بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علمنا معالم الدين ومعارج اليقين ، وأنار قلوبنا بلوامع السنة والكتاب المبين ، ووفقنا لتمهيد القواعد والقوانين لاستنباط احكام سيد المرسلين ، والصلاة والسلام على أشرف سفرائه المقربين محمد خاتم النبيين وعلى اله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أما بعد فيقول العبد المذنب المستجير برحمة ربه الكريم ، عبد الكريم الحائري غفر ذنوبه وستر عيوبه لما صنفت في سالف الزمان تصنيفا شريفا وتأليفا منيفا في علم الأصول ، وأودعت فيه غالب مسائلها المهمة ، مراعيا فيه غاية الايجاز والاختصار ، مع التوضيح والتنقيح ببيانات شافية وعبارات وافية ، بحيث يكون سهل التناول لطالبه مجتنبا عن ذكر ما لا ثمرة فيه ، وسميته ب‍ (درر الفوائد) فجددت النظر فيه فألحقت به ما خطر ببالي الفاتر وفكري القاصر أخيرا مما اختلف فيه رأيي ، وأرجو من الله ان يكون نافعا لاخواني من أهل العلم وان يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فقهنا في الدين ، وفرض علينا معرفة أصوله وكلفنا بالعمل بفروعه ووفقنا لاستنباط احكام شريعته من كتابه وسنة نبيه وأوصيائه الأئمة الغر الميامين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعترته الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغنى محمد رضا بن محمد باقر الموسوي الگلپايگاني قد طلب إلي جمع من أفاضل الطلاب تدريسهم كتاب (درر الفوائد) تأليف المرحوم المبرور المغفور له شيخنا واستاذنا مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة العلامة الفقيه والأصولي الشهير آية الله العظمى وحجته الكبرى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي تغمده الله برحمته فأجبت الطلب وعلقت عليه ما خطر ببالي ابان الدرس وكان القسم الكثير منه في حياته والجزء الأخير منه بعد وفاته. وكنت قد دونته عندي لمراجعتي لدى الحاجة فرغب جمع في طبع المدونات فنزلت عند رغبتهم وذيلت المتن بها وأسميتها (إفاضة العوائد في التعليق على درر الفوائد) والله تبارك وتعالى أسأل وإياه أرجو أن ينفعني بها يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.

(تعريف علم الأصول)

اعلم ان علم الأصول هو العلم (١) بالقواعد الممهدة لكشف حال الأحكام الواقعيّة المتعلقة بافعال المكلّفين ، سواء وقعت في طريق العلم بها ، كما في بعض القواعد العقليّة ، أو كانت موجبة للعلم بتنجزها

______________________________________________________

تعريف العلم

(١) المراد بالعلم في المقام هو اما مطلق الإدراك واما خصوص الإدراك الراسخ المعبر عنه بالملكة ، ولذا صح تعديته إلى (القواعد) بالباء. وليس المراد منه نفس (القواعد) قطعا بتلك القرينة. وهو وإن كان يطلق على نفس القواعد في كثير من الأحيان ، لكن ما لم يضف إلى الاسم الموضوع لذلك العلم ، كالنحو والصرف والأصول ونحوها فان النحو والصرف والأصول وأمثالها أسماء وضعت للقواعد المبحوث عنها في تلك العلوم ، ولها واقعيات في نفس الأمر ، سواء علم بها أحد أم لم يعلم ، ولذا يقال : فلان (عالم بالنحو) أو (ليس بعالم به).

وقد يطلق العلم ويراد به ما هو معنى (النحو والصرف والأصول) مثلا ، لكن ما لم يضف إلى تلك العلوم ، وأما مع إضافته إليها ، فلا يراد به الا الإدراك قطعا. وذلك واضح لا سترة فيه.

والأستاذ دام ظلّه في المقام قال في تعريف علم الأصول : (هو العلم بالقواعد)

على تقدير الثبوت ، أو كانت موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك. ولعل هذا أحسن مما هو المعروف من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، لاستلزامه الالتزام بالاستطراد في بعض المسائل المهمة ، مثل مسائل الأصول العملية ، (٢) ومسألة حجية الظن في حال

______________________________________________________

لا في تعريف الأصول ، فمن أراد تعريف الأصول يقول : (هو القواعد الممهدة.). كما عبر صاحب الكفاية (قدس‌سره) في مقام تعريف الأصول ، بأنه (صناعة.). وان أسند إلى القوم تعريف الأصول ب (العلم بالقواعد الممهدة) لكن لا يخلو ذلك عن مسامحة لا بد لها من بعض التوجيهات التي لا داعي لها.

كما أن تعريف العلوم بالصناعة ـ باعتبار أنها حرفة وشغل ، ثم توصيف الصناعة ب (تعرف بها القواعد) الظاهر في كون الباء للسببية ، ومغايرة الصناعة للمعرفة ـ مع أنها عينها ـ أيضا لا يخلو عن مسامحة والأمر سهل.

(٢) ـ أما العقلية منها مثل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو وجوب رفع الضرر المحتمل ، والتخيير في دوران الأمر بين المحذورين فلوضوح عدم استنتاج حال الأحكام منها لا واقعيا ولا ظاهريا ، وليست هي إلّا أحكاما عقلية محضة لا يستكشف منها حكم شرعي حتى بقاعدة الملازمة ، لأن مجرى القاعدة ـ على القول بها ـ هو ما إذا كان للعقل في نفس الواقعة حكم يستقل به كالظلم حيث يستقل بقبحه ، والإحسان حيث يستقل بحسنه ، أمّا ما لا حكم له في نفس الواقعة ويجوز كونها ذات مفسدة ومصلحة لكن لعدم الحجة على العقاب يستقل بقبحه ، فلا يستكشف من ذلك الحكم حكم شرعي لنفس الواقعة ، وفي الحقيقة لا حكم للعقل في الواقعة حتى يستكشف منه حكم الشرع.

وأما الشرعية منها ، فان قلنا بأنها ليست إلّا أعذارا للمكلف فحالها حال العقلية ، وان قلنا بأنها أحكام شرعية ظاهرية فالظاهر دخولها في التعريف ـ بناء على أن «الأحكام الواقعيّة» في التعريف أعم من الظاهرية كما هو كذلك ـ لأن الأصول المقررة في الأحكام الكلية يبحث فيها لتمهيد قاعدة تستنبط منها الأحكام الكلية الفرعية ،

الانسداد ، بناء على الحكومة ، (٣) لعدم تمهدها لاستنباط.

الأحكام كما هو واضح وانما قيدنا القواعد بكونها الممهدة لكشف

______________________________________________________

كما صرّح به في الكفاية في مبحث الاستصحاب.

نعم قد يقال : ان الظاهر لزوم مغايرة المستنبط مع المستنبط منه ذاتا ، والقاعدة المستنبط منها الأحكام الظاهرية مثل : «لا تنقض» و «كل شيء حلال». لا يغاير المستنبط ـ أعنى وجوب صلاة الجمعة المستصحب ، أو حلية المشكوك ـ إلا بالإجمال والتفصيل ، لأن المستنبط مصداق من مصاديق الكبرى المستنبط منها تلك الأحكام ، فلم يشمل التعريف تلك الأصول لكن سيأتي ما فيه في الفرق بين المسائل الأصولية والفقهية.

(٣) وبما ذكرنا في الأصول العملية ظهر حال الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ، فان العقل في تلك الحالة لا يحكم إلّا بقبح العقاب على الممتثل ظنا ، واستحقاق العقاب لتاركه على تقدير تحقق الحكم في الواقع ، وكذلك الثواب ، وأما على تقدير عدم التحقق ، فالممتثل منقاد والتارك متجر ، فلا يستفاد منها حكم شرعي.

وأما الملازمة فقد عرفت أنها في مورد حكم العقل مستقلا في الواقعة بحكم ، كالظلم حيث يحكم العقل بقبحه ، والإحسان حيث يحكم بحسنه ، وأما في أمثال المقام ـ التي لم يستقل بحكم نفس الواقعة ، بل يحكم مع فرض الجهل به بحكم ـ فلا يستكشف بها الا نفس ما أسند إلى الشارع في ذلك التقدير ، وهو عدم العقاب على تقدير المخالفة الواقعية ، وأما تحقق التقدير فمجهول بالفرض.

وأما التعريف المذكور في المتن فيدخل فيه جميع مسائل الأصول ، لأن البحث عن القواعد العقلية (كمقدمة الواجب ، أو الملازمة ، أو الضدين ، أو اجتماع الأمر والنهي ، أو النهي في العبادات ، أو القطع) يستكشف منها حال الحكم من حيث الثبوت أو العدم.

وأما بحث الحجية مطلقا ، سواء تعلق بتشخيص موضوعها (كالبحث في الظواهر في مباحث الألفاظ ، والبحث عما تثبت به الظواهر) أو تعلق بإثباتها

.................................................................................................

______________________________________________________

(كالبحث عن حجية خبر الواحد وأشباهه مما يبحث عن حجية) فيستكشف منها حال تنجز الحكم الواقعي لو أدّى أحدها إليه على تقدير تحققه واقعا ، وعدم تنجزه فيما لو أدّى الطريق إلى خلافه.

وكذلك الأصول ، فان الأصول الجارية على خلاف الأحكام الواقعية ـ كأصل البراءة أو استصحاب العدم أو التخيير ـ يستكشف منها حال الأحكام من حيث عدم تنجزها ، الأصول الجارية في وفاقها ـ كالاحتياط أو الاستصحاب الموافق ـ يستكشف منها تنجزها.

فظهر شموله لجميع مباحث الأصول من أول مباحث الألفاظ إلى آخر مباحث الأصول العملية.

لكن مع ذلك في شمول ذلك التعريف لمباحث الاجتهاد والتقليد ما لا يخفى ، لأن البحث عن وجوب التقليد على العامي أو تقليد الأعلم عليه ، واشتراط العدالة والأعلمية وغير ذلك في المجتهد ، لا يستكشف منها حكم شرعي كما في تعريف القوم ولا وصف المجتهد كما في ذلك التعريف ، نعم يستكشف منها الحكم وحال المقلد على تقدير رجوعه إلى المجتهد ، ويكون البحث فيها حقيقة بحثا في حجية قول المجتهد أو خصوص الأعلم مع الشرائط المعتبرة في المقلّد.

وبذلك وجّه بعض المشايخ في رسالته في تقليد الأعلم دخوله في الأصول على تعريف القوم.

وقد تفطنت له ، لكنه أيضا لا يخلو عن شيء ، لأن مراد القوم من «القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام» هي : القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام للمجتهد لا للمقلد ، بل يمكن نفي الاستنباط عن فعل المقلد ، كما يشهد بذلك تعريفهم للاجتهاد والاستنباط وجعلهم المجتهد والمستنبط مترادفين. واما على هذا التعريف وان كان يصدق أن حال الحكم يستكشف للمقلد ، لكن هذا خلاف ظاهر المقام.

ولو فرض التزام من بصدد التعريف بأن المراد من كشف الحال هو الأعم من كشفه للمقلد والمجتهد ، لا لخصوص المجتهد كما هو ظاهر ، لا يتأتى ذلك التوجيه في بعض

حال الأحكام ، لخروج مثل علم النحو والصرف وأمثالهما (٤) مما احتيج إليها في طريق كشف حال الأحكام ، وعلم الفقه أما الأوّل ، فلان مسائله ليست ممهدة لخصوص ذلك. وأما الثاني ، فلان مسائله هي

______________________________________________________

مسائله المهمة مثل البحث عن وجوب الاجتهاد ، وكونه عينيا أو كفائيا ، والبحث عن أصل وجوب التقليد ، فان المقلد لا يستكشف من ذلك الحكم وجوب التقليد ، فانه لو لم يكن بحسب طبعه مجبولا على التقليد لا يؤثر حكم المجتهد عليه بوجوب التقليد في وجوب التقليد عليه ، لأن وجوب التقليد في ذلك الحكم عليه أيضا يحتاج إلى التقليد إلى أن يتسلسل.

(٤) كالمنطق والمعاني والبيان مثلا ، فان لها أو لبعضها مدخلية تامة في استنباط الأحكام وقد تقع في طريق الاستنباط لكنها لم تمهد لذلك ، وبذلك يظهر ما في تعريف الأصول بأنها «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق الاستكشاف» من عدم الانعكاس ، لشموله لتلك العلوم.

وقد تفصّي عن الإشكال بأن المراد بالقواعد هي : «الكبريات الواقعة في طريق الاستكشاف» والمسائل النحوية والصرفية وغير ذلك تقع صغرى لتلك الكبريات ، مثلا علم الصرف واللغة يبحث فيهما عن تشخيص الظاهر ، وفي الأصول يبحث عن حجية كل ظاهر ، وفي علم الرّجال يبحث عن تشخيص حال الرّواة وفي الأصول يبحث عن حجية خبر الثقة ، فيقال في الفقه : «هذا المخبر عن قول الإمام عليه‌السلام بوجوب صلاة الجمعة ثقة ، وكل ثقة يجب الأخذ بخبره فهذا الخبر يجب الأخذ بخبره ، فتجب صلاة الجمعة» وقس على ذلك.

لكن ذلك يستلزم استطراد مباحث الألفاظ من أول الوضع إلى آخر العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، الا بعض المباحث العقلية منها كاجتماع الأمر والنهي والضدين وأمثال ذلك ، ولا وجه لاستطراد ذلك.

ويمكن أن يقال : ان ذلك التعريف أيضا لا ينعكس حيث يشمل علم الرّجال ، لأنه لم يمهد الا لكشف حال رواة الأحكام الشرعية.

الأحكام الواقعية الأولية ، وليس ما وراءها أحكام أخر تستكشف حالها بتلك المسائل (٥).

إذا حفظت ما ذكرنا ، تقدر على دفع ما ربما يتوهّم من دخول بعض مسائل الأصول في الفقه كمسألة الاستصحاب (٦) بناء على أخذه من الاخبار وما يشابهها ، تقريره أن الاستصحاب على هذا ليس إلّا

______________________________________________________

وفيه ـ مع عدم اختصاص الغرض في الرّجال بكشف حال رواة الأحكام الشرعية ، بل لكشف حال جميع ما تضمنته الاخبار من التواريخ والأحكام الراجعة إلى الأصول والفروع وغير ذلك ـ أن المراد بالقواعد هي القواعد الكلية ، وعلم الرّجال يبحث فيه عن أحوال كل واحد من افراد الرّجال ، وليست قواعده أحكاما كلية كما هو واضح.

(٥) ـ المراد بالأحكام المستكشف حالها بقواعد الأصول هي الأحكام الكلية الفقهية ، كوجوب الصلاة كل يوم على كل مكلف ، وحرمة كل فرد من افراد الخمر على كل فرد من أفراد المكلفين ، وأمثال ذلك ، فيخرج بذلك الأصول الجارية في الموضوعات كالاستصحاب وقاعدة الطهارة فيها ، وقاعدة الشك بعد العمل ، وبعض قواعد الشكوك ، فانها وان كان يستكشف منها حال الأحكام الواقعية من حيث التنجز وعدمه ، لكن لا يستكشف منها إلا حال حكم جزئيّ جرت فيه إحدى القواعد المذكورة.

نعم قاعدة الطّهارة الجارية في الأحكام داخلة في التعريف ، فانه يستكشف منها حال أحكام كلية ، كطهارة خرء الخفاش مثلا إذا شككنا في طهارته ، وقد التزم الأستاذ في مجلس البحث بكونها أصولية ، ثمّ اعتذر عن عدم تعرضهم لها في الأصول بعدم كونها مسألة نظرية تحتاج إلى بحث مستقل ، وقد التزم به في الكفاية أيضا.

(٦) المراد هو الاستصحاب الجاري في الأحكام ، وأما الجاري في الموضوعات فقد مرّ أنه من القواعد الفقهية.

وجوب البناء على طبق الحالة السابقة ، بل يمكن هذا التوهم فيه حتى بناء على اعتباره من باب الظّن ، فيسري الإشكال في جل مسائل الأصول : كحجية الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك ، بناء على أن الحجية ليست إلّا وجوب العمل بالمؤدى.

______________________________________________________

وتوضيح الإشكال : ان الفقه على ما عرّفوه هو : «العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية» وموضوعه : «أفعال المكلفين» والاستصحاب حقيقته ليس إلّا وجوب العمل على طبق الحالة السابقة ، وهو حكم فرعي موضوعه عمل المكلف ، وكذلك كل ما يبحث فيه عن الحجية ، لأن الحجية ليست إلّا وجوب العمل بمؤدى الحجة.

وحاصل الجواب : ان المستنبط في المسائل الفقهية هي الأحكام التي تطلب نفسها للعمل ، وليس وراءها أحكام كلية أخر يستكشف حالها منها.

لكن لا يخفى أن ذلك الفارق أيضا لا يتم ، لأن قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» و «كل ما يصح بيعه تصح إجارته» وأمثال ذلك قواعد كلية ، ولا يبحث فيها لمطلوبية نفسها بل لاستكشاف أحكام كلية أخر ، مثل : «كل بيع يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «كل هبة لا يضمن بصحيحها لا يضمن بفاسدها» و «كل مجهول لا يصح بيعه مثلا لا تصح إجارته».

وقد أجيب عنه : بأن الظاهر من لفظ الاستنباط مغايرة المستنبط مع المستنبط منه ذاتا ، وفي مثل تلك القضايا لا مغايرة بينهما الا بالإجمال والتفصيل ، كما مرّ في الحاشية الراجعة إلى الأصول العملية فراجع.

لكن فيه : ان الالتزام بذلك يستلزم خروج مثل البحث عن «مقدمة الواجب» والبحث عن «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» وأمثال ذلك ، عن مسائل الأصول فان الكليات المستكشفة من تلك القواعد لا مغايرة ذاتية بينها وبين

وحاصل الجواب أن مسائل الفقه ليست عبارة عن كلّ حكم شرعي متعلق بفعل المكلف ، بل هي عبارة عن الأحكام الواقعيّة الأوّلية ، الّتي تطلب من حيث نفسها ، فكل ما يطلب من جهة كونه مقدمة لإحراز حال الحكم الواقعي ، فهو خارج عن مسائل الفقه ولا إشكال في ان تمام مسائل الأصول من قبيل الثاني.

______________________________________________________

تلك القواعد ، ولم يلتزم أحد بخروج مثل ذلك عن الأصول.

ان قلت : في بحث المقدمة والملازمة يبحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، وعن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع والحكم المستنبط منها (وهو وجوب الوضوء أو حرمة الظلم) يغاير الملازمة ذاتا.

قلت : في قاعدة «كلّ ما يضمن ...» أيضا يبحث عن الملازمة بين الضمانين ، وفي قاعدة «كل ما يصح بيعه ..» يبحث عن الملازمة بين الصحتين ، وهي غير الحكم بالضمان في البيع والحكم بعدمه في الهبة ، أو الحكم بصحة إجارة الأعيان وعدم صحة إجارة غيرها مثلا.

والحاصل ان بعض مسائل الأصول وان كان يغاير ما استنبط منه ذاتا ، لكن ليس كلها كذلك.

وقد يقال : بأن تطبيق الكبرى على الصغرى لا يسمى استنباطا ، بل الاستنباط يحتاج إلى إعمال نظر واجتهاد ، فلا يصدق على مثل المقام.

قلنا : أوّلا : فيه منع ، فان ذلك يستلزم خروج البحث عن الملازمة عن الأصول ، لأن العقل يحكم بقبح الظلم ، بلا إعمال للنظر وينطبق عليه «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع» ولا يحتاج إلى إعمال نظر الا تطبيق الكبرى على الصغرى.

وثانيا : لو قلنا بلزوم الأعمال للنظر في صدق الاستنباط فانه يكفي فيه أن يكون بعض مقدماته نظرية ، ولو كان صغراه ، بأن كان موضوع القضية مأخوذا فيه حكم يحتاج إلى إعمال نظر ، مثل مقدمة الواجب واجبة ، فان تشخيص مقدمة الواجب يحتاج إلى إعمال النّظر لتشخيص الواجب فكذلك في المقام ، فان تشخيص ضمان

ولا يخفى عليك أن ما ذكرنا من الميزان أسلم مما ذكر : من أن مسائل الفقه عبارة عن كل حكم ، يقدر المقلّد على العمل به بعد ما أفتى به المجتهد ، كحرمة الخمر مثلا ونظائرها. بخلاف مسائل الأصول ، فإنّه لا يقدر على العمل بها ، وإن أفتى بها المجتهد ، كحجية خبر الواحد وأمثال ذلك ، فان هذا مخدوش بان قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وبالعكس من القواعد الفقهية (٧). ومن المعلوم عدم تمكن المقلّد من العمل بها بعد فتوى المجتهد بتلك القاعدة ، بل يحتاج إلى تعيين ما هو صغرى لتلك القاعدة.

______________________________________________________

صحيح البيع يحتاج إلى نظر واجتهاد ، فبمئونته نستكشف حكم الفاسد منها مع ضميمة الكبرى.

والحاصل انه لا إشكال في صدق الاستنباط في المقام.

وبذلك يظهر عدم انعكاس ما في الكفاية ، حيث يشمل تلك القواعد التي ذكرت ، فانها تقع في طريق استنباط الأحكام ، ولا يندفع بمجرد تقييد الأحكام المستكشفة بالكلية ـ كما عن بعض ـ لأن الأحكام المستكشفة منها أيضا كلية كما لا يخفى.

(٧) بل مخدوش بمثل «الصلاة واجبة» أيضا ، حيث ان المقلد لا يقدر على العمل به ما لم يعلم بموضوعه ، ومعلوم ان موضوعه الواجد للاجزاء والشرائط من المستنبطات ويحتاج إلى إعمال نظر واجتهاد زائدا على وجوبه ، وكذلك بمثل «كل ما لا يؤكل لحمه لا يجوز استصحاب أجزائه في الصلاة» ، وكل حكم شرعي يتعلق بموضوع يحتاج إلى النّظر والاجتهاد ، أو إلى موضوع ذي حكم شرعي توقف استنباط حكمه على الاجتهاد وإعمال النّظر ، وكذلك ما كان ناظرا إلى الأدلة لتعميم حكمها أو تخصيصه بلسان الحكومة ، مثلا «لا ضرر» و «لا حرج» و «لا شك لكثير الشك» وغير ذلك ، فانها ناظرة إلى الأدلة ولا حظّ للمقلّد فيها قبل المراجعة إلى المجتهد.

(موضوع علم الأصول)

ثم اعلم ان موضوع هذا العلم (٨) عبارة عن أشياء متنه تعرضها تلك المسائل كخبر الواحد والشهرة والشك في الشيء مع العلم بالحالة السابقة والشك في التكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة وأمثال ذلك مما يبحث عن عوارضه في هذا العلم ولا يجمعها الأدلّة لا بعنوانها ولا بذواتها.

______________________________________________________

موضوع علم الأصول

(٨) لمّا كان حقيقة موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله مثل الصلاة والصوم والزكاة في الفقه ، والفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر في النحو ، وما ذكر في المتن في الأصول ، وأمثال ذلك ، عبّر الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ عن الموضوع بأشياء متشتتة إلخ. وأما الجامع فليس بما هو أولا وبالذات موضوع العلم ، بل ان كان بين تلك الموضوعات جامع ذاتي ومعلوم ، كالكلمة والكلام في النحو ، أو فعل المكلف في الفقه مثلا فيؤخذ به ويشار به إلى موضوعات المسائل تارة ويقال : «موضوع علم النحو الكلمة والكلام» و «موضوع علم الفقه هو أفعال المكلفين»

ويسند الموضوعية إلى نفس ذلك الجامع أخرى إذا أخذ لا بشرط ، باعتبار أن العارض لفرد من افراد الطبيعة عارض على نفس الطبيعة ، مثلا : لو كان فرد من أفراد

اما الأول فللزوم خروج مسائل حجية الخبر والشهرة والظواهر (٩).

______________________________________________________

الإنسان عالما يصح أن يقال : «الإنسان عالم» ولا يصح ان يقال : «الإنسان ليس بعالم» وان صح أن يقال : «الإنسان جاهل» باعتبار فرد آخر منه ، وأما طبيعة الجامع من حيث هي طبيعة الجامع فلم تكن موضوعا في مسألة من مسائل العلوم ، فان الصلاة في الفقه بما هي صلاة واجبة لا بما هي فعل المكلف ، وكذا الفاعل في النحو بما هو فاعل مرفوع لا بما هو كلمة وأمثال ذلك ، فالموضوع في الحقيقة اشخاص تلك الموضوعات ، والإسناد إلى ذلك الجامع أو الإشارة به إلى ذلك انما هو لتسهيل الأمر.

وان لم يكن بينهما جامع ذاتي معلوم فنعبّر عنه بجامع عرضي ، ولو بعنوان أنه : «ما يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة» كما يعرّفون موضوع كل علم بذلك.

والمراد بالعرض الذاتي في المقام ما يعرض الشيء بلا واسطة في العروض ـ كما في الكفاية ـ وان لم يكن ذاتيا باصطلاح المنطق أو المعقول ، لأن الوجوب للصلاة ما يعرض فعل المكلف لذاته ، كإدراك الكليات العارض للناطق ، لا لجزئه المساوي أو الأعم منه كالإدراك العارض للإنسان بتوسط الناطق ، أو التحرك بالإرادة العارض له بتوسط الحيوان ، ولا لأمر مساو له كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب ، بل أمر مجعول من قبل الشارع يعرضه من جهة أمر خارج أخص ، وهو كونه ذا مصلحة ملزمة ، وقس على ذلك حجية خبر الواحد في الأصول ، وغير ذلك من موضوعات مسائل العلوم.

وحيث علم عدم الدخل للجامع في الموضوعية ، يعلم عدم لزوم العلم بعنوان الجامع لو قلنا بتحققه قطعا ، لاشتراك جميع القضايا في تحصيل غرض خاص باعث على تدوين العلم ، مع تسليم أن الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، بل لا نحتاج إلى العنوان المذكور. ومن ذلك يعلم عدم لزوم الالتزام بأن موضوع علم الأصول هي الأدلة بعنوانها أو ذاتها حتى يورد عليه ما أورد.

(٩) وذلك لوضوح أن البحث عن الحجية بحث عن إثبات عنوان الدليل لا عن عوارضه ، فيدخل في المبادي ، وكذا يلزم عليه خروج الأصول العمليّة أيضا ، لأن

وأمثال ذلك مما يبحث فيه عن الحجيّة في علم الأصول ودخولها في المبادي بل للزوم ذلك في مسألة التعادل والتراجيح لأن الحالة جائز.

واما الثاني فلعدم تماميته في تمام المسائل كالأصول العملية (١٠) والالتزام بكونها استطرادا كما ترى وقد تكلف «شيخنا المرتضى ره» في إرجاع البحث عن حجية الخبر إلى البحث عن الدليل حيث قال (قده) ان البحث فيها راجع إلى ان السنة الواقعية هل تثبت بخبر الواحد أم لا (١١) وأنت خبير بان هذا على فرض تماميته في مسألة

______________________________________________________

البحث فيها ليس بحثا عن ذات الدليل فضلا عن عارضه ، لأن الشكوك ليست من الأدلة الأربعة ، وانما لم يتعرض لها لوضوحها ، خصوصا بعد ما تعرّض لخروجها على الثاني.

(١٠) ولعدم تماميته أيضا في مثل مباحث الألفاظ ، مثل ان الأمر للوجوب أو للندب ، والنهي للحرمة أو الكراهة ، والفور أو التراخي ، والمرة أو التكرار وأمثال تلك المباحث ، وكذلك البحث في العموم والخصوص ، والمطلق والمقيد ، والبحث عن حجية الظاهر ، فان موضوع تلك المباحث ليس ذوات الأدلة أيضا ، لأن البحث فيها لا ينحصر بخصوص أوامر الكتاب والسنة ، والعموم والخصوص والمطلق والمقيد الوارد فيها ، وكذلك البحث عن حجية الظاهر لا ينحصر بخصوص ظواهر الكتاب والسنة ، وان كان الغرض في جميعها معرفة أحوال الكلمات الواردة في الكتاب والسنة ، لكن الكلام في الموضوع لا في الغرض وخروج جميع المسائل المذكورة ـ مع تمام مسائل الأصول العملية عن علم الأصول ـ مما لم يلتزم به أحد.

(١١) قد أورد شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ على ما أفاده الشيخ رحمه‌الله بان اللازم علينا ملاحظة ان الموضوع والمحمول في القضية المبحوث عنها عند الأصولي ما ذا؟ ولا إشكال في أن المبحوث عنه في الأصول والموضوع في القضية هو : «خبر

.................................................................................................

______________________________________________________

الواحد» والمحمول «حجة» أو «ليس بحجة» وذلك خارج عن البحث عن الأدلة وأما إمكان إرجاع البحث إلى السنة حتى يدخل في البحث عنها فلا داعي له بعد ما عرفت من عدم الحاجة إلى الجامع المعلوم ، مع ان ما يمكن إرجاعه إليه ليس مناطا في تعيين البحث ، بل المناط فعلية البحث ، مثلا يمكن إرجاع البحث في «الصلاة واجبة» إلى ان «وجوب الصلاة ثابت أم لا» أو «إيجاب الله تعالى للصلاة ثابت أم لا» حتى يصير البحث كلاميا ، ولكن ذلك ليس مناطا في تعيين البحث.

وأورد عليه صاحب الكفاية ـ فيها وفي الحاشية ـ بما حاصله : ان المراد بالثبوت ان كان الثبوت الواقعي فالبحث عنه بحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، والبحث في ذلك داخل في مبادئ العلم ـ ان لم ينقح في علم آخر سابق عليه رتبة ـ ولا يعد من مسائل العلم ، لأن المسائل لا بد أن يبحث فيها عن مفاد كان الناقصة ، وإثبات عرض للموضوع أو نفيه وان كان المراد الثبوت التعبدي (وهو وجوب العمل على طبقها) فهو وان كان من العوارض ولكنه من عوارض الخبر الحاكي لا السنة الواقعية ، لأن وجوب العمل على السنة الواقعية أيضا وان كان من العوارض لها ، لكن محل بحثه علم الكلام ، لا الأصول.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ على تقدير الشق الأول : بعدم لزوم كون البحث في المسائل بحثا عن العوارض ومفاد كان الناقصة ، بل يمكن تدوين علم يبحث في جميع مسائله أو بعضها عن وجود شيء أو أشياء في العالم ، ولا مانع لذلك من عقل ولا غيره ، بل لا يبعد وقوعه في علم الكلام ، فان عمدة البحث فيه عن وجود الصانع ووجود المعاد بمفاد كان التامة ، وإرجاع البحث إلى ان : من الوجود : «الواجب» أو لا؟ ومن الوجود : «المعاد» أو لا؟ لا داعي له ، وان التزموا به لم يكن مناطا كما مر آنفا.

أقول : وان كان ذلك مصححا للبحث عن العوارض ، فنقول في المقام : هل من السنة : «الخبر المحكي بقول زرارة» أو لا؟ وعلى الشق الثاني : ان وجوب العمل وان كان من عوارض الخبر الحاكي ، ولكن يمكن جعله من عوارض السنة بمعنى ان نقول :

.................................................................................................

______________________________________________________

«ماهية الخبر هل يجب العمل عليه ولو كان مشكوكا؟» مثل ما لو أخبر العادل برؤية الهلال يمكن ان يقال : «هل الهلال يثبت بقول العادل؟» ويمكن ان يقال : «هل قول زيد حجة أو لا؟» ومعنى الثبوت والحجية على التقديرين وجوب العمل على طبق ثبوت الهلال واقعا وان لم يكن محرزا.

أقول : اما كون مراد الشيخ رحمه‌الله بالثبوت الثبوت الواقعي بمفاد كان التامة فمما لا يرضى أحد ان ينسب إلى الشيخ ، وهل يمكن أن ينسب إلى الأصولي ان حقيقة قول المعصوم عليه‌السلام غير منوط بقول زرارة ، واما الثبوت التعبدي وان أمكن ان يوجه كما ذكرنا ، لكنه خلاف الظاهر كلامه.

والّذي يقوى في النّظر هو : أنّ المراد بالثبوت الثبوت في مرحلة الظاهر. وبعبارة أوضح : البحث في إثبات قول المعصوم عليه‌السلام لا في ثبوته ، والمقصود بالثبوت هو الثبوت عندنا لا في نفس الأمر ، كما يقول الحاكم : «ثبت ان المال لزيد» ومعلوم ان هذا البحث بحث عن مفاد كان الناقصة ، لأن ثبوت السنة عند تحققه واقعا من عوارضها.

فان قلت : كما أن الأصولي لا يرضى بالبحث عن ثبوت السنة بمفاد كان التامة لوضوح عدم ارتباطها بالخبر الحاكي ، كذلك لا يرضى بالبحث عن ثبوتها عندنا أيضا ، لأن من الواضح عدم ثبوت السنة الواقعية بالخبر الحاكي بذلك ، لأن الفرض انها بعد مشكوكة.

قلت : نعم ، نفس القول مشكوك صدوره عن الإمام عليه‌السلام لكن رأيه عليه‌السلام يتضح لنا على تقدير تحققه.

بيان ذلك : ان الإمام عليه‌السلام لو أمرنا بإتيان صلاة الجمعة واقعا ، ثم منع مانع عن وصول ذلك الخطاب إلينا ، فأمرنا بمتابعة قول زيد ، وقال زيد : «قال الإمام عليه‌السلام : صلاة الجمعة واجبة» وخالفنا قول زيد ، فيصح أن يؤاخذنا بترك صلاة الجمعة ، فان قلنا : ما كنا عالمين بذلك ، فيصح ان يقول : ألم تسمعوا مني وجوب متابعة زيد؟ فان قلنا : بلى ، فقد اعترفنا بكوننا عالمين بوجوب صلاة الجمعة ،

حجية خبر الواحد وأمثالها لا يتم في الأصول العملية (١٢) فالأوفق بالصواب ان يقال : لا نلتزم بكون الجامع بين شتات الموضوعات هو الأدلّة ولا بلزوم ان يكون للجامع بينها اسم خاص يعبر عنه.

فتلخص مما ذكرنا ان وحدة العلم ليست بوحدة الموضوع ولا

______________________________________________________

لأنه مصداق متابعة زيد ، وبالفرض كنا عالمين بوجوب متابعته ، فيصح ان يقال : لو كان خبر الواحد حجة (يعنى لو ثبت وجوب العمل به من المعصوم) يثبت نفس رأيه الواقعي.

لا يقال : وجوب المتابعة غير وجوب الجمعة ، وما هو معلوم وجوبها لا وجوب الجمعة وان كانا متحدين مصداقا ، كما إذا علم بوجوب إكرام العالم الهاشمي لكونه عالما لا لكونه هاشميا ، فيصح ان يقال : وجوب إكرام العالم معلوم ووجوب إكرام الهاشمي غير معلوم ، وان كان وجوب إكرام المصداق معلوما.

لأنا نقول : نعم ، لو كان الوجوبان حكمين مستقلين جعل كل منهما في موضوع في عرض الآخر صح ما ذكر. واما لو كان أحدهما طريقا وعلامة إلى الآخر ، فعلى تقدير المطابقة لم يكن الا نفس الواقع ، وقد علم بذلك ولو لم يكن في الواقع فليس الحكم الطريقي الا صوريا لا واقع له ـ كما صرح بذلك في الكفاية ـ وذلك معنى ما قلنا من ثبوت السنة الواقعية عندنا.

نعم ، يمكن ان يقال بأن السنة هي قول الحجة أو فعله أو تقريره ـ على ما قرّبه الشيخ رحمه‌الله ـ ومعلوم ان قول الحجة لا يثبت بالخبر الحاكي ، لما مرّ من أنه بعد مشكوك فيه ، وانما يثبت به رأيه عليه‌السلام لو كان الطريق موافقا ، فالسنة لم تثبت ، والثابت ليس بسنّة.

إلّا ان يوجّه بأن رأى الإمام عليه‌السلام أيضا دليل باعتبار كونه كاشفا عن حكم الله تبارك وتعالى ، فبذلك يتم التوجيه ، والظاهر ان ما قلنا أحسن حمل لكلامه ، زيد في علو مقامه.

(١٢) وكذلك لا يتم فيما ذكرنا عند قوله : واما الثاني ، فراجع.

بوحدة المحمول (١٣) بل انّما هي بوحدة الغرض المتعلق بتدوينه ولذلك يمكن ان يكون بعض المسائل مذكورا في علمين لكونه منشأ لفائدتين صار كل منهما سببا لتدوينه في علم.

هذا إذا عرفت ما ذكرنا فلنشرع فيما هو المقصود وقد رتبته على مقدمات ومقاصد ، اما المقدمات

(حقيقة الوضع)

فمنها ان الألفاظ ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النّظر عن الوضع وبه يوجد نحو ارتباط بينهما وهل الارتباط المذكور مجعول ابتدائي للواضع

______________________________________________________

(١٣) بعد ما التزم بعدم لزوم ان يكون للجامع بين شتات الموضوعات اسم خاص ، فلازم ذلك عدم صلاحية الموضوع لتمايز العلوم ، لأن ما هو غير معلوم بعنوانه كيف يميز به العلم ، وكذلك المحمول ، بل هو أسوأ حالا من الموضوع ، ولذا لم يعرف الالتزام به من أحد.

وحيث نفى التمايز بالموضوع والمحمول أثبت كونه بالغرض ، وجعل برهان ذلك إمكان ذكر بعض المسائل في علمين ، والمقصود ذكره فيهما مع اتحاد الموضوع والمحمول والحيثية ، مثل : قاعدتي التحسين والتقبيح العقليين في الأصول والكلام ، وقبح العقاب بلا بيان على الشارع فيهما ، وأمثال ذلك ، مثل كثير من مسائل النحو والبيان والأصول ، مثلا حقيقة معاني الحروف والأسماء يبحث عنها في الأصول والنحو والبيان ، وشطر من مباحث الأوضاع مما يذكر في البيان بعينها يذكر في الأصول بلا تغيير حيثية ، والالتزام بكونها مبادئ الأصول ـ كما عن بعض ـ مما لا وجه له ، فإمكان ذلك ووقوعه دليل مستقل على بطلان كون التمايز بالحيثيات كالموضوع والمحمول ، وان كان ذكر لبطلانه وجوه عقلية أخر لا مجال لذكرها.

بحيث كان فعله إيجاد ذلك الارتباط وتكوينه أم لا (١٤) أو فعل امرا آخر والارتباط المذكور صار نتيجة لفعله لا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين الذين لا علاقة بينهما أصلا والّذي يمكن تعقله ان يلتزم الواضع انه متى أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تكلم بلفظ كذا فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه فالعلاقة بين

______________________________________________________

حقيقة الوضع

(١٤) وتحقيق ذلك يحتاج إلى مقدمة وهي : ان الارتباط بين اللفظ والمعنى هل هو من الأمور الاعتبارية التي لا حقيقة لها الا البناء والاعتبار ، كالارتباط بين المالك والمملوك والزوج والزوجة ، حتى تناله يد الجعل؟ فان مثل الملكية والزوجية ، وان لم تكن من الأمور الفرضية الصرفة ، التي لا واقعية لها في الخارج ، ولا في الذهن إلّا بفرض وجودها ، كأنياب الأغوال (كأن نفرض أغوالا ونفرض لها أنيابا ، ونعبّر عنها بذلك التعبير). ولكن ليس أيضا من الأمور الواقعية التي لها تحقق في الخارج كالجواهر والاعراض ، ولا من الأمور المتأصلة في الواقع ونفس الأمر ، وان لم يكن لها وجود في الخارج كالارتباط بين العلة والمعلول ، بل لها وجود بنائي واعتباري حقيقة لا فرضا ولا ريب أن تلك الأمور قابلة للجعل ابتداء على القول بتأصلها ، لأن الوجودات البنائية توجد بالبناء ولا تحتاج في وجودها إلى أزيد منه ، وتتبع في الضيق والسعة والشرائط والموانع أيضا ذلك البناء ، فلو بنى العرف على وجود الملكية عند قول البائع : «بعت» باللفظ العربي مقدما على القبول قاصدا إيجاد ذلك تتحقق الملكية العرفية بتلك الشرائط ، وان لم يشترطوا فيها اللفظ أو العربية أو التقدم تتحقق الملكية العرفية مع فقدها أيضا.

أو من الأمور الواقعية التي لها تأصل في نفس الأمر ، كالملازمة بين العلة والمعلول ، التي لها تحقق وواقعية في الواقع ونفس الأمر ، وان لم يكن معتبر يعتبرها ولاحظ يلاحظها ، ولا ريب أن مثل ذلك الارتباط غير قابل للجعل ، بل ان كان الشيء بحسب خلقته الذاتيّة علة لشيء كان ذلك الارتباط بينهما موجودا ، وإلّا فلا يمكن جعله ،

.................................................................................................

______________________________________________________

كالملكية والزوجية ، وذلك واضح ، فان الجمد بعد ما لم يكن علة للإحراق كيف يمكن جعله علة له ، وكيف يمكن جعل الملازمة بينه وبين الإحراق. والارتباط بين اللفظ والمعنى من قبيل الثاني لا من قبيل الأول.

ولا يخفى أن المقصود من الارتباط ليس الارتباط بين اللفظ وذات المعنى الخارجي ، فان ذات المعنى حالها بعد الوضع حالها قبل الوضع ، ولا ارتباط بين لفظ زيد وذاته في الخارج ـ وهو واضح ـ ولا في الذهن ، لأنه قد يتصور ذات المسمى بلا تصور اللفظ ، وقد يتصور اللفظ من دون تصور معناه كما تقول : «لفظ زيد ـ مثلا ـ ساكن الوسط» بل المقصود الملازمة بين وجود اللفظ وإرادة المتكلم لمعناه ـ وسيأتي إن شاء الله توضيح ذلك في البحث عن كون الألفاظ موضوعة لمعاني مرادة لا لذات المعاني ـ لكن فيما إذا كانت شرائط التكلم موجودة مثل كون المتكلم عاقلا في مقام الإفادة مع مراعاة متابعة الواضع ، فانه مع تلك الشرائط واقعا لا يمكن تخلف اللفظ عن إرادة المعنى.

لا يقال : بناء على ذلك تكون دلالة الألفاظ على إرادة معانيها مقطوعة بحكم العقل ، وذلك ينافي ما هو واضح من أن الألفاظ غالبا لا تفيد إلّا الظن ، مع ما هو المصطلح المشهور من كون دلالتها على معانيها وضعية ، فلو كانت بينهما ملازمة عقلا خرجت عن كونها وضعية.

فانه يقال : ما قلنا من عدم إمكان التخلف انما هو بعد إحراز الشرائط من عدم كون المتكلّم غافلا وكونه في مقام التفهيم ومقام متابعة الواضع ، وأما إحراز تلك الشرائط غالبا فلا يكون الا بأصول عقلائية ، ووظيفة اللفظ هو الكشف عن المراد بعد إحراز ما ذكر ، ومعلوم أن النتيجة تابعة لأخس المقدمتين ، ولذا يكون المراد ظنيا ، وأما مع إحراز جميع ذلك فهو موجب للقطع بالمراد ، كما هو واضح.

وأما كونها وضعية فباعتبار أن اللفظ والمعنى قبل الوضع لم تكن بينهما تلك الملازمة العقلية ، وانما حدثت بعد الوضع كما يقال في دلالة سرعة النبض على الحمى أنها طبيعة ، لاقتضاء الطبع ذلك ، مع أن العقل يحكم بوجود الحمى عند السرعة ،

اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام وليكن على ذكر منك ينفعك في بعض المباحث الآتية إن شاء الله وكيف كان الدال على التعهد تارة

______________________________________________________

لكن هذا الحكم باقتضاء الطبع ذلك ويكون إحرازه بالتجربة ، ففي المقام يحكم العقل بوجود إرادة المعنى عند إرادة اللفظ وان كان منشأ ذلك جعل الواضع.

إذا عرفت ذلك تعرف : ان الملازمة المذكورة بين اللفظ والمعنى غير قابلة للجعل ابتداء بعد ما لم تكن بينهما قطعا ، حيث أنها ليست مما لا واقعية لها ـ كما مر في الملكية ـ ولذا لا يمكن للعالم بالوضع بعد سماع اللفظ عدم الانتقال إلى إرادة المعنى ، بخلاف الملكية ، فانه يمكن لبعض الناس أن يبني على خلاف ما بنى عليه العقلاء نعم يمكن جعل شيء هو علة عقلية للانتقال عند الانتقال ، بأن يتعهد الواضع ويبني على ذكر اللفظ عند إرادة المعنى ، وذلك البناء علة لإرادة المعنى عند ذكر اللفظ ، لأن ما في نفس الغير مجهول ولا يعلم به غيره ، فإذا تعهد بذكر لفظ خاص عند تحقق معنى خاص لبيان أغراضه ، فلا محالة يفهم إرادته له عند ذكره مع اجتماع ما ذكر من الشرائط ، وبعد حفظ تلك المباني يحكم العقل بوجود إرادة المعنى عند ذكر اللفظ.

ولا يرد على ذلك ما عن بعض في بعض ما كتبه. وحاصله : ان إرادة المعنى من اللفظ فرع الدلالة ، والدلالة على هذا فرع للعلم بالتعهد ، وهو متأخر عن نفس التعهد ، وكيف يمكن الالتزام بالإرادة المتأخرة عن الوضع بمرتبتين قبل الوضع؟

ومحصل الدفع : ان الواضع بعد ما أخبر بحالة خاصة في نفسه ، حين ذكر اللفظ الفلاني يفهم المخاطب بعد ذلك من ذلك اللفظ تلك الحالة ، وان لم يكن يفهم قبله ، فلا يتأخر الالتزام بإرادة الإفهام عن الدلالة مع قطع النّظر عن ذلك التعهد ، بل بذلك توجد الدلالة ، وهذا التعهد للعالم به علة للانتقال عند الانتقال ، ففي الحقيقة فعل الواضع إيجاد للعلة لا للعلية حتى يستحيل ، ومعلوم أن المراد بالتعهد ليس التعهد تفصيلا بل : «سميته كذا» متضمن لذلك بالإجمال.

وأنت إذا قرأت ما تلوناه عليك من أوّله إلى آخره تعرف معنى قوله دام ظله : «لا يمكن جعل العلاقة» إلى قوله : «والّذي يمكن تعقله ...».

يكون تصريح الواضع وأخرى كثرة الاستعمال ولا مشاحة في تسمية الأول وضعا تعيينا والثاني تعينا (١٥).

(أقسام الوضع)

ثم ان الملحوظ حال الوضع اما ان يكون معنى عاما كليا واما ان يكون خاصا وعلى الأول اما ان يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى العام واما ان يوضع بإزاء جزئياته وعلى الثاني لا يمكن ان يوضع الا بإزاء الخاصّ الملحوظ فالأقسام ثلاثة لأن الخاصّ الملحوظ ان لوحظت الخصوصية فيه حين الوضع فالموضوع له لا يكون إلّا خاصا وان جرد عن الخصوصية فهو يرجع إلى تصور العام هكذا قال بعض الأساطين دام بقاؤه.

أقول يمكن ان يتصور هذا القسم أعني ما يكون الوضع فيه خاصا والموضوع له عاما فيما إذا تصور شخصا وجزئيا خارجيا من دون ان يعلم تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الافراد ، ولكنه يعلم إجمالا باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الافراد (مثلا) كما إذا رأى جسما من بعيد ولم يعلم بأنه حيوان أو جماد وعلى أي حال لم يعلم انه داخل في أي نوع فوضع لفظا بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع ، فالموضوع له لوحظ إجمالا وبالوجه ، وليس الوجه عند هذا

______________________________________________________

(١٥) بل لا يخلو عن مناسبة ، حيث أن التعهد المذكور لما كان سببا لتعيين اللفظ للمعنى ، فان كان الدال عليه التصريح فيكون الوضع تعيينيا ، لأنه عيّن بذلك تلك اللفظة لذلك المعنى ، وان كان باعثه كثرة الاستعمال ، بمعنى عدم تعهد شخص خاص ، بل استعمل فيه حتى حصل تعهد قهري لجميع أهل اللسان ، فيصح أن يقال تعيّن اللفظ للمعنى من دون تعيين أحد ، فيكون التعهد قهريا ووضعا تعيّنيا.

الشخص الا الجزئي المتصور ، لأن المفروض ان الجامع ليس متعقلا عنده إلّا بعنوان ما هو متحد مع هذا الشخص (١٦).

______________________________________________________

أقسام الوضع :

(١٦) وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان القسم الثالث وهو يتوقف على ذكر أمور :

الأول : ان وضع اللفظ للمعنى حيث أنه حكم من الأحكام ، يتوقف على تصور موضوعه اما تفصيلا واما إجمالا ، لكي لا يكون اختصاص اللفظ به تصديقا بلا تصور.

الثاني : ان ما يتوقف عليه الحكم هو تصور نفس الموضوع المجعول له الحكم ، عاما كان أو خاصا ، مثلا لا يمكن جعل حكم لزيد بشخصه إلّا بتصوّر ذاته الشخصية ولو إجمالا وكذا الإنسان.

الثالث : ان العام والخاصّ وان كانا متحدين ذاتا ولكنهما متباينان صورة ، وصورة العام ليست بصورة الخاصّ لا تفصيلا ولا إجمالا ، فلا يمكن وضع اللفظ للخاص بمجرد تصور العام ، لما قلنا من أن الوضع حكم ويحتاج إلى تصور نفس الموضوع ، وتصور العام غير تصور الخاصّ ، نعم يمكن بعد تصور العام أن يشار إشارة إجمالية إلى افراده بعنوان ما هو متحد مع هذا العام ، وبتلك الإشارة الإجمالية نجعل الافراد موضوعا للحكم ، فبتصور العام نتصور الخاصّ إجمالا ، لا أن تصوره تصور له من وجه ، فانهما متباينان كما ذكر ، ولذا يحتاج في الاستغراق إلى لفظ «كل» أو غيره من دوال الاستغراق ، فانها في الحقيقة تشير إلى ذلك ، وذلك معنى مرآتية العام.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان ذلك المعنى بعينه موجود في طرف الخاصّ ، بمعنى أن الواضع بعد ما يتصور الفرد يشير إجمالا إلى ما هو متحد معه من الجامع ، ويضع اللفظ له كما في العام ، هذا هو التحقيق في المقام.

ولو قيل في مرآتية العام : أن تصوره وان كان مباينا لتصور الخاصّ ، لكن اتحادهما ذاتا يكفي لجعل الحكم للخاص بتصور العام ، لأن ذات الخاصّ صار مرئيا

والحاصل انه كما يمكن ان يكون العام وجها لملاحظة الخاصّ لمكان الاتحاد في الخارج ، كذلك يمكن ان يكون الخاصّ وجها ومرآتا لملاحظة العام لعين تلك الجهة. نعم فيما إذا علم بالجامع تفصيلا لا يمكن ان يكون الخاصّ. وجهالة ، لتحقق الجامع في ذهنه تفصيلا بنفسه لا بوجهه فليتدبر.

ثم انه لا ريب في ثبوت القسمين أعني ما يكون الوضع فيه خاصا والموضوع له كذلك كوضع الاعلام الشخصية وما يكون الوضع فيه عاما والموضوع له كذلك كوضع أسماء الأجناس. واما الأخير فهو ـ على تقدير إمكانه كما مر ـ غير ثابت واما الوضع العام والموضوع له الخاصّ فقد يتوهم وضع الحروف وما أشبهها كأسماء الإشارة ونحوها ومما يمكن ان يكون منشأ التوهم امران (أحدهما) ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن آلة لملاحظة حال الغير ، مثلا لفظة من موضوعة للابتداء الّذي لوحظ في الذهن آلة ومرآة لملاحظة حال الغير. ولا إشكال في ان مفهوم الابتداء وان كان بحسب ذاته كليا ولكن بعد تقيده بالوجود الذهني يصير جزئيا حقيقيا ، كما ان المفهوم بعد تقيده بالوجود الخارجي يصير جزئيا كذلك (ثانيهما) ـ انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة لتعرف متعلقاتها الخاصة فهي

______________________________________________________

تحت العام وان لم تتحقق صورته الشخصية في الذهن ، وهذا المقدار يكفى لجعل الحكم له ، نظير أن يتصور أحد عنواني ذي عنوانين ، ويجعل ذاته موضوعا للحكم ، فان تصور وجه الشيء تصوره بوجه.

قلنا : ذلك الملاك أيضا بعينه موجود في طرف الخاصّ ، فانّه بعد اتحاده مع العام يمكن أن يقال : تصور أحد المتحدين تصور لذات الآخر وان لم يتصور عنوانه ، فبعد ما رأى الواضع شيئا لم يعلم حقيقته يتصور ذلك الفرد ويضع اللفظ لما هو متحد معه ، من دون تصور له إلّا بعنوان متّحد معه وهو الفرد ، وهذا معنى قوله : «والحاصل».

تصير جزءها ، إذ لا تعقل لها بدونها ، مثلا لا يمكن تعقل معنى لفظة من الا بعد ارتباطه بالسير والبصرة ونظيرهما فلهما ولنظائرهما من العناوين الخاصة دخل في مفهوم معنى لفظة من (١٧) وهكذا غيرها من الألفاظ الأخر التي وضعت لمعنى حرفي.

هذا والحق ان معاني الحروف كلها كليات وضعت ألفاظها لها وتستعمل فيها ، ولا تحتاج هذه الدعوى بعد تعقل المدعى إلى دليل آخر إذ من المعلوم انه ما ادعى القائل بجزئية المعنى الحرفي الا عدم تعقل كونه كليا (١٨).

______________________________________________________

(١٧) لا يخفى أنه على الفرض يصير معنى الحروف جزئيا إضافيا ، لأن عنوان السير والبصرة وأمثالهما لا يخرجه عن الكلية ، حيث أن ابتداء السير المتعلق بالبصرة له أفراد كثيرة ، نعم لو أخذ فيه كل جزئي من جزئيات متعلقاته الخاصة ليكون شخص السير الخارجي ونقطة المبدأ منه من البصرة مأخوذا فيها يكون جزئيا خارجيا وكذا لو كان الموضوع له للفظة «من» مثلا كل جزئي من الابتداءات الخارجية المأخوذة آلة ومرآة لحال متعلقاتها الخاصة ـ كما احتملها صاحب الفصول ـ والفرق بينها وبين ما ذكره الأستاذ ـ دام علاه ـ أولا أن الأول جزئي حقيقي ذهني ، وان كان في الخارج له أفراد كثيرة مع قطع النّظر عن الوجود الذهني ، بخلافه على القسمين فانه جزئي خارجي.

(١٨) لعله ـ دام ظله ـ أراد نفى الدعوى الصحيحة المطابقة للوجدان ، وإلّا فصريح الفصول دعوى تبادر المعنى الجزئي ، وان شئت فراجع ، نعم الإنصاف أن المتبادر من لفظة «من» في «سرت من البصرة إلى الكوفة» عين المتبادر منه في : «سرت من البصرة إلى الشام» والخصوصيات الأخر تفهم من دوال أخر ـ كما سيتضح إن شاء الله في طي البحث ـ فالتبادر يشهد بكلية الموضوع له فيها خلافا للفصول كما مر ، فيصح أن يقال : لا مانع من دعوى الكلية الا عدم تعقلها بتقريب ما قلنا ، لا بما هو ظاهر المتن ، فافهم.

فنقول انه لا إشكال في ان بعض المفاهيم نحو وجودها في الخارج هو الوجود التبعي ، فهي موجودة بالغير لا بنفسها. وهذا واضح لا يحتاج إلى البيان. وأيضا لا إشكال في ان تلك المفاهيم قد تتصور في الذهن مستقلة أي من دون قيامها بالغير ، كما ان الإنسان يلاحظ لفظ الضرب في الذهن مستقلا ، وهذا المفهوم بهذا النحو من الوجود ليس في الخارج ، إذ لا يوجد في الخارج الا تبعا للغير. وقد يتصور تلك المفاهيم على نحو ما تتحقق في الخارج ، فكما انها باللحاظ الأول كليات ، كذلك باللحاظ الثاني ، إذ حقيقتها لم تتغير باختلاف اللحاظين. وكما ان قيد الوجود الذهني ملغى في الأول وينتزع الكلية منها ، كذلك في الثاني. نعم تصورها على النحو الثاني في الذهن يتوقف على وجود مفهوم آخر في الذهن يرتبط به ، كما ان وجودها في الخارج يتوقف على محل يقوم به. ولا يوجب مجرد احتياج الوجود الذهني لتلك المفاهيم إلى شيء آخر يرتبط به كون ذلك جزءا منها ، كما ان مجرد احتياج الوجود الخارجي منها إلى محل خاص لا يوجب كونه جزءا منها. مثلا حقيقة الابتداء تتحقق لها ثلاثة أنحاء من الوجود :

(الأول) ـ الوجود النّفس الأمري الواقعي القائم بالغير.

(الثاني) ـ الوجود الذهني المستقل بالتصور.

(الثالث) ـ الوجود الذهني على نحو الوجود النّفس الأمري وهو الوجود الآلي والارتباطي.

وكما ان تصور مفهوم الابتداء على الأول من الأخيرين لا يوجب صيرورته جزئيا ، بل تنتزع منه الكلية بعد تعريته عن الوجود الذهني ، كذلك تصوره على الثاني منهما إذ لا يعقل الاختلاف في المتصور باختلاف أنحاء التصور. فهذا المفهوم باللحاظ الأول هو معنى لفظ الابتداء وباللحاظ الثاني معنى لفظة من ،

فمعنى لفظة من مثلا حقيقة الابتداء الآلي والربطي (١٩) ولا شك انه كلي كحقيقة الابتداء الاستقلالي. نعم تحقق الأول في الذهن يحتاج إلى محل يرتبط به ، كما ان تحققه في الخارج يحتاج إلى محل يقوم به. وكما ان

______________________________________________________

(١٩) فالموضوع له للفظة «من» على هذا التقرير هو المفهوم المنتزع من القدر المشترك بين الافراد الخارجية للابتداء ، معراة عن التقيد بالوجود الذهني ، كمفهوم لفظ «الابتداء» ، فانه أيضا شيء موجود في الذهن منتزع من الافراد الخارجية من دون تقيد بوجوده الذهني ، إلّا أن الأول هو الموجود في الذهن بنحو الآليّة ، والثاني هو الموجود في الذهن بنحو الاستقلاليّة ، ومعلوم أن ذلك المفهوم لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، فلا يكون جزئيا ذهنيا لعدم تقيده بالوجود الذهني ، ولا خارجيا لكونه جامعا بين الخارجيات ، ولا إضافيا لعدم كون المتعلقات قيدا أو جزءا للموضوع له ، وان كان لا يتحقق في الذهن الا تبعا لها ، لما بيّن من أن الاحتياج عند الوجود إلى شيء لا يستلزم كونه جزءا للموضوع له كالإعراض ، ولا فرق في ذلك بين تحققه في ضمن تحقق مفهوم متعلق يصلح للتعدد كابتداء السير من البصرة ، أو غير صالح كابتداء السير من نقطة خاصة خارجية ، فان كلا منهما خارج عن مفهوم «من» ومدلول بدال آخر ، فالحصة للفظة «من» ليست إلّا أصل الابتداء الملحوظ آلة ، لكن لا بنحو يكون اللحاظ قيدا له ، وأما السير والبصرة وسائر الخصوصيات فمدلولة بدوال أخر.

وبذلك اتضح صحة انطباقه على الخارج مثل سائر الكليات ، فان مفهوم الإنسان أو الابتداء ما لم يتعر عن المفهومية وكونه في الذهن لا ينطبق على الخارج.

وبذلك أيضا اتضح عدم احتياج تصور المعنى الحرفي إلى تصور التصور ، فانه لو احتاج تصور ذلك الموضوع له إلى تصور التصور ، لكان تصور الموضوع له للفظ الإنسان محتاجا إلى ذلك أيضا ، فانك تقول انه مفهوم منتزع من القدر المشترك بين الخارجيات ، وتصور المفهوم يحتاج إلى تصور التصور ان كان وصف المفهومية قيدا له ، غاية الأمر أن في المقام لا بد من التصور الاستقلالي ، لا التصور الآلي كما في المعنى الحرفي.

وأيضا علم صحة انطباقه على الخارج كسائر المفاهيم ، لأن المانع له ليس إلّا التقييد بالوجود الذهني ، وقد عرفت عدم دخله في الموضوع له.

احتياجه في الخارج إلى محل خاص خارجي لا يوجب جعل ذلك المحل جزءا لمعنى اللفظ كذلك احتياجه في الوجود الذهني إلى محل لا يوجب كونه جزءا لمعنى اللفظ أيضا.

وأنت إذا أحطت بما تلوناه عليك تعرف بطلان كلا الأمرين اللذين أوجبا توهّم جزئية معاني الحروف. اما تقييدها بالوجود الذهني فلما مر في طي البيان من ان المقصود كونها كليات مع قطع النّظر عن التشخص الذهني ، إذ بملاحظة ذلك التشخص ليست معاني أسماء الأجناس أيضا كليات ، إذ المفهوم المقيد بالوجود الذهني الاستقلالي بقيد انه كذلك أيضا جزئيّ لا ينطبق على كثيرين فكما ان الوجود الاستقلالي في الذهن في معاني أسماء الأجناس لا يخرجها عن الكلية لكون الوجود الذهني ملغى عند اعتبار المعنى كذلك الوجود الآلي في الذهن في معاني الحروف ، واما احتياجها إلى محال في الذهن ترتبط به فلما مر أيضا من ان الاحتياج في التحقق إلى شيء لا يوجب كون ذلك الشيء جزءا للمعنى.

ومن هنا تعرف ان الحروف التي معانيها إنشاءات أيضا لا تخرج معانيها بما هي معانيها عن كونها كليات وانما التشخص جاء من قبل احتياج تحقق تلك المعاني ، مثلا لفظة يا النداء موضوعة لحقيقة النداء المتحقق في الخارج (٢٠) وهو يحتاج إلى المنادى الخاصّ بالكسر والمنادى الخاصّ بالفتح والدال على تلك الخصوصيات أمور أخر غير هذه اللفظة.

______________________________________________________

(٢٠) ربما يتوهم جزئية المعاني الإنشائية ولو فرض تسليم كلية المعاني التصورية للحروف ، وذلك حيث أن الكلية في الحروف باعتبار أنها وضعت لكلي صادق على الذهن والخارج ، وان كان تبعا لغيره في الوجود كما مر ، بخلاف المعاني الإنشائية فان الموضوع له فيها هو نفس الموجود الخارجي ، كالنداء الخارجي والطلب الإنشائي

وما يكون مستندا إلى لفظة يا ليس إلّا حقيقة النداء الخارجي. ولا إشكال في ان هذا ـ مع قطع النّظر عما جاء من قبل أمور أخر ـ كلي.

وبعبارة أخرى ينتقل السامع من لفظة يا زيد الصادر من المتكلم إلى ان خصوص زيد منادى بنداء هذا المتكلم وهذا المعنى ينحل إلى اجزاء (الأول) ـ وقوع حقيقة النداء (الثاني) ـ كون المنادي بالكسر هذا المتكلم الخاصّ (الثالث) ـ كون المنادى بالفتح زيدا ، والّذي افادته لفظة يا هو الجزء الأول والباقي جاء من قبل غيره. نعم يحتاج تحقق هذا المعنى ـ أعني حقيقة النداء الخارجي ـ إلى باقي الخصوصيات.

وهكذا الكلام في هيئة افعل ونظائرها مما يتضمن معنى

______________________________________________________

الموجود في موطن الذهن وهو خارجه ، ولو لم يتحقق النداء والطلب في الخارج لم يكن للفظهما معنى ، ومعلوم أن طبيعة النداء والطلب وان كانت كلية لكن بعد تقيدهما بالوجود الخارجي ليست إلّا جزئية ، لأن الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد.

ولكنه فاسد : لأن الموضوع له في الحروف وان كان مقيدا بالوجود بل نفس الموجود بحيث يكون الخارج ظرفا لنفسه لا ظرفا لوجوده كما في خصوص الإنشاءات منها ، إلّا أن المأخوذ فيها أيضا ليس الوجود الخاصّ بل طبيعة الوجود ، وهو كلي يصدق على جميع أفراد الوجودات.

وما يقال من أن الوجود مطلقا مساوق للجزئية ، فهو خلاف الوجدان. لا مكان تصور الجامع بين الموجودات بما هي موجودات ، والشاهد على ذلك إمكان تعلق العلم الإجمالي بأصل وجود الطبيعة في الخارج مع الجهل بشخص الموجود ، فلو لم يكن بين الموجودات جامع يلزم كون ذلك العلم جهلا مركبا ، لعدم تعلقه بالفرد المعين بالفرض ، وعدم الواقعية للفرد المنتشر بالوجدان كي يدعى تعلقه به ، فالموضوع له في الإنشائيات أيضا كلي ، وهو أصل الطبيعة الموجودة ، وسائر الخصوصيات من مدلول دوال أخر ، كما أوضح ذلك في المتن.

الإنشاء (٢١) مثلا يقال ان هيئة افعل موضوعة لحقيقة الطلب الإيقاعي ، من دون ان يكون لمشخصات أخر دخل في معنى الهيئة. ولا إشكال في ان تلك الحقيقة لا تتحقق الا مع وجود الطالب الخاصّ والمطلوب منه كذلك والمطلوب كذلك. ولكن بعد تحقق الطلب المشخص بهذه المشخصات ما يستند فهمه إلى الهيئة هو حقيقة الطلب. واما المشخصات الأخر فلها دوالّ أخر غيرها ، فمدلول الهيئة كلي وان صار جزئيا بواسطة تلك الخصوصيات التي جاءت من قبل غيرها.

ثم لا يخفى عليك ان المعنى الاسمي والحرفي مختلفان بحسب كيفية المفهوم (٢٢) بحيث لو استعمل اللفظ الموضوع للمعنى الحرفي في المعنى الاسمي أو بالعكس يكون مجازا أو غلطا ، فان مفهوم الابتداء الملحوظ في الذهن استقلالا يغاير الابتداء الملحوظ في الذهن تبعا للغير ، والتقييد بالوجود الذهني وان كان ملغى في كليهما ، لكن المتعقل في مفاد لفظ الابتداء غيره في مفاد لفظة من.

______________________________________________________

(٢١) كأسماء الإشارة مثلا ، فانها وضعت لمعنى مركب من معنى حرفي إنشائي ومعنى اسمي ، بحيث يستفاد منه ابتداء المركب منهما ، بخلاف الإنشائيات فانها موضوعة للبسيط المنحل عند التحليل إلى الطبيعة والوجود ، مثلا كلمة «هذا» وضعت لكلي المفرد المذكر المقيد بكونه مشارا إليه بالإشارة الموجودة في الذهن ، وهو نحو توجه له إلى الخارج ، لكن لا بنحو يكون شخصي وجود الإشارة الخارجية جزءا لمعناها ، بل طبيعة الإشارة الموجودة الصادقة على الكثيرين ، وسائر الخصوصيات اللازمة لوجودها خارجة عن مدلول لفظة «هذا» ومستفادة من دوال أخر كما مر مرارا.

(٢٢) ربما يقال : ان المستفاد مما مرّ عدم الفرق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ، إلّا في أن الأول يوجد في الذهن بالوجود الاستقلالي والثاني بالوجود الآلي ، والآلية والاستقلالية من أطوار اللحاظ وخصوصياته ، وهو الّذي يصح أن يتصف بهما

وبعبارة أخرى المقامان مشتركان في تعرية المفهوم من حيث كونه متعقلا في الذهن ، لكن يختلف ذات المتعقل في مفاد لفظ الابتداء معها في مفاد لفظة من ، فلا يحتاج إلى الالتزام بان المعنى والموضوع له في كليهما

______________________________________________________

لا المتصور ، وأوصاف اللحاظ والإرادة لا تسرى إلى الملحوظ والمتصور بل لا يمكن ، وبالفرض يكون قيد اللحاظ في المقام ملغى في المعنيين ، ولم يبق في البين إلّا حقيقة المعنى ، فلا محيص عن الالتزام باتحاد المعنى فيهما ، والتفصي عن لزوم الترادف وصحة استعمال كل منهما في موضع الآخر باشتراط الواضع على المستعملين ان لا يستعمل الأول الا عند تصوره مستقلا ، والثاني عند تصوره آلة.

وفيه : ان الآلية والاستقلالية وان كانتا من أطوار اللحاظ وخصوصياته ، لكن لا نسلم كلية عدم سراية أوصاف اللحاظ إلى الملحوظ ، فان بين الطبيعة الملحوظة لا بشرط وبشرط لا وبشرط شيء لا ميز إلّا من قبل اللحاظ ، ومع ذلك تختلف الأقسام بحيث لا يصح استعمال اللفظ الموضوع لأحدها في الآخر ، فلا يصح استعمال لفظ المقيد في المطلق ولا المطلق في المقيد بما هو مقيد الا مجازا ، وأيضا : ما يحمل عليه كلي بالحمل الشائع وهي الطبيعة المعرّاة عن خصوصيات الوجود ، والمجردة عن جميع القيود حتى قيد التجرد ، إذ هو مع لحاظه جزئي خارجا أو ذهنا ، والتجريد والتعرية ليسا الا من صفات اللحاظ ، ومع ذلك يمتاز الملحوظ المجرد عن المقيد ، وأحدهما كلي والآخر جزئي.

ولعل ذلك الإيراد نشأ من توهّم : أن اللحاظ من عوارض الملحوظ فلو نشأ اختلاف في الملحوظ من اختلاف اللحاظ لزم كون اللحاظ دخيلا في تحققه ، وذلك يستلزم الدور ، لأن اللحاظ يتوقف على الملحوظ والملحوظ بالفرض يتوقف على اللحاظ وهو دور صريح. وهو توهم فاسد ، لأن عروض اللحاظ على الملحوظ ليس من قبيل عروض سائر العوارض بحيث يتوقف وجوده على وجودها ، بل من قبيل عروض الوجود على الماهية ، لا يتوقف عروضه على وجوده من قبل بل به يوجد ، ولا فرق في ذلك بين الوجودات الذهنية والخارجية ، فتحصل من جميع ذلك أنّ نفس الموجود في الذهن آلة غير الموجود استقلالا ، ولو كان اللحاظ فيهما ملغى.

واحد (٢٣) وانما الاختلاف في كيفية الاستعمال بان الواضع بعد ما وضع لفظ الابتداء ولفظة من لمعنى واحد ، وهو حقيقة الابتداء جعل على المستعملين ان لا يستعملوا لفظ الابتداء الا على نحو إرادة المعنى مستقلا ، ولفظة من الأعلى نحو إرادة المعنى تبعا. هذا وقد أطلنا الكلام لكون المقام من مزال الإقدام.

استعمال اللفظ في ما يناسبه

ومنها انه لا إشكال في انه قد يحسن استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له اما لمناسبة بين المعنيين واما لمناسبة بين اللفظ والمستعمل فيه كاستعمال اللفظ في اللفظ فانه يصح وان لم يكن له معنى وضع له كاستعمال لفظة ديز في نوعه. ومن هنا يظهر ان استعمال اللفظ في غير معناه لا يحتاج إلى ترخيص الواضع بل هو بالطبع ، إذ لو لا ذلك لم يصح استعمال اللفظ المهمل في اللفظ إذ لا وضع له بالفرض.

ثم ان استعمال اللفظ في اللفظ على أنحاء تارة يستعمل في نوعه وأخرى في صنفه وثالثة في شخص مثله. ومثال كل منها واضح. وهل يصح استعماله في شخصه أم لا؟ قيل لا لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركيب القضية من جزءين. بيان ذلك انه ان اعتبرت دلالته على نفسه حينئذ لزم الاتحاد وإلّا لزم تركب القضية من جزءين فان القضية اللفظية حينئذ حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع ، مع امتناع تركب القضية

______________________________________________________

(٢٣) وفيه : ـ مع عدم الحاجة إليه ـ ان لازم ذلك أن يكون السامع في فسحة من الشرط المذكور ، ويكون الملقى إليه مجرّدا عن القيدين ، لأن الفرض أن الشرط شرط كيفية الإلقاء والاستعمال ، لا قيد المستعمل فيه والملقى ، نعم يلتفت بعد العلم بالشرط ان السامع لاحظهما كذلك ، وهذا غير كون المستفاد منه كذلك ، وذلك خلاف الوجدان.

الا من ثلاثة اجزاء ، ضرورة امتناع النسبة بدون الطرفين.

أقول ينبغي للمستدل ان يقتصر على قوله لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول لأن عدم اعتبار دلالته على نفسه حتى يلزم تركب القضية من جزءين خلاف الفرض ، لأن المفروض إطلاق اللفظ وإرادة شخصه والإنصاف عدم جواز استعمال اللفظ في شخص نفسه ، لما ذكره المستدل من الاتحاد ، فان قضية الاستعمال ان يتعقل معنى ويجعل اللفظ حاكيا ومرآتا له. وهذا لا يتحقق إلّا بالاثنينية والتعدد.

لا يقال : يكفى التعدد الاعتباري بان يقال ان لفظ زيد ـ مثلا من حيث انه لفظ صدر من المتكلم ـ دال ومن حيث ان شخصه ونفسه مراد مدلول.

لأنا نقول : هذا النحو من الاعتبار يطرأ بعد الاستعمال ، فلو أردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور (٢٤) لكن يمكن مع ذلك القول بصحة قولنا زيد لفظ أو ثلاثي ، مع كون الموضوع في القضية

______________________________________________________

استعمال اللفظ في ما يناسبه

(٢٤) ربما يقال بجواز استعمال اللفظ في شخصه بلا لزوم الدور والاتحاد ، إذا جعل اللفظ فانيا في تصور إيجاده ، من حيث أنه فعل اختياري ، ولا بد له قبل الإيجاد من التصور ، ومعلوم أن تصور التلفظ غير نفس اللفظ ، والاستعمال لا يحتاج إلى أكثر من شيئين : أحدهما من الألفاظ والأصوات. والثاني من التصورات الذهنية ، مع كون الأول فانيا في الثاني.

لا يقال بأن ذلك خروج عن الفرض ، لأن الكلام في استعمال اللفظ في شخصه لا في شيء آخر غيره ، سواء كان ذلك تصوره أو غيره. لأنا نقول بلزوم ذلك المحذور ، فيما إذا كان التصور بما هو مرئيا ومستعملا فيه ، وأما إذا كان بوجوده السرابي والمرآتي فيكون المرئي والمستعمل فيه في الحقيقة هو المرئي ، وهو شخص اللفظ.

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه أولا : ان ذلك كرّ على ما فر ، لأن التصور لو لم يجعل بحياله واستقلاله مستعملا فيه لم ير اللافظ حين تصوره الا اللفظ ، وهو مع قطع النّظر عن الإفناء لا تعدد فيه ولو اعتبارا.

وثانيا : ان دلالة اللفظ الصادر عن اختيار على تصور لافظه ليس من دلالة الألفاظ ، بل يحسب من الدلالة العقلية ، وليس هذا إلّا كإيجاد الدخان لإفهام الغير بوجود النار ، وإعلاء الصوت للاعلام بوجود صاحبه ، ومعلوم أن مثل ذلك لا يعد استعمالا للفظ في المعنى.

وربما يقال بكفاية التعدد الاعتباري ، مثل اعتبار الإيجاد والوجود ، بأن يجعل الحاكي حيثية كونه إيجادا والمحكي حيثية كونه وجودا.

وفيه أولا : ان ذلك التعدد يطرأ بعد الإيجاد وهو الاستعمال ، ولا بد في الاستعمال من التعدد مع قطع النّظر عنه كما مرّ نظيره.

وثانيا : ان الإيجاد لو لوحظ مستقلا في قبال الوجود (بأن يرى كلّ منهما شيئا) خرج أيضا عن استعمال اللفظ في شخصه ، ولو الغى التعدد الاعتباري لم يبق دال ولا مدلول في البين ، لأن اللفظ مع قطع النّظر عن الاعتبار ليس إلّا نفسه.

وثالثا : ان الإيجاد لو دلّ على الوجود لم تكن دلالته من دلالة الألفاظ بل من الدلالة العقلية ، وهي دلالة كل فعل على نتيجته ، كدلالة القيام المصدري على اسم المصدر.

هذا كلّه مع قطع النّظر عن أن لحاظ الشيء للإيجاد غير لحاظه للاستعمال ، لأن الثاني هو لحاظ الشيء المفروغ عن إيجاده للإخطار عند المخاطب ، وأما أن المتكلم لما كان قاطعا بالوجود يمكن لحاظه الفراغي للشيء قبل وجوده ، كالقضايا الحقيقية ، فانها حكم على الموضوع قبل وجوده لكن على تقدير الوجود ، فلا يغني في دفع الإشكال ، لأن القاطع المفروض لو نظر إليه نظر الفراغي لا يمكن ان يكون بصدد الإيجاد في هذا النّظر ، وإلّا فلا يمكن ان يكون بصدد الإحضار.

والحاصل : ان الإحضار يتوقّف على الفراغ من الوجود ، والإيجاد على عدمه ،

شخص اللفظ الموجود ، بان يكون المتكلم بلفظ زيد بصدد إيجاد الموضوع لا بصدد الحكاية عن الموضوع ، حتى يلزم اتحاد الدال والمدلول (٢٥) فيخرج حينئذ من باب استعمال اللفظ.

فتحصل ان زيدا في قولنا زيد لفظ أو ثلاثي يمكن ان يراد منه نوعه فيكون هناك لفظ ومعنى ، وان يقصد المتكلم إيجاد الموضوع فلا يكون من باب استعمال اللفظ. هذا في المحمولات التي يمكن ان تحمل على الشخص المذكور في القضية. واما في المحمولات التي لا تعم هذا الشخص كقولنا ضرب فعل ماض ، فلا يمكن إلّا ان يكون من باب الاستعمال.

(هل ان الألفاظ موضوعة

لذوات المعاني أو للمعاني المرادة)

ومنها هل ان الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني من حيث هي أو بإزائه من حيث انها مرادة للافظها؟ قد أسلفنا سابقا انه لا يتعقل ابتداء جعل علقة بين اللفظ والمعنى. وما يتعقل في المقام بناء الواضع والتزامه بأنه متى

______________________________________________________

والمفروض في المقام كون الإحضار والإيجاد واحدا ، والجمع بين النظرين محال ، فافهم وتدبر جيدا.

(٢٥) لا يخفى أن الحمل أيضا يحتاج إلى تصور الموضوع بعد الفراغ عن وجوده ، وهو في المقام مفقود ، فلا يمكن الحمل أيضا كالاستعمال ، وما هو موجود في المقام هو تصور الشيء مقدمة لإيجاده ، وهذا لا يكفي في الحمل كما هو واضح.

لا يقال : ان التصور في المقام وان كان حادثا قبل الفراغ ، لكنه باق بعد ولم يذهب بمجرد الإيجاد ، وهذا المقدار كاف لصحة الحمل.

أراد المعنى الخاصّ وتعلق غرضه بإفهام الغير ما في ضميره ، تكلم باللفظ الكذائي (٢٦) فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادة المعنى المخصوص عند الملتفت إلى هذا البناء والالتزام. وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كل من يتبع الواضع ، فان أراد القائل ـ بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث انها مرادة ـ هذا الّذي ذكرناه فهو حق ، بل لا يعقل غيره. وان أراد ان معانيها مقيدة بالإرادة بحيث لوحظت الإرادة بالمعنى

______________________________________________________

لأنه يقال : ان الباقي أيضا لم يكن الا ما لا يكفي في تصوّر الشيء للإيجاد ، وقد مرّ عدم كفايته.

هل ان الألفاظ موضوعة لذوات المعاني أو للمعاني المرادة

(٢٦) بل يمكن ـ على القول بإمكان جعل العلقة ابتداء بين اللفظ والمعنى ـ أن يقال : ان المجعول هي العلقة بين اللفظ وإرادة المعنى ، لأن العلقة والاختصاص ان كانا بين اللفظ وذات المعنى فاللازم كون اللفظ دالا عليهما ، بلا صحة اسناد الإرادة والتصور إلى اللافظ ، كالحس الواقع على الشيء الخارجي ، وذلك لأن مجرد إحضار المعنى في ذهن المخاطب والانتقال من اللفظ إليه لا يستلزم صحة الإسناد ، ولذا لو قال : «ما وضعت لفظ زيد لهذا الرّجل فبعد ما يسمع الإنسان اللفظ المذكور ينتقل إلى زيد بلا صحة الإسناد.

والظاهر ان الدلالة التصديقية التي اعترف المنكر بكونها موقوفة على الإرادة في معنى كلام الشيخ هي نتيجة الوضع ، لا التصورية فقط ، فانها قد تحصل بلا وضع كما في المثال.

نعم يبقى على هذا القول أن مجرّد كون العلقة بين اللفظ وإرادة المعنى لا يوجب الا كون اللفظ موجبا لانتقال السامع إلى الإرادة والتصور المضافين إلى المتكلم ، وأما التصديق بوجودهما وصحة الإسناد إلى المتكلّم فلا محيص له عن القول بكون الوضع عبارة عن التزام الواضع بالتكلّم بلفظ خاص عند إرادة معنى مخصوص ، فتدبر جيدا.

الاسمي قيدا لها حتى يكون مفاد قولنا زيد هو الشخص المتصف بكونه مرادا ومتعقلا في الذهن ، فهو بمعزل عن الصواب.

والحاصل انه فرق بين القول بان لفظ زيد مثلا موضوع لأن يدل على تصور الشخص المخصوص (٢٧) بحيث يكون التصور معنى حرفيا ومرآة صرفا للمتصور عند المتكلم والسامع ، وبين القول بأنه موضوع لأن يدل على الشخص المقيد بالتصور الذهني ، على ان يكون القيد المذكور ملحوظا بعنوانه وبمعناه الاسمي. والأول لا يرد عليه إشكال أصلا ، بل. لا يتعقل غيره. والثاني ترد عليه الإشكالات التي سنذكرها.

قال شيخنا الأستاذ دام بقاؤه في الكفاية في مقام الرد على هذا القول ان قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجملة بلا تصرف في ألفاظ الأطراف ، مع انه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه ، بداهة ان المحمول على زيد في زيد قائم والمسند إليه في ضرب زيد مثلا هما نفس القيام والضرب ، لا بما هما مرادان ، مع انه يلزم كون وضع

______________________________________________________

(٢٧) لا يقال : فاللازم على هذا تغاير الملحوظ عند السامع مع الملحوظ عند المتكلم ، وكون المتصور عند الثاني ذات المعنى ، وعند الأوّل المعنى بوصف كونه متصوّرا ومرادا عند السامع ، وهو خلاف الوجدان.

لأنا نقول : نحن نلتزم بذلك ، وان شئت توضيح ذلك فانظر إلى قضية «زيد قائم» الصادرة من المتكلم ، فان السامع لا يتصور ولا يصدق إلّا النسبة الجزمية المضافة إلى المتكلم ، وليس حاله في هذه النسبة كالمتكلم ، ولذا لا يصح اسناد الكذب والصدق إليه ، وكذلك بالنسبة إلى موضوع القضية ومحمولها ، فان السامع يصدق بالنسبة المضافة إلى المتكلم من المحمول الملحوظ عنده على الموضوع الملحوظ عنده ، وكذلك الحال في سائر القضايا من الإخباريات والإنشائيات.

عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فانه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه كما لا يخفى. وهكذا الحال في طرف الموضوع. انتهى كلامه أدام الله أيامه.

أقول ليس الاستعمال على ما ذكرنا إلّا الإتيان باللفظ الخاصّ لإفادة إرادة المعنى الخاصّ. وهذا لا محذور فيه أصلا (٢٨).

واما ما ذكره ثانيا فلا يرد على ما قررناه ، فانه بعد اعتبار التصور الّذي هو مدلول الألفاظ طريقا إلى ملاحظة ذات المتصور ، يصح الإسناد والحمل في مداليل الألفاظ بلا مئونة وعناية. نعم هذا الإشكال وارد على الطريق الآخر الّذي قررناه.

واما ما ذكره ثالثا ففيه ان كل لفظ يدل على إرادة المعنى العام بواسطة الوضع (٢٩) جعلوه مما يكون الموضوع له فيه عاما في مقابل الألفاظ التي تدل على إرادة المعنى الخاصّ. ولا مشاحة في ذلك. ومن هنا تعرف

______________________________________________________

(٢٨) أقول : فإذا كان الاستعمال ذلك كان اللفظ كاشفا والإرادة منكشفة بلا لزوم محذور الدور ، وكأنّه توهم أن الاستعمال عبارة عن ذكر اللفظ مع إرادة المعنى ، بحيث تكون الإرادة من اللوازم العقلية للاستعمال ، فيكون مدلول اللفظ بالجعل غيرها ، فيورد بأن ما هو من الشرائط العقلية للاستعمال كيف يمكن أخذه في المستعمل فيه؟

وبعد التأمل فيما ذكر يندفع الإشكال ، نعم ما لا يمكن أخذه في المستعمل فيه هو تصور نفس ذلك الاستعمال الّذي هو عبارة عن ذكر اللفظ وإرادة المعنى.

(٢٩) وان شئت قلت : ان الموجود في الذهن والمتصور إذا كان بحيث لم يمتنع انطباقه على كثيرين فهو عام ومعلوم أن ذات المعنى إذا كان قابلا للانطباق المذكور لم يكن التصور بالمعنى الحرفي مانعا عنه كما هو واضح ، وسنوضحه في طي الجواب الآتي إن شاء الله ، إذا عرفت ذلك فقد عرفت عدم ورود الإشكالات المذكورة.

نعم ، قد يشكل تعقل ما قاله ـ دام ظله ـ بأن معنى التصور المرآتي أن لا يرى المتصوّر الا ذات المتصور والملحوظ ، وحينئذ لم تكن في الذهن الا صورة واحدة وهي

صحة القول بان الدلالة تابعة للإرادة (٣٠) وما يرى من الانتقال إلى المعنى من الألفاظ وان صدرت من غير الشاعر ، فهو من باب أنس الذهن وليس من باب الدلالة ، ألا ترى انه لو صرح واحد بأني ما وضعت اللفظ الكذائي بإزاء المعنى الكذائي ، وسمع منه الناس هذه القضية ينتقلون إلى

______________________________________________________

صورة ذات الملحوظ ، وأما نفس تلك الصورة فغير متصورة ولا ملتفت إليها لا بتصور آخر ، للزوم انقلاب الآلي إلى الاستقلالي ، ولا بنفس ذلك التصور ، للزوم تأخر الشيء عن نفسه ، فإذا كان التصور المذكور مغفولا عنه فكيف جعله الواضع مع غفلته عنه جزءا أو قيدا للموضوع له؟ وكيف يجعل تابعوا الواضع اللفظ الصادر منه كاشفا للمعنى. مع كونهم غافلين عنه؟ والالتفات إلى التصور المذكور بالنحو المرآتية بالتفات آخر ـ كالالتفات إلى المرآة بتلك النحوة ، بحيث يحكم عليه بنقصان حكايته أو تماميّتها ـ وان كان ممكنا ولا نمنعه بنحو الإيجاب الجزئي ، لكن ذلك لا يكفي لمدعي الكلية ، إلّا إذا ادعى الملازمة بين الالتفات إلى الشيء والالتفات إلى التفاته ، وهو ينجر إلى التسلسل.

ولكن فيه : ان مجرد عدم كون التصور متصورا بتصور آخر غير ملازم لكونه مغفولا عنه ، بحيث لم يمكن للواضع جعله جزءا للموضوع له أو جزءا للمكشوف لتابعيه ، بل يكون حضور المتصور عند النّفس بحضور صورته وحضور الصورة بحضور نفسها ، ولذا يقال : لحاظ الشيء على قسمين : آلي واستقلالي ، ولو كان عن اللحاظ الآلي غفلة لما صحّ تقسيم اللحاظ إليهما ، فمعنى التصور الآلي انه ملحوظ بالمعنى الحرفي ، وهو خلاف الاستقلالي بأن توجد صورة الصورة في الذهن مستقلا ، لا أنه غير ملحوظ وغير ملتفت إليه أصلا ، مثلا : الناظر إلى المرآة آلة غير غافل عن آليتها وإلّا لسقطت لو كانت في يده ، ولترتب عليه آثار نفس المرئي بلا توسط كونه في المرأة ، وهو خلاف الوجدان.

(٣٠) أي ـ بعد ما عرفت من كون مدلول اللفظ إرادة المعنى والمعنى المراد بنحو ما مر ـ تعرف أن الإرادة لو لم تكن لم يكن ذلك بدلالة ، بل جهالة وضلالة ـ كما عبّر بها في الكفاية في مقام الدلالة التصديقية ـ وقد مر أنها عين دلالة اللفظ فراجع.

ذلك المعنى عند سماع ذلك اللفظ ، مع ان هذا ليس من باب الدلالة قطعا.

وضع المركبات

ومنها أنه اختلف في أن المركبات أعني القضايا التامة هل لها وضع آخر غير وضع المفردات ، أو ليس لها وضع سوى وضع المفردات

أقول ان كان غرض مدعى وضع آخر للمركبات انها بموادها الشخصية لها وضع آخر غير وضع المفردات ، بمعنى ان لقضية زيد قائم وضعا آخر يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع ، فهو في غاية الفساد ، إذ وجدان كل أحد يشهد ببطلان هذا الكلام ، مضافا إلى لغويته. وان كان الغرض ان وضع مفردات القضية لا يفي بصدق القضية التامة التي يصح السكوت عليها ، لأن معاني المفردات معان تصورية ، وتعدد المعاني التصورية لا يستلزم القضية التامة التي يصح السكوت عليها ، فلا بد ان تكون القضية المستفادة من قولنا زيد قائم مسببة من وضع آخر غير وضع المفردات ، وهو الوضع النوعيّ لهذه الهيئة ، فهو صحيح فيما لم تشتمل المفردات على وضع تتم به القضية ، كالقضايا الخبرية في لسان العرب ، فان وضع زيد ووضع قائم مادة وهيئة لا يفي بإفادة نسبة تامة يصح السكوت عليها. واما في مثل القضية الإنشائية كاضرب زيدا لا وجه للالتزام بذلك (٣١) فليتدبر.

______________________________________________________

وضع المركبات

(٣١) منشأ الفرق : ان مثل «اضرب» وضع بالهيئة والمادة لإنشاء وجوب صدور الضرب من المكلف ووقوعه على المضروب ، فنفس تلك اللفظة بمنزلة هيئة

علامات الحقيقة والمجاز

ومنها انهم ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز أمارات : كالتبادر وعدم صحة السلب. واستشكل في كونهما علامة بالدور ، وأجابوا عنه بالإجمال والتفصيل. ولا بحث لنا في ذلك انما الكلام في انهم ذكروا في جملتها

______________________________________________________

المبتدأ والخبر الموضوعة لإيجاد النسبة بين موضوع ما ومحمول ما ، وأما لفظة زيد فبمنزلة زيد في «زيد قائم» حيث يعيّن ذلك الموضوع ، فالنسبة التامة تستفاد منها من دون احتياج إلى الهيئة.

لكن مع ذلك يمكن أن يقال : ان دلالة «اضرب» على ما ذكر أيضا موقوفة على عدم وقوعها بعد القول وأمثاله ، مثل قولك : «هل سمعت اضرب زيدا» وقولك : «ان قال اضرب زيدا فاضربه» فان اضرب في أمثال المقام لا تستفاد منه النسبة ، فتختلف باختلاف الهيئة ، وهذا بخلاف مثل «زيد» فتأمل.

هذا حال اضرب وأمثاله ، وأما النهي فحاله بعينه حال اضرب ، وأمّا النفي والجحد والاستفهام فليس حالها الا كحال أدوات الشرط ، حيث تدل على مجرد التعليق وتختلف معاني مدخولاتها باختلاف هيئاتها ، فالمذكورات أيضا موجدة لنفس معانيها البسيطة من النفي والاستفهام والجحد ، وأما مدخولاتها فتختلف معانيها باختلاف هيئاتها.

ومما ذكر يظهر الجواب عما توهّم من عدم احتياج وضع الهيئة في مثل «ضرب زيد» أيضا ، حيث أنها وضعت بالمادة والهيئة لإيجاد الإسناد إلى فاعل ما كما مر في اضرب ، وذلك لأن استفادة ذلك منها أيضا مشروط بما ذكر في اضرب ، وبعدم وقوعه بعد الشرط ، كما تقول : «ان ضرب زيد فاضربه».

الاطراد (٣٢) قال شيخنا الأستاذ في الكفاية ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد كالحقيقة وزيادة قيد من غير تأويل ، أو على وجه الحقيقة ، وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، إلّا انه حينئذ لا يكون علامة لها الا على وجه دائر ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره انتهى.

______________________________________________________

علامات الحقيقة والمجاز

(٣٢) أقول : قد ذكر للحقيقة علائم ، منها : «الاطراد». وأورد عليه بأن المجاز أيضا مطّرد ، وزيادة قيد «من غير تأويل» دور واضح ، ولذا احتمل في الكفاية كونه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات ، حيث لا يطّرد صحة استعمال اللفظ معها.

قال قدس‌سره : «وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال ، فالمجاز مطّرد كالحقيقة» انتهى.

ومعلوم : أن الاحتمال المذكور لا يرفع الإشكال عن القول ، لأن ما يصح معه الاستعمال مطّرد ، وما لا يطّرد لا يصح معه الاستعمال ، إذ العلاقة ليس نوع المشابهة مثلا ، بل مع خصوصيات أخر يصح معها الاستعمال ، ويطّرد حينئذ كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : ان المجازات وان كان استعمالها كثيرا في حد نفسه لكن لا يطّرد مع ذلك في جميع المقامات ، بخلاف الحقيقة ، توضيح ذلك : ان الواضع ـ كما مر ـ يجعل اللفظ كاشفا ومرآة للمعنى من دون خصوصية أخرى ، فإذا أراد المتكلم إحضار ذات المعنى يتكلم بذلك الكاشف عنه ، وأما إذا أراد افهام شيء آخر غير مجرد ذات المعنى ، بل يكون في مقام إظهار البلاغة والفصاحة مثل مقام الإشعار والخطب ، فيعبر عن الرّجل الشجاع بالأسد ، وعن الوجه الحسن بالقمر أو الشمس وأمثال ذلك ، فيصح أن يقال : ان اطراد الاستعمال بغير تأويل علامة للحقيقة ،

أقول يمكن توجيه كونه علامة بدون لزوم الدور ، بان يقال ان المراد من الاطراد حسن استعمال اللفظ في كل موقع ، من غير اختصاص له بمواقع خاصة ، كالخطب والإشعار مما يطلب فيها إعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة والبلاغة ، بخلاف المجاز ، فانه انما يحسن في تلك المواقع خاصة ، وإلّا ففي مورد كان المقصود ممحضا في إفادة المدلول لا يكون له حسن ، كما لا يخفى. وهذا كما ترى يمكن حصوله لغير أهل اللسان أيضا إذا شاهد استعمال أهل اللسان.

(الحقيقة الشرعية)

ومنها أنه اختلف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه.

أقول لا مجال ظاهرا لإنكار ان ألفاظ العبادات كانت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث يفهم منها عند الإطلاق المعاني المستحدثة ، وهل كان ذلك من جهة الوضع التعييني أو التعيني ، أو كانت موضوعة لتلك المعاني في الشرائع السابقة أيضا؟ لا طريق لنا لإثبات أحد الأمور. نعم الوضع التعييني بمعنى تصريح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالوضع لتلك المعاني بعيد غاية البعد. لكن يمكن الوضع التعييني بنحو آخر بان استعمل صلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة بقصد انها معانيها.

______________________________________________________

والدور يرتفع بالإجمال والتفصيل ، بأن يقال : ان ما هو المرتكز في الذهن إجمالا استعماله لمجرد افهام المعنى ، فيعلم تفصيلا أنه حقيقة ، وما لا يجوز إلّا في أمثال ما قلنا فهو مجاز. فتأمل تعرف.

وهذا أيضا نحو من الوضع التعييني (٣٣) فانك لو أردت تسمية ابنك زيدا ، فتارة تصرح بأني جعلت اسم هذا زيدا ، وأخرى تطلق هذا اللفظ عليه بحيث يفهم بالقرينة أنك تريد ان يكون هذا اللفظ اسما له. وهذا القسم من الوضع التعييني ليس بمستبعد في الشرع.

وقد يستدل ببعض الآيات من قبيل قوله تعالى : (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (١) وقوله تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) (٢) وقوله تعالى : (واذن في الناس بالحج) (٣) على كون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

تقريب الاستدلال ان هذه الآيات تدل على وجود معاني هذه الألفاظ في الشرائع السابقة ويثبت وضع هذه الألفاظ لها فيها بضم مقدمة أخرى ، وهي ان العرب المتدينين بتلك الأديان لما سمعوا هذه الآيات فلا يخلو اما انهم ما فهموا منها هذه المعاني المعروفة أو فهموها بمعونة القرائن

______________________________________________________

الحقيقة الشرعية

(٣٣) وكون الاستعمال صحيحا حقيقيا موقوف على كون الوضع عبارة عن مجرد التعهد في النّفس ، وكون اللفظ كاشفا عنه ، لا عبارة عن المنتزع عن مرتبة إظهار التعهد كما ذكره ـ دام ظله ـ في حاشية منه.

__________________

(١) سورة مريم ١٩ الآية ٣١

(٢) سورة البقرة ٢ الآية ١٨٣

(٣) سورة الحج ٢٢ الآية ٢٧

الموجودة في البين. أو فهموها من حاق اللفظ والأول واضح البطلان لا يمكن الالتزام به (٣٤) وكذلك الثاني ، إذ من البعيد جدا احتفاف جميع تلك الألفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة ، فلم يبق الا التزام بأنهم فهموا تلك المعاني من حاق اللفظ وهو المطلوب. ولعل هذا هو المراد من بعض العبارات المشتملة على الاستدلال بهذه الآيات ، لا ما يتوهم من ان المراد

______________________________________________________

(٣٤) عدم تمامية الاستدلال المذكور لإثبات كون الألفاظ المتداولة في لساننا حقائق لغوية واضح ، نعم يمكن أن يستدل بها لإثبات أصل تلك الحقائق في رد من جزم بعدم كونها حقائق لغوية لكونها مستحدثة ، إذ بعد إثباتها لا يصح الجزم بذلك بل تبقى الاحتمالات بحالها ولعل ذلك أيضا مراد المستدل ، لا ما ردّ عليه في المتن : لكن الإنصاف ان ظاهر عبارة الكفاية يوهم المعنى الأول ، فتأمل.

«تقريب الاستدلال : ان هذه الآيات تدل على وجود معاني هذه الألفاظ في الشرائع السابقة ، ويثبت وضع هذه الألفاظ لها فيها بضم مقدمة أخرى ، وهي ان العرب المتدينين بتلك الأديان لما سمعوا هذه الآيات فلا يخلو إمّا أنهم لم يفهموا منها هذه المعاني المعروفة أو فهموها بمعونة القرائن الموجودة في البين أو فهموها من حاق اللفظ. والأول واضح البطلان لا يمكن الالتزام به ، وكذلك الثاني ، إذ من البعيد جدا احتفاف جميع تلك الألفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة ، فلم يبق إلّا الالتزام بأنهم فهموا تلك المعاني من حاق اللفظ. وهو المطلوب. ولعلّ هذا هو المراد من بعض العبارات المشتملة على الاستدلال بهذه الآيات ، لا ما يتوهم من أن المراد إثبات تداول هذه الألفاظ في الشرائع السابقة».

قلت : انا نلتزم بالشق الثاني ، ولا بعد في احتفاف الألفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «صلّوا كما رأيتموني أصلي» (١) بالنسبة إلى الصّلاة ، على أن هذه الألفاظ لم تكن بهذه الصورة في الشرائع السابقة لاختلاف لغتها عن لغة شرعنا ، فلا مناص من الالتزام بوجود قرائن كانوا يفهمون بها تلك المعاني من هذه الألفاظ العربية.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٣ ـ ٨٥.

إثبات تداول هذه الألفاظ في الشرائع السابقة.

ثم انه تظهر الثمرة بين القولين في حمل الألفاظ الصادرة من الشارع بلا قرينة على معانيها الشرعية ، بناء على ثبوت الوضع والعلم بتأخر الاستعمال (٣٥). عنه وعلى معانيها اللغوية ، بناء على عدمه. ولو شك في تأخر الاستعمال وتقدمه اما بجهل التاريخ في أحدهما أو كليهما فالتمسك ـ بأصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع فيثبت بها تأخر الاستعمال ـ مشكل ، فانه مبنى على القول بالأصول المثبتة إما مطلقا أو في خصوص المقام (٣٦) مضافا إلى معارضتها بالمثل في القسم الثاني (٣٧) نعم يمكن إجراء أصالة عدم النقل فيما إذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال ، بناء على ان خصوص هذا الأصل من الأصول العقلائية ، فيثبت به تأخر النقل عن الاستعمال. ولا معارض له. أما على عدم القول بالأصل المثبت في الطرف الآخر فواضح. وأما على القول به ، فلان تاريخه معلوم بالفرض واحتمال ان يكون بناء العقلاء على عدم النقل ـ في خصوص ما جهل

______________________________________________________

(٣٥) لا يخفى أن الحمل على المعنى الشرعي بمجرد العلم بالوضع وتأخر الاستعمال يصح لو لم تكن الألفاظ المذكورة منقولة ، بل كانت مستحدثة بألفاظها ومعانيها ، وإلّا فلا بد من مقدمة أخرى وهي كون معانيها الأولى مهجورة ، وقد أشار إليه في حاشية منه.

(٣٦) بادعاء كون الأصل الجاري في باب الألفاظ من الأصول العقلائية ، كي يكون المثبت منها أيضا حجة ، لكن الكلام في صحتها.

(٣٧) بناء على جريان الأصل في مجهولي التاريخ ، وسيأتي منه ـ دام ظله ـ في مباحث الاستصحاب عدم جريانها فيهما من جهة الشبهة المصداقية ل ـ «لا تنقض» لاحتمال نقض اليقين باليقين ، وبناء على ذلك لو لم يكن معارض في البين ، بأن كان أحدهما بلا أثر شرعي لا يجري الاستصحاب أيضا لما ذكر ، لا للمعارضة.

رأسا لا فيما إذا علم إجمالا وشك في تاريخه ـ بعيد لظهور أن بناءهم على هذا من جهة ان الوضع السابق عندهم حجة ، فلا يرفعون اليد عنها الا بعد العلم بالوضع الثاني.

(الصحيح والأعم)

ومنها أنهم قد اختلفوا في أن ألفاظ العبادات هل هي موضوعة بإزاء خصوص الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة؟

اعلم ان جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح وأما على القول بالعدم فيمكن جريانه أيضا ، بان يقال هل الأصل في استعمال الشارع بعد العلم بعدم إرادة المعنى اللغوي (٣٨) هو المعاني الشرعية الصحيحة إلى ان يعلم خلافها أم لا؟ فمن يدعى الأول يذهب إلى ان العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية أشد ، فحملها بعد العلم بعدم إرادة المعاني الحقيقية على المعاني الشرعية الصحيحة أولى وأسد وكيف كان يتم هذا المبحث بذكر أمور :

(الأول) ـ أنه لا إشكال في ان الصحيحي إن قال بان الصلاة الصحيحة على اختلافها إجزاء وشرائط كلها افراد للمعنى الجامع الواحد الّذي هو الموضوع له للفظ الصلاة ، فلا بد له من تصور معنى واحد جامع

______________________________________________________

(الصحيح والأعم)

(٣٨) هذا على القول بكونها مجازات لغوية ، وأما على القول بكونها حقائق لغوية ، وكون الاستعمال فيها من تطبيق الكلي بنحو تعدد الدال ، فيمكن النزاع في أن اللفظ شاع في أي المعينين في لسان الشارع أو المتشرعة ، بحيث ينصرف إليه حتى يحتاج استعماله في غيره إلى قرينة أزيد من ذلك.

لشتات تلك الحقائق المختلفة ، كما ان الأعمّي أيضا لا بد له من تصور جامع يكون أوسع دائرة من الأول نعم لو ادعى كل واحد منهما ما ادعاه على نحو الاشتراك اللفظي ، يمكن هذه الدعوى مع عدم القدر الجامع بين تلك الحقائق ، لكن هذه المقالة مع كونها بعيدة في نفسها لا تناسب كلماتهم ، كما لا يخفى (٣٩).

إذا عرفت هذا ، فنقول لا يتعقل أخذ القدر الجامع بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتصفة بالصحّة (٤٠) مع قطع النّظر عن اعتبار امر خارج عنها ، لأن معنى أخذ القدر الجامع إلغاء الخصوصيات وأخذ ما هو مشترك سار في جميع الافراد ، والمفروض ان لتلك الخصوصيات دخلا في الصحة. مثلا الصلاة التي يأتي بها القادر قائما يتقوم صحتها بالقيام ، فلو اعتبر القيام مثلا في الموضوع له ، فلا يصدق على الصلاة التي يأتي بها المريض جالسا ، وإن لم يعتبر فيلزم صدقها على الصلاة التي يأتي

______________________________________________________

(٣٩) وذلك ، لأن المتبادر من تلك الألفاظ عند استعمالها في معاني مختلفة الاجزاء والشرائط شيء واحد ، ولا فرق في ذلك بين القولين ، والشاهد هو الوجدان.

(٤٠) وبعبارة أخرى : المركب الاعتباري عبارة عن مفهوم واحد يؤخذ ويشار به إلى الاجزاء والشرائط بالإشارة الإجمالية ، كالصلاة مثلا ، فانه يشار بها إجمالا إلى أجزاء متعددة وشرائط متكثرة من التكبير إلى التسليم ، وكذلك الحج يشار بها إجمالا إلى ما أوله التحريم وآخره التحليل ، فإذا كان بين شرطين أو جزءين من صلاتين مثلا مناقضة أو مضادة بحيث لم يمكن أخذ الجامع ، مثل القيام واللاقيام أو القعود ، والجهر والإخفات في محل «واحد» من الصلاتين ، والركعة الرابعة وعدمها ، والثالثة وعدمها ، وأمثال ذلك من الشرائط والاجزاء المختلفة للصلوات المختلفة ، فلا يمكن أخذ مفهوم واحد يشار به إلى ذلك الجامع المحال وسائر الاجزاء والشرائط بالإشارة الإجمالية ، لأن المركب من المحال محال.

بها القادر جالسا ، وكلاهما خلاف مذهب الصحيحي.

والّذي يمكن ان يقال في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ان كل واحد من تلك الحقائق المختلفة إذا أضيفت إلى فاعل خاص ، يتحقق لها جامع بسيط ، يتحد مع هذه المركبات ، اتحاد الكلي مع افراده. مثلا قيام الشخص القادر لتعظيم الوارد وإيماء الشخص المريض له يشتركان في معنى واحد ، وهو إظهار عظمة الوارد يقدر الإمكان ، وهذا المعنى يتحد مع قيام القادر ، كما أنه يتحد مع إيماء المريض وعلى هذا فالصلاة بحسب المفهوم ليست هي التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وكذا وكذا ، بل هي بحسب المفهوم المعنى الواحد البسيط الّذي يتحد مع تمام المذكورات (تارة) ومع بعضها (أخرى) ومع ما قيد بكيفية خاصة (تارة) وبنقيضها (أخرى) وهذا المعنى وان كان امرا متعقلا ، بل لا محيص عن الالتزام به بعد ما يعلم أن لتلك الحقائق المختلفة فائدة واحدة ، وهي النهي عن الفحشاء والمنكر ، ولا يكاد أن تؤثر الحقائق المتباينة في الشيء الواحد ، من دون رجوعها إلى جهة واحدة ، ولكن كون هذا المعنى مفاد لفظ الصلاة محل إشكال من وجهين :

(أحدهما) أن الظاهر مما ارتكز في أذهان المتشرعة هو أن الصلاة عبارة عن نفس تلك الاجزاء المعهودة التي أو لها التكبير وآخرها التسليم (٤١).

(ثانيهما) أن مقتضى ما ذكر من الجامع ان الصحيحي لا بد ان

______________________________________________________

(٤١) هذا على تقدير كون الموضوع له البسيط الخارج عن الاجزاء المنطبق معها ، وأما لو كان نفس تلك الاجزاء مع تحديدها بإفادة القرب أو النهي عن الفحشاء أو غير ذلك مما يلازم الصحة ، فلم يكن خلاف المرتكز في الأذهان.

يلتزم بالاشتغال في موارد الشك في الجزئية أو الشرطية ، وإن بنى في الأقل والأكثر على البراءة عقلا ، لأنه مكلف بإتيان ذلك المعنى الواحد ، فمتى شك في جزئية شيء أو شرطيته ، يرجع شكه إلى ان ذلك المعنى الواحد هل يتحقق بدون الإتيان بالمشكوك أم لا ، مع أن القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة فيهما.

وقد تصدى لدفع هذا الإشكال شيخنا الأستاذ في الكفاية بأن الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع من هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة ، بحسب اختلاف الحالات ، يتحد معها نحو اتحاد وفي مثله تجري البراءة ، وانما لا تجري فيما إذا كان المأمور به امرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب مردد بين الأقل والأكثر ، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما (انتهى كلامه).

أقول : لا إشكال في أنه إذا كان الشيء مجمعا ومصداقا لعناوين عديدة ، فكل عنوان منها وقع في حيز التكليف ، كان المكلف مأخوذا بذلك العنوان والعناوين الأخر وان كانت متحققة مع العنوان الواقع في حيز التكليف ، ولكن ليس لوجودها ولا لعدمها دخل في براءة ذمة المكلف واشتغاله وهذا واضح جدا ، فحينئذ ان قلنا بان الواقع في

______________________________________________________

(لا يقال) : ان الموضوع له ان كان العنوان العرضي ، أي مفهوم الاجزاء المفيدة للقرب ، فيلزم كون الصلاة مثلا مرادفة لهذا العنوان ، وان كان مصداق الاجزاء المقيدة بهذا القيد ، فهو كر على ما فر من عدم تصوير الجامع.

(لأنا نقول) : الموضوع له على هذا ليس المفهوم المذكور ، ولا الجامع بين الخارجيات ، بل نفس الاجزاء الخارجية كما قلنا مقيدة بذلك القيد ، فيكون الجامع لشتات المتفرقات ذلك القيد ، وذلك لا ينافي عدم الجامع لها بغير هذا العنوان ، وهذا التقرير وان سلم عن مخالفة المرتكزات لكن يبقى إشكال الاشتغال الآتي على حاله.

حيز التكليف هو هذا المركب من التكبيرة والحمد وكذا وكذا ، يصح للقائل بالبراءة ان يقول ان ما علم انه متعلق للتكليف من هذه الاجزاء يؤتى به ، وما يشك فيه يدفع بالبراءة. وأما إن قلنا بان ما وقع في حيز التكليف ليس هذا المركب بهذا العنوان ، بل هو عنوان بسيط ينطبق على قسم من هذا المركب في بعض الحالات ، فلا يتصور معلوم ومشكوك (٤٢) حتى يقال : إن المعلوم قد أتي به والمشكوك فيه يدفع بالأصل ، بل في ما نحن فيه معلوم شك في وقوعه. ولا شبهة في انه مورد للاشتغال.

______________________________________________________

(٤٢) هذا على مبناه ـ من كون متعلق الأمر والنهي هي الطبيعة ـ صحيح وأما على مبنى الكفاية من تعلقهما بالمصاديق حقيقة وكون العنوان عبرة لها ـ كما صرّح بذلك في اجتماع الأمر والنهي ـ فيكون حقيقة المتعلق منحلا ، وان كان المرآة بسيطا.

لا يقال : ان الخارج بما هو داخل تحت هذا المفهوم متعلق للأمر وملزم به بحكم العقل.

لأنا نقول : على الفرض ليس المفهوم الا عبرة لإفهام المصداق وكونه متعلقا للإرادة ، وليس له مدخلية في المحبوبية والمبغوضية.

وأما ما أفاده من أن المكلف لا يؤاخذ الا بالعنوان الواقع في حيّز التكليف ، فلان ذلك العنوان طريق وواسطة لإثبات الإرادة إلى المصداق ، لا لدخله في متعلق الإرادة ، ولذا يؤاخذ المكلف بعنوان هؤلاء بقوله : «ألم أقل لك أكرم هؤلاء ، فلم لم تكرم زيدا مع كونه منهم؟» وحينئذ لو كان المفهوم مبينا أو كان المصداق مرددا بين المتباينين يؤاخذ بحقيقة المأمور به ويكون حجة لها ، وإلّا فلا يكون حجة الا في المقدار المتيقن.

نعم قد يقال : على فرض كون موطن الأمر الطبيعة أيضا يسري إلى الفرد لمكان الاتحاد ، فيكون الفرد مأمورا به ولو بالإرادة التبعيّة ، وهو أيضا واجب الامتثال ، ولذا قلتم في المطلق والمقيّد بالانحلال ، فصح أن يقال : ان الأقل اما عين المأمور به بالأمر

(الثاني) أنه قد يستشكل في تصوير القدر الجامع بين افراد الصلاة الصحيحة والفاسدة بحيث ينطبق عليها انطباق الكلي على الافراد.

وحاصل الإشكال أن أجزاء الصلاة ان كان لكل منها دخل في الموضوع له ، فلا تطلق تلك اللفظة الا على ما اشتمل على الكل ، وان كان لبعضها دخل دون الآخر ، فيلزم ان لا يحمل مفهوم لفظ الصلاة الا على الأبعاض المأخوذة في الموضوع له ، فيكون المركب من تلك الأبعاض وغيرها بعضها صلاة وبعضها خارجا عنها وكل منهما مما لا يقول به المدعى للأعم. وقد قيل في تصوير الجامع وجوه لا يهمنا ذكرها.

والحق أن يقال إن القدر المشترك بين افراد الصلاة الموجودة في الخارج امر متعقل (بيان ذلك) أن الوحدة كما انها قد تكون لشيء حقيقة كذلك قد تكون لشيء اعتبارا (مثال الأول) : مفاد الاعلام الشخصية ، فانه لا تنثلم وحدة معانيها على اختلاف حالاتها المختلفة العارضة لها. (ومثال الثاني) : الأشياء العديدة التي يوجدها الموجد بقصد واحد ، فان تلك الأشياء وان كانت وجودات مختلفة متعددة ، لكن عرضت لها وحدة اعتبارية بملاحظة وحدة الغرض والقصد ، يطلق على كل منها عنوان الجزء بتلك الملاحظة.

______________________________________________________

التبعي واما مقدّمة له ، فيكون معلوم الوجوب ، والأكثر مشكوك الوجوب ، فتجري فيه البراءة.

وفيه : أنّ الفرد وإن تعلقت به الإرادة التبعيّة إن لم يتعلّق الأمر بصرف الوجود وينحل العلم بها كما ذكر ، لكن ذلك لا ينفع في انحلال متعلق الإرادة الأصلية ، والعقل من إجماله يحكم بالاحتياط ، وأما إجراء البراءة بادعاء كون الجامع ذا مراتب ، وكون كل من اجزاء المركب محققا لمرتبة منه ، فهو خلاف فرض الصحيحي ، وان لم يكن في اجزاء البراءة عليه إشكال.

إذا عرفت هذا ، فنقول : يصح للأعمّي أن يقول : ان الواضع لاحظ جميع اجزاء الصلاة المأتي بها بقصد واحد ، وقد قلنا بان الأشياء المتعددة بهذه الملاحظة واحدة اعتبارا ، وبعد طرو الوحدة الاعتبارية ، حال تلك الأشياء بأجمعها حال الواحد الحقيقي ، فكما أن الواحد الحقيقي يمكن أخذه في الموضوع له على نحو لا تنثلم وحدته باختلاف الحالات الطارئة عليه (٤٣) كذلك الواحد الاعتباري قد يعتبر على نحو ليس فيه حد خاص. ولازم ذلك أنه متى ما وجد مقدار من ذلك المركب مقيدا بما يوجب وحدة الاجزاء اعتبارا وهو وحدة القصد ، يصدق عليه ذلك المعنى ، سواء وجد في حد التام أو الناقص ، فالذي وضع له اللفظ هو

______________________________________________________

(٤٣) لا يخفى أن للموضوع له للفظ الصلاة على هذا وحدة اعتباريّة من جهتين.

(إحداهما) : كونه جامعا لشتات الاجزاء المختلفة ، كالتكبير والقراءة والسورة والركوع والسجود وأمثال ذلك ، فانها أشياء متعددة حقيقة ، يعتبرها المعتبر واحدة ويعبّر عنها بالصلاة.

(ثانيتهما) : كونه جامعا منتزعا من أفراد متعددة مختلفة الاجزاء ، فان مقدارا ما من الاجزاء والشرائط ـ محاطا بقصد إتيان الصلاة لله أو لإراءة الناس ـ ليست له وحدة كلية حقيقية ، كالوحدة الكلية لمفهوم الخطّ ، وهو مقدار ما من طرف السطح يقبل القسمة طولا ، حيث لا تنثلم وحدته الكلية باختلاف الخطوط طولا وقصرا ، بل له وحدة اعتبارية يعتبرها المعتبر من جهة كون تلك الأشياء المتعددة في جميع الافراد محاطة بالقصد المذكور.

والمقصود في المقام تشبيه تلك الوحدة الكلية الاعتبارية بالوحدة الحقيقية الشخصية أو الكلية ، فكما لا تنثلم الوحدة الشخصية باختلاف الحالات والوحدة الكلية الحقيقية باختلاف الافراد ، كذلك لا تنثلم تلك الوحدة الاعتبارية الكلية ، فكما لا تنثلم وحدة حقيقة الماء باختلاف أفراده زيادة ونقيصة ، وحقيقة مفهوم البيت

مقدار من تلك الأشياء الملحوظة على سبيل الإهمال أو تعيين ما ، مثل أن يلاحظ عدم كونه أقل من ثلاثة اجزاء أو أربعة اجزاء ، وهكذا على اختلاف نظر الواضع ، فإذا وجد في الخارج غير زائد على مقدار ما وضع له ، فلا إشكال في صدق معنى اللفظ عليه ، وإذا وجد زائدا على ذلك المقدار ، فلكون الزائد جزءا ومتحدا مع ما يقوم به المعنى ، يصدق عليه المعنى أيضا ، فالزائد في الفرض الثاني جزء للفرد لا جزء لمقوم المعنى ولا خارج عنه ، فافهم وتدبر.

(الثالث) أنه بعد ما عرفت ما ذكرنا من تصور الجامع على كلا القولين فاعلم ان طريق إحراز المعنى وتصديق أحد القائلين ، ليس إلّا التبادر وصحة السلب وعدمهما ، فان قطعنا بالمعنى بالتبادر القطعي فهو ، وإلّا فمقتضى القاعدة التوقف. والوجوه الأخر التي استدل بها كل من الفريقين لا تخلو عن شيء ، كما سننبه عليه.

والإنصاف انا لا نفهم من الصلاة ونظائرها الا الحقيقة التي تنطبق على الصحيح والفاسد ، ونرى ان لفظ الصلاة في قولنا الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ليس فيه تجوز ، وملاحظة علاقة صورية بين ما أردنا من اللفظ وبين المعنى الحقيقي له. وهذا ظاهر عند من راجع وجدانه

______________________________________________________

باختلاف أفراده سعة وضيقا وغير ذلك من المشككات الحقيقية ، كذلك لا تنثلم الوحدة الاعتبارية مما ذكر من مفهوم الصلاة باختلاف الافراد ، من حيث كونها واجدة لجميع الاجزاء أو فاقدة لبعضها ، مع اختلاف الاجزاء الفاقدة والواجدة ، وكما تضاف الزيادة والنقيصة في تلك المشككات إلى الفرد لا إلى الحقيقة ، كذلك في الصلاة.

هذا ، ويمكن أن يستشهد لوجود الجامع بين الصحيح والفاسد بما هو المرتكز في ذهن الخواصّ والعوام ، من صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والفاسد ولو مجازا ، وإرادة المسمى بلفظ الصلاة خلاف الواقع قطعا.

وأنصف ، وكذا نرى من أنفسنا ان من صلى صلاة فاسدة لا يصح سلب معنى لفظ الصلاة عما فعله في الخارج ، ولو قلنا أحيانا بان ما فعله ليس بصلاة ، فليس نفى الصلاة عن فعله كنفي الصلاة عن الصوم وغيره من موضوع آخر كالحجر والإنسان ، إذ يصح الثاني بلا عناية أصلا بخلاف الأول.

واستدل أيضا للمذهب الأعمّي بان الصلاة استعملت في غير واحد من الاخبار في الفاسدة ، كقوله : (بنى الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه ، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة) ومحل الاستشهاد قوله عليه‌السلام : (فأخذ الناس بالأربع) وقوله : (فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله إلخ) وكقوله عليه‌السلام : (دعى الصلاة أيام أقرائك) حيث أن المراد لو كان الصحيحة لم تكن بقادرة عليها ، فلا يجوز نهيها عنها.

والجواب ان الإطلاق أعم من الحقيقة مضافا إلى ان لفظ الصلاة في الخبر الثاني استعمل في المعنى المجازي ، حتى على مذهب الأعمّي ، لأن المنهي عنه من الحائض ليس كلما يطلق عليه معنى لفظ الصلاة ، فان الحائض لو أتت بالصلاة فاقدة لبعض الشرائط أو الاجزاء المعتبرة فيها من غير جهة الحيض ، لم يكن ما فعلته محرما (٤٤) فالصلاة في قوله عليه‌السلام : (دعى الصلاة) استعملت في الفرد الخاصّ أعني المستجمع لجميع الاجزاء والشرائط ، ما عدا كونها حائضا واستعمال العام في الخاصّ مجاز ،

______________________________________________________

(٤٤) لا إشكال في حرمته التشريعية وان قلنا بخروجه عن مفاد الرواية للانصراف.

إلا أن يقول بإرادة الخاصّ هنا من غير اللفظ.

هذا واستدل لهم أيضا بأنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها ، ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة ، لا يحصل بها الحنث ، لأن الصلاة المأتي بها فاسدة لأجل النهي عنها ، بل يلزم أن يكون فسادها موجبا لصحتها ، لأنها لو كانت فاسدة لم تكن مخالفة للنهي. ولا وجه لعدم كونها صحيحة الا كونها مخالفة للنهي. وهذا بخلاف ما لو كانت الصحة خارجة عن معناها ، فانه على هذا لا يلزم محذور.

والجواب ان مدعى الوضع للصحيح لا يدعى انها موضوعة للصحيح من جميع الجهات ، حتى من الجهات الطارئة ، كالنذر وشبهه ، بل يدعى أنها موضوعة للصحيح من حيث الجهات الراجعة إلى نفسها (٤٥) ولو فرض انه يدعى ان الموضوع هو الصحيح الفعلي حتى من الجهات الطارئة ، فله ان يجيب بان نذر الناذر في المقام قرينة على عدم إرادة هذا المعنى ، إذ ليس المعنى المأخوذ فيه الصحة من جميع الجهات قابلا للنهي ولو فرضنا أن الناذر قصد هذا المعنى في نذره ، نلتزم بعدم انعقاده لعدم صحة تعلق النهي بالفعل المذكور.

واستدل للصحيحي ـ مضافا إلى دعوى التبادر وصحة السلب من الفاسد ـ بالأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواصّ والآثار لحقيقة الصلاة والصوم ، مثل قوله عليه‌السلام : (الصلاة عمود الدين ، أو انها معراج

______________________________________________________

(٤٥) الإنصاف : أن الدعوى المذكورة خلاف الواقع ، وإلّا فيمكن أن يدعى أنها موضوعة للصحيح من حيث الاجزاء والشرائط لا من حيث الموانع ، أو التفصيل بين الاجزاء والشرائط أيضا.

المؤمن ، وان الصوم جنة من النار) أو نفى الطبيعة بفقدان بعض الشروط والاجزاء مثل قوله عليه‌السلام : (لا صلاة إلّا بطهور) ، وكذا (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) وأمثال ذلك.

والجواب عن الأول ان الاستدلال بها مبنى على إفادة تلك الاخبار أن الآثار المذكورة لتلك الطبائع على إطلاقها ، إذ بذلك يستكشف أن الفرد الّذي ليس فيه تلك الخواصّ ليس فردا لتلك الطبائع ، لكن الاخبار المذكورة واردة في بيان خاصية تلك الطبائع من حيث نفسها ، في مقابل أشياء أخر. ولا ينافي أن تكون لظهور تلك الخواصّ في تلك الطبائع شرائط أخر زائدة عليها ، كما يظهر من المراجعة إلى أمثال هذه العبارات.

وعن الثاني أن استعمال هذا التركيب في نفى الصحة شايع في الشرع (٤٦) بحيث لم يبق له ظهور عرفي في نفى الماهية.

واستدلوا أيضا بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة ، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه ، وان مست الحاجة إلى استعمالها في غيرها ، فلا يقتضى أن يكون على نحو الحقيقة ، بل ولو كان مسامحة ، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد. والظاهر عدم التخطي من الشارع عن هذه الطريقة.

هذا ولا يخفى ما فيه لأن دعوى القطع مجازفة ، والظن بعد إمكان المنع لا يغنى عن الحق شيئا.

______________________________________________________

(٤٦) الظاهر : ان ذلك مصادرة ، لأن الشيوع المذكور موقوف على الوضع للأعم ، والصحيحي يدعي أن تلك القضية ظاهرة في عدم الوضع له أصلا ، ونفي الصحة عنده ملازم لنفي الحقيقة ، نعم لو ادّعى ان استعماله في نفي الكمال أيضا شايع بحيث لم يبق له ظهور في الحقيقة فيلزم عليه.

(الرابع) أنه تظهر الثمرة بين القولين في صحة الأخذ بالإطلاق وعدمه ، إذ على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح لا يمكن الأخذ بالإطلاق فيها ، إذ مورده بعد الأخذ بمدلول اللفظ الموجود في القضية والشك في القيود الزائدة. والمفروض إجمال مدلول اللفظ ، وكلما احتمل اعتباره قيدا يرجع إلى مدخليته في مفهوم اللفظ. وأما بناء على القول الآخر فيصح التمسك بالإطلاق على تقدير تمامية باقي المقدمات ، إذ القيد المشكوك فيه مما لا مدخلية له في تحقق الحقيقة التي جعلت موضوعة في القضية. وكذا تظهر الثمرة بين القولين في الأصل العملي ، إذ على القول بالصحيح على نحو ما بيناه في أول البحث لا محيص عن القول بالاحتياط ظاهرا ، لكن على القول الآخر يبتنى القول بالبراءة والاحتياط فيه على مسألة الشك في الأقل والأكثر.

(الخامس) أن أسامي المعاملات ان قلنا بأنها موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها أسامي للصحيحة منها أو الأعم ، لأن الأمر فيها دائر بين الوجود والعدم لا الصحة والفساد كما لا يخفى (٤٧) وان قلنا بأنها موضوعة للأسباب ، فيأتي النزاع في انها موضوعة للأعم مما يترتب عليه الأثر أو لخصوص الصحيح أعني ما يترتب عليه الأثر. وعلى كل حال فلا مانع من الأخذ بالإطلاق فيها. أما بناء على كونها موضوعة للأسباب من

______________________________________________________

(٤٧) هذا على ما عليه المحققون من أن الموضوع له في المعاملات عند العرف والشرع واحد ، وإمضاء الشارع تصويب لهم ، ورده تخطئة ، وأما لو قيل بأن الموضوع له عند العرف هو المسبب عندهم ، مثلا لفظ البيع موضوع للنقل والانتقال الحاصل ببنائهم سواء أمضاه الشارع أو ردّه ، وليس له واقعية غير البناء المذكور حتى يخطئهم الشارع ، فيمكن النزاع في أن الموضوع له عند الشارع هل المسبب عنده أو الأعم منه ومن المسبب عند العرف وان لم يوجد عنده ، فيشبه نزاع الصحيح والأعم.

دون ملاحظة حصول الأثر ، فواضح ، وأما على القول بكونها موضوعة لخصوص الأسباب المؤثرة للأثر ، أو موضوعة لنفس المسبب ، فلان لمفاهيمها مصاديق عرفية والأحكام المتعلقة بالعناوين ـ في القضية اللفظية التي وردت لبيان تفهيم المراد ـ تحمل على المصاديق العرفية لها. وبعد تعلق الحكم في القضية اللفظية بالمصاديق العرفية ، يستكشف ان الشيء الّذي يحكم العرف بأنه مصداق يراه الشارع مصداقا أيضا ، ولذا تراهم يتمسكون في أبواب المعاملات بإطلاقات أدلتها ، مع ذهابهم إلى كونها موضوعة للصحيح. نعم لو شك في الصدق العرفي ، فلا مجال للأخذ ٠ بالإطلاق فليتدبر في المقام.

استعمال اللفظ في أكثر من معنى

و (منها) أنه اختلف ـ في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بان يراد كل واحد مستقلا (٤٨) كما إذا استعمل فيه وحده ـ على أقوال لا يهمنا ذكرها بعد ما تطلع على ما هو الحق في هذا الباب والحق الجواز بل لعله يعد في بعض الأوقات من محسنات الكلام ، لأن ما وضع له

______________________________________________________

(الاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد)

(٤٨) لا يخفى أن إرادة المعنى مستقلا على قسمين : الأول : أن يتصور ويراد منفردا ، والثاني : أن يتصور ويراد مع الغير ، لكن لا بنحو يكون المنظور شيئا واحدا وكان كل واحد منهما جزءا له ، أو كان المنظور أحدهما وكان الآخر قيدا له ، فيكون كل منهما مرادا ومتصورا بحياله واستقلاله ، بنحو تكون الإرادة والتصور واحدا والمراد والمتصور متعددا ، مثلا. لو نظرت بعينك إلى شخصين بنظرة واحدة ونظرت إليهما بنظرتين ، فلا تفاوت في القسمين من حيث أن كل واحد من الشخصين منظور إليه

اللفظ هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة ، وليس في كل وضع تقييد المعنى بكونه مع قيد الوحدة بالوجدان ولا يكون منع من جهة الواضع أيضا ، ضرورة ان كل أحد لو راجع نفسه حين كونه واضعا للفظ زيد بإزاء ولده

______________________________________________________

مستقلا في كلا النظرين ، ووحدة النّظر في الأولى وتعدده في الثانية غير مؤثر في إحاطة الذهن بكل منهما بحياله ، والشاهد على إمكان ذلك وقوعه بالوجدان.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان كان الاستعمال عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى وذكر اللفظ وإرادة المعنى مستقلا بالمعنى الأول ، فلا إشكال في عدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى ، بل هو بديهي كالضرورية بشرط المحمول ، وان كان عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى وإرادته بنحو لم يكن اللافظ حين ذكر اللفظ ملتفتا الا إلى المعنى ـ وكأنه يلقي المعنى إلى المخاطب ـ لكن لا بحيث يكون ذلك المعنى تبعا لغيره في اللحاظ والإرادة فلا إشكال في جوازه ، لأن المانع ان كان عدم إمكان تعقل الشيئين مستقلا على نحو ما ذكرنا فالوجدان حاكم بإمكانه ، وان كان عدم تحقق معنى الإفناء فلا نتعقل للإفناء معنى زائدا على ما ذكر من كون اللافظ حين إيجاد اللفظ غير ملتفت إلى اللفظ ، ملقيا للمعنى إلى المخاطب ، ولا فرق في ذلك بين أن يجعله فانيا في الواحد أو المتعدد مع عدم التفاته إلى اللفظ أصلا.

وقد ذكر إشكال على أصل الاشتراك لا بأس بالإشارة إليه لمناسبة المقام ، وهو : ان الوضع ان كان قصر اللفظ في المعنى فوضع الثاني مخالف للأول ، وان كان قصر المعنى على اللفظ فينسد باب الاستفادة إلّا بالقرينة حتى في غير المشترك ، لأن معنى الوضع على هذا التزام إرادة المعنى من اللفظ لا عنده ، وهو كما ترى.

والظاهر : ان الوضع عبارة عن قصر اللفظ على المعنى بالتخصيص أو بالتعهد أو غيرهما من معانيه ، ولا نتحاشى عن مخالفة الوضع الثاني للأول بهذا المقدار ، فان مقتضى الأول عدم إرادة غير المعنى الأول من اللفظ إلّا بالقرينة الصارفة ، ومقتضى الثاني إرادة المعنى الثاني أيضا بدون قرينة ، وكذا الثالث والرابع إلى ما شاء الله ، ولذا يحتاج إلى القرينة المعيّنة ولا يتعين شيء منها عند المخاطب الا بها ، فيصير مقتضى الأوضاع المتعددة جواز إرادة تلك المعاني من ذلك اللفظ من دون قرينة صارفة ، لكن

ليس مانعا من استعمال ذلك اللفظ في غيره (٤٩) ولا يتصور مانع عقلي في المقام ، فالمجوز للاستعمال موجود ، وهو الوضع ، وليس هناك ما يقبل المنع.

وذهب شيخنا الأستاذ دام بقاؤه إلى الاستحالة العقلية ، قال في الكفاية ، ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل وجها وعنوانا له ، كأنه يلقى إليه نفس المعنى ولذا يسرى إليه قبحه وحسنه. ولا يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد ، ضرورة ان لحاظه هكذا في إرادة معنى ، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث ان لحاظه كذلك ، لا يكاد يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى ، فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون. ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد ، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذه الحال (انتهى).

أقول يمكن ان يكون حاصل مرامه دام بقاؤه أنه بعد ما يكون

______________________________________________________

لا تقيد بوحدتها ولا تعددها ، فكما يجوز إرادة الواحد يجوز إرادة المتعدد بتفصيل ما مر ، وكما يحتاج تعيين المراد وتشخيصه إلى القرينة المعيّنة فكذلك يتوقف تعيين الوحدة والتعدد أيضا إليها.

(٤٩) قد يقال ـ كما قيل ـ : ان الأوضاع توقيفية لا يجوز التعدي عن متابعة الواضع ، والواضع حين الوضع لم يلاحظ الا ذات المعنى في حال الوحدة ، فلا بد لتابعيه أن يستعملوه كذلك.

فان قلت : هذا لو كان حال الوحدة قيدا له. وأما لو لم يكن له دخل في الموضوع له فلا يجب مراعاته قطعا ، كالأعلام الموضوعة للأشخاص في حال الصغر ولم تخرج بالكبر والهرم عن قيد الموضوع له ، ومن المعلوم أن الواضع لم يضع اللفظ للمعنى مع قيد الوحدة.

اللفظ وجها وإشارة إلى ذات المعنى ، فاللفظ من حيث كونه إشارة إلى معناه ليس إشارة إلى آخر لتباين المعنيين ، وبالعكس. ولو جعل إشارة واحدة ووجها واحدا لكلا المعنيين ، فهو من باب استعمال واحد في معنى واحد ، لأن المعنيين بهذا اللحاظ يكونان معنى واحدا في هذا الاستعمال ، نظير استعمال لفظ اثنين في معناه ، فاستعمال اللفظ في المعنيين غير معقول.

قلت لا إشكال في إمكان إرادة شيئين من لفظ واحد على نحو بقائهما على صفة التعدد ، كما انه لا إشكال في إمكان إرادتهما على نحو الوحدة الاعتبارية ، فلو استعمل لفظ في المتعدد على النحو الثاني ، فلا إشكال في انه من باب استعمال اللفظ في المعنى الواحد ، فان كان ذلك المعنى موضوعا له اللفظ ، يكون الاستعمال حقيقيا ، وإلّا يكون مجازيا. وان استعمل في المتعدد على النحو الأول ، يكون من باب استعمال اللفظ الواحد في المعنيين. وحينئذ إن كان الملحوظ في هذا الاستعمال هو الوضعين ، فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنيين

______________________________________________________

قلت : لا يلزم من عدم ملاحظة القيدية لها عدم دخلها في الموضوع له فرب وصف لم يلحظ قيدا في الموضوع لكنه دخيل في الحكم ، بمعنى عدم الحكم مع عدمه ، مثلا موضوع الكلية لم يقيد بحال التجرّد عن كل قيد حتى قيد التجرّد ، لكن المحمول لم يحمل عليه الا في ذلك الحال كما هو واضح ، فما المانع من ان يكون حال الوحدة في الوضع مثل التجرد في الكلية وبذلك يمكن حمل كلام المحقق القمي ـ رحمه‌الله ـ عليه ، فراجع.

فأجاب عنه ـ دام ظله ـ بأنا وان لم ننكر إمكان الدخل بنحو ما قيل لكن نجد من أنفسنا حين وضع لفظ لولدنا عدم المنع من استعماله في غيره وعدم دخل حالة الوحدة بنحو من الأنحاء. ولا يجدي الإمكان في شيء نرى الوجدان بخلافه.

الحقيقيّين وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في كل منهما ، فيكون من باب استعمال اللفظ في المجازيين ، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في أحدهما ، والوضع في الآخر ، فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي.

(ليت شعري) أن دعوى الاستحالة هل هي راجعة إلى إرادة الإنسان الذوات المتعددة من دون ملاحظة عنوان الاجتماع ، أو راجعة إلى امر آخر؟ فان كانت راجعة إلى الأول ، فيرده وقوع هذا الأمر في العام الاستغراقي ، فانه انما صار كذلك لعدم ملاحظة الآمر هيئة الاجتماع في مرتبة تعلق الحكم ، بل لاحظ الآحاد كلا منها إجمالا على انفرادها ، غاية الأمر هذه الملاحظة في العام الاستغراقي انما هي في مرتبة تعلق الحكم دون الاستعمال (٥٠) فإذا صار هذا النحو من الملاحظة ـ أعني ملاحظة الآحاد على انفرادها ممكنا في مرتبة تعلق الحكم ـ فليكن ممكنا في مرحلة الاستعمال أيضا ، فكما أن كل واحد في الأول يكون موردا للحكم مستقلا ، كذلك في الثاني يصير مستعملا فيه.

و (ليت شعري) : أي فرق بين ملاحظة الآحاد بذواتها في مرتبة

______________________________________________________

(٥٠) لا يقال : فرق بين الاستعمال وتعلق الحكم ، فان الأول إفناء اللفظ في المعنى ، ولا يمكن إفناء الواحد في المتعدد ، بخلاف تعلق الحكم فانه يتوقف على لحاظ موضوعه بأي نحو كان ، من دون لزوم إفناء الواحد في الاثنين ، ولا تقوم الواحد باللحاظين.

لأنه يقال : أولا : قد أوضحنا جواز إفناء الواحد في الاثنين مع عدم لزوم تقوم الواحد باللحاظين.

وثانيا : ان إنشاء الحكم أيضا إفناء ، فان من يقول : «أكرم زيدا» يوجد بذلك الوجوب ، ونفس ذلك الإيجاد استعمال على رأي ، وإظهار إرادة الإكرام

تعلق الحكم ، وبين ملاحظتها كذلك في مرتبة الاستعمال؟ وأيضا من المعلوم إمكان الوضع عاما والموضوع له خاصا ، وهو بان يلاحظ الواضع معنى عاما ويضع اللفظ بإزاء خصوصياته ، فيكون كل من الجزئيات موضوعا له ، ولو عامل الشخص هذه المعاملة في مرحلة الاستعمال ، بأن لاحظ معنى عاما مرآة للخصوصيات ، واستعمل اللفظ في تلك الخصوصيات ، يصير كل واحد منها مستعملا فيه ، كما أنه صار في الصورة الأولى موضوعا له ، وان كانت الدعوى راجعة إلى امر آخر فلا نعقل وجها آخر للاستحالة. ولا استبعد كون ذلك من قصوري لإدراكها.

واما أدلة القائلين بالمنع من قبل الوضع ، فموهونة جدا ، فان اعتبار قيد الوحدة في المعنى مما يقطع بخلافه ، وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقتضى إلّا عدم كون المعنى الآخر موضوعا له بهذا الوضع ، ويتبعه عدم صحة الاستعمال فيه بملاحظة هذا الوضع ، ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر له ولا عدم صحة استعماله بملاحظة ذلك الوضع الآخر فيه.

وأما تجويز البعض ذلك في التثنية والجمع بملاحظة وضعهما لإفادة التعدد بخلاف المفرد ، فمدفوع بان علامة التثنية والجمع تدل على تكرار ما أفاده المفرد ، لا على حقيقة أخرى في قبال الحقيقة التي دل عليها المفرد. كيف؟ ولو كانت كذلك لما دلت علامة التثنية على التعدد ، لأن

______________________________________________________

وإلقاؤها إلى المخاطب على رأي آخر ، وعلى كلا التقديرين فإيجاد أحكام عديدة ب «أكرم» أو إظهار إرادات متكثرة به عين إفناء الواحد في المتعدد ، فان كلا من الإرادات المذكورة المتعلقة بكل واحد من الموضوعات بحيالها واستقلالها موجدة أو مظهرة وملقاة إلى المخاطب ، مع أن قضية عدم إمكان تصور أشياء عديدة مستقلا لو كانت صادقة فلا اختصاص لها بمقام الإفناء كما هو واضح.

المفرد الّذي دخلت عليه تلك العلامة أفاد معنى واحدا ، فالعلامة أيضا أفادت معنى واحدا ، فأين التعدد المستفاد من علامة التثنية.

المشتق

و (منها) أنهم اختلفوا في معاني بعض المشتقات من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأمثال ذلك ، مما يجري على الذوات ، ويحمل عليها على نحو من الحمل ، هل هي ما يطلق على الذوات في خصوص حال التلبس أو أن معانيها أعم من ذلك ، بمعنى أنها موضوعة لمعان تحمل على الذوات ، وان انقضى عنها التلبس ، بعد الاتفاق على ان إطلاقها ـ على الذوات التي لم تتلبس بعد بملاحظة الزمن الآتي ـ مجاز. وتنقيح المرام يستدعى رسم أمور :

(الأول) أن النزاع ليس في جميع المشتقات ، لأن الماضي والمضارع والأمر والنهي خارجة عن محل النزاع قطعا ، وكذا المصادر ـ وان قلنا بأنها مشتقات أيضا ـ وكذا ليس النزاع مختصا بالمشتقات الجارية على الذوات : من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأمثال ذلك ، بل يجري في كل لفظ موضوع بإزاء مفهوم منتزع من الذوات ، باعتبار عروض امر خارج عنها ، مثل الزوج والعبد والحر وأمثال ذلك ، وان كان من الجوامد.

فالنزاع في المقام راجع إلى ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المفاهيم المنتزعة من الذوات باعتبار الأمور الخارجة عنها ، هل هي موضوعة للمتلبس الفعلي بذلك العارض ، أو لما يعمه وما انقضى عنه ذلك العارض ، سواء أكان من المشتقات أم من الجوامد. نعم الألفاظ الموضوعة

بإزاء المفاهيم المنتزعة. من الذاتيات ـ من دون ملاحظة امر خارج عنها ـ ليست محلا للنزاع ، إذ لا شبهة لأحد في أن لفظ الإنسان والحجر والماء والنار وأمثالها لا تطلق على ما كان كذلك ، ثم انخلعت عنه تلك الصور النوعية. والدليل على ما ذكرنا من دخول مثل الزوج وأمثاله في محل النزاع ، ما عن الإيضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة ، قال : (تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين ، وأما المرضعة الأخرى ، ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها ، لأن هذه يصدق عليها أم زوجته ، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه). وعن المسالك (في هذه المسألة ابتناء الحكم على الخلاف في مسألة المشتق).

(الثاني) أنه اتفق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجارية على الذوات ، بخلاف الأفعال ، فقد اشتهر بينهم دلالتها على الزمان ، حتى جعلوا الاقتران بأحد الأزمنة من اجزاء معرفها.

والحق في المقام أن يقال : إن الأمر والنهي لا يدلان على الزمان أصلا (٥١) بداهة أن قول القائل اضرب لا يدل إلّا على إرادة وقوع الفعل من الفاعل إما في الآن الحاضر أو المتأخر ، فلا دلالة له على واحد منهما. نعم زمان الحال ظرف لإنشاء المنشئ ، كما أنه ظرف لاخبار المخبر في القضية الخبرية. وكذا الكلام في النهي.

______________________________________________________

المشتق :

(٥١) ولو قلنا بحمل إطلاقه على الزمان المتصل العرفي ، لأن إرادة المولى تقتضي إتيان الفعل من دون تقيد بالزمان ، والعقل حاكم بأن المؤثر في شيء يؤثّر أثره

وأما الفعل الماضي ، فالظاهر أن دلالته على مضى صدور الفعل عن الفاعل مما لا يقبل الإنكار (٥٢) والمقصود من المضي المضي بالنسبة إلى حال الإطلاق ، حتى يشمل مثل يجيء زيد غدا ، وقد ضرب غلامه في الساعة التي قبل مجيئه. ولا يخفى أن المعنى الّذي ذكرناه غير اعتبار الزمان في الفعل ، لأن المضي قد ينسب إلى نفس الزمان ويقال مضى الزمان ، فمن أنكر اعتبار الزمان في الفعل الماضي ان كان مقصوده ما ذكرنا ، فمرحبا بالوفاق ، وان أنكر دلالته على المضي الّذي ذكرنا فالتبادر حجة عليه.

______________________________________________________

حين وجوده ، كالعلة المؤثرة لإيجاد المعلول الخارجي ، نعم لو كان المطلق مقيدا بالزمان المتأخر فالإرادة علة لإيجاده متأخرا ، هذا ولكنه غير كون الحال مدلول الهيئة.

لا يقال : اللغات توقيفية ، وإنكار دلالة الفعل على الزمان اجتهاد في مقابل نصّ علماء العربية.

لأنه يقال : ان مرجعيتهم انما هي في تعيين معاني المواد وتخصيص بعض الهيئات ببعض المواد كفعل يفعل على مادة «ع ، ل ، م» مثلا أو غيرها. واما تعيين معاني هيئات المواد بعد العلم بأنها وضعت لما وضعت لها بالهيئات الفارسية فمرجعه وجداننا بما نحن من أهل الفن ، فكل ما يتبادر من لفظ «بزن» في لغة الفرس نقطع بأنه معنى «اضرب» في لغة العرب ، ولا نبالي بمخالفتنا في ذلك لعلماء أهل العربية. ونحن نرى بالوجدان أن لفظ «بزن» لا يدل إلّا على طلب الضرب ، وأما في أي زمان فخارج عن مدلوله.

(٥٢) ليس المراد بيان دخل المضي أو الصدور في مدلوله حتى يقال : «علم الله» أو «كان الله» تجوّز ، بل المراد نفس دلالته على الزمان ودلالته على أصل التحقق ، فان كان صدوريا زمانيا فلا محالة كان صادرا في الماضي ، وإلّا فلا ، ولا يفهم منه الا أصل التحقق فمثل «كان الله» وأمثال ذلك أيضا حقيقة كما سيصرح به.

واما المضارع فقد اشتهر انه يدل على نسبة الفعل إلى الفاعل في زمان أعم من الحال والاستقبال (٥٣) فان أريد من الحال الحال الّذي يعتبر في مثل قائم وقاعد وأمثالهما عند من اعتبره ، فالوجدان شاهد على خلافه ، لظهور عدم صحة إطلاق قولك يقوم على من كان متلبسا بالقيام فعلا ، وكذلك قولك يقعد على من كان متلبسا بالعقود. وأما إطلاق يصلى ويذكر ويقرأ ويتكلم وأمثال ما ذكر على المتلبس بتلك المبادئ ، فانما هو بملاحظة الاجزاء اللاحقة التي لم توجد بعد ، كما انه يصح الإطلاق بنحو المضي بملاحظة الاجزاء الماضية السابقة. وكذا يصح التعبير بنحو الوصف نحو ذاكر ومصل وقارئ ومتكلم بلحاظ أن المجموع وجود واحد متلبس به فعلا.

______________________________________________________

(٥٣) لا يبعد أن يكون المضارع موضوعا لإظهار وقوع ما لم يكن واقعا قبل النسبة ، ولازم الزماني وقوعه في الحال أو الاستقبال ، فيكون في عدم الدلالة على الزمان بمدلوله كالماضي.

وأما ما أفاده ـ دام بقاؤه ـ من عدم صدق «يقوم» و «يجلس» على المتلبس بهما في الحال كصدق «القائم» و «الجالس» فلعله لكون الأفعال موضوعة للمعاني الحدثية ، والمعنى الحدثي فيهما نفس إحداثهما وقد مضى عن المتلبس بهما فعلا ، وأما بقاؤهما فيشبه الأوصاف ولا يعد من الأفعال ، ولذا لا يقال «يقوم» و «يقعد» حتى لإظهار القيام الواقع بعد هذا القيام ما لم تنثلم وحدته : نعم إبقاؤهما يعد من الأفعال ، ولذا يقال يبقى قيامه بلحاظ الحال والاستقبال إلى أن ينتهي ، ومعنى «يقعد إلى كذا» أي يبقى قعوده إلى كذا.

وأما الأفعال التي توجد آناً فآنا ويعد وجودها في كل ان فعلا على حدة وان أطلق على مجموعها أيضا أنها فعل واحد مسامحة بنحو من الاعتبار ، فتستعمل وتجري على المتلبس في الحال كالاستقبال بلا تأمل ولا إشكال ، فهل ترى أن إطلاق يأكل ويشرب وينظر ويمشي ويركض ويضرب ويخيط ويغسل وينظف ويكتب وأمثال

والحاصل ان إطلاق صيغ المضارع إنما يصح فيما إذا لم يكن الفاعل حين الإطلاق متلبسا بالفعل وان أراد من الحال الحال العرفي ـ أعنى الزمان المتصل بحال الإطلاق ـ فهو مرتبة من مراتب الاستقبال ، وليس فعل المضارع دالا الا على الاستقبال. نعم لما لم يدل على مرتبة خاصة من الاستقبال ، يصح إطلاقه على أي مرتبة منه ، ولو أطلق الحال على هذه المرتبة من الاستقبال ، يمكن إطلاقه على هذه المرتبة من الماضي أيضا ، فهلا قيل بان فعل الماضي يدل على الماضي والحال.

وكيف كان تحصل من جميع ما ذكرنا أن الماضي يدل على استناد المبدأ إلى الفاعل على نحو المضي بالنسبة إلى حال الإطلاق ، والمضارع يدل على اسناده إليه حال الإطلاق ومما ذكرنا يعلم أن نسبة بعض الصيغ

______________________________________________________

ذلك إلى ما شاء الله من الأفعال على المتلبس في الحال مجاز ، أو يلاحظ فيها الاجزاء الآتية في الاستقبال؟ كلا. وبذلك يعرف عدم احتياج صحة إطلاق يصلي ويذكر ويقرأ وأمثال ذلك إلى لحاظ الاستقبال ، وأيضا هل يصح أن يدعي أحد أن «يعلم» و «يظن» و «يشك» وأمثال ذلك لا يطلق على من يطلق عليه العالم بالفعل؟ وهل ادّعاء ذلك الا مخالفة لوجدانه إذا قال : أعلم و...؟ بل يمكن ادّعاء انصراف أمثال ذلك إلى خصوص الحال ، ولذا يحتاج الاخبار بها عن الاستقبال إلى السين أو سوف وتقول : سيعلم أو سوف يعلم.

فان قيل : ما الفرق بين بقاء العلم وأمثاله مع بقاء القيام والقعود؟ وكيف لا يصح إطلاق «يقوم» لمن يبقى قيامه ويصح «يعلم» لمن يبقى علمه مع انه كالقيام يشبه الأوصاف؟

قلت : الفرق أن بقاء العلم وأمثاله من أفعال القلوب ليس إلّا بتوجه النّفس في كل آن كتوجهها حين حدوث الفعل أو الصفة المذكورة ، ولذا يسند إليه في الآن الثاني كإسناده في الأول ، بخلاف القيام فقد ذكرنا أنه لا يعد بقاؤه فعلا على حدة فافهم واغتنم.

الماضية إلى الباري جل ذكره من قبيل علم الله أو إلى نفس الزمان ليس فيه تجوز وتجريد فليتدبر.

(الثالث) أن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال الإطلاق والأجراء ، لا حال النطق ، ضرورة عدم تطرق التوهم إلى أن مثل (زيد كان ضاربا بالأمس ، أو يكون ضاربا غدا) مجاز وما قيل ـ من الاتفاق على ان مثل (زيد ضارب غدا) مجاز ـ لعله فيما إذا كان الغد قيدا للتلبس بالمبدإ ، مع فعلية الإطلاق ، لا فيما إذا كان ظرفا للإطلاق.

وبالجملة لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدإ في ظرف الحمل والإطلاق ، وان كان ماضيا أو مستقبلا بالنسبة إلى زمان النطق. وإنما الإشكال في أنه هل يختص معناه بذلك أو يعمه وما انقضى عنه المبدأ في ظرف الحمل والإطلاق؟

(الرابع) أن المشتقات الدالة على الحرفة والملكة والصنعة ، كسائر المشتقات في مفاد الهيئة من دون تفاوت أصلا وصحة إطلاقها على من ليس متلبسا بالمبدإ فعلا بل كان متلبسا قبل ذلك ، من دون إشكال ، من جهة أحد أمرين : إما استعمال اللفظ الدال على المبدأ في ملكة ذلك أو حرفته أو صنعته ، وإما من جهة تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدإ دائما ، لاشتغاله به غالبا ، بحيث يعد زمان فراغه كالعدم ، أو لكونه ذا قوة قريبة بالفعل ، بحيث يتمكن من تحصيله بسهولة ، فيصح أن يدعى أنه واجد له. والظاهر هو الثاني. وعلى أي حال هيئة المشتق استعملت في المعنى الّذي استعملت فيه في باقي الموارد.

(الخامس) أنه لا أصل في المسألة يرجع إليه في تعيين المعنى الموضوع له ، كما هو واضح ، بل المتعين الرجوع إلى الأصل العملي ، وهو يختلف باختلاف المقامات ، فإذا وجب إكرام العالم في حال اتصافه

بالعلم ثم زالت عنه تلك الصفة ، فمقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب ، وإذا وجب في حال زوال تلك الصفة ، فمقتضى الأصل البراءة عن التكليف.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول اختلف في المسألة ، وقيل فيها أقوال عديدة لا يهمنا ذكرها ، خوفا من الإطالة. والحق انها موضوعة لمعنى يعتبر فيه التلبس الفعلي ، ولا يطلق حقيقة الا على من كان متصفا بالمبدإ فعلا. والدليل على ذلك انك عرفت عدم اعتبار المضي والاستقبال والحال في معاني الأسماء وبعد ما فرضنا عدم اعتبار ما ذكر في مثل ضارب وأمثاله من المشتقات ، فلم تكن مفاهيمها الا ما أخذ من الذوات مع اعتبار تلبسها بالمبادئ الخاصة ، إما على نحو التقييد والتركيب ، وإما على نحو انتزاع المعنى ، كما سيأتي. وعلى أي حال المعنى المتحقق بالذات والمبدأ ـ من دون اعتبار امر زائد ـ لا يصدق إلّا على الذات مع المبدأ لدخالة المبدأ في تحقق المعنى بنحو من الدخالة (٥٤).

وبعبارة أخرى كما أن العناوين المأخوذة من الذاتيات لا تصدق الا على ما كان واجدا لها ، كالإنسان والحجر والماء والنار ، كذلك العناوين التي تتحقق بواسطة عروض العوارض ، إذ وجه عدم صدق

______________________________________________________

(٥٤) وذلك لأن معنى المشتق إما عين المبدأ الملحوظ لا بشرط ـ كما هو ظاهر عبارة أهل المعقول ـ وإما مفهوم بسيط منتزع من الذات والمبدأ بنحو يصح حمله على الذات ـ كما فسر به كلام المعقوليين في الكفاية على الظاهر ـ وإما منتزع عن الذات بلحاظ قيام المبدأ بها ، فيكون الفرق بينه وبين المبدأ الفرق بين الشيء وذي الشيء ـ كما في الفصول ـ وإما مركّب من الذات والصفة بنحو يكون كل منهما جزءا لمعناه أو كان أحدهما قيدا له.

أما على العينية فمعلوم أن المبدأ بأي نحو لوحظ لم يصدق الا على نفسه ، مثلا :

.................................................................................................

______________________________________________________

مفهوم الضرب لم يصدق الا على الضرب ، كمفاهيم سائر الألفاظ الموضوعة للأشياء ، والمفروض أن الضارب عين الضرب الملحوظ لا بشرط ، فما ليس بضرب فعلا لم يصدق عليه الضرب ولا الضارب.

وأما على التركيب والانتزاع ، فمن الواضح أن الواضع إذا لاحظ حقيقة مركّبة عند التحليل من شيئين ، وانتزع مفهوما واحدا منهما ، ووضع له لفظا كالإنسان الموضوع لما هو منحل عند العقل إلى الجنس والفصل ، أو لاحظ الشيئين واحدا ووضع لهما لفظا على أن يكون كل منهما جزءا للموضوع له كأسماء الاعداد مثلا ، فلا يصدق المفهوم المنتزع من الجزءين أو المركّب منهما الا على ما كان واجدا للجزءين فعلا ، وذلك واضح ، والظاهر أن وضع اللفظ للمركّب من شيئين أو المنتزع منهما سواء كان أحدهما موجودا أو غير موجود غير معقول وخلف ، كوضع لفظ «زيد» مثلا لزيد سواء كان شخصه أو غيره أو لم يكن شيء أصلا.

ان قلت : هذا إذا كان الموضوع مركبا أو منتزعا من جزءين فعليين ، وأما لو كان مركبا من الذات والصفة سواء تحقق في الماضي أو الحال فلا مجال للإشكال كما هو واضح ، وبذلك يمكن الجواب حتى على العينية ، لأنه وضع للمبدإ الملحوظ لا بشرط سواء تحقق في الماضي أو الحال.

قلت : نعم ، بناء على ذلك يرتفع ما ذكرنا من الخلف ، لكن يلزم أن يكون معنى المشتق مقترنا بأحد الزمانين كالاستقبال على زعم القوم ، وقد أجمع الكل على عدم دلالته على الزمان أصلا ، وانما أوردنا ما أوردنا مبنيا على هذا الأصل المسلم المجمع عليه ، ومعلوم أنه لو لم يلحظ في معناه الا ذات المركّب منهما أو المنتزع منهما من دون لحاظ الزمان فلا مناص مما ذكرنا.

ولا يخفى أن التقريب المذكور وان أغنانا عن التبادر ، لكن الوجدان أيضا شاهد على تبادر المتلبس بالمبدإ وصحة السلب عمن انقضى عنه ، فنقول لمن لم يتلبس فعلا بالضرب : «ليس بضارب» بلا عناية واعتبار وان كان ضاربا قبل ، وصحة سلب ذلك بلا عناية دليل على كون التبادر مستندا إلى حاق اللفظ.

العناوين المأخوذة من الذاتيات ـ الا على ما كان واجدا لها ـ انها لم تؤخذ الا من الوجودات الخاصة من جهة كيفياتها الفعلية ، من دون اعتبار المضي والاستقبال ، وإلّا كان من الممكن ان يوضع لفظ الإنسان لمفهوم يصدق حتى بعد صيرورته ترابا ، كأن يوضع لمن كان له الحيوانية والنطق في زمان ما مثلا ، أو يوضع لفظ الماء لما كان جسما سيالا في زمن ما.

والحاصل أن العناوين المأخوذة من الموجودات ـ بملاحظة بعض الخصوصيات إذا لم يلاحظ شيء زائد عليها ـ لا تطلق الا على تلك الموجودات ، مع تلك الخصوصيات ، سواء كانت تلك الخصوصيات من ذاتيات الشيء أو من العوارض. ولعل هذا بمكان من الوضوح. ولعمري إن ملاحظة ما ذكرنا في المقام تكفي المتأمل.

حجة من ذهب إلى ان المشتق موضوع للأعم من المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ أمور مذكورة في الكتب المفصلة. والجواب عنها يظهر لك بأدنى تأمل ومن جملتها استدلال الإمام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لا ينال عهدي الظالمين) على عدم لياقة من عبد الصنم لمنصب الإمامة تعريضا بمن تصدى لها بعد عبادته الأوثان مدة. ومن المعلوم أن صحة الاستدلال المذكور تتوقف على كون المشتق موضوعا للأعم ، إذ الظاهر أن حال الإطلاق

______________________________________________________

وأما ما استند إليه في الكفاية للاستناد المذكور ودفع احتمال كونه مستندا إلى كثرة الاستعمال من قوله : «قلت : ... إلخ» فالظاهر أنه لا يتم إلّا بأخذ «الانقضاء» في قوله : «لكثرة الاستعمال في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر ...» على الانقضاء من زمان النطق ، حتى يصح ترديد الأمر بين المجاز والحقيقة بلحاظ حال النسبة على ما يذكر بعد في دفع الشبهة الثانية ، إذ لو كان المقطوع كثرة استعماله في موارد الانقضاء من زمان النسبة لم يكن لاحتمال إطلاقه بلحاظ حال النسبة وجه ، وعلى ذلك لم ترتفع شبهة المورد من احتمال استناد تبادر المتلبس إلى كثرة الاستعمال فيه. في موارد الانقضاء من زمان النسبة فالأولى في الجواب ما ذكرنا.

متحد مع حال عدم نيل العهد (٥٥) فلو لم يكن حقيقة فيما يصح إطلاقه حال الانقضاء ، لما صح التمسك بالآية ، لعدم قابلية الجماعة المعهودين الذين تصدوا الإمامة.

والجواب ان الظلم على قسمين قسم له دوام واستمرار مثل الكفر والشرك ، وقسم ليس له إلّا وجود آنيّ من قبيل الضرب والقتل وأمثال ذلك ، وهو بمقتضى الإطلاق ـ بكلا قسميه ـ موضوع للقضية ، والحكم المترتّب على ذلك الموضوع امر له استمرار ، إذ لا معنى لعدم نيل الخلافة في الآن العقلي ، فإذا جعل الموضوع الّذي ليس له إلّا وجود آنيّ موضوعا لأمر مستمر ، يعلم ان الموضوع لذلك الأمر ليس إلّا نفس ذلك الوجود الآنيّ ، وليس لبقائه دخل ، إذ لا بقاء له بمقتضى الفرض. فمقتضى الآية ـ والله أعلم ـ ان من تصدى للظلم في زمن ، غير قابل لمنصب الإمامة ، وإن انقضى عنه الظلم. ولا يتفاوت في حمل الآية

______________________________________________________

(٥٥) هذا الظهور مع قطع النّظر عن القرينة الصارفة لا إشكال فيه ، مثل : «لا يجوز الاقتداء بالفاسق» فانه ظاهر في عدم جواز الاقتداء في حال فسقه لا بعده ، ولذا لو قيل في ردّ الاستدلال بإمكان إطلاق الظالم بلحاظ حال التلبس حتى يكون معنى الآية : «من كان ظالما ولو آناً ما في الزمان السابق لا يناله عهدي أبدا» لا يصح لأنه خلاف ذلك الظاهر ، كما أن القول بأن عظم شأن الولاية قرينة على خلاف ذلك الظاهر ، أو على إرادة المجاز من الظالم مخالف لمقام الاستدلال في قبال من لا يقول بذلك ولا يتعبّد بقول المعصوم بما يتعبد به الشيعة.

فالظاهر أن ما في المتن أسلم لأن آنية المبدأ ـ ولو في بعض أقسامه مما لا مجوّز لخروجه عن الموضوع ـ قرينة واضحة على عدم اتحاد زمان الحكم والتلبس ، كاقتل القاتل واجلد الزاني واقطع يد السارق ، فتلك القرينة كاشفة عن المراد ، سواء كان حقيقة أو مجازا ، كان المشتق للأعم أو لخصوص المتلبس.

الشريفة على المعنى الّذي ذكرنا ، بين أن نقول بان المشتق حقيقة في الأخص ، أو في الأعم ، إذ الحكم المذكور في القضية ليس قابلا لأن يترتب إلا على من انقضى عنه المبدأ ، فاختلاف المبنى في المشتق لا يوجب اختلاف معنى الآية ، فلا يصير احتجاج الإمام عليه‌السلام بها دليلا لإحدى الطائفتين ، كما لا يخفى.

بساطة مفهوم المشتق أو تركبه

(تتمة) هل المشتقات موضوعة لمفاهيم بسيطة تنطبق على الذوات ، أو هي موضوعة للمعاني المركبة؟ وعلى الأول هل يكون ذلك المفهوم البسيط الّذي فرضناه معنى للمشتق قابلا للانحلال إلى أجزاء أو لا يكون كذلك؟ قد يقال إنها موضوعة للمعاني البسيطة التي لا يكون لها جزء حتى

______________________________________________________

هذا كلّه على تقدير كون الإمام عليه‌السلام في مقام الاستدلال بظاهر الآية ، لكن الناظر في أخبار الباب يجدها بكثرتها صادرة عن النبي والأئمة صلّى الله عليه وعليهم أجمعين ـ في بيان المراد الواقعي لا الاستدلال بظاهرها ، ويكفيك شاهدا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ناقلا عن إبراهيم عليه‌السلام قال : «ومن الظالم من ولدي الّذي لا ينال عهدك؟ قال : من سجد لصنم من دوني لا أجعله إماما أبدا ولا يصلح ان يكون إماما» (١).

والحاصل : ان الجميع ظاهر في كشف المراد الواقعي الّذي لا يفهمه غير من خوطب به ، سواء فهم من الظاهر أم لا ، وعلى ذلك يسقط الاستدلال ويقلّ القيل والقال ، ومع ذلك فعليك بمراجعتها لعلّك تعثر على ما لم أعثر عليه ، أو تفهم منها ما فهموا ـ رضوان الله عليهم ـ.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٣ ـ ٨٥

عند التحليل ، نظرا إلى ما يستفاد مما نقل عن أهل المعقول من أن الفرق بين المشتق ومبدأه هو الفرق بين الشيء لا بشرط والشيء بشرط لا (٥٦) وظاهر هذا الكلام بل صريحه أن المشتق والمبدأ يشتركان في أصل المعنى ، ويختلفان بملاحظة الاعتبار.

وتحقيق المقام هو ان الأعراض وإن كان لها وجود ، ولكن ليس وجودها الا مندكا في وجود المحل ، بحيث يعد من أطوار المحل وكيفياته وهذا النحو من الوجود التبعي الاندكاكي قابل لأن يلاحظ في الذهن على قسمين (تارة) يلاحظ على نحو يحكى عن الوجود التبعي المندك في الغير ، وهو المراد من قولهم : (ملاحظته على نحو اللابشرط) و (أخرى) يلاحظ على نحو الاستقلال ويتصور بحياله في قبال وجود المحل ،

______________________________________________________

بساطة مفهوم المشتق أو تركبه؟ :

(٥٦) ظاهر كلام أهل المعقول ما استظهره في المتن من أن الفرق بين المشتق ومبدئه ليس إلّا باللحاظ والاعتبار ، وان الحقيقة فيهما واحدة ، وأن المشتق عين المبدأ الملحوظ لا بشرط ، وبذلك الظاهر أخذ الفصول ، وأورد عليه ما أورد من عدم صحة حمل العلم والحركة على الذات وان لوحظا لا بشرط ، والظاهر أن عدم صحة الحمل المذكور بديهي يصدقه الوجدان ، ومعه لا حاجة إلى تكلّف البرهان.

ودفع الإشكال المذكور في الكفاية بتوجيه الكلام المزبور بأن : «المقصود من بشرط لا ولا بشرط إباء الحمل على الذات وعدمه ، فيكون المشتق موضوعا لمفهوم لا يأبى عن الحمل على الذات ، بخلاف المبدأ وأصل ذلك المعنى» وان كان صحيحا لا مناص منه ، حيث أن المبدأ آب عن الحمل على الذات والمشتق يحمل عليه بالوجدان ، لكن اسناده إلى أهل المعقول لا يخلو من تأمل ، لعدم ملائمة كلماتهم لذلك ، مع عدم كونه شيئا دقيقا يسند إليهم بما هم أهل المعقول ، لأن كل مدرك للمشتق يدرك صحة الحمل.

.................................................................................................

______________________________________________________

والأستاذ ـ دام بقاؤه ـ لما رأى ذلك خلاف شأنهم وكلماتهم وكون المعنى الأول خلاف الوجدان وجّه كلامهم بما في المتن ، وهو وان كان أيضا مخالفا لظاهر كلمات الأكثر منهم لكنه موافق لما نقل عن بعض أهل الفن ، ويكون معنى اللابشرط على هذا : ان الذهن إذا توجه إلى المبدأ الخارجي بلا زيادة شرط عليه ولا تصرّف فيه فلا يراه شيئا في قبال الذات ، بل لا يرى غير الذات ، والمبدأ من أطواره وكيفياته ، لأن تصوّر كيف الشيء بنحوه الكيفي لا يمكن إلّا بتصور ذات المكيف ، كما مر نظيره في المعنى الحرفي من أن تصوره بمعناه الحرفي غير ممكن إلّا بتصور السير المتكيف بكون ابتدائه البصرة مثلا ، ومعلوم أن العرض في هذا اللحاظ لم يكن شيئا في قبال المعروض ، بل من مراتب ظهوره وحد وجوده وتشخصاته ، وهذا الملحوظ الكذائي يكون موضوعا له للمشتق : وكذلك ملاحظة القطرة المندكة في البحر بنحو اندكاكها لا يمكن إلّا بملاحظة البحر ، وحينئذ لا يرى اللاحظ غير وجود البحر شيئا ، فيكون لحاظ العرض لا بشرط عين لحاظ المعروض ، ولحاظ الجزء لا بشرط عين لحاظ الكل.

وهذا المفهوم الّذي يحمل عليه العرضية والجزئية مفهوم بشرط لا يشار به إلى حقيقتها ، كمفهوم الابتداء المندك الّذي يشار به إلى المعنى الحرفي مع كونه في نفسه مفهوما اسميا ، ومعنى بشرط لا أن يتوجّه إليه الذهن بشرط عدم الاندكاك ، لا بمعنى انفكاكه عن المحل ، بل بمعنى تصوره شيئا في قبال المحل وان كان موجودا بوجوده ، وهذا الملحوظ الكذائي يكون موضوعا له للمبدإ وللفظ الجزء ، وبهذا المعنى يقال للأول انه عرض غير المحل ، وللثاني انه مقدمة للكل ، بخلاف اللحاظ الأول ، فان الأول عليه عين المحل والثاني عين الكل ، ولذا يصح الحمل.

لكن الإنصاف : ان هذين اللحاظين وان كانا حقا في العرض والجزء ، ويكون العرض في اللحاظ الأول متحدا مع المعروض ، وكذلك الجزء مع الكل ، إلّا أن ذلك الاتحاد غير مفيد في صحة الحمل ، لأن معنى الاتحاد المذكور ان العرض لم يكن موجودا بوجود منفك عن المعروض محدود بحدود خاصة ، وكذلك الجزء لم يكن له وجود منحاز في قبال الكل حتى يلزم فعلا وجود اجزاء لا تتجزأ مثلا عند وجود

وهو المراد من قولهم : (ملاحظته على نحو بشرط لا) فإذا لوحظ على النحو الأول ، يكون عين المحل ، لأنه من كيفيات وجود المحل وأطواره ، وليس وجودا مستقلا في قباله وإذا لوحظ على النحو الثاني ، فهو وجود مستقل في قبال المحل. وعلى النحو الأول يصح أن يقال باتحاده مع المحل ، وهو مفاد هيئة المشتق ، كضارب وقاتل وقاعد وأمثالها مما يحمل على الذوات. وعلى النحو الثاني هو مفاد الألفاظ الدالة على المواد كضرب وقعود ونحوهما. ونظير ما ذكرنا هنا من الاعتبارين ذكروا في اجزاء المركب من انها ـ بملاحظتها لا بشرط ـ عين الكل ، وبملاحظتها بشرط لا غيره ومقدمة لوجوده.

والإنصاف أن الاتحاد المستفاد من هيئة المشتقات مع الذوات غير الاتحاد الملحوظ في العرض ، باعتبار قيامه بالمحل ، فان معنى اتحاد العرض مع المحل عدم كونه محدودا بحد مستقل ، لأنه متحد بحيث لم يكن له ميز بنحو من الأنحاء ، كيف وقد يشار إلى العرض في حال قيامه بالمحل في الخارج ، ويحكم عليه بحكم يخصه ولا يعم المحل (٥٧) كقولك

______________________________________________________

الكل ، ومع ذلك تمتاز حقيقة العرض عن المعروض وحقيقة الجزء عن الكل ، بحيث يمكن أن يشار إلى حقيقة العرض ، ويقال انها غير المعروض ، وإلى حقيقة الجزء ويقال انها غير الكل ، ويحمل عليهما غير ما يحمل على المعروض ومع العلم بالحقيقة. وبالاختلاف الواقعي لا يجوز الحمل والكل ، وبالعكس ، وهذا بخلاف المشتق ، فان المستفاد منه ما لا ميز له مع الذات واقعا ويحمل عليه ما يحمل على الذات وبالعكس ، ويحمل على الذات بنحو الاتحاد والهوهوية ولذا قال ـ دام ظله ـ «والإنصاف ان الاتحاد المستفاد من هيئة ...».

(٥٧) المقصود : ان العرض بوصف اتحاده مع المعروض في الوجود وفي هذا اللحاظ يحمل عليه غير ما يحمل على المعروض ، فلا يقاس بالكلية والجزئية العارضتان على الإنسان وزيد ، مع صحة الحمل فيهما كي يقال : مجرد اختلاف المحمول لا يدل على

ـ مشيرا إلى السواد القائم بجسم ـ بان هذا لون.

والحاصل ان هذا الاتحاد نظير اتحاد اجزاء المركب ، فان معنى اتحادها أنها محدودة بحد واحد ، وان كان كل منها ممتازا عن الآخر من وجوه أخر ، بل يمكن أن يكون كل منها معروضا لعرض مضاد لعرض الآخر. والمعنى المستفاد ـ من لفظ ضارب مثلا الّذي يحمل على الذات في الخارج ـ هو معنى يتحد مع الذات ، بحيث لا يكون بينهما ميز في الخارج بوجه. ولعل هذا واضح بعد أدنى تأمل. وتظهر الثمرة بين هذا المعنى الّذي ادعيناه للفظ المشتقات ، وبين ما يقوله أهل المعقول أنه لو قال الآمر جئني بالضارب ، ولا تجئني بالقاعد ، فلا بد من تعيين أحد الخطابين في مورد الاجتماع ، بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي وبناء على ما ذكرنا للمشتق من المدلول ، فان معنى القائم والضارب انطبقا في الخارج

______________________________________________________

الاثنينية ولا يوجب عدم الحمل ، حيث أن القياس مع الفارق ، لأن الكلية لا تعرض الإنسان الا في لحاظ التجرّد عن جميع القيود حتى قيد التجرّد ، وأما في لحاظ اتحاده مع زيد فلا يحمل عليه الا ما يحمل على زيد من الجزئية ، ولعمري أن الفرق بينهما واضح.

لا يقال : ان حمل «لون» على «السواد» المتحد مع الجسم أيضا لا يكون إلّا بعد لحاظه بشرط لا ، وأما في لحاظه لا بشرط فغير قابل لحمل الشيء عليه ، لأنه كما فصل في الحاشية السابقة ليس شيئا مستقلا في اللحاظ يقبل الحمل ، بل من أطوار الملحوظ وكيفيّاته كالمعنى الحرفي.

لأنا نقول : نعم وان كان المعنى المذكور غير قابل للحمل عليه مستقلا ، لكن قد مرّت الإشارة إلى إمكان أن يشار إلى حقيقته بذلك المفهوم المستقل الملحوظ بشرط لا ، ويخبر عنه بما يختص به ، دون المعروض ولو مع لحاظه بوجوده الكيفي. ومعلوم أن الاختلاف المذكور كاشف عن عدم اتحادهما حقيقة بنحو مصحح للحمل ، فان محمول أحد المتحدين ـ كذلك ـ لا ينفكّ عن الآخر في ذلك اللحاظ.

على الوجود الشخصي. وأما على ما ذكره أهل المعقول فلا تنافي بينهما ، لأن مورد الأمر هو الهيئة الخاصة المرتبطة بالمحل ، ومورد النهي هيئة أخرى كذلك ونفس المحل خارج عن مورد الأمر والنهي.

والحاصل ان مقتضى ما ذكرنا أن مفهوم المشتق هو مفهوم آخر مباين لمفهوم المبدأ ، لا أنهما متحدان ذاتا مختلفان بالاعتبار. وهل يكون هذا المفهوم مركبا من الذات وغيرها ، كما اشتهر في ألسنتهم : من أن معنى الضارب مثلا ذات ثبت لها الضرب ، وكذا باقي المشتقات ، أو لا يكون كذلك بل هو مفهوم واحد من دون اعتبار تركيب فيه ، وإن جاز التحليل في مقام شرح المفهوم ، كما يصح أن يقال في مقام شرح مفهوم الحجر أنه شيء أو ذات ثبت لها الحجرية؟

الحق هو الثاني (٥٨) لأنا بعد المراجعة إلى أنفسنا ، لا نفهم من لفظ ضارب مثلا إلا معنى يعبر عنه بالفارسية (به زننده) وبعبارة أخرى (داراى ضرب) ولا إشكال في وحدة هذا المفهوم الّذي ذكرنا ، وان جاز في مقام الشرح ان يقال شيء أو ذات ثبت لها الضرب. وليس في باب

______________________________________________________

(٥٨) الظاهر أن العقل كما ينتزع من ذوات أفراد الإنسان ـ مع قطع النّظر عن خصوصية فيها مثلا ـ جامعا بسيطا هو قدر مشترك بين جميع أفراده ، ويحكم بأنه شيء في قبال الافراد الخارجيّة ، بل يحكم بأنه إنسان ، والخارجيّات افراده ، بمعنى أنه يحمل عليه الإنسان بالحمل الأولي ، وعلى الافراد بالحمل الشائع الصناعي ، كذلك يمكن أن ينتزع ـ من أفراد الإنسان ـ في حال اتصافها بصفة كالضحك مثلا ـ جامعا بسيطا هو قدر مشترك بينها ، مع وصف كونها واجدة لتلك الصفة ، ويعده شيئا في قبال الافراد الخارجية ، ويحكم بأن الخارجيات أفراده ، ويحمله عليها بالحمل الشائع الصناعي ، وكما وضع لفظ الإنسان للجامع المنتزع من افراده الخارجية ، كذلك لفظة ضاحك ـ مثلا ـ وضعت للجامع بين

.................................................................................................

______________________________________________________

افرادها المنتزع منها ، وكما أن انحلال الأول ـ عند العقل ـ إلى الجنس والفصل ، أو إلى شيء له الإنسانية مثلا لا يضر ببساطته ، كذلك انحلال الثاني إلى ذات لها الصفة.

فالموضوع له في المشتقات هو المنتزع من بين مصاديق الذات والأشياء ، بلحاظ كونها واجدة لصفة ، سواء كانت تلك الصفة ذاتية أو عرضية ، من قبيل الأفعال أم غيرها ، اعتبارية كانت أم متأصّلة ، بل كانت تلك الصفة عين الذات أم غيرها ـ كما تأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى. وحينئذ تحمل المشتقات على مصاديق الذوات المتلبسة بالمبدإ حمل المفهوم على المصداق ، كحمل الإنسان على افراده ، بلا حاجة إلى شيء غير الموضوع والمحمول. ولا فرق من حيث صحة الحمل بين (زيد إنسان) و (زيد ضارب) ، والفرق بين كلي المشتق والجامد هو أن الثاني وضع للمنتزع من نفس الذوات ، بلا ملاحظة صفة فيها ، بخلاف الأول فانه لوحظ فيه كونها واجدة للصفة كما ذكرنا.

ولا يتوهّم ان منشأ إشكال السيد الشريف ، كون الذات مأخوذة في المشتق ، ولا فرق في ذلك بين كون الموضوع له مركبا أو بسيطا. وقد جعلت الذات دخيلة في حقيقة الموضوع ، فيأتي السؤال المذكور.

لأنه يدفع بأنه لو سئل أن الموضوع له في الإنسان هل هو مفهوم الحيوان الناطق ، أو مصداقه؟ أجيب : بأنه ليس شيئا منهما ، بل الموضوع له مفهوم منتزع من افراد ، حقيقتها ينحل إلى كذا ، كما لو سئل أن الموضوع له في المشتقات هل هو مفهوم الذات أو مصداقه؟

وقد علم من ذلك امران : (أحدهما) ـ أن ملاك الحمل هو الاتحاد الحقيقي والهوهوية ، بنحو لا يبقى ميز بين الموضوع والمحمول في ذلك النّظر ، ولا يمكن حمل محمولين مختلفين عليهما ـ كما ذكر في العرض والمعروض والاجزاء مع المركّب ـ فما في الفصول ـ من وجه صحة حمل المتغايرين بالحقيقة ، والمتحدين بالاعتبار باعتبار مجموعهما شيئا واحدا ، وصحة الحمل في هذا اللحاظ ـ

فهم معاني الألفاظ شيء امتن من الرجوع إلى الوجدان.

وقد استدل على اعتبار الذات في مفهوم المشتق بما لا يخلو عن إشكال. قال السيد الشريف ـ في وجه عدم اعتبار الذات في مفهوم المشتقات على ما. حكى عنه ـ انها لو كانت مأخوذة فيها بمفهومها ، لزم دخول العرض العام في الفصل ، فان لفظ الناطق ـ الّذي يؤتى به في مقام ذكر فصل الإنسان ـ من المشتقات ، فلو اعتبر فيه مفهوم الذات ، لزم ما ذكر من دخول العرض العام في الفصل ، ولو كانت معتبرة بمصداقها ، لزم انقلاب مادة الإمكان الخاصّ ضرورة ، فان الشيء الّذي له الضحك هو

______________________________________________________

لا يستقيم ، لأن اللحاظ المذكور يستلزم لحاظ الجزئية والكلية. وقد عرفت عدم صحة حمل الكل على الكل في أي لحاظ ، وان اتحادهما غير الاتحاد المصحح للحمل.

واما ما ذكر في النّفس والبدن بقوله : (فان الإنسان مركب في الخارج حقيقة من بدن ونفس ، لكن اللفظ انما وضع بإزاء المجموع من حيث كونه شيئا واحدا ولو بالاعتبار ، فان أخذ الجزء ان بشرط لا ـ كما هو مفاد لفظ البدن والنّفس ـ امتنع حمل أحدهما على الآخر ، وحملهما على الإنسان ، لانتفاء الاتحاد بينهما) فانه أيضا غير مستقيم ، لأنه مع لحاظ البشرطلائية لا يصح حمل العرض المحمول على البدن كالطول والعرض على النّفس.

(ثانيهما) ـ ان عينيّة الصفات مع الذات في وجوده ـ تبارك وتعالى ـ لا ينافي إطلاق المشتقات عليه تبارك وتعالى ، وذلك لما مرّت الإشارة إليه من كون المشتقات موضوعة للذات مع وصف كونها واجدة للصفة ، وأما كون تلك الصفة عينها أو زائدة عليها ، فلم يشترط فيه شيء منها. فالفرق ـ بين لفظة الجلالة والمشتقات الجارية عليه جلّ وعلا ـ هو أن الأولى حاكية عن نفس الذات ، من غير نظر إلى كونها واجدة لتلك الصفات بوجدان نفسها ، وان كانت حقيقة مستجمعة لجميعها ، وأما الثانية ، فانها ـ كما مر ـ حاكية عنها مع لحاظ كونها واجدة لها. واما كونها عين الذات فيه عزوجل وغيرها في غيره ، فخارج عن مدلولها.

الإنسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده.

وفيه إمكان اختيار الشق الأول ، والالتزام بأن ما هو مفهوم لفظ الناطق ليس بفصل حقيقة ، إما بتجريد المفهوم عن الذات ، ثم جعله فصلا للإنسان وإما بأن ما هو فصل حقيقة غير معلوم وإنما جعل هذا مكان الفصل. لكونه من خواص الإنسان ، فعلى هذا لا بأس بأخذ مفهوم الشيء مجردا عن الوصف ، بل هو مقيد بالوصف وعليه فلا يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاصّ ضرورة ، ضرورة أن كون زيد زيدا المتصف بالضرب ليس ضروريا ، غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام أن القضايا المشتملة على الأوصاف تدل على الاخبار بوقوع تلك الأوصاف ، وإن لم تكن الأوصاف المذكورة محمولة في القضية مثلا لو قلت أكرمت اليوم زيدا العالم تدل القضية على حكايتين : (إحداهما) حكاية أن زيدا عالم و (الأخرى) حكاية إكرامك إياه. وعلى هذا فقولك : زيد ضارب لو كان معناه زيد زيد المتصف بالضرب ، فيدل هذا القول على اخبار اتصاف زيد بالضرب ، وعلى أن زيدا المتصف بالضرب زيد. ولا إشكال في أن الاخبار الثاني بديهي ، وان كان الأول ليس كذلك فالقضية بناء على هذا تشتمل على قضية ضرورية ، وقضية ممكنة ، مع أنه لا شبهة لأحد في أن قولنا زيد ضارب لا يفيد امرا ضروريا.

وفيه ان اشتمال القضية المشتملة على الأوصاف على حكايتها انما هو بانحلال النسبة التامة الموجودة فيها ، لا انها مركبة من قضيتين أو قضايا ، وتلك النسبة الواحدة ينظر فيها ، فان كانت مثبتة لأمر ضروري ،

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : المغايرة المعتبرة بين الذات والمبدأ هي المغايرة المفهومية للمصداقية.

تعد القضية من الضرورية ، وان كانت مثبتة لأمر ممكن ، تعد من الممكنة ولا شبهة في أن النسبة التامة الواقعة بين الذات المقيدة بقيد ممكن ، والذات المجردة لا تحكى امرا ضروريا وهذا واضح.

(فائدة)

لا إشكال في ألفاظ المشتقات الجارية عليه سبحانه ، ولا حاجة إلى ارتكاب النقل أو التجوز فيها ، بملاحظة أن المعتبر في معنى المشتق ذات ثبت لها المبدأ ، فلا يتمشى في صفاته تعالى ، بناء على المذهب الحق من عينيتها مع ذاته سبحانه.

وجه عدم الإشكال انه كما أن الذهن يلاحظ القطرة تارة بحد ماء الحوض مثلا ، وأخرى بحد مستقل وفي كل منهما يعتبر الملحوظ امرا خارجيا ، كذلك لا مانع في صفاته تعالى من أن يعتبر الذهن ذاتا ومبدأ وعروضا للثاني على الأول ، وينتزع من الذات المعروضة مفهوما يعبر عنه بالمشتق ، ومن المبدأ العارض مفهوما آخر يعبر عنه بالمبدإ ولا ينافى ذلك اعتقاد العينية ، كما ان ملاحظة القطرة بحد الاستقلال ، لا ينافى اعتقاد عينيتها مع ماء الحوض ومن هنا تظهر الخدشة فيما تفصى به في الكفاية عن الإشكال ، من كفاية التعدد المفهومي بين الذات والمبدأ مع وجود العينية الخارجية في صحة الحمل ، فان هذا المعنى موجود بعينه في مبدأ المشتقات المذكورة مع ذاته سبحانه ، مع عدم صحة الحمل.

هنا تمت المقدمات فلنشرع في المقاصد :

(المقصد الأول ـ في الأوامر)

وتمام الكلام فيه في طي فصول :

(الفصل الأول)

(في تحقيق معنى صيغة افعل)

(وما في معناها وتميز معناها عن معنى الجملة الخبرية)

فنقول : قد يقال في الفرق بينهما : أن الجمل الخبرية موضوعة للحكاية عن مداليلها في نفس الأمر وفي ظرف ثبوتها ، سواء كان المحكي بها مما كان موطنه في الخارج ، كقيام زيد أم كان موطنه في النّفس ، كعلمه. والمستفاد من هيئة افعل ليس حكاية عن تحقق الطلب في موطنه ، بل هو معنى يوجد بنفس القول ، بعد ما لم يكن قبل هذا القول له عين ولا أثر. وقيل في توضيح ذلك ان مفهوم الطلب له مصداق واقعي يوجد في النّفس ، ويحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع الصناعي ، وله مصداق اعتباري ، وهو أن يقصد المتكلم ـ بقوله اضرب ـ إيقاعه بهذا الكلام. وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون منشأ لانتزاع اعتبار مرتب عليه شرعا وعرفا آثار ، وهكذا الحال في سائر الألفاظ الدالة على المعاني

الإنشائية ، كليت ولعل وأمثال ذلك.

والحاصل ـ في الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية على ما ذهب إليه بعض ـ ان مداليل تلك الألفاظ توجد بنفس تلك الألفاظ اعتبارا ، ولا يعتبر في تحقق مداليلها سوى قصد وقوعها بتلك الألفاظ ، سواء كان مع تلك المداليل ما يعد مصداقا واقعيا وفردا حقيقيا أم لا. نعم الغالب كون إنشاء تلك المداليل ملازما للمصاديق الواقعية ، بمعنى ان الغالب أن المريد لضرب زيد واقعا يبعث المخاطب نحوه ، وكذا المتمني واقعا ، وكذا المترجي كذا يتكلم بكلمة ليت ولعل.

هذا ولي فيما ذكر نظر أما كون الجمل الخبرية موضوعة لأن تحكى عن مداليلها في موطنها ، ففيه ان مجرد حكاية اللفظ عن المعنى في الموطن لا يوجب إطلاق الجمل الخبرية عليه ولا يصير بذلك قابلا للصدق والكذب (٥٩) فان قولنا قيام زيد في الخارج يحكى عن معنى قيام زيد

______________________________________________________

(الأوامر)

(٥٩) المستفاد من المحقق الخراسانيّ (ره) كون معنى الهيئة في الجمل الخبرية هو النسبة الثابتة المتحققة بين الموضوع والمحمول في موطنه خارجا ، كما في (زيد قائم) أو ذهنا ، كما في (الإنسان كليّ) ، وحيث أن الواضع اشترط على المستعملين جعل الألفاظ حاكية عن ثبوت معانيها ، بخلاف الهيئة الإنشائية ، كما سيأتي ، فانّها تحكى عن ثبوت النسبة في موطنه.

فاستشكل عليه الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ بأن مجرّد حكاية اللفظ عن المعنى ـ يعني مجرّد حكاية اللفظ عن النسبة التي هي معناه ـ لا يكون مناطا للخبرية ، ولا موجبا لصحة إطلاق اسم الخبر عليه ، وإلّا لزم أن تكون جملة (قيام زيد) ونظائرها أيضا خبرا ، لأن هيئتها تحكي عن النسبة بين زيد والقيام ، من حيث أنها معناها ، وشأن اللفظ الحكاية عن المعنى ، ومعلوم أنها ليست بخبر ، إذ لا تحتمل الصدق

في الخارج ، ضرورة كونه معنى اللفظ المذكور ، واللفظ يحكى عن معناه بالضرورة ومع ذلك لا يكون جملة خبرية فالتحقيق انه لا بد من اعتبار امر

______________________________________________________

والكذب.

(لا يقال) : إن القياس مع الفارق ، حيث أنها تحكي عن النسبة الناقصة ، بخلاف الجملة الخبرية ، فانها تحكي عن النسبة التامة.

(لأنا نقول) : نعم ، ولكن لو كان المعنى والموضوع له في الاخبار مجرد النسبة الواقعية ، فلم صارت الأولى ناقصة والثانية تامّة ، مع أن كلتيهما حاكيتان عنها؟

(لا يقال) : إنّ الأولى تحكي عن النسبة التقييدية ، بنحو الاخبار عن النسبة بين الموضوع الملحوظ شيئا مستقلا في قبال المحمول قبل النسبة. والمحمول كذلك ، بخلاف الثانية فانها تحكى عن النسبة بينهما كذلك.

(لأنه يقال) : فما تقول في قول القائل (زيد ـ المتصف بالقيام ـ شيء) في قبال القيام الّذي هو صفة له ، والقيام الموصوف به زيد شيء في قبال زيد المتصف به ، فانه يحكي عما ذكر بعينه. ومع ذلك ليس بخبر؟ فبذلك يستكشف أن معنى الهيئة الخبرية غير مجرّد النسبة الثابتة في موطنه.

(أقول) : مبنى الإشكال هو أن يستفاد من كلامه (ره) أن معنى الهيئة ذات النسبة الواقعية القابلة لحمل (موجودة) أو (معدومة) عليها ، كما في جملة (قيام زيد) وحينئذ فلا محيص عما ذكر من الإشكال. ولكن الظاهر أن معنى الاخبار ـ كما صرّح به في غير مورد ـ هو ثبوت النسبة ، بنحو تكون آبية عن حمل (موجودة) أو (معدومة) عليها. وهذا هو الفارق بين المعاني المفردة والجمل الخبرية ، بمعنى أن الواضع اشترط في الاخبار جعل الهيئة حاكية عن ثبوت النسبة ، لانفسها.

وأما المفردات فهي حاكية عن ذات الموضوع له لا ثبوتها ، وكذلك هيئة (قيام زيد) وأمثالها ، فانها لا تحكي عن الثبوت بل عن أصل النسبة.

زائد على ما ذكر ، حتى تصير الجملة به جملة يصح السكوت عندها (٦٠) وهو وجود النسبة التامة. ولا شبهة في أن النسب المتحققة في الخارج ليست على قسمين ، قسم منها (تامة) وقسم منها (ناقصة) بل النقص والتمام إنما هما باعتبار الذهن ، فكل نسبة ليس فيها إلّا مجرد التصور ، تسمى نسبة ناقصة ، وكل نسبة تشتمل على الإذعان بالوقوع ، تسمى نسبة تامة.

ثم إن الإذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبرية ، ليس هو العلم الواقعي بوقوع النسبة ، ضرورة أنه قد يخبر المتكلم وهو شاك ، بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع ، بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع جعلا ، على نحو لا يكون القاطع معتقدا. وكان سيدنا الأستاذ (نور الله ضريحه) يعبر عن هذا المعنى بالتجزم.

______________________________________________________

(٦٠) توضيح ذلك يحتاج إلى مقدمات :

(الأولى) ـ أنه لا إشكال في أن المتبادر من هيئة الجملة الخبرية (كزيد قائم) النسبة التامة ، والمتبادر من الجملة التقييدية (كزيد القائم) و (قيام زيد) النسبة الناقصة.

(الثانية) : أنه لا إشكال في أن النسب الواقعية ، والارتباطات النّفس الأمرية ، كارتباط القيام بزيد في الخارج ـ بنحو يوجب صحة حمل القائم عليه ـ لا يطرأ عليها التمامية والنقصان ، باختلاف القضايا الحاكية عنها ، بل التمامية والنقصان صفتان للموجود في الذهن في القضيتين.

(الثالثة) : أنه لا إشكال في أن كلتا القضيتين مشتركتان في الحكاية عن النسبة الواقعية في موطنها.

إذا عرفت هذه ، تعرف أن مجرد النسبة الخارجية ـ المحكية للجملة الخبرية بحكم المقدمة الثالثة ـ ليست معنى للهيئة في الاخبار ، لعدم قابلية اتصافها

.................................................................................................

______________________________________________________

بالتمامية بحكم المقدمة الثانية. والمفروض أن المتبادر منها التمامية بحكم الأولى ، بل معناها شيء يوجد في الذهن ، ويتصف بالتمامية ، وليس ذلك إلّا إذعانا بالوقوع ، فان النسبة الخارجية ان وجدت في الذهن مجردة عن الإذعان فتصور ، وتسمى نسبة ناقصة ، وان وجدت مع الإذعان فتصديق ، وتسمى تامة ، لكن المقصود من الإذعان المذكور ليس هو العلم البسيط ، كالعلم بوجود القيام لزيد ، لمن يرى زيدا قائما ، فان مجرد ذلك ليس تصديقا ولا مدلولا للقضية ، بل التصديق هو الإذعان والاعتقاد بوجود النسبة الملحوظة بين الموضوع والمحمول الملحوظ كل واحد منهما شيئا مستقلا في قبال الآخر ، منفكا عنه قبل الحمل والنسبة.

وأيضا ليس المقصود هو الإذعان الحقيقي والاعتقاد بوقوع النّسبة واقعا ولو في نظر المتكلم ، بحيث لا يجتمع مع الكذب ، بل المقصود عقد القلب وبناء النّفس على وجود النسبة والتجزم عليه ، وهو كما يوجد بعد العلم الحقيقي والاعتقاد الواقعي للنسبة المذكورة ، كذلك قد يوجد بخلق النّفس تلك الحالة مع القطع بالخلاف أو الشكّ ، كما ترى في القضايا الكاذبة ، فان الموجود من مدلول القضية فيها ليس بأنقص من الصادقة بالوجدان.

وأيضا : ليس المقصود هو التجزّم بمعناه الاسمي المستفاد من لفظ التجزم وعقد القلب ، حتى يرد عليه أنه معنى اسمي مستقل ، ومعنى الهيئة معنى حرفي غير مستقل ، فلا يمكن أن يكون ذلك معناها ـ كما أورد عليه بعض في حاشية الكفاية ـ بل المقصود التجزم بمعناه الحرفي غير المستقل باللحاظ ، الموجود في النّفس مرآة للخارج بلا التفات تفصيلي إليه ، كما مر نظيره في بيان كون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة. وان شئت فراجع ، ومعنى صدق القضية وكذبها ليس إلّا مطابقة التجزم المذكور للخارج المحكي وعدمها ، لا عبارة عن وجود التجزم المذكور في نفس المتكلم وعدمه ـ كما توهّم ـ لأنه موجود في نفس الكاذب أيضا ـ كما ذكرنا ـ بل لو لم تكن تلك الحالة في نفس المتكلم موجودة لم يكن مستعملا ، للفظ في معناه ، بل هو اما لاغ واما مستعمل له في غير ما وضع له. ولا يتوهم وجود

وحاصل الكلام أنه كما أن العلم قد يتحقق في النّفس بوجود أسبابه ، كذلك قد يخلق في النّفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج ، فإذا تحقق هذا المعنى في الكلام ، يصير جملة يصح السكوت عليها ، لأن تلك الصفة الموجودة تحكى جزما عن تحقق النسبة في الخارج ، ويتصف الكلام بالقابلية للصدق والكذب بالمطابقة والمخالفة. هذا في الجمل الخبرية.

وأما الإنشائيات ، فكون الألفاظ فيها علة لتحقق معانيها مما لم أفهم له معنى محصلا (٦١) ضرورة عدم كون تلك العلية من ذاتيات

______________________________________________________

التجزم المذكور في الجمل التقييدية أيضا ، لأن المقصود هو البناء على ثبوت النسبة بحيث يأبى عن جعل العدم محمولا لها ، والموجود في ما ذكر لا يأبى عنه كما هو واضح ، ولذا لا يتصف بالصدق والكذب ، لعدم بناء جزمي من النّفس حتى يقال إنه مطابق للخارج أو غير مطابق ، ولم يتعهّد المتكلم بشيء من وجود النسبة وعدمها حتى يكذّب أو يصدق.

واما ما توهم ـ من وجود التجزم في (زيد العالم جاءني) ولذا لو لم يكن بعالم يكذّب المتكلم ، كما لو لم يجئ ـ ففاسد لأن اتصاف القضية بالصدق والكذب في المقام ليس إلّا ببركة المحمول الواقع على الموضوع المتصف ، فان عدم تطابق التجزم للنسبة بين الموضوع والمحمول قد يتحقق بعدم الموضوع أو قيوده وصفاته ، وقد يتحقق بعدم المحمول كذلك ، فليس لنفس زيد العالم تجزم ولا صدق ولا كذب. والظاهر أن التجزم المذكور ثابت عند من يقول بتركب القضية من ثلاثة أجزاء ، غاية الأمر هو يجعل التجزم من كيفيات النسبة ، لا أنه شيء في قبالها ، بخلاف القائل بتركبه من أربعة اجزاء ، فانه يجعله في قبالها ويعبّر عنه بالحكم بالوقوع واللاوقوع.

(٦١) لا بأس بالإشارة إلى مقصود المحقق الخراسانيّ (قدس‌سره) ثم بيان

اللفظ وما ليس علة ذاتا لا يمكن جعله علة ، لما تقرر في محله من عدم قابلية العلية وأمثالها للجعل.

______________________________________________________

ما أفاده الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ في مقام النّظر إليه ، فأقول وعليه التكلان : إن مقصوده ـ كما يستفاد من كلماته في موارد متعددة ـ أن صيغة افعل وما في معناها وضعت لمفهوم الطلب ، لكنّ الواضع اشترط على المستعملين ان لا يستعملوها إلّا في مقام إيجاد المعنى ، بأن يقصدوا بها إيجاده ، بلا قصد حكاية له ، بخلاف الاخبار حيث اشترط عليهم جعلها حاكية عن ثبوت معناها في موطنه ، كما مرّ تفصيله ، وهو الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية ، وإلّا فالموضوع له في (اضرب) و (أطلب منك الضرب) مثلا واحد ، وهو مفهوم الطلب ، ولكن في الثاني تكون الهيئة كاشفة عن ثبوت الطلب في موطنه ، وفي الأول تكون الهيئة مع قصد الإيجاد موجدة له ، بلا كشف فيه. وليس المراد كون الموجود بوصف الموجودية موضوعا له ، حتى يرد عليه أن الاستعمال يتوقف على المعنى ، فلو كان المعنى موجودا ومعلولا للاستعمال للزم الدور ، بل المقصود أن المعنى هو المفهوم ، واستعماله إيجاده ، فمدلول الصيغة ذات الموجود ، وخصوصياته المشخصة خارجة عنه ومن لوازم وجوده.

وبعبارة أخرى : ليس المصداق معنى للهيئة حتى يرد ما ذكر ، بل المعنى هو المفهوم ، وبإيجاده يصير مصداقا ، وليس المقصود من كون الاستعمال موجدا جعل اللفظ أولا حاكيا عن المفهوم ، ثم يقصد الإيجاد بالكاشف ، بل المقصود أنّ الاستعمال عبارة عن ذكر اللفظ بلا حكاية عن شيء وقصد إيجاد المعنى به ، وبنفس ذكر اللفظ وقصد الإيجاد يوجد عند العقلاء نحو وجود للطلب ، هو وجوده الإنشائي ، ويكون منشأ لآثار عند العقلاء : منها عدم معذورية العبد مع العلم به لو ترك الامتثال ، وكذلك في إنشاء الملكية وأمثالها ، فانه يقصد ب «بعت» إيجاد معناه وهو تمليك ما له لغيره بعوض معيّن ، فيوجد بذلك اللفظ والقصد ذلك المعنى عند العقلاء ، ويكون منشأ لحصول الملكية وتترتب آثارها عليه ، لكن بشرائط معلومة عندهم كتمول العوضين وأمثال ذلك.

وأما إيجاد تلك المفاهيم بما ذكر من اللفظ والقصد فليس ببعيد ، لأنها

.................................................................................................

______________________________________________________

أمور اعتبارية انتزاعية ليس منشأ اعتبارها غير اعتبار معتبر خاص بكيفية خاصة ، ونظيرها مفهوم التعظيم حيث انه يتحقق بالقيام بقصد التعظيم ، وبدون القصد لا يتحقق ، فكما أن منشأ التعظيم هو القيام بقصد التعظيم ـ وغير القيام عند قوم كرفع القلنسوة مثلا ـ كذلك إنشاء الطلب وذكر اللفظ مع قصد إيجاده ، وليس وجوده الإنشائي ، وكذلك سائر الإنشائيات ، كالأعيان الثابتة والاعراض المتأصلة ، والانتزاعيات التي لها منشأ حقيقي ، كالفوقية والتحتية ، وكلية مقولات الإضافات ، حتى لا يمكن جعلها بالاعتبار ، لعدم كونها من الانتزاعيات أو عدم انتزاعها الا من منشأ حقيقي ، وذلك معنى قوله : ان الإنشاء خفيف المئونة ، لعدم حقيقة له الا الاعتبار والبناء على وجوده من العقلاء كالتشريع.

ولا يخفى ـ مع ذلك ـ الفرق بينه وبين الفرضيات المحضة ، كفرض الإنسان جمادا وفرض الجماد إنسانا ، فانه ليس إلّا مجرد فرض ، بخلاف البنائيات ، فانها وان لم يكن بحذائها شيء في الخارج ، وليست إلّا البناء ، لكن نفس ذلك البناء له حقيقة وواقعية. هذا مجمل مرامه زيد في علوّ مقامه.

لكن أورد عليه الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ بأن المفاهيم الاعتبارية والانتزاعية كالمقابلة بين العينين والفوقية والتحتية ، وجميع مقولة الإضافات ، بل وكذلك الارتباطات التي اشتهر أنها اعتبارية صرفة ، ومنشأها اعتبار من بيده الاعتبار ، وان لم تكن في التحقّق كالأعيان الثابتة والاعراض المتأصلة ـ لها تحقق خاص بحيث يمكن أن يشار إليها ، وذلك معنى انتزاعها ، لا أن النّفس تخلق شيئا بلا حقيقة له ولا واقعية ، كالتخيلات الصرفة ، فحقيقة الفوقية شيء واقعي يتحقق في نفس الأمر عند تحقق منشأها ، ولو لم يكن في العالم لاحظ يلحظها ، ويدركها العقل عند تحققها ، ولذا لا ينتزعها من غير منشأها ، وكذا الملكية فانّها أولوية واقعية للمالك بالتصرف في ملكه كيف ما شاء ، ولو لم يكن لاحظ يلحظها ومعتبر يعتبرها ، وكذلك الزوجية هي أمر في نفس الأمر وارتباط معنوي يستتبع الحسن والقبح ، حتى ادعي وجودها في الحيوانات لمشاهدة آثارها ، وكيف يدّعى ان أمثال ذلك مما اجتمع العقلاء

والّذي أتعقل من الإنشائيات انها موضوعة لأن تحكى عن حقائق موجودة في النّفس (٦٢) مثلا هيئة افعل موضوعة لتحكي عن حقيقة الإرادة الموجودة في النّفس ، فإذا قال المتكلم (اضرب زيدا) وكان في نفسه مريدا لذلك ، فقد أعطت الهيئة المذكورة معناها. وإذا قال ذلك ، ولم يكن مريدا واقعا ، فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها. نعم بملاحظة حكايتها عن معناها ، ينتزع عنوان آخر لم يكن متحققا قبل ذلك ، وهو عنوان يسمى بالوجوب ، وليس هذا العنوان المتأخر معنى للهيئة ، إذ

______________________________________________________

على تخيله عند منشئه ، وكذلك التعظيم فهو عبارة عن إظهار تأثر النّفس من المعظّم للمعظّم وإفشاء وقعه وعظمته عنده ، ولا بأس باختلاف المظهر وضعا أو طبعا ، مثلا انحناء القامة وانخفاض الرّأس وأمثال ذلك تدل على التعظيم بالطبع ، وبعض الأفعال والأقوال بالوضع ، ولا يختلف في الأزمنة والأمكنة ، وعلى هذا يكون التمليك عبارة عن سلخ الأولوية المذكورة عن نفسه وإعطائها للغير ، فانها قابلة لذلك ، وكذلك التزويج فانه عبارة عن إيجاد الارتباط الواقعي وهكذا.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان كان المراد من قصد إيجاد المعنى باللفظ تخيل أمر بلا واقعيّة عند ذكر اللفظ ، فذلك ممكن ، لكنه خلاف الواقع لما عرفت. وان كان المراد قصد إيجاد شيء له واقعية ، فيرد عليه : انه بعد ما لم يكن اللفظ موجدا للمعنى قبل الوضع ، كيف صار بالوضع موجدا؟ مع ان العلية لا بد لها من سنخية كما ثبت في محله ، وما لم يكن لها تلك السنخية لا يمكن جعلها له ، والظاهر أن عدم إمكان جعل ما ليس بعلة علة من الواضحات ومستغن عن الدليل ، وليس شأن اللفظ الا الكشف وإظهار المعنى ، فلو تحقق مفهوم بإظهار معنى أمكن أن يكون اللفظ موجدا لمنشئه وقد تقدم تفصيل ذلك عند تحقق الوضع فراجع ، وإلّا فلا يمكن جعل شيء بمجرد أداء لفظ بلا معنى ومحكي.

(٦٢) بيان ذلك يحتاج إلى مقدمتين ، (الأولى) : ما مرّ تفصيله من عدم إمكان جعل ما ليس علة ذاتا علة لشيء. ولا نعيده

هو منتزع من كشف اللفظ عن معناه ، ولا يعقل أن يكون عين معناه.

(ان قلت) : قد يؤتى بالألفاظ الدالة على المعاني الإنشائية ، وليس في نفس المريد معانيها ، مثلا قد تصدر من المتكلم صيغة افعل كذا في مقام امتحان العبد ، أو في مقام التعجيز وأمثال ذلك ، وقد يتكلم

______________________________________________________

(الثانية) ـ أن إظهار بعض الأشياء قد يورث شيئا لا يورثه نفسه ، ما لم يبلغ مرتبة الظهور. وذلك إما بنحو العلّية لشيء خارجي ، كإظهار المحبة المورث للمحبة ، وإظهار البغض المورث للبعض ، وإظهار التألم الموجب لتألم الغير ، وأمثال ذلك ، لمناسبة ذاتية بينهما ، كسائر العلل والمعلولات وإما بنحو الموضوعية والعلية للحكم إما من الشارع ، كإظهار الشهادتين ، حيث أنه يورث الطهارة وحقن الدم وحل النكاح وغيرها من الأحكام ، وإظهار الشرك من المسلم حيث انه يورث النجاسة ووجوب القتل وغيرهما من أحكامه ، وإمّا من العقلاء ، كإظهار الطغيان الموجب للحكم باستحقاق الذم وانحطاط الدرجة أكثر ممن لم يظهره ، وإن كان في الباطن غير منقاد. وأمثال ذلك كثير ، وهذا في مرحلة الثبوت لا إشكال فيه ، وأما في مرحلة الإثبات في الأحكام الشرعية فموقوف على دلالة الدليل ، وفي أحكام العقلاء موقوف على تحقق بنائهم وحكمهم عليه.

إذا عرفت هذا فنقول : إن شأن الألفاظ دائما هو الكاشفية والحكاية عن المعاني ببركة الوضع وتعهّد الواضع لإرادتها عند التلفظ بها ـ كما فصلّ في مقامه ـ ولا يكون الاستعمال أبدا الا ذكر اللفظ وإرادة المعنى ، أي إرادة افهامه للمخاطب. وبعبارة أخرى : كأن المستعمل يلقي بذكر اللفظ نفس المعنى إلى المخاطب ، ولا نتعقّل موجدية اللفظ للمعنى ـ كما ذكر في المقدمة الأولى ـ سواء في ذلك الإنشاء والاخبار ، فهيئة افعل مثلا كاشفة عن إرادة المتكلم للفعل من المأمور وتلك معناها ، ومعنى الاستفهام حقيقة طلب العلم والفهم في النّفس ، ومعنى حرف التمني حقيقة الميل النفسانيّ لوقوع ذلك الشيء ، ومعنى حرف الترجي حقيقة الرجاء المكنون في نفس المتكلم ، وجملة (بعت) الإنشائية كاشفة

.................................................................................................

______________________________________________________

عن قطع المالك علقته عن الملك وإعطائه للغير ، وقس على ذلك باقي الإنشائيات.

ثم إنه بعد كشف الألفاظ المذكورة بموادها أو بهيئاتها عما ذكر من المعاني تنتزع ـ من مرحلة إظهارها مع شرائطها عند العقلاء ـ عناوين الأمور الإنشائية ، كالوجوب من إظهار إرادة المولى مع علوّه أو مع استعلائه ـ لو قيل إنه من شرائط الانتزاع عند العقلاء ـ والاستفهام عند إظهار طلب الفهم في النّفس ، والترجي والتمني عند إظهار الرجاء القلبي والميل الباطني ، والتمليك عند إظهار قطع العلقة في نفسه وإعطائها للغير ، والتزويج عند إظهار إيجاد العلقة الخاصّة بين الزوجين ، حيث أن الملكية والزوجية قابلتان للقطع والإيجاد ، وذلك الإظهار موضوع لحكم العقلاء بحصول العلقة المذكورة مع شرط إظهارها ، وكذلك لحكم الشارع مع وجود الشرائط المعتبرة عنده.

وهذا ما قلناه في المقدمة الثانية : من كون الإظهار موضوعا لحكم العقلاء أو الشارع ، ومعلوم أن مجرد ذلك لا يوجب كون اللفظ موجدا للمعنى ، وان كان موجدا لشيء آخر بهذا المعنى ، لكن الموجود ليس بمعناه ، بل في طول كشف اللفظ عن المعنى ، ورتبة متأخرة عنه ، ولو كان اللفظ بهذا يستحق اسم الموجدية للمعنى ، لكان الاخبار أيضا موجدا ، لما قلنا من أن إظهار بعض الأشياء موضوع لأحكام شرعية وعقلائية ولو كان بالأخبار ، كما مرّ تفصيله.

بقي في المقام شيء ، وهو سؤال الفرق بين الجمل الإنشائية والاخبارية ، حيث أن الجمل الإنشائية ـ على هذا ـ حاكية وكاشفة كالإخبارية عن المعنى ، ولازمه اتصافها بالصدق والكذب أيضا ، وهو كما ترى.

لكنه يجاب ـ بعد التصديق بكونهما حاكيتين عمّا في الضمير ، وعدم الفرق بين اضرب وأطلب ، أو أريد منك الضرب الاخباري مثلا ، من حيث حكايتهما عن معناهما في موطنه ـ بالفرق ، بأن الهيئة في الثانية كاشفة عن وجود التجزّم في نفس المتكلم بما أخبر به ، بخلافها في الأولى ، فانها كاشفة عن حقيقة ما يتجزّم به

.................................................................................................

______________________________________________________

لو كانت الجملة خبرية ، فهيئة اضرب في المثال كاشفة عن حقيقة الإرادة النفسانيّة ، بحيث لو لم تكن موجودة في النّفس لم تكن مستعملة في معناها ، بل تكون إما مهملة وإما مستعملة في غير ما وضعت له ، واما في المثال الثاني فهي كاشفة عن التجزّم بثبوت الإرادة في النّفس ، فلو لم يكن التجزم موجودا لما استعملت الهيئة في معناها ، ولا دخل للإرادة في الموضوع له.

نعم لما أخذ التجزم المذكور بمعناه الحرفي مع كاشفيته عن ثبوت ما يتجزّم به في الموضوع له ـ كما أشرنا إليه في معنى الاخبار ـ فلو لم تكن حقيقة الإرادة في المثال متحققة في نفس المتكلم كانت القضية كاذبة ، لعدم مطابقة معناها لما تحكى عنه ، وتلك المطابقة مع الخارج المحكي عنه وعدمها مناط للصدق والكذب في القضايا الخبرية ، لا وجود المعنى وعدمه ، فانه مناط في كون القضية مهملة أو مستعملة ، ولذا قلنا بأنه لو كان معنى الاخبار حقيقة النسبة الثابتة في موطنه يلزم كون القضية مهملة عند عدمها في موطنه ، وهذا بخلاف الإرادة في المثال الأول ، فانها عين ما وضع له اللفظ ، بحيث لو لم تكن كانت القضية مهملة ، لكن لو لم يكن لها كشف عن شيء آخر وراء نفسها حتى تتصف القضية بالصدق والكذب ، فأمرها دائر بين كونها مستعملة أو مهملة.

(ان قلت) : وان سلّم أن المستفاد من هيئة اضرب والموضوع لها حقيقة الإرادة الكامنة في نفس المتكلم ، لكن لا يلزم من عدم تحققها إهمال القضية ، وهل يلتزم أحد بأن لوجود زيد في الخارج دخلا في كون لفظ زيد مستعملا؟

(قلت) : فرق بينهما ، فان الألفاظ المفردة وضعت للذوات عارية عن الوجود والعدم ، بحيث لا تأبى عن حمل العدم عليها ، ولذا تقول زيد موجود أو معدوم ، وأما الجمل الإنشائية فوضعت للإرادة الموجودة ، بحيث يكون لوجودها أيضا دخل في الموضوع له ، لكن بجامع الوجود لا شخص الوجود الخاصّ ، حتى ينافي كلية المعنى ـ وسيأتي تحقيق ذلك في مقامه إن شاء الله تعالى.

والجمل الخبرية موضوعة للتجزم الموجود في النّفس ، بحيث يكون وصف

بلفظة ليت ولعل ، ولا معنى في النّفس يطلق عليه التمني أو الترجي ، فيلزم مما ذكرت أن تكون الألفاظ في الموارد المذكورة غير مستعملة أصلا ، أو مستعملة في غير ما وضعت له والالتزام ـ بكل منهما لا سيما الأول ـ خلاف الوجدان.

(قلت) تحقق صفة الإرادة أو التمني أو الترجي في النّفس ، قد يكون لتحقق مباديها في متعلقاتها (٦٣) ، كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد ، فتحققت في نفسه إرادته ، أو اعتقد المنفعة في شيء مع الاعتقاد بعدم

______________________________________________________

الموجودية دخيلا فيه ، لكن بنحو لا ينافي الكلية ، ومعلوم انه لو كان للموجود دخل فيما وضع له ، فعند العدم تكون القضية مهملة ، ولا يخفى أنه كما قلنا بأن التجزم أخذ في الاخبار بمعناه الحرفي الآلي من دون التفات المتكلم والمخاطب إليه تفصيلا ، بل مندكا في ما يخبر به ، كذلك الإرادة في هيئة الإنشاء أخذت بمعناها الحرفي الموجودة في نفس المتكلم متعلقة بالمراد ، من دون استقلالها بالمفهومية ، فلا يتوهم متوهم لزوم كون (اضرب) مرادفا لإرادة الضرب ، لأن الأول كاشف عن الإرادة الموجودة الخارجيّة ، التابع وجودها للغير ، والثانية كاشفة عن مفهوم مستقل بالوجود ، بحيث لا يكون لها في الخارج هذا النحو من الوجود ، فالفرق بينهما هو الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي. فتأمّل تعرف.

(٦٣) لا يخفى أن ما ذكره ـ دام ظله ـ يستلزم أن لا تكون الإرادة عبارة عن العلم بالنفع أو الشوق المؤكد ـ كما هو المعروف ـ لأنها لو كانت كذلك لكان تحققها ـ من دون إدراك نفع في المتعلق أو تعلق حب وشوق إليه ـ محالا ، فالوجدان الحاكم بتحققها من دون ذلك ـ كما في المثال ـ شاهد على عدم كونها عبارة عما ذكر ، بل هي عبارة عن حالة نفسانية يتعقّبها تحريك العضلات نحو الفعل في الإرادة الفاعلية ونحو الجعل في التشريعية ، وهي كما تحدث غالبا بتصوّر المراد وإدراك الغاية ، كذلك قد توجد مع العلم بعدم نفع المراد والانزجار عنه ، لمصلحة قوية في ذات الإرادة بمقدار يصلح لمزاحمة حزازة نفس المراد ، كما قد

وقوعه ، فتحققت في نفسه حالة تسمى بالتمني ، أو اعتقد النّفع في شيء مع احتمال وقوعه ، فتحققت في نفسه حالة تسمى بالترجي ، وقد يكون تحقق تلك الصفات في النّفس لا من جهة متعلقاتها ، بل توجد النّفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها ، كما نشاهد ذلك وجدانا في الإرادة التكوينية التي قد توجدها النّفس لمنفعة فيها ، مع القطع بعدم منفعة في متعلقها ، ويترتب عليها الأثر.

مثال ذلك إن إتمام الصلاة من المسافر يتوقف على قصد الإقامة عشرة أيام في بلد ، من دون دخل لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما ، ولذا لو بقي في بلد بالمقدار المذكور من دون قصد لا يتم ، وكذا لو لم يبق بذلك المقدار ، ولكن قصد من أول الأمر البقاء بذلك

______________________________________________________

يتفق في المسافر المفروض في المتن.

ولا يخفى انه على ذلك تكون الإرادة اختيارية مطلقا ، أما لو تحققت من العلم بالمنفعة في ذاتها فواضح ، لأنّها على ذلك تصير كسائر الأمور الاختيارية مسبوقة بالإرادة الناشئة عن العلم بالنفع.

(لا يقال) : إن العلم بالنفع في إرادة شيء لا ينفك عن العلم بالنفع في ذلك الشيء ، لأنه يكفي في نافعية الشيء نافعية الإرادة المتعلقة به ، ولذا لم تكن في الإرادة المتعلّقة بغيرها تلك المنفعة.

(لأنه يقال) : لا يكفي ذلك في العلم بالنفع في ذات الشيء مع قطع النّظر عن الإرادة ، حتى تحدث الإرادة عن ذلك العلم ، أو يكون هو نفس الإرادة ، للزوم الدور. ولو كان ذلك ممكنا لكان حب المبغوض وبغض المحبوب لمصلحة في نفس الحب والبغض ممكنا ، وهو كما ترى. واما لو تحققت من العلم بالنفع في المراد ، فلأنها وان كانت معلولة لذلك العلم ، لكن كون المريد متمكنا من التأمل في أن ذلك النّفع هل هو مزاحم بالمفسدة في ذات الإرادة أم لا؟ حتى يمنع عن

المقدار يتم ومع ذلك يتمشى قصد البقاء من المكلف ، مع علمه بان ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهم ، وانما يترتب الأثر على نفس القصد ، ومنع تمشي القصد منه ـ مع هذا الحال ـ خلاف ما نشاهد من الوجدان ، كما هو واضح فتعين ان الإرادة قد توجدها النّفس لمنفعة فيها لا في المراد ، فإذا صح ذلك في الإرادة التكوينية صح في التشريعية أيضا ، لأنها ليست بأزيد مئونة منها. وكذا الحال في باقي الصفات ، من قبيل التمني والترجي.

______________________________________________________

حدوث الشوق ، والعلم بالنفع ـ السالم عن المزاحم عند المزاحمة بما هو أقوى ـ كاف في الاختيارية ، فانه لا فرق ـ في كون الشيء تحت القدرة والاختيار ـ بين كون المقتضى مقدورا أو المانع. ولذا يصح النهي عن إيجاد شخص آخر فعلا في الخارج مع قدرته على المنع.

ثم إنه بعد ما علم المقصود من اختيارية الإرادة على كلا التقديرين يظهر حال ردّ اختيارية الإرادة بالتسلسل ، بزعم أن المقصود كونها مسبوقة بالإرادة مطلقا. وقد عرفت أنه على الثاني لم تكن مسبوقة بالإرادة أصلا ، وعلى الأول وإن كانت إرادة الشيء مسبوقة بالإرادة ، لكن إرادتها ليست مسبوقة بإرادة أخرى ، بل ناشئة عن العلم بالمصلحة فيها ، كباقي الاختياريات.

هذا ولكن لا يخفى أن ذلك فيما لا يكون المراد محالا ، وإلّا فلا يمكن تحقق إرادة المحال لمصلحة في نفسها ، لأن إرادة المحال مع العلم بالاستحالة محال ، فحينئذ لا بد ـ في تصحيح الأمر التعجيزي مع العلم باستحالته الذاتيّة أو العادية كقوله تعالى : (فأتوا بسورة من مثله) ـ من ارتكاب المجازية ، باستعمال الهيئة في العجز النّفس الأمري ، فتكون الهيئة كاشفة عن العجز لا عن إرادة شيء. وأما في غيره مما يكون المراد ممكنا فيمكن إيجاد الإرادة لمصلحة في نفسها ، واستعمال الهيئة في الإرادة. ومعلوم أن ما ذكرنا من اختيارية الإرادة لا فرق فيه بين الإرادة التكوينية والتشريعية ، فكما أن الإرادة التكوينية لا فرق في تأثيرها بين تولّدها من العلم بالمصلحة في المراد أو العلم بالمصلحة في ذات الإرادة ، كذلك الإرادة التشريعية

إذا عرفت هذا فنقول : إن المتكلم ـ بالألفاظ الدالة على الصفات الخاصة الموجودة في النّفس ـ لو تكلم بها ولم تكن مقارنة لوجود تلك الصفات أصلا ، نلتزم بعدم كونها مستعملة في معانيها. وأما إن كانت مقارنة لوجود تلك الصفات ، فهذا استعمال في معانيها ، وإن لم يكن تحقق تلك الصفات بواسطة تحقق المبدأ في متعلقاتها فتأمل جيدا.

(الفصل الثاني)

(في الطلب والإرادة)

قد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في أن الطلب هل هو عين الإرادة أو غيرها؟ وذهب الأول إلى الأول والثاني إلى الثاني. وملخص الكلام في المقام أن يقال : إن أراد الأشاعرة

______________________________________________________

لا فرق في تأثيرها بين تحققها من مصلحة المراد أو مصلحة ذاتها ، فكما ان في الأولى تجب الإطاعة وتحرم المخالفة ، كذلك في الثانية تجب الإطاعة وتحرم المخالفة ، ويترتب عليها جميع ما يترتب على الإرادة الناشئة عن العلم بالمصلحة في المراد.

هذا في الأوامر والنواهي الصادرة لغير مصلحة في الفعل من الامتحان والتعجيز والتهديد والسخرية وأمثال ذلك. وأما التمني والترجي فهما كاشفان عن حالة نفسانية ناشئة (تارة) عن الميل النفسانيّ بوقوع الفعل مع العلم باستحالته أو رجاء وقوعه ، و (تارة) عن العلم بالنفع في إيجاد تلك الحالة مع العلم بوقوعه ، أو عدم الميل إلى وقوعه وكذا الاستفهام كاشف عن حالة نفسانية تحصل بعد الجهل بالواقع ، مع اشتياق التعلم والسؤال (تارة) ، ومن العلم بالمصلحة في إيجادها (أخرى) ولو مع العلم بكيفية الحال.

أنه في النّفس صفة أخرى غير الإرادة تسمى بالطلب ، فهو واضح الفساد ، ضرورة أنا إذ نطلب شيئا لم نجد في أنفسنا غير الإرادة ومباديها (٦٤) وإن أرادوا ان الطلب معنى ينتزع من الإرادة في مرتبة

______________________________________________________

(الطلب والإرادة)

(٦٤) توضيح ذلك : أنه كما أن الفاعل المختار بعد تحقق مبادئ الإرادة تحدث في نفسه صفة نفسانية توجب تحريك عضلاته نحو الفعل ، كذلك في الآمر بعد تحقق المبادي تحدث في نفسه حالة نفسانية تحركه نحو الجعل. ولا فرق بينهما ، إلا أن في الأولى لما تعلق الغرض بصدور الفعل من جوارحه توجب تلك الحالة تحريك عضلات نفسه نحو الفعل ، وفي الثانية لمّا تحقق الغرض بصدور الفعل من جوارح الغير ويرى الآمر جعل الوجوب من مقدمات صدوره ، فلا محالة يتحرك نحو الجعل والأمر ، ولذا لا تنفك الأولى عن المراد بخلاف الثانية ، فانها ـ حيث احتاجت في إيجاد المراد إلى الجعل وموافقة المكلّف ـ قد تتخلف عن المراد ، كما إذا منع مانع عن الأمر أو عصى المأمور ، ولذلك ينقدح مع إرادة الآمر الاذن في الترك في المستحبات ، حيث لا يرى الآمر تلك الإرادة علة تامة للفعل ، بخلافها في الإرادة الفاعلية ، فانها علة تامة. ولا يتصوّر فيها الاستحباب ، وكيف كان فليس في النّفس حالة وصفة أخرى عند الآمر غير ما ذكرنا حتى يقال انها طلب.

هذا ولكن يمكن النزاع بأن يقال : هل الموجود ـ في نفس الفاعل والآمر المحرك لهما نحو الفعل والجعل ـ هو العلم بالنفع والحب والشوق النفسانيّ لا غيرها ، حتى لا يبقى مجال للتعدد ، أو حالة نفسانية أخرى يعبّر عنها مثلا بتجمّع النّفس ، وهي الطلب الباعث للتحريك دائما ، دون العلم بالنفع والشوق المؤكد المجرد عنه ، وتلك الحالة وان كانت تحدث غالبا بعد العلم بالنفع والشوق المؤكد ، لكن قد تنفك عنهما ، كما ذكرنا في الإرادة الاختيارية. والأمر في الحقيقة كاشف عن تلك الحالة ، ويكون إظهارها موضوعا لحكم العقل بوجوب

الإظهار والكشف (٦٥) دون الإرادة المجردة ، فهما متغايران مفهوما وان اتحدا ذاتا ، فهو كلام معقول ، ولكن لا ينبغي أن يذكر في عداد المسائل العقلية ، فان انتزاع مفهوم آخر من مرتبة ظهور الإرادة مما لا ينكر ، كما أشرنا إليه سابقا ، فالكلام المذكور يرجع إلى دعوى ان لفظ الطلب موضوع

______________________________________________________

الإطاعة ، سواء نشأت من العلم بالنفع في المراد أو من العلم بالمصلحة في إيجاد تلك الحالة.

نعم لو علم بأنها نشأت من داعي التهديد والتعجيز والسخرية وأمثال ذلك ، لم تكن منشأ لوجوب الإطاعة ، وكذلك إنشاء البيع قد يكون بداعي الجد فيترتب عليه الأثر ، وقد يكون صوريا فلا يترتب عليه أثر.

(٦٥) بمعنى أن الموجود في النّفس ليس إلّا الإرادة ومبادئها المعروفة ، لكن لفظ الطلب وضع للإرادة المظهرة ، فيكون الطلب والإرادة من قبيل المطلق والمقيد. ولا إشكال في إمكان النزاع هكذا ، إذ لا إشكال في صيرورة الإرادة بعد استعمال الهيئة فيها معنونة بعنوان المظهرية ، واللفظ بعنوان المظهريّة ، والاستعمال بعنوان الإظهار ، مع عدم كونها معنونة بالعناوين المذكورة قبل الوضع والاستعمال ، فيدعي أحد أنهما موضوعان لصفة واحدة ، بلا تقيّد بشيء ، والآخر بأن الطلب وضع لها مقيدة بظهورها ، بخلاف الإرادة فانها وضعت لها من دون قيد فيصير النزاع لفظيا.

ويمكن أن يكون النزاع معنويا مع التصديق بعدم صفة في النّفس غير الصفات المعروفة ، بأن يقال : هل يمكن إيجاد مفهوم ابتداء باللفظ ولو كان من مقولة الاعتبار ـ كما ادعاه المحقق الخراسانيّ ـ أم لا؟ وليس شأن اللفظ الا الإظهار ، ـ كما فصّلناه في مقامه ـ فراجع ، فالقائل بإمكان ذلك يلتزم بتعددهما ، وكون معنى الطّلب ذلك المفهوم الاعتباري ، بمعنى أن الجامع بين المفاهيم الاعتبارية شيء غير الصفة النفسانيّة ، ويجعلها موضوعا له للطلب ، ولا وجه لجعله مفهوما اعتباريا لشيء آخر ، كما جعله المحقق الخراسانيّ (ره). وأورد عليه الأستاذ ـ دام ظله ـ وأوضح برهانه ، والقائل بعدم إمكان الإيجاد المذكور يجعل الموضوع له فيهما شيئا واحدا وهي الصفة النفسانيّة.

لهذا المعنى ، بخلاف لفظ الإرادة ، فانه موضوع للصفة الخاصة النفسانيّة ، سواء تحقق لها كاشف أم لا.

قال شيخنا الأستاذ ـ دام بقاؤه في الكفاية في توضيح عينية الطلب مع الإرادة ـ ما لفظه «إن الحق ـ كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى ان لفظهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر. والطلب المنشأ بلفظ أو بغيره عين الإرادة الإنشائية.

وبالجملة هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا ان الطلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقة التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.

إذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فان الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تكون هي الطلب غيرها» (انتهى).

أقول : ما أفاده ـ من أن الإنسان لا يجد من نفسه غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها عند طلبه شيئا ـ حق لا محيص عنه. وأما التزامه بأن المفهوم الّذي هو بإزاء لفظ الإرادة أو الطلب له نحو ان من التحقق (أحدهما) التحقق الخارجي و (الآخر) التحقق الاعتباري ، فهو مبنى على ما حققه من أن معاني الهيئة أمور اعتبارية توجد باللفظ بقصد الإيقاع.

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا من عدم تعقل كون اللفظ موجدا لمعناه ـ أن الأمور الاعتبارية التي فرضناها متحققة بواسطة الهيئة

(الفصل الثالث معنى الصيغة)

في الموارد الجزئية ، يؤخذ منها جامع ، تكون تلك الجزئيات مصداقا حقيقيا له. وهذا كما في الفوقية ، فانها وان كانت من الأمور الاعتبارية ، ولكن يؤخذ من جزئياتها جامع يحمل على تلك الجزئيات ، كحمل باقي المفاهيم على مصاديقها ولا معنى لجعل تلك الأمور مصاديق اعتبارية لمفهوم آخر لا ينطبق عليها. والحاصل أنه ليس للمفهوم سوى الوجود الذهني والخارجي نحو آخر من التحقق يسمى وجودا اعتباريا له.

هل الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وجوه أقواها الأخير ، (٦٦) ولكنها عند الإطلاق تحمل على الأول (٦٧). ولعل السر في ذلك أن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلّا ، والندب انما يأتي من قبل الاذن في الترك ، منضما إلى الإرادة المذكورة ، فاحتاج الندب إلى قيد زائد ، بخلاف

______________________________________________________

معنى الصيغة

(٦٦) والشاهد على ذلك هو الوجدان ، فان الآمر مع الاذن في الترك لم يعد عند العرف خارجا عن تعهّد الواضع ، ولا عن مقتضى الوضع ولو لقرينة ، كمن قال : رأيت أسدا يرمي ، وأيضا نرى بالوجدان ان المفهوم من الهيئة في الواجب والمستحب شيء واحد ولا تباين بينهما ، وهذا شاهد صدق على وحدة المعنى فيهما وان كانت المصاديق مختلفة.

(٦٧) ويشهد بذلك ان أهل العرف لا يعدّون المأمور معذورا في المخالفة باحتمال إرادة الندب.

الوجوب ، فانه يكفى فيه تحقق الإرادة ، وعدم انضمام الرخصة في الترك إليها. وهل الحمل على الوجوب عند الإطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة (٦٨) ، وحيثما اختلت لزم التوقف أم لا ، بل يحمل على الوجوب عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور؟ الأقوى الثاني لشهادة العرف

______________________________________________________

(٦٨) وتقريب التمسّك بها ـ على تقدير الحاجة إليها ، بناء على ما أسلفنا ـ من كون الإرادة التشريعية حالة نفسانية متعلقة بفعل الغير ، ويمكن التعبير عنها بتجمع النّفس وبنائها على صدور الفعل المراد من المأمور وهي الباعثة لتحريك الآمر نحو الجعل والبعث ـ بأن يقال : ان الحالة المذكورة لو خليت ونفسها مقتضية لإيجاد الفعل وصدوره من المكلف ، وينتزع ـ من إظهارها مجردة بدون قيد ـ الوجوب ، كما ان الإرادة التكوينية مقتضية لإيجاد المراد وصدوره من نفس المريد بلا توسط الغير ، بل لا ينفك عن تحريك عضلات المريد نحو المراد ، ولذا لا يتصور فيها الندب أصلا. وان انضم إلى إظهارها الاذن في الترك ينتزع عنها الندب ، لكن لا بنحو يكون الاذن في الترك عدولا عمّا أظهر أولا ، بل بحيث يكون كل من إظهار الإرادة والاذن في الترك جزءا لمنشإ انتزاع عنوان الندب ، وجزءا لهذا المقدار من التأثير المشوب بجواز الترك في المأمور ، والفرق بينها وبين التكوينية هو أن التكوينية لا تنفك عن تحريك العضلات بعد تحققها ، بخلاف التشريعية فانها بعد التحقق تحتاج في تأثيرها إلى الجعل وموافقة المكلف ، ولذا لا تنافي بينها وبين الاذن في الترك ، حيث ان الآمر لا يراها علة تامة للفعل حتى لا تنفك عنه ، فله أن يكتفي بإظهارها مجردة عن الاذن في الترك حتى ينتزع منه الوجوب ، وله ان يظهرها مع الاذن حتى ينتزع منه الندب ، لنقصان في مصلحة المراد ولمصلحة في الاذن أقوى من مصلحته ـ وقد مرّ نظيره في اختيارية الإرادة ـ فلا يتوهم أن لازم ما ذكرنا كون تلك الحالة الموجودة في نفس المريد علة تامة للفعل مع قطع النّظر عن معصية المكلف ، لما ذكر من احتياج تأثيرها إلى وسائط منها الأمر والبعث بإظهار الإرادة مجردا أو مع الاذن ، فعند كل منهما تؤثر نحوا من الأثر.

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى هذا يكون باب الإيجاب والندب باب الزائد والناقص ، وقضية مقدمات الحكمة عند تردد المجعول بين الزائد والناقص تعين الناقص ، لكونه أخف مئونة وهو الوجوب.

واما ما يقال : من ان الفرق بينهما بالشدة والضعف وان الوجوب عبارة عن إرادة شديدة متعلقة بالفعل فتحتاج إلى بيان حد الشدة ، سواء قلنا بأن الندب أيضا يحتاج إلى بيان حدّ الضعف أو قلنا بعدم احتياجه ، لعدم احتياج عدم القوة إلى مئونة زائدة حتى ينتج عدم كون الوجوب أخف مئونة.

فمدفوع : بأن الحالة النفسانيّة على ما ذكرنا أمرها دائر بين الوجود والعدم ، ولا نتعقّل فيها الضعف والشدة ، فان من يتصور فعلا ويعلم منافعه ومضاره فإمّا أن يكون الجزم والتصميم والبناء على إتيانه أو إتيان عبده موجودا في نفسه أو لا يكون ، ويمكن ان يكون في نفسه تصميم ضعيف تارة وقوي أخرى ، نعم الشدة والضعف يتصور في الداعي الباعث لهذا البناء والتصميم ، وهو المصلحة الموجودة في الفعل ، وهذا الاختلاف في الدواعي فارق بين الإرادة التي لا يزيلها بعض الموانع الضعيفة والإرادة التي يزيلها ، فلا تكون الشدة والضعف في نفس الحالة الموجودة.

وما ذكرنا من انتزاع الوجوب عن إظهار الإرادة بدون الاذن في الترك والندب منه مع الاذن ، لا فرق فيه بين أحكام الموالي العرفية وأحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ سواء قلنا بانقداح الإرادة فيها في نفس النبي والولي ، واحداث تلك الحالة النفسانيّة لهما عليهما‌السلام أم لا ، لأن اختلاف الإرادة فيهما ذاتا لا يوجب اختلاف المظهر ، فان إظهار الإرادة منه ـ تبارك وتعالى ـ بلا اذن منه في الترك منشأ لانتزاع الوجوب ، وموضوع لحكم العقل بوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب بالمخالفة ، ومع الاذن في الترك منشأ لانتزاع الندب وموضوع لحكم العقل برجحان الفعل مع الترخيص في الترك ، وذلك لعدم اختصاص الشرع بلسان غير لسان أهل العرف في مقام إظهار مراداتهم وافهام مقاصدهم ، بل أحكم طريقتهم

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمضاها بقوله عزّ من قائل ـ «وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه» (١).

وكما أن باب الوجوب والاستحباب باب الزائد والناقص ثبوتا وإثباتا ، ـ أما ثبوتا فلأنه ليس في نفس الآمر في الوجوب إلّا إرادة الفعل ، وفي الاستحباب هي مع الرضا بالترك ، واما إثباتا فقد تبيّن مما مضى ، وعند الشك يتعيّن الوجوب بمقتضى الإطلاق ـ كذلك باب النفسيّ والغيري ، والعيني والكفائي ، والتعييني والتخييري أيضا باب الزائد والناقص ، وقضية الإطلاق هو الوجوب النفسيّ العيني التعييني ثبوتا وإثباتا ، اما ثبوتا فلان تلك الحالة الموجودة والإرادة المتعلقة بشيء متوجهة إلى شخص بلا قيد يقتضي إتيانه معيّنا نفسا من هذا الشخص ، ومع انضمام الغير إليه يصير غيريا ، ومع انضمام البدل إلى الفعل يصير تخييريا ، وإلى المكلف يصير كفائيا ، وأمّا إثباتا فلأن الأول ينتزع من صرف إظهار الإرادة المتعلقة بشيء من مكلف ، واما غيره فيحتاج إلى إظهار القيد من الغير والبدل.

ثم ان هذا كله على ما بيّنا من معنى الإرادة والوجوب والهيئة على مختار الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ واما على مختار صاحب الكفاية من إيجاد مفهوم الطلب اعتبارا بالصيغة ، فيمكن ان يقال أيضا ان باب إيجاد مفهوم الوجوب والندب باب الزائد والناقص ، لأن الوجوب ينتزع من نفس إيجاد مفهوم الطلب اعتبارا ، والندبية مع الاذن في الترك ، وهذا معنى التمسك بالإطلاق على مبناه ، واما الشدة والضعف في الإرادة الحقيقية ـ لو قلنا بهما على المبنى ـ فلا دخل لهما بمدلول الصيغة وهو الإرادة الإنشائية ، ولو فرض التشكيك فيه بأن قيل المفهوم الاعتباري للإرادة الضعيفة مثلا أضعف من المفهوم الاعتباري للإرادة القوية ، لم يكن امر الاستحباب أخف مئونة من الوجوب ، بل اما يتساويان في الاحتياج إلى المئونة ، واما يحتاج إليها الوجوب دون الندب ، فلا يستقيم الأخذ بالإطلاق وتعيين الوجوب بهذا المعنى.

هذا كله على تقدير عدم ظهور في البين والحاجة إلى مقدمات الإطلاق ،

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ الآية ٤.

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن الظاهر ان نفس الهيئة ظاهرة بالظهور اللفظي في الوجوب النفسيّ العيني التعييني بلا احتياج إلى المقدمات ، نظير «الكل» الظاهر في الاستيعاب بلا احتياج إليها ، بل الظهور ناف لاحتمال ما لولاه ينفيه الإطلاق.

ثم إنه لو كان في المقام ظاهر أو إطلاق أخذنا به ، واما مع عدمهما فهل يحكم العقل بالبراءة ـ عند الشك في أحد القيود المذكورة ـ أو الاشتغال؟ الظاهر الثاني ، بمعنى ان العقل يحكم بصحة المؤاخذة على تقدير العينية والنفسيّة والتعيينية ، لا للعلم الإجمالي بين وجوب شيء أو شيئين في النفسيّ والغيري ، وانحلاله إلى العلم بوجوب الأقل والشك في وجوب الأكثر حتى يلزم على القائلين بعدم الانحلال الإتيان بهما ، ولا يجري التقريب المذكور في الشك في الكفائية والتخييرية ، بل لأن الإنسان يجد من نفسه المأخوذية بالنسبة إلى ما سمع وعلم بتوجه إرادة المولى إليه قبل الالتفات إلى العلم الإجمالي ، فالعلم بتلك الحالة التي يعبّر عنها بالإرادة كاف في صحة المؤاخذة ، إلّا إذا علم كونها بحيث لا يجب موافقتها ولا تورث العقاب مخالفتها ، إما مطلقا كما في الغيرية الغير المنجّز ذيها لعدم العلم أو لعدم القدرة ، وإما على تقدير قيام الغير كما في الكفائي ، ومع إتيان بدله كما في التخييري.

وأما احتمال كونها بحيث لا يجب موافقتها فلا ينهض لرفع اليد عن تلك الحجة العقلية ، وليس المناط في الحجة على التكليف العلم بالعقاب حتى يقال بعدم العلم به في المقام على الفرض ، بل يكفي العلم بالتكليف مع احتمال العقاب ، وإلّا فاللازم عدم حجية الطرق ، لانتفاء العلم بالعقاب فيها كما هو واضح.

ويمكن أن يلتزم في المقام بكون العلم بالإرادة المرددة طريقا إلى الإرادة النفسيّة العينية التعيينية كالأوامر الطريقية ، والفرق بين التقريبين هو أن العلم ـ بالإرادة المرددة مع احتمال العقاب على الأول ـ موضوع لوجوب الإطاعة واستحقاق العقاب من دون لحاظ الطريقية ، وعلى الثاني طريق إلى ما يورث العلم أو الطريق إليه

بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة ، باحتمال الندب ، وعدم كون الآمر في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.

ونظير ما ذكرنا هنا ـ من استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام ، وان لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان ـ القضايا المسورة بلفظ الكل وأمثالها ، فان تلك الألفاظ موضوعة لبيان عموم افراد مدخولها ، سواء كان مطلقا أم مقيدا ، ففي قضية (أكرم كل رجل عالم) ، و (أكرم كل رجل لفظ الكل مفيد لمعنى واحد ، وهو عموم افراد ما تعلق به وما دخل عليه ، غاية الأمر مدخوله في الأولى الطبيعة المقيدة ، وفي الثانية المطلقة ، فالتقيد في الرّجل الّذي هو مدخول الكل ليس تصرفا في لفظ الكل. وهذا واضح ، لكنه مع ذلك لو سمعنا من المتكلم (أكرم كل رجل لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرّجل الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في لفظ الرّجل بحيث لولاها نتوقف في أن المراد من القضية المذكورة إكرام جميع افراد الرّجل أو جميع افراد الصنف الخاصّ منه ، ولا يبعد أن يكون نظير ذلك حمل الوجوب على النفسيّ والتعييني عند احتمال كونه غيريا أو تخييريا ، فان عدم اشتمال القضية على ما يفيد كون وجوبه لملاحظة الغير ، وكذا على ما يكون طرفا للفعل الواجب ، يوجب استقرار ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا ، فلا يحتاج إلى

______________________________________________________

العقاب ، هذا على المختار من تحقق الحالة الموجودة في النّفس في جميع الأقسام واحتياج بعض الأقسام إلى قيد ، واما على الفرق بين الوجوب والندب بالشّدة والضعف واحتياج الوجوب إلى الحجة على الإرادة الشديدة ، فالعلم بالإرادة المرددة بين الضعيفة والشديدة ليس حجة على خصوص الشديدة منها ، ومقتضى الأصل البراءة ، لكن المبنى غير سديد.

إحراز مقدمات الحكمة. والشاهد على ذلك كله المراجعة إلى فهم العرف ، إذ لا دليل في أمثال ذلك امتن مما ذكر. ويحتمل أن يكون حمل الإرادة على الوجوب التعييني النفسيّ ـ عند عدم الدليل على الخلاف ـ من باب كونها حجة على ذلك عند العقلاء ، لو كان الواقع كذلك ، نظير حجية الأوامر الظاهرية على الواقعيات على تقدير التطابق ، من دون أن يستقر الظهور اللفظي فيما ذكرنا ، فافهم (٦٩).

(الفصل الرابع)

(الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب)

الجمل الخبرية ـ التي يؤتى بها في مقام الطلب ـ ظاهرة في الوجوب ، سواء قلنا بأنها مستعملة في الطلب مجازا ، أم قلنا بأنها مستعملة في معانيها من الحكاية الجزمية عن الواقع بداعي الطلب ، كما هو الظاهر. أما على الأول فلما مر من ان الندب يحتاج إلى مئونة زائدة (٧٠) وأما على الثاني فلان الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدل على عدم تطرق نقيضه عند الأمر ، فيكون هذا أبلغ في إفادة الوجوب من صيغة افعل وأمثالها.

______________________________________________________

(٦٩) لعلّه إشارة إلى استقرار الظهور في المقامين من دون حاجة إلى التقريب المذكور.

الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب

(٧٠) بل يجري الوجه الثاني فيه أيضا ، لأن استعمال الهيئة الموضوعة في الطلب لا بد له من نكتة ، كاستعمال اللفظ الموضوع للحيوان المفترس في الإنسان ، والنكتة في المقام عدم تطرق نقيضه عند الأمر ، نعم لعلّ الثاني أبلغ في ذلك

(لا يقال) : لازم حمل الجمل الخبرية في مقام الطلب على الاخبار وقوع الكذب فيما لم يأت المكلف بالمطلوب (لأنا نقول) : الصدق والكذب يلاحظان بالنسبة إلى النسبة الحكمية المقصودة بالأصالة ، دون النسبة التي جيء بها توطئة لإفادة امر آخر. ولذا لا يستند الكذب إلى القائل بان زيدا كثير الرماد ، توطئة لإفادة جوده ، وإن لم يكن له رماد ، أو كان ولم يكن كثيرا وانما يسند إليه الكذب لو لم يكن زيد جوادا.

(الفصل الخامس)

(مفاد هيئة افعل)

هيئة افعل تدل بوضع المادة على الطبيعة اللابشرط من جميع الاعتبارات ، حتى الوجود والعدم ، وحتى الاعتبار الّذي به صار مفادا للمصدر (٧١) ضرورة أن المعنى المذكور آب عن الحمل على الذات ، فيمتنع وجوده في الهيئة التي تحمل على الذات. هذا وضع المادة ، وتدل

______________________________________________________

المعنى ولا يخفى وجهه ، كما لا يخفى أن النكتة المذكورة توجب ظهورها في الوجوب ، لا كونها بحيث تأبى عن الحمل على الاستحباب ، بل قد يؤتى بها لبيان تأكد الاستحباب.

مفاد هيئة افعل :

(٧١) المادة عبارة عن أصوات خاصة غير مقيدة بهيئة خاصة لا يمكن التلفظ بها وحدها ، بل لا بد لتلفظها من إحدى الهيئات. نعم يمكن إفهامها بالإشارة إليها بأن يقال (ض ، ر ، ب) مثلا لمادة ضرب وهكذا غيرها. ومعناها أيضا مجرد عن جميع القيود حتى الوجود والعدم ، ولا يمكن إيجاده في الذهن مستقلا ومنفكا عن الهيئة ، نعم يشار إليه بما هو موجود في جميع الهيئات. والهيئة عبارة عن كيفية

بواسطة وضع الهيئة على الطلب القائم بالنفس ، فالمركب من الوضعين يفيد الطلب المتعلق بتلك الطبيعة اللابشرط. وحيث أن الطبيعة اللابشرط حتى من حيث الوجود والعدم لا يمكن ان تكون محلا للإرادة عقلا يجب اعتبار وجود ما زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة (٧٢) ، والوجود المذكور الّذي يجب اعتباره عقلا على أنحاء :

(أحدها) الوجود الساري في كل فرد كما في قوله تعالى أحل الله البيع (ثانيها) الوجود المقيد بقيد خاص ، ومن القيود المرة والتكرار ، والفور أو الوجود الأول وأمثال ذلك (ثالثها) أن يعتبر صرف الوجود مقابل العدم الأزلي ، من دون امر آخر وراء ذلك.

وبعبارة أخرى كان المطلوب انتقاض العدم الأزلي

______________________________________________________

أداء الحروف ، ولا يمكن تحققها مجردة عن المادة ، نعم يمكن إفهامها أيضا بالإشارة ويقال : ما لا يمكن تحقّقه إلّا في ضمن صيغة من الصّيغ ، ومعناها الطلب المتعلّق بالمادة المتحقق في نفس المتكلّم.

(٧٢) لا يخفى ان اعتبار واحد من الوجود أو العدم في متعلق الطلب عقلي ، لعدم إمكان تعلق الطلب بنفس معنى المادة ، وهو المفهوم المجرد عن جميع الطواري حتى الوجود والعدم كما هو الفرض ، لعدم قابلية الماهية المجردة لأن تقع معروضا لشيء من العوارض ، ولذا يقال : الماهية من حيث هي هي ليست إلّا هي ، وأمّا اعتبار خصوص الوجود دون العدم فليس بحكم العقل ، لإمكان تعلق الطلب بترك الطبيعة ، نعم يمكن ادعاء تبادره إلى الذهن في مقام الطلب بعد كونه والعدم سيّان بحكم العقل ، مثلا لو قيل : الطهارة شرط أو النجاسة مانع ، أمكن عقلا أن يكون عدم النجاسة شرطا وأن يكون عدم الطهارة مانعا ، لكن يتبادر من تلك القضايا بعد الحكم العقلي المذكور ـ كون الوجود معتبرا دون العدم ، إلّا إذا صرّح المتكلّم باعتبار العدم في القضيّة.

بالوجود (٧٣) ، من دون ملاحظة شيء آخر ، وحيثما لا يدل الدليل على أحد الاعتبارات ، يتعين الثالث لأنه المتيقن من بينها ، وغيره يشتمل على هذا المعنى وأمر زائد فيحتاج إلى مئونة أخرى زائدة مدفوعة بمقتضى الإطلاق.

ومما ذكرنا يظهر ان الفور والتراخي والمرة والتكرار وغيرها كلها خارجة عن متفاهم اللفظ. نعم لو دل الدليل على أحدها ، لم يكن منافيا لوضع الصيغة لا بمادتها ولا بهيئتها. ولازم ما ذكرنا الاكتفاء بالمرة سواء أتى بفرد واحد من الطبيعة أم أزيد منه ، لانطباق الطبيعة المعتبرة فيها حقيقة الوجود ، من دون اعتبار شيء آخر على ما وجد أولا ، فيسقط الأمر ، إذ بعد وجود مقتضاه في الخارج لو بقي على حاله لزم طلب الحاصل ، وهو محال. نعم يمكن أن يقال في بعض الموارد بجواز إبطال ما أتى به أولا ، وتبديله بالفرد الّذي يأتي به ثانيا ، كما يأتي بيانه في محله.

(الفصل السادس)

(في الاجزاء)

لا إشكال في ان الإتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرطا وشطرا ، يوجب الاجزاء عنه ، بمعنى عدم وجوب الإتيان به ثانيا ، باقتضاء ذلك الأمر ، لا أداء ولا قضاء ، لسقوط الأمر بإيجاد متعلقه ،

______________________________________________________

(٧٣) هذا على مختاره سابقا ، لكنه ـ دام بقاؤه ـ رجع عنه وردّه بأن وجود الطبيعة المجردة عن جميع الطواري غير مقيّد بالناقضية للعدم ، وان كان ناقضا له في الخارج ، لكن لا بنحو التقيّد بحيث لو اجتمع أكثر من سبب واحد لإيجابه لم يكن

ضرورة أنه لو كان باقيا بعد فرض حصول متعلقه لزم طلب الحاصل ، وهو محال. ولا فرق في ذلك بين الواجبات التعبدية والتوصلية.

وما قد يتوهم في التعبديات : من أنه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ، ومع ذلك لم يسقط الأمر ، لفقد التقرب الّذي اعتبر في الغرض ، فهو بمعزل عن الصواب ، لما ذكرنا من استحالة بقاء الأمر مع وجود عين ما اقتضاه في الخارج. وأما وجوب الإتيان ثانيا في التعبديات لو أخل بقصد القربة ، فاما من جهة اعتبار ذلك في المأمور به ، وإما من جهة تعلق الأمر بالإتيان بالفعل ثانيا ، بعد سقوط الأمر الأول ، لعدم حصول الغرض الأصلي. وستطلع على تفصيل ذلك عند البحث عن وجوب مقدمة الواجب إن شاء الله.

والحاصل ان الأمر إذا أتى بما اقتضاه بجميع ما اعتبر فيه لا اقتضاء له ثانيا. نعم يتصور امر آخر يتعلق بإيجاد الفعل ثانيا. وهذا غير عدم الاجزاء عن الأمر الأول. ولعمري إن هذا من الوضوح بمكان. وكذا لا فرق فيما ذكرنا بين الأوامر المتعلقة بالعناوين الأولية ، وبين الأوامر الملحوظ فيها الحالات الطارية ، من قبيل العجز والاضطرار والشك وأمثال ذلك ، لوجود الملاك الّذي ذكرنا في الجميع. وانما الإشكال

______________________________________________________

قابلا للتكرار ، فقيد الناقضية أيضا قيد يدفعه الإطلاق ، وتمام الكلام مع بيان الثمرة في باب تداخل الأسباب ـ إن شاء الله تعالى ـ إذ لا ثمرة بين القولين في ما لم تكن أسباب متعددة ويكتفى بالمرة في الامتثال ، نعم بناء على الناقضية لا يعقل التكرار ، وبناء على عدمها يعقل التكرار لكن لا مقتضى له ، لأن الأمر الأول لم يكن الا مقتضيا لأصل الطبيعة وقد تحققت ولا امر آخر بالفرض.

والكلام في أن الأوامر المتعلقة بالمكلف بملاحظة العناوين الطارية (٧٤) لو أتى المكلف بمتعلقاتها ، هل تجزى عن الواقعيات الأولية ، بحيث لو ارتفعت تلك الحالة الطارية في الوقت أو خارجه ، لا يجب عليه الإتيان بما اقتضت الأوامر الواقعية الأولية أو لا يكون كذلك؟

إذا عرفت ذلك فنقول : إن العناوين الطارية التي توجب التكليف على قسمين (أحدهما) ما يوجب حكما واقعيا في تلك الحالة مثل الاضطرار (ثانيهما) ما يوجب حكما ظاهريا ، مثل الشك ، فهاهنا مقامان يجب التكلم في كل منهما.

______________________________________________________

الاجزاء :

(٧٤) المراد بالعنوان الطاري هو العنوان المأخوذ في طول الواقعيات غير المقيدة بحال ، سواء كان ظاهريا مجعولا في مرتبة الشك في الواقع ، أو واقعيا ثانويا مجعولا في مرتبة العجز عن الواقعي الأولى ، مثل «ان لم تجدوا ماءً فتيمّموا» فان وجوب التيمم على الفاقد وان كان حكما واقعيا ليس وراءه حكم آخر في اللوح المحفوظ كالاحكام الظاهرية ، لكن لما كان في مرتبة العجز عن الواقع الأولى وفقدان الماء يقال له الواقعي الثانوي ، وكذا جميع ما جعل بلحاظ العجز عن الواقعيات الأولية ، فيخرج مثل السفر والحضر ، فانّ أحد العنوانين لم يؤخذ مع العجز عن الآخر ، بل هما ملحوظان في عرض واحد ، بمعنى ان الآمر قسّم المكلف إلى صنفين : الحاضر والمسافر ، وأوجب على الأول التمام ، وعلى الثاني القصر ، من دون تقدم لأحدهما على الآخر. فليس المحكوم بأحد الحكمين محكوما بالحكم الآخر أيضا ، حتى يقال هل الامتثال لأحدهما مجز عن الآخر أم لا؟ بل لا موضوع لأحدهما مع تحقق الآخر.

١ ـ (اجزاء الاضطراري عن الاختياري)

اما القسم الأول فينبغي التكلم فيه (تارة) في أنحاء ما يمكن أن يقع عليه و (أخرى) فيما وقع عليه. أما الأول فنقول : يمكن أن يكون التكليف بشيء في حال عدم التمكن من شيء آخر ، والاضطرار العرفي بتركه ، من جهة أن ذلك الشيء مشتمل على عين المصلحة التي تقوم بالفعل الاختياري ، من دون تفاوت أصلا ، مثلا الصلاة مع الطهارة المائية في حق واجد الماء ، والترابية في حق فاقده سيان في ترتب الأثر الواحد المطلوب الموجب للأمر (٧٥) ويمكن أن يكون الفعل في حق المضطر مشتملا على مصلحة وجوبية ، لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري ، وان كانت مثلها في كونها متعلقة لغرض الآمر في الحالة التي يكون المكلف عليها (٧٦). ويمكن أن يكون مشتملا على مرتبة أدنى من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري. وعلى هذا يمكن بلوغ الزائد حدا يجب استيفاؤه ويمكن عدم بلوغه إلى هذه المرتبة. وعلى الأول يمكن كون الزائد مما يمكن استيفاؤه بعد زوال العذر ، ويمكن عدم كونه كذلك. هذه أنحاء الصور في التكاليف الاضطرارية (٧٧).

______________________________________________________

اجزاء الاضطراري عن الاختياري :

(٧٥) كما في إيماء المريض وقيام القادر للتعظيم ، فان الظاهر اتحاد أثرهما عينا.

(٧٦) بحيث لو اجتمع العنوانان في مكلف واحد لأوجبهما عليه.

(٧٧) وجميع الأنحاء المذكورة في المكلف به متصورة في نفس التكليف أيضا ، بأن

ولازم الأول من الأقسام المذكورة الاجزاء ، بداهة مساواة الفعل الاضطراري للفعل الاختياري في تحصيل الغرض على الفرض المذكور ، فكما أن الفعل الاختياري يوجب الاجزاء كذلك الاضطراري.

ولازم الثاني منها عدم الاجزاء ، إذا لفعل الاضطراري ـ وإن كان مشتملا على المصلحة التامة كالاختياري ـ لكن المصلحة القائمة بكل منهما تغاير الأخرى ، فلا يكون أحد الفعلين مجزيا عن الآخر. نعم يمكن أن يكون أحد الفعلين في الخارج موجبا لعدم إمكان استيفاء مصلحة الآخر. ولا يخفى أن لازم كلا القسمين المذكورين جواز تحصيل الاضطرار اختيارا (٧٨).

ولازم الثالث عدم الاجزاء (٧٩). مع اتصاف الزائد بوجوب الاستيفاء وإمكانه معا ، وفي غيره الاجزاء. ثم إنه إن كانت المصلحة الزائدة بمرتبة اللزوم ، ولا يمكن الاستيفاء بعد إتيان الفعل الاضطراري ، لا يجوز للآمر الإيجاب والبعث إلى الاضطرار في الوقت ، إن علم بزوال عذره قبل زوال الوقت ، لأنه تفويت للمصلحة اللازمة. وفي غير الصورة المذكورة يجوز الإيجاب ، وإن علم بزوال عذره في الوقت. ووجهه ظاهر. ولازم الصورة الأولى عدم جواز البدار إلى الفعل الاضطراري ، إلا إذا علم باستيعاب العذر لتمام الوقت ، كما ان لازم الثانية جواز ذلك ، وان علم

______________________________________________________

لا يكون في نفس الفعل فائدة ، ولكن كان في الإيجاب والبعث به أحد الفوائد المذكورة.

(٧٨) وكذا جواز البدار للمكلف ، وجواز الإيجاب للآمر مع العلم بانقطاع العذر في الأثناء.

(٧٩) بشرط عدم تداركه بمصلحة في التكليف.

بانقطاع العذر. والقول بعدم جواز البعث للآمر والبدار للمكلف في الصورة الأولى ، إنما هو فيما لم تكن للتكليف مصلحة تتدارك بها المصلحة الزائدة الفائتة ، وإلّا جاز. وتنتفي الثمرة بين الصورتين. هذه أنحاء التصور في التكاليف الاضطرارية.

واما ما وقع بمقتضى النّظر في أدلتها ، فالظاهر أن المأتي به في حال الاضطرار لو وقع مطابقا لمقتضى الأمر ، يسقط الإعادة ثانيا ، فان ظاهر أدلتها ان المعنى الواحد يحصل من المختار بإتيان التام ، ومن المضطر بإتيان الناقص (٨٠). نعم في كون موضوع تكليف المضطر هو الاضطرار

______________________________________________________

(٨٠) وذلك لظهور الأدلة في تقسيم المكلفين بصرف الوجود إلى القادر والعاجز والواجد والفاقد مثل «ان لم تجدوا ...» و «التراب أحد الطهورين» و «رب الماء ورب التراب واحد» و «يكفيك التراب عشر سنين» و «اذكروا الله قياما وقعودا» بناء على ما فسّر في الاخبار من وجوب الصلاة على القادرين قياما ، وعلى العاجزين قعودا وغير ذلك من أدلة الباب ، فانها ظاهرة في ان التكليف واحد ، ويأتي به كل بحسب حاله ، ولا يجب على مكلف واحد الإتيان بوظيفتين ، لكن لا يخفى أنها وان كانت ظاهرة في عدم الوجوب ثانيا بعد ارتفاع الاضطرار ، إما ان ذلك لحصول تلك المصلحة بتمامها حتى يجوز تحصيل الاضطرار للقادر والبدار للعاجز العالم بزوال عذره في الوقت ، وإما لتفويت محلها حتى يحرما ، ولذا يشكل الحكم بجواز تحصيل الاضطرار على من تنجّز عليه تكليف التمام لتمكنه من إتيانه ، لأن العقل لا يجوّز مخالفة التكليف المنجز ، ولو بتفويت المحل بمجرد احتمال التدارك ، بل يحتاج إلى المؤمّن من قبل الشارع والمفروض انتفاؤه ، نعم لو اجترأ وصار مضطرا يجب عليه إتيان الناقص لتحقق موضوعه ، اللهم إلّا أن يكون في الأدلة إطلاق يشمل العجز في بعض الوقت ليرخّص البدار ، فيستكشف منه عدم التفويت ، لاستلزامه الإلقاء في المفسدة ، فيجوز تحصيل الاضطرار ، لكن استكشاف ذلك منها مبنى على ان لا يكون التجويز لمصلحة في الجعل فتأمل.

الحالي أو الاضطرار المستوعب لتمام الوقت كلام ، لا بد في تنقيح ذلك من النّظر في الأدلة (٨١) وللكلام فيه محل آخر. ويتفرع على الأول سقوط الإعادة لو انقطع العذر في الأثناء ، وعلى الثاني عدم السقوط ، لا لعدم اجزاء امتثال الأمر في حال الاضطرار ، بل لكشف انقطاع العذر عن عدم كون المأتي به متعلقا للأمر. وأما القضاء فيما إذا استوعب العذر مجموع الوقت وانقطع بعده ، فيسقط عنه على كلا التقديرين.

ثم انه لو فرضنا الشك في ظواهر الأدلة ، فأصالة البراءة محكمة ، لرجوع المقام إلى الشك في التكليف (٨٢) ولا فرق في ذلك بين الإعادة والقضاء.

(لا يقال) : مقتضى وجوب قضاء ما فات وجوب العمل التام عليه ، لصدق فوت العمل التام عنه.

(لأنا نقول) : يعتبر في صدق الفوت اشتمال العمل على المصلحة المقتضية للإيجاب عليه ، ولم يستوفها المكلف. والمفروض احتمال استيفاء المكلف العاجز تلك المصلحة بإتيان الناقص. ومع هذا الاحتمال يشك في صدق الفوت الّذي هو موضوع أدلة القضاء هذا حال التكليف الاضطراري.

______________________________________________________

(٨١) لا يبعد استفادة الأول منها ، فان من لم يتمكن من تحصيل الماء بحسب الأسباب العادية يصدق عليه انه لم يجد الماء فيجب عليه التيمّم ، وان علم أنه يصير بعد ساعة واجدا للماء ، لنزول المطر أو غيره من الأمور غير الاختيارية ، نعم لو كان عدم التمكن فعلا من جهة احتياجه إلى مقدمات اختيارية ولو بمشي مقدار من المسافة لم يصدق عليه فاقد الماء ، وتمام الكلام في محله.

(٨٢) في غير الاضطرار الطاري بعد التمكن من إتيان التمام في الوقت ، وأما فيه

.................................................................................................

______________________________________________________

فالظاهر أن العقل يحكم بالاشتغال لما مضى في تحريم تحصيل الاضطرار عليه ، من أن العقاب المنجز على التمام لا يرتفع باحتمال التدارك ، ومع التكرار ثانيا وان لم يحصل القطع بالبراءة أيضا ، لاحتمال التفويت بفعل الناقص ، لكن يجب بحكم العقل تقليل الاحتمال ، كمن اشتبهت عليه القبلة وعجز عن الصلاة إلى أربع جهات ، فان العقل يحكم بإتيانها إلى ثلاث جهات وان لم يقطع بالبراءة معها.

ان قلت : ان كان في المقام إطلاق يدل على أن المضطر في ساعة يجب عليه الناقص ، حتى يجوز البدار وتحصيل الاضطرار ، فقد مرّ ـ في الحاشية السابقة ـ أنه يستكشف منه عدم التفويت ، وان لم يكن إطلاق يشمل ذلك الاضطرار المرتفع بعد ساعة ، فموضوع الحكم بالناقص بعد غير محرز حتى يقال هل الإتيان به مجز عن التام أم لا؟ بل الأمر بالتام معلوم والشك في ارتفاعه ، والظاهر ان القائل بالبراءة لا يقصد المقام قطعا ، لأن المقام مقام استصحاب الحكم بالتام لا البراءة عنه.

قلت : أولا : هذا إشكال آخر على القائل بالبراءة ، لأنه مع الإطلاق لا مجال للبراءة ، ومع عدمه يستصحب وجوب التام.

واما ثانيا : فيما قلنا في الحاشية السابقة من ان الإطلاق لا ينهض دليلا على عدم التفويت لاحتمال المصلحة في الجعل ، وهي ملازمة للإذن في البدار لا في تحصيل الاضطرار ، فيمكن في خصوص الفرض الحكم بالاشتغال ، وان كان الإطلاق موجودا ، وان فرض في المتن محل النزاع خصوص المورد الخالي عن الإطلاق ، بل قد يقال في غير الفرض أيضا بوجوب التام ، يعنى أن من كان عاجزا في أول الوقت وأتى بالناقص يجب عليه الإتيان بالتام عند حصول القدرة أيضا بمقتضى الاستصحاب التعليقي ، فانه لو كان قادرا لكان يجب عليه التام ، فيستصحب الملازمة بين القدرة ووجوب التام ، للعلم بوجودها قبل فعل الناقص والشك فيها بعده ، ولا تنقض اليقين ... ومقتضى ذلك إيجاب التام عند حصول القدرة ، وهو مقدم على استصحاب عدم وجوبه الفعلي ، كما حقق في محله.

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكنه مخدوش ، بيان ذلك : ان الحكم المعلّق على شيء قد يعلّق عليه بلا لحاظ زمان فيهما ، بل يتحقق الحكم عند تحقق الشرط ، لكن لا مقيدا بخصوص زمانه بل يبقى الحكم وان انقضى زمان الشرط ، كتعليق حرمة العصير على غليانه ، وقد يلاحظ فيه زمان خاص ولو كان ذلك نفس زمان المعلق عليه ، كتعليق وجوب الوضوء على وجدان الماء ، ووجوب التيمم على فقدانه وجواز الاقتداء على العدالة وعدمه على الفسق ، فوجوب الوضوء في خصوص حال الوجدان معلق على الوجدان لا وجوبه ولو بعد الوجدان ، وكذا التيمم في خصوص حال الفقدان ، والاقتداء في خصوص حال العدالة ، وعدمه في حال عدمها ولا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي في القسم الأول. لأن الملازمة الشرعية بين الغليان والحرمة كانت متيقّنة في حال العنبية فإذا شككنا بعد الزّبيبية في بقائها فلا مانع من إبقائها مع اتحاد الموضوع عرفا.

واما في القسم الثاني فحيث علّق وجوب الوضوء في خصوص زمان الوجدان على تقدير تحققه ، فقبل مضي كل زمان يصح ان يقال ان تحقق الوجدان في هذا الزمان يجب الوضوء في هذا الزمان ، واما بعد فوت الزمان فلم تبق تلك القضية الشرعية بحالها ، لأن حكم الموقت ينتفي بانتفاء وقته ، نعم يصح ان يقال لو كان واجدا لكان يجب عليه الوضوء ، لكنها قضية عقلية منتزعة من الأولى انتفت بانتفاء وقتها ، ومثل تلك القضية العقلية لا تكون منشأ للآثار الشرعية وهي فرضية عقلية ، كقولنا المائع الفلاني لو كان خمرا لحرم شربه ، ولو كان ماء لجاز شربه ، ولو كان دما لوجب اجتنابه ، وأمثال هذه مما لا تحصى كثرة ، هذا بالنسبة إلى الزمان الماضي ، واما بالنسبة إلى الزمان الآتي فتصدق قضية شرعية أخرى وهي ان واجد الماء يجب عليه الوضوء في خصوص ذلك الزمان ، ولا ربط لهذه القضية بالسابقة حتى يستصحب ، فان كانت في نفسها متيقنة فهو ، وإلّا فالمرجع فيها البراءة. وفي المقام وجوب التمام مسلّم على من لم يصل الناقص ، واما من صلّى الناقص فوجوب التمام عليه في خصوص الزمان المذكور مشكوك فيه من أول الأمر.

٢ ـ (اجزاء الظاهري عن الواقعي)

واما التكاليف المتعلقة بالمكلف في حال الشك في التكليف الواقعي ، فملخص الكلام فيها أنه إن قلنا باشتمال متعلقاتها في تلك الحالة على المصالح ، فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال الاضطرار (٨٣) ، من دون تفاوت. وإن قلنا بأنها تكاليف جعلت لرفع تحير المكلف عن الواقعيات في مقام العمل ، فلازم ذلك عدم الاجزاء ،

______________________________________________________

والحاصل : ان في المقام قضيتين إحداهما : أنه لو كان قادرا لوجب عليه التمام في الزمان الماضي ، والثانية : أنه ان قدر في الزمان اللاحق يجب عليه التمام في تلك الحالة.

أما في الأولى : فمعلوم أنها لم تكن شرعية ولو كانت لم تكن مفيدة لوجوب التمام في الآن اللاحق ، لأنهما حكمان غير مرتبط أحدهما بالآخر.

واما الثانية : فهي متيقنة في حق غير مصلي الناقص ، وأمّا في حقه فمشكوك من رأس ، وهذا بخلاف (إذا غلا ينجس أو يحرم) فان فيها حيث لم يقيّد الحكم بزمان خاص ، فلا محالة يصدق في كل زمان قضيتان ، إحداهما حلال وطاهر فعلا ، والأخرى إذا غلا ينجس ويحرم وهي قضية واحدة باقية تستصحب عند الشك.

اجزاء الظاهري عن الواقعي :

(٨٣) اما ثبوتا ، فلا مكان كون مصلحة العمل بالحكم الظاهري عين المصلحة الواقعية في ذلك الموضوع ، وكونها سنخا آخر ، وكونها أنقص منها بمقدار لازم الاستيفاء مع إمكان استيفائه أو بدونه أو بمقدار مستحب. واما إثباتا ، فلظهور أدلتها في أن العمل المذكور لمن قامت عليه الأمارة هو المكلّف به واقعا وان كان موضوعها خاصا ، فمن قامت أمارة له في كيفية صلاته فما دام موضوعا لها تكون تلك الصلاة له صلاة حقيقة لا تعبدا وتنزيلا ، ومعلوم ان الصلاة لا تطلب من مكلّف مرتين.

لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع على هذا الفرض. غاية الأمر كون الامتثال لتلك التكاليف عذرا عن الواقع المتخلف عنه ، وحد إمكان العذر عن الشيء كونه مشكوكا فيه ، فإذا علم لا يمكن عقلا ان يكون معذورا فيه ، لوجوب امتثال الحكم المعلوم وحرمة مخالفته. ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون مورد الأحكام الظاهرية الشبهات الموضوعية أو الحكمية (٨٤).

وحاصل الكلام : أن الغرض الموجب للحكم حدوثا موجب له بقاء ما لم يحصل. وبعد ما فرضنا أن متعلقات الأحكام الظاهرية ليست مشتملة على مصالح ، حتى يتوهم حصول تلك الأغراض الموجبة للتكليف بالواقعيات بإتيانها ، وانما فائدتها تنجيز الواقعيات في مورد ثبوتها ، وكونها عذرا عنها في صورة التخلف ، فلا وجه لتوهم الاجزاء ، لأنه ان كان المراد

______________________________________________________

واما عند الشك في ظواهر الأدلة فنحكم بالبراءة ، الا فيما حكمنا فيه في السابق بالاشتغال لعين ما قلناه آنفا ، نعم قد يقال : مقتضى إطلاق الأدلة الدالة على حجية الأمارة مع إمكان تحصيل العلم عدم تفويت الواقع بلا تدارك ، لاستلزامه المحال. وهو صحيح لو لا احتمال المصلحة في الجعل كما مرّ.

(٨٤) وتوهم الفرق بإمكان تقييد الأحكام الواقعية بالعلم في الأول بخلاف الثاني مندفع ، بأن مجرّد إمكان التقييد في الأول في مرحلة الثبوت غير موجب للحكم به في مرحلة الإثبات ، مع أن لسان الأدلة فيهما واحد «فكل شيء مطلق» و «كل شيء حلال» يرخّص ترك الواقعيات في الشبهات الحكمية والموضوعية على نسق واحد ، وجعل الحكم في بعض أفراده واقعيا وفي بعضها ظاهريا كما ترى ، وكذا أدلة الأمارات والطرق ، ولو فرض اختصاص دليل بالشبهات الموضوعية فيدور الأمر بين تقييد كل من دليلي الحكمين بالعلم والجعل ، وبين الجمع بينهما بجعل أحدهما واقعيا والثاني ظاهريا من دون تقييد لأحدهما ، ومعلوم أن الجمع أولى.

سقوط الأمر بالواقعيات بمجرد امتثال الأمر الظاهري ، فلا يعقل مع بقاء الغرض الّذي أوجب الأمر ، وإن كان المراد كونه معذورا فيها مع بقاء الأمر بها وارتفاع الشك ، فلا يعقل أيضا ، لاستقلال العقل بعدم معذوريّة من علم بتكليف المولى. نعم يمكن ان يوجب امتثال الأمر الظاهري عدم القابلية لاستدراك المصلحة القائمة بالواقع ، فيسقط الأمر به من هذه الجهة. وهذا الاحتمال ـ مع كونه بعيدا في حد نفسه ـ لا يصير منشأ للتوقف ، إذ غايته الشك في السقوط ، وهو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال.

هذا إذا علم ان جعل الأحكام الظاهرية من باب الطريقية ولو شك في أنه كذلك أو من باب السببية ، أو علم انه من باب السببية ، ولكن شك في ان الإتيان بالمشكوك فيه هل هو واف بتمام الغرض الموجب للأمر بالواقع ، أو بمقدار يجب استيفاؤه أو لم يكن كذلك ، فهل الأصل في تمام ما ذكرنا يقتضى الاجزاء أو عدمه ، أو التفصيل بين ما إذا كان منشأ الشك في الاجزاء وعدمه الشك في أن جعل الأحكام الظاهرية من باب السببية أو الطريقية ، وما إذا كان منشأ الشك فيه الشك في كيفية المصلحة القائمة بالفعل المشكوك فيه المتعلق للأمر ، بعد إحراز أن الجعل من باب السببية؟ الحق أن يقال : ان مقتضى الأصل عدم الاجزاء مطلقا.

بيان ذلك أن الأحكام الواردة على الشك ـ سواء قلنا بأنها جعلت لمصلحة في متعلقاتها ، أو قلنا بأنها جعلت من جهة الطريقية ـ إنما جعلت في طول الأحكام الواقعية ، لأن موضوعها الشك في الواقعيات بعد الفراغ عن جعلها ، فلا يمكن أن تكون رافعة لها ، غاية الأمر أن الإتيان

بمتعلقاتها ـ ان قلنا بان الجعل فيها من باب السببية ، وانها وافية بمصالح الواقعيات ـ مجزئ عنها. وهذا غير ارتفاع الأحكام الواقعية ، وانحصار الحكم الفعلي بمؤدى الطريق.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو أتى المكلف بما يؤدى إليه الطريق ، فان قطع باشتمال ما أتى به على المصلحة المتحققة في الواقع فهو ، وإلّا فبعد انكشاف الخلاف يجب عليه إتيان الواقع ، سواء كان الشك في السقوط وعدمه مستندا إلى الشك في جهة الحكم الظاهري ، أو في وفاء المصلحة المتحققة في متعلق الحكم الظاهري لتدارك ما في الواقع ، بعد إحراز أن الجعل انما يكون من جهة المصلحة الموجودة في المتعلق ، إذ يشترك الجميع في أن المكلف يعلم ـ حين انكشاف الخلاف ـ بثبوت تكليف عليه في الجملة ، ويشك في سقوطه عنه. وهذا الشك مورد للاشتغال العقلي (٨٥).

ومما ذكرنا يظهر لك الفرق بين المقام والمقام السابق الّذي قلنا فيه بالبراءة من الإعادة والقضاء ، بعد إتيان ما اقتضاه التكليف في حال الاضطرار. توضيح الفرق أن المكلف في حال الاضطرار ، ليس عليه الا

______________________________________________________

(٨٥) هذا انما يصح بناء على فعلية الأحكام الواقعية كما هو مختار الأستاذ ـ دام ظله ـ لأن المكلف يعلم فعلا بالوجوب الفعلي قبل ذلك الآن ولكن يشك في سقوطه ، وأما بناء على إنشائية الأحكام فلا يستقيم ، لأن المكلف لا يعلم بتكليف فعلي في آن من الآنات ، أما حين الجهل فإنشائي بالفرض ، وأما بعده فيحتمل السقوط ، إلّا أن يقال بحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة تكليف كان ـ مع قطع النّظر عن احتمال سقوط ما كان ـ فعليّا. ولا يخفى أن القاطع بالخلاف خارج عن مسألة الاجزاء ، لعدم جعل حكم في حقه حتى يقال بأن الامتثال على طبقه مجز أو غير مجز.

الفعل الناقص الّذي اقتضاه تكليفه في تلك الحال ، فلو كلف بعد ارتفاع العذر بالفعل التام ، فهو تكليف ابتدائي جديد ، فالشك فيه مورد للبراءة ، بخلاف حال الشك ، فان ما وراء هذا التكليف ـ الّذي اقتضاه الدليل في حال الشك ـ واقع محفوظ ، فإذا ارتفع الشك يتبين له ذلك الواقع الثابت ، ويشك في سقوطه عنه. هذا ما ادى إليه نظري القاصر في المقام وعليك بالتأمل التام.

المقصد الثاني في مقدمة الواجب

اعلم أن الواجب في الاصطلاح عبارة عن الفعل المتعلق للإرادة الحتمية المانعة عن النقيض ، فلا يشمل ترك الحرام ، وان كان ينتزع ـ من مبغوضية الفعل وعدم الرضا به ـ كون تركه متعلقا للإرادة الحتمية المانعة عن النقيض ، إلا أنه لا يسمى واجبا في الاصطلاح فلو اقتصر في العنوان المبحوث عنه هنا بمقدمة الواجب ـ كما فعله الأصوليون ـ فاللازم جعل الحرام عنوانا مستقلا يتكلم فيه ، فالأولى جعل البحث هكذا (هل الإرادات الحتمية للمريد ـ سواء كانت متعلقة بالفعل ابتداء أو بالترك من جهة مبغوضية الفعل ـ تقتضي إرادة ما يحتاج ذلك المراد إليه أم لا)؟ حتى يشمل مقدمة الفعل الواجب والترك الواجب.

ثم انه على القول بالاقتضاء يحكم بوجوب جميع مقدمات الفعل الواجب من المعد ، والمقتضى ، والشرط ، وعدم المانع ، ومقدمات المقدمات. وأما الترك الواجب ، فلا يجب بوجوبه الا ترك إحدى مقدمات وجود الفعل. والسر في ذلك أن الفعل في طرف الوجود يحتاج إلى جميع المقدمات ، ولا يوجد إلّا بإيجاد تمامها ، ولكن الترك يتحقق بترك إحداها (٨٦) ،

______________________________________________________

المقصد الثاني في مقدمة الواجب

(٨٦) لو قلنا بوجوب ترك مقدمة الحرام لكونه مقدمة للواجب أعني ترك

.................................................................................................

______________________________________________________

الحرام فلا فرق بين الفعل والترك. ومحصّل الكلام : ان كلا من الفعل والترك إذا كان واجبا ، فاما ان تكون له مقدمات طولية بحيث يكون بعضها مقدمة لبعضها الآخر ، وهكذا إلى ان تنتهي إلى مقدمة المقدمات ، فلا إشكال في وجوب الجميع تعينا على الملازمة لتوقف الواجب عليها ، وكذا الحال في الاجزاء المنحصرة لما يتوقف عليه الفعل منحصرا ، واما ان تكون له مقدمات عرضية بحيث يتوقف الفعل أو الترك على إحداها لا على الجميع كالعلل الكثيرة لفعل واحد ، فيجب كل منها تخييرا لا تعيينا.

وبعبارة أخرى : كل مقدمة منحصرة للفعل أو لأحد مقدماتها المنحصرة واجب تعيينا ، وكل مقدمة غير منحصرة له أو لأحد مقدماته واجب تخييرا ، من غير فرق بين الفعل والترك ، لكن إذا كان للفعل مقدمات طولية منحصرة فعند وجوبه تجب لتوقف المطلوب عليها ، وأما عند وجوب تركه فلما كان ترك كل منها علة لتركه يكون ترك كل من المقدمات واجبا تخييرا ، لتوقف الواجب على أحد هذه التروك لا على الجميع ، وإذا كان للفعل مقدمات عرضية كالعلل الكثيرة ، فعند وجوب الفعل لا تجب المقدمات الا تخييرا ، لعدم توقف الواجب الا على إحداها ، وأما إذا وجب تركه فيجب ترك جميع العلل تعيينا ، لتوقف حصول الواجب عليها كما هو واضح ، فالمناط في التعيين والتخيير في وجوب المقدمات في الفعل الواجب أو الترك تابع لكيفية التوقّف ، ولا خصوصية للفعل أو الترك.

هذا لو لم نجعل لمقدمات الحرام عنوانا مستقلا واما عليه فنقول : هل يسرى بعض الشيء إلى جميع مقدماته مطلقا ، أو بشرط الإيصال ، أو إلى بعض منها ، أو إلى الأخير فقط ، أو لا يسري إلى شيء منها أصلا؟ والظاهر عدم السراية الا إلى ما يستلزم المبغوض ولا ينفك عنه ، وهو مجموعها بوصف المجموع ، فيما إذا كان للمبغوض مقدمات منحصرة طولية ، بحيث يتوقف وجوده على الجميع ، أو عرضية ولكن كان كل منها جزءا منحصرا للعلة المنحصرة ، فإتيان المجموع مبغوض من حيث انه ملازم للمبغوض ، واما كل واحدة منها فلا مناط للمبغوضية فيه ، ولا بأس بإتيان الجميع إذا ترك منها واحدة مخيرا في أيتها شاء ، نعم إذا قصد بواحدة منها التوصل إلى

فلا يحتاج إلى تروك متعددة ، حتى تجب تلك التروك بوجوب ذلك الترك.

ومن هنا ظهر أنه إن لم يبق الا مقدمة مقدورة واحدة إما بوجود الباقي ، وإما بخروجه عن حيز القدرة ، فحرمة ذلك الفعل تقتضي حرمة تلك المقدمة المقدور عليها عينا ، كما هو الشأن في كل تكليف تخييري امتنع أطرافه الا واحدا ، فانه يقتضى إرادة الطرف الباقي تحت القدرة معينا. وهذا واضح ، فلو فرض أن صب الماء على الوجه مثلا يترتب عليه التصرف في المحل المغصوب قطعا ، بحيث لا يقدر بعد الصب على إيجاد المانع أو رفع المحل عن تحت الماء ، فحرمة الغصب ووجوب تركه تقتضي حرمة صب الماء على الوجه عينا.

وعلى هذا بنى سيد أساتيذنا الميرزا الشيرازي (قدس‌سره) في حكمه ببطلان الوضوء ، وإن لم يكن المصب منحصرا في المغصوب (٨٧) ، إذا كانت الطهارة بحيث يترتب عليها التصرف ، فلا يرد عليه (قدس‌سره)

______________________________________________________

الحرام فيدخل تحت عنوان التجري ـ ان لم نقل بصدق الاشتغال بالحرام عليه كما ادّعاه الشيخ (ره) ـ فتتحد النتيجة مع العنوان السابق. واما في العلل المتعددة فلمّا كان كلّ منها مستلزما للحرام يسرى البغض إلى المجموع.

(٨٧) هذا في قبال من قال ببطلان الوضوء في خصوص ما إذا كان المصب منحصرا في المغصوب ، لاستلزامه التصرف في المغصوب فيتحقق فقدان الشرط شرعا ، واما إذا لم يكن منحصرا فالطبيعة لا تستلزمه ، وان استلزمه فرد منها ، ويكفي للأمر بالطبيعة وجود فرد مباح ، واما على ما ذكر ـ من عدم القدرة على ترك الحرام إلّا بترك الصب ـ فيحرم الصب الخاصّ ، ويتعين الواجب التخييري قهرا في غيره ، ولا يصح الإتيان بالفرد المذكور بداعي إتيان الطبيعة ، لأن حرمته ومبغوضيته مانعة عن حصول القرب به ، فلا فرق بين الانحصار وعدمه في بطلان الوضوء.

ان صب الماء ليس علة تامة للغصب حتى يحرم بحرمته ، بل هو من المقدمات. وما هو كذلك لا يجب تركه شخصا ، حتى ينافى الوجوب.

وحاصل الجواب : أن صب الماء وان لم يكن علة ، إلا أنه بعد انحصار المقدمات المقدورة فيه ـ كما هو المفروض ـ يجب تركه عينا.

(فان قلت) : ليس المقدور منحصرا في الصب ، بل الكون في المكان المخصوص أيضا من المقدمات ، وهو باق تحت قدرة المكلف ، فلم تثبت حرمة صب الماء عينا.

(قلت) : ليس الكون المذكور من مقدمات تحقق الغصب في عرض صب الماء ، بل هو مقدمة لتحقق الصب الخاصّ الّذي هو مقدمة لتحقق الغصب. والنهي عن الشيء يقتضي النهي عن أحد الأفعال التي هي بمجموعها علة لذلك الشيء ، فإذا انحصر المقدور من هذه الأفعال في واحد يقتضى حرمته عينا.

هذا وإذ قد عرفت أن حرمة مقدمات الحرام إنما تكون على سبيل التخيير ، بمعنى ان الواجب ترك إحدى المقدمات ، منها يتبين لك أنه إذا اقتضت جهة من الخارج وجوب إحدى تلك المقدمات عينا ، فلا تزاحمه الحرمة التخييرية التي جاءت من قبل النهي ، لأن الأول ليس له بدل ، بخلاف الثاني ، فلا وجه لرفع اليد عن أحدا لغرضين الفعليين إذا أمكن الجمع بينهما ، فاللازم بحكم العقل قصر أطراف الحرام التخييري على غير ما اقتضت المصلحة وجوبه عينا. وهكذا الكلام في الواجب التخييري بالنسبة إلى الحرام التعييني ، فان اللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب بغير الحرام ، ولا يلاحظ هنا الأهم وغيره ، فان هذه الملاحظة إنما تكون فيها إذا كان فوت أحد الغرضين مما لا بد منه. وأما فيما يمكن الجمع بينهما ، فلا وجه لغيره.

ومن هنا ظهر أنه بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، يجب الحكم بكون الصلاة في الدار المغصوبة محرمة ، وتقييد مورد الصلاة بغير هذا الفرد ، وان كانت الصلاة أهم من الغصب بمراتب ، ولو كان الواجب تخييريا. وكذلك الحرام ، فهل يمكن اجتماعهما في محل واحد ، بناء على عدم جواز اجتماعهما في غير هذا المورد ، أم لا؟ مثاله : لو كان صب الماء على الوجه مقدورا ، وهكذا أخذه على تقدير الصب ، بحيث لا يقع في المحل المغصوب ، فهل يمكن أن يكون ترك هذا الصب واجبا ، بدلا لكونه مما يترتب عليه ترك الحرام؟ وكذلك فعله ، لكونه أحد افراد غسل الوجه في الوضوء أم لا؟

قد يقال بالعدم ، لأن كون الشيء طرفا للوجوب التخييري ، يقتضى أن يكون تركه مع ترك باقي الافراد مبغوضا للمولى (٨٨) ، وكونه طرفا للحرمة التخييرية ، يقتضى أن يكون الترك المفروض مطلوبا له.

______________________________________________________

(٨٨) فوجوب الصب تخييرا ـ مع كون المصب مغصوبا وكون المكلف قادرا على إيجاد المانع ـ يقتضي تعيينه عند ترك الصب في باقي الأمكنة ، وحرمته تخييرا تقتضي تعيين تركه عند اختيار سائر مقدمات الغصب ، ومنها ترك إيجاد المانع ، فيجتمع الحرام والواجب العينيان في موضوع واحد.

وفيه : ان المرجع في الخطاب التخييري ان كان إلى خطابين تعيينيين أو أكثر على كل من الطرفين أو الأطراف بشرط ترك غيره من الأطراف في الواجب ، أو اختيار غيره في الحرام ، فما ذكر من اقتضائهما اجتماع الواجب والحرام التعيينيّين حق على المبنى ، لكن من المعلوم خلاف ذلك ، فان التكليف التخييري نحو وجود من التكليف يمكن إنشاؤه ويتعلق إمّا بهذا وإمّا بهذا ، والواحد المردد وان لم تكن له حقيقة خارجية ، لكن له اعتبار عقلائي ، وهو يكفي في تعلق الوجوب به ، كما يكون مورد تعلق العلم الإجمالي ، وكذلك يمكن الاخبار عنه مثل أن تقول : إما زيد جاء واما

والّذي يقوى في النّفس أن يقال : إن فعل ذلك الشيء المفروض ـ على تقدير قصد ترك أحد الأطراف الّذي هو بدل له في الحرمة ـ لا مانع من تحقق العبادة به ، لأنه على هذا التقدير ليس قبيحا عقلا ، بل على تقدير عدم قصد التوصل به إلى الحرام. نعم على غير هذين التقديرين ـ وهو ما إذا كان الآتي بذلك الفعل قاصدا إلى إيجاد فعل الحرام ـ لا يمكن ان يكون ذلك الفعل عبادة ، فحينئذ نقول في المثال : إن صابّ الماء على الوجه ، إن لم يقصد به إيجاد فعل الغصب ، فلا مانع من صحة وضوئه ، وإلّا فالحكم بالبطلان متجه (٨٩). وستطلع على زيادة توضيح لا مثال هذا المقام في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ثم إن هذه المسألة هل هي داخلة في المسائل الأصولية أو الفقهية؟ أقول مسألتنا هذه ان كان البحث فيها راجعا إلى الملازمة العقلية ، فهي من المسائل الأصولية ، وان كان عن وجوب المقدمة ، فهي من المسائل الفقهية. وقد تقدم في أول الكتاب ما يوضح ذلك. والظاهر

______________________________________________________

عمرو ، وهو اخبار واحد عن مجيء أحدهما ، ولا ينحل إلى خبرين أحدهما مجيء زيد عند عدم مجيء عمرو ، والثاني مجيء عمرو عند عدم مجيء زيد ، حتى يسند إليه كذبان عند مجيئهما أو عدمه ، وعلى هذا لا منافاة بين الخطابين وان اجتمعا في جميع الأطراف كافعل أحدهما ولا تفعل أحدهما ، فضلا عن مثل المثال الّذي اتفق الاجتماع في بعض الأطراف فيه.

(٨٩) لا لكون الصّب المذكور حراما تخييريا ، فانه غير مانع كما أشار إليه ـ دام ظله ـ وذكرنا وجهه ، بل لأن الاشتغال بمقدمة بقصد التوصل إلى الحرام اما حرام رأسا لصدق العصيان عليه عرفا ، واما لكونه تجريا ، وبطلان الوضوء على الأول واضح ، لعدم صلاحية المبغوض للمقربية ، واما على الثاني فلعدم الحسن الفاعلي ولو لم يكن بحرام ، وهو مما تحتاج إليه العبادة وتبطل بفقدانه.

الأول. وكيف كان فتمام الكلام في هذا المقام في ضمن أمور :

(الأول (ان الواجب (تارة) يلاحظ فيه إضافته إلى الفاعل (٩٠) و (أخرى) لم يلاحظ فيه ذلك ، بل المطلوب إيجاد الفعل ولو بتسبيب منه وعلى الأول قد يلاحظ فيه مباشرة الفاعل بيده ، وقد يكون المقصود أعم من ذلك ومن ان يأتي به نائبه. وأيضا قد لا يحصل الغرض الا باعمال اختياره في الفعل ، ولو بإيجاد سببه ، وقد لا يكون كذلك بمعنى عدم دخل الاختيار في الغرض. وأيضا قد يكون لقصد عنوان المطلوب دخل في تحصيل الغرض ، وقد يكون الغرض أعم من ذلك. والمقصود في هذا البحث بيان انه هل الأمر بنفسه ظاهر في تشخيص المقدمة أو لا ظهور له

______________________________________________________

(٩٠) وهي أعم من المباشرة ، لأن فعل الوكيل والنائب ومن يتحرك بتحريك المكلّف يصح إضافته إليه ، ولذا يحترز عنه بقيد المباشرة استقلالا.

ثم ان تقسيم الواجب إلى ما يعتبر فيه الإضافة أو المباشرة وما لا يعتبر فيه شيء منهما في عرض تقسيمه إلى التوصلي والتعبدي ، لأنه يمكن اعتبارهما في التوصلي بحيث لم يسقط عن المكلّف لو صدر من غيره بلا تأثير منه ولو تسبيبا ، أو من دون المباشرة ولكن لم يسقط عنه لو أتى بالتسبيب أو بمباشرة غيره ، بل يتوقف على المباشرة ولو بلا قصد القربة ، كما لو آجر لبعض الأعمال كذلك ، وكأداء بعض الحقوق الواجبة القائمة بالشخص ، ويمكن عدم اعتبارهما ولو في التعبّدي كما في تجهيز الميت ، حيث لا تعتبر فيه الإضافة إلى شخص المخاطب ، وكالزكاة حيث لا تعتبر فيه المباشرة ، ولا الإضافة أيضا ، ولذا يتصدى الحاكم عن الممتنع ، وأما تقسيمه إلى ما اعتبر فيه الاختيار وغيره فلا يجري في العبادة ، لعدم تحقق العبادة بلا اختيار ، وكذا قصد العنوان إلّا إذا تمشي منه قصد القربة بدونه ، كمن قصد عنوانا آخر غير المأمور به ، لكن بنحو لا تكون الخصوصية بما هي موردا للقصد ، ويرجع ذلك أيضا إلى كفاية القصد الإجمالي لا عدم القصد أصلا.

فيه مطلقا ، أو يفصل بين تلك الوجوه؟ وعلى تقدير عدم الظهور ، الأصل ما ذا؟.

فنقول وبالله الاستعانة : القيد على ضربين (الأول) ما يحتاج إليه الطلب بحكم العقل (الثاني) غيره ، والأول إما أن يكون مذكورا في القضية أولا ، أما ما كان من هذا القبيل ولم يذكر في القضية ، فالظاهر أن المطلوب غير مقيد بالنسبة إليه ، ولذا نفهم من دليل وجوب الصلاة أنها مطلوبة حتى من النائم الّذي لا يقدر عليها. ومن هنا يقال بوجوب القضاء ، مع انه تابع لصدق الفوت الّذي لا يصدق إلّا مع بقاء المقتضى في حقه. والدليل على ذلك أن الآمر المتصدي لبيان غرضه لا بد ان يبين جميع ما له دخل فيه (٩١) فليستكشف إذا من عدم التنبيه عليه عدم دخله في غرضه ، وان كان له دخل في تعلق الطلب مثل القدرة ، فعلى هذا

______________________________________________________

(٩١) هذا تمسك بإطلاق المادّة وعدم تقييدها لإثبات مطلوبية الطبيعة حتى من العاجز والنائم ، لكن لا يخفى انه يتوقف على إثبات قابلية الهيئة في مقام الثبوت ، لشمول مثل العاجز والنائم ، حتى يستدل بعدم تقييد المادة لإثبات الحكم لجميع حالات المادة ، واما مع عدم القابلية فلا مجال للتمسك المذكور ، لأن مقام الإثبات فرع للثبوت.

بيان ذلك : أن الهيئة تارة تستعمل في الطلب الحيثي وبيان مطلوبية الفعل من قبل الآمر ، مع قطع النّظر عن الأمور التي يشترطها العقل في تنجّز الخطاب ، وأخرى تستعمل في الطلب الفعلي من جميع الجهات حتى الجهات الراجعة إلى العقل ، بحيث لم تبق ـ بعد مثل هذا الأمر للانبعاث والامتثال ـ حالة منتظرة ، فان كانت من قبيل الأولى فلا مانع من شمولها لمثل العاجز ، لأن المولى ليس إلّا بصدد بيان الجهات الراجعة إلى نفسه مع قطع النّظر عن العجز وأمثاله ، ولا مانع عقلا من كون الفعل مطلوبا بهذا المعنى من العاجز ، فمع تمامية المقدمات نستكشف من عدم تقييد المادة كونها مطلوبة كذلك في جميع الأحوال ، ومع عدم التمامية نحكم بالإهمال والإجمال ، ومقتضى تلك المطلوبية لزوم الامتثال بعد فعليّة الطلب وتمامية الجهات العقلية ، وعدم اللزوم عند

نقول : قوله (أنقذ الغريق) مثلا يستكشف منه ان الإنقاذ في كل فرد مطلوب له ، حتى فيما إذا وجد غريقان ولم يقدر على إنقاذهما. هذا حال القيود التي يتوقف عليها حسن الطلب ولم تذكر في القضية. واما إذا ذكر مثل تلك القيود فيها ، كما إذا قال (اضرب زيدا ان قدرت عليه) فالظاهر إجمال المادة به (٩٢). من حيث ان ذكر هذا القيد يمكن ان يكون لتقييد المطلوب ، وان يكون لتوقف الطلب عليه ، فلا يحكم بتقييد

______________________________________________________

عدم التمامية ، وأما ان كانت من قبيل الثاني فلا يمكن شمولها للعاجز عقلا ، لأنه يرجع إلى التكليف بالمحال ومع ذلك كيف يمكن استكشاف المطلوبية بهذا المعنى حتى من المعاجز.

والمطلوبية بالمعنى الأول وان كانت ممكنة ، لكن الهيئة لم تكن في مقام بيانها بالفرض ومعلوم أن إطلاق المادة لا يثبت إلّا شمول الحكم المجعول في القضية لحالات الموضوع ، ولا يثبت به ما هو غير مجعول بالهيئة كما في المقام ، فحقيقة الإطلاق في الهيئة كان أو في المادة عبارة عن شمول الحكم ، إلّا انه اصطلح لعدم التقييد بتقييد المادة بإطلاق المادة في قبال عدم تقييد الحكم بتقييد الهيئة كالقضايا المشروطة.

فثبت ان التمسك بإطلاق المادة على المطلوبية المطلقة يتوقف على إثبات كون المجعول في القضية من قبيل الأول ، ولا يبعد دعوى ظهور الأوامر ـ المجعولة في مقام جعل القوانين الكلية المجردة عن ذكر القيود العقلية ـ في أن الآمر ليس إلّا بصدد بيان الأمور الراجعة إلى نفسه لا جميع الجهات ، وان كان الأمر في القضايا الشخصية ظاهرا في الفعلية ، وذلك لكثرة اختلاف حالات المكلفين في الأوامر الكلية بالنسبة إلى الأمور الراجعة إلى العقل ، مع ظهور توجّه الخطاب الحيثي إلى شخص إلى عامة المكلّفين ، وأما الشخصية فللغوية توجه الخطاب مع العلم بعدم قدرته. والحاصل : انه مع إحراز إمكان الشمول بأي نحو كان يمكن التمسك بإطلاق المادة وإلّا فلا.

(٩٢) وذلك لأنه ان كان الآمر بصدد جعل الحكم الحيثي ، فالقيد المذكور راجع إلى المادة ، لعدم احتياج الهيئة إليه ، وان كان بصدد الحكم الفعلي فالهيئة لا محالة محتاجة إليه ، سواء كان دخيلا في المادة أيضا أم لا ، وقد مرّ الكلام في عدم جواز

المطلوب ولا بإطلاقه ، بل يعمل فيه بمقتضى الأصول العملية. وأما إذا كان القيد مما لا يتوقف حسن الطلب عليه ، كتقييد الرقبة المأمور بعتقها بالمؤمنة ونظائره ، فلا إشكال في انه متى لم يذكر في الكلام نتمسك

______________________________________________________

التمسك بإطلاق المادة على هذا التقدير في الحاشية السابقة ، ولا ظهور في المقام لتعيين الحيثي ، لأن ما ذكرنا من ان الأوامر الكلية ظاهرة فيها مختص بما إذا لم يذكر القيد واما معه فلا ظهور ، ولا يتوهم أن إرجاع القيد إلى الهيئة يستلزم إرشادية الحكم ، وهو خلاف ظاهر حال المولى الّذي هو بصدد جعل الحكم ، لأن الإرشادية فرع لثبوت حكم العقل قبل حكم الشرع. والمفروض عدمه ، بل الأمر دائر بين حكمين مولويين أحدهما موضوع لحكم العقل بلزوم القيد المذكور ولا ظهور في المقام لتعيين أحدهما ، ومن هنا يعلم دفع توهم ان ظاهر القيد الاحتراز ، لأنه أيضا فيما أمكن الاحتراز مع كون الحكم في القضية معلوما ، واما لتعيين الحكم المجعول فلا ظهور له.

ثم لا يخفى : ان العلم كالقدرة في عدم إمكان فعلية التكليف مع عدمه ، لكن لا يمكن تقييد التكليف به من الشارع ، فلذا اشتهر أنه من شرائط التنجّز ، وفي الغالب تكون القدرة أيضا قيدا للتنجز واستحقاق العقاب ، كالعلم وساير الشرائط العقلية ، وليس للحكم الشرعي بالنسبة إليها إطلاق ولا تقييد ، فيكون حال العلم في جميع القضايا كحال سائر الشرائط في الغالب.

وكيف كان فلا خطاب فعلى مع انتفاء كل منها ، ولذا لا منافاة بين ذلك الحكم وبين الأحكام المجعولة عند انتفاء أحد الشروط المذكورة من غير فرق بين انتفاء القدرة والعلم ، الا في عدم إمكان تقييد الحكم الأولى في العلم وإمكانه في غيره ، والمقصود من الفعلية التي قلنا بانتفائها عند فقد الشرائط العقلية هي الفعلية من جميع الجهات ، حتى الجهات الراجعة إلى العقل ، بحيث لم يبق عقيب الأمر حالة منتظرة للانبعاث والتحرك ، لا ما يقابل الحكم الإنشائي ، فانه بهذا المعنى فعلى حتى عند الفقدان ، فيصح ان يقال ان العاجز كالجاهل له حكم فعلي معذور في تركه ، الا فيما كان مقيدا كما إذا أنشأ الحكم الفعلي من جميع الجهات ، فيخرج العاجز عن تحت الحكم دون الجاهل ، فيمتاز العلم عن ساير الشرائط في خصوص تلك الجهة.

بإطلاقه ، ونحكم بعدم دخله ان وجدت هناك شرائط الأخذ بالإطلاق ، وإلّا فبمقتضى الأصول ، كما انه لا إشكال في انه متى ذكر في القضية ، فالظاهر ان له دخلا في المطلوب ، إلا إذا استظهر من الخارج إلغاؤه.

إذا عرفت هذا فنقول : إن شككنا في اعتبار إضافة الفعل إلى المأمور (٩٣) ، فان كان اللفظ مفيدا لهذا القيد ، فنحكم باعتباره في المطلوب ، لأنه ليس مما يتوقف عليه الطلب ، لأنه من الممكن ان يأمر بتحقق هذا الفعل على سبيل الإطلاق ، بان يقول : أريد منك تحقق هذا الفعل مطلقا ، سواء توجده بنفسك ، أو تبعث غيرك عليه فلو قال : اضرب زيدا مثلا الظاهر في أن المطلوب الضرب المضاف إلى المأمور ، فاللازم بمقتضى هذا الظهور الحكم بتقييد المطلوب ، وأن الغرض لا يحصل بضرب غيره إياه ، إلا ان يستظهر من الخارج عدم دخل هذه الإضافة في الغرض ، مثل أن يكون الغالب في أوامر الشارع عدم اعتبار الإضافة

______________________________________________________

(٩٣) الظاهر أن حال القيد المذكور في إمكان تعلق التكليف بدونه وعدم إمكانه حال الاختيار ، لعدم إمكان تعلق التكليف بخصوص الفعل الصادر من غير إضافة إلى المأمور به ، فعلى القول بسراية التكليف إلى الافراد ذكر القيد يوجب الإجمال ، لحكم العقل باحتياج الطلب إليه ، وقد مرّ التفصيل فيه ، واما على القول بعدم السراية فيؤخذ بالقيد من دون إجمال ، لكفاية وجود فرد يحسن الخطاب إليه في توجه الخطاب إلى الطبيعة من دون تقييد ـ كما يأتي في المتن ـ وأما ما ذكر من المثال لصحة الإطلاق فهو مثال لإلغاء قيد المباشرة لا الإضافة ، فلا يخفى ، نعم لو لم يكن ظهور في البين يكون حكم الشك في اعتبار الإضافة حكم الشك في اعتبار المباشرة في عدم جواز التمسك بالبراءة ، لأن توجه الخطاب عند العقل حجة عقلية توجب صحة المؤاخذة على تقدير مطلوبية الإضافة واقعا ـ وقد مرّ نظيره في الشك في التعيين والتخيير ـ دون حكم الشك في اعتبار الاختيار ، حيث ان الحكم فيه بالبراءة كما سيجيء.

المذكورة ، كما ادعى أو ان يكون الغالب في الأوامر العرفية عدم اعتبارها (٩٤) ولم يتحقق في الأوامر الشرعية ما يوهن الغلبة العرفية.

واما الاختيار وقصد العنوان ، فملخص الكلام فيهما أنه لا إشكال في عدم إمكان تعلق التكليف بخصوص الفعل الصادر من غير اختيار المكلف ، ولا بخصوص ما لم يكن عنوانه مقصودا ، ولو كان ملتفتا إليه أما الأول فواضح وأما الثاني فلعدم إمكان بعث الآمر إلى غير العنوان المطلوب (٩٥) ، وهذا واضح بعد أدنى تأمل فانحصر الفعل القابل لتعلق التكليف في الاختياري الّذي قصد عنوانه ، فحينئذ إن قلنا بان التكاليف المتعلقة بالطبيعة تسرى إلى افرادها وقد عرفت أن الفرد القابل للحكم منحصر في الأخير ، فالقيدان المذكوران ـ أعني الاختيارية وقصد العنوان ـ من القيود التي يحكم العقل باحتياج الطلب إليها. وقد عرفت حكمها.

وأما إن قلنا بعدم السراية كما هو التحقيق فيكفى في حسن الخطاب بنفس الطبيعة من دون تقييد وجود فرد لها يحسن الخطاب بالنسبة إليه. وعلى هذا فلو فرض تكليف متعلق بفعل مع قيد صدوره عن اختيار المكلف ، أو مع قصد العنوان ، يستكشف به تقييد الغرض ،

______________________________________________________

(٩٤) الغلبة المذكورة محل منع ، بل الظاهر أنهم يلومون من بادر إلى امتثال أمر توجّه إلى غيره بأنه لم فعلت وقد أمر غيرك؟ وذلك شاهد على اعتبار الإضافة عندهم ، إلّا إذا علم عدمه.

(٩٥) وذلك لأن الغرض من الأمر التحريك إلى المأمور به ، وهو لا يحصل إلّا بإحداث قصد إتيانه للمكلّف ، فلو قيد بعدم هذا القصد لكان مناقضا لأصل الأمر كما لو أخذ فيه عدم تحريك الأمر.

إذ هما من القيود التي يستغنى عنها الطلب عقلا ، فذكرهما في الكلام يدل على تقييد الغرض كما عرفت. نعم قدرة المكلف بالنسبة إلى أصل الطبيعة مما يحتاج إليه صحة الطلب عقلا ، فلو لم تذكر في القضية ، فإطلاق المادة بحاله (٩٦) وان ذكرت تكون موجبة لإجمالها كما عرفت.

واما الشك في ان الفعل هل يجب ان يؤتى به بمباشرة بدنه أو يجتزئ بإتيان النائب؟ فالكلام فيه في مقامين (أحدهما) في إمكان ذلك عقلا في الواجبات التعبدية التي يعتبر فيها تقرب الفاعل ، وانه كيف يمكن كون فعل الغير مقربا لآخر حتى يكون مجزيا عنه (ثانيهما) بعد الفراغ عن الإمكان في مقتضى القواعد من الأصول اللفظية والعملية.

______________________________________________________

(٩٦) لكن بشرط كون الحكم المجعول حيثيا حتى يمكن شمول الهيئة للعاجز ، ليستكشف بإطلاق المادة سريان الحكم إلى جميع الحالات ، كما مرّ تفصيله.

ثم إن هذا كله في مقام استكشاف الغرض من إطلاق أو تقييد ، واما مع الإجمال وعدم الكاشف ، فهل لا يجوز التمسك بالبراءة عند الشك في اعتبار الاختيارية وقصد العنوان ـ وإن قلنا بها في غير المقام ـ كما ذكرنا في الشك في اعتبار الإضافة أم لا خصوصية للمقام ، فمن يقول بالبراءة في غير المقام يحكم بها فيه؟ الظاهر الثاني ، لأن الذات معلوم الوجوب والقيد مشكوك فيه ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان كما في الشك في سائر القيود.

اللهم إلا أن يقال : بأن البراءة مختصة بما إذا كان الأمر بالجامع صالحا للتحريك على تقدير العلم تفصيلا حتى يقوم العلم الإجمالي مقامه ، فيقال : الجامع معلوم ولو إجمالا ، والقيد الزائد مشكوك فيه ، وأما مثل المقام مما لا صلاحية له للتحريك إلى غير المقدور والمقصود ، فلا تأثير للعلم بالجامع ، حتى يقال يجب علينا اتباع المعلوم دون المشكوك فيه. لكن الظاهر أن مناط البراءة كون العقاب على القيد عقابا بلا بيان ، فافهم.

أما الكلام في المقام الأول ، فنقول : ما يصلح أن يكون مانعا عقلا وجهان (أحدهما) انه ـ بعد فرض كون الفعل مطلوبا من المنوب عنه والأمر متوجها إليه ـ كيف يعقل ان يصير ذلك الأمر المتوجه إليه داعيا ومحركا للنائب مع انه قد لا يكون امر بالنسبة إلى المنوب عنه أيضا ، كما إذا كان ميتا (ثانيهما) أنه بعد فرض صدور الفعل من النائب بعنوان الأمر المتعلق بالمنوب عنه ، كيف يعقل ان يصير هذا الفعل مقربا له (٩٧) ، مع انه لم يحصل منه اختيار في إيجاد الفعل بوجه من الوجوه في بعض الموارد ، كما إذا كان ميتا. والفعل ما لم يتحقق من جهة الإرادة والاختيار لا يمكن عقلا أن يصير منشأ للقرب.

اما المانع الأول فيندفع بأن مباشرة الفاعل قد تكون لها خصوصيّة في غرض الآمر. وعليه لا يسقط الأمر بفعل الغير قطعا ، ولو لم يكن تعبديا وهذا واضح ، وقد لا يكون لها دخل في غرض الآمر. وهكذا الكلام في اختياره ، فلو فرضنا تعلق الأمر بمثل هذا الفعل الّذي ليست المباشرة والاختيار فيه قيد المطلوب ، فإمكان صيرورة الأمر المتعلق بمثل هذا الفعل داعيا لغير المأمور إليه بديهي ، لوضوح أنه بعد تعلق الأمر بهذا الفعل ـ الّذي لم يقيد حصول الغرض فيه بأحد القيدين المذكورين ـ لا مانع

______________________________________________________

(٩٧) وهذا واضح لأن العقل يمنع استحقاق الشخص للمثوبة وصيرورته ذا وجاهة الا بعمل نفسه ، واما ما يتراءى من مثوبة الابن لأجل أبيه فليس من استحقاق نفسه ، بل من استحقاق أبيه.

ثم ان هذا مختص بالقرب عن استحقاق ، وأما مثل المحبة إلى الأشياء النفيسة أو المحبة الحاصلة تكوينا بين شخصين من الرءوف الرحيم كالولد والوالدين أو غيرهما فهو خارج عن محل الكلام كما لا يخفى.

من صيرورة الأمر المتعلق به محركا للغير لإيجاد ذلك الفعل ، مراعاة لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتبة على ذلك الأمر : من العقاب والبعد عن ساحة المولى. وهذا واضح ومنه يظهر عدم الإشكال فيما إذا لم يكن امر في البين ، كما في النيابة عن الميت ، ضرورة إمكان فعل ذلك لحصول أغراض المولى المترتبة على الفعل ، ليستريح الميت من العقاب المترتب على فوتها وهذا لا إشكال فيه.

انما الإشكال في المانع الثاني ، وهو صيرورة هذا الفعل مقربا للغير عقلا ، إذ لو لم يكن كذلك لم يسقط غرض الآمر ، فلم يسقط عنه العقاب. وهذا الإشكال يسرى في المقام الأول أيضا إذ بعد ما لم يكن فعله مقربا للغير ولم يسقط غرض الآمر عنه ، لا يعقل كون مراعاته سببا لإيجاد ذلك الفعل.

ويمكن التفصي عنه بأن يقال إنه بعد فرض انحصار جهة الإشكال في حصول القرب يكفى في حصوله رضا المنوب عنه بحصول الفعل من النائب ، كما انه قد يؤيد ذلك ببعض الاخبار الواردة في (أن من رضي بعمل قوم أشرك معهم (١) وهذا المقدار من القرب يكفى في عبادية العبادة ، بل يمكن أن يقال بعدم الفرق عقلا بين الفعل الصادر من الإنسان بنفسه ، وبين الصادر من نائبه في حصول القرب ، لأنه بعد حصول هذا الفعل من النائب لا بد وان يكون المنوب عنه ممنونا منه ومتواضعا له ، من جهة استخلاصه من تبعات الأمر المتعلق به وهذه الممنونية تصير منشأ لقربه عند المولى ، لأن أمره صار سببا لها.

وفيه ان الرضا والممنونية يتفرعان على كون الفعل الصادر من النائب مقربا له ، إذ لولاه لم يكن وجه لهما ، ولو توقف القرب عليهما لزم

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأمر والنهي ، ج ١١ ، ص ٤٠٨.

الدور (٩٨).

ويمكن ان يقال ان للقرب مراتب باختلاف الجهات الداعية للمكلف ، أدناها إتيان الفعل بداعي الفرار من العقاب ، مثل أن يكون حال العبد بحيث لو علم بعدم العقاب لم يأت بالفعل أصلا ، فإتيانه به خوفا من المولى مقرب له عند العقل ، كما أنا نرى الفرق عند العقلاء بين هذا العبد وبين العبد الّذي لم يكن خوف مؤاخذة المولى مؤثرا فيه ، وهذا المقدار من القرب ـ أعنى كون العبد بحيث يكون له جهة امتياز بالنسبة إلى غيره في الجملة ـ يكفى في العبادة. ونظير هذا المعنى موجود في المقام ، إذ لو فرضنا عبدين أحدهما لم يأت بالمأمور به بنفسه ولا أحد بدله ، والثاني لم يأت به ، ولكن أتى به نائبه ، نرى بالوجدان أن حالهما ليس على حد سواء عند المولى (٩٩) ، بل للثاني عنده جهة خصوصية ليست للأول ، وان لم يصل إلى مرتبة من أتى بالمأمور به بنفسه.

فنقول : هذه المرتبة الحاصلة له بفعل الغير تكفي في العبادة ،

______________________________________________________

(٩٨) لا يخفى ان الرضا والامتنان بشيء لا يتوقف على العلم بالفائدة مع قطع النّظر عنهما ، بل يكفي العلم بتحققها ولو بهما في تحققهما ، وذلك مثل قصد القربة بالفعل ، فانه لو توقف على العلم بحصول القرب مع قطع النّظر عن القصد يلزم الدور ، نعم يرد عليه ان العبادة ما يوجب نفسه القرب ولا يكفي القرب الحاصل من الرضا في العبادية ، فان القرب الحاصل بالرضا لو قلنا بتأثير الرضا في النشأة الآخرة غير الحاصل من العمل ، والمفروض ان العمل غير مقرب حتى بعد الرضا ، ولذا وقع في كلفة الجواب.

(٩٩) لا يخفى ما في هذا الجواب من المصادرة ، لأن الامتياز عند المولى عين محل النزاع ، ومجرد الامتياز الخارجي لا يكفي ، وإلّا لصحت عبادة من يأتي بها بلا قصد ، لامتيازه في الخارج عمن لا يأتي بها أصلا.

ويمكن أن يقال : إن تقرب المنوب عنه بتسليمه للفعل المتلقى من النائب إلى الآمر بعنوان أنه مولى (١٠٠) ولا فرق في حصول القرب بين أن يسلمه إليه ابتداء ويسلمه إليه بعد أخذه من نائبه. هذا حاصل الوجوه التي أفادها سيدنا الأستاذ طاب ثراه ولكن لم تطمئن بها النّفس.

أقول : ويمكن أن يقال إن الأفعال على وجوه : (منها) ما لا يضاف الا إلى فاعله الحقيقي الصادر منه الفعل مباشرة كالأكل والشرب ونظائرهما. و (منها) ما يضاف إليه وإلى السبب أيضا : كالقتل والإتلاف والضرب ونظائرها و (منها) ما يضاف إلى الغير وان لم يكن فاعلا ولا سببا ، ومن ذلك العقود إذا صدرت عن رضا المالك ، بل ولو لم يكن عنه أيضا ابتداء إذا رضى بذلك بعده ، كما في الإجازة بناء على صيرورة العقد بها عقدا للمالك عرفا ، كما قيل.

ولعل الضابط كل فعل يتوقف تحقق عنوانه في الخارج على القصد ، وأوقعه واحد بقصد الغير ، وكان ذلك الفعل حقا لذلك الغير ابتداء مع رضاه بصدوره بدلا عنه ، فلو صحت هذه الإضافة العرفية وأمضاها الآمر ، فلا بد من ان يعامل هذا الفعل معاملة الفعل الصادر من شخصه (١٠١) كما هو واضح. (مثلا) لو فرضنا أن تعظيم زيد عمراً بدلا

______________________________________________________

(١٠٠) حصول القرب بسبب التسليم ليس إلّا كحصوله بالرضا. ويأتي فيه ما مضى فيه إيرادا وجوابا.

(١٠١) توضيح ذلك : ان القرب على قسمين : قسم منهما يحصل عن استحقاق العبد بالعمل بحيث يكون منع الثواب اللازم لهذه الدرجة ظلما وقبيحا ، كالعقاب مع الامتثال ، وهذا النحو من القرب أثر قهري للعمل لا ينفكّ عنه ، وبهذه الكيفية لا يترتب على غيره ، وقسم منهما يحصل بجعل الآمر ، وان لم يكن ـ مع قطع النّظر عن

.................................................................................................

______________________________________________________

جعله ـ مرتبا على العمل ، وهو من سنخ العفو والإحسان على العبد ، مثل العفو عن العقاب مع الاستحقاق وإعطاء الثواب تفضلا ، فان ذلك أيضا نحو من القرب ، لأن من كان بعيدا عن ساحة المولى بحيث يستحق العقاب فأكرمه تفضلا ورفع عنه العقاب وأعطاه الثواب ، فقد تقرب منه بعد ما كان بعيدا عنه ، وهذا النحو من القرب لا يتوقف على العمل أصلا ، فضلا عن عمل نفس العبد ، بل تابع لجعل المولى ، فقد يجعل التوبة رافعة للعقاب ، وقد يجعل بعض الحسنات مذهبا للسيئات ، وقد يتفضل على من يشاء ، فانه مبدل السيئات بالحسنات.

وعلى هذا فلا مانع من أن يقول : إذا أتى غيرك بهذا العمل أو من قبلك أرفع عنك العقاب وأعطيك ما كنت أعطيك لو كنت أتيت به ، والمفروض أنه لا مانع من ذلك عقلا ، فحينئذ لو دلّ دليل على كفاية عبادة النائب المتبرع أو الأجير ـ سواء عن تسبيب من المكلف أو بلا تسبيب منه أصلا ـ فلا مانع عقلا من الأخذ به ، ومعلوم انه مع عدم دليل لا يصح القول به ، وعلى هذا لا إشكال للعامل أن يقصد القربة للمنوب عنه ، لأنه بهذا المعنى تحصل القربة له.

واما الإشكال ـ بأن قصد القربة يتوقف على كون العمل قريبا ، مع قطع النّظر عن القربة ، وهو لا يكون قربيا إلّا بالقصد ـ فمندفع : بكفاية كونه قربيا ولو بالقصد في تحقق القصد ، كما في قصد القربة بالنسبة إلى عمل نفسه ، وحينئذ لو قصد القرب بهذا المعنى ، فلا يحتاج إلى رضا المنوب عنه أو تسليمه ، بل يكفيه إمضاء الشارع ، فلا يتوقف الا على الدليل.

ويمكن أن يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أن المسلّم في العبادة عدم تحققها بدون قصد القربة من رأس سواء صدرت من نفس المكلف أو ممن يعمل من قبله

وأما أن اللازم قصد القربة من الفاعل نائبا أو متبرعا لخصوص المكلف. وان الغى المباشرة وأتى به غيره فليس بإجماعي ، بل يمكن أن يكتفى فيها بقصد القربة من النائب لنفسه ، فيكون المطلوب من المكلّف هو الجامع بين فعله وفعل غيره ، ولم يطلب من الغير ، إما لمانع عن البعث إليه واما لعدم حق عليه في خصوص ذلك الأمر. وذلك مثل أداء الدين الثابت على زيد مثلا ، فانه وان لم يتوجه الا إليه لكن لم يؤخذ

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه قيد المباشرة ، ولذا يسقط بأداء الغير ، وعلى هذا لا يحتاج إلى قصد تقرب المنوب عنه ولا قصد النيابة وتنزيل النّفس منزلة المنوب عنه.

ولذا أفتى جمع بصحة الزكاة مع قصد القربة من الحاكم لنفسه ، إذا أدّى زكاة الممتنع ، من دون قصد تقرب الممتنع ، ولا تنزيل نفسه منزلته ، بل يسقط بأداء الغير من مال نفسه ، نظير ساير الديون من دون حاجة إلى شيء غير قصد أداء دين ذلك الغير ، فيمكن ان يكتفى فيها بقصد القربة من السبب في تسبيبه ، كما في تجهيز الميت على ما قيل ، فان دلّ دليل من عقل أو نقل على لزوم الأول جرى ما ذكر من الإشكال ، ولا محيص للجواب عنه إلّا بما ذكر ، وإلّا فلا يحتاج إلى قصد القربة للمنوب عنه حتى يلزم المحذور ، بل على الثالث لا يحتاج إلى قصد القربة من النائب أصلا ، ويصح صدوره من الكافر إلّا إذا كان إسلام المباشر شرطا في العمل كالطهارة من الخبث. نعم يمكن أن يستشكل في استئجار العبادة على الأولين ، حيث اشترط فيها كون الداعي خالصا في حصول القرب ، إما للفاعل أو للمنوب عنه وهو لا يجتمع مع قصد الأجرة. وأما تصحيحه بأن قصد الأجرة داع إلى قصد القرب بنحو الداعي على الداعي فليس بصحيح ، لأن اللازم في العبادة أن يكون الداعي الأول ـ وهو داعي الدواعي ـ حسنا ، فلا تصح صلاة من صلى ركعتين بقصد القربة وكان داعيه في ذلك تمكنه من الوصول إلى أحد المحرمات.

ولا يتوهم على ذلك بطلان عبادة من يأتي بها خوفا من النار وطمعا في الجنة ، لرجوعها إلى الدواعي النفسانيّة ، لأن الداعي في الحقيقة حب النّفس ، لأنه أيضا يرجع إلى كون نظر العبد إلى المولى ، وكون رجائه وخوفه منه ، وهو شيء مطلوب للمولى حسن عند العقل.

ويمكن أن يجاب عنه بأن أخذ الأجرة ان كان في نفسه راجحا ، كما إذا أراد صرفها في النفقة الواجبة أو المستحبة ، فلا إشكال ، لأن الداعي إلى الداعي أيضا حسن ، وأما في غيره فيمكن ان يؤجر نفسه ابتداء بداعي تملك مال الإجارة ، ثم بعد الإجارة يتوجه إليه الأمر بوجوب الوفاء بما التزم به في الإجارة ، فيقصد الوفاء بأمرها ، ولذا يأتي بالعبادة مع قصد القربة ، فيكون الداعي إلى داعيه أيضا راجحا.

عن بكر إذا كان عن رضا بكر ، وتقبل عمرو الّذي هو المعظم بالفتح ، يحسب تعظيما لبكر عنده ، فاللازم عليه أن يرتب على هذا التعظيم أثر التعظيم الصادر من شخص بكر ، فلو فرضنا حصول القرب من هذا الفعل للمعظم بالكسر عند المعظم بالفتح ، فاللازم حصوله للمنوب عنه. هذا ما أمكن لي من التصور في المقام ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لا إشكال في ان مقتضى القواعد عدم الاكتفاء بالفعل الصادر عن الغير في الاجزاء ، لأن الظاهر من الأمر المتوجه إلى المكلف إرادة خصوص الفعل

______________________________________________________

ثم ان هذا كله في مقام الثبوت وتصوير الوجوه الممكنة في تصوير القربة بعد إلغاء قيد المباشرة ، وأما في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلة فيمكن استظهار الثاني من رواية الخثعمية ، حيث شبّه الحج ـ. فيها بعد إلغاء قيد المباشرة وطرو العجز ـ بدين الناس ، وحكم بأنه أحق ان يقضى ، ومن عامة أدلة صحة عبادة المتبرع أو الولي عن الميت ، مع عدم ذكر تنزيل النّفس منزلة الميت ولا قصد تقرب المنوب عنه ، بادعاء ان المرتكز في أذهان المتشرعة عدم تنزيل نفوسهم منزلة الميت ، ولا قصد تقربه ، بل لا يقصدون إلّا الإتيان بعمل الميت.

ثم انا إن استظهرنا من الأدلة لزوم قصد القربة بأحد الأنحاء المذكورة فهو ، وإلّا فهل الأصل في المقام الاحتياط بأن يجمع بين قصد تقرب المنوب عنه والفاعل ، وكذا السبب في تسبيبه يقصد القرب للمنوب عنه ونفسه ، أو البراءة بمعنى كفاية أي نحو من أنحاء القصد حصل؟ الظاهر هو الثاني لأن احتياج العبادة المذكورة ـ بعد إلغاء قيد المباشرة ـ إلى قصد التقرب معلوم ، والخصوصية الزائدة مشكوك فيها ، فالعقاب عليها عقاب بلا بيان.

لا يقال : إن الشك شك في سقوط الدين ، والعقل يحكم بالاشتغال في مثله.

لأنه يقال : نعم ، ان الشك فيه مسبّب. لو لا كون الدين مرددا بين الأقل والأكثر ، كما في المقام فتأمل.

الصادر منه (١٠٢) ، نعم لو دل دليل من الخارج على الاكتفاء بما يصدر من النائب ، وانه عند الآمر بمنزلة ما يصدر عن نفسه ، نأخذ به وإلّا فلا.

(الأمر الثاني)

(في التعبدي والتوصلي)

لا إشكال في ان الواجب في الشريعة على قسمين : تعبدي وتوصلي ، ولو شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا فهل يحمل على الأول أو الثاني؟

وتوضيح المقام يتوقف على تصور الواجبات التعبدية وشرح حقيقتها ، حتى يتضح الحال في صورة الشك ، فنقول وبالله الاستعانة : أنه قد اشتهر في ألسنة العلماء انها عبارة عما يعتبر فيه إتيانه بقصد إطاعة الأمر المتوجه إليه. وأورد على ذلك بلزوم الدور ، فان

______________________________________________________

(١٠٢) هذا الظاهر مما لا ينكر ، وحيث أن المباشرة ليست من قيود الطلب عقلا ، فلا يوجب ذكرها الإجمال ، بل يوجب تقييد المادة نعم لو احتمل سقوط الأمر بإتيان الغير من دون إضافة للمكلف أصلا ، فبيان دخل أصل الإضافة يوجب الإجمال. وقد مر تفصيله في اعتبار الإضافة فراجع.

ثم إنه لو فرض عدم الدليل ، فهل العقل يحكم بالبراءة عند الشك في اعتبار المباشرة أو الاشتغال؟ الظاهر هو عدم جريان البراءة فيه ، لما مر ـ في الشك في اعتبار الإضافة ـ من أن توجه الأمر إلى المكلف حجة عقلية يصح الاحتجاج به عند الشك ، وإن لم يكن كاشفا عن المراد. وليس احتمال كفاية فعل الغير كاحتمال كفاية الفعل الصادر من نفسه بلا اختيار ولا قصد العنوان ، حيث لا حجة للثاني ، فتجري البراءة بخلاف الأول ، وقد مرّت الإشارة إليه في ما تقدم.

الموضوع مقدم على الحكم رتبة ، لأنه معروض له. ولا إشكال في تقدمه على العرض بحسب الرتبة. وهذا الموضوع يتوقف على الأمر ، لما أخذ فيه من خصوصية وقوعه بداعي الأمر التي لا تتحقق الا بعد الأمر ، فالامر يتوقف على الموضوع لكونه عرضا له ، والموضوع يتوقف على الأمر لأنه لا يتحقق بدونه.

وفيه ان توقف الموضوع على الأمر فيما نحن فيه مسلم لكونه مقيدا به ، والمقيد لا يتحقق في الخارج بدون القيد. وأما توقف الأمر على الموضوع ، فان أردت توقفه عليه في الخارج فهو باطل ، ضرورة ان الأمر لا يتعلق بالموضوع الا قبل الوجود. وأما بعده فيستحيل تعلقه به ، لامتناع طلب الحاصل. وإن أردت توقفه عليه تصورا فمسلم ولكن لا يلزم الدور أصلا ، فان غاية الأمر أن الموضوع هنا بحسب وجوده الخارجي يتوقف على الأمر والأمر يتوقف على الوجود الذهني له (١٠٣).

وقد يقرر الدور بأن القدرة على الموضوع الّذي اعتبر وقوعه بداعي الأمر لا يتحقق إلّا بعد الأمر ، والأمر لا يتعلق بشيء الا بعد تحقق القدرة ، فتوقف الأمر على القدرة بالبداهة العقلية ، وتوقف القدرة على الأمر بالفرض.

______________________________________________________

في التعبدي والتوصلي :

(١٠٣) وذلك واضح ، لأن الإرادة المتعلقة بالافعال مثل الطلب العارض للافعال ، من قبيل عوارض الوجود كالحرارة والبرودة والبياض والسواد وأمثال ذلك العارضة للأجسام بحيث يتوقف وجودها في الخارج على وجود المراد في الخارج ، لأن إرادة الفعل ـ كما مر ـ عبارة عن الشوق المؤكد بإيجاده في الخارج ، أو تجمع النّفس به ، ومعلوم انهما لا يتحققان إلّا قبل وجود الفعل ، فانه بعد التحقق لا يعقل إرادة الإيجاد

وفيه ان الممتنع بحكم العقل تعلق الأمر بشيء يعجز عن إتيانه في وقت الامتثال وأما انه يجب أن تكون القدرة سابقة على الأمر حتى يصح الأمر فلا ، ضرورة أنه لا يمتنع عند العقل أن يحكم المولى بشيء يعجز عنه المأمور في مرتبة الحكم (١٠٤). ولكن تحصل له القدرة عليه بنفس ذلك الحكم ، فحينئذ نقول : إن توقف القدرة على الأمر مسلم واما توقف

______________________________________________________

إذ هو ليس إلّا طلب الحاصل ، فلا مورد لتنظيره بالشدة للضرب المنتفية بانتفائه ، ففي الحقيقة يشترط في تحقق الإرادة عدم وجود المراد في الخارج ، لكن لا بنحو يكون العدم قيدا للمراد ، بل تتحقق الإرادة في حال عدم المراد أيضا ولا يكون من قبيل عوارض الماهية كالزوجية للأربعة ، بحيث لا ينفك عنها في جميع العوالم ، حيث أنها زوج في عالم التقرر والذهن والخارج ، فان الانفكاك الخارجي قد مر بيانه ، وفي عالم التقرر ليست الصلاة محكومة بحكم أصلا لا الوجوب ولا عدمه ، بل الإرادة عارضة للوجود الذهني للافعال ، لكن لا بما هو وجود تصوري ، بل بما هو حاك عن الخارج ، كالكلية العارضة للإنسان.

فتحصل : ان موضوع الأمر هو الوجود التصوري لا الخارجي ، فلا دور من هذه الجهة ، انما الكلام في ان دخل قصد الأمر في الموضوع لا يمكن إلّا بعد فرض وجود الأمر ، وتحقّقه في الخارج عند لحاظ الموضوع ، وفي حال لحاظ وجود الأمر الخارجي لا يمكن إيجاده ، لأن إيجاد الشيء يلازم بل يتوقف على لحاظه معدوما فيوجده ، فلا يتصور الموضوع الا في لحاظ لا يمكن جعل الحكم فيه ، إلّا ان يقال : ان الأمر المفروض الوجود ان كان شخص الأمر المجعول في القضية يلزم المحذور المذكور ، وأما إن كان طبيعة الأمر فلا ، لعدم الملازمة بين لحاظ وجود الطبيعة وعدم لحاظ وجود شخص الأمر المجعول كما هو واضح.

(١٠٤) وذلك لأن القدرة لم تكن دخيلة في الموضوع ، حتى يلزم من تأخرها عن الأمر رتبة تأخر الموضوع عن الحكم ، بل العقل يحكم بقبح العقاب على ما لا يطاق ، ويكفي في رفع القبح تحقق القدرة حين العمل وان كان بنفس الأمر.

الأمر على القدرة بمعنى لزوم كونها قبله رتبة فلا ، لما عرفت من جواز حصولها بنفس الأمر. وهاهنا كذلك ، لأنه بنفس الأمر تحصل القدرة على إتيان الفعل بداعيه.

وقد يقال ان الأمر بإتيان الفعل بداعي الأمر وان لم يكن مستلزما للدور ، إلّا انه مستحيل من جهة عدم قدرة المكلف على إيجاد هذا المقيد أصلا ، حتى بعد الأمر بذلك المقيد ، فان القدرة ـ على إيجاد الصلاة بداعي الأمر بها مثلا ـ تتوقف على الأمر بذات الصلاة ، والأمر بها ـ مقيدة بكونها بداعي الأمر ـ ليس امرا بها مجردة عنه ، لأن الأمر بالمقيد ليس امرا بالمجرد عن القيد ، فالتمكن من إيجاد الفعل مقيدا بحصوله بداعي الأمر لا يحصل إلّا بعد تعلق الأمر بذات الفعل.

(وفيه) ان الأمر المتعلق بالمقيد ينسب إلى الطبيعة المهملة حقيقة ، لأنها تتحد مع المقيد ، فهذا الأمر ـ المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة المهملة ـ يوجب قدرة المكلف على إيجادها بداعيه (١٠٥) نعم لو أوجدها فيما هو مباين للمطلوب الأصلي ، لا يمكن ان يكون هذا الإيجاد

______________________________________________________

(١٠٥) لا يقال : ان الأمر المذكور وان كان نسب إلى المهملة لكن ليس مؤثرا في نفسه ومحركا لإيجاد المهملة ليصح جعله داعيا لها ، بل هو امر انتزاعي لا أثر له مستقلا.

لأنا نقول : ان لم يكن لهذا الأمر الانتزاعي أثر ، فكيف يحكم بالبراءة فيما دار الأمر بين المطلق والمقيد في غير المقام؟ وهل مبنى البراءة فيه أن الأمر بالمهملة معلوم والقيد مشكوك فيه؟ فلو كان الأمر بالمهملة غير مؤثر لاستشكل بأن ما هو المعلوم غير مؤثر والمؤثر مردد فيجب الاحتياط.

لا يقال : نعم لو لم يعلم القيد فالمعلوم مؤثر ، لأنه بعد الجهل بالقيد يكون بمنزلة المطلق ، لأن المناط في التأثير عند العقل هو المقدار المعلوم ، والمفروض ان المقدار المعلوم

بداعي ذلك الأمر ، كما لو أمر بعتق رقبة مؤمنة ، فأعتق رقبة كافرة ، لأن الموجود في الخارج ليس تمام المطلوب ، بل يشتمل على جزء عقلي منه. أما لو لم ينقص الفعل المأتي به بداعي الأمر بالطبيعة المهملة عن حقيقة المطلوب الأصلي أصلا ـ كما في المقام ـ فلا مانع من بعث الأمر المنسوب إلى المهملة للمكلف.

ويمكن ان يقال ـ في وجه عدم إمكان أخذ التعبد بالأمر في موضوعه ـ ان الأمر وان كان توصليا يشترط فيه ان يصلح لأن يصير داعيا للمكلف نحو الفعل الّذي تعلق به ، لأنه ليس إلّا إيجاد الداعي للمكلف ، والأمر المتعلق بالفعل بداعي الأمر لا يمكن ان يكون داعيا للمكلف إلى إيجاد متعلقه ، لأنه اعتبر في متعلقه كونه بداعي الأمر ، ولا يمكن ان يكون الأمر محركا إلى محركية نفسه (١٠٦) فافهم هذا ان قلنا بان العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الأمر.

______________________________________________________

ليس المهملة ، واما مع العلم بالقيد فلا أثر للأمر بالمهملة ، ولذا لا يجب امتثاله عند العجز عن القيد.

لأنه يقال : نعم لو لم يكن إتيان المهملة ملازما للقيد ، فالامر بها لا يؤثر في إتيان المهملة منفكا عن القيد ، وأما مع الملازمة فذلك الأمر موضوع لوجوب الامتثال في حكم العقل ، بل لا يمكن الإتيان بالقيد والمقيد إلّا بذلك.

والحاصل : ان القول ـ بالبراءة فيما ذكر ـ يلازم إمكان قصد القربة في المقام ، نعم على القول بالاشتغال هناك لا محيص عن الإشكال.

(١٠٦) لا يخفى أن محركية ما ليس بمحرك ذاتا وان كانت غير قابلة للجعل ، كالعلية على ما مر في الوضع ، لكن لا مانع من إيجاد ما هو المحرك ذاتا والمتحد عنوانا مع محركية ما ليس بمحرك ، فيستنتج منه جعل المحركية.

بيان ذلك : ان المحرك الذاتي ـ في الأفعال والتروك الموجودة فيها المصالح

ويمكن ان يقال : إن المعتبر فيها ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب القرب عند المولى ، وهذا لا يتوقف على الأمر. (بيان ذلك) : أن الفعل الواقع في الخارج على قسمين (أحدهما) ما ليس للقصد دخل في تحققه ، بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه (ثانيهما) ما يكون قوامه في الخارج بالقصد ، كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. وأيضا لا إشكال في ان تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له ، وكذا شكره ومدحه بما يليق به ، حسن عقلا ، ومقرب بالذات ، ولا يحتاج في تحقق القرب إلى وجود امر بهذه العناوين. نعم قد يشك في أن التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيل كون عمل خاص تعظيما له ، أو ان القول الكذائي مدح له. والواقع ليس كذلك ، بل هذا الّذي يعتقده تعظيما توهين له ،

______________________________________________________

والمفاسد بعد العلم بها ، وجعل الأمر داعيا للفعل ـ أيضا فعل من الأفعال ، فان علم الإنسان أن فيه مصلحة ملزمة وفي تركه مفسدة لازمة الدفع فهذه المصلحة عند العلم بها محرك ذاتي وكذا المفسدة. ومعلوم انه ما لم يجعل تحت الأمر ليس فيه مصلحة ولا في تركه مفسدة ، واما لو جعل تحت الأمر ففي تركه العقاب وفي فعله الثواب ، لأنه مصداق لامتثال الواجب. والعلم بهما محرك ذاتي ، مثلا لو كان امر الوالد بلا مصلحة ذاتية تصلح للمحركية ، فأمر الشارع بوجوب إطاعته ووجوب جعل امره محركا في ما امر وعلم به المكلف ، علم أن في امتثال أمر الوالد مصلحة وفي تركه مفسدة ، لأنه مصداق لامتثال أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ ولا نتيجة في جعل المحركية الا ذلك.

ان قلت : نعم هذا إذا جعلت المحركية تحت امر آخر ، والكلام في جعل المحركية بنفس هذا الأمر.

قلت : نرجع إلى الإشكال الأول ، من عدم إمكان أخذ جعل الحكم في موضوع نفسه ، ويمكن تصحيحه بالقضية الطبيعية ، بأن يقال تجب الصلاة مثلا بقصد طبيعة الأمر ، فمحركية الطبيعة موضوع للأمر المذكور ، لا محركية نفسه حتى يلزم المحذور.

وهذا الّذي اعتقده مدحا ذم بالنسبة إلى مقامه.

إذا تمهد هذا فنقول : لا إشكال في أن ذوات الأفعال والأقوال الصلاتية مثلا من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا ، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبة للآمر ، غاية الأمر ان الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك أن صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عزّ شأنه ، ويكون التفاته موقوفا على إعلام الله سبحانه ، فلو فرض تمامية العقل واحتواؤه بجميع الخصوصيات والجهات ، لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.

والحاصل ان العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثناؤه بما يستحق ويليق به ، ومن الواضح ان محققات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد ، فقد يكون تعظيم شخص بان يسلم عليه ، وقد يكون بتقبيل يده ، وقد يكون بالحضور في مجلسه ، وقد يكون بمجرد اذنه بان يحضر في مجلسك أو يجلس عندك ، إلى غير ذلك من الاختلافات الناشئة عن خصوصيات المعظم بالكسر والمعظم بالفتح. ولما كان المكلف لا طريق له إلى استكشاف ان المناسب لمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه تعالى ، لا بد ان يعلمه ، وإلّا لم يتحقق به تعظيمه ، ثم يأمره به. وليس هذا المعنى مما يتوقف تحققه على قصد الأمر ، حتى يلزم محذور الدور.

ويمكن أن يقال بوجه آخر ، وهو أن ذوات الأفعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة محبوبة عند المولى وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات ثلاث :

(الأولى) ان المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي امر المولى ، بحيث يكون الفعل مستندا إلى خصوص امره وهذا معنى بسيط يتحقق في الخارج بأمرين (أحدهما) جعل الأمر داعيا لنفسه (الثاني) صرف الدواعي النفسانيّة عن نفسه. ويمكن أن يكون المعتبر إتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر ، بحيث يكون المطلوب المركب منهما. والظاهر هو الثاني ، لأنه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.

(الثانية) أن الأمر الملحوظ فيه حال الغير (تارة) يكون للغير ، و (أخرى) يكون غيريا ، مثال الأول الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال ، فان الأمر متعلق بالغسل قبل الأمر بالصوم ، فليس هذا الأمر معلولا لأمر آخر ، إلّا أن الأمر به إنما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه (الثاني) الأوامر الغيرية المسببة من الأوامر المتعلقة بالعناوين المطلوبة نفسا.

(الثالثة) أنه لا إشكال في أن القدرة شرط في تعلق الأمر بالمكلف ، ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الأمر ولو رتبة ، أو يكفى حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير ، لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلف العبد بفعل يعلم بأنه يقدر عليه بنفس الأمر.

إذا عرفت هذا فنقول : الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة ـ وثبوت الداعي الإلهي الّذي يكون موردا للمصلحة الواقعية ـ وان لم يكن قابلا لتعلق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير ، للزوم الدور أما من دون ضم القيد الأخير ، فلا مانع منه.

لا يقال ان هذا الفعل ـ من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير ـ لا يكاد يتصف بالمطلوبية ، فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل

من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.

لأنا نقول : عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما لا يكون مطلوبا في حد ذاته ، بل يكون تعلق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير ، والفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة وان لم يكن تمام المطلوب النفسيّ مفهوما ، لكن لما لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر ، لعدم إمكان خلو الفاعل المختار عن كل داع يصح تعلق الطلب به (١٠٧) لأنه يتحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة ، كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان ، فانه لا شبهته في جواز الأمر بإكرام الناطق ، لأنه لا يوجد في الخارج الا متحدا مع الإنسان الّذي إكرامه مطلوب أصلي.

وكيف كان فهذا الأمر ليس امرا صوريا بل هو امر حقيقي وطلب واقعي لكون متعلقه متحدا في الخارج مع المطلوب الأصلي. نعم يبقى الإشكال في أن هذا الفعل ـ أعني الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانيّة ـ مما لا يقدر المكلف على إيجاده في مرتبة الأمر ، فكيف يتعلق

______________________________________________________

(١٠٧) ذكر الفاعل المختار لبيان ان المطلوب هو الفعل الاختياري المقيد بخلو الدواعي الراجعة إلى غير الله ـ تبارك وتعالى ـ فلا ينتقض بالغافل ، لأنه ان بلغ حدا يسلب عنه الاختيار فهو خارج عن محل الكلام وإلّا فلا محالة لا يخلو عن الداعي الإلهي أو غيره ، والفرق ـ بين تقييد المأمور به بخلوه عن الدواعي النفسانيّة والأمر بالذات بلا تقييدها بشيء ـ كما يأتي في المتن ـ مع كون الغرض فيهما أخص وكون الأمر فيهما للغير : ـ هو أن الأمر على الأول لا يسقط مع عدم قصد القربة لعدم تحقق المأمور به ، فلا يحتاج في إثبات بقائه إلى ان الغرض المحدث للأمر علة للبقاء أيضا حتى يرد عليه ما أورد عليه في المتن ، وأيضا : على الأول لا مانع من التمسك بالإطلاق عند الشك في التعبدية وتمامية المقدمات ، وأيضا : لا إشكال في جريان البراءة مع الإجمال ، لأن الشك في القيد الزائد.

الأمر به وقد عرفت جوابه في المقدمة الثالثة.

هذا وقد يقال في العبادات بان الأمر متوجه إلى ذات الفعل ، والغرض منه جعل المكلف قادرا على إيجاد الفعل بداعي الأمر الّذي يكون موردا للمصلحة في نفس الأمر. والعقل بعد التفاته إلى أخصية الغرض يحكم بلزوم الإطاعة على نحو يحصل به الغرض. أما توجه الأمر إلى ذات الفعل فلعدم إمكان أخذ حصوله بداعي الأمر في المطلوب من جهة لزوم الدور. وأما أن العقل يحكم بلزوم إتيان الفعل بداعي الأمر ، فلأنه ما لم يسقط الغرض لم يسقط الأمر ، لأن الغرض كما صار سببا لحدوثه كذلك يصير سببا لبقائه ، لأن البقاء لو لم يكن أخف مئونة من الحدوث فلا أقل من التساوي. والعقل حاكم بلزوم إسقاط الأمر المعلوم.

وفيه انه لا يعقل بقاء الأمر مع إتيان ما هو مطلوب به على ما هو عليه (١٠٨) لأن بقاء الأمر مع ذلك مستلزم لطلب الحاصل وهذا واضح

______________________________________________________

(١٠٨) وذلك لأن المأمور به بالفرض ليس إلّا الطبيعة بلا أخذ شيء فيها ، نعم هي لا تكون مطلوبة في نفسها بل امر بها لتمكن المكلف من إتيانها مع القيد ، وحينئذ ان كان بقاء الأمر بمعنى لزوم إتيان أصل الطبيعة من دون أخذ شيء فيها حتى الوجود الثاني منها ، فهو طلب للحاصل ، وان أخذ فيها ذلك فهو غير ما امر بها أولا ،

نعم يمكن تصحيح ذلك بتقريب يأتي تفصيله في المقدمة الموصلة ـ إن شاء الله تعالى ـ وإجماله في المقام أن الأمر بالذات لما لم يكن لنفسها ، بل يكون لمطلوب آخر ـ وهو الذات مع قصد القربة ـ لم تلاحظ الذات حين الأمر الا مقرونة بالقصد ، لا بنحو يكون قيدا للمأمور به ، بل لا ترى الذات محبوبة الا ملحوظة مع القصد ، فيكون للحال المذكور دخل في الحكم ، ولازم ذلك عدم سقوط الأمر إلّا بإتيان الذات بقصد الأمر ، لا لعدم حصول قيد المأمور به ، بل لعدم إطلاق للحكم يشمل غير الحالة المذكورة ، وهي مقارنته للقصد المذكور ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى.

بأدنى تأمل.

فالأولى ان يقال ـ في وجه حكم العقل بإتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض ـ ان الإتيان به على غير هذا لنحو وان كان يسقط الأمر إلّا ان الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث امرا آخر ، وهكذا ما دام الوقت الصالح لتحصيل ذلك الغرض باقيا ، فلو أتى بالفعل على نحو يحصل به الغرض فهو ، وإلّا يعاقب على تفويت الغرض.

لا يقال فوت الغرض الّذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشأ للعقاب ، (لأنا نقول) نعم لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله. وأما لو تصدى لتحصيله بالأمر ، ولكن لم يقدر على ان يأمر بتمام ما يكون محصلا لغرضه ، كما فيما نحن فيه ، والمكلف قادر على إيجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض الأصلي ، فلا إشكال في حكم العقل بلزوم إتيانه كذلك (١٠٩).

ومن هنا يعلم انه لا وجه للالتزام بأمرين أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيد بداعي الأمر ، لأن الثاني ليس إلّا لإلزام المكلف بالفعل المقيد ، وقد عرفت انه ملزم به بحكم العقل ، مضافا إلى ما أفاده في

______________________________________________________

(١٠٩) لا يخفى انه لو قلنا بلزوم مثل ذلك الغرض ، فلا وجه للالتزام بان الغرض يحدث أمرا آخر ، لأنه بعد ما علم أن الأمر بالذات نشأ عن غرض خاص ، يحكم العقل باستحقاق العقاب في ترك تحصيل الغرض ، فلا مناص من الأمر المولوي ثانيا.

لا يقال : نعم لكن لو أتى المكلف بالفعل بلا قصد ، فلا مناص عن الأمر ثانيا ، لإيجاد الداعي له ثانيا ، وتحصيل التمكن من إتيانه ، وإلّا فلا داعي للمكلف على إيجاده ثانيا ، ولا قدرة له.

لأنا نقول : أما قدرة المكلف فمحفوظة بعد بإمكان تبديل امتثال الأمر الأول ، فقد حقق في محله إمكانه وأما الداعي الملزم ، فالعلم بأنه لو لم يتبدل يستحق العقاب في ترك تحصيل الغرض اللازم الحصول ، مع التمكن من تحصيله فلا مناط للأمر ثانيا.

بطلانه شيخنا الأستاذ دام بقاؤه ، من ان القول به يوجب اما الالتزام بما قلنا من بقاء الأمر الأول ما لم يحصل غرض الآمر. وإما الالتزام بعدم وصول الآمر إلى غرضه الأصلي ، لأن المكلف لو أتى بذات الفعل من دون داعي الأمر لا يخلو اما ان نقول ببقاء الأمر الأول ، وإما أن نقول بسقوطه ، فعلى الأول فاللازم التزامك بما التزمنا ، وعليه لا يحتاج إلى الأمر الثاني ، وعلى الثاني يلزم سقوط الأمر الثاني أيضا ، لارتفاع موضوعه فيلزم ما ذكرنا من عدم الوصول إلى غرضه الأصلي.

هذا ولقائل ان يقول نختار الشق الثاني من سقوط الأمر الأول بإتيان ذات الفعل ، وسقوط الثاني أيضا بارتفاع موضوعه ، ولا يلزم محذور أصلا ، لأن الوقت اما باق بعد واما غير باق ، فعلى الأول يوجب الغرض إيجاد امرين آخرين على ما كانا ، وعلى الثاني يعاقب المكلف على عدم امتثال الأمر الثاني ، مع أنه كان قادرا عليه بوجود الأمر الأول ، لأن الأمر الثاني لو فرضناه امرا مطلقا فعدم إيجاد متعلقه معصية بحكم العقل ، سواء كان برفع المحل ، أو كان بنحو آخر وهذا واضح.

فاتضح مما ذكرنا من أول العنوان إلى هنا وجوه خمسة في تصوير العبادات (١١٠) وأنت خبير بأنه كلما قلنا في الواجبات النفسيّة العبادية

______________________________________________________

(١١٠) (أولها) اعتبار قصد الأمر في العبادة مع كونه مأخوذا فيها شرطا أو شطرا.

(ثانيها) : عدم اعتباره فيها ، بل المعتبر إتيان الفعل بقصد الخضوع للمولى والخشوع له مع كونه أيضا مأخوذا في المأمور به.

(ثالثها) : اعتبار قصد الأمر فيها ، مع كون ملازمه مأخوذا في المأمور به.

(رابعها) : اعتباره فيها مع عدم أخذه ، ولا ملازمه فيه ، وبقاء الأمر ببقاء

يجري مثله في الواجبات المقدمية العبادية (١١١) ، فلا يحتاج إلى إطالة الكلام بجعل عنوان لها مستقلا ولما كان الغرض في هذا البحث هو التكلم في الأصل اللفظي والعملي فيما لو تردد امر الواجب بين ان يكون عباديا أو توصليا ، فلنشرع في المقصود الأصلي.

تأسيس الأصل

فنقول لو شك في الواجب في انه تعبدي أو توصلي؟ فعلى ما قدمناه من عدم احتياج العبادة إلى التقييد بصدورها بداعي الأمر (١١٢) لا إشكال في أن احتمال التعبدية احتمال قيد زائد فالشك فيه من جزئيات الشك في المطلق والمقيد ، فان كانت مقدمات الأخذ

______________________________________________________

الغرض أو سقوطه وإحداث الغرض أمرا آخر عند إتيان الفعل بلا قصد للأمر.

(خامسها) : اعتباره فيها مع عدم دخله في المأمور به الأول ، مع التزام أمر آخر بلزوم إتيان الأول بقصد أمره ، وقد عرفت وجها آخر وهو دخل القصد في الحكم لا في المأمور به.

(١١١) لا يخفى عدم جريان الوجوه الثلاثة الأخيرة من الوجوه الخمسة ، لرجوع الجميع إلى جعل امر مستقل متعلق بغير المطلوب ، مقدمة لحصول المطلوب ، وهو الوجوب للغير ، والأمر المقدمي الغيري لا يتعلق إلّا بنفس ما يكون مناط المقدمية فيه موجودا ، فلو سلّم عدم إمكان تعلق الأمر بها ، فلا طلب غيري ولا محالة ينشأ الوجوب للغير.

تأسيس الأصل :

(١١٢) بل وكذا لو قيل باحتياجها إلى التقيد المذكور ، مع إمكان أخذه في المأمور به ولو بعنوان ملازمه.

بالإطلاق موجودة ، يحكم بإطلاق الكلام ويرفع القيد المشكوك ، وإلّا فالمرجع هو الأصل الجاري في مقام دوران الأمر بين المطلق والمقيد. ولما كان المختار فيه بحسب الأصل العملي البراءة ، يحكم بعدم لزوم القيد.

وأما على ما قيل من لزوم تعلق الطلب على تقدير التعبدية بذات الفعل ، مع أخصية الغرض ، فقد يقال ـ كما يظهر من كلمات شيخنا المرتضى قدس‌سره ـ بعدم جواز التمسك بإطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك كذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة فيه ، بل المقام مما يحكم العقل فيه بالاشتغال. وان قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين المطلق والمقيد.

(اما الأول) فلان رفع القيد بأصالة الإطلاق انما يكون فيما لو احتملنا دخول القيد في المطلوب. والمفروض عدم هذا الاحتمال ، والقطع بعدم اعتباره فيه أصلا. وانما الشك في أن الغرض هل هو مساو للمطلوب أو أخص منه ، وحدود المطلوب معلومة لا شك فيها على أي حال.

(واما الثاني) فلأنه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شك في سقوطه بإتيان ذاته ، وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للأمر ، لا مجال إلّا للاحتياط ، لأن اشتغال الذّمّة بالأمر الثابت المعلوم متعلقه يقتضى القطع بالبراءة عنه ، ولا يكون ذلك إلّا بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض.

ومما ذكر تعرف الفرق بين المقام وسائر الموارد التي شك في مدخلية قيد في المطلوب. وملخص الفرق أن الشك فيها راجع إلى مرحلة الثبوت ، وفي المقام إلى مرحلة السقوط.

هذا ، والحق عدم التفاوت بين المقام وساير الموارد مطلقا أعني من جهة الأخذ بالإطلاق ومن جهة إجراء أصالة البراءة.

(أما الأول) ، فلان القيد المذكور وان لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم الإمكان ، ولكن لو فرضنا وجود مقدمات الأخذ بالإطلاق التي من جملتها كون المتكلم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به الغرض ، يحكم بعدم مدخلية شيء آخر في تحقق غرضه ، إذ لو كان لبين ولو ببيان مستقل (١١٣) وحيث لم يبين يكشف عن كون متعلق الطلب تمام ما يحصل به غرضه. نعم الفرق بين المورد وسائر الموارد ان فيها يحكم ـ بعد تمامية مقدمات الحكمة ـ بإطلاق متعلق الطلب ، وفيه بإطلاق الغرض والأمر سهل.

ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصلية ، من دون حاجة إلى مقدمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيدنا الأستاذ طاب ثراه ، وهو ان الهيئة عرفا تدل على ان متعلقها تمام المقصود ، إذ لو لا ذلك لكان الأمر

______________________________________________________

(١١٣) لا يخفى ان التمسك بإطلاق الغرض يتوقف على كون القيد مغفولا عنه عند العامة ، ليكون ترك البيان نقضا للغرض ، مثل قصد الوجه والتمييز ، أو على كون حكم الشك فيه البراءة عند العقل ، أما لو كان القيد غير مغفول عنه ، وكان حكم العقل عند الشك فيه الاشتغال ، فللآمر ان يكتفي في تحصيل القيد بحكم العقل ، من دون بيان ، بلا لزوم نقض الغرض. والظاهر أن قصد الأمر ليس مغفولا عنه عند العامة ، بل يمكن أن يقال : إنه حاصل غالبا ، لأن الداعي للمكلفين غالبا ليس إلّا العلم بالأمر ، وإدراك وجوب إطاعته حتى في التوصليات ، ولا نعنى بقصد الأمر الا هذا. وأما التفات أحدهم بالتوصلية وقصد غير الأمر أو إتيان المأمور به غافلا عن الأمر بداعي غيره نادر لا يعبأ به عند الآمر ، وهذا بيان آخر لعدم نقض الغرض ، واما حكم العقل بالاشتغال أو البراءة فسيأتي الكلام فيه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ

والحاصل : ان الفرق بين الإطلاق في مقام الغرض والإطلاق في مقام الإفهام ، هو احتياج الأول إلى ما ذكر من القيدين بخلاف الثاني المفروض في الكلام انتفاؤه.

توطئة وتمهيدا لغرض آخر ، وهو خلاف ظاهر الأمر.

(واما الثاني) فلأنه بعد إتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الأمر الأول ، لما عرفت سابقا من استلزامه لطلب الحاصل ، فلا يعقل الشك في سقوط هذا الأمر. نعم يحتمل وجود امر آخر من جهة احتمال بقاء الغرض. وظاهر أن هذا شك في ثبوت امر آخر ، والأصل عدمه. ولو سلمنا كون الشك في سقوط الأمر الأول نقول : إن هذا الشك نشأ من الشك في ثبوت الغرض الأخص.

وحينئذ نقول في تقريب جريان أصالة البراءة ان اقتضاء الأمر ذات الفعل متيقن. واما الزائد عليه فلا نعلم ، فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة الخصوصية المشكوك اعتبارها في الغرض ، مع الجهل به ، وعدم إقامة دليل يدل عليه ، مع ان بيانه كان وظيفة له ، لكان هذا العقاب من دون إقامة بيان وحجة ، وهو قبيح بحكم العقل. ولو كان الشك في السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال ، للزم الحكم به في دوران الأمر بين المطلق والمقيد مطلقا (١١٤) ضرورة أنه بعد إتيان الطبيعة في ضمن غير الخصوصية التي يحتمل اعتبارها في المطلوب ، يشك في سقوط الأمر وعدمه.

______________________________________________________

(١١٤) ويمكن الفرق بين المقامين بان الشك في السقوط في المطلق والمقيد ناش عن الشك في حدود المأمور به ، فينحل إلى ان الأمر بالذات معلوم وبالقيد مشكوك فيه ، ولا ملزم لغير المعلوم ، وفي المقام حدود المأمور به معلومة والشك في السقوط ناش عن كيفية الأمر ، فان التعبدي لا يسقط إلّا بقصد الأمر ، بخلاف التوصلي.

(الأمر الثالث)

(في الواجب المطلق والمشروط)

ينقسم الواجب ـ ببعض الاعتبارات ـ إلى مطلق ومشروط ، فالأوّل عبارة عما لا يتوقف وجوبه على شيء والثاني ما يقابله ، ولا يهمنا التعرض للتعريفات المنقولة عن القوم ، والنقض والإبرام المتعلقين بها.

وقد يستشكل في تقسيم الواجب باعتبار وجوبه إلى القسمين من جهة امرين :

(أحدهما) أن مقتضى كون وجوب الشيء مشروطا بكذا عدم تحقق الوجوب قبل تحقق الشرط (١١٥). والمفروض ان الآمر قد أنشأ

______________________________________________________

والعقل يحكم بلزوم الخروج عن عهدة الأمر المعلوم.

وبعبارة أخرى : في المطلق والمقيد يتردد الحكم بين الأمر بالزائد والناقص ، وفي المقام يتردد الامتثال بين الزائد والناقص والعقل يحكم فيه بالاشتغال فلا تغفل.

الواجب المطلق والمشروط :

(١١٥) ونظير هذا الإشكال جار في الخبر المشروط أيضا ، فان مقتضى كون الخبر مشروطا عدم تحقق الخبر قبل تحقق الشرط ، ولازمه اما تفكيك الخبر عن الاخبار واما إهمال القضية الخبرية ، هذا ان لم يكن القيد راجعا إلى المخبر به ، بل كان راجعا إلى الهيئة ، واما عليه فيأتي الكلام فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقد يتوهم اختصاص توجّه الإشكال على القول بكاشفية الهيئة عن الإرادة البتة كما هو مبنى الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ حيث ان الإرادة الواقعية المكشوفة لا يخلو امرها عن الوجود والعدم ،

اما الأول فهو خلاف ما اقتضاه الاشتراط ، واما الثاني فمستلزم لخلو القضية عن المعنى

الوجوب بقوله : (ان جاءك زيد فأكرمه) فان الهيئة قد وضعت لإنشاء الطلب. وعلى هذا فالقول بان الوجوب لا يتحقق إلّا بعد تحقق الشرط مستلزم لتفكيك الإيجاب عن الوجوب. وان التزم بعدم تحقق الإيجاب ، لزم إهمال هذه القضية.

(ثانيهما) ـ ان الطلب المستفاد من الهيئة انما يكون معنى حرفيا غير مستقل بالنفس ، وليس دخوله في الذهن الا من قبيل وجود العرض في الخارج في كونه متقوما بالغير ، والإطلاق والتقييد فرع إمكان ملاحظة المفهوم في الذهن.

وأيضا قد تقرر في محله أن معاني الحروف معان جزئية بمعنى ان

______________________________________________________

وإهماله ، واما على القول بكون الهيئة موجدة لمفهوم الطلب إنشاء فلا محذور فيه حيث ان الإنشاء خفيف المئونة ، فكما يصح الإنشاء منجزا وحقيقته ليس إلّا البناء على وجوده ، فكذلك الإنشاء على تقدير ، ومعناه يصح بالبناء على وجود على ذلك التقدير.

ولكن فيه : ان الوجود الإنشائي أيضا نحو من الوجود النّفس الأمري وليس من قبيل أنياب الأغوال بلا تأصل وحقيقة الا الفرض ، وهذا النحو من الوجود الإنشائي أيضا لا يخلو أمره عن الوجود والعدم فعلا والأول ينفيه الاشتراط ، والثاني مستلزم لإهمال القضية فعلا

وبذلك يظهر ما في ما التزم به في الكفاية من أن المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصول شيء ، فلا بد أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلّا لتخلّف عن إنشائه.

وجه النّظر : أن عدم تفكيك الإيجاد عن الوجود لا فرق فيه بين الوجود الإنشائي والخارجي ، فان الوجود الإنشائي لا يمكن تفكيكه عن الإيجاد الإنشائي كالخارجي ، بل الإيجاد والوجود الفرضيان أيضا لا ينفكان ، فكيف التزم بالتفكيك بينهما؟

واما ما وجّه به بعض المحشين : ـ بأن الهيئة على هذا جزء العلة ، ويبقى جزؤها الآخر ، وهو القيد ـ فهو خلاف مرام المتن ، لأن الظاهر منه أن الإيجاد والإنشاء حاصل ، لكن المنشأ أمر استقبالي ، ويشهد بذلك تنظيره بالإخبار ، فانه لا يلتزم أحد بأن اخبار المشروط جزء العلة للخبر.

الواضع لاحظ في وضع الحروف عنوانا عاما إجماليا ووضع اللفظ بإزاء جزئياته ، فالوضع أي آلة الملاحظة فيها عام والموضوع له أعني جزئيات ذلك العام خاص. ومن الواضح أن الجزئي لا يكون مقسما للإطلاق والتقييد (١١٦).

هذا ومما ذكرنا سابقا في بيان معاني الحروف من أنها كليات كمعاني بعض الأسماء ، ظهر لك عدم المانع عن إطلاق الطلب وتقييده من جهة جزئية المعنى المستفاد من الهيئة. أما المانع الآخر وهو كونه مما لا تحصل له في الذهن استقلالا ، والإطلاق والتقييد الواردان على المفهوم تابعان لملاحظته في الذهن مستقلا ، فالجواب عنه بوجهين.

(أحدهما) ـ أن المعنى المستفاد من الهيئة وان كان حين استعمالها فيه لا يلاحظ إلّا تبعا ، لكن بعد استعمالها يمكن أن يلاحظ بنظرة ثانية ، ويلاحظ فيه الإطلاق أو التقييد (١١٧).

______________________________________________________

(١١٦) قد يقال : لو سلم ذلك ، فانما يمنع عن التقييد لو أنشئ أولا غير مقيد ، لا ما إذا أنشئ من الأول مقيدا ، غاية الأمر قد دلّ عليه بدالين ، كما هو عين عبارة الكفاية.

لكن الظاهر انه لا محيص عن القول بكون المنشأ بالصيغة أصل الطلب المهمل ، والخصوصيات الزائدة عليه تستفاد من دوال أخر ، مثل أداة الشرط ونحوها ، وإلّا يلزم استعمال الهيئة مجازا في طلب خاص ، مع كون أداة الشرط وغيرها مما يدل على الخصوصيات ، كرفع الفاعل ونصب المفعول علامة ، أو ك (يرمي) قرينة على هذا التجوز. وكلاهما خلاف ما هو التحقيق في التقييد ، كما هو خلاف ما التزموا به.

(١١٧) لا يقال : ان الموجود في الذهن سواء كان بالنظرة الأولى أو بالنظرة الثانية إذا كان مستقلا ، بحيث يقبل الإطلاق والتقييد ، بمعنى انه يوجد في الذهن ويلاحظ أنه قابل للحكم بإطلاقه ، أو غير قابل له الا بالتقييد ببعض القيود ، فهو معنى اسمي غير مربوط بالهيئة ، لأن معنى الهيئة معنى حرفي لا يكون وجوده في الذهن إلا

(ثانيهما) ـ ورود الإطلاق والتقييد بملاحظة محله ، مثلا ضرب زيد إذا تعلق به الطلب المستفاد من الهيئة ، يتكيف بكيفية خاصة في الذهن ، وهي كيفية المطلوبية ، فضرب زيد بهذه الملاحظة قد يلاحظ فيه الإطلاق ، ويلزم منه كون الطلب الطاري عليه مطلقا وقد يلاحظ فيه الاشتراط. واللازم من ذلك كون الطلب أيضا مشروطا (١١٨).

______________________________________________________

عرضا لموجود آخر فيه ، بحيث لا يمكن إرجاع الضمير إليه ، ولا الإشارة إليه ، كما مر في معاني الحروف ، فكيف يمكن ان يلاحظ انه قابل للحكم بنحو الإطلاق أو غير قابل له إلّا مقيدا؟ ، فما هو القابل لهما ـ وهو الملحوظ الثاني ـ غير معنى الهيئة ، ومعنى الهيئة ـ وهو الملحوظ أولا ـ غير قابل لهما.

لأنا نقول : ان الملحوظ ثانيا وان كان معنى اسميا ، لكنه أخذ بنحو الحكاية والعبرة عن المعنى الحرفي ، فيرى به ما وجد أولا واستعمل فيه ، ويحكم بخروج بعض حالاته عن الحكم لبا. ولا إشكال من هذه الجهة ، نعم احتياج القضايا المشروطة والمقيدة إلى النظرة الثانية خلاف الوجدان.

(١١٨) بمعنى أن تضييق الموضوع بوصف كونه موضوعا للحكم ، يستلزم تضييق الحكم قهرا. ولا ينافي ذلك تعدد الدال والمدلول في الهيئة ، والمحل اللازم منه كون مدلولهما في الذهن تدريجيّا ، لأنه بعد تمام اللفظ ودخول المداليل التدريجية في الذهن ، يكون الحاضر في الذهن امرا بسيطا ، وهو الموضوع المتصف بالحكم ، فيقيّده ، أي يظهر أنه بحسب اللب مقيد ومضيّق ، وان كان في مقام الاستعمال مطلقا.

لكن لا يخفى أن ذلك أيضا يحتاج إلى تعدد لحاظ الموضوع في القضايا المشروطة ، لأن لحاظ الموضوع ـ المجرد عن الحكم الّذي لا محيص عنه قبل الحكم ـ غير لحاظ الموضوع المتصف به الّذي لا يمكن إلّا في ظرف وجود الحكم ، وقد مرّ آنفا : أن الوجدان بخلاف ذلك ، فان لحاظ الموضوع في القضايا المشروطة كالمطلقة واحد فلا تغفل.

لا يقال : إن هذه الإشكالات على تقدير إرجاع القيد إلى الهيئة. وأما على

ولنا في المقام مسلك آخر وهو ان المعنى المستفاد من الهيئة لم يلاحظ فيه الإطلاق في الوجوب المطلق ، والاشتراط في الوجوب المشروط ، ولكن القيد المأتي به في القضية (تارة) يعتبر على نحو يتوقف تأثير الطلب على وجوده في الخارج ، ويقال لهذا الطلب : الطلب المشروط. بمعنى أن تأثيره في المكلف موقوف على شيء و (أخرى) يعتبر على نحو يقتضى الطلب إيجاده ، ويقال لهذا الطلب المتعلق بذلك المقيد : الطلب المطلق ، أي لا يبتنى تأثيره في المكلف على وجود شيء.

وتوضيح ذلك أن الطالب قد يلاحظ الفعل المقيد ويطلبه ، أي يطلب المجموع. وهذا الطلب يقتضى إيجاد القيد إن لم يكن موجودا ، كما

______________________________________________________

تقدير إرجاعه إلى المادة ، بأن يقال : المطلوب هو المادة المقيدة بتقدير خاص ، لا المادة المطلقة. واما الطلب فلا تعليق فيه ولا تقييد.

لأنا نقول : لو كانت المادة المقيدة مطلوبة بنحو الإطلاق ، يلزم ان يكون القيد واجب التحصيل فيكون مفاد (ان تطهّرت فصلّ) متحدا مع (صل مع الطّهارة) مثلا ، وهو خلاف الوجدان وخلاف ما التزموا به في الواجب المشروط. ومعلوم ان محبوبية شيء على تقدير لا ينافي مبغوضية التقدير.

ان قلت : هذا لو لم تكن المادة مقيدة ابتداء ، وأما معه فلا يستلزم وجوب تحصيل القيد ولا يقع تحت الهيئة.

قلت : مع ذلك يلزم أن يكون الفعل المقيد بأمر اختياري مطلوبا فعلا ، بحيث لو لم يفعله المكلّف يلزم تفويت الغرض من المولى ، لكن لا يعاقب عليه لتقييد المطلوب بأمر اختياري ، وهو أيضا خلاف الوجدان وخلاف ما التزموا به. فتأمل جيدا.

وكذلك لا يدفع ما ذكر من الإشكال في الاخبار المشروطة ، بإرجاع القيد إلى المخبر به مع عدم تعليق في الإخبار ، وذلك لا يستلزم كون الاخبار بوجود النّهار مشروطا بطلوع الشمس اخبارا بوجود النهار فعلا بعد طلوع الشمس ، بحيث لو لم تكن الشمس طالعة لم تكن القضية صادقة ، كما لو لم تكن ملازمة وهو كما ترى.

في قوله (صل مع الطهارة) وقد يلاحظ القيد موجودا في الخارج ، أي يفرض في الذهن وجوده في الخارج ، ثم بعد فرض وجوده في الخارج ينقدح في نفسه الطلب ، فيطلب المقيد بذلك القيد المفروض وجوده ، فهذا الطلب المتعلق بمثل هذا المقيد المفروض وجود قيده ، وان كان متحققا فعلا بنفس الإنشاء ، لكن تأثيره في المكلف يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض وجوده حقيقة.

ووجهه ان هذا الطلب انما تحقق مبنيا على فرض وجود الشيء. وهذا الفرض في لحاظ الفارض حاك عن حقيقة وجود ذلك الشيء ، فكأنه طلب بعد حقيقة وجوده ، فكما انه لو طلب بعد وجود ذلك الشيء المفروض وجوده حقيقة لم يؤثر الطلب في المكلف الا بعد وجود ذلك الشيء واقعا ، لعدم الطلب قبله ، كذلك لو طلب بعد فرض وجوده لم يؤثر الا بعد وجوده الخارجي ، وان كان الطلب الإنشائي محققا قبله أيضا. فهذا الطلب يقع على نحو يشترط تأثيره في المكلف على شيء في الخارج فتدبر جيدا.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن إشكال آخر تقدم في صدر المبحث (١١٩) وهو ان المعنى الإنشائي كيف يعلق على وجود شيء؟

______________________________________________________

(١١٩) وكذلك يظهر الجواب عن الإشكال في الجمل الخبرية ، وذلك لأن الاخبار مطلق ومتحقق فعلا ، لكن بعد فرض المخبر تحقق الشرط خارجا ، لا يجامع الحكم بعدمه ، ومن هذه الجهة يكون اخباره ذا ضيق ذاتيّ ، وان لم يقيد بشيء ، كما لو أخبر بعد حصول الشرط بوجود المشروط ، والصدق والكذب تابعان للمطابقة وعدمها عند حصول الشرط ، فالمخبر بوجود النهار عند طلوع الشمس يكون طلوع الشمس موجودا في فرضه ، ثم في هذا الفرض يخبر بوجود النهار ، فان كان الخبر بعد تحقق

ومحصل الجواب أن المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقق فعلا ، من دون ابتنائه على شيء ، ولكن تأثيره في المكلف موقوف على وجود شيء.

الواجب المعلق

(الأمر الرابع): بعد ما عرفت انقسام الواجب إلى مطلق ومشروط ، اعلم ان الناظر في كلمات الأصحاب ، يرى أنه عندهم من المسلمات عدم اتصاف مقدمات الواجب المشروط بالوجوب المطلق ، ويوضح ذلك اعتراض بعضهم على من جعل عنوان البحث أن الأمر بالشيء يقتضى إيجاب مقدماته ، بان النزاع ليس في مطلق الأمر ، بل هو في الأمر المطلق. واعتذار بعضهم بأن إطلاق الأمر ينصرف إلى المطلق منه ، فلا احتياج في افادته إلى ذكر القيد. واعتذار بعض ردا على المعترض في أصل المبنى ، بأنه لا وجه لتخصيص محل النزاع بالأمر المطلق ، بل هو يجري في المشروط أيضا ، غاية الأمر أنه لو قلنا بالملازمة بين الأمر بالشيء والأمر بمقدماته ، نقول بثبوت الأمر للمقدمة على نحو ما ثبت لذيها ، إن مطلقا فمطلق ، وان مشروطا فمشروط.

ومن مجموع هذه الكلمات يظهر أنه من المسلمات عندهم عدم الوجوب المطلق للمقدمة ، مع كون ذيها متصفا بالوجوب المشروط. وعليه يقع الإشكال في بعض المقدمات الّذي اتصف بالوجوب المطلق ، مع عدم اتصاف ذيها به ، بل يكون من الواجبات المشروطة. ومن ذلك الغسل

______________________________________________________

الفرض خارجا مطابقا كانت القضية صادقة ، كما لو أخبر بوجود النهار بعد طلوع الشمس

قبل الفجر في ليلة رمضان ، فانهم حكموا بوجوبه قبل الفجر ، مع أنه لم يتعلق الوجوب بالصوم بعد. والّذي قيل في حل هذه العويصة امران :

(إحداهما) ـ المحكي عن بعض أعاظم المحققين في تعليقاته على المعالم. وملخصه أن الوجوب المتعلق بالغسل قبل الفجر ـ وأمثاله من المقدمات التي يتعلق بها الوجوب قبل ذيها ـ ليس من الوجوب الغيري أي الوجوب المعلول من وجوب ذي المقدمة ، بل هو وجوب نفسي لوحظ فيه الغير ، بمعنى ان الشارع لاحظ في إيجابه النفسيّ تمكن المكلف من امتثال الواجب النفسيّ الّذي يتحقق وجوبه فيما بعد.

(ثانيهما) ـ ما أفاده صاحب الفصول (قدس‌سره) من الفرق بين الواجب المشروط والمعلق. وحاصل ما أفاده أن الواجب ينقسم إلى ثلاثة أقسام : مطلق ، ومشروط ، والأول على قسمين ، منجز ومعلق ، والمنجز ما كان زمان الوجوب فيه متحدا مع زمان الواجب ، والمعلق ما كان زمان الوجوب فيه منفكا عن زمان الواجب.

توضيح ذلك أن نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ، ولا ريب في إمكان كون الفعل المطلوب مقيدا بوقوعه في مكان خاص ، كالصلاة في المسجد ، وكذا في إمكان كون وجوبه مشروطا بكون المكلف في المكان الخاصّ ، وعلى الأول فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بد أن يكون على وجه الإطلاق ، كأن يقول : (صل في المسجد) وعلى الثاني لا بد ان يكون على وجه الاشتراط ، كان يقول : (إذا دخلت المسجد فصل) وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضا ، فيمكن أن يلاحظ الآمر الفعل المقيد بوقوعه في زمان خاص ، فيطلب على هذا الوجه من المكلف ، ولا بد أن يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الإطلاق ، كأن يقول : (صل صلاة واقعة في وقت كذا) ويمكن أن يلاحظ الفعل

المطلق ، لكن وجوبه المتعلق به وطلبه يكون مشروطا بمجيء وقت كذا ، فالوجوب على الأول فعلى ، ولا بأس باتصاف مقدمات الفعل على هذا الوجه بالوجوب ، إذ لا خلف حينئذ لأن ذاها أيضا متصف بالوجوب ، بخلاف الوجوب على الوجه الثاني ، فان الفعلية منتفية في الواجب المشروط ، فيمتنع اتصاف مقدماته بالوجوب الفعلي ، ففي الموارد التي حكموا فيها بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، يلتزم بان الواجب معلق ، بمعنى ان المطلوب هو الفعل المقيد بوقت كذا ، ووجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها ، فيمكن ان يكون وقت إيقاعها قبل زمان إيجاده ، لأن زمان اتصاف الفعل المقيد بالوجوب ليس متأخرا عن زمان اتصاف المقدمة به ، بل يقارنه وان كان زمان وقوع الفعل متأخرا عن زمان وقوع المقدمة.

ثم تصدى (قدس‌سره) لما يرد على هذا النحو من الواجب وبيان دفعه. ومحصل ما أورده على نفسه أمران :

(أحدهما) ـ أن المكلف قد لا يكون حيا في زمان الفعل ، فلا يمكن توجه التكليف بنحو الإطلاق إليه.

(ثانيهما) ـ أن الفعل المقيد بالزمان الغير الموجود بعد ليس مقدورا للمكلف بواسطة قيده ، وما لا يكون تحت قدرة المكلف يمتنع ان يكلف به فعلا وعلى نحو الإطلاق.

وأجاب (قدس‌سره) عن الأول بان التكليف متوجه إلى من يكون حيا في ذلك الزمان الّذي فرض قيدا للمطلوب ، وعن الثاني (أولا) بالنقض (تارة) بالتكليف المتعلق بالصوم في أول الفجر ، فان الصوم عبارة عن الإمساك في قطعة خاصة من الزمان ، أعنى ما بين الفجر والغروب. ولا إشكال في عدم قدرة المكلف في أول الفجر على الإمساك في الجزء الأخير من الوقت ، فكيف يلتزم بوجود الوجوب المطلق حين

الفجر ، مع عدم تحقق قطعة الزمان التي أخذ في المطلوب إلا جزؤها

و (أخرى) بالتكليف بكل ما يحتاج إلى مقدمات لا بد في الإتيان بها من مضي زمان ، ولا يقدر على الإتيان به في زمان صدور التكليف ، كما لو كلفه بأن يكون في مكان كذا ، ويحتاج ذلك الكون إلى مشى فرسخ أو فراسخ مثلا ، فان من الواضح عدم قدرة المكلف حال التكليف على الكون في ذلك المكان. وانما يقدر عليه بعد مضي ساعتين أو ثلاث ساعات مثلا.

و (ثالثة) بالتكليف المتعلق بكل فعل تدريجي كالصلاة ، حيث أن القدرة على الجزء الأخير يتوقف على إتيانه بالاجزاء السابقة.

و (ثانيا) ـ بالحل بان القدرة التي تكون شرطا في التكاليف عقلا ، هي القدرة في زمان الفعل ، لا القدرة حال التكليف ، فاندفع الإشكال بأسره. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في هذا المقام.

أقول : المهم بيان كيفية الإرادات اللبية المتعلقة بالافعال ، لكي يتضح حال هذا القسم من الواجب المسمى بالتعليقي ، فنقول ان الفعل المقيد المتعلق للإرادة (تارة) على نحو تقتضي تلك الإرادة تحصيل قيده في الخارج لو لم يكن موجودا ، و (أخرى) على نحو لا تقتضي ذلك ، كما لو اراده على فرض وجود ذلك القيد ، مثلا قد تتعلق الإرادة بالصلاة في المسجد على نحو الإطلاق ، سواء كان المسجد موجودا في الخارج أم لا ، وقد تتعلق بها على فرض وجود المسجد. وعلى الأول تقتضي تلك الإرادة بناء المسجد لو لم يكن في الخارج ، مقدمة لحصول الصلاة فيه. وعلى الثاني لا تقتضي ذلك ، بل اللازم الصلاة لو فرض وجود المسجد ، ولا نتعقل قسما آخر من الإرادة في النّفس خارجا عما ذكرنا ، فتقسيم الواجب إلى الأقسام الثلاثة مما لا وجه له ، بل ينحصر في القسمين المذكورين عقلا

ومحصل ذلك ان القيد اما خارج عن حيز الإرادة واما داخل فيه. ولا ثالث عقلا. وهذا واضح لا سترة عليه.

إذا عرفت هذا فنقول القيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الأول قطعا (١٢٠) لاستحالة تعلق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلف ، فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من أقسام الطلب المشروط.

(فان قلت) على ما ذكرت يلزم أن لا يكون الخطاب في أول

______________________________________________________

الواجب المعلق :

(١٢٠) أقول : العمدة في إنكار الواجب المعلق نفي إمكان تعلق الطلب الفعلي بما ليس تحت قدرة المكلف فعلا ، وان كان مقدورا حين العمل ، لا انحصار الإرادة في قسمين ، لأن القائل به لا ينكر ذلك ، ويعترف بأن الواجب إما مطلق وإما مشروط ، فان تعلقت الإرادة بشيء من دون انتظار شيء فهو مطلق ، وحينئذ فان تعلقت بما هو مقدور فعلا فمنجز ، وإن تعلقت بغير المقدور فمعلق ، فان ثبت امتناع تعلقها بغير المقدور فعلا فهو ، وإلّا فانحصار الإرادة لا يضرّه.

وأما امتناعه وإمكانه فقد اختلف فيه ، وأصر في الكفاية على إمكانه حتى أسند إلى القائلين بامتناعه الغفلة عن معنى الإرادة ، وقال ما حاصله : (إن الإرادة عبارة عن الشوق المؤكد المحرك نحو المراد ، أعم من أن يكون نحو مقدماته أو نحو نفس الفعل فيما ليس له مقدمة ، والجامع ان يكون محركا نحو المقصود).

ثم استدرك ورجع عن ذلك ، واختار أن الإرادة عبارة عن مرتبة من الشوق تكون محركة للعضلات ، لو كان الفعل حاليا أو استقباليا محتاجا إلى المقدمة ، وان لم تكن محركة بالفعل أصلا ، لكونه استقباليا غير محتاج إلى المقدمة. ومعلوم ان الشوق المتعلق بالاستقبالي قد يكون أشد بمراتب من المتعلق بالحالي. وأورد النقض بالافعال التي لها مقدمات كثيرة ، حيث أن تحمل المشاق فيها ليس إلّا لأجل كونه مريدا (إلى أن قال) : مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلّا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنما يكون لإحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به (إلى أن قال) ولا يكاد

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة ، انتهى ما هو المقصود من كلامه زيد في علو مقامه.

لكن الظاهر عدم تمامية شيء مما ذكر من الدعوى والنقض ، والحق امتناع تعلق الطلب الفعلي من جميع الجهات بغير المقدور الفعلي ، ويتم ذلك ببيان معنى الإرادة إجمالا ، ثم الجواب عن النقض المذكور في كلامه (ره).

فنقول : ان الإرادة على ما قررنا عبارة عن حالة نفسانية جزميّة ، وعبّرنا عنها بتجمع النّفس على فعل شيء ، بنحو لا تنفك تلك الحالة عن تحريك العضلات. ومعلوم ان تلك الحالة في النّفس لا تتحقق ما لم تجزم بأنها لو تحركت نحوه تقدر على إتيانه. وتصديق ذلك موكول إلى الوجدان. أترى تحقق تلك الحالة لأحد بالنسبة إلى الطيران إلى السماء ، كما تتحقق عند شرب الماء مثلا ، ولو كان الشوق إلى الطيران أشد بمراتب من الشرب. ويكفيك ذلك برهانا. وليس الفعل الموقت قبل وقته الا كالطيران فعلا ، فلا يمكن تحقق تلك الحالة قبل الوقت.

واما على ما اختار في الكفاية : من أن الإرادة عبارة عن الشوق المؤكد ، فهي أيضا ليست عبارة عن مجرد مرتبة من الشوق ، وان كان ساير مقدمات الفعل معدومة أو ممتنعة ، ولذا لا يقول أحد إني أريد الطيران مثلا ، وإن كان مشتاقا إليه كمال الاشتياق ، بل هي عبارة عن مرتبة خاصة من الشوق تحصل بعد العلم بالنفع ، والعلم بعدم الضرر والمانع ، مع إحراز إمكان الفعل ، ومعلوم ان تلك المرتبة منه مع ما ذكر من الشرائط ملازمة لتحريك العضلات. ولذا اشتهر أن الإرادة جزء أخير للعلة التامة ، ولو كانت مجرد ذلك المقدار من الشوق ، لكانت أيضا ـ كسائر ما له دخل في الفعل ـ أحد الاجزاء لا الجزء الأخير. والحاصل أن كون الإرادة عبارة عن مجرد مقدار من الشوق خلاف الوجدان ، وخلاف ما اصطلحوا عليه.

وأما النقض بالافعال التي لها مقدمات كثيرة ، فالجواب (أولا) ـ بالفرق بين الأفعال التي ليس بينها وبين المريد واسطة الا إعمال القدرة ، ولو في مقدماتها ، بمعنى كونها مقدورة له بالفعل ولو بالواسطة ، وبين الأفعال التي ليست مقدورة له بوجه من

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجوه ، ولو لتقيّدها بزمان مستقبل ، فانها بالفعل خارجة عن حيّز القدرة بجميع أنحائها ، فان تحقق الحالة النفسانيّة المحركة نحو المقصود الممكن ، بمكان من الإمكان ، فان كان مقدورا بلا واسطة توجب تحريك العضلات نحوه ، وان كان مقدورا بالواسطة ، توجب التحريك نحو مقدماته. وأما في الخارج عن حيز القدرة ، فلا يمكن تحققها.

وعلى تقرير آخر : الشوق المنفك عن جميع أنحاء القدرة ، لا تطلق عليه الإرادة ، بخلاف المجتمع مع القدرة بالواسطة.

و (ثانيا) ـ بأنا نلتزم بعدم تحقق الإرادة في الأفعال المذكورة ، وليس الموجود فيها إلا إرادة المقدمات. ولا ينافي كون الإرادة فيها تابعة لإرادة ذي المقدمة ، فان معنى تبعيتها لها أنها لم تتحقق لو لا الشوق إلى ذي المقدمة ، فيكون الشوق إلى ذي المقدمة ـ وإن لم يبلغ حد الإرادة ، لانتفاء القدرة الفعلية ـ ملازما لتحقق الإرادة في المقدمة المقدورة فعلا.

هذا كله في الإرادة التكوينية. وأما الإرادة التشريعية فهي وإن كانت تخالف التكوينية في أنها تتعلق بالفعل الصادر عن اختيار الغير ، لا بفعل نفس المريد كالتكوينية ، لكن من حيث الشرائط والموانع لا ميز بينهما ، فكما أنها لا تتحقق في التكوينية ما لم يكن متعلقها مقدورا ، كذلك في التشريعية ما لم ير المريد قدرة المأمور ، لا تتحقق الإرادة له ، حتى تحركه نحو البعث ، حيث أن التحريك في التشريعية نحو البعث ، لأن المريد يرى أن من مقدمات مطلوبه الجعل والبعث نحو المطلوب ، ليكون ذلك داعيا ومحركا للمأمور نحو مطلوبه.

والحاصل ان تصوير الواجب المعلق بإمكان تعلق الإرادة الفعلية ـ تكوينية كانت أم تشريعية ـ بالمحال دون إثباته خرط القتاد.

نعم يمكن أن يقرر بوجه آخر ، وهو أن الواجبات التشريعية على قسمين : (أحدهما) ـ الفعلي من جميع الجهات ، وينشئه الآمر بداعي تحريك المأمور فعلا ، بلا انتظار شيء ، ولا بد فيه من اجتماع جميع شرائط التكليف التي منها القدرة الفعلية. ولا يمكن تعلق مثل تلك الإرادة بغير المقدور الفعلي ، ولو من جهة تقيد المراد بأمر استقبالي وان كان نفس الوقت.

دخول الوقت مطلقا أيضا ، ضرورة عدم قدرة المكلف على الامتثال في الجزء الأخير من الوقت مثلا. ومقتضى ما ذكرت سابقا كون الإرادة بالنسبة إلى القيود الغير الاختيارية مشروطة ، فمتى يصير خطاب الصوم مطلقا؟

(قلت) نلتزم بعدم صيرورة الخطاب مطلقا ، ولكن نقول : إن الواجب المشروط ـ بعد العلم بتحقق شرطه في محله ـ يقتضى التأثير في نفس المكلف ، بإيجاد كل شيء منه ومن مقدماته الخارجية في محله. مثلا لو قال (أكرم زيدا إن جاءك) ، فمحل الإكرام بعد مجيئه ، ومحل مقدماته إن كان قبل المجيء ، فمجرد علم المكلف بالمجيء يقتضى إيجادها

______________________________________________________

(ثانيهما) ـ ما ينشئه الآمر بعنوان جعل القانون ، من دون لحاظ إلى الجهات الفعلية ، فالمرجع في هذه الجهات هو العقل ، فكلّما يراه العقل مانعا من فعلية التكليف بالمعنى الأول ، ويحكم بقبح العقوبة ، فلا يؤثر في نفس المأمور شيئا ، وإذا حكم العقل بعدم المانع من العقوبة ، يحكم بالفعلية ويؤثر اثره. ولا مانع من تعلق مثله بذات الفعل ، وإن لم تجتمع فيه الشرائط العقلية ، بل مبناه على بيان أصل المطلوبية من قبل الآمر ، وإيكال تلك الشرائط إلى العقل. وقد مرّت الإشارة إليه في مسألة الإطلاق فراجع.

فعلى هذا يمكن أن يقال : ان ما ليس وجوبه مشروطا بشيء ، ولا بفرض شيء عند وجوبه ، بل لا يلحظ عند الجعل الا نفسه إن كان جميع الشرائط العقلية فيه موجودا ، فهو منجز ، سواء كان الجعل فيه كالقسم الأول أو كالقسم الثاني. وما لم تجتمع فيه الشرائط فهو معلق ، لكنه لا يمكن فيه الجعل إلّا بالنحو الثاني. فالواجب قبل الوقت إن أخذ الوقت فيه مفروض الوجود عند الجعل ، فهو مشروط ، وإن لم يلحظ فيه إلا الذات المقيدة بالوقت ، مع قطع النّظر عن لحاظ كونه مقدورا أو غير مقدور ، فهو معلق. وأما جعل الوجوب الفعلي من جميع الجهات له قبل الوقت ، فغير ممكن ـ كما مرّ تفصيله ـ هذا غاية توجيه الواجب المعلق ، فراجع كلام الفصول ، فان كان لا يأبى ما ذكرنا فهو ، وإلا فهذا تصوير بنفسه.

قبله. ولو قال : (إن مشى زيد فامش مقارنا مع مشيه) ، فمحل المشي زمان مشى زيد ، فلو علم تحقق المشي من زيد في زمان خاص ، يجب عليه المشي في ذلك الزمان ، حتى يصير مشيه مقارنا معه. ولو قال : (ان جاء زيد فاستقبله) فمحل الاستقبال قبل مجيئه ، فلو علم بمجيئه غدا مثلا ، يجب عليه الاستقبال في اليوم.

والحاصل أن طلب الشيء على فرض تحقق شيء لا يقتضى إيجاد ذلك الشيء المفروض وجوده ، ولكن بعد العلم بتحقق ذلك الشيء يؤثر في المكلف ، ويقتضى منه أن يوجد كلا من الفعل ومقدماته في محله ، فقد يكون محل الفعل بعد تحقق ذلك الشيء في الخارج ، وقد يكون قبله ، وقد يكون مقارنا له ، وهكذا محل مقدماته ، قد يكون قبله ، وقد يتسع زمان إتيان المقدمة ، كما لو توقف إكرام زيد غدا على شيء ممكن تحصيله في اليوم وفي الغد. والمقصود أن الوجوب المعلق على شيء بعد الفراغ عن ذلك الشيء ، يجب بحكم العقل متابعته. ومن هنا عرفت الجواب عن أصل الإشكال ، فلا يحتاج إلى التكلفات السابقة. وأنت بعد الإحاطة والتأمل في الأمثلة المذكورة لا أظن ان ترتاب فيما ذكرنا.

(فان قلت) : على ما ذكرت يقتضى ان تكون مقدمات الواجب المشروط ـ بعد العلم بشرطه ـ واجبة مطلقا ، فما وجه فتوى القوم بعدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت ، وأيضا فما وجه الفرق بين الليل واليوم السابق بالنسبة إلى الغسل الّذي يكون مقدمة للصوم ، ولأي جهة أفتوا بوجوبه في الليل وعدم وجوبه في النهار السابق؟

(قلت) : بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت ، نستكشف منه أن وجوب الصلاة ـ مضافا إلى ابتنائه على الوقت ـ مبتن على القدرة فيه ، فكأنه قال إذا دخل الوقت ، وكنت قادرا

عنده فصل مع الطهارة. وقد عرفت سابقا أن الوجوب المبنى على فرض وجود شيء لا يقتضى إيجاد ذلك المفروض فحينئذ لو علم المكلف بأنه لو لم يتوضأ قبل الوقت ، لا يتمكن منه بعده ، لا يجب عليه الوضوء ، لأنه موجب لحصول القدرة في الوقت التي هي شرط وجوب الواجب. وقد عرفت عدم وجوب تحصيله. وهكذا الكلام في غسل الجنابة للصوم في النهار السابق ، فانه بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوبه ، نستكشف اشتراط القدرة في الليل ، فلا يجب تحصيلها.

(فان قلت) : نفرض علم المكلف بكونه قادرا في الوقت على أي حال ، بمعنى أنه لا يمكنه سلب قدرته فيه ، فعلى هذا يلزم ان يكون الوضوء مثلا عليه واجبا موسعا ، فيجوز أن يأتي به بقصد الوجوب ، مع أنهم لا يلتزمون به.

(قلت) : يمكن تصور الواجب على نحو لا يلزمه ذلك ، وهو بان يقال : ان الواجب إقدام المكلف على الفعل بقدرته الموجودة في الوقت. ومحصله ان المصلحة (تارة) قائمة بإكرام زيد بعد دخول الوقت مطلقا سواء أعمل في إيجاد هذا العنوان قدرته الموجودة قبل الوقت أم بعده. و (أخرى) المصلحة قائمة باعمال القدرة في الوقت في إكرام زيد ، ويرجع محصل هذا التكليف إلى انه بعد دخول الوقت وتحقق القدرة على إكرام زيد ، يجب إعمال تلك القدرة ، فإعمال القدرة في هذا المثال نظير نفس إكرام زيد في المثال السابق (١٢١) ، فكما أنه لا يقتضي الأمر بإكرام زيد

______________________________________________________

(١٢١) يعني ان المصلحة لما كانت قائمة باعمال القدرة في الوقت ، فلا محالة ما لم يفرض الآمر وجود الوقت ، ولم يره موجودا ، لم تنقدح له الإرادة. وهذه الإرادة المتحققة ـ مع فرض وجود الوقت ـ لا تقتضي إيجاب إعمال القدرة قبله ، كما في (ان

بعد دخول الوقت إكرامه قبله ، كذلك الأمر باعمال القدرة في الوقت ، لا يقتضى إعمال القدرة قبله.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا أنه إذا راجعنا وجداننا ، نقطع بأن إرادتنا المتعلقة بالافعال الخاصة ، لا تخرج عن قسمين (إما) أن تكون على نحو يقتضى إيجاد تمام مقدماتها. و (إما) ان تكون على نحو لا يقتضى إيجاد بعضها.

______________________________________________________

جاءك زيد فأكرمه) ، حيث لا يقتضي إيجاب إعمال القدرة في الإكرام قبل المجيء.

لكن يشكل عليه : بأن تقيد المصلحة بخصوص إعمال القدرة في الوقت ، يستلزم عدم اجزاء الوضوء قبل الوقت في المثال ، ولو قصد فيه الغاية المشروعة قبله ، مثلا : من توضأ قبل المغرب لصلاة العصر ، لا خلاف في صحة صلاة المغرب معه ، وعلى ما قرر لا تصح ، لفرض عدم المصلحة فيه لصلاة المغرب.

والحاصل : أنه إن كانت المقدمة نفس الوضوء وتحصيل الطهارة ، من دون تقيد بكونه في الوقت فيلزم جواز قصد الوجوب قبل الوقت ، لأنه يكون حينئذ واجبا موسعا على مبنى من يلتزم بوجوب مقدمات الواجب المشروط قبل الوقت ، وان كانت خصوص الوضوء الحاصل في الوقت ، فيلزم عدم اجزاء الحاصل قبل الوقت. وكلاهما مما لم يلتزم به.

ويمكن أن يجاب عنه : بأن ما هو المقدمة أصل الوضوء المحصل للطهارة ، وليس المقصود الا الطهارة. ولا فرق فيها بين الوضوء الحاصل قبل الوقت أو بعده ، ولكن لم يجب الوضوء قبل الوقت ، لمانع في وجوبه ، لا لعدم المقتضي فيه. نظير ما إذا كان بعض المقدمات محرمة.

ان قلت : بعد تسليم وجود المقتضي فيه ، فأي مانع يمنع من وجوبه؟ والمانع في المقدمات المحرمة معلومة.

قلت : بعد الإجماع ـ على عدم الوجوب قبل الوقت ، وجواز الاكتفاء به على فرض بقائه بعد دخول الوقت ـ لا نحتاج إلا إلى إثبات إمكانه بأيّ وجه كان ، وما ذكرنا كاف في إثبات إمكانه.

(أما القسم الأول) فواضح و (اما القسم الثاني) فهو يتصور على أقسام كلها راجعة إلى الاختلاف فيما تتعلق به الإرادة ، لا إلى الاختلاف فيها ، لأن الآمر قد يريد إكرام زيد على تقدير مجيئه ، بحيث لو أتى ولم يكرم صار نقضا لغرضه ، وإن كان في زمن مجيئه غير قادر على إيجاد الفعل ، فان عدم القدرة يوجب سقوط التكليف ، ولا ينافى كون ترك الإكرام مبغوضا للآمر ونقضا لغرضه. وقد يريد إكرامه على تقدير كون المكلف قادرا على إكرامه في زمن مجيئه. وحينئذ لو فرض ترك إكرامه مستندا إلى عدم قدرته في زمن مجيئه ، لم يكن مبغوضا للآمر ونقضا لغرضه. وهذا واضح.

وقد يكون المطلوب إكرام زيد بمقدماته الاختيارية الموجودة في زمن المجيء على فرض وجود القدرة في زمن المجيء فحينئذ لا يجب عليه الإتيان بمقدمات الإكرام قبل المجيء (١٢٢) ، وان كان في زمن المجيء غير قادر على فرض عدمه ، لأن المفروض اشتراط القدرة في ذلك الزمان ، وكذلك ان كان قادرا في ذلك الوقت ، لأن المطلوب إعمال القدرة في ذلك الوقت ، لا قبله. هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

ثم انك قد عرفت أن الواجب التعليقي ـ عند القائل به ـ من

______________________________________________________

(١٢٢) بل لا يجزى على الثالث ، لأن الشرط إعمال القدرة في الوقت.

ومحصل الكلام : أن القدرة في الوقت إن كانت كنفس الوقت قيدا للطلب ، فلازم ذلك جواز الإتيان بالمقدمات قبل الوقت بقصد الوجوب ، بعد العلم بتحققه في موطنه ، بناء على القول بوجوب مقدمات الواجب المشروط. وكذلك لو كانت قيدا للمطلوب ، فانه بعد العلم بتحققه في موطنه ، تكون المقدمة فعلا واجبا موسعا. وأما إن كان المطلوب صرف القدرة في الوقت ، فلم يكن الآتي قبل الوقت آتيا بالمطلوب. وأما لو لم يكن للقدرة دخل أصلا ـ لا في المطلوب ولا في الطلب ـ فيجب الإتيان بالمقدمات المضيقة قبل الوقت ، ولا يجوز تركها ، ويجوز الإتيان بالمقدمات الموسعة كسائر

أقسام الواجب المطلق. وصحته ـ مع أن المكلف قد لا يدرك زمن الواجب ـ مبنية على الالتزام بتوجه الخطاب به مشروطا بالعنوان المنتزع من بلوغ ذلك الزمان. مثلا : التكليف بالصوم في الليل متوجه إلى من يدرك النهار ، ويكون حيا في تمام زمان المطلوب في علم الله تعالى. وكذلك التكليف بالحج في زمان خروج الرفقة متوجه إلى من يدرك شهر ذي الحجة. وهكذا وقد عرفت ذلك في طي توضيح كلامه (قدس‌سره) والمقصود من إعادته هنا التعرض لبعض ما فرع عليه من الفروع : التي منها صحة الوضوء إذا كان الماء منحصرا في الآنية المغصوبة ، ومنها وجوب الحج مطلقا فيما إذا لم يتمكن منه الا مع الركوب على الدّابّة المغصوبة.

بيانه : أن التكليف في الأول متوجه إلى من يغترف من الآنية المغصوبة ، وفي الثاني إلى من يركب الدّابّة المغصوبة عصيانا (١٢٣). وفيه

______________________________________________________

الواجبات الموسعة ، سواء كان الوقت قيدا للطلب أو للمطلوب ، على القول بإمكان تعلق الطلب بغير الممكن فعلا ، أو على ما ذكرنا ، من تعلق الطلب الحيثي.

ثم إن هذا كله في مقام الثبوت والتصور. وأما في مقام الإثبات ، وأن الدليل الدال على قيود المطلوب كيف يستكشف منه أحد الوجوه؟ فلا يبعد أن يقال : إن الظاهر ـ من مثل جملة (ان استطعت فحج) الظاهرة في أن الموضوع هو شخص المكلف ، والمطلوب أصل الحج ، والشرط الاستطاعة المالية ـ هو عدم لحاظ شيء آخر بعد حصول الاستطاعة المالية ، فيجب حفظ القدرة من الجهات الأخر ، قبل حصول الاستطاعة من حيث المال ، مع العلم بحصوله. والظاهر من مثل جملة (أيها المستطيع حج) هو إيجاد القدرة بعد حصول الاستطاعة ، فلا يجب عليه حفظ القدرة من سائر الجهات ، وان علم بحصوله قبلا.

(١٢٣) محصل الكلام : أن إطلاق تكليف (لا تغصب) لا يشمل عنوان

ـ مع ما عرفت في القول بالواجب التعليقي ـ أن توجه التكليف المطلق بالوضوء ـ مع انحصار المقدمة في المنهي عنها ، وكذلك الحج ـ تكليف بما لا يطاق.

نعم على القول بالترتب ـ كما يأتي تفصيله في محله إن شاء الله ـ يصح ذلك ، ولكن مع ذلك القول بصحة الوضوء محل إشكال ، من حيث أن تصحيح التكليفين ـ المتعلقين بالفعلين اللذين لا يمكن الجمع

______________________________________________________

العاصي حتى ينافي الأمر المقدمي المتعلق بعنوان العاصي للنهي. ومحصل الجواب : أن الإطلاق وإن لم يشمل العاصي بعنوانه ، لكن الإشكال أيضا في أن النهي لا يسقط بمجرد كونه معنونا في علم الله بعنوان انه يعصي ، بل السقوط يترتب على المعصية الخارجية. والمفروض عدم تحققه بعد ، فيكون ما هو المأمور به ـ لصدق العنوان المذكور عليه ـ هو المنهي عنه فعلا ، لعدم سقوط النهي ، فيجتمع الأمر والنهي في موضوع واحد ، ولا يمكن تصحيحه بترتب الأمر بالمقدمة على عنوان العصيان في النهي ، حتى على القول بالترتب ، لأن المناط ـ في تصحيح الأمر بالضدين بنحو الترتب ـ ترتب المهم على المعصية الخارجية للأهم ، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، فلا يجتمع مقتضاهما ، بل المهم يقتضي الإيجاد في مرتبة لا يقتضي الأهم شيئا ، وذلك بخلاف الترتب على عنوان تحقق عنوان العاصي ، فانه يجتمع مع اقتضاء النهي للترك ، فلا يصلح للتصحيح.

ولا يتوهم أن العنوان المذكور متأخر رتبة عن المعصية الخارجية ، لانتزاعه منها ، والأمر إذا كان متأخرا عنه رتبة ، لا يقتضى النهي في تلك المرتبة تركه ، فهذا أولى من الترتب في الضدين ، لأنه يتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبة واحدة. وفي المقام يتأخر الأمر المقدمي عن (لا تغصب) بمرتبتين ، لأن تأخر مرتبة العنوان المنتزع عن الخارج مما لا يصدقه الوجدان ، فان زيدا مثلا في علم الله معنون بعنوان أنه يعصي ، مع أنه ليس منه في الخارج عين ولا أثر ، فكيف يمكن أن يكون ذلك معلولا للمعدوم ومتأخرا عنه؟ بل العنوان المذكور معلول لعلم الباري جل شأنه. وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في المقدمة الموصلة.

بينهما الا على نحو الترتب ـ انما هو بعد الفراغ عن وجود المقتضى في كلا الفعلين. أما الوضوء في صورة انحصار الماء في الآنية المغصوبة ، فيمكن ان يستكشف من الأدلة عدم وجود المقتضى فيه ، حيث أن المقام مما شرع فيه التيمم ، من جهة صدق عدم وجدان الماء ، كما في ما إذا كان استعماله مضرا.

والحاصل ان عدم وجدان الماء ـ على ما قالوا ـ عبارة عن عدم التمكن من استعماله ، سواء كان من جهة عدمه أو لمانع عقلي أو شرعي لا يجوز للمكلف استعماله. ومتى كان التيمم مشروعا لا يكون الوضوء مشروعا بالإجماع. ذكره سيدنا الأستاذ طاب ثراه. وعلى تقدير الغض عن الإجماع أيضا ، لا طريق لنا لإثبات المشروعية الذاتيّة الكاشفة عن ثبوت المقتضى ، إذ الدليل إنما شرعه في موضوع المتمكن من استعمال الماء ، والمكلف ـ في حال يحرم عليه استعمال الماء من قبل الشارع ـ ليس متمكنا من استعمال الماء عرفا.

ومن هنا يظهر الجواب عن توهم آخر يوشك أن يرد في المقام ، وهو أنه هب عدم إمكان تعلق التكليف بالوضوء على نحو الترتب ، لكن يكفى في الصحة قصد جهة الفعل.

المقدمة الموصلة

(الأمر الخامس) لو بنينا على وجوب المقدمة ، فهل الواجب ذاتها أو مع قيد الإيصال إلى ذيها ، سواء قصد بها الإيصال أم لا مع قصد الإيصال ، سواء ترتب عليها ذوها أم لا؟.

وينبغي أن يعلم (أولا) ـ انه على تقدير القول بان الواجب

ذات المقدمة ، لا ينافى الالتزام في بعض الموارد بمدخلية قصد الإيصال في موضوع الواجب ، لجهة خارجية (١٢٤) ، كما لو توقف إنقاذ الغريق على خصوص التصرف في ملك الغير ، فحينئذ نقول بأن الواجب من ناحية الإنقاذ هو التصرف بقصد الإنقاذ ، لأن إذن الشارع في الغصب ـ مع كونه مبغوضا في حد ذاته ـ إنما هو من جهة أهمية الإنقاذ ، إذ لا يقدر المكلف على ترك الغصب وفعل الإنقاذ معا. ولما كان ترك الإنقاذ أبغض من فعل الغصب ، رضى بفعله. ولا شك أن الاذن في المبغوض ـ من جهة المزاحمة ـ إنما هو من الضرورة التي تقدر بقدرها. وحيث تدفع الضرورة بالإذن في الغصب المقصود به الإنقاذ ، فلا وجه للإذن في قسم آخر ، وهو الغصب الغير المقصود به ذلك.

هذا ، ولنشرع في المقصود ، فنقول : ذهب بعض الأساطين قدس‌سره إلى اعتبار قيد الإيصال ، وأن المقدمة ـ مع قطع النّظر عن الإيصال ـ لا تتصف بالوجوب. ونحن نذكر الاحتمالات المتصورة في

______________________________________________________

المقدمة الموصلة :

(١٢٤) توضيح ذلك : أن بعض المقدمات قد لا تتصف بالوجوب الفعلي ، لمانع خارجي يمنع عن ذلك ، نظير ما إذا كان للواجب مقدمتان على البدل : إحداهما محرمة والأخرى محللة ، فلا تتصف المحرمة بالوجوب ، لممانعة الحرمة له ، مع وجود مقتضي الوجوب فيهما ، بلا تفاوت بينهما من حيث الاقتضاء. ومعلوم أن ذلك لا يوجب تقييد الواجب من المقدمة بكونها مباحة. ولذا لم يقيدها أحد بذلك ، ففي المقام أيضا حيث أن عدم اتصاف الدخول ـ بلا قصد الإنقاذ ـ بالوجوب مستند إلى مانع خارجي ، وهو حفظ الغرض الآخر المتعلق بترك الغصب حتى الإمكان ، ما لم يزاحم الأهم ، كالدخول مع القصد المذكور ، بلا حدوث نقص في اقتضاء الدخول للمقدمية ، فلا وجه لتقييد العنوان بمثل الفرض.

مدخلية هذا القيد ، وما يلزم على كل منها ، حتى يتضح الحال إن شاء الله تعالى.

فاعلم أن مراده قدس‌سره من المقدمة الموصلة إما أن يكون ما يترتب على وجودها ذوها ، أعني ما ينطبق عليه الموصل بالحمل الشائع ، أو يكون عنوان الموصل. وعلى الثاني إما أن يكون المراد هو الإيصال الخارجي ، أو العنوان المنتزع منه. وعلى الأول من هذه الاحتمالات إما أن يكون المراد ما يترتب عليه ذو المقدمة ، على وجه يكون هو المؤثر فيه ، أو يكون أعم من ذلك.

والفرق بينهما : أنه على الأول ينحصر في العلة التامة ، وعلى الثاني يعم العلة وما يلازمها وجودا ، فان كان المراد المعنى الأول ، لزم ان يكون مفصلا بين العلة التامة وغيرها على التقدير الأول ، أو مفصلا بين العلة وما يلازمها وبين سائر المقدمات على التقدير الثاني. وهذا ـ مع عدم التزام القائل المذكور به ـ غير سديد ، لما سنشير إليه فيما بعد : من أن وجوب العلة المركبة من الاجزاء والقيود ، مستلزم لوجوب القيود والاجزاء. وإن كان مراده الثاني ـ أعني كون القيد عنوان الإيصال ـ فقد عرفت ان في هذا احتمالين :

(أحدهما) كون القيد هو الإيصال الخارجي.

(ثانيهما) ـ العنوان المنتزع منه أي كونها بحيث توصل إلى ذي المقدمة. وعلى أي تقدير إما أن يكون القيد راجعا إلى الطلب ، واما أن يكون راجعا إلى المطلوب ، فهذه أربعة احتمالات :

الأول : ان يكون المراد الإيصال الانتزاعي ، ويكون القيد راجعا إلى الطلب.

الثاني : هذا الفرض لكن يكون القيد راجعا إلى المطلوب.

الثالث : ان يكون المراد هو الإيصال الخارجي ، ويكون القيد راجعا إلى الطلب.

الرابع : هذا الفرض ، ويكون القيد راجعا إلى المطلوب.

أما الاحتمال الأول ، فان كان المراد أن خطاب المقدمة مشروط بكون المكلف آتيا بذيها في علم الله تعالى ، فيكون محصله (افعل المقدمة إن كنت ممن تفعل ذاها في نفس الأمر) فهذا باطل لا ينبغي أن يسند إلى أحد ، فضلا عن مثل هذا المحقق الجليل ، لأن هذا الشخص المتصف بالعنوان المذكور يأتي بالمقدمة قطعا. نعم يمكن بأن يوجه هذا الاحتمال على نحو لا يلزمه ذلك ، وهو أن يقال علي تقدير أن المقدمة لو وجدت يترتب عليها ذوها ، أو على تقدير كون الفاعل بحيث لو أتى بالمقدمة يأتي بذيها ، تجب عليه المقدمة. وهذا وإن كان خاليا عن الإشكال المتقدم ، إلا أنه يرد عليه أمران :

(الأول) ـ التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الإطلاق والاشتراط.

(الثاني) ـ عدم تعلق التكليف ببعض العصاة ، وهو من لو أتى بالمقدمة لم يأت بذيها عصيانا ، وإن كان المراد الثاني ، وهو أن يكون القيد في هذا الفرض راجعا إلى المطلوب ، فيرد عليه أن تقييد المأمور به بأمر خارج عن اختيار المكلف تكليف بما لا يطاق. وهو قبيح. وهذا العنوان ليس في حيز اختيار المكلف.

(لا يقال) إنه يكفى في كونه مختارا له ، كونه منتزعا من فعله الاختياري ، نظير الأفعال التوليدية من الأسباب الاختيارية للمكلف ، فان الحق أنها اختيارية بواسطة تلك الأسباب ، ويصح تعلق التكليف بنفس تلك الأفعال ، ولا يجب إرجاع التكليف إلى الأسباب كما يأتي إن شاء الله

تعالى.

(لأنا نقول) فرق بين الصفات المنتزعة من الأفعال الخارجية للمكلف في ظرف وجودها ـ كعنوان الاتصال والانفصال ونظائرهما ، مما ينتزع من إيجاد ما هو منشأ لانتزاعه ، فحينئذ يصح أن يكلف بالاتصال والانفصال مثلا ، لكونهما في حيز اختياره ، بواسطة اختيارية منشأ انتزاعهما ـ وبين الصفات المنتزعة من الأفعال الموجودة في المستقبل ، نظير كونه بحيث يضرب أو يجلس في المستقبل وأمثالهما من العناوين المنتزعة من الأفعال الموجودة في الزمن المتأخر في علم الله ، فان ثبوت تلك العناوين أو نقيضها مما ليس باختيار الشخص (١٢٥) كيف؟ وهي أو نقيضها ثابتة مع غفلته ونومه ، بل قبل وجوده في الخارج ، فان ماهية زيد توجد في الخارج ويضرب عمراً في علم الله. وهذا ـ بعد أدنى تأمل ـ لعله من الواضحات.

______________________________________________________

(١٢٥) قد يتوهم أن الوصف إذا كان عبارة عن أنه يفعل بالاختيار ، فالاختيارية فيه محفوظة ، لكنه مندفع : بأن الاختياري هو نفس الفعل الخارجي. وأما هذا المفهوم بعنوانه الاستقبالي ، فخارج عن الاختيار ، لعدم تأثير أفعاله الاختيارية في وجوده وعدمه ، بل لعدم إمكان تأثيرها فيه ، للزوم تأثير المتأخر في المتقدم ، أو المعدوم في الموجود.

إن قلت : لا إشكال في أن الفاعل يقدر على طرفي الفعل والترك ، وأيضا لا إشكال في أنه إن اختار الفعل ينتزع عنوان (يفعل) ، وإن اختار الترك ينتزع عنوان (لم يفعل) ، ولا تحتاج الاختيارية إلى أزيد من ذلك.

قلت : وإن كان ينتزع عنوان (يفعل) إن اختار الفعل في الواقع ، و (لم يفعل) إن اختار الترك ، لكن ليس ذلك بنحو العلية والمعلولية ، بل بنحو الملازمة التي لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا اختار كلا من الفعل والترك ، يكشف عن أن المنتزع

وإن أراد الثالث ، وهو أن يكون المقصود الإيصال الخارجي ، ويكون القيد راجعا إلى الطلب ، فهو أيضا باطل قطعا ، لأن التكليف راجع إلى طلب المقدمة على فرض وجود ذيها ، وهو طلب الحاصل. وأيضا يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط والإطلاق ، وكذا يلزم عدم كون العصاة مكلفين بالمقدمة. وبالجملة هذا الاحتمال أيضا لا ينبغي ان يسند إليه (قدس‌سره) ولا إلى أحد من العقلاء.

وإن أراد الرابع ، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعا إلى المطلوب ، فيرد عليه أمور :

(أحدها) ـ ان لا يكون ممتثلا للأمر المقدمي ، الا بعد إتيان ذي المقدمة. وقضية الوجدان خلاف ذلك.

(ثانيها) ـ أن لا تحصل الطهارة بالوضوء والغسل ، إلا بعد إتيان الصلاة ، لأن الطهارة لا تحصل الا بعد امتثال الأمر المقدمي. والمفروض

______________________________________________________

مطابق لما اختاره ، لا أنه إذا اختار أحدهما ينقلب العنوان ، ويصير عنوانا آخر.

ان قلت : لا يخلو العنوان المذكور من ان يكون إما واجبا غير معلول للغير ، وإما ممكنا معلولا لغيره ، فعلى الأول يلزم تعدد القدماء ، وعلى الثاني هو يكون معلولا لمنشإ انتزاعه لا محالة.

قلت (أولا) : إن هذه العناوين ليست أشياء موجودة في قبال الموجودات ، حتى يلزم بوجودها أزلا تعدد القدماء ، بل هي نظير مفهوم الإمكان للممكنات ، والامتناع للممتنعات و (ثانيا) : أن العناوين المذكورة منتزعة من المفاهيم الموجودة في الذهن الكاشفة عن الخارج معلولة لعلم الباري ـ جل شأنه ـ وكيف كان لا نتعقل كونها معلولة لما ليس بموجود أصلا. ونظير ذلك كل عنوان ينتزع من موجودات مستقبلة ، كقبلية اليوم من الغد وأمثاله.

أنه لا يحصل إلّا بعد إتيان الصلاة ، فلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة ، بل يلزم عدم حصول الطهارة بعد الصلاة أيضا ، إذ هي بدون الطهارة كعدمها.

(ثالثها) ـ أن هذا القيد لا يخلو إما أن يكون له دخل في مقدمية المقدمة أو لا ، فعلى الأول يلزم الدور ، لأن الإيصال عنوان ينتزع من تأثير المقدمة في وجود ذيها (١٢٦) ، فيتوقف على المقدمية ، فلو توقفت المقدمية على الإيصال ، لزم الدور. وعلى الثاني يلزم صيرورة الطلب نفسيا ، لأن الأمر إذا تعلق بشيء لا تكون له جهة المقدمية ، فلا بد من كون ذلك الأمر نفسيا. ولا تخلو هذه الوجوه من نظر.

(أما الأول) فلان لزوم كون امتثال الأمر المقدمي ـ بعد الإتيان بذي المقدمة ـ لا مانع له عقلا ، وليس ما ذكر إلّا مجرد استبعاد. ولا يمكن جعل هذا الاستبعاد في قبال الوجدان الّذي يدعيه القائل.

و (اما الثاني) فلان كون الامتثال منوطا بإتيان ذي المقدمة ، لا يستلزم كون الطهارة منوطة به ، لإمكان ترتب الطهارة على الغسلتين والمسحتين ، مع قصد التوصل ، ولو لم يتوصل إلى ذي المقدمة ، أو يقال أنه يشترط مع القصد المذكور كون الفعل بحيث تترتب عليه الصلاة في علم الله تعالى.

______________________________________________________

(١٢٦) قد يقال : إن عنوان الإيصال ينتزع من نفس المقدمة ، بملاحظة بلوغها إلى حد يترتب عليها ذوها ، ولا ينفك عنها ، وهو ملازم لذي المقدمة ، ولا ينتزع من تأثير المقدمة حتى يلزم التأخر والدور ، لكن ذلك لا يؤثر في دفع الإشكال ، لأن العنوان ـ على الفرض ـ ينتزع من ذات المقدمة بما هي مقدمة ، بملاحظة بلوغها إلى الحد المذكور ، والمفروض توقف المقدمية على العنوان المذكور ، فيلزم الدور.

والحاصل أنه بعد قضاء العقل بكون القيد مأخوذا في موضوع الواجب ، وتحقق الإجماع على توقف الصلاة على الطهارة ، يستكشف أن الطهارة ليست من أثر امتثال الأمر المقدمي للوضوء ، بل هي مترتبة على فعل الوضوء ، مع قصد الإيصال قبل تحققه.

و (أما الثالث) فبأنا نختار الشق الثاني ، أعنى عدم مدخلية هذا القيد في مقدمية المقدمة ، ولا يلزم من ذلك محذور أصلا ، لشيوع مثل هذا التقييد الّذي لا دخل له في المقدمية ، بحيث ليس لأحد إنكاره ، مثل ما إذا كان للواجب مقدمتان إحداهما مباحة ، والأخرى محرمة ، فانه لا إشكال في تعلق الأمر الغيري بالمباح منهما ، مع القطع بعدم دخل الخصوصية في المقدمية.

(فان قلت) : تقييد الموضوع في المثال المذكور إنما يكون من جهة المانع الخارجي وهو كون الفرد الأخير مبغوضا غير قابل لتعلق الأمر به.

(قلت) : بعد ما صار مثل هذا التقييد الّذي ليس له دخل في المقدمية ممكنا ، لا يرجع الطلب المتعلق به إلى الطلب النفسيّ ، فللمدعي أن يدعى هنا أن المقتضى للطلب الغيري ليس إلا فيما كان متصفا بقيد الإيصال.

فالأولى في الجواب أن يقال ـ بعد بداهة عدم كون مناط الطلب الغيري إلا التوقف ، واحتياج ذي المقدمة إلى غيره ـ ان تقييد موضوع الطلب بقيد يجب إما أن يكون من جهة دخله في الغرض. وبعبارة أخرى المصلحة المقتضية للطلب لا تحصل الا في المقيد ـ وإما أن يكون من جهة غرض آخر مع تحقق المناط ، والجهة الموجبة للإيجاب في ذات الموضوع من دون ذلك القيد أيضا. والأول كتقييد الصلاة بالطهارة ، والثاني كتقييدها بوقوعها في المكان المباح ، فان هذه الخصوصية لا دخل لها في

تحقق الجهة الموجبة للصلاة ، بل إنما جاءت من قبل مبغوضية الغصب.

وبعبارة أخرى هذا التقييد إنما نشأ من الجمع بين الغرضين ، لا من جهة مدخليته في تحقق غرض الصلاة. ولا إشكال في أن هذا القيد ليس من قبيل الثاني ، فانحصر في الأول ، وهو كونه من جهة دخله في مناط طلب المقدمة. وهذا ـ بعد بداهة أن المناط ليس إلّا التوقف ـ غير معقول ، لأن الإيصال عنوان ينتزع من وجود ذي المقدمة ، فهو موقوف عليه ، فلو توقف ذو المقدمة على الفعل المقيد بالإيصال ، لزم الدور. وهذا واضح بأدنى تأمل. وأيضا يلزم من وجوب المقدمة الموصوفة وجوب ذاتها ، مقدمة لتحقق هذا الموصوف.

(لا يقال) إن المطلق عين المقيد وجودا في الخارج ، وليس مقدمة له ، حتى يجب بوجوبه.

(لأنا نقول) فرق بين القيود المتحدة في الوجود مع المقيد ، كما في الفصول اللاحقة للأجناس ، والقيود المغايرة في الوجود له ، كما إذا امر المولى بإتيان زيد المتعقب بعمرو ، أعني إتيان زيد المتصف بهذا العنوان ، لا إشكال في أن الواجب على الصورة الأولى أمر واحد في الخارج ، لا ينفك القيد فيها عن المقيد ، ولو أراد المكلف امتثاله. ولا وجه للقول بأنه يجب إيجاد المطلق مقدمة لإيجاد المجموع ، وإيجاد القيد مقدمة لإيجاده ، إذ المفروض وحدة الوجود فيهما. ولا يعقل التفكيك بين امرين متحدين في الوجود بالسبق واللحوق ، كما انه لا ينبغي الإشكال في ان الواجب على الثانية إيجاد ذات المطلق ، ثم إيجاد القيد ليتصف به المقيد ، لأن المفروض تغايرهما في الوجود.

إذا عرفت هذا فنقول لا إشكال في أن التقييد في المقدمة الموصلة من قبيل الثاني ، لأن ما يصير منشأ لانتزاع صفة الإيصال هو وجود الغير ،

فلو وجبت عليه المقدمة المقيدة بوصف ينشأ من وجود الغير ، فالواجب عليه من باب المقدمة إيجاد ذات المقدمة ، ثم إتيان ما يوجب اتصافها بتلك الصفة ، وأيضا يلزم من وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذي المقدمة من باب المقدمة ، لأن اتصاف المقدمة بالإيصال يتوقف على إيجاد ذي المقدمة ، وهو من الغرائب.

ويمكن ان يقال ان الطلب متعلق بالمقدمات في لحاظ الإيصال ، لا مقيدا به حتى تلزم المحذورات السابقة (١٢٧). والمراد أن الآمر بعد تصور المقدمات بأجمعها يريدها بذواتها ، لأن تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي ، ولو لاحظ مقدمة منفكة عما عداها

______________________________________________________

(١٢٧) وحاصل الكلام أنا نرى بالوجدان عدم مطلوبية المقدمة ، وان كانت منفكّة عن ذيها ، ولا نتعقل التقييد بالبيان الماضي ، بل بوجدان سقوط إرادة المقدمة بعد حصولها ، وعدم بقاء شيء في النّفس بعدها ، غير إرادة نفس ذي المقدمة. وأما القول بأن سقوطها مراعى ، فمع أنه خلاف الوجدان مخالف لما يحكم به العقل : من أن الإيصال إن كان قيدا للمطلوب المقدمي ، فيلزم عدم السقوط قطعا ، وان لم يكن قيدا له ، بحيث يحصل المطلوب المقدمي بدونه ـ فلا وجه لعدم السقوط وكونه مراعى.

والّذي يسلم من تلك المحاذير ، ولا يخالف الوجدان هو أن يقال : إن مطلوبية المقدمة ـ لما كانت بلحاظ مطلوبية ذيها ـ لم ير الآمر ذلك المطلوب مطلوبا الا بعد لحاظ كونه موصلا إلى مطلوبه الآخر ، بمعنى أن في هذا اللحاظ يراه مطلوبا ، وفي غيره لا يراه مطلوبا ، لكن لا بحيث يكون المطلوب أو الطلب المنشأ مقيدا به ، بل يرى مطلوبه الأصلي وراء المقدمات ، فينشئ الطلب نحوه ويتبعه الطلب نحو مقدماته في هذا اللحاظ ، ففي غير هذا اللحاظ لم يكن مطلوبا ، بلا لزوم محذور التقييد ، وذلك مثل الحكم الواقعي المجعول لذات الموضوع في لحاظ تجريدها عن الشك ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

لا يريدها جزما ، فان ذاتها وان كانت موردا للإرادة ، لكن لما كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدمات معها ، لم تكن كل واحدة مرادة بنحو الإطلاق ، بحيث تسرى الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدمات. وهذا الّذي ذكرناه مساوق للوجدان. ولا يرد عليه ما ورد على القول باعتبار الإيصال قيدا ، وإن اتحد معه في الأثر.

الأمر بالمسبب هل يرجع إلى السبب؟

(الأمر السادس) هل أن الأمر المتعلق بالمسبب يجب إرجاعه إلى السبب عقلا ، أو هو حقيقة متعلق بنفس المسبب؟ والسبب إن وجب إنما يجب من باب المقدمة؟ الوجوه المتصورة في المقام ثلاثة :

(الأول) أن يقال : إن الأمر بالسبب مطلقا راجع إلى السبب عقلا.

(الثاني) أن يقال : إن الأمر بالمسبب متعلق بنفسه مطلقا.

(الثالث) التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات ، مثل انكسار الخشبة المتحقق بإيصال الآلة قوة الإنسان إليها ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما لو كان في البين فاعل آخر ، كما في إلقاء النّفس إلى السبع فيتلفها ، أو إلقاء شخص في النار فتحرقه.

احتج للأول بأن متعلق الإرادة والتكليف انما هو فعل المكلف ، إذ لا معنى للأمر بما ليس من فعله ، والأفعال المترتبة على أسباب خارجية ليست من فعله ، بل هي من فعل تلك الأسباب والوسائط ، لانفكاكها عن المكلف في بعض الأحيان ، كما إذا رمى سهما فمات ، فأصاب زيدا بعد موت الرامي ، فلو كان الفاعل هو الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامي ، لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا ، فيكشف

ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي ، بل هو السهم ، غاية الأمر أنه لم يكن فاعلا بالطبع ، وإنما تكون فاعليته من جهة احداث الرامي القوة فيه. وقس على ذلك سائر الأمثلة.

وأجيب عنه بأنا نسلم أن التكليف لا يتعلق إلّا بما يعد فعلا للمكلف ، إلا أنا نقول ان الفعل الصادر عنه ، له عنوان أولى ، وعناوين ثانوية متحدة معه ، بواسطة ترتب الآثار عليه ، مثلا حركة اليد المؤثرة في حركة المفتاح لها عنوان أولى ، وهو حركة اليد وتحريك اليد ، وبملاحظة تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح ، وبملاحظة تأثيرها في انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب. ولا إشكال في أن حركة اليد التي هي الفعل الأول للفاعل كما انها فعل له ، كذلك العناوين المتحدة معها ، لمكان اتحادها مع فعله الأول في الخارج. وحينئذ لو تعلق التكليف بتحريك المفتاح الّذي يتحد مع تحريك اليد الّذي هو فعل للمكلف ، فلا موجب لإرجاعه إلى التعلق بتحريك اليد ، إذ كما أنه فعل اختياري له كذلك ما يتحد معه.

وقد يناقش في هذا الجواب بان تحريك المفتاح في المثال لا يمكن ان ينطبق على تحريك اليد ، لأنه عين حركة المفتاح في الخارج ، لما تقرر من وحدتهما في الخارج. وانما الفرق من حيث الاعتبار ، وهي غير حركة اليد المتحدة مع تحريكها ، فيجب ان يكون تحريك المفتاح أيضا غير تحريك اليد ، وإلا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متحدتين أيضا والمفروض خلافه.

والجواب أنا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد ، بل نقول ان الفعل الّذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الأول ، ينقلب عنوانه إلى تحريك المفتاح في الآن الثاني فافهم.

هذا ولكن لا يخفى أن هذا إنما يصح فيما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلة. وأما إذا كان هناك فاعل آخر يصدر عنه الفعل ، فلا يمكن القول باتحاد الفعل الصادر عنه مع الفعل الصادر عن الفاعل الأول وهذا واضح.

وقد يجاب أيضا عن أصل الدليل : بأنا لا نسلم لزوم تعلق الإرادة بالفعل الصادر عن الفاعل ، بل يكفى في قابلية تعلق الحكم بشيء كونه مستندا إلى المكلف بنحو من الاستناد ، سواء كان بنحو الفاعلية علية ، أم بنحو تأثير الشرط في وجود المشروط ، أم غير ذلك.

وبعبارة أخرى الكلام في المقام إنما هو في أن متعلق الإرادة بحسب حكم العقل ما ذا؟ فنقول : ما يقطع العقل باعتباره في متعلق الطلب ، هو ارتباط المطلوب بالمكلف بنحو من أنحاء الارتباط ، فخرج به ما ليس للمكلف تأثير فيه بنحو من الأنحاء. وأما لو كان له ربط بالمكلف بوجه ، بحيث يكون وجوده منوطا باختياره ، بحيث لو شاء يوجد ولو لم يشأ لم يوجد ، فنمنع استحالة تعلق التكليف به عقلا.

وفيه انه لو أراد أن التكليف ـ فيما ليس بيد المكلف إلا إيجاد شرطه كالإحراق بالنار مثلا ـ متعلق بما هو شأن الواسطة ، كما إذا تعلق التكليف بما هو شأن النار في المثال ، فهذا غير معقول ، وإن أراد أن التكليف متعلق بما هو شأن المكلف ، فهو راجع إلى الأمر بإيجاد الواسطة.

توضيح المقام على وجه يرفع الإبهام عن وجه المرام : أن الأعراض باعتبار النسبة إلى محالها تختلف (فتارة) تكون نسبتها إليها بمجرد كونها حالّة بها ، من دون أن تكون صادرة عن محالّها ، كالموت والحياة والسواد والبياض ، و (أخرى) تكون نسبتها إليها من جهة انها صادرة عنها ، كالضرب والقيام. أما ما كان من قبيل الأول ، فلا إشكال في عدم قابلية

تعلق الطلب به ، ضرورة ان الطلب يقتضى صدور الفعل عن الفاعل ، وما ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلق الطلب به (١٢٨) لأن إرادة الأمر مثل إرادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات ، غاية الأمر

______________________________________________________

الأمر بالمسبب هل يرجع إلى السبب؟ :

(١٢٨) لكن الظاهر عدم لزوم ذلك ، بل قد تتعلق الإرادة بما ليس بفعل ، كسواد شيء أو بياضه ، مع كون مقدماته مقدورة ، وكذلك موت شخص وأمثاله. ولا فرق في ذلك بين إرادة الآمر والفاعل ، فان إرادة الفاعل أيضا قد تتعلق بوجود شيء من ذلك ، ويتحرك نحو مقدماته. وليست مقدماته مرادة له إلا تبعا ، فمتى ما كان المراد من قبيل الأفعال ، توجب الإرادة تحريك العضلات نحوه ، ومتى ما كان من قبيل ما ذكرنا توجب تحريك العضلات نحو مقدماته ، بان تترشح منها إرادة أخرى تبعا نحو المقدمات.

فإن قلت : كيف توجد الإرادة نحو المراد قبل الإتيان بالمقدمات ، وقد مر اشتراط اتصال زمان المراد بزمان الإرادة الفعلية؟

قلت : ـ بعد النقض بالافعال المرادة المحتاجة إلى المقدمات ـ إنه قد مرّ أيضا عدم المانع من تحقق الإرادة لو لم يكن بين المريد والمراد إلا إعمال قدرته ، ولو كان ذلك محتاجا إلى الزمان أيضا. وما أنكرناه هو تحقق الإرادة فيما لم يكن الفعل مقدورا أصلا ، من جهة تأخر زمانه.

والحاصل : أنه يكفي في الإرادة مجرد كون المراد حاصلا من فعل المكلف أو مرتبطا به بنحو من الارتباط ، بحيث يكون قادرا على إيجاده ولو بوسائط. نعم لو قيل بأن المقدور بالواسطة ليس بمقدور أصلا ، صح إنكار الأمر بالمسبب مطلقا.

ثم إنه لو سلّم لزوم تعلق الإرادة بالمعنى المصدري للمأمور ، فأي ملزم لكونه فعلا له بلا واسطة ، أو متحدا معه ، حتى يحتاج إلى الالتزام بما التزم به في مثل حركة اليد والمفتاح ، مع وضوح تعددهما وكون أحدهما معلولا للآخر ، وأوضح من ذلك تعدد القتل والرمي ، فانه قد يتفق الفصل بينهما بدقائق ، فكيف يمكن ادعاء اتحادهما عنوانا؟

أن الأولى موجبة لتحريك عضلات المأمور ، والثانية موجبة لتحريك عضلات المريد. وظاهر أن ما ليس من قبيل الحركة ، لا يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، فكذلك إرادة الآمر فلو تعلق الطلب بحسب الصورة بمثل ما ذكر ، يجب إرجاعه إلى ما يرجع إلى فعل المأمور.

والحاصل ان متعلق الطلب لا بد وان يكون معنى مصدريا صادرا عن المخاطب بالخطاب ، فلو لم يكن كذلك ، بان لم يكن من معنى المصدر ، أو كان ولم يكن صادرا من المأمور ، لم يمكن تعلق الأمر به. أما الأول ، فلما عرفت. وأما الثاني ، فلما مضى من ان الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ، ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه.

فتحصل مما ذكرنا أن الطلب إذا تعلق صورة بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل ، يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك. ومن هنا يقوى التفصيل بين ما إذا تعلق التكليف بما ليس بينه وبين المكلف إلا آلة توصل قوة الفاعل إلى القابل ، وبين ما إذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا له ، بل هي افعال الواسطة ، ففي الأول التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل ، وفي الثاني يجب إرجاعه إلى السبب ، فليتأمل جيدا.

المقدمات الداخلية

(الأمر السابع) أنه لو بنينا على وجوب المقدمة ، فهل أجزاء المركب المتصف بالوجوب النفسيّ تتصف به ، أو بالوجوب المقدمي؟ والحق هو الثاني ، فهنا دعويان (إحداهما) عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب النفسيّ و (الثانية) اتصافها بالوجوب المقدمي.

لنا على الأولى أن الأوامر تتعلق بالأمور الموجودة في الذهن باعتبار

حكايتها عن الخارج فالشيء ما لم يوجد في الذهن لا يعقل تعلق الأمر به (١٢٩) وهذه المقدمة في الوضوح مما يستغنى عن البرهان فحينئذ نقول : إن الاجزاء الموجودة في ذهن الآمر لا تخلو من أنها إما أن يلاحظ كل واحد منها بوجوداتها المستقلة الغير المرتبط بعضها ببعض ، نظير العام الأفرادي. وإما أن يلاحظ المجموع منها على هيئتها الاجتماعية.

فعلى الأول لا بد وأن تنحل الإرادة إلى إرادات متعددة ، كما في العام الأفرادي ، إذ الإرادة أمر قائم بنفس المريد متعلق بالافعال ، فكما انها تتعدد بتعدد المريد ، كذلك تتعدد بتعدد المراد ، إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدد المعروض.

وعلى الثاني أي على تقدير كون الملحوظ الاجزاء على نحو الاجتماع ، فالملحوظ بهذا الاعتبار امر واحد ، ولا يعقل أن يشير اللاحظ في هذا اللحاظ إلى أمور متعددة ، فوجود الاجزاء ـ بهذا الاعتبار في ذهن الآمر ـ نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيد في أنه وإن كان موجودا ، إلا أنه لا على وجه يشار إليه ، بل هو موجود تبعا للمقيد ومندكا فيه.

والحاصل أن الموجود بهذا الاعتبار ليس إلّا الكل ، والاجزاء بوجوداتها الخاصة لا وجود لها ، فمتعلق الأمر النفسيّ لا يعقل إلّا ان يكون الكل الموجود في الذهن مستقلا ، والاجزاء ـ لعدم وجودها في الذهن بهذا اللحاظ ـ لا يمكن أن تكون متعلقة للأمر (١٣٠).

______________________________________________________

المقدمات الداخليّة

(١٢٩) قد مرّ التفصيل فيه في تصوير كيفية تعلق الأمر بالعبادات فراجع.

(١٣٠) وذلك لأن جعل الشيء موضوعا لحكم من الأحكام ـ اخبارا كان أو إنشاء ـ يتوقف على تصوره مستقلا ، ولا يكفى فيه تصوره مندكا في الغير ، كما في

نعم يمكن استناد الأمر إليها بالعرض ، نظير استناد الأمر المتعلق بالمقيد إلى ذات المطلق ، أعني الطبيعة المهملة ، وهذا هو المراد من كلام شيخنا المرتضى (قدس‌سره) في التقريرات : أن الجزء إذا لوحظ لا بشرط ، فهو عين الكل ، وإذا لوحظ بشرط لا ، فهو غيره ومقدمة لوجوده. والمراد من قوله (قدس‌سره) لا بشرط عدم اشتراط أن يكون في ذهن الآمر معه شيء أم لا ، وهو الصالح لأن يتحد مع الكل. ومن قوله بشرط لا ، عدم ملاحظة الآمر معه شيئا ، أعني ملاحظته مستقلا (١٣١). ولا إشكال في أن الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح أن يتحد مع الكل ، ويحمل عليه ، إذ

______________________________________________________

المعاني الحرفية ، فانها تتصور كذلك ، ولكن لا يمكن جعلها موضوعا لحكم من الأحكام. وقد حقق في محله. ومعلوم أن الجزء لا يتصور بتصور الكل إلا مندكا في الكل ، ولا يقاس الكل والجزء بالكلي والفرد ، لأن كل فرد من الافراد يلاحظ تحت الكلي مستقلا ، ولكن إجمالا بوجه الكلي ، بخلاف الاجزاء ، فان كلا منها باستقلالها مباين مع الكل ، فلا يمكن أن يكون الكل مرآة لها. وبذلك ظهر الإشكال على ما في الكفاية من اتصاف الاجزاء بالوجود البسيط ، لأن ما لا يتصور لا يعقل اتصافه بالوجوب ، نعم يصح اسناد الواجب إليه مجازا ، ولكن ذلك لا يلائم تعليل عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري بلزوم اجتماع المثلين ، كما لا يخفى.

لا يقال : إن موضوع الوجوب عنده هي الاجزاء بأسرها لا كل واحد منها ، ومعلوم انها لا تتصور إلّا بتصور الكل.

لأنه يقال : أما (أولا) فالكل عنده الاجزاء بشرط الاجتماع ، والاجزاء بدون هذا الشرط لا تلاحظ عند تصورها مع الشرط. واما (ثانيا) : فليس موضوع الوجوب البسيط عنده إلا ما هو موضوع للوجوب الغيري ، وهو كل واحد من الاجزاء ، وإلّا فلا وجه لعدم اتصاف كل منها بالوجوب الغيري فتأمل.

(١٣١) هذا المعنى ـ من بشرط لا ولا بشرط ـ وإن كان خلاف ظاهر المصطلح ، لكنه أوفق بمراد الشيخ (ره) مما هو ظاهره. وقد مرّ من الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ

لا يصدق على الحمد ولا على غيره من اجزاء الصلاة انه صلاة (١٣٢).

ولنا على الثانية أن الآمر ـ إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي ، أي غير ملحوظ معه شيء آخر ـ يرى أنه مما يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة

______________________________________________________

عين هذا التوجيه من العبارتين في لسان أهل المعقول في الفرق بين المشتق ومبدأه ، فراجع.

وحاصل التوجيه في المقام : ان الجزء حيث لا استقلال لوجوده في الخارج ، بل وجوده مندك في الكل إن لوحظ وجوده كما في الخارج ، من دون تمحل شيء زائد عليه ، ولا اشتراط شيء معه ، ولا مع لحاظه ، ولا اشتراط عدم شيء معه ، ولا مع لحاظه ، فهو عين وجود الكل ، ولحاظه عين لحاظه. ولا يمكن لحاظه كذلك إلّا بلحاظ الكل مستقلا ، ولا يمكن أن يرى اللاحظ في هذا اللحاظ الا الكل مستقلا. وإن لوحظ مستقلا لا مندكا ، بان يعريه عما هو عليه في الخارج ، ويرى ذات الجزء بشرط ان لا يرى شيئا آخر معه ، فهو جزء ، لكن لا بشرط الانفكاك عن سائر الاجزاء ، فانه مع ذلك الشرط ليس بجزء ، بل ان لوحظ الجزء منفكا ، وان لم يشترط فيه الانفكاك أيضا لا تنتزع منه الجزئية ، بل الجزئية تنتزع من ذات الجزء إذا لوحظ بنفسه في ضمن الكل ، كالحمد في الصلاة مثلا ، أو القطرة في البحر.

ولا يخفى أن ما ذكرنا من اللحاظين لا فرق فيه بين المركب الحقيقي والاعتباري ، لأن اجزاء المركب الاعتباري وان كان لكل منها وجود مستقل في الخارج ، كالحمد والسورة والركوع والسجود ، ولكن لا استقلال لشيء منها في هذا الاعتبار الوحدانيّ ، ويكون في هذا النّظر كالمركب الخارجي.

(١٣٢) لا يخفى ان ذلك لا يصدق مع اللحاظ الأول أيضا ، ويصح سلب الصلاة عنه.

(لا يقال) : على اللحاظ الأول لا استقلال للحمد في اللحاظ ، حتى يمكن الاخبار عنه بأنه صلاة أو ليس بصلاة.

(لأنا نقول) : نعم ولكنه يمكن ان يلاحظ الجزء مستقلا ، ويجعل مرآتا لما يلاحظ

من اجتماع الاجزاء ، فحاله حال سائر المقدمات الخارجية (١٣٣) ، من دون تفاوت أصلا. هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

______________________________________________________

مندكا ، ويخبر عنه كما في المعنى الحرفي ، حيث يقال : المعنى الحرفي لا يخبر عنه ، فان الموضوع ليس إلّا المعنى الاسمي ، ولكنه يجعل مرآتا للمعنى الحرفي ، كما مرّ. ومن هذا يعلم أن شيئا من الاجزاء ليس بصلاة ، نعم الاجزاء بأسرها على هذا المعنى عين الصلاة من دون احتياج إلى قيد شرط الاجتماع. ولكن الكلام في الفرق بين كل جزء إذا لوحظ مستقلا أو مندكا ، لا الاجزاء بالأسر مع الكل.

والّذي يسهّل الخطب أن عدم الصدق والحمل غير مضر بالعينية المذكورة ، لأن التركيب الّذي يتحد كل جزء منه مع الكل ، بل مع الجزء الآخر أيضا ، هو التركيب الحقيقي الّذي تكون أجزاؤه موجودة بوجود واحد حقيقة ، كالجنس والفصل ، فان وجودهما حقيقة واحد ، بخلاف مثل القطرة والبحر ، والنقطة والخطّ ، فان وجود القطرة وان لم ينفك عن وجود البحر ، وكذلك النقطة عن الخطّ ، بمعنى عدم كون وجودهما محدودا بحد على حدة ، لكن حقيقة وجود كل من القطرات والنقاط غير الأخرى. ولذا تتصف بأوصاف وجودية متضادة ، كالحرارة والبرودة ، وبألوان مختلفة ، بخلاف الجنس والفصل.

والحاصل أن العينية في المقام غير ملازمة للصدق ، وعدم الصدق غير ملازم لعدم العينية بهذا المعنى ، فتدبر جيدا.

(١٣٣) قد يقال : بالفرق بين الجزء وسائر المقدمات ، إما بأن اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري يستلزم اجتماع المثلين ، كما في الكفاية. وإما بعدم إمكان لحاظ هذه المقدمة في عرض لحاظ ذيها ، حتى تجب بوجوبه ، لاستحالة اجتماع لحاظي الاجزاء مندكا ومستقلا.

ويرد الأول بمبناه ، لعدم اتصاف الاجزاء بالوجوب النفسيّ ، كما مرّ والثاني بعدم لزوم لحاظ جميع المقدمات تفصيلا في الوجوب الغيري ، حتى يستشكل بعدم الإمكان في خصوص تلك المقدمة ، بل يكفي لحاظها إجمالا بعنوان ما يتوقف عليه

.................................................................................................

______________________________________________________

الواجب ، فتتعلق الإرادة بها تبعا لذي المقدمة ، وإن لم يكن كل منها ملحوظا تفصيلا. بل لا يلزم ان تكون المقدمة مطلوبة فعلا ، ويكفي في المدعى أن يكون الآمر إذا التفت إلى المقدمة يراها مطلوبة كنفس ذيها كما يأتي في المتن.

نعم قد يستشكل في أصل المقدمية ، بتقريب أن المقدمة انما تلاحظ بالنسبة إلى عنوان الكل والمجموع ، وعنوان الكلية كالجزئية من المعقولات الثانوية التي لا واقعية لها في اللحاظ الأول الّذي فيه يكون الموضوع مركبا للإرادة ، فما يتعلق به الوجوب ـ وهو حقيقة الاجزاء بالأسر ـ لا مقدمة لها وما له المقدمة وهو عنوان الكل والمجموع لم يتعلق به الوجوب نعم فيه كيفية خاصة يمكن أن تنتزع منها العنوان المذكور ، ولذا نرى بالوجدان أن من يريد إيجاد خط ، لا يريد إيجاد نقاط متعددة ، بل اجزاء غير متناهية ، وكذلك من يريد إيجاد عشرة أشياء ، لا تتعلق إرادته بإيجاد الآحاد مستقلة ، بحيث يتولد من إرادة المجموع إرادات عديدة نحو إيجاد الاجزاء ، كما في المقدمات الخارجية.

لكن فيه أن حقيقة الاجزاء بالأسر وما ينتزع منه عنوان المجموع والكل ، لا تتحقق إلّا بتحقق كل من الاجزاء ، وإن لم يمكن انتزاع المقدمية إلا في اللحاظ الثاني ، ففي اللحاظ الأول وإن لم تكن المقدمية وذو المقدمية متحققين بعنوانهما ، ولكن حقيقتهما وملاكهما متحققان في الواقع ونفس الأمر ، وملاك الوجوب ـ على القول بالوجوب ـ ليس إلّا ذلك ، فيرجع الإشكال أيضا إلى عدم إمكان اجتماعهما في اللحاظ وقد مرّ الجواب عنه.

وأما عدم تعدد الإرادة في مثال الخطّ أو إيجاد عشرة أجزاء مثلا ، فان أريد عدم الإرادة بالنسبة إلى كل نقطة بحدها ، أو كل جزء من العشرة كذلك فعلا فمسلم ولا يلتزم به القائل بالمقدمية. وان أريد انقداح الإرادة إلى ذات كل نقطة عند التفات الآمر إليها ، من دون نظر إلى إحداها ، فلا محيص عنه ، فهل يلتزم أحد بأن من يقرأ الحمد مثلا في الصلاة ـ مع الالتفات إليها ـ لا يريد قراءتها ولو بالإرادة الغيرية؟ بل توجد بنفس إرادة الصلاة ، والوجدان في ذلك أقوى شاهد.

استدلال القائلين بوجوب المقدمة

(الأمر الثامن) في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة. أقول ما تمسك به في هذا المقام وجوه ، أسدها وأمتنها ما احتج به شيخنا المرتضى (قدس‌سره) من شهادة الوجدان ، فان من راجع وجدانه وأنصف من نفسه ، يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلق بالفعل والمتعلق بمقدماته (١٣٤).

لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها ، كيف؟ والبداهة قاضية بعدمه ، لجواز غفلة الطالب عن المقدمة ، إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع ، حتى لا يتصور في حقه ذلك ، بل المقصود أن الطالب للشيء إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه ، يجد من نفسه

______________________________________________________

أدلة القائلين بوجوب المقدمة :

(١٣٤) لا إشكال في ثبوت الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته ، لأن من تعلقت إرادته بالكون على السطح ، ويعلم بأنه لا يتمكن منه الا بنصب السلّم فلا محالة توجد إرادة تبعية منه تتعلق بالنصب ، ويتحرك نحوه ، وإلّا ينجر الأمر إلى نقض غرضه.

وأما في الإرادة التشريعية فيمكن نفيها ، لأن الآمر إذا أراد الكون على السطح من عبده ، فليس في نفسه إلّا إيجاد المحرك التام والداعي للعبد على إتيان مطلوبه ، وبعد ما يرى أن تشريع الحكم نحو مطلوبه كاف في محركية العبد وواف في احداث خوف المخالفة في نفسه ، بحيث تحركه تلك الإرادة النفسيّة إلى مطلوبه ، مع ما يتوقف عليه من المقدمات ، فما الملزم بل وما الباعث له في تشريع الحكم نحو المقدمات أو انقداح الإرادة نحوها؟ وهل هذا الا لغو ، لأن المقدمة بالفرض ليست مطلوبة نفسا ، ولا يحتاج البعث إلى ذيها إلى البعث نحوها ، فلا ملازمة في البين.

حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها ، كما قد يتفق هذا النحو من الطلب النفسيّ أيضا ، فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك ، أو لم يلتفت إلى كونه ابنه ، فان الطلب الفعلي في مثله غير متحقق ، لابتنائه على الالتفات ، لكن المعلوم من حاله أنه لو التفت إلى ذلك لأراد من عبده الإنقاذ ، وهذه الحالة ـ وان لم تكن طلبا فعليا إلّا انها ـ تشترك معه في الآثار. ولهذا نرى بالوجدان ـ في المثال المذكور ـ أنه لو لم ينقذ العبد ابن المولى ، عد عاصيا ويستحق العقاب.

و (منها) ـ اتفاق أرباب العقول كافة عليه ، على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل ، نظير الإجماع الّذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع ، أو على حدوث العالم ، فان اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالا عن حكم العقل ، فلا يرد على المستدل أن المسألة ـ لكونها عقلية ـ لا يجوز التمسك لها بالإجماع ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، لأن الإيراد متوجه لو أراد من الإجماع المستدل به عليه الإجماع الاصطلاحي. أما على الوجه الّذي قررناه ، فلا مجال للإيراد. هذا ولكن الشأن في إثبات مثل هذا الاتفاق.

و (منها) أن المقدمة لو لم تكن واجبة ، لجاز تركها ، فحينئذ إن بقي الواجب على وجوبه ، يلزم التكليف بالمحال ، وإلّا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبطلان اللازمين مما لا كلام فيه ، فكذا الملزوم.

والجواب أن ما أضيف إليه الظرف ـ في قوله فحينئذ ـ إن كان الجواز ، نختار الشق الأول ، أعني بقاء الواجب على وجوبه ، ولا يلزم المحذور قطعا ، لعدم معقولية تأثير الوجوب في القدرة ، وإن كان الترك مع كونه جائزا ، فان فرض إمكان إيجاد المقدمة عند ذلك ، بأن كان الوقت

موسعا ، فنختار أيضا الشق الأول ، ولا يلزم التكليف بالمحال. وهو واضح. وإلا بان انقضى زمان الإتيان بها ، فنختار الشق الثاني.

وقوله (قدس‌سره) يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، إن أراد خروجه من أول الأمر عن كونه كذلك ـ كما هو ظاهر عبارته ـ فنمنع الملازمة ، وإن أراد خروجه بعد ترك المقدمة وانقضاء زمانها ، فليس اللازم باطلا ، لأن الوجوب قد يسقط بالإطاعة ، وقد يسقط بالعصيان.

و (منها) ـ ما حكى عن المحقق السبزواري (ره) وهو أنها لو لم تكن واجبة ، يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب.

(بيان الملازمة) أنه إذا كلف الشارع بالحج ، ولم يصرح بإيجاب المقدمات ، فتارك الحج ـ بترك قطع المسافة الجالس في بلده ـ إما أن يكون مستحقا للعقاب في زمان ترك المشي ، أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل إلى الأول ، لأنه لم يصدر منه في ذلك الزمان إلا ترك الحركة. والمفروض أنها غير واجبة عليه ، ولا إلى الثاني ، لأن الإتيان بافعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه؟ ألا ترى أن الإنسان إذا أمر عبده بفعل معين في زمان معين في بلد بعيد ، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فان ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنه لم يصدر منه إلى الآن فعل قبيح يستحق به التعذيب ، لكن القبيح أنه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرّأي وركاكة العقل ، بل لا تصح العقوبة إلا على الاستحقاق السابق قطعا.

ثم نقول : إذا فرضنا أن العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل ، فإما أن يكون مستحقا للعقاب ، أولا ، لا وجه للثاني ، لأنه ترك

المأمور به مع كونه مقدورا ، فثبت الأول ، فاما أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم ، أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأول ، لأن استحقاق العقاب إنما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن والقبح بالاتفاق. ولا وجه للثاني ، لأن السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة. والمفروض عدم وجوبها. هذا حاصل ما أفاده (قدس‌سره) وقد نقلناه ملخصا.

والجواب أنه لا محذور في اختيار كل واحد من الشقين ، فلنا أن نختار الشق الأول ، وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشي ، لا على ترك المشي ، بل على ترك الحج المستند إلى ترك المقدمة اختيارا ، فان طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء ، وهم يحكمون بحسن عقاب العبد التارك للمقدمة في زمن تركها ، ولا يلزمون المولى بانتظار زمن الفعل ، وليس هذا التزاما بترتب العقاب على ترك المقدمة ، بل المقصود إثبات العقاب المترتب على ترك ذيها في زمن ترك المقدمة ، وامتناع ذيها اختيارا.

ولنا ان نختار الشق الثاني ، فنقول : إن تارك المقدمة مستحق للعقاب في زمان الحج ، وقوله (قدس‌سره) ـ ان فعل الحج هناك غير مقدور ، فلا يمكن اتصافه بالقبح ـ غير وجيه ، لأنا نقول : يكفى في اتصافه بالمقدورية كون المكلف قادرا على إتيان مقدمته في زمانها ، فاتصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدورية مقدماته بالقبح لا مانع له. وأي قبح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه؟

(واما) ما ذكره أخيرا من فرض كون تارك المقدمة نائما في زمن الفعل (فالجواب عنه) أن ما لا يمكن ان يتصف بالحسن والقبح من فعل النائم إنما يكون فيما استند إلى النوم ، مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى

النوم ، وليس هذا الترك مما نحن فيه مستندا إلى النوم ، حتى لا يمكن اتصافه بالقبح ، بل هو مستند إلى ترك المقدمة في زمانها اختيارا. وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان. وهذا واضح.

و (منها) ـ ما حكى عن المحقق المذكور أيضا ، وهو أنها لو لم تكن واجبة لزم ان لا يستحق تارك الفعل العقاب أصلا. وبيانه : أن المريد للشيء إذا تصور أحوالا مختلفة يمكن وقوع كل واحد منها ، فاما أن يريد الإتيان بذلك على أي تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به على بعض تلك التقادير. وهذا مما لا إشكال فيه.

وحينئذ نقول إذا امر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها ، فاما ان يريد الإتيان به على أي تقدير من تقديري الوجود والعدم ، فيكون في قوة قولنا : ان وجدت المقدمة فافعل ، وان عدمت فافعل. وإما أن يريد الإتيان به على تقدير الوجود. والأول محال ، لأنه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيدا بحضور المقدمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب ، لفقدان شرط الوجوب. والمفروض عدم وجوب المقدمة ، فينتفى استحقاق العقاب رأسا.

والجواب (أما أولا) فبأنه لو تم ما ذكره هنا ، لزم أن لا يقع الكذب في الاخبار المستقبلة (١٣٥).

(بيان الملازمة) أنه لو أخبر المخبر بأني غدا اشترى اللحم ، فعلى تقدير

______________________________________________________

(١٣٥) الظاهر عدم لزوم ذلك على القائل بالملازمة ، لأن القائل بها يلتزم بان الاخبار بذي المقدمة اخبار بالمقدمة ، وانما هو إشكال آخر على القائل بعدم الملازمة.

عدم الشراء لا وجه لتكذيبه ، إذ له أن يقول : إن الاخبار بشراء اللحم إما أن يكون على تقدير إيجاد جميع المقدمات أو الأعم من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني ، لأوله إلى الاخبار عن الممتنع ، فثبت الأول ، فيئول إلى الاخبار بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدمات. والمفروض عدم وجود واحدة منها ، إذ لا أقل من ذلك ، فلا يكون كذبا ، إذ عدم تحقق اللازم في صورة عدم تحقق الملزوم ليس كذبا في القضية الشرطية الخبرية.

و (أما ثانيا) فبان اللازم ـ على ما ذكره ـ عدم استحقاق العقاب على ترك واجب أصلا ، لرجوع الواجبات بأجمعها إلى الواجب المشروط.

(بيان ذلك) أن كل واجب لا بد له من مقدمة ، ولا أقل من إرادة الفاعل ، فحينئذ نقول : إما أن يريد ذلك الفعل في حالتي وجود المقدمة وعدمها ، أو في حالة وجودها فقط. والأول مستلزم للتكليف بما لا يطاق ، والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات ، إذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب وليت شعري هل ينفعه وجوب المقدمة في دفع هذا الإشكال (١٣٦).

______________________________________________________

(١٣٦) بيان ذلك : ان وجوب المقدمة لا يؤثر في رفع توقف ذي المقدمة عليها ، لأنه مستلزم للتكليف بما لا يطاق بالفرض ، وحينئذ نقول : ان ترك المأمور المقدمة فلا يستحق العقاب بشيء ، أما على ذي المقدمة ، فلعدم حصول ما يتوقف عليه ، وأما على المقدمة ، فلأن ترك الواجب الغيري لا يؤثر في العقاب ، بل على الفرض لم تكن المقدمة واجبة أصلا ، لأن وجوبها تابع لوجوب ذي المقدمة ، وهو منتف بالفرض ، لانتفاء شرطه. وأيضا يستلزم ذلك الاشتراط ـ مع القول بوجوب تلك المقدمة المتوقف عليها ذوها : ـ إمّا التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط والإطلاق ، وإمّا كون وجوب الشيء متوقفا على وجوده. وبطلانهما واضح.

و (أما ثالثا) فبان الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب إطلاقا أو تقييدا هي ما يمكن تعلق الطلب بالموضوع معه ، ويجوز كونه في تلك الحالة باعثا للمكلف نحو الفعل. وأما ما لم يكن كذلك بان لا يمكن معه أن يكون الطلب باعثا للمكلف نحو الفعل ، فلا يعقل تقييد الطلب به ولا إطلاقه. أما الأول ، فللزوم لغوية الطلب. وأما الثاني ، فلأنه تابع لإمكان التقييد. وحالتا وجود المقدمة وعدمها من قبيل الثاني ، لأنه على الأول يصير الفعل واجبا ، فلا يمكن تعلق الطلب به على تقدير وجوبه. وعلى الثاني يصير ممتنعا ، فلا يمكن أيضا تعلق الطلب به على هذا التقدير. وبعد عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما ، لا يمكن ملاحظة الإطلاق أيضا بالنسبة إليهما ، بل الطلب متعلق بذات الفعل مع قطع النّظر عنهما إطلاقا وتقييدا ، وهو يقتضى إيجاد الفعل ، ولو لم يوجد يستحق العقاب. وهذا واضح. وقد ذكروا وجوها أخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها ، اقتصارا على ما هو الأهم في الباب. وهو الهادي إلى الصواب.

مقدمات الحرام

(الأمر التاسع) في بعض الكلام في مقدمات الحرام ، وليعلم (أولا) أن الالتزام بحرمة مقدمة الحرام ـ بقصد التوصل إليه ـ ليس قولا بحرمة مقدمة الحرام ، لأن هذا من جزئيات مسألة التجري ، فعد بعض الأساطين حرمة مقدمات الحرام بقصد التوصل إلى ذيها من باب مقدمة الحرام ـ واقتضاء النهي المتعلق بذيها لها ـ مما لم يعرف له وجه ، لأن الجهة المقبحة الموجودة في إتيان المقدمة بقصد التوصل إلى الحرام ، ليست منوطة بوجود محرم واقعي تكون هذه المأتي بها بقصد التوصل مقدمة له ، بل

هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شيء ، وأتى بمقدماته بقصد التوصل إليه ، ولم يكن ذلك الشيء محرما في الواقع ، أو اعتقد مقدمية شيء لمحرم ، وأتى به بقصد التوصل إلى ما اعتقد ترتبه عليه. وأعجب من ذلك قياسه بباب مقدمة الواجب ، فان ما تحقق هناك أن إتيان ذات المقدمة من دون قصد التوصل إلى ذيها لا يعد طاعة ، لا ان موضوع الطلب التبعي هو الفعل المقرون بهذا القصد.

وكيف كان ، فالمهم في هذا الباب بيان ان المقدمات الخارجية للحرام هل تتصف بالحرمة ، نظير ما قلنا في المقدمات الخارجية للواجب ، أم لا تتصف أصلا ، أم يجب التفصيل بينها؟

فنقول : إن العناوين المحرمة على ضربين : (أحدهما) أن يكون العنوان بما هو مبغوضا ، من دون تقييده بالاختيار وعدمه من حيث المبغوضية ، وان كان له دخل في استحقاق العقاب ، إذ لا عقاب الا على الفعل الصادر عن اختيار الفاعل. (ثانيهما) ان يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا ، بحيث لو صدر عن غير اختيار ، لم يكن منافيا لغرض المولى ، فعلى الأول علة الحرام هي المقدمات الخارجية ، من دون مدخلية الإرادة ، بل هي علة لوجود علة الحرام. وعلى الثاني تكون الإرادة من اجزاء العلة التامة.

إذا عرفت هذا فنقول : نحن إذا راجعنا وجداننا ، نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلة التامة له ، من دون سائر المقدمات ، كما إذا راجعنا الوجدان في طرف إرادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين إرادة كل واحدة من مقدماته ، وليس في هذا الباب دليل امتن وأسد منه. وما سوى ذلك مما أقاموه غير نقي من المناقشة. وعلى هذا ففي القسم الأول إن كانت العلة التامة مركبة من أمور يتصف المجموع منها بالحرمة ، وتكون إحدى المقدمات

لا بشخصها محرمة ، إلا إذا وجد باقي الاجزاء ، وانحصر اختيار المكلف في واحدة منها ، فتحرم عليه شخصا ، من باب تعين أحد افراد الواجب التخييري بالعرض ، فيما إذا تعذر الباقي ، فان ترك أحد الاجزاء واجب على سبيل التخيير ، فإذا وجد الباقي وانحصر اختيار المكلف في واحد معين ، يجب تركه معينا. واما القسم الثاني ـ أعنى فيما إذا كان الفعل المقيد بالإرادة محرما ـ فلا تتصف الاجزاء الخارجية بالحرمة ، لأن العلة التامة للحرام هي المجموع المركب منها ومن الإرادة ، ولا يصح اسناد الترك الا إلى عدم الإرادة. لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات الخارجية (١٣٧).

______________________________________________________

مقدمات الحرام

(١٣٧) لا يخفى أنه لا وجه لا سبقية رتبة عدم الإرادة من عدم سائر المقدمات في المقام ، لأن علة وجود الحرام مركبة بالفرض من الإرادة وسائر المقدمات ، وليست إرادة الحرام علة منحصرة لسائر المقدمات ، حتى يكون عدمها علة لترك جميع المقدمات ، لأنه خلاف الفرض من تحقق المقدمة مع عدم إرادة ذيها ، بل قد تتولد إرادة المقدمات منها ، وقد توجد بداع آخر ، ولو لم يكن ذو المقدمة بنظره أصلا ، بل ليست الإرادة أحد الفردين من العلة التامة لها أيضا ، بل هي من أجزاء العلة الغير المنحصرة للمقدمات ، فإذا كان هذا حال الوجود ، فمن طرف العدم أيضا قد ينعدم الفعل بانعدام مقدماته الأخرى ، وقد ينعدم بانعدام الإرادة. ولا سبق لعدم شيء منها على الأخرى ، لكون كل من المقدمات ـ على الفرض مع الإرادة في عرض واحد ـ علة للوجود ، فبعدم كل منها ينعدم الوجود رأسا.

نعم ، سبق الرتبة يصح ـ على ما زعم صاحب الفصول ـ في خصوص مقدمية فعل الضد لترك الضد الآخر ، حيث أن الترك إذا استند إلى الصارف ، لا يستند إلى فعل الضد ، لتقدم عدم المقتضى على وجود المانع ، وليس في المقام مقتض ولا مانع ، حتى

فقد فهم مما ذكرنا أن القول بعدم اتصاف المقدمات الخارجية للحرام بالحرمة ـ مطلقا لسبق رتبة الصارف ، وعدم استناد الترك إلا إليه مطلقا ـ مما لا وجه له ، بل ينبغي التفصيل ، لأنه في القسم الأول لو فرض وجود باقي المقدمات مع عدم الإرادة ، تحقق المبغوض قطعا ، فعدم إحداها علة لعدم المبغوض فعلا. وأما في القسم الثاني ، فلو فرضنا وجود باقي المقدمات مع الصارف ، لم يتحقق المبغوض ، لكونه مقيدا بصدوره عن

______________________________________________________

تكون رتبة عدم المقتضى متقدمة على المانع ، بل كل واحدة من المقدمات في عرض واحد علة للترك ، كما عرفت ، فإذا كان الفعل مبغوضا وقلنا في مقدمات المبغوض انها مبغوضة على البدل ، كانت الإرادة مع كل واحد من المقدمات منهيا عنها بالنهي التخييري ، من غير فرق في ذلك بين ما يكون الاختيار فيه دخيلا وغيره ، ولا بين التوليديات وغيرها ، مما يكون الاختيار لنفس الفعل بعد المقدمات موجودا أيضا ، حيث توهم فيه أيضا عدم اتصاف غير الإرادة بالحرمة ، لبقاء الاختيار بعد المقدمات أيضا ، فان أريد عدم حرمة المقدمات الخارجية تعيينا ، فمعلوم. وان أريد عدم حرمتها تخييرا ، فلا وجه له ، إلّا على القول بأن المقدمات لا تتصف بالحرمة إلا ما لا تبقى معه القدرة على الحرام. وقد توهم فيه أيضا تقدم رتبة عدم الإرادة على سائر المقدمات ، لشأنية الإرادة ، لأن تكون علة لها في بعض الأوقات ، وقد مر بطلانه.

ونقول : في توضيح ذلك زيادة على ما مر : أن الإرادة لو فرض كونها علة تامة في بعض الأوقات لسائر المقدمات ، لكن ليست رتبة عدم المعلول متأخّرة عن رتبة كل واحدة من العلل الغير المنحصرة ، لأن العلة في مثل المقام في الحقيقة ليس إلّا الجامع بين العلل ، فتكون رتبة عدم المعلول متأخرة عن رتبة الجامع. ومعلوم أنه لا ينعدم إلّا بانعدام جميع افراده لا خصوص فرد منه ، بخلاف طرف الوجود فانه يوجد بوجود فرد ، فإذا ثبت عدم تأخر رتبة عدم المقدمات عن عدم الإرادة ، فلا محيص عن القول بالحرمة التخييرية في المقدمات الخارجية ، إلا فيما مثّل به صاحب الفصول على زعمه ، وإن كان هو في نفسه مخدوشا ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

الإرادة ، فالمقدمات الخارجية ـ من دون انضمامها إلى الإرادة ـ لا توجد المبغوض ، ففي طرف العدم يكفى عدم إحدى المقدمات. ولما كان الصارف أسبق رتبة منها ، يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي ، فيتصف بالمحبوبية ، دون ترك إحدى المقدمات الخارجية ، فلا يكون فعلها متصفا بالحرمة.

المقصد الثالث في الضد

هل الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده الخاصّ أم لا؟ أقول لما كانت المسألة مبتنية على مقدمية ترك الضد لفعل ضده (١٣٨) ، فاللازم

______________________________________________________

مبحث الضد :

(١٣٨) يعني عند عمدة القائلين بالاقتضاء ، حيث أسندوا حرمة الضد الخاصّ إلى مقدمية تركه لضده الواجب ، وإلّا فقد ادعى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ، أو مركب منه ومن طلب الفعل في مقام الثبوت ، ودلالة الأمر على النهي عن الضد ـ بالمطابقة ، أو بالتضمن أو بالالتزام ـ في مقام الإثبات ، مع اختلاف أقوالهم في بعض ما ذكر بالنسبة إلى الضد الخاصّ أو العام ، بل يمكن أن يقال في مقام الثبوت بالملازمة العقلية ، ولو لم نقل بالمقدمية ، بتقريب أن يقال : لا ريب في أن إرادة الفاعل للفعل ملازمة لإرادة ترك ضده ، وانه يترك ضد مطلوبه عن إرادة إذا التفت إليه ، فكذلك الإرادة التشريعية لفعل الشيء تلازم الإرادة التشريعية لترك ضده ، ولو لم تكن مقدمة له ، فتكون الإرادتان من قبيل المتلازمين في الوجوب.

نعم من أنكر الملازمة والمشابهة بين التشريع والتكوين ـ كما ذكرنا في نفي وجوب المقدمة ـ ينكرها في المقام أيضا.

وأيضا يمكن القول بالمقدمية مع عدم حرمة الضد ، لاستناد الترك إلى الصارف ، كما عليه صاحب الفصول ، فالابتناء عند الأكثر لا عند الكل.

التكلم فيها ، فنقول : هل ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، أو فعله مقدمة لترك ضده ، أو كل منهما مقدمة للآخر ، أو لا توقف في البين؟

والمعروف من تلك الاحتمالات ، هو الأول والأخير ، فلا نتعرض لغيرهما. وستطلع على بطلانه في أثناء البحث. والقائل ـ بتوقف فعل الضد على ترك ضده الآخر ـ إما أن يقول مطلقا ، كما عليه جل أرباب هذا القول ، أو يفصل بين الرفع والدفع ، بمعنى أنه لو كان الضد موجودا ، وأراد إيجاد الآخر ، يتوقف إيجاده على رفع ضده ، وإن لم يكن موجودا ، وأراد إيجاد ضده ، لم يكن موقوفا على ترك الضد.

ثم إن وجه التوقف يمكن أن يكون أحد أمور ثلاثة : (الأول) ـ أن يقال بان ترك الضد ابتداء مقدمة لفعل الضد (الثاني) ـ أن تكون مقدمية الترك من باب مانعية الفعل (الثالث) ـ أن يكون من جهة عدم قابلية المحل ، فان المحل ـ لما لم يكن قابلا لأن يقع فيه كلاهما ـ صار وجود كل منهما متوقفا على خلو المحل عن الآخر.

وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود. وقبل ذكر أدلة الطرفين ، لا بد وأن يعلم حكم حال الشك ، لنرجع إليه إذا عجزنا عن القطع بأحد الطرفين.

فنقول : لو شك في كون ترك الضد مقدمة ، بعد العلم بوجوب مقدمة الواجب ، والعلم بوجوب فعل الضد الآخر ، فهل الأصل يقتضى الحكم بصحة العمل إن كان من العبادات ، أو الفساد؟

قد يقال بالأول ، لأن فعلية الخطاب مرتفعة بواسطة الشك ، خصوصا في الشبهة الموضوعية التي قد أطبقت ـ على إجراء البراءة فيها ـ كلمة العلماء رضوان الله عليهم من الأصوليين والأخباريين ، وإذا لم يكن الوجوب فعليا لا مانع من صحة العمل ، لأن المانع ـ كما قد تحقق في محله ـ

هو الوجوب الفعلي. ولذا أفتى العلماء بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة في صورة نسيان الغصبية ، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم تجب عليه الإعادة والقضاء. وما نحن فيه من هذا القبيل ، وأوضح من ذلك صورة القطع بعدم المقدمية (١٣٩) وانكشاف خطأ قطعه بعد ذلك ، فان الحكم بفساد صلاته موجب لفعلية الخطاب حين القطع بعدمه.

والحق أن الشك في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا.

أما الأول فلان مقتضاها هو الأمن من العقاب على مخالفة

______________________________________________________

(١٣٩) لا يخفى أن القطع في المقام لا ينفع كالشك ، لأن الأمر بذي المقدمة معلوم مع كونه مقدورا له ، فلو تركه وأتى بالضد استحق العقاب عليه ، وان كان قاطعا بعدم المقدمية ، يعنى ما يأتي منه ـ دام ظله ـ في الشك.

وحاصله : أن العقل يحكم باستحقاق العقاب عند العصيان عن عمد ، وان لم يعلم المكلّف بأنه مستند إلى أيّ شيء ، أو علم استناده إلى ما ليس بمستند واقعا ، بعد ما لم يخرج الفعل بذلك عن العمد والاختيار. فمن صلّى وترك الإزالة في سعة الوقت ، يستحق العقاب على الترك ، وإن كان قاطعا بعدم المقدمية ، ولذا لو علم بعد ذلك تجب عليه الإعادة أو القضاء ، لأن تلك الصلاة مبعدة له واقعا ، لكونها سببا لترك الواجب المعلوم وإن لم يعلم حين الإتيان ، وما يكون مبعدا لا يؤثر في القرب نعم لو قيل بأن العبادة لا تحتاج إلى القرب ، بل يكفيها قصد القربة ، فلا إعادة ولا قضاء ، لكنه خلاف التحقيق. وكذا تجب الإعادة أو القضاء على القاطع بجواز اجتماع الأمر والنهي إذا صلى في الدار المغصوبة ، ثم انكشف خلافه ، وذلك لأنه ارتكب الغصب عالما بحرمته ، وان لم يعلم باتحاد الصلاة معه ، فتكون تلك الحركة الشخصية مبعدة له عن ساحة المولى ، ولا تصلح للمقربية ، ولا يضر بمبغوضيتها الجهل باتحاد الصلاة وموطن الأمر معها ، كما مر ، نعم من مات ولم ينكشف خطأه ، فهو معذور عند الله في كلتا المسألتين.

التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ، ولا يمكن جريانها هنا ، لأن العقاب لا يترتب على مخالفة التكليف المقدمي ، ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب عن التكليف النفسيّ ، إذا استند تركه إلى هذه المقدمة المشكوك مقدميتها ، لأن التكليف النفسيّ معلوم ، ويعلم أن الإتيان به ملازم لهذا الترك الّذي يحتمل كونه مقدمة. انما الشك في أن هذا الترك ـ الّذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم ـ هل هو مقدمة أولا؟ وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسيّ المعلوم كما هو واضح.

وأما الثاني ، فلأنه على تقدير كون الترك مقدمة ، فالوجوب المتعلق به بحكم العقل على حد الوجوب المتعلق بفعل ضده ، فكما أنه في هذا الحال يكون فعليا منجزا ، كذلك مقدمته. وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص. والمفروض احتمال تحقق الفرض في نظر الشاك ، وإلّا لم يكن شاكا. ومع هذا الاحتمال يشك في إمكان الترخيص وعدمه عقلا ، فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.

(لا يقال) بعد احتمال كون الترخيص ممكنا ، لا مانع من التمسك بعموم الأدلة الدالة على إباحة جميع المشكوكات ، واستكشاف الإمكان بالعموم الدال على الفعلية.

(لأنا نقول) على هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه ، إذ لو بنينا على انكشاف الإمكان بعموم الأدلة ، فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضد مقدمة ، إذ مع بقاء هذا الشك لا يمكن انكشاف الإمكان ، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضد مقدمة فلا مجرى له (١٤٠) ، لأن موضوعه الشك. وبالجملة ، فلا أرى وجها

______________________________________________________

(١٤٠) وذلك واضح ، لأن موضوع الحكم بالبراءة هو الشك في الوجوب ،

لجريان أصالة الإباحة في المقام. هذه خلاصة الكلام في حكم الشك ، فلنعد إلى أصل البحث.

فنقول : الحق ـ كما ذهب إليه الأساطين من مشايخنا ـ هو عدم التوقف والمقدمية ، لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل. أما عدم كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، فلان مقتضى مقدميته لزوم ترتب عدم ذي المقدمة على عدمه ، لأنه معنى المقدمية والتوقف ، فعلى هذا يتوقف عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدمة ، وهو فعل الضد الآخر. والمفروض أن فعل الضد أيضا يتوقف على ترك ضده الآخر ، ففعل الضد يتوقف على ترك ضده ، كما هو المفروض ، وترك الضد يتوقف على فعل ضده ، لأنه مقتضى مقدمية تركه.

هذا مضافا إلى عدم إمكان تأثير العدم في الوجود (١٤١) ، وهو من الواضحات ، وإلّا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات إلى العدم. وأما

______________________________________________________

وانكشاف عدم المقدمية ملازم للعلم بعدم الوجوب ، ومعه ينتفي موضوعه ، واستكشاف ـ ما ينتفي معه موضوع الحكم من عموم الحكم ـ محال.

ولا يتوهم إمكان جعل الحكم للشك مع قطع النّظر عن الحكم ، لاستلزامه بقاء الحكم الظاهري ، مع العلم بالحكم الواقعي. وهو كما ترى ، مع أن ذلك مختص بما إذا احتمل ان يكون الآمر بصدد تشخيص المصاديق ، كما لو قال : (أكرم العلماء) مع احتمال العبد أن يكون أحدهم عدوا له ، فيستكشف العبد من العموم عدم العدو ، مع احتمال التشخيص له ، لا في مثل الحكم المجعول للشك المفروض إيكال تشخيص الموضوع إلى العبد فافهم.

(١٤١) ان قلت : فكيف اشتهر أنّ عدم المانع من المقدمات؟

قلت : ذلك الإطلاق ليس إلّا مسامحة عرفية ، وأما بحسب الدقة ، فليس الأثر الا للمقتضى ، لأن دخل العدم في التأثير إن كان بمعنى أن له شيئا من التأثير ففساده

عدم كون فعل الضد علة ومؤثرا في ترك ضده ، فلأنه لو كان كذلك ، لزم ـ مع عدمه وعدم موجود يصلح لأن يكون علة لشيء ـ إما ارتفاع النقيضين ، أو تحقق المعلول بلا علة ، أو استناد الوجود إلى العدم (١٤٢).

بيان ذلك أنه لو فرضنا عدم الفعل الّذي فرضناه علة لعدم الضد ، وعدم كل شيء من السكنات يصلح لأن يكون علة لشيء ، فلا يخلو الواقع من أمور ، لأنك إما أن تقول بوجود ذلك الفعل الّذي كان عدمه معلولا أولا؟ فعلى الأول يلزم استناد الوجود إلى العدم ، إذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لأن يكون علة ، وعلى الثاني إما أن تقول بعدم تحقق العدم المفروض معلولا أولا؟ فعلى الثاني يلزم ارتفاع النقيضين ، وعلى الأول يلزم تحقق المعلول بلا علة ، مضافا إلى أن مقتضى كون الفعل علة لترك ضده كون تركه مقدمة لفعل ضده الآخر ، لأن عدم المانع شرط فيلزم الدور.

______________________________________________________

واضح ، وإن كان بمعنى أنه موجد لقابلية المحل ، فيقال : القابلية أيضا أمر وجودي ، فان صح تأثير العدم فيها صحّ تأثيره في كل أمر وجودي ، إذ لا خصوصية لها ، فيصح أن تكون جميع الموجودات معلولات للأعدام.

(١٤٢) لا يخفى أن ذلك إنما يلزم على القول بأن فعل الضد علة منحصرة لترك الضد. وأما على القول بأن ترك الضد قد يستند إلى الصارف وعدم الإرادة ، وقد يستند إلى الضد فلا تلزم تلك المحاذير ، إذ لو فرض عدم شيء في العالم يصلح لعلية الترك ، لكفى عدم المقتضي لوجوده. نعم مع وجود المقتضى للضد ، لو فرض عدم شيء يصلح لعلية الترك ، فلا محالة يوجد لتحقق مقتضية مع عدم المانع ، ومعلوم أن أحدا لا يقول بأن فعل الضد علة منحصرة لترك الضد ، حتى يلزم ذلك ، ولذا ألجئ في تسجيل الدور إلى الالتزام بأن شأنية تقدم الشيء رتبة يكفي في عدم جواز تأخره عنه. فتدبر جيدا.

(فان قلت) إن الدور الّذي أوردته ـ على القائل بمقدمية ترك الضد لفعل ضده الآخر ـ انما يتوجه لو التزم بكون الفعل أيضا علة للترك ، وهو لا يلتزم به. وإنما يقول بكون ترك الضد مستندا إلى الصارف ، لكونه أسبق رتبة من الفعل. ومعلوم أن المعلول إذا كانت له علل ، فهو يستند إلى أسبق علله ، فحينئذ نقول بان فعل الضد يتوقف على ترك ضده الآخر ، ولكن ترك الضد لا يتوقف على فعل ضده الآخر ، بل يكفى فيه الصارف ، فاندفع بذلك الدور.

(قلت) الإسناد الفعلي وان كان إلى الصارف ليس إلّا ، لما ذكر من كونه أسبق العلل ، إلا أنه يكفى في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علة الترك لاستلزام ذلك التقدم عليه ، مع كون الترك أيضا مقدما على الفعل بمقتضى مقدميته ، لأن وجه بطلان الدور تقدم الشيء على نفسه ، وهذا الوجه موجود هنا بعينه ، فان ترك الضد بمقتضى المقدمية مقدم طبعا على فعل ضده ، وكذلك فعل الضد بمقتضى شأنيته للعلية يجب أن يكون مقدما على ترك ضده ، فترك الضد مقدم على فعل ضده الّذي هو مقدم على ذلك الترك ، فيجب أن يكون ترك الضد مقدما على نفسه. وكذلك فعل الضد.

ومما ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الرفع والدفع ، لأن البرهان الّذي ذكرناه على عدم التوقف يجري فيهما على نهج واحد ، وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا ، لم تجد بدا من القول بعدم التوقف ، فلا نطيل المقام بذكر ما أوردوه في بيان المقدمية والمناقشة فيه.

إنما المهم التعرض للمسألة التي فرعوها على مقدمية ترك الضد وعدمها أعني بطلان فعل الضد لو كان عباديا ، وقد وجب ضده على الأول ، وصحته على الثاني.

فنقول : اما بناء على كون ترك الضد مقدمة ، فلا إشكال في بطلان العمل ، بناء على بطلان اجتماع الأمر والنهي ، بل قد يقال بالبطلان ، حتى على القول بإمكان الاجتماع ، لأن محل النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان هناك عنوانان يتفق تحققهما في وجود واحد ، وليس المقام من هذا القبيل ، لأن عنوان المقدمية ليس مما يتوقف عليه المطلوب ، بل المطلوب إنما يتوقف على نفس ترك الصلاة مثلا إذا كان ضدها مطلوبا ، فلو جاز تعلق الأمر بها ، لزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، فيكون ذلك من باب النهي في العبادات (١٤٣).

هذا على القول بكون ترك الضد مقدمة. وأما على القول بعدم مقدميته فان قلنا بكفاية الجهة في صحة العبادة ، وإن لم يتعلق به الأمر لمانع عقلي ـ كما هو الحق ـ فلا إشكال في الصحة. وأما لو لم نقل بكفاية الجهة ، فيشكل الأمر بان الأمر بالضد وان لم يقتض النهي عن ضده لعدم المقدمية ، ولكنه يقتضى عدم الأمر به ، لامتناع الأمر بإيجاد الضدين في

______________________________________________________

(١٤٣) وقد يتوهم كونه من باب الاجتماع ، لدخل عنوان المقدمية في الوجوب الغيري. وخلافه واضح ، لأن المؤثر ذات المقدمة ، وعنوان المقدمية منتزع في مرتبة متأخرة عن تأثيرها ، كعنوان العلية. ومعلوم أن العقل يحكم بالملازمة بين إرادة الشيء وإرادة ما هو مؤثر فيه واقعا ، من دون نظر إلى العناوين المنتزعة في المرتبة المتأخرة عن التأثير.

هذا ولكن يظهر من تقريرات الشيخ (قدس‌سره) ـ في بيان عدم اتصاف المقدمة بالوجوب إلا ما كان منها مأتيا به بقصد الوجوب ـ دخل العنوان ، لكنه خلاف ما صرح به في جواب نفي قيد الإيصال. ودفع التهافت في كلامه يحتاج إلى تأمل.

زمان واحد. وحيث لا أمر فلا يقع صحيحا ، لأن المفروض عدم كفاية جهة الأمر في الصحة. فالمناص حينئذ منحصر في تصحيح تعلق الأمر فعلا بالضد ، مع كون ضده الآخر مأمورا به. والّذي يمكن أن يكون وجها لذلك أحد امرين : ـ

(الأول) ـ ما نقل عن بعض الأساطين من أن الأمر بالضد إنما ينافى الأمر بضده الآخر لو كانا مضيقين. أما لو كان أحدهما مضيقا والآخر موسعا ، فلا مانع من الأمر بكليهما ، لأن المانع ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق. وهذا المانع منحصر فيما إذا كانا مضيقين ، إذ لو كان أحدهما موسعا ، فلا يلزم ذلك قطعا ، سواء كان الآخر موسعا أيضا أم لا. وأي مانع من أن يقول المولى لعبده أريد منك من أول الظهر إلى الغروب إنقاذ هذين الغريقين ، أو يقول أريد منك إنقاذ هذا الغريق فعلا ، وأريد منك أيضا إنقاذ الغريق الآخر في مجموع الوقت الّذي يكون أعم من هذا الوقت وغيره؟

(أقول) : تمامية ما أفاده (قدس‌سره) مبتنية على مقدمتين :

(الأولى) ـ أن يكون الوقت المضروب ظرفا للواجب ، من قبيل الكلي الصادق على جزئيات الوقت ، فيصير المحصل من التكليف بصلاة الظهر إيجاب إيجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدين ، إذ لو كان التكليف راجعا إلى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الأزمنة ، فلا يصح ذلك ، لأن البعث على غير المقدور قبيح عقلا ، وان كان على سبيل التخيير بينه وبين فعل آخر مقدورا ، ألا ترى قبح الخطاب التخييري بين الطيران إلى السماء وإكرام زيد مثلا.

(الثانية) ـ أن الأمر بالطبيعة لا يستلزم السراية إلى الافراد ، وإلّا لكان اللازم منه المحذور الأول بعينه. وحيث أن عدم السراية إلى الافراد

هو المختار ـ كما سيجيء تحقيقه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى ـ لا يبعد صحة المقدمة الأولى ، فلا بأس بالالتزام بتحقق الأمر الفعلي بالصلاة في مجموع الوقت ، مع إيجاب ضدها في أول الوقت مضيقا ، بل يمكن ان يقال لا مانع من الأمر حتى على القول بالتخيير الشرعي ، أو على القول بسراية حكم الطبيعة إلى الافراد ، لأن المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلّا اللغوية ، وهي مسلمة فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء. واما إذا كان نفسه مقدورا ـ كما فيما نحن فيه ـ غاية الأمر يجب عليه بحكم العقل امتثال امر آخر من المولى ، ولا يقدر مع الامتثال على إتيان فعل آخر ، فلا يلزم اللغوية ، إذ يكفى في ثمرة وجود الأمر ـ أنه لو أراد المكلف عصيان الواجب المعين ـ يقدر على إطاعة هذا الأمر (١٤٤) ومن ذلك يظهر أن قياس مقامنا هذا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محله.

مسألة الترتب

الوجه الثاني ما أفاده سيد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي

______________________________________________________

(١٤٤) لا يخفى أنه لو لم تكن ثمرة الا مع العصيان ، فصحة الأمر كذلك تتوقف على إثبات صحة الترتب في التعييني بالبيان الآتي ، وإلّا فلا يصح في التخييري أيضا.

ثم انه بناء على التخيير الشرعي أو السراية ، بناء على عدم صحة الترتب ، فهل يمكن إيجاد الفرد المزاحم بداعي الأمر الموجود في غيره؟ قد يقال برجوع ذلك إلى قصد الجهة ، فان قلنا بكفايته فهو وإلّا فلا يكفي. والظاهر كفايته لتحقق قصد الأمر في المقام ، وعدمه تحققه في الجهة الخالية عن الأمر. وقد مر ما ينفع المقام في تصوير تبديل الامتثال فراجع.

(قدس‌سره) ، وشيد أركانه وأقام برهانه وتلميذه الجليل والنحرير الّذي ليس له بديل ، سيدنا الأستاذ السيد محمد الأصفهاني جزاهما الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء ، وهو أن يتعلق الأمر أولا بالضد الّذي يكون أهم في نظر الآمر مطلقا ، من غير تقييد بشيء ، ثم يتعلق امر آخر بضده متفرعا على عصيان ذلك الأمر الأول.

وإثبات هذا المطلب يستدعى رسم مقدمات :

(الأولى) ولعلها العمدة في هذه المسألة ـ توضيح الواجب المشروط ، وهو وإن مر ذكره في مبحث مقدمة الواجب مفصلا ، إلا أنه لا بد من أن نشير إليه ثانيا توضيحا لهذه المسألة التي نحن بصددها ، فنقول ـ وعلى الله التوكل أن الإرادة المنقدحة في النّفس المتعلقة بالعناوين على ضربين (تارة) تكون على نحو تقتضي إيجاد متعلقها بجميع ما يتوقف عليه ، من دون إناطتها بوجود شيء أو عدمه ، و (أخرى) على نحو لا تقتضي إيجاد متعلقها إلا بعد تحقق شيء آخر وجودي أو عدمي (١٤٥). مثلا إرادة إكرام الضيف (تارة) تكون على نحو يوجب تحريك المريد إلى تحصيل الضيف وإكرامه ، و (أخرى) على نحو لا يوجب

______________________________________________________

مسألة الترتب :

(١٤٥) لكن لا بحيث يكون الشرط ذلك الشيء بتحققه الخارجي ، حتى لا تكون الإرادة متحققة قبل تحققه ، لأن ذلك خلاف الوجدان في الواجب المشروط ، لأنا نرى تحقق الإرادة المشروطة قبل تحقق الشرط بعد فرض تحققه ، وان علمنا بعدم حصول الشرط. وأيضا نرى بالوجدان تحقق الإرادة مع الجهل المركب بوجود الشرط ، كما في صورة العلم الحقيقي ، وإن لم تؤثر في نفس المأمور ، مع عدم العلم بحصول الشرط كما سيجيء. فلو كان الشرط نفس الشرط ، فلا وجه لتحققها في الصورتين.

تحريكه إلى تحصيل الضيف ، بل يقتضى إكرامه على تقدير حصوله.

ثم إن الثانية على أنحاء (تارة) تقتضي إيجاد متعلقها بعد تحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الخارج ، كما في مثال أكرم زيدا ان جاءك و (أخرى) تقتضي إيجاده مقارنا له ، كما في إرادة الصوم مقارنا للفجر إلى غروب الشمس ، وكما في إرادة الوقوف في عرفات مقارنا لأول الزوال إلى الغروب ، وأمثال ذلك. و (تارة) تقتضي إيجاده قبل تحقق ذلك الشيء ، كما لو أراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا ، وهذه الأنحاء الثلاثة كلها مشتركة في انها مع عدم العلم بتحقق ذلك المفروض تحققه لا تؤثر في نفس الفاعل (١٤٦) ، كما أنها مشتركة في أنه على تقدير العلم بذلك مؤثرة في الجملة. إنما الاختلاف في أنه على التقدير

______________________________________________________

ولا بحيث يكون الشرط علم الآمر أو المأمور بحصول الشرط ، فان ذلك أيضا يستلزم لزوم الامتثال حقيقة عند الجهل المركب من أحدهما بحصول الشرط ، وبطلانه واضح. بل الشرط هو الخارج لا حقيقة بل فرضا ، لكن لا بنحو يكون للفرض موضوعية ، بل بحيث يكون طريقا إلى الخارج ، فعند الفرض تكون الإرادة موجودة ، لكن لا واقعية لها عند عدم الشرط واقعا.

ونظير ذلك العلم بالتالي عند وجود المقدم في القضية الشرطية ، فان شرط القطع بوجود التالي هو فرض المقدم ، وإن كان قاطعا بعدم وجوده فعلا ، لكن مع حفظ طريقية الفرض في المقام أيضا. وقد يتوهم أن المقطوع به في القضية الشرطية هي الملازمة ، ولكنه فاسد ، لرجوع القضية حينئذ إلى الحملية ، وهي الملازمة ـ ثابتة أو موجودة ـ وهو كما ترى.

(١٤٦) وذلك لأن الإرادة ـ على الفرض ـ متوقفة على فرض التحقق عند الآمر ، ولو علم المأمور بعدم واقعية الفرض المذكور لا تؤثر ، لأن الفرض ـ كما مر ـ أخذ طريقا ، والمأمور يعلم بأنه لا واقعية له ، وكذلك عند الشك فيه ، فانه أيضا شاك في كونها إرادة حقيقية ، فلا تؤثر الا عند العلم بحصول الشرط.

الأول العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتي لا يوجب تحريك الفاعل نحو المراد ، لأن المقصود إيجاد الفعل بعد تحقق ذلك الشيء لا قبله.

نعم لو توقف الفعل في زمان تحقق ذلك الشيء على مقدمات قبل ذلك ، اقتضت الإرادة المتعلقة بذلك الفعل ـ على تقدير وجود شيء خاص ـ إيجاد تلك المقدمات قبل تحقق ذلك الشيء ، كما نرى من أنفسنا أن الإنسان إذا أراد إكرام زيد ـ على تقدير مجيئه ، وعلم بمجيئه في الغد ، وتوقف إكرامه في الغد على مقدمات قبله ـ يهيئ تلك المقدمات ، وهكذا حال إرادة الآمر ، فلو امر المولى بإكرام زيد ـ على تقدير مجيئه ، وعلم العبد بتحقق مجيئه غدا ، وتوقف إكرامه غدا على إيجاد مقدمات في اليوم ـ وجب عليه إيجادها ، ولا عذر له عند العقل لو ترك تلك المقدمات. وهذا واضح لا سترة عليه.

وعلى التقدير الثاني باعثية الإرادة ـ بالنسبة إلى الفاعل ـ إنما تكون بالعلم بتحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الّذي هو فيه ، كما انه على الثالث تؤثر إذا علم بتحققه في الزمن الآتي.

وان شئت قلت هذه الإرادة ـ المعلقة على وجود شيء إذا انضم إليها العلم بتحقق ذلك الشيء ـ تقتضي إيجاد كل من الفعل ومقدماته في محله ، فمحل الإكرام ـ في الفرض الأول ـ بعد تحقق المجيء ، ومحل مقدماته قبله ، ومحل الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط ، ومحل مقدماته قبله ، كما في الوقوف في عرفات مقارنا للزوال ، ومحل الفعل في المثال الثالث قبل تحقق الشرط.

والحاصل أنه لا نعنى بالواجب المشروط إلا الإرادة المتعلقة بالشيء مبتنية على تحقق أمر في الخارج ، وهذه الإرادة لا يعقل أن تؤثر في نفس الفاعل ، إلا بعد الفراغ من حصول ذلك الأمر.

وبعبارة أخرى هذه الإرادة من قبيل جزء العلة لوجود متعلقها ، وإذا انضم إليها العلم بتحقق ذلك الشيء تؤثر في كل من الفعل ومقدماته في محله ، كما عرفت ، فالإرادة المبتنية على امر مقدر ، سواء علم بتحقق ذلك الأمر أم لم يعلم ، بل ولو علم بعدمه موجودة ، ولكن تأثيرها في الفاعل يتوقف على العلم بتحقق ذلك الأمر.

(المقدمة الثانية) أن الإرادة المبتنية على تقدير امر في الخارج ، لا يعقل ان تقتضي إيجاد متعلقها على الإطلاق ، أي سواء تحقق ذلك المقدر أم لا ، وإلّا خرجت عن كونها مشروطة بوجود شيء ، فمتى ترك الفعل بترك الأمر المقدر ، لا يوجب مخالفة لمقتضى الإرادة. نعم المخالفة إنما تتحقق فيما إذا ترك مع وجود ذلك المقدر ، وهذه المقدمة في الوضوح بمثابة لا تحتاج إلى برهان.

(المقدمة الثالثة) أن الإرادة المتعلقة بشيء من الأشياء لا يقدح في وجودها كون المأمور بحيث يترك في الواقع أو يفعل (١٤٧) ، إذ لا مدخلية لهذين الكونين في قدرة المكلف ، فالإرادة ـ مع كل من هذين الكونين ـ موجودة ، ولكن لا يمكن أن يلاحظ الآمر كلا من تقديري الفعل والترك في المأمور به ، لا إطلاقا ولا تقييدا. أما الثاني فواضح ، لأن إرادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال ، وإرادة الفعل على تقدير الفعل طلب الحاصل. وأما الأول ، فلان ملاحظة الإطلاق فرع إمكان التقييد ، وحيث يستحيل الثاني يستحيل الأول ، فالإرادة تقتضي إيجاد ذات

______________________________________________________

(١٤٧) والحاصل أن إرادة الشيء لا تنقدح في لحاظ وجود الشيء أو عدمه ، بل يشترط في انقداحها لحاظ الشيء في حال عدمه مجردا عن لحاظ كل واحد من الوجود والعدم ، ومثل تلك الإرادة غير مؤثرة في امتثال الفعل مع أحد القيدين.

متعلقها ، لا انها تقتضي إيجاده في ظرف عدمه ، ولا إيجاده في ظرف وجوده ، ولا إيجاده في كلتا الحالتين ، لأن هذا النحو من الاقتضاء يرجع إلى طلب الشيء مع نقيضه ، أو مع حصوله ، فظهر أن الأمر يقتضى وجود ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة إلى الحالتين المذكورتين ، ولا إطلاقه بالنسبة إليهما. نعم الأمر المتعلق بذات الفعل موجود ، سواء كان المكلف ممن يترك أو يفعل ، ولكن هذا الأمر الموجود يقتضى عدم تحقق الترك وتحقق الوجود ، لا انه يقتضى الوجود على تقدير الترك.

وبعبارة أخرى يقتضى عدم تحقق هذا المقدر ، لا أنه يقتضى وجود الفعل في فرض وقوعه ، لأن الثاني يرجع إلى اقتضاء اجتماع النقيضين ، دون الأول ، فافهم فانه لا يخلو عن دقة.

(المقدمة الرابعة) أنه لم يرد في خبر ولا آية بطلان تعلق امرين بالضدين في زمان واحد ، حتى يتمسك بإطلاق ذلك الخبر وتلك الآية في بطلانه ، إنما المانع حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، وهو منحصر فيما إذا كان الطلبان بحيث يقتضى كل واحد منهما سلب قدرة المكلف عن الإتيان بمقتضى الآخر ، لو أراد الإتيان بما يقتضيه. أما لو كانا بحيث لا يوجب ذلك ، فلا مانع أصلا.

إذا عرفت المقدمات المذكورة ، فنقول : لو أمر الآمر بإيجاد فعل مقارنا لترك ضده الآخر ، فهذا الأمر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقق ذلك الترك في الآن المتصل بالآن الّذي هو فيه ، إذ لو صبر إلى ان يتحقق ذلك الترك لم يقع المأمور به بالعنوان الّذي امر به ، وهو المقارنة ، فمحل تأثير هذا الأمر في نفس المأمور إنما يكون مقارنا لوقوع الترك ، فيجب أن يؤثر في ذلك المحل بمقتضى المقدمة الأولى. وهذا الأمر المبتني على ترك

الضد لا يوجب التأثير في المتعلق مطلقا ، حتى يستلزم لا بدية المكلف من ترك الضد بحكم المقدمة الثانية. والأمر المتعلق بالضد الآخر ـ الّذي فرضناه مطلقا ـ لا يقتضى إيجاد المتعلق في ظرف عدمه بحكم المقدمة الثالثة ، حتى يلزم منه وجود التكليف بالضدين في ظرف تحقق هذا الفرض ، بل الأمر بالأهم يقتضى عدم تحقق هذا الفرض ، والأمر بالمهم يقتضى إيجاده على تقدير تحقق الفرض.

ومن هنا يتضح عدم تحقق المانع العقلي في مثل هذين الأمرين ، لأن المانع كما عرفت ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، لأن ذلك إنما يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من امتثال كل منهما معصية الآخر. وقد عرفت أنه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك ، لأن المكلف لو امتثل الأمر بالأهم لم يعص الأمر الآخر الّذي تعلق بالمهم ، إنما ترتب على هذا الامتثال انتفاء ما كان شرطا للأمر بالمهم. وقد عرفت أن عدم إتيان الواجب المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب.

والحاصل أنه لا يقتضى وجود الخطابين بعث المكلف على الجمع بين الضدين ومما يدلك على هذا أنه لو فرضنا محالا صدور الضدين من المكلف ، لم يقع كلاهما على صفة المطلوبية (١٤٨) ، بل المطلوب هو الأهم لا غير ، لعدم تحقق ما هو شرط لوجوب المهم.

(فان قلت) : سلمنا إمكان الأمر بالضدين على النحو الّذي فرضته ، ولكن بم يستدل على الوقوع فيما إذا وجبت الإزالة عن المسجد

______________________________________________________

(١٤٨) بل لو فرضنا محالا صدور الضدين مع ترك الأهم أيضا ، لم يقع كلاهما على صفة المحبوبية ، لأن إطاعة الأهم إن حصلت بذلك ، فلم يكن شرط المهم موجودا ، وإلّا فلم يؤثر الأهم في لحاظ عصيانه.

مطلقا ، وكان في وقت الصلاة ، فان حمل دليل الصلاة ـ على الوجوب المعلق على ترك إزالة النجاسة ـ يحتاج إلى دليل.

(قلت) : المفروض أن المقتضى لوجوب الصلاة محقق بقول مطلق (١٤٩) وليس المانع الا حكم العقل بعدم جواز التكليف بما لا يطاق. وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما لا يطاق ، يجب بحكم العقل تأثير المقتضى.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام وعليك بالتأمل التام ، فانه من مزال الإقدام.

حجة المانع أن الضدين مما لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلا ، وجعلهما في زمان واحد ـ متعلقين للطلب المطلق ـ تكليف بما لا يطاق ، وهاتان المقدمتان مما لا يقبل الإنكار إنما الشأن بيان ان تعلق الطلبين بالضدين في زمان واحد ـ ولو على نحو الترتب ـ يرجع إلى تعلق الطلب المطلق بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد. وبيانه أن الأمر بإيجاد الضد مع الأمر بإيجاد ضده الآخر لا يخلو من أنه إما أمر بإيجاده مطلقا في زمان الأمر بضده كذلك ، وإما أمر بإيجاده مشروطا بترك الآخر. والثاني على قسمين ، لأنه إما أن يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضد الآخر ، أو يجعل الشرط كون المكلف بحيث يترك في علم الله.

أما الأول فلا يلتزم به كل من أحال التكليف بما لا يطاق. وأما

______________________________________________________

(١٤٩) لا يقال : هذا مناف لما مر آنفا من أنه مع الجمع على الفرض المحال لم يكن المهم مطلوبا مع طلب الأهم.

لأنه يقال : إن المراد من عدم المطلوبية نفي فعليتها ، فانه يكفى في حكم رفع التكليف بما لا يطاق ، فافهم.

الأول من الأخيرين ، فلا مانع منه إلا أنه عليه لا يصير الأمر مطلقا إلا بعد تحقق الترك ومضى زمانه. وهذا وإن كان صحيحا ، لكنه خارج عن فرض القائل بالترتب ، لأنه يدعى تحقق الأمرين في زمان واحد.

وأما الأخير منهما فلازمه القول بإطلاق الأمر المتعلق بالمهم في ظرف تحقق شرطه. والمفروض وجود الأمر بالأهم أيضا ، لأنه مطلق ، ففي زمان تحقق شرط المهم يجتمع الأمر ان المتعلقان بالضدين ، وكل واحد منهما مطلق ، أما الأمر المتعلق بالأهم فواضح ، واما الأمر المتعلق بالمهم ، فلان الأمر المشروط بعد تحقق شرطه يصير مطلقا.

والجواب يظهر مما قدمناه في المقدمات. وحاصله أن الأمر بالأهم مطلق ، والأمر بالمهم مشروط. أما قولك بان الشرط إما هو الترك الخارجي أو العنوان المنتزع منه ، فنقول : إنه هو الترك الخارجي ، وقولك ـ إنه على هذا يلزم تأخر الطلب عن زمان الترك ـ مدفوع بما عرفت من عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط إيجاد متعلقه ، بعد تحقق الشرط (١٥٠) بل قد يقتضيه كذلك. وقد يقتضى مقارنة الفعل للشرط كما عرفت ذلك كله مشروحا.

______________________________________________________

(١٥٠) لا يخفى عدم نهوض الجواب لدفع الإيراد ، لأن اختلاف أنحاء الشرط ـ من المتقدم والمتأخر والمقارن ـ لا يؤثر في رفع استحالة تحقق الإرادة قبل تحقق شرطها ، فلا بد في ردّ ذلك من الالتزام بما التزمنا به ، من عدم كون الشرط نفس التحقق الخارجي ، بل الخارج بوجوده الفرضي ، لكن مع بقاء طريقية الفرض ، بحيث لا يرى تفكيك بينه وبين الخارج ، وذلك الفرض محقق قبل تحقق الطلب كما مر ، فراجع.

ان قلت : ما الفرق بين الترك الخارجي بهذا المعنى والعنوان المنتزع ، وكيف انحصر دفع الإشكال على الأول دون الثاني؟

(فان قلت) سلمنا كون الشرط نفس الترك الخارجي للضد ، ولا يلزم من ذلك تأخر الطلب عن مضى زمان الترك ، ولكن نقول في ظرف فعلية الطلب المشروط إما ان تقول ببقاء الطلب المطلق أولا. والثاني خلاف الفرض ، والأول التزام بالأمر بما لا يطاق (١٥١).

______________________________________________________

قلت : الفرق هو أن الأمر بالأهم لا يؤثر على فرض تركه الخارجي ، ولا صلاحية له في التأثير ، بخلافه مع العنوان ، فانه ـ مع العلم بأنه يعصى ويترك في علم الله ـ لا يسقط الأمر بالأهم ، ولا يخرج بذلك العلم عن صلاحية التأثير ، وهو لا ينافي الأمر بالمهم بالفرض.

(١٥١) وذلك لأنه يجب الأهم في هذا الزمان بالفرض ، والمهم أيضا واجب ، لحصول شرطه ، وما ذكر ـ من تقييد المهم بمعصية الأهم ، مع عدم تأثير الأهم في تلك المرتبة ـ انما يؤثر في رفع التمانع والتضاد بين الإرادتين في زمان واحد ، لا في إقدار المكلف على إيجاد الضدين ، وأيضا يستلزم ذلك عقابين على تقدير عدم إتيان المكلف بشيء منهما ، ولا يلتزم به القائل بالترتب.

وحاصل الجواب : أن الجمع بين التكليفين ـ على نحو يكون أحدهما مقيدا بمعصية الآخر ـ ليس بمحال ، وليس من التكليف بما لا يطاق ، وإن لم يكن المكلف قادرا على الجمع ، لعدم اقتضائهما الجمع في آن واحد ، وعدم مطاردة مقتضى الإرادتين.

واما تعدد العقاب ، فلا مانع من الالتزام به ، بعد مساعدة الوجدان ، وعدم مخالفته للبرهان. وبعد التأمل لا يكون العقاب عليهما إلا كالعقاب على ترك الفعلين غير الضدين ، وان شئت فراجع وجدانك لترى هل لا يمكن تحقق الإرادة الآمرية من الآمر على شيء ، وبعد العلم بمعصية المأمور تحقق الإرادة الفاعلية على ضده ، مثل أن تأمر عبدك بتهيئة أسباب السفر ليوم الجمعة مقارنا لطلوع الفجر ، ثم بعد العلم بالمعصية بنوم العبد في تلك الساعة مطمئنا ، ومع ذلك تعاقب العبد على ترك تهيئة أسباب سفرك ، ولا يصح منه الاعتذار بعدم القدرة على امتثال أمرك في تلك الساعة للنوم ، لأن النوم لم يكن الا بعد العلم بتحقق المعصية منه ، فافهم واغتنم.

(قلت) نختار الشق الأول ، ولكن لا يقتضى الطلب الموجود حينئذ الا عدم تحقق الترك الّذي هو شرط لوجوب الآخر ، لا أنه يقتضى إيجاد الفعل في ظرف تحقق هذا الترك ، كما أوضحناه في المقدمات ، فليتأمل في المقام فانه مما ينبغي ان تصرف لأجله الليالي والأيام.

المقصد الرابع

إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه

وليعلم (أولا) أن النزاع المذكور إنما يكون بعد فرض وجود المندوحة (١٥٢) وتمكن المكلف من إيجاد عنوان المأمور به في غير مورد النهي ، وإلّا فالمسلم عند الكل عدم الجواز ، لقبح التكليف بما لا يطاق.

______________________________________________________

اجتماع الأمر والنهي :

(١٥٢) لا يقال : قيد المندوحة لغو ، لأن النزاع ـ في الجواز والامتناع ـ حيثي يقع في أن تعدد العنوان والحيثية ، هل يكفي في تعدد مركب الأمر والنهي ، حتى لا يلزم محال أم لا؟ ولا ربط للنزاع المذكور باجتماع سائر شرائط التنجز من القدرة على الامتثال وغيرها.

لأنا نقول : إن النزاع ـ وإن كان حيثيا ـ لكنه في اجتماع الأمر والنهي الموجودين ، ولا يكونان إلّا مع المندوحة. وأما بدونها فلا بد من أن يجعل النزاع فرضيا ، بان يقال : لو فرضنا محالا صدور الأمر والنهي ، فهل يجوز اجتماعهما. وهو كما ترى ، ولا تقاس تلك الجهة بسائر الجهات ، لأن فقدان سائر الجهات اتفاقي.

ولا يقال : إن المندوحة أيضا لا تثمر ، لأن المكلف ـ في مورد الاجتماع أيضا ـ لا يقدر على الامتثالين.

لأنا نقول : يكفي في صحة تعلق الأمر بالطبيعة كون بعض افرادها مقدورا.

نعم ذهب المحقق القمي (قدس‌سره) إلى التفصيل بين ما كان العجز مستندا إلى سوء اختيار المكلف وعدمه ، فخص القبح بالثاني. ومن هنا حكم بأن المتوسط في الأرض المغصوبة منهي عن الغصب فعلا ، ومأمور بالخروج كذلك.

ولكنك خبير بأن هذا التفصيل يأبى عنه العقل ، بل لعل قبح التكليف بما لا يطاق مطلقا من البديهيات الأولية. وكيف كان فقبل الشروع في المقصود ينبغي رسم أمور :

(الأول) أنه قد يتوهم ابتناء المسألة على كون متعلق التكاليف هو الطبيعة أو الفرد ، فينبغي التكلم في هذه المسألة على وجه الاختصار ، حذرا من فوت المهم ، والنّظر فيها يقع في مقامات : (أحدها) في تشخيص مرادهم (ثانيها) في أنه هل يبتنى النزاع في مسألتنا هذه عليها ، بمعنى أنه لو أخذ بأحد طرفي النزاع فيها لزم الأخذ بأحد طرفي المسألة فيما نحن فيه أم لا؟ (ثالثها) في أدلة الطرفين.

أما المقام الأول ، فيمكن أن يكون مرادهم أنه بعد فرض لزوم اعتبار الوجود في متعلق الطلب ، فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة ، أو وجود الفرد؟ (١٥٣) ويمكن أن يكون مرادهم أنه بعد فرض اعتبار الوجود ، هل

______________________________________________________

نعم قد يقال ـ على القول بكفاية الجهة في صحة العبادة ـ انه لا وجه لقيد المندوحة ، لجريان النزاع في ما لا مندوحة فيه أيضا ، من حيث جهة المطلوبية والمبغوضية ، وان لم يكن تكليف في البين.

وفيه : انه لا تزاحم بين الجهتين حتى على القول بالامتناع ، وإنما التزاحم في مقام الإرادة ، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. والإرادتان لا محالة لا تجتمعان في ما لا مندوحة فيه ، فيكون النزاع فيه لغوا.

(١٥٣) والفرق بين المعنيين اعتباري ، وعلى الأول تكون المادة بمعناها

المعتبر اشخاص الوجودات الخاصة ، أو المعنى الواحد الجامع بين الوجودات؟.

أما المقام الثاني ، فالحق عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه عليه ، إذ يمكن القول بأن متعلق الأحكام هو الطبائع بكلا المعنيين اللذين احتملنا في مرادهم ، ومع ذلك يمنع جواز اجتماع الأمر والنهي ، اما لما ذكره صاحب الفصول (قدس‌سره) : من أن متعلق الطلب إنما يكون الوجودات الخاصة (١٥٤) ، لعدم جامع لها في البين وإما لأنه ـ على تقدير تعلق الطلب بالجامع ـ يلزم سرايته إليها ، لمكان الاتحاد والعينية. وكذلك يمكن القول بتعلق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين

______________________________________________________

الاسمي متعلقة للطلب ، والوجود المعتبر فيها يكون بمعناه الحرفي ، وانما اعتبر فيها ، لأن المادة ـ من حيث هي لو لم يعتبر فيها الوجود أصلا ـ غير قابلة لتعلق الطلب بها ، فانها من حيث هي ليست إلّا هي ، وعلى الثاني يكون الوجود ـ اللازم أخذه فيها بمعناه الاسمي ـ متعلقا للطلب في حال إضافته إلى المادة ، فعلى الأول يقع النزاع في أن متعلق الطلب والمادة هل هو الطبيعة اللابشرط ، باعتبار وجودها أو افرادها؟ وعلى الثاني في أن الوجود المضاف إلى المادة المأخوذ في متعلق الطلب ، هل هو جامع الوجودات أو أشخاصها؟

هذا والّذي يظهر من الكفاية : أن النزاع في أن المتعلق للطلب هل هي الماهية الصرفة ، أو هي بلوازمها الوجودية ، ويظهر منه انحصار النزاع بمرحلة الإثبات ، حيث اكتفى في الاستدلال على مدعاه بمجرد الوجدان. لكن الظاهر من كلمات القوم خلافه ، كما يظهر من استدلال الطرفين بعدم معقولية مدعى الآخر. كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(١٥٤) لا يخفى أن كلام صاحب الفصول ـ رحمه‌الله ـ مناف لكون متعلق التكاليف هو الطبيعة بالمعنى الثاني ، لأنه على الفرض لا جامع للوجودات ، حتى يتعلق الطلب به. وهو واضح بل قيل بمنافاة كلامه له حتى على المعنى الأول ، لأنه بعد عدم الجامع بين الوجودات فلا محالة يكون متعلق الطلب الطبيعة بوجوداتها الخاصة.

أيضا ، والالتزام بجواز الاجتماع ، لأن الفرد الموجود في الخارج يمكن تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات ، ومع ذلك لا يخرج عن كونه فردا (١٥٥).

(مثلا) الصلاة في الدار المغصوبة ـ الموجودة بحركة واحدة شخصية ـ لو لوحظت تلك الحركة الشخصية من حيث أنها مصداق للصلاة ، وجرد النّظر عن كونها واقعة في الدار المغصوبة ، لم تخرج عن كونها حركة شخصية ، فللمجوز ـ بعد اختياره أن متعلق التكاليف هو

______________________________________________________

ولكنه مخدوش بعدم المنافاة بين كون الطبيعة متعلقة للطلب ، وكون الوجودات متباينة ، غاية الأمر انه عند ما يتعلق الطلب بها بلحاظ الوجود ، والوجودات متباينة ، يكون جميع الافراد متعلّقة للحكم ، لكن بمرآتية نفس الطبيعة ، نظير العام الاستغراقي والوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فتأمل ، فانه أيضا لا يخلو عن مناقشة.

(١٥٥) نعم الحركة الشخصية في المثال لا تخرج عن كونها فردا ، بمجرد تعرية الذهن إيّاها عن بعض الخصوصيات ، لأن الجزئية والكلية تعرضان المفهوم بلحاظ إباء صدقه على كثيرين وعدم إبائه ، ومعلوم أن مفهوم الحركة الشخصية يأبى الصدق على كثيرين وان جرد عن الخصوصيات ، لكن الإشكال في أن متعلق الأمر لو كان شخص الوجود الخارجي للحركة ـ مثلا ، كما هو مقتضى القول الأول بالمعنى الثاني ـ فكلما يعرّيه الذهن عن الخصوصيات ، ويصرف النّظر عنها ، لا يخرج عن شخص الوجود. وبالفرض يكون متعلق النهي أيضا هذا الشخص ، فيكون مورد الأمر والنهي وجودا شخصيا واحدا. وهو محال. ولا يعقل تعرية الشخص عن تشخصه ، حتى يصير بكلا الاعتبارين موجودين في الذهن أحدهما موطن الأمر ، والثاني موطن النهي ، فجريان النزاع على هذا القول لا يخلو عن إشكال ، وكذلك يشكل جريان النزاع على القول بتعلق الحكم بالافراد ، على ما فسره في الكفاية من كون المراد أن لوازم الوجود داخلة في المأمور به على تقدير كون المقصود شخصيات اللوازم. نعم على تقدير إرادة ماهيات اللوازم يمكن النزاع ، لكنه خلاف ظاهر العبارة.

الافراد ـ ان يقول : إن هذه الحركة من حيث كونها مصداقا للصلاة محبوبة ومأمور بها ، ومن حيث أنها مصداق للغصب منهي عنها.

أما المقام الثالث فالذي يمكن أن يحتج به ـ على كون متعلق التكاليف هو الافراد على المعنى الأول ـ امران : (أحدهما) ـ عدم كون الطبيعة موجودة في الخارج ، وإنما الوجود مختص بأفرادها ، وليس لها حظ من الوجود ، بناء على عدم وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، كما ذهب إليه بعضهم و (ثانيها) ـ ان المقدور ليس إلا الفرد ، ولا يمكن الطلب بغير المقدور. (أما الثاني) فواضح و (أما الأول) فلان الطبيعة ـ مجردة عن الخصوصيات وانضمام الأمور الخارجية ـ لا يمكن ان تتحقق في الخارج ، فلو أراد إيجادها ، فاللازم إيجاد الفرد مقدمة ، حتى تتحقق الطبيعة في ضمنه (١٥٦).

والجواب عن الأول بالمنع عن الأصل المذكور ـ أعني امتناع وجود الكلي الطبيعي في الخارج ـ بل نقول : عند التحقيق يمتنع إضافة الوجود في الخارج الا إليه ، بداهة أن الفرد المتشخص الموجود في الخارج ـ الّذي هو مجمع الحيثيات والعناوين ـ كالجسمية والحيوانية والناطقية ، وأنه طويل أو قصير أو ذو لون كذا ـ لو جرد النّظر فيه عن هذه الحيثيات ، لم يبق شيء حتى يكون الوجود مضافا إليه ، فعلم أن فردية الفرد لا تتحقق الا بعد اجتماع هذه الحيثيات المتعددة في الوجود (١٥٧).

______________________________________________________

(١٥٦) لا يخفى مغايرة الدليل للمدّعى ، لأن المدعى إنكار وجود الطبيعة في الخارج رأسا ، والدليل ينفي استقلال وجودها ويثبتها ضمنا.

(١٥٧) وبعبارة أخرى : الفرد هو الطبيعة الموجودة ، فلو لم يكن ما يتعلق به الوجود فلا فرد أيضا ، هذا على أصالة الماهية واما على أصالة الوجود فلا حقيقة لغير

واما الجواب عن الثاني ، فبان الممتنع ما إذا قيدت الطبيعة بشرط عدم انضمامها بالخصوصيات. وأما إذا جردت عن هذه الاعتبارات ، فلا إشكال في تعلق القدرة بها. وأما وجود الفرد ، فليس مقدمة لوجود الطبيعة ، لمكان اتحادهما في الخارج ، كما هو واضح.

حجة من يقول ـ بأن الطلب يتعلق بوجود الطبيعة ـ ان الطلب يتوقف على تصور المحل ، والفرد لا يمكن أن يتصور الا بعد التحقق وحينئذ غير قابل لتعلق الطلب به ، أما عدم إمكان تصور الفرد قبل تحققه ، فلان الصور الذهنية مأخوذة من الخارج ، فحيث لم يتحقق الفرد بعد في عالم الخارج ، لا يمكن أن يحيط به الذهن وينتقش فيه صورة ، فكلما يتصور حينئذ لا يخرج عن كونه كليا ، غاية الأمر يمكن تقييده في الذهن بقيود عديدة ، حتى يصير منحصرا في فرد واحد. ولكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه كليا قابلا للصدق على كثيرين. وأما عدم قابليته للطلب ، بعد تحققه فواضح.

والجواب : أن ما ذكرت ـ من توقف الطلب على تصور المحل ـ ان أردت لزوم تصوره تفصيلا ، فهذه المقدمة ممنوعة ، وان أردت لزوم تصوره ولو بالوجه والعنوان الإجمالي ، فهو مسلم ولكن استحالة تصور الفرد قبل وقوعه بهذا النحو من التصور ممنوعة ، ضرورة إمكان تصور افراد الطبيعة بعنوان انها افراد لها (١٥٨) والّذي يمكن أن يحتج به لتعلق الطلب

______________________________________________________

الوجود ، من غير فرق بين الطبيعة والفرد ، وحينئذ فجريان النزاع ـ في تعلق الأحكام بالطبائع أو الافراد بالمعنى الثاني ـ واضح ، واما بالمعنى الأول فلا يخلو عن إشكال فافهم.

(١٥٨) نعم الظاهر أن النّفس ـ عند تصوّر الافراد قبل وجودها ـ توجد للطبيعة أفرادا عرضية في الذهن إجمالا ، لكن بوصف حكايتها عن الخارج ، وبعد ذلك

بالفرد بالمعنى الثاني : أن الوجودات بأسرها متباينات ، بمعنى أنه ليس لها جامع.

واستدل القائل بتعلق الطلب بالطبيعة بالمعنى الثاني أيضا بوجهين : (أحدهما) أن وجود الشخص لا يدخل في الذهن ، وإلّا لانقلب خارجا و (الثاني) أن إمكان تصور الوجود الشخصي إنما يكون بعد تحققه ، وفي ذلك الوقت لا يمكن تعلق الطلب به.

والجواب عن حجج الأولين منع عدم الجامع بين الوجودات ، كما ترى بالوجدان أنه قد تتعلق الإرادة بإيجاد الماء لرفع العطش ، من دون مدخلية خصوصيات الوجود في الإرادة ، وستطلع على زيادة توضيح في ذلك إن شاء الله تعالى.

وعن حجج الآخرين أما عن الأول ، فبأنه لا يلزم من تعلق الطلب بالموجودات الشخصية كونها ـ بوصف تحققها في الخارج ـ متصورة في الذهن ، حتى يلزم الانقلاب ، بل يكفى انتقاش صورها في الذهن ، ويتعلق الطلب بهذه الصور الذهنية حاكية عن الخارجيات. وأما عن الثاني ، فبما عرفت مما سبق فلا نعيد (١٥٩).

______________________________________________________

تعريها عن الوجودات الذهنية ، وترى نفس الموجودات ، وتشير إليها بعنوان كل ما يمكن أن يكون فردا للطبيعة ، وكما مر أن الموجود في الخارج لا يخرج عن الجزئية والفردية بمجرد صرف النّظر عن وجوده ، ولذا تكون قضية (زيد موجود) قضية جزئية ، مع أن الوجود غير ملحوظ في موضوعها ، كذلك ما يوجد في الذهن ـ بعنوان الفردية للطبيعة ـ لا يخرج عن الفردية الفرضية ، بتعرية الوجود عنه ولحاظ نفس الموجود.

(١٥٩) من إمكان تصور الفرد قبل وجوده وقد عرفت توضيحه. والمحصل من جميع ما أفاده ـ دام ظله ـ هو إمكان تعلق التكاليف بالافراد والطبائع ، بكلا المعنيين

(الأمر الثاني) أن الموجود الخارجي ـ من أي طبيعة كان ـ امر وحداني محدود بحد خاص ، سواء قلنا بأصالة الوجود أو أصالة الماهية ، غاية الأمر أنه على الأول يكون الثاني منتزعا ، وعلى الثاني يكون الأول منتزعا. نعم يمكن أن ينحل في الذهن إلى ماهية ووجود ، وإضافة الوجود إلى الماهية. فحينئذ لو قلنا بان الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي ، فاللازم أن نقول بالامتناع ، سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهية ، ولو قلنا بعدم كونها مانعة. ويكفى تعدد المتعلق في الذهن ، فاللازم القول بالجواز ، سواء قلنا أيضا بأصالة الوجود أو بأصالة الماهية.

(الأمر الثالث) أن الظاهر ـ من العنوان الّذي جعلوه محلا للنزاع ـ ان الخلاف في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه. ولا يخفى أنه غير قابل للنزاع ، إذ من البديهيات التضاد بين الأحكام وملاكاتها. إنما النزاع في أنه هل يلزم ـ على القول ببقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة مثلا بحاله ، وكذا إطلاق دليل الغصب في مورد اجتماعهما ـ اجتماع

______________________________________________________

في مرحلة الثبوت. وأما في مرحلة الإثبات فقد مر أن الهيئة لا تدل الا على أصل الطلب ، والمادة أيضا لا تدل الا على أصل الطبيعة ، لكن لما لم تكن الطبيعة من حيث هي قابلة لتعلق الطلب بها يعتبر بحكم العقل أخذ الوجود في متعلقها إما بمعناه الاسمي وإما بمعناه الحرفي ، كما ذكرنا في تشريح المعنيين فراجع.

وكيف كان لا يدل أصل الهيئة والمادة بضميمة حكم العقل إلا على تعلق الطلب بأصل الطبيعة بأحد المعنيين ، ولا يفهم الفرد لو لم تكن قرينة في البين. وكذلك لو قيل بأن الوجود أخذ في الهيئة وضعا ، بمعنى انها وضعت لطلب الوجود في الأمر ، ولطلب الترك في النهي ، فان المأخوذ في الموضوعية ـ على هذا القول ـ هو المأخوذ بحكم العقل على القول الآخر ، وقد عرفت مقتضاه. وبذلك يظهر وجه استظهار الكفاية خروج لوازم وجود الماهية عن متعلق الطلب.

الأمر والنهي في شيء واحد ، حتى يجب عقلا تقييد أحدهما بغير مورد الآخر أو لا يلزم؟ بل يمكن ان يتعقل للأمر محل ، وللنهي محل آخر ولو اجتمعا في مصداق واحد؟ فهذا النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى ، نظير النزاع في حجية المفاهيم.

(الأمر الرابع) أنه لا إشكال في خروج المتباينين عن محل النزاع ، بمعنى عدم الإشكال في إمكان أن يتعلق الأمر بأحدهما ، والنهي بالآخر إلا على تقدير التلازم بينهما في الوجود ، كما لا إشكال في خروج المتساويين في الصدق ، لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة ، كما لا إشكال في دخول العامين من وجه في محل النزاع (١٦٠) انما النزاع في أن العام المطلق والخاصّ أيضا يمكن ان يجري فيه النزاع المذكور أم لا ،

______________________________________________________

(١٦٠) هذا فيما إذا كانا متغايرين بحسب المفهوم ، كالصلاة والغصب ، فلا إشكال فيه ، وأما فيما إذا كانا متحدين بحسب المفهوم ، كصلاة الصبح والصلاة في الحمام ، فالظاهر عدم جريان النزاع المذكور فيه ، لعدم جريان أدلة الجواز فيه.

توضيح ذلك : ان غاية ما يتمسك به القائل بالجواز هو تعدد موطن الأمر والنهي ، حيث أن الموضوع فيهما عنده هو الموجود في الذهن ، وهو في المفهومين المتغايرين متعدد. وسيأتي تفصيله ـ إن شاء الله تعالى ـ فلو كان متعلّقهما في الذهن أيضا واحدا ، لم يلتزم أحد بجواز اجتماعهما ، للزوم اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذهنا وخارجا ، وهو محال.

والظاهر أن العامين من وجه مع اتحادهما مفهوما ـ كصلاة الصبح والصلاة في الحمام ـ يكونان كالعام والخاصّ المطلقين في وحدة موضوع الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، لو فرض اجتماعهما ، لأن معنى محبوبية صلاة الصبح بنحو الإطلاق ، ليس إلّا محبوبية طبيعة تلك الصلاة بنفسها ، من دون دخل قيد وجودي أو عدمي ـ حتى قيد الإطلاق ـ فيه كما سيأتي منه ـ دام ظله ـ في المطلقين إذا اتحدا من حيث المفهوم ،

.................................................................................................

______________________________________________________

ولازم ذلك أن تكون طبيعة صلاة الصبح في الحمام أيضا مطلوبة بما هي صلاة الصبح ، فلو كان متعلق النهي امرا خارجا عن موضوع الأمر ، مثل إضافة الصلاة إلى الحمام ، فلا إشكال. واما إذا كان نفس هذه الصلاة الموجودة في الحمام مبغوضة ومتعلقة للنهي ، فينا في ذلك إطلاق محبوبية صلاة الصبح. وفي الحقيقة تكون مطلوبيتها مقيدة بعدم تحققها في الحمام.

ولا يمكن أن يقال أن مفهوم صلاة الصبح في الذهن غير مفهوم الصلاة في الحمام ، وإنما المتحد هو الفرد كالصلاة والغصب ، لأن مفهوميهما في الذهن وان كانا متعددين ، لكن مثل ذلك التعدد لا يكفي في وقوعهما موضوعين لحكمين مختلفين ، كتعدد مفهومي المطلق والمقيد ، أو كتعدد المفهوم في تصور الشيء مرتين ، وذلك لأن من يرى صلاة الصبح بلا قيد مطلوبة ، ففي الحقيقة يرى صلاة الصبح في الحمام أيضا مطلوبة ، لأنها ليست إلّا صلاة الصبح مع الخصوصية الخاصة ، وبالفرض لم تكن الخصوصيات دخيلة في المطلوب وجودا وعدما ، فإذا كانت تلك الصلاة أيضا مبغوضة ومنهيا عنها ، يلزم اتحاد موضوع الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، وهو محال.

وبعين هذا التقريب يخرج المطلق والمقيد في متحدي المفهوم عن محل النزاع ، لأن مفهومهما وان كان متعددا ذهنا ، لكن وجودا لا ذاتا ، لأن المقيد ـ كما ذكرنا ـ ليس إلّا ذات المطلق مع إضافة قيد ، فإذا تعلق به الأمر لا يمكن تعلق النهي به ولو في نظرة أخرى ، سواء أضيف إليه قيد أم لا ، لأنّ الذات الموجودة في المقيد ليست إلّا ذات المطلق حتى في الذهن ، فلا تعدد في الذهن ، حتى يقال أن موطن الأمر والنهي هو الموجود في الذهن.

نعم لو كانا متغايرين مفهوما كالحركة والدنو إلى مكان خاص مثلا ، أمكن أن يقال : إن مفهوم الحركة في الذهن غير مفهوم الدنو إلى ذلك المكان ، فلو تعلق الأمر بصرف طبيعة الحركة والنهي عن شخص هذه الحركة بما هي دنو ، فيقال : إن الموجود في الذهن من هذه الحركة غير الموجود فيه من أصل الحركة ، بل كذلك منشأ انتزاع المفهومين أيضا متعدد واقعا ، ولذا يمكن اتصاف أحدهما بالعلم والآخر بالشك ،

قال المحقق القمي (قدس‌سره) ان العام المطلق خارج عن محل النزاع ، بل هو مورد للنزاع في النهي في العبادات. واعترض عليه المحقق الجليل صاحب الفصول (قدس‌سره) بأنه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين الجهتين فرق ، بل الملاك أنه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهي

______________________________________________________

بخلاف المتحدين مفهوما ، فانه لا يمكن تحقق المطلق في ذلك المقام مع الشك في ذات المقيد.

نعم الشك في المقيد ـ أو فيه بما هو متصف الراجع إلى القيد أيضا ـ ممكن ، لكن هذا غير ذات المقيد ، ولعل هذا هو السر في حمل المطلق على المقيد المرتكز في الأذهان ، وإلّا فلا وجه له لو كان مركب الأمرين متعددا.

ولا يخفى أنه لا فرق فيما ذكرنا بين التعبدي والتوصلي فلو امر بالخياطة بنحو الإطلاق ، لا يمكن النهي عنها في مكان خاص. وأيضا لا فرق بين الحكم الفعلي والحيثي ، فلا يمكن الجمع بين إطلاق الحلية الذاتيّة في الغنم مع حرمة الغنم المغصوب أو الموطوء بما هو مغصوب أو موطوء.

نعم يمكن الجمع بين عنوان الموطوء والمغصوب من دون دخل عنوان الغنم فيهما ، فيكون من أقسام المسألة ، ولا يقاس الإطلاق بالكلية : بأن يقال : كما أن الإنسان كلي وزيد جزئي ، يمكن أن يكون المطلق محبوبا والمقيد مبغوضا ، ولا فرق في المضادة بين العارضين ، فما هو الجواب فيها؟

نجيب بما أجبنا فيها ، حيث أن حال تجرّد معروض الكلية يكون دخيلا في عروضها ، بخلاف الإطلاق ، فان معناه عروض الحكم على الذات ، بلا قيد في العارض والمعروض والعروض ، وذلك واضح.

إذا عرفت ما ذكرنا كله تعرف أن الأقوى ما عليه صاحب الفصول من اختصاص مورد نزاع المسألة بما إذا كان مورد الأمر والنهي مختلفي المفهومين ، من غير فرق بين كون النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه أو مطلقا. نعم في اختصاص النزاع الآتي بما إذا كان الموردان من قبيل المطلق والمقيد ما لا يخفى ، لأن النزاع في المسألة الآتية جار في جميع الموارد الا في مورد الاجتماع على القول بالجواز ، ووجهه واضح.

عنه مغايرة ، يجري فيه النزاع ، وان كان بينهما عموم مطلق ، كالحيوان والضاحك ، وان اتحد العنوانان ، وتغايرا ببعض القيود ، لم يجر النزاع فيهما ، وان كان بينهما عموم من وجه ، نحو (صل الصبح ، ولا تصل في الأرض المغصوبة).

هذا ويشكل بأنه لو اكتفى المجوز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة ، فلا فرق بين أن يكون بينهما عموم من وجه أو مطلق ، وأن يكون العنوان المأخوذ في النهي عين العنوان المأخوذ في الأمر ، مع زيادة قيد من القيود أو غيره ، ضرورة كون المفاهيم متعددة في الذهن في الجميع ، ولو لم يكتف بذلك ، فليس لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضا مجال. فاللازم على من يدعى الفرق بيان الفارق.

قال شيخنا المرتضى ـ أعلى الله مقامه ـ في التقريرات المنسوبة إليه ـ بعد نقل كلام المحقق القمي وصاحب الفصول ـ ما هذا لفظه : (أقول إن ظاهر هذه الكلمات يعطى انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون أختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق ان المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالأخرى. وتوضيحه أن المسئول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها والماهية المطلوب تركها ، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ، فانه كما يصح السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلقين عموم من وجه ، فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك (صل ولا تصل في الدار المغصوبة) أو لم يكن كذلك. والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أن النهي المتعلق بشيء هل يستفاد منه أن ذلك الشيء مما لا يقع به الامتثال ، حيث أن المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأي فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أن النهي المتعلق بفرد من افراد

المأمور به ، هل يقتضى دفع ذلك الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر أولا؟ ولا ريب أن هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها ، فيما إذا كان بين المتعلقين إطلاق وتقييد ، كذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان بينهما عموم مطلق. وبالجملة ، فالظاهر أن اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين ، كما زعموا بل لا بد من اختلاف جهة الكلام) انتهى موضع الحاجة من كلامه ، قدس‌سره» (١).

أقول : والحق ان العنوانين لو كانا بحيث أخذ أحدهما في الآخر ، وكان بينهما عموم مطلق ، أيضا لا يتطرق فيهما هذا النزاع (١٦١). وتوضيحه أنه لا إشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع بعض في الذهن ، سواء كان بينها عموم مطلق أو من وجه أو غيرهما ، وسواء كان أحدهما مأخوذا في الآخر أم لا ، إلا أنه لا يمكن أن يقال فيهما ـ إذا كان بين المفهومين عموم مطلق ، وكان أحدهما مشتملا على الآخر ـ ان المطلق يقتضى الأمر ، والمقيد يقتضى النهي ، لأن معنى اقتضاء الإطلاق شيئا ليس إلّا اقتضاء نفس الطبيعة ، إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الإطلاق ، والمقيد ليس إلّا نفس تلك الطبيعة منضمة إلى بعض الاعتبارات ، ولو اقتضى المقيد شيئا منافيا للمطلق ، لزم أن يقتضى نفس الطبيعة امرين متنافيين.

وبعبارة أخرى بعد العلم بأن صفة الإطلاق لا تقتضي تعلق الحب

______________________________________________________

(١٦١) يعني ان المسألتين وان كانتا مختلفتين من حيث الجهة ، كما قال به الشيخ وصاحب الكفاية (قدس‌سرهما) ، لكن تفترقان بحسب المورد أيضا ، باختصاص الأولى بغير مثل المطلق والمقيد إذا كانا متحدي المفهوم ، وقد مرّ تفصيله في الحاشية السابقة. ولعل نظر الفاضلين (قدس‌سرهما) أيضا إلى ذلك ، لا إلى عدم الفرق الا من حيث المورد ، فانهما أجل شأنا من أن يخفى عليهما اختلاف جهة المسألتين.

__________________

(١) مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من حيث اجتماع الأمر والنهي ، ص ١٢٨

بالطبيعة ، فالمقتضى له نفسها ، وهي متحدة في عالم الذهن مع المقيد ، لأنها مقسم له وللمطلق ، فلو اقتضى المقيد الكراهة ، لزم أن يكون المحبوب والمبغوض شيئا واحدا حتى في الذهن. وهذا غير معقول ، بخلاف مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلا ، لعدم الاتحاد في الذهن أصلا.

(الأمر الخامس) قد يتراءى تهافت بين الكلمات ، حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه ، واختار جمع منهم الجواز ، وأنه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الأدلة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من وجه ، وجعلوا علاج التعارض الأخذ بالأظهر إن كان في البين ، وإلّا فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية على الخلاف. وكيف كان لم يتمسك أحد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الأمر والنهي.

والجواب ان النزاع في مسألتنا هذه مبنى على إحراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين (١٦٢) ، وان المناطين هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد ـ كما يقوله المانع ـ أولا ، كما يقوله المجوز. ولا إشكال في ان الحاكم في هذا المقام ليس إلّا العقل.

______________________________________________________

(١٦٢) لكن الظاهر عدم تمامية الجواب المذكور ، وكأنه من المسلم عندهم عدم عدّ المثال من مسائل الاجتماع ، حتى مع إحراز الجهة ، وصرّح بعض بالتعارض أيضا مع إحراز الجهة ، لو كان الدليلان بصدد الحكم الفعلي ، وبالتزاحم لو كانا لإثبات مجرد الاقتضاء ، من دون ابتناء على الاجتماع والامتناع على ما هو ببالي ، فلا بد من جواب آخر يلتئم مع كلماتهم.

وأجاب الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ بإمكان الفرق بين ما إذا كان بين نفس موضوع التكليفين عموم من وجه ، كالصلاة والغصب ، وما إذا كان بين متعلق التكليفين تلك النسبة ، كأكرم العالم ولا تكرم الفاسق ، حيث أن موضوع الحكم ومتعلقه في

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول عند القائل بالاجتماع ليس إلّا الوجود الذهني ، وفي الذهن وجود الغصب مباين لوجود الصلاة فيه ، وإن اتّحدا مصداقا ، بخلاف الثاني ، فانه لمّا تعلق الوجوب بإكرام كل عالم ، والعالم لا محالة أخذ في تلك القضية مفروض الوجود في الخارج ، وكذلك الحرمة في لا تكرم الفاسق ، فيرجع الأمر إلى أن ذلك العالم الخارجي ، يجب إكرامه بما هو عالم ، ويحرم إكرامه بما هو فاسق ، فيجتمع الوجوب والحرمة في الواحد الخارجي ، وهو محال ، ولو أخذ الصلاة والغصب أيضا مفروض الوجود ، مثل أن يقول إن غصبت فتصدّق مثلا ، وان صلّيت فلا تخرج من جيبك درهما ، فيأتي فيه الإشكال المذكور ، ولا بد من التعارض أو التزاحم بين وجوب التصدق وحرمة الإخراج ، على تقدير تحقق ذلك الواحد الشخصي بإيجاد الصلاة في المكان الغصبي.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك أيضا ، لأن حقيقة لا تغصب ليس إلّا النهي عن التصرف في الملك المفروض وجوده وملكيته للغير ، وكذلك امر اسجد على الأرض في ضمن الصلاة توجه إلى وضع الجبهة على الأرض المفروض الوجود ، وكذلك الحال بالنسبة إلى سائر أكوان الصلاة ، ومع ذلك لم ينقدح التعارض بينهما عند الاجتماعي. وأما في المثال ، فان صلّى في الدار المغصوبة ، فيجب عليه التصدق بغير درهم ويحرم عليه إخراج الدرهم ، ولو تصدق بالدرهم لسوء الاختيار فهو مورد لاجتماع الأمر والنهي ، وعاص ومطيع على القول بالاجتماع ، من غير فرق بينه وبين سائر موارده.

والّذي يخطر ببالي : أن السر في ذلك ليس إلّا ما ذكرنا من عدم جريان نزاع الاجتماع والامتناع في العامين من وجه إذا اتحدا مفهوما ، وقد مر تفصيله فراجع.

وإجماله في المقام : ان محبوبية إكرام العالم ـ بنحو الإطلاق ، من دون دخل قيد وجودي ولا عدمي ـ لا تجتمع مع مبغوضية إكرام الفاسق كذلك ، لأن معنى محبوبية الإكرام كذلك محبوبيته ولو في ضمن إكرام الفاسق ، ومع فرض مبغوضية إكرام الفاسق المتحد مع العالم ، يلزم اتحاد موطن الأمر والنهي ذهنا وخارجا ، وهو محال ، ولذا لو قال : أكرم العلماء ، ولا تبتسم في وجه الفساق ، فأكرم المخاطب عالما فاسقا بنفس التبسم في وجهه ، فهو من موارد الاجتماع ، فالمنشأ اتحاد مفهوم موضوع الأمر

وباب تعارض الدليلين مبنى على وحدة المناط والملاك في الواقع ، ولكن لا يعلم أن الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الأمر أو النهي مثلا ، فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهرية ، إن كان أحد الدليلين أظهر ، وإلّا فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية حسبما قرر في محله. نعم يبقى سؤال وهو أن طريق استكشاف ما هو من قبيل الأول وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.

إذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوزين والمانعين ، فنقول وعلى الله التوكل : أحسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوزين ، هو أن المقتضى موجود والمانع مفقود. أما الأول فلما عرفت من أن فرض الكلام ليس إلّا فيما يكون المقتضى موجودا. وأما الثاني ، فلان المانع ليس إلّا ما تخيله الخصم ، من لزوم اجتماع المتضادين من الحكمين ، والحب والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، وليس كما زعمه. وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة ، وهي أن الاعراض على ثلاثة أقسام :

(منها) ما يكون عروضه واتصاف المحل به في الخارج كالحرارة العارضة للنار ، والبرودة العارضة للماء ، وأمثالهما من الاعراض القائمة بالمحال في الخارج.

و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الخارج ، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وأمثالها (١٦٣).

______________________________________________________

والنهي وهو الإكرام ، لا أخذ العالم مفروض الوجود فيهما. ولا فرق فيما ذكرنا بين (أكرم العالم ولا تكرم الفسّاق) أو (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق) لأن الإكرام المحبوب بذاته لا يمكن ان يتصف بالمبغوضية ، مع قيد من القيود ، من غير فرق بين أخذه بنحو الاستغراق أو العام البدلي فتأمل.

(١٦٣) يعني أن أصل الصفة شيء يدركه العقل ، وليس بإزائه في الخارج

و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به فيه أيضا ، كالكلية العارضة للإنسان ، حيث أن الإنسان لا يصير متصفا بالكلية في الخارج قطعا ، فالعروض في الذهن ، لأن الكلية إنما تنتزع من الماهية المتصورة في الذهن ، واتصاف الماهية بها أيضا فيه ، لأنها لا تقبل الكلية في الخارج.

فنقول حينئذ لا إشكال في أن عروض الطلب ـ سواء كان امرا أم نهيا ـ لمتعلقه ليس من قبيل الأول ، وإلّا لزم أن لا يتعلق إلّا بعد وجود متعلقه (١٦٤) ، كما أن الحرارة والبرودة لا تتحققان الا بعد تحقق النار والماء ، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه ، وهو غير معقول. ولا من قبيل الثاني ، لأن متعلق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط للطلب ومعدم له ، ولا يعقل ان يتصف في الخارج بما هو ينعدم بسببه ، فانحصر الأمر في الثالث ، فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلقاتهما كعروض الكلية للماهيات.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن طبيعة الصلاة والغصب وان كانتا

______________________________________________________

شيء ، نعم له منشأ انتزاع في الخارج ، ومعلوم أن الصفة التي موطن وجودها العقل ، لا يكون عروضها الا في الذهن لكن المتصف بهذه الصفة هو الشيء الخارجي ، بخلاف الثالث ، فان الشيء المتصف بها أيضا لا وجود له إلا في الذهن.

(١٦٤) وأيضا : لا يمكن القول بأن المتعلّق هو الوجود الخارجي بنحو كان التامة ، لأنه إن أريد به تعلق الطلب به قبل تحققه ، بلا توسط لحاظه وتحقق صورته في الذهن ، فهو أيضا كالسابق في الاستحالة واستلزام تحقق العرض قبل تحقق صورة الوجود بنحو كان التامة ، أو صورة الماهية بلحاظ الوجود كذلك في الذهن ، قبل تحقق الخارج ، لكن بنحو تكون حاكية عن الخارج وغير ملتفت إليها ، فهذا عين ما قصدناه من العروض والاتّصاف في الذهن.

موجودتين بوجود واحد ، وهي الحركة الشخصية المتحققة في الدار المغصوبة ، إلا أنه ليس متعلق الأمر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، بل هي بوجوداتها الذهنية. ولا شك أن طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك ، فلا يلزم من وجود الأمر والنهي حينئذ اجتماعهما في محل واحد.

فان قلت : لا معنى لتعلق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن ، لأنها ان قيدت بما هي في ذهن الآمر ، فلا يتمكن المكلف من الامتثال ، وان قيدت بما هي في ذهن المأمور ، لزم حصول الامتثال بتصورها في الذهن ، ولا يجب إيجادها في الخارج. وهو معلوم البطلان.

قلت : نظير هذا الإشكال يجري في عروض الكلية للماهيات ، لأنه بعد ما فرضنا أن الماهية الخارجية لا تقبل ان تتصف بالكلية ، وكذا الماهية من حيث هي ، لأنها ليست إلا هي ، فينحصر معروض الكلية في الماهية الموجودة في الذهن ، فيتوجه الإشكال بأنه كيف يمكن أن تتصف بالكلية ، مع انها من الجزئيات ، ولا تنطبق على الافراد الخارجية ، ضرورة اعتبار الاتحاد في الحمل. ولا اتحاد بين الماهية المقيدة بالوجود الذهني وبين الافراد الخارجية.

وحل هذا الإشكال في كلا المقامين أنه بعد ما فرضنا أن الماهية ـ من حيث هي مع قطع النّظر عن اعتبار الوجود ـ ليست إلّا هي ، ولا تتصف بالكلية والجزئية ولا بشيء من الأشياء ، فلا بد من القول بأن اتصافها بوصف من الأوصاف يتوقف على الوجود ، وذلك الوجود قد يكون وجودا خارجيا ، كما في اتصاف الماء والنار بالبرودة والحرارة ، وقد يكون وجودا ذهنيا ، لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك ، بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج ، مثلا ماهية الإنسان تلاحظ في الذهن ،

ويعتبر لها وجود مجرد عن الخصوصيات حاك عن الخارج ، فيحكم عليها بالكلية ، فمورد الكلية في نفس الأمر ليس إلّا الماهية الموجودة في الذهن ، لكن لا بملاحظة كونها كذلك ، بل باعتبار حكايتها عن الخارج.

فنقول موضوع الكلية وموضوع التكاليف المتعلقة بالطبائع شيء واحد (١٦٥) ، بمعنى أن الطبيعة ـ بالاعتبار الّذي صار موردا لعروض

______________________________________________________

(١٦٥) لا يخفى أن موضوع الكلية والتكاليف وإن كانا سيّان في أن العروض والاتصاف في كليهما في الذهن ، لكنه فرق بينهما من حيث أن حال التجرد من جميع القيود دخيل في عروض الكلية ، حتى أنه لو لوحظت الماهية في الذهن متحدة مع الافراد لا تعرض عليها ، ولا يصح أن يقال كل إنسان كلي مثلا ـ ولو قبل وجود الافراد في الخارج ـ وهذا بخلاف الأمر والنهي ، فانهما قد يتعلقان بالطبيعة قبل وجودها ، مع لحاظ اتحادها مع الخارجيات.

وبعبارة أخرى : قد تكون الطبيعة بوجودها الساري محبوبة أو مبغوضة ، بل الغالب في المبغوضية ذلك ، بحيث يكون تعلّق النهي بصرف الطبيعة ـ بلا لحاظ السريان ـ نادرا أو معدوما. نعم قد يتعلقان بالطبيعة الصرفة بما هي ، بحيث تكون الافراد خارجة عن تحت الطلب ، ويكون حال التجرّد عن لحاظ الاتحاد مع الافراد أيضا دخيلا في الحكم وفي المحبوبية ، بحيث لا يصدق على فرد من الافراد أنه محبوب أو مبغوض ، بل يكون كل فرد مصداقا لما يكون محبوبا كما في الكلية ، ولعل الغالب في الأوامر هو ذلك.

وحاصل الفرق : انه في الأول يكون كل فرد من افراد المحبوب محبوبا بنفسه ، لأن المحبوب هو الوجود الساري للطبيعة ، ومن الوجودات هذا الفرد ، بل يمكن أن يقال ان لوازم وجود كل فرد أيضا محبوبة ، غاية الأمر بالتبع ، وكذلك في المبغوض ، بخلاف الثاني فانه لا يصدق على فرد من الافراد أنه محبوب ، بل يقال انه شيء ينطبق عليه المحبوب ويتحقق به ، ولا يسري إليه الطلب. وليكن هذا الفرق على ذكر منك ، لعلّه ينفعك في مقام النتيجة.

وصف الكلية ـ تكون موضوعة للتكاليف من دون تفاوت أصلا.

فان قلت سلمنا ذلك كله ، لكن مقتضى كون الوجود حاكيا عن الخارج بلحاظ المعتبر أن يحكم باتحاده مع الوجودات الخارجية ، فاللازم من تعلق إرادته بهذا الوجود السعي تعلقها أيضا بالوجودات الخارجية ، لمكان الاتحاد الّذي يحكم به اللاحظ.

قلت : الحكم ـ باتحاد الوجود السعي مع الوجودات الخاصة في الخارج ـ لا بد له من ملاحظة مغايرة بين الموضوع والمحمول ، حتى يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ، ولا ينافى ذلك الحكم بالاتحاد ، لأنه بنظر آخر.

وبعبارة أخرى للاحظ لحاظان أحدهما تفصيلي والآخر إجمالي ، فهو باللحاظ الأول يرى المغايرة بين الموضوع والمحمول ، ولذا يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ، وباللحاظ الثاني يرى الاتحاد ، فحينئذ لو عرض المحمول شيء في لحاظه التفصيلي ، فلا وجه لسريانه إلى الموضوع ، لمكان المغايرة في هذا اللحاظ (١٦٦) ، وبهذا اندفع الإشكال عن المقام ونظائره مما لم تسر الأوصاف القائمة بالطبيعة إلى افرادها ، من قبيل الكلية العارضة

______________________________________________________

(١٦٦) هذا فيما إذا كان لتجرد الموضوع ـ حتى عن لحاظه متحدا مع الافراد ، كما بينّاه في الحاشية ـ دخل في الموضوع ، لأن المحمول يكون على هذا كالكلية بعينها. وحينئذ موضوع الأمر والنهي متعدد ، ولا مساس لأحدهما بالآخر. وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى. وأما لو لم يكن للحالة المذكورة دخل ، بل كانت الطبيعة بوجودها الساري محبوبة ، بأن لاحظها الآمر قبل وجودها وجعلها ـ بلحاظ وجودها بما هو وجود مع أيّ شيء اتحد ـ موضوعا للأمر ، أو جعل الموضوع في الذهن نفس الوجود كذلك على اختلاف المعنيين ـ كما مر ـ فلا يتم التقريب المذكور للاجتماع ، لأن موضوع الأمر ـ على هذا ـ يكون متحدا مع كل فرد من الافراد الخارجية في لحاظ

.................................................................................................

______________________________________________________

اتصافه بالمحمول ، وموضوع النهي أيضا كذلك في الغالب ـ كما مر ـ فيلزم اتحاد موضوع الأمر والنهي في الخارج والذهن ، وهو محال.

وهذا هو ما أشرنا إليه في السابق من الفرق بين متعلّق التكاليف ومعروض الكلية ، من إمكان أخذ الموضوع في الأول ، بحيث يكون متعلقه التكاليف ، بخلاف الكلية. والعمدة فيما هو ـ دام بقاؤه ـ بصدده إثبات ما ذكرناه من دخل التجرد في موضوع الأوامر ، حتى عن لحاظ الاتحاد ، ولا شاهد لها الا الوجدان ، فانه قد يتعلق الحب بالطبيعة بما هي ، من دون سرايته إلى الافراد ، بحيث لو نظر إلى كل فرد لا يراه مطلوبا ، بل يراه مصداقا لما تعلق به الحب في حالة تجرّده عن اتحاده معه ، كما في الكلية. وهذا وجداني ، وحينئذ لا تنافي بين محبوبية الصلاة وطبيعة الحركة في ضمنها ، مع مبغوضية الحركة الخاصة لكونها غصبا ، لأن معروض الأول هي الطبيعة بلحاظ التجرد ، ولا ربط له مع المتحد كما في المثال.

لا يقال : ان طبيعة الصلاة في ضمن الحركة الشخصية الغصبية تصير مبغوضة ، لما مر من أن النهي إذا تعلق بالطبيعة بوجودها الساري ، كان الخاصّ مبغوضا حتى بخصوصياته غاية الأمر خصوصياته بالتبع ، فحيثيّة الصلاتية أيضا مبغوضة بالتبع ، ولا يجتمع ذلك مع المحبوبية.

لأنه يقال : نعم الخاصّ مبغوض ، والخصوصية الصلاتية المتحدة في الخارج مع الغصب أيضا مبغوضة ، لكن مر أن موضوع الأمر هي الطبيعة المجردة عن ذلك الاتحاد في لحاظ الآمر ، مع دخل تلك الحالة ، فلا مورد لهذا الإشكال.

ولا يقال : قد مر من الماتن ـ دام بقاؤه ـ أن عوارض الفرد تسري إلى المهملة ، بحيث يصح أن يقال : (الإنسان موجود إذا وجد فرد منه) وكذلك (عالم أو أبيض) وعلى هذا فإذا اعترفت بأن هذا الفرد من الصلاة المتحد مع الغصب مبغوض ، فيصح أن يقال الصلاة مبغوضة ، وذلك ينافي محبوبيتها على الإطلاق.

لأنا نقول : ليست المبغوضية كالعوارض الوجودية ، بحيث يصح إسنادها إلى المهملة باتصاف فرد بها ، بل هي نظير العدم في أنّه ما لم ينعدم جميع الافراد لم يسند

للإنسان ، وكذا وصف التعدد العارض لوجود الإنسان بما هو وجود الإنسان ، مع أن الفرد ليس بكلى ولا متعدد ، وكذا الملكية العارضة للصاع الكلي الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة ، حيث حكموا بان من اشترى صاعا من الصبرة الموجودة ، يصير مالكا للصاع الكلي بين الصيعان ، والخصوصيات ليست ملكا له ، وفرعوا على هذا لو تلف منها شيء ، فالتالف من مال البائع ما بقي مقدار ما اشترى المشتري. فافهم واغتنم.

فان قلت : كيف يمكن ان يكون هذا الوجود المجرد عن الخصوصيات محبوبا أو مبغوضا ، وليس له في الخارج عين ولا أثر ، لأن ما في الخارج ليس إلّا الوجودات الخاصة. ولا شبهة في ان المحبوب والمبغوض لا يمكن أن يكون الا من الأمور الخارجية ، لأن تعلق الحب والبغض بشيء ليس إلّا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع الآمر له ، أو منافرته له ، وليس في الخارج الا الوجودات الخاصة المباين بعضها لبعض.

قلت : إن أردت من عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه

______________________________________________________

العدم إلى المهملة فتأمل.

ولا يقال : إن ذلك مناف لما ذكر في مقدمات الحكمة ومورد الأخذ بالإطلاق ، من أن الطبيعة إذا صارت معروضة لحكم بلا قيد ، فهي معروضة له حيثما تدور مع أي قيد كانت.

لأنه يقال : نعم ، يدور الحكم مدارها مع أي قيد كانت ، ولكن لا ينافي ذلك عدم سريانه إلى الفرد ، لما ذكر من دخل التجرد في الحكم. والمقصود في مقام الإطلاق عدم خروج الطبيعة من تحت الحكم ، بحيث لا يكون الفرد مصداقا لما هو مطلوب أيضا. وذلك لا ينافي ما نحن بصدده في المقام. وذلك واضح.

مع وصف كونه جامعا ومتحدا مع كثيرين ، فهو حق لا شبهة فيه ، لأن الشيء مع وصف كونه جامعا لا يتحقق إلّا في الذهن ، وإن أردت عدمه في الخارج أصلا ، فهو ممنوع ، بداهة أن العقل بعد ملاحظة الوجودات الشخصية التي تحويها طبيعة واحدة ، يجد حقيقة واحدة في تمام تلك الوجودات. وأقوى ما يدل على ذلك الوجدان ، فانا نرى من أنفسنا تعلق الحب بشرب الماء مثلا ، من دون دخل للخصوصيات الخارجية في ذلك ، ولو لم تكن تلك الحقيقة في الخارج ، لما أمكن تعلق الحب بها (١٦٧). والّذي يدل على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من افراد الطبيعة الواحدة ، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثر الواحد ، لزم تأثر الواحد من المتعدد. وهذا محال عقلا.

______________________________________________________

(١٦٧) وأيضا : لا إشكال في أنه قد يكون تحقق الجامع في الخارج معلوما ، مع الجهل بتحقق كل واحد من الافراد ، فلو لم يكن له واقع يلزم كون العلم به جهلا مركبا ، لأن كل فرد من الافراد المعينة مجهول بالفرض ، ولا يمكن اتصافه بالمعلومية مع ذلك ، للزوم اتصافه بالضدين. والفرد المنتشر لا واقع له تحقيقا ، فينحصر المعلوم في الجامع.

وأيضا : لا إشكال في أنه قد تترتب خاصيّتان على الموجود الخارجي تسند إحداهما إلى لجامع والأخرى إلى لفرد ، فلو لم يكن في الخارج الا واحد ، لزم صدور الاثنين من الواحد ، فكما يرتفع إشكال ذلك بقيام واقعين محفوظين ، وقيام كل من الأثرين على أحدهما ، كذلك يرتفع الإشكال عن اتحاد موطن الأمر والنهي.

وأيضا قد يستند الخاصّ إلى علة وداع ، والجامع إلى أخرى ، مثل أن يكون أصل الوضوء بداع إلهي ، واختيار الخاصّ بداع نفساني ، كالحرارة والبرودة وأمثالهما وكل ذلك ناش عن التعدد.

ولا يخفى أنا لا نقول بتحقق موجودين محسوسين في الخارج ، بحيث يمكن الإشارة إلى كل منهما منحازا عن الآخر ومتميزا عنه بالفصل والجنس ، كالبقر والإنسان ، أو بالوجود الشخصي كزيد وعمرو ، أو بالذات كالقطرات في البحر مثلا ، أو

فان قلت : ما ذكرت إنما يتم في الماهيات المتأصلة التي لها حظ من الوجود في الخارج ، كالإنسان ونحوه. وأما ما كان من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجية كالصلاة والغصب ، فلا يصح فيه ذلك ، لأن هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج ، حتى يجرد من الخصوصيات ويجعل موردا للتكاليف ، بل اللازم في أمثالها هو القول بان مورد التكاليف الوجود الخارجي الّذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم. ولا ريب في وحدة الوجود الخارجي الّذي يكون منشأ للانتزاع.

وبعبارة أخرى تعدد العناوين مفهوما لا يجدى ، لعدم الحقيقة لها الا في العقل (١٦٨) وما يكون موردا للزجر والبعث ليس إلّا الوجود

______________________________________________________

النقاط في الخطّ الواحد ، حيث يمكن الإشارة إلى كل منها. ويمكن اتصاف كل فرد بعرض خارجي غير عرض الآخر ، بل نقول ان الجامع موجود مع الخاصّ بوجود واحد ، ولا ميز في الخارج بين الحيثيات ، ولا يمكن الإشارة إلى كل منها حسا ، ولا يمكن اتصافها بصفات متباينة ، إلا أن العقل عند التحليل يدرك أشياء متعددة واقعا ، كما يدرك تعدد الجنس والفصل.

ولا يخفى أن التعدد في المقامين واقعي ، لكن لا يدركه إلّا العقل ، لا انه اعتباري محض جاء من قبل العقل ، ولعل هذا معنى أن الوجود واحد ، والحيثيات متعددة ، لا أن الحيثيات اعتبارية صرفة. وإذا ثبت التعدد واقعا عند العقل ، فلا مانع من تعلق الأمر بشيء في الذهن ، والنهي بشيء آخر لا اتحاد بينهما في النّظر التفصيليّ الانحلالي ، وان كان الوجود الخارجي لهما واحدا ، لأن موطنهما ـ كما مرّ ـ هو الذهن لا الخارج.

ثم لا يخفى أيضا عدم صحة قياس إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فان الآمر لو اختار المجمع ينجر إلى نقض غرضه ، وهو محال. بخلاف المأمور ، فانه يمكن أن يختار المجمع بسوء اختياره. نعم في مقام تعلق الإرادة لا فرق بين الإرادتين ، وموطنهما في النّظر التفصيلي.

(١٦٨) وحاصل الإشكال أن الأمور الانتزاعية ليست كالمتأصلة ، بحيث تكون

الخارجي الّذي تنتزع منه هذه العناوين. ولا شبهة في وحدته.

قلت بعد ما حققنا تحقق صرف الوجود في الخارج ، لا مجال لهذه الشبهة ، لأن العناوين المنتزعة لا تنتزع الا من صرف الوجود ، من دون ملاحظة الخصوصيات. (مثلا) مفهوم (ضارب) ينتزع من ملاحظة حقيقة وجود الإنسان ، واتصافه بحقيقة وجود المبدأ ، من دون دخل لخصوصيات افراد الإنسان أو كيفيات الضرب في ذلك.

______________________________________________________

لها في الخارج حقيقة ، حتى يقال إن لها طبيعة وفردا ، مثل ما يقال عند وجود زيد أن أصل طبيعة الإنسان شيء واقعي غير زيد في النّظر التفصيليّ ، موجود بوجوده متحد معه في النّظر الإجمالي ، فان الفوقية ليس لها في الخارج الا منشأ الانتزاع. ومعلوم أن المنشأ لها ليس الجامع بين الأجسام المستقر بعضها فوق بعض ، بل المنشأ شخص الجسم الخارجي المتهيئ بهيئة خاصة ، وكذلك منشأ الصلاة والغصب شخص الحركات الخارجية المتكيفة بكيفيات خاصة. والشخص الخارجي غير قابل لتعلق الأمر والنهي به ، والمفروض ان الأمر بهما يرجع إلى الأمر بالمنشإ حقيقة.

وحاصل الجواب : أن الانتزاع وان كان من الخارج ، والأمر بالأمور المنتزعة راجع إلى إتيان المنشأ ، لكن المنشأ ليس الخارج بشخصه ، بل هو الطبيعة في حال تجردها عن الاتحاد مع الافراد. فمرجع الأمر بالصلاة إلى الأمر بإتيان الحركات والسكنات والأقوال الخاصة ، لكن بجامعها لا بخصوصياتها التي منها كونها تصرفا في ملك الغير ، والنهي عن الغصب وان كان متوجها إلى كل واحد من اشخاص الحركات التي منها شخص الحركة الصلاتية ، لأن المنهي عنه هي الطبيعة بوجودها الساري ، لكن لما كان معروض الأمر الطبيعة ـ في لحاظ تجردها عن اتحادها مع الافراد ـ لا تنافي بين العرضين. نعم لو كان معروض الأمر أيضا الوجود الساري ، لكان اجتماعهما محالا ، كما مر بل لو كان الواجب تخييريا شرعا ، لا يمكن اجتماعه مع الحرام أيضا ، لأن كل واحد من الافراد في هذا الفرض متعلق للأمر التخييري. وما كان كذلك لا يمكن أن يتعلق به النهي تعيينا ، كما هو واضح.

إذا عرفت هذا فنقول مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرف في ملك الغير ، من دون دخل لخصوصيات التصرف من كونه من الأفعال الصلاتية أو غيرها في ذلك ، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والأقوال الخاصة ، مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط ، من دون دخل لخصوصية وقوعها في محل خاص. وقد عرفت مما قررنا سابقا قابلية ورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعددتين ، بملاحظة الوجود الذهني ، المتحدتين بملاحظة الوجود الخارجي. وهنا نقول أن المفاهيم الانتزاعية وإن كانت ـ حقيقة البعث أو الزجر المتعلق بها ظاهرا ـ راجعة إلى ما يكون منشأ لانتزاعها ، لكن لما كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعددا ، لا بأس بورود الأمر والنهي وتعلقهما بما هو منشأ لانتزاعهما.

هذا غاية الكلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام فانه من مزال الإقدام.

وينبغي التنبيه على أمور :

من توسط أرضا مغصوبة

(الأمر الأول) أنه لا إشكال في أن من توسط أرضا مغصوبة ، لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج بأسرع وجه يتمكن منه ، لأنه في غيره يتحقق منه هذا المقدار مع الزائد. وفيه يتحقق منه هذا المقدار ليس إلّا. وهذا لا شبهة فيه إنما الإشكال في أن الخروج من تلك الدار ما حكمه؟ والمنقول فيه أقوال :

(الأول) ـ أنه مأمور به ومنهي عنه. وهذا القول محكي عن أبي هاشم ، واختاره الفاضل القمي (قدس‌سره) ونسبه إلى أكثر أفاضل المتأخرين ، وظاهر الفقهاء. وصحته تبتنى على أمرين (أحدهما) كفاية

تعدد الجهة في تحقق الأمر والنهي ، مع كونهما متحدتين في الوجود الخارجي (ثانيهما) جواز التكليف فعلا بأمر غير مقدور ، إذا كان منشأ عدم القدرة سوء اختيار المكلف. والأمر الأول قد فرغنا منه واخترنا صحته (١٦٩) ولكن الثاني في غاية المنع ، بداهة قبح التكليف بما لا يقدر عليه ، لكونه لغوا وعبثا.

واما ما يقال من أن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافى الاختيار ، فهو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بان الأفعال غير اختيارية ، بان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فكل ما تحققت علته يجب وجوده ، وكل ما لم تتحقق علته يستحيل وجوده.

وحاصل الجواب ان ما صار واجبا بسبب اختيار المكلف ، وكذا ما صار ممتنعا به ، لا يخرج عن كونه اختياريا له ، فيصح عليه العقاب ، لا ان المراد انه بعد ارتفاع القدرة يصح تكليفه بغير المقدور فعلا.

القول الثاني أنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، كما اختاره صاحب الفصول (قدس‌سره).

القول الثالث أنه مأمور به بدون ذلك.

والحق أن يقال : إن بنينا على كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد ، فالأقوى هو القول الثاني ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أم لم نقل. وان لم نقل بمقدمية الخروج ، بل قلنا بصرف الملازمة بين ترك

______________________________________________________

(١٦٩) لكن في غير هذا المورد مما لا يكون للعنوان دخل في المأمور به ، وقد مر أن المقدمية ليست مثل الصلاة والغصب وأمثالهما ، بحيث يكون لها دخل في الحكم ، بل الأمر المقدمي يتعلق بنفس ما هو مقدمة في الخارج وفي مثله لا تجري أدلة الاجتماع.

الغصب الزائد والخروج ـ كما هو الحق ، وقد مر برهانه في مبحث الضد ـ فالأقوى أنه ليس مأمورا به ولا منهيا عنه فعلا ، ولكن يجري عليه حكم المعصية.

لنا على الأول أنه قبل الدخول ليس للخروج عنوان المقدمية ، ضرورة إمكان ترك الغصب بأنحائه ، ولا يتوقف ترك شيء منه على الخروج ، فيتعلق النهي بجميع مراتب الغصب من الدخول في الأرض المغصوبة والبقاء والخروج (١٧٠) لكونه قادرا على جميعها ، ولكنه بعد الدخول فيها يضطر إلى ارتكاب الغصب مقدار الخروج ، فيسقط النهي عنه بهذا المقدار ، لكونه غير قادر فعلا على تركه. والتكليف الفعلي قبيح بالنسبة إليه. وهذا واضح. ولكنه يعاقب عليه ، لوقوع هذا الغصب بسوء اختياره ، ولما توقف عليه بعد الدخول ترك الغصب الزائد ، كما هو المفروض. وهذا الترك واجب بالفرض ، لكونه قادرا عليه ، فيتعلق به الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، فالخروج من الدار المغصوبة منهي عنه قبل الدخول ، ولذا يعاقب عليه ، ومأمور به بعد الدخول ، لكونه بعده مقدمة للواجب المنجز الفعلي.

فان قلت ما ذكرت إنما يناسب القول بكفاية تعدد الجهة في الأمر والنهي. واما على القول بعدمها ، فلا يصح ، لأن هذا الموجود الشخصي

______________________________________________________

(١٧٠) لكن لا يخفى عدم شمول إطلاق النهي للخروج قبل الدخول ، لأن تركه بوصف وقوعه بعد الدخول خارج عن القدرة ، نعم ذات الغصب حرام من دون نظر إلى حال العجز ، فمن تعمّد في سلب القدرة عن نفسه معاقب من هذه الجهة ، وإلّا فلو كان الخروج حراما قبل الدخول وواجبا بعده ، لزم أن تكون هذه الحركة الشخصية الواقعة في آن واحد حراما في ساعة ، وواجبة في ساعة ، من دون نسخ في البين. وهو محال ، كاجتماع الحكمين في ساعة واحدة.

ـ أعني الحركة الخروجيّة ـ مبغوض فعلا ، وان سقط عنه النهي لمكان الاضطرار ، وكما أن الأمر والنهي لا يجتمعان في محل واحد ، كذلك الحب والبغض الفعليان ، ضرورة كونهما متضادين كالأمر والنهي.

قلت اجتماع البغض الذاتي مع الحب الفعلي مما لا ينكر ، ألا ترى أنه لو غرقت بنتك أو زوجتك ، ولم تقدر على إنقاذهما ، ترضى بأن ينقذهما الأجنبي ، وتريد هذا الفعل منه ، مع كمال كراهتك إياه لذاته.

فان قلت الكراهة في المثال الّذي ذكرته ليست فعلية ، بخلاف المقام ، فان المفروض فعليتها فلا تجتمع مع الإرادة.

قلت ليت شعري ما المراد بعدم فعلية الكراهة في المثال ، وفعليتها في المقام فان كان المراد أنه لا يشق عليه هذا الفعل الصادر من الأجنبي ، بل حاله حال الصورة التي يصدر هذا الفعل من نفسه ، بخلاف المقام ، فان الفعل يقع مبغوضا للآمر ، فالوجدان شاهد على خلافه. ولا أظن أحدا تخيله. وإن أراد به أن الفعل ـ وان كان يقع في المثال مبغوضا ومكروها للشخص المفروض ـ إلّا ان هذا البغض لا أثر له ، بمعنى أنه لا يحدث في نفس الشخص المفروض إرادة ترك الفعل المفروض ، لأن تركه ينجر إلى هلاك النّفس ، ومن هذه الجهة هذا البغض المفروض لا ينافى إرادة الفعل ، فهو صحيح. ولكنه يجري بعينه في المقام ، فان الحركة الخروجيّة وان كانت مبغوضة حين الوقوع ، لكن هذا البغض لما لم يكن منشأ للأثر وموجبا لزجر الآمر عنها ، فلا ينافى إرادة فعلها ، لكونه فعلا مقدمة للواجب الفعلي.

ومحصل ما ذكرنا في المقام : أن القائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي إنما يقول بامتناع اجتماعهما واجتماع ملاكيهما ، إذا كان كل واحد من الملاكين منشأ للأثر وموجبا لإحداث الإرادة في النّفس. واما إذا

سقطت جهة النهي عن الأثر ـ كما هو المفروض ـ فلا يعقل أن يتخيل أن الجهة الساقطة عن الأثر تزاحم الجهة الموجودة المؤثرة في الأمر ، مثلا لو فرضنا أن المولى نهى عبده عن مطلق الكون في المكان الفلاني ، فأوقع العبد نفسه في ذلك المكان بسوء اختياره ، ثم لم يمكنه الخروج من ذلك المكان أبدا ، فلا شك أن الأكوان الصادرة من العبد كلها تقع مبغوضة للمولى ، ويستحق عليها العقاب ، وان سقط عنها النهي ، لعدم تمكن العبد من الترك فعلا.

ثم انه لو فرضنا أن خياطة الثوب مطلوبة للمولى من حيث هي ، فهل تجد من نفسك أن تقول لا يمكن للمولى ان يأمره بخياطة الثوب في ذلك المكان ، لأن أنحاء التصرفات والأكوان المتحققة في ذلك المكان مبغوضة للمولى ، ومنها الخياطة ، فلا يمكن أن تتعلق إرادته بما يبغضه ، وهل ترضى أن تقول ان المولى ـ بعد عدم وصوله إلى الغرض الّذي كان له في ترك الكون في ذلك المكان ـ يرفع يده من الغرض الآخر من دون مزاحم أصلا؟ وهل يرضى أحد ان يقول إنه في المثال المذكور تكون أنحاء التصرفات في نظر المولى على حد سواء. وبالجملة أظن ان هذا من الوضوح بمكان ، بحيث لا ينبغي أن يشتبه على أحد ، وان صدر خلافه عن بعض أساتيذ العصر دام بقاؤه فلا تغفل.

والحاصل أن جهة النهي انما تزاحم جهة الأمر إذا أمكن للمكلّف بعث المكلّف إلى ترك الفعل. وأما إذا لم يمكنه ذلك ، لكون الفعل صادرا قهرا من غير اختيار المكلّف ، فلو وجدت فيه جهة الأمر ولم يأمر به ، لزم رفع اليد عن مطلوبه وغرضه من دون جهة ومزاحم (١٧١).

______________________________________________________

(١٧١) وأيضا يلزم عدم صحة صلاة من وقع في ملك الغير اختيارا ، وان لم

هذا إذا اخترنا أول شقي الترديد ، وهو كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد. واما على ثانيهما ، فعدم كون الخروج موردا للحكم الشرعي واضح ، لعدم كونه مقدمة للواجب ، حتى يصير واجبا كما هو المفروض ، وعدم قدرة المكلف على ترك الغصب بمقدار الخروج ، حتى يصير حراما. ولكن لو طبق تلك الحركة الخروجيّة على عبادة كأن صلى في تلك الحالة نافلة ، بحيث لا يستلزم غصبا زائدا على المقدار المضطر إليه ، أو صلى المكتوبة كذلك في ضيق الوقت ، كانت تلك العبادة صحيحة ، لما ذكرنا من الوجه ، وهو عدم قابلية الجهة الغير المؤثرة في نفس المريد ، للمزاحمة مع الجهة المؤثرة.

فان قلت : هب صحة الأمر التوصلي في أمثال المقام ، ولكن نمنع صحة الأمر التعبدي. والسر في ذلك أن الغرض في الأوامر التوصلية وقوع الفعل في الخارج كيف ما كان ، لترتب الغرض عليه ، وان اتحد مع مبغوض آخر. وأما الغرض في التعبديات ، فليس كذلك ، بل الغرض وقوع العبادة على وجه يحصل به القرب ، ولا يحصل القرب بما هو مبغوض فعلا ، لأنه موجب لاستحقاق العقوبة والبعد عن ساحة المولى.

قلت : بعد وجود جهة القرب في الفعل ـ كما هو المفروض ، وعدم مزاحمة شيء للأمر كما عرفت ـ لا وقع لهذا الإشكال ، لأنه لا نعنى بالقرب المعتبر في العبادات الا صيرورة العبد بتلك العبادة ذا مرتبة لم تكن له على تقدير عدمها ، ولا إشكال في أن العبد ـ بعد اضطراره إلى

______________________________________________________

يمكنه الخروج إلى آخر عمره ، والظاهر أنهم لا يلتزمون بذلك ، بل وكذلك من وقع بغير اختيار ، لأن المانع من الأمر ملاك النهي ، وهو لا يرتفع بالمعذورية ، فيرد على هذا القائل عدم الوجه للتفصيل.

مخالفة المولى بمقدار ساعة مثلا ـ لو عمد إلى إتيان مقصود آخر له ، يكون اقرب ـ إلى المولى بحكم العقل ـ منه لو لم يفعل ذلك. وهذا واضح جدا.

وعلى هذا نقول : لا منافاة بين كون هذا الفعل موجبا للبعد والعقوبة ، من جهة اختياره السابق ، وموجبا للقرب إذا طبقه على عبادة من العبادات ، بمعنى أنه في الحال التي يقع منه هذا المقدار من الغصب قطعا ، لو طبقه على عبادة من العبادات التي فيها جهة حسن ، أحسن من أن يوجده مبغوضا صرفا. وهذا المقدار من القرب يكفى في العبادة.

وبعبارة أخرى لو فرضنا عبدين أوقعا نفسهما في المكان المغصوب بسوء اختيارهما ، فاضطرا إلى ارتكاب الغصب بمقدار الخروج ، فأوجد أحدهما في حال الخروج عملا راجحا في حد ذاته ، طلبا لمرضاة الله دون الآخر ، فالعبدان مشتركان في استحقاق العقاب على الدخول في المكان المغصوب ، والخروج ، ويختص الأول بما ليس للثاني. ولا نعنى بالقرب إلا هذا المعنى.

ومما ذكرنا يظهر أن الحكم ـ بصحة العبادة المتحدة مع الحركات الخروجيّة ـ لا يحتاج إلى إحراز أن في تلك العبادة مصلحة راجحة على مفسدة الغصب ، وانها أهم عند الشارع من ترك الغصب ، لأن ملاحظة الأهم وتقديمه على غيره ، إنما يكون فيما إذا كان كل منهما تحت اختيار العبد ، فيجب عليه اختيار الأهم وترك غيره. واما إذا لم يكن المكلف مختارا على ترك الغصب أصلا ، فلا يكون مجرد المفسدة الخالية عن الأثر مانعا للأمر بعنوان آخر متحد مع فعل الغصب ، وان كان ترك الغصب أهم من فعل ذلك بمراتب ، فلا تغفل.

(الأمر الثاني) ومما استدل به المجوزون أنه لو لم يجز ، لما وقع نظيره

وقد وقع كما في العبادات المكروهة ، كالصلاة في الحمام ومواضع التهمة وأمثال ما ذكرنا مما لا يحصى.

بيان الملازمة أنه ليس المانع الا التضاد بين الوجوب والحرمة ، وعدم كفاية تعدد الجهة مع وحدة الوجود في الخارج ، وهو موجود بعينه في اجتماع الوجوب مع الكراهة ، واجتماع الوجوب مع الاستحباب ، إذ الأحكام متضادة بأسرها. والتالي باطل لوقوع الاجتماع في موارد كثيرة ، فيكشف عن بطلان المقدم ، وهو عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة. وأجيب عنه بأجوبة كثيرة لا نطيل الكلام بذكرها.

والتحقيق ـ في الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة ـ أنها على ثلاثة أصناف (أحدها) ما تعلق النهي بعنوان آخر يكون بينه وبين العبادة عموم من وجه ، كالصلاة في موارد التهمة بناء على ان تكون كراهتها من جهة النهي عن الكون فيها المجامع للصلاة (ثانيها) ما تعلق النهي بتلك العبادة مع تقيدها بخصوصية ، وهو على قسمين :

(الأول) ـ ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحمام.

(الثاني) ـ ما ليس كذلك ، كالصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.

اما القسم الأول : فمحصل الكلام فيه : أنه بعد دلالة الدليل على وجوب الصلاة ـ من حيث هي ـ أعنى مع قطع النّظر عن اجتماعها في الوجود مع الحرام التعييني أو مع المكروه كذلك ، فكما أن اللازم بحكم العقل عدم فعلية الأمر بالصلاة في صورة الاجتماع مع الحرام التعييني ، بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي كذلك اللازم على هذا القول عدم فعلية وصف الكراهة في صورة الاجتماع مع العنوان المكروه. والوجه في ذلك أن الحرمة التعيينية تقتضي عدم وجود كل

شخص من افراد الطبيعة المنهي عنها ، ومنها الفرد المجتمع مع عنوان الواجب ، والوجوب ـ المتعلق بالطبيعة التي قد يتفق اجتماعها مع الحرام ـ لا يقتضى خصوص ذلك الفرد المجتمع مع الحرام ، بل أي فرد وجد وطبقت عليه تلك الطبيعة يحصل الغرض الداعي إلى الأمر بها ، فعلى هذا مقتضى الجمع بين الغرضين أن يقيد الآمر مورد الأمر بغير الفرد الّذي اجتمع مع الحرام.

ومن هنا ظهر أن تقيد عنوان المأمور به ـ وإخراج الفرد المنهي عنه عن موضوع الوجوب ـ لا يبتنى على إحراز ان مصلحة ترك الحرام أعظم وأهم عند الشارع من مصلحة إيجاد المأمور به ، لأن هذا الكلام إنما يصح فيما إذا كان بينهما تزاحم ، بحيث لا يمكن الجمع بينهما. وأما بعد فرض إمكان الجمع بينهما ـ كما فيما نحن فيه ـ فالواجب بحكم العقل تقييد مورد الوجوب ، ولو كان من حيث المصلحة أهم وأعظم من ترك الحرام.

والحاصل أنه إذا اجتمع عنوانان أحدهما فيه جهة الوجوب ، والآخر فيه جهة الحرمة ، والأولى تقتضي فردا اما ، والثانية ترك كل فرد تعيينا ، وقلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعلق الأمر والنهي ، فاللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب. وهذا لا شبهة فيه بعد أدنى تأمل.

واما إذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه ، فالامر بالعكس (١٧٢) ، لأن جهة الكراهة وإن كانت تقتضي عدم تحقق كل

______________________________________________________

(١٧٢) يعني بعد البناء على الامتناع ، لا محالة يحكم العقل بتقييد أحد الحكمين ، وكما أن في صورة اجتماع الوجوب المتعلق بالطبيعة مع النهي يقيد الوجوب بحكم العقل من إحراز الأهمية ، كذلك في صورة اجتماع الوجوب مع الكراهة تقيد

فرد تعيينا ، بخلاف جهة الوجوب ، كما في الواجب والحرام ، إلا ان الكراهة لما لم تكن مانعة للفعل على وجه اللزوم ، فلا تقاوم جهة الوجوب الملزمة للفعل ، فعلى هذا إذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه ، فاللازم بحكم العقل انتفاء وصف الكراهة فعلا ، ولكن لما كان الفرد الموجود الخارجي مشتملا على جهة الكراهة ، توجد فيه حزازة ، فيكون امتثال الواجب في هذا الفرد أقل فضلا وثوابا من امتثاله في غيره ، لمكان تلك الحزازة.

فان قلت : ما معنى الكراهة ، مع أن الفعل المفروض مصداق للواجب ، ويعتبر في صدق الكراهة رجحان الترك؟

قلت : الأحكام الشرعية التي تدل عليها الأدلة على قسمين (تارة) يستظهر من الأدلة أنها أحكام فعلية تعلقت بالموضوعات ، بملاحظة جميع الخصوصيات والضمائم ، و (أخرى) يستظهر منها أحكام حيثية تعلقت بموضوعاتها من حيث هي ، أعني مع قطع النّظر عن الضمائم الخارجية ، وما يكون من قبيل الثاني تتوقف فعليته على عدم عروض مانع للعنوان يقتضى خلاف ذلك الحكم الجاري عليه ، نظير قوله : (الغنم حلال) فان الحلية وان كانت مجعولة ، إلا أن هذا الجعل لا يلازم الفعلية في جميع افراد الغنم ، فان الغنم الموطوءة أو المغصوبة حرام ، مع كون الغنم من حيث الطبع

______________________________________________________

الكراهة ، لعدم كونها مانعة من لزوم الفعل أو ترخيصه.

وبتقريب آخر : كما قد يكون ملاك الحكم موجودا ، ومع ذلك لا يؤثّر في إنشاء الإرادة ـ كما مر في المبغوض مع عدم القدرة ـ كذلك قد تكون حزازة الفعل موجودة ومحفوظة في حد نفسها ، لكن لما كان ملاك الوجوب أيضا تاما لا تؤثر الحزازة في إنشاء الإرادة الكراهية ، وان كان يصح النهي إرشادا إلى ما ليست فيه.

حلالا ، وليس إطلاق الحلال على طبيعة الغنم ـ مع كون بعض افرادها حراما ـ جاريا على خلاف الاصطلاح ، بل يصح إطلاق الحلال بالمعنى المذكور على خصوص الفرد الحرام أيضا ، إذ المعنى أن هذا الفرد مع قطع النّظر عن كونه مغصوبا مثلا حلال.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول إطلاق المكروه على الوجود الّذي يكون فعلا مصداقا للواجب لاتحاده معه ، نظير إطلاق الحلال على الفرد المجامع للحرام من الغنم (١٧٣) بمعنى أن هذا الوجود مع قطع النّظر عن اتحاده مع الواجب يكون مكروها.

هذا واما أول القسمين ، من الثاني ـ أعني ما إذا تعلق النهي بالعبادة مع خصوصية زائدة كالصلاة في الحمام ـ فمحصل الكلام فيه أن النهي المتعلق بتلك العبادة الخاصة ، لا بد وان يرجع إلى نفس الخصوصية ، أعني كونها في الحمام. وقد مر بيانه في مقدمات المبحث (١٧٤) فحينئذ نقول : هذا النهي إما أن يكون لبيان الكراهة

______________________________________________________

(١٧٣) ولا يخفى ان الفرد المذكور ـ على ما ذكر ـ ليس بأقل ثوابا من سائر الافراد ، ولا تنافي الحزازة الثواب المترتب ، حتى يقال ان الفرد المذكور أقلّ ثوابا ، فلا محالة يكون مكروها فعلا بهذا المعنى.

(١٧٤) يعني مر ان الاجتماعي أيضا لا يقول بالاجتماع ، فيما إذا كان عنوان المأمور به والمنهي عنه متحدي المفهوم ، وكان بينهما عموم وخصوص مطلق ، ففي مثل (صلّ ولا تصلّ في الحمام) لا يجوز الاجتماع عند الاجتماعي ، حتى يجعل وقوعه دليلا على إمكانه ، فلا بد للفريقين من علاج ، فنلتزم بان المنهي عنه إيقاع الصلاة في الحمام لا الصلاة فيه ، ولا الكون فيه حال الصلاة ، فما هو مأمور به ليس بمبغوض ، والمبغوض لم يؤمر به ولا مانع منه حتى عند الامتناعي ، ولذا يصح النهي عنه مولويا فعلا ، بخلاف هذا القسم كما عرفت ، نعم لا يصح الأمر بذات الفرد شخصا أو في ضمن العام

الذاتيّة لهذه الخصوصية ، وان لم يكن وصف الكراهة الفعلية موجودا ، نظير ما قدمنا ، فيكون اللازم كون هذا الفرد أقل ثوابا من سائر الافراد. وعلى هذا يكون هذا النهي مولويا تستفاد منه الكراهة الشرعية. وإما أن يحمل على الإرشاد وترغيب المكلف إلى إتيان فرد آخر من الطبيعة يكون خاليا عن المنقصة ، وتستكشف الكراهة الذاتيّة منه بطريق الإنّ.

واما ثاني القسمين ، وهو ما إذا تعلق النهي بالعبادة ولا بدل لها ، كالصوم في يوم عاشوراء وأمثاله ـ فيشكل الأمر فيه ، من حيث ان حمل النهي ـ فيه على بيان الكراهة الذاتيّة مع الالتزام بكونه راجحا ومستحبا فعليا ـ ينافى التزام الأئمة عليهم‌السلام بتركه ، وأمرهم شيعتهم بالترك أيضا ، وحمله على الإرشاد يستلزم الإرشاد إلى ترك المستحب الفعلي من دون بدل ، والقول بكونه مكروها فعلا ينافى كونه عبادة.

والّذي يمكن أن يقال في حل الإشكال امران : (الأول) ما أفاده سيدنا الأستاذ نور الله مضجعه ، وهو أن يقال برجحان الفعل من حيث أنه عبادة ، ورجحان الترك من حيث انطباق عنوان راجح عليه ، ولكون رجحان الترك أشد من رجحان الفعل ، غلب جانب الكراهة ، وزال وصف الاستحباب. ولكن الفعل لما كان مشتملا على الجهة الراجحة لو أتى به يكون عبادة ، إذ لا يشترط في صيرورة العمل عبادة وجود الأمر ، بل يكفى تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق ، فهذا الفعل مكروه فعلا لكون تركه أرجح من فعله ، وإذا أتى به يقع عبادة ، لاشتماله على الجهة.

______________________________________________________

الاستغراقي ، مع كون الخصوصية منهيا عنها ، لأنه تكليف بالمحال وبالجمع بين الضدين ، وأما إذا تعلق الأمر بالطبيعة من دون نظر إلى وجوداتها الخاصة ، فلا إشكال ، ولا يحتاج إلى التقييد بالمقدور ، لأنه مع القدرة على فرد يصح الأمر بالطبيعة.

ويشكل بأن العنوان الوجوديّ لا يمكن ان ينطبق على العدم (١٧٥) ، لأن معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي ، والعدم ليس له وجود.

(الثاني) ان يقال : إن فعل الصوم راجح ، وتركه مرجوح ، وأرجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن ان يجتمع مع الصوم ويلازم عدمه. ولما كان الشارع عالما بتلازم ذلك العنوان الأرجح مع عدم الصوم ، نهى عن الصوم للوصلة إلى ذلك العنوان ، فالنهي على هذا ليس إلّا للإرشاد ولا يكون للكراهة ، إذ مجرد كون الضد أرجح لا يوجب تعلق النهي بضده الآخر ، بناء على عدم كون ترك الضد مقدمة ، كما هو التحقيق. ولعل السر ـ في الاكتفاء بالنهي عن الصوم بدلا عن الأمر بذلك العنوان الأرجح ـ عدم إمكان إظهار استحباب ذلك العنوان.

هذا ومما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض عليها جهة الاستحباب ، كالصلاة في المسجد ونحوها. هذا تمام الكلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام.

تداخل الأسباب والمسببات

ثم انه نسب إلى بعض أن إجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة إنما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد ، فيكون من موارد

______________________________________________________

(١٧٥) الظاهر عدم الإشكال في تطبيق بعض العناوين الوجودية على العدميات ، مثلا يصدق إجابة المؤمن على عدم الصوم إذا استدعى المؤمن تركه ، والإطاعة على عدم معصية العبد ، وكذا المخالفة لبني أمية على ترك صوم العاشور والأمر سهل.

اجتماع حكمين متضادين. ومثله ما عن البعض من عد مطلق تداخل الأسباب ـ كما في منزوحات البئر ونحوها ـ من هذا القبيل ، ولا بأس بتحقيق مسألة الأسباب والمسببات في الجملة ، ليعرف أن الاستدلال بما ذكر مما لا وجه له.

أقول إذا جعل الشارع طبيعة شيء سببا ، فلا يخلو هذا في نفس الأمر من وجوه :

(أحدها) ـ أن يكون السبب صرف الوجود لتلك الطبيعة ، أعني حقيقته التي هي في مقابل العدم الكلي (١٧٦) ، وكذلك المسبب ، مثل أن يقول إذا انتقض عدم النوم بالوجود ، يوجب انتقاض عدم الوضوء بالوجود.

(ثانيها) ـ أن تكون الطبيعة باعتبار مراتب الوجود سببا لوجود طبيعة أخرى كذلك ، مثل قولك (النار سبب للحرارة) والمراد أن النار

______________________________________________________

تداخل الأسباب والمسببات :

(١٧٦) المقصود ـ من صرف الوجود في الأقسام المذكورة في الحقيقة ـ هو المقيد بالوجود الأول ، وما لا يمكن تعدّده. ولعله خلاف الاصطلاح في صرف الوجود ، فان الصرف عبارة عن أصل الطبيعة الصادقة على القليل والكثير القابلة للتكرار بشخصها ووجودها ، نعم لا تكرار بالنوع والطبيعة ،

وكيف كان لو فرض الأخذ في طرف السبب أو المسبب على أحد الوجوه المذكورة ، فالحكم كما ذكر ، بمعنى أنه لو أخذ في أحد الطرفين بنحو لا يمكن تكرره ، فمعلوم ان السبب والمسبب واحد ، ولا ربط له باجتماع الحكمين ، ولو أخذ بحيث يمكن تكراره في الطرفين ، فكل سبب يحتاج إلى مسبب خاص من دون اجتماع حكمين. نعم يمكن جعل كل من الأسباب سببا لنوع من المسببات المختلفة نوعا ، مع اتحادها مصداقا ، فتدخل تحت النزاع لو لم يؤكد الوجوب فتأمل.

باعتبار مراتب الوجود سبب للحرارة كذلك ، بمعنى أن كل وجود ثبت للنار يؤثر في حرارة خاصة.

(ثالثها) ـ ان يعتبر في طرف السبب صرف الوجود ، وفي طرف المسبب مراتبه.

(رابعها) ـ العكس.

ولا إشكال في ما إذا ثبت أحد الوجوه ، لأنه على الأول لا يكون السبب ولا المسبب قابلا للتكرار ، بداهة أن ناقض العدم لا ينطبق إلا على أول الوجودات ان وجدت مرتبة ، وعلى المجموع إن وجدت دفعة. وعلى هذا لا يكون السبب الا واحدا ، وكذا المسبب ، كما أنه على الثاني يتكرر السبب بلا إشكال. وعلى الثالث لا تؤثر الافراد الموجودة من طبيعة واحدة آثارا متعددة ، لأن المفروض وحدة السبب. نعم لو اختلف السبب نوعا ووجد من كل من النوعين فرد. يجب ان يتعدد المسبب ، لأن المفروض قابلية التعدد في طرف المسبب. وعلى الرابع لا يتكرر المسبب وان تكرر السبب ، سواء كان التكرر من جهة فردين من طبيعة واحدة أم من طبيعتين مختلفتين ، لعدم قابلية المسبب للتكرار.

ولا إشكال في شيء مما ذكرنا ظاهرا إنما الإشكال في الاستظهار من القضايا الملقاة من الشارع ، وانها ظاهرة في أي شيء ليكون هو الأصل المعول عليه ، إلى أن يثبت خلافه. والّذي يظهر من مجموع الكلمات المتفرقة في مصنفات شيخنا العلامة المرتضى (قدس‌سره) ان مقتضى إطلاق أدلة السببية كون كل واحد من افراد الطبيعة ـ سواء وجدت دفعة أم بالتفاوت ـ سببا مستقلا ، مثلا لو قال الشارع (ان نمت فتوضأ) فالنوم اللاحق إذا أثر في وضوء آخر فهو المطلوب. وأما إذا لم يؤثر ، فاللازم تقييد موضوع الشرط بالنوم الخاصّ ، وهو النوم الأول أو الغير

المسبوق بمثله.

فان قلت : ظاهر القضية وحدة المسبب ، وهو حقيقة الوضوء في القضية المفروضة ، فلم لا يكون هذا صارفا عن ظهور إطلاق السبب لو سلم؟ مع أنه لنا ان نمنع اقتضاء إطلاق السببية كون كل فرد سببا مستقلا ، ألا ترى أنه لو جعلت الطبيعة معروضة للأمر ، لا يقتضى إطلاقها كون كل واحد من افرادها واجبا مستقلا ، وأي فرق بين كون الشيء معروضا للأمر وبين كونه معروضا للسببية؟

قلت : قد حقق في محله أن الألفاظ الدالة على المفاهيم ، لا تدل بحسب الوضع الا على الطبيعة المهملة المعراة عن اعتبار الإطلاق والتقييد والوجود والعدم (١٧٧) لكنها بهذا النحو لا يمكن أن تكون معروضة لحكم من الأحكام ، فاللازم بحكم العقل اعتبار الوجود حتى يصح بهذا الاعتبار كونها موضوعة للحكم. والوجود اللازم اعتباره بحكم العقل أعم من أن يكون وجودا خاصا مقيدا بقيد وجودي أو عدمي ، أو كل واحد من الوجودات الخاصة ، أو صرف الوجود في مقابل العدم الكلي. فلو دل دليل

______________________________________________________

(١٧٧) لا يخفى ان هذا الجواب لا يستفاد من كلمات الشيخ (قدس‌سره) فيما عثرت عليها في كتاب الطهارة في منزوحات البئر ، والتقريرات في ذلك المبحث ، بل المستفاد منها أن الوحدة المتبادرة من المسبب هي الوحدة النوعية لا الشخصية ، وتعدد الواحد بالنوع شخصا بسبب تعدد علل وجوده أمر عقلي ، وليس تصرفا في ظاهر اللفظ ، ولا تقييدا في إطلاقه ، حتى نرفع اليد بسببه عن مقتضى دليل سببية كل نوع أو كل شخص مثلا ، ويحسن نقل عين عبارته في ردّ من تمسك لنفي التعدد بظهور الدليل في اتحاد المسبب وهي هذه :

(ويضعّف بأن تعدّد الواحد النوعيّ شخصا بسبب تعدد علل وجوده ليس تصرفا في اللفظ ، فان كان مقتضى إطلاق الأدلة سببية جميع مصاديق السبب من غير

على اعتبار الوجود بوجه من الوجوه المذكورة ، فهو المتبع ، وإلّا فاللازم هو الأخذ بصرف الوجود ، لأنه ثابت على كل حال ، وهو المتيقن.

______________________________________________________

فرق بين المسبوق بسبب آخر وغيره ، لزم عقلا تعدد الحكم الواحد بالنوع في الخارج ، بخلاف صرف الدليل عن التأثير المستقل) انتهى كلامه زيد في علو مقامه (١).

والظاهر أن العبارة المذكورة كالصريحة فيما ذكرنا ، ولا مساس لها بما في المتن من مزاحمة مقتضى إطلاق المسبب مع ظاهر دليل السبب. وانما يرفع اليد عن إطلاق المسبب ، لأنه يؤخذ من باب القدر المتيقن مثل ذلك ، ولا يصلح لمعارضة الظواهر ، فانه على ما صرح به لا منافاة أصلا بين الوحدة النوعية والتعدد الشخصي ، حتى نحتاج إلى الترجيح بهذا التوجيه ، والظاهر أنه ـ دام ظله ـ التزم بهذا التوجيه إذ كان في سالف الزمان عليه : من عدم قابلية صرف الوجود الّذي هو أخف مئونة للتكرار. وأما على ما هو الحق واختاره أخيرا من أن الأخف مئونة هي الطبيعة القابلة للتكرار. فالجواب ما ذكره (قدس‌سره).

والفرق بين الأسباب وإلّا وامر أن الأمر الواحد ـ بمعونة الإطاعة ـ علة واحدة لإيجاد الطبيعة ، ومعلوم أن العلة الواحدة ـ لوجود الطبيعة المعراة عن جميع القيود ـ لا توجد الا وجودا واحدا منها. واما المستفاد من أدلة السبب أن كل وجود شخصي من الأسباب أو نوعي علة لأصل الطبيعة. والعقل يحكم باقتضاء إيجاد كل علة معلولا على حدة ، إلا مع عدم قابلية المعلول للتكرار والمفروض ان المسبب قابل له ، لأنه أخذ عاريا عن جميع القيود ، ومنها الوجود الأول.

بل نقول بناء على ما ذكرنا لا نحتاج في استفادة تعدد السبب إلى كون القضايا العرفية كذلك ، بل حتى لو كانت جميع القضايا العرفية بعكس ذلك ، لكن لو علمنا بان الشيء الفلاني سبب لطبيعة ـ من غير تقييد في الطرفين ـ لاقتضى ذلك التكرار في الطرفين ، لأن الأسباب بوجودها تؤثر ، والوجودات متكثرة ، والمسبب قابل للتكرار نعم لو علمنا أن السبب بماهيته يؤثر ، فلا يتكرر إلّا بتكرار النوع.

__________________

(١) مطارح الأنظار تقريرات العلامة الأنصاري للعلامة الشيخ أبو القاسم الكلانتري ـ ١٤١ قريبا من ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول : السر ـ في الأخذ بصرف الوجود في موضوع الأمر ، والاكتفاء في مقام الامتثال بفرد واحد ـ هو كونه متيقنا ، وعدم دلالة دليل على أزيد منه ، فلو دل دليل على اعتبار أزيد ، فلا تعارض بينهما ، لما عرفت من أن الأخذ به انما هو من باب القدر المتيقن ، وعدم ما يبين الزائد.

وحينئذ نقول : لو قال الشارع (إذا نمت فتوضأ) فمقتضى الجزاء ـ مع قطع النّظر عن الشرط ـ كون موضوع الأمر صرف الوجود ، لما عرفت آنفا. ومقتضى السببية الفعلية المستفادة من القضية الشرطية ، كون كل فرد من افراد النوم سببا فعليا ، لأن الأسباب العادية والمؤثرات الخارجية تكون بهذه المثابة ، بمعنى أن كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة ، يؤثر كل فرد منها. ومن هذه الجهة تحمل السببية ـ المستفادة من القضية الملقاة من الشارع ـ على ما هو المتعارف من الأسباب.

وبعبارة أخرى يفهم من القضية الشرطية أمران (أحدهما) يكون مدلولا لأداة الشرط ، وهو العلية الفعلية لما جعل شرطا في القضية (ثانيهما) يكون مفهوما من القضية ، من جهة ما ارتكز في أذهان أهل العرف ، من الأمر المتعارف ، وهو كون كل وجود لهذا الشرط علة فعلية. وعلى هذا فاللازم هو الحكم بتعدد التأثير عند تعدد تلك الافراد ، لأنه لو حكمنا به لم نرتكب خلافا لظاهر القضية ، لما عرفت من أن الأخذ بصرف الوجود في موضوع الأمر إنما كان من جهة عدم البيان ، وهذا الظهور العرفي للقضية يصير بيانا له ، بخلاف ما لو حكمنا بعدم تعدد التأثير ، فانه لا بد حينئذ من التصرف إما في الظاهر المستفاد من أداة الشرط ، بحملها على إفادة كون تاليها مقتضيا لا علة تامة ، وإما في الظاهر الآخر المستفاد من العرف من غير دليل.

فان قلت : سلمنا ذلك كله ، ولكن المسبب ليس فعل المكلف حتى يقتضى تعدد افراد السبب الفعلي تعدده ، بل المسبب هو الوجوب ، ولا يقتضى تعدد أسباب الوجوب تعدده ، بل يتأكد بتعدد أسبابه.

قلت : ظاهر القضية أن السبب الشرعي يقتضى نفس الفعل ، وامر الشارع إنما جاء من قبل هذا الاقتضاء ، بمعنى أن الشارع أمرنا بإعطاء كل ذي حق حقه ، فافهم فانه دقيق.

فان قلت : يمكن أن يكون السببان مؤثرين في عنوانين مجتمعين في فرد واحد ، فلا يقتضى تعدد السبب تعدد الوجود ، كما لو قال الآمر : (إن جاءك عالم فأكرمه ، وان جاءك هاشمي فأكرمه) فجاءك عالم هاشمي ، فلا شبهة في أنه لو أكرمت ذلك العالم الهاشمي امتثلت كلا الأمرين.

قلت : أما (أولا) فظاهر القضية وحدة عنوان المسبب (١٧٨) ، ولا شك في انه مع وحدة عنوان المسبب لا يمكن القول بتعدد التأثير ، إلّا بالتزام تعدد الوجود ، لعدم معقولية تداخل الوجودين من طبيعة واحدة. وأما (ثانيا) فنقول ـ بعد الإغماض عن هذا الظهور ـ لا أقل من الشك في أن المفهومين المتأثرين من السببين هل يجتمعان في مصداق واحد أم لا؟ ومقتضى القاعدة الاشتغال ، لأن الاشتغال بالتكليفين ثابت ، ولا يعلم

______________________________________________________

(١٧٨) خصوصا مع وحدة عنوان السبب ، حيث أن الظاهر أن المؤثر حينئذ هو الجامع ، ولا يحصل من الواحد بالنوع إلا الواحد بالنوع. واما مع اختلاف الأسباب نوعا ، فالتعدد في المسبب بحسب النوع ـ وان كان موافقا للقاعدة ـ لكن حيث لم نعلم بحدود ماهيته ، فاجتماعهما على فرض التعدد مشكوك فيه ، فيرجع إلى الشك في الامتثال بعد اليقين بالاشتغال ، ومعلوم انه يستدعى البراءة اليقينية.

الفراغ الا من إيجادين. هذا محصل ما استفدناه من كلمات شيخنا الأجل المرتضى (قدس‌سره) مع تنقيح منا.

أقول : والتحقيق عندي أن القضايا الشرطية لا يستفاد منها كون الشرط ـ أعني ما جعل تلو إن وأخواتها ـ علة تامة ، بل إنما يستفاد منها أن الجزاء يوجد في ظرف وجود الشرط ، مع ارتباط بين الشرط والجزاء على نحو الترتب (١٧٩) ، سواء كان الشرط علة تامة للجزاء أم كان أحد اجزاء العلة التامة ، بعد الفراغ من باقيها. وما قيل ـ في بيان دلالة أدوات الشرط على كون تاليها أعنى مدخولها علة تامة للجزاء ـ مخدوش. وسيأتي توضيح ذلك في بحث المفاهيم إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا فنقول : يكفى في صدق القضايا الشرطية المتعددة ـ التي جزاؤها حقيقة واحدة ـ تحقق تلك الحقيقة مرة واحدة ، ولو تعدد ما جعل شرطا في الخارج. وكذا في صورة تعدد افراد الطبيعة الواحدة التي جعلت شرطا. نعم لو وجد الجزاء ، ثم تحقق فرد من افراد ما جعل شرطا ، يجب إتيان الجزاء ثانيا ، لأن مقتضى القضية الشرطية تحقق الجزاء في ظرف وجود الشرط ، فالفعل الموجود قبل تحقق الشرط لا يكفى.

ومما ذكرنا يظهر أن الأصل ـ في باب الأسباب ـ كفاية المسبب الواحد في صورة تعدد السبب ، وعدم تخلل المسبب وأما في صورة التخلل ، فيجب الإتيان بفعل آخر للوجود اللاحق. فتدبر جيدا.

______________________________________________________

(١٧٩) لا يخفى أنّ الظاهر ـ من قولك : إن تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو مثلا ـ ان التكلم موجب للسجدة ، سواء وقع قبله شيء أم لا ، ولازم ذلك تكرار المسبب من غير فرق بين جزء العلة وتمامها ، ولا يبقى إلّا ما مر من ان عدم قابلية المسبب قرينة على إرادة خلاف الظاهر في السبب ، وقد مر جوابه.

هذا ، وأنت بعد الإحاطة بما ذكرنا ، تعرف أن استدلال المجوز ـ باجتماع المثلين أو الضدين في باب الأسباب ـ مما لا وجه له أصلا.

وتوضيحه أنه في صورة تعدد الافراد من الطبيعة الواحدة ، إن قلنا بان السبب ليس إلّا صرف الوجود ، وكذا المسبب ، فلا يكون هناك الا سبب واحد ومسبب واحد ، وليس من مورد اجتماع المثلين أصلا. وكذا إن قلنا بصرف الوجود في طرف المسبب فقط ، أو السبب كذلك. وان قلنا بكون السبب مراتب الوجود ، وكذلك المسبب فالأسباب متعددة وكذلك المسببات ، فلا اجتماع للمثلين أيضا. وهكذا الأمر في صورة تعدد الفردين من طبيعتين (١٨٠) لأنه ان جعلنا المسبب صرف الوجود ، فالواجب واحد بوجوب واحد ، وان جعلناه مراتب الوجود ، فالواجب متعدد بتعدد السبب. والوجوب أيضا كذلك ، فلا اجتماع للمثلين أيضا.

واما قضية اجتماع الضدين كالوجوب والاستحباب في غسل الجمعة والجنابة ، فنقول إن قلنا بتعدد الحقيقة في الغسلين ، فلا يكون من مورد اجتماع الضدين ، لأنه على هذا يكون من قبيل وجوب إكرام العالم ، واستحباب إكرام الهاشمي. وإن قلنا بوحدتهما حقيقة ، فان بنينا على عدم كفاية غسل واحد عنهما ، فلا شبهة أيضا في عدم اجتماع الضدين ، وإن

______________________________________________________

(١٨٠) لا يخفى انه لو كان المسبب عن كل سبب عنوانا غير المسبب عن الآخر ، ولم يؤخذ فيهما قيد عدم اجتماعهما في الوجود ، فلا مانع من اجتماع الحكمين ، بتقريب مر من الاجتماعي ، فلو كان مثل غسل الحيض والجنابة نوعين مختلفين ، فقصد المكلف إتيانهما بحركة واحدة ، فلا مانع من أن يقال بأنها مصداق لواجبين من دون محذور في البين. وكذا في مثل الجمعة والجنابة بالنسبة إلى الوجوب والاستحباب. نعم في مثل (أكرم عالما وهاشميا) لا بد من الالتزام بتأكد الحكم ، لما مر من عدم جريان دليل المجوز في مثله.

بنينا على كفاية غسل واحد ، فالموجود في الخارج من قبيل الصلاة في المسجد ، في كونه مصداقا للواجب فقط ، مع أفضليته من ساير المصاديق ، من جهة اشتماله على جهة الوجوب وجهة الاستحباب. هذا تمام الكلام في حجج المجوزين وقد عرفت ان أمتنها ما ذكر أولا.

بيان حجة المانعين

اعلم أن أحسن ما قرر في هذا المقام ما أفاده شيخنا الأستاذ دام بقاؤه في فوائده ، ونحن نذكر عباراته لئلا يسقط شيء مما اراده ، قال بعد اختيار القول المشهور ـ وهو الامتناع ـ ما هذا لفظه :

(وتحقيقه على وجه يتضح فساد ما قيل أو يمكن ان يقال للقول بالجواز من وجوه الاستدلال يتوقف على بيان أمور :

(أحدها) ـ أنه لا إشكال في تضاد الأحكام الخمسة بأسرها في مقام فعليتها ومرتبة واقعيتها ، لا بوجوداتها الإنشائية ، من دون انقداح البعث والزجر والترخيص فعلا ، نحو ما أنشأ وجوبه أو حرمته أو ترخيصه ، فلا امتناع في اجتماع الإيجاب والتحريم في فعل واحد إنشاء ، من دون بعث نحوه وزجر عنه ، مع وضوح الامتناع معهما. ومن هنا ظهر أنه لا تزاحم بين الجهات المقتضية لها إلا في مرتبة فعليتها وواقعيتها ، وأنه يمكن إنشاء حكمين اقتضائيين لفعل واحد ، وإن لم يمكن ان يصير فعليا إلا أحدهما. ومما ذكرنا ظهر أن تعلق الأمر والنهي الفعليين بشيء واحد محال ، ولا يتوقف امتناعه على استحالة التكليف بالمحال.

(ثانيها) ـ انه لا ريب في أن متعلق الأحكام إنما هو الأفعال بهويتها وحقيقتها ، لا بأسمائها وعناوينها المنتزعة عنها. وإنما يكون أخذ

اسم أو عنوان خاص في متعلق الأمر والنهي ، لأجل تحديد ما يتعلق به أحدهما منها وتعيين مقداره ، فلا تنثلم وحدة المتعلق بحسب الهوية والحقيقة واقعا بتعدد الاسم أو العنوان ، ولا تعدده كذلك بوحدتهما ، فالحركة ـ الخاصة الكذائية المحدودة بحدود معينة ـ لا تتعدد إذا سميت باسمين ، أو انتزع منها عنوانان من وجهين ، كما أن الحركتين ـ الخاصتين اللتين يكون كل منهما محدودة بحدود معينة ـ لا تصير ان واحدة إذا سميتا باسم واحد ، وانتزع منهما مفهوم واحد. وهذا من أوائل البديهيات.

وبالجملة إنما تتعلق الأحكام في الأدلة بالأسامي والعناوين ـ بما هي حاكية عن المسميات والمعنونات وفانية فيها ـ لا بما هي بنفسها. ومن الواضح أنه لا يتكثر المحكي والمرئي الواحد بتكثر الحاكي والمرآة ، ولا يتحد المتكثر بوحدتها.

(ثالثها) ـ ان الطبيعتين ـ اللتين يتعلق بإحداهما الأمر ، وبالأخرى النهي ـ إذا تصادقتا في مورد ، يكشف عن أنهما ليستا بحاكيتين عن هويتين وحقيقتين مطلقا ، بل في غير مورد التصادق ، وإلّا يلزم أن تكون له هويتان وماهيتان ، ولا يكون لوجود واحد الا ماهية وحقيقة واحدة ، ولا عن موجودين متغايرين في الخارج ، ولو كانا متحدين بحسب الحقيقة والماهية ، كالضرب الواقع في الخارج (تارة) ظلما و (أخرى) تأديبا إلا في غير المورد.

وبالجملة تعدد الوجه واختلاف الجهة المأخوذ في أصل عنوان المسألة لا يجدى شيئا في مورد الاجتماع ، لا تعدده بحسب الحقيقة والماهية ، ولا بحسب الوجود في الخارج ، بل هو واحد ماهية ووجودا. نعم يجدى تعدد ما يحكيه ويراه ، وهو لا يجدى مع وحدة المرئي والمحكي ذاتا ووجودا ، لما عرفت من أن متعلقات الأحكام نفس الأفعال الخاصة

المسماة بأسماء أو المعنونات بعناوين متباينات أو متصادقات مطلقا أو في الجملة ، من غير تفاوت في ذلك بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية ، لوحدة المورد ماهية ووجودا. واما الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهي عنها ، فان كان كل منها عنوانا للفعل الّذي تعلق به الأمر والنهي ، فهما مفهومان اعتباريان انتزعا عن الفعل المعنون بهما ، ولو قلنا بأصالة الماهية ، وإلّا فخصوص ما كان عنوانا منهما ، بداهة اعتبارية المفاهيم التي ليست بإزائها شيء في الخارج ، ولا وجود لها الا بوجود ما انتزعت عنه ، ولا موطن لها الا الذهن. واختصاص الأصالة ـ على القول بأصالة الماهية ـ بالحقائق الخارجية التي يكون بإزائها شيء في الخارج ، ويكون لها موطنان الذهن والخارج ، غاية الأمر تلزمها الجزئية في الخارج ، وتعرضها الكلية تارة والجزئية أخرى في الذهن.

ومن هنا ظهر عدم ابتناء المسألة على القول بأصالة الوجود والماهية أصلا ، كما تخيله الفصول ، وان الأصيل في مورد الاجتماع واحد وجودا كان أو ماهية. فظهر مما بيناه أن مورد الاجتماع ـ لوحدته ذاتا ووجودا لما حقق في هذا الأمر ، وكونه بنفسه متعلقا للحكم واقعا وحقيقة ، وإن أخذ في الدليل اسمه أو عنوانه ، لما حقق في سابقه ـ لا يمكن أن يكون بالفعل واجبا وحراما يبعث نحوه ويزجر عنه فعلا ، للتضاد بين الأحكام في هذا المقام ، وان لم يكن بينها تضاد بحسب وجوداتها الإنشائية ، كما عرفت في الأمر الأول.

ولا يخفى ان تعلق الأحكام بالطبائع لا الافراد لا يرفع غائلة هذا التضاد في مورد الاجتماع ، فان غاية تقريبه أن يقال : ان الطبائع من حيث هي وان كانت ليست إلّا هي ، ولا تصلح لأن تتعلق بها الأحكام الشرعية كالآثار العادية والعقلية ، إلا انها ـ مقيدة بالوجود ، بحيث كان

الوجود خارجا والتقييد به داخلا ـ صالحة لتعلق الأحكام بها. ومن الواضح أن متعلقي الأمر والنهي على هذا ليسا بمتحدين أصلا ، لا في مقام تعلق البعث والزجر بهما ، ولا في مقام الامتثال لأحدهما وعصيان الآخر بإتيان المورد بسوء الاختيار.

أما في المقام الأول فلبداهة تعددهما ومباينة أحدهما عن الآخر بما هو متعلق الأمر أو النهي ، وان اتحدا فيما هو خارج عنهما بما هما كذلك.

وأما في المقام الثاني ، فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الإتيان ، فأين اجتماعهما في واحد؟ وانتزاع المأمور بهية والمنهي عنهية عنه إنما هو لمجرد كونه مما ينطبق عليه ما امر به ونهى عنه ، من دون ان يتعلق به بنفسه البعث والزجر. وهذا لا يجدى بعد ما عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ أن تعدد ما يؤخذ في دليلهما من الاسم أو العنوان لا يوجب تعدد ما هو المتعلق لهما في مورد الاجتماع ، لا ماهية ولا وجودا ، بل الاسمان أو العنوانان حاكيان في هذا المورد عن واحد يكون متعلقا لهما حسب توسعة متعلقهما واقعا ، بحيث يعمانه.

وتوهم الجدوى في ذلك إما لتخيل أن تعدد العنوان حاك عن تعدد المحكي ماهية وذاتا مطلق ولو فيما اتحدا وجودا ، كما في مورد التصادق ، أو ان تعدده كاف بان يكون بنفسه متعلقا للبعث أو الزجر لا بما هو حاك وفان. وقد عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ فسادهما ، وان المورد الواحد واحد وجودا وماهية ، وأن العنوان بما هو هو ليس إلا أمرا انتزاعيا لا وجود له إلا بوجود منشأ الانتزاع ، ولا واقعية له إلا بواقعيته ، وليس ما يوجب البعث والطلب ـ من الآثار المطلوبة والمبغوضة والصفات الحسنة والذميمة ـ إلا في المنشأ دونه ، فليس بما هو كذلك محكوما بالأمر أو النهي ، بل بما هو حاك ، فيكون المأمور به أو المنهي عنه هو المحكي. وهذا

ـ فيما إذا كان المأخوذ في الدليلين أو أحدهما من قبيل أسامي الماهيات ـ أوضح من ان يخفى على عاقل ، فضلا عن فاضل.

هذا مضافا إلى أن هذا التقريب يقتضى الجواز مطلقا ولو كان العنوانان متساويين ، لتعددهما في مقام البعث وسقوطهما بالإطاعة والعصيان بإتيان واحد من مصاديقهما ، ولا يقول به أيضا إلا أن يدعى أنه إنما لا يقول به لأجل انه طلب المحال حينئذ لا من أجل ان الطلب محال ، فتدبر جيدا.

ومما حققناه ـ من كون العناوين بمعنوناتها تكون متعلقة للأحكام كما في الأسماء بلا إشكال ولا كلام ـ ظهر أن غائلة التضاد في مورد الاجتماع في نفس الطلب على حالها ، سواء قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع أو بالافراد ـ وقد عرفت بما لا مزيد عليه ـ أو بالاختلاف ، فانه على هذا تكون افراد حقيقة واحدة متعلقة للبعثين ، إذ تكون الطبيعة المأمور بها ـ على سعتها بحسب الوجود ، بحيث لا يشذ عنها فرد ـ متعلقة للأمر ، وان كانت خصوصيات الافراد ومشخصاتها خارجة عنها بما هي مأمور بها ، ولازمة لها ، وكان بعض ما يسعها من الافراد التي تكون بالفعل مبعوثا إليها ، حسب قضية البعث إليها على سعتها الّذي لازمه عقلا التخيير فيها ، بما هي منهي عنها ، فيكون هذا البعض ـ بوجوده الشخصي بما هو وجود تلك الحقيقة والماهية ، من دون ملاحظة خصوصية ـ مبعوثا إليه ، وبما هو وجودها مع ملاحظة الخصوصية ـ ممنوعا فعلا. وملاحظة الخصوصية وعدم ملاحظتها لا توجب تعدده ، بل هو واحد حقيقة وماهية ووجودا ، كما لا يخفى على من له أدنى التفات. انتهى كلامه (١).

أقول : وأنت ـ بعد الإحاطة بتمام ما قدمناه ـ تعرف موارد الإشكال في كلامه ، فان ما أفاده في المقدمة الثانية ـ من كون متعلق

__________________

(١) الفوائد «المطبوعة ضميمة تعليقة الفرائد» الفائدة الآخرة ، ص ٧ ـ ٣٣٥.

الأوامر والنواهي إنما هي الأفعال بهوياتها وحقائقها ـ غير معقول ، للزوم طلب الحاصل إن تعلق الطلب بنفس الحقيقة الخارجية. ولا دافع لهذه الغائلة الا الالتزام بكون متعلق التكاليف صورا ذهنية من حيث حكايتها عن الخارج.

وأما ما أفاده في طي كلماته من عدم تعلق التكاليف بالأسماء ، فهو من الواضحات ، ولا يتوهم أحد تعلق التكاليف بصرف الأسماء ، لأنها ليست إلّا ألفاظا كاشفة عن معانيها ، بل القائل يدعى تعلقها بالمفاهيم المتعلقة في الذهن ، باعتبار حكايتها عن الخارج ، كما حققناه.

وأما ما أفاده في المقدمة الثالثة من وحدة مورد تصادق العناوين ، فان أراد عدم كونها موجودات متميزا بعضها عن بعض في الخارج ، فهو من البديهيات ، وإن أراد عدم تحقق لها في نفس الأمر ، بمعنى كونها صورا ذهنية لا واقعية لها ، فهو مقطوع البطلان. ويكفى في تعلق التكاليف بتلك العناوين تحققها في نفس الأمر.

وبالجملة أظن أن التأمل التام ـ فيما ذكرنا من دليل المجوزين ـ يوجب القطع بصحة هذا القول ، فتدبر جيدا.

العبادة المنطبق عليها عنوان محرم

تذييل

لا إشكال في بطلان العبادة على تقدير القول بعدم جواز الاجتماع إذا علم حرمة الفرد المنطبق عليه عنوان العبادة (١٨١) وذلك

______________________________________________________

(١٨١) قد يقال : بصحة العبادة ـ حتى على الامتناع ـ وتغليب جانب النهي بوجهين : (الأول) : بالالتزام بكفاية الجهة في صحتها ، من دون حاجة إلى الأمر ،

.................................................................................................

______________________________________________________

والجهة موجودة بالفرض ، وإلّا لم يكن موردا لاجتماع الحكمين.

الثاني : بالالتزام بالترتب وتحقق الأمر مشروطا ومرتبا على معصية النهي ، فان المحال اجتماعهما في مرتبة واحدة. وأما في مرتبتين فلا استحالة ، كما مرّ مشروحا في الأمر بالضدين.

ويردّ الأول : بان العبادة لا بد فيها من جهتين لا تتم الا بهما ، إحداهما الحسن الفعلي ، والثانية الحسن الفاعلي.

والجهة الأولى وإن كانت موجودة بالفرض ، لكن الفاعل إذا علم بغلبة جهة المبغوضية في شيء ، وأتى به تقربا إلى المولى لم يكن في صدور ذلك الفعل منه حسن ، ولم يستحق بذلك مدحا.

والجهة الثانية مختلّة. ولا يقاس المقام بالعبادة المتحدة مع المبغوض الّذي سلبت القدرة عن تركه ، حيث اختار الماتن صحته ، لأنه ـ مع العجز عن ترك المبغوض ، وعدم تأثير الإرادة ، وتحقق جهة المحبوبية فيه ـ لو أتى به تقربا إلى المولى ، كان ذلك غاية الانقياد يستحق المدح بحسن اختياره ، بخلاف القادر على ترك المبغوض وإتيان المحبوب في غير مورد الاجتماع ، فلو أتى به لم يكن الفاعل فيه ممدوحا ولا حسن في صدوره منه.

ويرد الثاني : بالفرق بين المقامين ، فان الأمر بشيء بشرط ترك شيء آخر بمكان من الإمكان ، بخلاف الأمر بشيء مشروطا بتركه ، فانه محال. ومعلوم أن الأمر بشيء بشرط معصية نهيه يرجع إلى شرط تركه. فتحصل أنه لا وجه للتصحيح على الامتناع مع كون ملاك النهي غالبا.

واما فيما إذا كان ملاك الأمر غالبا ، فقد يقال بصحة العبادة وعدم محذور لصحتها ، إلا مزاحمتها للصلاة في غير الدار المغصوبة ، فعلى القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده تبطل ، لأهمية الصّلاة في غير المكان الغصبي ، لكن على القول بعدم الاقتضاء ، فهي صحيحة وإن لم تكن مأمورا بها للمضادة. وقد التزم بذلك في الكفاية صريحا.

لكن فيه : أن التزاحم في المقام ليس في الجهتين ، بحيث لم يبق للنهي مع غلبة

.................................................................................................

______________________________________________________

ملاك الأمر ملاك أصلا ، حتى يلزم عدم المؤاخذة عليه أصلا ، ويلزم مع غلبة ملاك النهي بطلان العبادة واقعا ولو مع الجهل. وقد صرّح في الكفاية والحاشية بخلافه ، بل التزاحم لم يكن في مثل المقام الا في انقداح الإرادة ، بمعنى أن قوة الملاك في أحدهما تمنع عن انقداح الإرادة في الآخر. وعلى هذا لا وجه لرفع إرادة الترك عن مورد النهي ، لقوة ملاك الأمر إلا فيما إذا كان حفظ الغرض المطلوب مع بقاء المنع محالا. ومعلوم أنه لا استحالة في ذلك إذا كان المطلوب صرف الطبيعة ، لأنه إذا قيّد مورد الأمر بغير مورد الاجتماع ، فيكون ذلك جمعا بين الغرضين. نعم لو كان المطلوب في طرف الأمر أيضا كل واحد من وجودات الطبيعة ، كما في طرف المبغوض لكان العلاج منحصرا في رفع المنع. وعلى هذا فالقول ببطلان الصلاة ـ وان كانت أقوى مناطا من المنهي عنه بمراتب ـ متعين. والعقل بعد حفظ المقدمتين ـ أعني عدم تقييد الواقع وتعلق الأمر بالطبيعة والنهي بكل فرد منها ـ يحكم بذلك جزما. ولا يتوهم لزوم التقييد حتى على الاجتماع بذلك التقريب أيضا ، لأنه عليه لا مزاحمة أصلا ، حتى يحتاج إلى التقييد.

ثم إنه على فرض التزاحم في الجهتين ، يبتنى ما في الكفاية على إحراز كون مصلحة الصلاة في الدار المغصوبة أقوى من مصلحة ترك الغصب بمقدار ملزم ، ليبقى وجوبها ـ بعد التزاحم لجهة الغصب ـ مزاحما لوجوب الصلاة في غير المغصوب ، بشرط سلامة مقدار من المصلحة الملزمة فيها عن المزاحم ، لتحقق الأهمية الملزمة. واستكشاف الأول وإن كان ممكنا ، خصوصا مع لزوم الصلاة عند الاضطرار إلى الغصب ، لكن أهمية الصلاة في المكان المباح بمقدار اللزوم لا دليل عليها. هذا كلّه على الامتناع.

واما على الاجتماع ، فلا مانع من الصحة بعد فرض وجود الأمر ، والجهة في مورد الامتثال لا تتحقق إلّا بالفرد ، لكن بعد ما حققناه سابقا : من أن في الخارج شيئين واقعا ، وان لم يكونا موجودين الا بوجود واحد ـ كما مر مفصلا ـ فالظاهر عدم المانع من حصول القرب بإيجاد أحد العنوانين والبعد بالآخر.

هذا كله مع قطع النّظر عن اخبار قد يستدل بها على بطلان العبادة المجتمعة مع عنوان محرم. أما في خصوص الصلاة ، فمثل ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا كميل

حاصل من العلم بفردية هذا الموجود للعنوان المحرم ، والعلم بكون ذلك العنوان محرما أيضا. ولو لم يكن له علم بالصغرى أو بالكبرى ، فهل يحكم بصحة العبادة أو البطلان على القول المذكور؟ تحقيق المقام أن الفرض المذكور (تارة) بتحقق بالنسيان لإحداهما و (أخرى) بالجهل ، وهو إما أن يكون بسيطا أو مركبا.

وجملة القول في المجموع أنه لا يخلو محل الكلام من أنه إما أن يكون قد ورد فيه ترخيص من جانب الشارع أولا ، وعلى الثاني إما أن يكون المكلف معذورا بحكم العقل أولا (اما القسم الأول) فلا ينبغي الإشكال في صحة العبادة ، ضرورة عدم الفرق بين الترخيص والأمر ، فإذا صح الترخيص في ذلك المحل ، مع كونه في نفس الأمر محرما ، كذلك يصح

______________________________________________________

انظر فيم تصلّي وعلى م تصلي ، فان لم يكن على وجه حلّه لم يقبل ذلك) (١) بناء على كون المراد ب (على م) المكان وب «فيم» اللباس. والمراد ب (لم يقبل) عدم القبول حتى ظاهرا ، لا مثل ما ورد من عدم قبول العبادة من البخيل ونظائره.

وأما في مطلق العبادات فمثل ما روي من أنه : (لا يطاع الله من حيث يعصى)

وما روي من تعليل إباحتهم عليهم‌السلام الخمس لشيعتهم بتصحيح عباداتهم (٢).

لكن الظاهر أن الاخبار المذكورة لو تمت دلالتها ، لم يلتزم مشايخنا بجميع لوازمها من اشتراط العبادات شرعا بعدم اجتماعها مع الحرام واقعا ليلزم بطلانها حتى مع الجهل بذلك. اللهم إلا أن لا يستفاد منها أزيد من اشتراطهما بعدم العلم ، لكنه خلاف الظاهر خصوصا في القسم الثاني.

__________________

(١) الوسائل ، الجزء ٣ الباب (٢) من أبواب مكان المصلى ـ الحديث (٢).

(٢) الوسائل ، الجزء ٦ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام وفيه روايات تدل على ذلك.

الأمر ، لعدم الفرق بين الترخيص والأمر في كون كل واحد منهما ضدا للنهي.

وبعبارة أخرى إما أن يجمع بين النهي الواقعي والإباحة الظاهرية ، بحمل النهي الواقعي على النهي الشأني الّذي لا ينافى جعل حكم فعلى على خلافه ، أو يقال بعدم التنافي بينهما ، لترتب موضوعهما. وعلى أي حال لا تفاوت بين الترخيص والأمر (١٨٢). وهذا واضح جدا (وأما القسم الثاني) فالأقرب فيه صحة العبادة أيضا لوجهين :

(أحدهما) ـ أن يقال إن الأمر وإن امتنع تعلقه بهذا الفرد ـ لكونه منهيا عنه في الواقع ـ إلا انه لا تتوقف صحة العبادة على الأمر ، بل يكفى فيها وجود الجهة ، كما مر في باب الضد. ولا إشكال في وجود الجهة ، لأن النزاع مبنى على الفراغ منها.

إن قلت : فعلى هذا ينبغي أن يحكم بالصحّة في مورد العلم بالحرمة أيضا ، لأن الجهة موجودة فيه.

قلت : الوجه ـ في عدم الحكم بالصحّة فيما إذا علم بالحرمة ـ هو ان الجهة لا تؤثر في قرب الفاعل ، لوجود الجهة المبعدة ، بخلاف ما نحن

______________________________________________________

(١٨٢) لا يقال : إنه وإن لم يكن تفاوت بينهما من حيث التزاحم والتضاد ، لكن من أين يستكشف الأمر ، حيث لا إطلاق له يشمل صورة التزاحم ، لأنها من حالات الحكم ، والإطلاق لا يتعرض الا لحالات الموضوع. ولا فرق في ذلك بين كون المزاحم فعليا أو شأنيا؟

فانه يقال : إن الإطلاق وان لم يشمل تلك الحالة ، لكن العقل ـ بعد العلم بتحقق الجهة وعدم المانع للأمر ـ يحكم بفعليته ، والجهة موجودة بالفرض ، والمانع ليس إلّا النهي ، وهو ليس بفعلي ، فاستكشاف الأمر في المقام نظير استكشافه في الواحد المخيّر بين الضدين ، مع عدم الأهمية ، أو خصوص الأهم معها ، من دون إطلاق في البين.

فيه ، فان الجهة المقبحة لا تؤثر في البعد ، لمعذورية المكلف ، فلا مانع من تأثير الجهة المحسنة.

فان قلت : إن الجهة المقبحة وان لم تؤثر في الفاعل ، إلا أنها منافية للجهة المحسنة في نفس الأمر ومزاحمة لها ، فلا يبقى للفعل الخارجي حسن في نفس الأمر ، حتى يتقرب به الفاعل في إتيانه.

قلت : ليست الجهتان متضادتين من حيث ذاتهما ، ألا ترى وجود الخاصية الموافقة للطبع والمنافرة له في شرب دواء خاص واحد ، بل التزاحم في رتبة تأثير كل منهما فيما تقتضيه من إرادة الشرب وعدمه ، وكذلك في مرحلة مدح العقلاء مرتكب ذلك الفعل المشتمل على جهتين أو ذمهم إياه ، وكما أن الجهة الملاءمة للطبع لا تزاحم الجهة المنافرة له في الواقع ، كذلك الجهة الملاءمة للقوة العاقلة والمنافرة لها. وعلى هذا لو لم تؤثر الجهة المنافرة للعقل في استحقاق الفاعل للذم ، فلا مانع من تأثير الجهة الملاءمة له في استحقاقه للمدح.

(الوجه الثاني) أن العناوين الطارئة على التكاليف ـ مما لا تشملها أدلتها ـ يمكن ان تجعل موردا لحكم آخر غير ما تعلق بنفس الواقع (١٨٣) ، وبهذا يجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ومن العناوين الطارئة على التكليف كون المكلف معذورا من ذلك التكليف المتوجه إليه.

______________________________________________________

(١٨٣) لا يخفى أن مجرد إمكان جعل الحكم في مورد لا يكفي في الحكم بالفعلية ، ما لم يستكشف ان المزاحم إنشائي ، أو ان حال التجرد عن الشك دخيل فيه ، فانه قد تكون مبغوضية الفعل في حالة الجهل محفوظة بلا نقصان فيها ، ولكن لا يمكن إعلام المكلف بها. ومعلوم أن المبغوضية الفعلية من جميع الجهات لا تجتمع مع

وأما القسم الثالث فالحق فيه بطلان العبادة (١٨٤) ، فان الجهة المقبحة مؤثرة فعلا في تبعيد العبد عن ساحة المولى ، فلا يمكن أن تكون الجهة المحسنة مؤثرة في القرب. وبه يعلم عدم إمكان تعلق الأمر به أيضا ، لأن العنوان الطارئ لو كان بحيث لا يوجب عذرا للمكلف ، فحاله حال العلم بالحرمة ، فكما أنه في مورد العلم بالحرمة لا يمكن بقاء الأمر وصحة العبادة ، كذلك في حال لا يعذر فيها عقلا. فتأمل جيدا.

فصل في النهي عن العبادة

هل النهي عن الشيء يقتضى فساده أولا ، ولنقدم أمورا :

(الأول) أن الفرق ـ بين هذه المسألة والمسألة السابقة ـ ان

______________________________________________________

الإرادة الفعلية ، ولا يمكن استكشاف عدم الفعلية للمبغوض الا بإعلامه ، كما في موارد الترخيص. واما في غيرها فلا طريق للاستكشاف. نعم لو قلنا بدلالة حديث الرفع على الترخيص في موارد النسيان والجهل حتى المركب منه ، فيستكشف منه عدم الفعلية ، لكن المستفاد منه في مثل تلك الموارد رفع المؤاخذة لا الترخيص.

واما تصحيح الأمر به بالترتب ، بان يأمر على تقدير العذر ، ففيه (أولا) : ما مر من عدم إمكان الأمر بشيء مترتبا على تركه ، ولو عن عذر.

و (ثانيا) : لغوية هذا الأمر ، لأنه ما دام معذورا لا يلتفت إلى هذا العنوان ، حتى يؤثر الأمر فيه ، ويشترط في الأمر صلاحيته للداعوية.

(١٨٤) ان قلت : ما الفرق بين الغافل والعاجز ، حيث اختار المصنف ـ دام ظله ـ إمكان انقداح الإرادة في الأول دون الثاني؟ فان كان المناط عدم تأثير ملاك النهي في الفعل مع العجز ، فلا تنقدح إرادة المنع ، فليكن في الغافل أيضا كذلك.

قلت : الفرق بينهما واضح ، بإمكان إرادة الترك في حال الغفلة لا بوصفها ، غاية الأمر هو معذور مع القصور ، وعند التقصير معاقب.

المسئول عنه في السابقة جواز بقاء الأمر والنهي فيما كان موردهما متحدا بحسب المصداق ومتعددا بحسب المفهوم وعدمه ، وفي هذه المسألة ملازمة النهي المتعلق بالشيء لفساده. قال المحقق القمي (قدس‌سره) في بيان الفرق : أن مورد المسألة السابقة هو ما كان بين المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه ، ومورد المسألة ما كان بينهما عموم مطلق.

ورد عليه في الفصول بأن هذا الفرق ليس بسديد ، بل الفرق : أنه إذا كان العنوانان بحيث لم يؤخذ أحدهما في الآخر ، فهو من المسألة السابقة ، سواء كان بينهما عموم من وجه أم مطلق. (الأول) مثل صل ولا تغصب ، والثاني مثل جئني بحيوان ولا تجئني بضاحك. وان كان أحد العنوانين مأخوذا في الآخر فهو من المسألة سواء كان بينهما عموم من وجه أم مطلق أيضا (الأول) مثل (صل ولا تصل في الحمام) والثاني مثل (صل الصبح ولا تصل في الحمام).

أقول : إن كان مرادهما أن المسألتين متحدتان من جهة المسئول عنه ، وليس الفرق بينهما إلا في اختلاف المورد ، ففيه أن مجرد اختلاف المورد لا يوجب تعددهما وصيرورتهما مسألتين ، وإن كان المراد بيان اختصاص كل من النزاعين بمورد ، بمعنى ان النزاع في المسألة السابقة له مورد خاص لا يجري فيه النزاع في هذه المسألة وبالعكس ، ففيه أن ما محضه كل من الفاضلين للنزاع الثاني يجري فيه النزاع الأول ، لأن جهة كلام المجوز في المسألة السابقة هي تعدد العنوان ، كما ان جهة كلام المانع هناك الاتحاد في الوجود ، وكلاهما متحققان فيما فرضه الفاضلان مختصا بهذه المسألة ، كما هو واضح.

نعم في مثل (صل ولا تصل في الحمام) لو أحرز ان النهي تعلق بالمقيد لا بخصوصية إيجاده في المكان الخاصّ لا يمكن فيه النزاع

السابق (١٨٥) والسر فيه أن المطلق والمقيد وإن كانا متغايرين بحسب المفهوم ، إلا ان مغايرة الأول للثاني إنما هو بملاحظة الإطلاق ، إذ لو جرد النّظر عن ذلك ، يكون المقسم المتحد مع المطلق والمقيد في الذهن. ولا إشكال في ان الجهة ـ التي بها يغاير المقيد ، ويصير في قباله في الذهن ، وهي جهة الإطلاق ـ لا دخل لها في المطلوبية ، لأن هذه الجهة عبارة عن عدم مدخلية شيء في المطلوب ، سوى أصل الطبيعة ، ففي الحقيقة جهة المطلوبية قائمة بأصل الحقيقة التي تكون مقسما بين المطلق والمقيد ، ومع كون المطلوب ما ذكر يمتنع تعلق النهي بالمقيد ، لاتحاد مورد الأمر والنهي حتى في الذهن ، فليتدبر.

(الثاني) أن النزاع في المسألة يمكن أن يكون عقليا فقط ، ويمكن ان يرجع إلى اللفظ ، ويمكن أن لا يكون ممحضا في أحدهما.

اما الأول فبان يكون في صحة العبادة ، بعد الفراغ عن كون النهي متعلقا بالخصوصية ، ووجود الجهة الموجبة للأمر في الطبيعة (١٨٦) ، فيرجع محصل النزاع إلى ان وجود الجهة في الطبيعة هل يكفى في كونها عبادة ومحصلة للقرب ، وان كان المأتي به الفرد المشتمل على الخصوصية المبغوضة فعلا أولا.

______________________________________________________

فصل في النهي عن العبادة :

(١٨٥) قد مر في مبحث اجتماع الأمر والنهي توجيه كلام الفاضلين (قدس‌سرهما) ، وأن في مثل (صل الصبح ولا تصل في الحمام) أيضا لا يجري ذلك النزاع ، فراجع.

(١٨٦) وبعبارة أخرى : يقع النزاع في نفس مضادة النهي لتحقق العبادة ، بعد تحقق جميع شرائط العبادة شرعا ، مع قطع النّظر عن موانعها العقلية.

واما الثاني فبان يكون النزاع في أن القضايا الدالة على حرمة عبادة خاصة ـ بعد كون أصلها مأمورا بها ـ هل تدل عرفا على فساد تلك العبادة أولا؟

واما الثالث فبان يكون المدعى في هذه المسألة صحة العبادة وبطلانها ، سواء كان طريق الإثبات في ذلك اللفظ أم العقل.

والظاهر كون النزاع هنا راجعا إلى المسألة العقلية كالسابقة ، والدليل على ذلك أنهم يعنونون النهي في العبادات ، ويتمسك القائل بالبطلان بعدم إمكان صيرورة المبغوض عبادة ، وهذا يكشف عن أن مورد الكلام ما إذا فهم ثبوت المقتضى للطبيعة ، وإنما النزاع في أن اتحادها مع المبغوض هل هو مانع من القرب أولا؟ ولو كان النزاع راجعا إلى اللفظ لما احتاج المانع إلى هذا الكلام ، ولا اختص ما ادعاه بالعبادة ، إذ كما يمكن ان يدعي أن النواهي الواردة في العبادة تدل على الفساد ، كذلك يمكن أن يدعي ان النواهي الواردة في المعاملات أيضا كذلك.

(الثالث) أنه لا فرق بين النهي النفسيّ والغيري والأصلي والتبعي ، لوجود الملاك في الجميع. نعم يختص النزاع بالنواهي التحريمية ، لعدم قابلية النهي التنزيهي الوارد على الخصوصية لإسقاط الأمر بالطبيعة. والوجه في ذلك أن الكراهة ـ لعدم منعها من النقيض ـ لا تمنع الوجوب المانع عنه ، فإذا اجتمعت جهة الوجوب مع الكراهة ، فلا بد من صيرورة الوجوب فعليا والكراهة شأنية ، فيكون الفرد المشتمل على الخصوصية الموجبة للكراهة مجزيا عن الواجب. ولكنه أقل ثوابا من باقي الافراد. وقد مر تفصيل ذلك في البحث السابق :

لرابع) أن محل النزاع انما هو في غير النواهي المستفاد منها الوضع ابتداء ، كالنهي المتعلق بالصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه وأمثال ذلك ،

لأن تلك النواهي تنبئ عن عدم المصلحة في العمل الخاصّ ، فلا يتطرق إليه احتمال الصحة بعد ذلك ، وليس الفساد مرتبا على النهي ، بل النهي جاء قبل الفساد.

(الخامس) أنه لو شك في اقتضاء النهي للبطلان ، فلا إشكال في عدم وجود أصل في هذا العنوان يعين أحد طرفي الترديد (١٨٧) فيجب الرجوع إلى القواعد الجارية في نفس المسألة الفرعية ، فنقول : لو تعلق نهى بالصلاة في محل خاص مثلا ، وشككنا في إيجابه لبطلان العمل ، فلو أتى المكلف بتلك الصلاة المنهي عنها ، فهل الأصل يقتضى البطلان أو الصحة؟ يمكن ابتناء ذلك على كون النزاع في المسألة لفظيا أو عقليا.

فعلى الأول يرجع الشك في المسألة إلى الشك في التقييد ، فان القائل ـ بان الخطاب المشتمل على النهي يدل على فساد العمل عرفا ـ يرجع قوله إلى دعوى أن مورد الوجوب مقيد بغير الخصوصية المنهي عنها ، فالصلاة المأتي بها في محل ورد النهي عن إتيانها فيه باطلة ، لفقدان الشرط الشرعي على مذهب هذا القائل ، فلو شك في ذلك يرجع الشك إلى أن

______________________________________________________

(١٨٧) وذلك لأن الشك إن كان في حكم العقل ، بمعنى عدم جزمه بالامتناع والإمكان ، لكون المطلب نظريا ، فلا أصل يعيّن ذلك. نعم اشتهر : (كل ما قرع سمعك.). لكنه في مجرد الاحتمال ، لا في تعيين الإمكان واقعا ، كما هو واضح ، وان كان في دلالة اللفظ ، فلا أصل أيضا ليعيّن أحد الطرفين ، بل يمكن منع الشك فيها ، بمعنى أن الشك فيها مساوق لعدمها ، كالشك في العلم أو الحجية. نعم يمكن الشك في وجود القرينة الدالة على الفساد في مورد خاص ، وتجري فيه أصالة عدمها.

وكذلك يمكن الشك في إطلاق دليل العبادة ، لكن النزاع فيها نزاع في المسألة الفرعية.

المأمور به هل هو مقيد شرعا بان لا يؤتى به في المحل المخصوص أولا (١٨٨).

وعلى الثاني أعنى على تقدير كون النزاع عقليا ، فمقتضى الأصل فساد العمل ، لأن المأمور به معلوم من حيث القيود والشروط ، بحيث لو كان توصليا لكان مجزيا. وإنما الشك في أن القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بإيجاد العمل في ضمن فرد محرم أم لا؟ ولا إشكال في لزوم الإتيان ثانيا ، حتى يقطع بفراغ ذمته.

إذا عرفت ذلك كله فنقول : إن الأفعال المتعلقة للنهي على قسمين : قسم اعتبر في صحته قصد القربة ، وهو الّذي يسمى بالعبادة ، وقسم لم يعتبر فيه ذلك ، فان جعلنا النزاع في المقام راجعا إلى الأمر العقلي وهو أنه ـ بعد الفراغ عن وجود الجهة في الطبيعة ـ هل يقتضى مبغوضية إيجادها في ضمن خصوص فرد فساد العمل لو أتى به في الفرد المحرم أم لا؟

______________________________________________________

(١٨٨) وحينئذ إن كان لدليل العبادة إطلاق مع انفصال النهي ـ كما هو المفروض ـ نأخذ بالإطلاق فيما إذا كانت الحرمة التكليفية معلومة ، وكان الشك في الوضعيّة فقط. وأما إذا كان النهي مرددا بين الوضعي والتكليفي ، فلا يجوز التمسك بالإطلاق ، لدوران الأمر بين تقييد الهيئة والمادة. ولا ترجيح. نعم على القول بترجيح تقييد الهيئة ، فإطلاق المادة محفوظ.

ثم إنه لو لم يكن إطلاق أو كان ولم يكن بحجة ـ لدوران الأمر بين أحد التقييدين ـ فالمرجع الأصول العملية ، وهي البراءة في المقام ، للشك بين الأقل والأكثر.

ثم إنه لو قلنا بإمكان اجتماع النهي التحريمي مع العبادة ، وتردد النهي بين الوضعي والتكليفي ، فيتعارض الأصلان في الطرفين فيتساقطان. نعم لو قيل في الأقل والأكثر بالاشتغال ، فلا مانع من إجراء الأصل في الطرفين ، إلا انهما عقليان. والأصل العقلي لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ، كما يوجبه الأصل الشرعي.

فالحق أنه لا يقتضى الفساد مطلقا. أما في العبادات ، فلان ما يتوهم كونه مانعا عن الصحة كون العمل مبغوضا ، فلا يحصل القرب المعتبر في العبادات به.

وفيه أنه من الممكن ان يكون العمل المشتمل على الخصوصية موجبا للقرب من حيث ذات العمل (١٨٩) وان كان إيجاده في تلك الخصوصية مبغوضا للمولى.

______________________________________________________

(١٨٩) ان قلت : لا يخرج النهي المتصور في المقام عن قسمين ، لأنه اما أن يتعلق بذات المقيّد في مقابل العدم ، واما أن يتعلق بالإضافة والخصوصية.

اما الأول : فقد مر منه ـ دام ظله ـ مفصلا امتناع الاجتماع فيه ، وخروجه عن محل نزاع الاجتماع والامتناع ، كما اعترف به في المقام أيضا.

واما الثاني : فقد مر منه ـ دام ظله ـ في العبادات المكروهة عدم الإشكال فيه ، حتى عند الامتناعي ، لتعدد موطن الحكمين ، إذ لا منافاة بين محبوبية الخاصّ ومبغوضية الخصوصية ، فما معنى ابتناء الصحة والفساد على الاجتماع والامتناع؟

قلت : يمكن تصوير قسم ثالث يصح الابتناء المذكور فيه ، بان يتعلق النهي بعنوان متحد مع الذات مصداقا ، مع التغاير المفهومي ، مثل إيقاع الصلاة في الحمام مثلا ، فانه عنوان متحد مع الصلاة في الحمام ، ولكنه غير الذات مفهوما وغير الخصوصية مفهوما ومصداقا ، بل منتزع من الذات والخصوصية ، وقد مر في بحث الاجتماع أن موطن الحكمين إذا كانا مختلفي المفهوم يجري النزاع ، وان كان أحدهما أخص مطلقا فالمنهي عنه والمبغوض عنوان الإيقاع ، والمأمور به عنوان الصلاة ، ولا مانع من الحكمين إلّا الاتحاد المصداقي على الامتناع ، هذا غاية التوجيه لمرامه ـ دام ظله ـ.

لكن فيه : ان عنوان إيقاع الصلاة في الحمام مفهوم انتزاعي ، وقد مر ان الأمر بمثله راجع إلى الأمر بمنشئه ، ومنشأ الانتزاع ليس إلّا نفس الصلاة مع الخصوصية ، فيرجع النهي عن إيقاعها إلى النهي عنها مع الخصوصية ، فتكون الصلاة في الحمام بما هي منشأ للمبغوض مبغوضة وبما هي صلاة محبوبة ، فيرجع الأمر إلى اجتماع الحكمين

وبعبارة أخرى فكما أنا قلنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي بإمكان أن يتحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب ، كذلك هنا من دون تفاوت ، فان أصل الصلاة شيء ، وخصوصية إيقاعها في مكان مخصوص مثلا شيء آخر مفهوما ، وإن كانا متحدين في الخارج. نعم لو تعلق النهي بنفس المقيد وهي الصلاة المخصوصة ، فلازمه الفساد من جهة عدم إمكان كون الطبيعة ـ من دون تقييد ـ ذات مصلحة توجب المطلوبية ، والطبيعة المقيدة بقيد خاص ذات مفسدة توجب المبغوضية.

والحاصل أنه كلما تعلق النهي بأمر آخر يتحد مع الطبيعة المأمور بها ، فالصحة والفساد فيه يبتنيان على كفاية تعدد الجهة في تعدد الأمر والنهي ولوازمهما من القرب والبعد والإطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة ، وحيث اخترنا كفاية تعدد الجهة في ذلك ، فالحق في المقام الصحة ، وكلما تعلق النهي بنفس المقيد لا يمكن كون الفعل صحيحا ، وإن قلنا بكفاية تعدد الجهة ، فان الجهة الموجبة للمبغوضية ليست مباينة لأصل الطبيعة ، حتى في عالم الذهن ، فلا يمكن أن تكون مبغوضة ، ويكون أصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد.

وبعبارة أخرى لو بقيت المحبوبية التي هي ملاك الصحة في العبادة في المثال ، يلزم كون الشيء الواحد خارجا وجهة محبوبا ومبغوضا ، وهو مستحيل.

هذا حال العبادات وأما غيرها ، فلا ينافى النهي فيها الصحة

______________________________________________________

في الواحد ذهنا وخارجا ولا يقاس الإيقاع بالغصب ، لأن منشأ الغصب كما مر طبيعة الحركة في حال عدم اتحادها مع الخصوصيات ، بخلاف إيقاع الصلاة فان منشأه نفس الصلاة كما هو واضح.

مطلقا ، لوضوح إمكان أن تكون الطبيعة مشتملة على غرض من أغراض الآمر مطلقا ، فيحصل ذلك الغرض في الفرد المبغوض. ولا نعنى بالصحّة الا ذلك.

هذا في غير العقود والإيقاعات. وأما فيهما فالنهي يدل على الصحة إذا تعلق بهما بلحاظ الآثار ، (١٩٠) إذ لو لا ذلك لزم التكليف بالمحال ، كما هو واضح. نعم لو تعلق بنفس الأسباب مع قطع النّظر عن ترتب المسببات ، فليس النهي دليلا على الصحة ولكنه لا ينافيها أيضا ، لوضوح إمكان ترتب الآثار المتوقعة من تلك الأسباب على ما يكون مبغوضا منها. نعم قد يستفاد من بعض النواهي أن ورودها إرشاد إلى فساد متعلقها.

______________________________________________________

(١٩٠) وإجمال القول فيهما ان النهي إما أن يتعلق بالسبب أو المسبب أو التسبيب في نظر العرف في كل منهما : وإما ان يتعلق بكل منهما بلحاظ الواقع ، وفي كل منها إما أن يكون الردع والإجازة من الشارع بعنوان الردع والإجازة من المالك ، حيث انه ـ تعالى شأنه ـ مالك الملوك ، وإما أن يكون بعنوان التشريع والجعل الإلزامي امرا كان أو نهيا أو الترخيص عند التحليل والإجازة. أما النهي التشريعي إذا تعلق بكل واحد من السبب أو المسبب أو التسبيب مقيدا بالنظر العرفي ، فلا يلازم الصحة ولا الفساد ووجهه واضح.

واما إذا تعلق بواحد منها مقيدا بالواقعي ، فهو لا محالة دال على الصحة ، لأنه لو لم يصح يلزم تعلق النهي بغير المقدور وهو محال.

واما النهي المالكي إذا تعلق بالمسبب ، فواضح أنه يوجب الفساد ، وكذا التسبيب من غير فرق فيهما بين العرفي وغيره.

وأما إذا تعلق بالسبب ، فالظاهر فيه أيضا الفساد ، لظهوره في عدم الإمضاء كما في المالك المجازي إذا قال لا أرضى بذلك العقد ، نعم يمكن عقلا رضاه بالمسبب على تقدير وقوع السبب ، لكنه خلاف الظاهر.

وهذا لوجود قرائن في المقام ، ولولاه لزم حمله على ما هو ظاهر فيه من التحريم الغير المنافي للصحة (١٩١) ، بل موجب لها في بعض المقامات ، كما عرفت.

هذا ، وقد يقال إن مقتضى القواعد وان كان كذلك إلّا ان في الاخبار ما يدل على أن التحريم ملازم للفساد شرعا ، مثل ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام «سأله عن مملوك تزوج بغير اذن سيده ، فقال : ذاك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما ، قلنا أصلحك الله تعالى إن حكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إن أصل النكاح فاسد ، ولا يحل إجازة السيد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام إنه لم يعص الله وانما عصى سيده ، فإذا أجاز فهو له جائز» (١). حيث أنه يدل على انه لو كان النكاح محرما شرعا لبطل ، بل يشعر بان الملازمة بين المعصية والفساد من المسلمات بين الأصحاب ، وإنما اشتبه من قال بفساد النكاح في الفرض ، من جهة تخيل ان التحريم المستلزم للفساد أعم من أن يكون متعلقا بعنوان المعاملة بأصل الشرع ، أو يكون من جهة وجوب متابعة السيد.

ويمكن أن يقال ليس المراد من المعصية في الرواية مخالفة النهي التحريمي ، بل مخالفة النهي الوضعي ، إذ من المتعارف إطلاق المعصية عرفا

______________________________________________________

(١٩١) لكن الظاهر أن النواهي المتعلقة بعنوان المعاملات ـ دون امر خارج عنها كالبيع وقت النداء ـ ظاهرة في الوضعي كما لا يخفى. ولعلّه الوجه في الإجماع المدعى على ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة الجزء (١٤) الباب (٢٤) من أبواب نكاح العبيد والإماء ، الحديث (١).

على عقد لم يشرعه الشارع ولم يمضه (١٩٢) ومن المعلوم أن العصيان بهذا المعنى ملازم للفساد ، فتأمل.

______________________________________________________

(١٩٢) لكن الإنصاف أنه خلاف الظاهر ، فان إطلاق المعصية على مثل بيع الهواء كما ترى ، ولعلّه لذلك أو بعض ما يأتي امر بالتأمل.

ان قلت : إن المعصية في مورد الرواية ـ أعني معصية العبد للسيد ـ لم تكن تكليفية كما هو الظاهر من قول السائل (تزوج بغير اذن مولاه) وإلا كان الا نسب أن يقول (مع نهي مولاه) فحمل المعصية على التكليفي يستلزم خروج المورد.

قلت : أولا : أنه يحتمل قريبا أن يكون المراد من التزويج بغير الاذن هو التزويج مع النهي ، فان إطلاق تلك العبارة في هذا المعنى شايع ، وحملها عليه أظهر من حمل المعصية على مخالفة النهي الوضعي.

وثانيا : أنه لو سلّم ظهور المورد فيما ذكر ، نقول : خصوصية المورد لا تخصص عموم العلة ، والمعصية التي جعلت في الرواية علة للبطلان أعم من معصية الحكم الوضعي والتكليفي ، فإطلاقها يقتضي بطلان المعاملة المنهي عنها ، ولو بالنهي التكليفي. نعم لا يستفاد منها الا فساد ما كان بذاته منهيا عنه ، لا بعنوان آخر ، بل يستفاد منها الصحة فيه كما هو واضح.

والحاصل : أن دلالة الرواية على الفساد غير قابلة للإنكار. ويمكن أن يستدل له أيضا برواية تحف العقول ، حيث قال عليه‌السلام : (واما وجوه الحرام من البيع والشراء ، فكل امر يكون فيه مما هو منهي عنه من جهة أكله وشربه ـ إلى قوله ـ فجميع تقلّبه في ذلك حرام) (١) فانه عليه‌السلام ذكر في عداد ما فيه وجه من وجوه الفساد البيع بالربا الّذي لا فساد في متعلقه ، وإنما يكون الفساد في نفسه ، فكأن الرواية صريحة في أن المعاملة المحرمة في نفسها أيضا من وجوه الحرام. والظاهر أن المقصود من وجوه الحرام هو الفاسد من المعاملات ، ويكون وجوه الحرام ووجوه الحلال هما الوضعيّان أو ما يشملهما ، لا خصوص التكليفي ، نظير (أحل الله البيع) ويشهد له قوله عليه‌السلام : (وجميع

__________________

(١) وسائل الشيعة الجزء (١٢) الباب (٢) من أبواب ما يكتسب الحديث (١)

فصل في المفاهيم

والمراد من المفهوم هو القضية الغير المذكورة التابعة للمذكورة لخصوصية مستفادة منها (١٩٣). واعلم ان النزاع في باب المفاهيم راجع

______________________________________________________

التقلّب فيه إلا في حال الضرورة) (١) فانه لا معنى لحرمة جميع التقلّبات في المأخوذ بالمعاملة المحرمة إلا البطلان.

والحاصل : أن الروايتين ظاهرتان في المقصود ، مع أنه نقل الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ في مجلس الدرس عن سيده الأستاذ : تحقق الإجماع على بطلان المعاملة المنهي عنها بذاتها ، ولعله والخبرين يغنيان عن كلفة الاستدلال بشيء آخر.

لا يقال : إن الظهار محرم ، ومع ذلك تترتب عليه الآثار.

لأنا نقول : إن الظهار بمعناه المتداول بين أهل الجاهلية باطل لا يترتب عليه أثر في شرعنا ، لأنهم كانوا يعاملون معه معاملة الطلاق ، وتلك الآثار المترتبة عليه في شرعنا مترتبة على فاسدة والمنفي بالرواية أو الإجماع هو الآثار المترتبة على المعاملة ، مع قطع النّظر عن النهي.

ثم إنه نقل عن أبي حنيفة التمسّك لصحة العبادة بالنهي عنها ، كما استدل به غيره في المعاملات. والظاهر أن من لا يرى منافاة بين النهي وصحة العبادة ، بان يقول باجتماع الأمر والنهي ، وبعدم لزوم القرب ، وكفاية الجهة ، فيمكن ان يستدل به على الصحة بالتقريب الّذي مر ، واما القائل بالمنافاة عقلا ، فلا مجال له للاستدلال لها به ، لأن الصحة مع النهي محال بالفرض ، فلا بد أن يحمل النهي على ما لو لا النهي لكان عبادة أو على الإرشاد إلى عدم الأمر ، فتكون الحرمة تشريعية لا مولوية.

فصل في المفاهيم

(١٩٣) شرطية كانت أو غيرها ، موافقة للمنطوق كانت أو مخالفة ، خبرية كانت أو

__________________

(١) وسائل الشيعة الجزء (١٢) الباب (٢) من أبواب ما يكتسب به الحديث (١)

إلى الصغرى وان القضية الكذائية هل لها مفهوم أو لا فلو أحرز المفهوم فلا إشكال في حجيته.

١ ـ مفهوم الشرط

ومن المفاهيم مفهوم الشرط ، واختلف في أن الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء ، كما تدل على الثبوت عند الثبوت إما بالوضع وإما بقرينة عامة يظهر منها ذلك ، بحيث لو أراد المتكلم غيره ، فلا بد له من إقامة قرينة خاصة أم لا؟

إذا عرفت هذا فنقول ما يحتمل ان يكون مدلولا للقضية أمور :

(أحدها) ـ أن يكون مدلولها مجرد الثبوت عند الثبوت على أي نحو كان ، ولو من باب المقارنات الاتفاقية ، من دون دلالة على الارتباط واللزوم أصلا ، فضلا عن أن تكون دالة على الحصر.

(ثانيها) ـ ان يكون مفادها ما ذكر مع زيادة ارتباط ولزوم بين المقدم والتالي ، بأي نحو من اللزوم ، سواء كان الأول علة للثاني أو الجزء الأخير لها ، أم كان الثاني علة للأول ، أم كانا معلولين لثالثة ونحو ذلك.

(ثالثها) ـ ان يكون اللزوم المستفاد منها تأثير المقدم في الجزاء ، سواء

______________________________________________________

إنشائية والظاهر أن تعريف المفهوم بذلك أولى من التعريف بأنه حكم لغير مذكور ، لأن الظاهر منه عدم اتحاد موضوع القضيتين ، وسيجيء اشتراط اتحادهما ، ويظهر من التعريف المذكور كون المفهوم من المداليل الالتزامية ، يحكم بها العقل لخصوصية مستفادة من اللفظ. وبهذا الاعتبار يعدّ من دلالة الألفاظ.

ثم إنه هل يطلق المفهوم على كل مدلول التزامي ، ويجري فيه النزاع كلوازم الأمارات مثلا؟ الظاهر عدم التزامهم بذلك ، وتحقيقه يحتاج إلى تأمل.

كان علة تامة أم كان أحد اجزائها.

(رابعها) ـ ذلك مع زيادة أن المقدم علة تامة للتالي.

(خامسها) ـ أحد الأخيرين مع زيادة دلالتها على الحصر.

والإنصاف ان الاحتمال الأول ليس مفادا للقضية ، ولا يبعد دعوى ظهورها في ترتب التالي على المقدم (١٩٤) واما كون المقدم من قبيل العلة المنحصرة أو جزئها المنحصر ، فلا نجزم به بعد مراجعة الوجدان مرارا ، أترى أنه لو قال المتكلم (إن جاءك زيد فأكرمه) فسأل المخاطب إن لم يجئ ، ولكنه أكرمني هل أكرمه أولا ، فأجاب أكرمه هل يكون كلاما منافيا للظهور المنعقد لكلامه الأول (١٩٥). لا أظنك تجزم بذلك بعد التأمل.

واما الأدلة التي يستدل بها في المقام فكلها مخدوش.

(منها) ـ أن القضية المشتملة على كلمة (لو) تدل على امتناع التالي لامتناع المقدم بالاتفاق ، وبشهادة التبادر والوجدان. وليس ذلك إلّا لدلالتها على حصر العلة (١٩٦) ، إذ لو لا ذلك فمجرد امتناع العلة التي

______________________________________________________

١ ـ مفهوم الشرط

(١٩٤) الظاهر عدم ظهورها في الترتب أيضا ، بل المتيقن أنه يستفاد منها الملازمة بين المقدم والتالي ، وان كانا معلولين لعلة ثالثة. ولذا يصح قولنا (إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) مع عدم الترتب ، نعم لا يبعد ظهورها في ذلك ابتداء في الإنشائيات. لكن الظاهر أن ذلك أيضا بدوي.

(١٩٥) الظاهر عدم المنافاة حتى بنحو يستلزم التخصيص ، مع انه لو استفيدت العلية المنحصرة لكان ذكر علة أخرى منافيا لها بنحو التباين ، فانه فرق بين تخصيص العام وبيان علة أخرى بعد إظهار انحصارها كما لا يخفى.

(١٩٦) الظاهر ان كلمة (لو) قد تستعمل لإثبات عدم العلة بعدم تحقق المعلول وجدانا ، كما في قوله ـ تبارك وتعالى ـ (لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا)

جعلت مدخولة لكلمة لو ، لا يستلزم انتفاء المعلول ، فعلم ان كلمة (لو) تدل على أن مدخولها علة منحصرة للجزاء. ومن البعيد التفكيك بينها وبين سائر أدوات الشرط.

وفيه انه من الممكن أن يقال إن امتناع التالي يستفاد من مفاد كلمة (لو) كامتناع المقدم في عرض واحد (١٩٧) لا أنه مستفاد من حصر العلة. هذا مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد لا يعد دليلا يعتمد عليه.

و (منها) ـ انه بعد فهم اللزوم بين المقدم والتالي ، يحمل على العلية المنحصرة ، لكونها أكمل افراد اللزوم (١٩٨).

______________________________________________________

وفي هذا المقام لا تستفاد العلية المنحصرة ، كما لا يتوقف إثبات مثل ذلك المقصود عليها ، لأن عدم المعلول كاشف عن عدم وجود العلة منحصرة كانت أم متعددة ، فان عدم الفساد يدل على عدم التعدد ، سواء كان للفساد علة أخرى معدومة مثل التعدد أم كانت منحصرة.

وقد تستعمل لبيان انتفاء المعلول الموجود على تقدير انتفاء العلة الخاصة مثلا ، مثل (لولاك لما خلقت الأفلاك) ، أو (لو لا على لهلك عمر) وفي هذا المقام وإن كان يستفاد عدم علة فعلا للمعلول المذكور غير ما ذكر بعد (لو) بحيث لو لم يكن ، لم يكن هذا المعلول موجودا ، وكانت القضية مسوقة لذلك ، لكن هل ذلك من عدم العلة أصلا ومن رأس ، أو عدمها فعلا وان كانت متعددة بالذات؟ فلا دلالة لها على أحدهما ، فانها تستعمل في الثاني أيضا بلا تحمل ، كما تقول (لو لا إحسانك لمتّ) فكيف كان لا يستفاد من القضية المشتملة على (لو) انحصار العلة ذاتا فتأمل.

(١٩٧) الظاهر ان امتناع الثّاني فيما يستفاد انما يستفاد من حصر العلة ولو فعلا ، لا انه يستفاد من كلمة (لو) ابتداء ، والدليل على ذلك الوجدان ، فان قضية لو لا علي عليه‌السلام لهلك عمر يستفاد منها أن العلة لعدم هلاك عمر منحصرة ولو فعلا بوجود على ـ سلام الله عليه ـ وذلك واضح.

(١٩٨) قد يجاب عن ذلك بعدم إمكان طرو التقييد في المعنى المستفاد من

وفيه (أولا) ان انحصار العلية في شيء لا يوجب أكمليتها ، إذ بعد كون شيء علة ، فوجود شيء آخر مثله في العلية لا يوجب نقصا فيه ، كما أن عدمه ليس كمالا له ، كما هو واضح.

و (ثانيا) انصراف الشيء إلى الفرد الكامل ممنوع ، لأنه ليس منشأ للانصراف ، وهل ترى من نفسك أن الإنسان ينصرف إلى خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ والحاصل أن ميزان الانصراف أنس اللفظ إلى معنى خاص ، بحيث يفهم العرف منه ذلك المعنى ، وأكملية الشيء لا ربط لها بهذا المقام.

و (منها) ـ ان اللزوم المستفاد من الجملة يحمل على العلية المنحصرة بمقدمات الحكمة ، كما أن الطلب يحمل على النفسيّ عند الإطلاق دون الغيري ، كما أنه يحمل على التعييني دون التخييري.

وفيه (أولا) انه ليس حمل الطلب على النفسيّ والتعييني من جهة الإطلاق ، بل يحمل على النفسيّ عند الشك في كونه نفسيا أو غيريا ، وعلى التعييني عند الشك في كونه تعيينيا أو تخييريا ، إما من جهة ظهوره عرفا فيها عند خلو اللفظ عما يدل على غيرهما ، وإما من جهة أن الطلب المتعلق بشيء حجة عقلا على كونه واجبا نفسيا تعيينيا ، بمعنى أنه لو كان كذلك في الواقع لصحت العقوبة على مخالفته ، ولا يجوز عند العقل الإتيان بما يحتمل أن يكون بدلا له.

______________________________________________________

أداة الشرط ، لأنه معنى حرفي ، ولا إطلاق فيه أصلا ، حتى يقال بعدمه في مورد بالانصراف.

وفيه : أنه قد مر في المعاني الحرفية إمكان طرو التقييد فيها ، فراجع والعمدة في الجواب ما في المتن.

(ثانيا) أنه لو سلم أن حمله عليهما إنما يكون من جهة مقدمات الإطلاق ، فقياس ما نحن فيه عليه قياس مع الفارق ، فان حمل الطلب على النفسيّ والتعييني عند الإطلاق ، إنما هو من جهة أنهما قسمان من الطلب في قبال قسمين آخرين منه ، ولكل من الأقسام أثر خاص ، فلو لم يحمل على قسم خاص ، فلا بد من الالتزام بالإهمال. والمفروض كونه في مقام البيان ، فيجب أن يحمل على ما هو أخف مئونة من الأقسام ، والنفسيّ أخف مئونة من الغيري ، فان الغيري يحتاج إلى لحاظ الغير ، وكذا التعييني أخف مئونة من التخييري ، لأنه يحتاج إلى ذكر البدل. وهذا بخلاف انحصار العلة ، فانه عنوان منتزع من عدم علة أخرى. ومن المعلوم أن وجود علة أخرى وعدمها ليسا موجبين لتفاوت العلة أصلا ، فلو أراد بيان الانحصار يحتاج إلى دال مستقل آخر ، كما أنه لو أراد بيان عدمه ، يحتاج إلى مبين آخر فافهم (١٩٩).

ومما استدل به المثبتون إطلاق ترتب الجزاء على الشرط. وتقريب الاستدلال به أن مقتضى إطلاق ذلك أن يكون الجزاء مستندا إلى خصوص الشرط دائما ، سواء وجد شيء آخر سابقا عليه أو مقارنا له أم لا. وهذا لا ينطبق إلا على العلة المنحصرة ، فانه لو تعددت العلة ، فلو كانت سابقة على ما ذكر في القضية ، يكون الجزاء مستندا إليها ، وإن كانت مقارنة له ، يكون الجزاء مستندا إلى مجموع العلتين.

والجواب أنه لو تكرر المسبب بتعدد الأسباب ، يلزم إهمال السبب

______________________________________________________

(١٩٩) لعله إشارة إلى ان المتكلم إذا كان بصدد بيان تمام العلل ، واقتصر على ذكر واحدة أو اثنتين ، يستفاد منه الانحصار لكن لا يخفى أن ذلك منحصر في مثل المقام ، وهو قرينة خارجية غير مدلول أداة الشرط ، بما هو ، كما هو مورد النزاع.

أو استناد المسبب إلى مجموع السببين ، فيحفظ الإطلاق المستفاد من القضية ، وهو أنه متى يوجد الشرط يترتب عليه الجزاء ، من دون لزوم القول بالحصر. واما لو فرضنا أن الجزاء واحد على كل حال ، فاللازم على تقدير تعدد الأسباب وإن كان عدم ترتبه على الشرط أصلا أحيانا ، وعدم كونه مستقلا كذلك لكنك عرفت مما تقدم أنا لم نسلم دلالة القضية على كون الشرط علة تامة ، بل المقدار المسلم وقوع الجزاء عقيب الشرط مع ربط بينهما ، ويكفى في الربط كونه صالحا للتأثير فيه (٢٠٠) ، وان منع من تأثيره سبق علة أخرى.

______________________________________________________

(٢٠٠) الظاهر أنه فيما تستفاد العلية تستفاد العلية الفعلية لا مجرد الصلاحية ، نعم لو أحرز عدم قابلية المحل في مورد ، فذلك قرينة قطعية على إرادة خلاف الظاهر ، فاللازم الحمل على الظاهر ما لم يكشف الخلاف.

وقرّر الإطلاق في الفصول بتقريب آخر ، وهو ان ظاهر اللفظ في مثل (ان جاءك زيد فأكرمه) ان المجيء بنفسه علة لوجوب الإكرام ، لا ان العلة هي القدر المشترك بينه وبين شيء أو أشياء أخر. وانما ذكر المجيء من باب ذكر أحد الافراد ، نظير ما يأتي من الأستاذ ـ دام بقاؤه ـ في تقريب عدم الحاجة إلى مقدمات الحكمة في المطلق : من أن ظاهر اسناد الحكم إلى المطلق أنه بنفسه موضوع للحكم ، لا ان الموضوع هو الخاصّ ، وأسند إلى المطلق من باب اتحاده مع الخاصّ.

وقد أجيب عنه : بأن الظاهر من القضية المذكورة ليس إلا أن ذات زيد بما هي ليست موضوعا للقضية ، من دون قيد خارج وأما أن القيد خصوص المجيء أو جيء به من باب المثال ، أو أنه أحد الافراد ، فلا ظهور لها فيه.

لكن الظاهر عدم تماميته : لأن الظاهر من القضية أن المجيء بنفسه مؤثر في الإكرام ودخيل فيه ، فالأولى في الجواب أن يقال : إن ظهور القضية في تأثير خصوص المجيء مما لا ينكر ، لكن الطبيعة إذا كانت بوجودها الساري مؤثرة في شيء ، فيصح إسناد المؤثرية إلى كل فرد منها بالخصوص ، كما يصح الإسناد إلى أصل الطبيعة. فكما

ثم إن كل من استدل على ثبوت المفهوم بالإطلاق المستفاد من الحكمة ، فكلامه ـ على فرض تماميته ـ خارج عن المدعى ، لأن المدعى ثبوت المفهوم للقضية الشرطية دائما ، وأن القضية الشرطية تنحل إلى عقد إيجابي وسلبي ، والإطلاق المستفاد من المقدمات ليس دائميا ، لأنه تابع لوجود المقدمات.

حجة المنكرين أمور : (الأول) : أن ما استدل به السيد (قدس‌سره) من أن تأثير الشرط هو تعليق الحكم عليه ، وليس يمتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن كونه شرطا ، فان قوله تعالى : (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم) (١) يمنع عن قبول الشاهد الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول. ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الشمس فان انتفاءها لا يستلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قيام النار مقامها. والأمثلة لذلك كثيرة عقلا وشرعا انتهى).

والظاهر انه (قدس‌سره) قد استظهر من كلام القائلين بالمفهوم أن ذلك من جهة الشرطية ، وأن لازمها انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، فورود ما أفاده على هذا الكلام واضح لا إشكال فيه. ولكن المدعين لم

______________________________________________________

يصح أن يقال : (النار محرقة) كذلك يصح أن يقال (هذه النار المخصوصة محرقة). نعم لو كان المؤثر صرف الطبيعة بحيث لا يسري التأثير إلى الخارجيات ، فلا يكون الإسناد إلى الافراد الا من باب الاتحاد.

إذا عرفت ذلك تعلم أن استظهار العلية لخصوص الشرط من القضية ، لا يلازم الانحصار ، ومن دونه لا تدل على المفهوم.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٨٢.

يتشبثوا بمجرد إطلاق الشرط ، بل يدعون ظهور الجملة في كون مدخول أداة الشرط علة منحصرة للجزاء ، فلا يصح التقابل معهم الا بنفي هذا الظهور.

(الثاني) ـ أنه لو دل لكان بإحدى الدلالات ، والملازمة كبطلان التالي واضحة. وأجيب بمنع بطلان التالي ، وأن الالتزام ثابت. وقد عرفت الكلام في ذلك.

(الثالث) ـ قوله تعالى : (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا) وفيه أن القائل بالمفهوم يشترط أن لا يكون الشرط محققا للموضوع ، والشرط في القضية المذكورة محقق للموضوع ، فان الإكراه لا يتحقق إلّا مع إرادة التحصن.

هذا مضافا إلى ان استعمال القضية الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا مما لا ينكر ، إنما الكلام في ظهورها فيما له مفهوم وضعا أو بقرينة عامة وعدمه ، والمدعى يقول بالأول. ومجرد الاستعمال بقرائن خارجية في بعض المقامات لا ينافى دعواه.

ينبغي التنبيه على أمور

(الأول) أن المفهوم لو قلنا به هو انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع المذكور في القضية في غير مورد الشرط لا شخصه ، ضرورة أن ارتفاع شخص الحكم بارتفاع بعض قيود الموضوع عقلي. وهذا ليس من المفهوم المتنازع فيه ، وهكذا مفهوم الوصف وباقي المفاهيم التي وقعت موردا للنزاع ، فيكون مورد النزاع منحصرا فيما كان الحكم بسنخه قابلا للثبوت وعدمه في غير مورد الشرط.

ومن هنا ظهر انه ليس من باب المفهوم الحكم بالانتفاء عند

الانتفاء في باب الوصايا والأوقاف ونظائرهما ، فانه لو أوصى بثلث ما له مثلا للعلماء ، فمن كان خارجا عن العنوان لا يكون موردا لهذه الوصية قطعا ، ولا يمكن ان يكون المال ـ بعد انتقاله إلى العلماء بموت الموصى ، وكونه ملكا لهم ـ مالا لغيرهم. وهكذا حال الوقف وأمثاله ، فعدم كون المال لغير المتصف في مثال الوصية ، وكذا عدمه لغير المتصف بعنوان الموقوف عليه ، فيما لو وقف على عنوان خاص ليس من باب مفهوم اللفظ.

هذا وقد خالف فيما ذكرنا ـ من أن المناط في باب المفهوم انتفاء سنخ الحكم ـ بعض أساطين الفن ، وجعل المفهوم في قولنا (أكرم زيدا ان جاءك) انتفاء شخص الوجوب المتحقق في هذه القضية ، على تقدير انتفاء الشرط ، ولعل نظره إلى أن هيئة افعل موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاصّ بإزاء جزئيات الطلب ، فما هو جزاء في القضية المذكورة هو الوجود الجزئي الشخصي المتعلق بإكرام زيد ، دون حقيقة الوجوب المتعلق بإكرام زيد ، ولم تحضرني عبارته حتى أتأمل في مراده (قدس‌سره).

أقول : لو كان الوجه ما ذكرنا ، ففيه (أولا) ما عرفت في تحقيق معنى الحروف ، وانها موضوعة كأسماء الأجناس للمعنى العام ، ومستعملة فيه حينئذ لا مورد لهذا الكلام.

و (ثانيا) ان الشرط ـ في قولنا إن جاءك زيد فأكرمه ـ يستدعى حقيقة إيجاب الإكرام ، لا الإيجاب الجزئي الشخصي المتحقق بجميع الخصوصيات ، إذ ليس لنا شرط في القضايا الشرطية يكون كذلك ، غاية الأمر حقيقة الإيجاب لا تتحقق الا في ضمن الإيجاب الخاصّ ، ونسلم منك أنه ليس لتلك الحقيقة لفظ موضوع ، ولكنا نفهم أن الإيجاب الجزئي المدلول عليه باللفظ الخاصّ ليس معلولا للشرط المذكور في

القضية ، بل المعلول هو الحقيقة الموجودة في ضمنه. وحينئذ فبعد فهم حصر السبب من القضية لازمه ارتفاع حقيقة وجوب إكرام زيد في مورد عدم الشرط.

(الثاني) أنه لا بد ـ في مفهوم القضية الشرطية على القول به ـ من حفظ الموضوع مع تمام ما اعتبر قيدا في الموضوع أو الشرط أو في طرف الجزاء ، وينحصر اختلافه مع المنطوق في امرين : ـ

(أحدهما) ـ انتفاء الشرط في المفهوم وثبوته في المنطوق.

(ثانيهما) ـ ان يكون الحكم الثابت في المفهوم نقيض ما ثبت في المنطوق ، فمفهوم قولك : ـ إن جاءك زيد راكبا يوم الجمعة فاضربه ضربا شديدا ـ إن لم يجئك زيد راكبا يوم الجمعة ، فلا يجب عليك أن تضربه ضربا شديدا.

ومن الاعتبارات الراجعة إلى القضية الشرطية الكل المجموعي ، فلو قال : إن جاءك زيد فتصدق بكل مالك ، على نحو الكل المجموعي ، فمفهومه عدم وجوب التصدق بمجموع المال على تقدير عدم الشرط. وهذا مما لا إشكال فيه. أما لو وقع العموم الاستغراقي في موضوع الجزاء ، فهل تقتضي القاعدة مراعاته في طرف المفهوم ، فيكون المفهوم من قولنا : ـ (ان جاءك زيد فأكرم كل عالم على نحو الاستغراق الأفرادي ـ عدم وجوب إكرام الكل على تقدير عدم الشرط ، حتى لا ينافى وجوب إكرام البعض أو عدم مراعاته ، حتى يكون المفهوم من القضية المذكورة السالبة الكلية.

ومن هنا وقع النزاع بين إمامي الفن الشيخ محمد تقي وشيخنا المرتضى قدس‌سرهما في حديث إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، فادعى الأول بداهة أن المفهوم هو الإيجاب الكلي واستدل ـ في الطهارة على ما هو ببالي ـ بان العموم لوحظ مرآة وآلة لملاحظة الافراد ،

فكأنه لم يذكر في القضية الا الأحكام الجزئية المتعلقة بالافراد ، فيكون تعليق هذا الحكم ـ المنحل إلى أحكام جزئية عديدة على بلوغ الكرية ـ منحلا إلى تعليقات عديدة ، ولازم حصر العلة كما هو المفروض أنه في صورة انتفاء الكرية ينقلب كل نفى إلى الإثبات.

ويمكن أن يستدل لهذا المطلب بوجه آخر ، وهو أنه بعد فرض حصر العلة في الكرية يلزم ان لا يكون لبعض افراد العام علة أخرى إذ لو كان لبعض الافراد علة أخرى يتحصل المجموع من علتين وهذا خلف ولازم ذلك في القضية المذكورة الإيجاب الكلي في صورة عدم الكرية وهذا واضح.

والحق أن القضية المذكورة وأمثالها ظاهرة في أن عمومها ملحوظ وأن المفهوم في القضية المذكورة هو الإيجاب الجزئي ، والدليل على ذلك التبادر (٢٠١) ولا ينافى دعوى التبادر المذكور ما تقدم سابقا من إنكار أصل المفهوم في القضايا الشرطية ، فان هذا التبادر المدعى هنا يكون في

______________________________________________________

(٢٠١) قد يقال : باستحالة ما ادعى التبادر عليه في المتن ، بتقريب أن المنشأ إذا كان هو الحكم على كل واحد من الافراد استغراقا ، فلا يكون الملحوظ والمجعول في القضية إلا كل واحد من الأحكام ، ومعلوم أن النسبة الملحوظة هي التي علقت على الشرط ، ولم يلحظ شيء واحد حتى يقال : انه معلّق على الشرط ، وبانتفاء الشرط ينتفي هذا الواحد ، والجامع بين الافراد وإن كان واحدا لكن لم يلحظ في المقام إلا مرآتا لملاحظة الافراد. ومعلوم أن الملحوظ كذلك غير قابل للحمل والإسناد استقلالا ، حتى تعلق النسبة إليه على الشرط ، فلا يكون المعلق على الكرّية في المثال إلا عدم انفعال الماء بملاقاة كل فرد من افراد النجاسات ، ولازمه على القول بالمفهوم كون الكرّية علة منحصرة لعدم انفعال الماء بملاقاة كل فرد من افراد النجاسات.

وفيه : أن لازم تعليق الحكم كذلك وان كان ما ذكر ، لكن يمكن التعليق

.................................................................................................

______________________________________________________

بنحو يكون المعلّق على الشرط أمرا واحدا ، وذلك لأنه لا إشكال في ان النسبة في العام الاستغراقي وان كانت متعددة انحلالا ، لكنها شيء واحد ابتداء ، ضرورة انه فرق بين أكرم زيدا ، وأكرم عمراً ، وأكرم خالدا ، وأكرم كل واحد منهم ، فان الإنشاء في الثاني واحد بخلاف الأول.

إذا عرفت ذلك فنقول : تعليق الحكم وارتباطه في العام الاستغراقي يتصور على وجهين : (أحدهما): ـ تعليقه وارتباطه على نحو المرآتية ، بحيث يكون المرتبط والمعلق انحلالا جميع الأحكام ، ومقتضاه على المفهوم الدلالة على الحصر كما مر.

(ثانيهما) : تعليقه وارتباطه بنحو الموضوعية ، بحيث تكون نفس تلك النسبة ـ المنشأة الواحدة ابتداء ـ منظورا إليها بالنظرة الثانية مستقلا عند التعليق ، وتكون هي المعلقة على الشرط بلا لحاظ المرآتية. ومقتضاه انتفاء تلك النسبة الواحدة عند انتفاء الشرط ، وهو أعم من انتفاء جميع الأحكام ، ولا يستفاد من المفهوم الإيجاب الجزئي. وأما كون تلك النسبة غير ملحوظة في مقام الجعل استقلالا ، فلا يضر بإمكان تعليقها بنحو الموضوعية ، لأن خصوصية تلك النسبة ليست إلّا كنفسها في عدم لحاظها باللحاظ الاستقلالي ، فكما يمكن لحاظها ثانيا وارتباطها بالشرط مع أنها معنى حرفي غير مستقل في اللحاظ ، كذلك يمكن تعليق تلك النسبة المتخصصة بهذه الخصوصية ، التي يكون طرفها شيئا واحدا ابتداء ، ومتعددا بالانحلال بلحاظها ثانيا عند التعليق ، إن قلنا بان التعليق يحتاج إلى النظرة الثانوية.

وأما إن قلنا بان التعليق في القضايا الشرطية عبارة عن فرض وجود الشرط أولا ، ثم إنشاء الحكم في هذا الفرض ، فلعل الأمر أسهل ، لأن النسبة الواحدة المنشأة بعد فرض الشرط ، يمكن أن تكون منظورا إليها بما هي واحدة ، ويمكن أن تكون منظورا إليها بما هي متعددة انحلالا.

هذا غاية التقريب في إثبات الإمكان لما ادعي التبادر عليه ، ومع ذلك يحتاج إلى مزيد تأمل ، خصوصا على التقريب الثاني ، لأن معنى العام الاستغراقي عدم كون الجامع ملحوظا الا مرآتا ، بلا لحاظ وحدتها الذاتيّة ، وهو مناف للحاظ الوحدة فافهم.

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم ان الظاهر عدم ثمرة عملية للنزاع في المثال ، لعدم كون فرد من النجاسات مشكوكا فيه من حيث المنجسية ، حتى يستفاد حكمه من المفهوم على الإيجاب الكلي ، بل المعلوم من الخارج ـ مع قطع النّظر عن ذلك المفهوم ـ أن كل نجس منجّس للماء القليل على القول بانفعاله. نعم إطلاق الحكم بحيث يشمل ورود الماء على النجاسة محل الكلام ، وكذلك منجسية خصوص الدم الغير المستبين ، فلو جرى مثل ذلك النزاع في الإطلاق ، يمكن التمسك بالمفهوم لرفع الشك في المثالين ، على القول باستفادة إيجاب الكلي عند انتفاء الشرط ، مثل أن يقال هل كما يستفاد من منطوق (إذا بلغ الماء قدر كر.). عدم نجاسة الكر مطلقا بأي نحو لاقاه النجس ، كذلك يستفاد من المفهوم النجاسة مع عدم الكرية بأي نحو لاقاه النجس ، أم لا يستفاد منه الا عدم العصمة بنحو الإطلاق؟

وبعبارة أخرى : هل المفهوم يفيد إطلاق السلب عند عدم الشرط ، أم لا يفيد إلّا سلب الإطلاق؟ والثمرة على كل منهما واضحة ، لكن الظاهر عدم جريان النزاع في الإطلاق ، لأنه ليس من قيود الكلام حتى يصح الاكتفاء بسلبه في المفهوم ، بل الإطلاق في المفهوم والمنطوق يعرض على الحكم بنهج واحد ، لأن معناه ليس إلّا لحاظ الذات ، بلا لحاظ قيد معها حتى السريان ، سواء أحرزنا ذلك بالمقدمات أم بالظهور اللفظي ، كما سيجيء في بيان الإطلاق إن شاء الله تعالى.

ومعلوم أن تعليق الحكم على الذات بلا لحاظ شيء ، لا يدل إلا على انتفاء الحكم عن تلك الذات عند عدم الشرط ، من دون نظر إلى نفي الإطلاق ولا إلى غيره من القيود. ومقدمات الحكمة على تماميتها تجري في المنطوق والمفهوم ، وكذلك الاستظهار اللفظي لو تم يجري فيهما. نعم لو كان الإطلاق في قضية من قيود الكلام ، أو كان معناه لحاظ الشمول والسريان ـ كما نسب إلى مشهور المتقدمين ـ لكان المفهوم أعم من نفي الحكم ونفي الإطلاق ، كما مر في العموم على الخلاف. وأما على المختار فلا مانع من إطلاق المفهوم.

ولعل ما نقل عن السيد (قدس‌سره) ـ من عدم نجاسة الماء القليل إذا ورد على النجاسة ـ مبني على المشهور في معنى الإطلاق ، أو على إنكار المفهوم ، أو عدم

كيفية مفهوم القضية ، وفائدته أنه لو علمنا من الخارج أن القضية المشتملة على الكل الاستغراقي جيء بها لبيان المفهوم ، وبنينا على الأخذ بالمفهوم في قضية شخصية من جهة وجود القرائن الخارجية ، نأخذ به على نحو ما ذكرنا فلا تغفل.

وأما الاستدلال الأول فجوابه أن العموم وإن لوحظ مرآة في الحكم الّذي أسند إلى موضوعه ، إلا انه لا منافاة بين هذا وبين ملاحظة هذا العموم الاستغراقي امرا وحدانيا ، بملاحظة التعليق على الشرط. وهذا أمر واضح لا يحتاج إمكانه في مرحلة الثبوت إلى مزيد برهان. وأما الدليل عليه في مرحلة الإثبات ، فهو التبادر ، فان مفهوم قولنا لو كان معك الأمير ، فلا تخف أحدا ليس انه في صورة عدم كون الأمير يجب الخوف من كل أحد (٢٠٢).

وأما الاستدلال الثاني ، فهو مبنى على الالتزام بان تالي الأدوات علة ، وهذا غير مسلم حتى بناء على القول بالمفهوم ، إذ يكفى في المعنى المستفاد من تعليق الجزاء كون تالي الأدوات جزءا أخيرا للعلة ، إما

______________________________________________________

استفادة الإيجاب الكلي منه ، أو على عدم كون قضية (إذا بلغ.). في مقام البيان ، بان تكون في مقام بيان المانع من الانفعال في موارد تمامية المقتضى ، لا في مقام تعداد المقتضى ، فلا إطلاق لها. لكنّ الظاهر من مثل تلك القضايا ـ ولو بمناسبة الحكم والموضوع ـ أن المقتضي نفس الملاقاة بأيّ نحو كان ، كما يقال السكّين يقطع اليد ، فانه معلوم انه يقطع بالإمرار.

(٢٠٢) لا يخفى أن عدم الدلالة على عموم السلب في المثال مستند إلى القرينة ، فان الأمر بعدم الخوف مع الأمير ، لا يكون إلا ممن يكون مقتضى الخوف فيه موجودا ، لكن لا يبعد تبادر ما استظهر ولو مع عدم القرينة ، مثل قولك (إن رزقت ولدا فأعتق كل عبيدك) فانه لا يفهم منه الا عدم إعتاق كل العبيد إن لم ترزق الولد لا بعضهم.

منحصرا بناء على القول بالمفهوم ، أو أعم من ذلك بناء على عدمه (٢٠٣).

(الثالث) أنه لو تعددت القضايا وكان الجزاء واحدا ، فلا يمكن الجمع بين مداليلها الأولية ، ضرورة وقوع التعارض بين مفهوم كل منها مع منطوق الأخرى ، فلا بد من التصرف اما بتخصيص مفهوم كل منها بمنطوق الأخرى ، وإما بحملها على بيان مجرد الوجود عند الوجود. والفرق بينهما أنه على الأول يؤخذ بالمفهوم في غير مورد المنطوق ، بخلاف الثاني ، وإما بحمل الشرط في كل من القضايا على جزء السبب ، وأخذ المفهوم من المجموع. واما بالالتزام بأن المذكور في القضايا مصداق للسبب ، وما هو سبب هو الجامع بين ما ذكر. ولعل الأظهر هو الوجه الثاني عرفا (٢٠٤).

______________________________________________________

(٢٠٣) لا يخفى أنه إن دلت القضية على انحصار العلة في تالي الأدوات ، ولو كان جزء العلة ، وقلنا بدلالة القضية على أن المعلّق على الشرط كل واحد من الأحكام المنشأة ، لا النسبة الواحدة ـ التي سبق ذكرها في الحاشية السابقة ـ فتدل القضية على عموم السلب ، كما هو واضح ، ولا وجه لإنكاره. نعم لو استظهر من القضية أن المعلق على الشرط تلك النسبة الواحدة ، فلا تدل الا على سلب العموم ، ولو مع استفادة انحصار العلة والتمامية ، لعدم المنافاة بين انتفاء تلك النسبة الواحدة ، مع عدم انتفاء بعض الأحكام المندرجة تحته مستندة إلى علة أخرى ، بان تكون علة المجموع منحصرة ، لكن في بعض الافراد علة أخرى تؤثر عند عدم علة المجموع مثلا.

فالأولى في الجواب الإحالة إلى ما استظهره أولا ، من كون العلة علة للنسبة ، لا لكل واحد من المندرجات تحتها ، ولا إلى عدم استفادة تمامية العلة من القضية ، نعم لو كان المراد من جزء العلة العلة لبعض الأحكام لا تمامها ، وإنما أسند العلية في الكل ، لأنها متممة للكل لصح الجواب ، لكنه خلاف الظاهر جدا.

(٢٠٤) قد يقال بأظهرية الأول لشيوع التقييد والتخصيص ، حتى قيل ما من

وأما احتمال أخذ إحدى القضايا منطوقا ومفهوما ، فلا وجه له أصلا ، فانه يوجب طرح غيرها كما لا يخفى.

٢ ـ مفهوم الوصف

ومن جملة المفاهيم التي قد وقع النزاع في ثبوتها مفهوم الوصف (٢٠٥). والحق عدم دلالة القضية المشتملة على ذكر الوصف على عدم سنخ الحكم في غير مورده ، لا وضعا ولا من جهة قرينة عامة. والتحقيق عدم دلالتها على كون الوصف المذكور في القضية علة للحكم ،

______________________________________________________

عام الا وقد خصّ ، فكيف يرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في المفهوم ، لعدم لزوم التقييد أو التخصيص في المفهوم؟

لكنه مخدوش بالفرق بين تخصيص العام المستفاد عمومه من ظاهر اللفظ ، أو تقييد المطلق المستفاد إطلاقه من مقدمات الحكمة ، أو الظهور على خلاف فيه ، فانهما شائعان كما ذكر ، وبين تخصيص العام المستفاد عمومه ببركة ظهور القضية في حصر العلة ، أو تقييد المطلق المستفاد إطلاقه من ذلك الظهور ، فان التخصيص والتقييد في المقامين كاشف عن عدم حصر العلة ، وهو مناف للدلالة على الحصر ، فلا بد في مثل المقام من رفع اليد عن استفادة الحصر لخصوصية المقام ، لو لم نقل بعدم الدلالة عليه رأسا. نعم لو كان مستند المفهوم إطلاق ترتب الجزاء على الشرط ، فالأولى تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ، لكن تقريبه غير تام كما مرّ في المتن.

٢ ـ مفهوم الوصف :

(٢٠٥) قد يتمسك لمفهوم الوصف بما مرّ من الفصول التمسك به في مفهوم الشرط ، وهو ظهور القضية في أن الموضوع ـ بما هو متصف بشخص هذا الوصف ـ موضوع للحكم لا بما هو جامع بينه وبين وصف آخر.

فضلا عن كونه علة منحصرة ، لاحتمال كون ذكره في القضية من جهة وجود مانع من تعلق الحكم بالمطلق في مرحلة الإثبات ، وإن كان ثابتا له في مرحلة الثبوت ، أو لكون الاهتمام بشأنه ، أو لعدم احتياج غيره إلى الذّكر ، وغير ذلك من النكات.

نعم قد تستظهر العلية من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع ، كوجوب الإكرام المتعلق بالعالم ، أو وجوب التبين المتعلق بخبر الفاسق ، ولا فرق في ما ذكرنا بين الوصف المعتمد على الموصوف وغيره. نعم لازم التقييد بالوصف عدم شمول الحكم في تلك القضية لغير مورد الوصف ، وهذا غير المفهوم المتنازع فيه ، كما عرفت.

ومن هنا يظهر أن بعض الكلمات التي تنقل عن الاعلام في الاستدلال على المقام ليس في محله ، مثل ما قيل : (إنه لو لم يكن للوصف مفهوم لما صح القول بالتخصيص في مثل قولنا أكرم العلماء الطوال) ، ولما صح حمل المطلق على المقيد ، إذ لا تنافي بينهما إلا من جهة دلالة المقيد على سلب الحكم من غيره ، إذ هذه الكلمات أجنبية عما نحن بصدده ، ضرورة أن نفى وجوب إكرام القصار ليس من جهة أن تقييد العلماء بالوصف دل على عدم الحكم في غير مورده ، حتى يكون من باب المفهوم ، بل من حيث أن وجوب الإكرام في غير المنصوص يحتاج إلى دليل ، والنص لا يشمله.

______________________________________________________

وفيه ـ مضافا إلى عدم الدلالة على دخل الوصف أصلا ـ أنه على فرض الدلالة لا تدل القضية الا على كون هذا الوصف بشخصه موضوعا للحكم لا بجامعه. وأما أنه منحصر فلا دلالة لها عليه ، فانه يصح اسناد الحكم إلى كل واحد من الافراد ، إذا كانت الطبيعة بوجودها الساري موضوعا للحكم ، كما إذا كان بشخصه موضوعا للحكم. وقد مر مفصلا في مفهوم الشرط.

وكذا حمل المطلق على المقيد في مورد نقول به ، وهو في صورة إحراز وحدة التكليف المتعلق بهما ، وأظهرية دليل المقيد ـ في اعتبار القيد من دليل المطلق في الإطلاق ـ إنما هو من جهة تضييق دائرة الحكم الثابت في القضية ، فكأنه من أول الأمر ورد الحكم على المقيد. وأين هذا من المفهوم المدعى في المقام؟ ونظير ما ذكر الاستدلال بقولهم (الأصل في القيود أن تكون احترازية) ، فانه بعد تسليم ظهور كل قيد في ذلك ، يوجب تضييق دائرة الموضوع ، ولا يفيد انتفاء سنخ الحكم من غير مورد القيد ، كما هو واضح.

وما استدل به على مفهوم الوصف أن أبا عبيدة ـ مع كونه من أهل اللسان الذين ينبغي الرجوع إليهم في تشخيص المعاني ـ قد فهم من قوله عليه‌السلام (لي الواجد يحل عقوبته) أن لي غيره لا يحل.

وفيه أنه ليس أبو عبيدة وغيره بأولى منا في فهم هذا المعنى من القضية ، بعد القطع بوضع مفرداتها ، والقطع بعدم وضع آخر للمجموع. وإنما يفهم المفهوم من خصوص هذه القضية ، لأن الوصف المأخوذ فيها مناسب لعلية الحكم ، مع العلم بعدم علة أخرى كما لا يخفى.

(تنبيهان)

(الأول) أنه مما تقرر عند القائل بثبوت المفهوم للوصف أنه يشترط أن لا يكون الوصف واردا مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : (وربائبكم اللاتي في حجوركم) (١) ويمكن توجيهه بان المفهوم ـ بعد غلبة وجوده في افراد ـ ينصرف إليها ولا يحتاج في ذلك إلى ذكر القيد ، فذكر القيد وعدمه سيان ، فهو بمنزلة القيد المساوي. وسيجيء خروجه عن محل النزاع.

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٢٣.

وفيه منع انصراف المفهوم إلى الافراد الغالبة (٢٠٦) ، فان ميزان الانصراف أنس اللفظ عرفا بالنسبة إلى المعنى الخاصّ ، وليس دائرا مدار الغلبة في الوجود ، ويمكن ان يكون وجهه أن الورود مورد الغالب يخرج القيد عن اللغوية ، فلا يكون حينئذ دليلا على إرادة المفهوم.

وفيه أنه لو كان القول بالمفهوم من جهة الخروج عن اللغوية ، لما صح القول به في كثير من الموارد ، لوجود احتمال نكتة في ذكر القيد. وهذا في الحقيقة إنكار للمفهوم للقضية ، وإثباته لها في بعض المقامات لقرينة خاصة ، مع أن خروج القيد عن اللغوية يكفى فيه كونه دخيلا في الحكم ، ولا يدل على الانحصار حتى يلزم منه العدم عند العدم.

(الثاني) أن محل النزاع في المقام هو ما لو كان هناك موضوع محفوظ في كلتا الحالتين. أعني حالة وجود الوصف وعدمه ، فيدعي مدعى المفهوم دلالة القضية على عدم سنخ الحكم المتعلق بالموضوع المفروض ، فينحصر مورد النزاع فيما تخلف الموصوف عن الوصف ، وهو في الأوصاف التي تكون أخص من الموصوف ، أو أعم من وجه في مورد تخلف الموصوف ، كما أشرنا في المبحث السابق إلى ان الموارد ـ التي يكون الشرط محققا للموضوع ـ ليست محلا للبحث ، ففي مثل قولنا : (في الغنم السائمة زكاة) لو قلنا بالمفهوم نقول بدلالته على نفى الزكاة في المعلوفة. واما الإبل ، فان قلنا بأن في سائمتها زكاة ، فمن جهة فهم المناط ، وأن العلة لأصل الزكاة السوم ، فيجري المعلول في غير المذكور ، تبعا للعلة. وإن قلنا بدلالة

______________________________________________________

(٢٠٦) وأيضا لازم الانصراف تقييد الموضوع وتضييقه ، وإن لم يكن للقضية مفهوم ، والبناء في القيد الوارد مورد الغالب على عدم التقييد. والإنصاف عدم صحة التمسك معه ، لا بالإطلاق ولا بالقيد للتضييق أو للمفهوم ، ووجهه يظهر بالتأمل.

القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل ، فمن جهة حصر مناط أصل الزكاة في السوم. ولا دخل لشيء مما ذكر بمفهوم الوصف المدعى ، كما لا يخفى.

٣ ـ مفهوم الغاية

ومن المفاهيم التي وقع الاختلاف فيها مفهوم الغاية. والمنسوب إلى المشهور دلالة الغاية المذكورة في القضية على ارتفاع الحكم ، وإلى جماعة ـ منهم الشيخ والسيد قدس‌سرهما ـ عدم الدلالة.

والحق ان يقال إن الغاية بحسب القواعد العربية (تارة) تكون غاية للموضوع ، و (أخرى) تكون غاية للحكم (الأول) مثل سر من البصرة إلى الكوفة (والثاني) مثل اجلس من الصبح إلى الزوال ،

ففي الأول حالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وان كان تحديد الموضوع بها يوجب انتفاء الحكم المذكور في القضية عند حصولها ، لكن قد مر ان هذا ليس قولا بالمفهوم.

وفي الثاني الظاهر الدلالة ، فان الغاية جعلت ـ بحسب مدلول القضية ـ غاية للحكم المستفاد من قوله اجلس. وقد حققنا في محله ان مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب لا الطلب الجزئي الخارجي ، فتكون الغاية في القضية غاية لحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس. ولازم ذلك ارتفاع حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها. نعم لو قلنا ان مفاد الهيئة هو الطلب الجزئي الخارجي ، فالغاية لا تدل على ارتفاع سنخ الوجوب.

وبعبارة أخرى لا إشكال في ظهور قولنا (اجلس من الصبح إلى الزوال) في ان الزوال غاية للطلب المستفاد من قولنا اجلس ، فان جعلنا

مفاد الهيئة حقيقة الطلب المتعلق بالجلوس ، فمقتضى جعل الغاية لها ارتفاعها عند تحقق الغاية ، وان جعلنا مفادها هو الطلب الجزئي ، فلازم ذلك ارتفاع ذلك الطلب الجزئي. ولا ينافى وجود جزئيّ آخر بعد الغاية. وحيث أن التحقيق هو الأول ، تكون القضية ظاهرة في ارتفاع سنخ الحكم عن الجلوس في المثال (٢٠٧).

هذا وفي المقام نزاع آخر ، وهو أن الغاية هل هي داخلة في المغيا أو خارجة عنها والتحقيق في هذا المقام أن الغاية التي جعلت محلا للكلام في هذا النزاع ، لو كان المراد منها هو الغاية عقلا ، أعنى انتهاء الشيء ، فهذا مبنى على بطلان الجزء الغير القابل للتقسيم وصحته ، فان قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيا يقينا ، فان انتهاء الشيء على هذا عبارة عن جزئه الأخير ، فكما أن باقي الاجزاء داخلة في الشيء ، كذلك الجزء الأخير ، وان قلنا بالأول ، فالغاية غير داخلة ، لأنها حينئذ عبارة عن النقطة الموهومة

______________________________________________________

٣ ـ مفهوم الغاية

(٢٠٧) الظاهر أن الأمثلة مختلفة ، فمثل (إن جاءك زيد فاجلس إلى الزوال) لا يستفاد منه الا انتفاء شخص الحكم المسبب عن مجيء زيد ، ولا تنافي بينه وبين الحكم بوجوب الجلوس إلى الغروب عند مجيء عمرو.

فان قلت : إن كان الموضوع له والمستعمل فيه في الهيئة كليا ، فكيف يمكن جعل المغيا شخص الحكم ، وهو غير المستعمل فيه.

قلت : المستعمل فيه والمنشأ وان كان كليا قبل الإنشاء ، لكن الإنشاء ملازم للتشخص والجزئية بنفس الإنشاء. والمتكلم عند جعل الغاية ـ كما يمكن له النّظر بعد الإنشاء إلى سنخ الحكم المنشأ وتحديده ـ كذلك يمكن له النّظر إلى شخص المنشأ بعد الإنشاء ، وتحديده بالغاية ، نجعل الغاية له بشخصه ، فإذا صح جعل الغاية بكلا النحوين ، فاستفادة كل منهما تابع لظهور القضية. وقد عرفت أنه يختلف.

التي لا وجود لها في الخارج.

وان كان محل النزاع هو مدخول حتى وإلى وان لم يكن غاية حقيقة ، فانه قد يكون شيئا له اجزاء متصلة ، كالكوفة ، في قولنا سر من البصرة إلى الكوفة ، والليل في قولنا صم من الفجر إلى الليل.

فالحق التفصيل بين كون الغاية قيدا للفعل ، كالمثال الأول ، وبين كونها غاية للحكم كالمثال الثاني ، ففي الأول داخلة في المغيا ، فان الظاهر من المثال المذكور دخول جزء من السير المختص بالكوفة في المطلوب ، كما أن الظاهر منه دخول السير المختص بالبصرة أيضا في المطلوب. وفي الثاني خارجة عنه ، فان المفروض انها موجبة لرفع الحكم ، فلا يمكن بعثه إلى الفعل المختص بها ، كما لا يخفى.

ومن جملة ما يستفاد منه الحصر الجملة الملحوقة بأداة الاستثناء ، ولا شبهة في أنها تدل على اختصاص الحكم بالمستثنى منه ، وثبوت نقيضه للمستثنى. ولذا يكون الاستثناء من الإثبات نفيا ، ومن النفي إثباتا. وذلك للانسباق والتبادر القطعي.

ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة ولعله يدعى أن الاستثناء لا يدل إلا على أن المستثنى لا يكون مشمولا للحكم المنشأ في القضية. وأما ثبوت نقيضه له في الواقع ، فلا.

ويقرب هذا المدعى القول بأن الإسناد إنما يكون بعد الإخراج (٢٠٨) ، إذ على هذا حاله حال التقييد. وقد عرفت أن التقييد

______________________________________________________

(٢٠٨) لا يخفى أن التقريب المذكور يؤيد المفهوم ، لأنه على ذلك يصير نظير مفهوم الغاية ، إذا كانت غاية للحكم ، لأن الموضوع بالفرض لا ضيق فيه ، وإنما أخرجه عن سنخ الحكم ، ولازم ذلك القول بالمفهوم ، نعم لو كان الموضوع مقيدا فالأمر كما ذكر ، فافهم.

لا يدل إلّا على تضيق دائرة الموضوع في القضية. وكيف كان يدل ـ على خلاف ما ذهب إليه ـ التبادر القطعي.

واحتج على مذهبه بقوله عليه‌السلام (لا صلاة إلّا بطهور) إذ لو كان الاستثناء من النفي إثباتا ، للزم كفاية الطهور في صدق الصلاة ، وان كانت فاقدة لباقي الشرائط.

وفيه (أولا) أن الملحوظ في القضية هو المركب المشتمل على تمام ما اعتبر فيه ، سوى الطهور (٢٠٩) ، ونفيت حقيقة الصلاة أو هي بقيد التمام عنه ، إلا في مورد تحقق الطهور. و (ثانيا) أنه على فرض التجوز في مثل التركيب المزبور لا يضرنا ، بعد شهادة الوجدان القطعي على ما ادعيناه.

ومما استدل به على ما ذكرنا من المعنى قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة (لا إله إلّا الله) إذ لو لم يدل الاستثناء من النفي على الإثبات في المستثنى ، لما كانت هذه الكلمة بمدلولها دالة على الاعتراف بوجود الباري عزّ شأنه. والقول ـ بان هذه الدلالة في كل مورد كانت مستندة إلى قرينة خاصة ـ بعيد غاية البعد ، بل المقطوع به خلافه ، كالقطع بخلاف أن هذه الكلمة كانت سببا لقبول الإسلام شرعا ، مع قطع النّظر عن مدلولها.

هذا وهذا الاستدلال ، وان كان حسنا ، لكن لا يحتاج إليه بعد

______________________________________________________

(٢٠٩) وذلك لظهور القضية في أن الصلاة غير الطهور ، وبه تتحقق ، لمكان الباء ، فلا محالة يكون المقصود نفي الحقيقة عن جميع الاجزاء والشرائط بلا تحقق الطهور وإرادة الطهور من الصلاة وإطلاقها ـ عليه تجوزا لبيان أهمية الطهور على فرض صحته في مقامه ـ لا يصح في المقام ، لمكان الباء ، كما هو واضح.

كون المعنى الّذي ذكرنا متبادرا قطعيا من القضية. وهنا إشكال آخر معروف ، وهو أن الخبر المقدر للفظة لا النافية للجنس إما موجود ، وإما ممكن وعلى أي حال لا يدل الاستثناء على التوحيد الّذي هو عبارة عن الاعتقاد بوجود الباري ، ونفى إمكان الشريك له عزّ شأنه ، فانه على الأول الاستثناء يدل على حصر وجود الآلهة في الباري جل وعلا ، ولا يدل على نفى إمكان الشريك له جل شأنه. وعلى الثاني يدل على إثبات الإمكان لوجوده تعالى شأنه ، لا على وجوده تعالى ولا يدفع هذا الإشكال جعل إلا تامة غير محتاجة إلى الخبر ، فانه على هذا أيضا تدل القضية على نفى الآلهة وإثبات الباري جل اسمه ، ولا تدل على عدم إمكان غيره.

ويمكن ان يجاب بان المراد بالإله المنفي هو خالق تمام الموجودات (٢١٠) ، وبعد نفى هذا المعنى مطلقا وإثباته في الذات المقدسة ، يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقا له ، ولا يمكن مع كونه مخلوقا أن يكون خالقا ، فحصر وجود الإله في الباري جل وعلا يدل ـ بالالتزام البين ـ على عدم إمكان غيره تعالى ، فافهم.

______________________________________________________

(٢١٠) الظاهر عدم ارتفاع الإشكال بذلك المعنى أيضا ، لأن الخبر المقدّر إن كان (ممكن) فلا تدل القضية على وجود الخالق لتمام الموجودات ، وان كان (موجود) فلا تدل على نفي إمكان خالق غير الخالق بالفعل. نعم بحسب الملازمة العقلية انحصار الخالق ـ لجميع الموجودات وجودا في الله تبارك وتعالى ـ ملازم لعدم إمكان غيره ، وكذلك عدم إمكان غيره ملازم لوجوده جلّ وعلا ، لكن المقصود دلالة اللفظ مع قطع النّظر عن الملازمة العقلية ، وأما مع الملازمة العقلية الخارجية ، فلا فرق بين تقدير واجب الوجود ، ومستحق العبادة ، والمستجمع لجميع الصفات الكمالية ، والمعبود بالحق ، فان وجود كل منها ملازم عقلا لعدم إمكان غيره وكذلك عدم إمكان غيره ملازم لوجوده ، بل لوجوب وجوده. والظاهر من لفظ الإله هو المعبود بالحق ، حيث أن

بقي هنا شيء ، وهو أن الدلالة التي أشرنا إليها ، هل هي داخلة في المنطوق أو المفهوم؟ وهذا وان كان خاليا عن الفائدة ، إذ ليسا بعنوانهما موردا لحكم من الأحكام ، إلا انه لا بأس بذكر ذلك.

فنقول قولنا (أكرم العلماء الا زيدا) يشتمل على عقد إيجابي وسلبي ، ودلالة العقد الإيجابي ـ بعد خروج زيد ـ على وجوب إكرام باقي العلماء دلالة المنطوق ، ودلالة العقد السلبي على إثبات نقيض ذلك الحكم في المستثنى دلالة المفهوم (٢١١) ، إذ هي لازمة لخروج المستثنى عن تحت الحكم المتعلق بالمستثنى منه ، كما أن دلالته ـ على حصر مورد وجوب الإكرام في الباقي ، وحصر مورد نقيضه في المستثنى أيضا ـ داخلة في المفهوم ، فان ذلك كله لازم المعنى المستفاد من أداة الاستثناء بالمطابقة ،

______________________________________________________

الشهادة بهذا النحو في قبال عبدة الأوثان لأنهم يعبدونها ، من دون نظر إلى خالقيتها ، أو كونها واجبة الوجود أو غير ذلك من المعاني المذكورة.

وكيف كان لو كان اللازم في الشهادة دلالة الكلام ، من دون ضمّ مقدمة عقلية على وجود الخالق ، وعدم إمكان غيره ، فلا تدل القضية عليهما ، وإن قدّر ما قدّر ، وان كانت الدلالة ولو بلحاظ العقل كافية فكل من هذه الوجوه كاف ، ويمكن جعل المقدّر (ممكن) مع الشهادة على الوجود أيضا ، بجعل الاسم الإله المفروض الوجود ، فتتم الدلالة بلا انضمام شيء خارج.

(٢١١) لا يبعد أن تكون دلالة العقد السلبي أيضا منطوقا ، فان أداة الاستثناء آلة للإخراج ، وما يستفاد منها يحسب من المنطوق ، كما يحسب من المنطوق ما يستفاد من سائر الأدوات ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون معناه حرفيا أو فعليا ، كما قد يقال بالتفصيل ، وإن أبيت عن ذلك فنقول : إن الدلالة على حصر المنطوق وحصر المفهوم يستفاد من الهيئة التركيبية ، مع الاقتصار على إخراج ما ذكر ، مع كونه في مقام إخراج ما خرج وبيان خروجه ، فيكون الحصر فيهما منطوقا للجملة لا للمفردات.

وهو خروج المستثنى عن تحت الحكم السابق على وجه الحصر. وان جعلنا كلمة إلا زيدا قرينة على إرادة وجوب إكرام الباقي على وجه الحصر من العقد الإيجابي ، فتكون دلالة العقد الإيجابي ـ للقضية على حصر مورد وجوب الإكرام في الباقي ـ داخلة في المنطوق ، ودلالته ـ على ثبوت نقيضه للمستثنى ـ داخلة في المفهوم المستفاد من حصر وجوب الإكرام في غيره.

ويحتمل بعيدا أن يكون الحصر مستفادا من تركيب العقد الإيجابي مع السلبي ، بمعنى أن حصر مورد وجوب الإكرام في الباقي يستفاد من نفى وجوب إكرام زيد المستفاد من الاستثناء ، وكذا حصر مورد نفى الوجوب في زيد يستفاد من نفى وجوب إكرام باقي العلماء المستفاد من قوله أكرم كل عالم فتدبر.

ومن جملة ما ذكروه في عداد ما يفيد الحصر كلمة (انما) ، وقد أرسلها النحاة إرسال المسلمات في كلماتهم ، وقالوا إن ذلك ـ أعنى افادتها الحصر ـ جواز انفصال الضمير في مثل قول الفرزدق : (أنا الذائد الحامي الذمار وانما ، يدافع عن أحسابهم انا أو مثلي) كما جاز في قولنا ما يدافع عن أحسابهم الا انا أو مثلي. ونقل تصريح أهل اللغة أيضا بإفادته الحصر.

والإنصاف ـ كما اعترف به في التقريرات ـ عدم حصول الجزم بذلك. أما (أولا) فلعدم وجود ما يرادفه في عرفنا ، حتى يستكشف الحال منه بمراجعة الوجدان. وأما (ثانيا) فنحن كلما راجعنا مواقع استعمال هذه الكلمة في كلمات الفصحاء ، لم نجد موضعا إلا ويمكن المناقشة في استفادة الحصر من هذه الكلمة ، لأجل قيام القرينة المقامية على الحصر أو غيرها. من تقديم ما حقه التأخير أو غير ذلك ، بحيث لو حذفت لفظة انما

من الكلام لدلت القرائن على الحصر أيضا ، ولذا يستفاد الحصر من قولنا (يدافع عن أحسابهم انا أو مثلي) بقرينة عطف أو مثلي. وهذا هو المجوز لانفصال الضمير ، ألا ترى أنه لو فرض مورد خال عن جميع تلك القرائن ـ كما في قولك إنما زيد قائم ـ لا يفهم منه الحصر ، وإنما المستفاد هو التأكيد وأما إرساله في كلمات النحاة إرسال المسلمات ، وكذا تصريح أهل اللغة ، فلا يجدى شيء منهما في إفادة القطع ، خصوصا مع ذكر التعليلات العليلة في كلامهم. نعم الّذي يمكن الجزم به أن مفاد تلك الجملة المصدرة بأنما ـ حصرا كان أو غيره ـ يصير آكد بواسطة تصديرها بهذه اللفظة وأين هذا من إفادة الحصر؟

(المقصد الخامس)

(في العام والخاصّ)

اعلم ان العموم قد يستفاد من جهة وضع اللفظ ، كلفظة (كل) وما يرادفها ، وقد يستفاد من القضية عقلا ، كالنكرة الواقعة في سياق النفي ، أو اسم الجنس الواقع في سياق النفي ، حيث أن نفى الطبيعة مستلزم لنفي افرادها عقلا. وقد يستفاد من جهة الإطلاق ، مع وجود مقدماته ، كالنكرة في سياق الإثبات أو اسم الجنس كذلك والعموم المستفاد من الإطلاق قد يكون بدليا ، وقد يكون استغراقيا حسب اختلاف المقامات.

(إشكال ودفع)

أما الإشكال فهو انه ليس لنا لفظ يدل على العموم ، بحيث يستغنى عن التشبث بمقدمات الحكمة ، فان الألفاظ الدالة على العموم كلفظة (كل) وأمثالها تابعة لمدخولها ، فان أخذ مطلقا فالكل يدل على تمام افراد المطلق ، وإن أخذ مقيدا فهو يدل على تمام افراد المقيد. والمفروض أن مدخول (كل) ليس موضوعا للمعنى المطلق ، كما أنه ليس موضوعا للمعنى المقيد ، بل هو موضوع للطبيعة المهملة الغير الآبية عن

الإطلاق والتقييد فحينئذ قول المتكلم (كل عالم) لا يدل على تمام افراد العالم ، إلا إذا أحرز كون العالم الّذي دخلت عليه لفظة (كل) مطلقا ، ومع عدم إحرازه يمكن أن يكون المدخول هو العالم العادل مثلا ، فتكون لفظة (كل) دالة على تمام افراد ذلك المقيد. ولذا لو صرح بهذا القيد لم يكن تجوز أصلا ، لا في لفظ العالم ولا في لفظة (كل) وهو واضح.

واما النكرة في سياق النفي وما في حكمها ، فلا يقتضى وضع اللفظ إلا نفى الطبيعة المهملة ، وهي تجامع المقيدة ، كما أنها تجامع المطلقة ، والمحرز ـ لكون الطبيعة المدخولة للنفي هي المطلقة لا المقيدة ـ لا المقيدة ـ ليس إلّا مقدمات الحكمة ، كما أن المحرز ـ لكون الطبيعة المدخولة للفظة (كل) مطلقة ـ ليس إلّا تلك المقدمات ، إذ بدونها يتردد الأمر بين أن يكون النفي واردا على المطلق ، وان يكون واردا على المقيد.

وأما الدفع فهو أن الظاهر ـ من جعل مفهوم موردا للنفي ، أو اللفظ الدال على العموم ـ كون ذلك المفهوم بنفسه موردا لأحدهما ، لا أنه أخذ معرفا لما يكون هو المورد. ولا إشكال في أن ورود الكل على نفس مفهوم لفظ العالم (مثلا) يقتضى استيعاب تمام الافراد (٢١٢) كما أنه

______________________________________________________

العام والخاصّ :

(٢١٢) والحاصل : أن الطبيعة إذا جعلت موضوعا لحكم من الأحكام بلا دخل قيد فيها ، فالظاهر من ذلك أنها بنفسها موضوع للحكم ، لا أنها جعلت بنحو المعرفية لفرد من افرادها موضوعا ، ولا بنحو الجزئية للموضوع ، حتى يكون الجزء الآخر مضمرا أو مقدرا من دون دال لفظي عليه. وهذا ظهور لفظي يقتضيه الإسناد.

لا يقال : يمكن اسناد الحكم إلى الطبيعة بلحاظ كون فرد منها موضوعا ، لأن العرض الوجوديّ يسري من الفرد إلى الطبيعة ويصح اسناده إليها من دون تجوّز

لا إشكال في أن ورود النفي عليه يقتضى نفى تمام الافراد (٢١٣). نعم يمكن كون الرّجل في قولنا لا رجل في الدار معرفا لفرد خاص منه ، ويكون

______________________________________________________

واعتبار.

لأنه يقال : هذا في غير الاستيعاب لأن استيعاب حكم لقسم خاص من الطبيعة ، لا يوجب صحة إسناد الاستيعاب إلى الطبيعة بلا قيد ، وكذلك لا يصح الإنشاء بنحو الاستيعاب للطبيعة ، ما لم يستوعب واقعا. وذلك واضح. نعم يصح الإسناد إليها بنحو الإطلاق أي بلا دخل قيد فيه مع كون الموضوع حقيقة قسما خاصا من الطبيعة ، لكن سيأتي أنه أيضا خلاف الظاهر. وحيث أن الظاهر من الإسناد المذكور أن الطبيعة بنفسها موضوع ، والمعرفية أو الجزئية للموضوع أو التجوّز بنحو آخر خلاف الظاهر والأصل ، ولا يصح الإسناد بنحو الاستيعاب إلى الطبيعة ، الا مع استيعاب الحكم واقعا ، فلازم ذلك شمول الحكم لجميع الافراد ، من دون خروج فرد. هذا غاية التقريب في إثبات العموم.

لكن فيه : أن المقصود من ذلك كله إن كان شمول العام للافراد ، بحيث لا يخرج منها فرد ، فهو صحيح لا مجال لإنكاره ، وإن كان المقصود إثبات الشمول للحالات ، بحيث لا تخرج عنها حالة ، فذلك غير تام ، لأن الصيغة لم توضع لذلك ، وألفاظ العموم غير متعرضة للأحوال. غاية الأمر أن العام يكون بمنزلة تكرار ألفاظ الافراد ، فأكرم العلماء يكون بمنزلة أكرم زيدا وعمراً وبكرا. ومعلوم أن سريان الحكم المستفاد من أكرم زيدا إلى جميع حالاته يحتاج إلى مقدمات الحكمة ، أو تقريب آخر ، فكذلك الحكم المستفاد من العموم.

والحاصل : أن العموم ـ وإن كان في عرض الإطلاق ـ لا يعرض إلا على الذات ، كما لا يحتاج الإطلاق العارض على الطبيعة إلى مقدمات أخر ، حتى ينجرّ إلى التسلسل ، لكن كل منهما موضوع لشمول الحكم من جهة ، ولا يغني أحدهما عن الآخر فتأمل.

(٢١٣) قد يقال : بأن ذلك فيما أخذ المفهوم بنحو السريان والإطلاق ، أما إذا أخذ مقيدا أو بنحو الإهمال ـ بمعنى عدم أخذ قيد فيه ـ فنفيه لا يقتضي إلا نفي هذا

النفي واردا عليه. ولكن هذا خلاف ظاهر القضية ، فان الظاهر أن مفهوم لفظ الرّجل بنفسه مورد للنفي.

______________________________________________________

المقيد أو المهمل الّذي يصدق بنفي فرد ، فلا بد ـ في إثبات نفي تمام الافراد ـ من إثبات الإطلاق بمقدمات الحكمة. لكن الظاهر أن الأمر ليس كذلك ، بل المفهوم إذا لوحظ ولم يلحظ معه قيد من القيود ، فلا يصح الحكم بانعدامه ، إلا مع انعدام جميع الافراد. نعم يصح الحكم بوجوده من دون تقييد ، بمجرد وجود فرد من افراده ، وهذا مراد القائل بأن المهملة في قوة الجزئية ، بمعنى أن الطبيعة إذا أخذت بلا قيد ، وأخبر عنها بحكم وجودي ، يكفي في صحة الإسناد المذكور اتصاف جزئي من جزئياتها ، ولذا لا يكون دليل ذلك دليلا على الزائد على الحكم الجزئي وليس المقصود من ذلك الأحكام العدمية.

لا يقال : هذا لو أسند النفي إلى الجامع بين المطلق والمقيد ، لكن الفرض أنه لم يوجد حتى في الذهن كذلك ، حتى يصح الإسناد إليه ، بل الموجود في الذهن أبدا إما مطلق وإما مقيد. وتعيين أحدهما ليس إلّا بمقدمات الحكمة.

لأنه يقال : وان لم يوجد الجامع في الذهن مستقلا بوصف الجامعية ، لكنّ المفهوم إذا وجد في الذهن ولم يلحظ معه شيء حتى صفة الإطلاق ، ثم جعل كذلك موضوعا للحكم ، فتشخّص وجوده الذهني خارج عن الموضوع. وقد قلنا إن إسناد العدم كذلك إلى الطبيعة لا يصح إلا مع عدم جميع أفرادها ، فذلك قرينة عقلية ودليل قطعي ، من دون حاجة إلى المقدمات. وأما أنه لم يلحظ مع المفهوم شيء ، فلأنه منفي بالأصول المعتبرة ، كأصالة عدم التقدير وعدم القرينة ، وأصالة ظهور القضية في أن الإسناد إلى المفهوم إسناد إلى من هو له ، وبنفسه موضوع أولا وبالذات لا ثانيا وبالعرض ، كما مرّ شرحه في طرف الإثبات. وهذا هو الفارق بين النكرة في سياق النفي والإثبات ، فان اسناد النفي إلى الرّجل من دون قيد ، لا يصح إلّا مع نفي جميع الافراد ، بخلاف الإثبات ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الحالات ، بمعنى أنه لا يصح نفي صفة عن شيء بلا تقيده بحالة خاصة ، إلّا إذا لم يتصف بها في حالة من الحالات ، بخلاف إثباتها له ، لأنه يصح اسناد الاتصاف إليه باتصافه في بعض الأحوال.

ولا يرد أنه ـ بناء على هذا الظهور ـ يلزم عدم الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في الحكم الإيجابي أيضا. توضيح الإشكال : أن ظاهر القضية الحاكية لتعلق الإيجاب بالطبيعة أنها بنفسها مورد للحكم ، لا بما هي معرفة لصنف خاص منها ، لعين ما ذكر في القضية المنفية ، ولازم تعلق الحكم بالطبيعة بنفسها سريانه في كل فرد ، فلا يحتاج فهم العموم من القضية إلى مقدمات الحكمة.

وبيان دفعه ان المهملة تصدق على وجود خاص حقيقة ، فان كان الثابت في نفس الأمر الحكم المتعلق بوجود خاص منها ، يصح نسبة الحكم إليها حقيقة ، فإسراء الحكم إلى تمام الافراد لا يقتضيه وضع اللفظ ، بل يحتاج إلى المقدمات. وهذا بخلاف النفي المتعلق بالطبيعة المهملة ، فانه لا يصح إلا إذا لم تكن متحققة أصلا ، إذ لو صح نفى الطبيعة مع وجود فرد خاص منها ، لزم اجتماع النقيضين.

ومحصل الكلام أنه لا شك في أن قولنا (كل رجل وقولنا لا رجل يفيدان العموم ، من دون حاجة إلى مقدمات الحكمة. والسر في ذلك ما قلناه ، ولو لا ذلك لما دل قولنا أكرم العالم مطلقا أيضا على الإطلاق ، إذ الإطلاق أيضا أمر وارد على مفهوم لفظ العالم. والمفروض أنها مهملة تجتمع مع المقيد ، ولذا لو قال (أكرم العالم العادل مطلقا) لم يكن تجوزا قطعا ، كما ذكرنا في تقرير الشبهة في مدخول لفظ الكل والنفي ، ولا شبهة في أن العرف والعقلاء لا يقفون عند سماع هذا الكلام ، ولا يطلبون مقدمات الحكمة في مفهوم لفظ العالم الّذي ورد الإطلاق عليه. ولعل هذا من شدة وضوحه خفي على بعض الأساتيذ فتدبر فيما ذكرناه.

(فصل في حجية العام المخصص في الباقي)

لا شبهة أن العام المخصص ـ سواء كان بالتخصيص المتصل أم المنفصل ـ حجة في الباقي ، وان كان قد يفرق بينهما من بعض جهات أخر كما يأتي إن شاء الله تعالى.

والدليل على ذلك أن التخصيص لا يستلزم التجوز في العموم ، حتى يبحث في أنه بعد رفع اليد عن معناه الحقيقي هل الباقي اقرب المجازات أو هو مساو مع سائر المراتب إلى ان تنتهي إلى مرتبة لا يجوز التخصيص إليها ، لأن التخصيص ان كان متصلا ، فان كان من قبيل القيود والأوصاف ، فهو تضييق لدائرة الموضوع (٢١٤) ، وان كان من قبيل الاستثناء ، فهو إما إخراج عن الموضوع قبل الحكم ، وإما إخراج عن الحكم (٢١٥) ، فيستكشف أن شمول العام له من باب التوطئة والإرادة الصورية الإنشائية لا الجدية (٢١٦). وعلى كل حال ليس حمل العام

______________________________________________________

حجية العام المخصص في الباقي

(٢١٤) ولا إشكال حينئذ في شمول الحكم لجميع افراد المقيد ، ولا تخصيص في ذلك حقيقة ، حيث لا إخراج في البين ، بل جعل الحكم ابتداء لموضوع خاص.

(٢١٥) وهذا أيضا في حكم تقييد الموضوع ، ولا إشكال في بسط الحكم لتمام أفراد الموضوع ، وهو العلماء غير زيد مثلا ، وكذلك إذا كان الإخراج عن الحكم ، فان الظاهر أن المخرج منحصر بزيد مثلا ، ولا ترديد فيه بحسب الظاهر. والفرق بين القسمين هو : أن الاستثناء في الأول قرينة على تضييق الموضوع ، وفي الثاني على قصور الحكم.

(٢١٦) يمكن أن يجعل ذلك في قبال القسمين ، لعدم إخراج شيء عن الموضوع

على باقي الافراد تجوزا فيه (٢١٧) بل ظهوره انعقد واستقر في الباقي من أول الأمر.

وإن كان التخصيص منفصلا ، فالظاهر أنه يكشف عن عدم كون الخاصّ مرادا في اللب ، مع استعمال لفظ العام في عمومه في مرحلة الاستعمال بأحد الوجهين الذين ذكرا في المتصل. ولا يخفى أن هذا الظهور الّذي يتمسك به لحمل العام على الباقي ليس راجعا إلى تعيين المراد من اللفظ في مرحلة الاستعمال ، بل هو راجع إلى تعيين الموضوع للحكم جدا ، فان جعلنا المخصص كاشفا عن عدم كون الخاصّ موضوعا للحكم في القضية ، فنقول مقتضى الأصل العقلائي كون المعنى الّذي ألقى إلى

______________________________________________________

ولا عن الحكم ، بل إنشاء للجميع ، ولم يكن بعضها مطابقا للإرادة اللبية.

(٢١٧) قد يقال : بان عدم التجوّز ليس إلا بأن يكون استعمال العام في الجميع محفوظا بجعل موضوع الحكم غير المستعمل فيه ، وذلك يستلزم أن يكون الموضوع غير المتصور ، لأن المتصور بالفرض ليس إلّا مجموع الافراد. وموضوع الحكم بعضها. ومعلوم أن التصديق بلا تصور الموضوع محال.

لكن فيه : أن المتصور حين الاستعمال وإن كان جميع الافراد ، لكن لا بنحو تكون صفة الاجتماع دخيلة في المتصور ـ كما في العام المجموعي ـ حتى يقال : إن الملحوظ بوصف الاجتماع غير كل واحد من الافراد ، بل الملحوظ في العام الاستغراقي كل واحد من الافراد استقلالا ، غاية الأمر بمرآة واحدة ولا يحتاج الحكم إلى أزيد من ذلك ، ولذا يجعل كل واحد تحت حكم مستقل ، ولو لا ذلك ، لما صح جعل أحكام عديدة لمتصور واحد خصص العام أم لم يخصص ، فلا محذور في جعل بعض ما لوحظ مستقلا موضوعا للحكم ، وإخراج البعض الآخر عنه.

ثم انه لو قلنا بأن الاستثناء قرينة على إرادة الباقي تجوزا ، لا يبعد أيضا القول بعدم الإجمال في المتصل ، لأن الظاهر ـ من اقتصار المتكلم على بعض الافراد عند التخصيص ـ انحصار المخرج بالمذكور. نعم لا ظهور للمنفصل في ذلك.

المخاطب موردا للحكم في القضية بتمامه ، وإذا علمنا عدم دخول جزء منه تحت الحكم ، فمقتضى الأصل دخول الباقي. وإن جعلناه كاشفا عن عدم كونه موردا للحكم الجدي ، بعد شمول الحكم الإنشائي المجعول في القضية له ، فنقول مقتضى الأصل كون الإرادة المنشأة في القضية مطابقة مع اللب ، وخرج عن تحت هذا الأصل الإرادة المنشأة في القضية المتعلقة بالخاص ، فبقي الباقي.

هذا لكن لا يخفى أن هذا انما يجري في العام الاستغراقي ، حيث أنه ينحل إلى إرادات عديدة متعلقة بموضوعات كذلك ، فخروج واحدة منها عن تحت الأصل المذكور لا يضر بالباقي. وأما المجموعي فحيث أن الإرادة فيه واحدة ، فينحصر وجه حمله على الباقي بعد خروج البعض في الأول فتدبر فيه.

احتج النافي لحجية العام في الباقي بالإجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب العام ، وتعيين مرتبة خاصة تعيين بلا معين. وقد أجيب بأن الباقي اقرب المجازات. وفيه ان المدار ليس على الأقربية بحسب الكم والمقدار ، بل المعيار الأقربية بحسب زيادة الأنس الناشئة عن المناسبة الخاصة بين المعنيين.

وفي تقريرات شيخنا المرتضى (قدس‌سره) ما محصله أن دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الآخر. ولو فرض كون دلالة العام على الباقي دلالة مجازية ، فمجازيته انما هي بملاحظة عدم شموله للافراد المخصوصة ، لشمول لباقي الافراد ، فالمقتضي لحمله على الباقي موجود ، والمانع مفقود ، لاختصاص المخصص بغيره انتهى ملخص كلامه (قدس‌سره).

ولا يخفى ما فيه ، إذ الدلالة ـ المستفادة من القضية المشتملة على

لفظ الكل مثلا على كل فرد ـ إنما هي من جهة السور المحيط بتمام الافراد الدال عليه لفظ الكل حقيقة ، وبعد فرض صرف اللفظ عن هذا المعنى واستعماله في معنى آخر ، لا يعلم أن ذلك المعنى المجازي هل هو معنى محيط بالباقي أو الأقل.

وبعبارة أخرى ليس كل فرد مستقلا مدلولا ابتدائيا للفظ الكل ، حتى تكون له مداليل متعددة ، فيجب حفظ ما لم يعلم خلافه ، بل الانتقال إلى كل فرد مستقلا إنما هو ببركة ذلك المعنى الواحد الّذي جعل مرآة لملاحظة الافراد وبعد رفع اليد عن ذلك المعنى ، من أين لنا طريق إلى الباقي. والأولى في الجواب ما قررناه.

(فصل)

إذا خصص العام بمخصص ، وكان مرددا بين متباينين ، يسقط عن الاعتبار في كليهما ، سواء كان المخصص متصلا أم منفصلا ، وسواء كان الترديد من جهة الشبهة في المفهوم أم في المصداق.

وأما إذا خصّص بشيء مردد بين الأقل والأكثر ، فان كان من جهة الشبهة في المصداق ، فسيأتي الكلام فيه ، وإن كان من جهة الشبهة في المفهوم ، فلا إشكال في سراية إجماله إلى العام لو كان المخصص متصلا ، لأن المجموع كلام واحد ، ولا يتم ظهوره إلا بعد تماميته وخلوه عن الصارف ، إما بالقطع وإما بأصالة عدمه. وليس أحدهما في المقام. أما الأول فواضح. واما الثاني فلعدم بناء العقلاء على التشبث بها ، بعد وجود ما يصلح لأن يكون صارفا.

وأما إذا كان منفصلا فقد استقر بناء مشايخنا على التمسك بالعموم في

الفرد المشكوك انطباق عنوان المخصص عليه. واستدلوا على ذلك بان العموم قد تم واستقر ظهوره في كل فرد ، إما بالقطع بعدم المخصص المتصل ، وإما بواسطة الأصل ، حيث أنه شك في أصل وجوده ، فهو حجة في نفسه ، ولا يرفع اليد عنها إلّا بحجة أخرى أقوى منها. والمخصص المجمل ـ المردد بين الأقل والأكثر بحسب المفهوم ـ ليس حجة إلا في القدر المتيقن ، وفي هذا المقدار يرفع اليد عن ظهور العام قطعا. وأما الزائد فليس المخصص حجة فيه ، فرفع اليد عن العموم فيه طرح للحجة المستقرة ، من دون معارض.

وفيه نظر ، لإمكان أن يقال : إنه بعد ما جرت عادة المتكلم على ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه ، فحال المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره ، فكما أنه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر المتكلمين إلى إحراز عدم المخصص المتصل إما بالقطع وإما بالأصل ، كذلك يحتاج ـ في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض ـ إلى إحراز عدم المخصص المنفصل أيضا كذلك ، فإذا احتاج العمل بالعامّ إلى إحراز عدم التخصيص بالمنفصل ، فاللازم الإجمال فيما نحن فيه ، لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل. أما الأول فواضح وأما الثاني فلما مضى من أن جريانه مختص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصصا. والمسألة محتاجة إلى التأمل (٢١٨).

______________________________________________________

(٢١٨) الظاهر أن العادة المذكورة لا تضر بظهور الكلام وحجيته ، وفي الحقيقة تستقر العادة من ذلك المتكلم على إتيان حجة أقوى من الأولى ، وذلك غير مضر بحجية الأولى وان كثر ، كما اشتهر انه ما من عام إلّا وقد خصّ ، ومع ذلك لا يمنع عن حجية العام عندهم ، نعم فيما علم التخصيص إجمالا في الشبهة المحصورة لا يجوز التمسك بالعامّ مطلقا أو مع شرائط العلم وهو كلام آخر.

(الشبهة المصداقية)

لو كان المخصص مجملا بحسب المصداق ، بان كان المشتبه فردا للعام ، وتردد بين أن يكون فردا للعنوان الخاصّ أو باقيا تحت عموم العام ، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعامّ فيما إذا كان المخصص متصلا بالكلام ، لعدم انعقاد ظهور العام من أول الأمر ، إلا في غير مورد العنوان الخاصّ. وأما إذا كان المخصص منفصلا ، فقد يتوهم جواز التمسك به فيما شك انطباق العنوان الخاصّ عليه ، بعد انطباق العنوان العام عليه قطعا.

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب ذلك أن قول القائل ـ أكرم العلماء ـ يدل بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كل واحد من العلماء ، وبإطلاقه على سراية الحكم إلى كل حالة من الحالات التي تفرض للموضوع. ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة ، كما انه من جملة حالاته كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق ، وبقوله لا تكرم الفساق من العلماء قد علم خروج معلوم الفسق منهم ، ولا يعلم خروج الباقي ، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم.

لا يقال إن قوله لا تكرم الفساق من العلماء قد اخرج الفاسق الواقعي من الحكم ، لا الفاسق المعلوم ، فالفرد المردد لو صدق عليه عنوان الخاصّ محكوم بحكمه واقعا ، فكيف يجتمع هذا الحكم مع الحكم الّذي أتى من قبل العام؟

لأنا نقول حال الحكم الواقعي ـ المفروض مع الحكم الّذي أتى من قبل العام ـ حال الأحكام الواقعية مع الأحكام المتعلقة بالشيء في

حال الشك ، فالكلام في المقام هو الكلام فيها إشكالا ودفعا (٢١٩).

وفيه أن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو من جهة أن الشك في أحدهما مأخوذ في موضوع الحكم الآخر ، وليس شمول العام للفرد ـ حال كونه مشكوك العدالة والفسق ـ بلحاظ كونه مشكوك الحكم ، لعدم إمكان ملاحظة الشك في حكم المخصص موضوعا في الدليل المتكفل لجعل الحكم الواقعي ، للزوم ملاحظة حال الشك إطلاقا وقيدا (٢٢٠) وهما ملاحظتان متباينتان ، فحينئذ لا يمكن الجمع بين كون

______________________________________________________

(٢١٩) وأيضا يمكن أن يقال : إن حال الشبهة في المصداق حال الشبهة في المفهوم إشكالا وجوابا ، فان اقتصر في الثانية على القدر المتيقن من المخرج ، وهو المقدار الّذي يكون الخاصّ فيه حجة فكذلك في الأولى.

فان قيل : إن المخرج في الأولى هو المعنون بعنوان الخاصّ واقعا ، فيصير العام معنونا بعنوان غير الخاصّ ، فإذا اشتبه ذلك العنوان ، فعنوان العام أيضا غير محرز ، فلا يجوز التمسك بالعامّ.

قلنا : المخرج في الثانية أيضا نفس المراد الواقعي من الخاصّ ، ولازم ذلك أيضا التوقف.

والجواب عن أصل الإشكال أن الكلام (تارة) في الجمع بين دليلين ، وتعيين مدلولهما بحسب الواقع ونفس الأمر. و (أخرى) في الجمع بين حجتين.

أما في المقام الأول فنقول : المخرج هو المعنون بعنوان الخاصّ واقعا ، بلا دخل للعلم فيه ، من غير فرق في ذلك بين الشبهتين.

وأما في المقام الثاني فنقول : الخاصّ المبين مقيد للعام ، فيما يكون ظهوره فيه مستحكما ، وهو نفس العنوان الواقعي ، فيكون كالمتصل ، ولازمه عدم حجية العام في المصداق المردد بين العام والخاصّ ، بخلاف الخاصّ المجمل ، فانّه لا يقيد العام إلا فيما يكون ظهوره فيه مستحكما ، وهو المقدار المتيقن ، ولا يكون له ظهور في الزائد ، حتى يقال بتقييد العام بذلك في الواقع.

(٢٢٠) قد يقال : إن الحكم الظاهري غير ملازم لجعل الشك قيدا للموضوع ،

الفرد المشكوك الفسق واجب الإكرام ، ولو كان فاسقا في الواقع ، وبين عدم وجوب إكرام كل فاسق في الواقع ، كما هو مفاد المخصص ، فالفرد المشكوك ـ لو كان عادلا ـ يجب إكرامه بحكم العموم ، ولو كان فاسقا لا يجب بحكم المخصص. وتعيين أن الفرد المذكور هل هو عادل أو فاسق ليس على عهدة أحد الدليلين ، بل قد يكون المتكلم بكلا الدليلين أيضا شاكا ، فلا معنى للتمسك بأصالة العموم لتعيين مراده ، كما هو واضح.

______________________________________________________

بل يمكن جعل الحكم في حال الشك ، كما في الأمارات ، فإذا كان ذات الخاصّ بحسب الواقع موضوعا لحكم بمقتضى دليله ، وفي حال الشك في ذلك الحكم محكوما بحكم آخر بمقتضى دليل العام ، فذلك حكم ظاهري مجعول في حال الجهل بالواقع ، لا بمعنى أخذ موضوع العام العنوان الشامل له ، مع وصف كونه مشكوك الحكم ، حتى يقال باستحالة لحاظ المتصف بالشك في الحكم في عرض الذات ، لأنه مرتب على حكمها ، بل الموضوع في العام والملحوظ فيه ليس إلّا ذات المعنون بعنوان العام. وإطلاقه يقتضي سريانه إلى جميع حالاتها ، ومنها حال الشك في شمول حكم آخر لبعض افرادها مثلا.

لكنه مخدوش : بأن الإطلاق يقتضي سريان الحكم إلى حالات الموضوع ، مع قطع النّظر عن الحكم المجعول. واما الحالات الطارئة عليه ـ بلحاظ ذلك الحكم ـ فلا يشملها الإطلاق. ومعلوم أن الشك في شمول حكم المخصص لفرد شك في كونه محكوما بحكم العام ، وهو غير مشمول للإطلاق.

وأما جواز التمسك بالعامّ في المجمل المفهومي ، فلان العام بمدلوله وإن لم يشمل حال الشك في نفسه ، لكن أصالة العموم أصل موضوعها ليس إلّا الشك في خروج فرد منه وعدمه ، وبها يجعل حكم ظاهري للفرد المشكوك فيه. وأما في الشبهة المصداقية فليس شك بإطلاقه الأصولي ، إلا أن يقال إن شمول العام ـ لحالات الافراد في مقام الظهور والدلالة ـ وإن كان تابعا لشموله لذات الفرد ، لكن في مقام الحجية لا تبعية له ، ويمكن التفكيك. وفيه ما لا يخفى.

وبعبارة أخرى بعد خروج الفساق في الواقع من قوله أكرم العلماء ، تبقى حجية العام بالنسبة إلى العلماء الغير الفساق ، فكأنه ورد من أول الأمر كذلك ، فكما أنه لو ورد من أول الأمر مقيدا بعدم الفسق ـ إذا شككنا في عدالة فرد من العلماء وفسقه ـ لم يكن للتمسك بالعموم مجال ، كذلك لو ورد المخصص بعد صدور العام بصورة العموم. نعم لو ظهر ـ من حال المتكلم أن تكلمه بالعموم مبنى على الفحص عن حال افراده ، ووضوح أنه ليس من بينها ما ينطبق عليه عنوان الخاصّ ـ صح التمسك بالعموم ، واستكشاف أن الفرد المشكوك فيه ليس داخلا في الخاصّ. وهذا في المخصصات اللبية غالبا. وقد يتحقق في اللفظية أيضا ، لكن بشرط كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه ، نظير الدليل على جواز لعن بنى أمية ، والأدلة الدالة على حرمة سب المؤمن. وأما إذا كان المخصص أخص مطلقا ، فلا مجال لما ذكرنا قطعا ، ضرورة أنه لو كان حال افراد العام مكشوفة لدى المتكلم ، وانه لا ينطبق على أحد منها عنوان المخصص ، لكان التكلم بالدليل الخاصّ لغوا.

ومما ذكرنا يظهر أنه ليس المعيار في عدم جواز التمسك كون المخصص لفظيا ، كما أنه ليس المعيار في الجواز كونه لبيا ، بل المعيار ما ذكر فتأمل فيه.

(تنبيه)

بعد ما عرفت سقوط العام عن الاعتبار ، فيما شك في انطباق عنوان المخصص ، من جهة الشبهة في المصداق ، فالمرجع في الفرد المشكوك فيه إلى الأصل المنقح للموضوع ـ لو كان ـ وإلّا فإحدى القواعد الأخر :

من البراءة أو الاحتياط أو التخيير ، حسب اختلاف المقامات وهذا لا إشكال فيه ، كما أنه لا إشكال في أنه لو كانت له حالة سابقة مع حفظ وجوده ، وشك في بقائها ، يحكم بواسطة الاستصحاب بكونه محكوما بحكم العام أو الخاصّ (٢٢١) وإنما الكلام في أنه لو لم تكن له حالة سابقة مع حفظ وجوده ، فهل يكفى استصحاب العدم الأزلي المتحقق بعدم الموضوع ، في جعله محكوما بحكم العام أولا؟ مثلا إذا شك في امرأة انها قرشية أولا ، فهل يصح استصحاب عدم قرشيتها ، والحكم بان الدم الّذي تراه بعد الخمسين محكوم بالاستحاضة أولا؟

قد يقال بالصحّة نظرا إلى ان الباقي تحت العام لم يكن معنونا بعنوان خاص ، بل يكفى فيه عدم تحقق العنوان ، وعدم الوصف لا يحتاج إلى الموضوع الخارجي. ولذا قالوا إن السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع ، بخلاف الموجبة فالمرأة الموجودة لم تكن بقرشية قطعا ، فان النسبة بينها وبين قريش تتوقف على تحقق الطرفين. وعلى هذا كان إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي ـ في غالب الموارد إلا ما شذ ـ ممكنا.

وفيه ان الأثر الشرعي لو كان مترتبا على عدم تحقق النسبة ، أو على عدم وجود الذات المتصفة ، أو على عدم الوصف للذات ـ مع تجريدها عن ملاحظة الوجود والعدم ـ لصح الاستصحاب ، لتحقق الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب. وأما لو كان الأثر مترتبا على عدم الوصف للموضوع ، مع عناية الوجود الخارجي ، فلا يمكن الاستصحاب الا

______________________________________________________

(٢٢١) مثل ان يكون الفرد قبل ورود العام والخاصّ محكوما بحكم العام بدليل آخر ، فيستصحب حكم العام ، أو محكوما بحكم الخاصّ كذلك ، فيستصحب حكم الخاصّ.

بعد العلم بان الموضوع ـ مع كونه موجودا في السابق ـ لم يكن متصفا بذلك الوصف (٢٢٢). واستصحاب عدم النسبة إلى حين وجود الموضوع ـ أو استصحاب عدم تحقق الموضوع المتصف كذلك ، أو استصحاب عدم الوصف للذات ، مع عدم ملاحظة الوجود والعدم ، كذلك ـ لا يثمر في إثبات السالبة التي فرضناها موضوعة للأثر إلا بالأصل المثبت. ولا يبعد كون المثال من قبيل الأول.

(تذنيبات)

(الأول) أنه لو أخذ في موضوع حكم رجحانه واستحبابه ، أو جوازه من حيث هو ، كموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، وكإطاعة الوالدين

______________________________________________________

(٢٢٢) الظاهر أنه لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب لو كان الأثر مترتبا على العدم ، بنحو ليس الناقصة ، لعدم اليقين بوجود الموضوع وعدم المحمول في السابق ، إنما الإشكال فيما إذا كان مترتبا على الوجود بنحو كان الناقصة ، وأردنا نفيه باستصحاب العدم ، كما في مثال القرشية ، على تقدير كون الأثر لقرشية المرأة الموجودة ، فانه قد يقال بجواز استصحاب العدم الأزلي لنفي أثر الوجود ، حيث أن نفي المحمول المترتب على الموضوع الموجود ـ كما يصح مع وجود الموضوع ـ كذلك يصح مع نفي الموضوع أيضا.

لكن الظاهر عدم الجريان فيه أيضا ، لأن النفي وإن كان صادقا بنفي الموضوع ، لكن اللازم في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة. والسالبة بانتفاء الموضوع التي هي المتيقنة ، غير السالبة بانتفاء المحمول التي هي المشكوكة. نعم مقتضى بقاء نفي المحمول ـ مع العلم بوجود الموضوع ـ نفي المحمول فقط. لكن ذلك بحكم العقل ، ولا يثبت إلا على القول بالأصل المثبت ، لأن الموضوع موجود بالوجدان والمحمول مستصحب من الأزل ، فتثبت السالبة بانتفاء الموضوع لو كان المثبت حجة.

وأمثال ذلك ، فلا بد ـ في الاستدلال بدليل ذلك الحكم ـ من إثبات رجحان ذلك الموضوع أو جوازه ، ولا يمكن أن يستكشف ذلك من عموم الدليل المذكور ، فان التمسك بالعامّ يتوقف على إحراز موضوعه. وهذا واضح ، لكنه نسب إلى بعض التمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ، للحكم بصحة الوضوء والغسل المنذورين بمائع مضاف لو شك في صحته وبطلانه. وربما يؤيد ذلك ما ورد من صحة الإحرام قبل الميقات ، والصيام في السفر إذا تعلق بهما النذر ، ويؤيد أيضا حكمهم بصحة النافلة في وقت الفريضة إذا تعلق بها النذر.

والحق أنه لا يجوز التمسك بالعامّ فيما شك من غير جهة تخصيصه ، والوضوء والغسل بالمائع المضاف لو كانا باطلين ، لم يلزم تخصيص في دليل النذر ، فكيف يستكشف صحتهما من عموم دليل النذر؟

وأما صحة الصوم في السفر بعد النذر ، والإحرام قبل الميقات كذلك بعد وجود الدليل على ذلك ، فبالجمع بين الدليل المفروض ودليل الوفاء بالنذر إما باستكشاف رجحانهما الذاتي (٢٢٣) ، وإنما المانع في تعلق الأمر الاستحبابي أو الوجوبيّ بالعنوان الأولى ، وإما بصيرورتهما راجحين بنفس النذر ، بعد ما لم يكونا كذلك ، لكشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح ملازم لتعلق النذر بهما ، وإما بالالتزام بالتخصيص في عموم دليل النذر المقتضى لعدم انعقاده إلا فيما إذا كان المنذور راجحا. وعلى الأخير يقصد التقرب بامتثال امر النذر ، ولا يضر تحقق القدرة بنفس الأمر ، كما حقق في محله.

______________________________________________________

(٢٢٣) هذا على القول بكفاية الرجحان الذاتي في صحة النذر ، ولو كان بالعرض مرجوحا ، لكن الظاهر أنه خلاف الواقع ، بل يشترط الرجحان الفعلي.

وأما صحة النافلة في وقت الفريضة بالنذر ـ وإن قلنا بكونها محرمة بدونه ـ فلان النذر مخرج لها عن موضوع الحرمة ، فلا مانع لرجحانها حينئذ فيعمها دليل الوفاء بالنذر.

ان قلت خروج النافلة المفروضة عن كونها محرمة يتوقف على تعلق الوجوب بها ، وهو يتوقف على خروجها عن كونها محرمة. وهذا دور.

قلت خروجها عن موضوع الحرمة لا يتوقف على تعلق الوجوب الفعلي بها ، بل يكفى كونها بحيث لو لا جهة عروض الحرمة لكانت واجبة ، وهذه القضية التعليقية متحققة بالنذر قطعا (٢٢٤) ووجه خروجها ـ بعد صدق هذه القضية التعليقية ـ عن موضوع الحرمة هو ان النافلة المحرمة هي النافلة التي ـ لو لا عروض جهة الحرمة ـ لكانت متصفة بالنفل الفعلي ، فتدبر فيه جيدا.

(الثاني) انه لو ورد عام ، وعلمنا بعدم كون فرد محكوما بحكم العام ، وشككنا في كونه فردا له حتى يكون تخصيصا ، أو ليس بفرد

______________________________________________________

(٢٢٤) لا يخفى أنه لو لا حكم النذر ووجوب الوفاء به ، لما كانت هذه القضية التعليقية متحققة بنفس النذر قطعا ، فيرجع الأمر بالاخرة إلى توقف الموضوع على الحكم ، ويعود المحذور ، إلا أن يقال بعدم توقف الموضوع على شخص الحكم المجعول في القضية ، بل يكفي في تحقق تلك القضية جعل الحكم لطبيعة النذر. ولا إشكال في تحقق فرد من أفراد الموضوع ببركة جعل الحكم لطبيعة الموضوع ، كما في شمول الحكم للخبر مع الواسطة.

وقد فصّل شيخنا المرتضى (قدس‌سره) في صلاته بين نذر طبيعة النافلة في الوقت ، فحكم بالصحّة في الأول دون الثاني.

والظاهر عدم الفرق بين القسمين ، فان قلنا بإمكان تحقق الموضوع بالنذر ، صحّ في كليهما ، وإلّا فلا يصح في الأول أيضا ، وإن شئت فراجع.

له ، (مثلا) لو علمنا بعدم وجوب إكرام زيد ، وشككنا في أنه عالم حتى يكون تخصيصا في العام المقتضى لوجوب إكرام العلماء ، أو ليس بعالم ، فهل يحكم بواسطة عموم العام بعدم دخول ذلك الفرد المعلوم الحكم في افراد العام أولا؟ يظهر من كلماتهم التمسك بأصالة عموم العام ، واستكشاف أن الفرد المفروض ليس فردا له ، إذ بعد ورود الدليل على وجوب إكرام كل عالم ، يصح أن يقال كل عالم يجب إكرامه ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل من لا يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب.

ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنها لا تنجس المحل (٢٢٥) ، فان كانت نجسة غير منجسة ، لزم التخصيص في قضية كل نجس ينجس. وأمثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا المرتضى (قدس‌سره).

هذا ولكن للتأمل فيه مجال ، لإمكان أن يقال : إن التمسك ـ بأصالة عدم التخصيص عند العقلاء ـ مختص بحال الشك في إرادة المتكلم ، فلو كان المراد معلوما ، وشك في كيفية استعمال اللفظ ، لم نعلم من بناء العقلاء التمسك بها ، وهذا نظير ما يقال من أن الأصل في

______________________________________________________

(٢٢٥) كما استدل به السيد (قدس‌سره) واستدل الشيخ الأنصاري (قدس‌سره) لنجاستها بعدم الرافعية للحدث ، لأن كل طاهر رافع للحدث ، وهذه غير رافعة ، فليست بطاهرة. وأيضا استدل في المكاسب لملكية المأخوذ بالمعاطاة بعموم عدم جواز التصرف في ملك الغير ، حيث يجوز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

وكيف كان فرق بين المقام وبين التمسك بأصالة الحقيقة ، مع القطع بالمراد والشك في الوضع ، فان المقام يمكن إرجاع الشك فيه إلى الشك في المقصود من العام ولو لبا.

الاستعمال الحقيقة عند تمييز المعنى الحقيقي من المجازي ، والشك في إرادة المعنى الحقيقي. وأما لو علمنا بمراد المتكلم ، ولم نعلم بأنه معنى حقيقي للفظ أو مجازي ، فبناء المشهور على عدم التمسك بأصالة الحقيقة.

وبالجملة يمكن التفكيك بين الموردين في التمسك ، وبعد إمكان ذلك يكفى في عدم جواز التمسك الشك في بناء العقلاء.

(الثالث) أن الحكم المتعلق بالعامّ إذا علل بعلة ، لو علم بعدم العلة في بعض افراد العام ، يقيد مورد الحكم بغيره. وأما لو شك في ذلك ، فيتمسك بظاهر العموم ، ويستكشف وجود العلة في الافراد المشكوك فيها. ومن هنا علم أن تقييد مورد الحكم بواسطة العلة المنصوصة ليس بمثابة ورود موضوع الحكم مقيدا من أول الأمر ، فلو قال أكرم العلماء العدول ، لم يصح لنا التمسك به في مشكوك العدالة والفسق. وأما لو قال أكرم العلماء فانهم عدول ، فلو شككنا في عدالة فرد ، نحكم بعدالته بحكم القضية ، فان الظاهر منها تحقق العدالة في كل فرد من العام.

(فصل في التمسك بالعامّ)

(قبل الفحص عن المخصص)

هل يجوز التمسك بالعامّ قبل الفحص عن مخصصه؟ فيه خلاف ، الأقوى عدم الجواز ، لعدم سيرة العقلاء على التمسك ، ما دام العموم في معرض أن يكون له مخصص ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به ، ولا أقل من الشك. ويكفى ذلك في عدم الحجية نعم العمومات التي ليست في معرض ذلك ـ كغالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة ـ لا شبهة

في أن السيرة على التمسك بها بلا فحص عن المخصص ، وهذا مما لا ينبغي الإشكال فيه.

إنما الإشكال في أن بناءهم على الفحص في القسم الأول هل هو من قبيل الفحص عن المعارض ، كما يجب الفحص عن معارض الخبر الجامع لشرائط الحجية ، أو من جهة إحراز شرط الحجية؟ لا يبعد أن يكون الفحص من قبيل الثاني (٢٢٦) ، فانه بعد ما يرى من حال المتكلم ذكر قرائن كلامه غير متصلة به غير مرة ، فحال المخصص المنفصل في كلامه كحال المتصل في كلام غيره ، فكما أنه لا يجوز التمسك بالعامّ قبل إحراز عدم المخصص المتصل إما بالعلم أو بالأصل ، فكذلك لا يجوز التمسك به قبل إحراز عدم المخصص المنفصل في كلام المتكلم المفروض. فلما كان الأصل غير جار الا بعد الفحص عن مظان الوجود ، يجب الفحص عن المخصص.

وتظهر الثمرة فيما إذا اطلع على مخصص مردد بين الأقل والأكثر ، فعلى الأول يؤخذ بالمتيقن من التخصيص ، ويرجع إلى عموم العام في غيره ، وعلى الثاني يسرى إجماله إلى العام. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك.

______________________________________________________

التمسك بالعامّ

قبل الفحص عن المخصص

(٢٢٦) قد مرّ أن الأقوى كونه من قبيل الأول ، وأن البناء ـ على إتيان حجة أقوى على خلاف ما أقام عليه الحجة أولا ـ لا يخرج العام عن الحجية.

(فصل في الخطاب الشفهي)

هل الخطابات الشفهية من قبيل (يا أيها الذين آمنوا) تختص بالمشافهين والحاضرين لمجلس الخطاب ، أو تعم الغائبين والمعدومين؟ والّذي يمكن أن يكون محلا للكلام وموردا للبحث بين الاعلام أمور :

(الأوّل) انه هل يصح خطاب المعدومين والغائبين بالألفاظ الدالة عليه ، وتوجيه الكلام نحوهم أم لا؟

(الثاني) انه هل يصح تعلق الحكم بالمعدومين ، كما يصح تعلقه بالموجودين أم لا؟

(الثالث) أنه هل الألفاظ المشتملة على الخطاب تعم غير المشافهين ، بعد الفراغ عن الإمكان أم لا؟ والنزاع على الأولين عقلي ، وعلى الثالث لفظي.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا إشكال في عدم صحة تكليف المعدوم فعلا على نحو الإطلاق ، كما أنه لا إشكال في عدم صحة توجيه الكلام نحوه بداعي التفهيم فعلا ، سواء كان بالأداة الدالة على الخطاب أم بغيرها. وهذا مما لا يحتاج إلى بيان وبرهان. وأما إنشاء التكاليف فعلا لمن يوجد بملاحظة زمان وجوده واستجماعه لسائر شرائط التكليف ، فهو بمكان من الإمكان (٢٢٧) ، نظير إنشاء الوقف فعلا للطبقات الموجودة بعد ذلك في الأزمنة اللاحقة ، بملاحظة ظرف وجودها ، كما أن توجيه الخطاب نحو

______________________________________________________

(٢٢٧) بمعنى أن يكون وجود المأمور وشرائط التكليف مفروض الوجود عند الإنشاء كما مر في الواجب المشروط. ولا يخفى أنه على ما اختاره في الكفاية من أن

المعدوم ـ لا لغرض التفهيم ، بل لأغراض أخر بعد تنزيله منزلة الموجود ـ خال عن الإشكال ، كمن يخاطب ولده الميت أو أباه الميت تأسفا وتحسرا ، ولا يوجب التجوز اللغوي في الأداة الدالة على الخطاب ، كما لا يخفى.

والظاهر أن توجيه الخطاب نحو المعدوم ـ حين الخطاب ، بملاحظة ظرف وجوده ، وصيرورته قابلا للمخاطبة ـ لا إشكال فيه ، فيكون حال النداء المشروط بوجود المنادى بالفتح ، حال الوجوب المشروط بوجود من يجب عليه. نعم نفس هذا النداء ـ الصادر في زمان عدم وجود المنادى بالفتح ـ لا يمكن أن يكون موجبا لتفهيمه حتى في زمان وجوده ، لعدم ثباته وبقائه في الخارج إلى ذلك الزمان ، بل يحتاج إلى شيء آخر يحكى عنه ، كالكناية التي تبقى إلى حال وجوده ، ومثل ذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو كان الكلام في تكليف المعدوم على نحو الإطلاق ، وكذا خطابه بغرض التفهيم فعلا ، فلا إشكال في عدم

______________________________________________________

الإرادة عبارة عن مرتبة خاصة من الشوق ، فيمكن تعلّقها فعلا بأمر استقبالي. واختار ذلك في الواجب المعلق. ولا فرق بين أن يكون الفعل استقباليا من قبل المكلف ، أو من جهات أخر مع وجود المكلف ، فان المناط في الاستحالة ـ على القول به ـ عدم إمكان تحقق المراد فعلا ، من غير فرق في منشأ ذلك. فما اختاره في المقام من الاستحالة لا يلائم مختاره في الواجب المعلق فراجع.

نعم لا يبعد عدم انتزاع الوجوب إذا كان المكلف معدوما إلا بعد وجوده ، كما في ملك الوقف ، فانه وإن أنشأ الواقف فعلا الملك لجميع البطون اللاحقة ، لكن لم تنتزع الملكية لكل بطن الا بعد وجوده. ولذا لا تنافي بين مالكية البطن الموجود وبين مالكية البطون اللاحقة ، فافهم.

إمكانه عقلا. وان كان على نحو آخر مر بيانه ، فالظاهر أيضا عدم الإشكال في إمكانه. وأما دلالة ألفاظ الكتاب العزيز على شمول التكليف والخطابات للمعدومين أيضا على نحو ما تصورنا ، فلا يبعد دعواها ، حيث أنزل لانتفاع عامة الناس إلى يوم القيامة ، وما كان هذا شأنه بعيد جدا أن تكون خطاباته ـ والتكاليف المشتمل هو عليها ـ مختصة بطائفة خاصة ، ثم علم من الخارج اشتراك سائر الطوائف معها في التكليف ، فتدبر.

ثم إنهم ذكر والعموم الخطابات الشفهية ثمرتين :

(الأولى) حجية ظهور خطابات الكتاب لنا أيضا ، كما انها حجة للمشافهين.

وفيه (أولا) أن هذا مبنى على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه ، كما يظهر من المحقق القمي قدس‌سره وقد ذكر في محله عدم صحة المبنى.

و (ثانيا) أنه لا ملازمة بين كون المشافهين مخصوصين بالخطاب وكونهم مخصوصين بالإفهام ، بل الناس كلهم مقصودون بالإفهام إلى يوم القيامة ، وان قلنا بعدم شمول الخطاب إلا لخصوص المشافهين.

(الثانية) صحة التمسك بإطلاق الكتاب لمن وجد وبلغ منا ، وان كان مخالفا في الصنف لجميع المشافهين.

وتقريب ذلك أنه لو خصصنا الخطابات الواردة في القرآن العزيز بهم ، فلا بد ـ في إثبات التكاليف الواردة فيه لنا ـ من التمسك بدليل الاشتراك ، وهو لا ينفع إلّا بعد إحراز كل ما له دخل في التكليف المتوجه إليهم ، فإذا احتملنا ان التكليف المتوجه إليهم كان مشروطا بشرط. كانوا واجدين له دوننا ، فلا يثمر دليل الاشتراك في التكليف.

(فان قلت) يدفع الشرط المحتمل بأصالة الإطلاق ، لأن المفروض عموم حجيتها بالنسبة إلينا ، فيثبت التكليف بضميمة دليل الاشتراك.

(قلت) أصالة الإطلاق لا تجري بالنسبة إلى الأمر الموجود الّذي يحتمل دخله في التكليف. والسر في ذلك أنه على تقدير شرطيته لا يحتاج إلى البيان ، إذ لا يوجب عدم بيان شرطيته ، على تقدير كونه شرطا نقضا للغرض.

وفيه أنه ليس في الخارج امر يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر عمرهم. ولا يوجد عندنا (٢٢٨). وحينئذ لو احتملنا اشتراط شيء يوجد في بعضهم دون آخر ، أو في بعض الحالات دون أخرى ، يدفعه أصالة الإطلاق والله اعلم بالصواب.

(فصل في العام المتعقب بالضمير)

هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده يوجب تخصيصه به أم لا؟ فيه خلاف ولا بد من أن يكون محل الخلاف ما إذا كان هناك

______________________________________________________

(٢٢٨) لا يقال : نفس التمكن من الحضور عند الإمام عليه‌السلام أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصف لو احتملنا دخله في حكم لا يصح التمسك لنا بالإطلاق كما في صلاة الجمعة.

لأنا نقول : لا إشكال في عدم تمكن الحاضرين عند الخطاب من التشرف بالحضور في جميع الحالات وفي كل جمعة مثلا ، فيصح التمسك بالإطلاق أيضا ، نعم لو احتمل كون الوصف نفس وقوع المكلف في زمان بسط يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام فلا يصح لنا التمسك بالإطلاق ، لكن عدم دخله مقطوع به فافهم.

قضيتان إحداهما ذكر فيها اللفظ الدال على العموم ، والأخرى ذكر فيها ضمير يرجع إليه ، مع إمكان شمول الحكم في القضية الأولى لجميع افراد العام ، والعلم بعدم شموله لها في الثانية.

مثال ذلك قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ـ إلى قوله تعالى ـ وبعولتهن أحق بردهن) حيث ان الحكم في القضية المشتملة على الضمير متعلق بخصوص الرجعيات ، فيدور الأمر بين التصرف في العام بحمله على البعض ، أو التصرف في الضمير بإرجاعه إلى بعض مدلول ما ذكر سابقا (٢٢٩) ، مع كون الظاهر منه ان يرجع إلى ما هو المراد من اللفظ الأول.

والحق أن يقال لو دار الأمر بين أحد التصرفين في الكلام ، تصير القضية المذكورة أولا مجملة ، لأن القضيتين لاشتمال الثانية على الضمير الراجع إلى الموضوع في الأولى ـ في حكم كلام متصل واحد. وقد ذكر في محله : أنه لو ذكر في الكلام الواحد ما يصلح لصرف سابقه عن ظاهره يصيره مجملا. ولكن يمكن أن يقال : إن مجرد القطع ـ باختصاص الحكم المذكور في الثانية ببعض افراد العام ـ لا يوجب التصرف في إحدى

______________________________________________________

فصل في العام المتعقب بالضمير

(٢٢٩) لا يقال : ان الأصل في طرف العموم سليم عن المعارض ، لعدم جريانه في طرف الضمير ، حيث أن المراد منه معلوم ، وإنما الشك في كيفية الاستعمال ، وأصالة الحقيقة لا تجري الا في الشك في المراد.

لأنا نقول : لا يجري في كيفية المراد إذا كان الموضوع له أيضا مشكوكا فيه ، وأما إذا كان المعنى الحقيقي معلوما وكذلك المجازي ، فالظاهر جواز التمسك به ، كما لو قال : (أكرم هذا العالم) وكان المخاطب شاكا في عالميته ، فيتمسك بأصالة الحقيقة لإثبات عالميته ، وترتب آثاره عليه.

القضيتين في مدلولها اللفظي ، بل يصح حمل كلتا القضيتين على إرادة معناهما اللغوي في مرحلة الاستعمال ، مع الالتزام بخروج بعض افراد العام في الثانية عن الإرادة الجدية ، كما أنه لو كان في القضية الثانية الاسم الظاهر مكان الضمير ، مثل (وبعولة المطلقات) فان مجرد العلم ـ بخروج بعض الافراد من القضية الثانية ـ لا يوجب الإجمال في الأولى ، فكذلك حال الضمير من دون تفاوت (٢٣٠) فتدبر جيدا.

(فصل في تخصيص العام بالمفهوم المخالف)

اختلف في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف ، بعد الاتفاق على الجواز في المفهوم الموافق. ومجمل الكلام فيه أن أظهر ما قيل فيه بالمفهوم القضية الشرطية ، وقد قلنا في محله أن ظهورها في مدخلية الشرط لثبوت الحكم مما لا يقبل الإنكار. وأما دلالتها على الحصر ، فهي قابلة للإنكار. والمدعي للمفهوم لا بد له من ادعاء دلالتها على الحصر ، وإن سلمت هذه الدلالة ، فلا إشكال في أنها ليست بالمرتبة التي لا يصلح رفع اليد عنها بواسطة عموم وإطلاق ونحوهما.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا ورد عام وقضية شرطية دالة بمفهومها على خلاف الحكم الثابت في العام لبعض افراده ، فان كان المفهوم أخص

______________________________________________________

(٢٣٠) نعم لو قيل بلزوم رجوع الضمير إلى ما هو المقصود من المرجع لبا ، فيجري فيه النزاع. ويمكن أن يقال بالإجمال ، لكن الظاهر أنه لو أريد منه ذلك دون المراد الاستعمالي ، فذاك سنخ من الاستخدام ، لأن الضمير بمنزلة تكرار اللفظ كما صرّح به دام ظله.

مطلقا فالحق تخصيص العام به ، فان التعارض وقع بين عموم العام ودلالة القضية على إناطة الحكم بالشرط ، ولو لم نقل بالحصر ، فان العام يدل على ان الحكم لكل فرد من دون إناطة بشيء ، ومقتضى القضية إناطته به ، وظهور القضية في ذلك أقوى من ظهور العام كقوله عليه‌السلام (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء) وقوله عليه‌السلام (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء) وأما إن كان بينهما عموم من وجه ، كالدليل على عدم انفعال الجاري مطلقا وما دل على توقف عدم الانفعال على الكرية ، فالحق رفع اليد عن المفهوم ، لأن العام المذكور يعارض حصر الشرط لا أصل الاشتراط ، لعدم المنافاة بين كون الكرية شرطا ، وكون الجريان شرطا آخر. وقد عرفت أن دلالة القضية الشرطية على حصر العلة ، على فرض الثبوت ، ليست قوية. وحينئذ فهل يرفع اليد عن المفهوم مطلقا ، بحيث لو احتملنا سببا ثالثا لعدم الانفعال لا تكون القضية الشرطية دالة على نفيه ، أو يرفع اليد في خصوص ما ورد الدليل وجهان.

(فصل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد)

هل يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر أم لا؟ مقتضى القاعدة هو الأول ، لأن الخاصّ بواسطة دليل اعتباره يصلح لأن يكون قرينة على التصرف في العام ، بخلاف العكس. وكون العام قطعي الصدور لا ينافى جواز رفع اليد عن عمومه ، بعد ورود الخاصّ المعتبر ، لأن هذا الجمع مما يشهد بصحته العرف. وقد ادعوا سيرة الأصحاب على العمل باخبار الآحاد في قبال العمومات الكتابية إلى زمن الأئمة عليهم‌السلام.

هذا ولكن العمدة في المقام الاخبار الكثيرة المتواترة الدالة على أن

الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار ، أو انها زخرف ، أو انها مما لم يقل به الإمام عليه‌السلام.

والجواب عنها ـ بعد القطع بورود اخبار كثيرة مخالفة لعمومات الكتاب وإطلاقه منهم عليهم‌السلام ـ بحمل الاخبار المانعة من الأخذ بمخالف الكتاب على غير المخالفة على نحو العموم والخصوص ومثله. كما إذا ورد الخبر في مقابل الكتاب بحيث لا يكون بينهما جمع عرفي وعدم وجود مثله ـ في الاخبار التي بأيدينا ـ لا ينافى وجوده في ذلك الزمان ، وما وصل بأيدينا إنما يكون بعد تهذيبه مما يخالف الكتاب بالمعنى الّذي ذكرنا. ويمكن حمل مورد الاخبار المانعة على ما لا يشمله دليل الحجية ، مثل ما ورد في أصول العقائد أو خبر غير الثقة (٢٣١).

(فصل في حمل العام على الخاصّ)

العام والخاصّ إما أن يكونا متقارنين ، واما ان يكونا مختلفين بحسب التاريخ. وعلى الثاني إما ان يكون العام مقدما على الخاصّ أو بالعكس. لا إشكال في التخصيص في الصورة الأولى ، كما أن الظاهر كذلك في الصورتين الأخيرتين لو كان ورود الثاني قبل حضور وقت العمل بالأول ، فان الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل ـ وإن لم يكن بمستحيل بناء على إمكان وجود المصلحة في جعل حكم ، ونسخه

______________________________________________________

(٢٣١) الظاهر من الاخبار الناهية التحاشي عن أصل صدور الخبر المخالف مضمونا للكتاب ، لا الخدشة في سنده ، وبذلك يقطع بأن مخالفة العام والخاصّ خارج عن مدلولها ، وان كان المراد بها غير معلوم.

قبل زمان العمل به ـ لكنه بعيد ، بخلاف التخصيص ، فانه شائع متعارف ، فيحمل الكلام عليه.

وأما لو كان ورود أحدهما بعد مضي زمان العمل بالأول ، فان كان المقدم خاصا ، فالعام المتأخر يمكن ان يكون ناسخا له ، ويمكن أن يكون الخاصّ المقدم مخصصا للعام. وتظهر الثمرة في العمل بعد ورود العام ، فانه على الأول على العام ، وعلى الثاني على الخاصّ. والظاهر أيضا البناء على التخصيص لشيوعه وندرة النسخ.

وأما لو كان المقدم عاما والمؤخر خاصا ، فيشكل الحمل على التخصيص من حيث استلزام ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو وإن لم يكن محالا من جهة إمكان وجود مصلحة في ذلك ، لكنه بعيد نظير النسخ قبل حضور وقت العمل. وأشكل من ذلك حمل الخاصّ الوارد ـ في اخبار الأئمة عليهم‌السلام ـ المتأخر عن العام على النسخ مع كثرته. وكذلك حال المقيدات الواردة في كلامهم عليهم‌السلام بالنسبة المطلقات ، فان الالتزام بالنسخ في جميع هذه الموارد الكثيرة في غاية الإشكال (٢٣٢).

نعم حمل الخاصّ المتأخر عن العام ـ في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على النسخ ليس ببعيد ، فيرجح على التخصيص ، لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا محيص عن حمل الخاصّ المتأخر ـ في كلام

______________________________________________________

(٢٣٢) بل الظاهر أن النسخ كان عند الأئمة (سلام الله عليهم) شيئا منكرا يستوحشون منه ، ولذا قال (سلام الله عليه) : فهل سنة غيّرتها أم شريعة؟ وأيضا لو كان النسخ عند البعض منهم جائزا ، لكان عند الكل جائزا. وهذا لا يصح اسناده إليهم عليهم‌السلام.

الأئمة عليهم‌السلام ـ على التخصيص أيضا ، ولو كان واردا بعد مضي زمان العمل بالعامّ والالتزام ـ بان حكم العام إلى زمان صدور الخاصّ كان حكما ظاهريا للمكلفين ، اقتضت المصلحة أن يجعل لهم ذلك ، ولا يكشف لهم الواقع إلى حين صدور الخاصّ ـ غير بعيد ، بعد العلم بأنه في الشرع أحكام واقعية وظاهرية فتدبر جيدا.

ثم إنه لو بنينا على تقديم التخصيص على النسخ في تمام الصور المذكورة ، فلا إشكال في مجهول التاريخ. وأما لو بنينا على النسخ في الخاصّ المتأخر بعد مضي زمان العمل بالعامّ ، فلو شك في تاريخهما أو علم تأخر الخاصّ في الجملة ، لكنه لم يعلم أنه ورد بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبله ، فالوجه الرجوع إلى الأصول العملية ، لأن الشرط في الحمل على التخصيص عدم مضي زمان العمل بالعامّ ، كما أن الشرط في النسخ مضي زمان العمل به. وما لم يحرز أحد الشرطين لا يجوز الحمل على أحدهما. ومجردا غلبية التخصيص وندرة النسخ ، وان كان يوجب الظن بالأول دون الثاني ، لكنه لا دليل على اعتبار هذا الظن (٢٣٣) والله العالم.

______________________________________________________

(٢٣٣) ولا يثمر استصحاب عدم المجهول إلى ما بعد زمان المعلوم ، لأن ذلك لا يثبت عنوان التأخر. اللهم إلا أن يقال بعدم الحاجة إلى العنوان ، بل يكفي في النسخ عدم ورود الخاصّ قبل زمان العمل بالعامّ ، مع وجوده بعد فافهم.

(المطلق والمقيد)

فصل فيما وضع له بعض الألفاظ

(فمنها) اسم الجنس كالإنسان والبقر والفرس والضرب والضارب وغير ذلك مما هو نظيرها.

اعلم أن المفهوم العام قد ينقسم إلى أقسام خارجية (٢٣٤) كقولنا الإنسان اما أبيض واما أسود ، وقد ينقسم إلى أقسام ذهنية ، كقولنا الإنسان إما مطلق أي غير مشروط بشيء ، أو مقيد بشيء ، أو مقيد بعدم شيء. والمقسم وان كان في الواقع القسم الأول من هذه الأقسام (٢٣٥)

______________________________________________________

المطلق والمقيد :

(٢٣٤) لا يقال : إن التقسيم إلى الخارجية إنما يرد على ما هو موجود في الذهن وهذا محال ، وأما لزوم ذلك ، فلان المقسم إن كان في عرض الأقسام موجودا في الخارج ، كان قسما منها.

لأنه يقال : إن الموجود في الذهن ـ بعد إلغاء وجوده الذهني ولحاظه مرآتا ـ ليس إلّا عين ما يتحد مع الخارج ، كما أنه متحد مع الذهن أيضا. نعم لو كان وجوده الذهني ملحوظا استقلالا ، فتقسيمه إلى أقسام خارجية محال.

(٢٣٥) يعني آلة ملاحظة الأقسام ، وإلّا فنفس المقسم بما هو مقسم لا وجود

إلا أنه لم تلاحظ كيفية ثبوته في ذهن اللاحظ ، بل أخذ مرآة لما يتحقق في ذهن آخر.

وقد ينقسم إلى موجود ومعدوم ، والموجود أعم من أن يكون في

______________________________________________________

له في قبال الأقسام ، بل وجوده بوجودها ، سواء في ذلك الذهن والخارج ، فكما أن الجامع بين الخارجيات لا وجود له في الخارج الا بوجودها ، كذلك الجامع بين الأقسام الذهنية. غاية الأمر ان الجامع بين الافراد الخارجية موجود في الذهن ، لكن بحيث لا يلحظ وجوده ، بل هو ملحوظ آلة ومرآتا للخارج.

وأما الأقسام الذهنية ، فلا بد ـ في انتزاع الجامع منها ، ـ من أن يتصور الإنسان الأقسام الذهنية ويوجدها في ذهن فوق الذهن الأولي ، فيرى أن في البين شيء يتحقق مع الجميع ويتحد معها. وهذا الموجود في ذلك الذهن وإن كان في نفسه قسما من الأقسام ، وهو الّذي يعبر عنه بالمطلق ، لأن الطبيعة وجدت في الذهن بلا لحاظ شيء معها. وهذا معنى الإطلاق ، إلا أنه لما لم يلحظ وجوده ، بل تجرّد عنه وعن الخصوصية الشخصية ، فلا يرى به الا أصل الحقيقة الصادقة على جميع الأقسام الذهنية والخارجية.

لا يقال : إن ذلك الموجود في الذهن إن كان قسما من هذه الأقسام ، فكيف يكون مقسما لها؟ وان كان غيرها فهو قسيم لها ، ولا بد لجامع آخر بينه وبينها. وهكذا إلى ما لا نهاية له.

فانه يقال : إن المقسم لا وجود له منفكا عن الأقسام مستقلا بل وجوده عين وجود الأقسام ، لكن يشار إليه بتوسط قسم منها ، كالمعنى الحرفي ، حيث لا استقلال له ولكن يمكن الإشارة إليه بالمعنى الاسمي.

ولا يقال : إنه على هذا يلزم أن يكون معنى أسماء الأجناس غير مستقل كالمعنى الحرفي ، حيث لا يمكن تصوره مستقلا.

لأنه يقال : ما ذكرنا في المقسم لا ينافي استقلال وجوده في الذهن ، لأن الحاجة إلى الحد يخرج الجامع عن الاستقلال ، فهل يقال : الإنسان لا استقلال له في الخارج؟ مع أنه لا يمكن وجوده فيه بدون الحد ، وكذلك في الذهن.

الذهن أو في الخارج ، وكذلك المعدوم ، كما تقول الإنسان إما موجود وإما معدوم ، والموجود إما موجود في الذهن أو في الخارج ، والموجود في الذهن إما كذا وإما كذا ، والموجود في الخارج إما كذا واما كذا.

إذا عرفت هذا فنقول الموضوع له في أسماء الأجناس هو المفهوم المعرى عن الوجود والعدم والذهن والخارج ، فضلا عن كيفية الوجود في الذهن من الإطلاق والتقييد ، وكيفية الوجود في الخارج من الطول والقصر والسواد والبياض ونحو ذلك. والشاهد على ذلك هو الوجدان الحاكم بصحة تقسيم مفاد لفظ الإنسان بنحو ما قسمناه أخيرا ، من دون عناية والله أعلم بالصواب.

و (منها) ـ علم الجنس كأسامة والمشهور انه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعينة بالتعيين الذهني. ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.

واستشكل على هذه المقالة شيخنا الأستاذ قدس‌سره بما محصله : (أنه لو كان كذلك لما صح حمله على الافراد بلا تصرف وتجريد ، ضرورة أن المفهوم ـ مع ملاحظة وجوده في الذهن ـ كلي عقلي لا ينطبق على الخارج ، مع أنا نرى صحة الحمل بلا عناية وتصرف أصلا. على أن وضعه ـ لمعنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية عند الاستعمال ـ لا يصدر عن جاهل ، فضلا عن الحكيم انتهى).

أقول : فيما أفاده نظر ، لإمكان دخل الوجود الذهني على نحو المرآتية في نظر اللاحظ ، كما انه تنتزع الكلية من المفاهيم الموجودة في الذهن ، لكن لا على نحو يكون الوجود الذهني ملحوظا للمتصور بالمعنى الاسمي (٢٣٦) إذ هي بهذه الملاحظة مباينة مع الخارج ، ولا تنطبق على

______________________________________________________

(٢٣٦) وأيضا لو لا ذلك لم يمكن الحكم بأن هذا الّذي في نظرك أو تحبه

شيء ، ولا معنى لكلية شيء لا ينطبق على الخارج أصلا.

إذا عرفت هذا فنقول : إن لفظ أسامة موضوع للأسد بشرط تعينه في الذهن على نحو الحكاية عن الخارج ، ويكون استعمال ذلك اللفظ في معناه بملاحظة القيد المذكور ، كاستعمال الألفاظ الدالة على المعاني الحرفية فافهم وتدبر.

و (منها) ـ النكرة نحو رجل في قوله تعالى : (وجاء رجل أو قولنا (جئني برجل وقد يقال بجزئية الأول وكلية الثاني. أما جزئية الأول فواضحة ، وأما كلية الثاني ، فلان المادة تدل على الطبيعة الكلية ، والتنوين على مفهوم الوحدة ، وهو أيضا كلي ، وضم الكلي إلى الكلي لا يصيره جزئيا ، فمعنى رجل على هذا طبيعة الرّجل مع قيد الوحدة ، وهذا يصدق على افراد الطبيعة المقيدة في عرض واحد. وعدم صدقه على اثنين فصاعدا إنما هو لعدم المصداقية ، كما ان مفهوم الإنسان لا يصدق على البقر مثلا.

هذا ولكن يمكن دعوى كون النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد ، وأنه في كليهما جزئيّ حقيقي.

بيانه أنه لا إشكال في أن الجزئية والكلية من صفات المعقول في الذهن ، وهو إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي وإلّا فكلي ، وجزئية المعنى في الذهن لا تتوقف على تصوره بتمام تشخصاته الواقعية (٢٣٧) ، ولذا لو رأى الإنسان شبحا من بعيد ، وتردد في أنه زيد أو

______________________________________________________

(مثلا) عالم الا مع التجريد ، ونرى بالوجدان عدم الحاجة إلى التجريد ، ولا يكون ذلك الا بكون القيد مأخوذا في الموضوع مرآتا.

(٢٣٧) لا يقال : الشيء ما لم تلحظ معه الخصوصيات الخارجية أو الذهنية

عمرو ، بل إنسان أو غيره ، لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية. وكون أحد الأشياء ثابتا في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن ، فإذا كانت هذه الصورة جزئية كما في القضية الأولى ، فكذلك الصورة المتصورة في القضية الثانية ، إذ لا فرق بينهما إلا في أن التعيين في الأولى واقعي ، وفي الثانية بيد المكلف ، وعدم إمكان وجود الفرد المردد في الخارج ، بداهة أن عدم معقولية كون الشيء مرددا بين نفسه وغيره ـ لا ينافى اعتبار وجوده في الذهن ، كما يعتبر الكسر المشاع مع عدم وجوده بوصف الإشاعة في الخارج.

و (منها) ـ المعرف باللام والمعروف بين أهل الأدب أن اللام ـ أو الهيئة الحاصلة منها ومن المدخول ـ موضوعة لتعريف الجنس وللعهد بأقسامه ـ من الذهني والذكرى والحضوري ـ وللاستغراق. والظاهر أن أقسام العهد راجعة إلى معنى واحد ، وهو المعهودية في الذهن ، غاية الأمر أن منشأ العهد قد يكون هو الذّكر ، وقد يكون الحضور ، وقد يكون غيرهما.

______________________________________________________

التي بلحاظها يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، لا يصح الحكم عليه بأنه جزئي ، ولا خصوصية يصح لحاظها في الفرد المردد حتى يصح الحكم بجزئيته ، لأن الخصوصية الملحوظة ان كانت هي الخارجية ، فبالعرض لا واقعية له في الخارج ، وإن كانت هي الخصوصية الذهنية ، فلازم ذلك ان يكون وجوده الذهني ملحوظا فيه باللحاظ الاستقلالي ، وهو كما ترى.

لأنا نقول : إن الخصوصية الملحوظة هي الخصوصية الذهنية ، لكن لا يلازم دخل الوجود الذهني ولحاظه مستقلا في الملحوظ ، لأن نفس الموجود في الذهن والمخلوق فيه ـ وإن لم يكن له خارج كالفرضيات ، مع قطع النّظر عن وجوده ـ شيء قد يمتنع عند العقل صدقه على كثيرين ، وقد لا يمتنع. والفرد المردد من قبيل الأول ، وقد مر نظيره في تصوير الجزئي قبل وجوده ، وقلنا بان الذهن يخلق شيئا قبل وجوده ، ويجرّده

بل يمكن أن يقال إن مرجع الجنس والاستغراق أيضا إلى ذلك (٢٣٨) وتوهم ـ أن المعهود الذهني كلي عقلي ، ولا موطن له إلا الذهن ، ولا ينطبق على الخارج ـ مدفوع ، لما مر آنفا في علم الجنس.

ثم إنه قد ظهر أن اسم الجنس وضع للمقسم بين المطلق والمقيد ، وكذا النكرة. وان قلنا بجزئيتها ، إنما الكلام في المقام في أنه ـ عند عدم قرينة على إحدى الخصوصيّتين من الإطلاق والتقييد ـ هل يحتاج إلى مقدمات في الحمل على الإطلاق أم لا؟ قد يقال بالأول.

(بيانه) أنه لا إشكال في أن الأصل ـ في كل كلام صادر عن كل متكلم ـ صدوره بغرض الإفادة وتفهيم المعنى ، ولا يكفى هذا المقدار لتعيين الإطلاق في المقام ، إذ لا يثبت بهذا إلا إرادة الطبيعة المهملة. وقد فرضنا أنها قابلة للإطلاق والتقييد ، فاللازم في المقام إحراز كون المتكلم بصدد بيان تمام مراده الجدي. وبعد إحراز هذه الحالة للمتكلم نقول لو كان للمراد الجدي قيد لكان اللازم ذكره ، فحيث لم يذكر القيد ، يعلم ان المراد بحسب الجد هو المطلق الخالي عن القيد. وعلى هذا فالحمل على الإطلاق بعد الفراغ عن الأصل المتقدم يتوقف على أمور :

(منها) كونه في مقام بيان تمام مراده الجدي.

(ومنها) عدم ذكر قيد في الكلام.

______________________________________________________

عن الوجود الذهني ، ومع ذلك يراه جزئيا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، كالموجود الخارجي إذا تجرّد عن الوجود ، ولا يلحظ إلّا نفس الموجود فتدبر جيدا.

(٢٣٨) لا ما توهم من أن معنى تعريف وضع اللفظ بإزاء الجنس مع تعيّنه وامتيازه في الخارج عما عداه من سائر الأجناس ، وذلك ، لأن الجنس كيف كان ممتاز عما عداه من الأجناس ، من غير فرق بين المعرف وغيره ، فلا معنى للتعريف الا ما ذكرنا.

(ومنها) انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب على قول يأتي. وتأتي الخدشة فيه إن شاء الله تعالى.

هذا ويمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في الحمل على الإطلاق عند عدم القرينة ، بيانه أن المهملة مرددة بين المطلق والمقيد ، ولا ثالث. ولا إشكال أنه لو كان المراد المقيد ، تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة ، وإنما ينسب إلى الطبيعة بالتبع. لمكان الاتحاد ، فنقول لو قال القائل جئني بالرجل أو برجل يكون ظاهرا في أن الإرادة أولا وبالذات متعلقة بالطبيعة ، لا أن المراد هو المقيد. ثم أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتحاد. وبعد تسليم هذا الظهور تسرى الإرادة إلى تمام الافراد. وهذا معنى الإطلاق.

إن قلت ان المهملة ليست قابلة لتعلق الإرادة الجدية بها ، كيف؟ وقد فرضناها مرددة بين المطلق والمقيد. ولا يعقل كون موضوع الحكم مرددا عند الحاكم ، فنسبة الإرادة إلى المهملة عرضية في كل حال ، فيبقى تعيين الإطلاق بلا دليل.

قلت عروض الإطلاق للمهملة ليس كعروض القيد لها في الاحتياج إلى الملاحظة ، وإلّا لزم عدم الحمل على الإطلاق حتى بعد إحراز كونه في مقام البيان ، لعدم الترجيح بعد كونه بمثابة سائر القيود ، فإذا فرضنا عدم دخل شيء سوى المهملة في تعلق الحكم ، يحصل وصف الإطلاق قهرا ، وان لم يكن ملحوظا بنفسه.

إن قلت سلمنا أنه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة للمقيد لكنه يحتاج في نفى هذين أيضا إلى إحراز كونه بصدد البيان.

قلت يمكن نفى كل من الأمرين بالظهور اللفظي ولو لم يحرز كونه

بصدد البيان (٢٣٩) كما لا يخفى على المتأمل. ثم إن وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر بالحمل على الإطلاق ، ما لم يصل إلى حد الانصراف ، سواء قلنا بعدم الاحتياج إلى إحراز كون المتكلم بصدد البيان ـ كما مر بيانه ـ أو قلنا بالاحتياج إليه. أما على الأول ، فواضح وأما على

______________________________________________________

(٢٣٩) اما الاحتمال الأول فمدفوع : بأصالة عدم التقدير ، وهي من الأصول اللفظية. واما الاحتمال الثاني ، فمدفوع بأصالة الحقيقة في الإسناد ، وكل منهما غير محتاج إلى إحراز كون المتكلم بصدد البيان.

لا يقال : على هذا البيان أيضا يحتاج إلى إحرازه ولو بالأصل ، ولولاه لما بقي لدلالة الألفاظ مقام.

لأنه يقال : نعم فرق بين إحراز كون المتكلم بصدد إرادة المعنى من اللفظ وبين إحراز ك ونه بصدد بيان تمام مراده اللبّي بهذا اللفظ ، فان الأول يحتاج إليه في جميع الألفاظ ، ولو لم يحرز ـ ولو بالأصل ـ لا يصح اسناد إرادة المعنى إلى المتكلم أصلا ، بخلاف الثاني ، فانه ـ بعد ما ذكرنا من أصالة عدم القرينة وأصالة الحقيقة ـ لا يحتاج إلى شيء آخر ، لأن مقتضى الأصلين ان الذات بما هي معروضة للحكم ، من دون دخل شيء. ولازم ذلك شمول الحكم لجميع الافراد بمناط تحقق الذات ، ولا نعني بالإطلاق الا ذلك ، فلا يتوهم دخل وصف الإطلاق في الموضوع له على هذا المبنى.

وحاصل الكلام : ان الموضوع له في المطلق نفس الذات المتحققة في المطلق والمقيد بلا دخل شيء حتى وصف الإطلاق ، وسراية الحكم ـ إلى جميع الافراد بنحو الإطلاق ـ مستفادة من اسناد الحكم إلى الذات ، من دون دخل شيء في المطلوب ، ففرق بين كون الموضوع له مقيدا بوصف الإطلاق ، حتى يكون استعمال اللفظ في المقيد ، حتى بنحو تعدد الدال والمدلول ، واستفادة الإطلاق من كيفية الإسناد عند عدم ذكر قيد في المطلوب ، مع كون الموضوع له والمستعمل فيه في المطلق والمقيد غير الذات. غاية الأمر يستفاد القيد من دال آخر.

الثاني ، فلأنه بعد فرض كونه كذلك (٢٤٠) فاللازم ان يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفا عن تمام مراده. وهذا ملازم لصحة حكم المخاطب بان هذا تمام مراده ، والمفروض عدم صحة حكم المخاطب بكون القدر المتيقن تمام مراده ، فيقال لو كان مراده مقصورا على المتيقن لبينه ، لكونه في مقام البيان كما هو المفروض ، وحيث لم يبينه يكشف أن مراده نفس الطبيعة مطلقا ويشهد لذلك أنه لم يعهد من أحد من أهل اللسان التوقف في حمل المطلقات الواردة في الموارد الخاصة على الإطلاق والاقتصار عليها فقط ، لأنها المتيقن ، بل يتجاوزون عنها ، حتى انه قد اشتهر أن العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد.

______________________________________________________

(٢٤٠) أي بعد فرض كون المتكلم في مقام بيان مراده. نعم لو كان المتكلم بصدد تحصيل غرضه في الخارج ، من دون افهام المخاطب أي ما أفاده اللفظ تمام ما تعلّق به الغرض أو بعضه ، كأن يقول في الشتاء جئني بالماء من دون تقييد بالبارد ، للعلم بان القيد حاصل من غير حاجة إلى افهام المخاطب ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق ، لعدم إحراز كون المتكلم في مقام بيان المراد ، وإن لم يكن متيقن في مقام التخاطب. وأما إذا كان بصدد بيان المراد باللفظ ، ومع ذلك لم يذكر القيد الواقعي ، فذلك نقض لغرضه وإن حصل غرضه في الخارج.

لا يقال : هذا إذا لم يكن بصدد أن هذا المتيقن مراده لا تمام مراده.

لأنه يقال : ذلك أيضا يرجع إلى انتفاء المقدمة الأولى ، وهو كونه في مقام بيان المراد.

والحاصل : انه يؤخذ بإطلاق كلام المتكلم في مقدار يكون بصدد بيانه وافهامه ، من دون دخل للقدر المتيقن وعدمه في ذلك ، إلا إذا صلح للقرينية. وعند ذلك تنتفي المقدمة الأخرى.

(إشكال ودفع)

(أما الأول) فهو أنه إذا كان الحمل على الإطلاق بمعونة المقدمات على كلا الطريقين ، فيلزم بطلانها فيما إذا ورد بعد المطلق مقيد منفصل ـ موافقا كان أو مخالفا ـ وعدم إمكان دفع ما سواه من القيود المحتملة بالإطلاق.

بيانه أما على طريقة المشهور فهو أن من جملة المقدمات عندهم كون المتكلم في مقام البيان ، وبعد ظهور المقيد منفصلا يعلم أنه لم يكن بصدده. وأما على ما ذكرنا ، فلأنه بعد ما علم بصدور القيد المنفصل ينكشف أحد الأمرين. اما تبعية إرادته المتعلقة بالطبيعة ، وإما أخذ الطبيعة مرآة ومعرفا للمقيد.

(واما الثاني) فهو أن الإطلاق ـ سواء على طريقة القوم أم على طريقتنا ـ إنما يلاحظ بالنسبة إلى المراد الاستعمالي. وأما تطبيق الاستعمالي مع الجدي ، فانما يحرز بأصل عقلائي آخر ، وظهور القيد إنما ينكشف به عدم التطابق في هذا المورد مع بقاء الاستعمالي مطلقا والأصل العقلائي في غير هذا المورد بحاله.

(فصل في حمل المطلق على المقيد)

إذا ورد مطلق ومقيد ، فاما ان يكونا متخالفين في الإيجاب والسلب ، وإما أن يكونا متوافقين ، لا محيص عن التقييد في الأول (كأعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) سواء كان النهي بعنوان الكراهة أو الحرمة ،

لأن الظاهر من قوله (أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة). مثلا تعلق النهي بالطبيعة المقيدة ، لا بإضافتها إلى القيد ، فلو كان مورد الأمر هو المطلق لزم اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد. نعم لو أحرز ان الطبيعة الموجودة في المقيد مطلوبة ـ كما في العبادة المكروهة ـ فاللازم صرف النهي إلى الإضافة بحكم العقل ، وإن كان خلاف الظاهر.

واما الثاني فان لم تحرز وحدة التكليف (٢٤١) فالمتعين حمل كل منهما على التكليف المستقل أخذا بظاهر الأمرين ، وان أحرزت وحدة (٢٤٢) ، فان كان الإحراز من غير جهة وحدة السبب ، فيدور الأمر بين حمل الأمر المتعلق بالمطلق على ظاهره من الوجوب والإطلاق ، والتصرف في الأمر المتعلق بالمقيد إما هيئة بحملها على الاستحباب ، وإما مادة برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في موضوع الوجوب ، وجعله إشارة إلى الفضيلة الكائنة في المقيد ، وبين حمل المطلق على المقيد. وحيث لا ترجيح لأحدها لاشتراك الكل في مخالفة الظاهر ، فيتحقق الإجمال ، وإن كان الإحراز من جهة وحدة السبب ، فيتعين التقييد. ولا وجه للتصرف في المقيد بأحد النحوين ، فانه إذا فرض كون الشيء علة لوجوب المطلق ، فوجود القيد أجنبي عن تأثير تلك العلة ، فلا يمكن أن يقال إن وجوب المقيد معلول لتلك العلة فلا بد له من علة واحدة أخرى. والمفروض وحدتها. وكذا كون الشيء علة لوجوب المطلق ينافى كونه

______________________________________________________

(حمل المطلق على المفيد)

(٢٤١) هذا كله لو لم نقل بالمفهوم وإلّا رجع إلى المتخالفين وقد ذكر حكمه.

(٢٤٢) المقصود إحراز وحدة التكليف اللزومي من الإيجاب أو التحريم ، فلا ينافي ما يأتي من حمل المقيد على الاستحباب.

علة الاستحباب للفرد الخاصّ ، إذ استناد المتباينين إلى علة واحدة غير معقول.

هذا وقد عرفت مما ذكرنا أنه لا بد في حمل المطلق على المقيد من إحراز وحدة السبب ، ولا يكفى إحراز وحدة التكليف مع عدم إحراز وحدة السبب ، كما ذهب إليه المشهور ولعل وجهه ما ذكره شيخنا المرتضى طاب ثراه في باب التعادل والترجيح من أنه إذا دار الأمر بين التقييد ومخالفة ظاهر آخر ، فالتقييد أولى ، لأن ظهور المطلق متقوم بعدم البيان فبورود ما يصلح للبيانية يصير موهونا. وفيه ما لا يخفى نعم يتم ما ذكروه بناء على ما احتملناه سابقا من المعاملة مع القيود المنفصلة في كلام الشارع معاملة القيود المتصلة في كلام غيره ، لكن اللازم منه سراية الإجمال من المقيد المنفصل المردد بين الأقل والأكثر مفهوما إلى المطلق ، ولا يلتزمون به (٢٤٣). «تم بالخير»

______________________________________________________

(٢٤٣) هذا كله في المثبتين. واما المنفيان فيمكن أن يقال فيهما بالإجمال ، وان قيل بحمل المطلق على المقيد في المثبتين ، نظرا إلى أقوائية ظهور هيئة المقيد في الوجوب التعييني من ظهور المطلق في الإطلاق ، كما قيل ، لضعف احتمال الوجوب التخييري أو الاستحباب في المقيد ، وكون الإطلاق بمقدمات الحكمة المحكومة بأدنى ظهور في البين.

وأما في المنفيين فلا محالة يستعمل المقيد في الحرام التعييني ، غاية الأمر مع حفظ الإطلاق ، فذكر المقيد بمنزلة تكرار اللفظ للأهمية ، كما يقال : (لا تضرب لا تضرب) وهذا ليس بمجاز ، وحمله على التقييد وإن كان أولى من التأسيس ، لكن ليس بمثابة يعارض الإطلاق. ولا أقل من مساواته ، وهذا معنى الإجمال.

هذا في الواجبات والمحرمات ، وأما المستحبات فحكمها حكم الواجبات ، ففيما أحرز اتحاد المطلوب يحمل المطلق على المقيد ، لكن الغالب لما لم يحرز ذلك ، فالعمل

.................................................................................................

______________________________________________________

عليهما. ولعل المكروهات من هذا القبيل أيضا. نعم قد يتمسك لإثبات استحباب المطلق أيضا بحديث (من بلغ).

لكن فيه ـ مع الخدشة ـ في أصل الاستدلال به للاستحباب ، لاحتمال كون ذلك المضمون إرشادا لحكم العقل ـ بان صدق البلوغ على المطلق الّذي ورد في قباله مقيد ـ مشكل ، لقيام الحجة على خلافه.

ثم إن الكلام في الوضعي هو الكلام في التكليفي حرفا بحرف ، فلو ورد أن العقد الكذائي سبب لشيء مخصوص من الملكية أو الزوجية أو غيرهما من المسببات ، ثم ورد سببيته مقيدا بقيد ، فالاحتمالات أيضا ثلاثة (١) : إرادة المقيد من المطلق (٢) ذكر المقيد من باب انه أحد الافراد (٣) ذكره من جهة مزية فيه. والأقوى منها أيضا الأول.

تتميم

لا يخفى أن المقدمات لا تقتضي إلا أن المطلوب نفس الطبيعة بلا دخل قيد من القيود فيه ، وكذلك الظهور والانصراف الّذي قال به الأستاذ ـ دام ظله ـ في قبال المقدمات. وأما الوجود الّذي لا محيص عن أخذه في الطبيعة المطلوبة ـ كما مر بيانه في محله ـ فهل هو الوجود بلا شيء زائد عليه أو الوجود الساري أو الّذي ينطبق مع أول الوجودات الّذي يعبّر عنه لناقض العدم؟ الظاهر أن لازم تعلّق الطلب بالطبيعة ولازم وجوب أخذ الوجوب في المطلوب مع عدم أخذ قيد في المقامين ليس إلا محبوبية وجود الطبيعة ، واقتضاء تحققه في الخارج. وحيث أن الأمر بضميمة الإطاعة علة للتحقق الخارجي ، والعلة الواحدة لا تقتضي إلّا إيجاد معلول واحد ، فيكفيه امتثال واحد ، كما انه لو كانت الطبيعة منهيا عنها فالامر بالعكس ، يعني أن النهي المتعلق بالطبيعة يقتضي أن يكون وجوده مبغوضا ، ولازم ذلك سريان المبغوضية إلى جميع الوجودات.

وقد يستفاد سريان الحكم إلى جميع افراد الطبيعة المأخوذة في الموضوع بقرائن أخرى كما يقال البيع مثلا علة وسبب للملك ، فان لازم سببية وجود شيء من دون دخل شيء

.................................................................................................

______________________________________________________

آخر في سببيته تكرار المسبب فيما يمكن تكراره ، فلو استفدنا من قوله ـ تبارك وتعالى ـ (أحل الله البيع) الحكم الوضعي ، فلا نحتاج في بيان السراية إلى تقريب أن الواحد لا بعينه غير موجود ، ومعين عند الله مجهول عندنا ، إغراء بالجهل وخلاف المنة ، فتعيّن الساري ، بل ويمكن القول بذلك. ولو استفدنا الحكم التكليفي ، حيث نفهم أن وجود البيع يقتضي الوفاء. وكذلك في تواضع للعالم مثل حديث يستفاد منه أن وجود العالم يقتضي التواضع فتدبر جيدا.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله على خير خلقه محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيّبين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

كلمة المصحح

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أولاني سماحة آية الله العظمى فقيه العصر ووحيد الدهر السيد الگلپايگاني مد ظله العالي المعلق على هذا الكتاب ثقته وشرفني بذلك فأمرني بمقابلة الكتاب وتعليق سماحته عليه فقرأتها على سماحته وبإذن منه وخدمة للماتن أعلى الله مقامه صححت بعض الكلمات وتصرفت في العبارة من الجهة الأدبية وبعد إتمام المقابلة أمرني بالإشراف على طبعه وتصحيحه فامتثلت امره المطاع وبذلت غاية الجهد في ذلك ووضعت فهرسته. (والعصمة لأهلها) فجاء بحمد الله كما يرى ويرام والله تبارك وتعالى أرجو وإياه اسأل أن ينفع به طلاب العلم ورواده وأن يلحظوا ما زاغ عنه البصر بعين الرضا إنه ولى التوفيق ـ

محمد الكاظم الخوانساري

١ ـ رمضان المبارك ١٤١٠

إفاضة العوائد - ١

المؤلف: آية الله السيّد محمّد رضا الگلپايگاني
الصفحات: 376