للعلم
بالكلام الموجه ، ولا شبهة في أنه لا سبيل لنا الى العلم بالكلام الموجه الا بنقل
السنة والكتاب فيكون العلم بالتوجيه مستفادا عنهما. غاية الامر وقصواه أنه يكون
بالتبع
قوله
«قده» : لوضوح أن مجرد العلم به لا يسمى فقها.
بيانه : انه من
الواضح أن مجرد العلم بالكلام الموجه وانه صدر من المتكلم كلام ألقي الى المخاطب
ووجه به يحصل للفقيه وغيره وللعالم باللغة والجاهل بها ، فكيف يكون فقها؟
وفيه : ما مر من
أن المراد بالكلام الموجه ليس مفهومه ولا مطلق مصداقه بل مصاديقه الخاصة ، كقوله :
صلّ ، وحجّ ، وزكّ ، وغيرها
والمراد بالكلام
الموجه هو المعنى الملقى الى المخاطب ، وليس من سنخ الألفاظ كما هو المفروض من كون
الحكم خطابا نفسيا وكلاما نفسانيا ، ولو كان الكلام هو اللفظ صح أن يكون الفقه هو
العلم بالكلام اللفظي الموجه من حيث كون اللفظ قالبا للمعنى وحاكيا عنه. ومن
المعنى أن الحكاية ليست بشىء إنما الشىء هو المحكي عنه.
قوله
«قده» : عبارة عن الكلام النفسي.
قال المحقق الطوسي
والحكيم القدوسي ـ قدسسره ـ في التجريد بعد
بيان الكلام اللفظي : ولا يعقل كلام غيره. وقال القوشجى في شرحه : قلت : قالت
الاشاعرة : الكلام لفظي وهو المؤلف من هذه الحروف ، ونفسي وهو المعنى القائم
بالنفس الذي هو مدلول الكلام اللفظي كما قال الشاعر :
إن الكلام لفي
الفؤاد وإنما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
والكلام النفسي
مغاير للعلم والارادة والكراهة وسائر الصفات المشهورة ، والمعتزلة نفوا ذلك
ووافقهم المصنف وقالوا : اذا صدر من المتكلم خبر فهناك ثلاثة أشياء : «أحدها»
العبارة الصادرة عنه. «والثاني» علمه بثبوت النسبة او انتفائها بين طرفي الخبر. «والثالث»
ثبوت تلك النسبة أو انتفائها في الواقع ، والأخيران ليسا كلاما حقيقيا اتفاقا ،
فتعين الأول
وإذا صدر عنه أمر
أو نهي فهناك شيئان : «احدهما» لفظ صادر عنه. «والثاني» إرادة او كراهة قائمة
بنفسه متعلقة بالمأمور به أو المنهي عنه ، وليست الارادة والكراهة ايضا كلاما
حقيقيا اتفاقا فتعين اللفظ. وقس على ذلك سائر أقسام الكلام.
والحاصل ان مدلول
الكلام اللفظي الذي يسميه الاشاعرة كلاما نفسيا
ليس أمرا وراء
العلم في الخبر والارادة في الامر والكراهة في النهي.
وأما بيت الشاعر
فإما لاعتقاده ثبوت كلام نفسي تقليدا ، وإما لأن المقصود الأصلي من الكلام هو
الدلالة على ما في الضمائر ، وبهذا الاعتبار يسمى كلاما ، فأطلق اسم الدال على
المدلول وحصره تنبيها على انه آلة يتوصل بها اليه ، فكأنه هو المستحق لاسم تلك
الآلة.
والأشاعرة يدعون
أن نسبة أحد طرفي الخبر الى الآخر قائمة بنفس المتكلم ومغايرة للعلم ، لأن المتكلم
لا يخبر عما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه ، وإن المعنى النفسي الذي هو الأمر
غير الارادة ، لأنه قد يأمر الرجل لما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا
وكالمعتذر عن ضرب عبده بعصيانه ، فانه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به
ليظهر عذره عند من يلومه واعترض عليه بأن الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا
حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلا كما لا ارادة قط.
ومثل ذلك يمكن أن
يقال في النهي استدلالا واعتراضا ، فيقال : المعنى النفسى الذي في النهي هو غير الكراهة ، لأنه قد ينهى
الرجل عما لا يكرهه بل يريده في صورتي الاختبار والاعتذار.
ويعترض بأنه ليس
هناك حقيقة النهي بل صيغته فقط. أقول : المعنى النفسي الذي يدعون انه قائم بنفس المتكلم ومغاير
للعلم فى صورة الاخبار عما لا يعلمه هو إدراك مدلول الخبر ، اعني حصوله في الذهن
مطلقا ـ انتهت عبارته.
وقال العضدي تبعا
للحاجبي : والكلام النفسي نسبة بين مفردين قائمة بالمتكلم : أما تصور النسبة وكون
الكلام النفسي نسبة فضروري ، وأما انها النسبة القائمة بالنفس فلأنها لو لم تقم به
لكانت هي الخارجة ، واللازم منتف. واما الملازمة فإذن لا مخرج عنهما ، فان الثابت
ثابت اما في
النفس وإما خارج
النفس ، فاذا انتفى احدهما تعين الآخر. وأما انتفاء اللازم فلان الخارجة لا يتوقف
حصولها على تعقل المفردين لأن نسبة القيام الى زيد اذا ثبتت في الخارج ثبتت ، سواء
عقل زيد والقائم ام لا. وهذه متوقف حصولها على تعقل المفردين فتغايرتا ـ انتهى.
وهو قد بالغ في
عدم كون الكلام النفسي نسبة خارجية ، وادعى الضرورة في كونه نسبة ، وكان الأولى
العكس. ولو لا الخروج عن طور الفن ووضع التعليقة لتعرضت لما هو التحقيق للمقام.
قوله
«قده» : ففيه أن المراد إنما هو العلم ـ الخ.
فيه : مع أن
الاحتمال الذي احتمله في كلام المحقق القمي مجرد فرض لا واقعية له أصلا ، كما يدل
عليه ظاهر كلامه بل صريحه أن هذا الايراد لا وجه له اصلا ، لانه لا ريب فى أن
المحدود والمعرّف ليس هو الفقه الصحيح الذي يكون حجة ، وإلا لانتقض طرده ومنعه ،
اذ يدخل في الحد فقه الكافر والمخالف مع خروجهما عن المحدود ، فالاذعان بكون
الأحكام ثابتة في نفس الامر أو في نفس الشارع ليس له مدخلية في موضوع الفقه وان
كان معتبرا فى حجيته.
فاذا ظهر ذلك نقول
: إن الأحكام ـ على حسب الفرض ـ من حيث هي مطلوب انشائي ليس مطلوبا خبريا مستفادا
من الأدلة ، وباعتبار كونها ثابتة في نفس الأمر أو عند الشارع ليس من الفقه في شيء
ـ فافهم.
قوله
«قده» : وإن أراد ان الخطابات النفسية ـ الخ.
لا شبهة في أن
مراد المحقق القمى ـ قدسسره ـ هو هذا المعنى ،
كما ينادي به بأعلى صوته قوله كاشف عن المدعى لا مثبت للدعوى ، ومع
ذلك ففد علل عدم
كونه دليلا مثبتا بل كاشفا دالا فى الهامش بأنه لا بد فى الدليل من سبق العلم
بالمدعى اجمالا ، بخلاف الدال حيث ان المدلول انما يعلم به لا قبله ولو اجمالا ،
وهنا لم يعلم الخطابات النفسية قبل الخطابات اللفظية أصلا ، فكيف تكون الخطابات
اللفظية دليلا عليها.
وهذه عبارته ـ قدسسره ـ الدليل على
اصطلاح الأصوليين هو ما يمكن التوصل لصحيح النظر فيه الى المطلوب الخبري ، فاذا
كان الخطاب هو المبين للكلام النفسي والمظهر له أولا من دون سبق اطلاع لا اجمالا
ولا تفصيلا فأين المطلوب الخبري الذي يعمل النظر في الكتاب لتحصيله ، فلا بد أن
يسبق الدعوى على الدليل ولو سبقا اجماليا حتى يطلب من الدليل ـ انتهت عبارته
الشريفة.
وأورد عليه بعدم
وضوح ما ذكره من الدعويين ، إذ لا يلزم تقدم العلم الإجمالي بالمدلول على الدليل
مطلقا حتى يكون ذلك من لوازم الدليل بالمعنى المصطلح بل قد يكون العلم مطلقا
متأخرا عن الدليل ، كما اذا حصل الانتقال الى النار بعد ملاحظة الدخان. غاية الأمر انه
مسبوق بالمثال بمعرفة الملازمة بين مطلق الدخان والنار ، وهو شىء آخر.
نعم ما ذكره من
لوازم الاستدلال.
وأيضا لا مانع من
تقدم العلم بالخطابات النفسية إجمالا على معرفة الخطابات اللفظية التفصيلية ، كيف
وثبوت الأحكام على سبيل الإجمال من ضروريات الدين ـ كما أشار اليه في الجواب
المختار عنده ـ وذلك عندهم هو العلم بالخطابات النفسية على الإجمال ، وهو متقدم فى
المعرفة على العلم بالخطابات اللفظية ، وهو ظاهر.
وفيه : انه من
الواضح الذي لا يمكن أن يريب فيه أحد أنه لا بد في الدليل من سبق العلم بالمطلوب
على وجه الإجمال ، كما يدل عليه قولهم
«الى مطلوب خبري»
ومن الواضح انه لا يمكن أن يكون المطلوب مجعولا مطلقا وإلّا لزم طلب المجهول
المطلق وهو محال. والأمثلة الجزئية لا تصلح أن تكون معولا عليها في الأحكام الكلية
العقلية ، اذ الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا ولا يحيط أحد بجهات الجزئيات.
وبيان هذا موقوف
على بيان المراد بكيفية معلومية المطلوب على وجه الاجمال ، وهو انه لا ريب فى انه
لا بد في الدليل من كونه بديهيا بالذات أو منتهيا الى البديهي. ومن المعلوم ان
المطلوب والنتيجة إن كان معلوما في القياس والدليل على وجه التفصيل لم يحتج الى
الدليل ، وان كان مجهولا مطلقا في الدليل ـ بأن لم يكن في الدليل علم بالمطلوب
أصلا ـ فكيف يعقل أن يحصل منه العلم بالمطلوب؟ وهل يحصل العلم من الجهل أو من
العلم بشيء فلا بد وأن يكون معلوما على وجه الإجمال.
مثلا : في قولنا «العالم
متغير وكل متغير حادث» العالم وان لم يعلم كونه حادثا بعنوان العالم لأن الصغرى
متكفلة لبيان تغير العالم والكبرى متضمنة لبيان حدوث المتغير فالنتيجة لم تعلم في
الدليل تفصيلا ـ إلّا أن عنوان المتغير يشمل كل متغير حتى العالم على وجه الإجمال
، أعني بعنوان واحد إجمالي. ولما كانت المقدمتان الصغرى والكبرى مقدمتين على
النتيجة فلا جرم يكون المطلوب ـ أعني العالم الحادث ـ معلوما قبل النتيجة لكون
الكبرى ـ وهي كل متغير حادث ـ معلومة قبل النتيجة ، ويكون معلومية حدوث المتغير
عين معلومية حدوث العالم ، لكن لا بعنوانه الخاص بل بعنوان المتغير الذي هو عنوان
اجمالي. والحاصل ان النتيجة كانت معلومة قبل القياس والدليل على وجه التكرير
والاندماج والإجمال ثم بعده تصير معلومة على وجه التفصيل والانشراح.
وبهذا البيان
الواضح والتبيان اللائح يدفع الدور المحال المورد على الشكل
الأول الذي هو
بديهي الانتاج. وبيان الدور : هو أن العلم بالنتيجة ـ وهي ان العالم حادث ـ موقوف
على العلم بالكبرى ـ وهي كل متغير حادث ـ وإلا لم تكن مقدمة كبروية له «هف».
والعلم بالكبرى موقوف على العلم بالنتيجة ، اذ لو لم يعلم أن العالم حادث لم تكن
كلية الكبرى حاصلة فلا يحصل الانتاج ، فاذا توقف العلم بالكبرى على العلم بالنتيجة
يكون دورا مستحيلا.
وحاصل الدفع : أن
العلم بالنتيجة تفصيلا موقوف على العلم بالكبرى والعلم بالكبرى ليس موقوفا على
العلم بالنتيجة تفصيلا بل على العلم بها اجمالا ، أعني ان العلم بحدوث العالم حاصل
في الكبرى لكن لا بعنوانه الخاص به ـ وهو عنوان العالمية ـ بل بعنوان المتغير ،
فان كل متغير معلوم حدوثه وإن لم يعلم كونه عالما أو غير عالم.
وحينئذ نقول : إن
العلم في المثال الجزئي الذي زعمه المورد نقضا للقاعدة العقلية يكون من هذا القبيل
، فان النتيجة في المثال المذكور هي ان موضع كذا فيه نار هي معلومة في الكبرى على
وجه الاجمال ، اذ صورة القياس هكذا : موضوع كذا موضوع يكون فيه دخان ، وكل موضوع
يكون فيه دخان فيه نار ، ينتج موضوع كذا فيه نار. ومن المعلوم أن النتيجة ـ وان لم
تكن معلومة تفصيلا حيث لم يعلم الاصغر فيه بعنوانه الخاص به ـ إلا انه علم بعنوانه
العام الاجمالي ، وهو كل موضوع يكون فيه دخان.
ومن العجب أن
المورد أذعن بأن في المثال المذكور لا بد وأن يسبق بالعلم بالملازمة قبل العلم
بالنتيجة ، ولم يتفطن أن ذلك العلم بالملازمة هو العلم بالنتيجة اجمالا ، كما
بيناه وشرحناه تفصيلا بما لا مزيد عليه.
ومما ذكرنا
وفصلناه من بيان المراد من معلومية النتيجة والمطلوب على
وجه الاجمال ظهر
اندفاع الايراد الثاني عن المحقق القمي «قدسسره» حيث أن الحكم الاجمالي الذي فرضه
«قده» من أن لآكل الربا مثلا حكما ليس النتيجة المطلوبة بل النتيجة هي أن الربا
حرام. ثم لو فرض كون ذلك الحكم الاجمالي نتيجة مطلوبة فلم تكن معلوميتها على
الاجمال على النحو الذي ذكرنا من كون الأصغر هو الموضوع للنتيجة موضوعا للكبرى لا
بعنوانه الخاص به بل بعنوان عام إجمالي يكون أوسط في القياس. فالمحمول الذي هو
محمول في الكبرى محمول على الاصغر بعنوان عام ، فلما كان المحمول محمولا للاصغر لا
بعنوانه الخاص بل بعنوان عام صح أن النتيجة معلومة اجمالا لا بعنوان الموضوع الخاص
به بل بعنوان آخر.
وبعبارة واضحة
نقول : ليس فيما نحن فيه كبرى تكون النتيجة ـ وهي ان لآكل الربا حكما معلوما فيها
بالاجمال.
إن قلت : نقرر
وننظم قياسا بهذه الصورة ، وهي : إن الربا دل الخطاب اللفظي على حرمته ، وكلما دل
الخطاب اللفظي على حرمته فهو حرام بالخطاب النفسى ، فينتج أن الربا حرام بالخطاب
النفسي. ونقول : إن النتيجة معلومة في الكبرى لا بعنوان موضوع النتيجة الخاص به بل
بعنوان عام اجمالي ، وهو : كلما دل الخطاب اللفظي فحصل ما هو شرط الدليل من سبق
العلم اجمالا.
قلت : إن هذا
القياس باطل ، إذ ليس على مذهب الأشاعرة للخطاب اللفظي مدلول غير الخطاب النفسى ،
فالصغرى كاذبة ، إذ الخطاب اللفظي لم يدل على حرمة الربا بل يدل على الخطاب النفسى
بالحرمة ، فيكون الحاصل : إن الربا دل الخطاب اللفظي على الخطاب النفسي بالحرمة ،
فلا يكون في البين حد أوسط وواسطة فى الاثبات ، فلا يكون الخطاب اللفظي دليلا بل
دالا.
ومع الغض عن ذلك
كله نقول : إنه يمكن أن يكون قول المحقق القمي ـ قدسسره ـ : «والذي
يخالجني في حله» ـ الخ ناظر الى الاستعمال الثاني الذي أورده ـ قدسسره ـ على الأشاعرة
ويكون حلا له ، كما لعله يشهد به قرب المرجع ، فلا مجال للايراد الثاني الذي أورده
المورد عليه كما لا يخفى ـ فافهم ما ذكرنا واغتنم ، واشكر ربك الأعلى فياض العلوم
والخيرات ومنزل البركات على من يشاء من عباده ، فله الحمد في الآخرة والأولى.
قوله
«قده» : ففيه ان الخطابات اللفظية ـ الخ.
فيه ما مر منا
آنفا من أن التصديق بثبوت الأحكام عند المتكلم وارادته أو ثبوتها فى نفس الأمر ليس
له مدخلية في الفقه موضوعا أصلا بل له مدخلية فيه حكما وحجة ، وليس الكلام فيه.
قوله
«قده» : على تمهيد مقدمات عديدة.
يحتمل أن يكون
مراده بالمقدمات العديدة هي أصالة عدم الغفلة والخطأ وعدم تعمد الكذب في غير
الشارع وامتناعها في حقه بل امتناع الكذب مطلقا واصالة الحقيقة. ويحتمل أن يكون
مراده بها الصغرى والكبرى ، ووجه تعددها : هو أنه لا بد فيما نحن فيه من ترتيب
قياسين يكون كل منهما مشتملا على مقدمتين.
بيانه : هو أن
الصلاة مثلا دل الخطاب اللفظي على وجوبها ، وكلما دل الخطاب اللفظي على وجوبه دل
الخطاب النفسي على وجوبه ، ينتج أن الصلاة دل الخطاب النفسي على وجوبها.
فنجعل هذه النتيجة
صغرى لكبرى اخرى ونقول : إن الصلاة دل
الخطاب النفسي على
وجوبها ، وكلما دل الخطاب النفسي على وجوبها فهو واجب عند المتكلم ويكون وجوبه
مرادا له ، ينتج ان الصلاة واجبة عند المتكلم ويكون وجوبها مرادا له ـ تأمل تنل.
قوله
«قده» : وان اراد بها الاحكام الإجمالية ـ الخ.
عطف على المعنى ،
يعنى إن أراد بها الأحكام الإجمالية من حيث الاجمال فكذا ، وان اراد بها الأحكام
الاجمالية من حيث التفصيل فكذا.
وبيان مرامه ـ قدسسره ـ هو : ان الاجمال
والتفصيل اللذين اعتبرا في الأحكام لا يصح أن يعبرا معرفين لها ، اذ بناء على
التعريف تكون الأحكام واحدة ، إذ اختلاف المعرّف والكاشف لا يقتضي اختلاف المعرّف
والمكشوف وتعددهما حتى لا يلزم اتحاد الدليل والمدلول ، بل لا بد وان يعتبرا
عنوانا وقيدا. وحينئذ إن اعتبرت الأحكام الإجمالية من حيث الاجمال فلا ريب في أن
الخطابات التفصيلية ليست أدلة على الخطابات الاجمالية ـ الى آخر ما أفاد ، وان
اعتبرت الأحكام الاجمالية من حيث التفصيل فيصير الحاصل : ان العلم بالأحكام من حيث
كونها تفصيلية فقه. ولا شبهة في أن الأحكام الاجمالية من حيث التفصيل التي هي
عبارة أخرى عن الأحكام التفصيلية عين الخطابات التفصيلية ، فعاد محذور اتحاد
الدليل والمدلول.
وفيه : انه إن
أريد من التحيث تحيث المعلوم ـ وهو الأحكام ـ نختار الشق الأول ، بل نقول : لا
مجال للترديد والتشقيق ، لأن حيثية التفصيل ـ كما هو مقتضى الشق الثاني ـ كيف يعقل
أن يكون حيثية للاحكام الاجمالية للزوم اجتماع المتقابلين المتعاندين ، فتعين الشق
الأول.
ونقول : إن
الاحكام ـ وإن كانت متحيثة بحيثية الاجمال ـ إلّا أن
العلم المتعلق بها
لم يتحيث بها ، بل هو لما كان حاصلا من الأدلة التفصيلية فلا جرم يكون تفصيليا ،
ولا يرد شيء من التوالي الثلاثة الفاسدة ، وان اريد من التحيث تحيث العلم فنختار
الشق الثاني ولا يعود المحذور ، لأن التفصيل إنما هو في العلم المتعلق بالمعلوم
الاجمالي ، فالمدلول هو المعلوم الاجمالي ، فيكون مغايرا للادلة التفصيلية.
ولكن يمكن دفعه
بأنه لا ريب في أن المدلول والنتيجة لا يكون إلّا ذلك العلم التفصيلي المتعلق بذلك
المعلوم الاجمالي ، ولا يصح تعلق العلم التفصيلي بمعلوم إجمالي إلّا بأن يصير ذلك
المعلوم الاجمالي معلوما تفصيليا بعد ما كان اجماليا ، فيرجع الأمر الى حصول المعلوم
التفصيلي من الأدلة التفصيلية ، فاتحد الدليل والمدلول حسب الفرض من كونها خطابا.
اللهم أن يقال :
إن العلم لا يكون هو النتيجة والمدلول ، كما أن القياس لا يكون علما ، بل قول مؤلف
يلزم من العلم به العلم بقول آخر.
نعم يرد على
المحقق القمي «قده» أن التفاوت بالاجمال والتفصيل إنما هو تفاوت بحسب الإدراك ،
والتفاوت بحسب نحوي الادراك من الاجمال والتفصيل لا يقتضي ولا يستلزم تفاوت المدرك
، فعلى هذا يبقى محذور الاتحاد باقيا بحاله غير مندفع أصلا.
والذي يخطر بخاطري
الفاتر وذهني القاصر هو أن يقال : انه لا ريب في انه اذا كان المراد من الحكم
الخطاب النفسي ومن الكتاب الذي هو واحد من الأدلة الخطاب اللفظي لا يلزم محذور
الاتحاد ، لا للمغايرة بل لعدم الاستدلال والدليل والمدلول بل ليس إلّا الدلالة ،
وأما اذا كان المراد بالحكم كالمراد بالكتاب الخطاب اللفظي فليس دلالة ولا استدلال
، لعدم المغايرة على ما زعموا ، حتى قال بعضهم بامتناع الاستدلال لوجود الاتحاد
وامتناع التفصى عن محذور الاتحاد ، ولكن الأمر ليس كذلك لأن مجرد كون
الدليل لفظا
والمدلول ايضا لفظا لا يستلزم اتحاد الدليل والمدعى وإلّا لزم الاتحاد فيما اذا
كانت النتيجة والمطلوب قضية معقولة ، والدليل والقياس أيضا من القضايا المعقولة
لكونهما معقولين ، بل لا بد في الاتحاد من كونهما واحدا.
وليس الامر فيما
نحن فيه كذلك لأنه لا شبهة في أن النتيجة معلومة اجمالا قبل اخذها من المقدمات كما
بيناه وفصلناه وشرحناه آنفا بما لا مزيد عليه.
ومن المعلوم
الواضح أن الدليل لا يكون إلّا قولا مؤلفا ، واطلاق الأصوليين الدليل على المفرد
كالعالم تسامح ، حيث انه من الواضح أن التصور ـ وهو المفرد ـ لا يكون كاسبا
للنتيجة والتصديق ، اذ التصديق لا يكتسب الا من التصديق ، اذ من البديهي انه لا بد
في ثبوت الأكبر للاصغر من وجود ملزوم للاكبر يكون لازما للاصغر يجعل أوسط فى
القياس ويجعل الاكبر محمولا لذلك الملزوم الذي هو لازم ومحمول للاصغر ـ كما في
الشكل الأول المسمى عندهم بالقياس الكامل ـ لتنقل الذهن الى ثبوت الأكبر للأصغر
كما لا يخفى ، واذا كان الأمر كذلك فلا محالة يكون المطلوب والنتيجة قضية اخرى
وراء القضيتين اللتين هما الصغرى والكبرى ، ولا شبهة في أن العلم الاجمالي
بالنتيجة ليس إلّا العلم الحاصل بها في ضمن الكبرى كما مر عليك ذكره وبيانه ، وأما
العلم التفصيلي بالنتيجة فليس إلّا حاصلا من المقدمتين ، ولا ريب في أن العلم
التفصيلى بها غير العلم التفصيلي بالمقدمتين كما انها غيرها.
وحينئذ نقول : إذا
كانت النتيجة المطلوبة هي أن الصلاة واجبة وفرضناها خطابا لفظيا فلا ريب في أن
القياس المنتج لها ينبغي أن ينظم هكذا : الصلاة مما امر الله تعالى بها بالخطاب
اللفظي ، وكلما امر به بالخطاب اللفظي فهو واجب بالخطاب اللفظي ، ينتج ان الصلاة
واجبة بالخطاب اللفظي ، وأما قولنا تعليلا لوجوب الصلاة لقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فبيان للصغرى وليس
هو فقط منتجا كما
هو واضح ، فظهر أن النتيجة ـ وان كانت خطابا لفظيا ـ إلّا انها مغايرة ذاتا للدليل
والقياس والمقدمتين ، وكانت معلومة بالإجمال قبل الاستنتاج وصارت معلومة بالتفصيل
بعده ، فالنتيجة ـ وإن صارت معلومة بالتفصيل ـ إلّا انها غير ذلك الدليل والقياس
المعلوم تفصيلا.
ويمكن إرجاع ما
ذكره المحقق القمي ـ قدسسره ـ الى ما ذكرنا
وان كان يحتاج الى تكلف شديد وتعسف اكيد ـ فافهم ما ذكرنا فانه يصعب نيله على
الأفهام القاصرة.
قوله
«قده» : لأن مسائل العلوم ـ الخ.
اعلم أن للعلوم
حقائق واقعية تكون ثابتة في الواقع ونفس الامر ، سواء وجد عالم أو علم بها ام لا.
وبعبارة أخرى : يكون لها وجودات نفسية مع قطع النظر عن وجودها الرابطي للعالم ،
ولا ريب في أن مسائلها ليست إلّا المحمولات المنتسبة الى موضوعاتها من غير مدخلية
للعلم فيها أصلا فضلا عن أن يكون تصديقا ، وإن شئت فعبر عنها بالفن ، واما العلم
بها فيمكن أن يقال انه يكفى في العلم بالفن وتلك الامور الواقعية النفس الأمرية
التصورية لا تحتاج الى التصديق أصلا ، لأنه لا ريب في أن الشخص اذا تصور حيوانا
ناطقا فقد ادرك الانسان وناله من غير احتياج الى التصديق بكون الانسان حيوانا
ناطقا وإلّا لزم الخلف ، وان كان ذلك التصور مستتبعا ومستلزما لهذا التصديق ،
فكذلك اذا أدرك وتصور المحمولات المنتسبة الى الموضوعات بصورة مطابقة للواقع فقد
نال وادرك ذلك الفن والمسائل من غير حاجة الى التصديق.
وإن شئت فقل : لما
كانت تلك المسائل لها نسبة واقعية الى موضوعاتها ووجودا رابطا واقعيا ، فاذا أدرك
تلك النسبة وذلك الوجود الرابط الواقعي
فقد أدرك تلك
العلوم والمسائل ، إذ ليس مرادنا من التصور الصورة التي يخترعها الذهن من غير
واقعية لها أصلا الا بالاختراع ، بل المراد هو الصورة المطابقة ، اذ التصور
والتصديق من اقسام العلم الذي عرّف بالصورة الحاصلة من الشيء عند العقل ، فاذا حصل
من النسبة الواقعية صورة عند العقل فقد حصل إدراكها ، فانكشافها السابق على
الإذعان هو العلم. وهذا الذي ذكرنا واضح لمن سلمت فطرته ولطفت قريحته.
قوله
«قده» : إذ ليس لها موضوع آخر ـ الخ.
فيه أن المتكفل
لبيان موضوعات كافة العلوم انما هو الفلسفة الأولى والحكمة الالهية بالمعنى الأعم
المسماة بالعلم بما قبل الطبيعة بحسب نظام الوجود والتحقق وما بعد الطبيعة بحسب
نظم التعليم فلا يستقيم.
قوله
: ليس لها موضع آخر تبين فيه.
نعم يتجه بالنسبة
الى الموضوعات الجعلية والمهيات الاختراعية كالصلاة والصوم ونحوهما.
قوله
«قده» : بالوصف المذكور.
يعني صحة تلك
الحدود ومقتضاها.
قوله
«قده» : في الخمسة المعروفة.
وهي : السببية ،
والشرطية ، والمانعية ، والصحة ، والفساد.
قوله
«قده» : لما سبق من ان التصديق بالتصديق ليس فقها.
وانتقاض عكس الحد
حينئذ بالأحكام الوضعية ولزوم اتحاد الدليل والمدلول.
قوله
«قده» : على حذو ما سبق.
يعنى من اعتبار
الأحكام من حيث انتسابها الى موضوعاتها.
قوله
«قده» : فكأنه غفل.
يعنى ان المشنع لو
كان ملتفتا الى تفسير العلم بالملكة لما شنع على اخذ الأحكام بمعنى التصديقات ، إذ
يصح أن يقال ملكة التصديقات ، فتشنيعه ناش عن الغفلة.
وفيه : انه ليس
فيه غفلة اصلا ، اذ العلم بمعنى الملكة ليس بمعنى مطلق الملكة حتى يصح اضافته الى
التصديقات ، بل بمعنى ملكة التصديق ، ولذا صح اضافته الى المسائل أو مطلق الأحكام
، اذ لا يصح أن يقال ملكة المسائل أو مطلق الاحكام بل ملكة التصديق بهما ، وحينئذ
فيرجع الأمر الى ملكة التصديق بالتصديقات ، ولا يصح كما هو واضح.
قوله
«قده» : لما مر من اتحاد الدليل والمدلول.
بناء على تفسير
الأحكام بالخطابات والانتقاض الجمعي العكسي ، بناء على تفسيرها بالأحكام الخمسة.
قوله
«قده» : والوجهان آتيان.
يعني بهما تفسير
العلم بملكة التصديق أو الادراك ، والتعسف بجعل الظرف متعلقا بالمتعلق المقدر على
أن يكون صفة للعلم.
قوله
«قده» : لكن قد يناقش فيه.
حاصل المناقشة هو
أن الملكة من الكيفيات النفسانية ، والكيف هيئة قارة غير قابلة للقسمة والنسبة
بالذات. نعم يقبل الشدة والضعف ، ومن
الواضح المعلوم أن
العلوم قابلة للقسمة والتعدد حسب تكثر معلوماتها وتعددها فكيف تكون كيفا وملكة؟ إذ
من الواضح أن غير القابل للقسمة غير القابل للقسمة.
وحاصل جواب
المناقشة هو أن أسامي العلوم قد تطلق على المسائل وقد تطلق على الملكات ، والمتصف
بتلك الصفات ـ أعني البساطة وعدم قبول التبعيض والتجزئة وقبول الضعف والشدة الذي
هو المعنى الثاني أي الاطلاق على الملكات دون الأول وهو إطلاقه على المسائل ، إذ
بحسبه يقبل التبعيض والتجزئة ولا يقبل الضعف والشدة ، فالمناقشة المذكورة مغالطة
ناشئة من الاشتراك الاسمي.
قوله
«قده» : فتأمل.
وجهه أنه يمكن أن
يقال : إن الملكات والكيفيات ـ وان لم تكن قابلة للتبعيض والقسمة بالذات ـ إلّا
انها قابلة لهما بالعرض ، كما هو معلوم من حد الكيف ورسمه بأن الكيف ما قرّ من
الهيئات لم يقتسم وينتسب بالذات ، فاذا كان الأمر كذلك فجاز أن يفسر العلم بالملكة
ويلتزم بقبولها للقسمة بالعرض وبالتبع للمعلومات التى حصلت الملكة بالنسبة اليها ،
وهذا كما أن البياض ـ وهو من الكيفيات المحسوسة المبصرة ـ وان لم يكن قابلا للقسمة
بالذات إلّا انه يقبلها بتبع موضوعه ، وهو الجسم كما لا يخفى.
قوله
«قده» : وفي المقام كلام.
ستقف عليه فى ذيل
الإشكال الثاني المورد في المقام. وحاصل ما ذكره هناك : ان تفسير أسامي العلوم
بالملكات ـ وان لم تداول بينهم في هذا الفن ـ إلّا انه لا يصح إطلاقها على الملكات
فقط ، بل لا بد من العلم بكثير
من مسائلها ايضا ،
كما يعلم من عدم صحة إطلاق المنطقي على صاحب الملكة المقتدرة بها على استنباط
مسائل المنطق من دون العلم بكثير منها وعدم صحة إطلاقه على العالم بكثير منها من
دون حصول الملكة.
فاذا تحقق اعتبار
الأمرين فلك أن تقول : بأن اسامي العلوم موضوعة بإزاء الملكة الحاصلة للعالم بكثير
من المسائل ، أو لعلم صاحب الملكة بتلك المسائل أو لهما معا ، لكن فرض حصول الملكة
في المقام بدون العلم بكثير من المسائل لا يخلو عن بعد.
وهذا الاشكال مبني
على أخذ الملكة بمعنى التهيؤ والاستعداد ، وأما اذا أخذ بمعنى الهيئة الراسخة
الناشئة عن الممارسة فيما أضيفت اليه الملكة فلا ينفك عن العلم بكثير من المسائل ،
فلا يحتاج الى انضمام العلم بكثير من المسائل الى الملكة في صحة تسمية اسماء
العلوم.
هذا محصل الكلام
الموعود بيانه ، ومقصوده ـ قدسسره ـ من هذه الحوالة
إما بيان إشكال آخر غير المناقشة المذكورة هنا على تفسير أسماء العلوم بالملكات ،
وإما بيان لدفع المناقشة. بتقريب : ان الملكة إن كانت بمعنى الهيئة الراسخة
الناشئة عن الممارسة فيما أضيفت اليه الملكة فهي غير منفكة عن العلم بكثير من
المسائل ، وان كانت بمعنى مطلق التهيؤ والاستعداد فبعيد حصولها بدون العلم بكثير
من المسائل.
واذا كان الأمر
كذلك فنقول : إن الملكة ـ وإن كانت غير قابلة للتبعيض والقسمة ـ إلّا أن ما
يلازمها أو ما يبعد خلوها عنه لما كان قابلا للتبعيض والقسمة صح القول بأن العلوم
بمعنى الملكات قابلة لهما من باب الوصف لحال المتعلق.
ولا يذهب عليك
الفرق بين هذا الجواب عن المناقشة والجواب الذي ذكرناه فى وجه التأمل عنها ، لأن
التكثر والانقسام والتبعيض في الجواب
السالف ذكره في
الملكة باعتبار المسائل التى تكون الملكة قوة عليها وتكون تلك المسائل حاصلة عنها.
وفي هذا الجواب يكون التكثر فى المسائل المحصلة للملكة. وبعبارة اخرى بلسان عقلي
نقول : التكثر والانقسام في هذا الجواب يكون فيما به الاستعداد ، وفي الجواب
السابق فى المستعد له ـ فافهم ان كنت من أهله.
قوله
«قده» : لعدم استقامة المعنى من غير تعسف.
وجه التعسف هو
الاحتياج الى تقدير متعلق لقولنا بالاحكام ، فيكون التقدير : المسائل المتعلقة
بالأحكام ، وحينئذ فان اريد من الأحكام الخطابات فيكون تعلق المسائل بها تعلق
المداليل بكواشفها ودوالها ، وان أريد منها التصديقات فيكون التعلق تعلق المحال
بحالها ، وان أريد منها النسب يكون التعلق تعلق الكل بجزئه أو المقيد بقيده ، وان
اريد منها الاحكام من حيث هي بلا لحاظ الانتساب الى موضوعاتها ولا لحاظ عدمه يكون
التعلق تعلق الخاص بعامه والبشرطشيء مع لا بشرطه ، إذ المسائل هي المحمولات
المنتسبة. وأما إن أريد منها الأحكام من حيث انتسابها الى موضوعاتها فلا مغايرة
أصلا بين المسائل والاحكام المنتسبة إلّا أن يكون المراد بالمسائل مفهوم مطلق المسائل
، فيكون التعلق تعلق العام بخاصه والمفهوم بمصداقه.
ولا يذهب عليك انه
لا يصح ارادة المسائل من الأحكام مع كون المراد من العلم المسائل كما لا يخفى.
قوله
«قده» : ولو تقريبا.
يعني ان التأثير
والاثر المحققان فيما نحن فيه تقريبي لا تحقيقي ، لأن هذا التأثير ليس إلّا مجرد
اعتبار ليس كالتأثيرات الخارجية ، كتأثير النار فى الإحراق ، بل هو تأثير جعلي
اعتباري ليس الخارج ظرفا لوجوده بل
وعاء لنفسه ، وهو
بعد الجعل والاعتبار يكون موجودا بمعنى وجود منشأ انتزاعه واعتباره لا بمعنى وجود
ما بإزائه. وبعبارة اخرى يكون من المعقولات الثانوية الفلسفية.
ويحتمل أن يكون
مراده بالتقريب ما لو كان الشارع هو النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فانه ليس هو الجاعل للشرع حقيقة ، فهو ليس مؤثرا حقيقيا
، بل لما كان هو المبين للشرع والصادع به فكأنه المؤثر والجاعل ، فالتأثير المسند
اليه تقريبي لا تحقيقي.
قوله
«قده» : وبالمعنى الثاني من باب نسبة الشىء ـ الخ.
مقصوده هو انه ـ بناء
على كون الشرع بمعنى الطريقة ـ تكون الأحكام منسوبة اليه من باب نسبة الشيء الى
متعلقه ، كما يقال في غلام زيد انه زيدى ، أي هو متعلق بزيد ، لأن الأحكام مجعولة
للطريقة المسلوكة الى الله تعالى ، فهي أحكام لتلك الطريقة ، أو من باب نسبة الشيء
الى وصفه باعتبار أن هذه الأحكام نفسها هي الطريقة المسلوكة ، فالشرع بمعنى
الطريقة يكون وصفا للاحكام من باب نسبة الجزء الى كله ، لأن الشرع بمعنى الطريقة
هي مجموع الأحكام. ولما كان اللام في قولنا «الأحكام» للعموم الأفرادي فلا محالة
يكون كل فرد من الأحكام جزء لمجموع الاحكام فيكون من باب نسبة الجزء الى الكل.
قوله
«قده» : ولا يلزم منه نسبة الشىء الى نفسه ـ الخ.
دفع توهم ، وبيان
التوهم هو : ان الجزء اذا نسب الى الكل فلا ريب في أن الجزء المفروض لا ينسب الى
غيره من سائر الاجزاء للمباينة بينهما ، فيبقى أن ينسب الى نفسه ، ولا يصح ان ينسب
الشيء الى نفسه
لان النسبة تقتضي
مغايرة بين المنسوب والمنسوب اليه. والحاصل ان النسبة هنا غير معقولة ، إما لكمال
المباينة أو لغاية الاتحاد بل الوحدة.
وحاصل الدفع هو
انا نختار أن المنسوب والمنسوب اليه كلاهما ذلك الجزء المفروض ، ولكن المنسوب هو
الجزء المأخوذ بشرط لا ، والمنسوب اليه هو بشرط الانضمام الى غيره.
وان شئت فقل : ان
المنسوب هو اللابشرط والمنسوب اليه هو المعنى البشرطشيء ، والتفاوت يكون بالاعتبار
، والتغاير الاعتباري يكفي ولا يحتاج الى التعدد ذاتا والتغير حقيقة كما هو واضح.
قوله
«قده» : بأحد الوجهين الاخيرين.
وهما تفسير الشرع
بالشارع ويكون المراد به النبي ، وتفسير الشرع بمعنى الطريقة.
قوله
«قده» : بالمعنى الأول.
وهو تفسير الشرع
بمعنى الشارع ، ويكون المراد به هو الله تعالى.
قوله
«قده» : والمراد بالفرعية المسائل المعروفة.
لا يخفى ما فى هذا
التعريف من الدور الصريح ، لان الكتب المعهودة إن كانت معهوديتها بعناوينها الخاصة
كالتذكرة والتحرير واللمعة والشرائع ونحوها فلا ريب في انه اذا علم شخص تلك الكتب
بتلك العناوين الخاصة ولم يعلم كونها كتب الفروع وعلم ان فيها امهات المسائل لم
يعلم مفهوم الفرعية اصلا ، وهذا واضح لا سترة عليه ، فلا بد وان يعلم تلك الكتب
بعنوان انها كتب الفروع والفرعية فيدور كما هو واضح. فلا مناص أن
يؤخذ هذا التعريف
شرحا للاسم وجوابا لما الشارحة لا حدا وجوابا لما الحقيقية ـ فافهم.
قوله
«قده» : بمعانيها التى اعتبرها ـ الخ.
الضمير راجع الى
العلم الشرعي والحكم الشرعي والعلم بالحكم الشرعي ، ويحتمل أن تكون نسخة الاصل «بمعانيهما»
بصيغة التثنية والتصحيف بالافراد يكون واقعا من النساخ ، وعلى التثنية يكون الضمير
راجعا الى العلم والحكم.
ومقصوده ـ قدسسره ـ ان ظاهر المقام ـ
وهو كون التفسير والتحديد تحديدا للفرعية الواقعية في حد الفقه يقتضى كون المراد
من العلم والحكم على سبيل منع الخلو المعاني التي اعتبرت في الحد لا التى لا يصح
اعتبارها فى الحد. مثل أن يراد بالحكم الاحكام الخمسة التكليفية ، أو يراد فى
قولنا «العلم بالحكم الشرعي» بالعلم التصديق وبالحكم أيضا التصديق ، فيصير المعنى
التصديق بالتصديق.
قوله
: لا مطلقهما ـ الخ.
المراد بقوله «مطلقهما»
ما اذا أريد بكلمة «ما» الموصولة العلم بالحكم ، وبقوله «مطلق احدهما» ما اذا أريد
بها العلم فقط أو الحكم فقط.
وتوضيحه : انه
يحتمل ـ كما سيجيء منه قدسسره ـ أن يراد بكيفية
العمل هيئة وخصوصية وتنوعه ، وأن يراد بها مطلق الاحكام ، فان أريد الاول صح أن
يراد بكلمة «ما» الموصولة احد المعاني التسعة المذكورة بقوله : «فيجوز أن يراد به
التصديق الشرعي» الخ ، وان
أريد الثاني صح أن
يراد بها ـ على تعسف شديد ـ احد المعاني الخمسة من التسعة المذكورة ، فصارت الوجوه
المحتملة أربعة عشر ، وحينئذ فان أريد من الموصولة أو من الكيفية مطلق الاحكام لم
يحصل الانتقاض الطردى وإلّا ينتقض طرد الحد ـ كما سيجيء نحو «قال موسى» و «قال
فرعون» و «قال نسوة» فانها تشتمل على نسب أو احكام شرعية ، بمعنى المسائل متعلقة
بفعل المكلف ابتداء ، وكذا يحصل النقض بمسألة الجبر والاختيار.
فاحتيج فى دفع
الانتقاض الطردي الى اعتبار الحيثية ولحاظ الجهة في قولنا «شرعية» أي من حيث كونها
شرعية ، فتندفع النقوض المذكورة حيث انها ـ وان كانت مشتملة على نسب أو احكام
صادرة من الشارع إلّا أنها ليست من حيث انه شارع بل من حيث انه مخبر وحاك أو جاعل
تكويني.
فظهر أن اندفاع
النقوض حصل باعتبار الشرعية ، فحينئذ اذا الغي قيد الشرعية واريد من الموصولة
مطلقهما أو مطلق احدهما او مطلق الشىء وان لم يكن علما ولا حكما تتضح تلك النقوض
الطردية ورودا ، ولا مدفع لها حيث انه لم يعتبر قيد الشرعية حتى يكون اعتبار
الحيثية رافعا للنقوض ، فظهر أن مراده على بعض الوجوه الآتية هو ما عدا ارادة مطلق
الاحكام من الموصولة او من الكيفية.
قوله
«قده» : أو التصديق بأحد الثلاثة ـ الخ.
مراده من الأولين
التصديق الشرعي أو الادراك الشرعي ، ومن الثلاثة الأخيرة المسائل الشرعية ونسبها
ومطلق الأحكام.
قوله
«قده» : والأنسب بالمقام ـ الخ.
لما احتمل أولا أن
يراد بالموصولة العلم الشرعي او الحكم الشرعي أو العلم بالحكم الشرعي وكانت
الاحتمالات المذكورة مع قطع النظر عن وقوع الفرعية في حد الفقه وصفا للاحكام ، فلا
جرم بملاحظة تلك القرينة قال قدسسره : الانسب أن يراد بها الحكم الشرعي دون العلم الشرعي فقط
أو العلم بالحكم الشرعي كما هو واضح.
قوله
: ما لم يعتبر معه خصوصية.
فلا يصح إيجاب
العلم أو تحريمه إلّا أن يتنوع بنوع خاص ، فيكون عملا صوميا أو عملا غصبيا مثلا ،
وهذا واضح.
قوله
«قده» : على تعسف في بعضها.
وهو أن يراد
التصديق الشرعي أو الادراك الشرعي أو ملكتهما. ووجه التعسف هو أن تلك الامور لا تتعلق بالعمل الخاص الا
بواسطة النسبة الواقعية بينه وبين محموله ، فيحتاج فى تصحيح التعلق الى توسيط
الواسطة كما هو واضح.
قوله
«قده» : وربما امكن اعتبارها بتعسف.
كما مر فى قوله «على
تعسف في بعضها» ، ووجه التعسف قد ظهر مما ذكرنا آنفا من الاحتياج الى توسيط
الواسطة.
قوله
«قده» : ثم لا يذهب عليك ـ الخ.
غير خفي ان
المسائل الشرعية او نسبها او مطلق الاحكام فرع الدين
وان التصديق
الشرعي أو الإدراك الشرعي أو الملكة أو التصديق المتعلق بالمسائل الشرعية أو نسبها
أو مطلق الأحكام فرعي ، اذ التصديق لما كان متعلقا بالامور الشرعية يصير فرعيا.
قوله
«قده» : فعل المكلف ولو قوة.
مقصوده ـ قدسسره ـ التعميم بالنسبة
الى الصبي المميز إن قلنا بأن عباداته شرعية لا تمرينية. ويحتمل أن يكون المراد أن
القضية المعقودة من من الأحكام الفرعية إنما هي قضية حقيقية لا القضية الخارجية التي
يكون الحكم فيها مقصورا على الأفراد المحققة ، بل يكفى فيها الوجود المقدر للافراد
، فلا يلزم أن يكون عمل المكلف ـ الذي هو الموضوع للقضية ـ موجودا فعلا ، بل يكفي
الوجود القوي أي المقدر ـ فافهم.
قوله
«قده» : على بعض الوجوه المتقدمة.
مقصوده من ذلك
البعض هو ما عدا إرادة مطلق الأحكام من الموصولة أو من الكيفية.
قوله
: وكذا لو اعتبر ذلك بالنسبة الى خصوصيات الأفعال.
يعني ان ما ذكر
إنما كان بالنسبة الى مطلق أفعاله ، ويكون الأمر كذلك لو لوحظ بالنسبة الى افعاله
الخاصة ، بأن يقال : إن الله تعالى لا يصدر منه هذا القبيح الخاص ، وانه يمتنع
اظهار المعجزة على يد هذا ، أو ان فعله الخاص الكذائي محكم متقن.
قوله
«قده» : بل ينبغي أن يخص ـ الخ.
إنما قال هنا
وفيما سبق «ينبغي» ولم يقل يلزم مع أن حفظ الحد
عن الانتقاض
الطردي والعكسي لازم لأن هذا الحد مع شدة الاهتمام باستقامته لا يستقيم ، كما
يوضحه قوله : «ومع ذلك يتجه على طرده» ـ الخ ، فيحتاج في استقامته الى ارادة مطلق
الاحكام من الموصولة أو من الكيفية أو اعتبار الحيثية ولحاظ الجهة. وعند اعتبار
احد الامرين على سبيل منع الخلو تندفع النقوض كلها ، فلا يلزم أن يرتكب شيء آخر ـ فافهم.
قوله
: وبمؤدى مثل قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا) ـ
الخ.
مقصوده من المؤدى
هو الإخبار بأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وأما قوله (اسْجُدُوا) فلا ريب في كونه من افراد المحدود ، فلا ضير في دخوله فى
الحد ، فلا يحصل الانتقاض الطردي به كما هو واضح.
قوله
«قده» : وكذا يندفع النقض بمسألة الجبر والاختيار.
بيان النقض : هو
انه اذا قال الجبري «الله تعالى فاعل لأفعال العباد» وقال القدري «الله تعالى مفوض
للامر الى العباد فهم مستقلون في افاعيلهم» ، وقال العدلي «لا جبر ولا تفويض بل
امر بين الامرين» فهي أحكام متعلقة بكيفية العمل بلا واسطة ، فيلزم ان تكون مسائل
فرعية
وبيان الدفع : هو
ان المراد من الموصول او من الكيفية هو مطلق الاحكام الشرعية وتلك ليست اياها ، او
ان المراد من الشرعية ما كان منسوبا الى الشارع بما هو شارع ، وتلك القضايا منسوبة
الى الله تعالى بما هو جاعل تكويني لا بما هو جاعل تشريعي ـ كما هو واضح لا سترة
عليه.
قوله
«قده» : بل بواسطة أحكام أخر.
بداهة ان قول
الشارع الكلب نجس مثلا تعلق النجاسة ، وهي من
الأحكام الوضعية
بالكلب ، وهو عين من الأعيان الخارجية وليس من افعال المكلفين.
نعم يتعلق بفعل
المكلف بواسطة حكم آخر ، وهو قول الشارع «اجتنب عنه» و «اغسل ما لاقاه برطوبة».
وهكذا قوله «هذا مطهر» يتعلق بفعل المكلف بواسطة قوله «لا تجتنب مما طهر به ولا
تغسله» ، وقوله «فلان يرث من كذا» يتعلق بالعمل بواسطة قوله «يحرم التصرف فيما ورث
ويجب دفعه اليه».
قوله
«قده» : وفيه تعسف.
وجه التعسف : هو
انه ليس في الحد المذكور ظهور ولا اشارة في كون التعلق تعلق المسائل بموضوعاتها ،
مع انه يمكن ان يجعل تعلق المسألتين من هذا القبيل ، بأن يقال : شرب التتن مثلا
الأصل فيه الاباحة ، والدعاء عند رؤية هلال رمضان الأصل فيه البراءة عن الوجوب.
فيكون من قبيل تعلق المسائل بموضوعاتها.
بقي الكلام في
معنى قولهم في تعريف الفرعية «بلا واسطة» ، فنقول وبالله الاستعانة : ان الواسطة
تنقسم باعتبار الى الواسطة في الثبوت والى الواسطة في الاثبات ، والمراد بالاول هو
العلة فى الوجود العيني والتحقق الخارجي والكم الثبوتي ، وبالثاني الحد الأوسط
والواسطة فى العلم واللم الإثباتي. وبعبارة اخرى الاول سبب العين والثاني سبب
العلم.
وتنقسم باعتبار
آخر الى الواسطة فى الثبوت والى الواسطة فى العروض والمراد بالاول ان تكون الواسطة
محققا لثبوت ما فيه الواسطة لذي الواسطة بحيث لا يصلح سلب ما فيه الواسطة عن ذي
الواسطة ، اعم من ان يكون ما فيه الواسطة ثابتا للواسطة ام لا ، وذلك كواسطة النار
لثبوت الحرارة
والسخونة للماء مع
اتصافها ايضا بالحرارة ، وكواسطة الشمس لسواد وجه القصار والبارزين لها مع عدم
اتصافها بالسواد. وبالثاني ان تكون الواسطة واسطة في عروض ما فيه الوساطة لذي
الواسطة ، بحيث يصلح سلب ما فيه الواسطة عن ذي الواسطة ، كالسفينة حيث انها واسطة
في عروض الحركة لجالسها ويصلح سلب الحركة عنه.
وبعبارة اخرى :
الفرق بين ما فيه الواسطة في الواسطتين هو الفرق بين الوصف بحال الشىء والوصف بحال
متعلق الشىء ، اذ لا ريب في ان في الأول السخونة وصف للماء والسواد وصف لوجه
القصار ، بخلاف الثاني حيث أن الحركة ليست وصفا لجالس السفينة بل وصف لها كما هو
واضح.
فاذا تقرر ما
ذكرنا فنقول : لا ريب فى أن المراد بالتعلق في قولهم «ما يتعلق بالعمل أو بكيفيته»
هو تعلق المسائل والمحمولات بموضوعاتها ، ولا يصح أن يراد بالواسطة المنفية هي
الواسطة في الثبوت مقابل الواسطة في الاثبات ، اذ لا ريب في أن الأحكام الفرعية من
الممكنات بالذات وليست بواجبة الوجود بالذات. ومن الواضح أن الممكن لا بد في وجوده
من مرجح فاعلى ومرجح غائي تمامى ، اذ الممكن في حد ذاته وحريم نفسه يتساوى فيه
الوجود والعدم وليس فيه ضرورة احد الطرفين ، فاذا كان كذلك فلا بد له من سبب فاعلي
يخرجه عن السواسية واستواء الجانبين ولا ضرورة الطرفين حتى يصير موجودا.
ومن البديهي أن
المتساويين ما لم يترجح أحدهما بمنفصل لم يقع. ومن الواضح أيضا أن الفاعل له تساو
مع الطرفين ، وكذا إرادته يجوز أن تتعلق بالوجود أو بالعدم ، فاذا لم يكن للفاعل
ما يخرجه عن السواسية فيستحيل خروجها عنه ، فيمتنع وجود الفعل مثلا.
فظهر أن الترجيح
بلا مرجح يستلزم الترجيح بلا مرجح ، اعنى ان الترجيح بلا سبب غائي نمامى يستلزم
الترجيح بلا سبب فاعلي ، فاذا كان الامر كذلك فكيف يعقل ان تكون الأحكام الفرعية
بلا واسطة في الثبوت والتحقق والوجود ، بل لا بد لها من المبدأ الفاعلي وهو الجاعل
التشريعي ، والمبدأ الغائي التمامي من المصالح والمفاسد ، ولا يصح ان يراد
بالواسطة المنفية الواسطة في الاثبات ، اذ كلما كان له سبب وعلة او مسبب ومعلول
فلا محالة له واسطة في الإثبات ، اذ ذلك السبب او المسبب يصير حدا اوسط ويصير
الدليل دليل لمّ او دليل إنّ كما هو واضح ، مع ان المفروض كون الأحكام مستفادة من
الأدلة ، فتكون تلك الأدلة وسائط في الإثبات. ولا يصح ايضا ان يراد بها الواسطة في
الثبوت مقابل الواسطة في العروض ، اذ الواسطة في الثبوت بالاعتبار المذكور لا بد
وان يكون فيه اتصاف ذي الواسطة بما فيه الواسطة بالذات والحقيقة بحيث لا يصح سلب
ما فيه الواسطة عن ذي الواسطة.
وقد ظهر مما ذكرنا
أن نفي أصل الواسطة والعلة عن الاحكام الفرعية غير معقول لبطلان وجود الممكن بلا
علة ، فلا بد وأن يكون بلحاظ عدم صحة السلب ، فيكون الحاصل : ان الفرعية ما يتعلق
بكيفية العمل من غير أن لا يصح سلبه ، فيكون المحصل صحة سلب الأحكام الفرعية عن عمل
المكلف ، أي لا تكون وصفا له بحال ، والحال انه خلاف الواقع ، حيث أن الاحكام
الفرعية عارضة لعمل المكلف عروض الأوصاف لموصوفاتها والمحمولات الحقيقية
لموضوعاتها.
ومع الغض عن ذلك
فلا يصح أن يراد الواسطة بهذا المعنى في مقابل الفرعية ، وهو ما لا يتعلق بالعمل
بلا واسطة ، اذ النفي فى النفي لما كان اثباتا يصير الحاصل ما يتعلق بالعمل بواسطة
في الثبوت ، فيكون المحصل أن
الأحكام الأصولية
الاعتقادية تتعلق بعمل المكلف بواسطة في الثبوت ، أي بحيث لا يصح سلبها عنه ،
والحال أن الأحكام الاعتقادية يصح سلبها عنه ولا يكون وجوب الاعتقاد بالله تعالى
ووحدانيته مثلا وصفا لعمل المكلف وعارضا له بالحقيقة كما هو واضح ، بل يمكن منع
كونها عارضة له بالعرض والمجاز أيضا ، اذ من الواضح ان وجوب الاعتقاد بالله تعالى
مثلا لا يكون وصفا للعمل بحال متعلقه ، فلا يصح أن يقال : عمل المكلف ـ مثل شرب
الماء مثلا ـ يجب الاعتقاد بالله.
ومن هنا اتضح ولاح
انه لا يصح أن يراد بالواسطة المنفية فى حد الفرعية الواسطة في العروض ، إذ هو ـ وإن
استقيم في حدها ـ إلّا انه لا يستقيم في حد مقابلها ، وهو الاصولية الاعتقادية ،
إذ لما كان نفي النفي اثباتا فيصير الحاصل ان الاصولية الاعتقادية تتعلق بعمل
المكلف بواسطة في العروض وهو باطل إلّا أن يتكلف ويتعسف بأن وجوب الاعتقاد بوجود
الله تعالى وجوب الاعتقاد بمبيح شرب الماء في المثال المذكور ، فتكون القضية
الاصولية الاعتقادية هكذا : شرب الماء مثلا يجب الاعتقاد بمبيحه ، فيكون الوجوب وصفا
لشرب الماء بحال متعلقه وهو الاعتقاد بمبيحه. ولا يخفى ما فيه من التعسف الشديد
والتكلف الاكيد.
هذا كله بناء على
ما زعموا من ان نفي الواسطة في حد الفرعية للاحتراز عن الاصولية الاعتقادية ، ولا
يخفى انه لو صح واستقام من جانب لم يستقم من جوانب أخر (اتسع الخرق على الراقع).
والذي اراه ان
الاحكام الاصولية الاعتقادية لا تتعلق بالعمل اصلا ، فهي خارجة عن قولنا يتعلق
بالعمل ، واما نفي الواسطة فهو لإخراج الاحكام الفرعية الوضعية بناء على المشهور ،
كما في المحكي عن شرح الزبدة والمستقر عليه رأي المحققين كما فى المحكي عن شرح
الوافية من كون الاحكام الوضعية تابعة منتزعة عن الأحكام التكليفية وليست متأصلة ،
فهي ليست حكما الا بالتبع وبالواسطة ، فلا
يكون من الاحكام
الفرعية الا بواسطة الاحكام التكليفية ، وتكون الاحكام التكليفية واسطة في ثبوت
الاحكام الوضعية لموضوعاتها بحيث لا يصح سلبها عنه ، فلا يصح ان يقال : ان الإتلاف
ليس مسبب للضمان.
وعبارة المحقق «قده»
في القوانين غير أبية عما ذكرنا بل يتعين حملها عليه. قال في بيان قيود حد الفقه :
فخرج بها ـ يعني بالفرعية ـ الاصولية ، وهو ما لا يتعلق بالعمل بلا واسطة وان كان
لها تعلق بعيد.
اذ لو كان الغرض
الاحتراز عن الاصولية بقوله «بلا واسطة» كان قوله «وان كان لها تعلق بعيد» لغوا
مستدركا ، اذ من الواضح أن نفي نفي الواسطة يكون اثباتا لها ، فيصير المحصل : ان
الاصولية الاعتقادية ما تتعلق بالعمل بواسطة ، فيكون التعلق تعلقا بعيدا ، ولا مجال
لقوله «وان كان» ، بل كان عليه ان يقول : ويكون التعلق تعلقا بعيدا وكلمة «إن» وان
لم تكن للتعميم والتسوية بل كانت للتعيين إلّا انها لا تصح الا في مورد يكون قابلا
للتعيين ولغيره ، وبعد ما كان الكلام ظاهرا ونصا فى التعيين لا يبقى للتعيين مجال
اصلا كما هو واضح.
وأما بناء على ما
ذكرنا فيكون المراد بعد نفي التعلق بالعمل في الأصولية تعلق الأحكام والمسائل
بموضوعاتها اصلا مطلقا ، لا بمعونة الواسطة الثبوتية ولا بمعونة الواسطة العروضية
اثبات تعلق بعيد ، لا على وجه التعلق بالموضوعات بل بمجرد مطلق الارتباط ، حيث قد
ظهر مما اسلفنا ذكره أن وجوده الأقدس او وحدانيته تبارك وتعالى اثبات لوجود جاعل
الأحكام لموضوعاتها ووحدانيته ـ فافهم واستقم.
قوله
«قده» : فاعتبار الامكان ـ الخ.
يعني لو لم يعتبر
الامكان في الحد ـ وقيل ما يتوصل ـ خرجت الأدلة
المتعددة عن الحد
مع دخولها في المحدود ، فلا يكون الحد منعكسا جامعا ، لأنه اذا توصل بدليل الى
مطلوب خبري فلا يعقل أن يتوصل بغيره من سائر الأدلة الى ذلك المطلوب الخبري للزوم
تحصيل الحاصل ، بخلاف ما اذا اعتبر الإمكان ، لأن فعلية التوصل ـ وان امتنعت للزوم
المحذور المذكور ـ إلّا أن الامكان باق ، لأن الامتناع الغيري لا ينافي الامكان
الذاتي ، مضافا الى امكان التوصل بغير ذلك الدليل في مورد لم يتوصل الى ذلك
المطلوب الخبري بذلك الدليل.
وفيه : «اولا» ـ أن
التعريف للماهية وبالماهية ، لأن الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا. ولا شبهة في أن
الماهية من حيث هي ليست إلّا هي لا واحدة ولا كثيرة. وحينئذ فلا يكون في حد الدليل
ولا نفسه اعتبار التعدد ولحاظه ـ فتأمل.
«وثانيا» ـ انه لا
ريب في أن توارد العلل المتعددة على معلول واحد شخصي محال ، سواء كان على سبيل
الاجتماع او على نهج التعاقب او على طور التبادل ، لأن خصوصية احدى تلك العلل إما
أن يكون لها مدخلية في صدور ذلك المعلول الشخصي فيمتنع صدوره من غيرها ، أو يكون
للغير مدخلية في الصدور فيمتنع صدوره من تلك الواحدة ، فلا بد وأن تكون الخصوصيات
ملغاة ، وحينئذ يكون القدر المشترك الجامع هو العلة وهو يكون واحدا. فاتضح امتناع
صدور الواحد عن الكثير اذا كان المعلول واحدا عدديا شخصيا ، واما اذا كان المعلول
واحدا نوعيا او جنسيا فلا استحالة في توارد العلل المتعددة عليه ، لأن الواحد
الجنسي عين الكثير النوعي والواحد النوعي عين الكثير العددى الشخصي ، فبالحقيقة
يرجع الأمر الى علية كل علة لنوع على حدة او علية كل علة لشخص على حدة ولا استحالة
فيه ولا محذور ، وهذا واضح.
ومن الواضح الغير
الخفي انه لا فرق في العلل بين علل العين وبين علل العلم. وبعبارة اخرى بين وسائط
الثبوت وبين وسائط الإثبات ، ولا فرق في المعلول بين أن يكون وجودا خارجيا أو علما
لجريان البرهان القائم على الامتناع في الواحد الشخصي وعدمه في الواحد الجنسي
والنوعي فيهما من غير فرق ـ كما لا يخفى.
وحينئذ نقول : لا
يعقل تعدد الأدلة بالنسبة الى معلول واحد شخصي وهو شخص من العلم ، إلّا بأن تكون
العلة وواسطة الاثبات هو الجامع القدر المشترك ، بأن تكون العلة هو الحد الأوسط
الذي يكون له تلازم مع الأصغر وملازمة مع الأكبر ، وهذا معنى واحد فارد يكون جامعا
للدليل الإني والدليل اللمى ، وليس فيه تكثر قيد أصلا ، وان تكثرت مصاديقه فلا
يكون دليل متعدد بالنسبة الى شخص من العلم حتى يحتاج في ادراجه في الحد الى ازدياد
قيد الإمكان.
وأما بالنسبة الى
اشخاص العلم فالدليل ـ وان امكن تعدده ـ إلّا أن كل دليل يتوصل به الى شخص من
العلم غير الشخص الذي توصل به الى شخص آخر ، فلا يلزم تحصيل الحاصل ، اذ تحصيل
الحاصل الشخصي محال ، وأما تحصيل الحاصل النوعي او الجنسى في ضمن شخص آخر أو نوع
آخر فلا استحالة فيه بل هو واقع كما لا يخفى. وحينئذ فالتوصل فعلا بكل دليل حاصل
الى شخص ، فلا حاجة الى اعتبار قيد الإمكان ـ فافهم واستقم واغتنم.
قوله
«قده» : والذي لم ينظر فيه.
فيه : انه لا ريب
في أن الصحيح النظر واسطة في عروض التوصل في الثبوت ، إذ يصح سلب التوصل ، وهو ما
فيه الوساطة عن ذي الواسطة
وهو ذات الدليل ،
فليس له اتصاف بالتوصل بالحقيقة وبالذات ، فبقى أن يكون الاتصاف على وجه العروض
والمجاز ، فلم يكن فيه الا قابلية التوصل وإمكانه ، فلا حاجة الى ازدياد قيد
الامكان لدخول الدليل المغفول عنه الذي لم ينظر فيه.
مضافا الى انه لو
كان التوصل ظاهرا في التوصل الفعلى دون القابلي الشأني نقول : أيّ داع دعى الى
إدخال الدليل المغفول عنه في الحد ، اذ لا نسلم دخوله في المحدود إلّا أن يكون
مجرد اصطلاح ، ولا مشاحة في الاصطلاح.
قوله
«قده» : وينبغي أن يراد به الامكان.
يعني لو لم يرد
الامكان العادي لصدق الحد على الأدلة المسبوقة بالضرورة لتحقق امكان التوصل إمكانا
ذاتيا فيها ، بخلاف ما اذا أريد بها الإمكان العادي ، اذ لم تجر العادة في
الضروريات قبل الاستدلال التوصل بالأدلة ، فلا يمكن التوصل إمكانا عاديا.
وفيه : انه لا
حاجة الى ارادة الامكان العادي من الإمكان ، لأن الأدلة المسبوقة بالضرورة تخرج عن
الحد بقولهم «الى مجهول خبري» اذ ليس في الضروريات مجهول.
قوله
«قده» : وهو اولى ـ الخ.
الحق هو جواز
التعريف والتحديد بالمفرد الفصلي أو الخاص ، إذ من الواضح ان الجنس فضلا عن العرض
العام مأخوذ في المركبات الخارجية من المادة والفصل فضلا عن الخاصة مأخوذ من
الصورة. ولا ريب في أن المادة حامل قوة الشيء وامكانه ، وقوة الشىء ليست بشيء بل
الشيء
هو المقوى عليه ،
وشيئية الشيء بصورته لا بمادته.
فاتضح أن حقيقة
الشيء تمامها هو الفصل والخاصة الحاكية عنه ، ولا مدخل للجنس والعرض العام فيها ،
فالتحديد بالفصل تحديد بتمام ذاتيات الشيء ، اذ لم يخرج منه الا ما هو من قبيل
عجائب الشىء وغرائبه ـ فافهم إن كنت من أهله.
قوله
: ما يعم النظر في نفسه.
فيه ما لا يخفى ،
اذ كيف يعقل النظر في نفس الشىء والتوصل الى مجهول خبري ، وكيف يعقل أن يتوصل
بالمفرد ـ كالعالم ـ الى مجهول خبري. ومن البديهي أن التصور لا يكون كاسبا للتصديق
والعلم المتعلق بالمفرد لا يكون إلّا تصورا. وبعبارة اخرى : لا يمكن الاستنتاج
والوصول الى مطلوب خبري ما لم يكن حدا وسطا لازما للاصغر وملزوما للاكبر ، فلا
محالة احتيج الى النظر في شىء آخر. فالعالم مثلا ما لم ينظر الى انه مصنوع وكل
حادث يحتاج الى محدث وكل مصنوع يحتاج الى صانع لم تحصل النتيجة المطلوبة ، وهي أن
العالم محتاج الى محدث أو صانع.
وبالجملة ما ذكرنا
واضح غاية الظهور.
قوله
«قده» : ويخرج عنه المقدمات المرتبة.
فيه من الغرابة ما
لا يخفى ، إذ يلزم منه أن لتكوين ما يتوصل به فعلا دليلا ويكون الدليل هو المتوصل
به شأنا وقوة وإمكانا ، والحال أن الموصل والمتوصل به الفعلي احق بالدليلية كما هو
واضح.
وببيان آخر نقول :
إن كان ولا بد من اعتبار الامكان في حد الدليل فلا بد وأن يعتبر امكانا عاما غير
آب عن الوجوب الغيري ،
لا خصوص الإمكان
العام المتحقق فى ضمن الامتناع الغيري. ومن المعلوم الواضح أن الدليل على مقالته ـ
قدسسره ـ يكون هو
المقدمات الغير المرتبة لما انعدم شرط التوصل بها هو النظر الصحيح يمتنع حصول
التوصل فيصير حصول التوصل ممتنعا غيريا ، إذ الممكن الذاتي يمتنع بالامتناع الغيري
بسبب عدم تحقق علة وجوده ، اذ علة العدم عدم ، فيؤول الأمر الى أن الذي يمتنع
التوصل به فهو دليل ، وأما الذي كان التوصل به ممكنا وبلغ الى حد الوجوب الغيرى ـ بأن
حصل شرائط التوصل ـ فهو ليس بدليل ، وهو كما ترى.
ومن الغريب البديع
أن بعض المعاصرين في بدائعه أجاب عن هذا الإشكال ـ أي لزوم عدم كون الموصل الفعلي
أي القياس المنتظم دليلا عند الاصولي ـ بما محصله جواز اجتماع القوة والفعل ، وكون
إطلاق الدليل على الموصل الفعلي من جهة كونه موصلا قويا شأنيا فقال : نمنع استحالة
اجتماع القوة والفعل في مثل المقام ، لأنا نجد بالوجدان أن الدخان إذا اتصف
بالإيصال الفعلي الى النار لم يخرج من شأنية الإيصال ، بمعنى صلاحيته لذلك لو فرض
زوال ذلك العلم الحاصل بغفلة ونحوها. وانت تعلم أن القواعد الفعلية غير قابلة
للتخصيص ، وكيف يصح اجتماع القوة والفعل في مقام دون مقام. ودعوى كونهما متقابلين
في مقام دون مقام واضح الفساد ، إذ مرجع القوة الى الفقدان ومرجع الفعل الى
الوجدان ، وتقابلهما فى جميع المقامات واضح.
وفيما ذكره من
المثال ما لا يخفى من الغفلة ، اذ زوال العلم وطرو الغفلة عين زوال الإيصال الفعلي
وارتفاع الفعلية وبقاء القوة ، فلا يتحقق اجتماع القوة والفعل.
ثم قال المعاصر :
على أن الممتنع انما هو اجتماع الفعلية والشأنية في
حق شخص واحد ،
وأما بالقياس الى شخصين فليس يمتنع جدا ، فتسمية الموصل الفعلى دليلا أصوليا ليس
من كون الاعتبار لشأنية الإيصال في حق شخص آخر.
وأنت خبير بأنه
يجدي لبقاء الاشكال وعدم كونه دليلا اصوليا بالنسبة الى ذلك الشخص الذي حصل له
الإيصال الفعلي بالنسبة اليه كما هو واضح
قوله
«قده» : على شرائط المادة والصورة.
المراد بالمادة هي
مادة القياس المنقسم باعتبارها الى الصناعات الخمس اي : البرهان ، والخطابة ،
والشعر ، والجدل ، والمغالطة. والمراد بشرائط المادة مثلا في البرهان هو أن تكون
المادة ضرورية أو منتهية الى الضرورة وغير ذلك من الشرائط. والمراد بالصورة أن
يكون الدليل على هيئة الاستثنائيات او الاقترانيات. والمراد بشرائط الهيئة هي
الشرائط التي اعتبرت في الأشكال الأربعة. مثلا مثل ايجاب الصغرى وكلية الكبرى في
الشكل الأول المسمى عندهم بالقياس الكامل ، وغير ذلك من الشرائط في سائر الأشكال.
قوله
: وإن حصل التوصل به اتفاقا.
فيه : أن ما ذكروه
من شرائط المادة والصورة إما أن يكون الشرط أولا ، ولا يخرج الشيء عن طرفي
الانفصال والتعاند الحقيقي وإلّا لزم ارتفاع النقيضين ، فعلى الثاني يلزم الخلف
المحال ، اذ المفروض أن ما ذكروه شرط ، وعلى الاول لو كان الدليل الفاسد مادة أو
صورة منتجا وموجبا للعلم يلزم تحقق المشروط بدون شرطه ، وهو محال لاستلزامه وجود
الشيء بلا وجود علته التامة ، وهو محال كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : وهذا التعريف لا يتناول الأمارة.
هكذا في النسخ
التي رأيناها ، والظاهر بل الحق المقطوع به أن كلمة «لا» سهو من قلم الناسخ والمراد من الأمارة هي الأدلة الظنية والطرق الغير
العلمية. ومقصوده : ان الحد المذكور ـ وهو ما يمكن أن يتوصل ـ الخ ، يشمل الأدلة
العلمية والظنية ، إذ لم يعتبر في الحد كون التوصل على وجه العلم ، ولكن بعضهم
اخرج الأمارة بقوله «الى العلم بالمجهول» حيث ان الأمارة لا يتوصل بها الى العلم
بل الى الظن ، لأن الظني لا يعقل أن يفيد علما كما هو واضح. وحينئذ ظهر انعقاد
الاصطلاحين في الدليل ، حيث أن الدليل ـ بحسب أحد الاصطلاحين ـ شامل للعلمي والظني
، وبحسب الاصطلاح الآخر مختص بالعلمي ، ويلتئم أجزاء كلامه.
وأما بناء على
وجود كلمة «لا» فيحتاج تصحيحه الى تكلف أن الامارة تخرج بقيد النظر ، اذ النظر
ترتيب امور معلومة أو ملاحظة المعقول ، ومن الواضح أن المعقول أو الامور المعلومة
لا يكون إلّا علميا ، ولكن مع هذا يشكل ولا يصح كلامه «قده» ولا يلتئم أجزاؤه ، إذ
بناء على وجود كلمة «لا» فلا يكون فرق في تحديده وتحديد البعض ، اذ الحدان مشتركان
في اختصاص الدليل بالعلمي ، فلا يكون اصطلاحان ولم يصح.
قوله
«قده» : وربما امكن تخصيصه على الاول.
إذ لا أول ولا
ثاني على هذا كما هو واضح.
قوله
: واعتبارها أدلة صحيحة بالاصطلاحين.
أما على الاصطلاح
الأول ـ الذي هو اعم من العلمي والظني ـ فواضح
__________________
لأن الأدلة
الأربعة وإن لم توجب علما إلّا انها توجب ظنا بها. وأما على الاصطلاح الثاني الذي
هو مختص بالظني فلأن الأحكام لما كانت اعم من الأحكام الواقعية والظاهرية فالأدلة
الاربعة وان لم تفد العلم بالأحكام الواقعية إلّا انها تفيد العلم بالأحكام
الظاهرية ، كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : وربما امكن تخصيصها على الأول ـ الخ.
يعني يمكن تخصيص
الأحكام على الاصطلاح الأول ـ أي الحد الأعم ـ الشامل للدليل العلمي والظني
بالثاني أي الأحكام الواقعية ، ويكون ذكر الوصف ـ أي التوصل الى المجهول الخبري ـ مبنيا
على الغالب في الأدلة الأربعة حصول الاعتقاد ولو ظنا بالواقع.
نعم قد لا يفيد
الاعتقاد به اصلا ولو ظنا ، اذ الخبر الواحد مثلا ـ وان كان حجيته من باب الطريقية
وان لم يكن من باب الموضوعية ـ إلّا ان حجيته من باب الظن النوعي لا الشخصي ،
ومعلوم أن ما كان حجة من باب الظن النوعي ربما لا يفيد الظن الشخصي اصلا ، بل ربما
يكون الظن الشخصي الفعلي على خلافه ، وكذلك الأصول العملية لا تفيد الاعتقاد
بالأحكام الواقعية أصلا.
وانما قال ـ قدسسره ـ على الاول
بالثاني ، اذ بناء على الاصطلاح الثاني المختص بالدليل العلمي لا يمكن تخصيص
الأحكام بالواقعية ، ولا يمكن حمل الوصف ـ وهو التوصل العلمي ـ على الغالب ، اذ
التوصل العلمي الى الأحكام الواقعية لا يكون إلّا نادرا.
قوله
: كيف وجملة من طرق النظر ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ انه لا يمكن أن
يكون المراد بموضوع هذا
العلم هو المقدمات
المرتبة للزوم الدور المحال ، لأن مسائل هذا الفن ومقاصده متأخرة عن الأدلة تأخر
المحمولات عن موضوعاتها والأعراض عن محالها ، فاذا كانت الأدلة هي المقدمات
المرتبة تأخرت عن مسائل هذا الفن ومقاصده لأن جملة من طرق النظر وترتيب المقدمات
انما تعرف وتعلم في هذا العلم مثلا : كون صيغة الأمر هيئة للوجوب يعرف في هذا
الفن. فاذا كان الدليل هو المقدمات المرتبة فيكون الدليل على وجوب الصلاة مثلا هو
قولنا «الصلاة مما طلب فى الكتاب بصيغة الامر وهيئته ، وكلما طلب في الكتاب بصيغة
الامر فهو واجب ، فينتج أن الصلاة واجبة».
ولا ريب فى أن
الكبرى ـ وهي قولنا «كلما طلب بهيئة الأمر وصيغته فهو واجب» ـ من مقاصد هذا الفن
من مباحث ألفاظه ، حيث يثبت فيه أن صيغة الأمر للوجوب ، فهذه الكبرى لما كانت من
مقاصد هذا العلم تكون موقوفة على موضوعه وهو الدليل ، والدليل لما كان هو القياس
المرتب المؤلف ـ على ما هو المفروض ـ كان موقوفا على هذه الكبرى ، لان القياس
المؤلف لا يكون إلّا مركبا من الصغرى والكبرى ، والمركب موقوف على أجزائه ، فتكون
هذه الكبرى موقوفة على نفسها ، وهو الدور الظاهر الصريح المحال. فظهر أن المراد
بالأدلة لا بد وأن يكون هو المقدمات الغير المرتبة. هذا غاية توضيح مرامه زيد في
علو مقامه.
وفيه : ان ما ذكر
لا يقتضي إلّا أن المراد بالأدلة هو المقدمات الغير المرتبة ، وأما انه هو المعنى
الحقيقي للدليل فلا ، وقد سبق منا ان اطلاق الأصوليين الدليل على المفرد اطلاق
تسامحي تجوزي ، اذ المفرد لا يعقل أن يكون دليلا متوصلا به إلّا أن يكون مجرد
اصطلاح ولم يثبت وانما الثابت اطلاقه على المفرد ـ فافهم واستقم.
قوله
«قده» : احتراز عن المعرف ـ الخ.
فيه : ان ظهور
العلم في التصديق ممنوع ، بل الظاهر منه هو مطلق الإدراك ، فلا يكون المعرف والقول
الشارح خارجا بقيد العلم.
ثم لو سلم أن
العلم ظاهر في التصديق فلا نسلم أن الغرض من قوله «ايجابا وسلبا» هو الاحتراز عن
المعرف حتى يكون مستدركا غير محتاج اليه ، بل المقصود منه هو التعميم فى المطلوب
والنتيجة بأنه قد تكون ايجابية وقد تكون سلبية.
قوله
«قده» : فانه قد يفيد العلم ـ الخ.
فيه ما سلف منا عن
قريب من انه لو كان الدليل الفاسد مادة او صورة مفيدا للعلم لزم الخلف او وجود
المشروط بدون شرطه والمعلول بدون وجود علته التامة.
قوله
«قده» : وأيضا لا يتناول الادلة المتعددة ـ الخ.
فيه ما سبق منا عن
قريب من أن تعدد العلم بالنسبة الى شخص العلم غير معقول ، للزوم توارد العلل
المتعددة على معلول واحد ، فلا بد وأن يكون الدليل والواسطة في الاثبات وعلة العلم
شيئا واحد ، فلا يكون أدلة متعددة حتى يكون داخلا في المحدود وخارجا عن الحد. وأما
تعدد الأدلة بالنسبة الى اشخاص العلم ـ وبعبارة اخرى : توارد العلل المتعددة على
المعلول الواحد النوعي ـ فلا استحالة فيه ، ويكون كل منها مفيدا للعلم بالنسبة الى
شخص معلوله ، ولا استحالة فيه ، وليس فيه تحصيل الحاصل الشخصى.
ان قلت : وان لم
يكن فيه تحصيل الحاصل إلّا أنه يلزم منه اجتماع
الامثال ، والحال
ان اجتماع المثلين كاجتماع الضدين محال. بيان الملازمة ان اشخاص العلم المذكورة
امثال ، وقد حلت وارتسمت في الذهن وهو محل واحد.
قلت : ان
المعلومات قائمة بالنفس قياما صدوريا لا قياما حلوليا ، والممتنع انما هو قيام
المثلين أو الأمثال بمحل واحد لا قيام المثلين او الأمثال بمبدإ فاعلي وتكون قائمة
به قياما صدوريا ـ فافهم إن كنت من أهله.
قوله
«قده» : على ما نراه من أن الملكات كيفيات ـ الخ.
وليعلم أن
الكيفيات إما كيفيات محسوسة وإما كيفيات نفسانية ، وكل منهما إما راسخ بحيث يعسر
زواله أو غير راسخ.
أما الكيفيات
المحسوسة ـ أي المحسوسة باحدى الحواس الخمسة الظاهرة ـ فالراسخ منها كصفرة الذهب
وحلاوة العسل سميت انفعاليات ، وغير الراسخ منها كحمرة الخجل وصفرة الوجل سميت
انفعالات ، وموضوعهما الجسم.
وأما الكيفيات
النفسانية التي يكون موضوعها النفس فالراسخ منها يسمى ملكة ، وغير الراسخ يسمى
حالا.
ومن الواضح أن
الراسخ وغير الراسخ ـ وبعبارة اخرى الانفعالى والانفعال ـ جنسان تحت الكيف المحسوس
المطلق ، ويكون تحت كل منهما جميع الكيفيات الخمس المحسوسة التي تحت كل منها اجناس
وانواع ، وكذلك الملكة والحال جنسان مندرجان تحت الكيف النفساني المطلق يكون كل
منهما مقولا على كثيرين مختلفين بالحقيقة ، إذ من الواضح أن الكيفيات النفسانية ـ كالعلم
والشجاعة والجود والعدالة وغيرها ـ امور مختلفة حقائقها متكثرة أنواعها ، فالملكة
أو الحال المقول عليها أو على واحد منها يكون مقولا
على كثيرين
مختلفين ، فيكون جنسا. فليس اختلاف الملكات بمجرد اختلاف عارض الاضافة والنسبة بعد
اتفاقها في الحقيقة والذات.
قوله
«قده» : وقلنا بأن حقائق العلوم تابعة لحقائق معلوماتها.
تقريبه وتوضيحه :
هو أنه لا ريب في أن الاشياء تحصل بحقائقها وماهياتها لا بأشباحها وأمثالها في
الذهن ، وإلّا لكان العلم جهلا «هف» فاذا حصلت بحقائقها في الذهن.
ومن المعلوم أن
العلم ـ على ما قيل ـ هو الصورة الحاصلة عند العقل ، فتكون تلك الحقائق الحاصلة في
الذهن المختلفة ذاتا وحقيقة علما ، فيكون العلم مختلفا حسب اختلاف حقائق المعلومات
، فيكون العلم مقولا على كثيرين مختلفين بالحقيقة ، فيكون جنسا.
وبتقريب آخر نقول
: إن المعلوم على قسمين : معلوم بالعرض ، ومعلوم بالذات. والأول هو الأمور
الخارجية التي تكون وجوداتها الخارجية الحاصلة للمادة المنغمرة فيها التي هي مناط
الاحتجاب والغيبة والجهل ، فلا تكون مدركة معلومة منكشفة الا بواسطة الصورة
المنتزعة منها المجردة المعراة المقشرة عن المادة ، والثاني هو تلك الصورة المجردة
الحاصلة لدى العقل التي تكون منكشفة بنفسها مدركة بذاتها بلا واسطة صورة اخرى ، وإلّا
لدار وتسلسل.
ولا شبهة في أن
المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض متحدان بالحقيقة والذات وإلّا لزم أن يكون العلم
جهلا «هف» ، ولا ريب في أن المعلوم بالعرض حقائق متخالفة ومهيات متكثرة ، فالمعلوم
بالذات الذي هو عينه يكون مختلفا حسب اختلافه ، ولا ريب أيضا في أن المعلوم بالذات
والعلم متحدان بالذات والتفاوت بالاعتبار على ما هو الحق المحقق عندنا من اتحاد
العلم والمعلوم أي المعلوم بالذات ، فكل مدرك يكون عين الإدراك.
وهذا لعله بمكان
من الوضوح والظهور لا يحتاج الى اقامة برهان عليه ، اذ من المعلوم الواضح أن ليس
في الذهن الا المعلوم بالذات ، فهو إن لوحظ باعتبار كونه منكشفا بالذات لا بواسطة
صورة يسمى معلوما ومدركا ، وإن لوحظ كونه انكشافا وظهورا وانجلاء يسمى علما.
وحينئذ فاذا كان العلم عين المعلوم بالذات الذي هو مختلف نوعا متكثر ذاتا يكون
العلم أيضا كذلك ، لأن حكم احد المتحدين يسري الى الآخر ، فحينئذ يكون العلم مقولا
على كثيرين مختلفين بالحقيقة ، فيكون جنسا.
هذا غاية توضيح
المقام وتصحيح المرام. وفيه : أن الأشياء ـ وإن قلنا بحصولها بحقائقها في الذهن ،
وقلنا بأن العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل ، وقلنا بأن صورة الشيء
مهيته التي هو بها هو ـ إلا أن تلك الحقائق والمهيات الحاصلة عند العقل هي
المفاهيم والمهيات اللابشرطية الغير الملحوظة معها شيء حتى وجودها الخاص بها الذي
يكون منشأ للآثار فهي أنفسها بالحمل الأولي الذاتي ، فيكون اختلافها بحسب هذا
الحمل ، وأما بحسب الحمل الشائع الصناعي فليست الا علما ولا يكون إلّا حقيقة واحدة
، وليس مقولا على حقائق متخالفة.
نعم المفاهيم
المتخالفة تكون عين العلم ، لا انها تكون حقائق متخالفة وطبائع تكون مترتبا عليها
آثارها يكون العلم مقولا عليها حتى يكون جنسا لها ـ فافهم بعون الله تعالى ان كنت
من اهله.
قوله
«قده» : وبمنزلة الجنس أيضا.
مقصوده من كلمة «أيضا»
تكرير محمول آخر للعلم لا تكرير خصوص كونه بمنزلة الجنس ، إذ لم يسبق احتماله ،
فالكلام مثل أن يقال «زيد عالم وهاشمي أيضا».
ويمكن ـ على بعد
غاية البعد ـ أن تكون كلمة أيضا باعتبار ما يستفاد من قوله «على ما نراه من أن
الملكات كيفيات مختلفة بالنوع والحقيقة لا بمجرد النسبة والاضافة» ، إذ المستفاد
أن الملكات لو كانت مختلفة بمجرد عارض النسبة والاضافة كان العلم بمنزلة الجنس.
قوله
«قده» : إن فسر بالتصديق مطلقا.
مراده من الاطلاق
مقابل التفصيل المستفاد من قوله «إن جعلنا التصور والتصديق من أصنافه» ، فيكون
المعنى من غير تفصيل.
وببيان آخر : أي
سواء كان التصديق نوعا من الإدراك أو صنفا منه يكون العلم بمنزلة الجنس ، إذا
التحديد بالنوع أو الصنف تعريف بما هو بمنزلة الجنس.
وفيه : أن النوع
ان كان نوعا سافلا يكون التحديد به تحديدا بما هو بمنزلة الجنس ، وأما اذا كان
نوعا متوسطا يكون التحديد به تحديدا بما هو جنس ، إذ الأنواع المتوسطة التي هي
انواع بالنسبة الى جنس فوقها أجناس بالنسبة الى ما تحتها كما هو واضح. وحينئذ
فبمجرد كون التصديق نوعا لا يصير بمنزلة الجنس ، بل لا بد من كونه نوعا سافلا ،
وأنى له قدسسره باثباته.
قوله
«قده» : لأنها حينئذ نوع ـ الخ.
الظاهر رجوع
الضمير الى التصور والتصديق ، والضمير في قوله «بالنسبة اليه» راجع الى النوع
المراد به التصور والتصديق. ولا يخفى عدم ارتباط التعليل بالمعلل بل لا يحتاج الى
التعليل ، إذ بعد ما فرض كون التصور والتصديق من أصناف الإدراك يكون العلم ـ وهو
الادراك ـ نوعا
فلا محالة يكون
بمنزلة الجنس ، مضافا الى انه لا يعقل أن يكون شيء واحد صنفا ويكون نوعا ، فكيف
يصح كون التصور والتصديق صنفين ، ويكون هذان الصنفان نوعا بالنسبة الى العلوم
والإدراك ، إذ ما لم تصل الأنواع المتسافلة الى النوع السافل لم يتصف ، وبعد ما
صار نوعا سافلا ليس وراؤه نوع وصنف ، فلو فرض كون ذلك الصنف نوعا ايضا لزم الخلف ،
إذ ما فرض كونه نوعا سافلا كان النوع السافل غيره.
ويحتمل ـ على بعد ـ
ان يكون الضمير في قوله «لأنها حينئذ نوع» الى الإدراك والتصديق ، فيرتبط التعليل
بالمعلل ، ويكون الحاصل ان الإدراك والتصديق نوع بالنسبة الى العلوم والإدراكات ،
فيكون العلم ـ سواء كان بمعنى التصديق أو الإدراك ـ بمنزلة الجنس ، لأنهما نوع.
وهذا الاحتمال وإن
كان ملائما مع قوله «أو بالإدراك» إن جعلنا التصور والتصديق من أصنافه ، حيث انه
لو جعل التصور والتصديق نوعا من الإدراك لم يكن الإدراك بمنزلة الجنس وان كان نوعا
، لأنه يكون نوعا عاليا اندرج تحته نوعان وهما التصور والتصديق.
ومن المعلوم أن
النوع العالي يكون جنسا بالنسبة الى ما تحته إلا أنه لا يلائم قوله «إن فسر
بالتصديق مطلقا» ، إذ المراد من الإطلاق ـ بقرينة المقابلة ـ هو التعميم بالنسبة
الى جعل التصديق نوعا من الإدراك أو صنفا منه.
ولا يخفى أن
التعليل بكون التصديق نوعا لا يناسب التعميم الى كونه صنفا كما لا يخفى ، إلا أن
يكون المراد بالإطلاق هو عدم التفصيل لا التعميم ـ فافهم.
قوله
«قده» : وإن كان جنسا ـ الخ.
الضمير إما راجع
الى التصور والتصديق ، وإما الى التصديق والإدراك على الاحتمالين اللذين سبق
ذكرهما. ومقصوده هو أن كل عرض يكون قويا شديدا ويكون ضعيفا يكون ذلك العرض جنسا
لهما ، إذ هو معقول على الكثيرين المختلفين بالحقيقة ، إذ الشديد والضعيف مختلفا
الحقيقة ، وحينئذ فيكون التصديق والإدراك أو التصور والتصديق لما كان تحتهما مراتب
شديدة وضعيفة فيكونان كالسواد المقول على السواد الضعيف والشديد ، فيكونان جنسا
بالنسبة الى المراتب ، إلّا أن هذا لا ينافي كونهما نوعا بالنسبة أصل الماهية
والحقيقة دون المراتب.
هذا محصل مرامه.
وفيه : أن المشكك الذي هو ذو مراتب ودرجات من الشديدة والضعيفة ليس مقولا على
مختلف الحقيقة ، اذ المشكك يكون ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك وما به
الافتراق عين ما به الاتفاق ، ولم يتخلل من غير سنخ تلك الحقيقة شيء ، فكان
التفاوت بالنقص والكمال في أصل الماهية والحقيقة ، فالسواد الشديد مثلا بالنسبة
الى السواد الضعيف ليس ما زاد عليه الا كما ساواه ، فيكون المشكك حقيقة واحدة
نوعية لها شئون ودرجات ومراتب ، بل بناء على مذهبنا من انتفاء التشكيك بجميع
انحائه من المفاهيم والمهيات ، وكون التشكيك حقا صدقا وملكا طلقا للوجود لا يكون
المشكك الا الوجود ، وهو ليس بكلي ولا جزئى ولا جنسا كما هو واضح ، فلا تكون
المهيات مشككة إلّا بالعرض والمجاز ـ فافهم إن شاء الله تعالى إن كنت من أهله.
قوله
«قده» : وهو بظاهره يقتضي حمل الاحكام على النسب.
وجهه : هو أنه لا
يصح أن يكون المراد بالأحكام خطابات الشرع ،
للزوم اتحاد
الدليل والمدلول كما ذكروا ، ولا يصح أن يكون المراد بها خصوص الأحكام التكليفية
للزوم عدم انعكاس الحد وجامعيته ، فبقي أن يكون المراد بها النسب أو المسائل او
مطلق الأحكام ان اعتبرت من حيث الانتساب او التصديقات ، فاذا حملت على النسب يخرج
العلم بالذوات والصفات من غير لزوم تعسف ولا محذور ، بخلاف ما اذا حملت على
المسائل او مطلق الأحكام من حيث الانتساب فيكون مخرجة للصفات إذا أخذت مجردة عن النسبة
، لأن المسائل هي المحمولات المنتسبة مطلقا والأحكام مأخوذة من حيث الانتساب ،
فاعتبار الانتساب يخرج ما لا نسبة فيه وهو الصفات المجردة ، وهذا تعسف مضافا الى
عدم ملائمة الاقتصار على الذوات والصفات فى في الاحتراز كما سيذكره ، أو اذا حملت
على التصديقات للزوم التعسف الشديد بأخذ الصفات منتسبة واعتبار الاحتراز بالنسبة
الى الأمرين لتحقق الاحتراز عن النسبة حيث انها تخرج بالتقيد بها.
قوله
«قده» : امكن توجيه الاحتراز ـ الخ.
فيه أنه بناء على
كون المراد بالأحكام مطلق الأحكام يخرج العلم بالصفات ولا يحتاج الى اعتبار مطلق
الأحكام من حيث الانتساب واخذ الصفات مجردة عن النسبة كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : لخروج العلم بالنسبة الى الاول.
لأنه بناء على كون
المراد بالأحكام المسائل يخرج العلم بالذوات والصفات المجردة والنسبة ، وقد اقتصر
القوم على الأولين مع كون العلم بالنسبة خارج أيضا.
قوله
«قده» : والعلم بما عدا مطلق الأحكام على الثاني.
المراد بالثاني
كون المراد بالأحكام مطلق الأحكام من حيث الانتساب والمراد بما عدا مطلق الأحكام
هو العلم بالذوات والصفات المجردة والنسبة والصفات المنتسبة ، إذ ليست هي مطلق
الأحكام.
قوله
«قده» : فقد أراد بها ما يغايرها.
إن اريد بالصفات
المعنى الناعت القائم بالغير ـ اعم من أن يكون القيام قياما حلوليا او صدوريا ـ كانت
شاملة للأفعال ، وان اريد بها القائم قياما حلوليا غايرت الأفعال ، إذ قيامها قيام
صدوري.
قوله
: كما عرفت من انه لا يصح حمل العلم على الإدراك أو التصديق
إذ إدراك
التصديقات أو التصديق بها لا يكون فقها.
قوله
«قده» : ويتوقف صحة الاحتراز المذكور ـ الخ.
وجه التوقف ـ مع
أن الأحكام إذا أخذت بمعنى التصديقات فيخرج بها جميع التصورات من العلم بالذوات
والصفات وغيرهما وان لم تفسر الملكة بمجرد التهيؤ ـ هو أن الملكة اذا فسرت بمعنى
التهيؤ والاستعداد فالعلم الجنسي المفسر بالملكة يشمل العلم بالذوات والصفات ،
فتصل نوبة الإخراج الى قيد الأحكام المفسر بالتصديقات فتستقيم نسبة الإخراج اليها
بخلاف ما اذا فسرت بمعنى الهيئة الراسخة مطلقا او الناشئة عن الممارسة فيما أضيفت
اليه الملكة ، لأنه على الثاني يكون المضاف اليه الممارس فيه في العلوم هو
التصديقات ، ومع قطع النظر عن المضاف اليه الممارس فيه فلا شبهة في أن المراد بها
هو ملكة التصديقات دون مطلق الملكة ، إذ ليس مطلق الملكة علما كما هو واضح.
وكذلك على الثاني
لا شبهة في ان المراد بها هو خصوص ملكة التصديقات ، وحينئذ فلا يشمل العلم الجنسي
للعلم بالذوات والصفات وغيرهما حتى يكون قيدا للاحكام المفسر بمعنى التصديقات
مخرجا ـ كما هو واضح.
قوله
«قده» : وينبغي أن تؤخذ الصفات ـ الخ.
توضيحه هو أن
الخارج بقيد الأحكام لما كان هو النسبة أيضا فينبغي أن تؤخذ الصفات المذكورة في
كلام القوم للخروج بقيد الأحكام منتسبة ، كما يرشد اليه تمثيل بعضهم للصفات بقوله
: «كعلم زيد وشجاعته وكرمه» وحينئذ فاذا خرجت الصفات بقيد الأحكام خرجت النسبة ،
لأن خروج الصفات المقيدة المأخوذة منتسبة مستلزم أو عين لخروج النسبة.
ويكون الوجه في
عدم ذكر القوم خروج النسبة مستقلا عدم كونها مستقلة في الوجودين الذهني والعيني ،
لأن النسبة فرع تحقق الطرفين والمنتسبين وتعقلهما خارجا وذهنا كما هو واضح.
هذا توضيح مرامه.
وفيه : ان اخذ الصفات منتسبة لا يغني ولا يجدي في اقتصار القوم في الإخراج على ما
ذكروا ، إذ تبقى الصفات المجردة والمأخوذة بشرط لا وهي خارجة بقيد الأحكام ، ولم
يذكروه إذ المفروض أن الصفات المذكورة فى كلامهم للخروج هي المأخوذة منتسبة ، فكان
الأولى أن يقول : ان المراد بالصفات هو الأعم من المنتسبة والمجردة. مضافا الى أنه لا
يخفى ان اخذ الصفات منتسبة لا يجدي في اخراج النسبة ، لأن المراد من النسبة
الحاصلة في الصفات هو النسبة التي تكون من قبيل «غلام زيد» و «دار عمرو» على ما
يشهد به تمثيل بعضهم ، وليست هذه هي النسبة الواقعة بين الموضوع والمحمول والذوات
والصفات المصححة للحمل ، إذ لا شبهة ولا ريب في انه لا يصح ان يقال «زيد غلام»
و «عمرو دار» ،
وحينئذ فان خرجت النسبة التي تكون من قبيل «غلام زيد» ولكن لا تخرج النسبة الاخرى.
وبعبارة أخرى :
الأعراض وجودها في أنفسها عين وجودها في موضوعاتها ، ويسمى وجودها الوجود الربطي ،
وأما النسبة الواقعة بين الموضوعات والمحمولات والربط الحاصل بينها فتسمى الوجود
الرابط.
ولا ريب في أن
البياض مثلا له نسبة الى موضوعه فيقال «بياض هذا الجسم» ولا يصح الحمل بينهما. نعم
إذا أخذ البياض لا بشرط وعنوانا حاكيا عن موضوعه متحدا معه في الوجود يكون نسبة
اخرى. وبالجملة الخلط بين النسبة التي تكون لازمة للوجود الرابطي وبين النسبة التى
تكون هي الوجود الرابط.
هذا كله مع أن
مبنى الحدود والرسوم على شرح المحدود والمرسوم وتوضيحه ، فلا يناسب الاقتناع في
اخراج المحدود ـ وهو النسبة فيما نحن فيه ـ بالإشارات والتلويحات كما هو لازم
كلامه بأخذ الصفات منتسبة ، فيكون خروج الصفات خروج النسبة ، وان اخذ التعريف شرحا
للاسم وجوابا لما الشارحة ، فلا يحتاج الى المحافظة على طرده وعكسه واتعاب النفس
كما هو واضح.
قوله
«قده» : من العلم مطلقا.
أي بأيّ معنى اخذ.
قوله
«قده» : وفسرا بالمعنى الاعم.
أي الأعم من العلم
الحصولي الصوري والعلم الحضوري الشهودي النوري الاشراقي. وقد سبق منا بيان الفرق
بينهما فى أوائل هذه التعليقة فلا نعيد.
قوله
«قده» : وكذا اذا حمل على التصديق والادراك ـ الخ.
المراد بالمعنى
العرفي الخاصي الميزاني المصطلح عليه عندهم هو خصوص العلم الحصولي الصوري ، إذ
العلم مفسر عندهم بالصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. ومن الواضح ان حصول الصورة
لا يكون إلّا فى العلم الحصولي ، فاذا كان العلم مفسرا بالعلم الحصولي فلا محالة
يكون علمه تعالى خارجا عن أصل الحد وجنسه ، لان علمه تعالى بل علم ملائكته
المقربين ـ على ما يراه الفلاسفة ـ علم شهودي حضوري اشراقي نوري.
قالوا : صفحة
الاعيان بالنسبة الى المبادئ العالية ـ فضلا عن مبدأ المبادئ ـ كصفحة الاذهان
بالنسبة الينا ، فكما أن علمنا بما في أذهاننا من الصور إنما هو على وجه الشهود
والحضور ولا يحتاج الى صور اخرى وإلّا تسلسلت الصور أو دارت فكذلك علم الله تعالى
وملائكته المقربين بالاشياء الخارجية. وما في الاعيان إنما هو نفس صورها العينية
وحقائقها الخارجية لا بصور اخرى.
هذا توضيح مرامه
زيد فى علو مقامه.
وفيه : ان الحق أن
علمه تعالى ليس منحصرا في العلم الحضوري النورى ، بل لله تعالى نحوان من العلم :
حضوري ، وحصولي ، ونحن قد صححنا العلم الحصولي له وذببنا عن قول الشيخ الرئيس
القائل بكون علمه بالصور المرتسمة ، وحينئذ فاذا فسرنا العلم بالعلم الحصولي لا
يخرج علمه تعالى عن أصل الحد وجنسه ، بل لا يخرج علم ملائكته المقربين ، إذ لهم
العلم الحصولي ايضا ، وهذا كله ظاهر عند أهله ـ فافهم ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : وعلى التقديرين ـ الخ.
يعني على تقدير أن
تكون الملكة مفسرة بمجرد التهيؤ والاستعداد ، وتقدير أن يعتبر معه أن يكون ناشئا
عن الممارسة والمزاولة لا يكون قيد «عن أدلتها» احترازا عن الجميع ـ أي علم الله
وعلم الملائكة والانبياء والائمة عليهمالسلام والعلم بالاحكام الضرورية ـ أما على التقدير الاول فلأنه ـ
وإن خرج غير علم الله من الامور المذكورة بالقيد المذكور ـ إلا أن علم الله تعالى
خارج عن أصل الحد وجنسه ، وأما على التقدير الثاني فيخرج الجميع عن أصل الحد
وجنسه. ولا ريب في أن السلب الجزئي كما فى الأول والسلب الكلي كما في الثاني مناقض
للايجاب الكلي ، وهو كون جميع الامور المذكورة خارجة بقيد «عن أدلتها».
قوله
«قده» : عن الفرعية الضرورية مطلقا.
المراد من الإطلاق
هو التعميم في الضرورية ليشمل علم الله تعالى وملائكته والنبي والائمة عليهمالسلام والعلم بالاحكام الضرورية ، لا خصوص الاخير.
قوله
«قده» : انما يوجب فساد الحد ـ الخ.
محصله هو ان
الظاهر من الاحكام هو جميع الاحكام على سبيل العموم الشمولي والاستيعاب الاستغراقى
، فاذا خرجت الاحكام الضرورية بقيد «عن أدلتها» فيكون الباقي هو الاحكام النظرية ،
فلا يكون الفقه هو العلم بجميع الاحكام بل بخصوص النظرية منها ، فيكون الحد بظاهره
مخالفا للواقع ، فيكون فاسدا.
ومحصل جوابه هو
حمل الأحكام على خلاف ظاهرها بقرينة القيد ،
وهو «عن أدلتها» ،
فيكون الحاصل هو العلم بخصوص الأحكام النظرية عن الأدلة ، فيكون حقا مطابقا
للواقع.
ولكن يمكن حمل
الأحكام على ظاهرها ، ويقال : إن الأحكام الضرورية يمكن استفادتها عن الأدلة ، إذ
لا مانع الا توهم لزوم تحصيل الحاصل. بتقريب : انه اذا حصل العلم بشيء عن الضرورة
لا يعقل أن يحصل العلم به ثانيا ولو عن غيرها وإلّا لزم تحصيل الحاصل وهو ممتنع ،
إذ الشيء الحاصل الموجود محفوف بالضرورتين ومكتنف بالوجودين : الضرورة الجائية
من قبل العلة ، والضرورة بشرط المعلول.
ومن المعلوم
المحقق في محله أن الضرورة والوجوب مناط نفسي عن العلة ، وعلة الاحتياج الى العلة
هي الإمكان. ولكن هذا توهم فاسد ، اذ الممتنع هو تحصيل الحاصل الشخصي دون الحاصل
النوعي ، وقد سلف بيانه منا.
ولا ريب في أن
الأدلة مفيدة لشخص آخر من العلم غير الشخص الذي حصل من الضرورة ، ولا استحالة فيه
أصلا ، ولو امتنع تحصيل الحاصل النوعي لانسد باب الإجادة والافاضة ووقف الخير على
شخص من النوع ، وفساده واضح على أوائل العقول.
وبالجملة
فالمخالطة ناشئة من اشتباه حال النوع بالضرورة ، وحينئذ فالضروريات ممكنة
الاستفادة من الأدلة ، فالعلم بجميع الأحكام حتى الضرورية منها يكون مستفادا من
الأدلة ، وغاية الأمر وقصواه كون الضرورية مستفادة من الضرورة ، فاذا خرجت الأحكام
الضرورية عن الحد ـ باعتبار حصول العلم بها عن الضرورة ـ تكون جميع الأحكام
باعتبار حصولها عن الأدلة داخلة فى الحد ، فتكون الأحكام محمولة على ظاهرها من
العموم والاستيعاب ـ فافهم واغتنم واستقم.
قوله
«قده» : بما يدخل فيه بعض تلك العلوم او كلها.
الأول كما اذا فسر
العلم بالملكة ، بمعنى مجرد التهيؤ والاستعداد أو بالتصديق أو الادراك وهو المعنى
العرفي الخاصي الميزاني. والثاني كما اذا حمل العلم على الأعم من التهيؤ والعلم
الفعلى ، او فسر بالتصديق أو الادراك بالمعنى الأعم.
قوله
«قده» : من الوحي والإلهام.
فيكون من
المشاهدات التي هي من الأقسام الستة الضرورية ، وهي : الأوليات ، والمشاهدات ، والفطريات ، والمتواترات ،
والتجريبيات ، والحدسيات.
والمراد
بالمشاهدات ما يحتاج التصديق بها الى الاستمداد بالحواس الظاهرة أو الباطنة ويتوقف
عليه ولا يحتاج الى غيره ، ويسمى المحتاج الى الحواس الظاهرة بالحسيات ، مثل «الشمس
مضيئة» و «هذا الحيوان صاءت» و «هذا الورد عطر» و «السكر حلو» ، والمحتاج الى
الحواس الباطنة بالوجدانيات مثل ان لنا شهوة وغضبا وخوفا وشجاعة.
فقد ظهر مما ذكرنا
وجه كون المقتبس من الوحي والإلهام ضروريا.
قوله
«قده» : لا غير.
إذ غيره بين ما لا
يصح ارادته في الحد ، وهو خطابات الشارع أو خصوص الأحكام الخمسة التكليفية ، للزوم
اتحاد الدليل والمدلول على الأول ولزوم الانتقاض الجمعي أو العكسي على الثاني ،
وما لا يصح ولا يصلح لكونه متعلقا لجموده ، وهو المسائل والنسب ومطلق الأحكام.
قوله
«قده» : بمعنى الملكة لا غير.
إذ لا يصح ارادة
الإدراك او التصديق ، اذ ادراك التصديقات والتصديق بها لا يكون فقها ، ولا يصح
ارادة المسائل إذ لا معنى للمسائل المتعلقة بالتصديقات ، اذ التصديق يتعلق
بالمسائل لا انها تتعلق به ، فبقي أن يكون المراد الملكة.
قوله
«قده» : بأنه لا توقيت فيهم.
أي لا تعيين.
قوله
«قده» : لكن يشكل البناء ـ الخ.
إذ يصدق على علم
المقلد انه علم بالأحكام الشرعية الفرعية الحاصلة أو حال حصولها عن الأدلة عند
المفتي من حيث كونها كذلك ، وسيجيء منه ـ قدسسره ـ الاشارة الى
دفعه بقوله : «إلا أن يقال ان المتبادر حصوله عند العلم حال علمه بها فيخرج» ،
وفيه تعسف.
قوله
«قده» : لزم أن يعلمها بعللها.
إذ ذوات الأسباب
لا تعرف إلّا بأسبابها ، وأوثق البراهين باعطاء اليقين النمط اللم ، فاذا كان
العلم بالأشياء بعللها واسبابها أفضل العلوم وأتمها واشرفها فلا بد وأن يكون حاصلا
له تعالى ، إذ كلما كان يمكن من الكمالات له بالامكان العام فهو متحقق في ضمن
الوجوب وإلّا لزم أن يكون ناقصا فاقدا لشيء من الكمالات تعالى علوا كبيرا ، واذا
كان الامر كذلك فهو تعالى يعلم الأحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها ، لأن العلل
والأسباب لوجودها وتحققها ووسائط ثبوتها يكون حدودا وسطى ووسائط في الاثبات وعلل
العلم بها ، فتكون أدلة بل برهانا كما هو واضح.
قوله
«قده» : لما كان علمه تعالى بالاشياء لعلمه ـ الخ.
بيانه وتوضيحه :
هو أنه تعالى ذاته سبب لذات ما عداه من الأشياء وهي مستندة اليه تعالى ، وهو علم
وشهد ذاته التي هي عليه الاشياء ، لما هو المحقق من كونه عالما بذاته ، والعلم
بالعلة بما هي علة يقتضي العلم بالمعلول ، فهو تعالى ينال الكل من ذاته.
ووجه التقييد في
قوله «بما هي علة» هو أن المراد من العلم بالسبب والعلة العلم بالجهة المقتضية
للمسبب والمعلول ، سواء كان عين الذات او زائدة ، وهي الأمر المقدم على السببية
الاضافية وعلى المسبب ، ولا شك انها عين حيثية ترتب المسبب على السبب ، اذ التخلف
عن السبب التام محال ، فكلما حصلت في ذهن او خارج حصل ذلك المسبب فيه ، إذ اللازم
يمتنع الانفكاك عن الملزوم ـ فافهم ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : بعد المساعدة على الدعوى ـ الخ.
في منع الدعوى في
المقامين المستفاد من قوله «بعد المساعدة» ما لا يخفى ، إذ قد ظهر أخصية الدعويين
مما ذكرنا وحققنا آنفا بحيث لا مجال للانكار أصلا.
قوله
«قده» : لا يسمى دليلا في الاصطلاح.
كما مر ، لأن
الدليل يحتاج التوصل به الى المطلوب عن؟؟؟ النظر وترتيب أمور معلومة للتأدى الى
المجهول. ولا ريب فى انه تعالى لا يحتاج الى النظر والترتيب بل يدرك الشىء وجميع
علله دفعة واحدة ، وكذلك يدرك وينال ذاته المقدسة التي هي علة لجميع ما عداه وجميع
معاليله دفعة نادرة.
وببيان آخر نقول :
إن النظري والضروري من اقسام العلم الحصولي
الذي هو مقسم
للتصور والتصديق ، وعلمه تعالى بذاته وبجميع معاليله علم حضوري شهودي اشراقي نوري
، فيكون علمه بالاحكام من طريق علمه تعالى بذاته او من سبيل علمه تعالى بعللها
التي هي معاليله من اقسام العلم الحضوري ، فهو أجل واعلى من أن يكون ضروريا فضلا
عن أن يكون نظريا محتاجا الى الاستدلال والدليل.
ومراده قدسسره من الحوالة بقوله : «كما مر» إما ما ذكره في معنى الدليل
من احتياجه الى النظر ، وإما ما ذكره في علم النبي والائمة والملائكة الذي هو دون
العلم الربوبي ، من انهم متى هموا بحكم علموه من غير توسط الاستدلال ، فاذا كان من
علمهم كذلك فكيف علمه تعالى
قوله
«قده» : بل من الضروريات التي قياساتها معها.
لا يخفى أن
الضروريات التي قياساتها معها هى الفطريات ، وهي التى تحتاج الى مباد ومقدمات تكون
لازمة لها غير منفكة عنها ، كقولنا «الاربعة زوج» حيث ان قياسه معه ، وهو قولنا «لأنها
منقسمة الى متساويين ، وكل منقسم الى متساويين زوج» ، وليس التصديق بصدق الرسول من
هذا القبيل ، وإلّا لاستوى فيه كل الناس ، وفساده واضح.
وما استشهد «قده»
من حصوله للبله والنسوان لا شهادة فيه أصلا إذ علمهما علم تقليدي لا استدلالي ،
والتقليد هو الأخذ بقول الغير من غير دليل ، فليس لهما بالنسبة الى المقلد فيه ـ وهو
صدق الرسول ـ من دليل فضلا عن كونه معه ولازما اياه حتى يكون من الفطريات.
قوله
«قده» : انما يتجه بالنسبة اليه دون غيره.
غير خفي انه يكفي
في تحقق الانتقاض المنعي الطردي دخول فرد
ما في الحد مع
خروجه عن المحدود ولا يحتاج الى كثرة الداخل. ولا ريب في أن الأحكام الضرورية
الصحيحة بالنسبة الى من سبق ذهنه بالشبهة يحتاج الى النظر والاستدلال ، فلا يخرج
بقولنا «عن الأدلة» فيلزم أن يكون فقها مع انه ليس بفقه.
قوله
«قده» : القيد الاخير.
وهو قوله : «على
انها شرعية عنده».
قوله
«قده» : ويلغى قيد الحيثية ـ الخ.
يعني انه لو كان
قيد الحيثية المستفادة من الوصف ـ وهو النبي ـ معتبرا مقيسا الى الواقع ، فيكون
المعنى الأحكام الشرعية الصادرة من النبى من حيث كونه نبيا واقعيا يعود الإشكال ،
اذ يحتاج العلم بها الى النظر في نبوته وصدقه ، فلا بد وأن يلغى قيد الحيثية مقيسا
الى الواقع ، ويعتبر كونه على سبيل الادّعاء وإن لم يكن مطابقا للواقع ، فيكون
المعنى : الأحكام الصادرة من ذلك الشخص المدعي للنبوة.
قوله
«قده» : او نقول نظرية.
القيد لا يستلزم
نظرية المقيد ، هذا بناء على مذهبه.
قوله
«قده» : من خروج القيد والتقييد فى المقيدات.
وأما بناء على ما
هو الحق من خروج القيد ودخول التقييد فلا يتم ما ذكره.
قوله
«قده» : بأحد الاعتبارين الاولين.
مقصوده
بالاعتبارين الأولين : اعتبار كون الشارع هو الله او كونه
هو النبي المعتبر
نبوته مقيسة الى الواقع ، والاعتبار الأخير هو اعتبار النبوة بحسب الادعاء وإلغاء
اعتبارها مقيسة الى الواقع.
قوله
«قده» : اذا علم من الضرورة ـ الخ.
يعني اذا علم من
الضرورة حكم الرسول بحجية طرق الأحكام وأصولها والأمارات القائمة عليها ، فالمراد
بالحكم المعلوم من الضرورة هو المسألة الأصولية والأحكام المستفادة من الأدلة هي
المسألة الفرعية.
قوله
«قده» : بل عن أدلة غيرها.
إن قيل : إن
الادلة التي يستدل بها على رسالة الرسول وصدقه ووجود المرسل وعدله وحكمته أدلة
عقلية ـ وهي احكام عقلية يتوصل بها الى الاحكام الشرعية ـ فلا يكون غير الادلة
المعهودة.
قلنا : المراد
بالدليل العقلي هو حكم عقلي يتوصل به الى حكم شرعي بأن يكون الحكم الشرعي مطلوبا
من ذلك الدليل العقلي ونتيجة حاصلة منه. وغير خفي أن تلك الادلة المستدل بها على
رسالة الرسول وصدقه يكون نتائجها ومطالبها هي رسالة الرسول وصدقه دون الأحكام
الشرعية
قوله
«قده» : سلامة عكس الحد على تقديره ـ الخ.
مقصوده هو انه لو
لم يرد الادلة المعهودة بل أريد الدليل المصطلح عليه انتقض الحد عكسا وجمعا
بالاجماعيات على طرق المتأخرين المبني على الحدس ، حيث أن تلك الإجماعيات تكون
ضروريات من قبيل الحدسيات ، وهي التى تحتاج الى مقدمات ومباد غير لازمة لها ، ولكن
يكون سهل التناول ، وبالعلم الحاصل لزرارة مثلا لكثير من الاحكام بطريق السماع ،
حيث انه من
المشاهدات وهي التي يحتاج التصديق بها الى الاستمداد بالحواس الظاهرة او الباطنة ،
وهي من اقسام الضروريات.
ومعلوم أن
الضروريات غير مستفادة من الادلة المصطلحة ، وهذا بخلاف ما لو أريد من الادلة
الادلة المعهودة ، حيث ان الاجماعيات تكون مستفادة من الاجماع وهو من الأدلة
المعهودة والعلم الحاصل لزرارة مثلا من السماع مستفادا من السنة ، وهي من الادلة
المعهودة ، هذا محصل مرامه.
وفيه : انه يلزم
على ما ذكره «قده» دخول بعض الضروريات في الفقه ، وحينئذ يبقى سؤال الفرق بينه
وبين غيره ، مضافا الى انه يلزم استعمال لفظ الادلة في المعنى الحقيقي والمجازى ،
لان الضرورة ليس دليلا بحسب الاصطلاح.
قوله
«قده» : ولا يرد على طرده النقض ـ الخ.
لا يخفى أن هذا
النقض عكسي جمعي لا طردي منعي ، اذ محصله خروج علم كثير منهم عن الحد مع دخوله في
المحدود.
ويدل على ما ذكرنا
ما اجاب به عن النقض من تفسير العلم بالملكة أو بما يعمها ، وهو المعنى الاعم من
التهيؤ والعلم الفعلي وكون الملكة متحققة لذلك الكثير بالنسبة الى غير الادلة التى
استنبط منها ، فيكون الحد جامعا شاملا ، فالصواب التعبير بالعكس والجمع.
ويمكن أن يكون
الطرد في كلامه بمعنى الاطراد لا بمعنى المنع ، فيكون عبارة عن الجمع والعكس.
قوله
«قده» : بل لا معنى للدليل الإجمالي ـ الخ.
لأنه إما أن يكون
كل من الأصغر والحدود الوسطى متعددا أو يكون واحدا والحد الأوسط متعددا أو بالعكس
، والثلاثة الأول الدليل فيها تفصيلي كما هو واضح ، فبقي أن يكون الرابع دليلا
اجماليا.
قوله
«قده» : اذ ليس منها.
إذ الدليل في
الحقيقة هي الحدود الوسطى ، والحد الأوسط فى قياس المقلد هو إفتاء المفتي ، وهو
ليس من الأدلة الاربعة ، وكبرى دليل المقلد ـ وإن كانت اجماعية اتفاقية ـ إلّا
انها ليست اجماعا.
قوله
«قده» : أن يكون العلم مستفادا ـ الخ.
ولا سيما أن
الواسطة واسطة في العروض حيث يصح سلب كون علم المقلد تفصيليا ، بل علم مقلده
تفصيلي ، فيكون وصفا بحال المتعلق.
قوله
«قده» : بأن الدليل اذا اقتضى وجوب العمل ـ الخ.
فيه : انه لا ريب
في أن التقليد هو الأخذ بقول الغير من غير دليل ، والمراد من الدليل المنفي هو
الدليل على المأخوذ والمقلد ـ فيه وان كان للمقلد دليل على الأخذ والتقليد. ولا
ريب في أن وجوب العمل بقول المقلد ـ بالفتح ـ وان كان عن دليل وهو الاجماع إلّا
انه ليس للمقلد ـ بالكسر ـ دليل بالنسبة الى المقلد فيه فضلا عن أن يكون تفصيليا ،
فالخلط نشأ من اشتباه حال المقلد فيه بالتقليد.
وبعبارة اخرى :
المغالطة ناشئة من اشتباه ما بالعرض ما لذات ـ فافهم إن شاء الله تعالى وتأمل تنل.
قوله
«قده» : بالاشكال الأخير.
وهو كون دليل
المقلد دليلا على وجوب العمل بمقتضى ما افتى به المفتى ولا يقتضي علمه بالحكم
الشرعي ، فلا حاجة الى اخراجه بالقيد المذكور وهو قولنا «التفصيلية».
ووجه استغرابه ـ قدسسره ـ من معاصره مضافا
الى ما سيذكره بقوله «وفساده ظاهر» الخ قد ظهر مما ذكره بقوله : بأن الدليل اذا
اقتضى وجوب العمل بشيء في حق المكلف اقتضى علمه أيضا بأن ذلك حكم الله تعالى فى
حقه. وقد ظهر ما فيه مما ذكرنا آنفا.
قوله
«قده» : فان العلم بالأحكام الإجمالية ـ الخ.
توضيحه : هو أنه
بناء على ما ذكره المعاصر يكون المراد بالأحكام ـ المأخوذة في الحد ـ الأحكام
الاجمالية كما هو صريح كلامه وقوله «بل الفقه معرفة تلك الأحكام الاجمالية عن
الأدلة التفصيلية» ، فيكون مقصوده أن العلم بالاحكام الاجمالية ليس بفقه وهو خارج
عنه ، والعلم بالأحكام الاجمالية عن الادلة التفصيلية هو الفقه. ومن المعلوم
الواضح أن الفقه هو العلم بالاحكام التفصيلية دون الاحكام الإجمالية. هذا تبيين
مرامه قدسسره
وفيه : انه لا ريب
في أن الادلة التفصيلية سبب لحصول العلم التفصيلي بالاحكام وتصير الاحكام معلومة
على وجه التفصيل ، وحينئذ فلا يعقل أن تكون تلك الاحكام اجمالية ومعلومة على وجه
الاجمال للزوم اجتماع المتقابلين ، لان العلم الاجمالي مشوب بالجهل والعلم
التفصيلي هو
العلم بجميع جهات
الشيء ، والتقابل بين العلم والجهل تقابل العدم والملكة والمتقابلان ممتنعا
الاجتماع ، فلا بد وأن يكون المراد الاحكام التي كانت اجمالية ومعلومة بالاجمال
قبل استنباطها عن الادلة ، وبعد الاستنباط يصير العلم تفصيليا والاحكام مفصلة.
فيكون الحاصل : أن الفقه هو العلم التفصيلي الناشئ عن الادلة التفصيلية بالاحكام
التي كانت مجملة اجمالية وصارت مفصلة ، ولا غائلة فيه ولا وصمة عيب تعتريه.
قوله
«قده» : مستندا الى الضرورة.
وهي ليست دليلا.
قوله
«قده» : عما ذكره في معنى الدليل.
حيث اخذ فيه
التوصل لصحيح النظر ، وليس في الضرورة نظر كما هو واضح.
قوله
«قده» : فبين كلاميه تدافع.
فيه : انه لا
تدافع ولا تناقض أصلا ، لان المراد بنفي كون الضرورة دليلا كونها دليلا بحسب العرف
العام أو العرف الخاص الاصولي ، واطلاق الدليل عليها بحسب نظر العقل ، لان الضرورة
علة للعلم بحسب الواقع ونفس الامر كما صرح به المعاصر «قده» في كلامه السابق بعد
اخراج الضروريات ، حيث قال : ولا يسمى ذلك في العرف استدلالا ولا العلم الحاصل
معها علما محصلا من الدليل ، وان كان تلك الضرورة علة لتلك العلم في نفس الامر.
قوله
«قده» : ينحل الى دلائل عديدة.
فيه : أن المراد
بالادلة المأخوذة في الحد هو الادلة المتعددة نوعا لا شخصا وإلّا لدخل علم المقلد
والفقيه وان لم يستنبط الاحكام الا من نوع واحد من الادلة ، إلا انه له ملكة
الاستنباط من سائر الانواع ، وهذا بخلاف المقلد ، حيث ان ليس له إلّا أدلة متعددة
شخصا متحدة نوعا ، فأدلته ـ وان كانت متعددة شخصا ـ إلّا انه لما لم تكن متعددة
نوعا فيخرج قيد الادلة التي يكون المراد بها المتعدد النوعي.
قوله
«قده» : كأصالة البراءة ـ الخ.
أما وجه كون اصل
البراءة غير مفيد للظن بالواقع فلأنه غير ناظر الى الواقع ، بل فليس مؤداه حكما
واقعيا بل لا يكون حكما ظاهريا ، وإنما الاصل المزبور ناف للتكليف فى مرحلة
الظاهر. وأما الاستصحاب فان كان حجيته من باب الاخبار والتعدد فليس دائرا مدار
الظن بالبقاء بل هو جار مع الشك والوهم أيضا ، وان كان من باب العقل ووصف الظن
فالظن المعتبر فيه انما هو ظن نوعى لا شخصي فعلي. ولا ريب في أن الظن النوعي لا
ينافي الشك والوهم ، فليس الاستصحاب مفيدا للظن الشخصي بالواقع على وجه الدوران
مداره كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : فلأن الظن او الاعتقاد الراجح ـ الخ.
لا ريب في أن
متعلق الجهل المركب الذي هو قسم من العلم ـ وهو الغير المطابق منه لا يكون الشيء
المعتقد للزوم الدور ، لان الاعتقاد الذي أعم من المطابق وغير المطابق ان لم يلزمه
أن يكون معلومه موجودا واقعيا
ـ كما هو كذلك في
الجهل المركب ـ فلا حاجة الى اعتبار كون متعلقة هو الشيء المعتقد ، بل يكون هو ذات
الشيء لا بملاحظة انه معتقد. غاية الامر انه غير واقع في الاعيان والخارج وإلّا لم
يكن جهلا مركبا «هف» وان لزم أن يكون متعلقه موجودا واقعيا متحققا قبل تحقق
الاعتقاد وتعلقه يلزم الدور ، لان الاعتقاد المذكور لا بد وأن يتعلق فى الجهل
المركب بالشيء المعتقد ، اذ لا وجود لذات الشيء إلّا بلحاظ الوصف العنواني قبل
تعلق العلم.
ولا ريب في أن
الاعتقاد موقوف على الشيء المعتقد حسب الفرض ، والشيء المعتقد بما هو معتقد موقوف
على الاعتقاد ، وهو دور ظاهر صريح مضافا الى انه لو كان متعلق الجهل المركب متحققا
قبل تعلق العلم به ولو كان ذلك المتعلق هو المعتقد لم يكن الجهل المركب جهلا مركب «هف»
لان له مطابقا ـ بالفتح.
وإذا تحقق ما
ذكرنا ظهر أن العلم لو أريد به الظن أو الاعتقاد الراجح وأريد منهما الأعم من
المطابق والغير المطابق منه للواقع لا يلزمه أن تكون الأحكام التي هي متعلقة للعلم
واقعة فى الأعيان ، بل يمتنع ويستحيل في الجهل المركب ، فالأحكام المذكورة واقعية
بمعنى انه لم يلاحظ فيها الجهل بالحكم الواقعي وان لم تكن واقعية في متن الاعيان
وصفحة الخارج فلم يكن تصرف في الاحكام بارادة الاحكام الظاهرية او الاعم ، اذ
الظاهرية إنما جاء من قبل هو العلم الذي هو جهل مركب ، بل يكون المراد منها
الاحكام الواقعية ، غاية الامر انها غير واقعة في وعاء الخارج وظرف الاعيان فلعل
المغالطة نشأت من الخلط بين معنيي الواقعية ، فالمغالطة ناشئة من الاشتراك الاسمي
أو من توهم أن الجهل المركب لا بد فيه من كون متعلقه
واقعيا موجودا ـ فافهم
ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : مع انه لا يسمى فقها.
فيه : انه لا ريب
في كونه فقها إلا انه لا يكون صحيحا وحجة.
قوله
«قده» : ويمكن دفع هذا بما مر.
من أن المراد
بالعلم ما يعتد به في اطلاق الاسم عليه عرفا ، فيخرج العلم المذكور لعدم اطلاق
الاسم عليه.
قوله
«قده» : فلا وجه لذكر هما في مقابلته.
هذا إنما يتجه لو
كان ذاكرهما ذاكرا للمعنى الآتي ، وهو كون المراد بالاحكام من الظاهرية والواقعية
، وإلّا فلا يجوز أن يكون المراد بهما هو التصرف في الاحكام يجعلها أعم من
الظاهرية ، ويكونان عبارتين أخريين عن الاحكام بالمعنى الاعم.
قوله
«قده» : في المقيد.
أي العلم المقيد
بكونه واجب العمل أو مدلول الدليل.
قوله
«قده» : لعدم العلاقة.
لاشتراط استعمال
اللفظ الموضوع للجزء في الكل بكون الجزء قواميا مما ينتفى بانتفائه الكل وكون
المركب مركبا حقيقيا.
قوله
«قده» : فى متعلق الظرف.
إذ لا بد من تقدير
متعلق للظرف مع أن الظاهر كونه لغوا متعلقا
بالعلم ، فيصير
الحاصل هو العلم المقيد بكونه مدلول الدليل أو واجب العمل به متعلق ذلك العلم
بالأحكام.
قوله
«قده» : لا يغني عن التصرف في الأحكام.
إذ الذي يجب العمل
به أو يكون مدلول الدليل لا يكون إلّا الحكم الظاهري. وفيه : انه لو كان المراد هو
الأحكام الظاهرية لتقدم الشيء على نفسه وتأخر عن نفسه ، إذ العلم المذكور موقوف
على الأحكام الظاهرية ، إذ العلم الانفعالي متأخر عن المعلوم موقوف عليه ، ولما
كان وجوب العمل وكونه مدلول الدليل قيدا للعلم المذكور فلا محالة يكون موقوفا
متقدما على الأحكام الظاهرية ، ولما كان من الاحكام الظاهرية ما يجب العمل به أو
ما يكون مدلول الدليل فلا جرم يكون متأخرا. وهذا ما ذكرنا من لزوم تقدم الشيء على
نفسه وتأخره عن نفسه.
قوله
«قده» : كما هو الظاهر.
وجه الظهور هو ذكر
هذين الوجهين في مقابل ارادة الظن من العلم ، ولو كانت العلاقة علاقة المشابهة كان
المراد من العلم الظن ، فلا يكونان قبالا له كما سيجيء منه ـ قدسسره ـ فبقرينة
المقابلة سيظهر أن العلاقة علاقة الإطلاق.
قوله
«قده» : أراد به ما يقابل الظن.
فيه : انه يمكن
تصحيح المقابلة بأن المفسر بهذين التفسيرين ـ وان اراد من العلم الظن بعلاقة
المشابهة ـ إلّا أن وجه الشبه هو وجوب العمل
والكون مدلول
الدليل. وهذا بخلاف التفسير الآخر ، حيث ان وجه الشبه هو كونهما اعتقادا راجحا.
قوله
«قده» : مع أن وجوب العمل بالحكم المظنون ـ الخ.
فيه : أن وجوب
العمل بالحكم المظنون أو كونه مدلول الدليل ليس متعلقا للعلم بمعنى الظن حتى يرد
عليه انه ليس بمظنون بل معلوم ، بل هو وجه الشبه والعلم بمعنى الظن متعلق بالأحكام
، فتكون الاحكام مظنونة
قوله
«قده» : بحملها على الاعم.
فيه : انه يلزم
الدور المحال ، لأن العلم بالأحكام موقوف على الأحكام متأخرا عنها ، لان العلم
الانفعالي تابع ، ولا ريب في أن الاحكام الواقعية ـ وان لم تكن موقوفة على العلم
بها ، إلّا ان الأحكام الظاهرية موقوفة على العلم إذ ليس الحكم الظاهري الا ما
استنبطه الفقيه من الأدلة وعلم به ، فيكون دورا.
فاذا تحقق الدور
بالنسبة الى الاخص ـ وهو الاحكام الظاهرية ـ تحقق بالنسبة الى الاعم وهو ظاهر ،
فلا مناص إلّا بجعل المراد من الاحكام المعنى اللابشرطي المقسمي الغير المقيد بشيء
والغير المرهون بأمر ، لا المقيد بكونها اعم والمشروط بتحققها في ضمن الظاهرية
والواقعية.
ويمكن أن يكون
مراد المجيب من الحمل على المعنى الاعم هو المعنى اللابشرطي المقسمي ، فلا يرد
عليه الدور ، ولكن يمكن أن يدفع الدور بناء على كون المراد من الاعم هو المقيد
بالعموم والتحقق في ضمن كلا الامرين ، بأن يقال : ان الاحكام الظاهرية هي ما كان
مؤدى الطرق الظاهرية والامارات الغير العلمية ـ سواء استنبطها مستنبط أم لا وسواء
علم به أحد ام لم يعلم ـ فهي ليست موقوفة على العلم ، فلا دور.
قوله
«قده» : بما فيه.
من أنه يصدق على
العلم المذكور أنه علم بالاحكام الشرعية الفرعية الحاصلة عن الادلة عند المفتي من
حيث كونها كذلك ، إلّا أن يقال : أن المتبادر حصوله عند العالم حال علمه بها
فيخرج. وفيه تعسف.
قوله
«قده» : على وجه التصور دون التصديق.
لان تلك الأدلة
التفصيلية مأخوذة في المشار اليه بهذا ، إذ يصير المعنى هذا الحكم الذي استنبطته
من الادلة أدى اليه نظرى ، ولا شبهة في أن العلم المتعلق بموضوع القضية قيوده
تصوري لا تصديقي.
ويرد عليه انه
يلزم من اخذ الادلة التفصيلية في المشار اليه الدور المحال ، إذ تأدية النظر لما
كان محمولا كان متأخرا عن الحكم المستنبط من الادلة ، والاستنباط من الادلة بمعنى
المستنبطية ـ بالفتح ـ ليس إلّا تأدية النظر ، ولما كان الموضوع ـ وهو الحكم
المستنبط من الادلة ـ موقوفا على المستنبطية من الادلة التي هي عبارة اخرى عن
تأدية النظر دار دورا ظاهرا صريحا ، وهذا الدور واضح الدور على المجيب أيضا.
ويمكن أن يكون
المراد بأخذ الادلة التفصيلية ولحاظها هو اعتبارها في المحمول أو تأدية النظر لا
يكون إلا عن الادلة ، وحينئذ لا يرد الدور إلّا أنه يرد على المصنف ـ قدسسره ـ على التقديرين
انه قد سلف منه أن المقرر دليل كالمركب ومثل للمفرد بالعالم. وغير خفي أن العلم
المتعلق بالمفرد لا يكون إلا تصورا. ومن الواضح المعلوم المصرح به فى كلامه أن
التصور لا يكون كاسبا للتصديق ، فلا يكون دليلا ، وهل هذا إلا التهافت ـ فافهم.
قوله
«قده» : فينتظم له في الاحكام أدلة متعددة.
فيه : انه لا ريب
في أن العلم بحجية الأدلة إنما يثمر في القطع بمؤداها باعتبار جريان دليل إجمالي
في ذلك المؤدى ، بأن يقال : حكم كذا مما دل عليه الحجة ، وكلما دل عليه الحجة فهو
ثابت ، فالحكم الكذائي ثابت. وليس هذا إلا دليلا واحدا إجماليا.
وأما ما ذكره من
أنه دل عليه ظاهر الكتاب فلا ريب في أن الحد الأوسط المذكور ـ وهو دلالة ظاهر
الكتاب ـ لا يوجب القطع بثبوت مدلوله فى الواقع الا من حيث دلالة الحجة ، فليس
لخصوصية دلالة ظاهر الكتاب مدخل أصلا في القطع ، بل مدخليتها لكونها من مصاديق
دلالة الحجة وجزئياتها.
فظهر أن القطع
بالاحكام الظاهرية لا يكون إلّا حاصلا من الدليل الواحد الاجمالي.
قوله
«قده» : وإن تعددت أو تعدد.
يعني إن تعددت
الفتوى او تعدد المفتي.
قوله
«قده» : الا على تقدير المنع من التجزي مطلقا.
أي وقوعا وحجية ،
إذ لو قلنا بوقوعه ـ وان لم تقل بحجيته ـ فربما لا يقدر على استنباط الحكم الا عن
دليل واحد سهل النيل ، أولا يقدر الا على استنباط حكم واحد عن دليل واحد ، فليس له
إلّا نوع واحد من الأدلة ، فيلزم أن يكون خارجا عن الحد مع دخوله فى المحدود.
قوله
«قده» : لان العلم المذكور قد يحصل الخ.
فيه : انه لا انتقاض
طردا بهذا ، لأن المراد من الأدلة ليس إلّا الأدلة الاربعة من حيث كونها حجة ،
وليس ريب ولا شبهة فى أن الكتاب أو السنة مثلا ليس حجة إلّا بالنسبة الى المجتهد
الذي هو متمكن من العلم بالناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد وعلاج
المتعارضات ، وليس حجة بالنسبة الى الخابط المذكور الذي التبس عليه الأمر واعتقد
بحسن ظنه بنفسه باجتهاده وفقاهته ، فلم يكن علمه مستفادا من الدليل حاصلا له.
وبالجملة الفقيه
محتاج الى كبرى اتفاقية اجماعية ، وهي «كلما أدى نظرى الى كونه حجة فهو حجة» وهي
مفقودة في حق الخابط المذكور فظهر ما في قوله ـ قدسسره ـ : مستصعبا
للانتقاض ولا مدفع له ـ الخ
قوله
«قده» : وانما اعتبرنا الإطلاق في العلم.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أنه لو أريد
خصوص العلم المقيد به ولم يرد مطلق العلم المقيد به لاستدرك القيود برمتها وجمتها
، لأن العلم بغير الأحكام أو بغير الشرعية أو بغير الفرعية او العلم الحاصل عن غير
الأدلة التفصيلية لا يعتد به في اطلاق الاسم عليه ، فيخرج بقيد المعتد به ، فلا
يحتاج الى قيود أخر لاخراجها.
وهذا بخلاف ما لو
أريد مطلق العلم المعتد به ، فانه لما كان العلم مطلقا فيشمل جميع ما ذكرنا من
الأفراد الخارجة عن المحدود ، فيحتاج الى قيود لاخراجها. وأما العلم الحاصل للخابط
المذكور فيخرج بتقيد العلم بالمعتد به. هذا بيان كلامه وتبيان مرامه.
وفيه : انه اذا
كان قيد المعتد به مخرجا لجميع الأغيار وأفراد غير المحدود ـ اعم من علم الخابط
وغيره من العلوم المذكورة ـ فيختص ذلك الغير باخراجها بقيود أخر ، بترجيح بلا مرجح
كما هو واضح.
قوله
«قده» : وهذا الاشكال كما ترى سار فى سائر معاني العلم
يحتمل أن يكون
المراد بكلمة «سائر» الباقي ، اذ المعنى السابق هو الادراك المطلق أو التصديق ، إذ
هما المتصفان باليقين او الظن أو الاعتقاد الراجح ، فيكون الباقي من معاني العلم
هو الملكة. ويحتمل أن يكون المراد بها الجميع ، وهو الادراك المطلق والتصديق
والملكة.
قوله
«قده» : ويندفع به بعض الاشكالات السابقة ـ الخ.
مراده ـ قدسسره ـ من بعض
الاشكالات السابقة هو دخول علم الظان بالرسالة بالاحكام عن الأدلة في الحد مع
خروجه عن المحدود إذا أريد بالعلم الظن أو الاعتقاد الراجح.
وجه الاندفاع : هو
أن العلم المذكور ليس بمعتد به ، ولكن ظهر مما زبرنا سابقا ولا حقا انه لا ريب في
أن العلم المذكور داخل في المحدود ، اذ ليس المحدود ، هو خصوص الفقه الصحيح الذي
يكون حجة واجب العمل بها.
ثم لو سلمنا خروجه
عن المحدود فلا ريب في خروجه عن الحد ، اذ ليس علمه حاصلا من الادلة ، إذ ليست
الادلة الاربع حجة بالنسبة اليها ، كما قد ظهر مما حققناه آنفا.
ومراده من بعض
الاشكالات الآتية هو الانتقاض الطردي بالمقلد والمتجزي بناء على كون المراد
بالاحكام بعضها. ووجه الاندفاع ـ على ما زعمه ـ هو عدم كون عملهما معتدا به.
وقد ظهر وجه
الاندفاع على ما بيناه وحققناه من أن علمهما ليس حاصلا من الأدلة لعدم كونها أدلة
فى حقهما وحجة بالنسبة اليهما ، وهذا ظاهر.
قوله
«قده» : أما الاعم من الكل والبعض.
مراده بالاعم ليس
هو الجنس مقيدا بتحققه في ضمن الكل والبعض ، لان التقييد بتحققه في ضمن الكل مغن
عن التقييد بالبعض ، مضافا الى أن هذا الاعم مشارك للاول ، وهو الحمل على
الاستغراق في الاشكال ، بل المراد به المعنى اللابشرطي المقسمي الغير المقيد بشيء
والغير المرهون بأمر ، فلا يقيد بالكلية ولا بالبعضية. وحينئذ فلا ريب في أن تحقق
الطبيعة لما كان بتحقق فردها فلا جرم كان المتيقن من ذلك الاعم هو البعض.
والفرق بينه وبين
ما ذكره ـ قدسسره ـ سابقا من ارادة
البعض بحمل اللام على الجنس هو أن المقصود هناك الجنس المتحقق في ضمن البعض ، وهنا
الجنس المتحقق إلّا أن القدر المتقن هو التحقق في البعض ـ فافهم.
قوله
«قده» : فان الفروع لا تقف عند حد.
مقصوده ـ قدسسره ـ ان الفروع غير
متناهية لا تقفية ، بمعنى انها لا تقف عند حد إلا ويتجاوز عنه الى غيره ، فهي
كمقدورات الباري تعالى عند المتكلم والأجزاء الغير المتناهية للجسم عند الحكيم ،
لا انها غير متناهية بالفعل.
قوله
«قده» : فلانتفاء العلم بالبعض حينئذ حقيقة.
يعني لا يتحقق
مجتهد متجزي حتى يتحقق الانتقاض الطردي ، فكل من أدرك بعض الاحكام كان مدركا لكلها
، فكان مجتهدا مطلقا.
قوله
«قده» : إذ على القول بعدم التجزي ـ الخ.
هذا إنما يتجه
ويستقيم إذا كان ذلك المدرك لبعض الاحكام معتقدا بعدم التجزي ، وأما اذا كان
المعتقد بعدم التجزي غيره فلا ينافي قطع ذلك المدرك للبعض بالحكم لجواز اعتقاده
بالتجزى كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : وأما اذا حملناه على الظن ـ الخ.
هذا إنما يستقيم
اذا كان القائل بعدم التجزي غير المدرك لبعض الأحكام ، فانه لا ريب في جواز حصول
الظن أو الاعتقاد الراجح بالحكم لذلك المدرك للبعض ، وأما اذا كان القائل بعدم
التجزي هو المدرك للبعض فلا يستقيم ، إذ مع اعتقاده بعدم التجزي كيف يعتقد بأن
مؤدى ظنه هو حكم الله تعالى فى حقه. وهذا لا ريب فيه ولا شبهة يعتريه.
وبالجملة لا فرق
أصلا بناء على عدم التجزي بين أن يراد بالعلم اليقين أو الظن أو الاعتقاد الراجح ،
فالتفكيك تحكم محض ، اذ قد ظهر مما ذكرنا هنا وآنفا انه ان كان القائل بعدم التجزى
هو المدرك للبعض فلا يحصل له لا اليقين بالحكم ولا الظن ولا الاعتقاد الراجح ، وان
كان غيره فلا ينافي حصول اليقين أو الظن أو الاعتقاد الراجح لذلك المدرك للبعض
فتبصر.
قوله
«قده» : فيلزم أن يكون علمه فقها مطلقا.
المراد بالاطلاق
التعميم بالنسبة الى أن يراد بالعلم اليقين أو الاعتقاد الراجح ، فيحتمل أن يكون
قوله «مطلقا» قيدا وحالا لقوله «علمه» ، ويحتمل أن يكون صفة لمحذوف يكون مفعولا
مطلقا لقوله «يلزم» اي يلزم لزوما مطلقا أي غير مقيد بخصوص أن يراد بالعلم اليقين
، او خصوص أن يراد به الاعتقاد الراجح.
قوله
«قده» : مطلقا.
أي اعم من ان يكون
واحدا او اكثر. وبعبارة أخرى اعم من أن يكون ثلاثة أو اقل.
قوله
«قده» : لا الفتوى والحكم.
أى لا في مقام
الفقاهة بل في مقام الاجتهاد.
قوله
«قده» : لان الملكة هي القوة القريبة من الفعل ـ الخ.
فيه : أن المراد
بالقوة المأخوذة في حدّ الملكة هي القوة الفاعلة المقتضية المؤثرة كما سيجيء بيانه
عن قريب إن شاء الله تعالى. ولا ريب فى أن قرب العلة الفاعلة والقوة المؤثرة هو
بكونها مؤثرة بلا واسطة ، وبعدها بكونها مؤثرة مع الواسطة ، ولا يختلف القرب
والبعد من حيث التأثير بوجدان الشرط وعدمه ، اذ الشرائط اذا كانت مفقودة والاثر
ممتنعا لا يصير الفاعل بعيدا كما هو واضح.
ولو كان المراد
بالقوة المأخوذة في الحد القوة القابلة المنفعلة ـ كما توهمه المصنف على ما سيجيء
عن قريب ـ فيكون الأمر كذلك من تحقق
القرب ، إذ القوة
القابلة لو لم يكن حصول المقوى عليه والمستعد له الا بعد تلاحق الاستعدادات
والقابليات ـ بأن تكون الصورة السابقة ما به الاستعداد للاحقة كما فى الحركات
الاستكمالية الطولية ـ تكون قوة بعيدة ، وأما اذا كانت الفعليات اللاحقة والصور
الآتية في عرض واحد ـ كما فيما نحن فيه ـ حيث أن الحكم المستنبط أولا لم يكن ما به
الاستعداد للحكم الذي يستنبطه لا حقا ، بمعنى أنه لو لم يكن السابق لم يحصل اللاحق
ولم يتيسر الاستنباط لم يكن قوة بعيدة بل يكون قوة قريبة بالنسبة الى اللاحق
والسابق على حد سواء ، وذلك كله واضح ظاهر لمن ارتاضت نفسه بالعقليات.
قوله
«قده» : على تحصيل كل حكم يرد عليه ـ الخ.
يعني ان الفقيه
قادر بالقوة القريبة على استنباط كل حكم يرد عليه على نهج العموم والاستيعاب
الافرادي او استنباط الجميع على سبيل العموم المجموعى على سبيل التعاقب الزماني لا
على نهج الجمع والاجتماع في الوجود لاستحالة اجتماعها.
قوله
«قده» : رجع الى المعنى الاول.
أي كون أسامي
العلوم اسماء للملكات بدون اعتبار العلم بكثير من المسائل ، إذ يكون العلم بكثير
من المسائل حسب الفرض هو التهيؤ والاستعداد الذي هو معنى الملكة ، فلم يكن شيئا
زائدا عليها.
قوله
«قده» : على تفسير الملكة بالتهيؤ ـ الخ.
لا يخفى أن القوة
المأخوذة في حد الملكة حيث يقال انها قوة يقتدر بها على كذا هي القوة الفاعلية لا
القوة القابلية ولا التهيؤ والاستعداد ، لانه
لو كان بمعنى
التهيؤ والاستعداد لاحتاج ذو الملكة في تحصيل أمور تحققت ملكيتها الى فاعل مفيض
ومؤثر فاعلي ، لأنه لا ريب في أن القابل لا يكون فاعلا ، وكذلك التهيؤ والاستعداد
والقابلية ، وإلّا لزم أن يكون شىء واحد فاقدا وواجدا واجتمع فيه المتقابلان ،
والتالي واضح البطلان بديهي الفساد ، حيث أن ذا الملكة لا يحتاج الى فاعل ، فصاحب
ملكة الفقه مثلا لا يحتاج في استنباط أحكام الفروع الى معلم ومفيض ومكمل ، بل
ملكته خلاقة للتفاصيل فعالة لها ، ولذا قال أرباب المعقول : ملكة بسيطة خلاقة
للتفاصيل.
فظهر أن التفسير
بالتهيؤ والاستعداد غلط ، والمخالطة ناشئة من اشتراك الاسم ، حيث أن القوة مشتركة
بين القوة الفاعلة والقوة القابلة والتهيؤ والاستعداد. ومرادهم بالقوة هو المبدأ
الفاعلي ، فتوهم أن المراد هو المبدأ القابلي والتهيؤ والاستعداد.
قوله
«قده» : فلا حاجة الى القيد المذكور ـ الخ.
يعني فلا يحصل
الانتقاض الطردي بذي الملكة المذكورة الفاقد العلم بكثير من المسائل ، إذ لا وجود
له حتى يحصل به الانتقاض.
قوله
«قده» : لكن يبقى الكلام في العكس.
يعنى يبقى
الانتقاض العكسي الجمعي بعد ، لان العالم بالعلوم النظرية والمطالب العقلية إذا
حصلت له ملكة وقريحة يتمكن بها من تحصيل جميع الأحكام بأدنى مراجعة الى الكتب
المدونة في الفقه ، ثم بعد حصول الملكة حصل له العلم بكثير من المسائل ، فلا ريب
في انه فقيه ومن افراد المحدود مع خروجه عن الحد ، بناء على تفسير الملكة بالهيئة
الراسخة الناشئة عن الممارسة
فيما اضيف اليه
الملكة على ما هو المفروض ، لأن الملكة المذكورة لم تحصل من الممارسة فيما اضيفت
اليه الملكة ، بل حصلت من الممارسة فى فنون أخر
ويحتمل أن يكون
مراده ـ قدسسره ـ أن الفقه لما
كان عبارة عن العلم بجميع الاحكام فالملكة الناشئة عن الممارسة فيه لا بد أن يكون
حاصلا عن الممارسة في الجميع ، فيخرج جلّ الفقهاء بل كلهم ، فلا يكون الحد جامعا.
قوله
«قده» : وهو ان قوة الشىء تنافي فعليته ـ الخ.
فيه : أن القوة
التى تقابل الفعلية هي القوة القابلية والتهيؤ والاستعداد لان مرجعها الى الفقدان
والوجدان ، وأما القوة الفاعلية فلا ريب في ان الفعلية لا تنافيها ولا تقابلها بل
تحققها وتؤكدها ، والمعلول من سنخ العلة وحد ناقص لها كما ان العلة حد تام له وليس
يغايرها ، اذ العلية ليست على نهج صدور مباين عن مباين وإلا لجاز أن يكون كل شيء
علة لكل شىء وكل شيء معلولا لكل شيء.
ولا ريب في أن
المراد من القوة المأخوذة في حد الملكة هو القوة الفاعلية لا القابلية ، كما ظهر
مما بيناه عن قريب ، وحينئذ فالفعلية لا تنافيها ولا يحتاج الى الجواب الذي ذكره
المصنف الذي لا يخفى ما فيه من التعسف
قوله
«قده» : كما يلزم أن لا يكون فقيها على الاول ـ الخ.
يعني بناء على أن
المراد هو قوة التحصيل والتذكر فلا بد وان يكون الفقيه قادرا على التحصيل والتذكر
، فيلزم أن لا يكون فقيها باعتبار التحصيل فقط أو التذكر فقط.
ولا يذهب عليك أن
ما ذكره لا يستقيم لو كان المراد بالتناول في
قوله ما يتناول
قوة التذكير أيضا ما كان من قبيل تناول الكل لأجزائه او ما كان من تناول الكلي
لجزئياته ، ويكون المراد من الكلي الكلي المتحقق في ضمن جميع جزئياته. وأما لو
أريد من الكلي المعنى اللابشرطي الذي يتحقق في ضمن أحد الجزئيات ـ حيث أن تحقق
الكلي بتحقق فرد ما ـ يستقيم كما لا يخفى
قوله
«قده» : ما دل على شيء باعتبار معنى.
لعلك تقول إن
المراد بالشيء هو الذات ، فيكون المشتق هو الذات المتلبسة بالمبدإ ، وهذا مخالف
ومناف لمذهب السيد الشريف حيث ذهب الى أن الذات ليست مأخوذة في المشتق كما سيجيء
حكايته منه والبرهان عليه في مبحث المشتق من هذا الكتاب ، لكنا نقول ليست مخالفة
لأن مدلول المشتق لما كان معنى بسيطا لا بشرطيا يكون عنوانا للذات ، فالذات ـ وان
لم تكن مأخوذة في مدلوله ومفهومه ـ لكنها لازمة له ، فالشيء والذات غير معتبر على
وجه الجزئية في مدلوله وإن كان لا ينفك عنه.
قوله
«قده» : وردّ على من فسره بالمعنى الاول ـ الخ.
إن قلت : إن الفرق
بين المشتق والمصدر ـ على ما هو التحقيق موافقا لمذهب السيد الشريف ـ هو الفرق بين
الشيء المأخوذ لا بشرط وبين الشيء المأخوذ بشرط لا بشيء ، فهما متحدان ذاتا
متفاوتان اعتبارا ، فاذا كان الأمر كذلك من اتحاد المشتق ومبدئه ذاتا فلا وجه
لاختلافهما في الدلالة على الاختصاص وعدمها.
قلت : يكفي
للاختلاف التعدد الاعتباري ولا يحتاج الى التعدد الذاتي ، ولا شبهة في اختلاف
احكام الشىء باختلاف اعتباره وتعدد جهاته وحيثياته. ونعم ما قيل «لو لا الاعتبارات لبطلت الحكمة».
قوله
«قده» : لانه إن اعتبر الاختصاص من حيث الوجود ـ الخ.
توضيحه : هو أن
الاختصاص المعتبر إن لوحظ من حيث المفهوم فلا ريب في عدم الاختصاص ، بداهة أنه لا
اختصاص لمفهوم الكاتب في قولنا «كاتب زيد» بزيد ولا بمفهومه ، وإن لوحظ من حيث
الوجود لا من حيث وجودهما النفسي بل من حيث الوجود الرابطي للكاتب بالنسبة الى زيد
، فلا ريب في أن الاختصاص الوجودي متحقق في المصدر مثل الدق بالنسبة الى الثوب ،
ولا حاجة الى اعتبار التعلق للاختصاص.
وفيه : أنا نختار
أن الاختصاص بلحاظ الوجود ، ونقول : لا ريب في أن المتفاهم عرفا في قولنا «كاتب
زيد» هو الاختصاص بمعنى عدم تحقق الوجود الرابطي لكاتبية عمرو مثلا لغير زيد مثلا
، بمعنى ان عمرا لا يكون كاتبا لغير زيد. وهذا بخلاف أن الثوب مثلا حيث أنه لا
يتفاهم منه عرفا اختصاص الدق بالثوب ، بمعنى انه لا يكون الدق متحققا في غير الثوب
من الباب وغيره ، فالدق وان لوحظ وجودا لا يختص بالثوب ـ إذ وجود طبيعة الدق حاصل
عقلا وعرفا في غير دق الثوب ـ وهذا بخلاف الكاتبية لزيد ، فانه وإن امكن وجود مطلق
الكاتبية وطبيعتها لغير زيد عقلا إلا أن المتفاهم عرفا هو الاختصاص.
فظهر أن الدق ـ وإن
لوحظ باعتبار الوجود ـ لا يختص بالثوب ، فيحتاج الى اعتبار أمر زائد خارج عن الدق
ومطلق وجوده وهو التعلق بمعنى أن وجود الدق لما كان على وجه الحلول فى الموضوع
والتعلق به كان مختصا به ، اذ من الواضح أن الوجود الخاص الحالّ في موضوع لا يمكن
أن يكون حاصلا في غيره ، لامتناع أن يكون الوجود الشخصي حاصلا في موضوعين وإلا
لكان الواحد كثيرا.
وببيان آخر لعله
يكون أوضح : أن الدق الذي هو المضاف ـ وان كان ملحوظا بلحاظ الوجود ـ إلا أن ذلك
الوجود وجود الطبيعة مطلقها لا اختصاص له بفرد منها دون فرد ، وإنما جاءت الفردية
والاختصاص من قبل الاضافة الى الثوب ، ولا يعقل أن يؤخذ ما يجىء من قبل المضاف
اليه في المضاف وإلا لتقدم الشيء على نفسه وتأخر عن نفسه ، فلا بد وأن يؤخذ المضاف
لا بشرط ، فيكون الاختصاص باعتبار الفردية والحلول في الموضوع الذي يكون خارجا عن
المضاف ـ فافهم ما ذكرنا حق فهم.
(تتميم مرام)
وليعلم أن المراد
بقولهم باعتبار معنى وباعتبار الصفة التي يدل المضاف عليها هو كون ذلك المعنى وتلك
الصفة واسطة في عروض الاختصاص لذلك المضاف لا واسطة في الثبوت ، إذ من الواضع أنه
يصح سلب ما فيه الواسطة ، وهو الاختصاص عن ذي الواسطة ، وهو ذات الكاتب إذ ذات
الكاتب ـ وهو عمرو مثلا ـ لا يختص بزيد بل الاختصاص إنما هو لكاتبيته ـ فافهم.
قوله
«قده» : لان كثيرا من مسائل هذا العلم ـ الخ.
مثلا يستدل بكون
صيغة النهي للتحريم الذي هو من مباحث الألفاظ في علم الاخلاق لحرمة الغيبة لقوله
تعالى : (وَلا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، ويستدل بأصالة الحقيقة في علم أصول الدين على بقاء
الظواهر المتعلقة بالاعتقاديات من الجنة والحور والقصور والأنهار على ظاهرها ، ويستدل
بالمفهوم الذي هو من مباحث أصول الفقه في حجية خبر العدل التي هي من مقاصده
ومطالبه في قوله تعالى : «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا».
قوله
«قده» : وربما يخرج ـ الخ.
مقصوده أن القوم
أخرجوا بما عدا هذا العلم من النحو والصرف واللغة وغيرها بظهور الإضافة في
الاختصاص ، فورد عليهم لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم ، فأخرج بعضهم تلك
العلوم بأن المراد من اصول الفقه كون تلك الاصول مستندا اليها استنادا قريبا ،
فتخرج تلك العلوم بأنها ـ وإن كانت اصولا ومستندا اليها للفقه ـ إلّا انها ليست
مستندا اليها استنادا قريبا ، وحينئذ لا يرد الإيراد المورد على القوم.
إلّا ان المصنف ـ قدسسره ـ أورد عليه بأنه
تحكم ظاهر. ووجه انه ليس في لفظ أصول الفقه إشعار باعتبار الاستناد القريب. وفيه :
أن الظاهر من لفظ أصول الفقه بالظهور الإطلاقي هو كونه اصلا قريبا ومستندا اليه
استنادا قريبا ، كما يظهر ذلك من ملاحظة نظائره ، كما اذا قيل علة الشيء ومادة
الشيء ، فلا ريب في تبادر العلة القريبة والمادة القريبة.
قوله
«قده» : سلامته عن اكثر الاشكالات الآتية.
مقصوده من
الاشكالات الآتية الاشكالات الثلاث الآتية في قوله «ثم على المقام اشكالات». ومراده
من اكثرها الاشكال الاول والثاني دون الثالث ـ كما لا يخفى على الملاحظ المتأمل.
قوله
«قده» : كمباحث الاجتهاد.
فيه منع كون مباحث
الاجتهاد من علم الأصول ، لان موضوعه هو الأدلة الأربعة على ما ذكروه ، فتكون
مقاصده ومسائله هي الاصول العارضة لها عروضا ذاتيا. ومن المعلوم الواضح أن مباحث
الاجتهاد ليس من الأحوال العارضة للأدلة بل هي عارضة للمستنبط والمجتهد كما هو
واضح.
قوله
«قده» : دخل فيها علم الرجال.
فيه : ان علم
الرجال يكون كعلم اللغة والنحو والصرف في كونه خارجا بالاضافة الظاهرة في الاختصاص
، لأن علم الرجال ليس مختصا بالفقه ، بل يكون من قبيل السير والتواريخ والقصص ،
غاية الامر انه نافع في استنباط الأحكام أو خارجا بأن الظاهر من اصول الفقه
الاستناد القريب ولا ريب في أن المستند القريب للاستنباط هو قول الصادق عليهالسلام مثلا لا عدالة الراوي.
قوله
«قده» : يتناول موضوع هذا الفن ـ الخ.
محصل الإشكال : هو
انه لما كان هذا المعنى الاضافي منطبقا على المعنى العلمي حسب ما راموا ، فتكون
الأدلة الاربعة من المقاصد والمطالب للفن حيث انه اصول الفقه وهو صادق على الأدلة
الأربعة بكلا التفسيرين ، مع أنها خارجة عن الفن ملحوقة لمسائله معروضة لعوارضه ،
فيلزم أن تكون الأدلة الأربعة لا حقة وملحوقة عارضة ومعروضة مقدمة ومؤخرة ، فيلزم
تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه ، وهو محال.
قوله
«قده» : من أن التفصيل ـ الخ.
إذ العلم الحاصل
عن الأدلة التفصيلية يكون تفصيليا.
قوله
«قده» : بأن تفاصيل الفقه ـ الخ.
مقصوده هو أن
تفاصيل الفقه لها ادلة تفصيلية وهي الأدلة الأربعة ، وأدلة اجمالية وهي المقاصد
الاصولية كدلالة الامر على الوجوب والنهي على الحرمة مثلا ، ولا تكون أدلته منحصرة
في الاجمالية ، ولو كانت
منحصرة في
الاجمالية لدلت الاضافة الى الفقه على كونها اجمالية ، وإذ ليس فليس.
ويمكن دفعه بأن
الأدلة التفصيلية لما كانت مأخوذة في حد المضاف اليه حيث قيل عن الأدلة الأربعة ،
فلو كان المراد بالمضاف هو الأعم من الأدلة الاجمالية والتفصيلية لزم الدور
بالنسبة الى الأدلة التفصيلية ، اذ المضاف وهو الاصول المراد بها الأعم حسب الفرض
من التفصيلية موقوف على المضاف اليه وهو الفقه ، وهو لما كان علما حاصلا عن الأدلة
التفصيلية كان موقوفا على الأدلة التفصيلية فجاء الدور ، ولزم حينئذ أن نقول فرارا
عن لزوم الدور : يلزم أن يكون المراد بالاصول الأدلة الاجمالية.
ويمكن أن يقال : إن
الدور اللازم هنا دور معي ولا استحالة فيه اذ المضاف والمضاف اليه ليس بينهما علية
ومعلولية وتقدم وتأخر بل هما معان ، كما هو الشأن في جميع المتضايفين ، سواء عبر
بتعبير لفظي أم لا ـ فافهم ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : مع أن من الأدلة الأربعة ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ أنه ربما يكون
دليل الفقه من الأدلة الأربعة دليلا اجماليا مطردا كما في القواعد العامة الكلية
الفرعية ، كما في قولنا «كلما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «من ملك شيئا ملك
الإقرار به» وغيرهما ، وكما فى الأدلة الإجمالية لثبوت الأحكام من الضرورة وغيرها
وكما في وجوب اطاعة الله ورسوله والايتمار بأمرهما والانتهاء عما نهيا عنه ، فلو
كان المراد بالاصول في قولهم «أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية» لزم أن تكون الادلة
الاجمالية المذكورة من اصول الفقه ، وفساد التالي واضح.
وفيه : أن هذا لو
تم لكان مشترك الورود ، إذ لا شبهة في أن الادلة الإجمالية متيقنة الإرادة ، سواء
كانت الادلة التفصيلية أيضا مرادة ـ كما هو مرام المصنف ـ أو كانت الاصول مختصة
بالادلة الاجمالية. مضافا الى أن الاحكام الفرعية لو كان بعضها مستفادا من الادلة
الإجمالية ليس الفقه مختصا بالعلم الحاصل عن الادلة التفصيلية «هف».
على أن تلك
الامثلة المذكورة لتصوير الادلة الإجمالية فيها ما لا يخفى أما الاول فلأن القواعد
العامة الكلية ليست دليلا بل الدليل هو المؤلف من صغرياتها وتلك الكبريات الكلية.
مثلا يقال : البيع يضمن بصحيحه ، وكلما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فالبيع يضمن
بفاسده. ولا ريب في أن هذا القياس دليل تفصيلي ليس مطردا اجماليا كما هو واضح.
وأما المثال
الثاني فلان الضرورة ليست دليلا ـ كما اعترف «قده» به سابقا حتى تكون اجمالية.
وأما الثالث فلأن
وجوب إطاعة الله ورسوله ارشادي عقلي ليس من الاوامر الشرعية المولوية في شيء ، فلا
يكون من الفقه.
قوله
«قده» : والعلم بالشىء يغاير ـ الخ.
غير خفي أن
المعلوم على قسمين : معلوم بالعرض وهو الصورة الخارجية للشيء ، ومعلوم بالذات وهو
الصورة الحاصلة من الشيء لدى العقل. وانما سمي معلوما بالذات لكونه معلوما ومنكشفا
بذاته لا بواسطة صورة اخرى وإلّا تسلسلت الصور وذهبت الى غير النهاية. وهذا بخلاف
الصورة العينية الخارجية ، حيث انها معلومة بالعرض وبالتبع وبواسطة الصورة الحاصلة
لدى النفس ، ولا ريب في أن العلم لا يكون عين المعلوم
بالعرض وإنما هو
عين المعلوم بالذات ، فالصورة الحاصلة لدى النفس علم ومعلوم ، فهما متحدان ذاتا
متفاوتان اعتبارا ، فان لوحظت تلك الصورة الحاصلة من حيث كونها انكشافا للصورة
الخارجية العينية تسمى علما ، وإن لوحظت من حيث كونها منكشفة بذاتها تسمى معلوما.
ومن هنا ظهر معنى قوله : ولو بالاعتبار.
قوله
«قده» : فمعناه الإضافي منطبق على معناه العلمي ـ الخ.
يعنى إن معناه
الإضافي ـ وإن لم يكن منطبقا على المعنى العلمي بالاعتبار الثاني وهو إطلاقه على
العلم ـ إلّا أنه منطبق عليه بالاعتبار الأول وهو إطلاقه على المسائل. وفيه : أن
الظاهر أنهم أرادوا تطبيق المعنى الاضافي على المعنى العلمي بالاعتبار الثاني كما
يشهد به ذكر المعنى العلمي بالاعتبار الثاني ، وتفسيرهم للفقه بأنه العلم بالأحكام
الشرعية.
قوله
«قده» : فالظاهر أنه لا حق للمضاف مقيدا ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أن الموضوع
له والمسمى هو المضاف مقيدا مع خروج القيد والتقييد كما يصرح به مرارا في هذا
الكتاب ، ويشهد به قوله : واليه ينظر وصفنا له بالافرادي ، اذ من المعلوم أن
المراد أنه الى ما ذكرنا من لحوق المعنى العلمي للمضاف مقيدا بنظر ـ الخ. وليس
الضمير راجعا الى اللحوق للمجموع المركب ، اذ هو مناف للافراد كما هو واضح.
والمراد من اللحوق
للمجموع المركب المجموع المركب على وجه الجزئية والشطرية ، إذ من المعلوم الواضح
انه غير موضوع للاصول والفقه
على وجه الجزئية ،
بل المراد المركب على وجه الشرطية والتقييد والتركيب العقلي من المقيد والتقييد ـ فافهم.
قوله
«قده» : من التصورات مطلقا.
أي اعم من أن تكون
تلك التصورات كلية او جزئية شخصية.
قوله
«قده» : ويخرج بهذا القيد ـ الخ.
يعني يخرج بقيد
القواعد العلم بالجزئيات ، سواء كان العلم بها تصديقيا فتكون القضية المقصودة
جزئية أو تصوريا ، وإنما أعاد بيان الخروج بهذا القيد وكرره ليتصل ببيان الخروج
بسائر القيود.
قوله
«قده» : كمباحث التصورات من علم المنطق ـ الخ.
فيه : أن المفروض
لما كان ان المراد بالقواعد القضايا الكلية ـ كما يشهد به مقابلته بقوله : ولو
فسرت القواعد بالامور الكلية ـ لا جرم تكون مباحث التصورات خارجة بقولنا بالقواعد
، إذ لا ريب في أن مباحث التصورات من علم المنطق التي تسمى بلسان اليونان
بإيساغوجي أي الكليات الخمس ليست من القضايا والتصديقات في شيء.
ويمكن دفعه بأن
المراد بمباحث التصورات إنما هي باعتبار التصديقات اللازمة لها ، إذ تصور الجنس
مثلا يستلزم الإذعان بأنه المقول على اشياء مختلفة الحقائق وكذا في غيره ، فعلى
هذا لا يخرج بقيد القواعد ، فيحتاج الى الإخراج بقيد الأحكام.
قوله
«قده» : ولو فسرت القواعد بالأمور الكلية ـ الخ.
يعني لو فسرت
القواعد بالامور الكلية فلا تخرج الحدود بقيد القواعد لأن الحدود أمور كلية فتكون
خارجة مع مباحث التصورات بقيد الأحكام أيضا ، فالضمير في قوله «معها» راجع الى
مباحث التصورات ، إلّا انه يلزم استدراك قوله ايضا ، إلّا ان يراد به كما خرج بقيد
القواعد العلم بالجزئيات. ويحتمل أن يكون الضمير راجعا الى الأحكام ، وتكون كلمة «مع»
بمعني الباء.
قوله
«قده» : كبعض العلوم الرياضية.
يعني الهيئة التي
هي قسم من الاقسام الاربعة للعلم الرياضي ، أي الهيئة والحساب والموسيقى والهندسة.
قوله
«قده» : ثم الكلام في الاختصاص.
ما مر من أن كثيرا
من مسائل هذا العلم مما يستدل به في علمي اصول الدين والأخلاق ، بل قد يستدل فيه
به فكيف يتم دعوى الاختصاص؟ اللهم إلّا ان يقال : لما كان لعلم الفقه مزيد حاجة الى هذا
العلم بل هو الغرض الداعي الى تدوينه نزل ذلك منزلة الاختصاص.
قوله
«قده» : لأنا نقول غاية ما فى الباب ـ الخ.
منع للملازمة في
القضية الشرطية ، وهي قول القائل «وإلّا لكان المستنبط بعض تلك الأحكام» إذ بيان
الملازمة هو أن تلك القواعد الفقهية لو كانت داخلة في الاحكام ايضا كدخولها في
القواعد الممهدة لزم أن
تكون تلك القواعد
الفقهية مستنبطة ومستنبطا منها ومقدمة ومؤخرة ، وبعبارة اخرى : يلزم اجتماع
المتقابلين في شيء واحد ، فلا بد وأن تكون تلك القواعد الفقهية داخلة في القواعد
الممهدة فقط دون الأحكام ، فيكون المراد بالأحكام بعضها ، فيكون المستنبط بعضها ،
وهذا ما اريد من الملازمة.
وبيان الدفع : هو
أنه لا بأس باجتماع المتقابلين والدخول في الجمعين مع اختلاف الاعتبارين ،
فباعتبار أنها مستنبطة تكون مؤخرة ، وباعتبار انها مستنبط منها تكون مقدمة.
قوله
«قده» : وهذا الاشكال ظاهر الورد ـ الخ.
أي اشكال الانتقاض
الطردي ودخول القواعد الفقهية في الحد ظاهر الورود على التعريف الثاني ، وهو العلم
بالقواعد التي يستنبط منها كما هو ظاهر.
وأما التعريف
الأول ـ وهو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ ـ فلما لم تكن تلك القواعد
الفقهية ممهدة لاستنباط الأحكام وإن ترتب عليها فيخرج عن الحد ، فيحتاج توجه
الاشكال الى ان يقال : ان تلك القواعد وإن لم تكن ممهدة للاستنباط ـ إلّا أن
الاستنباط لما ترتب عليها وكان غاية عرضية فكأنها مهدت له.
ولا يخفى ما فيه
من التعسف الشديد.
قوله
«قده» : فلا يتوجه النقض بالأول.
لأن علمه تعالى
حضورى شهودي اشراقي نورى.
قوله
«قده» : اي لا بواسطة في العروض ـ الخ.
قد سلف منافي بيان
حد الفرعية بأنها ما يتعلق بكيفية العمل بلا واسطة بيان الفرق بين الواسطة في
الثبوت والواسطة في العروض ـ فراجع.
والمراد بأعمية
المباين هو الأعمية بحسب الوجود والاكثرية بحسب الافراد والمورد كما سيصرح به لا
الأعمية بحسب الصدق ، اذ من الواضح ان احد المتباينين لا يصدق على الآخر كما هو
واضح.
قوله
«قده» : بواسطة الوضع.
فيه : انه من
المحقق الواضح الذي هو معترف به للمصنف ـ قدسسره ـ أن الأثر عين
التأثير والوجود عين الايجاد ذاتا ، وانما التفاوت بحسب الاعتبار ، وحينئذ فلا ريب
في أن الوضع عين الحاصل منه ، فتكون الاحوال الإعرابية عين الوضع ذاتا وغيره
اعتبارا ، وحينئذ فلا واسطة ولا وساطة ، إذ لا يعقل الوساطة في المتحدين ذاتا
ووجودا.
ومن هنا ظهر ما في
جعل الشارع وخطابه واسطة ، إذ جعله وخطابه هو أحكامه ولا يعقل الوساطة.
قوله
«قده» : على افعال المكلفين باعتبار ـ الخ.
عروضها على أفعال
المكلفين باعتبار وجوداتها العينية الخارجية ، وعلى الادلة باعتبار وجوداتها
الذهنية العلمية. وفيه : أن العلم بالنتائج والمطالب لازم عقلي للعلم بالمقدمات
والقياس ، ولا يحتاج الى توسيط جعل ولا جاعل وراء جاعل الملزوم وجعله ، فهو مجعول
بعين مجعولية الملزوم.
قوله
«قده» : فكالحاجة اللاحقة للممكن.
يحتمل أن يكون
المراد بالحاجة الامكان الذاتي. ووجه عدم الاحتياج في لحوق الامكان الذاتي للممكن
الى جعل وجاعل أنه لو احتاج للزم الامكان؟؟؟ ذى الغير وهو غير معقول ، لأنه لو كان
الشيء ممكنا بالغير فإما أن يكون في حد ذاته واجبا او ممتنعا او ممكنا ، اذ القسمة
الى الثلاثة على سبيل الانفصال الحقيقي ، فلا يجوز الخلو عنها. فعلى الأولين يلزم
الانقلاب ، وعلى الأخير يلزم ان يكون اعتبار الغير لغوا.
ويحتمل أن يكون
المراد بها الحاجة التي هي لازمة للممكن متأخرة عن إمكانه ، حيث تعد المراتب ،
فيقال : الشيء قرر فأمكن فاحتاج فأوجب فوجب فأوجد فوجد. ووجه عدم الاحتياج هو أن
اللازم مجعول عين مجعولية ملزومه ولا يحتاج الى توسيط جعل آخر ولا جاعل آخر.
قوله
«قده» : بواسطة في العروض مطلقا.
أي سواء كانت اعم
أو أخص او مباينا أو مساويا.
قوله
«قده» : كالسرعة والشدة ـ الخ.
السرعة للحركة
والشدة للبياض ، فاللف والنشر مرتب. وفيما ذكره من كون عروضهما للجسم بواسطة نظر
لأن السرعة والشدة من العوارض الغير المتأخرة في الوجود والعوارض التحليلية
التعملية العقلية ، وليسا من العوارض الخارجية المتأخرة في الوجود ، اذ من الواضح
أنه لا توجد حركة مثلا لا تكون سريعة ولا بطيئة ثم تعرضها السرعة او البطء ، بل
الحركة اذا وجدت لا توجد الا سريعة أو بطيئة ، وكذا الشدة للبياض ، فهما بمنزلة
الفصول الذاتية ، وحينئذ فلا يعقل وساطة وواسطة اصلا ، فالمغالطة
نشأت من الخلط بين
العارضين ـ فافهم ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : نعم قد يكون موضوع العلم ـ الخ.
دفع لما عسى أن
يتوهم ، وحاصل التوهم هو أن مسائل هذا الفن ربما لا يكون عروضها لموضوعه بلا واسطة
، بأن لم يعرض أصلا أو عرضت مع الواسطة العروضية بالنسبة الى واحد من الأدلة
الأربعة ، وإن كان عروضها بالنسبة الى البعض الآخر منها بلا واسطة عروضية ، فيلزم
أن لا يكون من العوارض الذاتية بالنسبة الى ذلك الواحد والحال أنه من موضوع الفن.
وحاصل الدفع : أن
موضوع هذا الفن ـ وإن كان كثيرا ذاتا ـ إلّا انه لما نزل منزلة أمر واحد بملاحظة
اتحادها من حيث الغاية ـ وهو الاستنباط ـ فكان العارض للبعض بلا واسطة عروضية
كافيا في كونه من الاعراض الذاتية ، ولا ينظر الى عدم العروض للبعض الآخر أو
العروض مع الواسطة العروضية ، إذ الموضوع لوحظ شيئا واحد وحصل العروض الذاتي
بالنسبة اليه وإن لم يحصل اذا لوحظ متعددا واعتبر العروض بالنسبة الى كل واحد
منها.
وفيه : أنه لا
حاجة الى اعتبار الوحدة تنزيلا ، بل لو كان الموضوع متعددا بحسب الذات كفى في صدق
العروض الذاتي وكون العارض من مقاصد الفن العروض بالنسبة الى البعض بلا واسطة
عروضية.
قوله
«قده» : كموضوع هذا العلم في وجه.
يحتمل أن يكون
المراد بالوجه كون الموضوع هو الادلة الاربعة ، فحينئذ يحتاج الى تنزيلها منزلة
امر واحد. وأما اذا كان الموضوع هو
الدليل وان كان من
حيث الحكاية عن الادلة الاربعة فلا يحتاج الى التنزيل المذكور.
ويحتمل أن يكون
المراد به أن لاعتبار الاتحاد والوحدة فى جانب الموضوع بلحاظ الغاية وهي الاستنباط
وجه ، واعتبار الوحدة في جانب المحمولات والمسائل بلحاظ الغاية وجه آخر.
ويحتمل أن يكون
المراد أن كون اتحاد الغاية ـ وهي الاستنباط موجبا لاتحاد الادلة الاربعة ـ انما
هو بناء على كون الموضوع هي الادلة بوصف كونها أدلة ، فحينئذ تكون غايتها
الاستنباط. وأما اذا كان الموضوع هو ذوات الادلة فلا يكون الاستنباط غاية لها حتى
يكون موجبا لاتحادها ـ كما لا يخفى.
قوله
«قده» : إن أرادوا بقولهم ـ الخ.
يعني إن كان
المراد بقولهم لذاته أو لامر يساويه في قولهم «العرض الذاتي ما يعرض الشيء لذاته
أو لامر يساويه» نفي علية ما عدا الذات والامر المساوي لا اثبات العلية لهما ،
وهذا كما يقال «الواجب لذاته» ، والمقصود من قولنا «لذاته» نفي علية غيره لا علية
ذاته لذاته ، إذ لا يعقل علية الشيء لنفسه ، فهو لا يساعد عليه كلامهم وأمثلتهم
للعارض الغريب حيث أن الامر الاخص أو الاعم أو المباين علة للعارض ، كما يشهد به
المثال لما يعرض الشيء بواسطة امر مباين بالحرارة العارضة للماء بواسطة النار
وغيره ، فلا بد وان يكون الذات والامر المساوي في العارض الذاتي ايضا علة.
وفيه : أنه لا
يلزم أن يكون الذات والامر المساوي في العارض الذاتي علة ، بل اللازم أن لا يكون
العارض الغريب معلولا لغير الامر الاعم
أو الاخص أو
المباين ، كالعرض الذاتي حيث انه لم يكن معلولا لغير الذات ولغير المساوي ، وأما
المعلولية للامر الاعم أو الاخص او المباين ـ كما في العرض الغريب ـ وعدمها ـ كما
فى العرض الذاتي العارض للذات ـ فانما هي بحسب اختلاف الموارد.
ويحتمل أن يكون
مراده ـ قدسسره ـ أنه إن أرادوا
أن يكون العارض عارض لنفس الذات أو للامر المساوي ـ بأن يكون الذات والامر المساوي
مبدءا قابليا وقابلا للعارض لا مبدءا فاعليا وفاعلا كما يشهد لهذا الاحتمال
مقابلته للشق الثاني ـ فلا يساعد عليه كلامهم وأمثلتهم للعرض الغريب ، حيث أن ذلك
الامر الاعم أو الاخص او المباين علة فاعلية ، فلا بد وأن تكون الذات أو ما
يساويها أيضا علة فاعلية.
قوله
«قده» : بما عرفت.
في قوله «وأما ما
يعرض للشيء بواسطة في العروض مطلقا» يعنى وإن كان الواسطة مساوية لذلك المعروض ،
ثم قال : «فلا يبحث عنه فى علم يكون موضوعه ذلك الشيء بل في علم يكون موضوعه ذلك
العرض» الى آخر ما قال.
قوله
«قده» : بل من عوارض ما يساويه.
فيه : أن المساوي
وان كان مغايرا لذلك مفهوما إلا أنه متحد معه وجودا ومصداقا ، وحينئذ فيكون العارض
للمساوي عارضا بحسب الوجود لذلك الشيء ، إذ لا انفكاك بين المساوي والشيء الذي
يساويه في الخارج
قوله
«قده» : وان أرادوا أن يكون العرض معلولا للذات ـ الخ.
لعلك تتوهم أنه لا
يعقل أن يكون العرض معلولا للذات أو للامر
المساوي بل مطلقا
، لانه يلزم منه اجتماع المتقابلين وان يكون شيء واحد فاعلا وقابلا ، لان المفروض
ان العرض معلول ، ومن الواضح انه لا بد له من موضوع قابل يقبله ومحل يحل فيه ، ومن
الواضح المعلوم انه لا محل له يقبله الا ذلك المفروض علة وفاعلا له ، وهذا ما
ذكرناه من التالي واللازم.
وأما وجه استحالته
فلان الفاعلية بالوجدان والقابلية بالفقدان ، ولا يعقل أن يكون شيء واحد فاقدا
وواجدا من جهة واحدة وحيثية فاردة
ولكن هذا التوهم
مندفع ، لانا نقول : القبول له معنيان : احدهما الانفعال التجددي ، والثاني مطلق
الاتصاف. والذي يلزم منه اجتماع المتقابلين هو الأول دون الثاني ، فجاز أن يكون ما
نحن فيه من الثاني دون الأول.
وهذا كالقول بوجود
الصور المرتسمة في علمه تعالى بالاشياء ، فيكون ذاته الأقدس فاعلا وقابلا بالمعنى
الثاني ، إذ لا تكون ذاته المقدسة خالية عن تلك الصور المرتسمة عارية عنها ، ثم
تعرضها تلك الصور على وجه الانفعال التجددي ، بل تكون ذاته المقدسة غير خالية عنها
ولا منفكة عنها ، وهذا غير مستحيل كما هو واضح ـ فافهم إن كنت من أهله.
قوله
«قده» : فلأنه بظاهره يوجب ـ الخ.
توضيحه وبيانه :
هو أنه اذا كان الموضوع علة لمسائله وأعراضه الذاتية لزم أن يكون كل كلمة مثلا
مرفوعا ومنصوبا ومجرورا ومبنيا ، لان الكلمة مثلا علة للبناء والرفع والنصب والجر
، ومن الواضح امتناع تخلف المعلول عن علته ، فيلزم اجتماع الاضداد والمتقابلات.
وفيه : أنه ليس
الموضوع علة تامة لمسائله واعراضه الذاتية بل هو
علة فاعلية ومقتض
، والذي يمتنع تخلف المعلول عنه هو العلة التامة دون المقتضى والعلة الناقصة ،
فجاز أن تكون الكلمة مقتضيا وكونها فاعلا شرطا فى الرفع ومفعولا شرطا في النصب
وهكذا ، فلا يلزم اجتماع المتقابلات كما هو واضح.
قوله
«قده» : وهو امر مباين لهما.
فيه : ما مر منا
عن قريب من أن الاثر عين التأثير والإيجاد عين الوجود ذاتا والتفاوت انما هو
بالاعتبار ، وحينئذ فيكون الوضع واثره متحدا ، فلا واسطة ولا وساطة في البين حتى
يكون مباينا أو غير مباين
قوله
«قده» : من أن لواحق الشىء لا تستند الى ما يباينه.
إن كان وجهه هو
اعتبار السنخية بين المعلول وعلته وإلّا لزم أن يكون كل شيء علة لكل شيء. ففيه :
ان السنخية وإن كانت معتبرة إلّا أنها معتبرة بين المعلول وعلته لا بين العلة ومحل
معلولها ، وما نحن فيه من قبيل الثاني وان كان المقصود هو امتناع صدور العارض عن
مباين معروضه ، فهو قياس مغالطي مصادري كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : فلا يلزم منه أن يكون اللحوق ـ الخ.
يحتمل أن يكون
مراده نفي استناد اللحوق الى المشروط بما هو مشروط ، بل اللحوق مستند الى ذات
المشروط بناء على مذهبه من خروج القيد والتقييد في المقيدات ، فيبقى الاشكال بحاله
، لأن العوارض المحمولة تكون محمولة بواسطة امور مباينة.
وفيه : ان الحق
دخول التقييد وإن خرج القيد ، فيرتفع الاشكال
ويحتمل أن يكون
مراده نفي استناد اللحوق الى المشروط بالذات بتقريب أن اخذ مطلق الإعراب والبناء
مثلا في الكلمة لا يقتضي أن يكون عروض العوارض ولحوق اللواحق مستندا الى المشروط
بالذات بلا حاجة الى توسيط الامر المباين ، بل التوسيط اليه باق ، إذ خصوصية
الإعراب ـ كالرفع والنصب والجر ـ يحتاج الى الوضع والتخصيص.
وفيه : انه لا ريب
في أن خصوصيات الإعراب فصول مقسمة لمطلق الإعراب ، ولا ريب في أن الفصول خواص
للاجناس كما أن الاجناس أعراض عامة للفصول ، ولا ريب في أن الخاصة تعرض ذيها لذاته
ولا يحتاج الى أزيد من ذيها وجاعله ، وهذا واضح لا سترة عليه.
قوله
«قده» : مع انتفاء الفائدة ـ الخ.
يعني اذا لم يكن
اعتبار الحيثية ولحاظ الجهة مصححا لكون اللواحق المحمولة أعراضا ذاتية ، فلا فائدة
فيه أصلا.
قوله
«قده» : وأما ما اشتهر من أن ـ الخ.
ابداء لفائدة ودفع
لها.
قوله
«قده» : لأنه حال تقيده بهذا الاعتبار ـ الخ.
فيه من الخلط
والمغالطة ما لا يخفى ، إذ فرق واضح بين القضية الحينية الصرفة والوقتية البحتة
وبين الشرطية والوصفية ، ولا ريب في أن لحوق أحوال الأبنية والصحة والاعتلال وعروض
أحكام الفصاحة للكلمة والكلام واللفظ العربي إنما هو حين كون اللفظ المذكور معربا
أو مبنيا ووقته لا بشرطه ووصفه ، فاذا أخذ اللفظ المذكور مقيدا بالحيثية المذكورة
مشروطا
بها لا يعرضه تلك
العوارض واللواحق ـ فافهم إن كنت من اهله.
قوله
«قده» : وان اعتبرت الحيثية تعليلية ـ الخ.
يعني إن الحيثية
التعليلية علة لثبوت المحمول للموضوع ، كما يقال «هذا الثوب صار أبيض لصنعة القصار
فيه» ، وحينئذ فاذا أخذت حيثية الإعراب والبناء مثلا تعليلية يصير البناء والاعراب
علة للرفع والنصب وغيرهما. ولا ريب في عدم استقامته ، اذ الإعراب مثلا جنس
والخصوصيات الرفعية والنصبية وغيرهما فصول ، ولا يكون الجنس علة للفصل ، بل الأمر
بالعكس ، اذ الفصل علة لتحصيل الجنس ، اذ الجنس لا متحصل صرف يكون تحصله بالفصل
كما هو ظاهر عند أهله.
هذا كله مضافا الى
انه لو كان مستقيما فى نفسه لا يجدي فيما رام القوم من كون تمايز الموضوعات بتمايز
الحيثيات وتغاير الجهات ، إذ تكثر الحيثيات التعليلية وتغايرها وتمايزها لا يوجب
تعدد المتحيث بها وتمايزه ، كما هو ظاهر عند أهله.
قوله
«قده» : فالتحقيق في المقام أن يقال ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أن العلوم
قضايا ومسائل واقعية مشتملة على موضوعات ومحمولات ونسب ، ولا ريب في أن النسب
والوجودات الروابط بما هي هي لا ميز ولا تمايز فيها ، بل التمايز فيها باعتبار
طرفيها ومنتسبيها ، فلا بد من النظر فيهما ، فاذا لم تكن الموضوعات متمايزة ـ كموضوعات
العلوم الأدبية ـ فلا بد وأن يكون التمايز بالمحمولات ، وهي المرادة من حيثيات
البحث كما هو ظاهر.
قوله
«قده» : وهي عند التحقيق عنوان اجمالي.
للمسائل التي تقرر
في العلم ، اذ المسائل هي المحمولات المنتسبة ،
فيكون العنوان
الاجمالي حاكيا عنها ، فيكون التمايز حاصلا منها.
هذا كله اذا كان
اسامي العلوم اسامي للمعلومات والمسائل الواقعية وأما اذا كانت أسامي للعلم بها
فيكفي أن يجعل التمايز باعتبار الأغراض والغايات ، فيكون العلوم الأدبية وان كانت
متشاركة في كونها علما بأحوال الكلمة والكلام ، إلّا انها متمايزة من حيث الأغراض
والغايات كما لا يخفى
ويمكن أن يكون
مراد المصنف ـ قدسسره ـ من حيثيات البحث
هذا وكونها عناوين اجمالية للمسائل باعتبار امكان أن يجعل غاية الشيء عنوانا ،
فيجعل الجلوس على السرير عنوانا فيقال للسرير الجالس عليه السلطان.
وقد أبدع وأغرب
بعض المعاصرين «قده» في بدائعه موردا على المصنف «قده» فقال : أما ما زعمه من أن
التمايز قد يحصل بتمايز حيثيات البحث فلا محصل له إن أراد بالبحث معناه المصدري.
نعم ان أراد المعنى المفعولي ـ أعني المحمولات ـ على أن يكون المراد أن تمايز
العلوم قد يحصل بتمايز المحمولات ثم ما ذكره ، لكن التمايز بين المحمولات ايضا
بالذات لا بالحيثية كما لا يخفى. إلّا ان يقال ان المحمولات من حيثيات الموضوع ،
فيصح حينئذ أن يقال : إن التمايز بين الموضوعين بالحيثية ، أي من حيث المحمول ـ انتهى.
وفيه : انه يمكن أن
يكون المراد بالبحث المعنى المصدرى ، وهو ـ وإن كان مشتركا بين جميع العلوم ولم
يكن ما به التمايز ـ إلا أن المصنف «قده» لم يجعله ما به الميز والتمايز بل جعل
التمايز بحيثيات البحث وهي المحمولات ولا يرد عليه ما أورده بناء على أن يكون
المراد بالبحث المعنى المفعولي من أن التمايز بالمحمولات تمايز بالذات لا بالحيثية
، لأن المصنف «قده»
جعل التمايز
بالمحمولات التي هي حيثيات البحث ، فالمحمولات المتمايزة بذواتها تكون حيثيات
للبحث ، فالمتحيث هو البحث لا المحمولات ، مع انه لو كان المراد بالبحث المعنى
المفعولي لا يرد عليه ما أورده ، لأن المحمولات ـ وإن كانت متمايزة بالذات لا
بالحيثية ـ إلّا أنه يمكن أن يكون التعبير بالحيثية من باب المشاكلة كما في قوله
تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ).
مع امكان أن يقال
: إن الأجناس ـ وإن لم تكن من حيثيات الأنواع ـ إلا انها من حيثيات الفصول ، كما
ان الفصول من حيثيات الاجناس ، لأن الأجناس اعراض عامة للفصول والفصول خواص
للاجناس ، وحينئذ فيصح إطلاق الحيثية على الأجناس بهذا الاعتبار ، وحينئذ نقول
الإعراب والبناء مثلا جنس لخصوصيات الرفع والنصب وغيرهما ، فيكونان حيثيتين بهما
يمتاز النحو عن غيره.
ثم لا يخفى ما في
استدراك المعاصر ـ قدسسره ـ بقوله «إلّا أن
يقال» ـ الخ ، إذ هو ليس تصحيحا لمرام المصنف «قده» كما رامه المعاصر وأراد ، بل
مناقض لمرامه ونقض لبنائه ، اذ المصنف مقصوده هو إنكار كون التمايز في الموضوعات
المشتركة بحسب الموضوع لا بحسب ذات الموضوع ولا باعتبار الحيثية ، وما صحح به
المعاصر كلامه هو اعتبار الحيثية للموضوع.
هذا مضافا الى انه
مستلزم للدور المحال ، لأنه لا يعقل أن يؤخذ ما يجىء من ناحية المحمول وجانبه في
الموضوع للزوم تقدم الشىء على نفسه وتأخره عن نفسه ـ كما هو واضح.
وبالجملة فلا يرد
على المصنف شيء. نعم يتجه عليه أن التمايز اذا
حصل بالمحمولات
وحيثية البحث فلا حاجة الى اعتبار التمايز بحسب الموضوعات فيما كان التمايز بحسبها
كعلم النحو والمنطق ، فكان الأولى أن يقول : التمايز بحسب حيثية البحث مطلقا سواء
حصل التمايز بحسب الموضوعات ايضا أم لم يحصل ـ تأمل تنل.
قوله
«قده» : لا يخلو عن تعسف.
لأن الاجتهاد من
احوال المستنبط لا من أحوال الأدلة ، وهي المستنبط منها.
قوله
«قده» : ولا اختصاص لها بالأدلة.
فيكون موضوعها
مطلق الالفاظ من غير مدخلية الكتاب والسنة ، فلا يكون موضوعها الكتاب والسنة.
قوله
«قده» : إذ كونها أدلة انما تعرف ـ الخ.
والحاصل انه يلزم
الدور المحال لو كانت تلك المباحث بحثا عن الأدلة إذ تلك المباحث موقوفة على
الأدلة توقف المقاصد والمحمولات على موضوعاتها والأدلة بوصف كونها أدلة موقوفة على
تلك المباحث ، وهو دور ظاهر صريح.
قوله
«قده» : ولا يقدح فى ذلك ـ الخ.
دفع توهم ، وحاصل
التوهم أن الموضوع لتلك المباحث لو كان هو المقيد بالوقوع في الكتاب والسنة لم يصح
التمسك بالوضع اللغوى والعرفي بل كان اللازم هو بيان المعنى الشرعي ، والتالي باطل
فالمقدم مثله.
وحاصل الدفع : هو
منع الملازمة ، إذ المقصود هو بيان مداليل تلك الألفاظ بأي وجه اتفق ، ولو كان
الطريق الى العلم بتلك المداليل هو العلم بالوضع اللغوي والعرفي.
قوله
«قده» : يجوز أن يكون بحثهم في الفن ـ الخ.
حاصله : هو أنه
يجوز أن تكون تلك المباحث باحثة عن احوال مطلق اللفظ. ولا يلزم الاشكال بكونها
باحثة عن احوال غير الأدلة ، لأنه كما ان المقيد جزء من الكتاب والسنة كذلك المطلق
جزء منهما ، يعني كما أن اللفظ العربي الواقع فيها جزء منهما كذلك اللفظ العربي
جزء منهما فيكون المطلق والمقيد جزءين منهما في عرض واحد ، أو لأن المطلق جزء من
المقيد والمقيد جزء منهما فيكون المطلق جزء منهما لأن جزء الجزء جزء ، فيكون
المطلق والمقيد مرتبين طوليين.
ومن المعلوم انه
قد يكون موضوع مسائل الفن بعض اجزاء الموضوع وبعض أجزاء الموضوع هو جزء الجزء له ،
وبالجملة يكون البحث عن المطلق بحثا عن الأدلة.
قوله
«قده» : لأنا نقول إنما يبحث في العلم ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أن البحث عن
اجزاء موضوع العلم وجزئياته إنما يرجع الى البحث عن الموضوع لتكون تلك المباحث
مقاصد الفن ومطالبه ومسائله ، وتكون بحثا عن الموضوع.
وببيان أوضح : لما
بحث في العلم عن اجزاء الموضوع وجزئياته فالتجأ الى ارجاعه إلى البحث عن الموضوع ،
وفيما نحن فيه يجعل البحث من أول
الأمر من المقيد
ولا حاجة الى جعل البحث من المطلق ثم إرجاعه الى البحث عن المقيد.
قوله
«قده» : ومن هنا يتبين ـ الخ.
أي من كون الموضوع
هو المقيد بالوقوع بالكتاب والسنة يتبين ـ الى آخر ما أفاد.
قوله
«قده» : وبعد اعتبار الحيثية ـ الخ.
يعني أن القوم
أهملوا اعتبار الحيثية ، وبعد اعتبارها يصير الموضوع مقيدا بالوقوع في الكتاب
والسنة ، فيرجع الموضوع الى ما ذكرنا من كونه المقيد.
قوله
«قده» : القول في المبادئ اللغوية.
المبادئ جمع
المبدأ ، والمراد بها هنا جملة من المطالب العلمية التي يتوقف العلم عليها أو يكون
مما يوجب البصيرة فيه. والمراد بالمبادئ اللغوية ما يتعلق باللغة من الحقيقة
والمجاز وغيرهما.
قوله
«قده» : إما أن يتحد في الاعتبار.
أي فى اللحاظ ،
أعم من اللحاظ الأولي والثانوي ، فيشمل المتحد ذاتا كلفظ زيد والمتحد اعتبارا
كالمركب بالتركيب المزجي كبعلبك وبالتركيب الاضافي كعبد الله.
قوله
«قده» : إن لم يكن النقل من المطلق الى المقيد.
وأما اذا كان
النقل من المطلق الى المقيد فلا يستلزم التجوز ، لجواز
إرادة المطلق من لفظه
وإرادة المقيد من الخارج ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فلا يكون مجازا.
قوله
«قده» : أو من العام الى الخاص.
وأما اذا كان
النقل من العام الى الخاص فلا يلازم التجوز بناء على ما سيجيء منه في مبحث العموم
والخصوص في الفصل المعقود للعام المخصص من التفصيل ، وهذه عبارته بعينها :
والتحقيق عندي أن العام المخصوص إن كان تخصيصه باستعماله في الخاص باعتبار كونه
للعموم وضعا فمجاز سواء كان موضوعا للعموم ابتداء ككل وتوابعه أو كان موضوعا لمعنى
يلزمه العموم ولو بحسب مورد الاستعمال كالنكرة في سياق النفي والجمع المحلى
والمضاف الموصول عند عدم العهد ، وان كان التخصيص بإخراج البعض كما في الاستثناء
أو بصرف النسبة اليه كما في البدل أو بتقييد مدلوله كما في الوصف أو حكمه كما في
الشرط والغاية بناء على عدّ الثلاثة المتأخرة من هذا الباب فحقيقة إن لم يوجد فيه
جهة أخرى توجب التجوز فيه ، فالعام في نحو «زارني كل عالم أو العلماء أو من زرته
أو زارني عالم» اذا أريد بلفظه في الموارد الأربعة البعض المقارب للكل حقيقة أو
حكما باعتبار كونه للكل ، وبعبارة اخرى : اذا اطلق اللفظ المخصوص بالكل وصفا على
الجل تنزيلا منزلة الكل فهو مجاز. ونحو «اكرم كل رجل عالم أو العلماء العدول أو إن
كانوا عدولا أو الى أن يفسقوا او إلا الفساق أو العلماء عدولهم أو من اكرمك» بأحد
القيود الاربعة المتأخرة أو «لا تهن رجلا» بأحد القيود الاربعة المتقدمة فهو حقيقة
ـ انتهت عبارته الشريفة.
ويحتمل بعيدا ، أن
يكون مراده من العام والخاص في قوله «من العام الى الخاص» العام والخاص الميزانيين
، فيكونان مرادفين للمطلق والمقيد لا الاصوليين فتكون كلمة «أو» للترديد في
التعبير ـ فافهم ان كنت من أهله.
قوله
: القيد الأخير.
وهو عدمها.
قوله
«قده» : وهذا أقرب الى الاعتبار.
إذ المشترك بحسب
المعنى اللغوي ما كان مشتركا بين أمور ، ولا ريب في ان اللفظ المنقول والمرتجل
أيضا مشترك ، فالأوفق بالاعتبار أن يسمى مشتركا.
قوله
«قده» : وكانت الدلالة من جهة واحدة.
احتراز عما لو وضع
لفظ الناطق للانسان مثلا من جهة كونه مدركا للكليات ، ولفظ الضاحك له من جهة كونه
صادرا منه تلك الهيئة الخاصة والحالة المخصوصة ، فلا يكون لفظ الناطق والضاحك
مترادفين لاختلاف الجهة وتكثر الحيثية.
قوله
«قده» : وقد تجتمع بعض هذه الاقسام مع بعض.
كلفظ الانسان حيث
انه مرادف للبشر مباين للفرس.
قوله
«قده» : فاتضح أن النسبة ـ الخ.
فمورد الاجتماع ما
اذا كان التشكيك الدلالي مستندا الى الاختلاف في
صدق المعنى وتحققه
، ومورد الافتراق من جانب الاختلاف في صدق المعنى وتحققه البياض والسواد الشديدان
، فانه لا يكون فيهما التشكيك بحسب الدلالة وان كان فيهما التشكيك بحسب تحققهما
وصدقهما ، ومورد الافتراق من جانب التشكيك الدلالي الاختلاف في الأشهرية والأكملية
والأوفقية بالارادة ولو فى مقام التخاطب ، حيث انه ليس فيها الاختلاف بحسب صدق
المعنى وتحققه.
قوله
«قده» : والأوفق بمباحث الالفاظ هو الثاني.
حيث انه اختلاف
بحسب دلالة اللفظ ، وأما الأول فهو اختلاف بحسب ذات المعنى وتحققه وصدقه وان لم
يكن لفظ ولا دلالة.
قوله
«قده» : أو عرفا فعرفية عامة او خاصة ـ الخ.
لا شك في تحقق
العرفية العامة والخاصة ، إذ لا ريب في أن معنى من المعاني اذا لم يكن عبر عنه
واضع اللغة الأصلي بلفظ ولم يضعه له فأهل لغته والتابعون له يعبرون عنه بلفظ ، ولا
ريب في أن ذلك اللفظ يصير من لغته لأنهم بما هم تابعون له يكونون بمنزلته ، وهذا
واضح لا سترة عليه
ولا ريب في أن أهل
العرف العام أو الخاص لا يريدون أن يكونوا فى قبال الواضع الأصلي وحياله ويكونون
مستقلين في الوضع بل انما هم تابعون فلا يكون الا حقيقة أو مجازا لغويين.
قوله
«قده» : فضعفه يعرف مما ذكرناه.
أي من الاحتياج
الى اعتبار الحيثية.
قوله
«قده» : وكذلك المجاز ـ الخ.
كتب ـ قدسسره ـ فى الهامش :
ويعتبر الحيثية في المجاز أيضا
كالحقيقة ، وانما
تركناها في المجاز تعويلا على ظهورها وسبقها في الحقيقة.
قوله
«قده» : انما يلحق اللفظ ـ الخ.
اعلم أن الكلية
والجزئية يعرضان المعاني في الذهن ويلحقان به في موطنه ومشهده وتتصف بهما فيه ،
فيكونان من المعقولات الثانوية الميزانية التي يكون العروض والاتصاف كلاهما فيها
فى الذهن ، لا من المعقولات الثانوية الفلسفية التي يكون العروض فى الذهن والاتصاف
في الخارج ويكون الخارج ظرفا لانفسها لا لوجودها. وبعبارة اخرى : يكون الخارج ظرفا
لوجودها الرابط الذي هو مفاد كان الناقصة لا الوجود المحمولي النفسي الذى هو مفاد
كان التامة.
ثم المعاني
المعروضة للكلية والجزئية تكون واسطة في عروضهما للالفاظ لا واسطة في الثبوت لأنه
يصح سلب ما فيه الواسطة عنها ويكونان وصفا لها بحال متعلقها وهو المعاني ، والظرف
في قوله «في الذهن» متعلق بقوله «يلحق».
(تشكيك وإزاحة)
لعلك تتوهم انه
اذا كان اللفظ كليا يلزم اجتماع المتقابلين ، وإذا كان جزئيا يلزم اجتماع المثلين.
بيان الملازمة : هو أن اللفظ الصادر من متكلم لا محالة يكون جزئيا ، لأن الشيء ما
لم يتشخص لم يوجد ، والمتشخص العيني يكون جزئيا لا محالة ، وحينئذ إذا كان كليا
يلزم اجتماع المتقابلين ، واذا كان جزئيا يلزم الثاني.
ولكن هذا التوهم
مندفع بأن جزئية اللفظ الصادر من جهة تشخصه
وصف له بحاله
وجزئيته وكليته باعتبار معناه وصف له بحال متعلقه ، فلا يلزم محذور كما هو واضح.
قوله
«قده» : لان مداليلها معان آلية ـ الخ.
يحتمل أن يكون
ملاك عدم اتصاف الحروف بالكلية والجزئية في نظره ـ قدسسره ـ هو امتناع
ملاحظتها وتعقلها بنفسها. وفيه منع الصغرى والكبرى :
أما الصغرى فلأن
الذي يمتنع تصوره بالكنه والذات والحقيقة ليس إلّا الوجود ، إذ يمتنع حصوله فى
الذهن ، إذ الوجود عين منشئية الآثار فاذا حصل في الذهن فإما أن ينشأ منه الآثار
المطلوبة منه أولا يحصل ، فان نشأت منه الآثار انقلب الذهن خارجا ، إذ لا نعنى
بالوجود الخارجي الا ما كان منشأ للآثار وبالوجود الذهني ما لم يكن ، وإن لم يحصل
ولم ينشأ فلم يكن إياه ، وأما غيره فلا يمتنع اكتناهه ونيل ذاته ودرك مفهومه حتى
مفهوم العدم وشريك الباري ينالان ويدركان. اللهم إلّا أن يكون مراده أن معاني
الحوادث لما كانت جزئيات غير متناهية امتنع للعقل أن يحيط بها الا بوجهه الاجمالي
وعنوانه الكلي ، فلا يكون الاتصاف الا بحسبه وفيه : أن كون الموضوع له هو الخاص
أول الكلام.
وأما الكبرى ـ وهي
كلما يمتنع أن يلاحظ ويتعقل بنفسها وذاتها يمتنع اتصافها بالكلية والجزئية فلأنه
لا ريب فى كفاية تصور الشيء بوجهه وعنوانه في اتصافه بالكلية والجزئية ، اذ من
الواضح ان الكلية والجزئية لما كانتا من المعقولات الثانوية لا بد لها من معقول
اول يتصور أولا ثم يتصوران ولا يحتاج الى ازيد من تصورهما وتعقلهما ، أما كون
التعقل والتصور
بالذات والكنه
فلا. ويحتمل أن يكون الوجه والملاك هو عدم استقلال معاني الحروف وآليتها وكونها
مما به ينظر لا ما فيه ينظر. بتقريب انه إذا أخذ الشيء آلة لحاظ شيء آخر ومرآة
لملاحظته وحكاية عنه فهو ليس بشيء ، اذ الحكاية ليست بشيء بل الشيء هو المحكي عنه
، فاذا لم يكن شيئا ولم يكن ملتفتا اليه لا يتصف بشيء لا بكلية ولا بجزئية.
وفيه : أولا منع
الصغرى ، اذ لم يقم على آلية معاني الحروف وعدم استقلالها معنى ومفهوما برهان ولم
يساعد عليها وجدان وإن أرسلها المتأخرون إرسال المسلمات ولم يأتوا بشيء ، ولسنا
هنا بصدد التفصيل. وثانيا انه يمكن أن يقال : إن الحروف موضوعة لذات المعاني ،
والمقصود من كونها غير مستقلة أنه يمكن أن تلاحظ على وجه عدم الاستقلال والمرآتية
لا انه يعتبر أن تلاحظ على ذلك الوجه ، وهذا نظير ما يقول به ـ قدسسره ـ في الاسم ، حيث
انه يصرح بأنه موضوع لذات المعنى على وجه اللابشرط بالنسبة الى الاستقلال ، بمعنى
أنه يمكن أن يلاحظ مستقلا لا على وجه بشرط شىء بمعنى اعتبار الاستقلال فيه ، وذلك
كمفهوم الوجود والعدم حيث يمكن أن ينظر فيها بنفسها ويمكن أن ينظر بها الى الخارج
ويكونان حاكيين ، وعلى التقديرين لا ينسلخان عن الاسمية ، فكذلك فيما نحن فيه من
معاني الحروف ، فاذا كان الأمر كذلك فيجوز أن تتصف الحروف معنى ولفظا بالذات
وبالعرض بالكلية والجزئية اذا لوحظت مستقلة ولا يلزم الخلف ، إذ لم يقيد بعدم
الاستقلال والمرآتية وكونه مما به ينظر ـ فافهم ان كنت من اهله.
قوله
«قده» : فصحة وصفها بالخصوصية والجزئية ـ الخ.
دفع توهم ، وحاصل
التوهم هو انه سيجيء في تقسيم الوضع أن الوضع فى
الحروف عام
والموضوع له خاص ، فاذا كان الموضوع له للحروف خاصا فيكون معنى الحروف جزئيا ،
فتكون الحروف أيضا جزئية متصفة بالجزئية ، وهذا ينافي ما قلت من ان الحروف لا تتصف
بالكلية والجزئية.
وحاصل الدفع : ان
اتصافها بالجزئية حسبما يأتي في تقسيم الوضع باعتبار ملاحظة معانيها ومداليلها
بوجهها وعنوانها ، وهو المعنى الكلي الذي لاحظه الواضع وتصوره ، وهذا لا ينافي عدم
اتصافها بالكلية والجزئية باعتبار عدم تعقل معانيها ومداليلها بنفسها وبالذات.
وفيه : انه اذا
تصورت المعاني والمداليل ولو بالوجه كفى في الاتصاف بالكلية والجزئية ، وأي حاجة
الى التعقل بالكنه والحقيقة والذات.
قوله
«قده» : ولهذا يمتنع الحمل عليها.
أي لكون الافعال
مشتملة على المعنى الحرفى يمتنع أن يكون موضوعا ، اذ المعنى الحر في لا يخبر عنه
ولا يسند اليه. وفيه : انه لو كان الوجه ما ذكره لامتنع أن يكون محمولا ومسندا ،
اذ المعنى الحرفي كما لا يكون مخبرا عنه لا يكون مخبرا به كما هو واضح.
قوله
«قده» : في أظهر الوجهين.
وغير الأظهر هو
الاحتمال البعيد الذي يحتمله قوله قدسسره : «وهو كون التقييد المذكور معتبرا في
وضع هذه الاسماء» على أن يكون خارجا عن المعنى مشخصا له بناء على خروج القيد
والتقييد.
ويحتمل أن يكون
مقابل الأظهر ما ذكره بقوله : «وقد يقال في الأسماء المذكورة» ـ الخ. وحاصله كون
الاسماء المذكورة مشبهة بالحروف لا متضمنة لمعاني الحروف ولا دالة عليها
بالالتزام.
قوله
«قده» : امرا عاما او خاصا.
المراد بالأمر
العام الذات المطلقة وبالأمر الخاص الذوات المخصوصة كزيد وعمرو وغيرهما مما هو
مصاديق لذلك الامر العام.
قوله
«قده» : كما مر.
أي في اسماء الإشارة.
قوله
«قده» : وهو الظاهر من موارد الاستعمال.
يعني أن الظاهر من
موارد الاستعمال هو كون معاني الحروف مأخوذة على وجه التضمن فى الاسماء المذكورة
المستعملة لا على وجه تكون معاني الحروف خارجة عنها.
قوله
«قده» : ينافي منعه السابق ـ الخ.
فيه : انه لا منافاة
أصلا ، فان مراد القائل المذكور من الموارد الخاصة هو متعلقات الحروف ، ومراده من
معانيها الخاصة هو المفاهيم المتعلقة بتلك المتعلقات والمقيدة بها. مثلا معنى كلمة
«من» الابتداء المتعلق بالسير والبصرة والموارد الخاص هو السير والبصرة. نعم يرد
على القائل المذكور أنه بعد ما فرض كون الموضوع له معاني خاصة فيصير المعنى
الموضوع له جزئيا ، فاذا كان المعنى جزئيا فلا بد وأن يتصف لفظه بالجزئية ، وهذا
ينافي منعه الاتصاف المذكور ـ تأمل تنل.
قوله
«قده» : فمشترك بين الكل ـ الخ.
لا يخفى ما في
الفرق بين الاتصاف بالكلية والجزئية وبين الحقيقة والمجاز
والمشترك والمنقول
بالعدم في الاول والاتصاف في الثاني من التحكم الصرف وما جعل وجها للعدم في الاول ـ
وهو عدم استقلال معاني الحروف ومرآتيتها وآلية لحاظها وكونها ما به ينظر لا ما فيه
ينظر وكونها حكاية والحكاية ليست بشىء بل الشىء هو المحكي عنه ـ لو تم فهو جار
بعينه في الثاني. وما علل به للثاني بقوله «اذ لا يستدعي» لا بين ولا مبين ، بل
مبين العدم بناء على كون عدم الاستقلال مانعا للالتفات اليه ـ فافهم.
قوله
«قده» : لا جرم يكون التجوز فيها تبعا ـ الخ.
فيه : أن المعاني
المستنبطة الاسمية ليست معاني الحروف وإلّا لزم الانقلاب والخلف او اجتماع
النقيضين ، فالعلاقة الحاصلة بالنسبة الى المعاني الاسمية لا يصحح التجوز بالنسبة
الى الحروف ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ولا ريب فيه.
قوله
«قده» : ومنشأ هذا الوهم هو عدم الفرق ـ الخ.
يعني انه مغالطة
ناشئة من باب اشتباه ما بالعرض ما بالذات ، فهو مجاز في متعلق الحرف وليس مجازا
فيه. وفيه : انه لا مغالطة اصلا ، إذ لو كان مقصود اهل البيان اثبات التجوز في
معاني الحروف وخلط عليهم الأمر بين التجوز في معاني الحروف وبين التجوز في
متعلقاتها وحسبوا التجوز في متعلقاتها تجوزا فيها تم ما ذكره ـ من المغالطة ، ولكن
الامر ليس كذلك بل مقصودهم اثبات التجوز في المتعلقات وانكار التجوز في الحروف
إلّا بالعرض والمجاز ، فتكون المتعلقات واسطة في العروض بالنسبة الى الحروف كما
ينادي به قولهم «تبع للتجوز في متعلقاتها».
قوله
«قده» : مع ان التصرف فيها لا يوجب التجوز ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أن المجاز
الذي ارتكبوه يكون مجازا استعاريا علاقته المشابهة ، ومذهب القوم فيها انه يكون
مجازا لغويا في الكلمة بعلاقة المشابهة ، ومذهب السكاكى انه حقيقة لغوية ومجاز
عقلي لأنه لم يرد من الأسد في قولنا «رأيت أسدا يرمي» الا الطبيعة السبعية
والحيوان المفترس ، غاية الامر انه ادعى أن الرجل الشجاع فرد له وتحققت تلك
الطبيعة فيه ، فالتجوز إنما هو بحسب الادعاء ، ومذهب المصنف ـ قدسسره ـ هو التفصيل بين
استعمال لفظ الأسد في ذلك الفرد الادعائي فيكون مجازا لغويا وبين استعماله في
معناه الحقيقي ـ وهو الحيوان المفترس والطبيعة السبعية واريد الرجل الشجاع بدال
آخر فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، وانطباق المعنى الموضوع له على ذلك الفرد
ادعاء لا من باب الاستعمال فيه ، فيكون حقيقة. فظهر أن التصرف في المتعلقات لا
يوجب التجوز فيها مطلقا بل انما يوجبه اذا كان على وجه الاستعمال في ذلك الفرد
الادعائى. هذا محصل مرامه ـ قدسسره ـ.
وفيه : أن القوم
لم يدعوا أزيد من تحقق التجوز في متعلقات الحروف بالذات وتحققه في الحروف بالتبع
وبالعرض ، ولا ريب في أن الايجاب الجزئي يكفي لهذا ، اذ تحقق الطبيعة بتحقق فرد
ما. وأما النزاع في ان الاستعارة مطلقا تكون مجازا ، او في الجملة فهو نزاع آخر ـ فافهم
قوله
«قده» : وأما ما يقال من ان الاعلام الشخصية ـ الخ.
دفع توهم ، وحاصل
التوهم أن الحروف وإن لم يمتنع اتصافها بالحقيقة والمجاز لعدم استقلالها ومرآتيتها
فهي ممتنعة الاتصاف بها ونظائرها ، لكون
الموضوع له فيها
خاصا وجزئيا ، لانه قيل ان الاعلام الشخصية لا تتصف بالحقيقة والمجاز ولا وجه له
الا لخصوصية الموضوع له وجزئيته ، وهو متحقق في الحروف.
وحاصل الدفع : ان
هذا القول واضح الفساد ، لأنه لا معنى للحقيقة الا الكلمة المستعملة او استعمال
الكلمة فيما وضعت له ، ولا للمجاز الا الكلمة المستعملة أو استعمال الكلمة في غير
ما وضعت له ، وهذان المعنيان متحققان فى الاعلام الشخصية بلا ريب ، كما يشهد به
تقسيمهم للاعلام الى لغوي وعرفي ، فلا بد وأن يؤول ويقال في تأويله هو أن ما عدا
الأعلام الشخصية يختص حقيقته ومجازه بلغة دون لغة. مثلا : استعمال الأسد في
الحيوان المفترس يكون حقيقة في لغة العرب وأما في لغة غيره فلا يكون حقيقة وهذا
بخلاف الاعلام الشخصية فانها لا تتغير بتغاير اللغات ولا تتبدل بتبدل الألسنة ،
فتكون حقائقها حقيقة في جميع اللغات ومجازاتها مجازا في جميع اللغات والألسنة.
قوله
«قده» : كان معانيها الحقيقية معان خاصة ـ الخ.
ربما امكن أن
يتوهم أنه مستلزم للدور ، لانه لا ريب في أن المقيد موقوف على المطلق ، فاذا توقف
المطلق على المقيد ـ حسبما فرض من كون معانيها الحقيقية معان خاصة ولا شبهة في ان
هذه الخصوصية جائية من جانب المقيد ـ لزم الدور ، ولكنه مندفع بأن الخصوصية
المأخوذة في المطلق غير المأخوذة في المقيد. مثلا كلمة «من» معناها الخاص هو
الابتداء الذي هو خاص في مقابل الانتهاء وغيره من المفاهيم والمهيات ، وذلك المعنى
الخاص مقيد بمتعلقها الخاص ـ وهو السير والبصرة مثلا ـ وتكون
الخصوصية هي
الخصوصية السيرية والبصروية ، فلا دور أصلا.
قوله
«قده» : وتلك المعاني وإن كانت ـ الخ.
توضيحه : هو أن
تلك المفاهيم والمعاني وان كانت كلية مع قطع النظر عن وجودها إلا أنها باعتبار وجودها
فى الذهن الذي هو المراد باللحاظ في قولنا «بإزاء المفاهيم الملحوظ بها حال الغير»
تصير شخصيا وجزئيا يمتنع صدقها على كثيرين ، لان الوجود عين التشخص والجزئية خارجا
وإن ساوقهما ذهنا ، فالماهية المقيدة بأحد الوجودين الذهني والخارجي تخرج عن
الكلية ، فان الكلية تعرض الماهية مع قطع النظر عن وجودها في الذهن ، وأما مع
ملاحظة وجودها في الذهن فلا ريب في أن الذهن ـ اي النفس ـ شخص خارجي وجزئي عيني ،
والحال في الجزئي الخارجي جزئي خارجي. هذا محصل مرامه ومنقح كلامه زيد في علو مقامه.
وفيه : ان مراده
بالكلية في قوله «وان كانت كلية» ان كان الكلية الطبيعية ـ كما لعله يشهد به قوله «وان
كانت في حد انفسها كلية» اذ المفاهيم والمعاني لا تكون في حدود أنفسها وحرائم
ذواتها كلية عقلية كما انها ليست جزئية ، لأن الماهية من حيث هي ليست إلّا هي ،
واذا سألت عنها بكلا طرفي النقيض فالجواب الصحيح السلب لكل شىء. نعم المعاني
والمفاهيم في حدود ذاتها تكون كليات طبيعية ، اذ الكلي الطبيعي ليس بكلي وتسميته
بالكلي من باب المسامحة ، وهو مع الكلي كلي ومع الجزئي جزئي ، اذ هو المعنى
اللابشرطي الارسالي الاطلاقي المقسمي الغير المقيد بالكلية والغير المرهون
بالجزئية ، فيكون المراد : وإن كانت فى حد أنفسها معاني لا بشرطية مقسمية.
فيرد عليه ان
الكلي الطبيعي اذ قيد بالوجود لم يخرج عن كونه كليا طبيعيا ، وليست الكلية من صفات
الماهية الموجودة في الذهن مع قطع النظر عن وجودها فى الذهن ، بل الكلي الطبيعي
كلي طبيعي في كلا الوجودين ، وسواء لوحظ كل من الوجودين أو قطع النظر عنه ، فلا
وجه لقوله قدسسره : «خرجت عن كونها كلية لا محالة» ـ الخ.
وإن كان المراد
الكلية العقلية ـ كما لعله يشهد به قوله «خرجت عن كونها كلية» ، اذ الذي ينافيه
الجزئية والتشخص هو الكلي العقلي ، وأما الكلي الطبيعي فلا ينافيه شيء.
فيرد عليه ان
المفاهيم والمعاني ليست في حدود أنفسها وحرائم ذواتها كليات عقلية ، كما ظهر من
بياننا السالف. إلّا أن يقال مراده بتلك المعاني المعاني المقيدة بعدم إباء فرض
صدقه على كثيرين ، فتكون كليات عقلية.
وفيه مع ما فيه من
التعسف الشديد والتمحل الأكيد انه مع ذلك لا تكون تلك المعاني في حد نفسها كليات
عقلية ، بل تكون الكلية العقلية من المعقولات الثانوية الميزانية بالنسبة الى تلك
المعاني ، ويكون عروضها لها واتصافها بها كلاهما فى الذهن. إلّا أن يقال : هي ليست
من العوارض المتأخرة في الوجود ولا من المحمولات بالضميمة ، بل من العوارض
التحليلية التعملية العقلية والخارج المحمول ، فكأنها من ذاتيات تلك المعاني
والمفاهيم.
مضافا الى أن
المراد لو كان هو الكلي العقلي لزم اجتماع المتقابلين. بيانه : هو أن الكلي العقلي لا محالة يكون كليا ، والمفروض
في كلامه ان اعتبار اللحاظ ـ وهو الوجود الذهني ـ يصيره جزئيا وشخصيا ، فيلزم أن
يكون كليا جزئيا ، وهو ما رمناه من التالي.
اللهم إلّا أن
يدفع باختلاف الحمل ، بأن يقال : ان الكلي العقلي كلي عقلي بالحمل الأولي الذاتي
وجزئي خارجي وشخص عيني بالحمل الشائع الصناعي العرفي.
هذا كله مضافا الى
ما في قوله «فإنها من الصفات الموجودة في الذهن» الخ. فان الكلي العقلي لا موطن له
إلّا العقل ولا مشهد له الا الذهن ، فاذا قطع النظر عن الذهن فقد قطع النظر عنه ،
إلّا أن يكون مراده ما هو بحسب الحمل الأولي الذاتي.
ومع الغض عن ذلك
كله فلا يخفى أن في اعترافه بكون تلك المعاني كلية في حد نفسها وجزئية باعتبار ما
يعتريها من اللحاظ تناقضا ، لانكار اتصاف معاني الحروف بالكلية والجزئية كما هو
ظاهر.
ثم في ادعائه أن
المراد باللحاظ هو الوجود الذهني نظرا واضحا ، حيث يلزم منه أن تكون الحروف موضوعة
للمعاني الذهنية دون الامور الواقعية. وفساده أوضح من أن يبين. بل المراد بقولهم «الملحوظ
بها حال الغير» كونها مما يمكن أن يلاحظ ويتصور به حال الغير ، وهذا نظير الصورة
العكسية المرآتية ، حيث انها آلة لحاظ الغير ولا يتوقف على وجود ملاحظ ولا على
وجود ملاحظة ، فهي ملحوظ بها حال العاكس ، سواء وجد ذاهن او ذهن ام لا يوجد ، فكذا
فيما نحن فيه ـ فافهم بعون الله ان كنت من اهله وتأمل لعله يفاض عليك من عالم
القدس شىء.
قوله
«قده» : على الوجه الذي سبق.
أي لحاظ حال ما
تعلقت به. ويحتمل أن يكون المراد على وجه الآلية وعدم الاستقلال.
قوله
«قده» : من غير أن يكون القيد أو التقييد داخلا ـ الخ.
قد تكرر منه ـ قدسسره ـ في هذا الكتاب
أن القيد والتقييد في المقيد كلاهما خارجان ، ولا ريب في أن خروج التقييد عن
المقيد خلاف التحقيق. ولعل مقصوده «قده» عدم دخول التقييد على وجه الشطرية
والجزئية وان كان داخلا فيه على نهج الشرطية ، ويكون قوله «فتكون مداليلها» ـ الخ
تفريعا على النفي ، وهو قوله «من غير».
قوله
«قده» : لأنها انما تكون اسماء ـ الخ.
مقصوده هو أن
معاني الأسماء إن لوحظت على وجه الاستقلال وقيدت باللحاظ كانت جزئيات بالذات
وألفاظها جزئيات بالتبع ، اذ الماهية المقيدة بأحد الوجودين الذهنى والخارجي جزئية
فلا تتصف بالكلية ، وإن قطع النظر عن ذلك اللحاظ واخذت بلا لحاظ ولا بشرط خرجت عن
كونها اسماء ، هذا خلف ، ومع لزوم الخلف إن اعتبر عروض الكلية لها فليجز في الحروف
مع الخلف وعدم لحاظ عدم الاستقلال فيها أن تتصف بالكلية.
قوله
«قده» : من غير اعتبار لوجودها ـ الخ.
فى الفرق بين
الاسماء والحروف بما ذكره تحكّم محض كما اشرنا اليه آنفا.
قوله
«قده» : اذا كان بين المعنيين علاقة التجوز.
كتب ـ قدسسره ـ في الهامش :
وكذا إذا لم يكن بين المعنيين علاقة واستعمل في احدهما باعتبار وضعه للآخر غلطا ،
وانما لم نتعرض له لبعد وقوعه جدا ، بخلاف المذكور.
قوله
«قده» : اذا استعمل في مثله ـ الخ.
كما يقال : زيد في
«ضرب زيد» فاعل ، فيكون لفظ زيد مستعملا في لفظ زيد وهو مثله لا عينه لأن الزمان
من جملة المشخصات ، ولا ريب في أن زمانيهما متعددان متغايران ، فيكونان مثلين
استعمل احدهما في الآخر بدون الوضع على مقالته من انكار الوضع بالمرة لا تعيينا
ولا تعينا ، أو بدون اعتبار الوضع على مقالة التفتازاني من القول بالوضع التعيني.
قوله
«قده» : وان كان لعلاقة.
وهي المشابهة
الصورية.
قوله
«قده» : لكن لا لعلاقة بينه وبين المعنى.
بل بينه وبين
اللفظ.
قوله
«قده» : من انها داخلة فيه ـ الخ.
لأن «كثير الرماد»
مثلا إن كان مستعملا فى معناه الموضوع له ينتقل الى اللازم وهو كونه جوادا يكون
داخلا في الحقيقة ، وان كان مستعملا في كونه جوادا بعلاقة اللزوم يكون مجازا
مرسلا. وبعبارة اخرى : إن كان مستعملا في اللزوم يكون حقيقة ، وان كان مستعملا في
اللازم يكون مجازا.
قوله
«قده» : واعلم أن اللام في الكلمة ـ الخ.
مقصود المنزّل هو
أن الحقيقة والمجاز متغايران موردا متعددان ذاتا ، فاللام في الكلمة في حدي
الحقيقة والمجاز لو حملت على تعريف الجنس
كما هو المتعارف
في الحدود حيث ان التعريف للماهية وبالماهية ، وكما هو الظاهر من اللام الداخلة
على المفرد لزم جواز اجتماع الحقيقة والمجاز في شيء واحد ومورد فارد ، إذ الطبائع
المتخالفة والمفاهيم المختلفة المتعددة يجوز اجتماعها في محل واحد ، فيكون اختلاف
الحقيقة والمجاز بحسب الاعتبار والحيثية لا بحسب الذات والحقيقة ، مع أن كلامهم
يشهد بالتعدد الذاتي والتكثر الموردي ، حيث يصرحون بعدم جواز استعمال اللفظ في
المعنى الحقيقي والمجازي ، فاذا كان الأمر كذلك فلا بد وأن يحمل اللام على
الاستغراق الافرادي والاستيعاب الشمولي الآحادي ، وحينئذ يختلف الحقيقة والمجاز
ذاتا وموردا ، لأنه لا ريب في أن الفردين لا يصيران فردا واحدا ، لأن اتحاد
المتحصلين محال كما هو مقرر في مقره ومحله.
وفيه : ان الطبائع
والمفاهيم والمهيات على قسمين : قسم منها ما يمتنع اجتماع بعضها مع بعض في محل
واحد في زمان واحد ، وهو المتقابل بأحد انواع التقابل من التضاد والتضايف والايجاب
والسلب المطلقين والعدم والملكة ، وقسم منها ما لا يمتنع فيه الاجتماع المذكور.
ففي القسم الأول يتحقق التعدد الذاتي والتكثر الحقيقي ، وان حمل اللام على تعريف
الجنس ولا حاجة الى حملها على الاستغراق. وفى القسم الثاني يمكن الاتحاد ذاتا
وحقيقة وإن لوحظت الإفراد وحملت اللام على الاستغراق ، إذ من الواضح عدم امتناع
اجتماع الفردين من الخلافين كالحلاوة والسواد في شىء واحد ويكون شيء واحد حلوا
أسود ، فلا يغني حمل اللام على الاستغراق من شىء ، واذا جاز اجتماع الفردين فيجوز
اجتماع الصنفين منهما.
وبالجملة الممتنع
اجتماع الفردين من المتقابلين واجتماع الفردين من ماهية واحدة للزوم اجتماع
المثلين وهو كاجتماع المتقابلين في الاستحالة والامتناع ، وكذا الممتنع
اجتماع الصنفين من
المتقابلين واجتماع الصنفين من ماهية واحدة. وأما اجتماع الفردين من الخلافين فلا
استحالة فيه فضلا عن استحالة اجتماع الصنفين من الخلافين.
ومن هنا ظهر ما في
ما زعمه تحقيقا كما سيجيء من كون الكلمة المقيدة بأحد صنفي الاستعمال صنف مغاير
للمقيد منها بالآخر ، حيث زعم «قده» أن التغاير الصنفي يوجب التعدد الذاتي والتكثر
الحقيقي ، ولم يلتفت الى انه لا يوجبه بل الموجب له هو التقابل أو التماثل.
هذا مضافا الى ما
في كلامه ـ قدسسره ـ وما في كلام
المنزّل من ان كون الحقيقة والمجاز لا بد وأن يكونا متعددي الذات ومتكثري الحقيقة
هو من أحكامهما وآثارهما ، كما أن كون البياض والسواد متقابلين متعددي الحقيقة من
آثارهما وأحكامهما ، اذ هو حالهما بحسب الوجود الخارجي دون ماهيتهما ودون الوجود
الذهني والكون الظلي الشبحي المثالي ، إذ لا ريب في جواز اجتماعهما بحسب الوجود
الذهني ، اذ الذهن مقام تصالح الأضداد.
فاذا كان الامر
كذلك فلو أخذ ذلك التقابل والتعدد الحقيقى فيهما بحسب المفهوم والماهية لزم الدور
المحال ، ضرورة أن اخذ ما يكون من آثار الشيء واحكامه فيه مستلزم للدور ـ فافهم
مستمدا من الله تعالى.
قوله
«قده» : فانما يسلم في الحدود الحقيقية ـ الخ.
يعني إن ما ذكروه
من أن التعريف إنما يكون بالجنس وان التعريف للماهية وبالماهية حيث أن الجزئي لا
يكون كاسبا ولا مكتسبا ، فانما يسلم في الحدود الحقيقية وجواب ما الحقيقية دون
الشروح الاسمية والحدود اللفظية وجواب ما الشارحة المعبر عنه بالفارسية ب «پاسخ
پرسش نخستين» الذي
يكون المقصود منه
الإشارة الى الشيء من بين المعاني المرتكزة فى الخاطر دون اكتناهه ونيل ذاته
وذاتياته. ومن الواضح أن المقصود وهو الاشارة الى الشيء يحصل بالافراد ولا يحتاج
الى الجنس والماهية. هذا محصل مرامه
ويمكن أن يتوهم أن
هذا الكلام ـ وهو كون الحدين شرحا للاسم ـ يناقض وينافي ما سلف من المصنف من سد
ثغورهما وحفظهما عن الانتقاض الطردي والعكسي ، حيث انه مقتض لكونهما حدين حقيقيين
، إذ في شرح الاسم وجواب ما الشارحة لا غضاضة ولا بشاعة في كونه منتقضا طردا وعكسا
كما هو ظاهر.
ولكن التوهم مندفع
: بأن الظاهر ان المنزّل المذكور غير المصنف «قده» فلا تناقض اصلا ، لعدم صدورهما
من متكلم واحد.
قوله
«قده» : لما مر.
أي من كون الحقيقة
والمجاز مختلفين موردا وذاتا وحقيقة ، فاذا أريد الاستعمال الواحد الشخصي يحصل
الدلالة على الاختلاف الذاتي والتكثر الحقيقي ، فيكون قوله «لما مر» تعليلا لقوله «يراد»
ويحتمل أن يكون تعليلا لجعل اللام فيها للجنس ايضا ، ووجه التعليل بالنسبة هو ما
مر من أن التعريف إنما يكون بالجنس.
قوله
«قده» : وكان هذا أظهر.
وجه الأظهرية هو
انه بناء على الوجه الأول قد حمل اللام الداخلة على الجنس المفرد على العموم
والاستغراق ، وهو خلاف الظاهر ، اذ المفرد المحلى باللام يكون للجنس ، وعلى هذا
الوجه ـ أي الوجه الثاني ـ قد حملت على تعريف الجنس.
وفيه : أنه وان
كان اظهر بهذه الملاحظة إلّا أن فيه تفكيكا ، اذ بعد ما اريد من الاستعمال
الاستعمال الواحد الشخصي يكون اللام في قولنا «المستعملة» للعموم واللام في الكلمة
للجنس ، وهو خلاف الظاهر.
قوله
«قده» : لكن يلزم على الوجهين ـ الخ.
أما على الوجه
الأول فظاهر ، لأن اللام في الكلمة لما حملت على العموم والاستغراق فيكون الموضوع
للفظ الحقيقة هي افراد الكلمة المستعملة الكذائية ، فيكون الموضوع له خاصا مع عموم
الوضع.
وأما على الوجه
الثاني فلأن اللام في الكلمة وان كانت للجنس إلّا أن الكلمة الجنسية لما قيدت
بالاستعمالات الواحدة الشخصية ـ حسب ما هو المفروض من أن المراد بالاستعمال
الاستعمال الواحد الشخصي ـ فلا جرم يكون المراد أفراد الكلمة ، فيصير الموضوع له
خاصا مع كون الوضع عاما
قوله
«قده» : وهو كما ترى.
لأن تصوير عموم
الوضع وخصوص الموضوع له انما هو من باب الإلجاء ، حيث أن المتأخرين زادوا في
الحروف والمبهمات انها لا تستعمل فى المعاني الكلية بل لا يصح على زعمهم وتستعمل
في المعاني الجزئية ، فقالوا انها لا تكون موضوعة لتلك المعاني الكلية وإلّا لصح
استعمالها فيها ، فلا جرم تكون موضوعة للجزئيات ، فيكون الموضوع له فيها خاصا.
وأما فى لفظ الحقيقة والمجاز فلا إلجاء ، إذ من الواضح المعلوم انه يجوز أن يكون
الموضوع له فيها هي الطبيعة الكلية الجنسية ، فلا داعي الى تصور خصوص الموضوع له.
لا يقال : الإلجاء
هنا موجود ، إذ لو كان الموضوع له هو المعنى الكلي والطبيعة الارسالية الجنسية لزم
أن لا يكون اختلاف الحقيقة والمجاز بالذات والحقيقة والمورد بل بالاعتبار ، كما
ظهر مما سبق.
لأنا نقول :
الملازمة ممنوعة بزعم المصنف قدسسره ، على ما سيجيء منه من ان الاختلاف الصنفي موجب للتعدد ،
وان كان فيه ما اشرنا اليه آنفا وحققنا سابقا من منع الملازمة.
قوله
«قده» : إلّا أن يجعل الحدان ـ الخ.
يعنى لا يكون
المراد من الحدين بيان الموضوع له بل بيان المستعمل فيه. وبعبارة اخرى : بيان
المعنى بل بيان مصاديقه التي ينطبق عليها ويطلق اللفظان عليها.
قوله
«قده» : وفيه تعسف.
لأن الظاهر كون
الحدين لبيان المعنى دون المصاديق. وفيه : انه لو كان الحدان جوابا لما الحقيقية
تم ما ذكره ولكن المفروض في كلام المنزّل انها جوابان لما الشارحة ، ولا تعسف في
أن يذكر في جواب ما الشارحة مصاديق المعنى ، اذ المقصود منه هو مجرد امتياز الشىء
من بين المعاني المرتكزة في الخاطر.
قوله
«قده» : ولا اشكال في حمل اللام ـ الخ.
إذ اللام وان حملت
على الجنس إلّا أن المراد بالاستعمال يكون هو الاستعمال الشخصي المتعلق بطبيعة
الكلمة ويحصل التعدد الذاتي والتغاير الحقيقي باعتبار اخذ الاستعمال شخصيا.
وفيه : انه وان
سلم من الاشكال من جهة اللام إلّا ان الظاهر من الاستعمال لما كان هو الجنس ـ اذ
لفظ الاستعمال اسم جنس ـ فلا جرم يكون حمله على الفرد بل على العموم الافرادي خلاف
الظاهر.
قوله
«قده» : والمراد به هنا ـ الخ.
يعني ان الظاهر من
التعيين ـ وان كان هو التعيين القصدى ـ إلّا أن المراد هنا ـ اي في مقام تعريف
الوضع ـ هو الأعم منه ومن الغير القصدي ، يعني هو اعم من التعيين والتعين. وفيه :
ان استعمال التعيين في الاعم استعمال مجازي ، واستعمال الالفاظ المجازية بلا قرينة
في التعريف والحدود معيب.
قوله
«قده» : بل عن الاتفاق والاصطلاح.
يعني إن العلماء
اتفقوا واصطلحوا على استعمال بعض الالفاظ وإرادة مثله ، كما يقال زيد في «ضرب زيد»
فاعل ، وحصل من تكرار الاستعمال التعين.
قوله
«قده» : فليس فيه تعيين اصلا.
أي لا من قصد ولا
من غير قصد. وبعبارة اخرى : لا تعيينا ولا تعينا
قوله
«قده» : فانه ليس بالوضع المصطلح عليه هنا.
وأما في مقام
تقسيم الدلالة الى العقلية والطبعية والوضعية فالوضع اعم من الوضع المتعلق باللفظ
والمتعلق بغيره ، لأنهم يقسمون الوضعية الى اللفظية وغير اللفظية.
قوله
«قده» : ولو بالتوسع في لفظه.
أي ولو بالتجوز في
لفظ اللفظ ، فان اللفظ وان لم يشمل الهيئات وصفا إلّا انه يشملها تجوزا.
قوله
«قده» : في وجه.
أي بناء على انها
موضوعة للتركيب لا للمعنى ، وأما بناء على انها موضوعة للمعنى فلا تخرج عن حد
الوضع.
قوله
«قده» : فيلزم عدم مطابقة الحد ـ الخ.
أي يلزم التعريف
بالمباين بناء على أن يكون المراد بالدلالة الدلالة الفعلية.
قوله
«قده» : ودخول ما ليس منه ـ الخ.
أي يلزم التعريف
بالاعم وعدم كون الحد مانعا ، بناء على ان يكون المراد بالدلالة اعم من القولية
والفعلية.
قوله
«قده» : ولك أن تقول الظاهر من كون ـ الخ.
مقصوده أن الدلالة
المأخوذة في حد الوضع ـ وان اخذت دلالة فعلية ـ اعنى الدلالة حال الاستعمال ـ إلّا
انه مع ذلك يخرج التعيين للاستعمال والتعيين للوضع وان كانا للدلالة ، لأن الظاهر
من كون التعيين للدلالة الفعلية كونه لها بلا واسطة ، والتعيين للاستعمال والوضع
يكون لها بالواسطة ، إذ في الأول يكون التعيين أولا للاستعمال ثم يكون الاستعمال
للدلالة ثانيا ، فيكون الاستعمال واسطة لكون التعيين للدلالة ، وفي الثاني يكون
التعيين أولا للوضع
ثم يكون الوضع
للدلالة ثانيا ، فيكون الوضع واسطة لكون التعيين للدلالة
والفرق بين هذا
الوجه والوجه السابق ظاهر ، إذ مناط الخروج في هذا الوجه كون الظاهر من التعيين
للدلالة التعيين لها بلا واسطة ، ومناطه على الوجه الاول كون المراد من الدلالة
الدلالة القوية. وكيف كان خرج بتقييد التعيين بالدلالة التعيين للوضع والتعيين
للاستعمال.
ولقد أغرب وابدع
بعض المعاصرين «قده» في بدائعه حيث تنظر في هذا وزعم خروجهما بقيد التعيين. قال :
لأن المحدود فرد من افراد الوضع بمعنى جعل الشيء علامة ، ويعتبر فيه كون الغرض من
التعيين تأسيس قاعدة نافعة في علم أو عمل ، واحراز هذا الشرط مفروغ عنه فى المحدود
، فيستغنى فى اخراجها من التوصل الى زيادة قيد في التعريف لأن التعريف إذا كان
للفرد فذكر شروط الكلي فى التعريف حينئذ كالمستدرك اذا كان مفهوم الكلي أو فردية
المحدود له معلومين ، ونحن لما علمنا أن الوضع الاصطلاحي فرد من الوضع ـ بمعنى جعل
الشىء علامة له ـ علمنا بأن المراد بالتعيين المذكور في تعريفه الذي هو بمنزلة
الجنس ليس مطلق التعيين بل التعيين الراجع الى التوسيم ، فلا حاجة في إخراج ما ليس
كذلك كالوضع للوضع او للتركيب الى تجشم قيد زائد في التعريف إلّا أن يكون توضيحيا ـ
انتهى
وفساده واضح ، اذ
الملازمة في القضية الشرطية التي رتبها وان كانت حقة إلّا أن الشأن في وضع المقدم
واثباته مع انه خلف للفرض ، اذ المفروض الاحتياج الى المعرف الذاتي والحد الحقيقى
او الرسم العرفي ، ومع العلم بجنس الوضع ـ وهو التعيين الترسيمي ـ لا حاجة الى
معرفة الجنس لحصولها هذا خلف ـ فافهم إن كنت من اهله.
قوله
«قده» : وقولنا بنفسه احتراز عن المجاز ـ الخ.
قال المعاصر قدسسره في بدائعه : وأما إخراج المجازات بواسطة هذا القيد ـ يعني
بنفسه ـ فهو بعيد عن الصواب ، لأن القول بأن المجازات تدل على المعاني المجازية
لكن لا بنفسها بل بواسطة القرينة كلام ظاهري ، يكشف عن فساده توضيح الحال في دلالة
المجازات ، فنقول :
إن عدم استقلال
المجازات في الدلالة وافتقارها الى ضم القرائن لا يخلو عن احتمالات :
«الأول» ـ أن تكون
الدلالة قائمة بالمجاز والقرينة معا ، على ان يكون الدال على المعنى المجازي هما
معا ويكون كل منهما بمنزلة جزء الكلمة مثل أجزاء المركبات المزجية في حال العلمية
، وهذا هذيان من القول ، ضرورة عدم كون أسد في قولك «أسد يرمي» بمنزلة بعض أجزاء
المركبات المزجية لعدم استعمالها في شيء ، بخلاف المجاز فانه مستعمل في المعنى
المجازي قطعا.
«الثاني» ـ أن
يكون الدال هو المجاز ويكون القرينة شرطا وضعيا للدلالة ، وهذا ايضا فاسد ، لأن
الدلالة ليست مما تقبل الاشتراط ، لأن مرجعه الى كون اللفظ مقتضيا للدلالة
والقرينة شرطا لتأثيره الفعلي كسائر الشرائط. ومن الواضح أن لفظ المجاز مع قطع
النظر عن القرينة ليس مما يقتضي الدلالة ولو شأنا ، لأن اقتضاء شيء لشيء إما أن
يكون ذاتيا أو جعليا ، والمفروض ان الألفاظ عند الجل ليس دلالتها على المعاني
بالذات ، فلا معنى لأن يكون في اللفظ اقتضاء شأني للدلالة ، بأن تكون الدلالة من
مقتضيات ذاتها والقرينة شرطا لاقتضائها الفعلي على حد سائر الشروط ، والواضع ايضا
لم يحدث علاقة بينهما حتى تكون تلك العلاقة الوضعية منشأ
لدلالتها الشأنية
، وإنما رخص استعماله فيه مع القرينة ، ومثل هذا الترخيص لا يوجب دلالة شأنية ايضا
، ولذا لو لم تذكر القرينة لم يكن له دلالة على المعنى المجازي رأسا. والحاصل ان
الدلالة الشأنية ـ على القول بعدم كون دلالة الألفاظ ذاتية ـ لا معنى له ، لأن
الواضع إن جعل لفظا علامة لمعنى كان اللفظ بنفسه دالا على ذلك المعنى بالفعل حتى
في المشترك ، وان لم يجعل علامة له بل رخص في استعماله فيه مع ذكر القرينة الكاشفة
لم يكن له بمجرده دلالة أصلا لا شأنا ولا فعلا ويكون الدال هو القرينة.
«الثالث» ـ أن
يكون المعنى المجازي مستفادا من المجاز والقرينة معا ، لكن لا على الوجه الأول
السخيف بل على نحو تعدد الدال والمدلول ، فينقل من مدلول الأسد مثلا الى الشجاعة
بالالتزام ، لأنها لازم خارجي للحيوان المفترس الذي هو المعنى الحقيقي ومن يرمي
مثلا الى فرد من الانسان ، فيكون مدلول قولنا «أسد يرمي» الانسان الشجاع ، بحيث لو
اقتصر على ذكر القرينة لم يحصل الانتقال اليه مع وصف الشجاعة ، فالوصف يستفاد من
ذكر المجاز والموصوف من تعقيبه بالقرينة على حد سائر المركبات الاستنادية ، وليس
في ذلك منافاة لما هو المحقق من عدم تحقق الالتزام بدون المطابقة ، لأن ذلك انما
هو في ابتداء الامر ، فلا يعقل الانتقال الى المعنى الالتزامى بدون الانتقال الى
المعنى المطابقي الملزوم اولا ، وأما بعد تحقق الانتقالين فلا ملازمة بينهما في
إرادة المتكلم ، فقد يكون المراد هو المعنى الالتزامي خاصة وقد ينعكس الامر ،
وتعيين ذلك موكول الى مقدار معاندة القرينة ، فان كانت المعاندة بالنسبة الى المعنى
المطابقي كشف ذلك عن ارادة خصوص اللازم وهكذا العكس.
وهذا الاحتمال
أوجهها ، ولا غبار عليه لكن المجاز حينئذ مستقل
بالدلالة بالنسبة
الى المقدار الذي يدل عليه ، بحيث لو لم يتعقبه القرينة كانت الدلالة أيضا بحالها
، فأين ما قالوا من أن دلالة المجاز إنما هي بواسطة القرينة لا نفسه ، فان أرادوا
أن دلالته على تمام المعنى المجازي يتوقف على ذكر القرينة ، ففيه ان المجاز لا يدل
على غير ذلك المعنى الالتزامي ولو بعد ذكر القرينة ، فان الدال على خصوصية الانسان
انما هي القرينة مستقلا. والى ما ذكرنا يومي قول بعض السادة المحققين عن استدراك قيد
بنفسه في التعريف ، لأن تعيين اللفظ للمعنى يقتضي دلالته عليه بنفسه ، فحيث لا
دلالة كذلك فلا تعيين أصلا.
هذا كله اذا كان
المحدود خصوص وضع الحقائق ، ولو كان كما يدل عليه تعريف اللغة التي هي اعم منها
والمجاز قطعا بأنها اللفظ الموضوع وجب ترك القيد أيضا ، بناء على ما زعم من استناد
اخراجها اليه ، فهو بين استدراك واخلال ، والصواب تركه ـ انتهى مع اختصار ما.
وفيه : أن القرينة
في المجاز واسطة للدلالة لا انها جزء للدال كما هو مبنى الاحتمال الاول والثالث ،
ولا انها شرط للدلالة كما هو مبنى الاحتمال الثاني وتلك الواسطة واسطة في العروض.
بيانه : هو انه لا
ريب في أن المعنى المجازي للفظ الأسد هو فرد من افراد الانسان يشابه الاسد في
الشجاعة ، ولا ريب في أن لفظ الأسد لا يدل على فرد الانسان بنفسه بل بواسطة يرمي.
ولما كان يصح سلب ما فيه الواسطة ـ وهو الدلالة عن ذي الواسطة وهو لفظ الأسد وكانت
الدلالة وصفا له ـ بحال متعلقه وهو يرمي الذي يكون وصفا للاسد فلا جرم تكون
الواسطة واسطة في العروض.
ولا شبهة في أن ذي
الواسطة لا يلزم أن يكون مقتضيا لما فيه الوساطة
مع قطع النظر عن
الواسطة حتى يقال : ان لفظ الأسد ليس فيه اقتضاء ولو شأنا ، بل ليس لذي الواسطة
الا القبول لا الاقتضاء.
وبالجملة المراد
بقولنا «بنفسه» ليس هو نفي الحيثية التقييدية الانضمامية سواء كان المنضم جزء كما
هو مبنى الاحتمال الأول والثالث أو كان شرطا كما هو مبنى الاحتمال الثاني على ما
زعمه المعاصر «قده» ، بل المراد نفي الحيثية التعليلية بالنسبة الى ذلك اللفظ
الحقيقي ، فيكون مقابله محتاجا الى الحيثية التعليلية اللفظية.
والحاصل : ان
المعاصر اعوزه الاحتمال الذي كلام القوم ظاهر فيه حيث يقولون «خرج الدلالة التي هي
بواسطة القرينة» فصرحوا بالوساطة ثم لو فرض عدم الاحتمال الذي احتملناه فلنا أن نختار
الاحتمال الثاني من الاحتمالات التي احتملها ، ونقول : انه لا ريب في أن الدلالة
والانتقال من اللفظ موقوفة على العلم بالوضع ، سواء كان في الحقائق أو فى
المجازات. ولا ريب في أن السامع اذا كان عالما بوضع اللفظ لمعنى اذا كان ذلك اللفظ
مجردا ولغير ذلك اذا كان معه قرينة ، فاذا سمع لفظ «الا» في مقام الاستعمال فلا
محالة ينتقل ذهنه الى ذلك المعنى والى غيره كما في المشترك ، غاية الامر وقصواه أن
معاني المشترك في مقام الاستعمال تكون في عرض واحد وفي الحقيقة والمجاز تكون في
الطول ، بمعنى ان في المشترك جواز إرادة هذا المعنى او ارادة ذلك المعنى ، واما في
الحقيقة والمجاز فإما أن تكون قرينة فلا يكون الا المعنى المجازي ، وإما أن لا
تكون قرينة بل يكون اللفظ مجردا عن القرينة فلا يكون الا المعنى الحقيقي ، فاذا لم
يكن إطلاق اللفظ في مقام الاستعمال فلا محالة يكون له اقتضاء شأني ، ويكون فعلية
تأثير ذلك المقتضي بسبب الاقتران بالقرينة.
فظهر ما في قوله قدسسره : «ولذا لو لم يذكر القرينة لم يكن دلالة على المعنى رأسا»
وكذا ما في قوله «لأن الواضع إن جعل لفظا علامة لمعنى كان اللفظ بنفسه دالا على
المعنى» ، لأن الملازمة في القضية الشرطية الثانية ـ وان كانت حقة بالنسبة الى
الدلالة القوية المأخوذة فى حد الوضع ـ إلّا أن فساد التالي وبطلانه ممنوع ، لأن
الذي يمكن أن يكون وجها لبطلان التالي وفساده هو انتفاء الفرق بين الحقيقة والمجاز
، وهو ممنوع بعد ما جعل الشرط ـ وهو القرينة ـ شرطا للتأثير الفعلى ، إذ يصير
الفرق أن المجاز يحتاج في تأثير وضعه للدلالة وصيرورتها دلالة فعلية الى القرينة
ولا يحتاج الحقيقة الى شىء سوى الوضع والاستعمال ولا تحتاج الى القرينة.
وأما الوجه الذي
صوّبه واستحسنه فلا يخفى ما فيه ، لأن المعنى المجازي للفظ الأسد لا ريب فى انه
الرجل لا الرجل الشجاع بالوصف العنواني ، ضرورة أن الشجاعة علقة مصححة للتجوز لا
مأخوذة فى المستعمل فيه ، كما انه اذا قيل «جرى الميزاب» لم يرد بالميزاب الماء
الحال مع الوصف العنواني ، بأن يكون المراد جرى الماء الحال في الميزاب ، بل
المراد جرى الميزاب وانما الحلول علقة مصححة للتجوز ، وهذا ظاهر ، فالمجاز ـ وهو
لفظ الأسد ـ دال على تمام المعنى المجازي ـ وهو الرجل ـ لكن لا بذاته بل بالواسطة
العروضية كما اشرنا اليه آنفا ، لا انه دال على جزء المعنى المجازي كما زعمه
المعاصر.
ثم مع الغض عن ذلك
نقول : ان اراد الاستعمال في الملزوم لينتقل الى اللازم ـ وهو الشجاعة ـ كان
استعمالا حقيقيا لا مجازيا ، وان اراد الاستعمال في اللازم فاللازم ليس إلّا
الشجاعة لا الشجاع ، فيصير المعنى
على ما زعمه «قده»
رأيت شجاعة هي فرد من الانسان ، ولا يخفى فساده وبشاعته ـ فافهم ما ذكرنا حق فهم
واستعن بالله.
قوله
«قده» : نعم يتجه أن يقال ليس التعيين في المجاز ـ الخ.
يعني لما كانت
الدلالة ناشئة عن القرينة فلا تكون مستندة الى التعيين وإلّا لزم توارد العلتين
على معلول واحد ، فلا جرم يخرج المجاز لعدم حصول الدلالة فيه من التعيين. وهذا
بخلاف الحقيقة ، حيث أن الدلالة فيها ناشئة عن التعيين ، فلا يحتاج فى خروج المجاز
الى قولنا بنفسه.
وفيه : أن المراد
من الدلالة المأخوذة في الحد هي الدلالة القوية الشأنية كما صرح به سابقا ، ولا
ريب في حصولها في المجاز ايضا واستنادها الى التعيين كما اشرنا اليه عن قريب ،
والدلالة التي هي مستندة الى القرينة هي الدلالة الفعلية.
وظهر الفرق بين
المجاز والغلط ، فانهما وان حصلت الدلالة الفعلية فيهما من القرينة إلّا ان في
المجاز دلالة شأنية مع قطع النظر عن نصب القرينة بخلاف الغلط. فظهر أن المجاز لا
يخرج بكون التعيين للدلالة فيحتاج الى قيد بنفسه.
قوله
«قده» : ويمكن دفعه بأن اللفظ ـ الخ.
هذا جواب معارضي
عورض به ما ذكر لاثبات استناد الدلالة الى القرينة باثبات نقيضه ، وهو استناد
الدلالة الى الوضع.
قوله
«قده» : مع انه قد لا يطرد.
لأنه اذا لم يكن
المعنى الذي هو غير الموضوع له متعددا ولا يتردد الذهن فلا يحتاج الى ملاحظة
التعيين ، فلا تكون الدلالة مستندة اليه.
وفيه : ان هذا لا
يضر ، لانه يكفي في الاحتياج الى قيد بنفسه المورد الذي يحتاج الى ملاحظة التعيين
، فانه لا ريب في كونه مجازا وكون دلالته مستندة الى التعيين فلا يخرج بكون
التعيين للدلالة فيحتاج الى قيد بنفسه فالايجاب الجزئي يكفي ولا يحتاج الى الايجاب
الكلي ـ فتبصر.
قوله
«قده» : والأظهر أن يراد بالدلالة الدلالة المعتبرة.
لما تنظر في
الجواب عن الاشكال بقي الاشكال بحاله فأجاب بجواب آخر ، ومحصله هو : ان اصل
الدلالة ومطلقها وان كان حاصلا من القرينة كما في الغلط إلّا أن الدلالة المعتبرة
لا تحصل الا من التعيين ، فاذا كان المراد هو التعيين للدلالة المعتبرة فلا ريب في
شموله للمجاز ، إذ دلالته المعتبرة مستندة الى التعيين فيحتاج في اخراجه الى قيد
بنفسه.
وفيه : انه اذا
كانت الدلالة حاصلة من القرينة فلا يكون المستند الى القرينة الا اعتبار الدلالة ،
ولا ريب في أن صفة شىء اذا كانت مستندة الى شىء ولم يكن الموصوف مستندا الى مستند
الصفة لم يصح اسناد استناد الموصوف اليه الا على سبيل التجوز ، والاسناد الى متعلق
الشىء. ولا يخلو ما فيه من التعسف لو كانت الصفة مأخوذة فى القضية اللفظية مع
الموصوف فضلا عما اذا لم يكن كما فيما نحن فيه ، حيث لم يذكر فيه وصف الاعتبار في
الحد.
فالحق في الجواب
هو ما ذكرناه آنفا ـ فافهم.
قوله
«قده» : وهذا على ما زعم ـ الخ.
يعني هذا الجواب
مبني على عدم توقف الدلالة على الارادة ، اذ لو توقفت عليها لكانت القرينة
المذكورة المعينة للمراد محتاجا اليها للدلالة ، اذ هي محتاج اليها للارادة التي
هي محتاج اليها للدلالة على حسب الفرض. ووجه التضعيف والتمريض المشعر به قوله «على ما زعم» هو أن
الارادة موقوف عليها ومحتاج اليها على القول بتوقف الدلالة على الارادة ، والقرينة
ليست لتفهيم نفس الارادة واصلها بل لتعيين المراد كما هو ظاهر.
فظهر أنه لا فرق
بين القول بتوقف الدلالة على الارادة وعدمه في أن القرينة المذكورة انما تكون
لتعيين المراد لا لأصل الدلالة.
قوله
«قده» : فبأن الضمير ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو انه لما كان
الضمير في قولنا «بنفسه» في حد الوضع راجعا الى اللفظ ، وفي قولهم في حد الحرف «في
نفسه» راجعا الى المعنى فيكون القصور فى المجاز في اللفظ ، فيحتاج الى لفظ آخر
والقصور في الحرف في المعنى فيحتاج الى معنى آخر ، ففي الحرف وان احتيج الى ذكر
المتعلق واشترط ذكره في الدلالة فانما هو باعتبار قصور المعنى لا باعتبار قصور
اللفظ ، فاذا تم ذلك المعنى القاصر فاللفظ يدل عليه بنفسه بلا احتياج الى ذكر لفظ
آخر ، فذكر المتعلق شرط في الدلالة لأجل قصور المعنى وليس شرط فيها لأجل اللفظ ،
ولا تناقض اصلا.
ومن هذا البيان
ظهر سقوط ما التزم به التفتازاني من أن صحة الحد موقوفة على القول بعدم اشتراط ذكر
المتعلق في دلالة الحروف ، اذ على القول بالاشتراط فيها يكون الدلالة لا بنفسه بل
بواسطة المتعلقات.
ووجه السقوط : هو
انه لا ريب في أنه على القول بالاشتراط يكون ذكر المتعلقات واشتراط الدلالة به
لأجل قصور المعنى لا لأجل قصور اللفظ ، فذكر المتعلقات شرط وليس بشرط ، ولا تناقض
لاختلاف الجهة وتكثر الحقيقة.
فظهر من هذا
البيان الواضح أن مقصوده هو اثبات كون اشتراط ذكر المتعلقات لأجل قصور المعنى ،
فهو شرط في الدلالة لأجل قصور المعنى. وظهر عدم اتجاه ما ذكره بعض المعاصرين «قده»
في بدائعه معرضا على المصنف فقال : وتعجبي ممن تصدى لتصحيح التعريف على تقدير
اشتراط الحروف بذكر المتعلق تعريضا على التفتازاني ولم يأت ببيان سوى ما ينفى
الاشتراط ويفيد الاستقلال في الدلالة ـ انتهى.
ووجه عدم الاتجاه
هو أن كلام المصنف صريح في الاشتراط بحسب قصور المعنى وعدم الاشتراط بحسب اللفظ ،
فكيف يقال بقول مطلق : ان بيانه ناف للاشتراط.
قوله
«قده» : والتحقيق في الجواب ـ الخ.
لما كان مبنى
الجواب السابق هو تسلم احتياج دلالة الحرف على ذكر المتعلق إلّا أن الاحتياج
المذكور انما هو لقصور المعنى لا للفظ ، وكان ذلك التسلم على خلاف التحقيق عنده ـ قدسسره ـ إذ التحقيق عنده
هو أن الحرف لا يحتاج في دلالته الى ذكر المتعلق اصلا ، بل يحتاج الى تصور متعلقه
ولو اجمالا ، وهو مما يحصل بمجرد سماع الحرف مع العلم بالوضع وان لم يذكر معه شىء
، فلا جرم اعرض عن ذلك الجواب وقال ـ قدسسره ـ : «والتحقيق»
الخ.
وقد تعجب بعض
المعاصرين «قده» في بدائعه منه واظهر كون هذا أعجب مما ذكر المصنف «قده» في تصحيح
التعريف على تقدير اشتراط الحروف تعريضا على التفتازاني ، فقال المعاصر : واعجب
منه مع قوله بأن معاني الحروف جزئية ذكر في المقام بأن سماع الحرف من حينه سبب
للانتقال الى معناه الآلي قبل ذكر المتعلق ، مع أن قضية الآلية عدم تعقلها الا بعد
تحقق المتعلق ، فكل ما ينتقل الذهن اليه قبل مجيء المتعلق أمر قابل للاشارة ، واذا
كان قابلا لها قبل الحكم عليه وبه فيكون كالمعنى الاسمي ـ انتهى.
وفيه : انه ان
اراد إيراد تناقض على المصنف وإيراد خلف عليه : أما الأول فهو انه قال بكون معاني الحروف جزئية وقال بحصول
الانتقال الى معاني الحروف قبل ذكر متعلقاتها ، ولازم هذا كون معانيها كلية ، وهو
تناقض. وأما الثاني فلأن المفروض كون معاني الحروف آلية ، فاذا حصل الانتقال الى
معانيها قبل ذكر المتعلق ـ كما ذكره ـ تكون معانيها مستقلة اسمية (هف).
فيرد عليه مع قصور
عبارته عن إفادة الأول وذكر ما لا مدخلية له فيه ـ وهو كون المعنى آليا ـ أن المتعلق
ليس محققا للجزئية حتى يكون تركه موجبا لكلية المعنى ، وكذا ذكره ليس معتبرا في
تحقق الآلية ، بل الآلية لا تقتضى أزيد من تحقق ذى الآلة ذهنا أو خارجا ، اذ الآلة
وان كانت من الأمور اللازمة للاضافة والمضاف المشهوري والمعاني الاضافية والامور
النسبية فرع تحقق الطرفين ووجود المنتسبين ، إلّا انها ليست فرع ذكرهما في اللفظ ،
وحينئذ فاذا تكلم شخص بلفظة من دون ذكر المتعلقات ينتقل ذهن السامع الى المعنى
الأولي ينتقل الى متعلقها إجمالا ولا يخرج عن
الآلية كما هو
واضح. وكون المعنى قابلا للاشارة العقلية على وجه الآلية لا يصيره قابلا للحكم
عليه وبه ولا اسميا ، فمراد المعاصر بقبول الاشارة إن كان المراد قبول الاشارة على
وجه الاستقلال فالصغرى ممنوعة وان كان على وجه الآلية وعدم الاستقلال فالكبرى
ممنوعة.
هذا مضافا الى ما
في قوله «فيكون كالمعنى الاسمي» بداهة انه يصير نفسه لا مثله. وإن اراد إيراد
الخلف فقط فيرد عليه ـ مضافا الى ما ذكرنا في ايراد الخلف على الاحتمال الاول ـ ان
ذكره قوله «مع قوله بأن معاني الحروف جزئية» يكون مستدركا كما هو واضح.
قوله
«قده» : وهو أن المراد بالتعيين ـ الخ.
قال بعض المعاصرين
ـ قدسسره ـ فى بدائعه بعد
ما ذكر محصل ما ذكره المصنف «قده» : ولا يخفى ما فيه :
«أما أولا» فلانا
نختار اختصاص التعريف بالوضع القصدي التعييني ونلتزم بخروج المنقول عن الحد ، ولا
ضير فيه بل هو أمر واجب ، نظرا الى اختصاص المحدود وهو الوضع بذلك ، لبداهة ان
الوضع فعل الواضع فلا يتناول التعيين الذي هو من صفات اللفظ ، واطلاق اللفظ على
المنقولات مبني على نحو من التجوز بارادة اللازم من الملزوم أو على الاشتراك
اللفظي ، مع أن القول بأن التعريف للقدر المشترك بين الوصفين غلط ، مبني على
استعمال لفظ التعيين في اللازم والملزوم على نحو الاستقلال الآئل الى استعمال
اللفظ في المعنيين ، واستعماله في القدر المشترك أغلط ، إذ لا جامع بين التعيين
والتعين كما لا يخفى. ولا مؤاخذة على القوم في عدم تعرضهم لوضع المنقولات هنا ،
ثقة بما صرحوا به في مقام آخر.
«وأما ثانيا» ـ فلمنع
تحقق التعين في المجاز المشهور ، كيف وظاهر الأكثر ـ ومنهم المستشكل ـ تقديم
الحقيقة ، ولو اراد النقض على من يقول بالتوقف أو بتقديم المجاز ـ كصاحب المعالم
في ظاهر كلامه ـ فيمكن أن يجاب أيضا بأن المراد بالتعين على تقدير شمول التعريف له
ما يوجب هجر الحقيقة الأولية. ويبعدها على الأذهان مع قطع النظر عن الشهر ، والأمر
في المجاز المشهور ليس كذلك وإلّا بلغ درجة النقل. ومنه يعلم الفرق بينه وبين
المنقول بالغلبة وان قياسه به مقرون مع الفارق. ومرجع كلامنا أن التعين متى لم
يبلغ رتبة تفيد اختصاص جوهر اللفظ بالمعنى لم نكتف به في اللفظ.
فان قلت : لو
اعتبر في اللفظ كون التعين بحيث يوجب اختصاص اللفظ بالمعنى بطل الاشتراك وثبت قول
مستحيله ، لأن التعينات الحاصلة في المشتركات بواسطة الأوضاع المتعددة ليست بمثابة
توجب اختصاص اللفظ بالمعنى الا مع قطع النظر عن تعينه للآخر ، لان تعين اللفظ لكل
من المعاني يساوي تعينه للآخر ، وقد اعترفت أن مثل هذا التعين حاصل في المجاز
المشهور أيضا لمساواته للحقيقة المرجوحة ، وإلّا فلا معنى للتوقف ، فيشمل التعريف
حينئذ للمجاز المشهور.
قلت : فرق بين
التعين الابتدائي والتعين الطارئ ، وما ذكرنا معتبر في الثاني دون الأول ، والسر
فيه أن التعين المعتبر في الوضع ما كان مع قطع النظر عن غير جوهر اللفظ كالشهرة ،
وهذا في الوضع التعيني لا يتحقق إلّا مع هجر الحقيقة الأولية. والحاصل إن التعين
الذي هو معتبر في الوضع وفي كون اللفظ حقيقة ما كان حاصلا بسبب تعيين الواضع أو
بسبب كثرة الاستعمال والاشتهار ، ولكن يعتبر في القسم الثاني أن يكون بحيث يوجب
اختصاص اللفظ
بالمستعمل فيه وهجر الحقيقة الأولية ، وسموا ما ليس بهذه المثابة ب؟؟ «المجاز
المشهور» ، ولا بد من محافظة تعريف الوضع عن دخول مثله ولو بقرينة المقام.
نعم يرد عليهم
حينئذ أن ملاك الوضع ـ وهو التعين ـ موجود في المجاز المشهور أيضا ، فلم سموه
بالمجاز؟ لكن الخطب فيه سهل ، لأنه مناقشة في الاصطلاح ، وإلّا فجميع أحكام الوضع
يجري في المجاز المشهور أيضا من التوقف أو تقديمه على الحقيقة المرجوحة. إلّا أن
يقال : انه بملاحظة الشهرة.
وكيف كان فالحد
سليم عن الاشكال ، والكلام في تصحيح الحد على حسبما اصطلحوا في الوضع لا في وجه
تسمية المجاز المشهور مجازا ـ انتهى باختصار ما.
وفيه : انه لا ريب
في أن المحدود ليس إلّا الوضع المأخوذ في حدي الحقيقة والمجاز ، حيث يقال فيما
وضعت له أو غير ما وضعت ، ولا ريب فى انه اعم من التعيين والتعين وإلّا لزم أن لا
يكون المنقول الذي استعمل فى المنقول اليه حقيقة ، فيلزم أن لا يكون حد الحقيقة ،
فيلزم أن لا يكون حد الحقيقة جامعا منعكسا وأن لا يكون المنقول المستعمل في غير
المنقول اليه للعلاقة مع المنقول اليه مجازا والحال انه مجاز ، فيلزم أن لا يكون
حد المجاز طاردا مانعا.
ولا شبهة في انه
ليس الكلام في الوضع الذي هو فعل الواضع حتى يدعى البداهة فيه ، واذا كان الامر
كذلك يلزم من قول المعاصر أن اطلاق الوضع على المنقولات مبني على التجوز أو على
الاشتراك اللفظي استعمال لفظ الوضع في حدي الحقيقة والمجاز في اكثر من معنى ، اي
المعنى الحقيقي
والمجازي أو
المعنيين الحقيقيين. وقوله «واستعماله في القدر المشترك» اغلط اذ لا جامع بين
التعين والتعيين مناقض صريح لقوله في موضع آخر قريب مما ذكره بعد ما نفى الجامع :
إلّا أن يراد بالوضع العلقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى تسمية الشيء بأحد أسبابه
فيعم القسمين كما لا يخفى ـ انتهى.
هذا مضافا الى ما
فيما اعتذر عن القوم لعدم تعرضهم لوضع المنقولات هنا بأنه لاجل الوثوق بما ذكروه
في موضع آخر ، لانه لا ريب في أن ما ذكروه في مقام آخر إنما هو بيان تحقق المنقول
وجواب هل البسيطة ، وليس بيان ماهية الوضع وجواب ما الحقيقية. ولا يخفى عدم كفاية
بيان احدهما عن الآخر كما هو واضح.
وأما ما ذكره
ثانيا من منع تحقق التعين في المجاز المشهور وكون ظاهر الاكثر ومنهم المصنف تقديم
الحقيقة ، ففيه أن ما ذكره المصنف ليس انكار التعين في المجاز المشهور وتقديم
الحقيقة مطلقا وفي جميع الموارد وعلى وجه الكلية ، بل على وجه الجزئية كما لا يخفى
على من راجع كلامه في مبحث الأوامر فى بيان كلام صاحب المعالم في كون الامر مجازا
راجحا في الندب وما أورده عليه. ولا ريب في ان الايجاب الجزئي يكفي للنقض.
وما ذكره في
الجواب من أن المراد بالتعين على تقدير شمول التعريف له ما يوجب هجر الحقيقة
الأولية ويبعدها عن الاذهان مع قطع النظر عن الشهرة. ففيه : انه لا يدفع الانتقاض
الطردي ، اذ كون المراد بالحد ما يساوي المحدود بحسب الواقع لا يصحح الحد اذا كان
بحسب الظاهر اعم من المحدود فيبقى الانتقاض بحاله كما لا يخفى.
إلّا أن يقال : ان
الظاهر من التعيين هو التعيين عن قصد لكن بقرينة قولهم في المنقول بتحقق الوضع فيه
مع عدم تحقق التعيين عن قصد فيه ، فلا جرم
بملاحظة هذه
القرينة يعمم التعيين المأخوذ فى حد الوضع الى التعيين المتحقق فى المنقول المستدعي
لهجر الحقيقة الاولية دون تعين المجاز المشهور لعدم قيام القرينة بالنسبة اليه.
ومع الغض عن ذلك
نقول : إن الفرق الذي ذكره بين المجاز المشهور والمنقول من أن المعنى المنقول عنه
يصير بعيدا عن الأذهان مع قطع النظر عن الشهرة ، والمعنى المنقول اليه بعيدا مع
القطع المذكور ، بخلاف المجاز المشهور حيث أن بعد المعنى الحقيقي وقرب المعنى
المجازي انما هو بملاحظة الشهرة ولحاظها ، فلا يكون الاختصاص حاصلا من جوهر اللفظ
وحاقه بل بضميمة القرينة وهي الشهرة. فهو ناش من عدم التفاته وغفلته عما ذكره
المصنف وجعله مناط الاشكال ، وهو كون الشهرة في المقامين سببا وعلة للتعين في
المقامين.
ومن المعلوم
الواضح أن قطع النظر عن العلة والسبب قطع النظر عن المعلول والمسبب ، إذ وجود
المعلول عين التعلق والارتباط بالعلة ولا نفسية له الا التعلق والربط كما هو واضح
، فاذا قطع النظر عن الشهرة فلا تعين اصلا لا في المجاز المشهور ولا في المنقول ،
وان لوحظت الشهرة جاء التعيين من غير فرق ، فان أخرت الشهرة بكون التعين فى المجاز
المشهور حاصلا عن حاق اللفظ فلتكن قادحة في حصوله عن حاق اللفظ في المنقول من غير
فرق أصلا.
ومن الغريب ما في
ذيل كلامه ، حيث أن لازمه بل صريحه أن الاذعان بكون المجاز المشهور حقيقة بحسب
الواقع ، إلّا انه جرى الاصطلاح على تسميته مجازا. ولا يخفى ما فيه من وضوح الفساد
ـ فافهم واغتنم.
والذي القى في
روعي ونفث في قلبي في دفع الاشكال الذي ذكره
المصنف «قده» هو
أن يقال : لا نسلم ان الشهرة سبب للتعين لا في المنقول ولا في المجاز المشهور لأنه
لا ريب في أن كثرة استعمال اللفظ في المعنى لما كان الاستعمال من المعاني الإضافية
الواقعة بين المستعمل ـ بالكسر ـ والمستعمل ـ بالفتح ـ والمستعمل فيه ، والاضافة
من النسب المتكررة فلا جرم يكون اللفظ كثير الاستعمال والمعنى كثير الاستعمال فيه
كما انه يكون المتكلم كثير الاستعمال.
ولا ريب فى أن
كثرة استعمال المتكلم بالمعنى المبني للفاعل منشأ لشيئين كثرة استعمال اللفظ وكثرة
الاستعمال في المعنى بالمعنى المبنى للمفعول ويكونان في عرض واحد بلا علية
ومعلولية بينهما ، فالمجاز صفة للفظ ، ومعنى كونه مشهورا كونه كثير الاستعمال ،
والشهرة التي بمعنى كون المعنى كثير الاستعمال فيه قرينة له ولا يكون سببا له
ومنشأ له.
ولا ريب في أن
الكثرة مقابل القلة ، والقلة التي هي مقابلة لها هي قلة استعمال اللفظ في المعنى
الموضوع له ، فاذا تحقق قلة استعمال اللفظ في الموضوع له وكثرة استعماله في غيره
تحقق المجاز المشهور ، واذا بلغت الكثرة الى حد لم يستعمل فيه اللفظ في المعنى
الموضوع له اصلا ، وانقلب موضوع الكثرة والغلبة الى الدوام والكلية تحقق المنقول
والحقيقة الثانوية ، فالشهرة من الأسباب المعدة لتحقق المنقول ، ومن الامور
المقارنة للمجاز المشهور.
فظهر الفرق بين
المجاز المشهور والمنقول ، وان التعين في المجاز المشهور يحصل مع الشهرة وفي
المنقول بالشهرة وبينهما من الفرق ما لا يكاد يخفى.
فاندفع اشكال
الفرق بين المجاز المشهور والمنقول ، بل بين المنقول والمجاز الذي نصب عليه قرينة
عامة ، بل وسائر المجازات حيث يتوهم أن فيها تعينا بنصب القرائن كما سيأتي عن
قريب.
ثم لو سلمنا أن في
المجاز تعينا بالشهرة لا مع الشهرة واغمضنا عما ذكرنا من كون شهرة المعنى واقعة في
عرض المجاز المشهور ، وسلمنا كونها واقعة في الطول ـ كما هو الامر في المنقول ـ نقول
: الفرق بين المنقول والمجاز المشهور هو أنا قد لوحنا سابقا أن القرينة في
المجازات هو الواسطة في عروض الدلالة للمجازات لا واسطة في الثبوت لها ، وهذا
بخلاف الحقائق حيث انه ليس فيها وسائط العروض وان كان فيها وسائط الثبوت ، فبناء على
ما ذكرنا أن الشهرة وان كانت سببا للتعين والدلالة في المجاز المشهور كما انها سبب
لهما في المنقول إلّا انها في الاول واسطة عروضية ، اذ يصح سلب الدلالة والتعين عن
اللفظ ، بخلافها في الثاني حيث انه لا يصح السلب عنه.
وبهذا البيان
الواضح والتبيان اللائح ظهر الفرق بين جميع أقسام الحقائق وعامة أنحاء المجازات من
المجاز المشهور وغيره وما نصب فيه وغيره ـ فافهم واستعن بالله تعالى.
قوله
«قده» : ومثل قرينة الشهرة ما لو نص المستعمل ـ الخ.
ظهر اندفاع هذا
النقض الطردي مما حررناه وزبرناه آنفا فلا نعيده
وقال بعض المعاصرين
«قده» في بدائعه موردا على المصنف ـ قدسسره ـ : وأما تنصيص
المستعمل على ارادة المعنى عند اطلاق اللفظ ، وحاصله نصب قرينة عامة ، ففيه :
«أولا» ـ ان هذا
هو الوضع ، لأن الوضع ليس إلّا تعيين اللفظ للمعنى بحيث يرجع الى التوسيم ، غاية
الأمر كونه حقيقة عرفية لا لغوية ، ولا ريب أن المحدود ليس خصوص الوضع اللغوي.
«وثانيا» ـ إن
التعيين للارادة تعيين للاستعمال لا للدلالة ، والمناط هو الثاني دون الأول ، وقد
اعترف المستشكل في غير موضع من كلامه ـ انتهت عبارته.
وفيما ذكره اولا
انه لا ريب في أن ذلك التنصيص ليس وضعا بعد ما لاحظه المستعمل الناصب للقرينة
العامة كون المعنى المستعمل فيه غير المعنى الموضوع له بملاحظة العلاقة المصححة
والمناسبة المجوزة كما لا يخفى. فليس كل تعيين وضعا ، فالمغالطة ناشئة من ابهام
الانعكاس ، مضافا الى امكان منع كون هذا التنصيص تعيينا بل التعيين يحصل من المجاز
وذلك النصب والتنصيص ، إلّا انه لا يلائم مذاق المصنف حيث أذعن بكونه تعيينا.
وفيما ذكره ثانيا
انه لا ريب في ان كون هذا التعيين تعيينا للاستعمال فرع تحقق الدلالة ، والمفروض
انتفاؤها بالنسبة الى المعنى الذي هو غير الموضوع له ، فلم يكن بد من كونه للدلالة
ـ تأمل تنل إن شاء الله تعالى.
قوله
«قده» : كما مر.
أي في بيان خروج
المجاز عن الحد بقيد «بنفسه».
قوله
«قده» : وهي غير ناشئة هناك ـ الخ.
بل بضميمة الرخصة
أو الوضع السابق.
قوله
«قده» : وفيه تكلف.
إذ الظاهر من
الدلالة مطلقها ، ولم يؤخذ في الحد أزيد من التعيين بالمعنى الأعم للدلالة وأما
كون سبب التعيين منفردا مستقلا فلا.
قوله
«قده» : بل بضميمة الرخصة ـ الخ.
الترديد للاشارة
الى مذهب القوم القائلين بالوضع والترخيص في المجازات والى مذهبه ـ قدسسره ـ من انكار الوضع
فيها وكفاية الوضع السابق عنه فيها الاول للاول والثاني للثاني.
قوله
«قده» : بالتوجيه السابق.
يعني به ما ذكره
سابقا بقوله : «والتحقيق في الجواب». والحاصل ان الحرف بمجرد التعيين وبنفسه يدل
على المعنى ويكفى فيه تصور متعلقه ولو اجمالا ولا حاجة الى ذكره لفظا ، بل ولو لم
يذكر لفظا ينتقل اليه لأنه من قبيل اللوازم البينة للمدلول.
قوله
«قده» : ويخرج به تعيين المستعمل اللفظ ـ الخ.
يعني ان تعيين لفظ
من الألفاظ المترادفة للاستعمال وان كان للدلالة يخرج بقيد بنفسه الراجع ضميره الى
التعيين ، إذ فيه بمجرد التعيين للاستعمال لا تحصل الدلالة بل يحتاج الى التعيين
للدلالة ـ اعنى الوضع أيضا.
قوله
«قده» : ولا حاجة الى ما تكلفناه سابقا.
من كون الدلالة هي
الدلالة القوية دون خصوص الفعلية ودون الأعم او كون الظاهر من كون التعيين للدلالة
هو كونه بلا واسطة.
قوله
«قده» : على الوجه السابق.
يعني إرجاع الضمير
في قولهم «بنفسه» الى اللفظ.
قوله
«قده» : إلّا أن يرتكب التكلف المتقدم.
وهو أن الظاهر من
كون التعيين للدلالة هو كونه بلا واسطة.
قوله
«قده» : ومن هنا يظهر أن إرجاع الضمير ـ الخ.
حيث انه بناء عليه
يخرج عن الحد ما يلزم خروجه بلا ارتكاب تكلف ، بخلاف ما اذا رجع الضمير الى اللفظ
حيث انه يحتاج الى التكلف. وفيه أن الظاهر بملاحظة قرب المرجع هو رجوع الضمير الى
اللفظ دون التعيين وورود الانتقاض الطردى بناء عليه لا يصلح قرينة على خلافه كما
هو واضح
قوله
«قده» : ويمكن تقرير الاشكال.
اي الانتقاض
الطردي بالمجاز المشهور.
قوله
«قده» : التوجيه المذكور.
يعني إرجاع الضمير
الى التعيين.
قوله
«قده» : إن أرادوا بالحد ـ الخ.
توضيحه : هو أن
المراد إن كان حصول الدلالة مع قطع النظر عن ذلك التعيين برجوع الضمير الى اللفظ
فيكون المحصل حصول الدلالة بمجرد اللفظ بدون التعيين ، فهو باطل لأن اللفظ الموضوع
اذا قطع النظر عن وضعه لا دلالة له إما في الجملة ـ أي بالنسبة الى الجاهل بالوضع ـ
او مطلقا حتى بالنسبة الى العالم به ، لأن العالم إنما يحصل الدلالة له من حيث
كونه عالما ، كما يشير اليه قولهم في تعريف الدلالة الوضعية بأنها «فهم المعنى من
اللفظ عند العالم» حيث علقوا على الوصف المشعر بالعلية ، فيكون
المراد من حيث
علمه بالوضع ، فاذا انتفى الوصف ـ ولو بقطع النظر ـ انتفت الدلالة ، وإن كان
المراد حصول الدلالة مع قطع النظر عما عدا ذلك التعيين برجوع الضمير الى التعيين
فيكون المحصل حصول الدلالة بمجرد التعيين بدون شيء آخر ، فهو منقوض بالمجاز
المشهور حيث انه لا يحتاج في دلالته الى شىء سوى التعيين المنحل الى تعيين احدهما
تعيين واضع المجاز بناء على مذهب القوم من القول بوضع المجازات ، أو واضع الحقيقة
بناء على مذهبه من انكار الوضع في المجازات وثانيهما تعيين الشهرة فالمجاز المشهور
بنفس التعيين يدل على معناه ، إذ لم يعتبر في التعيين حصوله من أمر واحد حتى يضر ويقدح
حصوله هنا من امرين الواضع والشهرة
هذا بيان الاشكال
في المجاز المشهور ، وأما وجه اطراد الاشكال في سائر المجازات فلأنها لا يحتاج
ايضا الى أزيد من التعيين ، غاية الأمر وقصواه ان تعيينها منحل الى تعيينين :
تعيين الواضع ، وتعيين القرينة. هذا محصل مرامه ومنقح كلامه.
وفيه : انا نختار
رجوع الضمير في قولهم «بنفسه» الى اللفظ ، ونقول مرادهم من التقييد بقولهم «بنفسه»
ليس نفي مدخلية الوضع والتعيين ، بل نفي مدخلية القرينة كما هو مصرح به في كلامهم.
وبعبارة اخرى : نفي الحيثية التقييدية لا نفي الحيثية التعليلية وتعيين الشهرة
وسائر القرائن في المجاز المشهور وغيره وان كان تعيينا إلّا أنه حاصل من الأمور
المقارنة الواقعة في عرض المجاز ، وقد اعتبر عدمه بالتقييد بقولهم «بنفسه» بخلاف
تعيين الحقائق كما هو واضح مما اسلفنا ذكره سابقا واسلفنا انه بناء على كون الشهرة
بل سائر القرائن واقعة في طول المجاز ، كتعيين الحقائق حيث انه واقع في طولها ،
نقول : إن المراد بقولهم «بنفسه» هو نفي الواسطة في العروض دون الثبوت ، والقرائن
من الشهرة وغيرها
وسائط عروضية ، وهذا بخلاف التعيين في الحقائق حيث انه واسطة ثبوتية ، كما ظهر
بيانه مما ذكرناه سابقا.
قوله
«قده» : وهذا الاشكال متجه ـ الخ.
مقصوده بالبيان
الأول التقرير الاول للاشكال ، وهو أن المراد بالتعيين ان كان هو التعيين القصدي لم
ينعكس وإن كان أعم لم يطرد لدخول تعيين المجاز المشهور بالشهرة ، يعني ان اشكال
عدم احتياج المجاز المشهور الى أزيد من التعيين كما انه متجه على هذا التقرير كذلك
يتجه على التقرير السابق ايضا ، بأن يقال : بناء على ارادة الاعم من التعيين
القصدي والغير القصدي يدخل المجاز المشهور ، حيث لا يحتاج الى شىء آخر غير التعيين
الأعم. ولا يجدي فيه الدفع السابق ، وهو إرجاع الضمير في قولهم «بنفسه» الى
التعيين ، اذا المفروض حصول الدلالة في المجاز المشهور أيضا بمجرد التعيين ، غاية
الأمر وقصواه ان تعيينه منحل الى تعيينين.
قوله
«قده» : وكذا تعين الحكاية للمحكي.
يعنى وكذا تعين
اللفظ لمثله ، كما يقال زيد في «ضرب زيد» فاعل على المختار من عدم تحقق تعيين اصلا
، لا التعيين القصدى والغير القصدي ، بل الدلالة حاصلة بمجرد المشابهة الصورية
بمعونة القرينة فانه لا يسمى تعيينا وإن اريد به ما يعم القصدى والغير القصدي.
وأما بناء على مختار التفتازاني من تحقق التعيين الغير القصدي في الحكاية فلا يخرج
بناء على تعميم التعيين الى الغير القصدي.
قوله
«قده» : يدخل فيه المنقول ـ الخ.
هكذا في النسخة
الموجودة عندي ، وبناء عليه يكون جزاء لقوله «وإن أريد» ولا يخفى عدم استقامته ،
لأنه بناء عليه تكون الملازمة في القضية الشرطية واضحة لا تحتاج الى التعليل بما
هو المفروض ، مضافا الى لزوم كون التقييد بقوله «على المختار» لغوا بل خارجا ، لأن
الحكاية ليست بتعيين مطلقا حتى على قول التفتازاني.
والذي اظن سقوط كلمة
الواو من قلم الناسخ من قوله «يدخل فيه المنقول» ويكون عطفا على قوله «فيخرج
المجاز» وتكون كلمة إن في قوله «وإن اريد» وصلية .
قوله
«قده» : ولو زيد او تعينه ـ الخ.
يعني لو قيل تعيين
اللفظ للمعنى أو تعينه اشكل بالحكاية ، حيث ان فيها تعينا ، فيشملها الحد مع
خروجها عن المحدود. وفيه : مع مناقضته لكلامه السابق حيث أذعن بخروج الحكاية عن
التعيين ولو اريد به ما يعم غير القصدي بناء على كون كلمة إن في قوله «وان اريد»
وصلية ان الاشكال بالحكاية ان كان بالنظر الى مذهبه ـ قدسسره ـ فلا مجال له ولا
وجه إذ ليس فيها تعين ، وإن كان بالنظر الى مذهب التفتازاني فلا موقع له ، إذ لا
بد على مذهبه من شمول الحد لها ـ فافهم.
قوله
«قده» : والأولى أن يزاد ـ الخ.
يعني لما كان
التعيين ظاهرا في التعيين القصدي فلا يشمل المنقول
__________________
إلّا بالتكلف كان
الأولى أن يزاد «أو تعينه» ليشمله. وأما اشكال الامر بالحكاية فقد ظهر اندفاعه ،
ولعله اشكال بحسب النظر البدوي كما يشعر به عدم اعتداده به وجعل الاولى زيادة «أو
تعينه».
قوله
«قده» : أما على التوجيه السابق.
وهو عدم احتياج
الحروف في دلالته على ذكر متعلقاته ، بل ينتقل اليها قبل ذكرها انتقالا اجماليا ،
وتكون المتعلقات من قبيل اللوازم البينة للمدلول.
قوله
«قده» : نعم ربما يشكل نادرا في صورة الاشتراك ـ الخ.
كما اذا كان لفظة «من»
مثلا مع كونها موضوعة للمعنى الحرفي موضوعة لمعنى اسمي كمكان وموضع ، فيقال «سرت
من من الى كذا» فيحتاج في إفادته معناها الحرفي الى ملاحظة وضعها الآخر لاحتياجها
الى المتعلقات ، فيخرج الحرف عن الحد مع دخوله في المحدود ، إلا أن يدفع باعتبار
الحيثية ، بأن يقال : ان الحرف في الصورة المفروضة لا يحتاج الى ملاحظة وضع آخر له
من حيث انه حرف وان احتاج الى وضع آخر بما هو اسم. والحاصل انه لا يحتاج في
استعمالها بحسب وضعها الحرفي الى ملاحظة وضع آخر له بما هو حرف.
قوله
«قده» : فتأمل فيه.
لعل وجه الأمر
بالتأمل هو أن هذا مجرد فرض غير واقع ، والمدار فى الخارج عن الحد والداخل فيه على
الأفراد الواقعية دون الفرضية.
قوله
«قده» : كالاعلام الشخصية.
حيث أن معانيها
مما يمتنع فرض صدقه على كثيرين.
قال بعض المعاصرين
في بدائعه : اذ المراد بالتعدد هو التعدد الفردي دون التعدد الأحوالي ، من الصحة
والمرض ونحوهما من الأحوالات المخالفة. ومن هنا ظهر فساد ما توهم من كون وضع الاعلام ايضا عاما
كوضع الكليات ، نظرا الى كون الموضوع له فيها امرا عاما جامعا لتلك الاحوالات. وجه الفساد : أن
المراد بالعموم والخصوص في المقام ليس ما يعم العموم والخصوص الأحواليين بل خصوص
العموم والخصوص الإفراديين. وكذا ظهر أن وزان تلك الأحوال المتعاورة على معاني
الاعلام وزان الخصوصيات العارضة لمعاني أسماء الأجناس في عدم اعتبارها رأسا في
الموضوع له ، وإنما الفرق بينهما أن اسماء الاجناس موضوعة للمعاني الكلية لا في
حال الخصوصية ولا بشرطها ، بخلاف الاعلام فإنها موضوعة للذات الخارجية في حال
اقترانها لبعض الأحوال لا بشرطها ، فلا يؤثر تبدل الحال الموجودة حين الوضع في
الموضوع له ، فإطلاق «زيد» عليه في حال كبره كاطلاقه عليه في حال صغره ، وليس
مبنيا على تعدد الاوضاع ولا على نحو من التسامح ، كما في إطلاق المقادير على ما
ينقص عن حقائقها الأولية نقصا يتسامح فيه عادة.
وبعض من لم يتفطن
الى حقيقة الحال من الافاضل اضطر في التفصي عن تعدد الوضع او كليته الى تعسف ركيك
، وهو اعتبار احدى المشخصات المميزة على وجه كلي في الموضوع له ، وهو كما ترى
مصادمة للبديهة ، لأن من يضع اسما لابنه لا يخطر بباله التشخص العارض فضلا عن
اعتباره في الوضع ، مضافا الى أن وضع الأعلام يكون حينئذ كوضع النكرة ،
ضرورة اعتبار أحد
المشخصات لا بعينها في مسماها ، فيكون من القسم الثالث يعنى ما يكون الوضع
والموضوع له كلاهما عامين ـ انتهى.
وفيه : ان العمدة
في اشكال كون الوضع والموضوع له في الاعلام الشخصية عامين أن الاعراض العارضة
لمسماها عوارض مشخصة ، ولا ريب في أن تلك العوارض متعددة متخالفة ، واذا كانت
المشخصات متعددة فلا ريب في تعدد الاشخاص بتعددها ، فالمسمى للعلم الشخصي اذا
اختلفت مشخصاته وتبدلت عوارضه المشخصة فلا جرم يصير اشخاصا متعددة وأفرادا متكثرة
بحسب اختلاف ألوانه ومعناه وأوضاعه ، فلا جرم يكون الموضوع له عاما ، فلا بد وأن
يكون الوضع أيضا عاما.
واذا كان الامر
كذلك فلا يجدي ما ذكره المعاصر من أن المراد بالتعدد التعدد الفردي دون الأحوالي ،
إذ بناء على ما ذكرنا يصير التعدد تعددا أفراديا.
والجواب عن هذا
الاشكال أن التشخص بالحقيقة انما هو بالوجود لا بتلك العوارض التي سماها القوم «عوارض
مشخصة» ، إذ هي مع قطع النظر عن الوجود مهيات كلية وطبائع مرسلة ، ولا يفيد ضم الف
ماهية كلية وطبائع ارسالية تشخصا. نعم يفيد تميزا ، واذا كان الوجود واحدا كان
شخصا فاردا ، فليس في مسمى العلم الشخصي تكثر فردي وتعدد وجودي.
هذا حال الوجود
الذي هو عين التشخص ، وأما حال العوارض المشخصة التي عندنا امارات التشخص وكواشف
عنه وعند القوم مشخصات فهي امارة او مشخص لا باعتبار فرد بخصوصه من كل واحد منها ،
بل مع عرض عريض كعرض الأمزجة ، فكما أن لكل مزاج طرفي افراط
وتفريط لا يتجاوز
الممتزج عنهما وإلّا لهلك ، وبينهما حدود غير متناهية هي عرض المزاج الواحد المعين
كذلك للاين والمتى والوضع.
وبالجملة ما جعلوه
مشخصا عرض عريض من اول وجود الشخص الى آخره كل واحد بهذا العرض من امارات التشخص ،
وان لم تكن مشخصات حقيقية.
والى ما ذكرنا
لعله ينظر ما نقله المعاصر عن بعض الأفاضل من اعتبار احدى المشخصات على وجه كلي ،
ولا يرد عليه شىء مما أورده المعاصر عليه.
أما ما أورده اولا
من مصادمته للبديهة لأن من وضع اسما لابنه لا يخطر بباله العارض فضلا عن اعتباره
في الوضع ، ففيه أنه لا شبهة في أن الواضع المذكور يتصور شخص ابنه ويعلم مشخصه
اجمالا وان لم يعلم تفصيلا. وان شئت تقول : العلم البسيط بالمشخص والعارض المشخص
حاصل ، والذي هو غير حاصل هو العلم المركب والعلم بالعلم.
وأما ما أورده
ثانيا من صيرورة وضع الاعلام حينئذ وضع النكرة ، ففيه أن في النكرة اعتبار أحد
الاشخاص لا بعينه ، وفيما نحن فيه اعتبار أحد المشخصات لا بعينه ، وبينهما من
الفرق ما لا يكاد يخفى.
وأما ما ذكره
المعاصر ـ قدسسره ـ في الفرق بين
اسماء الأجناس والأعلام الشخصية من أن الأول موضوع للمعنى لا في حال تلك الأحوال
ولا بشرطها ، بخلاف الثاني حيث انه موضوع للمعنى فى حال تلك الاحوال لا بشرطها.
ففيه أنه لا ريب في أن اسماء الاجناس ليست اسامي للماهيات اللابشرطية المقسمية
المحفوظة في جميع المنشآت والغير المتبدلة في جميع المواطن والمشاهد والعوالم ،
ضرورة أن الأسد الخيالي مثلا لا يسمى اسدا ، بل اسماء
الأجناس اسامي
للاجناس الواقعة في الأعيان وصفحة الخارج.
وبعبارة اخرى :
الأسد موضوع لما هو أسد بالحمل الشائع الصناعي المتعارف ، لا لما هو أسد بالحمل
الأولي الذاتي. ولا ريب في أن الطبيعة اللابشرطية الواقعة في الأعيان لا تخلو من
تلك الأحوال المتعاورة ، فأساميها موضوعة لها في حال تلك الاحوال ـ فافهم واستقم
واشكر ربك الأعلى تبارك وتعالى.
قوله
«قده» : من القسم الآتي.
أي ما يكون الوضع
فيه عاما والموضوع له أيضا عاما.
قوله
«قده» : بناء على انها موضوعة ـ الخ.
لأن الماهية
المقيدة بالوجود الذهني جزئي.
قال المعاصر في
بدائعه : وأما لو قلنا بأن العلمية فيها تقديرية ـ كما صرح به المحقق الشريف وفاقا
لبعض الأفاضل كما هو الظاهر ـ ضرورة صدق اسامة على الفرد كاطلاق أسد عليه ، كان من
قبيل عموم الوضع والموضوع له ـ انتهى.
وفسر فيما تقدم من
كلامه التقديرية بالحكمية ، والحق فساد الوجهين في تصوير علمية أعلام الاجناس :
أما الأول فلبداهة انه لم يعن بالاسامة الطبيعة الافتراسية الحاضرة في الذهن
والموجودة فيه ، فاذا قيل «رأيت اسامة مقبلا» لم يقصد رؤية الأسد الذهني كما هو
ظاهر. وأما الثاني فلان حاصله انكار العلمية ، وانه ليس معناها الا اجراء أحكام
العلم من غير كونها اعلاما.
وما استدل به
المعاصر لا يثبت البطلان الوجه الاول ولا يثبت الوجه الثاني ، إذ صدق أسامة على
زيد كصدق أسد عليه ، أعم من كون علميتها حكمية أو حقيقية على وجه
آخر غير الوجه
الأول ، واللازم الأعم لا يثبت الملزوم الأخص كما هو ظاهر.
والذي يخالج ببالي
القاصر هو أن يقال : لا شبهة في كون علمية الاشخاص انما هو بكون الشخص متعينا
متميزا في الخارج بحسب الماهية النوعية والهوية الشخصية ، بحيث لم يبق فيه مجال
الابهام ، فلا جرم صار اسمه علما ومعرفة. وأما الأجناس والطبائع ففيها تميز وتعين
لبعضها عن بعض وإن لم يكن لها بالنسبة الى خصوصيات ما اندرج تحتها من الجزئيات
تعين وتميز ، بمعنى ان الطبيعة الافتراسية ليس فيها خصوص فرد دون فرد وتميز فرد عن
فرد ، فأسماء الأجناس موضوعة لها بالاعتبار الثاني واعلامها موضوعة لها بالاعتبار
الأول ، فهي اعلام حقيقية ومعرفة موضوعا لا حكما فقط ـ فافهم بعون الله وحسن
تأييده.
قوله
«قده» : ووضعها بإزائها ـ الخ.
يمكن أن يقال :
تلك المعاني الكلية التي لاحظها الواضع ثم وضع بإزائها باعتبار كونها مرآة لملاحظة
حال المتعلقات الخاصة إما أن تكون مستقلة أو تكون غير مستقلة ، فان كان الاول لزم
أن يكون جزء معنى الحرف مستقلا ، وما بعضه مستقل كيف يكون كله غير مستقل ، ولا
يعقل صيرورة المستقل غير مستقل وآلة اللحاظ ومرآة الملاحظة ، للزوم الخلف أو
الانقلاب. وإن كان الثاني لزم أن تكون تلك المعاني أيضا ملحوظا بها حال الغير وآلة
لملاحظتها ، وتكون تلك المعاني قبل التقيد بالملاحظة لحال الغير أيضا معاني حرفية
حسب الفرض ، فلا بد وأن يكون ملحوظا بها حال الغير ، فيدور أو يتسلسل.
ويدفعه أن تلك
المعاني لا مستقلة ولا لامستقلة ، بل معان جنسية لا بشرطية مقسمية بالنسبة الى
الاستقلال وعدمه ، وتكون مع المستقل مستقلة ومع غير المستقل غير مستقلة. ونظير هذا
التوهم جار في جميع الأجناس والفصول بل الأنواع والاشخاص ، والحل الحل كما لا
يخفى.
قوله
«قده» : في احدهما.
يعني به الاحتمال الثاني.
قوله
«قده» : وفي الآخر.
أي الاحتمال
الأول.
قوله
«قده» : وهو محال.
لامتناع الاحاطة
بغير المتناهي ، وامتناع صدور الغير المتناهي عن المتناهي ، لأن القوى الجسمانية
متناهية التأثير والتأثر.
قوله
«قده» : فمدفوع بأنه لو تم ـ الخ.
فيه : انه يمكن أن
يكون مراد القائل المذكور استفادة الخصوصية من القرائن لا على وجه الاستعمال فيها
، بل الحروف تكون مستعملة في معانيها الكلية ، والخصوصية تكون مدلولا عليها بدال
آخر ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فلا يرد عليه ما ذكره ويبطل دعوى كونها
لا تستعمل الا في المعاني الخاصة.
قوله
«قده» : واندفع عنهم الاشكالات المذكورة.
وهي انها لا
تستعمل الا في المعاني الخاصة ، وان المتبادر ليس إلّا إياها وان المعاني الخاصة
لو كانت معاني مجازية للحروف لوجد فيه خصائص المجاز.
ووجه الاندفاع :
هو أن المعاني الخاصة تكون موضوعا لها ، إلّا أن تلك المعاني الخاصة لما كان القيد
والتقييد خارجين أطلق عليها الكلي والعام ، ويكون هذا أبين من القول السابق القائل
بعموم الموضوع له على وجه لا يكون القيد والتقييد داخلين فيها ولا معتبرين فيها.
وفيه : أن هذا
النحو من التصوير ـ وان كان مندفعا عنه تلك الاشكالات ـ إلّا انه باطل في نفسه ،
لأنه كيف يعقل ادعاء كلية المقيد وعمومه وليس فيه إلّا الخلف أو الانقلاب او
اجتماع النقيضين.
قوله
«قده» : وان فرض وضعه بإزائها ـ الخ.
كتب ـ قدسسره ـ في الهامش : مثل
أن يجعل لفظ زيد اسما لكل واحد من اولاده ، فان الوضع هنا وان كان بملاحظة عنوان ـ
وهو الولادة ـ ولكن هذا العنوان ليس معتبرا في الموضوع له ـ فتأمل.
قوله
«قده» : ومن هنا يتوجه مناقشة ـ الخ.
يعني انه لما كان
المشترك بالوضع لمعانيه لا باعتبار معنى مشترك فيه وان فرض وضعه بإزائها اجمالا
بملاحظة عنوان لا يكون حيثية معتبرة في المعنى اتجهت المناقشة على تعريف المشترك
حيث اعتبر فيه تعدد الوضع ، والحال انه يمكن وقوع الاشتراك بلا تعدد في الوضع ،
كما في الصورة
المفروضة ، ولكن
لما كان ما فرضناه مجرد فرض لا واقعية له كان الامر سهلا ، اذ المناط في انعكاس
الحد وطرده هو الأفراد الواقعية دون الافراد الفرضية ، فاذا لم يشمل حد المشترك
لما ذكر من الصورة لا يقدح ولا يضر
(شبهة عويصة)
اعلم أن الصور
المحتملة باعتبار الوضع والموضوع له أربع : احدها الوضع العام والموضوع له العام ،
وثانيها كونهما خاصين ، وثالثها كون الأول خاصا والثاني عاما ، ورابعها بالعكس.
لا اشكال ولا خلاف
في إمكان الاوليين بل وقوعهما ، والمتأخرون حكموا باستحالة الثالث ووقوع الرابع.
ووجه استحالة
الاول وامتناعه أن الجزئي لا يمكن أن يتصور به الكلي فلا يعقل أن يكون مرآة
لملاحظة الكلي ، فالجزئي لا يمكن أن يجعل مرآة للكلي إلّا أن يعتبر ويلاحظ الكلي
الذي ينتزع منه فيجعل مرآة للكلي. ولا ريب في انه كما لا يمكن أن ينال بالجزئي بما هو جزئى
الكلي كذلك لا يمكن أن ينال بالكلي الجزئي بما هو جزئي ، إذ من الواضح اللائح انه
لا بد من المطابقة بين العلم والمعلوم وإلّا لم يكن العلم علما «هف» ، فاذا لم
يحصل المطابقة بين الجزئي والكلي لم يحصل في العكس من غير فرق. نعم يحصل بالكلي
العلم بالكلي المتحقق في الجزئيات والافراد دون أنفسها.
إن قلت : الافراد
وان لم تكن معلومة بعناوينها وكنهها إلّا انها معلومة بوجوهها ، وهذا المقدار من
العلم يكفي ، أليس الفرق بين العلم بوجه الشيء وبين العلم بالشيء بوجهه؟ ففيما نحن
فيه الأفراد معلومة بوجهها ـ وهو الكلي ـ لا أن الكلي معلوم دون الافراد.
قلت : الوجه قسمان
: قسم يكون الوجه خاصا مساويا لذيه ، وقسم عاما. فاذا كان الوجه خاصا مساويا يحصل
بالعلم به العلم بالشيء بوجهه ، وأما اذا كان الوجه عاما ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا
يحصل بالعلم به العلم بالشىء بوجهه ، بل ليس العلم الا علما بوجه الشىء ، ويكون
وجه الشىء في هذه الصورة واسطة في عروض العلم للشىء بحيث يصح سلبه عنه ، فاذا لم
تكن الافراد معلومة لم يكن موضوعا لها.
إن قلت : لا يحتاج
في جانب الموضوع له ـ وهو المعلوم ـ أزيد من تلك الافراد افرادا للكلي ، ولا يحتاج
الى تصورها بخصوصها ولو بالوجه
قلت : فاذن لا بد
في جانب الوضع والعلم من تصور الكلي وكونه متحققا في ضمن الأفراد ، فيتطابق الوضع
والموضوع له ، ولا معنى للتفكيك بينهما بكون الأول عاما والثاني خاصا.
هذا كله مع انه
يمكن أن يقال : إن مرادهم بالعام ـ كما هو مصرح به في بعض الكتب ـ ما لا يمتنع فرض
صدقه على كثيرين ، فيكون عاما ميزانيا لا العام الأصولي ، وحينئذ لا يجوز أن يكون
الوضع في الحروف وما يشابهها عاما بالعموم الأصولي والموضوع له أيضا عاما بالعموم
الاصولي ، بأن لاحظ الواضع في وضع كلمة «من» مثلا كل فرد فرد من أفراد الابتداء
ووضعها بإزاء كل فرد فرد ، لا انه لاحظ الابتداء الكلي ووضعها بإزاء كل فرد فرد من
الابتداءات الخاصة ، فعلى ما صورنا يكون الوضع والموضوع له أيضا متطابقين. ولعل ما
ذكرنا يكفي في ابطال ما زعمه المتأخرون بل استحالته ـ فافهم واستقم واشكر ربك
الفياض على البريات.
قوله
«قده» : فان اختلاف هيئاتها ـ الخ.
يعني ان هيئاتها
لما كانت مختلفة ـ حيث أن بعضها مفتوح العين وبعضها مصمومها وبعضها مكسورها مع عدم
قدر جامع بين ما اتفق منها ـ يكون معنى نوعيا شاملا لما اندرج تحته ، فلا جرم ولا
بد وأن يضع الواضع كل هيئة من تلك الهيئات مع مادتها المخصوصة بإزاء المعنى ،
فيكون وضعها شخصيا.
قال بعض المعاصرين
في بدائعه موردا على المصنف ـ قدسسره ـ : يمكن أن يصحح كون
الوضع فيهما وأشباههما ايضا نوعيا ـ كما يقتضيه إطلاق كلامهم في تسمية وضع
المشتقات والهيئات نوعيا بأن وجود الجهة الجامعة بين المواد ليس يلازم في كون
الوضع نوعيا ، اذ المعتبر فيه كون الموضوع صادقا على الفاظ مختلفة الحقيقة ، وهو
مع عدم الجهة الجامعة بين المواد المختلفة أيضا متحقق ، فان زنة فعل يصدق على زنة
ضرب ونصر ـ الى آخر ما على هذا الوزن من الأفعال المجردة. فللواضع أن يقول : انى وضعت هيئات
ثلاث للدلالة على الماضى. ويحيل تعيين مواردها الى مقام آخر ، فيكون كل واحدة من
تلك الهيئات حينئذ موضوعة بالوضع النوعي ، لعروضها على ألفاظ مختلفة الحقيقة التي
يعرفها اهل اللسان ، غاية الامر صيرورة الهيئات الثلاث من المترادفات. ولا ضير فيه
، إذ الترادف غير مختص بالوضع الشخصي.
وأما ثانيا ـ فلأنه
لو تم لجرى في المزيد ايضا ، لان هيئة افتعل مثلا لا ضابط لمعروضها من المواد بل
لا بد من السماع وليس بقياسي ، اذ لا يبنى من كل مجرد هذا المزيد وكذا سائر
المزيدات.
والحاصل ان القول
بأن وضع «فعل» مثلا شخصي يرجع الى أن
الواضع لاحظ كل
واحد من مصادر هذا الباب ووضع هيئة ماضيه مثلا بوضع مستقل. والقول بأنه نوعي يرجع
الى ان الواضع وضع اولا الهيئات الثلاث للدلالة على الماضي على نحو الترادف ، ثم
عين معروض كل واحدة من الهيئات ـ انتهى ما أردنا نقله.
وفيه : أن الواضع
إما أن يضع كل هيئة من الهيئات الثلاث في ضمن مواد مخصوصة أو في ضمن كل مادة او
يبقى الأمر على الإهمال ، فان كان الاول كان الوضع شخصيا ، وان كان الثانى فكان وضعا
نوعيا مع وجود الجامع ، مع كونه مخالفا للواقع ، حيث ان هيئة «فعل» بفتح العين
مثلا لم تكن موضوعة بحسب كل مادة ، وان كان الثالث كانت القضية المعقودة منه مهملة
، ولا ريب في ان المهملة في قوة القضية الجزئية التى هي لا تأبى عن الشخصية ، فهو
لا يصير وضعا نوعيا.
وبالجملة لا بد من
اعتبار امر كلي يتحقق به النوعية ، والمقصود من الجامع هو ذلك الامر الكلي ، ولا
بوجوده يصير الوضع شخصيا أو في قوته وإن قلت : إن الواضع يلاحظ الهيئة في بعض المواد الذي هو
أزيد من الواحد الذى يعينه بعد وضع الهيئة ، فيصير الوضع نوعيا.
قلت : فيه ـ مع
انه اعتراف بالجامع ـ أنه التزام بأمر زائد لم يقم عليه دليل بل هو مخالف للاصل ،
إذ هذا التصوير مستلزم لامرين الوضع وتعيين المواد ، بخلاف الوضع الشخصي الذي قال
به المصنف «قده» حيث انه ليس فيه إلّا وضع كل هيئة من الهيئات الثلاث في ضمن مواد
مخصوصة
وأما ما ذكره
المعاصر من جريان ما ذكره المصنف ـ على تقدير تماميته في المزيد فيه أيضا ـ فلا
ضير في الالتزام به ، وليس في كلام المصنف ما يدل على الاختصاص بالمجرد ، إذ
مقصوده من قوله «كالمفرد المذكر
الغائب» ـ الخ ،
التمثيل لا الحصر ، وأما قوله «في الوضع النوعي كسائر صيغ الماضي» ـ الخ ، فيمكن
أن يكون مراده من الماضى والمضارع المجردين دون المطلق منهما ـ تأمل تنل.
قوله
«قده» : وكون أفعال السجايا ـ الخ.
ربما يمكن أن يورد
عليه بأن هذا تصوير للجامع في جانب الموضوع له ، والمعتبر في الوضع النوعي هو وجود
الجامع في طرف الموضوع. ويدفعه أن المقصود كون هيئة فعل بالضم في ضمن كل مادة دالة
على السجية موضوعة لكذا ، فيكون الجامع في جانب الموضوع وإن كان بملاحظة وجود
الجامع في المعنى.
قوله
«قده» : الملحوظة تفصيلا أو اجمالا على ما مر.
الاول بناء على
كون الواضع هو الله تعالى ، والثاني بناء على كون الواضع غيره.
قوله
«قده» : فالمشتقات تدل على معانيها ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ أن وضعها بحسب
المادة والهيئة واحد ، لا أنها موضوعة بحسب المادة بوضع وبحسب الهيئة بوضع آخر ،
كما زعمه القوم.
وفيه : انه إن كان
مراده ان صيغة «فاعل» مثلا موضوع لمن تلبس بالمبدإ ـ أي مبدأ كان ـ فالمادة غير
معينة ، فتحتاج خصوصياتها الى وضع آخر ، وإن كان مراده أن صيغة «ضارب» مثلا موضوعة
لمن قام به الضرب وتلبس به فيلزم أن يكون الوضع شخصيا وقد قال ان اسم الفاعل
وضعه نوعي ، مضافا
الى أن معنى المبدأ والمادة غير معلوم ولا موضوع له فيحتاج الى وضع آخر للمادة ،
إلّا أن يقول الواضع : اني وضعت صيغة ضارب لمن قام به ما يسمى بالفارسية ب (زدن) ،
فيكون موضوعا بوضع واحد.
قوله
«قده» : بوضع واحد شخصي أو نوعي.
الاول كما في
المفرد المذكر الغائب المبني للفاعل من الماضي والمضارع المجردين ، والثاني كما في
سائر صيغ الماضي والمضارع وجملة صيغ الامر واسم الفاعل والمفعول.
قوله
«قده» : والمعروف بينهم ـ الخ.
في الفرق بين
المادة والهيئة بحسب الوضع ما لا يخفى ، لأن الهيئة ان اخذت على وجه اللابشرطية
بالنسبة الى المواد أو على وجه بشرط جميع المواد ، ويكون الوضع نوعيا يكون حال
المادة بالنسبة الى الهيئة كذلك ، وإن فرضت الهيئة بشرط لا ويكون الوضع بالنسبة
اليها شخصيا يكون المادة كذلك. وبالجملة كما أن الهيئة لا تتحقق بدون المادة كذلك
المادة لا تتحقق بدون الهيئة ، فالفرق بينهما تحكم محض إلّا أن يكون مجرد اصطلاح
قوله
«قده» : لمعارضة ما قدمناه من الاستبعاد.
حيث استبعد وضع
المواد للمعاني الحديثة مشروطا باقترانها باحدى الهيئات المعتبرة.
قوله
«قده» : لا جرم ننتقل بالعلم بأحد الامرين ـ الخ.
قال بعض المعاصرين
«قده» في بدائعه موردا عليه : لا يخفى أن قضيته الاعتراف باستفادة جزء المعنى من
جزء اللفظ ، لأن اشتراك الصيغ متعددة اذا كان فى جهة واحدة جامعة بينها ، لا جرم
يستند الانتقال الى جزء المعنى المشترك فيه الى تلك الجهة الجامعة التى هي جزء
اللفظ لا الى مجموع اللفظ ، فكيف لا يكون ذلك من باب فهم جزء المعنى من جزء اللفظ ـ
انتهى.
وفيه : انه لا
اعتراف بما انكره ولا مناقضة لما قاله ، لأن ما انكره هو الانتقال الوضعي الى جزء
المعنى من جزء اللفظ ، وما اثبته واذ عن به هو الانتقال العقلي والدلالة العقلية ،
لأن العقل اذا رأى هيئة واحدة مشتركة بين مواد مختلفة يحكم بأن معنى تلك الهيئة
واحدة وان لم يعرف معنى تلك الهيئة أصلا ولا وضعها ، وكذلك إذا رأى مادة واحدة
مشتركة بين هيئات متخالفة يحكم بأن معنى تلك المادة واحد وان لم يعرف ذلك المعنى
ولا الوضع له ، وذلك الحكم لعلمه بأن حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ،
ولذا اذا رأى العقل امرا مشتركا بين اشياء متخالفة وان لم تكن من سنخ الالفاظ
ومعانيها يحكم باتحاد ذلك المشترك المتحقق في الاشياء المتخالفة حكما ، فينتقل
اليه وليس انتقالا دلاليا وضعيا كما هو واضح.
وبالجملة المعاصر
خلط بين الدلالة العقلية والدلالة الوضعية وبين الانتقال باللفظ والانتقال من
اللفظ ، وكلام المصنف صريح فيما ذكرنا حيث قال «لا جرم ننتقل بالعلم بأحد الامرين»
ولم يقل من احد الأمر ـ فافهم.
قوله
«قده» : انه انما يتبادر عن مجموع اللفظ ـ الخ.
قال المعاصر «قده»
في بدائعه موردا عليه : وانت خبير بأنه مع بعده عن الانظار المستقيمة لا يجديه
نفعا ، لأنا نستعمل التبادر في مدلول الجزء المادي ، وندعي ان استفادة المعنى
المصدري من صيغة فاعل مثلا ليس على حد استفادة جزء معنى زيد من لفظ زيد ، بل على
نحو استفادة معنى الغلام من لفظه في تركيب «غلام زيد» ، ومعلوم أن المرجع في مثل
المقام ليس سوى الوجدان السليم ـ انتهى.
وفي قوله «مع بعده
عن الأنظار المستقيمة» وقوله «الوجدان السليم» مغالطة بالعرض وبالامور الخارجية ،
لأن من اقسامها التشنيع على المخاطب. وأما قوله «لا يجدي نفعا» فلا ريب في إجدائه بالنسبة الى
نفسه وبالنسبة الى انكاره وان لم يكن مجديا لغيره وبالنسبة الى اثباته لأنه منكر
ومثبت كما يشهد به قوله ، وليس في ذلك شهادة على تعدد الوضع بل على وحدته ـ تأمل.
قوله
«قده» : مشاركتهما فيما مر.
أي لفظا ومعنى.
قوله
«قده» : أو من حيث كونها مرادة.
ربما يمكن أن يورد
عليه بلزوم الدور ، لأن الوضع لما كان من المعاني الاضافية كان متأخرا عن المعنى ،
ولما كان المعنى مأخوذا فيه الارادة حسب الفرض كان متأخرا عن الارادة ، والارادة
من اللفظ الموضوع موقوفة على الوضع جاء الدور ، إلّا أن يقال : إن الارادة الفعلية
موقوفة على الوضع وأما
الوضع فليس موقوفا على الارادة الفعلية المحققة بل على الارادة المقدرة التي توجد
بعد وجود الوضع بالوجود المحقق ، فلا دور ـ فافهم .
قوله
«قده» : الأول إطلاق كلامهم ـ الخ.
فيه : انه لا حجية
في تصريح كلامهم فضلا عن اطلاقه ، إلّا أن يرجع الى النقل وهو ممنوع.
وقال بعض
المعاصرين في بدائعه موردا على المصنف ـ قدسسره ـ وفيه أن تحديد
الوضع لا مساس له بتحديد الموضوع له ، فالتعلق بظاهر الأول على تعيين المشخصات
الموضوع له مضحكة من القول. ألا ترى أن القائل بوضع الألفاظ للماهيات المطلقة لو
تمسك في إبطال القول بوضعها لها بشرط الوجود بظاهر قولهم في تعريف الوضع واطلاقه
كان ساقطا في انظار العلماء ، لأن مثل ذلك لا ينبغي أن يذكر أو يدون.
والعجب انه اعتذر
عن إطلاق قولهم بدلالة لفظ المعنى عليه ، فلا حاجة الى التصريح به في الحد. وظاهره
انه لو لا دلالة لفظ المعنى عليه كان التصريح به في الحد واجبا محتاجا اليه.
وفساده واضح حتى على القول بملاحظة الحيثية المزبورة في بيان معاني الألفاظ ، لأن
بيان شرائط
__________________
الموضوع له في
تعريف الوضع غير لازم ، فلو عرّف بأنه «تعيين اللفظ للدلالة على الشيء» كان
التعريف صحيحا بناء على القول المزبور ، بل الظاهر أن التصريح به في التعريف غير
صحيح ، لانه يوجب انتقاضه عكسا من حيث عدم شموله حينئذ للوضع المتعلق بذات المعنى
من دون ملاحظة الحيثية ـ انتهى.
وفيه بعد ما فيه
من المغالطة بالعرض حيث شنع كثيرا على المصنف انه لما كان محصل مرامه أن المحدد
للوضع ليس في مقام تفهيم الموضوع له حتى يتمسك باطلاق كلامه ، اذ كون المتكلم في
مقام التفهيم شرط للتمسك بالاطلاق يرد عليه انه لا بد وأن يكون في مقام تفهيم
الموضوع له ، لانه اذا كان اجزاء الحد وقيوده غير معلومة لا يعلم المراد منها لا
يحصل التعريف الحقيقي ، واذا كان في مقام التفهيم وكان المراد بالمعنى خصوص المقيد
بالارادة وأتى بالمطلق حصل الانتقاض الطردي ، فلا بد وأن يكون المراد المطلق ،
وهذا ما رامه المصنف.
ثم لا يخفى ما في
قول المعاصر حيث استظهر حصول الانتقاض الطردي لو قيد المعنى بالحيثية المزبورة ،
إذ بناء على اعتبار الحيثية في المعنى يمتنع إلغاؤها ، كما يدل عليه الوجه الثاني
حيث انه لو تم لكان دالا على كون الوضع لغوا خاليا من المرجح ، ومن الواضح امتناع
صدور الشيء بلا مرجح ، فاذا كان ممتنعا فكيف يتحقق به الانتقاض ـ فافهم.
قوله
«قده» : كما يدل عليه ظاهر معناه الأصلي.
حيث أن معنى
المعنى بحسب الاصل هو المعني والمقصود.
قوله
«قده» : فلا يصدق على المجرد عنها.
ربما امكن أن يقال
: إن هذا مناف لمذهبه ـ قدسسره ـ حيث يصرح مرارا
بخروج القيد والتقييد عن المقيد ، وحينئذ فلا يبقى من المقيد الا المطلق ، فكيف لا
يصدق على المجرد؟!
اللهم إلّا ان
يكون مراده بخروج القيد والتقييد عن المقيد عدم دخولهما فيه على وجه الشطرية لا
عدم دخولهما فيه على وجه الشرطية ، وحينئذ فلا ريب في عدم الصدق ـ فافهم.
قوله
«قده» : من الاصول المثبتة ولا تعويل عليها.
الحق حجية الاصل
المثبت في مباحث الالفاظ التي ليست حجية الاصل فيها بسبب التعبد والاخبار ، بل من
باب الظن النوعي والشخصي.
قوله
«قده» : كما في أصالة عدم النقل.
الظاهر انه مثال
للمنفي لا للنفي.
قوله
«قده» : مستند الى ما هو الظاهر من الغرض ـ الخ.
يعنى ان تبادر كون
المعنى مرادا مستندا الى القرينة ، فلا يكون علامة وخاصة للحقيقة ، اذ الداعي
والغرض ليس لاستعمال اللفظ غالبا هو التفهيم والافادة والاستعمال لغرض آخر وغاية
اخرى في غاية الندرة. ولا ريب في ان التفهيم والافادة باللفظ ملازم لكون المعنى
مرادا منه ، فاذا كان التفهيم محرزا ـ ولو بالظهور والرجحان الناشئ من الغلبة
ينسبق الى الذهن كون المعنى مرادا من اللفظ ، ومع قطع النظر عن ذلك الرجحان
والتفهيم فضلا عن اعتبار عدمهما لا ينسبق الى الذهن من اللفظ
كون المعنى مرادا
منه.
وبهذا البيان
اللائح والتبيان الواضح ظهر اندفاع ما اورده بعض المعاصرين «قده» في بدائعه موردا
على المصنف «قده» بقوله : قلت مما لا ينبغي أن يخفى على أحد هو أن سماع الالفاظ
الموضوعة بمجرده سبب لانتقال الذهن الى المعنى وارادة المتكلم اياه من دون
الاستشعار بالغرض الداعي ومنكره متعسف ، فدعوى استناد تبادر الارادة الى ملاحظة
الغرض المذكور دون اللفظ سخيفة جدا ـ انتهى.
والحاصل ان اللفظ
لا يدل على كون المعنى مرادا منه بالحقيقة والذات بل بالمجاز والعرض ، ويكون كون
المتكلم في مقام التفهيم والافادة واسطة في العروض لا في الثبوت.
قوله
«قده» : الدلالة العقلية ـ الخ.
اعلم ان الدلالة ـ
وهي العلم ـ لا بد فيها من ملازمة حتى ينتقل من احد المتلازمين الى الآخر ، اذ لا
شبهة في انه لو لم يكن لزوم لم يحصل من العلم بشيء العلم بشىء آخر اذ لا ربط
بينهما ، بخلاف ما اذا كان بينهما علقة لزوم. والعلقة اللزومية إما أن تكون بالجعل
والوضع ، وإما أن تكون بالذات ، فالعلقة إما جعلية وضعية وإما ذاتية ، وحينئذ
فيتطرق الاشكال في جعل الدلالة الطبيعة قسما آخر ، ولا ريب في أن العقل في جميع
الاقسام للدلالات انما وظيفته الدرك والنيل ، وحينئذ فيتطرق اشكال آخر بأن الطبع
والوضع ليسا مدركين بل هما جاعلان للازم وسببان بسبب العلم بخلاف العقل حيث انه
مدرك ، فتكون النسبة في الطبيعة والوضعية من قبيل نسبة الشيء الى جاعله وفي
العقلية من قبيل نسبة الشىء الى مدركه
فيحصل التفكيك في
النسبة ، بل يطرق اشكال آخر وهو انه اذا كان النظر الى المدرك فينبغي أن تسمى الكل
بالعقلية ، فالاولى أن يقال : الدلالة إما ذاتية وإما وضعية.
والذي يمكن ان
يقال في حل الاشكالات : إن العلقة إما أن تكون حاصلة بلا مدخلية لاحد من الحيوانات
ـ كما في النار والدخان ـ وإما ان تكون حاصلة معها ، وهذه إما أن تكون على وتيرة
واحدة كما فى دلالة «اخ» على التضجر حيث أن فاعل التلفظ بأخ هو طبع المتضجر ،
والطبع وان كان فاعلا بالتسخير ويكون مسخرا للنفس إلّا انه لا يصدر منه الفعل الا
على وتيرة واحدة وطريقة فاردة ، وإما أن يكون لا على وتيرة واحدة بل يختلف بحسب
اختلاف الايرادات والاشواق. فانحل الإشكال الاول وظهر وجه المقابلة.
وأما الاشكال
الثاني والثالث فيمكن أن يقال : ان المراد بالعقلية ما كان جاعل الملزوم واللازم
هو الله تعالى ، وهذا نظير انهم يقسمون السبب والشرط في مبحث مقدمة الواجب الى
شرعي وعقلي وعادي. ولا ريب في أن المراد بالعقلي هناك ما يكون سببا او شرطا بدون
مدخلية شرع أو عادة ، لان المراد به ما ادركه العقل ، فتكون النسبة في الكل على
نهج واحد ويكون النظر الى الجاعل في الكل دون المدرك.
وليعلم أن المراد
بالطبع في الدلالة الطبعية ليس طبع اللفظ ، إذ دلالة الالفاظ على معانيها ليست
ذاتية ولا طبع السامع لعدم استقامته في اصوات الحيوانات بالنظر الى السامع
الانساني ، فتعين ان يكون المراد طبع المتكلم واللافظ ـ فتبصر.
قوله
«قده» : كما هو ظاهر التعليق.
أي في قولهم «بالنسبة
الى العالم بالوضع».
قوله
«قده» : وجوابه ان العلم بالوضع ـ الخ.
يعنى ان العلم
بالوضع موقوف على العلم بالمعنى وفهمه مع قطع النظر عن اللفظ ووضعه ، وهو ليس
موقوفا على العلم بالوضع. نعم العلم بالمعنى وانفهامه من اللفظ موقوف على العلم
بالوضع ، فما هو موقوف على العلم بالوضع ليس موقوفا عليه وما هو موقوف عليه ليس
موقوفا ، فلا دور وهو واضح. إلّا أن بيانه «قده» لدفع الدور لا يخلو عن لزوم الدور
لانه قال : ان العلم بالوضع إنما يتوقف على فهم المعنى ولو من غير لفظه فحيث عمم
فهم المعنى الى كونه من اللفظ او من غيره فلا ريب في مجيء الدور في القسم الذي
يكون فهم المعنى من اللفظ ، وهو يكفي محذورا كما هو واضح. اللهم ان تكون كلمة «لو»
للتخصيص لا للتعميم ـ فافهم
قوله
«قده» : أي كون اللفظ بحيث ـ الخ.
لما كان مفهومية
المعنى صفة للمعنى لا للفظ فسره بكون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى ، ولما كان
مفهومية المعنى لازما لما هو الحد الحقيقي ـ وهو كون اللفظ بحيث الخ ـ لا انه هو
الحد ، قال : غاية الأمر أن يكون تعريفا باللازم لا انه استعمل في الملزوم ثم في
اللازم ليلزم سبك المجاز من المجاز.
ولا يخفى أن ما
تكلفه مبني على كون الحد جوابا لما الحقيقة ، وأما بناء على كونه جوابا لما
الشارحة وشرحا للاسم وحدا للفظ فلا يحتاج الى
شىء ، لكون
المقصود منه مجرد تمييز المعرف من بين المعاني المرتكزة في الخاطر.
ثم لو كان حدا
حقيقيا لا يحتاج الى ارتكاب التجوز في الكلمة ثم الانتقال الى اللازم ، بل يمكن أن
يقال : ان الفهم استعمل في معناه الحقيقي لينتقل منه الى اللازم ثم من لازمه الى
لازم لازمه ـ فتأمل.
قوله
«قده» : وجوابه أن العلم بالوضع ـ الخ.
يعنى ان العلم
المأخوذ فى حد الوضع أعم من العلم التفصيلي والإجمالي ، والعلم الموقوف على
التبادر ـ وهي الدلالة ـ هو العلم التفصيلي ، والتبادر الذي هو الدلالة ليس موقوفا
على العلم التفصيلي بل موقوف على العلم الإجمالي ، فلا دور.
والمسلم من اعتبار
العلم في حصول الدلالة هو الأعم ، ولا نسلم الانفكاك في صورة التبادر عن العلم
التفصيلي والاجمالي ، وانما المسلم انفكاكه عن احدهما وهو العلم التفصيلي لا
الانفكاك عنهما معا ، وإلّا لم تكن اللغات توقيفية لحصول الدلالة من غير علم
بالوضع ، فتكون الدلالة ذاتية.
قوله
«قده» : أو نقول المراد بالوضع هنا الاختصاص ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أن للوضع
إطلاقين : احدهما بمعنى التخصيص ، والآخر بمعنى الاختصاص. والفرق بين التخصيص
والاختصاص وان لم يكن بالذات بل بالاعتبار حيث انه من المحقق الواضح أن الايجاد
والوجود والايجاب والوجوب والتأثير والأثر متحدة ذاتا متعددة اعتبارا ، إلا أن هذا
الفرق الاعتباري يكفى لدفع الدور. فنقول : المراد بالوضع
في تعريف الدلالة
هو الاختصاص ولو بالغلبة وكون الوضع في الاختصاص مجازا مشهورا ، فالعلم بالوضع
بمعنى التخصيص موقوف على التبادر والدلالة ، والتبادر ـ وهو الدلالة ـ موقوف على
العلم بالوضع بمعنى الاختصاص الحاصل هذا العلم من المحاورات.
وفيه : انه لا ريب
ولا شبهة في أن الغرض المهم للاصولي من التبادر وغيره من العلائم هو العلم باختصاص
اللفظ بالمعنى ، دون العلم بفعل الواضع وتخصيصه ، كما يشهد به صحة السلب وعدمها
والاطراد كما لا يخفى ، فلا بد وأن يكون المراد بالوضع الموقوف علمه على التبادر
هو الاختصاص ، فبقي الدور بحاله.
مضافا الى أنه لا
ريب في أن العلم بالمعلول مستلزم للعلم بالعلة فضلا عن العلم بالشيء بأحد اعتباريه
المتحد مع اعتباره الآخر ذاتا ، حيث انه مستلزم للعلم بالاعتبار الآخر بلا شبهة ،
فاذا حصل العلم بالأثر بما هو أثر فلا محالة يحصل منه العلم بالتأثير ، وهذا واضح.
وحينئذ فاذا حصل العلم بالاختصاص من المحاورات فلا محالة يحصل منه العلم بالتخصيص
أيضا ، فلا حاجة الى التبادر.
قوله
«قده» : استقام الحد وصار التقسيم عقليا.
يعني انه بواسطة
اعتبار الحيثية في الحد صار مستقيما ، لسلامته عن انتقاضه الطردي ، كما سيتضح وجهه
عن قريب ، وبواسطة ترك اعتبارها في التقسيم صار عقليا ، إذ لو اعتبرت الحيثية فيه
يصير التقسيم هكذا : دلالة اللفظ إما أن تكون على تمام ما وضع له من حيث هو تمام
الموضوع له أولا ، والثانية إما أن تكون على جزء ما وضع له من حيث هو جزء
ما وضع له أولا.
ومن المعلوم الواضح أن كلمة «أولا» المذكورة أولا لها أفراد ثلاث : أحده ما كان
الدلالة فيه على الجزء ، والثاني ما كان الدلالة فيه على الخارج اللازم ، والآخر
ما كان الدلالة فيه على ذات التمام الغير الملحوظ فيها حيثية التمامية ولم تكن
متحيثة بها. وغير خفي أن كلمة «اولا» المذكورة ثانيا تشمل الخارج اللازم وذات
الجزء لا بما هو جزء ومتحيث بالجزئية ، وقولنا «إما أن يكون على جزء ما وضع له من
حيث هو جزء ما وضع له» دال على الجزء بما هو جزء ، فبقي ذات التمام لا يشمله
التقسيم الثاني.
وببيان آخر لعله
يكون أوضح : إن التقسيم الثاني ايضا لا بد وان يكون حاصرا لجميع أقسام الشق الثاني
من التقسيم الأول بحيث لا يشذّ منه شىء ومن المعلوم أن التقسيم الثاني لا يشمل إلا
الدلالة على الجزء بكلا اعتباريه ـ أي ذات الجزء ، والجزء بما هو جزء ، والخارج
اللازم ، وبقى من أقسامه القسم الاخير ، وهو ما كانت الدلالة فيه على ذات التمام ،
فلم يكن التقسيم حاصرا عقليا كما هو واضح.
قوله
«قده» : وإنما اعتبرنا الحيثية تعليلية.
توضيحه : هو ان
الحيثية على ثلاثة أقسام :
«الاول» ـ الحيثية
الاطلاقية ، وهي التي يكون المقصود من التحيث بها بيان الاطلاق والارسال والتعرية
من القيود ، وهي المستعملة في قولهم «الماهية من حيث هي ليست إلّا هي» ، إذ
المقصود أن الماهية اذا لوحظت في حد نفسها وحريم ذاتها ولم يلحظ معها شىء لم يكن
الا نفسها ، وصح سلب جميع ما عداها عنها.
«والثاني» ـ الحيثية
التعليلية ، وهي التي يكون المقصود منها بيان
علة الشيء ، كما
يقال «الثوب أبيض من حيث صنعة القصار» أي صنع القصار صار سببا وعلة لبياض الثوب.
«والثالث» ـ الحيثية
التقييدية ، وهي التي يكون المقصود منها بيان تقييد الشيء ، كما يقال «الثوب من
حيث أنه أبيض مفرق لنور البصر» فانه في قوة أن يقال : الثوب الابيض كذا ، فالمقصود
أن الثوب وإن لم يكن فى حدّ ذاته مفرقا لنور البصر إلا أنه بواسطة تقييده بالبياض
وتحيثه به مفرق له.
فاذا تقرر هذا
واتضح فيقال : إن الحيثية التقييدية لما كانت غير مجدية في دفع الانتقاض الطردي
الحاصل فى حدود الدلالات ، إذ يصدق على الدلالة على ضوء الشمس مثلا المقيدة بكون
تلك الدلالة اللفظ على تمام ما وضع له أنها مقيدة بكونها دلالة على جزئه أو لازمه
حيث يكون جزءا ، كما اذا وضع لفظ «الشمس» للضوء والجرم ، أو يكون لازما أيضا كما
اذا وضع لفظ «الشمس» للجرم فقط ، فيبقى الانتقاض الطردى بحاله ، فلا جرم اعتبرت
الحيثية التعليلية. ولما كان اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد الشخصي
مستحيلا ممتنعا فلا جرم لا يحصل إلّا احدى العلل ، فلا يحصل إلّا احدى الدلالات ،
فلا يحصل الانتقاض الطردي كما هو واضح. هذا محصل مرامه ومنقح كلامه.
وفيه : انه لا ريب
في أن المقصود هو تحديد المطابقة والتضمن والالتزام التي هي أمور واقعية دون
التسمية ، وان كان ربما يوهمه ظاهر قوله «ويسمى الاولى» ، وحينئذ فلا وجه لاخذ
الحيثية تعليلية لان الحد عين المحدود والحمل المعقود بينهما هو الحمل الاولى
الذاتي دون الشائع الصناعي العرفى. ومن البين أن ذاتي الشيء بين الثبوت له والذاتي
لا يعلل
وثبوت الشيء لنفسه
ضروري وسلبه عن نفسه محال ، والضرورة والامتناع مناط الغنى عن العلة ، إذ العلة
المحوجة الى العلة هي الامكان ، وهذا ظاهر.
ومع الغض عن ذلك
نقول : لا شبهة ولا ريب في أن بين الدلالة على الكل المقيد بكونه كلا وبين الدلالة
على الجزء المقيد بكونه جزء وبين الدلالة على اللازم المقيد بكونه لازما تضادا لا
يعقل أن تجتمع في لفظ واحد في زمان واحد من جهة واحدة ، وان لم يكن تضاد بين
الدلالة على ذات الكل والجزء واللازم كما هو واضح ، وحينئذ فيجوز أن تؤخذ الحيثية
تقييدية.
ويدفع الانتقاض
الطردي بمثل ما دفعه ـ قدسسره ـ به بناء على اخذ
الحيثية تعليلية ، فيقال : لما كان اجتماع المتضادين ممتنعا مستحيلا فلا يحصل من
هذه الدلالة المتضادة إلّا احداها ، فلا يحصل الانتقاض الطردي مثل ما قال «قده» من
أنه لما كان اجتماع العلل على معلول واحد محالا فلا يحصل الا علة واحدة ولا يحصل
إلّا دلالة فاردة. فالحق أن اخذ الحيثية تقييدية لا يرد عليه ما اورده «قده» عليه
، لانه لا ريب فى انه لا يصدق على الدلالة المقيدة بكونها دلالة اللفظ على تمام ما
وضع له انها دلالة اللفظ المقيدة بكونها دلالة على جزئه أو لازمه ، سواء أريد
بالصدق الصدق الناشئ من الحمل الاولي الذاتي أو الحمل الشائع الصناعي : أما على
الاول فللزوم أن يكون الشيء غير نفسه ، والحال أن ثبوت الشىء لنفسه ضروري ولسلبه
عن نفسه محال. وأما على الثاني فللزوم أن يصدق أحد المتقابلين والضدين على الآخر
بذلك الحمل ، والحال أن قضية التقابل والتضاد هو امتناع اجتماعهما بحسب التخلل
فضلا عن اتحادهما بحسب الحمل.
وبعبارة أخرى :
يمتنع حمل الاشتقاقي فيهما فكيف بالحمل المواطاتي.
نعم لا استحالة في
حصول الدلالة على ذات الكل والجزء واللازم في زمان واحد ، فما ذكره «قده» مغالطة
ناشئة من اشتباه ما بالعرض بما بالذات واشتباه العارض بالمعروض. بل إنا نقول : لا
حاجة الى اخذ الحيثية أصلا بعد ما اعتبر تمام ما وضع له او جزئه أو لازمه ، إذ
الحيثية مأخوذة فلا يحتاج الى اخذها مرة اخرى وإلّا لتسلسلت الحيثيات أو دارت كما
هو واضح.
نعم لو قيل :
دلالة اللفظ على شيء أو على معنى احتيج الى اعتبار الحيثية ، وهذا نظير أن يقال :
الثوب مفرق لنور البصر حيث انه يحتاج الى التحييث ، اذ لا ريب في أن الثوب ليس
بمفرق لنور البصر ما لم ينضم اليه حيثية البياض ، فيقال : الجسم من حيث انه أبيض
مفرق لنور البصر وهذا بخلاف ما اذا قيل : الجسم الابيض مفرق لنور البصر ، حيث
يمتنع التحييث للزوم الترجيح بلا مرجح او الدور أو التسلسل.
وبوجه آخر نقول :
إن وصف الكلية والتمامية والجزئية واللزوم إما أن يعتبر معرفا فلا يجدى في دفع
الانتقاض الطردي وان اخذ مرة بعد أخرى وكرة غب أولى ، إذ لا يختلف ذات الموصوف ولا
تتعدد بتعدد الصفات ولا يتكثر المعرّف ـ بالفتح ـ بتكثر المعرّفات ـ بالكسر ـ كما
هو واضح. وإما أن يعتبر عنوانا وقيدا فيحصل الاختلاف ويحصل الغرض ويندفع الانتقاض
الطردي ، فلا يحتاج الى التحييث.
وقد ظهر مما ذكرنا
اندفاع الانتقاض الطردي الذي مرجعه الى كون الشيء غير نفسه واشكال اجتماع
المتقابلين والضدين في الدال وهو اللفظ ، وبقي اشكال آخر في المدلول وهو المعنى ،
حيث أن الكلية والتمامية والجزئية واللزوم من الاضافات ، وبين التمام والجزء تضايف
وكذا بين الملزوم واللازم ، والمتضايفان لما كانا من صنوف المتقابلات فلا جرم
يستحيل
اجتماعهما في
موضوع واحد ، فكيف يعقل أن يكون معنى واحد تماما وجزءا ولازما.
والجواب : ان
الممتنع هو اجتماع المتضايفين من حيثية واحدة ، وأما اذا كان من حيثيات متعددة
مختلفة فلا استحالة فيه ، كما فيما نحن فيه كما هو ظاهر ـ فافهم إن كنت من أهله.
قوله
«قده» : لكنها لا تستند الى الجميع ـ الخ.
كتب ـ قدسسره ـ في الهامش :
والمراد أن دلالة واحدة لا تستند الى علل عديدة ، بل إما أن تستند الى واحدة منها
اذا اتحدت أو المجموع الملتئم من اثنين منها أو الثلاث اذا اجتمعت ، لأن العلل متى
اجتمعت ، صارت علة واحدة ، فتخرج عن كونها علل متعددة. وأما اذا قلنا بأنها معرفات
ـ أي علامات للمعاني ـ فيجوز أن تجتمع علل عديدة منها على معلول واحد ، فلا تصير
علة واحدة بل تبقى على صفة تعددها. ولك أن تقول : إن العلامات علل إعدادية للعلم
بالشىء فلا يجوز أن يستند العلم إلا الى واحدة منها أو المجموع ـ انتهى.
ولا يخفى ما فيه ،
لأن البرهان على استحالة توارد العلل المتعددة على معلول واحد شخصي هو أنه إما أن
يعتبر في العلة هذه الخصوصية فلا تكون تلك العلل ، أو تعتبر تلك الخصوصية فلا تكون
هذه علة ، أولا تعتبر الخصوصيات فيكون القدر المشترك هو العلة ، وهذا كما ترى لا
فرق فيه بين صورة الانفراد والاجتماع ، ولا فرق بين التعاقب والتبادل والاجتماع
فاذا كان في صورة الانفراد والاتحاد شيء بخصوصية علة فلا تكون العلة في صورة
الاجتماع الا إياه بخصوصه ، فيكون غيره في جنبه كالحجر
الموضوع بجنب
الإنسان ، واذا كان ذلك الشيء علة لا باعتبار خصوصية بل باعتبار القدر المشترك
بينه وبين غيره فلا تكون العلة الا ذلك القدر المشترك ، من غير فرق بين الاجتماع
والانفراد.
هذا كله مضافا الى
لزوم الانقلاب في قوله «لأن العلل متى اجتمعت صارت علة واحدة» لأنها اذا كانت
بخصوصياتها عللا فكيف تصير علة واحدة ، ولو اعتبرت عليتها باعتبار الجامع والقدر
المشترك فهو واحد لا أنه يصير واحدا ـ تأمل.
قوله
«قده» : فنلتزم حينئذ بخروج ـ الخ.
يعني حين صيرورة
العلل عند الاجتماع بمنزلة علة واحدة أو كونها معرفات يجوز تواردها على محل واحد ،
نلتزم بخروج مثل هذه الدلالة الحاصلة من العلل عن الحدود الثلاثة ، فلا تصدق تلك
الحدود الثلاثة عليها حتى ينتقض طرد كل واحد منها بصدقه على الفرد الذي يصدق عليه
الحد الآخر ويكون من أفراده.
ووجه خروج مثل هذه
الدلالة أن الغرض تحديد الدلالات التي يصح الاستعمال بحسبها ، فكأنه قيل في الحد :
الدلالة التي يصح الاستعمال بحسبها إن كانت كذا فتكون كذا وإن كانت كذا فتكون كذا.
فيخرج مثل هذه الدلالة ، إذ لا يصح الاستعمال بحسبها ، إذ الاستعمال بحسبها مستلزم
لاستعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد وهو غير جائز ، فاذا خرجت عن الحدود كلها
فتكون سليمة عن الانتقاض الطردي.
ولا بأس بخروجها
عن الحدود الثلاثة مع دخولها في التقسيم ، لأن الغرض من الحدود هو الدلالة الخاصة
التي يصح الاستعمال بحسبها ، بخلاف
التقسيم الملحوظ
فيه مطلق الدلالة ، ويكون المنع فيه منع الخلو لا منع الجمع ـ فتبصر وتأمل تنل.
قوله
«قده» : والجمهور لما حاولوا ـ الخ.
يعني إن الجمهور
لما حاولوا الجمع بين التقسيم والتعريف في ذكر الحيثية وإهمالها فمنهم من اعتبرها
فيهما ومنهم من اهملها فيهما. ويحتمل أن يكون المراد محاولة الجمع بين التقسيم
والتحديد فى ذكرهما.
قوله
«قده» : وربما تفصى بعضهم ـ الخ.
وجه التفصي هو أنه
بعد ذكر الحيثية في القسمين الأولين وتركها في الأخير يكون ذات التمام وذات الجزء
واللازم مطلقا أى سواء كان مأخوذا متحيثا أم لا ـ كلها داخل فى القسم الأخير ، وهو
قولهم «أخيرا» ، أولا فيكون الحصر عقليا لا يشذ منه شيء ، بخلاف ما اذا اعتبرت
الحيثية في القسم الأخير أيضا ، فيخرج ذات التمام وذات الجزء ، فلا يكون الحصر
عقليا.
قوله
«قده» : زعما منه أنه لا حاجة اليها ـ الخ.
لعلك تقول : إن
الكلام في ترك قيد الحيثية فيما عدا الأولين في ذكر الأقسام لا في بيان الحد
والتعريف ، فلا وجه لقوله «لا حاجة اليها» في صحة التعريف.
لكنه مندفع بأن
المقصود لما كان الجمع بين التقسيم والتعريف فى اعتبار الحيثية وإهمالها فلا جرم
إذا أهمل ذكر الحيثية في القسم الأخير في التقسيم ، فيهمل فيه في التعريف أيضا.
قوله
«قده» : لورود الاشكال عليه ـ الخ.
مقصوده ـ قدسسره ـ هو أنه لو ترك
اعتبار الحيثية في القسم الأخير وهو دلالة الالتزام لصدق حده على القسمين الأولين
فى الفرض الآني وهو ما إذا كان اللفظ مشتركا بين اللازم والملزوم والمجموع ـ إذ
يصدق على الدلالة المقيدة بكونها دلالة على تمام ما وضع له والدلالة المقيدة
بكونها دلالة على جزء ما وضع له أنها دلالة على اللازم ، فيحصل الانتقاض الطردي في
حدّ دلالة الالتزام.
قوله
«قده» : ولا خفاء في ورود الإشكال عليه ـ الخ.
فيه : أنه اذا
استعمل اللفظ في الجزء مثلا باعتبار وضعه له مثلا لا يصدق عليه حدّ الالتزام ، إذ
لا يكون المستعمل فيه تحت تلك الإرادة الاستعمالية لازما. نعم يكون لازما في
استعمال آخر ، وذات اللازم في هذا الاستعمال ، فالمغالطة ناشئة من اشتباه العارض
بالمعروض وما بالعرض بما بالذات ـ فافهم.
قوله
«قده» : حتى انهم صرحوا بجواز اجتماع الدلالات الثلاث ـ الخ.
وبناء على كون
المقسم هو الدلالة الاستعمالية لا تجتمع الدلالات الثلاث فى الصورة المفروضة ، إذ
المفروض أن الانسان مثلا لم يستعمل الا في الحيوان الناطق ، فلا تكون المطابقة
إلّا اذا استعمل اللفظ فى تمام ما وضع له ، ولا التضمن إلا إذا استعمل في جزء ما
وضع له ، ولا الالتزام إلّا اذا استعمل فى الخارج اللازم.
قوله
«قده» : والفاضل المعاصر وجّه الجواب ـ الخ.
اعلم أنه لا بد أن
يعلم الفرق بين ما أجاب به الجمهور عن الانتقاض الطردي وما أجاب به المحقق الطوسي
والحكيم القدوسي «قده» ، وهو أن الجمهور لما جعلوا المقسم مطلق الدلالة الوضعية
وإن لم يكن اللفظ مستعملا في معنى فلا جرم تحصل الدلالات الثلاث في المشترك
المفروض ، فتكون دلالة واحدة مجمعا للدلالات الثلاث ، فتكون الدلالات الثلاث متحدة
ذاتا فيكون مع كونها مصداقا لواحدة منها مصداقا لغيرها ، فيحصل الانتقاض الطردي ،
فتفصوا عنه باعتبار الحيثية ، فالدلالات المزبورة ـ وإن كانت متحدة ذاتا ـ إلّا
انها متعددة اعتبارا وحيثية ، وهذا المقدار يكفى لدفع الانتقاض.
ونحن ـ وإن
شاركناهم في كون التعدد بالاعتبار لا بالذات ـ الا أنا ذكرنا سابقا انه لا يحتاج
الى ذكر الحيثية والتقييد بها بعد ما جعل العنوان تمام ما وضع له أو جزئه أو
لازمه.
وأما المحقق
الطوسي ـ قدسسره القدوسي ـ فلما جعل المقسم الدلالة الاستعمالية التابعة
للارادة ، ومن المعلوم أن اللفظ لا يستعمل إلّا في معنى واحد فلا يحصل إلا دلالة
واحدة ، فلا يكون فرد من الدلالة مجمعا للدلالات ، فالتكثر والتعدد ذاتي لا
اعتباري.
وأما الفرق بين ما
بيّن به المصنف «قده» مرام المحقق الطوسي «قده» وبين ما وجه به المحقق القمي «قده»
مرامه هو : ان المحقق القمي جعل الدلالة التضمنية والالتزامية من الدلالات التبعية
الغير المستقلة ، ويكونان مدلولين ومرادين بالارادة الغير المستقلة ، فيكون مراد
المحقق الطوسى «قده» من قوله لإيراد معناه التضمني الارادة المستقلة ومن قوله يدل
الدلالة
المستقلة ، وأما
الارادة التبعية الغير الاستقلالية والدلالة كذلك بالنسبة الى التضمن فهما حاصلتان
، وجعل مبنى التفصي لزوم الجريان على قانون الوضع وعدم جواز استعمال اللفظ في اكثر
من معنى واحد ، فاذا لم يستعمل الا في معنى واحد ، فاذا كان ذلك المعنى المستعمل
فيه هو الكل حصل الدلالة التضمنية بالنسبة الى الجزء لا غير ولا يكون مطابقة فيه ،
اذ هي موقوفة على الاستعمال فيه ، والمفروض عدم جواز الاستعمال في اكثر من معنى
واحد ، ولا يكون التزاما فيه أيضا ، إذ كونه التزاما موقوف على الاستعمال في
الملزوم ، والمفروض عدمه وعدم جوازه.
وأما المصنف «قده»
فجعل الدلالة التضمنية والالتزامية من الدلالات المستقلة المرادة بالإرادة
المستقلة ، فيكون المراد من الدلالة والارادة في كلام المحقق الطوسي «قده» الدلالة
والارادة الاستقلاليتين الحاصلتين في جميع أقسام الدلالة ، وأما الدلالة التبعية
والارادة الغير الاستقلالية ، فهما منتفيان قطعا من غير حاجة الى بيان انتفائهما
بعد ما جعل التضمن والالتزام من الدلالات المستقلة ، ولم يتشبث المصنف في بيانه
بذيل عدم جواز استعمال اللفظ فى اكثر من معنى واحد ولزوم الجري على طبق قانون
الوضع.
وأنت خبير بأنه لا
بد من التعلق والتمسك بعدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ، إذ بناء على
جوازه يجوز أن يستعمل اللفظ المشترك المزبور في استعمال واحد في معانيه الثلاثة ،
فيحصل الانتقاض ولا يكون تكثر ذاتي وتعدد فردي ، فلا بد من اعتبار الحيثية.
والفاضل المعاصر
بعد ما ذكر في بدائعه ما اعترض به التفتازاني على المحقق الطوسي «قده» ـ من أن كون
الدلالة وضعية لا تقتضي أن تكون تابعة للارادة ، لأن العلم بالوضع سبب للانتقال
الى الموضوع له سواء
أراده اللافظ أم
لا ، ومن أن القول بالتبعية يستلزم القول بامتناع اجتماع الدلالات الثلاث ، ضرورة
عدم جواز إرادة المعنيين فى استعمال واحد ، فيمتنع اجتماع الدلالتين مع أن التضمن
والالتزام يستلزمان المطابقة ، ومن أنه غير مقيد في المقام ، لأن اللفظ المشترك
بين الجزء والكل اذا أطلق وأريد به الجزء لا يظهر انه مطابقة أو تضمن ، وأيهما
أخذت يصدق عليه تعريف الآخر ، وكذا المشترك بين الملزوم واللازم ، فظهر أن التقييد
بالحيثية مما لا بد منه ـ
(ذكر محصل ما ذكره
المحقق القمي «قده»). ثم قال ولعل ما ذكره «قده» لا يشفي الغليل ولا يعالج به
العليل ولا يندفع به إيراد التفتازاني وليس بمراد للمحقق الطوسي :
«أما أولا» فلأن
التضمن والالتزام على ما ذكره ينبغي أنا يكونا خارجين عن قانون الوضع ، لعدم
كونهما مقرونين بالارادة ، مع أن الكل أو الجل عدوهما من الدلالات الوضعية ولو
بملاحظة العقل فيها ، وإن عمم الإرادة الى ما يشمل الارادة الاجمالية ، فمع أن في
كلماته تصريحا بخلاف كما يظهر للناظر ، يرد حينئذ امتناع اجتماع الدلالات الثلاث
كما لا يخفى ـ فافهم.
وكتب فى الهامش في
وجه الأمر بالفهم : انه اشارة الى وجه الورود وأنه ورود إلزامي لا واقعي ، وهو أن
مقتضى تبعية الدلالة للارادة ومقتضى عدم جواز اجتماع فردين من الدلالة المقرونة
بالارادة مع تعميم الارادة لما يشمل الاجمالية هو عدم جواز اجتماع التضمن مع
المطابقة ، إذ المفروض أن الارادة الاجمالية كافية في صيرورة الدلالة من الدلالات
المعتبرة ، والمفروض أيضا عدم جواز اجتماع الدلالتين الجاريتين على قانون الوضع
كما هو مصرح به في القوانين.
ثم ذكر في المتن :
«وأما ثانيا» ـ فلان
الإشكال ليس هو تصادق الدلالات في مادة واحدة ، كيف وهو غير معقول على جميع
المذاهب في حدود الدلالات ، بل الاشكال هو صدق تعريف بعضها على الآخر. ومن الواضح
أن تبعية الدلالة للارادة بالمعنى الذي ذكره «قده» ، ومحصله : عدم جواز استعمال
اللفظ المشترك بين الكل والجزء فيهما باستعمال واحد لا ينسجم به شىء من تلك الردود
على الطوسي «ره» عدا الأول ، أما الثاني فلأن الدلالات التضمنية من الدلالات
المعتبرة الجارية على قانون الوضع اتفاقا ، وكل دلالة تكون كذلك فهي عنده مشروطة
بالارادة ، وقد ذكر أن الارادتين لا يجتمعان في لفظ ، فيلزم أن لا يجتمع فردان من
الدلالة المعتبرة فى لفظ واحد ، سواء منعنا استعمال المشترك في المعنيين أو جوّ
زناه ، إذ لا مساس لهذه المقدمة بالمقام وهو المحذور ، ودفع هذا المحذور لا يتيسر
إلّا بالرجوع عن احدى المقدمتين : إما مقدمة التبعية ، او امتناع اجتماع الارادتين
في لفظ واحد ، والأول خلاف أصل المجيب والثاني خلاف أصل الموجه ، مع أن منع الأخير
يوجب القول بجواز استعمال المشترك في المعنيين. ودعوى أن حديث التبعية انما يلاحظ
في المداليل المطابقية دون التضمنية والالتزامية ـ كما صرح به «قده» دفعا للايراد
المذكور ـ تأويل في كلام المجيب من غير دليل وتخصيص من غير مخصص ، مع أن هذه
الدعوى ـ كما سنبين ـ كافية في حسم الإشكال من رأسه ، اعني اختلال حدود الدلالات
من غير توسيط ما بنى عليه تحقيق المقام من عدم جواز استعمال المشترك في المعنيين
فالتعلق به مقدمة مستدركة.
«وأما الثالث» ـ فلان
المشترك بين الكل والجزء اذا استعمل في
الجزء استعمالا
مقرونا بالارادة فان كان الاستعمال باعتبار وضع اللفظ بإزائه كانت الدلالة عليه
مطابقة ، مع انه يصدق عليها أنها دلالة اللفظ على جزء الموضوع له دلالة مقرونة
بالارادة.
فان قيل : إن
ارادة المعنى من حيث كونه موضوعا له غير ارادته من حيث كونه جزءا له ، والمعتبر في
التضمن هو الثاني ، فهو كرّ على ما فرّ ، لأن مرجع ذلك الى الاستراحة عن النقض
لقيد الحيثية ، غاية الأمر إن المشهور حملوها قيدا للدلالة وجعلها «قده» قيدا
للارادة.
والعجب انه «قده»
أجاب عن هذا الايراد بأنا نلتزم أن دلالة اللفظ على الجزء اذا استعمل فيه مطابقة
وفاقا للمحقق الشريف ، مع أن مجرد ذلك غير مفيد ، اذ المفيد صون الاستعمال على هذا
الجزء عن صدق التضمن عليه.
ثم قال المعاصر «قده»
: والتحقيق فى توجيه ما ذكره المحقق الطوسي «ره» فى المقام أن يقال : إنه قد جرى
في التضمن والالتزام على اصطلاح علماء البيان ، حيث أن الدلالة الوضعية عندهم
مختصة بالمطابقة فيجعلون الدلالة على الجزء واللازم من الدلالات العقلية المحضة.
وتقسيم الدلالة الوضعية الى الثلاثة مبني على اصطلاح أهل الميزان ، وحينئذ نقول :
إن الدلالة الوضعية عنده منحصرة في المطابقية ، والدلالة الوضعية لا بد أن تكون
مقرونة بالارادة ، فالدلالة المطابقية خاصة لا بد أن تكون مقرنة بها ، فكل دلالة
ناشئة من العلم بالوضع إن كانت مجامعة للارادة كانت مطابقة وإلا كانت عقلية محضة
كدلالة الصورة على المصور ، وبذلك تستقيم حدود الدلالات من غير انتقاض ، لأنه اذا
استعمل اللفظ المشترك بين الكل والجزء في الجزء باعتبار وضعه له كانت الدلالة عليه
مطابقة ولا يصدق عليه التضمن لكونه دلالة على الجزء في ضمن الكل لا مطلقا ، واذا
استعمل في الكل
كانت الدلالة عليه
بالتضمن ولا يصدق عليه المطابقة ، إذ المفروض عدم كون ذلك الجزء مرادا للافظ ، فلا
يكون مطابقة ، إذ ليست المطابقة مطلق الدلالة على الموضوع له بل الدلالة الخاصة
المقرونة بالارادة ، فدعوى انه يصدق عليها دلالة اللفظ على تمام الموضوع له ساقطة
بعد اعتبار كون الدلالة من الدلالة المعهودة وهي الجارية على قانون الوضع المقرونة
بالارادة وهكذا الكلام في اللفظ المشترك بين الملزوم واللازم ـ انتهى.
وفي جميع ما ذكره
نظر :
أما فيما ذكره
أولا فلأنا نختار أن الارادة المعتبرة فى الدلالة أعم من التفصيلية والاجمالية.
وبعبارة أخرى : اعم مما بالذات وبالعرض والتبع ففي المطابقة تتحقق الارادة
التفصيلية والارادة بالذات ، وفى التضمن والالتزام تتحقق الاجمالية وبالعرض
والتبع.
قول المعاصر : «إن
فى كلمات المحقق تصريحا بخلافه». فيه : أنه ليس في كلامه ما يتوهم منه هذا إلا
انكاره «قده» جواز إرادة الجزء واللازم بتقريب أن الارادة لو كانت أعم ففي مورد
النفي والسلب لا بد وأن يكون المنفي والمسلوب هو الأعم ويكون السلب سلبا كليا ،
فلا تتحقق في التضمن والالتزام الارادة اصلا حتى الاجمالية والعرضية التبعية ، إذ
الإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلي وينافيه ، ولكن هذا التوهم مندفع بأن مقصوده «قده»
هو إنكار خصوص الدلالة التفصيلية والذاتية دون الأعم ، لأن مقصوده هو إنكار
المطابقة بالنسبة الى ذلك الجزء أو اللازم بعد تحقق التضمن والالتزام ، وهو يحصل
بانكار لازمها المساوي لها ، وهو خصوص التفصيلية والذاتية ، ولا يحتاج الى انكار
اللازم الأعم وهو مطلق الإرادة ، كما لعله ظاهر غاية الظهور.
وقول المعاصر «انه
يرد حينئذ امتناع اجتماع الدلالات الثلاث».
فيه : انه لا يرد
لا واقعا ولا إلزاما فليس ما ذكره برهانا ولا جدلا ، إذ الارادة المصححة للدلالة ـ
وإن كانت أعم ـ إلّا أن الارادتين الممتنع اجتماعهما هما خصوص التفصيليتين
الذاتيتين المتحققتين في المطابقتين لا الارادة التفصيلية الذاتية والعرضية
التبعية الاجمالية.
وبعبارة اخرى :
الممتنع هو اجتماع الارادتين اللتين يكونان في عرض واحد يتحقق الاستعمال فيهما
وبالنسبة اليهما ، دون الارادتين الطوليتين اللتين لا يتحقق الاستعمال إلا بالنسبة
الى احداهما.
وأما فيما ذكره
ثانيا ـ فلأن الاشكال ليس إلّا في تصادق الدلالات في مادة واحدة.
قوله «كيف وهو غير
معقول». فيه : انه ليس محذور الانتقاض الطردي الا كون الشيء غير نفسه واجتماع
المتقابلين ، فعدم المعقولية محقق للاشكال ومؤكد له لا انه ينافيه.
قوله «بل الاشكال
صدق تعريف بعضها على الآخر». ليت شعري ما ذا تصور من صدق تعريف بعضها على الآخر.
ومن الواضح انه لا معنى له الا كون فرد واحد ومورد فارد مصداقا لهما ومجمعا
لتصادقهما.
قوله «أما الثاني
فلأن الدلالات التضمنية» الى آخره. فيه : انه قد ظهر مما ذكرناه آنفا أن الممتنع
هو اجتماع الارادتين التفصيليتين الذاتيتين دون التفصيلية الذاتية والعرضية
الاجمالية. نعم لو كانت العرضية الاجمالية عرضية اجمالية لتفصيلية ذاتية اخرى
فيرجع الأمر الى اجتماع التفصيليتين الذاتيتين الملازمتين لاستعمال اللفظ في اكثر
من معنى ، فيمتنع. وبالجملة فلا وجه للامتناع المزبور الا لزوم استعمال اللفظ في
اكثر من معنى ، فهذه المقدمة
ـ اي لزوم استعمال
اللفظ في اكثر من معنى ، واحد لها المدخلية التامة في المرام بل الواسطة في اثبات
المطلب والتفصي ، فمن العجب جعل المعاصر إياها مستدركة غير ماسة بالمقام.
وقد ظهر مما ذكرنا
ما في قوله «إلّا بالرجوع عن احدى المقدمتين» إذ لنا مع عدم الرجوع عنهما والاذعان
بامتناع اجتماع الارادتين القول باجتماع الدلالات الثلاث ، إذ هي طولية بعضها
ذاتية وبعضها عرضية ، والممتنع انما هو ما كان فى عرض واحد وكان كلها ذاتيا
تفصيليا.
وظهر أيضا ان منع
اجتماع الارادتين الطوليتين لا يوجب القول بجواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى.
وظهر أيضا ان
مقصود المحقق القمي «قده» ليس تخصيص تبعية الدلالة للارادة بالمطابقة ـ كما زعم
المعاصر ـ بل مقصوده تخصيص الدلالة المستقلة التفصيلية الذاتية بالمطابقة ، فلا
يكون تخصيصا بلا مخصص.
وأما ما حسبه
كافيا في دفع الاشكال من غير التمسك بعدم جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد
فسيجيء ما فيه عن قريب.
قوله «مع انه يصدق
عليها انها دلالة اللفظ على جزء الموضوع له دلالة مقرونة بالارادة» فيه : انه كيف
يتحقق الاقتران بالارادة والحال أن الارادة المتحققة فى الدلالة المفروضة ـ التي
هي تضمنية ـ لا بد وأن تكون تبعية عرضية لارادة مستقلة ذاتية متعلقة بالكل ، فيلزم
اجتماع الارادتين المستقلتين وجواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. وان أراد
المعاصر صدق دلالة اللفظ على جزء الموضوع له دلالة مقرونة بالارادة في استعمال آخر
فلا محذور كما هو واضح.
ثم العجب كل العجب
من تعجبه من المحقق القمي «قده» حيث
أجاب عن اشكال
الانتقاض فيما اذا استعمل اللفظ في الجزء بأنا نلتزم بأنه مطابقة بأنه غير مفيد مع
صدق حد التضمن عليه. لأنه قد ظهر مما ذكرنا آنفا انه لا يصدق عليه حد التضمن أصلا
لاستلزامه استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. وليس مقصود المحقق القمي «قده» فى
الجواب هو انه مطابقة وإن صدق عليه حد التضمن ، بل مقصوده هو أنه مطابقة لا غير ،
كما يظهر من إحالته على ما تقدم منه «قده».
وأما ما جعله
المعاصر تحقيقا فى توجيه كلام المحقق الطوسي «قده» ففيه مع بعد جريه على مصطلح أهل
البيان حيث انه «قده» ليس ببياني يحمل كلامه على مصطلحهم بل هو ميزاني لا بد وأن
يحمل كلامه على مصطلحهم ، إذ لا بد وأن يحمل لفظ كل متكلم على مصطلحه ـ انه لا
يجدي في رفع الانتقاض الطردي أصلا ما لم ينضم اليه عدم جواز استعمال اللفظ في اكثر
من معنى واحد ، لأنه لو جاز استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد واستعمل اللفظ
المشترك بين الجزء والكل في الجزء مثلا باعتبار وضعه يكون مطابقة ، ويصدق عليه
التضمن أيضا لو كان اللفظ مستعملا في الكل أيضا.
قوله «ولا يصدق
عليه التضمن لكونه دلالة على الجزء في ضمن الكل لا مطلقا». قلنا : الدلالة في ضمن
الكل حاصلة ، وهكذا في البواقي.
والذي يخالج ببالي
القاصر وذهني الفاتر في بيان مرام المحقق الطوسي ـ قدسسره ـ هو أن مراده «قده»
بالقصد والارادة فى قوله : «إن اللفظ لا يدل بذاته بل بالقصد والارادة» هو قصد
الواضع وإرادته ، فيكون مقصوده أن دلالة الألفاظ لما لم تكن ذاتية بل بالجعل
والوضع كانت تابعة لما اراده الجاعل والواضع وتعيينه وجعله ، فاذا حصلت الدلالة في
المشترك المفروض من ملاحظة وضعه للجزء مثلا حصلت المطابقة ، وان حصلت
الدلالة فيه من
ملاحظة وضعه للكل وإرادة الواضع الكل حصلت الدلالة التضمنية. ولا ريب فى أن
الدلالة والانتقال الثاني شخص آخر مغاير للدلالة والانتقال الأول ، ولذا ينفك
احدهما عن الآخر في الوجود ، والانفكاك دليل المغايرة ، فاذا حصل شخصان من الدلالة
كل واحد منهما مستند الى علة غير علة الآخر ـ وهو تعيين الواضع وارادته ـ فلا يكون
مجمع للدلالتين حتى يحتاج الى اعتبار الحيثية والتكثر الاعتباري.
ويندفع جميع ما
أورده التفتازاني عليه :
أما عدم الإجداء
عن اعتبار الحيثية فقد ظهر إجداؤه.
واما عدم جواز
اجتماع الدلالات الثلاث فلانه لا ريب في أن الدلالات الثلاث تابعة لارادة الواضع ،
غاية الأمر إن الإرادة بالنسبة الى المطابقة ذاتية وبالنسبة الى التضمن والالتزام
عرضية ، ومن اراد شيئا فقد أراد ما يلازمه ، فليس فى الارادتين المذكورتين تمانع
وتعاند ، وهذا بخلاف الارادتين الذاتيتين.
وأما عدم تبعية
الدلالة للارادة فظهر أن الارادة التي لا يكون مطلق الدلالة موقوفا عليها وتابعا
لها هو ارادة اللافظ ، وأما ارادة الواضع فلا ريب فى تبعية الدلالة الوضعية لها
وتوقفها عليها.
وهذا الذي ذكرته
مما لم يسبقني اليه احد فيما اعلم ، فان كان حريا بالقبول فهو من بركة جدي الامي
عليه من الصلوات أزكاها ومن التحيات أيمنها.
قوله
«قده» : وحيث كان فى كلام المجيب ما يلائم ذلك ـ الخ.
وجه عدم الملاءمة
أن الظاهر من قوله «لإيراد معناه التضمني» هو
نفى كونه مرادا
مطلقا ، أي سواء كان على وجه الاستقلال أو على وجه التبعية ، وكذا قوله «فهو يدل
على معنى واحد لا غير» الظاهر منه نفي كون غير معنى واحد مدلولا مطلقا ، أي ولو
كان ذلك الغير تضمنا أو التزاما.
ولا ريب في مخالفة
ظاهرهما لما وجه المحقق القمي «قده» به كلام المجيب ، إذ حاصل التوجيه نفي مطابقة
اخرى لا نفي التضمن والالتزام ، فلذا تعسف المحقق القمي بتنزيله نفى ارادة معنى
آخر والدلالة عليه على سلب الدلالة والارادة المستقلتين المطابقيتين دون مطلقهما.
وفيه : ان هذا
الحمل لا تعسف فيه ولو بمساعدة قرينة عقلية ، وهي أن إرادة شيء بالذات وكونه
مدلولا بالذات يقتضيان كون اجزائه ولوازمه مرادة ومدلولا عليها بالعرض والتبع.
وبالجملة بعد ملاحظة تلك القرينة يكون الظاهر من كلام المحقق الطوسي هو ما ذكره
المحقق القمي من كون المقصود نفي معنى آخر يكون فى عرض المعنى المستعمل فيه المراد
لا ما هو في طوله ـ فافهم.
قوله
«قده» : على معنى لإيراد معناه التضمنى ـ الخ.
ويحتمل أن يكون
المراد لإيراد معناه التضمني الحاصل بمطابقة أخرى بأن يكون المعنى المطابقي الأول
هو الجزء والمعنى الآخر المنفي هو الكل ـ تأمل.
قوله
«قده» : إذ القيود التي اعتبرها ـ الخ.
مراده من القيود
المعتبرة في الحد المطابقة لارادة اللافظ والجارية على
قانون الوضع ،
وكون الدلالة على الجزء واللازم تبعا للدلالة على الكل والملزوم. ووجه عدم مساعدة
الحد عليه ظاهر.
نعم لو اعتبرت
الحيثية وقيل من حيث كون الدلالة مطابقة لارادة اللافظ جارية على طبق قانون الوضع
وكون الدلالة في التضمن والالتزام تبعا ، ساعد لفظ الحد على القيود ، لكن المقصود
الفرار من اعتبار الحيثية
قوله
«قده» : إن المضاف من حيث كونه مضافا ـ الخ.
فالمتضايفان
متكافئان تعقلا وتحققا.
قوله
«قده» : فيتحقق التضمن بدون المطابقة ـ الخ.
يمكن أن يقال : إن
التضمن هو دلالة اللفظ على الجزء في ضمن الدلالة على الكل ، والالتزام هو الدلالة على
اللازم تبعا للدلالة على الملزوم وإذا لم تتحقق المطابقة ـ على ما هو المفروض ـ فلا
يتحقق ما هو في ضمنها ولا ما هو تابع لها كما هو واضح.
قوله
«قده» : فرق نبهنا عليه.
لم يتقدم موضع نبه
على الفرق بين الارادتين. نعم تقدم منه «قده» الفرق بين الانتقال الى المعنى مع
العلم بعدم الارادة والانتقال الى المعنى من حيث انه مراد ، وهو كما ترى ليس فرقا
بين الارادتين.
نعم الفرق بين
الارادتين هو ان الارادة التي هي قبل الوضع والتذكرة هي المفهوم. وبعبارة اخرى :
الوجود المقدر لها والارادة التي هي بعد الوضع ، ومنه هي الارادة المصداقية
والوجود المحقق لها ، ولكن لم يسبق منه «قده» الإشارة الى هذا الفرق.
ويمكن أن يقرأ «نبهنا»
بصيغة المجهول ، وأن يقرأ بصيغة الأمر ، ولكنهما بعيدان غاية البعد ولا سيما
الثاني ، مضافا فيه الى انه كان اللازم أن يدخل عليه الفاء ويقال : فنبهنا عليه.
قوله
«قده» : لأدى الى التسلسل في الوضع.
بيانه : هو أنه لا
ريب في أن العلم بالوضع تفصيلا موقوف على تصور طرفيه تفصيلا ، وأحد طرفيه هو اللفظ
الموضوع والآخر هو المعنى الموضوع له ، ولا شبهة فى أن العلم بالشيء تفصيلا هو
العلم به بجميع صفاته وجهاته وحيثياته وإلّا لم يكن معلوما تفصيلا. ومن جملة
الصفات التي لا بد من العلم بها : هو كون اللفظ موضوعا والمعنى موضوعا له ، ولا
ريب في أن الوضع المأخوذ في اللفظ الموضوع والمعنى الموضوع له هو أيضا لكونه من
المعاني الاضافية يحتاج العلم به تفصيلا على العلم بطرفيه تفصيلا وهو موقوف على
العلم بالوضع تفصيلا ، فأما أن يكون الوضع الذي هو موقوف عليه هو الموقوف فيدور أو
غيره فيتسلسل ويذهب الأمر الى غير النهاية.
وفيه : ان طرفي
الوضع هو ذات اللفظ والمعنى ، لا هما بما هما موضوع وموضوع له. ولا ريب في أن
العلم بهما تفصيلا بذلك الاعتبار ليس موقوفا على العلم بالوضع حتى يدور أو يتسلسل.
ووجهه ظاهر ، لأن العلم بالعارض موقوف على العلم بالمعروض ، ومن الواضح أن المعروض
ليس ذات المعروض مأخوذا مع العارض بل هو هو مع قطع النظر عن العارض ، وليس العلم
به موقوفا على العلم بالعارض.
ويمكن أن يبين
الملازمة ولزوم التسلسل بوجه آخر ، وهو مبني على
أن يكون المراد
بالوضع هو المعنى الملحوظ حال الوضع ، والمأخوذ مرآة لملاحظة المعنى الموضوع له.
وبيانه : هو أنه لو احتيج إلى تصور الوضع تفصيلا يكون تصوره التفصيلي موقوفا على
تصور المعنى تفصيلا لكونه احد طرفي الاضافة ، وهو يحتاج الى ما به التصور الذي
يعبر عنه بالوضع. ومن الواضح أن ما به التصور يحتاج الى ما به التصور أيضا ،
لكونه محتاجا في انكشافه وتصوره الى ما به التصور ، فيدور أو يتسلسل.
وفيه : أن ما به
التصور والوضع يحتاج الى ما به التصور ووضع آخر ، إذ العلم منكشف بذاته ولا يحتاج
الى شىء آخر. وإن شئت قلت : العلم النظري ينتهي الى البديهي ، فيقف.
قوله
«قده» : وفيه ما عرفت من تفسير التضمن.
وهو أنه دلالة
اللفظ على الجزء في ضمن دلالته على الكل ، وحينئذ فلا بد من أن يكون فيه كل محقق ،
فلا يكفي الكل والمطابقة التقديريان
وفيه تأمل واضح.
والصواب أن يقال : إن بين الكلية والجزئية تضايفا ، والمتضايفان متكافئان قوة وفعلا
، ولا يعقل أن يكون التضمن محققا والمطابقة مقدرة. وهذا لا فرق فيه بين أن يكون
التضمن الدلالة على الجزء في ضمن الكل أو مستقلا.
قوله
«قده» : فلأن جزء معناه ـ الخ.
فيه نظر ، يحتاج
توضيحه إلى مقدمتين : «الأولى» ان التعريف للماهية وبالماهية كما هو مقرر في محله
ومقره. «الثانية» ان اجزاء المركب لا تكون منافية ومناقضة له وإلا لما تألف منها ،
ولا يجب أن تكون متصفة بأوصافه
وأعراضه ولواحقه ،
بل يجوز أن يكون موصوفة بها كالمشي المتصف به الحيوان والانسان ، ويجوز أن لا يكون
كالضحك المتصف به الانسان دون الحيوان وكذا النوعية.
فاذا تقررت هاتان
المقدمتان ظهر ما في قوله ـ قدسسره ـ «لأن الفرد إذا
كان» الخ ، لأن لحاظ ذاتيات الشيء في مقام شيئية الماهية دون الفرد والوجود ،
فأخذهما اخذ ما ليس بعلة مكان العلة ، فينبغي أن يقول : لأن الشيء اذا كان آليا تبعيا يكون ذاتياته وعلل قوامه
ومبادئ تآلفه أيضا كذلك. وحينئذ فيرد عليه منع الملازمة بمقتضى المقدمة الثانية.
وظهر أيضا ما في
قوله ـ قدسسره ـ : «وإن لم يكن
من ذاتياته» ـ الخ ، إذ الظاهر منه أنه لا بد وأن يكون غير مستقل على وجه المعهود
له وفساده واضح. نعم لا يكون جزء معنى الحرفي مستقلا على وجه السلب البسيط
التحصيلي.
قوله
«قده» : وحينئذ فلا اشكال.
لا يخفى أن
الإشكال الأخير ـ وهو انتقاض طرد الاسم بالحرف ـ باق ، إذ قصوى الأمر أن المصنف «قده»
قد أتى بجواب معارضي عارض به قياس المستشكل الناقض ، وهو جزء معنى «من» مثلا
الابتدائية المطلق ، وكل ابتداء مطلق مستقل ، فينتج أن جزء معنى «من» مستقل. ومعلوم أن الصغرى
مسلمة عندهما ، وواضح أن المعارض يرتب قياسا ينتج نتيجة تكون مناقضة لما استنتجه
خصمه بقياسه ، ولما كان اجتماع النقيضين محالا نعلم أن احدى النتيجتين باطلة ولا
نعلمها بعينها. ففيما نحن فيه لا نعلم بطلان نتيجة قياس المستشكل حتى يرتفع
الاشكال ، بل يحتمل ان
تكون حقة في
الواقع ونفس الأمر ، فيكون الاشكال باقيا ، فنكون مترددين في صحة الحد وعدم انتقاضه.
فالحق أن يجاب عن
قياس المستشكل بجواب نقضي تفصيلي ينقض به الصغرى ويمنع ، إذ معنى جزء «من» مطلق
الابتداء لا الابتداء المطلق ، فالقياس مغالطي نشأت المغالطة من الخلط بين
اللابشرط المقسمي والقسمي.
قوله
«قده» : وهذا مع عدم مساعدة ـ الخ.
إذ فيه تفكيك في
الدلالة المأخوذة في الأقسام ، بخلاف ما اذا أخذت في جميعها بمعنى التضمن أو
بالمعنى الأعم.
قوله
«قده» : ولو لا ذلك للزم الانتقال ـ الخ.
فيه : ان المراد
بالانتقالين في التالي إن كان المجتمعين في زمان واحد فالتالي وان كان باطلا للزوم
اجتماع المتقابلين العدم والملكة لأن الانتقال الاجمالي هو العلم المنسوب بالجهل ـ
أعني العلم ببعض جهات الشيء والجهل بالبعض الآخر ـ وهو مناف للعلم بجميع جهات
الشىء كما لا يخفى. بل يمكن الإرجاع إلى اجتماع النقيضين ، لأن السلب الجزئي يناقض
الإيجاب الكلي. إلا أن الملازمة ممنوعة ، لأن التفصيل رافع للإجمال ، وإن كان
المراد المتعاقبين فالملازمة ـ وإن كانت حقة ـ إلا أن فساد التالي واللازم ممنوع ،
والوجد ان السليم لا يكذب التالي بل يشهد بوقوعه كما هو واضح
قوله
«قده» : ولو بالوجه كتصوره ـ الخ.
لا يخفى أن التصور
بهذا الوجه ـ وهو عنوان كونه فاعلا مغنيا في
نظر المستعمل ـ ليس
إلّا اجماليا وليس تفصيليا كما هو محط نظره ، حتى يحصل الفرق بين جوابه والجواب
الفارق بالاجمال والتفصيل ، إذ مصداق الفاعل المعين لم يعلم تفصيلا.
نعم هذا الوجه
معلوم تفصيلا من حيث المفهوم ، ولا شك أن المنسوب اليه هو مصداق الفاعل المعين دون
المفهوم ، فالمغالطة ناشئة من الخلط بين الوجود والماهية والمصداق والمفهوم
والعنوان ومعنونه والوجه وذي الوجه.
قوله
«قده» : وعلى هذا فالفعل بدون الفاعل ـ الخ.
فيه : انه لا شبهة
في أنه بعد ذكر الفاعل المعين يحصل الدلالة على نسبة خاصة مفصلة لم تكن قبل ذكر
الفاعل ، فاذا كانت النسبة التفصيلية مدلولا عليها قبل ذكر الفاعل أيضا لزم
الانتقال الى مدلول الفعل مرتين ، وقد فرّ «قده» منه سابقا وهنا وقع فيما فرّ منه.
قوله
«قده» : واعترض عليه بأن فهم الجزء سابق ـ الخ.
لا يخفى أن
الأجزاء سابقة على الكل سبقا طبعيا وتقدما ذاتيا بالمعنى الأعم في نحوي الوجود
ووعائي التحقق الذهن والخارج وما فيه السبق ومناطه وملاكه هو الوجود ، ولا يكون
سبقها سبقا زمانيا يكون ما فيه هو الزمان. نعم قد يجامعه.
فعلى هذا ظهر ما
في ما علقه «قده» في الهامش على قوله «سابق» من ابتنائه على حمل السبق الزماني.
وحاصل الاعتراض : ان تصور الجزء سابق على تصور الكل ، فاذا كان تابعا لتصور الكل ـ
على ما هو المفروض من تبعية التضمن للمطابقة ـ لزم أن يكون سابقا ولا حقا ومتقدما
ومتأخرا
فيلزم اجتماع
المتقابلين والضدين ، ويمكن تصوير الدور المستلزم للاجتماع كما لا يخفى.
والذي يخالج قلبي
أن المتقدم هو تصور الجزء لا من اللفظ الموضوع والمتأخر هو تصور الجزء منه ، فلا
محذور ، وغير خفي أن المحذور اندفع وإن كان المعتبر فى تصور الكل المعتبر في
المطابقة وتصور الأجزاء المعتبر في التضمن هو التفصيلي كما لا يخفى.
قوله
«قده» : فالدلالتان متحدتان ذاتا ـ الخ.
توضيحه : ان الحق
أن التركيب من الأجزاء العينية والذهنية والمقدارية والتحليلية العقلية اتحادي لا
انضمامي ، فالدال على المركب دال على أجزائه بعين دلالته على الكل والمركب ،
فالدال واحد والمدلول فارد والدلالة واحدة ذاتا وفاردة حقيقة ، وانما التغاير في
اعتبار الكلية والجزئية واضافة الدلالة الى الكل والجزء.
وأما على الوجه
السابق من كون التضمن انتقالا ، بعد انتقال فالبعدية سواء كانت بعدية ولحوقا
زمانيا أو تأخرا طبيعيا ـ تقتضي تعددا ذاتيا وتغايرا حقيقيا ، إذ المتأخر زمانا
يستحيل أن يكون متقدما زمانيا للزوم اجتماع المتقابلين ، والمتأخر الطبعي يكون
معلولا والمتقدم الطبعي يكون علة ، ويستحيل أن يكون شىء واحد من جهة واحدة علة
ومعلولا ، لأن العلية والمعلولية من التضايف ، والمتضايفان ممتنعا الاجتماع ، بل
وكذلك الأمر لو كان الأجزاء أجزاء تحليلية تعملية عقلية حدية ، ويكون سبقها على
الكل بالماهية وبالمعنى وبالتجوهر ، إذ تكون الأجزاء حينئذ عللا بالنسبة الى
الماهية ومقام شيئيتها والماهية معلولة ، وحينئذ تكون علة الماهية ماهية ـ
فافهم مستمدا من
ملهم الحق والصواب.
قوله
«قده» : وحملوا التبعية ـ الخ.
توضيحه : انه بناء
على الاتحاد الذاتي والوحدة بحسب الحقيقة لما لم يكن تابع ولا متبوع ولا تبعية
فحملوا التبعية بحسب مقصود الواضع ، يعني ان مقصوده أولا وبالذات هو المعنى
المطابقي ، والمعنى التضمني مقصود تبعا وثانيا وبالعرض. ولا يخفى أن التبعية بهذا
المعنى لا اختصاص لها بالتضمن بل هي حاصلة في الالتزام ، فلا معنى لقول المشهور :
إن التضمن يتبع المطابقة.
قوله
«قده» : ويمكن أن يجعل التبعية ـ الخ.
يعني إن الدلالة
التضمنية ـ وإن كانت عين الدلالة المطابقية ذاتا وحقيقة ـ إلّا انه لما كانت
مغايرة معها اعتبارا فيصح أن يجعل اعتبارها تبعا لاعتبارها ونفسها لنفسها باعتبار
التعدد الاعتباري.
وفيه : ان التعدد
والتغاير وإن كان ذاتا وحقيقة لا يصحح التبعية ما لم يكن مناط الأصالة في احدهما
وملاك التبعية في الآخر موجودين ، وفى هذا الوجه ليسا بموجودين ، فجعل الدلالة
التضمنية تابعة ترجيح بلا مرجح ، بخلاف الوجه السابق حيث انه تصور فيه الأصالة
والتبعية بحسب مقصود الواضع.
(إشكال)
ولي في تحقق أصل
الدلالة التضمنية شك. وبيانه : ان المراد باللازم المعتبر في الالتزام إما بالمعنى
الأعم وهو الذي لا ينفك عن شىء آخر ، وهو
شامل للازم
والملزوم والمتلازمين. وبعبارة اخرى : المعلول والعلة والمعلولين لعلة ثالثة ـ ،
وإما بالمعنى الأخص المقابل للآخرين ، فإن كان المراد المعنى الثانى لزم خروج
دلالة اللفظ الموضوع للزوم على اللازم ، والموضوع لأحد المتلازمين على الآخر عن
الدلالة الالتزامية ، ولا يخفى عدم دخولها في الدلالتين الأخريين. وإن كان المراد
المعنى الأول لزم أن تكون الدلالة التضمنية التزامية.
بيان الملازمة :
إن المراد بالكل في المطابقة إما أن يكون ذات الكل وإما مع الوصف العنواني ، فان
كان الأول فلا يتحقق تضمن كما لا يخفى وإن كان الثاني فلا شبهة أن بين وصفي الكلية
والجزئية تضايفا والمتضايفان متكافئان ومتلازمان تحققا وتعقلا ، فينتقل من اللفظ
الموضوع للكل الملحوظ فيه تألفه وتركبه من الأجزاء اليها وكذا العكس ، فيكون
التضمن التزاما.
فإن قلت : نمنع
الملازمة ، لأن المعتبر في الالتزام أن يكون اللازم خارجا ، وفيما نحن فيه داخل
دخول الأجزاء في مركبها.
قلت : القوم ـ وان
اعتبروا الخروج ـ لكن لا يخفى أن المناط والملاك تمامهما هو اللزوم ، ولا مدخل
للخروج أصلا إلّا أن يكون مجرد اصطلاح ، فاذا كان الأمر كذلك فقولهم بكونها تضمنا
ترجيح بلا مرجح ، وان التزموا بكونها تضمنا والتزاما معا فينتقض طرد حدود الدلالات
، ولا يجدي اعتبار الحيثية هنا لأن حيثية الجزئية غير منفكة عن اللزوم بخلاف سائر
الموارد.
ويمكن تقرير
الاشكال بوجه آخر ، وهو : انه لا شبهة في أن إطلاق اللفظ الموضوع للكل عند العالم
بالوضع علة تامة للدلالة المطابقية ، فإما أن يكون بالنسبة الى التضمن علة ناقصة
أو يكون تامة ، فعلى الأول يلزم التفكيك
وعدم كون المقسم
واحدا لامتناع صدور الواحد عن الكثير ، فاذا كان احدى العلتين على وجه الاستقلال
شيئا والأخرى إياه مع شىء آخر فلا ريب في تعدد العلتين وتغايرهما وتكثرهما ، وتعدد
العلة قاض بتعدد المعلول فيلزم ما ذكرنا. وعلى الثاني يلزم تحقق الدلالة التضمنية
بتحقق المطابقة واللازم فاسد ، إذ ليس كلما ينتقل الذهن الى المعنى المطابقي من
اللفظ ينتقل الى التضمني ما لم يلتفت الى أن المعنى المطابقي معنى مركب من
الأجزاء. فظهر أن الانتقال الى الجزء ليس مستندا الى اللفظ وإلّا لما تخلف نعم اذا
التفت الذهن الى المركب بما هو مركب ، سواء كان من اللفظ أو من غيره ينتقل الى
الجزء ، فالدلالة ليست وضعية بل عقلية.
قوله
«قده» : وفيه نظر.
أي فيما ذهب اليه
جماعة من المحققين.
قوله
«قده» : لأن التضمن بالمعنى الذي ذكروه ـ الخ.
يعني ان التضمن
بالمعنى الذي ذكره جماعة من المحققين لما كان متحدا ذاتا وحقيقة مع المطابقة داخل
فيها ، فاذا دخل فيها فلا يلزم خروج فرد من أفراد الدلالات عن الاقسام الثلاثة بل
يلزم خروج اعتبارها عنها ، وإن لوحظ خروج ذلك الفرد باعتبار ذلك الاعتبار فليس
بضار ، إذ لا يلزم حصر المقسم في التقسيم والأقسام بجميع الاعتبارات ، بل اللازم
حصره في الأقسام وعدم خروجها ذاتا وحقيقة.
قوله
«قده» : وقيل بل يعتبر اللزوم الذهنى.
ليس المراد أنه
يعتبر أن يكون اللازم لازما ذهنيا وعارضا غير مفارق
للموجود بوجود
شبحي ظلي مثالي وكون ذهني ، ويكون المراد بقوله «في الجملة» في قول المشهور هو
التعميم في اللازم بين أن يكون اللازم لازما ذهنيا أو خارجيا إذ لا ريب لأحد في
التعميم ، مع أن إرادة التعميم من قوله «في الجملة» خلاف الظاهر ، بل المراد من
اعتبار اللزوم الذهني هو اعتبار اللزوم البين بالمعنى الأخص ، وباللزوم وعدم
الانفكاك في الجملة هو البين بالمعنى الأعم ، فيكون المراد من قول المشهور أنه
يكفي اللزوم في الواقع وان لم يلزم من تصور الملزوم تصور اللازم حتى يكون اللزوم
ذهنيا. ومراد مخالف المشهور أنه يعتبر خصوص اللزوم الذهني.
ولا يخفى ما في
التعبير باللزوم الذهنى من المسامحة ، إذ اللزوم الذهنى في البين بالمعنى الأخص
إنما هو بين العلم بالملزوم والعلم باللازم ، إذ هو الذي يلزم من تصور الملزوم
تصور اللازم وليس اللزوم الذهنى بين نفسيهما ـ كما لا يخفى.
قوله
«قده» : وأشكلوا عليه بلزوم ـ الخ.
والصواب أن يقول «واستشكلوا»
، إذ معنى اشكل الامر صار مشكلا ، ولا يناسب المقام.
والعجب كل العجب
من المشهور المستشكلين حيث جعلوا الدلالة المجازية من الالتزامية ، والحال أن
الدلالة التضمنية والالتزامية هي التى تكون تابعة للمطابقة التى لا يكون إلا
باطلاق اللفظ واستعماله في معناه الموضوع له ، وفي المجاز بتحقق الدلالة من غير
تبعية للمعنى المطابقي المطلق عليه والمستعمل فيه ، إلّا أن يكون المراد من
الدلالة هو مطلق الانتقال.
وفيه ما لا يخفى ،
مضافا إلى أن الدلالة المجازية إذا كانت التزامية
تكون مرخصا فيها
بعين ترخيص الحقائق ، وملزوم المعنى المجازي ووضعهما إن نوعا فنوعا وإن شخصا فشخصا
، ولا يحتاج الى الوضع النوعي فى المجازات ، كما هو مذهب المشهور.
قوله
«قده» : بأن الملزوم إن كان المجاز ـ الخ.
المراد بالشق
الأول من الترديد هو أخذ القرينة على وجه الجزئية والشطرية ، وبالثاني هو أخذها
على وجه الظرفية البحتة والحيثية الصرفة والوقتية المحضة ، وبالثالث هو أخذها على
وجه الشرطية والتقييد.
والمراد من عود
الاشكال الأول هو : أن القرينة قد تكون غير اللفظ ـ الخ. ويمكن الجواب عن الإيراد
سواء أخذت القرينة شطرا أو شرطا إذ المراد من اللفظية ما يكون للفظ مدخل فيه وان
كان للغير أيضا مدخلية فلا اشكال.
قوله
«قده» : ولا نسلم أنه يلزم من ذلك ـ الخ.
منع اللزوم بمكان
من وضوح الفساد كما لا يخفى. والتعليل باقتضاء الشرطية خروج الشرط واضح الضعف ، إذ
الشرط القيد وإن كان خارجا ولكن التقييد داخل ، وإلّا لم يبق فرق بين ذات المقيد
والمشروط وبين المقيد والمشروط مع الوصف العنواني.
والمغالطة ناشئة
من عدم الفرق بين ذات المعروض والمعروض بما هو معروض.
قوله
«قده» : بل الدال حينئذ إنما هو المشروط.
فيه خلف وتناقض
كما لا يخفى.
قوله
«قده» : والقرينة معتبرة ـ الخ.
لا معنى محصل لهذا
الكلام ، إذ لا معنى لاعتبار القرينة في الدلالة إلا اعتبار تقييد الدال بها ،
فللقرينة مدخل في حصول الدلالة ، فلا يكون اللفظ بنفسه دالا.
قوله
«قده» : إذ ليس للمجموع أصابع.
فيه : انه اذا كان
للجزء حكم وصفة وعارض تتسرى لا محالة الى الكل ، ألا ترى أن المشي ثابت للحيوان
ويثبت للانسان أيضا ، غاية الأمر أنه يكون خاصة للحيوان وعرضا عاما للانسان. وفيما
نحن فيه لما كان للانسان أصابع فلا محالة يكون للانسان الكاتب.
قوله
«قده» : فكما لا يوجب ـ الخ.
توضيحه : انه لو
أوجب لما كانت الدلالة لفظية ، إذ الدلالة مستندة الى اللفظ وغيره ، فلا تكون
منسوبة الى خصوص اللفظ.
والجواب : أن
كونها لفظية مجرد اصطلاح جرى على أن يسمى ما للفظ مدخل فيه لفظيا وإن كان للغير
فيه مدخل أيضا ، وأما بحسب اللب والمعنى فلا شبهة في أن الدلالة فيما نظّر به لا
تكون لفظية صرفة. ومن هنا يعلم حال ما نحن فيه المنظّر له.
قوله
«قده» : وجوابه أن الشرط ـ الخ.
يعني ان ما ادعاه
المعترض من تكذيب الوجدان إنما يصح إذا كان الشرط مفهوم المقارنة ، إذ لا يدرك
مفهوم المقارنة ضرورة.
إن قلت : بناء على
ما سلمه المصنف «قده» من كون الشرط هو المقارنة المصداقية لا بد من حضور مفهوم
المقارنة بالذهن وإدراكه إياها إذ لا شبهة فى أن المقارنة المصداقية من المعاني
والمعاني مدركة للوهم وحاضرة في الذهن ، وهل هي إلا مفاهيم حاضرة في النفس موجودة
بوجود علمي وكون ظلى شبحى مثالي ، فلا يكذب الوجدان حضورها في عالم النفس وموطن
الذهن.
قلت : لما ظن
المعترض أن الشرط مفهوم المقارنة ، ومعلوم أن الشرط لا بد وأن يحرز ويعلم ، فلا بد
وأن يعلم مفهوم المقارنة الذي فرضناه إدراكا وعلما بادراك أخر ونيل وحضور آخر في
الذهن ، والحال أن الوجدان يكذبه.
قوله
«قده» : سلمنا ـ الخ.
يحتمل رجوعه الى
قوله «إن الدلالة لا تتحقق» ـ الخ. فيكون المراد أنه إذا كانت الدلالة متحققة بدون
درك مصداق المقارنة فنقول : الشرط ليس إلّا مصداقها ، وهو حاصل دون دركها حتى يمنع
تحققه ويدعى تكذيب الوجدان إياه.
ولكن فيه : انه
اذا كان مصداق المقارنة شرطا للدلالة ، فلا بد وأن يحرز ويدرك حتى يذعن بوجود
المشروط ويصدق به ، فالعلم والإدراك ـ وان لم يعتبر على وجه الموضوعية للشرط ـ إلّا
انه معتبر على وجه الطريقية.
والجواب : أن
الشرط اذا كان شرطا بوجوده الواقعي وكونه العيني الخارجي لوجود عيني ، فلا شبهة
انه لا بد في العلم بتحقق المشروط من العلم بتحقق الشرط وإدراكه ، وأما اذا كان
الشرط الواقعي شرطا للعلم
فلا يحتاج في تحقق
العلم بالمشروط الى توسيط العلم بالشرط بل في وجوده العيني وتحققه الخارجي وكونه
الواقعي يكفي في حصول المشروط والعلم به والعلم عين الانكشاف والظهور والحضور ،
فلا يحتاج الى علم آخر ، بل يحتاج الى اسباب تحققه وعلله ، وذلك أمر ظاهر ، وذلك
كعلومنا وإدراكاتنا حيث لا يحتاج في كونها علوما الى العلم بأسبابها وشروطها.
ويحتمل رجوعه إلى
قوله «ان الشرط ليس مفهوم المقارنة» يعني سلمنا كون الشرط مفهومها لكن لا يلزم من
اشتراط المقارنة المفهومية اشتراط العلم بها ، ضرورة انه لا يلزم من كون العلم
شرطا أن يكون بذلك العلم شرطا. وبعبارة اخرى : لا يلزم من كون العلم البسيط شرطا
أن يكون العلم المركب شرطا ـ فافهم بعونه تعالى.
قوله
«قده» : فظهر مما ذكرناه ـ الخ.
يعنى مما ذكرنا من
انكار كون الدال مجموع اللفظ والقرينة او مقارنتها بل الدال إنما هو ذات المشروط ،
وكون القرينة معتبرة في دلالته ظهر تقارب القول باعتبار اللزوم وعدم الانفكاك في
الجملة في الدلالة الالتزامية والقول باعتبار اللزوم الذهني ، إذ على القولين
الدال إنما هو ذات المشروط ـ أعني اللفظ.
قوله
«قده» : دخل بعض أقسام المجاز فيه.
يعني ما كان
علاقته الجزء والكل واستعمل اللفظ الموضوع للكل فى الجزء.
قوله
«قده» : فلا يتناول المجاز ـ الخ.
فيه : انه اذا كان
النظر الى صنف خاص من المقسم فلا يضر خروج الأقسام من الصنف الآخر من ذلك التقسيم
، وليس بلازم أن يتكلف بدرج أقسام الصنف الآخر في أقسام ذلك الصنف بل لا يصح ،
ففيما نحن فيه إذا كان المقسم هو الدلالة الوضعية الحقيقية فلا بأس بخروج المجاز
عن الدلالات الثلاث.
قوله
«قده» : لا يلزم ـ الخ.
حمل «قده» الدلالة
في قول المورد ، فينحصر الدلالة فيها على مطلق الدلالة وجعل اللام لتعريف الجنس ،
ولو جعل اللام فيه للعهد الذكرى وحمل الدلالة على الدلالة المجازية فلا يرد عليه
ما أورده عليه.
قوله
«قده» : إذ لا يصح التجوز ـ الخ.
لعدم تحقق العلاقة
المعتبرة بالنسبة الى الجميع كما لا يخفى.
قوله
«قده» : واعتبروا قيد الحيثية ـ الخ.
أي الحيثية
التعليلية بناء على مذاقه من عدم إجداء الحيثية التقييدية ، إذ المقيد بحيثية
تقييدية يكون عين المقيد بحيثية تقييدية أخرى ، كما سلف بيانه منه ـ قدسسره ـ.
والمحقق عندنا
فساده وبطلانه ، إذ لا شبهه في أن الحيثيتين إذا كانتا متغايرتين متقابلتين
فالمتحيث بهما ـ وان اتحدتا ذاتا ومصداقا ـ ولكنهما متغايران متقابلان اعتبارا ،
فالمغالطة ناشئة من عدم الفرق بين ذات المعروض والمعروض بما هو معروض ، بل لا حاجة
على اعتقادي الى اخذ الحيثية
اصلا لا في حدود
الدلالات ولا في حد المفرد ، إذ غير خفي ان التحيث إنما يحتاج اليه إذا كان الشيء
غير متحيث ، وأما اذا كان مأخوذا وملحوظا على وجه التحيث فلا يحتاج.
مثلا : إذا قيل «الأبيض
ـ أو الجسم الابيض ـ مفرق لنور البصر فلا يحتاج الى أن يقال «من حيث البياض» أو «من
حيث كونه أبيض». نعم إذا قيل «الجسم مفرق لنوره» فيحتاج إلى التحييث.
وبعبارة أخرى
وبيان آخر : المتحيث إنما هو متحيث اذا احتاج الى تحيث ، فان احتاج الى هذا
التحييث المأخوذ فيه فهو حاصل غير محتاج الى اخذه واعتباره ، واذا احتاج الى تحييث
آخر وحيثية أخرى فيدور أو يتسلسل كما لا يخفى.
فاذا تحقق عندك
هذا ظهر لك عدم الاحتياج الى اخذ الحيثية في حدود الدلالات بعد أخذ التمامية
والجزئية واللزوم فيها وفي حد المفرد والمركب بعد أخذ الارادة والقصد فيهما. وظهر
فساد قوله قدسسره «وإلّا فلا فائدة»
ـ الخ كما لا يخفى ـ فافهم مستمدا من ملهم الصواب
قوله
«قده» : وأما حد المفرد فلا يستقيم ـ الخ.
يعني لما اتفقت
كلمة القائلين بتبعية الدلالة للارادة والقائلين بعدمها في حد المفرد وكون الإرادة
والقصد منفيا عنه فيصدق على المركب الغير المقصود معناه حد المفرد ، فلا يكون حد
المفرد طاردا مانعا. وأما لو كان القائلون بنتيجة الدلالة للارادة اعتبروا في حد
المفرد الارادة والقصد لم ينتقض حد المفرد بالمركب المذكور ، اذ المركب المذكور
ليس بمفرد لعدم تحقق الارادة.
وانا نقول : حد
المفرد مستقيم على القولين وصحيح على المذهبين :
أما على القول
بعدم تبعية الدلالة للإرادة فالمركب المذكور مفرد وليس بمركب ، إذ المركب ما قصد
دلالة جزء منه على جزء معناه ، وهنا القصد منفى على حسب الفرض. نعم هو مركب بنظر
العرف العام ، فالمصنف خلط بين المركب الميزاني والمؤلف العرفى الخاصي وبين المركب
العرفي العامي ، فاللازم هو كون المركب العرفي العامي مفردا ميزانيا ، وهو ليس
بفاسد. والذي هو باطل هو كون المركب الميزاني مفردا ميزانيا وهو غير لازم ،
فاللازم غير باطل والباطل غير لازم.
وأما على القول
بالتبعية فالمركب المذكور ليس بمركب كما هو واضح ولا بمفرد ، لأن القول بالتبعية
ليس بمختص بالمركب بل يجري فيه وفي المفرد ، والارادة المنفية المأخوذة في حد
المفرد إنما هي بالنسبة الى جزء اللفظ وجزء المعنى ، وأما بالنسبة الى اللفظ
والمعنى فلا بد من اعتبار الارادة على القول بالتبعية. والمصنف «قده» زعم أن
الارادة في المفرد منفية مطلقا ، فحسب أن المركب المذكور يصدق عليه حد المفرد.
فظهر أن المركب المذكور ليس بمركب ولا بمفرد.
قوله
«قده» : ككلام النائم والساهي.
فى التمثيل
بكلامهما نظر :
أما النائم فلأن
النوم ليس إلا تعطل الحواس الظاهرة وركودها ورجوع النفس الى الباطن واستراحة الروح
وسباتها ، وليس معنى النوم تعطل النفس بالكلية. ولا شبهة أنها فى عالمها المثالي
ونشأتها البرزخية يتكلم ويقصد المعاني من الألفاظ ، وربما يتسرى من الباطن الى
الظاهر ومن
الغيب الى الشهادة
، فيتحرك لسانه ويتكلم فى هذا العالم. بل الأمر في جميع موارد التكلم كذلك ، فجميع
مبادئ التكلم وعلله وارادة المعاني من الألفاظ حاصلة من النائم ، غاية الأمر تعطل
ما ليس له دخل في تحقق الكلام الذي هو فعل إرادي اختياري للنائم وقصدت المعانى منه
ـ فافهم إن كنت من أهله ولكنه شديد الغموض بعيد المنال.
وأما الساهي مثل
من يريد ان يخبر عن زيد بالقعود فيسهو ويخبر عن عمرو بالقيام ، فلا شبهة في أن
إخباره عن عمرو بالقيام فعل اختيارى ارادي له ويتصور المعنى واللفظ ويقصد قيام
عمرو من اللفظ ، إلا أنه لما كان مقصوده الإخبار عن زيد بالقعود وسها فلم يكن ما
اراده وقصده من كلامه مقصوده الواقعي ومرامه النفس الأمري ، ولم يكن ما تكلم به
منطبقا على ما قصده واقعا ، فالصواب التمثيل بالمركب الذي تكلم به من لم يعلم
معناه بل لا يعلم أن له معنى أم لا.
قوله
«قده» : ولا يعدان إلا مفردا.
إن أراد كونهما
مفردين بالنظر العرفي العامي فهو مسلم ، ولكنه غير قادح ، لأن المقصود تحديد
المفرد المركب على طريقة الميزانيين كما سيصرح به ، فهما مركبان بالنظر الى عرفهم
الخاصي ليس إلا ، وإن أراد كونهما مفردين بالنظر الى عرف الميزانيين فهو ممنوع كما
هو واضح.
قوله
«قده» : وذلك لأنها تسمع ـ الخ.
تعليل وتصحيح
للمبنى ، والضمير راجع الى الهيئة. وقوله «ابتداء» تأكيد بحسب المعنى للمعية ، أي
من غير لحوق وتأخر.
وفيه نظر ، لأنه
إن أراد بالمعية المعية الزمانية فالصغرى ـ وإن كانت حقة ـ إلّا أنه ليس للمعية
الزمانية مدخل في كون شىء لفظا وصوتا ، فجعله مأخوذا في الحد الأوسط والواسطة في
الاثبات واللم الاثباتى اخذ ما ليس بعلة مكان العلة ، بل المناط والملاك في ما هو
المرام والنتيجة هو كون الشيء مسموعا وان فرض كونه متأخرا عن الحروف وسماعها زمانا
فينبغي أن نقول : لأنها تسمع ، لأن الألفاظ والأصوات من الكيفيات المسموعة التي هي
إحدى الكيفيات الأربع ، وإن أراد بها المعية التي تكون مقابلة للسبق واللحوق
الطبعيين فلا شبهة في أن الصغرى ممنوعة ، إذ الهيئة متأخرة عن المادة تأخر العارض
عن معروضه والعرض عن موضوعه ، وهو تأخر طبعي ولحوق ذاتي بالمعنى الأعم.
اللهم إلا أن يريد
إنكار كون الهيئة عارضا خارجيا على المادة حتى يكون بينهما تقدم وتأخر طبعيان ، بل
الهيئة عارض تحليلي تعملي عقلي غير متأخر في الوجود ، فتكون كسرعة الحركة وبطؤها ،
فتصح دعوى المعية الطبعية ، إذ ليس المادة علة ناقصة لوجود الهيئة ولا الهيئة
معلولة لها ، بل لا علية ولا معلولية ولا عارض ولا معروض بحسب الوجود الخارجي
والكون العينى.
ولكن فيه : أنه
مكابرة ، ضرورة كون الهيئة عارضا خارجيا ، وليس عارضا غير متأخر في الوجود ،
فالصغرى ممنوعة ، مضافا الى أنه «قده» أذعن في الجهر والهمس بعدم كونهما لفظا
وصوتا مع كونهما من العوارض الغير المتأخرة في الوجود ، فالكبرى غير مسلمة عنده «قده»
مع انه لو صح هذا القياس صغرى وكبرى ـ بناء على كون الهيئة عارضة غير متأخرة في
الوجود ـ فلا ينتج المطلوب ، إذ النتيجة المطلوبة كون
الهيئة لفظا آخر
مغايرا للفظ المادة ، حتى يكون للمركب لفظان يدل كل منهما على جزء المعنى ،
والنتيجة الحاصلة ليست إلا كون الهيئة لفظا بعين لفظية المادة دون لفظية أخرى.
وبعبارة أخرى : الهيئة لفظ وجودا لا مفهوما وماهية ـ فافهم مستمدا من ملهم الصواب.
قوله
«قده» : فان جزء الشيء لا يلزم ـ الخ.
بل يلزم أن لا
يكون من جنسه ، وإلّا لزم الخلف المحال والتناقض المستحيل. بيان الملازمة : انا
اذا فرضنا السكنجبين مثلا مركبا وفرضنا جزءه ـ وهو الخل مثلا ـ من جنسه فيكون
السكنجبين بسيطا ، وقد فرضنا مركبا ، هذا خلف. وهكذا في جميع الموارد.
قوله
«قده» : كما في العدد ـ الخ.
وجهه : أن الواحد
ليس بعدد ، لأن العدد ما كان نصف مجموع حاشيتيه. مثلا : الاثنان احدى حاشيتيها
واحد والحاشية الأخرى ثلاثة ومجموع الحاشيتين أربعة واثنان نصفها ، وأما الواحد
فليس له إلا حاشية واحدة إلا أن يشمل الحاشية الكسر فيقال : احدى حاشيتيه النصف
والحاشية الاخرى الواحد والنصف فيصير المجموع اثنين والواحد نصفهما ، وبناء على
كون المراد بالحاشية الصحيح فليس الواحد بعدد وإن ائتلف العدد منه.
ولا يخفى أن العدد
ليس مؤلفا من هذا الواحد الذي هو طرف الاثنين وسائر الأعداد ، إذ هو قسيم لها ،
وقسيم الشيء مقابل له ، وكيف يأتلف الشيء ويلتئم ذاته من مقابله ونقيضه أو ضده.
ونحن ـ وان قلنا
ان جزء الشيء لا يكون من جنسه ـ إلا أن هذا السلب بسيط تحصيلي ولا يكون على وجه
العدول ، وأما إذا كان من غير الجنس على وجه العدول ـ كما في الواحد وسائر مراتب
الأعداد ـ فيمتنع أن يكون من الجنس وإلّا اجتمع النقيضان. وبناء على اخذ القضية
سالبة بسيطة تحصيلية كما أن جزء الشيء لا يكون من جنسه كذلك لا يكون من جنسه ، ولا
يلزم ارتفاع النقيضين المحال لجواز ارتفاعهما عن المرتبة ، وإنما المحال ارتفاعهما
عن الواقع ، وهو غير لازم واللازم غير محال.
فظهر أن العدد ليس
مركبا من الواحد بشرط الوحدة ، مضافا الى أن تركب العدد من الواحد مستلزم للترجيح
بلا مرجح ، إذ تركب الثلاثة مثلا من ثلاث وحدات دون تركبها من الاثنين والواحد ،
وكذا تركب الأربعة من أربع وحدات دون تركبها من اثنين اثنين أو ثلاثة وواحد ترجيح
بلا مرجح.
فالحق أن العدد
والواحد مركبان من الواحد اللابشرطي المقسمي الساري في جميع المراتب الراسم لها ،
والذي هو بمنزلة الروح لها ، وهو مع كل مرتبة عين تلك المرتبة ، ونسبته اليها
كنسبة الحركة التوسطية الى الحركة القطعية ـ فافهم إن كنت من أهله.
قوله
«قده» : ولا ترتيب بين المادة والهيئة ـ الخ.
لا يخفى أن الحرف
الزائد إذا كان هيئة ففي مثل مخرج الترتيب بين المادة والهيئة حاصل ، إلا أن يريد
خصوص الترتيب الذي تكون الهيئة فيه متأخرة ، أو تكون الهيئة في مثل مخرج مجموع
الحركة والسكون في الحرف الزائد ، فلا تكون الهيئة مترتبة ، اذ بعض المجموع لا
يكون مترتبا ، فلا يكون الكل مترتبا.
ولكن ينافي هذا
التوجيه ما سيأتي منه «قده» من بقاء النقض بنحو «ضربا» بصيغة التثنية و «ضربة» على
وزن الفعلة التي تكون للمرة ، فانه «قده» صرح بأن الترتيب حاصل مع أنه بناء على
هذا التوجيه ليس حاصلا.
قوله
«قده» : والتزام التركيب ـ الخ.
لا تعسف في
التزامه أصلا ، اذ الكلام هنا فى حد المفرد والمركب في عرف الميزانيين ، كما سيصرح
«قده» به ، ولا شبهة في تركب الأمثلة المذكورة وأمثالها بحسب عرفهم. نعم بحسب عرف
النحاة أو العرف العام ليست مركبة بل مفردة ، والمصنف «قده» قد اختلط عليه العرفان
واشتبه عليه الاصطلاحان.
قوله
«قده» : وإن حمل على الأعم ـ الخ.
يعني انه بناء على
الحمل على المعنى الأعم يحصل الانتقاض في المعاني البسيطة فقط ، كما اذا قيل «الله
الله» ، فان كلا من لفظي الجلالة يدل على تمام معناه ، وليس لمعناه وهو الذات
البسيطة الواحدة الأحدية المقدسة عن شوب الكثرات ـ جزء حتى يدل كل من لفظي الجلالة
على ذلك الجزء بالتضمن فيحصل الانتقاض لعدم تحقق الدلالة ولو على وجه التضمن ،
وأما في المعاني المركبة فلا يتحقق النقض ، كما اذا قيل «زيد زيد» ، فانه يدل جزء
هذا المركب ـ وهو زيد ـ على بدنه أو نفسه تضمنا. ولا شبهة فى أن جزء الجزء جزء ،
فبدن زيد مثلا جزء من معنى زيد زيد.
قوله
«قده» : ولا يعد إلا مفردا.
لأنه بالنظر
العرفي لا فرق بين إنشاء يكون مصدرا وبين انشاء يكون
مركبا من إن وشاء
، فكلاهما هو اللفظ بكلمة واحدة.
قوله
«قده» : اعتباره حال الوضع ـ الخ.
وكلاهما منتفيان :
أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلأنه لا وضع للمركبات على ما هو الحق عنده
«قده» وعندنا حتى يعتبر التركيب حال الوضع.
قوله
«قده» : فلا يتحقق التركيب ـ الخ.
مراده بالكلمة
المذكورة كلمة انشاء. وحاصل مرامه «قده» أنه إن لم تعتبر الفتحة فى آخر كلمة انشاء
ـ ولو تقديرا ـ فلا يتحقق التركيب فيهما ، لعدم كون شاء حينئذ فعلا حتى يتحقق
التركيب منه ومن كلمة إن ، فاذا لم يتحقق التركيب فهو مفرد ولا انتقاض ، وان
اعتبرت في آخرها فهو مركب وليس بمفرد ، فلا انتقاض أيضا.
ولا يخفى ما فيه ،
إذ لنا أن نختار الثاني ونقول : لا شبهة فى أنه يصدق عليه المفرد ، اذ هو اللفظ
بكلمة واحدة عرفية وإن لم يكن مفردا بالدقة العقلية ، وأما بالنظر العرفي المسامحي
فلا فرق بين كلمة انشاء المقدر في آخرها فتحة وبين غيرها.
لقد تم ـ بحمد
الله وحسن توفيقه وتأييده ـ الجزء الأول من كتاب «تعليقات الفصول في الأصول» تأليف
علامة عصره ووحيد دهره استاذ العلماء العاملين شيخنا ومولانا الحاج الشيخ أحمد
الشيرازي ـ قدسسره ـ وسيقدم قريبا
إنشاء الله تعالى الجزء الثاني من هذا الكتاب للطبع ...
|
سبط المؤلف
السيد محمد القانع
الكازروني
|
|