سورة مريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

(كهيعص) قد تقدم فيما سلف أن كل طالب ينادي ربّه ويدعوه إنما يستحق الإجابة إذا دعاه بلسان الحال وناداه باسمه الذي هو مصدر مطلوبه بحسب اقتضاء استعداده في ذلك الحال ، علم أو لم يعلم ، إذ العطاء والفيض لا يكون إلا بحسب الاستعداد ، والاستعداد لا يطلب إلا مقتضى ذلك الاسم فيجيبه بتجلي ذلك الاسم الذي يجبر نقصه ويقضي حاجته بإفادة مطلوبه كما أن المريض إذا قال : يا ربّ ، فمراده : يا شافي ، إذ الحق يبريه بذلك الاسم عند إجابته. وكذا الفقير إذا ناداه أجابه باسمه المغني إذ هو ربّه. فنادى زكريا عليه‌السلام ربّه ليهب له وليّا يقوم مقامه في أمر الدين ، وتوسل إليه بأمرين ، واعتذر إليه معتلا بأمرين ، توسل بالضعف والشيخوخة والوهن والعجز عن القيام بأمر الدين في قوله : (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) فأجابه باسمه الكافي فكفاه ضعفه وأعطاه القوّة وأيّده بالولد ثم بعنايته به قديما بقوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) فأجابه باسمه الهادي وهداه إلى مطلوبه بالبشارة والوعد ، لأن العناية (١) المقتضية للسعادة المستلزمة لسلب الشقاوة ، كما أشار إليها ، يلازمها عبارة عن علمه تعالى في الأزل بعين في العدم وتقتضي باستعدادها سعادة تناسبها وهو عين إرادته تعالى ذلك الكمال لها عند وجودها فلا بد من هداية لها إليه ، والهداية إنما تتم بالتوفيق ، وهو ترتيب الأسباب الموافقة لذلك المطلوب المؤدّية إليه ، ولم يجدها موافقة ووجد

__________________

(١) قوله : لأن العناية إلخ .. كذا في الأصل ، ولعل الناقل أحله ، وليحرر. اه.

خلافها فخاف واعتذر إليه بالخوف من الموالي لعدم صلاحيتهم لذلك ، فأجابه باسمه الواقي ، فوقاه شرّهم ، وبامتناع وجود الولي من نسله لعدم الأسباب بقوله : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) فأجابه باسمه العليم لأنه علم عدم الأسباب الذي تعلل به محتجا بها عن المسبب وعلم وجوده مع عدمها وما علمه لا بدّ من كونه ، كما قالت الملائكة لامرأة إبراهيم عليه‌السلام : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (١).

ولما بشره بالولد ، وهداه إلى مقتضى العلم ، تعجب منه لضراوته في عالم الأسباب بالحكمة وكرر التعلل بعدم الأسباب بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) إلخ ، لأنه كان يطلب ولدا حقيقيا يلي أمره ويحذو حذوه ويسلك طريقه في القيام بأمر الدين وإن لم يكن من نسله لعدم أهلية مواليه لذلك ، فكرر البشارة وهداه إلى سهولة ذلك في قدرته ، فالتمس علامة تدل عليه ، فهداه إليها وأنجز وعده باسمه الصادق فرحمه بهبة يحيى له. فاقتضت الأحوال الأربعة مع حال الوعد والبشارة إجابته بالرحمة عليه بالأسماء الخمسة. فعلى هذا يكون (ك) إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعفه وشيخوخته وعجزه و (ه) إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته به وإرادة مطلوبه له و (ي) إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي و (ع) إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب و (ص) إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد. ومجموع الأسماء الخمسة هو : الرحيم بهبة الولد ، وإفاضة مطلوبه في هذه الأحوال. فذكر هذه الحروف وتعدادها إشارة إلى أن ظهور هذه الصفات التي حصل بها هذه الأسماء هو ظهور رحمة عبده زكريا وقت ندائه وذكرها ذكر تلك الرحمة التي هي وجود يحيى عليه‌السلام. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ك) عبارة عن الكافي و (ه) عن الهادي و (ي) عن الواقي و (ع) عن العالم و (ص) عن الصادق والله أعلم.

والتطبيق أن يقال : نادى زكريا الروح في مقام استعداد العقل الهيولاني نداء خفيّا ، واشتكى ضعفه ، وتوسل بعنايته ، واشتكى خوف موالي القوى النفسانية وعقر امرأة النفس بولد القلب (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) العقل الفعّال (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) موصوفا بالكمالات المرضية (نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) القلب (اسْمُهُ يَحْيى) لحياته أبدا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أتوصل بها إليه (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ) ناس الحواس بالشواغل الحسيّة والمخالطة بالأمور الطبيعية (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) أي : كونوا على عبادتكم المخصوصة بكل واحد منكم بالرياضة وترك الفضول دائما.

[١٢ ـ ١٥] (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٣٠.

(يا يَحْيى) القلب (خُذِ) كتاب العلم ، المسمى بالعقل الفرقاني (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي : الحكمة (صَبِيًّا) قريب العهد بالولادة المعنوية (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) أي : رحمة بكمال تجليات الصفات (وَزَكاةً) أي : تقدّسا وطهارة بالتجرّد (وَكانَ تَقِيًّا) مجتنبا صفات النفس (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الروح والنفس (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي : تنزّه وتقدّس عن ملابسة المواد (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ) بالفناء في الوحدة (وَيَوْمَ يُبْعَثُ) بالبقاء بعد الفناء (حَيًّا) بالله.

[١٦ ـ ٢٤] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجرّدها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقرّ النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية. والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها ، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها ، كما أخبر عنه تعالى في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وإنما تمثل لها بشرا سويّ الخلق ، حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرّك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها ، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم ، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا : قلبا ، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد بمنزلة الإنفحة في الجبن ، ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن أي : العقد من منيّ الذكر ، والانعقاد من منيّ الأنثى لا على معنى أنّ منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة

ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة. بل على معنى أنّ القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزء من الولد ، فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس ، القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّا كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الذي ينفصل عن كليتها اليسرى ، فإذا اجتمعا في الرحم وكان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب. قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام الذكر في شدّة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد فيتخلق الولد ، هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمدّ جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس والله أعلم.

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) دالة على البعث والنشور (وَرَحْمَةً) منا عليهم بتكميلهم به بالشرائع والحكم والمعارف وهدايتهم بسبب فعلنا ذلك فهو صورة الرحمة الإلهية المعنوية (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) في اللوح ، مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) فدنا منها ، فنفخ في جيب الدرع ، أي : البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه‌السلام عند نزوله واتصاله بها وتعلقه بنطفتها ، والحق أنه روح القدس لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده ، كما قال : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم واستقرارها فيه ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أي : معه (مَكاناً قَصِيًّا) أي : بعيدا من المكان الأول الشرقي لأنها وقعت به في المكان الغربي الذي هو عالم الطبيعة والأفق الجسماني ، ولهذا قال : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) نخلة النفس (فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي : ناداها جبريل من الجهة السفلية بالنسبة إلى مقامها من القلب ، أي : من عالم الطبيعة الذي كان حزنها من جهته وهو الحمل الذي هو سبب تشوّرها وافتضاحها (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي : جدولا من غرائب العلم الطبيعي وعلم توحيد الأفعال الذي خصك الله بها واصطفاك كما رأيت من تولد الجنين من نطفتك وحدها.

[٢٥ ـ ٣٤] (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي

عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤))

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ) نخلة نفسك التي بسقت في سماء الروح باتصالك بروح القدس ، واخضرّت بالحياة الحقيقية بعد يبسها بالرياضة وجفافها بالحرمان عن ماء الهوى وحياته ، وأثمرت المعارف والمعاني ، أي : حركيها بالفكر (تُساقِطْ عَلَيْكِ) من ثمرات المعارف والحقائق (رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي) أي : من فوقك رطب الحقائق والمعارف الإلهية وعلم تجليات الصفات والمواهب والأحوال (وَاشْرَبِي) من تحتك ماء العلم الطبيعي وبدائع الصنع وغرائب الأفعال الإلهية وعلم التوكل وتجليات الأفعال والأخلاق والمكاسب ، كما قال تعالى : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) (وَقَرِّي عَيْناً) بالكمال والولد المبارك الموجود بالقدرة ، الموهوب بالعناية (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي : من أهل الظاهر المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب وبالصنع والحكمة عن الإبداع والقدرة الذين لا يفهمون قولك ولا يصدّقون بك وبحالك لوقوفهم مع العادة ، واحتجابهم بالعقول المشوبة بالوهم المحجوبة عن نور الحق (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : لا تكلميهم في أمرك شيئا ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله حتى ينطق هو بحاله (وَالسَّلامُ عَلَيَ) في المواطن الثلاثة كما على يحيى لكون ذاتي مجردة مقدّسة لا تحتجب بالمواد حتى في الطفولة ، إذ معنى السلام : التنزّه عن العيوب اللاحقة بواسطة تعلق المادة (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) أي : كلمته التي هي عبارة عن ذات مجرّدة أزلية ، كما مرّ غير مرة.

[٣٥ ـ ٣٩] (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) لامتناع وجود شيء آخر معه (سُبْحانَهُ) عن أن يوجد معه شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : يبدعه بمجرّد تعلق إرادته به من غير زمان.

[٤٠ ـ ٥١] (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١))

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) في القيامة الكبرى بالفناء المطلق والشهود الذاتي. الصدق أصل كل فضيلة ، وملاك كل كمال ، وخميرة كل مقام ، واستعداد كل موهبة (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) مما سوى الله من الأكوان التي تطلبها وتنسب التأثير إليها (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في الحقيقة لعدم تأثيره. (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) أي : التوحيد الذاتي (سَلامٌ عَلَيْكَ) أي : جرّد الله ذاتك عن المواد التي احتجبت بها (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) سأطلب منه ستر ذاتك بنوره ومحو غشاوات صفاتك بصفاته ودناءة هيئات نفسك بأفعاله إن أمكن (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) بالكسر ، أي : مجرّدا ذاته وعلمه في السلوك لوجه الله لم يلتفت إلى ما سواه من وجهة حتى صفاته تعالى ، بل نفاها عن ذاته ، وهو ما زاغ البصر وما طغى بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١). ومخلصا بالفتح ، أي : أخلصه الله عن أنانيته وأفنى البقية منه فخلص من الطغيان المذكور بالتجلي الذاتي التام ، واستقام بتمكين الله إياه كما قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) من ذنب ظهور الأنانية (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) مقام الرسالة دون مقام النبوّة لكونها مبينة للأحكام كالحلال والحرام ، منبهة على الأوضاع كالصلاة والصيام فهي متعلقة ببيان أحكام المكلفين. وأما النبوّة فهي عبارة عن الإنباء عن المعاني الغيبية كأحوال المعاد والبعث والنشور والمعارف الإلهية كتعريف الصفات والأسماء وما يليق بالله من التحميدات والتمجيدات والولاية فوقهما جميعا لكونها عبارة عن الفناء في ذات الله من غير اعتبار الخلق فهي أشرف المقامات لكونها تتقدم عليهما لأنها ما لم تحصل أولا لم تمكن النبوّة ولا الرسالة لكونها مقوّمة إياهما ولهذا قدم كونه مخلصا في القرآن بالفتح ، وأخرت النبوة عن الرسالة لكونها أشرف وأدل على المدح والتعظيم منها ولم يؤخر الولاية عنهما باعتبار الشرف لأنها وإن كانت أشرف لكنها باطنة لا يعرف شرفها وفضلها إلا الأفراد من العرفاء المحققين المخصوصين بدقة النظر دون غيرهم فلا يفيد المدح والتعظيم ولا الاقتصار عليها بقوله مخلصا وإن كانت أشرف لأنها قد توجد

__________________

(١ ـ ٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

بدونهما بخلاف العكس ، فلا يحسن وصفه إلا على هذا الترتيب.

[٥٢ ـ ٥٩] (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أي : طور وجوده الذي هو نهاية طور القلب في مقام السرّ الذي هو محل المناجاة ، ولهذا قال : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وسمي كليم الله. وإنما وصفه بالأيمن الذي هو الأشرف والأقوى والأكثر بركة احترازا عن جانبه الأيسر الذي هو الصدر ، لأن الوحي إنما يأتي من عالم الروح الذي هو الوادي المقدس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) إن كان بمعنى المكانة فهو قربه من الله ورتبته في مقام الولاية من عين الجمع ، وإن كان بمعنى المكان فهو الفلك الرابع الذي هو مقرّ عيسى عليه‌السلام لما ذكر من كونه مركز روحه في الأصل والمبدأ الأول لفيضانه إذا فاض عن محرك فلك الشمس ومعشوقه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) سمعوا بالنفس من كل آية ظاهرها ، وبالقلب باطنها ، وفهموا بالسرّ حدّها ، وصعدوا بالروح مطلعها ، فشاهدوا المتكلم موصوفا بالصفة التي تجلى بها في الآية (خَرُّوا سُجَّداً) فنوا في ذلك الاسم الذي تجلى به عند ظهوره بتلك الصفة الكاشفة عنها تلك الآية ، وبكوا اشتياقا إلى مشاهدته بسائر الصفات المشتمل عليه الرحمن أو الله وهو بكاء القلب إن لم يكن مستلزما لبقاء النفس من خوف البعد ، كما قال الشاعر :

ويبكي إن نأوا شوقا إليهم

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

أضاعوا صلاة الحضور لكونهم في مقام النفس ، والحضور إنما يكون بالقلب ، ولا صلاة إلا به. ولذلك الاحتجاب بصفات النفس عن مقام القلب لزم اتباع الشهوات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرّا وضلالا إذ كلما أمعنوا في اتباعها ازداد حجابهم فازداد ضلالهم وارتكبت الذنوب على الذنوب ، فازداد تورّطهم فيها ، كما قال عليه الصلاة والسلام : «الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول».

[٦٠ ـ ٦٣] (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

(إِلَّا مَنْ تابَ) عن الذنب الأول فرجع إلى مقام القلب (وَآمَنَ) باليقين (وَعَمِلَ صالِحاً) باكتساب الفضيلة (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) المطلقة بحسب استحقاقهم ودرجتهم في الإيمان والعمل (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : لا ينقصون مما اقتضاه حالهم ومقامهم (شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ) مرتبة بحسب درجاتهم في مقام النفس والقلب والروح (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) المفيض بجلائل النعم وأصولها وعمومها (عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) في حالة كونهم غائبين عنها (إِلَّا سَلاماً) أي : ما يسلمهم من النقائص ويجردهم عن المواد من المعارف والحكم (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي : دائما أو بكرة في جنة القلب وقت ظهور نور شمس الروح ، وعشيّا في جنة النفس وقت غروبه.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ) المطلقة التي تقع على واحدة منها (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) مطلقا بحسب تقواه ، فإن اتقى الرذائل والمعاصي نورثه جنة النفس أي جنة الآثار ، وإن اتقى أفعاله بالتوكل فله جنة القلب وحضور تجليات الأفعال ، وإن اتقى صفاته في مقام القلب فله جنة الصفات ، وإن اتقى ذاته ووجوده بالفناء في الله فله جنة الذات.

[٦٤ ـ ٧٠] (وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠))

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) تنزّل الملائكة واتصال النفس بالملإ الأعلى إنما يكون بأمرين : استعداد أصلي وصفاء فطري يناسب به جوهر الروح العالم الأعلى ، واستعداد حاليّ بالتصفية والتزكية ولا يكفي مجرد حصولها فيه ، بل المعتبر هو الملائكة. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١) كيف رتّب التنزل على الاستقامة التي هي التمكين الدال على الملكة. وإلى قوله في تنزّل الشياطين : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٢) كيف أورد في حصول استعداد تنزّلهم بناء المبالغة الدال على الملكة والدوام فكذا لا تتنزل الملائكة إلا على الصدّيق الخير. وهذا الاستعداد الثاني إذا اجتمع مع الأول كان علامة إذن الحق وأمره ، إذ الفيض عام ، تام ، غير منقطع ، فحيث تأخر إنما تأخر لعدم الاستعداد ، فلذا لما استبطأ الوحي وقلّ صبره نزلت ، أي : وما نتنزّل باختيارنا بل باختياره وأمره ليس إلا.

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٣٠.

(٢) سورة الشعراء ، الآية : ٢٢٢.

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) من أطوار الجبروت التي فوقنا وتتقدّم أطوارنا التي وجوهنا إليها ولا يحيط علمنا بها (وَما خَلْفَنا) من أطوار الملكوت الأرضية التي دون أطوارنا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) من الأطوار الملكوتية التي نحن فيها ، كلهم في ملكة قهره وتحت سلطنة أمره وإحاطة علمه (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ينسى شيئا يستعدّ لكمال فلا يفيض عليه أو تاركا لمستحق بدون حقه بل يحيط بكل الاستعدادات علما ويفيض الكمال عليها وينزل مقتضاها مع الحصول دفعة فإن تأخر الوحي فإنما كان من جهتك لا من جهته هو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يرب كلا منهما باسم يخصه ويدبره ويفيض ما يقتضيه حاله عليه فيرب الكل بجميع أسمائه (فَاعْبُدْهُ) بعبادتك التي يقتضيها حالك حتى تستعدّ لقبول الفيض ونزول الوحي ولا يكفي وجود العبادة بتهيئة الاستعداد بالتصفية مرة أو مرتين بل الدوام على ذلك معتبر ، فدم على ذلك الصفاء الموجب للقبول (وَاصْطَبِرْ) لعبادته بالتوجه إليه على الدوام (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثلا ، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه فيفيض عليك مطلوبك (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) في عالم الشهادة محسوسا أو شيئا يعتدّ به ، كما قال : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) لأن الوجود العيني في الأزل قبل الخلق كلا وجود لانطماسه في عين الجمع (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أي : لنحشرنّ المحجوبين المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق لأنّ نفوس المحجوبين تناسب في الكدورة والبعد عن النور نفوس الشياطين ، فبالضرورة يحشرون معهم خصوصا إذا اتبعوهم في الاعتقاد (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ) الطبيعة في العالم السفلي لاحتجابهم بالغواشي الهيولانية والغواسق الظلمانية في الهياكل السجنية مقرنين في الأصفاد ، سرابيلهم من قطران (جِثِيًّا) لاعوجاج هياكلهم بسبب عوج نفوسهم فلا يستطيعون قياما (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي : لنخصّن من كل فرقة من هو أشدّ عتيا على الرحمن بعذاب أشدّ على ما علمنا من حاله ، فنحن أعلم به منه ، فنصليه بعذاب هو أولى به.

[٧١] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١))

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي : لا بدّ لكل أحد عند البعث والنشور أن يرد عالم الطبيعة لكونها مجاز عالم القدس (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : حكما جزما ، مقطوعا به. ومن بعث بردّ روحه إلى الجسد لا يمكنه الجواز على الصراط إلا بالجواز على جهنم ، لأن المؤمن لما جاء أطفأ نوره لهبها فلم يشعر بها. كما روي أنها تقول : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي. ولو سألته بعد دخول الجنة : كيف كان حالك في النار؟ لقال : ما أحسست بها. كما سئل الصادق عليه‌السلام : أتردونها أنتم أيضا؟ فقال : جزناها وهي خامدة. وعن ابن عباس : يردونها كأنها إهالة. وعن جابر بن

__________________

(١) سورة الإنسان ، الآية : ١.

عبد الله أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : وردتموها وهي خامدة». وعنه رحمه‌الله أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه‌السلام حتى أنّ للنار ضجيجا من بردها». وأما قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١) فالمراد عن عذابها.

[٧٢ ـ ٧٥] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥))

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) لتجردهم بالجواز على الصراط الذي هو سلوك طريق العدالة إلى التوحيد كالبرق (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) الذين نقصوا نور استعدادهم في الظلمات أو وضعوه غير موضعه (فِيها جِثِيًّا) لا حراك بهم لتوردهم في المواد الظلمانية كماقال عليه‌السلام : «الظلم ظلمات يوم القيامة».

[٧٦ ـ ٨٢] (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أي : كما يمد أهل الضلالة في ضلالتهم بالخذلان مدّا يزداد فيه ضلالهم واحتجابهم كلما أمعنوا في جهلهم ورذائلهم كذلك يزيد الله المهتدين بالتوفيق كلما عملوا بما علموا استعدوا لقبول علم آخر فورثوه كماقال عليه‌السلام : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم». فيزيدهم عند العمل بمقتضى العلم اليقيني عين اليقين ، وعند العمل بمقتضاه حق اليقين (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من العلوم والفضائل (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) لأدائها إلى التجليات الوصفية والجنات القلبية (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) بالرجوع إلى الذات الأحدية.

[٨٣ ، ٨٤] (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠١.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قد مرّ في باب تنزّل الملائكة أن النفس الخيّرة تستمد من الملكوت والملائكة السماوية لاتصالها بهم في الصفاء والتجرّد والنورية ، والنفوس الشريرة تستمد من النفوس المظلمة الأرضية لمناسبتها إياهم ومجانستها لهم في الظلمة والكدورة والخبث ، فتعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة ظلمتهم وتماديهم في الغواية والاحتجاب ، حيث تنزّل عليهم الشياطين دائما فتؤزهم أي : تحرّضهم وتخذلهم بإلقاء الوساوس والهواجس من أنواع الشرّ على التوالي (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : أنفاسهم المقرّبة لهم إلى المصير إلى وبال كفرهم وأعمالهم وعذاب هيئاتهم وعقائدهم ، فإن لكل أجلا معينا سيصير إليه عن قريب.

[٨٥] (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥))

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) إنما ذكر اسم الرحمن لعموم رحمته بحسب مراتب تقواهم كما ذكر في قوله : (مَنْ كانَ تَقِيًّا) (١) ، ولهذا لما سمعها بعض العارفين قال : ومن كان مع الرحمن فإلى من يحشر؟ فأجابه بعضهم بقوله : من اسم الرحمن إلى اسم الرحمن ومن اسم القهّار إلى اسم اللطيف. فإن المتّقي عن المعاصي والرذائل وصفات النفس الذي هو في أول درجة التقوى قد يحشر إلى الرحمن في جنة الأفعال ثم الصفات ثم بعد الوصول إلى الله في جنة الصفات له سير في الله بحسب تجليات الصفات ، وإذا انتهى السير إلى الذات يكون السير سيرا لله وفدا مكرمين.

[٨٦ ـ ٩٢] (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) لأعمالهم الخبيثة (إِلى جَهَنَّمَ) الطبيعة (وِرْداً) كأنهم إبل عطاش فيوردهم النار (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) هذا العهد هو ما عاهد الله أهل الإيمان من الوفاء بالعهد السابق بالتوبة والإنابة إليه في الصفاء الثاني بعد الصفاء الأول ، وذلك الانسلاخ عن حجب صفات النفس والاتصاف بصفات الرحمن والاتصال بعالم القدس الذي هو حضرة الصفات ولهذا ذكر اسم الرحمن المعطي لأصول النعم وجلائلها المشتمل على سائر الصفات اللطيفة ، أي : لا يملك أحد أن يشفع له بالأمداد الملكوتية والأنوار القدسية إلا من استعدّ لقبول الرحمة الرحمانية واتصل بالجناب الإلهي بالعهد

__________________

(١) سورة مريم ، الآية : ٦٣.

الحقيقي. وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه ذات يوم : «أيعجز أحدكم أن يتخذ عند كل صباح ومساء اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أني أعهد إليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمدا عبدك ورسولك ، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عهد تؤتنيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد».

[٩٣] (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣))

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) لكونهم في حيز الإمكان ومكمن العدم لا وجود لهم ولا كمال إلا به ، أفاض باسم الرحمن وجوداتهم وكمالاتهم ، فهم أنفسهم ليسوا شيئا ، فلو لم يعبدوه حق عبادته باستعدادات أعيانهم في العدم لما وجدوا ، ولو لم يعبدوه بعد الوجود بالقيام بحقوق نعمه التي أنعمها عليهم لما كملوا ، فهم مربوبون ، مجبورون وفي طيّ قهره وملكته مقهورون.

[٩٤] (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤))

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ) في الأزل بإفادة أعيانهم واستعداداتهم الأزلية من فيضه الأقدس وتعيينها بعلمه (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فما هيأتهم وحقائقهم إنما هي صور معلومات ظهرت في العدم بمحض عالميته وبرزت إلى الوجود بفيض رحمانيته ، فكيف تماثله وتناسبه.

[٩٥] (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى منفردا مجردا عن الأسباب والأعوان كما كان في النشأة الأولى ويوم القيامة الوسطى (فَرْداً) من العلائق البدنية مجردا عن الصفات النفسانية والقوى الطبيعية. وأما في القيامة الكبرى فكل من عليها فان ، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.

[٩٦ ـ ٩٨] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي العلمي أو العيني (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال المزكية المصفية المعدّة لقبول تجليات الصفات بالتجرد عن ملابس صفاتهم (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) كماقال : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها». وفي الحقيقة هذا الودّ أثر

ونتيجة العناية الأولى المستفادة من قوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) ، فإذا أحبه قبل الظهور في مكمن الغيب بمحبة الاجتباء ألزمه حبّه لله عند البروز وحرّكه إلى الوفاء بالعهد السابق فتجدّد ذلك العهد بالعقد اللاحق الذي هو العهد مع الله بالوفاء بذلك في متابعة الحبيب المطلق كما قال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)) (٢). وإن صحت المتابعة في الأعمال والأحوال أحبه الله بمحبة الاصطفاء فوق المحبة التي هي ثمرة المحبة الأولى لكون الأولى عينية كامنة ولكونها كمالية بارزة وقعت محبته في قلوب الخلق وظهر له القبول عند أهل الإيمان الفطري. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أحبّ الله عبدا يقول الله تعالى : يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادى في أهل السماء : أن الله تعالى قد أحبّ فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يضع له المحبة في الأرض». وعن قتادة : ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه. وهذا معنى قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ٣١.

سورة طه عليه‌السلام

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

(طه) الطاء إشارة إلى الطاهر ، والهاء إلى الهادي. وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شدّة حنوه وتعطفه على قومه لكونه صورة الرحمة ومظهر المحبة ، تأسّف من عدم تأثير التنزيل في إيمانهم واستشعر البقية كما ذكر في قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) (١). وزاد في الرياضة فكان يحيي الليالي بالتهجد وبالغ في القيام حتى تورّمت قدماه فأخبر أن عدم إيمانهم ليس من جهتك بل من جهتهم وغلظ حجابهم أعدم استعدادهم لا لبقاء صفات نفسك أو بقية أنائيتك أو وجود نقصك وقصورك في الهداية كما استشعرت فلا تتعب نفسك. ونودي باسمين من أسماء الله تعالى دالين على نزاهته عن الأمرين المذكورين وجود البقية أو القصور عن الهداية فقيل : يا طاهر عن لوث البقية ، يا هادي (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) وتتعب بالرياضة لكن لتذكير من يلين قلبه ويستعدّ لقبوله بعد صفائك وطهارتك وقد حصل الأمران بحمد الله وكنت كاملا مكملا. وما المقصود بالرياضة إلا هذان الأمران اللذان ظهرا فيك تجلينا عليك بالاسمين المذكورين فلم تتعب نفسك وإنما لم يحصل الاهتداء بهدايتك لقسوة القلوب التي هي ضدّ الخشية واللين الذي هو شرط في حصوله لا لقصورك. ويجوز أن يكون قسما لا نداء ، أي : أقسم بالاسمين اللذين يربه بهما ويتجلى بهما له لإفادة التزكية والتخلية إذ المقصود بالإنزال حصول أثرهما فيك لا التعب والمشقة وقد حصل فلا تفرط في الرياضة ، ولهذا المعنى سمي آل محمدا : آل طه ، أي بحصول المعنيين لهم وظهور مسمى الاسمين فيهم (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) معناه : أنزلناه تنزيلا ممن اتّصف بجميع الصفات الجمالية والجلالية فكان لذاتك نصيب من جميعها وإلا لما أمكنك قبوله وحمله إذ الأثر الوارد لا بد وأن يناسب المورد كما ناسب المصدر ، فلما كان مصدره الذات الموصوفة بجميع الأسماء الحسنى وجب أن يكون مورده الذي هو ذاتك كذلك موصوفة بها ، فكما خلق السموات العلا والأرض أي : عالم الأرواح وعالم الأجسام الذي هو

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٦.

الجسم المطلق وجعلها حجب جلاله الساترة لجماله كذلك حجبك بسماوات طبقات غيوبك من الحجب السبعة المذكورة التي هي روحانيتك ومراتب كمالك وأرض شهادتك التي هي بدنك.

[٥] (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥))

(الرَّحْمنُ) أي : ربّك الجليل ، المحتجب بحجب المخلوقات لجلاله ، هو الجميل ، المتجلي بجمال رحمته على الكل ، إذ لا يخلو شيء من الرحمة الرحمانية وإلا لم يوجد.

ولهذا اختصّ الرحمن به دون الرحيم لامتناع عموم الفيض للكل إلا منه ، فكما استوى على عرش وجود الكل بظهور الصفة الرحمانية فيه وظهور أثرها أي : الفيض العام منه إلى جميع الموجودات فكذا استوى على عرش قلبك بظهور جميع صفاته فيه ووصول أثرها منه إلى جميع الخلائق ، فصرت رحمة للعالمين وصارت نبوّتك عامة خاتمة. فمعنى الاستواء : ظهوره فيه سويا تاما إذ لا يطابق كلها مظهر غيره فلا يستوي ولا يستقيم إلا عليه ، ولذلك لم يكن له عليه‌السلام ظل إذ لم يبق من ذاته مع صفاته بقية لم تتحقق بالحق بالبقاء بعد الفناء التام.

[٦] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلى قوله : (وَما تَحْتَ الثَّرى) بيان لشمول قهره وملكته للكل ، أي : كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره وكذلك فنيت بالكلية مقهورة بوحدانيته وفناء قهاريته لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ولا تمشي إلا به وبأمره.

[٧ ـ ١٢] (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢))

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) بيان لكمال لطفه أي : علمه نافذ في الكل يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر ، فكذلك إن تجهر وإن تخفت فيعلمه بجهر وبخفت. ولما كانت الصفات المذكورة هي الأمهات التي لا صفة إلا تحت شمولها ولا اسم إلا كان مندرجا في هذه الأسماء المذكورة ولم تتكثّر الذات بها ، قال : (اللهُ) أي : ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لم تتكثر ذاته الأحدية وحقيقة هويته بها ولم يتعدّد ، فهو هو في الأبد كما كان في الأزل لا هو إلا هو ولا موجود سواه باعتبار واحديته ومصدريته لما ذكر (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي هي ذاته مع اعتبار تعيينات الصفات (إِذْ رَأى

ناراً) هي روح القدس التي ينقدح منها النور في النفوس الإنسانية رآها باكتحال عين بصيرته بنور الهداية (فَقالَ لِأَهْلِهِ) القوى النفسانية (امْكُثُوا) اسكنوا ولا تتحرّكوا إذ السير إنما يصير إلى العالم القدسي ويتصل به عند هذه القوى البشرية من الحواس الظاهرة والباطنة الشاغلة لها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : هيئة نورية اتصالية ينتفع بها كلكم فيتنوّر وتصير ذاته فضيلة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ) من يهديني بالعلم والمعرفة الموجب للهداية إلى الحق أي : اكتسب بالاتصال بها الهيئة النورية أو الصور العلمية (فَلَمَّا أَتاها) أي : اتصل بها (نُودِيَ) من وراء الحجب النارية التي هي سرادقات العزة والجلال المحتجبة بها الحضرة الإلهية (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) محتجبا بالصورة النارية التي هي أحد أستار جلالي متجليا فيها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي : نفسك وبدنك أو الكونين لأنه إذا تجرّد عنهما فقد تجرّد عن الكونين أي : كما تجرّدت بروحك وسرّك عن صفاتهما وهيئاتهما حتى اتصلت بروح القدس تجرّد بقلبك وصدرك عنهما بقطع العلاقة الكلية ومحو الآثار والفناء عن الصفات والأفعال. وإنما سماهما نعلين ولم يسمهما ثوبين لأنه لو لم يتجرّد عن ملابسهما لم يتصل بعالم القدس والحال حال الاتصال ، وإنما أمره بالانقطاع إليه بالكلية كما قال : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (١) فكأنه بقيت علاقته معهما والتعلق بهما يسوّخ قدمه التي هي الجهة السفلية من القلب المسماة بالصدر ، فهما بعد التوجه الروحي والسري نحو القدس ، فأمره بالقطع عنهما في مقام الروح ، ولهذا علل وجوب الخلع بقوله : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي : عالم الروح المنزّه عن آثار التعلق وهيئات اللواحق والعلائق المادية المسمى طوى ، لطيّ أطوار الملكوت وأجرام السموات والأرضين تحته. ولقد صدق من قال : أمر بخلعهما لكونهما من جلد حمار ميت غير مدبوغ. وقيل : لما نودي وسوس إليه الشيطان : إنك تنادى من شيطان! فقال : أفرق به ، إني أسمع من جميع الجهات الست بجميع أعضائي ولا يكون ذلك إلا بنداء الرحمن.

[١٣ ، ١٤] (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤))

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) هذا وعد بالاصطفاء الذي كان بعد التجلي التام الذاتي الذي جعل جبل وجوده دكّا بالفناء فيه بالاندكاك وخروره صعقا عند إفاقته بالوجود الحقاني كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (٢) ، وهذا التجلي هو تجلي الصفات قبل تجلي الذات ،

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٨.

(٢) سورة الأعراف ، الآيات : ١٤٣ ـ ١٤٤.

ولهذا أرسله ولم يستنبئه بالوحي هنا ، وأمره بالرياضة والحضور والمراقبة ووعده وقوع القيامة الكبرى عن قريب. فهذا الاختيار قريب من الاجتباء الأصلي المشار إليه بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)) (١) متوسط بينه وبين الاصطفاء. وكرر (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بالتأكيد ، وتبديل الربّ بالله لئلا يقف مع الصفات في الحضرة الأسمائية فيحتجب عن الذات إذ الرب هو الاسم الذي تجلى به له ، إذ لا يربه عند طلب الهداية والقبس إلا بذلك الاسم العليم الهادي الذي هو جبريل ، أي : إنني الواحد الموصوف بجميع الصفات (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لم أتكثر ولم يتعدد أنائيتي وأحديتي بكثرة المظاهر وتعدّد الصفات (فَاعْبُدْنِي) خصّص عبادتك بذاتي دون أسمائي وصفاتي بالعبادة الذاتية وتهيئة استعداد فناء الآنية في حقيقتي والتسبيح المطلق الذاتي (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : صلاة الشهود الروحي لذكر ذاتي فوق صلاة الحضور القلبي لذكر صفاتي.

[١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))

(إِنَّ السَّاعَةَ) القيامة الكبرى بالفناء المحض في عين الأحدية (آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) باحتجابي بالصفات لتنفصل المراتب وتظهر النفوس والأعمال (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) بحسب سعيها من الخير والشرّ ، ويتميز الكمال والنقصان والسعادة والشقاوة فلا أظهرها إلا لأفراد خواصّي واحدا بعد واحد لأني إن أظهرتها ظهر فناء الكل فلا نفس ولا عمل ولا جزاء ولا غير ذلك.

[١٦] (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) فتبقى في حجاب الصفات (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) لقصور استعداده فيقف في بعض المراتب محجوبا إما بالصفات أو الأفعال أو الآثار أو الأنداد ، أي : الشرك الخفيّ والجليّ (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في مقام النفس أو القلب ، فإن الهوى باق ببقاء الأنانية فتهلك أنت كما هلك من صدّك.

[١٧ ، ١٨] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨))

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إشارة إلى نفسه ، أي : التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي : أعتمد في عالم الشهادة وكسب الكمال والسير إلى الله والتخلق بأخلاقه عليها ، أي : لا يمكن هذه الأمور إلا بها (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي :

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ١٢٢.

أخبط أوراق العلوم النافعة والحكم العملية من شجرة الروح بحركة الفكر بها على غنم القوى الحيوانية (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) من كسب المقامات وطلب الأحوال والمواهب والتجليات. وإنما سأله تعالى لإزالة الهيبة الحاصلة له بتجلي العظمة عنه وتبديلها بالأمن ، وإنما زاد الجواب على السؤال لشدّة شغفه بالمكالمة واستدامة ذوق الاستئناس.

[١٩ ، ٢٠] (قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠))

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى) أي : خلها عن ضبط العقل (فَأَلْقاها) أي : خلاها وشأنها مرسلة بعد احتظائها من أنوار تجليات صفات القهر الإلهي (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي : ثعبان يتحرّك من شدّة الغضب ، وكانت نفسه عليه‌السلام قوية الغضب ، شديدة الحدّة ، فلما بلغ مقام تجليات الصفات كان من ضرورة الاستعداد حظه من التجلي القهري أوفر كما ذكر في (الكهف) ، فبدل غضبه عند فنائه في الصفات بالغضب الإلهي والقهر الرباني فصور ثعبانا يتلقف ما يجد.

[٢١] (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

(قالَ خُذْها) أي : اضبطها بعقلك كما كانت (وَلا تَخَفْ) من استيلائها عليك وظهورها فيكون ذنب حالك بالتلوين ، فإن غضبك قد فنى ، فيكون متحرّكا بأمري وليس هو مستورا بنور القلب في مقام النفس حتى يظهر بعد خفائه (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي : ميتة ، فانية ، صائرة إلى رتبة القوّة النباتية التي لا شعور لها ولا داعية ، ولإماتته عليه‌السلام إياها في تربية شعيب صلوات الله عليه وجعله إياها كالقوى النباتية سميت عصا ، ولهذا قيل : وهبها له شعيب عليه‌السلام.

[٢٢ ، ٢٣] (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي : اضمم عقلك إلى جانب روحك الذي هو جناحك الأيمن لتتنوّر بنور الهداية الحقانية ، فإن العقل بموافقة النفس وانضمامه إليها وإلى جانبها الذي هو الجناح الأيسر لتدبير المعاش يتكدر ويختلط بالوهم فيصير كدرا جاسيا لا يتنوّر ولا يقبل المواهب الربانية والحقائق الإلهية ، فأمر بضمه إلى جانب الروحليتصفى ويقبل نور القدس (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) منورة بنور الهداية الحقانية وشعاع النور القدسي (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : آفة ونقص ومرض من شوب الوهم والخيال (آيَةً أُخْرى) صفة منضمة إلى الصفة الأولى (لِنُرِيَكَ) من آيات تجليات صفاتنا الآية (الْكُبْرى) التي هي الفناء في الوحدة ، أي : لتكون ببصرك في مقام تجليات الصفات ، فنريك من طريقها وجهتها ذاتنا عند التجلي الذاتي ، فتبصرنا بنا في القيامة الكبرى.

[٢٤] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بظهور الأنانية ، فاحتجب بها فتعدّى عن حدّ العبودية. وذلك يدل على أن النبوّة والرسالة غير موقوفة على الفناء الذاتي لأن الدخول في الأربعينية التي تجلى فيها له بالذات كان بعد هلاك فرعون ، وهذه الرسالة والدعوة إنما كانت في مقام تجلي الصفات. ويقوي هذا ما قلنا مرارا : إن أكثر سير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعد النبوّة والوحي والاهتداء بالتنزيل.

[٢٥ ـ ٣٥] (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بنور اليقين والتمكين في مقام تجلي الصفات لئلا يضيق بإيذائهم ، ولا تتأذى وتتألم نفسي بطعنهم وسفاهتهم ، فكما أتكلم بكلامك معهم أسمع بسمعك كلامهم وأجده كلامك ، وأرى ببصرك إيذاءهم وأجده فعلك ، فلا أرى ولا أسمع ما يقابلونني به إلا منك ، فأصبر على بلائك بك ولا تظهر نفسي برؤيتها منهم ، فتحتجب بصفاتها وصفاتهم عن صفاتك (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي : أمر الدعوة بتوفيقهم لقبول دينك وإمدادي على المعاندين من نصرك وتأييد قدسك (وَاحْلُلْ عُقْدَةً) من عقد العقل والفكر المانعين عن إطلاق لساني بكلامك والجراءة والشجاعة على تصريح الكلام في تبليغ رسالتك وإعلاء كلمتك وإظهار دينك على دينهم بالحجة والبينة في مقابلة جبروتهم وفرعنتهم رعاية لمصلحة خوف السطوة (يَفْقَهُوا قَوْلِي) لتليينك قلوبهم والخشوع والخشية فيها وتأييدك إياي من عالم القدس والأيد. وباقي القصة لا يقبل التأويل فإن أردت التطبيق فاعلم أن موسى القلب يسأل الله تعالى بلسان الحال أن يجعل هارون العقل الذي هو أخوه الأكبر من أبيه روح القدس له وزيرا يتقوّى به ويستوزره في أموره ويعتضد برأيه مشاركا معاونا له في اكتساب كمالاته معللا طلبه بقوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ) أي : بالتجريد عن صفات النفس وهيئاتها (كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ) باكتساب المعارف والحقائق والحضور في المكاشفات ومقام تجليات الصفات (كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا) أي : باستعدادنا لقبول الكمال وأهليتنا له (بَصِيراً) فأعنا واجعلنا متعاونين على ما ترى منا وتريد.

[٣٦ ـ ٣٩] (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩))

(قَدْ أُوتِيتَ) أعطيت (سُؤْلَكَ) ووفقت لتحصيل مطلوبك. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً

أُخْرى) قبل إرادتك وطلبك بمحض عنايتنا (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) النفس الحيوانية (ما يُوحى) أي : أشرنا إليها (أَنِ اقْذِفِيهِ) في تابوت البدن أو الطبيعة الجسمانية (فَاقْذِفِيهِ) في يمّ الطبيعة الهيولانية (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ) عند ظهور نور التمييز والرشد بساحل النجاة (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ) النفس الأمّارة الجبارة الفرعونية (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي : أحببتك وجعلتك محبوبا إلى القلوب وإلى كل شيء حتى النفس الأمّارة والقوى ، ومن أحببته يحبه كل شيء (وَلِتُصْنَعَ) وتربى على كلاءتي وحفظي فعلت ذلك.

[٤٠ ، ٤١] (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) العاقلة العملية عند ظهورها وحركتها (فَتَقُولُ) للنفس الأمّارة والقوى المنعطفة عليه (هَلْ أَدُلُّكُمْ) بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة على أهل بيت من النفس اللوّامة وقواها الجزئية بفوات قرّة عينها (عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لكم بالتربية بالفكر والإرضاع بلبان الحكمة العملية والعلوم النافعة وهم له ناصحون معاونون على كسب الكمال ، مرشدون إلى الأعمال الصالحة ، معدّون للترقي إلى المرتبة الرفيعة (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) المشفقة عليك التي هي النفس اللوّامة اللائمة لنفسها بتضييع قرّة عينها ليحصل اطمئنانها بنور اليقين وتتهذب بالحكمة العملية وترضع منها اللبن المذكور وتتربى في حجر تربيتها بالمدركات الجزئية والآلات البدنية والأعمال الزكية (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي : تتنوّر بنورك (وَلا تَحْزَنَ) على فوات قرّة عينها ونقصها.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) أي : الصورة الغضبية المسوّلة لك بالرياضة والإماتة (فَنَجَّيْناكَ) من غمّ استيلاء النفس الأمّارة وإهلاكها إياك (وَفَتَنَّاكَ) ضروبا من الفتن بظهور النفس وصفاتها والرياضة والمجاهدة في دفعها وقمعها وإماتتها وتزكيتها (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) العلم من القوى الروحانية عند شعيب العقل الفعال (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) على حد من الكمال المقدّر بحسب استعدادك أو على شيء مما قدّرته لك ، أي : بعض ما قدر لك من الكمال التام الذي هو التجلي الذاتي الذي سيوهب لك بعد كمال الصفات (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي : استخلصتك لنفسي وجعلتك من جملة خواصي من بين أهل مدينة البدن ، ولما فيك من الخصال الشريفة والأهلية لخلافتي.

[٤٢ ـ ٤٧] (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ

يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧))

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) إلى آخر القصة ، إن أريد تطبيقها قيل : اذهب يا موسى القلب أنت وأخوك العقل (بِآياتِي) حججي وبيناتي والاستيلاء ولا تفترا (فِي ذِكْرِي إِلى فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة الطاغية المجاوزة حدّها بالاستعلاء والاستيلاء على جميع القوى الروحانية (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) بالرفق والمداراة في دعوتها إلى الاستسلام لأمر الحق والانقياد لحكم الشرع. لعلها تلين فتتعظ وتنقاد. ولما خافا طغيانها وتفرعنها لتعوّدها بالاستعلاء ، شجعهما الله بالتأييد والإعانة والمحافظة والكلاءة والإحاطة بما يقاسيانه ويكابدانه منها ، وأمرهما بتبليغ الرسالة في تطويعها وتسخيرها وإلزامها الامتناع عن استعباد القوى الحيوانية والكفّ عن تسخيرها ، وأن يرسلها معهما في التوجه إلى الحضرة الإلهية واستفاضة الأنوار الروحية القدسية والمعارف الحقيقية ولا يعذبها في تحصيل اللذات الحسيّة والزخارف الدنيوية (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) ببرهان دال على وجوب متابعتك إيانا.

(وَالسَّلامُ) أي : السلامة من النقائص والنجاة من العلائق والفيض النوري من العالم الروحي (عَلى مَنِ اتَّبَعَ) البرهان وتمسك بالنور الإلهي.

[٤٨ ـ ٥٢] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) في جحيم الطبيعة وهاوية الهيولى على من خالفه وأعرض عنه (فَمَنْ رَبُّكُما) إشارة إلى احتجاب النفس من جناب الربّ ، وقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى) هداية له بالدليل وتبصيرا بالحجة ، أي : أعطاه خلقا على وفق مصالح ذاته وآلات تناسب خواصه ومنافعه ومقاصده وهداه إلى تحصيلها (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) إشارة إلى احتجابها عن المعاد والأحوال الأخروية من السعادة والشقاوة وعن إحاطة علم الله تعالى لها. ولما كان الواجب الأول معرفة الله تعالى بصفاته وكانت معرفة المعاد موقوفة عليها أجاب بإحاطة علمه بها وبأحوالها مع كثرتها وكون ذلك العلم مثبتا في اللوح المحفوظ باقيا أزلا وأبدا ، لا يجوز عليه الخطأ والنسيان.

[٥٣ ـ ٥٥] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها القوى البدنية أرض البدن (مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) من الأعضاء والجوارح كالعين والأذن والأنف وغيرها (وَأَنْزَلَ) من سماء الروح ماء الإدراك والمدد الروحاني (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أصنافا من الإدراكات والأفاعيل والخواص والهيئات والملكات المخصوصة بكل قوة منكم (كُلُوا) اغتذوا وتقووا بما يختص بكم من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) القوى الحيوانية بما يختص بها من الأخلاق والآداب (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء التي هي مظاهرها (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بإماتة عند الرياضة حتى يلازم كل محله ويندس فيه لا حراك به ولا يتطلب التجاوز عن حدّه والاستيلاء على غيره بمحو صفات النفس حتى الفناء (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) عند البقاء بالحياة الموهوبة الحقيقية فتعتدل حركاتها وتفضل ملكاتها.

[٥٦ ـ ٦٣] (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) أَرَيْناهُ آياتِنا) من الحجج والبينات الدالة على التجرّد عن المواد ووجود الأنوار (فَكَذَّبَ) لكونها مادة (وَأَبى) القبول لامتناع إدراكها للمجرّدات وأنكر إزعاجها عن وكرها البدني بقوله : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) ونسب البرهان إلى السحر لقصورها عن إدراكه وعجزها عن قبوله وأغرى القوى التخيلية والوهمية على المعارضة والمجادلة وقلما أذعنت النفس للبرهان النير والحق البين بدون الرياضة والإماتة ، وكلما أورد عليها حرّضت الوهم والتخيل على التشكيك والقدح. والموعد هو وقت تركيب الحجة وترتيب المقامات وذلك وقت زينة النفس الناطقة بالمدركات وحشر القوى العقلية والروحانية لاستحضار المعلومات والمخزونات (ضُحًى) إشراق نور شمس العقل الفعال إذ هناك تعرض النفس عن قبولها ويجمع كيدها من أنواع المغالطات والوهميات ويقمعها القلب باليقينيات وإظهار أكاذيبها المفتريات. والتنازع الواقع بين القوى النفسانية هو عدم مسالمتها في طاعة القلب وانجذاب كل منها إلى لذته متمانعة متخالفة. وإسرارها النجوى استبطان الكل الدواعي المخالفة للقلب مع تخالفها في أنفسها. ونسبتها إلى السحر إشارة إلى عجزها عن إدراك معانيها وخفاء براهينها

عليها. والطريق المثلى ، أي : الفضلى عندها هي تحصيل اللذات الحسيّة والانهماك في الشهوات البدنية. وإلقاؤها أولا إشارة إلى تقدّم الوهميات والخياليات في الوجود الإنساني على العقليات واليقينيات عند السلوك وإلا ما احتيج إلى البرهان القاطع والدليل الواضح وإلى أن الواجب على الداعي إلى الحق أولا نقض الباطل ودفع الشبهة بالحجة ليزول الاعتقاد الفاسد ويتمكن استقرار الحق. والحبال والعصيّ هي المغالطات والسفسطات من الشبهة الجدلية التي تكاد تتمشى وتغلب على القلب لو لا تأييد الحق بنور الروح والعقل وهو معنى قوله : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) (١) العاقلة النظرية من البرهان المعتمد عليه يفن مصنوعاتهم المزخرفة وأباطيلهم المموّهة ، فتضمحلّ وتتلاشى. إنما صنعوا كيد تزوير ومكر لا حقيقة له لا ما صنعت كما زعموا ، فألقي السحرة سجدا فانقادت حينئذ القوى الوهمية والخيالية والتخييلية والحسية عند ظهور عجزها والنفس الأمارة ثابتة في تفرعنها وعتوّها لعدم ارتياضها واعتيادها بمألوفاتها وترأسها على القوى وتجبرها ، باقية على عنادها وشدّة شكيمتها. ولأقطعنّ إشارة إلى إبعادها وتخويفها للقوى عند إذعانها بمنع تصرّفاتها في المعايش وترك سعيها في تحصيل الملاذ والمشتهيات الجسمانية من جهة مخالفتها إياها بموافقة القلب. وصلبها في جذوع النخل : إيقافها بالإماتة عند الرياضة في حدّ القوى النباتية وإثباتها في مقارّها ومبادئ نشأتها من أعالي مراتب القوى النباتية دون التصرّف في سائر المراتب والاستعلاء على المناصب والاستيلاء في المكاسب ، أو من الأعضاء التي هي معادنها ومظاهرها. وهذا التخويف على هذا التأويل من قبيل أحاديث النفس وهواجسها بسبب اللمات الشيطانية المثبطة عن المجاهدة لقوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٢) ليفيد إعراضها عن مطاوعة القلب وقيامها بخدمتها وتسخرها لها ولو حمل على المباحثة الظاهرة المستفادة من قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) بعد التصديق بالظاهر والإيمان بالإعجاز الباهر لأجرى قوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) (٤) على ظاهره إلى قوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (٥) أي : تباحثوا فيما بينهم في السر ، متنازعين فيما يعارضونه به من ضروب الجدل. وقيل في قوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٦) مفلقان في البيان والفصاحة والاحتجاج لا يكاد يعارضهما أحد فيحجّهما.

__________________

(١) سورة طه ، الآيات : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٥.

(٣) سورة النحل ، الآية : ١٢٥.

(٤) سورة طه ، الآية : ٤٢.

(٥) سورة طه ، الآية : ٦٢.

(٦) سورة طه ، الآية : ٦٣.

[٦٤ ـ ٦٧] (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧))

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي : اتّفقوا فيما تبارزونهما به فتكونوا متفقيّ الكلمة متعاضدين (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) أي : تخيلاتهم ووهمياتهم (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) في التركيب والبلاغة وحسن التقرير وتمشية المغالطة والسفسطة وهيئة ترتيب القياس الجدلي كأنها تسعى ، أي : تمشي (خِيفَةً) عن غلبة الجهّال ودولة الضلال ، كماقال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «لم يوجس موسى خيفة على نفسه ، إنما خاف من غلبة الجهّال ودولة الضلال».

[٦٨ ـ ٧١] (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))

(قُلْنا لا تَخَفْ) شجعناه وأيّدناه بروح القدس (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أي : ما في ضبط عقلك من النفس المؤتلفة بشعاع القدس المضيئة بنور الحق (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ما زخرفوا وزوّروا من الشبهات والتمويهات الباطلة والأباطيل المزخرفة بالحجج النيرة والبراهين الواضحة (إِنَّما صَنَعُوا) وتلقفوا (كَيْدُ ساحِرٍ) أي : تمويه وتزوير (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) منصفين مذعنين مقرين بكونه على الحق لما عرفوا من صدق البينة وظهور المعجزة وقيام الحجة وجلية البرهان (قالُوا آمَنَّا) الإيمان اليقيني لأنهم كوشفوا بالحق فعرفوا ربوبيته للكل ، وإنما أضافوا الربّ إليهما مع تعميم الإضافة إلى العالمين لزيادة اختصاصهما به وفضل ربوبيته إياهما ، فإنه يربّ كل شيء باسم يناسبه ويقتضيه استعداده ويربهما بأكبر أسمائه الحسنى على حسب كمال استعدادهما ولظهوره فيهما بكمالات صفاته وتجليه عليهم فيهما بآياته ، فعلموا أنهم من شكوتهما عرفوا ما عرفوا ، وبوسيلتهما وصلوا إلى ما وصلوا ، وبتبعيتهما وجدوا ما وجدوا ، لا على سبيل الاستقلال. واعلم أن الساحر أقرب الناس استعدادا من النبي لأن مبادئ خوارق العادات أمور ثلاثة : إما خواص التركيب وتمزيجات المواد العنصرية والصور وجمع الأخلاط المختلفة المزاج والجوهر وهو من باب النيرنجات. وإما جمع القوى السماوية والأرضية بإعداد الصور السفلية والمواد العنصرية لاستجلاب فيض النفوس السماوية واتصالها بقوى الأجرام الأرضية وهو من باب الطلسمات ، وأما تأثير النفوس وهيئاتها المستفادة من العالم العلوي وهو من الكامل المبعوث للنبوّة القائم بالدعوة إعجاز ومن الواصل المحق المترقي إلى

ذروة الولاية غير المبعوث للنبوّة كرامة. والفرق بينهما أن الإعجاز مقارن للتحدّي والمعارضة دون الكرامة ومن المقبل على الدنيا المعرض عن العالم الأعلى سحر ، فكانت نفس الساحر في بدء فطرتها قوية مخصوصة بهيئات مؤثرة في هذا العالم وأجرامه إلا أنها أعرضت عن مبدئها بالركون إلى العالم السفلي وانقطعت عن أصل القوى والقدر ومنبع التأثير والقهر بالميل إلى عالم الطبع ، فلا يزال يضعف ما فيها من الهيئة النورية والشعاع القدسي كما لا يزال يزداد في نفس النبيّ والوليّ بالإقبال على الحق والائتلاف بنور القدس والتأييد بالقوة الملكوتية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ولا جرم ينكسر من النبيّ حين عارضه وينقمع بنفسه إذا قابله ، فهو أعرف الناس بالنبيّ عند عجزه وإنكاره وأقبل الخلق لدعوته وأنواره ، وأسبقهم إلى الإقرار به لكونه أقربهم في الاستعداد إليه ما لم يبطل استعداده الأول بالكلية ولم يغلب عليه دين الطبيعة السفلية.

[٧٢ ـ ٧٤] (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤))

(لَنْ نُؤْثِرَكَ) كلام صادر من عظم الهمة الحاصلة للنفس بقوة اليقين ، إذ قوة اليقين في القلب تورث النفس عظم الهمة وهو عدم مبالاتها بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسيّة في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية العقلية ، ولهذا استخفوا بها واستحقروها بقولهم : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا). (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي : يستر بنوره الهيئات المظلمة والصفات الرديئة التي عرضت لنفوسنا بسبب الميل إلى اللذات الطبيعية ومحبة الزخارف الدنيوية (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي : معارضة موسى لأنهم لما عرفوه بنور استعدادهم وعلموا كونه على الحق ، فاستعفوا عن معارضته فأكرههم اللعين (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) في القيامة الصغرى مجرما مثّقلا بالهيئات البدنية المميلة إلى الأجرام الطبيعية (لا يَمُوتُ فِيها) بالموت الطبيعي ، فلا يشعر بالآلام (وَلا يَحْيى) بالحياة الحقيقية فينجو من تبعات الآثام.

[٧٥ ، ٧٦] (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) بالإيمان اليقيني (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) من الفضائل النفسانية المزكية للنفوس (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) من جنات الصفات بحسب درجات ترقيهم في الكمالات.

[٧٧ ـ ٧٩] (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

(أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) في ظلمة صفات النفوس وليل الجسمانية (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) من التجريد في بحر عالم الهيولى (يَبَساً) لا تصل إليه نداوة الهيئات الهيولانية ورطوبة المواد الجسمانية (لا تَخافُ دَرَكاً) لحوقا من البدنيين المنغمسين في غواشي الطبيعة الظلمانية (وَلا تَخْشى) غلبتهم عليكم واستيلاءهم ، فإنهم مقيدون محبوسون فيها ، قاصرون عن شأنكم (فَأَتْبَعَهُمْ) لإهلاكهم دينهم بالانغماس في الطبيعيات فغشيهم من يم القطران ما غشيهم من الهلاك السرمدي والعذاب الأبدي ، والتطبيق قد مرّ غير مرة.

[٨٠ ، ٨١] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١))

(وَواعَدْناكُمْ جانِبَ) طور القلب (الْأَيْمَنَ) الذي يلي روح القدس وهو محل الوحي الذي يسمونه الروع والفؤاد (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ) من الأحوال والمذاهب من الذوقيات وسلوى العلوم والمعارف من اليقينيات (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : تغذوا تلك المعارف الطيبة وتقبلوها بقلوبكم فإنها سبب حياتها (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) بظهور النفس وإعجابها بنفسها عند استشراقها ورؤيتها بهجتها وكمالها وزينتها (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) غضب الحرمان وآفة الخذلان (فَقَدْ هَوى) سقط عن مقام القرب في جحيم النفس واحتجب عن نور تجلي صفات الجمال في ظلمات الاستتار وأستار الجلال.

[٨٢] (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) لستّار صفات النفس الطاغية الظاهرة بتزييناتها واستغنائها بأنوار صفاتي (لِمَنْ تابَ) عن تظاهرها واستيلائها ، واستغفر بانكسارها وانقماعها ولزومها ذلّ فاقتها وافتقارها (وَآمَنَ) بأنوار الصفات القلبية وتجليات الأنوار الإلهية (وَعَمِلَ صالِحاً) في اكتساب المقامات كالتوكل والرضا والملكات المانعة من التلوينات بالحضور والصفاء (ثُمَّ اهْتَدى) إلى نور الذات وحال الفناء.

[٨٣ ـ ٩٩] (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ

يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩))

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) ـ إلى قوله ـ (فِي الْيَمِّ نَسْفاً) معناه على التحقيق : أنّ موسى عليه‌السلام لما شرّف بمقام المكالمة وأوتي كشف الصفات وبعث لإنقاذ بني إسرائيل وإرشادهم إلى الحق وعد شريعة يسوس بها قومه ، فاستخلف هارون على قومه وتخلى للمراقبة قبل تثبتهم على الإيمان وتقريرهم على الحق بالإيقان ، فعوقب على تلك العجلة وإن كانت من غاية الشوق إلى المشاهدة. واقتضاء المقام عدم التفرّغ إلى تكميل الغير لأن في تكميلهم بالمعرفة اليقينية والكمال العلمي ثبات قدمه في الطاعة وامتثال الأمر المستلزم للترقي في الحال ، فاعتذر بكونهم على متابعته في الدين وإن لم تبن معاملتهم على أساس اليقين والتعجيل ، إنما بدر منه لطلب مقام الرضا الذي هو كمال الفناء في الصفات وهو استحكام مقام التجلي الصفاتي الذي منه المكالمة ، وإنما ابتلاهم الله بالسامري ليتميز المستعدّ القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في الموادّ الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبّه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا : (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي : بأن ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا ، فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين بل مطبوعون مسوسون مقودون بدنيون لا طريق لهم إلا التقليد والعمل ، لا التحقيق والعلم. وإنما استعبدهم بالطلسم المفرع من الحلي لرسوخ محبة الذهب في طباعهم لكون نفوسهم سفلية منجذبة إلى الطبيعة الذهبية ، وتجلي تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية بالقوى الأرضية ولذلك قال : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) من العلم الطبيعي والرياضي الذين يبتنى عليهما علم الطلسمات والسيميات.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) وهي على ما قيل : تراب موطئ حافر الحيزوم الذي وفرس الحياة مركب جبرائيل ، أي : مما اتصل به أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المسخّرة للعقل الفعال ، المتأثرة منه ، الحاملة لصفائه التي هي بمثابة مركبه لاستعلائه عليها ووصول تأثيره إلى الطبائع العنصرية والأجرام السفلية بواسطتها من الأوضاع التي تفيض بسببها الآثار على المواد ، فتنفعل منها بحسب الاستعداد وتقبل الأحوال الغريبة التي هي بمثابة تراب موطئ مركبه (فَنَبَذْتُها) فطرحتها على الجرم المذاب عند الإفراغ في صورة العجل وذلك من تسويل النفس الشيطانية الشريرة.

وقوله : (فَاذْهَبْ) صادر عن غضبه عليه‌السلام وطرده إياه ، وإنما يجب حلول العذاب من غضب الأنبياء والأولياء لأنهم مظاهر صفات الله تعالى ، فكل من غضبوا عليه وقع في قهره تعالى وشقي في الدنيا والآخرة ، وعذّب بعذاب الأبد ، وذاق وبال العمل ، وكانت صورة عذابه في التحرّز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل. وأثر لعن موسى عليه‌السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره. وعلى التطبيق : إنّ القلب إذا سبق له كشف وجذبه الاجتهاد والسلوك وحصل عنده الكمال العلمي الكشفي دون العلمي الكسبي ، يكون في معرض عتاب الحق عند التعجل إلى الشهود والحضور ، ذاهلا عن أمر الشريعة والمجاهدة ، ويجب أن يردّ إلى العمل والرياضة لسياسة القوى واكتساب مقام الاستقامة ، إذ لا يقوى هارون العقل الذي هو خليفته على قومه القوى الروحانية والجسمانية على تدبيرهم وتقويمهم وتسديدهم بدون الرياضة والمجاهدة والمواظبة على الطاعة والمعاملة ، فينبعث سامريّ القوى النفسانية من الحواس ويوقد عليها نار حبّ الشهوات ، ويطرح عليها شيئا من أمداد الطالع بحسب الأوضاع المخصوصة ، أي : التي تأثرت من تأثير النفس الحيوانية التي هي فرس الحياة ، فيمثل الطبيعة بصورة العجل المفرغ في قالب الموادّ الذي همّه الأكل والشرب ودأبه اللذة والشهوة دون العمل والسعي بالإثارة والتعب كما أشير إليه ، وينتفخ فيه روح الهوى فيحيا ويتقوّى ويصيح ذا خوار ، فيعبده جميع القوى ويتخذه إلها ، وكلما نبهها العقل المؤيد بنور القلب على ضلالها وفتنتها ودعاها إلى الحق ومتابعة الرأي العقلي وطاعته ، خالفته حتى يرجع إليها القلب المنوّر بنور الحق ، المؤيد بتأييد القدس ، غضبان لله تعالى أسفا على ضلالها وتفرّقها في الدين ، ويعيرها ويعنفها بلسان النفس اللوّامة ، ويأخذها بالوعد والوعيد ، ويذكرها طول العهد من قرب الربّ بمقتضى الخلقة والنشأة والسقوط عن الفطرة ، ويخوّفها باستحقاق الغضب والسخطة عن نسيان العهد وإخلاف الوعد حين الإقرار بالربوبية عند ميثاق الفطرة ، فلا ينجع فيها القول إذا صارت مأسورة في أسر الهوى ، منقادة لسلطان التخيّل ، مستسلمة للردى ، ولا طريق إلا خرق الطبيعة الجسدانية بمبرد المجاهدة وإحراقها بنار

الرياضة ونسفها برياح نفحات الرحمة الإلهية التي إذا هبّت بها لاشت في يمّ الهيولى الجرمية لا حياة بها ولا حراك بعد تغير القوّة العاقلة بعد متابعتها للقلب ومشايعتها للسر في التوجه ، وبوجود موافقتها للقوى في الميل إلى الطبيعة والأخذ برأسها إلى جهتها العادية التي تلي الروح بتأثير النور فيه حتى تنفعل وتتأثر بشعاع القدس ونور الهداية الحقانية ولحيتها التي هي الهيئة الذكورية وصورة التأثير فيما تحت ، أي : جهتها السفلية التي تلي القوى النفسانية. وجرها إليه ، أي : الجهة العلوية وجناب الحق وعالم القدس الذي هو فيه ، فيتقوى بالأيد الإلهي والقدرة الربانية وجولانها فتؤثر فيها وتطوعها بأمر الحق لها وللقلب ، ويستخلصها من قهر التخيّل والوهم. واعتذار هارون إشارة إلى أن العقل غير المتنوّر بنور الهداية ، المتأيد بأمر الشريعة ، لا يقدر أن يحافظ القوى ويعاند التخيّل والهوى ، ولا يزيدها إلا التفرقة الموقعة في الردى. وعند استيلاء نور القلب والعقل وقهر الطبيعة بالكلية وحصول الاستقامة في الطريقة ، ينخزل التخيّل وينعزل ولا يقدر أن يماس شيئا من القوى بتخييله ولا يقاربه قوّة منها بقبول تسويله فيصير ملعونا ، مطرودا ، فيقول : لا مساس. وله موعد ، أي : حدّ ورتبة لا يجد خلفا فيه ولا يتجاوز ، فيترأس ، ويستولي ، ويروج أكاذيبه وغلطه بالمعقولات ، ويتفقه في المرادات وذلك مقام الاستقامة إلى الله والقيام بحقائق العبودية لله ، ولا تتجلى ناصية التوحيد ولا يحصل مقام التجرّد والتفريد إلا به ، ولذلك عقبه بقوله :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ يكون السالك قبل ذلك مصليا إلى قبلتين ، متردّدا في العبادة بين جهتين ، متخذا لإلهين (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : يتحقق هناك التوحيد بالفعل ، وتظهر إحاطة علمه بكل شيء وحدوده وغاياته فتقف كل قوّة بنور الحق وقدرته على حدّها في عبادته وطاعته عائذة به عن حولها وقوّتها ، عابدة له بحسب وسعها وطاقتها ، شاهدة إياه ، مقرّة بربوبيته بقدر ما أعطاها من معرفته. مثل ذلك القصص (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أحوال السالكين الذين سبقوا ، ومقاماتهم لتثبيت فؤادك وتمكينك في مقام الاستقامة كما أمرت (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي : ذكرا ما أعظمه وهو : ذكر الذات الذي يشمل مراتب التوحيد.

[١٠٠ ، ١٠١] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١))

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) بالتوجه إلى جانب الرجس وحيز الطبع والنفس (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى وزر الهيئات المثقلة الجرمانية ، وآثام تعلقات المواد الهيولانية.

[١٠٢ ـ ١٠٤] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ

لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

(يَوْمَ يُنْفَخُ) الحياة (فِي الصُّورِ) الجسمانية ، بردّ الأرواح إلى الأجساد (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) الملازمين للإجرام (زُرْقاً) عميا ، بيض سواد العيون ، أو شوها في غاية قبح المناظر ، يحسن عندها القردة والخنازير ، يسرون الكلام لشدّة الخوف أو عدم القدرة على النطق ، ويستقصرون مدة اللبث في الحياة الدنيوية لسرعة انقضائها وكل من كان أرجح عقلا منهم كان أشدّ استقصارا إياها.

[١٠٥ ـ ١٠٧] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧))

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي : وجودات الأبدان (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي) برياح الحوادث رميما ورفاتا ثم هباء منثورا ، فيسوّيها بالأرض لا بقية منها ولا أثر. أو حوادث الأشياء فقل : ينسفها ربّي برياح النفحات الإلهية الناشئة عن معدن الأحدية (فَيَذَرُها) في القيامة الكبرى (قاعاً صَفْصَفاً) وجودا أحديا صرفا (لا تَرى فِيها) اثنينية ولا غير ، فتقدح في استوائها.

[١٠٨ ـ ١١١] (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١))

(يَوْمَئِذٍ) يوم إذ قامت القيامة الكبرى (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) الذي هو الحق ، لا حراك بهم ولا حياة لهم إلا به (لا عِوَجَ لَهُ) أي : لا انحراف عنه ولا زيغ عن سمته إذ هو آخذ بناصيتهم وهو على صراط مستقيم ، فهم يسيرون بسيرة الحق على مقتضى إرادته (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) انخفضت كلها لأن الصوت صوته فحسب (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) خفيّا ، باعتبار الإضافة إلى المظاهر. أو يوم إذ قامت القيامة الصغرى يتبعون الداعي الذي هو إسرافيل مدبّر الفلك الرابع ، المفيض للحياة ، لا ينحرف عنه مدعوّ إلى خلاف ما اقتضته الحكمة الإلهية من التعلق به. وخشعت الأصوات في الدعاء إلى غير ما دعا إليه الرحمن فلا تسمع إلا همس الهواجس والتمنيات الفاسدة و (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي : شفاعة من تولّاه وأحبّه في الحياة الدنيا ممن اقتدى به وتمسك بهدايته (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) باستعداد قبولها ، فإنّ فيض النفوس الكاملة التي تتوجه إليها النفوس الناقصة بالإرادة والرغبة موقوفة على استعدادها لقبوله بالصفاء وذلك هو الإذن (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي : رضي له تأثيرا يناسب المشفوع له ، فتتوقف الشفاعة على أمرين : قدرة الشفيع على التأثير ، وقوة المشفوع له للقبول والتأثر. وهو (يَعْلَمُ)

الجهتين (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من قوّة القبول بالاستعداد الأصلي وتأثير الشفيع بالتنوير (وَما خَلْفَهُمْ) من الموانع العارضة من جهة البدن وقواه ، والهيئات الفاسقة المزيلة للقبول الأصلي أو المعدات الحاصلة من جهتها بالتزكية على وفق العقل العملي (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) أي : الذوات الموجودات بأسرها (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وكلها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته ، لا تحيا ولا تقوم إلا به لا بأنفسها ولا بشيء غيره. (وَقَدْ خابَ) عن نور رحمته وشفاعة الشافعين من ظلم نفسه بنقص استعداده وتكدير صفاء فطرته ، فزال قبوله للتنوّر باسوداد وجهه وظلمته.

[١١٢ ـ ١١٣] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣))

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بالتزكية والتحلية (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالإيمان التحقيقي (فَلا يَخافُ) أن ينقص شيء من كمالاته الحاصلة ولا أن يكسر من حقه الذي يقتضيه استعداده الأصلي في المرتبة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) بالتزكية (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) بالتحلية.

[١١٤ ـ ١٢٣] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣))

(فَتَعالَى اللهُ) تناهى في العلوّ والعظمة بحيث لا يقدر قدره ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته (وَلا تَعْجَلْ) عند هيجان الشوق لغاية الذوق بتلقي العلم اللدني عن مكمن الجمع (مِنْ قَبْلِ) أن يحكم بوروده عليك ووصوله إليك ، فإن نزول العلم والحكمة مترتب بحسب ترتب مراتب ترقيك في القبول. ولا تفتر عن الطلب والاستفاضة فإنه غير متناه ، واطلب الزيادة فيه بزيادة التصفية والترقي والتحلية ، إذ الاستزادة إنما تكون بدعاء الحال ولسان الاستعداد ، لا بتعجيل الطلب والسؤال قبل إمكان القبول. وكلما علمت شيئا زاد قبولك لما هو أعلى منه وأخفى. وقصة آدم وتأويلها مرّت غير مرة (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إذ في التجرّد عن ملابسة الموادّ في العالم الروحاني لا يمكن تزاحم الأضداد ولا يكون التحليل

المؤدّي إلى الفساد بل تلتذ النفس بحصول المراد آمنة من الفناء والنفاد.

[١٢٤ ـ ١٢٨] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨))

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) بالتوجه إلى العالم السفلي بالميل النفسي ، ضاقت معيشته لغلبة شحه وشدّة بخله ، فإنّ المعرض عن جناب الحق ركدت نفسه وانجذبت إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياها ، واشتدّ حرصه وكلبه عليها ونهمه وشغفه بها لقوّة محبته إياها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية ، فيشحّ بها عن نفسه وغيره ، وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحّه بها وذلك هو الضنك في المعيشة. ولهذا قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر ربّه إلا أظلم عليه وتشوّش عليه رزقه. بخلاف الذاكر المتوجّه إليه فإنه ذو يقين منه وتوكل عليه في سعة من عيشه ورغد ، ينفق ما يجد ويستغني بربّه عما يفقد (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى على عماه من نور الحق كقوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (١) وإنكاره لعماه إنما يكون بلسان الاستعداد الأصلي والنور الفطري المنافي لعماه من رسوخ هيئة الحبّ السفلي والعشق النفسي الاستعداد الأصلي والنور الفطري المنافي لعماه من رسوخ هيئة الحبّ السفلي والعشق النفسي بالفسق الجرمي ونسيان الآيات البينات والأنوار المشرقات الموجب لإعراضه تعالى عنه وتركه فيما هو فيه (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) من ضنك العيش في الدنيا لكونه روحانيا دائما.

[١٢٩] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) أي : قضاء سابق أن لا يستأصل هذه الأمّة بالدمار والعذاب في الدنيا لكون نبيهم نبيّ الرحمة ، وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٢) لكان الإهلاك لازما لهم (فَاصْبِرْ) بالله.

[١٣٠] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠))

(عَلى ما يَقُولُونَ) فإنك تراهم جارين على ما قضى الله عليهم ، مأسورين في أسر قهره ومكره بهم (وَسَبِّحْ) أي : نزّه ذاتك بتجريدها عن صفاتها متلبسا بصفات ربّك ، فإن ظهورها

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٣٣.

عليك هو الحمد الحقيقي (قَبْلَ طُلُوعِ) شمس الذات حال الفناء (وَقَبْلَ غُرُوبِها) باستتارها عند ظهور صفات النفس ، أي : في مقام القلب حال تجلي الصفات ، فإن تسبيح الله هناك محو صفات القلب (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) أي : أوقات غلبات صفات النفس المظلمة والتلوينات الحاجبة (فَسَبِّحْ) بالتزكية (وَأَطْرافَ) نهار إشراق الروح على القلب بالتصفية (لَعَلَّكَ) تصل إلى مقام الرضا الذي هو كمال مقام تجلي الصفات وغايته.

[١٣١ ـ ١٣٥] (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) في التلوينات النفسية وظهور النفس بالميل إلى الزخارف الدنيوية ، فإنها صور ابتلاء أهل الدنيا (وَرِزْقُ رَبِّكَ) من الحقائق والمعارف الأخروية والأنوار الروحانية (خَيْرٌ وَأَبْقى) أفضل وأدوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) القوى الروحانية والنفسانية بصلاة الحضور والمراقبة والانقياد والمطاوعة (وَاصْطَبِرْ) على تلك الحالة بالمجاهدة والمكاشفة (لا نَسْئَلُكَ) لا نطلب منك (رِزْقاً) من الجهة السفلية كالكمالات الحسيّة والمدركات النفسية (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) من الجهة العلوية المعارف الروحانية والحقائق القدسية (وَالْعاقِبَةُ) التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة للتجرّد عن الملابس البدنية والهيئات النفسانية (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) من الحقائق والحكم والمعارف اليقينية الثابتة في الألواح السماوية والأرواح العلوية ، والله تعالى أعلم.

سورة الأنبياء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٧] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧))

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) في القيامة الصغرى ، بل لو عرفوا القيامة لعاينوا حسابهم الآن. أي : لو أردنا أن نتخذ موجودات تحدث وتفنى كما قيل : (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) لأمكننا من جهة القدرة لكنه ينافي الحكمة والحقيقة فلا نتخذها (بَلْ نَقْذِفُ)

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

باليقين البرهاني والكشفي على الاعتقاد الباطل (فَيَدْمَغُهُ) فيقمعه (فَإِذا هُوَ) زائل (وَلَكُمُ) الهلاك (مِمَّا تَصِفُونَ) من عدم الحشر أو نقذف بالتجلي الذاتي في القيامة الكبرى الذي هو الحق الثابت الغير المتغير على باطل هذه الموجودات الفانية فيقهره ويجعله لا شيئا محضا ، فإذا هو فان صرف ، فيظهر أنّ الكل حق وأمره جد ، لا باطل ولا لهو ، ولكم الهلاك والفناء الصرف مما تصفون من إثبات وجود الغير واتصافه بصفة وفعل وتأثير (لَفَسَدَتا) لأن الوحدة موجبة لبقاء الأشياء ، والكثرة موجبة لفسادها. ألا ترى أن كل شيء له خاصية واحدة يمتاز بها عن غيره هو بها هو ولو لم تكن لم يوجد ذلك الشيء ، وهي الشاهدة بوحدانيته تعالى كما قيل :

ففي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

والعدل الذي قامت به السموات والأرض هو ظل الوحدة في عالم الكثرة ، ولو لم يوجد هيئة وحدانية في المركبات كاعتدال المزاج لما وجدت ، ولو زالت تلك الهيئة لفسدت في الحال (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : نزّه للفيض على الكل بربوبيته للعرش الذي ينزل منه الفيض على جميع الموجودات عما تصفونه من إمكان التعدّد.

[٢٨ ـ ٢٩] (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : ما تقدّمهم من العلم الكليّ الثابت في أمّ الكتاب المشتمل على جميع علوم الذوات المجرّدة من أهل الجبروت والملكوت (وَما خَلْفَهُمْ) من علوم الكائنات والحوادث الجزئية الثابتة في السماء الدنيا ، فكيف يخرج علمهم عن إحاطة علمه ويسبق فعلهم أمره وقولهم قوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ) علمه أهلا للشفاعة بقبوله لصفاء استعداده ومناسبة نفسه للنور الملكوتي (وَهُمْ) في الخشية من سبحات وجهه والخشوع والإشفاق والانقهار تحت أنوار عظمته.

[٣٠] (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَ) المحجوبون عن الحق (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا) مرتوقتين من هيولى واحدة ومادة جسمانية (فَفَتَقْناهُما) بتباين الصور ، أو أن سموات الأرواح وأرض الجسد كانتا مرتوقتين في صورة نطفة واحدة ففتقناهما بتباين الأعضاء والأرواح.

[٣١] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

(وَجَعَلْنا) أي : خلقنا من النطفة كل حيوان (وَجَعَلْنا) في أرض الجسد (رَواسِيَ) العظام كراهة أن تضطرب وتجيء وتذهب وتختلف بهم فلا تقوم بهم وتستقل (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً) مجاري ، طرقا للحواس وجميع القوى (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بتلك الحواس والطرق إلى آيات الله فيعرفوه.

[٣٢] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

(وَجَعَلْنَا) سماء العقل (سَقْفاً) مرتفعا فوقهم (مَحْفُوظاً) من التغير والسهو والخطأ (وَهُمْ) عن حججها وبراهينها (مُعْرِضُونَ).

[٣٣ ـ ٣٨] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ) ليل النفس ونهار العقل الذي هو نور شمس الروح وقمر القلب (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي : مقرّ علوي وحدّ ومرتبة من سموات الروحانيات يسيرون إلى الله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) إذ النفس التي هي أصل الخلقة دائمة الطيش والاضطراب لا تثبت على حال فهو مجبول على العجل ولو لم يكن كذلك لم يكن له السير والترقي من حال إلى حال إذ الروح دائم الثبات وبتعلقه بالنفس يحصل وجود القلب ويعتدل بهما في السير ، فما دام الإنسان في مقام النفس ولم يغلب عليه نور الروح والقلب المفيد للسكينة والطمأنينة يلزمه العجلة بمقتضى الجبلة.

[٣٩ ـ ٤٥] (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

(لَوْ يَعْلَمُ) المحجوبون عن الرحمن العامّ الفيض وعن المعاد الشامل للكل وقت إحاطة العذاب بهم جميع الجهات بأمر الرحمن المحيط العلم الوحداني الأمر فلا يقدرون أن يمنعوه

عما قدامهم من الجهة التي تلي الروح المعذبة بنار القهر الإلهي والحرمان الكلي من الأنوار الروحانية والكمالات الإنسانية ولا عما خلفهم من الجهة التي تلي الجسد المعذبة بنار الهيئات الجسمانية والعقارب والحيّات السود النفسانية والأقذار الهيولانية والآلام الجسدانية (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من الأمداد الرحمانية لكثافة حجابهم وشدّة ارتيابهم لما استعجلوا.

(أَفَلا يَرَوْنَ) أتمادت غفلتهم فلا يرون (أَنَّا نَأْتِي) أرض البدن بالشيخوخة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) كالسمع والبصر وسائر القوى أو أرض النفس المتيقظة المتوجهة إلى الحق ، الذاكرة بأنوار الصفات ننقصها من صفاتها وقواها (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أم نحن.

[٤٦] (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) من النفحات الربانية في صورة العذاب أي : من الألطاف الخفيّة كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سبحان من اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته ، واتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته». فكشف عنهم حجاب الغفلة المتراكمة من طول التمتيع الذي هو النقمة في صورة الرحمة والقهر الخفيّ ليستيقظنّ ويتنبهنّ لظلمهم في إعراضهم عن الحق وانهماكهم في الباطل.

[٤٧] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ميزان الله تعالى هو عدله الذي هو ظلّ وحدته وصفته اللازمة لها ، به قامت سموات الأرواح وأرض الأجساد واستقامت ولولاه لما استقرّ أمر الوجود على النسق المحدود. ولما شمل الكل أصاب كل موجود قسطه منه بحسب حاله وقدر احتماله فصار بالنسبة إلى كل أحد بل كل شيء ميزانا خاصا وتعدّدت الموازين على حسب تعدّد الأشياء وهي جزئيات الميزان المطلق ولذلك أبدل القسط المطلق منها أو وصفها به ، فإنها كلها هي العدل المطلق الواحد ولا تتعدّد الحقيقة بتعدّد المظاهر. ووضعها عبارة عن ظهور مقتضاها وذلك إنما يكون يوم القيامة الصغرى بالنسبة إلى المحجوب ويوم القيامة الكبرى بالنسبة إلى أهلها (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) لأن كل ما عملت من خير وجد حالة عمله في كفّة الحسنات التي هي جهة الروح من القلب هو كل ما عملت من سوء وضع في كفّة السيئات التي هي جهة النفس منه. والقلب هو لسان الميزان ولهذا قيل : يجعل في كفّة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفّة السيئات جواهر سود مظلمة ، إلا أن الثقل هناك يوجب الصعود والميل إلى العلوّ ، والخفة توجب النزول والميل إلى السفل بخلاف الميزان الجسماني إذ الثقيل ثمة هو الراجح المعتبر الباقي عند الله والخفيف هو المرجوح الفاني الذي لا وزن له عند الله ولا

اعتبار فلا ينقص مما عملت نفس شيئا (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ومن هذا يعلم ما قيل : إن الله تعالى يحاسب الخلائق في أسرع من فواق شاة.

[٤٨ ـ ٤٩] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

(آتَيْنا مُوسى) القلب (وَهارُونَ) العقل أو على ظاهرهما (الْفُرْقانَ) أي : العلم التفصيلي الكشفي المسمّى بالعقل الفرقاني (وَضِياءً) أي : نورا تاما من المشاهدات الروحانية (وَذِكْراً) أي : تذكيرا وموعظة (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ) تزكت نفوسهم من الرذائل والصفات الحاجبة فأشرقت أنوار طيبات العظمة من قلوبهم على نفوسهم لصفائها وزكائها فأورثت الخشية في حال الغيبة قبل الوصول إلى مقام الحضور القلبي (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي : القيامة الكبرى على إشفاق وتوقع لوقوعها لقوة يقينهم إذ الإشفاق إنما يكون عند التوقع لشيء مترقب الوقوع. أي : آتيناهما في مقام القلب ، العلم الذي به يفرق بين الحق والباطل من الحقائق والمعارف الكلية وفي مقام الروح ومرتبته النور المشاهد الباهر على كل نور ، وفي مقام النفس ورتبة الصدر التذكير بالمواعظ والنصائح والشرائع من العلوم الجزئية النافعة للمستعدّين القابلين السالكين.

[٥٠] (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

(وَهذا ذِكْرٌ) غزير الخير والبركة ، شامل للأمور الثلاثة ، زائد عليها بالكشف الذاتي والشهود الحق في مقام الهوية وعين جمع الأحدية جامع لجوامع الكلم ، حاف بجميع المشاهدات والحكم إذ في البركة معنى النماء والزيادة.

[٥١] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ) الروح (رُشْدَهُ) المخصوص به الذي يليق بمثله وهو الاهتداء إلى التوحيد الذاتي ومقام المشاهدة والخلة (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل مرتبة القلب والعقل متقدّما عليهما في الشرف والعزّ (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي : لا يعلم بكماله وفضيلته غيرنا لعلوّ شأنه.

[٥٢ ـ ٥٨] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) النفس الكلية (وَقَوْمِهِ) من النفوس الناطقة السماوية وغيرها (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) أي : الصور المعقولة من حقائق العقول والأشياء وماهيات الموجودات المنتقشة فيها (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) مقيمون على تمثلها وتصوّرها وذلك عند عروجه من مقام الروح المقدّسة وبروزه عن الحجب النورية إلى فضاء التوحيد الذاتي ، كما قال عليه‌السلام : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) (١) ، ومن هذا المقام قوله لجبريل عليه‌السلام : أما إليك فلا.

(وَجَدْنا آباءَنا) عللنا من العوالم السابقة على النفوس كلها من أهل الجبروت (لَها عابِدِينَ) باستحضارهم إياها في ذواتهم لا يذهلون عنها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في حجاب عن الحق نوريّ ، غير واصلين إلى عين الذات عاكفين في برازخ الصفات لا تهتدون إلى حقيقة الأحدية والغرق في بحر الهوية (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي : أحدث مجيئك إيانا من هذا الوجه بالحق فيكون القائل هو الحق عزّ سلطانه أم استمر بنفسك كما كان فتكون أنت القائل فيكون قولك لعبا لا حقيقة له. فإن كنت قائما بالحق ، سائرا بسيره ، قائلا به ، صدقت وقولك الجدّ وتفوّقت علينا ، وتخلفنا عنك ، وإن كنت بنفسك فبالعكس (بَلْ رَبُّكُمْ) الجائي والقائل ربكم الذي يربكم بالإيجاد والتقويم والإحياء والتجريد والإنباء والتعليم ربّ الكل الذي أوجده (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) الحكم بأن القائل هو الحق الموصوف بربوبية الكل (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا الشهود هو شهود الربوبية والإيجاد وإلا لم يقل أنا وعلى إذ الشهود الذاتي هو الفناء المحض الذي لا أنائية فيه ولا اثنينية ، وتلك الاثنينية بعد الإفصاح بأن الجائي والقائل هو الحق الذي أوجد الكل مشعرة بمقام الكل المتخلف عن مقام (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأمحونّ صور الأشياء وأعيان الموجودات التي عكفتم على إيجادها وحفظها وتدبيرها ، وأقبلتم على إثباتها بعد أن تعرضوا عن عين الأحدية الذاتية بالإقبال إلى الكثرة الصفاتية بنور التوحيد (فَجَعَلَهُمْ) بفأس القهر الذاتي والشهود العيني (جُذاذاً) قطعا متلاشية فانية (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) هو عينه الباقي على اليقين الأول الذي به سمى الخليل خليلا (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) يقبلون منه الفيض ويستفيضون منه النور والعلم كما استفاض هو منه أولا.

[٥٩ ـ ٦١] (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

(قالُوا) أي : قالت النفوس العاشقة بالعقول (مَنْ فَعَلَ هذا) الاستخفاف والتحقير (بِآلِهَتِنا) التي هي معشوقاتنا ومعبوداتنا بنسبتها إلى الاحتجاب والنظر إليها بعين الفناء وجعلها

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآيات : ٧٨ ـ ٧٩.

بقوّة الظهر كالهباء ، متعجبين منه ، معظمين له ، مستعظمين لأمره (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الناقصين حقوق المعبودات المجرّدة وجميع الموجودات من الوجودات والكمالات بنفيها عنهم وإثباتها للحق ، أو الناقصين حق نفسهم بإفنائها وقهرها (قالُوا سَمِعْنا فَتًى) كاملا في الفتوّة والشجاعة على قهر ما سوى الله من الأغيار والسخاوة ببذل النفس والمال (يَذْكُرُهُمْ) بنفي القدرة والكمال عنهم ونسبة العدم والفناء إليهم (فَأْتُوا بِهِ) أي : استحضروه وأحضروه معاينا لجميع النفوس (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) كماله وفضيلته فيستفيدون منه.

[٦٢ ـ ٦٣] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣))

(أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) صورة إنكار لما لم يعرفوا من كماله إذ كل ما يمكن للنفوس معرفته فهو دون كمال العقول التي هي معشوقاتها وهي محجوبة عن كماله الإلهي الذي هو به أشرف منها (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) أي : ما فعلته بأنانيتي التي أنا بها أحسن منها ، بل بحقيقتي وهويتي التي هي أشرف وأكبر منها (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) بالاستقلال ، أي : لا نطق لهم ولا علم ولا وجود بأنفسهم بل بالله الذي لا إله إلا هو.

[٦٤ ـ ٦٥] (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) بالإقرار والإذعان معترفين بأن الممكن لا وجود له بنفسه فكيف كماله (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بنسبة الوجود والكمال إلى الغير لا هو (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) حياء من كماله ونقصهم وخضوعا وانفعالا منه (لَقَدْ عَلِمْتَ) بالعلم اللدني الحقاني فناءهم فنفيت النطق عنهم ، وأما نحن فلا نعلم إلا ما علمنا الله فاعترفوا بنقصهم كما اعترفوا به عند معرفتهم لآدم بعد الإنكار ، فقالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١).

[٦٦ ـ ٦٨] (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

(أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وتعظمون غيره مما لا ينفع ولا يضر ، إذ هو النافع الضارّ لا غير (أُفٍّ لَكُمْ) أتضجر بوجودكم ووجود معبوداتكم ووجود كل ما سواه تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن لا مؤثر ولا معبود إلا الله (حَرِّقُوهُ) أي : اتركوه يحترق بنار العشق التي أنتم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٢.

أوقدتموها أولا بإلقاء الحقائق والمعارف إليه التي هي حطب تلك النار عند رؤيته ملكوت السموات والأرض بإراءة الله إياه ، كما قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وإشراق الأنوار الصفاتية والأسمائية عند تجليات الجمال والجلال عليه من وراء أستار أعيانكم التي هي منشأ اتقاد تلك النار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي : معشوقاتكم ومعبوداتكم في الإمداد بتلك الأنوار وإيقاد تلك النار (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بأمر الحق.

[٦٩ ـ ٧١] (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

(يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) بالوصول حال الفناء ، فإن لذّة الوصول تفيد الروح الكامل والسلامة عن نقص الحدثان وآفة النقصان والإمكان في عين نار العشق (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) بإفنائه وإحراقه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الأنقصين منه كمالا ورتبة (وَنَجَّيْناهُ) ولوط العقل بالبقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني الموهوب إلى أرض الطبيعة البدنية (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالكمالات العملية المثمرة والآداب الحسنة المفيدة والشرائع والملكات الفاضلة (لِلْعالَمِينَ) أي : المستعدّين لقبول فيضه وتربيته وهدايته.

[٧٢ ـ ٧٣] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) القلب للردّ إلى مقامه بتكميل الخلق حال الرجوع عن الحق (وَيَعْقُوبَ) النفس المرتاضة الممتحنة بالبلاء ، المطمئنة باليقين والصفاء (نافِلَةً) متنوّرة بنور القلب متولّدة منه (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) بالاستقامة والتمكين في الهداية (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) لسائر القوى والنفوس الناقصة المستعدة (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أما الروح فبالأحوال والمشاهدات والأنوار ، وأما القلب فبالمعارف والمكاشفات والأسرار ، وأما النفس فبالأخلاق والمعاملات والآداب ، وهي المراد بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) بالتوحيد والعبودية الحقّة في مقام التجريد والتفريد ، وهذا هو تطبيق ظاهر إبراهيم على باطنه. وقد يمكن أن يؤول بضرب آخر من التأويل مناسب لماقال النبي عليه‌السلام : «كنت أنا وعليّ نورين نسبّح الله تعالى ونحمده ونهلّله ، وسبّحته الملائكة بتسبيحنا وحمدته بتحميدنا ، وهلّلته. فلما خلق آدم عليه‌السلام انتقلنا إلى جبهته ومن جبهته إلى صلبه ثم إلى شيث» .. إلى آخر الحديث. وهو : أن الروح الإبراهيمي ، قدّسه الله تعالى ، كان كاملا في

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٥.

أول مراتب صفوف الأرواح مفيضا على أطوار الملكوت كمالاتهم ، جابرا لنقصهم ، كاسرا لأصنام أعيان الموجودات وآلهة الذوات الممكنات من المادية والمجرّدات بنور التوحيد طاويا لمراتب الكمالات ، ذاويا للواقفين مع الصفات والمحجوبين بالغير عن الذات ، فوضعه نمروذ النفس الطاغية ، العاصية ، وقواها التي هي قومه ، في منجنيق الذكر والقوّة في نار حرارة طبيعة الرحم ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، أي : روحا وبراءة من الآفات ، أي : وضعوا درّة وجوده التي هي مظهر روحه ونجيناه إلى أرض البدن التي باركنا فيها للعالمين بهدايته إياهم وتكميله وتربيته لهم فيها بالعلوم والأعمال التي هي أرزاقهم الحقيقية وأوصافهم الكمالية.

[٧٤ ـ ٧٦] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

واذكر لوط القلب (آتَيْناهُ) حكمة (وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ) أهل قرية البدن (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ) خبائث الشهوات الفاسدة (فاسِقِينَ) بإتيانهم الأمور لا من جهتنا المأمور بها ومباشرتهم الأعمال لا على ما ينبغي من وجه الشرع والعقل (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) الرحيمية ومقام تجلي الصفات (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) العاملين بالعلم الثابتين على الاستقامة. ونوح العقل (إِذْ نادى) من جهة قدم القلب ، واستدعى الله الكمال اللاحق (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بإفاضة كماله على مقتضى استعداده وإبرازه إلى الفعل (فَنَجَّيْناهُ) فنجينا القوى القدسية والفكرية والحمدية وسائر القوى العقلية (مِنَ الْكَرْبِ) الذي هو كون كمالاتها بالقوة ، إذ كل ما هو كامن في الشيء بالقوة كرب له ، يطلب التنفيس بالظهور والبروز إلى الفعل وكلما كان الاستعداد أقوى والكمال الممكن له ، الكامن فيه ، أتمّ ، كان الكرب أعظم.

[٧٧] (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي : القوى النفسانية والبدنية المكذبين بآيات المعقولات والمحرّمات (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) يمنعونه من الكمال والتجريد ويحجبونه عن الأنوار بالتكذيب (فَأَغْرَقْناهُمْ) في يمّ القطران الهيولاني والبحر العميق الجسماني (أَجْمَعِينَ).

[٧٨ ـ ٧٩] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

(وَداوُدَ) العقل النظري الذي هو في مقام السرّ (وَسُلَيْمانَ) العقل العلمي الذي هو في

مقام الصدر (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي : فيما في أرض الاستعداد من الكمالات المودعة فيه ، المخزونة في الأزل ، والمغروزة في الفطرة الناشئة عند التوجه إلى الظهور والبروز (يَحْكُمانِ) فيه بالعلم والعمل والفكر والرياضة في تثميرها وإيناعها وإدراكها.

(إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ) انتشرت فيه بالإفساد في ظلمة ليل غلبة الطبيعة البدنية والصفات النفسانية (غَنَمُ الْقَوْمِ) أي : القوى البهيمية الشهوانية (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) على مقتضى أحوالهم حاضرين ، إذ كان الحكم بأمرنا وعلى أعيننا ، ومقتضى إرادتنا ، فحكم داود السرّ على مقتضى الذوق بتسليم غنم القوى الحيوانية البهيمية إلى أصحاب الحرث من القوى الروحانية بالملكية ليذبحوها ويميتوها بالاستيلاء والقهر والغلبة ، ويغتذوا بها. وحكم سليمان العقل العلمي على مقتضى العلم بتسليط القوى الروحانية عليها لينتفعوا بألبانها من العلوم النافعة والإدراكات الجزئية والأخلاق والملكات الفاضلة ويروضوها بالتهذيب والتأديب وإقامة أصحاب الغنم من النفس وقواها الحيوانية كالغضبية والمتحرّكة والمتخيلة والوهمية وأمثالها بعمارة الحرث وإصلاح ما في أرض الاستعداد بالطاعات والعبادات والرياضات من باب الشرائع والأخلاق والآداب وسائر الأعمال الصالحات حتى يعود الحرث ناضرا بالغا إلى حدّ الكمال ، لتردّ الغنم إلى أصحابها عند حصول الكمال ، فتصير محفوظة مرعية مسوسة مهذبة في الأعمال البهيمية بفضيلة العفّة ، ويردّ الحرث إلى أربابه من الروح وقواه يانعا مثمرا بالعلوم والحكم ، متزيّنا بأزهار المعارف والحقائق وأنوار التجليات والمشاهدات ، ولهذا قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فإنّ العمل بالتقوى والرياضة على وفق الشرع والحكمة العملية أبلغ في تحصيل الكمال وإبرازه إلى الفعل من العلم الكلي والفكر والنظر والذوق والكشف (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) إذ كل منهما على الصواب في رأيه والحكمة النظرية والعملية والمكاشفة والمعاملة كلتاهما متعاضدتان في طلب الكمال ، متوافقتان في تحصيل كرم الخصال بهما.

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ) الفؤاد ، جبال الأعضاء (يُسَبِّحْنَ) بألسنة خواصها التي أمرن بها ويسرن معه بسيرتها المخصوصة بها فلا تعصي ولا تمتنع عليه ، فتكلّ وتثقل وتأبى أمره ، بل تسير معه مأمورة بأمره ، منقادة مطواعة لتأدبها وارتياضها وتعوّدها بأمره ، وتمرّنها في الطاعات والعبادات ، وطير القوى الروحانية يسبحنّ بالأذكار والأفكار والطيران في فضاء أرواح الأنوار (وَكُنَّا) قادرين على ذلك التسخير.

[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) من الورع والتقوى ونعم الدرع الحصين الورع (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ) بأس القوى الغضبية السبعية واستيلاء الحرص والدواعي الطبيعية والقوى الوهمية الشيطانية (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) حق هذه النعمة بالتوجه إلى الحضرة الربانية بالكلية.

[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

(وَلِسُلَيْمانَ) أي : سخّرنا لسليمان العقل العملي المتمكن على عرش النفس في الصدر ريح الهوى (عاصِفَةً) في هبوبها (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) مطيعة له إلى أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بتثمير الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ) من أسباب الكمال (عالِمِينَ).

[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

(وَمِنَ) شياطين الوهم والتخيّل (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في بحر الهيولى الجسمانية يستخرجون درر المعاني الجزئية (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من التركيب والتفصيل والمصنوعات وبهيج الدواعي المكسوبات وأمثالها (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب.

[٨٣ ـ ٨٦] (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

(وَأَيُّوبَ) النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة البالغة كمال الزكاء في المجاهدة (إِذْ نادى رَبَّهُ) عند شدّة الكرب في الكدّ وبلوغ الطاقة والوسع في الجدّ والجهد (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من الضعف والانكسار والعجز (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بالتوسعة والروح (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بروح الأحوال عن كدّ الأعمال عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) الرياضة بنور الهداية ونفسنا عنه ظلمة الكرب بإشراق نور القلب (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) القوى النفسانية التي ملكناها وأمتناها بالرياضة بإحيائها بالحياة الحقيقية (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية وأحوال العلوم النافعة الجزئية (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).

[٨٧ ـ ٨٨] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

(وَذَا النُّونِ) أي : الروح الغير الواصل إلى رتبة الكمال (إِذْ ذَهَبَ) بالمفارقة عن البدنية (مُغاضِباً) عن قومه ، القوى النفسانية لاحتجابها وإصرارها على مخالفته وإبائها واستكبارها عن طاعته (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نستعمل قدرتنا فيه بالابتلاء بمثل ما ابتلي به ، أو : لن نضيق عليه ، فالتقمه حوت الرحمة لوجوب تعلّقه بالبدن في حكمتنا للاستعمال (فَنادى) في ظلمات المراتب الثلاث من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية بلسان الاستعداد (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) فأقرّ بالتوحيد الذاتي المركوز فيه عند العهد السابق وميثاق الفطرة والتنزيه المستفاد من التجرّد الأول في الأزل بقوله : (سُبْحانَكَ) واعترف بنقصانه وعدم استعمال العدالة في قومه فقال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بالتوفيق بالسلوك والتبصير بنور الهداية إلى الوصول (وَنَجَّيْناهُ) من غمّ النقصان والاحتجاب بنور التجلي ورفع الحجاب (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان التحقيقي الموقنين.

[٨٩ ـ ٩٠] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(وَزَكَرِيَّا) الروح الساذج عن العلوم (إِذْ نادى رَبَّهُ) في استدعاء الكمال بلسان الاستعداد ، واستوهب يحيى القلب لتنتعش فيه العلوم ، وشكا انفراده عن معاضدة القلب في قبول العلم وحيازة ميراثه مع علمه بأن الفناء في الله خير من الكمال العملي حيث قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) من القلب وغيره (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) القلب بإصلاح زوجه النفس العاقر لسوء الخلق وغلبة ظلمة الطبع عليها بتحسين أخلاقها وإزالة الظلمة الموجبة للعقر عنها (إِنَّهُمْ) إن أولئك الكمل من الأنبياء (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : يسابقون إلى المشاهدات التي هي الخيرات المحضة بالأرواح (وَيَدْعُونَنا) لطلب المكاشفات بالقلوب (رَغَباً) إلى الكمال (وَرَهَباً) من النقصان أو رغبا إلى اللطف والرحموت في مقام تجليات الصفات ورهبا من القهر والعظموت (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) بالنفوس.

[٩١] (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) أي : النفس الزكية الصافية المستعدّة العابدة التي أحصنت فرج استعدادها ومحل تأثير الروح من باطنها بحفظه من مسافحي القوى البدنية فيها (فَنَفَخْنا فِيها) من تأثير روح القدس بنفخ الحياة الحقيقية فولدت عيسى القلب (وَجَعَلْناها) مع القلب علامة ظاهرة وهداية واضحة (لِلْعالَمِينَ) من القوى الروحانية والنفوس المستعدّة المستبصرة يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

[٩٢ ـ ٩٣] (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

(إِنَّ هذِهِ) الطريقة الموصلة إلى الحقيقة وهي طريقة التوحيد المخصوصة بالأنبياء المذكورين ، طريقتكم أيها المحققون السالكون ، طريقة (واحِدَةً) لا اعوجاج ولا زيغ ولا انحراف عن الحق إلى الغير ولا ميل (وَأَنَا) وحدي (رَبُّكُمْ) فخصصوني بالعبادة والتوجه ولا تلتفتوا إلى غيري (وَتَقَطَّعُوا) أي : تفرق المحجوبون الغائبون عن الحق ، الغافلون في أمر الدين وجعلوا أمر دينهم قطعا يتقسمونه (بَيْنَهُمْ) ويختارون السبل المتفرّقة بالأهواء المختلفة (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) على أي مقصد وأية طريقة وأية وجهة كانوا فنجازيهم بحسب أعمالهم وطرائقهم.

[٩٤ ـ ٩٥] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

(فَمَنْ) يتّصف بالكمالات العملية (وَهُوَ) عالم موقن فسعيه مشكور غير مكفور في القيامة الوسطى والوصول إلى مقام الفطرة الأولى (وَإِنَّا) لصورة ذلك السعي لكاتبون في صحيفة قلبه فيظهر عليه عند التجرد أنوار الصفات وممتنع (عَلى قَرْيَةٍ) حكمنا بإهلاكها وشقاوتها في الأزل رجوعهم إلى الفطرة من الاحتجاب بصفات النفس في النشأة.

[٩٦ ـ ٩٧] (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ) القوى النفسانية (وَمَأْجُوجُ) القوى البدنية بانحراف المزاج وانحلال التركيب (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) من أعضاء البدن التي هي محالها ومقارها (يَنْسِلُونَ) بالذهاب والزوال (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) من وقوع القيامة الصغرى بالموت ، فحينئذ شخصت أبصار المحجوبين لشدّة الهول والفزع ، داعين بالويل والثبور ، معترفين بالظلم والقصور.

[٩٨ ـ ١٠٠] (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) أي : كل عابد منكم لشيء سوى الله محجوب به عن الحق ، مرميّ مع معبوده الذي وقف معه في طبقة من طبقات جهنم ، البعد والحرمان على حسب مرتبة

معبوده (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) من ألم الاحتجاب وشدّة العذاب واستيلاء نيران الأشواق وطول مدة الحرمان والفراق (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) كلام الحق والملائكة لتكاثف الحجاب وشدّة طرق مسامع القلب لقوّة الجهل كما لا يبصرون الأنوار لشدّة انطباق الظلمة وعمى البصيرة.

[١٠١ ـ ١٠٣] (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا) السعادة (الْحُسْنى) وحكمنا بسعادتهم في القضاء السابق (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لتجرّدهم عن الملابس النفسانية والغشاوات الطبيعة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) لبعدهم عنها في الرتبة (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ) ذواتهم من الجنات الثلاث وخصوصا المشاهدات في جنة الذات (خالِدُونَ* لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بالموت في القيامة الصغرى ولا بتجلي العظمة والجلال في القيامة الكبرى (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت بالبشارة أو عند البعث النفساني بالسلامة والنجاة ، أو في القيامة الوسطى والبعث الحقيقي بالرضوان أو عند الرجوع إلى البقاء بعد الفناء حال الاستقامة بالسعادة التامّة.

[١٠٤] (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) أي : لا يحزنهم يوم نطوي سماء النفس بما فيها من صور الأعمال وهيئات الأخلاق في الصغرى (كَطَيِ) الصحيفة للمكتوبات التي فيها ، أي : كما تطوى ليبقى ما فيها محفوظا ، أو سماء القلب بما فيها من العلوم والصفات والمعارف والمعقولات ما فيها محفوظا ، أو سماء القلب بما فيها من العلوم والصفات والمعارف والمعقولات في الوسطى ، أو سماء الروح بما فيها من العلوم من المشاهدات والتجليات في الكبرى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) بالبعث في النشأة الثانية على الأول أو بالرجوع إلى الفطرة الأولى على الثاني أو بالبقاء بعد الفناء على الثالث.

[١٠٥ ـ ١١٢] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي) زبور القلب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) في اللوح أن أرض البدن يرثها القوى

الصالحة المنوّرة بنور السكينة بعد إهلاك الفواسق بالرياضة. أو : ولقد كتبنا في زبور اللوح المحفوظ من بعد الذكر في أمّ الكتاب (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) من الروح والسرّ والقلب والعقل والنفس وسائر القوى بالاستقامة بعد إهلاك الصالحين بالفناء في الوحدة (لَبَلاغاً) لكفاية (لِقَوْمٍ) عبدوا الله بالسلوك فيه (رَحْمَةً) عظيمة مشتملة على الرحيمية بهدايتهم إلى الكمال المطلق والرحمانية بأمانهم من العذاب المستأصل في زمانه لغلبة رحمته على غضبه.

سورة الحج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) احذروا عقابه بالتجرّد عن الغواشي الهيولانية والصفات النفسانية (إِنَ) اضطراب أرض البدن في القيامة الصغرى للمنقسمين فيها (شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) أي : غاذية مرضعة للأعضاء عن إرضاعها (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) من القوى الحافظة لمدركاتها كالخيال والوهم والذاكرة والعاقلة (حَمْلَها) من المدركات لسكرها وذهولها وحيرتها وبهتها ، أو كل قوة حاملة للأعضاء حملها وتحريكها واستقلالها بالضعف ، أو كل عضو حامل لما فيه من القوة حملها بالتخلي عنها ، أو كل ما يمكن فيها من الكمالات بالقوة حملها بفسادها وإسقاطها ، أو كل نفس حاملة لما فيها من الهيئات والصفات من الفضائل والرذائل بإظهارها وإبرازها (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) من سكرات الموت ، ذاهلين ، مغشيّا عليهم (وَما هُمْ بِسُكارى) في الحقيقة من الشراب ، ولكن من شدّة العذاب.

[٥ ـ ١٧] (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما

لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

(وَتَرَى) أرض النفس (هامِدَةً) ميتة بالجهل لا نبات فيها من الفضائل والكمالات. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا) ماء العلم من سماء الروح (اهْتَزَّتْ) بالحياة الحقيقية (وَرَبَتْ) بالترقي في المقامات والمراتب (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ) صنف (بَهِيجٍ) من الكمالات والفضائل المزينة لها (ذلِكَ) سبب (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت الباقي وما سواه هو المغيّر الفاني (وَأَنَّهُ يُحْيِ) موتى الجهل بفيض العلم في القيامة الوسطى كما يحيي موتى الطبع في القيامة الصغرى (وَأَنَّ السَّاعَةَ) بالمعنيين (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : قبر البدن من موتى الجهل في الساعة الوسطى بالقيام في موضع القلب والعود إلى الفطرة وحياة العلم كما يبعث موتى الطبع في النشأة الثانية والقيامة الصغرى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : استدلال (وَلا هُدىً) ولا كشف ووجدان (وَلا كِتابٍ) ولا وحي وفرقان (يَدْعُوا) مما سوى الله (ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) كائنا ما كان فإن الاحتجاب الغيري (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق وإنما كان ضرّه أقرب من نفعه لأن دعوته والوقوف معه يحجبه عن الحق.

[١٨ ـ ٢٠] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠))

(يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملكوت السماوية والأرضية وغيرهم مما عدّ ومما لم يعد من الأشياء بالانقياد والطاعة والامتثال لما أراد الله منها من الأفعال والخواص وأجرى عليها شبه تسخيرها لأمره وامتناع عصيانها لمراده وانقهارها تحت قدرته بالسجود الذي هو غاية الخضوع ، ولما لم يمكن لشيء منها إلا للإنسان التابع للشيطان في ظاهر أمره دون باطنه خصّ عموم كثير من الناس الذين حقّ عليهم العذاب وحكم بشقاوتهم في الأزل وهم الذين غلبت عليهم الشيطنة ولزمتهم الزلّة والشقوة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بأن يجعل

أهله قهره وسخطه ومحل عقابه وغضبه (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) جعلت لهم ملابس من نار غضب الله وقهره ، وهي هيئات وأجرام مطابقة لصفات نفوسهم المنكوسة ، معذبة لها غاية التعذيب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) حميم الهوى ، وحب الدنيا الغالب عليهم ، أو حميم الجهل المركّب والاعتقاد الفاسد المستعلي على جبهتهم العلوية التي تلي الروح في صورة القهر الإلهي مع الحرمان عن المراد المحبوب المعتقد فيه (يُصْهَرُ بِهِ) أي : يذاب به ويضمحل (ما فِي) بطون استعداداتهم من المعاني القوية وما في ظاهرهم من الصفات الإنسانية والهيئات البشرية ، فتتبدل معانيهم وصورهم ، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها.

[٢١ ـ ٢٤] (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

(وَلَهُمْ مَقامِعُ) أي : سياط (مِنْ حَدِيدٍ) الأثيرات الملكوتية بأيدي زبانية الأجرام السماوية المؤثرة في النفوس المادية ، تقمعهم بها وتدورهم من جناب القدس إلى مهاوي الرجس (كُلَّما أَرادُوا) بدواعي الفطرة الإنسانية وتقاضي الاستعداد الأوّليّ (أَنْ يَخْرُجُوا) من تلك النيران إلى فضاء مراتب الإنسان (مِنْ غَمٍ) تلك الهيئات السود المظلمة وكرب تلك الدركات الموجبة ، ضربوا بتلك المقامع المؤلمة وأعيدوا إلى أسافل الوهدات المهلكة (وَ) قيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(جَنَّاتٍ) القلوب (تَجْرِي مِنْ) تحتهم أنهار العلوم (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) الأخلاق والفضائل المصوغة (مِنْ ذَهَبٍ) العلوم العقلية والحكمة العملية (وَلُؤْلُؤاً) المعارف القلبية ، والحقائق الكثيفة (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) شعاع أنوار الصفات الإلهية والتجليات اللطيفة ، وهداهم (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ) ذكر الصفات في مقام القلب (وَهُدُوا إِلى صِراطِ) ذي الصفات ، أي : توحيد الذات الحميدة باتصافها بتلك الصفات ، وتلك بعينها صراط الذات وسلّم الوصول إليها بالفناء.

[٢٥] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

(كَفَرُوا) حجبوا بالغواشي الطبيعية (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذي هو صدر فناء كعبة القلب (الَّذِي جَعَلْناهُ) لناس القوى الإنسانية مطلقا (سَواءً) المقيم فيه من

القوى العقلية الروحانية وبادي القوى النفسانية لإمكان وصولها إليه وطوافها فيه عند ترقي القلب إلى مقام السرّ.

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) من الواصلين إليه مرادا (بِإِلْحادٍ) ميل إلى الطبيعة والهوى (بِظُلْمٍ) وضع شيء من العلوم والعبادات القلبية مكان النفسية كاستعمالها للأغراض الدنيوية وإظهارها لتحصيل اللّذات البدنية من طلب السمعة والمال والجاه أو بالعكس ، كمباشرة الشهوات الحسيّة واللذات النفسية بتوهم كونها مصالح الدارين أو تغير عن وجهها كالرياء والنفاق ، أو ملحدا ظالما (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) في جحيم الطبيعة.

[٢٦] (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

(وَإِذْ بَوَّأْنا) أي : جعلنا (لِإِبْراهِيمَ) الروح مكان بيت القلب وهو المصدر مباءة يرجع إليها في الأعمال والأخلاق. وقيل : أعلم الله إبراهيم مكانه بعد ما رفع إلى السماء أيام الطوفان بريح أرسلها ، فكشف ما حولها ، فبناه على أسّه القديم ، أي : هداه إلى مكانه بعد رفعه إلى السماء. وأيام طوفان الجهل وأمواج غلبات الطبع برياح نفحات الرحمة فكشفت ما حوله من الهيئات النفسانية والألواث الطبيعية والغبارات الهيولانية فبناه على أسّه القديم من الفطرة الإنسانية (أَنْ لا تُشْرِكْ) أي : جعلناه مرجعا في بناء البيت بأحجار الأعمال وطين الحكم وجصّ الأخلاق ، وقلنا : لا تشرك ، أي : أمرناه بالتوحيد ثم بتطهير بيت القلب عن الألواث المذكورة (لِلطَّائِفِينَ) من القوى النفسانية التي تطوف حوله للتنوّر واكتساب الفضائل الخلقية (وَالْقائِمِينَ) من القوى الروحانية التي تقوم عليه بإلقاء المعارف والمعاني الحكمية (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) من القوى البدنية التي تستفيد منه صور العبادات والآداب الشرعية والعقلية ، أو لهداية الطالبين من المستبصرين المتعلمين ، والمجاهدين السالكين ، والمتعبدين الخاضعين.

[٢٧ ـ ٢٨] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) بالدعوة إلى مقام القلب وزيارته (يَأْتُوكَ رِجالاً) مجرّدين عن صفات النفوس (وَعَلى كُلِ) نفس ضامرة بطول الرياضة والمجاهدة (يَأْتِينَ مِنْ كُلِ) طريق بعيد العمق في قعر الطبيعة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) من الفوائد العلمية والعملية المستفادة من مقام القلب (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) بالاتّصاف بصفاته (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) من أنوار التجليات والمكاشفات (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ) أنعام النفوس المذبوحة تقرّبا إلى الله تعالى بحراب

المخالفات وسكاكين المجاهدات (فَكُلُوا) استفيدوا من لحوم أخلاقها وملكاتها المعينة المقوّية في السلوك (وَأَطْعِمُوا) أي : أفيدوا (الْبائِسَ) الطالب القوي النفس ، الذي أصابه شدّة من غلبة صفاتها واستيلاء هيئاتها للتهذيب والتأديب ، والفقير الضعيف النفس ، القديم العلم ، الذي أضعفه عدم التعليم والتربية المحتاج إليها.

[٢٩] (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

(ثُمَّ لْيَقْضُوا) وسخ الفضول وفضلات ألواث الهيئات كقصّ شارب الحرص ، وقلم أظفار الغضب والحقد. وفي الجملة : بقايا تلوينات النفس (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) بالقيام بإبراز ما قبلوه في العهد الأول من المعاني والكمالات المودعة فيهم إلى الفعل ، فقضاء التفث التزكية وإزالة الموانع والإيفاء بالنذور والتحلية وتحصيل المعارف (وَلْيَطَّوَّفُوا) بالانخراط في سلك الملكوت الأعلى حول عرش الله المجيد البيت القديم.

[٣٠] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ذلِكَ) أي : الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وهي ما لا يحل هتكه وتطهيره والقربان بالنفس وجميع ما ذكر من المناسك كالتحلي بالفضائل ، واجتناب الرذائل ، والتعرّض للأنوار في التجليات ، والاتصاف بالصفات ، والترقي في المقامات (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) في حضرة ربّه ومقعد قربه (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ) أنعام النفوس السليمة بالانتفاع بأخلاقها وأعمالها في الطريقة والتمتع بالحقوق دون الحظوظ (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في صورة المائدة من الرذائل المشتبهة بالفضائل وهي التي صدرت من النفس لا على وجهها ولا على ما ينبغي من أمرها بالرذائل المحضة ، فإنها محرّمة في سبيل الله على السالكين (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ) أوثان الشهوات المتعبدة ، والأهواء المتبعة ، كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١). (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) من العلوم المزخرفة والشبهات المموهة من التخيلات والموهومات ، المستعملة في الجدل والخلاف والمغالطة.

[٣١ ـ ٣٢] (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) مائلين عن الطرق الفاسدة ، والعلوم الباطلة ، معرضين عن كل ما يغيره من

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٣.

الكمالات والأعمال ، ولو لنفس الكمال والتزين به فإنه حجاب (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) بالنظر إلى ما سواه والالتفات في طريقه إلى ما عداه. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) بالوقوف مع شيء والميل إليه (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ) سماء الروح (فَتَخْطَفُهُ) طير الدواعي النفسانية والأهواء الشيطانية فتمزقه قطعا جذاذا (أَوْ تَهْوِي بِهِ) ريح هوى النفس في (مَكانٍ) بعيد من الحق ومهلكة عمياء متلفة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) من النفوس المستعدّة المسوقة نسائق التوفيق في سبيل الله ليهدي بها لوجه الله ، فإنّ تعظيمها بتحصيل كمالها من أفعال ذي القلوب المتّقية المجرّدة عن الصفات النفسانية والهيئات الظلمانية.

[٣٣] (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) من الأعمال والأخلاق والكمالات العلمية والعملية (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الفناء في الله بالحقيقة (ثُمَّ مَحِلُّها) حدّ سوقها وموضع وجوب نحرها بالوصول إلى حرم الصدر عند كعبة القلب إلى مقام السرّ ، وترقي النفس إلى مقامه ، فانية عن حياتها وصفاتها.

[٣٤] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من القوى (جَعَلْنا) عبادة مخصوصة بها (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) بالاتصاف بصفاته التي هي مظاهرها في التوجه إلى التوحيد (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ) الكمال بواسطة (بَهِيمَةِ) النفس التي هي من جملة (الْأَنْعامِ) أي : النفوس السليمة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فوحدوه بالتوجه نحوه من غير التفات إلى غيره ، وخصّصوه بالانقياد والطاعة ولا تنقادوا إلا له (وَبَشِّرِ) المنكسرين المتذللين القابلين لفيضه.

[٣٥] (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) بالحضور (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) انفعلت لقبول فيضه (وَالصَّابِرِينَ) الثابتين (عَلى ما أَصابَهُمْ) من المخالفات والمجاهدات (وَالْمُقِيمِي) صلاة المشاهدة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الفضائل والكمالات (يُنْفِقُونَ) بالفناء في الله والإفاضة على المستعدين.

[٣٦] (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

(وَالْبُدْنَ) أي : النفوس الشريفة العظيمة القدر (جَعَلْناها) من الهدايا المعلمة لله (لَكُمْ

فِيها خَيْرٌ) سعادة وكمال (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) بالاتّصاف بصفاته وإفناء صفاتكم فيه ، وذلك هو النحر في سبيل الله (صَوافَ) قائمات بما فرض الله عليها ، مقيدات بقيود الشريعة ، وآداب الطريقة ، واقفات عن حركاتها واضطراباتها (فَإِذا) سقطت عن هواها الذي هو حياتها وقوّتها التي بها تستقل وتضطرب بقتلها في الله (فَكُلُوا) استفيدوا من فضائلها وأفيدوا المستعدّين والطالبين المتعرّضين للطلب من المريدين (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) بالرياضة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الاستعداد والتوفيق باستعمالها في سبيل الله.

[٣٧] (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

(لَنْ يَنالَ اللهَ) لحوم فضائلها وكمالاتها ولا إفناؤها بإزالة أهوائها التي هي دماؤها (وَلكِنْ يَنالُهُ) التجرّد (مِنْكُمْ) عنها وعن صفاتها. فإن سبب الوصول هو التجرّد والفناء في الله ، لا حصول الفضائل مكان الرذائل. مثل ذلك التسخير بالرياضة (سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) بالفناء فيه عنها وعن كل شيء على النحو الذي هداكم إليه بالتجريد والتفريد والسلوك في الطريقة إلى الحقيقة. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الشاهدين في العبودية عن البقاء والفناء حال الاستقامة والتمكين.

[٣٨] (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) ظلمة القوى النفسانية بالتوفيق (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) من القوى الروحانية (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) من القوى التي لم تؤدّ أمانة الله من كمالها المودع فيها بالطاعة فيها وخانت القلب بالغدر وعدم الوفاء بالعهد (كَفُورٍ) باستعمال نعمة الله في معصيته.

[٣٩ ـ ٤٠] (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) الوهم والخيال وغيرهما من القوى الروحانية المجاهدين مع القوى النفسانية بسبب (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) باستيلاء صفات النفس واستعلائها (الَّذِينَ) أي : المظلومين الذين (أُخْرِجُوا) من مقارّهم ومناصبهم باستخدامها واستعبادها في طلب الشهوات واللذّات البدنية (بِغَيْرِ حَقٍ) لهم عليهم موجب لذلك إلا للتوحيد الموجب للتعظيم والتمكين والتوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) ناس القوى النفسانية (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) كدفع الشهوانية بالغضبية وبالعكس ، أو ناس القوى مطلقا كدفع النفسانية بالروحانية ودفع الوهمية بالعقلية والنفسانية بعضها ببعض كما ذكر (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) رهبان السرّ وخلواتهم (وَبِيَعٌ) نصارى القلب ومحال تجلياتهم (وَصَلَواتٌ) يهود الصدور ومتعبداتهم (وَمَساجِدُ) مؤمني الروح ومقامات مشاهداتهم وفنائهم في الله (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) الأعظم بالتخلق بأخلاقه والاتّصاف بصفاته والتحقق بأسراره والفناء في ذاته (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ) يقهر بنوره من بارزه بوجوده وظهوره (عَزِيزٌ) يغلب من ماثله باستعلائه وجبروته.

[٤١ ـ ٥١] (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالاستقامة بالوجود الحقاني (أَقامُوا) صلاة المراقبة والمشاهدة (وَآتَوُا) زكاة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية من نصاب المكاشفة مستحقيها من الطلبة (وَأَمَرُوا) القوى النفسانية والنفوس الناقصة (بِالْمَعْرُوفِ) من الأعمال الشرعية والأخلاق المرضية في مقام المشاهدة ، ونهوهم (عَنِ الْمُنْكَرِ) من الشهوات البدنية واللذات الحسيّة والرذائل المردية والمعاملة (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) بالرجوع إليه.

الفرق بين النبيّ والرسول ، أن النبيّ هو الواصل بالفناء في مقام الولاية ، الراجع بالوجود الموهوب إلى مقام الاستقامة متحققا بالحق ، عارفا به ، متنبئا عنه وعن ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه بأمره ، مبعوثا للدّعوة إليه على شريعة المرسل الذي تقدّمه غير مشرّع لشريعة ولا واضع لحكم وملّة ، مظهرا للمعجزات ، منذرا أو مبشّرا للناس كأنبياء بني إسرائيل إذ كلهم كانوا داعين إلى دين موسى عليه‌السلام غير واضعين لملّة وشريعة ، ومن كان ذا كتاب كداود عليه‌السلام كان كتابه حاويا للمعارف والحقائق والمواعظ والنصائح دون الأحكام والشرائع.

ولهذا قال عليه‌السلام : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، وهم الأولياء العارفون ، المتمكنون. والرسول هو الذي يكون له مع ذلك كله وضع شريعة وتقنين ، فالنبيّ متوسط بين الوليّ والرسول.

[٥٢ ـ ٥٣] (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(إِذا تَمَنَّى) ظهرت نفسه بالتمني في مقام التلوين (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي) وعاء (أُمْنِيَّتِهِ) ما يناسبها لأن ظهور النفس يحدث ظلمة وسوادا في القلب يحتجب بها الشيطان ويتخذها محل وسوسته وقالب إلقائه بالتناسب (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) بإشراق نور الروح على القلب بالتأييد القدسيّ وإزالة ظلمة ظهور النفس وقمعها ليظهر فساد ما يلقيه ويتميز منه الإلقاء الملكي فيضمحل ويستقرّ الملكي (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بالتمكين (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم الإلقاءات الشيطانية وطريق نسخها من بين وحيه (حَكِيمٌ) يحكم آياته بحكمته ، ومن مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطاني فتنة للشاكين المنافقين المحجوبين القاسية قلوبهم عن قبول الحق وابتلاء لهم لازدياد شكّهم وحجابهم به ، فإنهم بمناسبة نفوسهم الظلمانية وقلوبهم المسودّة القاسية لا يقبلون إلا ما يلقي الشيطان ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (١). وإنهم لفي خلاف بعيد عن الحق فكيف يقبلونه.

[٥٤] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من أهل اليقين والمحققين : أن تمكّن الشيطان من الإلقاء هو الحكمة والحق من ربّك على قضية العدل والمناسبة (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بأن يروا الكل من الله فتطمئن (لَهُ قُلُوبُهُمْ) بنور السكينة والاستقامة الموجبة لتمييز الإلقاء الشيطاني من الرحمة (وَإِنَّ اللهَ) لهاديهم إلى طريق الحق والاستقامة فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن لصفائها وشدّة نوريتها وضيائها.

[٥٥] (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(وَلا يَزالُ) المحجوبون (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى) تقوم عليهم القيامة الصغرى (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ) وقت هائل لا يعلم كنهه ولا يمكن وصفه من الشدّة أو وقت لا مثل له في الشدّة أو لا خير فيه.

[٥٦ ـ ٥٧] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) إذ وقع العذاب وقامت القيامة (لِلَّهِ) لا يمنعهم منه أحد إذ لا قوة ولا قدرة ولا حكم لغيره يفصل (بَيْنَهُمْ) فالموقنون العاملون بالاستقامة والعدالة (فِي جَنَّاتِ) الصفات يتنعمون والمحجوبون عن الذات والمكذبون بالصفات بنسبتها إلى الغير في عذاب مهين من صفات النفوس والهيئات لاحتجابهم عن عزّة الله وكبريائه وصيرورتهم في ذلّ قهره.

[٥٨ ـ ٧٣] (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن مواطن النفوس ومقارها السفلية (فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) بسيف

الرياضة والشوق (أَوْ ماتُوا) بالإرادة والذوق (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) من علوم المكاشفات وفوائد التجليات (رِزْقاً حَسَناً) وليدخلنهم مقام الرضا (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بدرجات استعداداتهم واستحقاقاتهم وما يجب أن يفيض عليهم من كمالاتهم (حَلِيمٌ) لا يعاجلهم بالعقوبة في فرطاتهم في التلوينات وتفريطاتهم في المجاهدات فيمنعهم مما تقتضيه أحوالهم ليمكنهم قبولهم ذلك. من راعى طريق العدالة في المكافأة بالعقوبة ثم مال إلى الانظلام لا إلى الظلم ، لوجب في حكمة الله تأييده بالأمداد الملكوتية ونصرته بالأنوار الجبروتية ، فإن الاحتياط في باب العدالة هو الميل إلى الانظلام لا إلى الظلم. قال النبي عليه‌السلام : «كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم».

(إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) يأمر بالعفو وترك المعاقبة (غَفُورٌ) يغفر لمن لا يقدر على العفو (ذلِكَ) الغفران عند ظهور النفس في المعاقبة أو التأييد والنصر عند رعاية العدالة فيها مع الانظلام في الكرّة الثانية بسبب (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ) ليل ظلمة النفس في نور نهار القلب بحركتها واستيلائها عليه ، فينبعث إلى المعاقبة (وَيُولِجُ) نور نهار القلب في ظلمة النفس فيعفو ، وكل بتقديره وتصريف قدرته (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لنيّاتهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، يعاملهم على حسب أحوالهم.

[٧٤ ـ ٧٦] (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوه حق معرفته إذ نسبوا التأثير إلى غيره ، وأثبتوا وجودا لغيره ، إذ كل عارف به لا يعرف منه إلا ما وجد في نفسه من صفاته ولو عرفوه حق معرفته لكانوا فانين فيه ، شاهدين لذاته وصفاته ، عالمين أنّ ما عداه ممكن موجود بوجوده ، قادر بقدرته لا بنفسه ، فكيف له وجود وتأثير (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) يقهر ما عداه بقوّة قهره فيفنيه فلا وجود ولا قوّة له (عَزِيزٌ) يغلب كل شيء فلا قدرة له.

[٧٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني (ارْكَعُوا) بفناء الصفات (وَاسْجُدُوا) بفناء الذات (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) في مقام الاستقامة بالوجود الموهوب ، فإنّ من بقي منه بقية لم يمكنه أن يعبد الله حقّ عبادته إذ العبادة إنما تكون بقدر المعرفة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) بالتكميل والإرشاد (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالنجاة من وجود البقية والتلوين (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي : بالغوا

في المعبودية حتى لا تكون بأنفسكم وأنائيتكم وهو المبالغة في التحذير عن وجود التلوين لأن من نبض منه عرق الأنانية لم يجاهد في الله حقّ جهاده ، إذ حق الجهاد فيه هو الفناء بالكلية بحيث لا عين له ولا أثر ، وذلك هو الاجتهاد في ذاته.

[٧٨] (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(هُوَ اجْتَباكُمْ) بالوجود الحقاني لا غيره ، فلا تلتفتوا إلى غيره بظهور أنائيتكم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي) دينه (مِنْ حَرَجٍ) من كلفة ومشقة في العبادة فإنه ما دامت النفس باقية أو يجد العابد من القلب والروح بقية ولم يستقر بنور التوحيد ولم يستحكم مقام التفريد لم يكن في العبادة روح تام وذوق عام ، ولا يخلو من حرج وضيق وكلفة ومشقة ، وأما إذا تمكن في الاستقامة ، وتصفى في المحبة التامة وجد السعة والروح.

(مِلَّةَ) أي : أعني وأخصّ ملّة (أَبِيكُمْ) الحقيقي (إِبْراهِيمَ) التي هي التوحيد المحض. ومعنى أبوّته : كونه مقدّما في التوحيد ، مفيضا على كل موحد ، فكلهم من أولاده (هُوَ) أي : إبراهيم ، أو الله تعالى (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا ذواتهم إلى الله بالفناء فيه وجعلكم علماء في الإسلام أولا وآخرا وهو معنى قوله : (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بالتوحيد ، رقيبا يحفظكم في مقامه بالتأييد حتى لا تظهر منكم بقية (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتكميلهم ، مطلعين على مقاماتهم ومراتبهم ، تفيضون عليهم أنوار التوحيد إن قبلوا (فَأَقِيمُوا) صلاة الشهود الذاتي فإنكم على خطر لشرف مقامكم وعزّ مرامكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) بإفاضة الفيض على المستعدّين وتربية الطالبين المستبصرين فإنه شكر حالكم وعبادة مقامكم (وَاعْتَصِمُوا) في ذلك الإرشاد (بِاللهِ) بأن لا تروه من أنفسكم وتكونوا به متخلقين بأخلاقه (هُوَ مَوْلاكُمْ) في مقام الاستقامة بالحقيقة وناصركم في الإرشاد بدوام الإمداد (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) وهو الموفق.

سورة المؤمنون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

(قَدْ أَفْلَحَ) دخل في الفوز الأعظم الموقنون (الَّذِينَ هُمْ) في صلاة حضور القلب (خاشِعُونَ) باستيلاء الخشية والهيبة عليهم لتجلي نور العظمة لهم (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) أي : الفضول (مُعْرِضُونَ) لاشتغالهم بالحق (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) بالتجرّد عن صفاتهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ) وأسباب لذّاتهم وشهواتهم (حافِظُونَ) بترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) بالميل إلى الحظوظ (فَأُولئِكَ هُمُ) المرتكبون العدوان على أنفسهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) من أسراره التي أودعهم الله إياها في سرّهم (وَعَهْدِهِمْ) الذي عاهدهم الله عليه في بدء الفطرة (راعُونَ) بالأداء إليه والإحياء به (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى) صلاة مشاهدة أرواحهم (يُحافِظُونَ أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات (هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ) فردوس جنة الروح في حظيرة القدس.

[١٢ ـ ٢٦] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) غير هذا المتقلب في أطوار الخلقة بنفخ روحنا فيه وتصويره بصورتنا ، فهو في الحقيقة خلق وليس بخلق (لَمَيِّتُونَ) بالطبيعة.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى (تُبْعَثُونَ) في النشأة الثانية ، أو ميتون بالإرادة ، ويوم القيامة الوسطى تبعثون بالحقيقة ، أو ميتون بالفناء ويوم القيامة الكبرى تبعثون بالبقاء (فَوْقَكُمْ) أي : فوق صوركم وأجسامكم (سَبْعَ طَرائِقَ) عن الغيوب السبعة المذكورة (وَما كُنَّا) عن خلقها (غافِلِينَ) فإنّ الغيب لنا شهادة (وَأَنْزَلْنا) من سماء الروح ماء العلم اليقيني (فَأَسْكَنَّاهُ) فجعلناه سكينة في النفس (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) بالاحتجاب والاستتار (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) من نخيل الأحوال والمواهب وأعناب الأخلاق والمكاسب (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) من ثمرات لذات النفوس والقلوب والأرواح (وَمِنْها) تقوتون وبها تتقون (وَشَجَرَةً) التفكّر (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ) الدماغ أو طور القلب الحقيقي بقوّة العقل (تَنْبُتُ) ما تنبت من المطالب ملتبسا بدهن استعداد الاشتغال بنور نار العقل الفعّال (وَصِبْغٍ) لون نوريّ أو ذوق حاليّ للمستبصرين المتعلمين المستطعمين للمعاني (وَإِنَّ لَكُمْ فِي) أنعام القوى الحيوانية (لَعِبْرَةً) تعتبرون بها من الدنيا إلى الآخرة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من المدركات والعلوم النافعة (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) في السلوك (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) تتقوّتون بالأخلاق (وَعَلَيْها وَعَلَى) فلك الشريعة الحاملة إياكم في البحر الهيولاني (تُحْمَلُونَ) إلى عالمالقدس بقوّة التوفيق.

[٢٧] (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧))

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ) فلك الحكمة العملية والشريعة النبوية (بِأَعْيُنِنا) على محافظتنا إياك عن الزلل في العمل (وَوَحْيِنا) بالعلم والإلهام (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك القوى البدنية والنفوس المنغمسة المادية (وَفارَ) تنور البدن باستيلاء المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي : من كل شيء صنفين من الصور الكلية والجزئية أعني صورتين اثنتين إحداهما كلية نوعية والأخرى جزئية شخصية (وَأَهْلَكَ) من القوى الروحانية والنفوس المجرّدة الإنسانية ممن تشرّع بشريعتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بإهلاكه من زوجتك النفس الحيوانية والطبيعة الجسمانية (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) من القوى

النفسانية والنفوس المنغمسة الهيولانية بالاستيلاء على القوى الروحانية والنفوس المجرّدة الإنسانية وغصب مناصبهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) في البحر الهيولاني.

[٢٨ ـ ٣٠] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) بالاستقامة في السير إلى الله ، فاتّصف بصفات الله التي هي الحمد القلبي على نعمة الإنجاء من ظلمة الجنود الشيطانية (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) هو مقام القلب الذي بارك الله فيه بالجمع بين العالمين وإدراك المعاني الكلية والجزئية وأمنه من طوفان بحر الهيولى وطغيان مائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلائل ومشاهدات لأولي الألباب (وَإِنْ كُنَّا) ممتحنين إياهم ببليّات صفات النفوس والتجريد عنها بالرياضة ، أو ممتحنين العقلاء بالاعتبار بأحوالهم عند الكشف عن حالاتهم وحكاياتهم.

[٣١ ـ ٥٤] (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) في النشأة الثانية (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) القلب (وَأُمَّهُ) النفس المطمئنة (آيَةً) واحدة باتحادهما في التوجه والسير إلى الله وحدوث القلب

منها عند الترقي (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) مكان مرتفع بترقي القلب إلى مقام الروح وترقي النفس إلى مقام القلب (ذاتِ) استقرار وثبات وتمكن يستقرّ فيها لخصبها (وَمَعِينٍ) وعلم يقين مكشوف ظاهر.

[٥٥ ـ ٦١] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي : ليس التمتيع باللذات الدنيوية والإمداد بالحظوظ الفانية هو مسارعتنا لهم في الخيرات كما حسبوا ، إنما المسارعة فيها هو التوفيق لهذه الخيرات الباقية وهي الإشفاق بالانفعال والقبول من شدّة الخشية عند تجلي العظمة والإيقان العيني بآيات تجلي الصفات الربانية والتوحيد الذاتي بالفناء في الحق ، والقيام بهداية الخلق وإعطاء كمالاتهم في مقام البقاء مع الخشية من ظهور البقية في الرجوع إلى عالم الربوبية من الذات الأحدية وهو السبق في الخيرات وإليها ولها.

[٦٢] (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : لا نكلف كل أحد بمقامات السابقين فإنها مقامات لا يبلغها إلا الأفراد كما قيل : جلّ جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد ، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ، بل كل مكلف بما يقتضيه استعداده بهويته من كماله اللائق به. وهو غاية وسعه.

(وَلَدَيْنا كِتابٌ) هو اللوح المحفوظ أو أمّ الكتاب (يَنْطِقُ) بمراتب استعداد كل نفس وحدود كمالاتها وغاياتها ، وما هو حق كل منها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بمنعهم عنه وحرمانهم إذا جاهدوا فيه وسعوا في طلبه بالرياضة ، بل يعطي كل ما أمكنه الوصول إليه وما يشتاقه في السلوك إليه.

[٦٣ ـ ٧٠] (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

(بَلْ) قلوب المحجوبين (فِي غَمْرَةٍ) غشاوات الهيولى وغفلة غامرة (مِنْ هذا) السبق وطلب الحق (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) على خلاف ذلك موجبة للبعد عن هذا الباب وتكاثف الحجاب ، أي : كما أن أعمال السابقين موجبة للترقي في التنوّر كشف الغطاء والوصول إلى الحق ، فأعمالهم موجبة للتسفل والتكدّر وغلظ الحجاب والطرد عن باب الحق لكونها في طلب الدنيا وشهواتها وهوى النفس ولذاتها. (هُمْ لَها عامِلُونَ) دائبون عليها مواظبون. وكلما سمعوا ذكر الآيات والكمالات ازدادوا عتوّا وانهماكا في الغيّ ، واستكبارا وتعمقا في الباطل ، وهو النكوص على الأعقاب إلى مهاوي جحيم الطبيعة. ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفؤوا أنوارها بالرين والطبع على مقتضى قوى النفس والطبع واشتدّ احتجابهم بالغواشي الهيولانية والهيئات الظلمانية عن نور الهدى والعقل ، لم يمكنهم تدبّر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد والعدل ، فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه للتقابل بين النور والظلمة والتضادّ بين الباطل والحق وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به.

[٧١ ـ ٧٢] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) الذي هو التوحيد والعدل ، أيّ الدعوة إلى الذات والصفات (أَهْواءَهُمْ) المتفرّقة في الباطل ، الناشئة من النفوس الظالمة ، المظلمة ، المحتجبة بالكثرة عن الوحدة لصار باطلا لانعدام العدل الذي قامت به السموات والأرض والتوحيد الذي قامت به الذوات المجرّدة ، إذ بالوحدة بقاء حقائق الأشياء ، وبظلها الذي هو العدل ونظام الكثرات قوام الأرض والسماء فلزم فساد الكل.

[٧٣ ـ ٩٥] (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى

تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ووجود المحبة في القلب وشهود الوحدة في الروح. والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات وعن العقل بالحس وعن القدس بالرجس إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة والركون إلى الكثرة ، فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضدّه ، فهو في واد وهم في واد.

[٩٦ ـ ١١١] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : إذا قابلك أحد بسيئة فتثبت في مقام القلب وانظر أيّ الحسنات أحسن في مقابلتها لتنقمع بها نفس صاحبك وتنكسر فترجع عن السيئة وتندم ولا تدع نفسك تظهر وتقابله بمثلها فتزداد حدة نفسه وسورتها وتزيد في السيئة ، فإنك إن قابلته بحسن الحسنات ، ملكت نفسك ، وغلبت شيطانك ، وثبت قلبك ، واستقمت على ما أمرك الله به ، وحصلت على فضيلة الحلم ، وتمكنت على مقتضى العلم ، واستقررت في طاعة الرحمن ومعصية الشيطان ، وأضفت إلى حسنتك إصلاح نفس صاحبك وملكتها إن كان فيه أدنى مسكة وقوّمتها وشددتها ، وتلك حسنة أخرى لك ، فكنت حائزا للحسنيين وإن عكست كنت جامعا للسوأيين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : كل المسيئ إلى علم الله. واعلم أن الله عالم به ، فيجازيه عنك إن كان مستحقا للعقوبة وهو أقدر منك عليه أو يعفو عنه إن أمكن رجوعه وعلم

صلاحه بالعفو عنه. واستعذ بالله من سورة الغضب وظهور النفس بنخس الشيطان وهمزه إياها ومن حضوره وقربه ، أي : توجه إلى ربّك مستعيذا به قائلا : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) منخرطا في سلك التوجه إلى جنابه بالقلب واللسان والأركان لائذا ببابه من تحريضات اللعين ودواعيه وحضوره ، فيصير مقهورا مرجوما مطرودا.

والموصوف بالسيئة الواصف لك بها ، الذاكر لك بالسوء ، إن بقي على حاله حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب وعاين وحشة هيئات السيئات تمنى الرجوع وأظهر الندامة ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك ولم يحصل إلا على الحسرة والندامة والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمام رجوعهم حائل من هيئات جرمانية ظلمانية مناسبة لهيئات سيئاتهم من الصور المعلقة ، مانعة من الرجوع إلى الحق وإلى الدنيا ، وهو البرزخ بين بحري النور والظلمة وعالم الأرواح المجرّدة والأجساد المركبة يتعذبون فيه بأشد أنواع العذاب ، وأفحش أصناف العقاب إلى وقت البعث في الصورة الكثيفة عند النفخ في الصور ووقوع القيامة وحشر الأجساد ، وحينئذ (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) لاحتجاب بعضهم عن بعض بالهياكل المناسبة لأخلاقهم وأعمالهم وهيئاتهم الراسخة في نفوسهم المكتوبة عليهم ، فلا يتعارفون (وَلا يَتَساءَلُونَ) لشدّة ما بهم من الأهوال وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، وتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم لتفرّقهم بأنواع العذاب وأسباب الحجاب ، وتتغير صورهم وجلودهم وتتبدّل أشكالهم ووجوههم على حسب اقتضاء معايبهم وصفات نفوسهم ، وهو معنى قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) وذلك غلبة الشقوة وسوء العاقبة الموجبة للخسء والطرد والبعد واللعن كخسء الكلاب.

[١١٢ ـ ١١٨] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

(لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين : الاحتجاب في البرزخ المذكور ، فالصور المذكور أنساهم مدّة اللبث وإنما استقصروها لانقضائها وكل منقض فهو ليس بشيء ، ولهذا صدّقهم بقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ومعنى : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنكم حسبتموها كثيرا فاغتررتم بها وفتنتم بلذاتها وشهواتها ، ولو علمتموها قليلا لتزودتم وتجرّدتم عن تعلقاتها.

(رَبِّ اغْفِرْ) هيئات المعلقات (وَارْحَمْ) بإفاضة الكمالات (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)

سورة النور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣٤] (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ

لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) إلى قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) إنما عظم أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنا وقتل النفس المحرّمة لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية إنما يكون على حسب القوّة التي هي مصدرها. وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسيّة وتوريطه في المهالك الهيولانية والمهاوي الظلمانية على حسب تفاوت مباديها. فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف ، كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ وبالعكس ، لأن الرذيلة ما تقابل الفضيلة. فلما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ ، والإفك رذيلة القوّة الناطقة التي هي أشرف القوى الإنسانية ، والزنا رذيلة القوّة الشهوانية ، والقتل رذيلة القوة الغضبية فبحسب شرف الأولى على الباقيتين تزداد رداءة رذيلتها ، وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي ، وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات ، إنما يكون بها ، فإذا

فسدت بغلبة الشيطنة عليها واحتجب عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى وحقّت العقوبة بالنار وهو الرين والحجاب الكلي لقوله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) (١) ولهذا وجب خلود العقاب ودوام العذاب بفساد الاعتقاد دون فساد الأعمال (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢). وأما الباقيتان فرذيلة كل منهما إنما تعود بظهورها على النطقية الملكية ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لها عند سكون هيجانها وفتور سلطانها باستيلاء غلبة النور وتسلّطها عليها بالطبع ، كحال النفس اللوّامة عند التوبة والندامة. وربما بقيت بالإصرار وترك الاستغفار ، وفي الحالين لا تبلغ رذيلتهما مقام السرّ ومحل الحضور ومناجاة الربّ ، ولا تتجاوز حدّ الصدر. ولا تصير الفطرة بها محجوبة الحقيقة منكوسة بخلاف تلك ، ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية وأبعد بما لا يقدر قدره؟ فالإنسان برسوخ رذيلة النطقية يصير شيطانا ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع وكل حيوان أرجى صلاحا وأقرب فلاحا من الشيطان ولهذا قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٣) ، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان ، فإنّ ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخسّ منه وأذلّ ، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعونا في الدنيا والآخرة ، ممقوتا من الله والملائكة ، تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها ، خبيث الذات والنفس ، متورّطا في الرجس ، فإنّ مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين ، كما قال تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) وأما الطيبون المتنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بستر الأنوار الإلهية صفات نفوسهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) من المعاني والمعارف الواردة على قلوبهم.

[٣٥] (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

__________________

(١) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٤٨.

(٣) سورة الشعراء ، الآيات : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) النور هو الذي يظهر بذاته وتظهر الأشياء به ، وهو مطلقا اسم من أسماء الله تعالى باعتبار شدّة ظهوره وظهور الأشياء به ، كما قيل :

خفيّ لإفراط الظهور تعرّضت

لإدراكه أبصار قوم أخافش

وحظ العيون الزرق من نور وجهه

كشدّة حظ للعيون العوامش

ولما وجد بوجوده ، وظهر بظهوره ، كان نور السموات والأرض ، أي : مظهر سموات الأرواح وأرض الأجساد وهو الوجود المطلق الذي وجد به ما وجد من الموجودات والإضاءة (مَثَلُ نُورِهِ) صفة وجوده وظهوره في العالمين بظهورها به كمثل (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) وهي إشارة إلى الجسد لظلمته في نفسه وتنوّره بنور الروح الذي أشير إليه بالمصباح وتشبكه بشباك الحواس وتلألؤ النور من خلالها كحال المشكاة مع المصباح. والزجاجة إشارة إلى القلب المتنوّر بالروح المنوّر لما عداه بالإشراق عليه ، تنور القنديل كله بالشعلة وتنويره لغيره. وشبّه الزجاجة بالكوكب الدريّ لبساطتها وفرط نوريتها وعلوّ مكانها وكثرة شعاعها كما هو الحال في القلب. والشجرة التي توقد منها هذه الزجاجة هي النفس القدسية المزكاة ، الصافية ، شبّهت بها لتشعب فروعها وتفنن قواها ، نابتة من أرض الجسد ومتعالية أغصانها في فضاء القلب إلى سماء الروح ، وصفت بالبركة لكثرة فوائدها ومنافعها من ثمرات الأخلاق والأعمال والمدركات وشدّة نمائها بالترقي في الكمالات وحصول سعادة الدارين ، وكمال العالمين بها ، وتوقف ظهور الأنوار والأسرار والمعارف والحقائق والمقامات والمكاسب والأحوال والمواهب عليها ، وخصّت بالزيتونة لكون مدركاتها جزئية مقارنة لنوء اللواحق المادية كالزيتون ، فإنهليس كله لبّا ، ولوفور قلّة استعدادها للاشتعال والاستضاءة بنور نار العقل الفعال ، الواصل إليها بواسطة الروح والقلب كوفور الدهنية القابلة لاشتعال الزيتون. ومعنى كونها لا شرقية ولا غربية إنها متوسطة بين غرب عالم الأجساد الذي هو موضع غروب النور الإلهي وتستره بالحجاب الظلماني ، وبين شرق عالم الأرواح الذي هو موضع طلوع النور وبروزه عن الحجاب النوراني لكونها ألطف وأنور من الجسد وأكثف من الروح.

(يَكادُ) زيت استعدادها من النور القدسي الفطري الكامن فيها ، يضيء بالخروج إلى الفعل والوصول إلى الكمال بنفسه ، فتشرق (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) العقل الفعال ، ولم يتصل به نور روح القدس لقوّة استعداده وفرط صفائه (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي : هذا المشرق بالإضاءة من الكمال الحاصل نور زائد على نور الاستعداد الثابت المشرق في الأصل كأنه نور متضاعف (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) الظاهر بذاته المظهر لغيره ، بالتوفيق والهداية (مَنْ يَشاءُ) من أهل العناية ليفوز بالسعادة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم الأمثال وتطبيقها ، ويكشف لأوليائه تحقيقها.

[٣٦ ـ ٣٨] (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ

وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

(فِي بُيُوتٍ) أي : يهدي الله لنوره من يشاء في مقامات (أَذِنَ اللهُ) أن يرفع بناؤها وتعلى درجاتها (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) باللسان والمجاهدة والتخلّق بالأخلاق في مقام النفس والحضور والمراقبة ، والاتّصاف بالأوصاف في مقام القلب والمناجاة والمكالمة ، والتحقيق بالأسرار في مقام السرّ والمناغاة بالمشاهدة ، والتحيّر في الأنوار في مقام الروح والاستغراق والانطماس والفناء في مقام الذات.

(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) بالتزكية والتنزيه والتوحيد والتجريد والتفريد بغدوّ التجلي وآصال الاستتار (رِجالٌ) أي : رجال أفراد سابقون مجرّدون مفردون قائمون بالحق (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) باستبدال متاع العقبى بالدنيا في زهدهم ، ولا بيع أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة في جهادهم عن ذكر الذات (وَإِقامِ) صلاة الشهود في الفناء (وَإِيتاءِ) زكاة الإرشاد والتكميل حال البقاء (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) إلى الأسرار (وَالْأَبْصارُ) إلى البصائر ، بل تتقلب حقائقها بأن تفنى وتوجد بالحق ، كما قال : «كنت سمعه وبصره» من ظهور البقية وبقاء الإنية (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بالوجود الحقانيّ (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من جنات الأفعال والنفوس والأعمال (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من جنات القلوب والصفات (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) من جنات الأرواح والمشاهدات (بِغَيْرِ حِسابٍ) لكونه أكثر من أن يحصى ويقاس.

[٣٩] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا عن الدين (أَعْمالُهُمْ) التي يعملونها رجاء الثواب (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) لكونها صادرة عن هيئات خالية قائمة بساهرة نفس حيوانية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي : يتوهمها صاحبها المؤمل لثوابها أمورا باقية لذيذة دائمة مطابقة لما توهمه (حَتَّى إِذا جاءَهُ) في القيامة الصغرى (لَمْ يَجِدْهُ) شيئا موجودا ، بل خاليا ، فاسدا ، وظنا كاذبا ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)) (١).

(وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد ملائكة الله من زبانية القوى والنفوس السماوية والأرضية عند ذلك التخيّل الموهوم يقودونه إلى نيران الحرمان وخزي الخسران ، ويوفونه ما يناسب

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٢٣.

اعتقاده الفاسد وعمله الباطل من حميم الجهل وغساق الظلمة.

[٤٠ ـ ٤٢] (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

(أَوْ كَظُلُماتٍ) في بحر الهيولى اللجيّ العميق الغامر لجثة كل نفس جاهلة ، محجوبة بهيئات بدنية ، الغامس لكل ما يتعلق به من القوى النفسانية (يَغْشاهُ) موج الطبيعة الجسمانية (مِنْ فَوْقِهِ) موج النفس النباتية (مِنْ فَوْقِهِ) سحاب النفس الحيوانية وهيئاتها الظلمانية (ظُلُماتٌ) متراكمة (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ) المحجوب بها ، المنغمس ، المحبوس فيها (يَدَهُ) القوة العاقلة النظرية بالفكر (لَمْ يَكَدْ يَراها) لظلمتها وعمى بصيرة صاحبها وعدم اهتدائه إلى شيء ، وكيف يرى الأعمى الشيء الأسود في الليل البهيم؟.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) بإشراق أنوار الروح عليه من التأييد القدسيّ والمدد العقلي (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي) عالم سموات الأرواح بالتقديس وإظهار صفاته الجمالية ومن في عالم أراضي الأجساد بالتحميد والتعظيم وإظهار صفاته الجلالية ، وطير القوى القلبية والسرية بالأمرين (صَافَّاتٍ) مترتبات في مراتبها من فضاء السرّ ، مستقيمات بنور السكينة ، لا تتجاوز واحدة منها حدّها ، كما قال : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) (١).

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) طاعته المخصوصة به من انقهاره وتسخره تحت قهره ، وسلطنته علمية كانت أو عملية ، ومن محافظته لتربيته وحضوره لوجهه تعالى فيما أمره به (وَتَسْبِيحَهُ) إظهار خاصيته التي ينفرد بها ، الشاهدة على وحدانيته (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأفعالهم وطاعاتهم.

[٤٣ ـ ٤٤] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) برياح النفخات والإرادات سحاب العقل فروعا منتزعة من الصور الجزئية ثم يؤلف فيه على ضروب المتألفات المنتجة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) حججا وبراهين (فَتَرَى) ودق النتائج والعلوم اليقينية (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ) سماء الروح من

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٦٤.

جبال أنوار السكينة واليقين الموجبة للوقار والطمأنينة والاستقرار (فِيها) أي : في تلك الجبال من برد الحقائق والمعارف الكشفية والمعاني الذوقية ، أو من جبال في السماء وهي معادن العلوم والكشوف وأنواعها ، فإنّ لكل علم وصنعة معدنا في الروح ثابتا فيه بحسب الفطرة ، يفيض منه ذلك العلم ، ولهذا يتأتى لبعضهم بعض العلوم بالسهولة دون بعض ، ويتأتى لبعضهم أكثرها ولا يتأتى لبعضهم شيء منها ، وكل ميسر لما خلق له ، أي : ينزل من سماء الروح من الجبال التي فيها برد المعارف والحقائق (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) من القوى الروحانية (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) من القوى النفسانية والنفوس المحجوبة.

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي : ضوء بوارق ذلك البرد ، وهو ما يقدّمه من الأنوار الملتمعة التي لا تلبث ولا تستقرّ بل تلمع وتخفى إلى أن تصير متمكنة تذهب بأبصار البصائر حيرة ودهشا ، وكلما زاد ازدادت تحيرا ، ولهذاقال عليه‌السلام : «ربّ زدني تحيّرا» أي : علما ونورا (يُقَلِّبُ اللهُ) ليل ظلمة النفس ونهار نور الروح بأن يغلب تارة نور الروح فينوّر القلب والنفس ويعقبه أخرى ظلمة النفس بالظهور فتتكدّر وتكدّر القلب في التلوينات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) يعتبر بها أولو الأبصار القلبية أو ذوو البصائر ، فيلتجؤون إلى الله في التلوينات وظلم النفس ، ويلوذون بجناب الحق ومعدن النور ، ويعبرون إلى مقام السر والروح ، فينكشف عنهم الحجاب.

[٤٥ ـ ٥١] (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١))

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) من أصناف دواب الدواعي التي تدبّ في أراضي النفوس وتبعثها إلى الأفعال (مِنْ ماءٍ) مخصوص ، أي : علم مناسب لتلك الداعية المتولدة منه. فإن منشأ كل داعية إدراك مخصوص.

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) ويزحف في الطبيعة ، ويحدث الأعمال البدنية الطبيعية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) من الدواعي الإنسانية فيحدث الأعمال الإنسانية والكمالات العملية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) من الدواعي الحيوانية فيبعث على الأعمال السبعية والبهيمية (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من هذه الدواعي من منشأ قدرته الباهرة ، الكاملة في إنشاء

الأعمال ويهدي من يشاء بالآيات السابقة المذكورة من الحكم والمعاني والمعارف والحقائق من منشأ حكمته البالغة التامة في إظهار العلوم والأحوال إلى صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة إليه (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) أي : يدّعون التوحيد جمعا وتفصيلا والعمل بمقتضاه (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) بترك العمل بمقتضى الجمع والتفصيل ، بارتكاب الإباحة والتزندق (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الإيمان الذي عرفته وادّعوه من العلم بالله جمعا وتفصيلا.

[٥٢ ـ ٥٤] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) باطنا بشهود الجمع (وَرَسُولَهُ) ظاهرا بحكم التفصيل (وَيَخْشَ اللهَ) بالقلب بمراقبة تجليات الصفات (وَيَتَّقْهِ) بالروح عن ظهور أنائيته في شهود الذات (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالفوز العظيم.

[٥٥ ـ ٦٤] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ

وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) باليقين (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) باكتساب الفضائل (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) وأقسم ليجعلنهم خلفاء في أرض النفس إذ جاهدوا في الله حق جهاده (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ) سبقوهم إلى مقام الفناء في التوحيد من أوليائه (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ) بالبقاء بعد الفناء (دِينَهُمُ) طريق الاستقامة فيه المرضية (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) في مقام النفس (أَمْناً) بالوصول والاستقامة (يَعْبُدُونَنِي) أي : يوحدونني من غير التفات إلى غيري وإثباته (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) بالطغيان بظهور الأنانية ، وخرج عن الاستقامة والتمكين بالتلوين (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن دين التوحيد.

سورة الفرقان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) تَبارَكَ الَّذِي) أي : تكاثر خير الذين (نَزَّلَ الْفُرْقانَ) وتزايد ، لأن إنزال الفرقان هو إظهار العقل الفرقاني المخصوص بعبده المخصوص به بانفراده من جملة العالمين بالاستعداد الكامل الذي لم يكن لأحد مثله ، فيكون عقله الفرقاني هو العقل المحيط المسمى عقل الكل ، الجامع لكمالات جميع العقول ، وذلك إنما يكون بظهوره تعالى في مظهره المحمدي بجميع صفاته المفيض بها على جميع الخلائق على اختلاف استعداداتهم ، وذلك الظهور هو تكثر الخير وتزايده الذي لم يمكن أزيد ولا أكثر منه ، ولذلك قال : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي : على العموم ، فإن كل نبيّ غيره كانت رسالته مخصوصة بمن ناسب استعداده من الخلائق ، ورسالته عليه‌السلام عامة للكل ، وهو بعينه معنى ختم النبوّة ومن هذا تبين كون أمته خير الأمم.

[٢ ـ ٥] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥))

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقهرهما تحت ملكوته ، أوجد كل شيء موسوما ، يتعين بسمة الإمكان ، ويشهد عليه بالعدم (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) على قدر قبول بعض صفاته ومظهرية بعض كمالاته دون بعض ، أي : هيأ استعداداتهم لما شاء من كمالاتهم التي هي صفاته.

[٦ ـ ١٢] (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ

سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢))

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ) الغيب المخفي عن المحجوبين في العالمين (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً) يستر صفات النفوس الحاجبة للغيوب بأنوار صفاته (رَحِيماً) يفيض الكمالات على القلوب عند صفائها بحسب الاستعدادات. ومن غفرانه ورحمته هذا الإنزال الذي تشكّون فيه أيها المحجوبون (بَلْ كَذَّبُوا) بالقيامة الكبرى ، وذلك التكذيب إنما يكون لفرط الاحتجاب أو نقصان الاستعداد ، وكلاهما يوجب التعذيب بالعذاب لاستيلاء نيران الطبيعة الجسمانية والهيئات الهيولانية على النفوس الظلمانية بالضرورة وتأثير زبانية النفوس السماوية والأرضية فيها التي إذا قابلتهم باستعداد قبول تأثيرها وقهرها من بعيد لكونها تكون في الجهة السفلية ظهر لهم آثار قهرها وتسلط غضب تأثيرها.

[١٣ ـ ١٤] (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

(وَإِذا أُلْقُوا) من جملة أماكن نار الطبيعة الحرمانية (مَكاناً ضَيِّقاً) يحبسها في برزخ يناسب هيئاتها مقدّر بقدر استعدادها (مُقَرَّنِينَ) بسلاسل محبة السفلانيات وهوى الشهوات ، تمنعها عن الحركة في تحصيل المرادات وأغلال صور هيولانية مانعة لأطرافها وآلاتها عن مباشرة الحركات في طلب الشهوات ، ومقرّنين بما يجانسهم من الشياطين المغوية إياهم عن سبيل الرشاد والداعية لهم إلى الضلال (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) بتمني الموت والتحسر على الفوت ، لكونهم من الشدة فيما يتمنى فيه الموت.

[١٥ ـ ٢١] (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ) عالم القدس الموعودة للمجرّدين عن ملابس الأبدان وصفات النفوس (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من اللذات الروحانية أبدا سرمدا (وَما يَعْبُدُونَ) عامّ لكل معبود سوى الله ، والقول إنما يكون بلسان الحال لأن كل شيء سوى الإنسان المحجوب شاهد بوجوده ووجده بالله تعالى ووحدانيته ، مسبّح له بإظهار خاصيته وكماله ، مطيع له فيما أراد الله من أفعاله ، وذلك معنى قوله : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) فحالهم ناطقة بنفي الضلال عن نفسهم في إثبات الضلال للواقفين معهم ، المحجوبين بهم بسبب الانهماك في اللذّات الحسيّة والاشتغال بالطيبات الدنيوية الموجبة للغفلة ونسيان الذكر والبور الهلكى.

[٢٢ ـ ٢٤] (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) لأن ذلك اليوم هو وقت وقوع القيامة الصغرى وإخراب البدن الذي به تؤثر فيهم الروحانيات السماوية والأرضية بالقهر والتعذيب وإلزام الهيئات البرزخية المنافية لطباع أرواحهم في الأصل ، وإن كانت مناسبة لها في الحال (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يتمنون أن يدفع الله عنهم ذلك ويمنعه. وإنما جعلت أعمالهم هباء لكونها غير مبنية على عقائد صحيحة. والأصل في العمل الإيمان اللازم لسلامة الفطرة وإذا لم يكن كان كل حسنة سيئة لمقارنتها النية الفاسدة والتوجه بها لغير وجه الله.

[٢٥] (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥))

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) سماء الروح الحيواني بغمام الروح الإنساني بانفتاحها عنه ، ولهذا قيل في التفاسير : إنه غمام أبيض دقيق. وإنما شبّه بالغمام لاكتسابه الهيئة الجسدانية والصورة اللطيفة النفسانية من البدن واحتجابه بها وكونه منشأ العلم كالغمام للماء ، وفي تلك الصورة الثواب والعقاب قبل البعث الجسداني (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) باتصالها به إما للثواب وإما للعقاب لأنها إما مظاهر اللطف وأما مظاهر القهر.

[٢٦ ـ ٣٣] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣))

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : الثابت الذي لا يتغير (لِلرَّحْمنِ) الموصوف بجميع صفات اللطف والقهر ، المفيض على كل ما يستحق لزوال كل ملك باطل ولا قدرة حينئذ لأحد على إنجاء المعذبين منه ولا يمكنهم الالتجاء بغيره لبطلان التعلقات والإضافات وظهور ملك الرحمن على الإطلاق. أو يوم تشقق سماء القلب بغمام نور السكينة وتنزّل ملائكة القوى الروحانية بالأمداد الإلهية والأنوار الصفاتية في القيامة الوسطى تكون تلك السلطنة على القلب للرحمن المستوي على عرشه ، المتجلي له بجميع صفاته (وَ) على كلا التقديرين (كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أما على الأول فلتعذبهم عند خراب البدن بالهيئات المظلمة وقهر القوى السماوية ، وأما على الثاني فلظهور تعذّبهم في شهود صاحب هذه القيامة واطلاعه ، ولم يوجد موجودا مستقلا في التأثير فيناسبه ولم يكن قاهر غيره فيشاركه على حالهم أو للبناء على تأويلهم بالقوى النفسانية المقهورة هناك ، المعذبة بالرياضة ، والله أعلم.

تثبيت فؤاده عليه‌السلام بالقرآن هو أنه لما ردّ في مقام البقاء بعد الفناء إلى حجاب القلب لهداية الخلق كان قد يظهر نفسه وقتا غبّ وقت على قلبه بصفاتها ، ويحدث له التلوين بسببها كما ذكر في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ، وفي قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) (٢) فكان يتداركه الله تعالى بإنزال الوحي والجذبة ويؤدّبه ويعاتبه فيرجع إليه في كل حال ويتوب ، كماقال عليه‌السلام : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة حتى يتمكن ويستقيم». وكان سبب ظهور ابتلاء الله تعالى إياه بالدعوة لإيذاء الناس إياه وعداوتهم ومناصبتهم له ، والحكمة في الابتلاء أمران ، أحدهما : راجع إليه ، وهو أن يظهر نفسه بجميع صفاتها في مقابلة استيلاء الأعداء المختلفين في النفوس وصفاتها واستعداداتها ومراتبها فيؤدّبه الله بحكمة وجود كل صفة وفضيلة كل قوة ، فيحصل له جميع مكارم الأخلاق وكمالات جميع الأنبياء كماقال عليه‌السلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وأوتيت جوامع الكلم». فإن ظهوره بكل صفة هو ظرف قبوله لفضيلتها وحكمتها ، إذ لو لا الجهات المختلفة في القلب بواسطة صفات النفس لما استعدّ لقبول الحكم المتفننة والفضائل بتخصص توجهه لكل واحدة منها. والثاني : راجع إلى الأمّة ، فإنه رسول إلى الكل واستعداداتهم متباينة ، ونفوسهم في الصفات متفاوتة. فيجب أن يكون فيه جوامع الحكم والكلم والفضائل والأخلاق ليهدي

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة عبس ، الآية : ١.

كلّا منهم بما يناسبه من الحكمة ، ويزكيه بما يليق به من الخلق ، ويعلّمه ما ينتفع به من العلم على حسب استعداداتهموصفاتهم وإلا لم يمكنه دعاء الكل. فعلى هذا كون التنزيل مفرّقا منجما إنما يكون بحسب اختلاف صفات نفسه في الظهور منها على أوقاته موجبا لتثبت قلبه في الاستقامة في السلوك إلى الله ، وفي الله عند الاتصاف بصفاته ، ومن الله في هداية الخلق ، وتلك هي الاستقامة التامة المطلقة. فليقتدي به السالكون والواصلون والكاملون المكملون في سلوكهم وكونهم مع الحق وتكميلهم.

والترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر مدة يمكن فيها تزايله في قلبه ويترسخ ويصير ملكة لا حالا ومن هذا تبين معنى قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي : صفة عجيبة (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الذي يقمع باطل تلك الصفة كما قال : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (١) وهو الفضيلة المقابلة لتلك الرذيلة (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي : كشفا بإظهار صفة إلهية تجلي بها لك تقوم مقامها فتكشفها ، وبالحقيقة تلك الصفة الإلهية الكاشفة إياها هي تفسير الصفة الباطلة ومعاناتها فإن كل صفة نفسانية ظلّ ظلماني لصفة إلهية نورانية تنزّلت في مراتب التنزلات واحتجبت وتضاءلت وتكدّرت كالشهوة للمحبة والغضب للقهر وأمثالها.

[٣٤ ـ ٤٢] (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢))

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) لشدة ميل نفوسهم إلى الجهة السفلية فتنكست فطرتهم فبعثوا على صور وجوهها إلى الأرض يسحبون إلى نار الطبع (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) من أن يقبلوا الحق الدامغ لباطل صفاتهم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) من أن يهتدوا إلى صفات الله تعالى التي هي تفسير صفاتهم وكشفها.

[٤٣ ـ ٤٤] (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٨.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) كل محجوب بشيء واقف معه ، فهو محبّ له ، مجانس لذلك الشيء ، فهو في الحقيقة عابد لهواه بعبادته لذلك المحبوب ، والباعث لهواه على محبة غير الله هو الشيطان ، فمحبّ كل شيء غير الله لا لله وبغير محبة الله عابد له ولهواه وللشيطان متعدد المعبود متفرق الوجهة.

أبعد ذلك (تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) بدعوته إلى التوحيد وقد كان في غاية البعد محجوبا بظلّ من ظلاله.

[٤٥ ـ ٤٦] (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦))

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) بالوجود الإضافي. اعلم أن ماهيات الأشياء وحقائق الأعيان هي ظل الحق وصفة عالمية الوجود المطلق ، فمدها إظهارها باسمه النور الذي هو الوجود الظاهر الخارجي الذي يظهر به كل شيء ويبرز كتم العدم إلى فضاء الوجود أي الإضافي (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي : ثابتا في العدم الذي هو خزانة وجوده ، أي : أمّ الكتاب واللوح المحفوظ الثابت وجود كل شيء فيهما في الباطن وحقيقته لا العدم الصرف بمعنى اللاشيء فإنه لا يقبل الوجود أصلا ، وما ليس له وجود في الباطن وخزانة علم الحق وغيبه لم يمكن وجوده أصلا في الظاهر ، والإيجاد والإعدام ليس إلا إظهار ما هو ثابت في الغيب وإخفاؤه فحسب وهو الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (ثُمَّ جَعَلْنَا) شمس العقل (عَلَيْهِ) أي : الظل (دَلِيلاً) يهدي إلى أن حقيقته غير وجوده وإلا فلا مغايرة بينهما في الخارج فلا يوجد إلا الوجود فحسب ، إذ لو لم يمكن وجوده لما كان شيئا فلا يدلّ على كونه شيئا غير الوجود إلا العقل (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) بإفنائه (قَبْضاً يَسِيراً) لأن كل ما يفنى من الموجودات في كل وقت فهو يسير بالقياس إلى ما سبق ، وسيظهر كل مقبوض عما قليل في مظهر آخر. والقبض دليل على أن الإفناء ليس إعداما محضا بل هو منع عن الانتشار في قبضته التي هي العقل الحافظ لصورته وحقيقته أزلا وأبدا.

[٤٧] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ليل ظلمة النفس (لِباساً) يغشاكم بالاستيلاء عن مشاهدة الحق وصفاته والذات وظلالها فتحتجبون يوم الغفلة في الحياة الدنيا (سُباتاً) تسبتون بها عن الحياة الحقيقية السرمدية كماقال عليه‌السلام : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». (وَجَعَلَ) نهار نور الروح (نُشُوراً) تحيا قلوبكم به فتنتشرون في فضاء القدس بعد نوم الحسّ.

[٤٨ ـ ٤٩] (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) رياح النفحات الربانية ناشرة محيية أو مبشرة بين يدي رحمة الكمال بتجلي الصفات (وَأَنْزَلْنا) من سماء الروح ماء العلم (طَهُوراً) مطهرا يطهركم عن لوث الرذائل ورجس الطبائع والعقائد الفاسدة والجهالات المفسدة (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : قلبا ميتا بالجهل (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) من القوى النفسانية بالعلوم النافعة العملية (وَأَناسِيَ) من القوى الروحانية (كَثِيراً) بالعلوم النظرية.

[٥٠] (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) هذا العلم المنزّل على صور وأمثال مختلفة (لِيَذَّكَّرُوا) حقائقهم وأوطانهم الحقيقية وما نسوا من العهد والوصل وطيب الأصل (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) لنعمة الهداية الحقانية ، وغمطا للرحمة الرحيمية للاحتجاب بصور الرحمة في ستور الجلال من الغواشي الهيولانية.

[٥١] (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١))

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي : فرقنا كمالك المطلق الذي تدعو به جميع الخلق إلى الحق على أشخاص ووزعناه بحسب أصناف الناس على اختلاف استعداداتهم على الأنبياء ، كما قال : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١) ، فبعثنا في كل صنف نبيّا يناسبهم كما كان قبل بعثه محمد من اختصاص موسى ببني إسرائيل واختصاص شعيب بأهل مدين وأصحاب الأيكة وغير ذلك. وخففنا عنك الجهاد ، إذ الجهاد إنما يكون بحسب الكمال وكلما كان الكمال أعظم كان الجهاد أكبر لأن الله تعالى يربّ كل طائفة باسم من أسمائه فإذا كان الكامل مظهر جميع صفاته متحققا بجميع أسمائه وجب عليه الجهاد مع جميع طوائف الأمم بجميع الصفات ، ولكن ما فعلنا ذلك لعظم قدرك وكونك الكامل المطلق ، والقطب الأعظم ، والخاتم على ما ذكر في تأويل قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (٢).

[٥٢] (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

(فَلا تُطِعِ) المحجوبين بموافقتهم في الوقوف مع بعض الحجب ونقصان بعض الصفات (وَجاهِدْهُمْ) لكونك مبعوثا إلى الكل (جِهاداً كَبِيراً) هو أكبر الجهادات كماقال : «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ، أي : ما كمل نبيّ مثل كمالي.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٧.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٣٢.

[٥٣ ـ ٥٧] (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : خلط بحر الجسم والروح في الإيجاد (هذا) الذي هو بحر الروح (عَذْبٌ فُراتٌ) أي : صاف لذيذ ، وهذا الذي هو بحر الجسم (مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : متغير متكدّر غير لذيذ (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) هو النفس الحيوانية الحائلة بينهما من الامتزاج وتكدر الروح بالجسم وتكثفه وتنور الجسم بالروح وتجرّده (وَحِجْراً مَحْجُوراً) عياذا يتعوّذ به كل منهما من بغي الآخر ومانعا يمنع ذلك.

[٥٨ ـ ٥٩] (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩))

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي : شاهد موت الكل وعدم حراكهم بذواتهم ، كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) فإنهم لا يتحركون إلا بدواع أوجدها الله تعالى فيهم بفناء أفعالك وأفعال الكل في أفعال الحق ورفع حجبها عن أفعاله إذ مقام التوكل هو الفناء في الأفعال.

وبيّن بقوله : (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) إن منشأ التوكل شهود صفة حياته التي بها يحيا كل حيّ لأن من يموت لا يكون حيّا بالذات وبالترقي عن مقام فناء الأفعال إلى الفناء في صفة الحياة يصح مقام التوكل كما قالت المتصوفة : لا يمكن تصحيح كل مقام إلا بالترقي إلى المقام الذي فوقه ، وإذا كان كل حيّ يموت إنما يحيا بحي الذات الذي حياته عين ذاته فبه يتحرك ، فلا تبال بأفعالهم فإنهم لو اجتمعوا بأسرهم على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك ، على ما ورد في الحديث.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ونزهه بتجرّدك عن صفاتك ومحوها في صفاته عن أن تكون لغيره صفة مستقلّة تكون مصدرا لفعله ملتبسا بحمده ، أي : متّصفا بصفاته ، فإن الحمد الحقيقي هو الاتصاف بصفاته الكمالية التي هو بها حميد وذلك هو تصحيح مقام التوكل وتحقيقه بنفي الصفات التي هي مبادئ الأفعال من الغير ، وإذا تجرّدت عن صفاتك بالاتصاف بصفاته

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.

شاهدت إحاطة علمه بالكل ، فاكتفيت به عن سؤاله في دفع جناياتهم عنك وجزاء إيذائهم لك ، وشاهدت قدرته على مجازاتهم ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : «حسبي من سؤالي علمه بحالي». وذلك معنى قوله : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراًالَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : احتجب بسماوات الأرواح وأرض الأجسام (وَما بَيْنَهُما) من القوى في الأيام الستة التي هي الآلاف الستة من ابتداء زمان آدم إلى محمد عليهما‌السلام ، لأن الخلق ليس إلا احتجاب الحق بالأشياء والأيام هي أيام الآخرة لا أيام الدنيا ، إذ لم تكن الدنيا ثمة ولا الشمس والنهار (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى) عرش القلب المحمدي في السابع الذي هو يوم الجمعة ، أي : يوم اجتماع جميع الأوصاف والأسماء فيه ، وذلك هو معنى الاستواء في الاستقامة بالظهور التامّ والفيض العام الذي هو الرحمة الرحمانية ولهذا جعل فاعل الاستواء اسم الرحمن دون اسم آخر إذ لا يكون الاستواء بمعنى الظهور التام إلا به ، ويمكن أن تؤوّل الأيام بالشهور الستة التي يتمّ فيها خلق سموات أرواح الجنين وأرض جسده وما بينهما من القوى والاستواء بالظهور التام على عرش قلبه الذي كان على ماء النطفة قبل خلقه ما خلق في الشهر السابع الذي أنشأه فيه خلقا آخر بحصوله إنسانا ، والرحمانية بعموم فيضه المعنويّ والصوريّ من قلبه إلى جميع أجزاء وجوده (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) اسأل عارفا به يخبرك بحاله واسأله في حالة كونه عالما بكل شيء.

[٦٠] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا) أي : إذا أمرتهم بالفناء في جميع صفاته وطاعته بها أنكروا ولم يمتثلوا أمرك لقصور استعدادهم عن قبول هذا الفيض وعدم معرفتهم لهذا الاسم لعدم احتظائهم من جميع الصفات أو وجود احتجابهم عنها.

[٦١ ـ ٦٣] (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣))

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي) سماء النفس بروج الحواس (وَجَعَلَ فِيها) سراج شمس الروح وقمر القلب (مُنِيراً) بنور الروح (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) ليل ظلمة النفس ، ونهار نور القلب يعتقبان (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) في نهار نور القلب العهد المنسي وينظر في المعاني والمعارف ويعتبر (أَوْ أَرادَ) في ليل ظلمة النفس (شُكُوراً) بأعمال الطاعات واكتساب الأخلاق والملكات (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) أي : المخصوصون بقبول فيض هذا الاسم لسعة الاستعداد

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٧.

(الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي : الذين اطمأنت نفوسهم بنور السكينة وامتنعت عن الطيش بمقتضى الطبيعة فهم هينون في الحركات البدنية لتمرّن أعضائهم بهيئة الطمأنينة (وَإِذا خاطَبَهُمُ) أهل السفاهة يسلمون مقالهم ولا يعارضونهم لامتلائهم بالرحمة وبعد حالهم عن ظهور النفس بالسفاهة وكبر نفوسهم بالتقوّي بنور القلب عن أن تتأثر بالإيذاء وتضطرب.

[٦٤ ـ ٦٩] (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨))

(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) أي : الذين هم في مقام النفس ميتون بالإرادة (سُجَّداً) فانين بالرياضة قائمين بصفات القلب أحياء بحياته لله قائلين بلسان الحال الذي لا تتخلف عن دعائه الإجابة (رَبَّنَا اصْرِفْ) ولما وصفهم بالتزكية التامة والفناء عن جميع صفات النفس من الرذائل المذيقة المورطة في عذاب جهنم الطبيعة ومستقرّ السوء والعاقبة الوخيمة عقب وصفهم بالتحلية التامة من الاتصاف بجميع أجناس الفضائل الأربع ، وذلك هو حياتهم بالقلب بعد موتهم عن النفس ، كما قيل : مت بالإرادة تحيا بالطبيعة ، فالقوام بين الإسراف والإقتار في الإنفاق هو العدل والتوحيد المشار إليه بقوله : (لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هو أساس فضيلة الحكمة الذي إذا حصل وقع ظله الذي هو العدل في النفس فاتصفت بجميع أنواع الفضائل ، والامتناع عن قتل النفس المحرّمة إشارة إلى فضيلة الشجاعة ، والامتناع عن الزنا فضيلة العفّة. ثم ذكر من في مقابلتهم من المحجوبين من فيض الرحمة الرحيمية التي في ضمن الرحمانية الذين لا يستعدون لقبول عموم فيضه فلا يختصون به وإن كانوا لا يخلون من فيضه الظاهر الشامل للكل فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : يرتكب جميع أجناس الرذائل حتى الشرك بالله (يَلْقَ) جزاء الإثم الكبير المطلق ، وهو مضاعفة العذاب الروحاني والجسماني بالاحتجاب الكلي وهيئات الهيكل السفلي (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى والخلود فيه على غاية الهوان.

[٧٠ ـ ٧٦] (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً

وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

(إِلَّا مَنْ تابَ) رجع إلى الله وتنصل عن المعاصي فبدّل الشرك بالإيمان واستبدل الرذائل بالفضائل (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) بمحو الهيئات عن نفوسهم وإثبات هذه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر صفات نفوسهم بنوره (رَحِيماً) يفيض عليهم الكمالات بجوده ، وهذه هي التوبة الحقيقية. ثم بيّن بعد ذكر التوبة الحقيقية حال أهل السلوك فقال : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي : لا يحضرون أهل الزور المشتغلين بمتاع الغرور ، فإن أهل الدنيا أهل الزور يحسبون الفاني باقيا والقبيح حسنا ويعدّون المعدوم موجودا ، والشرّ خيرا ، فهم الكذّابون المبطلون ، الخاطئون ، أي : يعتزلونهم بملازمة الخلوات وإيثار الطاعات وإقام الصلاة.

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي : الفضول غير الضرورية تركوها وأعرضوا عنها (مَرُّوا) بها مكرمين أنفسهم عن مباشرتها ، قانعين بالحقوق عن الحظوظ وهم الزاهدون بالحقيقة ، التاركون المجرّدون. ثم لما بيّن الزهد الحقيقي والتجريد قرن به العبادة الحقيقية والتحقيق بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : كوشفوا المعارف والحقائق وتجليات الصفات والمشاهدات (لَمْ يَخِرُّوا) على العلم بتلك الآيات من المعارف والحقائق (صُمًّا) بل تلقوها بآذان واعية هي آذان القلوب لا النفوس ، وعلى مشاهدتها (وَ) تجليها (عُمْياناً) بل أحدقوا نحوها ببصائر جديدة مكحلة بنور الهداية. ثم وصف طلبهم للترقي عن مقام القلب إلى مرتبة السابقين والاستعانة بالله عن تلوين النفس وصفاتها لينخرطوا في سلك المقرّبين بقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ) أزواج نفوسنا وذريّات قوانا ما تقرّ به أعيننا من طاعاتهم وانقيادهم خاضعين ، وتنوّرهم بنور القلب مخبتين غير طالبين للاستعلاء والترفع والاستكبار والتجبر (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ) أي : المجرّدين (إِماماً) بالوصول إلى مقام السابقين (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ) غرفة الفردوس وجنة الروح بصبرهم مع الله وفي الله عن غيره (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً) خلود حياة (وَسَلاماً) سلامة وبراءة عن الآفات ، أي : يحييهم الله بإبقائهم سرمدا ببقائه ويسلمهم بإيتائهم كماله كما قيل : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (١) ، وقال : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢).

[٧٧] (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

(ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي : لو لم يكن طلبكم لله وإرادتكم لكنتم شيئا غير ملتفت إليه ولا معبوء به كالحشرات والهوام ، فإن الإنسان إنما يكون إنسانا وشيئا معتدّا به إذا كان من أصحاب الإرادة والطلب ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٢٣.

سورة الشعراء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)) (ط) إشارة إلى الطاهر و (س) إلى السلام و (م) إلى المحيط بالأشياء بالعلم. و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) الذي هذه الأسماء والصفات آياته هو الموجود المحمدي الكامل ذو البيان والحكمة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وفيك الكتاب المبين الذي* بأحرفه يظهر المضمرفيكون معناه على ما ذكر في (طه) : إنه عليه‌السلام لما رأى عدم اهتدائهم بنوره وقبولهم لدعوته استشعر أنه من جهته لا من جهتهم ، فزاد في الرياضة والمجاهدة والفناء في المشاهدة ، فأوحى إليه بأن هذه الصفات التي هي الطهارة من لوث البقية المانع من التأثير في النفوس وسلامة الاستعداد عن النقص في الأمثل ، والكمال الشامل لجميع المراتب بالعلم هي صفات كتاب ذاتك ، المبين لكل كمال ومرتبة باتصافها بجميع الصفات الإلهية واشتمالها على معاني جميع أسمائه ، فلا تبخع نفسك ، أي : لا تهلكها على آثارهم بشدّة الرياضة لعدم إيمانهم وامتناعه ، فإنه من جهتهم إما لوجود المانع بشدّة الحجاب وأما لعدم الاستعداد ، فمعنى لعل في لعلك باخع : الإشفاق ، أي : أشفق على نفسك أن تهلكها بالرياضة لعدم إيمانهم وفواته (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) من العالم العلوي بتأييدنا لك قهرا فتخضع أعناقهم له ، منقادين ، مسلمين ، مستسلمين ظاهرا ، وإن لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما كان يوم الفتح أي : امتنع إيمانهم لأنه أمر قلبي سيظهر إسلامهم بالقهر والإلجاء والاضطرار.

[١٠ ـ ٢٢] (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا

رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) القلب المهذب بالحكمة العملية ، المدرب بالعلوم العقلية ، المشوّق بذكر الأنوار القدسية والكمالات الإنسية ، ووصف المفارقات والمجردات إلى الحضرة الإلهية الغالب على القوّة الشهوانية بالسعي في طلب الأرزاق الروحانية من المعارف اليقينية والمعاني الحقيقية بعد قتل جبار الشهوة الذي كان يجبر لفرعون النفس الأمّارة وفراره من استيلائها إلى مدين مدينة العلم من الأفق الروحاني ووصوله إلى خدمة شعيب الروح في مقام السرّ الذي هو محل المكالمة والمناجاة بالسير العقلي بطريق الحكمة ، واكتساب الأخلاق بالتعديل قبل السلوك في الله بطريق التوحيد والرياضة بالترك والتجريد مع بقاء النفس المتقوية بالعلم والمعرفة ، المتزينةبالفضيلة والمتبجحة بزينتها وكمالها ، الطاغية بظهورها على أشرف أحوالها ، المنازعة ربّها صفة العظمة والكبرياء ، المعجبة بالبهجة والبهاء لاحتجابها بأنانيتها وانتحالها كمال الحق برؤيته لها ، فكانت شرّ الناس كماقال عليه الصلاة والسلام : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» ، ولو ماتت ثم قامت القيامة عليها لكانت خير الناس.

(أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) من القوى النفسانية الفرعونية العانية لفرعون النفس الأمّارة ، المتخذة لها ربّا ، الواضعة كمال الحق موضع كمالها وهو أفحش الظلم (أَلا يَتَّقُونَ) قهري وبأسي بتدميرهم وإفنائهم (أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) في دعوتي إلى التوحيد ولم يطيعوني في الرياضة والترك والتجريد (وَيَضِيقُ صَدْرِي) لعدم اقتداري على قهرهم وعلمي بامتناعهم عن قبول الأوامر الشرعية والأسرار الوحيية وما يكون خارجا عن طور الفكر والعقل لتدربهم بذلك وتفرعنهم باستبدادهم (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) معهم في هذه المعاني لكونها على خلاف ما تعوّدوا به ونشؤا عليه من الحكم العملية الداعية إلى مراعاة التعديل في الأخلاق دون الفناء بالإطلاق (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) العقل ليؤدّبهم بالمعقول ويسوسهم بما يسهل قبولهم له من رعاية مصلحة الدارين واختيار سعادة المنزلين فتلين عريكتهم وتضعف شكيمتهم بمداراته ورفقه وموافقته لهم بعلمه وحلمه (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) بقتلي جبار الشهوة (فَأَخافُ) إن دعوتهم إلى التوحيد وأمرتهم بالتجريد وترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق (أَنْ يَقْتُلُونِ) بالاستيلاء والغلبة ، وهذا صورة حال من احتجبت نفسه بالحكمة ولم يتألف بعد طريق الوحدة مع قوّة استعداده وعدم وقوفه مع ما نال من كمال ، فقلما تقبل نفسه خلاف ما يعتقد وتنقاد في متابعة

الشريعة وتقلد إلا من تداركه سبق العناية وساعده التوفيق بالجذبة و (كَلَّا) ردع له عن الخوف بالتشجيع والتأييد (فَاذْهَبا) أمر باستصحاب العقل للمناسبة والجنسية وتقرير التوحيد بطريق البرهان القامع للتفرعن والطغيان و (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) وعد بالكلاءة والحفظ وتقوية اليقين ، فإن من كان الحق معه لا يغلبه أحد (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) القوى الروحانية المستضعفة ، المستخدمة في تحصيل اللذات الجسمانية. وتربيته إياه وليدا ولبثه فيهم سنين صورة حال الطفولية والصبوية إلى أوان التجرّد وطلب الكمال الذي أشدّه ببلوغ الأربعين ، فإنّ القلب في هذا الزمان في تربية النفس والولاية لها لحكمة عادية الآلة. والفعلة هي الحركة المذمومة عند النفس من الاستيلاء على الشهوة والكفر الذي نسبه إليه هو إضاعة حق التربية (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : لست من الكافرين لكون الصلاح في ذلك بل من الذين لا يهتدون إلى طريق الوحدة.

(فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : حكمة متعالية عن طريق البرهان وراء طور الكسب والعقل (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إليكم بها. وأما تعبيد بني إسرائيل القوى التي هي قومي فليس بمنّة تمنها عليّ ، بل عدوان وطغيان إذ لو لم تعبدهم لما ألقتني أمي الطبيعة البدنية في يمّ الهيولى في تابوت الجسد ، ولقام بتربيتي أهلي وقومي من القوى الروحانية.

[٢٣ ـ ٦٩] (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩))

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) قيل في القصة : إن فرعون كان منطقيا مباحثا سأل بما هو عن حقيقته تعالى ، فلما أجابه موسى عليه‌السلام بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) وبيّن أنّ حقيقته لا تعرف بالحدّ لبساطتها ، غير معلومة للعقل لشدّة نوريتها ولطافتها ، بأن عرّفها بالصفة الإضافية والخاصة اللازمة ، وعرّض به في تجهيله ونفي الإيقان عنه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي : لو كنتم من أهل الإيقان لعلمتم أن لا طريق للعقل إلى معرفته إلا الاستدلال على وجوده بأفعاله الخاصة به ، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا هو وحده وما سألتم عنه بما مما لا يصل إليه نظر العقل. استخفه ونبّه قومه على خفة عقله وكون جوابه غير مطابق للسؤال تعجبا منه لقومه وتسفيها له ، فلما ثنى قوله بمثل ما خفة عقله وكون جوابه غير مطابق للسؤال تعجبا منه لقومه وتسفيها له ، فلما ثنى قوله بمثل ما قال أولا من إيراد خاصة أخرى جننه ، فثلث بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : إن جننت فأين عقلكم حتى يعرف طوره ولم يتجاوز حدّه. وهذه المقالة إشارة إلى أن النفس المحجوبة بمعقولها لا تهتدي إلى معرفة الحق وحكمة الرسالة والشرع ، ولا تذعن للمتابعة ولا تنقاد للمطاوعة بل تظهر بالأنائية وطلب العلوم والربوبية والتغلب على الرسالة الإلهية وهو معنى قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

والشيء المبين الذي يمنعه عن الاستيلاء ويردعه عن الغلبة والاستعلاء هو النور البارق القدسي ، والبرهان النّير العرشي الذي ائتلف به القلب في الأفق الروحي المعجز للنفس والقوى الدالة على صدقه في الدعوى المفيد لقوّتيه العاقلتين النظرية والعلمية للهيئة النورية والقوة القهرية حتى صارت الأولى قوة قدسية متأيدة بالحكمة البالغة يعتمد عليها في قمع العدوّ عند المجادلة ودفع الخصم عند المغالطة. والثانية قوّة ملكية متأيدة بالقدرة الكاملة يعجز بها من غالبه في القوة وعارضه بالقدرة ، فإذا ألقى عصا القوة القدسية بالذكر القلبي صار ثعبانا ظاهر الثعبانية في الغلبة القوية ، وإذا نزع يد الملكية من جيب الصدر حيّر الناظر بالإشراق والنورية. ولما تحيرت النفس الفرعونية وقواها وعجزت وخافت أن يخرجها من أرض البدن

ويدفع شرّ فسادها ورئاستها فيها ، ويمنع تسلطها واستيلاءها بعث الدواعي الشيطانية ، استنهضوا البواعث النفسانية إلى مدائن محال القوى الوهمية والتخيلية ، وأحضروا سحرتها لإلقاء الوساوس والهواجس بآلات المغالطات والتشكيكات وجمعوها لوقت الحضور وجمعية جميع القوى النفسانية والبدنية والروحانية في توجه السرّ إلى حضرة القدس ، فألقوا حبال التخييلات والوهميات وعصيّ الهواجس والوساوس لتوهم الغلبة بعزّة فرعون النفس الأمّارة وقوّته ، ورجاء التعظيم والمنزلة والتقريب في صدر الرياسة والسلطنة فتلقفها ثعبان القوة القدسية بقوة التوحيد وابتلع مأفوكاتها بنور التحقيق ، فانقادت سحرة الوهم والخيال والتخيل إذ فقدت آلاتها وآمنت بنور اليقين في متابعة موسى القلب وهارون العقل بربّهما ، فبقيت مقطوعة الأرجل والأيدي عن السعي في أرض البدن بأنواع الحيل والكيد والمكر وطلب المعاش وتحصيل اللذات والشهوات والتصرّف في أملاك القوى البدنية بالرياسة والسلطنة من جهة مخالفة النفس وموافقة القلب مصلوبة على جذوع النفس النباتية ، ممنوعة عن حركاتها بالرياضة والقهر والسياسة ، منقلبة إلى ربّهم في متابعة القلب ومشايعة السرّ عند التوجه إلى الحق ، مغفورة خطاياهم من التزويرات والمفتريات بنور القدس.

وأوحى إلى موسى القلب إسراء القوى الروحانية في ليل هدوء الحواس وسكون القوى النفسانية إلى الحضرة الوحدانية والعبور من بحر المادة الهيولانية. فلما أتبعهم فرعون النفس في التلوينات حاشرا جنوده من مدائن طبائع الأعضاء ، حاذرا من ذهاب رئاسته وملكه ، ممتلئا من غيظ تسلّط القلب واتباعه واستيلائه على مملكته وأعوانه ، فكادوا أن يظفروا بهم ، ضرب موسى القلب بأمر الحق عند تقابلهما وتعارضهما بعصا القوة القدسية البحر الهيولاني فانفلق إلى الحقوق والحظوظ ونجا موسى وقومه بطريق التجريد وأخرج أعداءهم بالمنع عن الحظوظ والإجبار على الحقوق من جنات اللذات النفسانية وعيون أذواقها وأهوائها وكنوز مدّخراتها وأسبابها ومقام الركون إلى مشتهياتها إلى أن خرج موسى وأهله من البحر بالمفارقة وغرق فرعون النفس وقومه أجمعون.

[٧٠ ـ ٢٠٩] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ

أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

(ما تَعْبُدُونَ) كل من عكف على شيء يهواه ويحبّه ويتولاه فهو عابد له ، محجوب به عن ربّه ، موقوف معه عن كماله ، وذلك عدوّ الموحد ، إذ الغير لا يوجد عنده إلا في التوهم. فالباعث على عبادته الشيطان والغالب على عابده الظلم والعدوان ، ولا يضرّ غير الحق في شهوده ولا ينفع ولا يبصر بنفسه ولا يسمع لأنه يشهد الحق قائما على كل نفس بما تفعل وأيدي الأفعال كلها في حضرة أسمائه منه تصدر ، كما قال عليه‌السلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) إلى آخره ، فهو الخالق والهادي والمطعم والساقي والممرض والشافي والمميت والمحيي ، ويقرّر هذا المعنى قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)) (١) إلى قوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)) (٢). ولما كان هذا المقام مقام الفناء وذنبه لا يكون إلا بوجود البقية ، خاف ذنب حاله ، ورجا

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) سورة الشعراء ، الآيات : ١٠٠ ـ ١٠١.

غفرانه منه بنور ذاته فقال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي : القيامة الكبرى ولا يجازيني من ظهور البقية بالحرمان ، ثم سأل الاستقامة في التحقق به في مقام البقاء بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : حكمة وحكما بالحق لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعلني محبوبا لك فيحبني بحبك خلقك أبدا فيحصل لي (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) إذ لا بد لمن يحب شيئا من كثرة ذكره بالخير ذكر اللازم مكان الملزوم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي : إلا حال من أتى الله وسلامة القلب بأمرين : براءته عن نقص الاستعداد في الفطرة ، ونزاهته عن حجب صفات النفس في النشأة.

يمكن أن يؤوّل كل نبيّ مذكور فيها بالروح أو القلب وتكذيب قومه المرسلين بامتناع القوى النفسانية عن قبول التأدّب بآداب الروحانيين والتخلق بأخلاق الكاملين. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلا تَتَّقُونَ) معناه : تجتنبون الرذائل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أؤدي إليكم ما تلقفت من الحق من الحكم والمعاني اليقينية غير مخلوطة بالوهميات والتخيلات (فَاتَّقُوا اللهَ) في التجريد والتزكية (وَأَطِيعُونِ) في التنوّر والتحلية (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) مما عندكم من اللذات والمدركات الجزئية فإني غنيّ عنها (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) بإلقاء المعاني والحكم الكلية وإشراق الأنوار اللذيذة القدسية.

[٢١٠ ـ ٢١٢] (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) لأن تنزّلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل ، فإنّ مدركات الشياطين من قبيل الوهميات والخياليات ، فمن تجرّد عن صفات النفس وترقى عن أفق الوهم إلى جناب القدس ، وتنوّرت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية ، وأشرق عقله بالاتصال بالعقل الفعال ، وتلقى المعارف والحقائق في العالم الأعلى ما ينبغي ولا يمكن للشياطين أن يتنزّلوا عليه ولا أن يتلفقوا المعارف والحقائق والمعاني الكلية والشرائع ، فإنهم معزولون عن جناب سماء الروح واستماع كلام الملكوت الأعلى ، مرجومون بشهب الأنوار القدسية والبراهين العقلية ، لأن طور الوهم لا يترقى عن أفق القلب ومقام الصدر ولا يتجاوز إلى السرّ ، فكيف إلى حدّ من هو (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (١)؟.

[٢١٣] (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٧ ـ ٨.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي : لا تلتفت إلى وجود الغير بظهور النفس ولا تحتجب في الدعوة بالكثرة عن الوحدة (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) بإلقاء الشياطين وإن امتنع تنزّلهم بالموافقة والمراقبة كقوله : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ، فإنه لا يأمن في الإنذار والنزول إلى مبالغ عقول المنذرين ونفوسهم إلقاءهم وإن أمن تنزّلهم ومصاحبتهم وإغواءهم عند التلقي.

[٢١٤] (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤))

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) من الذين يقارب استعدادهم استعدادك ويناسب حالهم بحسب الفطرة حالك ، إذ القبول لا يكون إلا بجنسية ما في النفس وقرب في الروح.

[٢١٥ ـ ٢١٧] (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧))

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) بالنزول إلى مرتبة من (اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لتخاطبه بلسانه ليفهم ، وترقيه عن مقامه فيصعد ، وإلا لم يمكنهم متابعتك (فَإِنْ عَصَوْكَ) لاستحكام الرين وتكاثف الحجاب فتبرأ عن حولهم وقوّتهم وحولك وقوّتك بالتوكل والفناء في أفعاله تعالى فإنهم وإياك لا يقتدرون على ما لم يشأ الله ولا يكون إلا ما يريد وشاهد في توكلك وفنائك عن أفعالك مصادر أفعاله من العزّة التي يقهر بها من يشاء من العصاة فيحجبهم ويمنعهم من الإيمان والرحمة التي يرحم بها ويفيض النور على من يشاء من أهل الهداية فإنه يحجب المحجوبين بقهره وجلاله ويهدي المهتدين بلطفه وجماله ، وليس لك من الأمر شيء (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢).

[٢١٨ ـ ٢٢٠] (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

(الَّذِي يَراكَ) ويحضرك ويحفظك (حِينَ تَقُومُ) في النشأة في القيامة الصغرى والفطرة في الوسطى بالوحدة حين الاستقامة في الكبرى (وَتَقَلُّبَكَ) انقلابك وانتقالك في أطوار الفانين في أفعاله تعالى وصفاته وذاته بالنفس والقلب والروح في زمرتهم وقبل النشأة الأولى في أصلاب آبائك الأنبياء الفانين في الله عنها. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله (الْعَلِيمُ) لما تعلمه فيعلم أنه ليس من كلام الشياطين وإلقائهم.

[٢٢١ ـ ٢٢٧] (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) إلى آخره ، تقريره لقوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)) (١) لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية المستمدة من الشياطين بالمناسبة ، المستدعية لإلقائهم وتنزّلهم بحسب الجنسية ومن جملتهم الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة سواء كانت موزونة أم لا ، فيتبعهم الغاوون الضالون في ذلك ويأخذون منهم التزويرات والمفتريات دون الذين ينظمون المعارف والحقائق والآداب والمواعظ والأخلاق والفضائل وما ينفع الناس ويفيد ويهيج أشواقهم في الطلب ويزيد ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٢١١.

سورة النمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) طس) أي : (تِلْكَ) الصفات العظيمة المذكورة في طسم التي أصلها الطهارة من صفات النفس وسلامة الاستعداد في الأصل عن النقص هي (آياتُ الْقُرْآنِ) أي : العقل القرآني وهو الاستعداد الحمدي الجامع لجميع الكمالات باطنا فإذا ظهرت وبرزت إلى الفعل في القيامة الكبرى كانت فرقانا ، وقوله : (هُدىً وَبُشْرى) قائم مقام (م) في طسم لأنالهداية إلى الحق والبشارة بالوصول لا يكونان إلا بعد الكمال العلمي ، إذ الهداية للغير التي هي التكميل ملزومة العلم الذي هو الكمال ، فيحصل الاكتفاء بها عنه وهما حالان معمولان لتلك المشار بها إلى الصفات المذكورة في (طسم) كما ذكر ، أي : هاديا ومبشّرا للمؤمنين ، أي : الموقنين بعلم التوحيد.

[٣ ـ ٥] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ) صلاة الحضور والمراقبة (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عن صفات النفوس ، أي : يزكون بالتجريد والمجاهدة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : مقام المشاهدة (يُوقِنُونَ) يعني في حال المكاشفة يوقنون بالمعاينة والرسول يهديهم إليها ويبشّرهم بجنة الذات والفوز الأعظم (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من المحجوبين بتزين نفوسهم بكمالاتها وهيئات أعمالها (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) يعمون بصائرهم عن إدراك صفات الحق وتجليات أنوارها وإلا لم يحجبوا بصفاتهم وأفعالهم بل فنوا عنها.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) بنيران الحجاب والحرمان عن لذات تجليات الصفات (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ومقام كشف الذات في القيامة الكبرى (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لتكاثف حجابهم بصفاتهم وذواتهم فلا خلاق لهم من الجنتين ولذاتهما.

[٦ ـ ٧] (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : العقل القرآني (مِنْ لَدُنْ) أي : من عين جمع الوحدة في الصفات الأول الذي لا حجاب بينه وبين الحضرة الأحدية بل هو نفسه الحجاب الأقدس المفيض لكل الاستعدادات من العقول الفرقانية على أربابها من الأعيان الثابتة الإنسانية (حَكِيمٍ) ذي حكمة بالغة تامّة وعلم محيط شامل.

اذكر من جملة علوم الحق وحكمه وقت قول موسى القلب (لِأَهْلِهِ) من النفس والحواس الظاهرة والباطنة (امْكُثُوا) واثبتوا ولا تشوّشوا وقتي بالحركات (إِنِّي آنَسْتُ) بعين البصيرة (ناراً) أي : نار وما أعظمها هي نار العقل الفعال (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي : علم بالطريقة إلى الله ، وكان حاله أنه ضلّ الطريقة إلى الله برعاية أغنام القوى البهيمية وزوجه النفس الحيوانية (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : بشعلة نورية تشرق عليكم حين اتصالي بالنار وتنوّري بها (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) عن برد الركون إلى البدن والسكون إليه وهوى لذاته فتشتاقوا بحركة تلك النار إلى جناتي وتسيرون بمحبتي إلى مقام الصدر.

[٨ ـ ١٠] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠))

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي : كثر خير (مَنْ فِي النَّارِ) أي : هو موسى القلب الواصل إلى النار بتجليّات الصفات الإلهية ووجدان الكمالات الحقيقية ومقام المكالمة عن النبوّة (وَمَنْ حَوْلَها) من القوى الروحانية والملائكة السماوية بأنوار المكاشفة وأسرار العلوم والحكم والتأييدات القدسية والأحوال السريّة والذوقية (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ونزّه ذات الله بتجرّدك عن الصفات النفسانية والغواشي الجسدانية والنقائص والمعائب.

(أَنَا اللهُ) القوي الذي قهر نفسك وكل شيء بالفناء فيه (الْحَكِيمُ) الذي علمك الحكمة وهداك بها إلى مقام المكالمة (وَأَلْقِ) عصا نفسك القدسية المؤتلفة بشعاع القدس ، أي : خلفا عن الضبط بالرياضة وأرسلها ولا تمنعها عن الحركة فإنها تنوّرت (فَلَمَّا رَآها) تضطرب وتتحرّك (كَأَنَّها) حيّة غالبة بالظهور (وَلَّى) إلى جناب الحق (مُدْبِراً) خوف ظهور النفس (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : لم يرجع وبقي مشتغلا بتدارك البقية (لا تَخَفْ) من استيلاء النفس وظهور الحجاب ، فإن النفس إذا حييت بعد موتها بالإرادة وفنائها بالرياضة إن استقلت بنفسها واستبدت بأمر كانت حجابا وابتلاء ، وإذا تحرّكت بأمري حيّة بنور الروح والمحبة الحقانية لا بهواها لم تكن حجابا (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الذين أرسلتهم بالبقاء بعد الفناء وأحييت نفوسهم بحياتي.

[١١] (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بظهور النفس قبل وقت الاستقامة واستحكام مقام البقاء ، فإنه ذنب حاله تجب عنه التوبة بالاستغفار والخوف بالابتلاء (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) بالخوف والتدارك بقمعها والالتجاء إلى جناب الحق من شرّها (بَعْدَ سُوءٍ) أية صفة ظهرت بها من صفاتها (فَإِنِّي غَفُورٌ) أستر بنوري ظلمتها (رَحِيمٌ) أرحم بعد الغفران بصفتي القائمة صفتها الظاهرة هي بها.

[١٢] (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ) العاقلة العلمية (فِي جَيْبِكَ) تحت لباس النفس متصلة بالقلب في إبطك الأيسر موضع الصدر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نورانية ذات قدرة (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : التلوين والظهور بصفة من صفاتها بل بالتنوّر بالنور (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي : اذهب بهاتين الآيتين بين النفس القدسية والعاقلة العلمية الحيّة إحداهما بحياة القلب ، والمتنوّرة ثانيتهما بنوره ، في جملة تسع آيات هما ثنتان منها والباقية هي السبع المشار إليها في قول المتكلمين بالقدماء السبعة : وهي الصفات الإلهية التي تجلى بها الحق تعالى على القلب فقامت مقام صفاته ، وهي الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والتكلم. (إِلى فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة بالسوء المحجوبة بالأنائية (وَقَوْمِهِ) من قواها كلما ظهرت بتفرعنها على أية صفة في أي مظهر ظهرت وأينما وجدت اذهب بهذه الصفات (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن دين الحق وطاعته بدين الهوى ، منكرين للتوحيد بظهورهم.

[١٣ ـ ١٦] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) منه نورانية تحيّروا فيها (وَجَحَدُوا بِها) بظهورهم بصفاتها ومخالفتها (ظُلْماً وَعُلُوًّا) وإن استيقنتها أنفسهم من طريق العلم والعقل لتفرعنها وتعوّدها بالاستعلاء وعدم ملكية العدل (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ) عاقبتهم من الغرق في يمّ القطران لإفسادهم في أرض البدن بالطغيان (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) الروح (وَسُلَيْمانَ) القلب (عِلْماً) واتّصفا بالصفات الربانية العامة وذلك قولهما : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ) القلب (داوُدَ) الروح الملك بالسياسة والنبوّة بالهداية (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : نادى القوى البدنية وقت الرياسة عليها ، وقال : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) القوى الروحانية (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من المدركات الكلية والجزئية والكمالات الكسبية والعطائية (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الكمال الظاهر الراجح صاحبه على غيره.

[١٧] (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) من جنّ القوى الوهمية والخيالية ودواعيها ، وإنس الحواس الظاهرة ، وطير القوى الروحانية بتسخيره ريح الهوى وتسليطه عليها بحكم العقل العمليّ ، جالسا على كرسيّ الصدر ، موضوعا على رفوف المزاج المعتدل (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ويوقفون على مقتضى الرأي العقلي لا يتقدّم بعضهم بالإفراط ولا يتأخر البعض بالتفريط.

[١٨ ـ ١٩] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي : نمل الحرص في جمع المال والأسباب في السير على طريق الحكمة العملية وقطع الملكات الرديّة (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي ملكة الشره ، ملكة دواعي الحرص. وكانت على ما قيل : عرجاء ، لكسر العاقلة رجلها ومنعها بمخالفة طبعها عن مقتضاه من سرعة سيرها (يا أَيُّهَا النَّمْلُ) أي : الدواعي الحرصية الفائتة الحصر (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) أي : اختبئوا في مقارّكم ومحالكم ومباديكم لا يكسرنكم القلب والقوى الروحانية بالإماتة والإفناء. وهذا هو السير الحكمي باكتساب الملكات الفاضلة وتعديل الأخلاق وإلا لما بقيت للنملة الكبرى ولصغارها عين ولا أثر في الفناء بتجليات الصفات (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي : استبشر بزوال الملكات الرديئة وحصول الملكات الفاضلة ودعا ربّه بالتوفيق لشكر هذه النعمة التي أنعم بها عليه بالاتصاف بصفاته وأفعاله والفناء عن أفعال نفسه وصفاتها. وعلى والديه ، أي : الروح والنفس بكمال الأول وتنوّره وقبول الثانية وتأثرها بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) بالاستقامة في القيام بحقوق تجليات صفاتك والعبادات القلبية لوجهك ونور ذاتك (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي : بكمال ذاتك في زمرة الكمل الذين هم سبب صلاح العالم وكمال الخلق.

[٢٠ ـ ٢١] (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

(وَتَفَقَّدَ) حال طير القوى الروحانية ففقد هدهد القوة المفكرة لأن القوة المفكرة إذا كانت في طاعة الوهم كانت متخيلة والمفكرة غائبة بل معدومة ، ولا تكون مفكرة إلا إذا كانت مطيعة للعقل (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بالرياضة القوية ومنعها عن طاعة الوهمية وتطويعها للعاقلة (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بالإماتة (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أو تصير مطواعة للعقل لصفاء جوهرها ونورية ذاتها فتأتي بالحجة البينة في حركتها.

[٢٢] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : لم يطل زمان رياضتها لقدسيتها وما احتاجت إلى الإماتة لطهارتها حتى رجعت بسلطان مبين ، وتمرّنت في تركيب الحجج على أصح المناهج (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) من أحوال مدينة البدن وإدراك الجزئيات وتركيبها مع الكليات ، فإن القلب لا يدرك بذاته إلا بالكليات ولا يضمها إلى الجزئيات في تركيب القياس ، واستنتاج واستنباط الرأي إلا الفكر وبواسطته يحيط بأحوال العالمين ويجمع بين خيرات الدارين (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) مدينة الجسد (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) عيانيّ مشاهد بالحسّ.

[٢٣] (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣))

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) هي الروح الحيوانية ، المسمّاة باصطلاح القوم : النفس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الأسباب التي يدبرها البدن ويتم بها تملكه (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) هو الطبيعة البدنية التي هي متكؤها بهيئة ارتفاعها من طبائع البسائط العنصرية التي هي المزاج المعتدل ، أو تؤوّل مدينة سبأ بالعالم الجسماني ، والعرش بالبدن.

[٢٤] (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ) لشمس عقل المعاش المحجوب عن الحق بانقيادها له وإذعانها لحكمه دون الانقياد لحكم الروح والانخراط في سلك التوحيد ، والإذعان لأمر الحق وطاعته (وَزَيَّنَ لَهُمُ) شيطان الوهم (أَعْمالَهُمْ) من تحصيل الشهوات واللذات البدنية والكمالات الجسمانية (فَصَدَّهُمْ عَنِ) سبيل الحق وسلوك طريق الفضيلة بالعدل (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى التوحيد والصراط المستقيم.

[٢٥] (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥))

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ينقادوا ويذعنوا في إخراج كمالاتهم إلى العقل (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) أي : المخبوء من الكمالات الممكنة في سموات الأرواح وأرض الجسم (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) مما فيهم بالقوة من الكمالات بالأعمال الحاجبة والمانعة لخروج ما في الاستعداد إلى العقل (وَما تُعْلِنُونَ) من الهيئات المظلمة والأخلاق المردية.

[٢٦ ـ ٢٧] (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يجوز التعبّد والانقياد إلا له (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) المحيط بكل شيء ، فما أصغر عرش بلقيس النفس في جنب عظمته ، فكيف لا تطيعه وتحتجب بمحبة عرشها عن طاعته (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في تضليلهم والإحاطة بأحوالهم بالطريق العقلي (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) بموافقة الوهم وتركيب التخيلات الفاسدة.

[٢٨ ـ ٣٠] (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠))

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) أي : الحكمة العملية والشريعة الإلهية (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أيقبلون الطاعة والانقياد أم يأبون (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) لصدوره من القلب بواسطة الفكر إلى النفس (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : باسم الذات الموصوفة بإفاضة الاستعداد وما يخرج به ما فيه إلى العقل من الآلات وإفاضة الكمال المناسب له من الأخلاق والصفات.

[٣١ ـ ٣٤] (أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤))

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) ألا تغلبوا ولا تستعلوا (وَأْتُونِي) منقادين مستسلمين. وقولها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي) إلى آخره ، إشارة إلى قابلية النفس ونجابة جوهرها ومخالفتها لأمر قواها في الاستعلاء والغرور بهيئة الشوكة والاستيلاء ، وإن لم يمكنها القبول إلا بمظاهرتهم ومشاورتهم. وإفساد القرية وإذلال أعزّتها إشارة إلى منعها عن الحظوظ واللذات ، وقمع ما يغلب ويستولي على القوى بالرياضات.

[٣٥ ـ ٣٦] (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦))

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) من أموال المدركات الحسيّة والشهوات النفسية ، واللذات الوهمية والخيالية ، وإمداد المواد الهيولانية بتزيينها عليهم وتسويلها لهم على أيدي الهواجس والدواعي والبواعث (فَناظِرَةٌ) هل يقبلها فيلين ويميل إلى النفس أو يردّها فيتصلب في الميل إلى الحق (فَما آتانِيَ اللهُ) من المعارف اليقينية والحقائق القدسية واللذات العقلية والمشاهدات النورية (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من المزخرفات الحسيّة والخيالية والوهمية (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لا نحن ، وإنما فرحنا بما هو من عند الله لا بما ذكر.

[٣٧ ـ ٤٠] (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) خطاب للمتخيل المرسل العارض للهدايا عليهم بالتسويل (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) من القوى الروحانية وأمداد الأنوار الإلهية (لا) طاقة (لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) بالقهر والاستيلاء والقمع (أَذِلَّةً وَهُمْ) أذلاء بالطبع والرتبة لدنوّ مرتبتهم في الأصل والطينة وتنويرها بالآداب (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : قبل قرب النفس وقواها بالأخلاق والطاعة ، فإن تسخير القوى الطبيعية بالأعمال والآداب أسهل وأقرب من تسخير النفس الحيوانية وقواها بالأخلاق والملكات. والعفريت هو الوهم لأنه يسخرها بالخوف والرجاء ويبعثها على الأعمال بالدواعي الوهمية والأماني الموافقة.

(قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي : ما دمت في مقام الصدر قبل الترقي إلى مقام السرّ ، فإنّ الوهم حينئذ ينعزل عن فعله بالهداية والمشايعة. والذي عنده علم من الكتاب هو العقل العملي الذي عنده بعض العلم وهو الحكمة العملية والشريعة من كتاب اللوح المحفوظ يسخرها ويقرّبها ويبعثها على الطاعات بتحبيب الكمال وحصول الشرف والذكر الجميل والكرامة إليها (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : نظرك إلى ذاتك وما ينبغي لها من الترقي إلى عالمك في عالم القدس لإدراك الحقائق والمعارف الكلية ، والمشاهدات الحقّة العينية ، فإنّ الكمال العمليّ مقدّم على الكمال الذوقيّ والكشفيّ (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) ثابتا على حالة اتصاله به ، متمرّنا في الطاعة غير متغير بالدواعي الشهوانية والنوازع الشيطانية (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) بالطاعة والعمل بالشريعة (أَمْ أَكْفُرُ) بالمعصية ومخالفة الشريعة ، أو أشكر عند التوفيق للطاعة بالسلوك في الطريقة والإقبال على الحضرة ، وتبديل الصفات ،

ومراقبة التجليات ، أم أكفر بالاحتجاب برؤية الأعمال ، والإدبار عن الحق بالغرور والعجب ، والوقوف مع المعقول والعقل.

[٤١] (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

(نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) بتغيير العادات وترك المذمومات ، ونهك القوى الطبيعية بالرياضات ، وتنكيسه بجعل ما كان أعلى رتبة منه عندها وهي الهيئات البدنية وراحات البدن ولذاته ، وما كان في جهة الإفراط من الأكل والشرب والنوم وأمثالها ، والقوى الطبيعية المستعلية أسفل ، وما كان أسفل من أنواع التعب والرياضة والتقليل والسهر ، وكل ما مال إلى التفريط من الأمور البدنية والقوى الروحانية المستضعفة أعلى (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى الفضائل وطرق الكمالات بالرياضة لنجاة جوهرها وشرف أصلها وحسن استعدادها وقبولها (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إليها لعكس ما ذكر.

[٤٢ ـ ٤٤] (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(فَلَمَّا جاءَتْ) مترقية إلى مقام القلب متنوّرة بأنواره ، متخلّقة بأخلاقه ، منقادة مستسلمة بجنودها (قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) أي : على هذه الصورة المغيرة عرشك أم على الصورة الأولى؟أي : أهذا صورته المستوية التي ينبغي أن يكون عليها أم تلك ، وتلك منكوسة أم هذه (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي : كأنّ هذا بالنسبة إلى حالي هو بالنسبة إلى الحالة الأولى ، أي : إذا كنت متوجهة إلى جهة السفل كان عرشي على تلك الصورة مطابقا لحالي ، وإذا توجهت إلى جهة العلو كان على هذه الصورة مستويا وموافقا لحالي (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من قبل هذه الحالة ، أي : أوتيناه في الأزل عند ميثاق الفطرة (وَكُنَّا) منقادين قبل هذه النشأة إلا أننا نسينا فتذكرنا الساعة (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ) من شمس عقل المعاش بصرفها إلى التوحيد (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ) محجوبين عن الحق (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي : مقام الصدر الذي هو صرح ممرّد مملس عن تقابل الأضداد وتخالف الطباع مستويا بالتجرّد عن الموادّ من قوارير أنوار القلب الصافي المشبّه بالزجاجة في الصفاء والتنوّر (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) بحر الوحدة لكونه غاية رتبتها في التجرّد والترقي ونهاية كمالها في التداني والتلقي ، ولا يتجاوز نظرها إلى أعلى منه وكل ما لا يمكن فوقه من الكمال لشيء فيه نهايته في التوحيد ومعظم ما يستغرق فيه من جمال المعبود والمطلوب (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) يعني : جرّدت جهتها السفلية التي تلي البدن وتسعى بها فيه

المنقسمة إلى القوة الغضبية والشهوية عن الغواشي البدنية والملابس الهيولانية بقطع التعلقات لكن كان عليها شعر الهيئات الباقية من أعمالها والآثار المسودة من كدوراتها ، ومن هذا قيل : يدخل سليمان الجنة بعد الأنبياء بخمسمائة خريف ويحبو حبوا (ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالاحتجاب واتخاذ العقل المشوب بالوهم ، المشرّب بالهوى ، إلها ومعبودا (وَأَسْلَمْتُ) بالانقياد لأمر الحق والانخراط في سلك التوحيد (مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وعلى تأويل العرش بالبدن يستقيم هذا أيضا ويتجه وجه آخر وهو أن يراد أنها كانت محجوبة بمعقولها ما بقي عرشها ، وما انقادت لسليمان القلب إلا في النشأة الثانية ، فعلى هذا يكون الذي عنده علم من الكتاب هو العقل الفعّال وإيتاؤه به قبل ارتداد الطرف إيجاد البدن الثاني في آن واحد ، ومعنى : قبل أن يأتوني مسلمين تقدّم مادة البدن على تعلق النفس به. وقال ابن الأعرابي رحمه‌الله : إن الإتيان كان بإفنائه ثمة وإيجاده بحضرة سليمان والتنكير تغيير الصورة. ومعنى : كأنه هو أنه يشابه صورته ، والصرح هو مادة البدن الثاني ، فيكون دخول الصرح على هذا مقدّما على تنكير الصورة ، وكشف الساقين قطع تعلق البدن الأول دون زوال الهيئات البدنية التي هي بمثابة الشعر ، وهذا بناء على أن النفوس المحجوبة الناقصة لا بد لها من التعلق والله أعلم.

[٤٥ ـ ٤٦] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي : أهل الماء القليل الذي هو المعاش صالح القلب بالدعوة إلى التوحيد (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) فريقالقوى الروحانية وفريق القوى النفسانية (يَخْتَصِمُونَ). تقول الأولى : ما جاء به صالح حق ، وتقول الثانية : بل باطل ، وما نحن عليه حق (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) أي : الاستيلاء على القلب بالرذيلة (قَبْلَ) الإتيان بالفضيلة (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) بالتنوّر بنور التوحيد ، والتنصل عن الهيئات البدنية المظلمة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بإفاضة الكمال.

[٤٧ ـ ٥٨] (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ

تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

(اطَّيَّرْنا بِكَ) لمنعك إيانا من الحظوظ والترفه (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) سبب خيركم وشرّكم من الله. والرهط المفسدون الحواس : الغضب والشهوة والوهم والتخيل ، وتبييته : إهلاكه في ظلمة ليل النفس ، والوليّ : الروح ، ومكر الله بهم : إهلاكهم بهدّ جبال الأعضاء عليهم وتدميرهم في غارّ محلهم وتدمير قومهم بالصيحة التي هي النفخة الأولى ، وفاحشة قوم لوط في هذا التطبيق وهي إتيان الذكور ، إتيان القوى النفسانية أدبار القوى الروحانية واستنزالهم عن رتبة التأثير بتأثرهم عن تأثير هذه من الجهة السفلية واستيلاؤها عليهم في تحصيل اللذات والشهوات البدنية بهم.

[٥٩] (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بظهور كمالاته وتجليات صفاته على مظاهر مخلوقاته (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) بصفاء استعداداتهم وبراءتهم من النقص والآفة ، فالحمد مطلقا مخصوص به لكون جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان صفاته الجمالية والجلالية ليس لغيره فيها نصيب ، وصفاء ذوات المصطفين من عباده ونزاهة أعيانهم عن نقص الاستعداد ، وآفة الحجاب سلامه عليهم وحصول الأمرين للمظهر التام النبويّ بالفعل هو قوله ذلك مأمورا به من عين الجمع في مقام التفصيل ، منتقلا من مقام التفصيل لعين الجمع ، مبتدئا منه وراجعا إليه الله الذي له الحمد المطلق والسلام المطلق ، خير مطلق محض في ذاته (أَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأكوان التي أثبتوا لها وجودا وتأثيرا إذ لا يبقى بعد الكمال المطلق والقبول المطلق الذي هو اسم السلام المطلق باعتبار الفيض الأقدس إلا العدم البحت ، والشرّ الصرف المطلق الذي يقابل الخير المحض المطلق فكيف يكون خيرا.

[٦٠ ـ ٦٣] (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : المؤثر المطلق الموجد للكل من الأعيان الممكنة وصفاتها خير في التأثير والإيجاد ، أم ما لا وجود له ، فكيف بالتأثير والإيجاد. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في التأثير والإيجاد (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق ، فيثبتون الباطل بالتوهم. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) إلى نور ذاته (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) أي : حجب الأكوان والأفعال (وَالْبَحْرِ) أي : حجب الصفات (وَمَنْ يُرْسِلُ) رياح النفحات محيية للقلوب من يدي رحمة التجليات.

[٦٤ ـ ٨١] (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) باختفائه بأعيانهم واحتجابه بذواتهم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بإفنائهم في عين الجمع وإهلاكهم في ذاته بالطمس أو بإظهارهم في النشأة وإعادتهم إلى الفطرة (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) الغذاء الروحاني (وَ) من (الْأَرْضِ) الجسماني إذ من السماء المعارف والحقائق ومن الأرض الحكم والأخلاق.

[٨٢ ـ ٨٧] (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي : وإذا تحقق وقوع ما سبق في القضاء حكمنا به من

الشقاوة الأبدية عليهم (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً) من صورة نفس كل شقيّ مختلفة الهيئات والأشكال هائلة ، بعيدة النسبة بين أطرافها وجوارحها على ما ذكر من قصتها بحسب تفاوت أخلاقها وملكاتها من أرض البدن قدّام القيامة الصغرى التي هي من أشراطها (تُكَلِّمُهُمْ) بلسان حياتها وصفاتها (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا) قدرتنا على البعث (لا يُوقِنُونَ). (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) النفخة الأولى نفخة الإماتة في القيامة الصغرى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من العقلاء المجرّدين والجهال البدنيين ، أو من القوى الروحانية والجسمانية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الموحدين الفانين في الله ، والشهداء القائمين بالله (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) إلى المحشر للبعث ، صاغرين ، أذلاء ، لا قدرة لهم ولا اختيار ، أو أتوه منقادين قابلين لحكمه بالموت.

[٨٨ ـ ٩٠] (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

(وَتَرَى) جبال الأبدان (تَحْسَبُها جامِدَةً) ثابتة في مكانها (وَهِيَ تَمُرُّ) وتذهب وتتلاشى بالتحليل كالسحاب لتجتمع أجزاؤها عند البعث في اليوم الطويل (صُنْعَ اللهِ) أي : صنع هذا النفخ والإماتة والإحياء لمجازاة العباد بالأعمال صنعا متقنا يليق به (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي : بمحو صفة من صفات نفسه بالتوبة إلى الله عنها من قيام صفة إلهية مقامها.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) باحتجابه بصفة من صفات نفسه (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) بتنكيس بنائهم لشدّة ميلهم إلى الجهة السفلية في نار الطبيعة (هَلْ تُجْزَوْنَ) إلا بصور أعمالكم وجعل هيئاتها صوركم.

[٩١ ـ ٩٣] (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ) لا ألتفت إلى غير الحق و (أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي : القلب (الَّذِي حَرَّمَها) حماها عن استيلاء صفات النفس ومنعها من دخول أهل الرجس وآمنها وآمن من فيها لئلا ينكبّ وجهي في نار الطبيعة (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي : تحت ملكوته وربوبيته يعطي عابده ما شاء أن يعطيه ويمنعه ما شاء أن يمنعه ويدفع من غالبه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا وجوههم بالفناء فيه (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أفصل الكمالات المجموعة في إبرازها وإخراجها إلى الفعل في مقام البقاء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالاتّصاف بصفاته الحميدة (سَيُرِيكُمْ)

صفاته في مقام القلب (فَتَعْرِفُونَها) أو آيات أفعاله وآثارها بالقهر في مقام النفس فتعرفونها عند التعذب بها أو يوم ينفخ في الصور بتجلي الذات في القيامة الكبرى ، ففزع من في السموات ومن في الأرض بصعقة الفناء والقهر الكليّ إلا من شاء الله من أهل البقاء الذين أحيوا لحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء به (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١) ساقطين عن درجة الحياة والوجود ، مقهورين. وترى جبال الوجودات تحسبها جامدة ثابتة على حالها ظاهرا وهي تمرّ مرّ السحاب في الحقيقة زائلة.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٨٧.

سورة القصص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤))

(إِنَّ فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة استعلى وطغى في أرض البدن (وَجَعَلَ أَهْلَها) فرقا مختلفة متخالفة متعادية لاتباعهم السبل المتفرّقة وتجافيهم عن طريق العدل والتوحيد والصراط المستقيم (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) هم أهل القوى الروحانية (يُذَبِّحُ) من ناسب الروح في التأثير والتعلي من نتائجها بإماتته وعدم امتثال داعيته وقهره (وَيَسْتَحْيِي) ما ناسب النفس في التأثر والتسفل بتقويته وإطلاقه في فعله.

[٥ ـ ٦] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بالإذلال والإهانة والاستعمال في الأعمال الطبيعية والاستخدام في تحصيل اللذات البهيمية والسبعية وذبح الأبناء واستحياء النساء ، فننجيهم من العذاب (وَنَجْعَلَهُمْ) رؤساء مقدّمين (وَنَجْعَلَهُمْ) ورّاث الأرض وملوكها بإفناء فرعون وقومه (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالتأييد (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة (وَهامانَ) العقل المشوب بالوهم المسمّى عقل المعاش (وَجُنُودَهُما) من القوى النفسانية (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من ظهور موسى القلب وزوال ملكهم ورئاستهم على يده.

[٧] (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي : النفس الساذجة السليمة الباقية على فطرتها وهي اللوّامة (أَنْ أَرْضِعِيهِ) بلبان الإدراكات الجزئية والعلوم النافعة الأولية (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من استيلاء النفس الأمّارة وأعوانها (فَأَلْقِيهِ) في يمّ العقل الهيولاني والاستعداد الأصليّ أو في يمّ الطبيعة البدنية بالإخفاء (وَلا تَخافِي) من هلاكه (وَلا تَحْزَنِي) من فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بعد ظهور

التمييز ونور الرشد (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى بني إسرائيل.

[٨] (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨))

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) من القوى النفسانية الظاهرة عليه ، الغالبة على أمره ، فإنه لا يصل إلى التمييز والرشد ولا يتوقى إلا بمعاونة التخيل والوهم وسائر المدركات الظاهرة والباطنة وإمدادها (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) في العاقبة ويعلم أن أعدى عدوّه النفس التي بين جنبيه فيقهرها وأعوانها بالرياضة ويفنيها بالقمع والكسر والإماتة.

[٩] (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي : النفس المطمئنة العارفة بنور اليقين والسكينة حالة المحبة لصفائها له التي تستولي عليها الأمّارة وتؤثر فيها بالتلوين (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) بالطبع للتناسب (وَلَكَ) بالتوسط ورابطة الزوجية والتواصل. وقيل ، قال فرعون : لك لا لي. وعالجوا التابوت فلم ينفتح ، ففتحته آسية بعد ما رأت نورا في جوفه فأحبّته (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في تحصيل أسباب المعاش ورعاية المصالح وتدبير الأمور بالرأي (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) بأن يناسب النفس دون الروح ، ويتبع الهوى ، ويخدم البدن بالإصلاح ، فيقوينا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) على أن الأمر على خلاف ذلك.

[١٠] (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠))

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى) أي : النفس الساذجة اللوّامة (فارِغاً) عن العقل من استيلاء فرعون عليها وخوفها منه لمقهوريتها له (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : كادت تطيع النفس الأمّارة باطنا وظاهرا فلا تخالفها بسرها وما أضمرته من نور الاستعداد وحال موسى المخفي لكونه بالقوّة بعد (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي : صبّرناها وقوّيناها بالتأييد الروحي والإلهام الملكي (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالغيب لصفاء الاستعداد.

[١١] (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) القوّة المفكرة (قُصِّيهِ) أي : اتبعيه وتفقدي حاله بالحركة في تصفح معانيه المعقولة وكمالاته العلمية والعملية (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أدركت حاله عن بعد لأنها لا ترتقي إلى حدّه ولا تطلع عن مكاشفته وأسراره وما يحصل له من أنوار صفاته (وَهُمْ لا

يَشْعُرُونَ) أي : لا يطلعون على اطلاع أخته عليه لقصور جميع القوى النفسانية عن حدّ المفكرة وبلوغ شأوه.

[١٢] (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢))

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي : منعناه من التقوي والتغذي بلذات القوى النفسانية وشهواتها وقبول أهوائها وإعدادها (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل استعمال الفكر بنور الاستعداد وصفاء الفطرة (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) بالقيام بتربيته بالأخلاق والآداب ويرضعونه بلبان المبادئ من المشاهدات والوجدانيات والتجربيات ، وما طريقة الحس والحدس من العلوم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) يشدونه بالحكم العملية والأعمال الصالحة ، ويهذّبونه ولا يغوونه بالوهميات والمغالطات ، ويفسدونه بالرذائل والقبائح.

[١٣] (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) النفس اللوّامة بالميل نحوها والإقبال (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بالتنوّر بنوره (وَلا تَحْزَنَ) بفوات قرّة عينها وبهائها وتقويتها به (وَلِتَعْلَمَ) بحصول اليقين بنوره (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بإيصال كل مستعدّ إلى كماله المودع فيه وإعادة كل حقيقة إلى أصلها (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فلا يطلبون الكمال المودع فيهم لوجود الحجاب وطريان الشك والارتياب.

[١٤ ـ ١٦] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي : مقام الفتوّة وكمال الفطرة (وَاسْتَوى) استقام بحصول كماله ثم بتجرّده عن النفس وصفاته (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : حكمة نظرية وعملية (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) المتّصفين بالفضائل ، السائرين في طريق العدالة (وَدَخَلَ) مدينة البدن (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي : في حال هدوّ القوى النفسانية وسكونها حذرا من استيلائها عليه وعلوّها (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي : العقل والهوى (هذا) أي : العقل (مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا) أي : الهوى (مِنْ عَدُوِّهِ) من جملة أتباع شيطان الوهم وفرعون النفس الأمّارة (فَاسْتَغاثَهُ) العقل

واستنصره على الهوى (فَوَكَزَهُ) ضربه بهيئة من هيئات الحكمة العملية بقوة من التأييدات ملكية بيد العاقلة العملية فقتله (قالَ هذا) الاستيلاء والاقتتال (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) الباعث للهوى على التعدّي والعدوان (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أو هذا القتل من عمل الشيطان ، لأن علاج الاستيلاء بالإفراط لا يكون بالفضيلة التي هي العدالة الفائضة من الرحمن بل إنما يكون بالرذيلة التي يقابلها من جانب التفريط كعلاج الشره بالخمود وعلاج البخل بالتبذير والإسراف بالتقتير وكلاهما من الشيطان (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالإفراط والتفريط (فَاغْفِرْ لِي) استر لي رذيلة ظلمي بنور عدلك (فَغَفَرَ لَهُ) صفات نفسه المائلة إلى الإفراط والتفريط بنوره ، فحصلت له العدالة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) الساتر هيئات النفس بنوره (الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمال عند زكاء النفس عن الرذائل.

[١٧ ـ ١٩] (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي : اعصمني بما أنعمت عليّ من العلم والعمل (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) معاونا (لِلْمُجْرِمِينَ) المرتكبين الرذائل من القوى النفسانية (فَأَصْبَحَ) في مدينة البدن (خائِفاً) من استيلاء القوى النفسانية بإشارة الدواعي والهواجس وإلقاء أحاديث النفس والوساوس في مقام المراقبة (يَسْتَصْرِخُهُ) أي : يستنصره العقل على أخرى من قوى النفس وهي الوهم والتخيل لأنهما يفسدان في مقام الترقب ، ويثيران الوساوس والهواجس ويبعثان النوازع والدواعي ولا ينكسران ولا يفتران في حال ما من أحوال وجود القلب إلا عند الفناء في الله ، ألا ترى إلى معارضته ومماراته له في قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وإنما نسب صاحبه الذي هو العقل بقوله : إنك لغويّ ، لافتتانه بالوهم وعجزه عن دفعه واحتياجه في معارضته إلى القلب ، وإنما أراد أن يبطش ولما تيسر له البطش ، ومانعه وأنكر فعله ، بقوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ، لأن القلب ما لم يصل إلى مقام الروح ولم يفن في مقام الولاية ، ولم يتصف بالصفات الإلهية لم يذعن له شيطان الوهم لأنه من المنظرين إلى يوم القيامة الكبرى ، فما دام القلب في مقام الفتوّة متصفا بكمالاته في القيامة الوسطى يطمع هو في إغوائه ولا ينقهر ولا يمتنع بمجرّد الكمال العلمي والعملي عن استعلائه.

[٢٠ ـ ٢١] (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو الحبّ الباعث على السلوك في الله الذي يسمونه الإرادة ، وإتيانه من أقصى المدينة : انبعاثه من مكمن الاستعداد عند قتل هوى النفس (يَسْعى) إذ لا حركة أسرع من حركته يحذره عن استيلائهم عليه وينبهه على تشاورهم وتظاهرهم عند ظهور سلطان الوهم عليه ومقابلته ومماراته ومجادلته له على هلاكه بالإضلال (فَاخْرُجْ) عن مدينتهم حدود سلطنتهم إلى مقام الروح (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ) بالأخذ في المجاهدة في الله ودوام الحضور والمراقبة (خائِفاً) من غلبتهم ، ملتجأ إلى الله في طلب النجاة من ظلمهم.

[٢٢] (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) مقام الروح ، غلب رجاؤه على الخوف لقوّة الإرادة وطلب الهداية الحقانية بالأنوار الروحية والتجليات الصفاتية إلى سواء سبيل التوحيد وطريقة السير في الله.

[٢٣ ـ ٢٤] (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي : مورد علم المكاشفة ومنهل علم السرّ والمكالمة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) من الأولياء والسالكين في الله والمتوسطين الذين مشربهم من منهل المكاشفة (يَسْقُونَ) قواهم ومريديهم منه ، أو العقول المقدّسة والأرواح المجرّدة من أهل الجبروت فإنها في الحقيقة أهل ذلك المنهل ، يسقون منه أغنام النفوس السماوية والإنسية وملكوت السموات والأرض (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) من مرتبة أسفل من مرتبتهم (امْرَأَتَيْنِ) هما العاقلتان النظرية والعملية (تَذُودانِ) أغنام القوى عنه لكون مشربها من العلوم العقلية والحكمة العملية قبل وصول موسى القلب إلى المناهل الكشفية والموارد الذوقية ولا نصيب لها من علوم المكاشفة (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي : شربنا من فضلة رعاء الأرواح والعقول المقدّسة عند صدورها عن المنهل متوجهة إلينا ، مفيضة علينا فضلةالماء (وَأَبُونا) الروح (شَيْخٌ كَبِيرٌ) أكبر من أن يقوم بالسقي (فَسَقى لَهُما) من مشرب ذوقه ومنهل كشفه بالإفاضة على جميع القوى من فيضه ، لأن القلب إذا ورد منهلا ارتوى من فيضه في تلك الحالة جميع القوى وتنوّرت بنوره (ثُمَّ تَوَلَّى) من مقامه (إِلَى الظِّلِ) أي : ظل النفس في مقام الصدر

مستحقرا لعلمه المعقول بالنسبة إلى العلوم الكشفية مستمدّا من فضل الحق ومقامه القدسي والعلم اللدني الكشفي.

(فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي : محتاج سائل لما أنزلت إليّ من الخير العظيم الذي هو العلم الكشفي وهو مقام الوجد والشوق ، أي : الحال السريع الزوال وطلبه حتى يصير ملكا.

[٢٥] (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) هي النظرية المتنوّرة بنور القدس التي تسمى حينئذ القوّة القدسية (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) لتأثرها منه وانفعالها بنوره (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) أشار به إلى الجذبة الروحية بنور القوّة القدسية واللمة الملكية (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي : ثواب ارتواء القوى الشاغلة الحاجبة من استفاضتك وتنوّرها بنورك فإنها إذا انفعلت بالبارق القدسي ، وارتوت بالفيض السريّ ، سهل الترقي إلى جناب القدس وقوى استعداد القلب للاتصال بالروح لزوال الحجب أو زوال ظلمتها وكثافتها.

(فَلَمَّا جاءَهُ) واتصل به وترقى في مقامه ، وأطلع الروح على حاله (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهو صورة حاله.

[٢٦] (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦))

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي : استعمله بالمجاهدة في الله والمراقبة لحاله في رعاية أغنام القوى حتى لا تنتشر فتفسد جمعيتنا وتشوّش فرقتنا ، وبالذكر القلبي في مقام تجليات الصفات والسير فيها بأجره ثواب التجليات وعلوم المكاشفات (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) لهذا العمل (الْقَوِيُ) على كسب الكمال (الْأَمِينُ) الذي لا يخون عهد الله بالوفاء بإبرازها في الاستعداد من وديعته أو لا يخون الروح بالميل إلى بناته فيحتجب بالمعقول. وقد قيل : إن الرعاء كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال ، وقيل عشرة ، فأقله وحده وذلك قوته. وفيها إشارة إلى أن العلم اللدني لا يحصل إلا بالاتّصاف بالصفات السبع الإلهية أو العشر.

[٢٧] (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي : أجعلها تحتك ، تحظى عندك بنور القدس وعلوم الكشف وتكون بحكمك وأمرك لا تحتجب عنك بقولها (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي : تعمل لأجلي بالمجاهدة حتى تأتي عليك ثمانية أطوار هي أطوار الصفات السبعة الإلهية بالفناء عن صفاته في صفات الله التي آخرها مقام المكالمة مع طور المشاهدة التي يتم بها الوصول المطلوبة بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١).

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) بالترقي في طورين آخرين هما الفناء في الذات والبقاء بعده بالتحقق (فَمِنْ عِنْدِكَ) فمن كمال استعدادك وقوّته وخصوصية عينك واقتضاء هويتك وهي الكمالات العشر التي ابتلى بها إبراهيم ربّه فأتمهنّ فجعله إماما للناس في مقام التوحيد والله أعلم. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أحمل عليك فوق طاقتك وما لا بقي به وسع استعدادك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) المربين بما يصلح للوصول من الإفاضات والعلوم ، الهادين إلى ما في أصل الاستعداد من الكمال المودع في عين الذات بالأنوار ، غير مكلفين ما لم يكن في وسعك.

[٢٨] (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

(ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ذلك الأمر الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك ، يتعلق بقوّتنا واستعدادنا وسعينا ، لا مدخل لغيرنا فيه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أيما النهايتين بلغت فلا إثم عليّ ، إذ لا عليّ إلا السعي. وأما البلوغ فهو بحسب ما أوتيت من الاستعداد في الأزل وإنما تتقدّر قوتي في السعي بحسب ذلك والله هو الذي وكل إليه أمرنا وفي ذلك شاهد عليه ، أي : ما أوتينا من الكمال المقدّر لنا أمر تولّاه الله بنفسه وعينه من فيضه الأقدس لا يمكن لأحد تغييره ولا يطلع عليه أحد غيره ، ولا يعلم قبل الوصول قدر الكمال المودع في الاستعداد وهو من غيب الغيوب الذي استأثر به الله لذاته.

[٢٩ ـ ٣٣] (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣))

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي : بلغ حدّ الكمال الذي هو أقصر الأجلين (وَسارَ بِأَهْلِهِ) من القوى بأسرها إلى جانب القدس مستصحبا للجميع بحيث لم يمانعه ولم يتخلف عنه واحدة منها ، وحصل له ملكة الاتصال للتدرب في المجاهدة والمراقبة بلا كلفة (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) طور السرّ الذي هو كمال القلب في الارتقاء نار روح القدس وهو الأفق المبين الذي أوحى منه إلى من أوحى إليه من الأنبياء (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي : مقام كمال القلب المسمى سرّا من شجرة نفسه القدسية (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) وهو مقام المكالمة والفناء في الصفات فيكون القائل والسامع هو الله ، كما قال : «كنت سمعه الذي به يسمع ، ولسانه الذي به يتكلم». وإلقاء العصا والإدبار وإظهار اليد البيضاء مرّ تأويله في سورة (النمل).

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي : لا تخف من الاحتجاب والتلوين عند الرجوع من الله واربط جأشك بتأييدي آمنا متحققا بالله. وقد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد قدّس الله روحه العزيز في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي في شهود الوحدة ومقام الفناء ذا ذوق عظيم ، فإذا هو في بعض الأيام يبكي ويتأسف ، فسأله الشيخ عن حاله ، فقال : إني حجبت عن الوحدة بالكثرة ، ورددت ، فلا أجد حالي. فنبّهه الشيخ على أنه بداية مقام البقاء ، وإن حاله أعلى وأرفع من الحال الأولى وأمنه (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) من التمتع المذكور.

[٣٤] (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))

(وَأَخِي هارُونُ) العقل (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) لأن العقل بمثابة لسان القلب ولولاه لم يفهم أحوال القلب ، إذ الذوقيات ما لم تدرج في صورة المعقول وتتنزل في هيئة العلم والمعلوم ، وتقرب بالتمثيل والتأويل إلى مبالغ فهوم العقول والنفوس لم يمكن فهمها (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) عونا يقرّر معناي في صورة العلم بمصداق البرهان (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لبعد حالي عن أفهامهم وبعدهم عن مقامي وحالي فلا بدّ من متوسط.

[٣٥ ـ ٤٣] (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) نقويك بمعاضدته (وَنَجْعَلُ لَكُما) غلبة بتأثيرك فيهم بالقدرة الملكوتية وتأييدك العقل بالقوّة القدسية ، وإظهار العقل كمالك في الصورة العملية والحجّة القياسية (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ) نار الهوى على طين الحكمة الممتزجة من ماء العلم وتراب الهيئات المادية (فَاجْعَلْ لِي) مرتبة عالية من الكمال ، من صعد إليها كان عارفا. وهو إشارة إلى احتجابه بنفسه ، وعدم تجرّد عقله من الهيئات المادّية لشوب الوهم. أي : حاولت النفس المحجوبة بأنانيته من عقل المعاش المحجوب بمعقوله أن يبني بنيانا من العلم والعمل المشوبين بالوهميات ، ومقاما عاليا من الكمال الحاصل بالدراسة والتعلّم لا بالوراثة والتلقي ، من استعلى عليه توهم كونه عارفا بالغا حدّ الكمال ، كما ذكر في الشعراء أنهم كانوا قوما محجوبين بالمعقول عن الشريعة والنبوّة ، متدربين بالمنطق والحكمة ، معتنين بهما ، معتقدين الفلسفة غاية الكمال ، منكرين للعرفان والسلوك والوصال (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) بطريق التفلسف ، وإنما ظنّه من الكاذبين لقصوره عن درجة العرفان والتوحيد ، واحتجابه بصفة الأنانية والطغيان والتفرعن بغير الحق من غير أن يتّصفوا بصفة الكبرياء عند الفناء ، فيكون تكبّرهم بالحق لا بالباطل عن صفات نفوسهم.

[٤٤ ـ ٤٥] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي : جانب غروب شمس الذات الأحدية في عين موسى واحتجابها بعينه في مقام المكالمة لأنه سمع النداء من شجرة نفسه ، ولهذا كانت قبلته جهة المغرب ودعوته إلى الظواهر التي هي مغارب شمس الحقيقة بخلاف عيسى عليه‌السلام (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أوحينا إليه بطريق المكالمة (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) مقامه في مرتبة نقبائه وأولياء زمانه الذين شهدوا مقامه ، ولكن بعد قرنك من قرنه بإنشاء قرون كثيرة بينهما فنسوا فأطلعناك على مقامه وحاله في معراجك وطريق صراطك ليتذكروا (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) مقام الروح (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) علوم صفاتنا ومشاهداتنا ، بل كنت في

طريقك إذ ترقيت من الأفق الأعلى فدنوت من الحضرة الأحدية إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ، فأخبرتهم بذلك عند إرسالنا إياك بالرجوع إلى مقام القلب بعد الفناء في الحق.

[٤٦] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦))

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) مقام السرّ واقفا (وَلكِنْ رَحْمَةً) تامّة واسعة شاملة (مِنْ رَبِّكَ) تداركتك ورقّتك إلى مقام الفناء في الوحدة الذي تتدرّج فيه مقامات جميع الأنبياء وصارت وصفك وصورة ذاتك عند التحقق به في مقام البقاء والإرسال لتعم نبوّتك بختم النبوّات و (لِتُنْذِرَ قَوْماً) بلغت استعداداتهم في القبول حدّا من الكمال ما بلغ استعدادات آبائهم الذين كانوا في زمن الأنبياء المتقدّمين وتدعوهم إلى كمال مقام المحبوبين الذي لم يدع إليه أحد منهم أمّته ف (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يدعوهم إلى ما دعوت إليه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بالوصول إلى كمال المحبة.

[٤٧ ـ ٥٣] (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) العقل القرآني والفرقاني (مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) لكمال استعدادهم دون غيرهم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) وجوهنا لله بالتوحيد ، منقادين لأمره.

[٥٤] (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤))

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أولا في القيامة الوسطى من جانب الأفعال والصفات قبل الفناء في الذات ، وثانيا في القيامة الكبرى عند البقاء بعد الفناء من الجنّات الثلاث (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) المطلقة من شهود أفعال الحق والصفات والذات (السَّيِّئَةَ) المطلقة من أفعالهم وصفاتهم وذواتهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) بالتكميل وإفاضة الكمالات على المستعدّين القابلين.

[٥٥] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

(وَإِذا سَمِعُوا) لغوا لفضول المانع من القبول لم يلحوا وأعرضوا لكونهم أولياء موحدين لا أنبياء (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلّمكم الله من الآفات المانعة عن قبول الحق (لا نَبْتَغِي) صحبة (الْجاهِلِينَ) المفقودين بالسفاهة والجهل المركّب ، فإنهم لا ينتفعون بصحبتنا ولا يقبلون هدايتنا.

[٥٦ ـ ٦٥] (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥))

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته لاهتمامك بحاله غير مطلع على استعداده بمجرّد الجنسية النفسية أو للقرابة البدنية دون الأصلية ، أو الصحبة العارضية دون الحقيقية الروحية (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القابلين للهداية لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.

[٦٦] (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦))

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي : خفيت عليهم الحقائق والتبست في القيامة الصغرى لكونهم محجوبين ، واقفين مع الأغيار كالعمي ، وقد رسخ جهلهم الشامل أوقات النشأتين كقوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (١) ، (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

[٦٧] (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) تنصل عما غطى بصيرته وغشى قلبه واستعداده من صفات النفس ، وآمن بالغيب بطريق العلم (وَعَمِلَ) في التحلية واكتساب الخيرات والفضائل (عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الفائزين بالتجرّد عن مقام النفس بمقام القلب والرجوع إلى الفطرة من حجاب النشأة.

[٦٨ ـ ٦٩] (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩))

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من المحجوبين والمكاشفين (وَيَخْتارُ) بمقتضى مشيئته وعنايته لهم ما يريد (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) في ذلك (سُبْحانَ اللهِ) نزّهه عن أن يكون لغيره اختيار مع اختياره فيكون شريكه.

[٧٠] (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له في الوجود (لَهُ الْحَمْدُ) المطلق لثبوت جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان ، والباطنة فيها وعنها له ، فيكون كل جميل غنيّ قوي عزيز في الدنيا بجماله وغناه وقوّته وعزّته جميلا غنيّا قويّا عزيزا ، وكل كامل عالم عارف به في الآخرة بكماله وعلمه ومعرفته كاملا عالما عارفا (وَلَهُ الْحُكْمُ) يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته ويحكم عليه بموجب إرادته ، فيكون كل قبيح فقير ذليل ضعيف في الدنيا بحكمه ، وتحت قهره ، كذلك وكل محجوب مخذول ، أسير ، مردود في الآخرة في قهره وتحت حكمه مخذولا محجوبا أسيرا مردودا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء في وجوده أو أفعاله وصفاته أو ذاته.

[٧١ ـ ٧٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢))

(إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) ليل ظلمة النفس (سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) من نور الروح (أَفَلا تَسْمَعُونَ) حال كونكم في الحجاب ، فتفهمون المعاني والحكم فتؤمنون بالغيب (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) نهار نور الروح سرمدا بالتجلي الدائم دون الاستتار (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ) من أوقات الغفلات وغلبات صفات النفس وغشاوات الطبع (تَسْكُنُونَ فِيهِ) إلى حقوق نفوسكم وراحات أبدانكم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) بنور روح تجلّيات الحق.

[٧٣ ـ ٧٤] (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤))

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالغفلة والحضور في مقام القلب والاستتار والتجلي في مقام الروح (لِتَسْكُنُوا) في ظلمة النفس إلى نور البدن وترتيب المعاش (وَلِتَبْتَغُوا) من فضل مكاشفاته وتجلّيات صفاته ومشاهداته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه الظاهرة والباطنة والجسمانية والروحانية في أولاكم وأخراكم باستعمالها لوجه الله فبما وجب عليكم من طاعته في كل مقام به وفيه وله.

[٧٥] (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي : نخرج يوم القيامة عند خروج المهدي من كل أمّة نبيهم وهو أعرفهم بالحق (فَقُلْنا) على لسان الشهيد الذي يشهد الحق بشهود الكل ولا يحتجب بهم عنه (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما أنتم عليه أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم وظهر برهان النبيّ (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أظهره مظهر الشهيد (وَضَلَّ عَنْهُمْ) مفترياتهم من المذاهب المختلقة والطرق المتشعبة المتفرّقة. أو قلنا للشهداء : هاتوا برهانكم بإظهار التوحيد ، فأظهروا ، فعلموا أن الحقّ لله.

[٧٦ ـ ٨٢] (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) عالما كبلعم بن باعوراء (فَبَغى عَلَيْهِمْ) لاحتجابه بنفسه وعلمه بالتكبّر والاستطالة عليهم ، فغلب عليه الحرص. ومحبّة الدنيا ابتلاء من الله

لغروره واحتجابه برؤيته زينة نفسه بكمالها ، فمال هواه إلى الجهة السفلية ، فخسف به فيها محجوبا ممقوتا.

[٨٣ ـ ٨٤] (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) من العالم القدسيّ الباقي (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ) لا يحتجبون بنفوسهم وصفاتها فتصير فيهم الإرادة الفطرية الطالبة للترقي والعلوّ في سماء الروح هوى نفسانية تطلب الاستعلاء والاستطالة والتكبر على الناس في الأرض ، ويصير صلاحهم بطلب المعارف واكتساب الفضائل والمعالي فسادا يوجب جمع الأسباب والأموال وأخذ حقوق الخلق بالباطل (وَالْعاقِبَةُ) للمجرّدين الذين تزكّت نفوسهم عن الرذائل المردية والأهواء المغوية.

[٨٥] (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥))

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب لك في الأزل عند البداية والاستعداد الكامل الذي هو العقل القرآني الجامع لجميع الكمالات وجوامع الكلم والحكم (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ما أعظمه لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره هو الفناء في الله في أحدية الذات والبقاء بالتحقق به بجميع الصفات (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي : لا يعلم حالي وكنه هدايتي وما أوتيت من العلم اللدني المخصوص به إلا ربي لا أنا ولا غيري ، لفنائي فيه عن نفسي واحتجاب غيري عن حالي (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من هو محجوب عن الحق لعدم الاستعداد وكثافة الحجاب لكون غيري محجوبا عن حال استعدادي فما علمته بل هو العالم به لا أنا ، لفنائي فيه وتحققي به.

[٨٦ ـ ٨٨] (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) كتاب العقل الفرقاني بتفصيل ما جمع فيك لكونك في حجب النشأة مغمورا ، وعمّا أودع فيك محجوبا (إِلَّا) أي : لكن ألقى إليك لتجلي صفة الرحمة الرحيمية (مِنْ رَبِّكَ) وظهور فيضها فيك شيئا فشيئا حتى صارت وصفك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) المحجوبين باحتجابك بها عن الفناء في الذات ، فتظهر أنائيتك

برؤية كمالها (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) وتجليات صفته فتقف مع أنائيتك كوقوفهم مع الغير فتكون من المشركين بالنظر إلى نفسك وإشراكها بالله في الوجود (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) به لا إلى نفسك بها ، فإنك الحبيب ، والحبيب لا يدعو إلى نفسه ولا يكون بنفسه بل إلى حبيبه بحبيبه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا تدع معه غيرا لا نفسك ولا غيرها. فمن امتثال قوله : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) حصل له وصف ما طغى ومن قوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) ، (ما زاغَ الْبَصَرُ) (١). (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : ذاته ، إذ لا موجود سواه (لَهُ الْحُكْمُ) بقهره كل ما سواه تحت صفاته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء في ذاته.

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٧.

سورة العنكبوت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢))

(الم) أي : الذات الإلهية والصفات الحقيقية التي أصلها وأوّلها باعتبار النسبة إلى الغير العلم والإضافية التي أوّلها ومنشؤها المبدئية اقتضت أن لا يترك الناس على نقصانهم وغفلتهم واحتجابهم بمجرّد أقوالهم المطابقة للحق وظواهر أعمالهم ، بل يفتنوا بأنواع البليّات ويمتحنوا بالشدائد والرياضات حتى يظهر ما كمن في استعدادتهم وأودع في غرائزهم. فإنّ الذات الإلهية أحبّت أن تظهر كمالاتها المخزونة في عين الجمع فأودعها معادن أعيان الناس ، وأوجدها في عالم الشهادة ، كماقال تعالى : كنت كنزا مخفيّاالحديث. فتحبّب إليهم بالابتلاء بالنعم والنقم ليعرفوه عند ظهور صفاته عليهم فيصيروا مظاهر له في الانتهاء إليه ، كما كانوا معادن وخزائن عند الابتداء منه ، فإنّ كونه منتهى من لوازم كونه مبتدأ.

[٣ ـ ٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أهل الاستبصار والاستعداد بأنواع المصائب والمحن والرياضات والفتن ، حتى يتميز الصادق في الطلب ، القابل للكمال بظهور كماله من الكاذب المهوّس الضعيف الاستعداد.

[٥] (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) في أحد المواطن سواء كان موطن الثواب والآثار أو موطن الأفعال أو موطن الأخلاق أو موطن الصفات أو موطن الذات (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) في إحدى المقامات الثلاث (لَآتٍ) أي : فليتيقن وقوع اللقاء بحسب حاله ورجاءه عند الأجل المعلوم ، وليعمل الحسنات ليجد الكرامة في جنة النفس من باب الآثار والأفعال عند الموت الطبيعي ، أو ليجتهد في المحو بالرياضات والمراقبات ليشاهد في جنة القلب من تجليات الصفات ومقامات الأخلاق ما يشتهيه ويدّعيه عند الموت الإرادي ، أو ليجاهد في الله حقّ جهاده بالفناء فيه ليجد روح الشهود وذوق الجمال في جنة الروح عند الموت الأكبر والطامّة الكبرى.

[٦ ـ ٧] (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

(وَمَنْ جاهَدَ) في أي مقام كان لأيّ موطن أراد (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ). (وَالَّذِينَ آمَنُوا) كل واحد من أنواع الإيمان المذكورة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بحسب إيمانهم (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ) سيئات أعمالهم وأخلاقهم ، أو صفاتهم أو ذواتهم بأنوار ذاته (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من أعمالنا الصادرة عن صفاتنا بدل أعمالهم.

[٨ ـ ٢٤] (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤))

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلى آخره ، جعل أول مكارم الأخلاق إحسان الوالدين إذ هما مظهرا صفتي الإيجاد والربوبية ، فكان حقّهما يلي حقّ الله بقرن طاعتهما بطاعته لأن العدل ظلّ التوحيد ، فمن وحّد الله لزمه العدل وأول العدل مراعاة حقوقهما لأنهما أولى الناس ، فوجب تقديم حقوقهما على حق كل أحد إلا على حقه تعالى ، ولهذا وجبت طاعتهما في كل شيء إلا في الشرك بالله.

[٢٥ ـ ٤٤] (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

(إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أو أن كل ما اتخذتم من دون الله شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا ، أو أن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة أو لمودّة بينكم في هذه على القراءتين. والمعنى : أن المودة قسمان : مودّة دنيوية ومودة أخروية ، والدنيوية منشؤها النفس من الجهة السفلية ، والأخروية منشؤها الروح من الجهة العلوية. فكل ما يحب ويودّ من دون الله لا لله ولا بمحبة الله فهو

محبوب بالمودّة النفسية ، وهي هوى زائل كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات فإنها أنشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج ، فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج تلاشت وبقي التضادّ والتعاند بمقتضى الطبائع كقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) إلى آخر الآية.

وأما الأخروية فمنشؤها الذات الأحدية والمحبة الإلهية ، وتلك المودّة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء لتناسب الصفات وتجانس الذوات لا تتصفى غاية الصفاء ولا تتجرّد عن الغطاء إلا عند زوال التركيب والبروز عن حجب النفس والبدن في مقام القلب الروح لقربها من منبعها هناك فتصير يوم القيامة محبّة صرفة صافية الهيئة بخلاف تلك.

[٤٥] (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : فصّل ما أجمل فيك من كتاب العقل القرآني بسبب الوحي ونزول كتاب العلم الفرقاني ، وأقم الصلاة المطلقة على ترتيب تفاصيل التلاوة والعلوم. ومعناه : اجمع بين الكمال العلميّ والعمل المطلق ، فإن لك بحسب كل علم صلاة وكما أن العلوم إما نافعة تتعلق بالآداب والأعمال وإصلاح المعاش وهي علوم القوى من غيب الملكوت الأرضية ، وإما شريفة تتعلق بالأخلاق والفضائل وإصلاح المعاد وهي علوم النفس من غيب الصدر والعقل العلمي ، وإما كلية يقينية تتعلق بالصفات وهي على نوعين : عقلية نظرية وكشفية سريّة ، وكلاهما من غيب القلب والسرّ. وإما حقيقية تتعلق بالتجليات والمشاهدات ، وهي من غيب الروح ، وإما ذوقية لدنية تتعلق بالعشقيات والمواصلات وهي من غيب الخفاء. وإما حقيّة من غيب الغيوب. وبحسب كل علم صلاة ، فالأولى هي الصلاة البدنية بإقامة الأوضاع وأداء الأركان ، والثانية صلاة النفس بالخضوع والخشوع والانقياد والطمأنينة بين الخوف والرجاء ، والثالثة صلاة القلب بالحضور والمراقبة ، والرابعة صلاة السرّ بالمناجاة والمكالمة ، والخامسة صلاة الروح بالمشاهدة والمعاينة ، والسادسة صلاة الخفاء بالمناغاة والملاطفة ، ولا صلاة في المقام السابع لأنه مقام الفناء والمحبة الصرفة الفناء في عين الوحدة. وكما كان نهاية الصلاة الظاهرة وانقطاعها بظهور الموت الذي هو ظاهر اليقين وصورته كما قيل في تفسير قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)) (١) ، فكذلك انتهاء الصلاة الحقيقية بالفناء المطلق الذي هو حق اليقين. وأما في

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٩٩.

مقام البقاء بعد الفناء فيتجدّد جميع الصلوات الست مع سابعة وهي صلاة الحق بالمحبة والتفريد.

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالصلاة البدنية تنهى عن المعاصي والسيئات الشرعية ، وصلاة النفس تنهى عن الرذائل والأخلاق الرديئة والهيئات المظلمة ، وصلاة القلب تنهى عن الفضول والغفلة ، وصلاة السرّ تنهى عن الالتفات إلى الغير والغيبة ، كماقال عليه‌السلام : «لو علم المصلي من يناجي ما التفت». وصلاة الروح عن الطغيان بظهور القلب بالصفات كنهي صلاة القلب عن ظهور النفس بها ، وصلاة الخفاء عن الاثنينية وظهور الأنانية ، وصلاة الذات تنهى عن ظهور البقية بالتلوين وحصول المخالفة في التوحيد (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) الذي هو ذكر الذات في مقام الفناء المحض ، وصلاة الحق عند التمكين في مقام البقاء أكبر من جميع الأذكار والصلوات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) في جميع المقامات والأحوال والصلوات.

[٤٦ ـ ٤٨] (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إنما منع المجادلة مع أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن لأنهم ليسوا محجوبين عن الحق بل عن الدين ، فهم أهل استعداد ولطف لا أهل خذلان وقهر. وإنما ضلّوا عن مقصدهم الذي هو الحق في الطريق لموانع وعادات وظواهر فوجب في الحكمة مرافقتهم في المقصد الذي هو التوحيد كما قال : (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) ومرافقتهم في الطريق ما استقام منها ووافق طريق الحق ، لا ما اعوجّ وانحرف عن المقصد كالانقياد والاستسلام للمعبود بالحق الواحد المطلق كما قال : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ليتحقق عندهم أنهم على الحق متوجهون إلى مقصدهم سالكون لسبيله ، فتطمئن قلوبهم. وملاطفتهم في بيان كيفية سلوك الطريق بتصويب ما هو حق مما هم عليه وتبصير ما هو باطل لاحتجابهم عنه بالعبادة ، كقوله : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لمناسبتهم ومشاركتهم إياهم في اللطف ، فيستأنسوا بهم ويقبلوا قولهم ويهتدوا بهداهم إلا الذي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فبطل استعدادهم وحجبوا عن ربّهم ، وهم الذين ظلموا منهم على أنفسهم بإبطال استعداداتهم ونقص حقوقها من

كمالاتها بتكديرها وتسويدها ، ومنعها عن القبول بكثرة ارتكاب الفضول فإنهم أهل القهر لا يؤثر فيهم إلا القهر ولا تنجح فيهم الملاطفة للمضادّة بين الوصفين.

[٤٩ ـ ٥٤] (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤))

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : القرآن علوم حقيقية ذوقية بيّنة ، محلها صدور العلماء المحققين ، وهي المعاني النازلة من غيب الغيوب إلى الصدر لا الألفاظ والحروف الواقعة على اللسان والذكر ، وما يجحد بها إلّا الكافرون المحجوبون لعدم الاستعداد ، أو الظالمون الذين أبطلوا استعدادهم بالرذائل والوقوف مع الأضداد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) المحجوبين عن الحق لكونهم مغمورين في الغواشي الطبيعية والحجب الهيولانية بحيث لم يبق فيهم فرجة إلى عالم النور فيستبصروا ويستضيئوا بها ويتنفسوا منها فيتروّحوا فيها.

[٥٥ ـ ٦٨] (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ) لحرمانهم عن الحق واحتجابهم عن النور واحتراقهم تحت القهر (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) لحرمانهم اللذات والشهوات واحتجابهم عنها بفقدان الأسباب والآلات ، وتعذّبهم بإيلام الهيئات ونيران الآثار وهم بين مبتلين شديدين ومشوقين قويين إلى الجهة العلوية بمقتضى الفطرة الأصلية ، وإلى السفلية باقتضاء رسوخ الهيئة العارضية مع الحرمان عنهما واحتباسهم في برزخ بينهما نعوذ بالله منه.

[٦٩] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا) من أهل الطريقة (فِينا) بالسير في صفاتنا ، وهو السير القلبيّ لأن المبتدئ الذي هو في مقام النفس سيره بالجهاد إلى الله. والمجاهدة في هذا السير بالحضور والمراقبة والاستقامة إلى الله في الثبات على حكم التجليات (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) إلى طرق الوصول إلى الذات ، وهي الصفات لأنها حجب الذات ، فالسلوك فيها بالاتصاف بها موصل إلى حقيقة الاسم الثابت له تعالى بحسب الصفة الموصوف هو بها وهو عين الذات الواحدية وهي باب الحضرة الأحدية (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يعبدون الله على المشاهدة ، كماقال عليه‌السلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» ، فالمحسنون السالكون في الصفات والمتّصفون بها لأنهم يعبدون بالمراقبة والمشاهدة ، وإنماقال : «كأنك تراه» لأن الرؤية والشهود العيني لا يكون إلا بالفناء في الذات بعد الصفات.

سورة الروم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) الم غُلِبَتِ الرُّومُ) الذات الأحدية مع صفتي العلم والمبدئية كما ذكر ، اقتضت أن روم القوى الروحانية تكون مغلوبة في أقرب موضع من أرض النفس الذي هو الصدر ، لأن فيض المبدأ يوجب إظهار الخلق واحتجاب الحق به ، فكل ما كان أقرب إلى الحق كان مغلوبا بالذي هو أقرب إلى الخلق وذلك حكم الاسم المبدئ في مظهر النشأة وتجليه تعالى به وباسمه الظاهر واسمه الخالق ، وفي الجملة : بما في حضرته المبدئية من الأسماء (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ) كونهم مغلوبين (سَيَغْلِبُونَ) على فارس القوى النفسانية الأعجمية المحجوبة بالرجوع إلى الله ، وظهور الغلب.

[٤ ـ ٥] (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) من الأطوار التي يكون فيها الترقي إلى الكمال وأوقات الحضور والمقامات والتجليات.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) بحكم اسمه المبدئ (وَمِنْ بَعْدُ) بحكم اسمه المعيد ، يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (وَيَوْمَئِذٍ) أي : يوم غلبة روم الروحانيات على النفسانيات (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) وتأييده من الملكوت السماوية وإمدادهم بالأمداد القدسية (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين بها (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القويّ الغالب على قهر الفارسيين المحجوبين (الرَّحِيمُ) بإفاضة الأمداد الكمالية والأنوار التأييدية القدسية على الروميين الغالبين.

[٦] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

(وَعْدَ اللهِ) في تكميل المستعدّين من أهل عنايته (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لاحتجابهم يحسبون أن هذه الغلبة بقوّتهم وكسبهم ، وأنه قد يمكن أنه لا يبلغ المعني به السعي إلى الكمال لعدم السعي ولا يعرفون أن ذلك المستعدّ أيضا من توفيقه

وعلامة عنايته تعالى به ، وعدم السعي من خذلانه وآية كونه غير معني به ، فإن أعمالنا معرّفات لا موجبات.

[٧] (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وأنّ وجوه المكاسب منوطة بسعي العباد وتدبيرهم (وَهُمْ) عن الباطن وأحوال العالم الروحاني (هُمْ غافِلُونَ) لا يفطنون أن وراء هذه الحياة المنقطعة حياة سرمدية كما قال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، وأنّ وراء تدبير العباد وسعيهم لله تعالى تقديرا وحكما.

[٨ ـ ١٠] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ) سموات الغيوب السبعة وأرض البدن (وَما بَيْنَهُما) من القوى الطبيعية والملكوت الأرضية والروحانية ، والملكوت السماوية والصفات والأخلاق وغيرها إلا بالحكمة والعدل وظهور الحق في مظاهرهم بالصفات على حسب استعداد قبولها لتجلّيه (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) هو غاية كمال كل منهم وفنائه فيالله بمقتضى هوية استعداده الأول حتى يشهدوا بقدر استعدادهم وإلقاء الله فيهم بصفاته وذاته (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لاحتجابهم عنه ، فيتوهمون أنه لا يكون إلا بالمقابلة الصورية في عالم آخر باندراج الهوية في الهوية.

[١١] (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بإظهار الفرس على الروم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بإظهار الروم على الفرس (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء فيه.

[١٢ ـ ١٦] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٤.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) بوقوع القيامة الصغرى (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) عن رحمة الله وتحيّرهم في العذاب ، غير قابلين للرحمة ، أو القيامة الكبرى بظهور المهديّ وقهرهم تحت سطوته وحرمانهم من رحمته ، وحينئذ يتفرّق الناس بتميز المؤمن عن الكافر.

[١٧ ـ ١٨] (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

(فَسُبْحانَ اللهِ) أن يكون غيره في الوجود والصفة والفعل والتأثير (حِينَ تُمْسُونَ) بغلبة ظلمة الفرس على نور الروم (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) عند ظهور نورهم على ظلمة الفرس (وَلَهُ الْحَمْدُ) بظهور صفات كماله وتجليات جماله في سموات الغيوب السبعة وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات وقرب طلوع شمس الروح ، وبظهور وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات وقرب طلوع شمس الروح ، وبظهور صفات جلاله في أرض البدن عند إمساء غلبة ظلمة النفسانيات على نور الروحانيات (وَعَشِيًّا) وقت فنائهم وغيبة شمس الروح في الذات (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) في البقاء بعد الفناء عند الاستقامة والاستواء.

[١٩ ـ ٢٠] (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

(يُخْرِجُ) حيّ القلب من ميت النفس بالإعادة وقت الإصباح و (يُخْرِجُ) ميت النفس من حيّ القلب في الإبداء عند الإمساء (وَيُحْيِ) أرض البدن حينئذ (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) في النشأة الثانية.

[٢١ ـ ٢٣] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : من أفعاله وصفاته التي يتوصل بها إلى ذاته معرفة وسلوكا (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : خلق لكم من النفوس أزواجا للأرواح (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) وتركنوا وتميلوا نحوها بالمودّة والتأثير والتأثر (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) من الجانبين المودّة والرحمة فتودّ النفس نور الروح وتأثيره بالقبول والتأثر ، فتسكن عن الطيش وتتصفى فيرحمها الله بولد القلب في مشيمة الاستعداد برّا بها ، فتهتدي ببركته وتتخلق بأخلاقه فتفلح ، وتودّ الروح النفس بالتأثير فيها وإفاضة النور عليها فيرحمه‌الله بالولد المبارك برّا ، عطوفا ، فيرتقي ببركته ويظهر به كماله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) صفات وكمالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أنفسهم وذواتهم وما جبلت عليها وأودعت فيها (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) من لسان النفس والقلب والسرّ والروح

والخفاء بكل مقال في كل مقام ، فإنه لا ينحصر وجوه اختلافات هذه الألسن (وَأَلْوانِكُمْ) تلوّناتكم وتلويناتكم في السموات السبع والأرض (لَآياتٍ) من تجلّيات الصفات والأفعال للعلماء العارفين في مراتب علومهم (مَنامُكُمْ) غفلتكم في ليل النفس ونهار القلب بظهور صفاتها (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بالترقي في الكمالات واكتساب الأخلاق والمقامات (يَسْمَعُونَ) كلام الحق بسمع القلب ، فيفهمون معناه بحسب مقاماتهم في الأطوار.

[٢٤ ـ ٢٦] (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦))

(يُرِيكُمُ) برق اللوامع والطوالع في البدايات ، خائفين من انقضاضها وخفوقها وبقائكم في الظلمة بفواتها ، وطامعين في رجوعها ومزيدكم بها ، وينزل مياه الواردات والمكاشفات بعدها من سماء الروح وسحاب السكينة ، فيحيي بها أراضي النفوس والاستعدادات الهامدة بعد موتها بالجهل (يَعْقِلُونَ) بمطاوعة نفوسهم للدواعي العقلية معاني الواردات وما يصلحهم من الحكم والمعقولات.

[٢٧ ـ ٢٩] (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي : الوصف الأعلى بالفردانية في الوجود والوحدة الذاتية ، وما أحسن قول مجاهد في معناه أنه : لا إله إلا هو.

[٣٠ ـ ٣١] (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١))

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ) لدين التوحيد وهو طريق الحق تعالى ، ولذلك أطلق من غير إضافة أي : هو الدين مطلقا وما سواه ليس بدين لانقطاعه دون الوصول إلى المطلوب ، والوجه هو الذات الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها ، وإقامته للدين تجريده عن كل ما سوى الحق قائما بالتوحيد والوقوف مع الحق غير ملتفت إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون سيره حينئذ سيرا

لله ودينه وطريقته اللذان هو عليهما دين الله وطريقته إذ لا يرى غيره موجودا (حَنِيفاً) مائلا منحرفا عن الأديان الباطلة التي هي طرق الأغيار والأنداد لمن أثبت غيره فأشركه بالله (فِطْرَتَ اللهِ) أي : الزموا فطرة الله ، وهي الحالة التي فطرت الحقيقة الإنسانية عليها من الصفاء والتجرّد في الأزل وهي الدين القيّم أزلا وأبدا ، لا يتغير ولا يتبدّل عن الصفاء الأول ، ومحض التوحيد الفطري. وتلك الفطرة الأولى ليست إلا من الفيض الأقدس الذي هو عين الذات ، من بقي عليها لم يمكن انحرافه عن التوحيد واحتجابه عن الحق ، إنما يقع الانحراف والاحتجاب من غواشي النشأة وعوارض الطبيعة عند الخلقة أو التربية والعادة. أما الأولفلقوله عليه‌السلام في الحديث الرباني : «كل عبادي خلقت حنفاء فاحتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري». وأما الثانيفلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرّانه» ، لا أن تتغير تلك الحقيقة في نفسها عن الحالة الذاتية فإنه محال ، وذلك معنى قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تلك الحقيقة (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) حال من الضمير المتصل في : الزموا المقدّر ، أي : الزموا تلك الفطرة المخصوصة بالله منيبين إليه من جميع الأغيار المتوهم وجودها من قبل شياطين الوهم والخيال وأديانها الباطلة بالتجرّد عن الغواشي الجبلية والعوارض البدنية والهيئات الطبيعية والصفات النفسانية إلى الحق ودينه (وَاتَّقُوهُ) بعد الإنابة إليه بتجريد الفطرة بالفناء فيه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الشهود الذاتي (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ببقية الفطرة وظهور الأنانية في مقامها (مِنَ الَّذِينَ) فارقوا دينهم الحقيقي بسقوطهم عن الفطرة واحتجابهم بحجب النشأة والعادة (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا مختلفة لوقوف كل أحد مع حجابه واختلاف حجبهم وتفريق الشيطان إياهم في أودية صفات النفس ، فبعضهم على دين البهائم ، وبعضهم على دين السباع ، وبعضهم على دين الهوى ، وبعضهم على دين الشيطان خاصة ، وأنواع الشياطين لا تنحصر فكذا الأديان.

[٣٢ ـ ٦٠] (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ

يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : من المفارقين الدين الحقيقيّ المتفرّقين شيعا مختلفة كل حزب عند تكدّر الفطرة وتكاثف الحجاب يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب لكونه مقتضى طبيعة حجابه ، فيناسب حاله من الاستعداد الغالب والفرح إنما يكون بإدراك الملائم من حيث هو ملائم وذلك ملائم في الحال بحسب الاستعداد العارضي وإن لم يلائم في الحقيقة بحسب الاستعداد الأصليّ ، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.

سورة لقمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٨] (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي : وجوده إلى الله بالفناء في أفعاله أو صفاته أو ذاته (وَهُوَ مُحْسِنٌ) عابد له على مشاهدته بحسب مقامه يعمل في الأول بأعمال التوكل على مشاهدة أفعاله تعالى ، وفي الثاني بأعمال مقام الرضا على مشاهدة صفاته ، وفي الثالث بالاستقامة في التحقق به على شهود ذاته (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) بدين التوحيد الذي هو أوثق العرى (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) بالفناء فيه وإليه انتهاء الكل.

[٢٩ ـ ٣١] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١))

(أَلَمْ تَرَ) أن فلك البدن تجري في بحر الهيولى بإفاضة آثار صفاته من الحياة والقدرة والإدراك عليه وإعداده بالآلات (بِنِعْمَتِ اللهِ) أي : لقبول الكمالات عليه (لِيُرِيَكُمْ) بهذا الجري والاستعداد من آيات تجليات أفعاله وصفاته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) من تجليات أفعاله وصفاته ، إذ لا تظهر إلا على هذا المظهر (لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر مع الله في المجاهدة عن ظهور أفعال نفسه وصفاتها لأحكام مقام التوكل والرضا (شَكُورٍ) يشكر نعم التجليات بالقيام بحقها والعمل بأحكام مقام التوكل في تجليات الأفعال وأحكام مقام الرضا في تجليات الصفات ليكون على مزيد من جلاله.

[٣٢] (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) من غلبات صفات النفس ومقتضيات الطبع (كَالظُّلَلِ) كالحجب الساترة لأنوار التجليات (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) التجؤوا إلى الله بالإخلاص والقيام بحقه في مقامهم لتنكشف الحجب ببركة الثبات على العمل بالإخلاص ، فإن السالك إذا حجب بالتلوين عن المقام الأعلى وجب عليه التثبيت في المقام الذي دونه مما هو ملك له كالإخلاص بالنسبة إلى التوكل (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) بالتجلي الفعلي إلى برّ مقام التوكل والأمن من الغرق في بحر الهيولى بغلبات النفس (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ثابت على العدل في القيام بحقوق التوكل والسير في أفعاله تعالى على التمكين (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) بإضافة حقوق مقامه في التجليات واحتجابه عنها في التلوينات (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) يغدر في الوفاء بعقد العزيمة وعهد

الفطرة مع الله عند الابتلاء بالفترة (كَفُورٍ) لا يستعمل نعم الله في مراضيه ولا يقضي حقوق مقامه في التجليات ، ولا يعمل بأعمال أهل التوكل والرضا عند ظهور أنوار الأفعال والصفات ، أو تلك الشريعة تجري مراكبها في هذا البحر إلى ساحل برّ النجاة وجنّة الآثار ليريكم من آيات تجليات الأفعال.

[٣٣] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) احذروه في الظهور بأفعالكم وصفاتكم وذواتكم بالفناء فيه عنها (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) لانقطاع الوصل عند بروزكم لله المتجلي بالوحدة والقهر ولا يبقى وجود للوالد والولد ، فلا يجزي بعضهم عن بعض شيئا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) من الحياة القلبية التي هي أقرب إليكم بأنها حقيقية دائمة فإنه لا حياة لأحد حينئذ (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) فتظهروا بالأنائية وتحتجبوا بوسوسته فتقعوا في الطغيان.

[٣٤] (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الكبرى لفناء الكل فيه حينئذ فكيف بعلومهم (وَيُنَزِّلُ) غيث ذلك بحسب الاستعدادات قبل الفناء (وَيَعْلَمُ ما فِي) أرحام الاستعداد من الكمالات أهي تامّة أم لا؟ أو في أرحام النفوس من أولاد القلوب أهي رشيدة كاملة أم لا؟ ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ) من العلوم والمقامات في الزمان المستقبل لاحتجابها عما في استعدادها (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ) من أراضي المقامات (تَمُوتُ) ويفنى استعدادها لانقضاء ما فيها من الكمالات ، لأن علم الاستعدادات وحدودها مما استأثر به الله تعالى لذاته في غيب الغيب ، والله تعالى أعلم.

سورة السجدة

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

(الم) أي : ظهور الذات الأحديّة والصفات والحضرات الأسمائية هو (تَنْزِيلُ) كتاب العقل الفرقاني المطلق على الوجود المحمدي (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بظهوره في مظهره بصورة الرحمة التامة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) باحتجابه بها في الأيام الستة الإلهية التي هي مدة دور الخفاء من لدن آدم عليه‌السلام إلى دور محمد عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ اسْتَوى) على عرش القلب المحمدي للظهور في هذا اليوم الأخير الذي هو جمعة تلك الأيام بالتجلي بجميع صفاته ، فإن استواء الشمس هو كمال ظهورها في الإشراق ونشر الشعاع ، ولهذاقال عليه‌السلام : «بعثت في نسم الساعة» ، فإن وقت بعثته طلوع صبح الساعة ووسط نهار هذا اليوم وقت ظهور المهدي عليه‌السلام ، ولأمر ما استحبّ قراءة هذه السورة في صبح يوم الجمعة. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ) عند ظهوره (مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) لفناء الكل فيه (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) العهد الأول من ميثاق الفطرة عند ظهور الوحدة.

[٥ ـ ١٠] (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بالإخفاء والخلاقية من سماء ظهور الوحدة إلى أرض خفائها وغروبها في الأيام الستة (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) بالظهور في هذا اليوم السابع الذي كان (مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذلِكَ) المدبّر (عالِمُ الْغَيْبِ) وحكمة الخفاء في الستة (وَالشَّهادَةِ) أي : الظهور في هذا اليوم (الْعَزِيزُ) المنيع بستور الجلال في الاحتجاب (الرَّحِيمُ) بكشفها وإظهار الجمال

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بأن جعله مظاهر صفاته ، فإن الحسن مختصّ بالصفات والأكوان كلها مظاهر صفاته إلا الإنسان الكامل فإنه مختصّ بجمال الذات ولهذا خصّه بالتسوية أي : التعديل بأعدل الأمزجة وأحسن التقويم ليستعدّ بذلك لقبول الروح المخصوص به تعالى (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وبهذا النوع أنهى الخلق وظهر الحق.

[١١ ـ ١٢] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢))

(مَلَكُ الْمَوْتِ) أي : النفس الإنسانية الكلية التي هي معاد النفوس الجزئية ما لم تسقط عن الفطرة بالكلية وإن احتجبت الهيئات الظلمانية والصفات النفسانية فإنها ما لم تبلغ إلى حدّ الرين وانغلاق باب المغفرة تتوفاها النفس التي هي بمثابة القلب للعالم ، وإن بلغت فرقتها ملائكة العذاب فحسب ، ولما لم يبلغوا إلى هذا الحدّ وإن احتجبوا عن لقاء الربّ وصفهم مع ميلهم إلى الجهة السفلية المنكسة لرؤوسهم بسبب رسوخ هيئات الأجرام بالبصر والسمع وتمنى الرجوع إذ لو لم يبق فيهم نور الفطرة وطمسوا بالكلية لم يقولوا : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) ولم يتمنوا الرجوع ، وهؤلاء هم الذين لا يتخلدون في النار بل يعدّلون بحسب رسوخ الهيئات ثم يرجعون.

[١٣ ـ ١٤] (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

(لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) بالتوفيق للسلوك مع المساواة في الاستعداد ، ولكنه ينافي الحكمة لبقائهم حينئذ على طبيعةواحدة وبقاء سائر الطبقات الممكنة في حيز الإمكان مع عدم الظهور أبدا ، وخلوّ أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها فلا تمشي الأمور الخسيسة والدنيئة المحتاج إليها في العالم التي تقوم بها أهل الحجاب والذلّة والقسوة والظلمة ، البعداء عن المحبة والرحمة والنور والعزّة ، فلا ينضبط نظام العالم ولا يتم صلاح المهتدين أيضا لوجوب الاحتياج إلى سائر الطبقات ، فإنّ النظام ينصلح بالمخافي وبالمظاهر فلو كانوا مظاهر كلهم أنبياء وسعداء لاختلّ بعدم النفوس الغلاظ والشياطين الإنس القائمين بعمارة العالم. ألا ترى إلىقوله تعالى : إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم ، فوجب في الحكمة الحقّة التفاوت في الاستعداد بالقوة والضعف والصفاء والكدورة والحكم بوجود السعداء والأشقياء في القضاء ليتجلى بجميع الصفات في جميع المراتب ، وهذا معنى قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ

مِنِّي) أي : في القضاء السابق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الطبيعة (مِنَ الْجِنَّةِ) أي : النفوس الأرضية الخفيّة عن البصر (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) لاحتجابكم بالغشاوات الطبيعية والملابس البدنية (إِنَّا نَسِيناكُمْ) بالخذلان عن الرحمة لعدم قبولكم إياها وإدباركم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) بسبب أعمالكم ، فعلى هذا التأويل المذكور تكون الخلد مجازا وعبارة عن الزمان الطويل ، أو يكون الخطاب بذوقوا لمن حقّ عليهم القول في القضاء السابق من الجنّة والناس.

[١٥] (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

(إِنَّما يُؤْمِنُ) على التحقيق بآيات صفاتنا (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا) لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم (سُجَّداً) فانين فيها (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : جرّدوا ذواتهم متّصفين بصفات ربّهم فذاك هو تسبيحهم وحمدهم له بالحقيقة (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) بظهور صفات النفس والأنانية.

[١٦ ـ ١٧] (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) بالتجرّد عن الغواشي الطبيعية والقيام (عَنِ الْمَضاجِعِ) البدنية والخروج عن الجهات بمحو الهيئات (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) بالتوجه إلى التوحيد في مقام القلب خوفا من الاحتجاب بصفات النفس بالتلوين (وَطَمَعاً) في لقاء الذات (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من المعارف والحقائق (يُنْفِقُونَ) على أهل الاستعداد (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) شريفة منهم (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) من جمال الذات ولقاء نور الأنوار الذي تقرّ به أعينهم فيجدون من اللذة والسرور ما لا يبلغ كنهه ولا يمكن وصفه (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من التجريد والمحو في الصفاء والعمل بأحكام التجليات (مُؤْمِناً) بالتوحيد على دين الفطرة.

[١٨ ـ ٢٠] (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))

(كَمَنْ كانَ فاسِقاً) بخروجه عن ذلك الدين القيم بحكم دواعي النشأة (جَنَّاتُ الْمَأْوى) بحسب مقاماتهم من الجنان الثلاث (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بالميل الفطريّ (أُعِيدُوا فِيها) لاستيلاء الميل السفلي وقهر الملكوت الأرضية بسبب رسوخ الهيئات الطبيعية.

[٢١ ـ ٢٢] (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) الذي هو عذاب الآثار ونيران مخالفات النفوس والطباع في البليّات والشدائد والأهوال (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) الذي هو الاحتجاب بالظلمات عن أنوار الصفات والذات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدّة العذاب الأدنى قبل الرين بكثافة الحجاب.

[٢٣ ـ ٣٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى) كتاب العقل الفرقاني (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) من لقاء موسى عند بلوغك إلى مرتبته في معراجك كما ذكر في قصة المعراج أنه لقيه في السماء الخامسة وهو عند ترقّيه عن مقام السرّ الذي هو مقام المناجاة إلى مقام الروح الذي هو الوادي المقدّس (يَوْمَ الْفَتْحِ) المطلق يوم القيامة الكبرى بظهور المهدي لا ينفع إيمان المحجوبين حينئذ لأنه لا يكون إلا باللسان ، ولا يفنى عنهم العذاب ، والله تعالى أعلم.

سورة الأحزاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) بالفناء عن ذاتك بالكلية دون بقاء البقية (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) بموافقتهم في بعض الحجب لظهور الأنانية (وَالْمُنافِقِينَ) بالنظر إلى الغير فتكون ذا وجهين وبالانتهاء بحكم هذا النهي وصف بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)) (١) ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) يعلم ذنوب الأحوال (حَكِيماً) في ابتلائك بالتلوينات فإنها تنفع في الدعوة وإصلاح أمر الأمة إذ لو لم يكن له تلوين لم يعرف ذلك من أمّته فلا يمكنه القيام بهدايتهم (وَاتَّبِعْ) في ظهور التلوينات (ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من التأديبات وأنواع العتاب والتشديدات بحسب المقامات كما ذكر غير مرة في قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) (٢) وأمثاله (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يعلم مصادر الأعمال وأنها من ـ أي الصفات ـ تصدر من الصفات النفسانية أو الشيطانية أو الرحمانية فيهديك إليها ويزكيك منها ويعلمك سبيل التزكية والحكمة في ذلك (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في دفع تلك التلوينات ورفع تلك الحجب والغشاوات (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فإنها لا ترتفع ولا تنكشف إلا بيده لا بنفسك وعلمك وفعلك ، أي : لا تحتجب برؤية الفناء في الفناء فإنه ليس من فعلك سواء كان في الأفعال أو الصفات أو الذات أو إزالة التلوينات فإنها كلها بفعل الله لا مدخل لك فيها وإلا لما كنت فانيا.

[٦] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٧.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٧٤.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنه مبدأ وجوداتهم الحقيقية ومبدأ كمالاتهم ومنشأ الفيضين الأقدس الاستعدادي أولا والمقدس الكمالي ثانيا ، فهو الأب الحقيقي لهم ولذلك كانت أزواجه أمّهاتهم في التحريم ومحافظة الحرمة مراعاة لجانب الحقيقة وهو الواسطة بينهم وبين الحق في مبدأ فطرتهم فهو المرجع في كمالاتهم ولا يصل إليهم فيض الحق بدونه لأنه الحجاب الأقدس واليقين الأول ، كماقال : «أول ما خلق الله نوري» ، فلو لم يكن أحبّ إليهم من أنفسهم لكانوا محجوبين بأنفسهم عنه ، فلم يكونوا ناجين ، إذ نجاتهم إنما هي بالفناء فيه لأنه المظهر الأعظم.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بعضهم أولى ببعض من غيرهم للاتصال الروحاني والجسماني والأخوة الدينية والقرابة الصورية ولا تخلو القرابة من تناسب ما في الحقيقة لاتصال الفيض الروحاني بحسب الاستعداد المزاجي ، فكما تتناسب أمزجة أولي الأرحام وهياكلهم الصورية فكذلك أرواحهم وأحوالهم المعنوية (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) المحبوبين في الله للتناسب الروحي والتقارب الذاتي (مَعْرُوفاً) إحسانا بمقتضى المحبة والاشتراك في الفضيلة زائدا عما بين الأقارب (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ) أي : اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً).

[٧ ـ ٢٠] (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) وخصوصا الخمسة المذكورة لاختصاصهم بمزيد المرتبة والفضيلة ميثاق التوحيد والتكميل والهداية بالتبليغ عند الفطرة وهو الميثاق الغليظ المضاعف بالكمال والتكميل ولذلك أضافه إليهم بقوله : ميثاقهم ، أي : الميثاق الذي ينبغي لهم ويختص بهم ، وقدّم في الاختصاص بالذكر نبينا عليه‌السلام بقوله منك ، لتقدّمه على الباقين في الرتبة والشرف (لِيَسْئَلَ) الله بسبب عهدهم وميثاقهم وبواسطة هدايتهم (الصَّادِقِينَ) الذين صدّقوا العهد الأول والميثاق الفطري في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١) ، (عَنْ صِدْقِهِمْ) بالوفاء والوصول إلى الحق بإخراج ما في استعدادهم من الكمال بحضور الأنبياء كما قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢) فالسؤال إنما كان مسببا عن ميثاق الأنبياء لأنه يسألهم على ألسنتهم وهم الشاهدون لهم آخرا كما كانوا شاهدين عليهم أولا.

[٢١ ـ ٢٧] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وجب على كل مؤمن متابعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا حتى يتحقق رجاؤه ويتم عمله لكونه الواسطة في وصولهم والوسيلة في سلوكهم للرابطة النفيسة بينه وبينهم بحكم الجنسية. وذكر الرجاء اللازم للإيمان بالغيب في مقام النفس وقرن به الذكر الكثير الذي هو عمل ذلك المقام ليعلم أن من كان في بدايته يلزمه متابعته في الأعمال والأخلاق والمجاهدة والمواساة بالنفس والمال ، إذ لو لم يحكم البداية لم يفلح

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

بالنهاية. ثم إذا تجرّد وتزكّى عن صفات نفسه فليتابعه في موارد القلب ، أي : الصدق والإخلاص ، والتسليم والتوكل ، كما تابعه في منازل النفس ليحتظي ببركة متابعته بالمواهب والأحوال وتجلّيات الصفات في مقامه كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجلّيات الأفعال في مقام النفس ، وكذا في مقام السرّ والروح حتى الفناء. ومن صحة المتابعة تصديقه في كل ما أخبر به بحيث لا يعتوره الشك في شيء من أخباره وإلا فترت العزيمة وبطلت المتابعة ، فإن الأصل والعمدة في العمل الاعتقاد الجازم ، ولهذا مدحهم بقوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) إذ وعدهم الابتلاء والزلزال حتى ينخلعوا عن أبدانهم ويتجرّدوا في التوجه إليه عن نفوسهم في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (١).

(وَما زادَهُمْ) أي : وقوع البلاء بالأحزاب (إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) لقوّة اعتقادهم في البداية وصحة متابعتهم في التسليم ففازوا بمقام الفتوة والانخلاع بالبلاء وعن قيود النفس لسلامة الفطرة ، فوصفهم بالوفاء الذي هو كمال مقام الفتوة ، وسماهم رجالا على الحقيقة بقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي : رجال أيّ رجال ، ما أعظم قدرهم لكونهم صادقين في العهد الأول الذي عاهدوا الله عليه في الفطرة الأولى بقوة اليقين وعدم الاضطراب عند ظهور الأحزاب ، فلم يتنحوا بكثرتهم وقوّتهم عن التوحيد وشهود تجلي الأفعال فيقعوا في الارتياب ويخافوا سطوتهم وشوكتهم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) بالوفاء بعهده والبلوغ إلى كمال فطرته (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) في سلوكه بقوة عزيمته (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) بالاحتجاب بغواشي النشأة وارتكاب مخالفات الفطرة بمحبة النفس والبدن ولذاتهما والميل إلى الجهة السفلية وشهواتها فيكونوا كاذبين في العهد ، غادرين (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) جنات الصفات (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الذين وافقوا المؤمنين بنور الفطرة وأحبوهم بالميل الفطريّ إلى الوحدة ، وأحبوا الكافرين بسبب غواشي النشأة والانهماك في الشهوة ، فهم متذبذبون بين الجهتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وبهيئات نفوسهم المظلمة (إِنْ شاءَ) لرسوخها (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لعروضها وعدم رسوخها (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يستر هيئات النفوس بنوره (رَحِيماً) يفيض الكمال عند إمكان قبوله.

[٢٨ ـ ٣٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى آخره ، اختبر النساء هو إحدى خصال التجريد وأقدام الفتوة التي يجب متابعته فيها ، فإنه عليه‌السلام مع ميله إليهنّلقوله : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ، إذ شوّشنّ وقته بميلهنّ إلى الحياة الدنيا وزينتها خيرهنّ وجرّد نفسه عنهنّ وحكمهنّ بين اختيار الدنيا ونفسه ، فإن اخترنه لقوة إيمانهن بقينّ معه بلا تفريق لجمعيته وتشويش لوقته بطلب الزينة والميل إليها ، بل على التجرد والتوجه إلى الحق كقوى نفسه ، وإن اخترن الدنيا وزينتها متعهنّ وسرّحهنّ وفرّغ قلبه عنهنّ بمثابة إماتة القوى المستولية.

[٣٦] (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦))

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية ، من جملة الخصال التي تجب طاعته ومتابعته فيها وهو مقام الرضا والفناء في الإرادة لكونه عليه‌السلام إذا فنى بذاته وصفاته في ذات الله وصفاته تعالى أعطى صفات الحق بدل صفاته عند تحققه بالحق في مقام البقاء بالوجود الموهوب وكان حكمه وإرادته حكم الله وإرادته تعالى كسائر صفاته. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)) (١) فمن لوازم متابعته الفناء في إرادة الحق ، فإرادته إرادة الحق فيجب الفناء في إرادته وترك الاختيار مع اختياره وإلا لكان عصيانا و (ضَلالاً مُبِيناً) لكونه مخالفة صريحة للحق.

[٣٧ ـ ٤٠] (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٣ ـ ٤.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) إلى قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أحد التأديبات الإلهية النازلة في تلوينه عند ظهور نفسه للتثبيت وتلك التلوينات هي موارد التأديبات ، ولهذا كان خلقه القرآن.

[٤١ ـ ٤٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) باللسان في مقام النفس ، والحضور في مقام القلب ، والمناجاة في مقام السرّ ، والمشاهدة في مقام الروح ، والمواصلة في مقام الخفاء ، والفناء في مقام الذات ، (وَسَبِّحُوهُ) بالتجريد عن الأفعال والصفات والذات (بُكْرَةً) وقت طلوع فجر نور القلب وإدبار ظلمة النفس وليل غروب شمس الروح بالفناء في الذات ، أي : دائما من ذلك الوقت إلى الفناء السرمدي.

[٤٣] (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بحسب تسبيحكم بتجليات الأفعال والصفات دون الذات لاحتراقهم هناك بالسبحات ، كماقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت».

(لِيُخْرِجَكُمْ) بالإمداد الملكوتي والتجلي الأسمائيّ من ظلمة أفعال النفوس إلى نور تجلّيات أفعاله في مقام التوكل ، ومن ظلمة صفات النفوس إلى نور تجليات صفاته ومن ظلمة الأنانية إلى نور الذات (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) يرحمهم بما يستدعيه حالهم ويقتضيه استعدادهم من الكمالات.

[٤٤] (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

(تَحِيَّتُهُمْ) أي : تحية الله إياهم وقت اللقاء بالفناء فيه تكميلهم وتسليمهم عن النقص بجبر كسرهم بأفعاله وصفاته وذاته ، أو تحيته لهم بإفاضة هذه الكمالات وقت لقائهم إياه بالمحو والفناء هي سلامتهم عن آفات صفاتهم وأفعالهم وذواتهم أو بسلامتهم ، لأن التحية بالتجليات والسلامة عن الآفات تكونان معا والأول يناسب إطلاق اسم السلام على الله تعالى. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) بإثابة هذه الجنات عن أعمالهم في التسبيحات والمذاكرات.

[٤٥ ـ ٤٧] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) للحق في الإرسال إلى الخلق غير محتجب بالكثرة عن الوحدة مطلقا على أحوالهم وكمالاتهم بنور الحق (وَمُبَشِّراً) للمستعدّين السالمين فيه بالفوز بالوصول (وَنَذِيراً) للمحجوبين والواقفين مع الغير بالعقاب والحرمان والحجاب (وَداعِياً إِلَى اللهِ) كل مستعدّ بحسب حاله ومقامه (بِإِذْنِهِ) وما يسر الله بحسب استعداده (وَسِراجاً مُنِيراً) بنور الحق النفوس المظلمة بغشاوات الجهل وهيئات البدن والطبع (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) المستبصرين بنور الفطرة (بِأَنَّ لَهُمْ) بحسب صفاء استعداداتهم (مِنَ اللهِ فَضْلاً) بإفاضة الكمالات بعد هبة الاستعدادات (كَبِيراً) من جنات الصفات.

[٤٨ ـ ٥٥] (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) في التلوينات كما ذكر في أول السورة فيتكدّر نور

سراجك (وَدَعْ أَذاهُمْ) بنفسك لتنجو من آفة التلوين ورؤية فعل الغير فإنهم لا يفعلون ما يفعلون بالاستقلال بأنفسهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) برؤية أفعالهم وأفعالك منه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يفعل بك وبهم ما يشاء ، فإن آذاهم على مظهرك فهو القادر على ذلك مع براءتك عن ذنب التلوين كما فعل عند التمكين وإلا فهو أعلم بشأنه.

[٥٦ ـ ٦٥] (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) بالأمداد والتأييدات والإفاضة للكمالات فالمصلي في الحقيقة هو الله تعالى جمعا وتفصيلا بواسطة وغير واسطة ، ومن ذلك تعلم صلاة المؤمنين عليه وتسليمهم له فإنها من حيز التفصيل وحقيقة صلاتهم عليه قبولهم لهدايته وكماله ومحبتهم لذاته وصفاته فإنها إمداد له منهم وتكميل وتعميم للفيض إذ لو لم يمكن قبولهم لكمالاته لما ظهرت ، ولم يوصف بالهداية والتكميل فالإمداد أعمّ من أن يكون من فوق بالتأثير أو من تحت بالتأثر ، وذلك كقبول المحبة. والصفاء هو حقيقة الدعاء في صلاتهم بقولهم : اللهمّ صلّ على محمد. وتسليمهم جعلهم إياه بريئا من النقص والآفة في تكميل نفوسهم والتأثير فيها وهو معنى دعائهم له بالتسليم (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لأن النبي في غاية القرب منه بحيث يتحقق به بفناء آنيته ولم تبق اثنينية هناك لخلوص محبته ، فالمؤذي له يكون مؤذيا لله ، والمؤذي لله هو الظاهر بآنية نفسه لعداوة الله له فهو في غاية البعد الذي هو حقيقة اللعن في الدارين ظاهرا وباطنا وهو مقابل لحضرة العزّة فيكون في غاية الهوان في عذاب الاحتجاب (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) لمن استعدّ لها (لَعَنَ الْكافِرِينَ) لبعدهم عنه بالاحتجاب.

[٦٦ ـ ٦٩] (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) بتغيير صورهم في أنواع العذاب وبراز الحجاب.

[٧٠ ـ ٧١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

(اتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن الرذائل والسداد في القول الذي هو الصدق والصواب ، والصدق هو مادة كل سعادة وأصل كل كمال لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي قبول جميع الكمالات وأنوار التجليات ، وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها لأنه اجتناب من رذيلة الكذب مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى لكنه أفرد بالذكر للفضيلة كأنه جنس برأسه كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) بإفاضة الكمالات والفضائل ، أي : زكّوا أنفسكم لقبول التحلية من الله بفيض الكمالات عليكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب صفاتكم بتجليات صفاته (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في التزكية ومحو الصفات (فَقَدْ فازَ) بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية وهو الفوز العظيم.

[٧٢] (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢))

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) بإيداع حقيقة الهوية عندها واحتجابها بالتعينات بها (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) بأن تظهر عليهنّ مع عظم إجرامها لعدم استعدادها لقبولها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لعظمها عن أقدارها وضعفها عن حملها وقبولها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) لقوة استعداده واقتداره على حملها فانتحلها لنفسه بإضافتها إليه (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) بمنعه حق الله حين ظهر بنفسه وانتحلها (جَهُولاً) لا يعرفها لاحتجابه بأنانيته عنها.

[٧٣] (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الذين ظلموا بمنع ظهور نور استعدادهم بظلمة الهيئات البدنية والصفات النفسانية ووضعوه في غير موضعه فجهلوا حقه (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) الذين جهلوا لاحتجابهم بالأنائية والوقوف مع الغير بغلبة الرين وكثافة الحجب الخلقية فعظم ظلمهم لانطفاء نورهم بالكلية وامتناع وفائهم بالأمانة الإلهية.

(وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين تابوا عن الظلم بالاجتناب عن الصفات النفسانية المانعة عن الأداء وعدلوا بإبراز ما أخفوه من حق الله عند الوفاء وعن الجهل بحقه إذ عرفوه وأدّوا أمانته إليه بالفناء (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ستر ذنوب ظلمهم وجهلهم عن التزكية والتصفية والتجريد والمحو والطمس بأنوار تجلياته (رَحِيماً) رحمهم بالوجود الحقاني عند البقاء بأفعاله وصفاته وذاته أو عرضنا الأمانة الإلهية بالتجلي عليها وإيداع ما تطيق حملها فيها من الصفات بجعلها مظاهر لها. أو : فأبين أن يحملنها بخيانتها وإمساكها عندها والامتناع عن أدائها ، وأشفقن من حملها عندها فأدّينها بإظهار ما أودع فيها من الكمالات وحملها الإنسان بإخفائها بالشيطنة وظهور الأنانية والامتناع عن أدائها بإظهار ما أودع فيه من الكمال وإمساكها بظهور النفس بالمظلمة والمنع عن الترقي في مقام المعرفة ، والله أعلم.

سورة سبأ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بجعله مظاهر لصفاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وظهوره فيها بالحجب الجلالية (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) بتجليه على الأرواح بالكمالات الباطنة والصفات الجمالية ، أي : له الحمد بالصفات الرحمانية في الدنيا ظاهرا ، وله الحمد بالصفات الرحيمية في الآخرة باطنا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم ترتيب عالم الشهادة بمقتضى حكمته (الْخَبِيرُ) الذي نفذ علمه في بواطن عالم الغيب للطافته.

[٢ ـ ٥] (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الملكوت الأرضية والقوى الطبيعية (وَما يَخْرُجُ مِنْها) بالتجريد من النفوس الإنسانية والكمالات الخلقية (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من المعارف والحقائق الروحانية (وَما يَعْرُجُ فِيها) من هيئات الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمالات السماوية النورانية (الْغَفُورُ) بستر الهيئات الأرضية الظلمانية.

[٦ ـ ٩] (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : العلماء المحققون يرون حقيّة ما أنزل إليك عيانا لأن المحجوب لا يمكنه معرفة العارف وكلامه ، إذ كل عارف بشيء لا يعرفه إلا بما فيه من معناه ، فمن لم يكن له حظ من العلم ونصيب من المعرفة لا يعرف العالم العارف وعلمه لخلوّه عما به يمكن معرفته (وَيَهْدِي إِلى) طريق الوصول إلى الله (الْعَزِيزِ) الذي يغلب المحجوبين ويمنعهم بالقهر والقمع (الْحَمِيدِ) الذي ينعم على المؤمنين بأنواع اللطف ولو لم يعتبر تطبيق الصفتين على قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) إلى آخره ، واعتبر التطبيق على قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لكان معنى العزيز القوي الذي يغلب الواصلين بالإفناء الحميد الذي ينعم عليهم بصفاته عند البقاء.

[١٠ ـ ١١] (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) الروح (مِنَّا فَضْلاً) بعلوّ الرتبة وتسبيح المشاهدة والمناغاة في المحبة مع مزيد العبادة والتفكّر والكمالات العلمية والعملية ، بأن قلنا : يا جبال الأعضاء (أَوِّبِي) أي : سبحي (مَعَهُ) بالتسبيحات المخصوصة بك من الانقياد والتمرن في الطاعات بالحركات والسكنات والأفعال والانفعالات التي أمرناك بها وطير القوى الروحانية بالتسبيحات القدسية من الأذكار والإدراكات والتعقلات والاستفاضات والاستشراقات من الأرواح المجرّدة والذوات المفارقة كل بما أمر (وَأَلَنَّا لَهُ) حديد الطبيعة الجسمانية العنصرية (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) من هيئات الورع والتقوى فإن الورع الحصين في الحقيقة هو لباس الورع الحافظ من صوارم دواعي أعادي النفوس وسهام نوازع الشياطين (وَقَدِّرْ) بالحكمة العملية والصنعة المتقنة العقلية والشرعية في ترغيب الأعمال المزكية ووصول الهيئات المانعة من تأثير الدواعي النفسية (وَاعْمَلُوا) أيها العاملون لله بالجمعية في الجهة السفلية إلى الجهة العلوية عملا صالحا يصعدكم في الترقي إلى الحضرة الإلهية ويعدّكم لقبول الأنوار القدسية. والخطاب لداود الروح وآله من القوى الروحانية والنفسانية والأعضاء البدنية.

[١٢] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢))

(وَلِسُلَيْمانَ) القلب ريح الهوى النفسانية (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي : جريها غداة طلوع نور الروح وإشراق شعاع القلب وإقبال النهار سير طور في تحصيل الأخلاق والفضائل والطاعات والعبادات والصوالح التي تتعلق بسعادة المعاد (وَرَواحُها) أي : جريها رواح غروب الأنوار

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٤.

الروحية في الصفات النفسية وزوال تلألؤ أشعتها ، وإدبار نهار النور سير طور آخر في ترتيب مصالح المعاش من الأقوات والأرزاق والملابس والمناكح وما يتعلق بصلاح النظام وقوام البدن.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ) قطر الطبيعة البدنية الجامدة بالتمرين في الطاعات والمعاملات (وَمِنَ) جنّ القوى الوهمية والخيالية (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) بحضوره في التقديرات المتعلقة بصلاح العالم وعمارة البلاد ورفاهية العباد والتركيبات والتفضيلات المتعلقة بإصلاح النفس واكتساب العلوم (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بتسخيره إياها له وتيسيره الأمور على أيديها (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) بمقتضى طبيعته الجنيّة وينحرف عن الصواب والرأي العقليّ بالميل إلى الزخارف النفسية واللذات البدنية (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) بالرياضة القوية وتسليط القوى الملكية عليها بضرب السياط النارية من الدواعي العقلية القهرية المخالفة للطباع الشيطانية.

[١٣] (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) المقامات الشريفة (وَتَماثِيلَ) الصور الهندسية (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) من ظروف الأرزاق المعنوية والأغذية الروحانية بمحاكاة المعاني بالصور الحسيّة وإيداع الحقائق في الأمثلة الصورية وإدراج المدركات الكلية والواردات الغيبية في الملابس اللفظية والهيئات الجزئية واسعة كالحياض لكونها عرية عن المواد الهيولانية ، وإن اكتفت باللواحق المادية والعوارض الجسمانية (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) من تهيئة الاستعدادات بتركيب القياسات المستقيمة وإعداد موارد العلوم والمعارف بالآراء الصائبة والعزائم القوية الثابتة (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) الروح بما سخّرنا لكم ما سخرنا ، وأفضنا عليكم من نعم الكمالات ما أفضنا (شُكْراً) باستعمال هذه النعم في طريق السلوك والتوجه إليّ وأداء حقوق العبودية بالفناء فيّ لا في تدبير المملكة الدنيوية وإصلاح الكمالات البدنية (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الذي يعمل استعمال النعم في طاعة الله العمل الخالص لوجه الله.

[١٤] (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) بالفناء فيّ في مقام السرّ (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي : ما اهتدوا إلى فنائه في مقام الروح وتوجهه إلى الحق في حال السرّ إلا بحركة الطبيعة الأرضية وقواها البدنية الضعيفة الغالبة على النفس الحيوانية التي هي منسأته إذ لا طريق لهم إلى الوصول إلى مقام السرّ ولا وقوف على حال القلب فيه ولا شعور بكونه في طور

وراء أطوارهم إلا برابطة اتصال الطبيعة البدنية المتصلة به ، المقهورة بالقوى الطبيعية لضعفها بالرياضة وانقطاع مدد القلب عنها حينئذ أي : لا يطلعون إلا على حال الدابة التي تأكل المنسأة بالاستيلاء عليها لأن النفس الحيوانية عند عروج القلب ضعفت وسقطت قواها ولم يبق منها إلا القوى الطبيعية الحاكمة عليها (فَلَمَّا خَرَّ) من صعقته الموسوية وذهل في الحضور والاشتغال بالحضرة الإلهية عن استعمالها في الأعمال وإعمالها بالرياضات (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) غيب مقام السرّ بالاطلاع على المكاشفات لو كانوا مجرّدين (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) من الرياضة الشاقة التي تمنعهم الحظوظ والمرادات ومقتضيات الطباع والأهواء بالمخالفات والإجبار على الأعمال المتعبة في السلوك والاقتصار بها على الحقوق.

[١٥] (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥))

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) أهل مدينة البدن (فِي مَسْكَنِهِمْ) في مقارّهم ومحالهم (آيَةٌ) دالة لهم على صفات الله وأفعاله (جَنَّتانِ) جنة الصفات والمشاهدات عن يمينهم من جهة القلب والبرزخ التي هي أقوى الجهتين وأشرفهما ، وجنّة الآثار والأفعال عن شمالهم من جهة الصدر والنفس التي هي أضعف الجهتين وأخسّهما (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) من الجهتين كقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) باستعمال نعم ثمراتها في الطاعات والسلوك فيه بالقربات (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) باعتدال المزاج والصحة (وَرَبٌّ غَفُورٌ) يستر هيئات الرذائل وظلمات النفوس والطباع بنور صفاته وأفعاله ، فلكم التمكين من جهة الاستعداد والأسباب والآلات والتوفيق بالإمداد وإفاضات الأنوار.

[١٦ ـ ١٨] (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))

(فَأَعْرَضُوا) عن القيام بالشكر والتوسل بها إلى الله بل عن الأكل من ثمراتها التي هي العلوم النافعة والحقيقية بالانهماك في اللذات والشهوات والانغماس في ظلمات الطبائع والهيئات.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ) الطبيعة الهيولانية بنقب جرذان سيول الطبائع العنصرية سكر المزاج الذي سدّته بلقيس النفس التي هي ملكتهم. والعرم الجرذ (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

من شوك الهيئات المؤذية وأثل الصفات السيئة البهيمية والسبعية والشيطانية (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي : ثمرة مرّة بشعة كقوله : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)) (١).

(وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) بقاء الصفات الإنسانية (قَلِيلٍ ذلِكَ) العقاب (جَزَيْناهُمْ) بكفرانهم النعم (وَهَلْ نُجازِي) بذلك (إِلَّا الْكَفُورَ) الذي يستعمل نعمة الرحمن في طاعة الشيطان (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) من الحضرة القلبية والسرية والروحية والإلهية بالتجليات الأفعالية والصفاتية والأسمائية الذاتية وأنوار المكاشفات والمشاهدات (قُرىً ظاهِرَةً) مقامات ومنازل مترائية متواصلة كالصبر والتوكل والرضا وأمثالها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) إلى الله وفي الله مرتبا يرتحل السالك في الترقي من مقام وينزل في مقام (سِيرُوا) في منازل النفوس (لَيالِيَ) وفي مقامات القلوب ومواردها (وَأَيَّاماً آمِنِينَ) بين القواطع الشيطانية وغلبات الصفات النفسانية بقوة اليقين والنظر الصحيح على منهاج الشرع المبين.

[١٩] (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

(فَقالُوا) بلسان الحال والتوجه إلى الجهة السفلية المبعدة عن الحضرة القدسية والميل إلى المهاوي البدنية والسير في المهامة الطبيعية والمهالك الشيطانية (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالاحتجاب عن أنوار القرى المباركة بظلمات البرازخ المنحوسة (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) وآثارا سائرة بين الناس في الهلاك والتدمير (وَمَزَّقْناهُمْ) بالغرق والتفريق.

[٢٠ ـ ٥٤] (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٦٥.

بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) على الناس (إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) في قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) (١) وأمثال ذلك. والفريق المستثنون هم المخلصون (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما سلطناه عليهم إلا لظهور علمنا في مظاهر العلماء المحققين المخلصين

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١٩.

وامتيازهم عن المحجوبين المرتابين ، فإن المستعدّ الموفق الصافي القلب ينبع علمه من مكمن الاستعداد ويتفجر من قلبه عند وسوسة الشيطان فيرجمه بمصابيح الحجج النيّرة ويطرده بالعياذ بالله عند ظهور مفسدته الغوية بخلاف غيره من الذين اسودّت قلوبهم بصفات النفوس وناسبت بجهالاتهم مكايد الشيطان وأحوال القيامة الكبرى من الجمع والفصل والفتح بين المحق والمبطل ومقالات الظالمين كلها تظهر عند ظهور المهدي عليه‌السلام.

سورة الملائكة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) عن جهات التأثير الكائنة في الملكوت السماوية والأرضية بالأجنحة ، جعلها الله رسلا مرسلة إلى الأنبياء بالوحي وإلى الأولياء بالإلهام وإلى غيرهم من الأشخاص الإنسانية وسائر الأشياء بتصريف الأمور وتدميرها ، فما يصل بتأثيرهم إلى ما يتأثر منه فهو جناح ، فكل جهة تأثير جناح مثلا : إنّ العاقلتين العلمية والنظرية جناحان للنفس الإنسانية والمدركة والمحركة الباعثة والمحركة الفاعلة ثلاثة أجنحة للنفس الحيوانية والغاذية والنامية والمولدة والمصوّرة أربعة أجنحة للنفس النباتية. ولا تنحصر أجنحتهم في العدد بل لهم بحسب تنوّعات التأثيرات أجنحة. ولهذا حكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جبريل عليه‌السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح ، وأشار إلى كثرتها بقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ).

[١٠ ـ ٢٧] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ

شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي : العزة صفة من صفات الله مخصوصة به ، من أرادها فعليه بالفناء في صفات الله تعالى عن صفاته ، ثم علّم طريق التجريد ومحو الصفات بقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي : النفوس الصافية الطيبة عن خبائث الطبائع الباقية على نور فطرتها ، الذاكرة لميثاق توحيدها (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) بالتزكية والتحلية (يَرْفَعُهُ) أي : يرفع ذلك الجنس الطيب إلى حضرته دون غيره فيتّصف بصفة العزّة وسائر الصفات. أو إليه يصعد العلم الحقيقي من التوحيد الأصلي الفطري الطيب عن خبائث التوهمات والتخيلات والعمل الصالح بمقتضاه يرفعه دون غيره كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم مقرون بالعمل ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل» ، أي : سلم الصعود إلى الحضرة الإلهية هو العلم والعمل لا يمكن الترقي إلا بهما ولا يكفي التوحيد الذي هو الأصل في الاتّصاف بعزّته وسائر صفاته لأن الصفات مصادر الأفعال فما لم يترك الأفعال النفسية التي مصادرها صفات النفس بالزهد والتوكل ولم يتجرّد عن هيئاتها بالعبادة والتبتل لم يحصل استعداد الاتصاف بصفاته تعالى ، فكان العلم الحقيقي الذي هو التوحيد بمثابة عضادتي السلم والعمل بمثابة الدرجات في الترقي.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) بظهور صفات النفوس وإن كانوا عالمين (لَهُمْ عَذابٌ) من هيئات الأعمال القبيحة المؤذية (شَدِيدٌ).

[٢٨] (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي : ما يخشى الله إلا العلماء ، العرفاء به ، لأنّ الخشية ليست هي خوف العقاب بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة واستحضاره لها ، فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيه ، ومن تجلى الله له بعظمته خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوري الحاصل للعالم الغير العارف وبين التجلي الثابت للعالم العارف بون بعيد ، ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كل شيء بعظمته (غَفُورٌ) يستر صفة تعظم النفس وهيئة تكبرها بنور تجلي عزّته.

[٢٩ ـ ٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) الذي أعطاهم في بدء الفطرة من العقل القرآني بإظهاره وإبرازه ليصير فرقانا (وَأَقامُوا) صلاة الحضور القلبي عند ظهور العلم الفطري (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من صفة العلم والعمل الموجب لظهوره عليهم (سِرًّا) بالتجريد عن الصفات (وَعَلانِيَةً) بترك الأفعال (يَرْجُونَ) في مقام القلب بالترك والتجريد (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) من استبدال أفعال الحق وصفاته بأفعالهم وصفاتهم (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) في جنات النفس والقلب من ثمرات التوكل والرضا (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) في جنات الروح مشاهدات وجهه في التجليات (إِنَّهُ غَفُورٌ) يستر لهم ذنوب أفعالهم وصفاتهم (شَكُورٌ) يشكر سعيهم بالإبدال من أفعاله وصفاته.

[٣١] (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) الفرقاني المطلق (هُوَ الْحَقُ) الثابت المطلق الذي لا مزيد عليه ولا نقص فيه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لكونه مشتملا عليها ، حاويا لما فيها بأسرها (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) يعلم أحوال استعداداتهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، يعطيهم الكمال على حسب الاستعداد بقدر الاستحقاق بالأعمال.

[٣٢] (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢))

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا) منك هذا (الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) المحمديين المخصوصين من عند الله بمزيد العناية وكمال الاستعداد بالنسبة إلى سائر الأمم لأنهم لا يرثون ولا يصلون إليه إلا منك وبواسطتك لأنك المعطي إياهم الاستعداد والكمال فنسبتهم إلى سائر الأمم نسبتك إلى سائر الأنبياء (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بنقص حق استعداده ومنعه عن خروجه إلى الفعل وخيانته في الأمانة المودعة عنده بحملها وإمساكها والامتناع عن أدائها لانهماكه في اللذات البدنية والشهوات النفسانية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يسلك طريق اليمين ويختار الصالحات من الأعمال والحسنات ، ويكتب الفضائل والكمالات في مقام القلب (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) التي هي تجليات الصفات إلى الفناء في الذات (بِإِذْنِ اللهِ) بتيسيره وتوفيقه ، (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

[٣٣] (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) من الجنان الثلاث (يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) صور كمالات الأخلاق والفضائل والأحوال والمواهب المصوغة بالأعمال من ذهب العلوم الروحانية ولؤلؤ المعارف والحقائق الكشفية الذوقية فلباسهم فيها حرير الصفات الإلهية.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

(وَقالُوا) بألسنة أحوالهم وأقوالهم عند اتّصافهم بجميع الصفات الحميدة حالة البقاء بعد الفناء (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) اللازم لفوات الكمالات الممكنة بحسب الاستعدادات بهبته لنا إياها في هذا الوجود الحقاني (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) جزاؤنا منه أوفى وأبقى مما نستحقه بسعينا (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ) الإقامة الدائمة التي لا انتقال منها بوجه في هذا الوجود الموهوب من عطائه الصرف وفضله المحض (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) بالسعي والانتقال (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) بالسير والترحال.

[٣٦ ـ ٤٥] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا

مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) المحجوبون منك بالإنكار ، الذين لا يقبلون الكتاب ولا يرثونه لبعدهم عنك في الحقيقة ، فلا تقارب ولا تواصل بينك وبينهم.

(لَهُمْ نارُ) جهنم الطبيعة يعذبون فيها بأنواع الحرمان والآلام دائما (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ويستريحوا (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فيتنفسوا ، والله أعلم.

سورة يس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) يس) أقسم بالصنفين الدالين على كمال استعداده كما ذكر في (طه). (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) الذي هو الكمال التامّ اللائق باستعداده على أنه بسبب هذه الأمور من المرسلين على طريق التوحيد الموصوف بالاستقامة وذلك أن (ي) إشارة إلى اسمه الواقي و (س) إلى اسمه السلام الذي وقى سلامة فطرتك السالمة عن النقص في الأزل عن آفات حجب النشأة والعادة والسلام الذي هو عينها وأصلها ، والقرآن الحكيم الذي هو صورة كمالها الجامع لجميع الكمالات المشتمل على جميع الحكم.

[٣ ـ ٥] (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥))

(إِنَّكَ) بسبب هذه الثلاثة (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي : القرآن الشامل للحكمة الذي هو صورة كمال استعدادك تنزيل بإظهاره مفصلا من مكمن الجمع على مظهرك ليكون فرقانا من العزيز الغالب الذي غلب على أنائيتك وصفات نشأتك وقهرها بقوّته لئلا تظهر وتمنع ظهور القرآن المكنون في غيبك على مظهر قلبك وصيرورته فرقانا. الرحيم الذي أظهره عليك بتجليات صفاته الكمالية بأسرها.

[٦] (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

(لِتُنْذِرَ قَوْماً) بلغوا في كمال استعدادهم ما لم يبلغ آباؤهم فما أنذروا بما أنذرتهم به (فَهُمْ غافِلُونَ) عما أوتي إليهم من الاستعداد البالغ حدّا لم يبلغه استعداد أحد من الأمم السابقة ، كما قال : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (١).

[٧] (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) في القضاء السابق بأنهم أشقياء (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنه إذا قويت الاستعدادات عند ظهورك قوي الأشقياء في الشرّ كما قوي السعداء في الخير.

[٨] (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٣٢.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) من قيود الطبيعة البدنية ومحبّة الأجرام السفلية (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) تمنع رؤوسهم عن التطأطؤ للقبول إذ عمت الأعناق التي هي مفاصل تصرّفات الرؤوس وأطبقت المفاصل حتى جاوزت أعاليها وبلغت حدّ الرؤوس من قدّام فلم يبق لهم تصرّف بالقبول ولا تأثر بالانفعال والميل إلى الركوع والسجود للانقياد والفناء ، فإنّ الكمالات الإنسانية انفعالية لا تحصل إلا بالتذلّل والانقهار (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ممنوعون عن قبولها بإمالة الرؤوس.

[٩ ـ ١٠] (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من الجهة الإلهية (سَدًّا) من حجاب ظهور النفس والصفات المستولية على القلب منعهم من النظر إلى فوق ليشتاقوا للقاء الحقّ عند رؤية الأنوار الجمالية (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من الجهة البدنية (سَدًّا) من حجاب الطبيعة الجسمانية ولذاتها المانعة لامتثالهم الأوامر والنواهي فمنعهم من العمل الصالح الذي يعدّهم لقبول الخير والصفات الجلالية فانسدّ لهم طريق العلم والعمل فهم واقفون مع أصنام الأبدان حيارى يعبدونها لا يتقدّمون ولا يتأخرون (فَأَغْشَيْناهُمْ) بالانغماس في الغواشي الهيولانية والانغمار في الملابس الجسمانية (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لكثافة الحجب من جميع الجهات وإحاطتها بهم وإذا لم يبصروا ولم يتأثروا وعدم فالإنذار وعدم الإنذار بالنسبة إليهم سواء.

[١١ ـ ١٢] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

(إِنَّما تُنْذِرُ) أي : يؤثر الإنذار وينجع في (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) لنورية استعداده وصفائه فيتأثر به ويقبل الهداية بما في استعداده من التوحيد الفطري والمعرفة الأصلية ، فيتذكر ويخشى الرحمن بتصوّر عظمته مع غيبته من التجلي فيتبعه بالسلوك ليحضر ما هو غائب عنه ويرى ما استضاء بنوره (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) عظيمة من ستر ذنوب حجب أفعاله وصفاته وذاته (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) من جنات أفعال الحق وصفاته وذاته.

[١٣ ـ ٣٦] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا

طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) إلى آخر المثل ، يمكن أن يؤوّل أصحاب القرية بأهل مدينة البدن والرسل الثلاثة بالروح والقلب والعقل ، إذ أرسل إليهم اثنان أوّلا (فَكَذَّبُوهُما) لعدم التناسب بينهما وبينهم ، ومخالفتهم إياهما في النور والظلمة ، فعزّزوا بالعقل الذي يوافق النفس في المصالح والمناجح ويدعوها وقومها إلى ما يدعو إليه القلب والروح فيؤثر فيهم.

وتشاؤمهم بهم : تنفّرهم عنهم لحملهم إياهم على الرياضة والمجاهدة ومنعهم عن اللذات والحظوظ. ورجمهم إياهم : رميهم بالدواعي الطبيعية والمطالب البدنية. وتعذيبهم إياهم : استيلاؤهم عليهم واستعمالهم في تحصيل الشهوات البهيمية والسبعية. والرجل الذي جاء من أقصى المدينة ، أي : من أبعد مكان منها ، هو العشق المنبعث من أعلى وأرفع موضع منها بدلالة شمعون العقل ونظره لإظهار دين التوحيد والدعوة إلى الحبيب الأول وتصديق الرسل (يَسْعى) لسرعة حركته ويدعو الكل بالقهر والإجبار إلى متابعة الرسل في التوحيد ، ويقول : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وكان اسمه حبيبا وكان نجارا ينحت في بدايته أصنام مظاهر الصفات من الصور لاحتجابه بحسنها عن جمال الذات وهو المأمور بدخول جنة الذات ، قائلا : (يا لَيْتَ قَوْمِي) المحجوبين عن مقامي وحالي (يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) ذنب عبادة أصنام مظاهر الصفات ونحتها (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) لغاية قربي في الحضرة الأحدية. وفي الحديث : «إنّ لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس» ، فلعل ذلك لأن حبيبا المشهور بصاحب يس آمن به قبل بعثته بستمائة سنة وفهم سرّ نبوته ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين ، عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وصاحب يس ومؤمن آل فرعون».

[٣٧ ـ ٣٩] (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩))

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) أي : ليل ظلمة النفس (نَسْلَخُ مِنْهُ) نهار ونور شمس الروح والتلوين (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) وشمس الروح (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) وهو مقام الحق في نهاية سير الروح (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) المتمنع من أن يصل إلى حضرة أحديته شيء ، الغالب على الكل بالقهر والفناء (الْعَلِيمِ) الذي يعلم حدّ كمال كل سيّار وانتهاء سيره ، وقمر القلب (قَدَّرْناهُ) أي : قدّرنا مسيره في سيره (مَنازِلَ) من الخوف والرجاء والصبر والشكر وسائر المقامات كالتوكل والرضا (حَتَّى عادَ) عند فنائه في الروح في مقام السرّ (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وهو بقرب استسراره فيه وإضاءة وجهه الذي يلي الروح قبل تمام فنائه فيه ، واحتجابه لنوريته عن النفس والقوى ، وكونه بدرا إنما يكون في موضع الصدر في مقابلة مقام السرّ.

[٤٠] (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سيره فيكون له الكمالات الصدرية من الإحاطة بأحوال العالمين والتجلي بالأخلاق والأوصاف (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بإدراك القمر الشمس وتحويل ظلمة النفس نهار نور القلب لأن القمر إذا ارتقى إلى مقام الروح بلغ الروح حضرة الوحدة فلا تدركه وتكون النفس حينئذ نيّرة في مقام القلب لا ظلمة لها ، فلم تسبق ظلمتها نوره بل زالت مع أن القلب ونوره في مقام الروح فلم تسبقه على تقدير بقائها (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي : مدار ومحل لسيرة معيّن في بدايته ونهايته لا يتجاوز حدّيه المعينين (يَسْبَحُونَ) يسيرون إلى أن جمع الله بينهما في حدّ وخسف القمر بها وأطلع الشمس من مغربها فتقوم القيامة.

[٤١ ـ ٤٤] (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) وهو سفينة نوح فيه سرّ من أسرار البلاغة حيث لم يذكر آباءهم الذين كانوا فيها بل ذريّاتهم الذين كانوا في أصلابهم ، فلا بد من وجود الذرّيات حينئذ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) أي : مثل سفينة نوح وهي السفينة المحمدية (ما يَرْكَبُونَ)

[٤٥ ـ ٥٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩))

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من أحوال القيامة الكبرى (وَما خَلْفَكُمْ) من أحوال القيامة الصغرى ، فإن الأولى تأتي من جهة الحقّ والثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في الله في الأولى ، والتجرّد عن الهيئات البدنية في الثانية والنجاة منها. والصيحتان هما التنبّه عن النفخة الأولى بوقوع مقدّماتها وانزعاج القوى كلها دفعة عن مقارّها ، وعن الثانية بوقوعها وانتباهتهم دفعة ، وانتشار القوى في محالها. والأجداث : الأبدان التي هي مراقدهم.

[٥٥ ـ ٨١] (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا

أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١))

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) من أنوار التجليات ومشاهدات الصفات ، متلذذون هم ونفوسهم الموافقة لهم في التوجه (فِي ظِلالٍ) من أنوار الصفات (عَلَى الْأَرائِكِ) المقامات والدرجات (مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) من أنواع المدركات وأصناف الواردات والمكاشفات (وَلَهُمْ) ما يتمنون من المشاهدات ، وهي : (سَلامٌ) أعني (قَوْلاً) بإفاضة الكمالات وتبرئتهم بها من وجوه النقص التي تنبعث منها دواعي التمنيات صادرا (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يرحم بتلك المشتهيات. والعهد عهد الأزل وميثاق الفطرة وعبادة الشيطان ، هو الاحتجاب بالكثرة لامتثال دواعي الوهم والصراط المستقيم طريق الوحدة. وقال الضحاك في وصف جهنم : «إن لكل كافر بئرا من النار يكون فيه لا يرى ولا يدري» ، وذلك صورة احتجابه. ومعنى الختم على الأفواه وتكليم الأيدي وشهادة الأرجل : تغيير صورهم وحبس ألسنتهم عن النطق وتصوير أيديهم وأرجلهم على صور تدل بهيئاتها وأشكالها على أعمالها وتنطق بألسنة أحوالها على ملكاتها من هيئات أفعالها.

[٨٢ ـ ٨٣] (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

(إِنَّما أَمْرُهُ) عند تعلق إرادته بتكوين شيء ترتب كونه على تعلق الإرادة به دفعة معا بلا تخلل زماني (فَسُبْحانَ) أي : نزّه عن العجز والتّشبه بالأجسام والجسمانيات في كونها وكون أفعالها زمانية (الَّذِي) تحت قدرته وفي تصرّف قبضته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) من النفوس والقوى المدّبرة له (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء فيه والانتهاء إليه ، والله أعلم.

سورة الصافات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم بنفوس السالكين في سبيله طريق التوحيد ، الصافات في مقامهم ومراتب تجلياتهم ومواقف مشاهداتهم (صَفًّا) واحدا في التوجه إليه (فَالزَّاجِراتِ) في دواعي الشياطين ، وفوارغ التمنيات النفسانية في الأحايين (زَجْراً) بالأنوار والأذكار والبراهين (فَالتَّالِياتِ) نوعا من أنواع الأذكار بحسب أحوالهم باللسان أو القلب أو السرّ أو الروح كما ذكر غير مرة على وحدانية معبودهم لتثبيتهم في التوجه عن الزيغ والانحراف بالالتفات إلى الغير (رَبُ) سموات الغيوب السبعة التي هم سائرون فيها ، وأرض البدن (وَما بَيْنَهُما وَرَبُ) مشارق تجليات الأنوار الصفاتية ، وصفه بالوحدانية الذاتية في أطوار الربوبية الكاشفة عن وجوه التحوّلات بتعدّد الأسماء ليتحفظوا عند تعدّد تجليات الصفات وترتب المقامات من الاحتجاب بالكثرة.

[٦] (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦))

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : العقل الذي هو أقرب السموات الروحانية بالنسبة إلى القلب (بِزِينَةٍ) كواكب الحجج والبراهين ، كقوله : (بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (١).

[٧] (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧))

(وَحِفْظاً) أي : وحفظناها (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) من شياطين الأوهام والقوى التخيلية عند الترقي إلى أفق العقل بتركيب الموهومات والمخيلات في المغالطات والتشكيكات (مارِدٍ) خارج عن طاعة الحق والعقل.

[٨ ـ ٩] (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩))

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) من الروحانيات والملكوت السماوية بتلك الحجج (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جميع الجهات السماوية ، أي : من أي وجه من وجوه المغالطة والتخييل

__________________

(١) سورة الملك ، الآية : ٥.

يركبون القياس ويرتقون به ، يقذفون بما يبطله من الدحور والطرد ، أو مدحورين مطرودين (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دائم الرياضات وأنواع الزجر في المخالفات.

[١٠ ـ ٣٩] (إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) في الاستراق فموّه كلامه بهيئة جليّة وأوهم الحق بصورة نورية استفادها من كلمة حقة ملكية (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) من برهان نيّر عقليّ ، أو إشراق نور قدسي فأبطلها وطرد الجنيّ بنفي الصورة الوهمية التي أوهمها.

[٤٠] (إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع ، أي : لكن عباد الله المخصوصون به لفرط عنايتهم به ، الذين أخلصهم الله عن شوب الغيرية والأنانية والبقية واستخلصهم لنفسه بفناء الأنانية والاثنينية.

[٤١ ـ ٤٣] (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣))

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) يعلمه الله دون غيره وهو معلومات الله المقوّية لقلوبهم المغذيّة لأرواحهم.

(فَواكِهُ) ملذة غاية التلذيذ ، إذ الفاكهة ما يتلذّذ به ، أي : يتلذذون في مكاشفاتهم بما يحضرهم من معلوماته تعالى (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الجنات الثلاث يتنعمون بقرب الحق في حضرته غاية الإكرام والتنعم.

[٤٤ ـ ٤٨] (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨))

(عَلى سُرُرٍ) مراتب ودرجات (مُتَقابِلِينَ) في الصف الأول ، مترائين لا يحجب بعضهم عن بعض ولا يتفاضلون في المقاعد (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ) خمر العشق (مَعِينٍ) مكشوف لأهل العيان إذ دنّه المعاينة فكيف لا يعاين.

(بَيْضاءَ) نورية من عين الأحدية الكافورية ، لا شوب فيها ولا مزج من التعينات (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ) يغتال العقل لأنهم أهل صحو أخلصهم الله من الشوائب والحجاب فلا ينكر لهم (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) بذهاب العقول وإلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) من أهل الجبروت والملكوت والنفوس المجرّدة ، الواقفات تحت مراتبهم في مقام تجليات الصفات وسرادقات الجلال ، وفي مجالي مشاهداتهم تحت قباب الجمال في روضات القدس وحضرة الأسماء (عِينٌ) لأنّ ذواتهم كلها عيون لا يمدون طرفا عنهم لفرط محبّتهم وعشقهم لهم لأنهم هم المعشوقون.

[٤٩ ـ ٦٣] (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣))

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) في الأداحي لغاية صفائها في خدور القدس ونقائها من موادّ الرجس (يَتَساءَلُونَ) يتحادثون بأحاديث أهل الجنة والنار ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء ، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب ، كما ذكر في وصف أهل (الأعراف).

[٦٤ ـ ٦٥] (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥))

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم الطبيعة ، المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ، ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوّه والخبث بالتنفر (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي : تنشأ منها الدواعي

المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة ، فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشرّ والمفسدة ، فكانت رؤوس الشياطين.

[٦٦] (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦))

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) يستمدّون منها ، ويغتذون ويتقوّون ، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة ، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها.

[٦٧] (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧))

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) الأهواء الطبيعية ، والمنى السيئة الرديئة ، ومحبات الأمور السفلية ، وقصور الشرور الموبقة التي تكسر بعض غلّة الأشرار.

[٦٨ ـ ٨٢] (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢))

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) لغلبة الحرص ، والشره بالشهوة ، والحقد والبغض والطمع وأمثالها ، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.

[٨٣ ـ ١٠١] (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

ويمكن تطبيق قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام على حال الروح الساذج من الكمال (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) بسابقة معرفة الأزل والوصلة الثابتة في العهد الأول (بِقَلْبٍ) باق على الفطرة واستعداد صاف (سَلِيمٍ) عن النقائص والآفات محافظة على عهد التوحيد الفطري ، منكر على

المحتجبين بالكثرة عن الوحدة ، ناظر في نجوم العلوم العقلية الاستدلالية والحجج والبراهين النظرية ، مدرك بالاستبصار والاستدلال سقمه من جهة الأعراض النفسانية والشواغل البدنية الحاجبة ، فأعرض عنه قومه البدنيون المدبرون عن مقصده ووجهته لإنكاره عليهم في تقيد الأكوان وطاعة الشيطان إلى عيدهم واجتماعهم على اللذات والشهوات التي يعودون إليها كل وقت (فَراغَ) أي : فأقبل مخفيّا حاله عنهم على كسر آلهتهم بفأس التوحيد والذكر الحقيقي يضربهم (ضَرْباً) بيمين العقل فرجعوا (إِلَيْهِ) غالبين مستولين عند ضعفه ، ساعين في تخريب قالبه (فَأَلْقُوهُ) في نار حرارة الرحم ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، أي : روحا وسلامة من الآفات لبقاء صفاء استعداده ونقاء فطرته ، وبنى عليه بنيان الجسد وجعل الله أعداءه من النفس الأمّارة والقوى البدنية الملقية إياه في النار من الأسفلين لتكامل استعداده ، فتوجه إلى ربّه بالسلوك (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ودعا ربّه بلسان الاستعداد الكامل الأصلي أن يهب له ولد القلب الصالح ، فبشّره به ورزقه.

[١٠٢ ـ ١٣٨] (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بالسلوك في طريق الكمالات الخلقية والفضائل النفسانية ، أوحى إليه أن يذبحه بالفناء في التوحيد والتسليم لربّه الحق بالتجريد من الصفات الكمالية. فأخبره بذلك ، فانقاد وأسلم وجهه بالفناء في ذاته عن صفاته ، ففدى على يد جبريل العقل الفعّال

بذبح النفس الشريفة ، السمينة العلوم ، العظيمة الأخلاق وكمالات الفضائل ، فذبحت بالفناء فيه ، وأنجى إسماعيل القلب بالفناء الحقاني الموهوب المفدّى من جهة الله ، وترك الله عليه‌السلام في العالمين المتخلفين عن مقامه لاهتدائهم بنوره واقتدائهم بإيمانه وهديه.

[١٣٩ ـ ١٤٢] (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢))

(وَإِنَّ يُونُسَ) القلب (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى أهل النقصان ، المحتجبين بالأبدان ، المتّبعين للشيطان ، المتظاهرين بالطغيان (إِذْ أَبَقَ) إلى فلك البدن (الْمَشْحُونِ) بالقوى البدنية وكمالاتها الحسيّة الجاري في بحر الهيولى (فَساهَمَ) أي : فاقترع معهم في الحظوظ البدنية واختيارها بالأفكار العقلية (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) المحجوبين ، المزلقين بالحجة البرهانية اليقينية لأنهم بدنيون أهل البحر والسفينة ، وهو القدسيّ المجرّد من سكان الحضرة الإلهية ، الآبق من سيده إلى السفينة ، الملقي بيده إلى التهلكة ، فألقي في البحر ، فالتقمه حوت الرحم كلقطه النطفة (وَهُوَ مُلِيمٌ) مستحق للملامة للتعلق بالملابس البدنية الموجبة لوقوعه في تلك البليّة.

[١٤٣ ـ ١٨٢] (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) المنزّهين لربّه بالتقديس حالة التجريد والتوحيد (لَلَبِثَ

فِي بَطْنِهِ) كسائر القوى الطبيعية والنفسانية المنغمسة في بطون حيتان الصور النوعية الجسمانية من الطبائع الهيولانية (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : يوم يبعث المجرّدون عن مراقد أبدانهم مع بقائه في مرقده كسائر الغافلين ، أو يوم يبعث رفقاؤه البدنيون في القيامة الصغرى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي : بالفضاء من عرصة الدنيا بالولادة (وَهُوَ سَقِيمٌ) ضعيف ممنوّ بالأعراض المادية واللواحق الطبيعية (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) لا تقوم على ساق وتنسرح على وجه الأرض تظلل عليه بأوراقها من الغواشي البدنية. وقد قيل في التفاسير الظاهرة : إنه قد ضعف بدنه في بطن الحوت وصار كطفل ساعة يولد (وَأَرْسَلْناهُ) عند الكمال (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) والله أعلم.

سورة ص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١٧] (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

(ص) أقسم بالصورة المحمدية ، والكمال التامّ المذكور بالشرف والشهرة ، بأنه أتمّ الكمالات ، وهو العقل القرآني الجامع لجميع الحكم والحقائق من الاستعداد التامّ المناسب لتلك الصورة الشريفة ، كما روي عن ابن عباس : «(ص) جبل بمكة ، كان عليه عرش الرحمن عاما» ، دلّ عليه قوله : (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) وحذف جواب القسم في مثل ذلك غير عزيز ، وهو أنه لحق يجب أن يتّبع ويذعن له ويقبل بخضوع وذلّة (بَلِ الَّذِينَ) حجبوا عن الحق بأنانيتهم وضادّوه في استكبار وعناد ولجّ وخلاف لظهور أنفسهم بباطلها في مقابلة الحق ، وقوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) معناه : داوم استقامتك في التوحيد ، وعارض أذاهم بالصبر في التمكين ، ولا تظهر نفسك في مقابلة أذاهم بالتلوين ، فإنك قائم بالله متحقق بالحق فلا تتحرك إلا به (وَاذْكُرْ) حال أخيك (عَبْدَنا) المخصوص بعنايتنا القديمة (داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي : القوّة والتمكين والاضطلاع في الدين ، كيف زلّ عن مقام استقامته في التلوين فلا يكن حالك في ظهور النفس حاله. ثم وصف قوّة حال داود عليه‌السلام وكماله بقوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى الحق عن صفاته وأفعاله بالفناء فيه.

[١٨ ـ ١٩] (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩))

(إِنَّا سَخَّرْنَا) جبال الأعضاء معه (يُسَبِّحْنَ) بالانقياد والتمرّن في الطاعة أوقات العبادة وقت عشيّ الاستتار واحتجاب نور شمس الروح بظهور النفس وإشراق التجلي وسلطان نور شمس الروح على النفس لا يتفاوت حاله في العبادة بالفترة والعزيمة في الوقتين لكمال تمرين نفسه وبدنه في الطاعة ، وطير القوى بأجمعها (مَحْشُورَةً) مجموعة ، متسالمة بهيئة العدالة والانخراط في سلك الوحدة في تسبيحاتها المخصوصة بكل واحدة منها (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) رجّاع لتسبيحه بتسبيحه.

[٢٠ ـ ٢٦] (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قوّيناه بالتأييد وإيتاء العزّة والهيبة ، وإعطاء العز والقدرة لائتلاف نفسه بأنوار تجليات القهر والعظمة والكبرياء والعزّة واتصافه بصفاتنا الباهرة ، فيها به كل أحد ويجله ويذعن لسلطنته ويبجله (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) لاتصافه بعلمنا (وَفَصْلَ الْخِطابِ) والفصاحة المبينة للأحكام ، أي : الحكمة النظرية والعملية والمعرفة والشريعة. وفصل الخطاب : هو المفصول ، المبين من الكلام المتعلق بالأحكام ، ثم بين تلوينه وظهور نفسه في زلته ، وتبيينه الحق بالعتاب على خطيئته وتأديبه إياه وتداركه بتوبته بقوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ وَظَنَ) أي : تيقن (داوُدُ أَنَّما) ابتليناه بامرأة أوريا (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) بالتنصل عن ذنبه بالافتقار والالتجاء إليه في المجاهدة وكسر النفس وقمعها بالمخالفة (وَخَرَّ) بمحو صفات النفس (راكِعاً) فانيا في صفات الحق (وَأَنابَ) إلى الله بالفناء في ذاته (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) التلوين بستر صفاته بنور صفاتنا (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) بالوجود الحقانيّ الموهوب حال البقاء بعد الفناء (وَحُسْنَ مَآبٍ) لاتّصافه حينئذ بصفاتنا لا بأنانيته ليلتحق بنا ويحكم بأحكامنا في محل الخلافة الإلهية ، كما قال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ) بالحكم (بِالْحَقِ) لا بنفسك ليكون عدلا لا جورا (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) بظهور النفس فتجور ضّالا عن سبيل الحق إلى سبيل الشيطان.

[٢٧ ـ ٣٠] (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠))

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) خلقا (باطِلاً) لا حق فيها ، بل حقا محتجبا بصورها لا وجود لها بنفسها فتكون باطلا محضا.

(ذلِكَ ظَنُ) المحجوبين عن الحق بمظاهر الكون (فَوَيْلٌ) لهم من نار الحرمان والاحتجاب والتقلّب في نيران الطبيعة والأنانية بأشدّ العذاب.

بل لم نجعل (الَّذِينَ آمَنُوا) بشهود جماله في مظاهر الأكوان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال المقصودة بذاتها ، المتعلقة بصلاح العالم ، الصادرة عن أسمائه (كَالْمُفْسِدِينَ) المحجوبين الفاعلين بأنفسهم وصفاتهم الأفعال البهيمية والسبعية والشيطانية في أرض الطبيعة (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ) المجرّدين عن صفاتهم (كَالْفُجَّارِ) المتلبسين بالغواشي النفسانية والشيطانية في أعمالهم (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) بالنظر العقلي ما داموا في مقام النفس ، فينخلعوا عن صفاتهم في متابعة صفاته (وَلِيَتَذَكَّرَ) حال العهد الأول والتوحيد الفطري عند التجرّد (أُولُوا) الحقائق المجرّدة الصافية عن قشر الخلقة.

ثم ذكر تلوين سليمان وابتلاءه تأكيدا لتثبيته ، وتقوية له في استقامته وتمكينه (نِعْمَ الْعَبْدُ) لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني وهو مقام النبوّة (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إليّ بالتجريد.

[٣١ ـ ٣٣] (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) وقت قرب غروب شمس الروح في الأفق الجسماني بميل القلب إلى النفس وظهور ظلمتها بالميل إلى المال واستيلاء محبة الجسمانيات واستحسانها ، كما قال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) (١) إلى قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) (٢). فإنّ الميل إلى الزخارف الدنيوية والمشتهيات الحسيّة وهوى اللذات الطبيعية والأجرام السفلية يوجب إعراض النفس عن الجهة العلوية ، واحتجاب القلب عن الحضرة الإلهية (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) التي استعرضها وانجذب بهواها وأحبها (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ)

__________________

(١ ـ ٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤.

أي : أحببت منيبا حبّ المال (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) مشتغلا به لمحبتي إياه كما يجب لمثلي أن يشتغل بربّه ذاكرا محبّا له ، فاستبدلت محبة المال بذكر ربّي ومحبته فذهلت عنه (حَتَّى تَوارَتْ) شمس الروح بحجب النفس (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي : يمسح السيف مسحا بسوقها يعرقب بعضها وينحر بعضها ، كسر الأصنام : النفس التي تعبدها بهواها وقمعا لسورتها وقواها ، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.

[٣٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ابتليناه مرة أخرى بما هو أشدّ من هذا التلوين وهو إلقاء الجسد على كرسيه ، وقد اختلف في تفسيره على ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه ولد له ابن فهمّ الشياطين بقتله مخافة أن يسخّرهم كأبيه ، فعلم بذلك فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبّه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربّه. والثاني : أنه قال ذات يوم : لأطوفنّ على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف عليهنّ ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. فعلى هذين الوجهين يكون ابتلاؤه بمحبة الولد ، فظهور النفس بميله إليه إما بشدّة الاهتمام بحفظه وتربيته وصونه عن شياطين الأوهام والتخيلات في سحاب العقل العملي وتغذيته بالحكمة العقلية واعتماده في ذلك على العقل والمعقول واستحكام أهله لكماله دون تفويض أمره فيه إلى الله واتكاله في شأنه عليه ، فابتلاه الله بموته ، فتنبّه على خطئه في شدّة حبه للغير وغلبة أهله ، وإما بظهور النفس في الاقتراح والتمني وغلبة الحسبان والظنّ والاحتجاب عن الاستيهاب بالعادة والفعل وبالتدبير عن التقدير والذهول عن أمر الحق بغلبة صفات النفس ، فابتلاه الله بالمعلول البعيد عن المراد الذي تصوّره في نفسه وقدّره ، فأناب الرجوع إلى الحق عند التنبّه على ظهور النفس وتدارك التلوين بالاستغفار والاعتذار في التقصير. والوجه الثالث : إنه غزا صيدون مدينة في بعض جزائر البحر ، فقتل ملكها وكان عظيم الشأن ، وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها ، فاصطفاها لنفسه بعد أن أسلمت وأحبها وقد اشتدّ حزنها على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها ، فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك ، فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش لنفسه الرماد ، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرّعا. وكانت له أمّ ولد يقال لها : أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر اسمه صخر على صورة سليمان

فقال : يا أمينة ، خاتمي! فتختم به وجلس على كرسيّ سليمان وغيّر سليمان على هيئته فأنكرته وطردته ، فعرف أن الخطيئة قد أدركته فأخذ يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه. ثم عمد إلى السمّاكين يخدمهم ، فمكث على ذلك أربعين صباحا ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فبقّر بطنها فإذا هو بالخاتم ، فتختم به وخرّ ساجدا ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وقذفه في البحر.

فإن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع كان قد اشتدّ تلوينه وابتلى بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما‌السلام ، والحكاية من موضوعات حكماء اليهود وعظمائهم كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات إيسال وسلامان وأمثالها ، وتأويلها والله أعلم بصحتها ووضعها : أنّ سليمان قصد مدينة صيدون البدن ، جزيرة في بحر الهيولى ، وقتل ملكها النفس الأمارة العظيم الشأن ظاهر الطغيان بالمجاهدة في سبيل الله ، وأصاب بنتا له اسمها جرادة وهي القوى المتخيلة بالطيارة كالجرادة ، تجرّد أشجار الأجسام والأشياء كلها بنزع صورها عن موادّها مكتوفة بلواحقها حزينة ، وهي من أحسن الناس صورة في تزيينها وتسويلها نفسها وما تخيلته من مدركاتها ، وأسلمت على يده ، أي : انقادت للعقل ورجعت عن دين الوهم ، فصارت مفكرة ، فاصطفاها لنفسه وأحبها لتوقف حصول كماله عليها ، وحزنها على أبيها : ميلها إلى النفس بطبعها وتأسفها على فوات حظوظها. وأمره للشيطان بتمثيل صورة أبيها وكسوتها مثل كسوته هو إشارة إلى منشأ تلوينه وابتلائه بالميل إلى النفس واغتراره بكماله واشتغاله بحظوظ النفس قبل أوانه ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى».

وطاعة الشيطان له : تسخير القوّة الوهمية له في إعادة النفس إلى الهيئة الأولى وإن لم تكن على قوّتها الأولى ، وحياتها من الهوى : لكونه مصونا عن الاحتجاب معنيا به في العناية ، وسجود جرادة وولائدها له كعادتهنّ في ملكه : تعبّد الفكرية وسائر القوى البدنية للنفس بالانقياد والمراعاة والخدمة وإيصال الحظوظ إليها كعادتهنّ في الجاهلية الأولى ، وإخبار آصف سليمان بذلك : تنبيه العقل للقلب على تلوينه عند قرب موته ، وكسر الصورة وعقاب المرأة : ندامته وتوبته عن حاله ، وتنصله متضرّعا إلى الله وكسره للنفس بالرياضة وخروجه وحده إلى الفلاة : تجرّده عن البدن عند سقوط قواه ، وفرش الرماد وجلوسه فيه : تغير المزاج وترمد الأخلاط مع بقاء العلاقة البدنية ، وأمّ الولد المسماة أمينة هي : الطبيعة البدنية أمّ الأولاد القوى النفسانية التي يضع هو خاتم بدنه عندها وقت الاشتغال بالأمور الطبيعية والضروريات البدنية كالدخول في الخلوة وإصابة المرأة وأمثالها ، وهي أمينة على حفظه. وكون ملكه في خاتمه :

إشارة إلى توقف كماله المعنوي والصوري على البدن ، والشيطان الذي جاءها فأخذ منها الخاتم : هو الطبيعة العنصرية الأرضية صاحب بحر الهيولى السفلية سمي صخرا لميله إلى السفل وملازمته كالحجر للثقل ، وتختمه به : لبسه به بانضمامه إلى نفسه ، وجلوسه على كرسي سليمان : هو إلقاء الله تعالى بدنه ميتا على موضعه وسرير سلطنته كما قال تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وتغيّر سليمان عن هيئته بقاء الهيئات الجسمانية والآثار الهيولانية من بقايا الصفات النفسانية عليه بعد المفارقة البدنية وتغيره عن النورانية الفطرية والهيئة الأصلية ، وإتيانه أمينة لطلب الخاتم : ميله إلى البدن ومحبته له وشوقه إليه ، وإنكارها إياه وطردها له : عبارة عن عدم قبول الطبيعة البدنية الحياة لبطلان المزاج ، ودوره على البيوت متكففا : ميله إلى الحظوظ واللذات الجسمانية وانجذابه إليها بالشوق للهيئات النفسانية ، وحثيهم التراب على وجهه وسبّهم إياه عبارة عن : حرمانه من تلك الحظوظ واللذات وفقدان أسباب تلك الشهوات ، وقصده إلى السمّاكين وخدمته لهم : إشارة إلى الميل إلى قرارة الأرحام المتعلق بالنطفة ، ومكثه أربعين يوما في خدمة السمّاكين : إشارة إلىقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الرباني : «خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا» ، وطيران الشيطان : سريان الطبيعة العنصرية في التركيب ، وإلقاؤه الخاتم في البحر : تلاشي التركيب البدني في البحر الهيولاني ، وابتلاع السمكة إياه : جذب الرحم للمادة البدنية التي هي النطفة ، ووقع السمكة في يد سليمان : تعلقه في الرحم بها واستيلاؤه على الرحم بالاغتذاء منه والتصرّف فيه ، وبقر بطنها وأخذ الخاتم منه وتخّتمه : به فتح الرحم وإخراج البدن منه وتلبسه به وخروره ساجدا ورجوع ملكه : حصول كماله به بالانقياد لأمر الله والفناء فيه ، وجعله لصخر في صخرة وإلقاؤه إياه في البحر : إبقاء الطبيعة الأرضية على حالها منطبعة محبوسة في باطن الجرم ملازمة للثقل ، والميل إلى السفل في بحر الهيولى عند وجود الطبيعة البدنية وتركه إياه فيه غير قادر على استيلاء أمينة وأخذ الخاتم منها إلى حين.

(ثُمَّ أَنابَ) بعد اللتيا والتي إلى الله بالتجريد والتزكية.

[٣٥] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) ذنوب تعلقاتي وهيئاتي الساترة لنوري المظلمة المكدّرة لصفائي بنورك (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي : كمالا خالصا باستعدادي يقتضيه هويتي لا ينبغي لغيري لاختصاصه بي وهو الغاية التي يمكنه بلوغها (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لجميع الاستعدادات وكل ما سئلت من الكمالات كما قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (١).

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤.

[٣٦ ـ ٣٨] (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

(فَسَخَّرْنا لَهُ) ريح الهوى (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) لينة طيعة منقادة لا تزعزع بالاستيلاء والاستعصاء (حَيْثُ) قصد وأراد (وَالشَّياطِينَ) الجنية الباطنة من القوى النفسانية (كُلَّ بَنَّاءٍ) مقدّر بالهندسة عامل لأبنية الحكم العملية وقواعد القوانين العدلية (وَغَوَّاصٍ) في بحور العوالم القدسية والهيولانية ، مخرج لدرر المعاني الكلية والجزئية والحكم العملية والنظرية (وَآخَرِينَ) من القوى النفسانية والطبيعية (مُقَرَّنِينَ فِي) أصفاد القيود الشرعية وأغلال الرياضات العقلية والإنسية الظاهرة من العمال المسخرين في الأعمال ، والفساق والعصاة المقرّنين في الأغلال.

[٣٩ ـ ٤٠] (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

(هذا عَطاؤُنا) المحض (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي : أطلق إرادتك واختيارك في الحل والعقد والإعطاء والمنع عند الكمال التام والعطاء الصرف ، أي : الوجود الموهوب حال البقاء بعد الفناء كما شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) عليك ، فإنك قائم بنا مختار باختيارنا متحقق بذاتنا وصفاتنا ، وذلك معنى قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

[٤١] (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١))

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) في ابتلائنا إياه عند ظهور نفسه في التلوين بإعجابه بكثرة ماله أو مداهنته لكافر النفس في ظهورها وترك تغذيته إياها بالرياضة والمجاهدة لكون ماشية قواه الطبيعية في ناحيته أو عدم إغاثته لمظلوم العقل النظريّ والقوى القدسية عند استقامته على اختلاف الروايات في التفاسير الظاهرة في سبب ابتلائه ، ويمكن الجمع بينها وابتلاؤه بالمرض والزمانة ، ووقوع ديدان القوى الطبيعية فيه ، واستئكاله وسقوطه على فراش البدن حتى لم يبق منه إلا القلب واللسان ، أي : الفطرة والاستعداد الأصليان دون ما اكتسب من الكمالات (إِذْ نادى رَبَّهُ) بلسان الاضطرار والافتقار في مكمن الاستعداد (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي : استولى عليّ الوهم بالوسوسة فلقيت بسببه هذا المرض والعذاب من الأخلاق الرديئة والاحتجاب.

[٤٢] (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي : اضرب بقوّتك التي تلي أرض البدن من العقل العملي المسمى

صدر أرض بدنك تنبع عينان من الحكمة العملية والنظرية (هذا مُغْتَسَلٌ) أي : العملية المزكية للنفوس ، المطهرة من ألواث الطبائع ، المبرئة من أمراض الرذائل (بارِدٌ) ذو روح وسلامة (وَشَرابٌ) من النظرية ، أي : العلم المفيد لليقين الدافع لمرض الجهل ، والزمانة عن السير ، فتغتسل وتشرب منه تبرأ بإذن الله ظاهرك وباطنك وتصح وتقوى.

[٤٣] (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) قيل : كان له سبعة أبناء وسبع بنات ، فانهدم عليهم البيت في الابتلاء فهلكوا فأحياهم الله عند كشف الضرّ وإعادة أموال الكمالات عليه ، وهي إشارة إلى الروحانية والنفسانية الهالكة في التلوين واستيلاء الطبيعة البدنية أو البالغة في التلوين الأعظم وخراب البدن واستئكال الديدان إياه حتى لم يبق منه إلا القلب ولسان الاستعداد الفطري ، فأحياهم عند الإنابة والرجوع إلى حال الصحة والقوة وكشف المرض والزمانة بالشرب والغسل من العينين المذكورتين (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) باكتساب الملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة والصفات الجميلة حتى صارت القوى الطبيعية النفسانية أيضا روحانية في النشأة الثانية وحدوث القوى البدنية الفانية (رَحْمَةً مِنَّا) بإفاضة الكمالات التي سألها استعداده (وَذِكْرى) وتذكيرا (لِأُولِي) الحقائق المجرّدة عن قشور المواد الجسمانية الذين يفهمون بسمع القلب حتى يعتبروا أحوالهم بحاله ويتذكروا ما في فطرهم من العلوم.

[٤٤ ـ ٤٥] (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥))

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) قيل : إنه حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إن برىء ، واختلف في سبب حلفه فقيل : أبطأت ذاهبة في حاجة ، وقيل : أوهمها الشيطان أن تسجد له سجدة ليردّ أموالهم الذاهبة ، وقيل : باعت ذؤابتين لها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عند قيامه. وقيل : أشارت إليه ليشرب الخمرة ، كلها إشارات إلى التلوين المذكور بظهور النفس بإبطائها وتكاسلها في الطاعات أو طاعة شيطان الوهم وانقيادها له في تمني الحظوظ وترك ما يتعلق به القلب في القيام عن مرقد البدن والتجرّد عن الهيئات المنشطة المشجعة من العلوم النافعة والأعمال الفضيلة ، واستبدال الحظوظ القليلة المقدار ، اليسيرة الوقع ، والخطر بها ، أو المراءاة بها ، لاستجلاب حظ النفس أو شرب خمر الهوى والميل إلى ما يخالف العقل. وحلفه إشارة إلى نذره المخالفات والرياضات المتعبة والمجاهدات المؤلمة أو ما ركز في استعداده في محبته التجريد والتزكية بالرياضة وعزيمة تأديب النفس بالأخلاق والآداب بالمخالفات المؤلمة بمقتضى العهد الأول وحكم ميثاق الفطرة وأخذ الضغث. والضرب به إشارة إلى الرخصة

والطريقة السهلة السمحة من تعديل الأخلاق بالاقتصار على الأوساط والاعتدالات من الرياضات والمخالفات لصفاء الاستعداد وشرف النفس ونجابة جوهرها دون الإفراط فيها ، والأخذ بالعزائم الصعبة كماقال عليه الصلاة والسلام : «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة». (وَلا تَحْنَثْ) بترك التأديب بالكلية ونقص العزيمة في طلب الكمال ، وترك الوفاء بالنذر الفطري (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) في بليته وطلبه للكمال ، فرحمناه ، وليس كل طالب صابرا (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ) رجّاع إلى الله بالتجرّد والمحو والفناء (وَاذْكُرْ عِبادَنا) المخصوصين من أهل العناية (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي : العمل والعلم لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.

[٤٦] (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦))

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة الأنانية وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ليس لغيرنا فيهم نصيب ، ولا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضية لا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهم آخر هي (ذِكْرَى الدَّارِ) الباقية والمقرّ الأصلي ، أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس وإعراضهم عن معدن الرجس مستشرفين لأنوارنا لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.

[٤٧ ـ ٥١] (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١))

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا) أي : في الحضرة الواحدية (لَمِنَ) الذين اصطفيناهم لقربنا من بني نوعهم (الْأَخْيارِ) المنزّهين عن شوائب الشرّ والإمكان والعدم والحدثان (هذا ذِكْرٌ) أي : هذا باب مخصوص بذكر السابقين من أهل الله المخصوصين بالعناية (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) المجرّدين من صفات نفوسهم دون الواصلين إلى بساط القرب والكرامة الناظرين إليه في جنة الروح بالمشاهدة (لَحُسْنَ مَآبٍ) في مقام القلب من جنة الصفات (جَنَّاتِ عَدْنٍ) مخلّدة (مُفَتَّحَةً لَهُمُ) أبوابها بالتجليات يدخلونها من طرق الفضائل الخلقية والكمالات (مُتَّكِئِينَ فِيها) على أرائك المقامات (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) من المكاشفات اللذيذة (وَشَرابٍ) المحبة الوصفية.

[٥٢ ـ ٥٧] (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧))

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) من الأزواج القدسية وما في مراتبهم من النفوس الفلكية والإنسية (أَتْرابٌ) متساوية في الرتب (لِيَوْمِ الْحِسابِ) لوقت جزائكم من الصفات الإلهية على حساب فنائكم من الصفات البشرية (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) لكونه غير مادي فلا ينقطع (هذا) باب في وصف الجنة وأهلها (وَإِنَ) للذين طغوا حدودهم بصفات النفس وظهورها فنازعوا الحق علوّه وكبرياءه باستعلائهم وتكّبرهم (لَشَرَّ مَآبٍ) إلى جهنم الطبيعة الآثارية ونيران الظلمات الهيولانية (يَصْلَوْنَها) بفقدان اللذات ووجدان الآلام (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) الهوى والجهل (وَغَسَّاقٌ) الهيئات الظلمانية والكدورات الجسمانية.

[٥٨ ـ ٦٤] (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

(وَ) خزي وعذاب (آخَرُ) من نوعه أو مذوقات أخر من مثله ، أصناف من العذاب في الهوان والحرمان (هذا فَوْجٌ) من أتباعكم وأشباهكم أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) في مضايق المذلة ومداخل الهوان. قال الطاغون : (لا مَرْحَباً) بهم لشدّة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك واستيحاش بعضهم من بعض لقبح المناظر وسوء المخابر (قالُوا) أي : الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) لتضاعف عذابكم ورسوخ هيئاتكم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) بإضلالنا والتحريض على أعمالنا ، وهذه المقاولات قد تكون بلسان القال وقد تكون بلسان الحال ، والرجال الذين اتخذوهم سخريا هم الفقراء الموحدون والصعاليك المحققون عدوهم من الأشرار في الدنيا لمخالفتهم إياهم في الإغراء عما سوى الله والتوجه إلى خلاف مقاصدهم وترك عاداتهم ومطالبهم بل (زاغَتْ عَنْهُمُ) أبصارهم لكونهم محجوبين بالغواشي البدنية والأمور الطبيعية عن حقائقهم المجرّدة وذواتهم المقدّسة كما حجبوا بالعادات العامية والطرائق الجاهلية عن طرائقهم وسيرتهم على أن أم منقطعة ، وإنما كان تخاصم أهل النار حقا لكونهم في عالم التضاد ومحل العناد ، أسراء في قيود الطبائع المختلفة وأيدي القوى المتنازعة والأهواء الممانعة ، والميول المتجاذبة ، ما أنا إلا منذر لا أدعوكم إلى نفسي ولا أقدر على هدايتكم لأني فان عن نفسي وعن قدري ، قائم في الإنذار بالله وصفاته.

[٦٥ ـ ٧٤] (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

(وَما مِنْ إِلهٍ) في الوجود (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) بذاته (الْقَهَّارُ) الذي يقهر كل من سواه بإفنائه في وحدانيته (رَبُ) الكل الذي يربّ كل شيء في حضرة واحديته باسم من أسمائه (الْعَزِيزُ) الذي يغلب المحجوب بقوّته فيعذبه بما حجب به في سترات جلاله لاستحقاقه فيض الربوبية من حضرة القهّار المنتقم وسطوات العذاب المحتجب (الْغَفَّارُ) الذي يستر ظلمات صفات النفس بأنوار تجليات جماله لمن بقي فيه نور فطرته فيقبل نور المغفرة لبقاء مسكة من نوريته (قُلْ هُوَ) أي : الذي أنذرتكم به من التوحيد الذاتي والصفاتي (نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ثم احتجّ على صحة نبوّته باطلاعه على اختصام الملأ الأعلى من غير تعلم إذ لا سبيل إليه إلا الوحي ، وفرّق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار : إن ذلك لحق ، وفي اختصام الملأ الأعلى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدا ، وهذا عارضي نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه‌السلام الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١) ، وقوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) على ما ذكر في سورة (البقرة) عند تأويل هذه القصة. وسجودهم لآدم عليه‌السلام : تعظيمهم له وانقيادهم وخضوعهم لانكشاف كماله الذي هو فوق كمالاتهم عليهم‌السلام ، وأباء إبليس واستكباره : عدم انقياد شيطان الوهم وإذعانه لاحتجابه عن حقيقته بانطباعه في المادة ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣).

[٧٥ ـ ٨٥] (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : خلقته بصفتي الجمال والجلال والقهر واللطف وجميع أسمائي المتقابلة المندرجة تحت صفتي القهر والمحبة لتحصل عند الجمعية الإلهية في الحضرة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٣.

(٣) سورة ص ، الآية : ٧٤.

الواحدية بخلاف حال الملأ الأعلى ، فإنّ من خلق منهم بصفة القهر لا يقدر على اللطف وبالعكس (أَسْتَكْبَرْتَ) أي : أعرض لك التكبر والاستنكاف (أَمْ كُنْتَ) عاليا عليه ، زائدا في المرتبة؟ فأجاب المحجوب : بأني عال خير منه في الأصل لعدم اطلاعه على حقيقته المجرّدة واطلاعه على بشريته ، ولا شك أن الروح الحيواني الناري الذي خلق منه اللعين أشرف من المادة الكثيفة البدنية ولكن الاحتجاب عن الجمعية الإلهية واللطيفة الروحانية بعث اللعين على الآباء حتى تمسك بالقياس وعصى الله في سجود الناس.

والرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية المنزّهة عن المواد الرجسية بالانغماس في الغواشي الطبيعية والاحتجاب بالكوائن الهيولانية ، ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين وحدّد نهايته به ، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرّد الروح عن البدن ومواده ، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان وينقاد ويذعن له في الوقت المعلوم الذي هو القيامة الكبرى فلا يكون ملعونا كماقال عليه‌السلام : «إلا أن شيطاني أسلم على يدي». والإنظار للإغواء واللعن ينتهيان إلى ذلك الوقت ، لكن الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن شوب الكدورات النفسية وحجب البشرية والأنانية ، وصفّى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة لا يمكنه إغواؤهم البتة في البداية أيضا ، فكيف في النهاية؟. واللعن إن ارتفع بإسلامه وانقياده هناك لكن لزمه كونه جهنميا لملازمته الطبيعة الهيولانية والمادة الجسمانية فلا يتجرد أصلا وإن كان قد يرتقي إلى سماء العقل والأفق الروحانية بالوسوسة والإلقاء ويتصل في جنة النفس بآدم عند الإغواء ولا يزال يطرد عن ذلك الجناب (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).

وإنما أقسم على الإغواء بعزّته تعالى لأنه مسبّب عن تعزّزه بأستار الجلال وسرادقات الكبرياء ، وتمنعه عن إدراك إبليس لفنائه بسحب الأنوار. وأقسم الله تعالى في مقابلته بالحق الثابت الواجب الذي لا يتغير على إملائه جهنم منه ومن أتباعه لوجود ذلك التعزز وملازمة هؤلاء جهنم دائما أبدا على حاله لا يتغير ولا يتبدّل ، لأن تجرّد المجرّد بالذات وتعلّق المتعلق بالطبع ، أمر تقتضيه الذوات والأعيان والحقائق في الأزل غير عارض فلا يزال كذلك أبدا.

[٨٦ ـ ٨٨] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ولا غرض لي في ذلك ، فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات غير معلّلة بالغرض (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي : المتصنعين الذين ينتحلون الكمالات ويظهرون بأنفسهم وصفاتها ، ويدعون كمالات الله لأنفسهم ، بل فنيت عن نفسي وصفاتها ، فالله القائل بلساني (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) عند القيامة الصغرى أو الكبرى لظهور تأويله حينئذ.

سورة الزمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

هذا (تَنْزِيلُ) كتاب العقل الفرقانيّ بظهوره عليك من غيب الغيوب (مِنَ اللهِ) وحضرته الواحدية (الْعَزِيزِ) المحتجب بسترات الجلال في غيب غيبه (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة الكامنة هناك ، البارزة في مراتب التنزيلات (بِالْحَقِ) أي : أنزلناه بظهور الحق فيك بعد كمونه (فَاعْبُدِ اللهَ) فخصّصه بالعبادة الذاتية حين تجلى لك بذاته ولم يبق أحدا من خلقه (مُخْلِصاً) ممحضا (لَهُ الدِّينَ) عن شوب الغيرية والاثنينية ، أي : أعبده بشهوده لذاته ومطالعة تجليات صفاته بعينه وتلاوة كلامه به ، فيكون سيرك سير الله ودينك دين الله وفطرتك ذات الله.

[٣ ـ ٤] (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) عن شوب الغيرية والأنانية لا لك لفنائك فيه بالكلية ، فلا ذات لك ، ولا صفة ، ولا فعل ، ولا دين ، وإلا لما خلص الدين بالحقيقة فلا يكون لله (وَالَّذِينَ) احتجبوا بالكثرة عن الوحدة واتخذوا الغير وليّا بالمحبة للتقرّب والتوسل به إلى الله (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) عند حشر معبوداتهم معهم فيما اختلفوا فيه من صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم فيقرن كلّا منهم مع من يتولّاه من عابد ومعبود ، ويدخل المبطل النار مع المبطلين كما يدخل المحق الجنة مع المحقين ، ويجزى كلّا بوصفه الغالب عليه وما وقف معه واحتجب به مع اختلافهم في الأوصاف وما وقفوا معه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى النجاة وعالم النور وتجليات الصفات والذوات (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) لبعده عنه واحتجابه بظلمة الرذائل وصفات النفس عن النور وامتناعه عن قبوله (سُبْحانَهُ) أي : نزّهه عن المماثلة والمجانسة واصطفاء الولد لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره ، فلا تماثل في الوجود ، فكيف في الوجوب؟.

[٥] (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بظهوره في مظاهرها واحتجابه بصورها مصرفا للكل بقدرته وفعله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بسلطانه وملكه فلا ذات ولا صفة ولا فعل لغيره ، وذلك دليل وحدانيته (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) القويّ الذي يقهر الكل بسطوة قهره (الْغَفَّارُ) الذي يسترهم بنور ذاته وصفاته فلا يبقى معه غيره أو العزيز المتمنع باحتجابه عن خلقه بصور مخلوقاته الغفار الذي يستر لمن يشاء ذنوب وجوده وصفاته فيظهر عليه ويتجلى له بصفاته وذاته.

[٦] (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم الحقيقي ، أي : النفس الناطقة الكلية التي تتشعب عنها النفوس الجزئية (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) النفس الحيوانية (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لكون صورها في اللوح المحفوظ ونزول كل ما وجد في عالم الشهادة من عالم الغيب (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) يخلقكم في أطوار الخلقة متقلّبين (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية (ذلِكُمُ) الخالق لصوركم ، المكوّر ، أي : المصرف بقدرته المسخّر بملكوته وسلطانه ، المنشئ للكثرة من وحدته بأسمائه وصفاته ، المنزّل لما قضى وقدّر بأفعاله هو الذات الموصوفة بجميع صفاته يربكم بأسمائه (لَهُ الْمُلْكُ) يتصرّف فيه بأفعاله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن عبادته إلى عبادة غيره مع عدمه.

[٧ ـ ٨] (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

(إِنْ تَكْفُرُوا) وتحتجبوا بصفاتكم وذواتكم فإن الله لا يحتاج إلى ذواتكم وصفاتكم في ظهوره وكماله ، لكونها فانية في نفس الأمر ليست شيئا إلا به ، فضلا عن احتياجه إليها وهو الظاهر بذاته لذاته والباطن بحقيقته ، المشاهد لكماله بعينه (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ) الاحتجاب لكونه سبب هلاكهم ووقوعهم في أسر المالك والزبانية ولا يتعلق بهم الرضا ، ولا يقبلون نوره

فيدخلوا الجنّة (وَإِنْ تَشْكُرُوا) برؤية نعمه واستعمالها في طاعته لتستعدّوا لقبول فيضه يرضى الشكر لكم بتجلي الصفات لتّتصفوا بها فتبلغوا مقام الرضا وتدخلوا الجنة ، فما تبعة الكفر إلا عليكم ولا ثمرة الشكر إلا لكم ، أهذا الكافر المحجوب أفضل.

[٩] (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) مطيع في مقام النفس وأوقات ظلمة صفاتها (ساجِداً) بفناء الأفعال والصفات ، قائما بالطاعة والانقياد ، عند ظهور النفس بصفاتها وأفعالها (يَحْذَرُ) عقاب الآخرة ويرجو الرحمة ، إذ السالك في مقام النفس لا يخلو عن الخوف والرجاء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي) أي : لا يستويان ، وإنما ترك المضمر إلى الظاهر ليبين أنّ المطيع في مقام النفس هو العالم والكافر هو الجاهل. أما الأول فإن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته بل سيّط باللحم والدم فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه ، وأما المرتسم في حيز العقل والتخيل بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه فليس بعلم إنما هو أمر تصوّري وتخيل عارضي لا يلبث بل يزول سريعا ، لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع. وأما الثاني فظاهر ، إذ لو علم لم يحجب بالغير عن الحق (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) ويتعظ بهذا الذكر (أُولُوا) العقول الصافية عن قشر التخيّل والوهم لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه ، بل تتلجلج فيه فيذهب.

[١٠ ـ ١٢] (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢))

(قُلْ يا عِبادِ) المخصوصين فيّ من أهل العناية (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العملي (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بمحو صفاتكم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي : اتّصفوا بالصفات الإلهية فعبدوه على المشاهدة (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) لا يكتنه كنهها في الآخرة وهي شهود الوجه الباقي وجماله الكريم.

(وَأَرْضُ اللهِ) أي : النفس المطمئنة المخصوصة بالله لانقيادها له وقبولها لنوره واطمئنانها إليه ، ذات سعة بيقينها لا تتقيد بشيء ولا تلبث في ضيق من عادة ومألوف وأمر غير الحق (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) الذين صبروا مع الله في فناء صفاتهم وأفعالهم وسلوكهم فيه وسيرهم في منازل النفس الواسعة باليقين (أَجْرَهُمْ) من جنات الصفات (بِغَيْرِ حِسابٍ) إذ الأجر الموفى بحسب الأعمال في مقام النفس مقدّر بالأعمال في جنّة النفوس ، متناه لكونه من

باب الآثار محصورا في الموادّ. وأما الذي يوفى بحسب الأخلاق والأحوال فهو غير متناه لكونه من باب تجليات الصفات في جنة القلب وعالم القدس مجرّدا عن المواد (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) عن الالتفات إلى الغير والسير بالنفس (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) مقدّم المسلمين الذين أسلموا وجوههم إلى الله بالفناء فيه وسابقهم في الصف الأول ، سائرا بالله ، فانيا عن النفس وصفاتها.

[١٣ ـ ١٥] (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥))

(أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص والنظر إلى الغير (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) من الاحتجاب والحرمان والبعد (قُلِ اللهَ) أخصّ بالعبادة (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) عن شوب الأنانية والاثنينية (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) بالحقيقة ، الكاملين في الخسران ، هم الواقفون مع الغير ، المحجوبون عن الحق (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بإهلاك الأنفس وتضييع الأهل من الجواهر المقدّسة التي تجانسهم وتناسبهم في عالمها الروحاني لاحتجابهم بالظلمات الهيولانية عنهم (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ) الحقيقي الظاهر البيّن.

[١٦ ـ ١٧] (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧))

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لانغمارهم في المواد الهيولانية واستقرارهم في قعر بئر الطبيعة الظلمانية ، فوقهم مراتب من الطبائع وتحتهم مراتب أخرى وهم في غمرات منها (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا) عبادة الغير (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) بالتوحيد المحض (لَهُمُ الْبُشْرى) باللقاء (فَبَشِّرْ عِبادِ) المخصوصين بعنايتي.

[١٨] (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) كالعزائم والرخص والواجب والمندوب في قول الحق والغير (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) كالعزائم دون الرخص والواجب دون المندوب والقول حق في الكل لا غير (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) إليه بنور الهداية الأصلية (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) المميزون بين الأقوال بألبابهم المجرّدة فيتلقون المعاني المحققة دون غيرها.

[١٩ ـ ٢١] (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي : أأنت مالك أمرهم فمن سبق الحكم بشقاوته فأنت تنقذه ، أي : لا يمكن إنقاذه أصلا (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أفعالهم وصفاتهم وذواتهم في التجريد والتفريد من أهل التوحيد (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي : مقامات وأحوال بعضها فوق بعض كالتوكل بفناء الأفعال فوقه ، الرضاء بفناء الصفات فوقه الفناء في الذات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم المكاشفات (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) الروح ماء العلم (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) الحكم في أراضي النفوس بحسب استعداداتها (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) زرع الأعمال والأخلاق (مُخْتَلِفاً) أصنافه بحسب اختلاف القوى والأعضاء (ثُمَّ يَهِيجُ) فينقطع عن أصله بأنوار التجليات (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لاضمحلاله وتلاشيه بفناء أصوله ، القائم هو بها من القوى والنفوس والقلوب (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) بذهابه وانكساره وانقشاعه عند ظهور صفاته تعالى واستقرارها بالتمكين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي) الحقائق المجردة من قشر الأنانية.

[٢٢ ـ ٢٨] (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بنوره حال البقاء بعد الفناء ونقى قلبه بالوجود الموهوب الحقاني فيسع صدره الحق والخلق من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر فيشاهد التفصيل في عين الوحدة والتوحيد في عين الكثرة ، والإسلام هو الفناء في الله وتسليم الوجه إليه ، أي : شرح صدره في البقاء لإسلامه وجهه حال الفناء (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يرى ربّه (فَوَيْلٌ) للذين قست قلوبهم من قبول ذكر الله لشدّة ميلها إلى اللذات البدنية وإعراضها عن الكمالات القدسية (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن طريق الحق (مُتَشابِهاً) في الحق والصدق (مَثانِيَ) لتنزلها عليك في مقام القلب قبل الفناء وبعده فتكون مكرّرة باعتبار الحق والخلق ،

فتارة يتلوها الحق وتارة يتلوها الخلق (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ) أهل الخشية من العلماء بالله لانفعالها بالهيئات النورانية الواردة على القلب النازل أثرها إلى البدن (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) وأعضاؤهم بالانقياد والسكينة والطمأنينة (إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ) بالأنوار اليقينية (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يحجبه عن النور فلا يفهم كلامه ولا يرى معناه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) مع كونه أشرف الأعضاء لكون سائر جوارحه مقيدة بهيئات لا يتأتى له التحرّز بها ولا يتهيأ ، مغلّلة بأغلال لا يتيسر له بها الحركة في الدفع ولا يتسنى كمن أمن العذاب.

[٢٩] (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

(مَثَلاً) في التوحيد والشرك (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) سيّئوا الأخلاق لا يتسالمون في شيء يوجهه هذا في حاجة ويمنعه هذا ويجذبه أحدهما إلى جهة والآخر إلى ما يقابلها ، فيتنازعون ويتجاذبون وهذا صفة من تستولي عليه صفات نفسه المتجاذبة لاحتجابه بالكثرة المتخالفة فهو في عين التفرقة همّه شعاع وقلبه أوزاع (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) لا يبعثه إلا إلى جهته ، وهذا مثل الموحد الذي تسالمت له مشايعة السرّ إلى جناب الربّ ليس له إلا همّ واحد ومقصد واحد في عين الجمعية مجموع ناعم البال خافض العيش والحال.

[٣٠] (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠))

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) معناه : كل شيء هالك إلا وجهه ، أي : فان في الله ، وهم في شهودك هالكون معدومون بذواتهم.

[٣١ ـ ٣٥] (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لاختلافكم في الحقيقة والطريقة لكونهم محجوبين بالنفس وصفاتها ، سائرين بها طالبين لشهواتها ولذاتها ، وكونك دائما بالحق سائرا به طالبا لوجهه ورضاه (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) من صفات نفوسهم وهيئات رذائلهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من تجليات صفاته وجنات جماله ، فيمحو ظلمات وجوداتهم بنور وجهه.

[٣٦ ـ ٤٣] (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣))

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) المتوكل عليه في توحيد الأفعال وهو منبع القوى والقدر (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) لاحتجابهم بالكثرة عنه ، فينسبون التأثير والقدرة إلى ما هو ميت بالذات لا حول له ولا قوة ، فأنت أحق بأن يكفيك ربّك شرّهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يحجبه عنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إذ لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه.

[٤٤ ـ ٥٢] (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لتوقفها على إرضائه للمشفوع له بتهيئته لقبولها ، وإذن الشفيع بتمكينه منها والتهيؤ من فيضه الأقدس ، فالقبول والتأثير من جهته له الملك مطلقا إليه الرجوع دائما (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) مما يشاهدون من هيئات أعمالهم وصور أخلاقهم التي ذهلوا عنها لاشتغالهم بالشواغل الحسيّة ، وأحصاه الله بإثباته في كتبهم بل في الكتب

الأربعة من نفوسهم والسماء الدنيا واللوح المحفوظ وأمّ الكتاب.

[٥٣] (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) فإن القنوط علامة زوال الاستعداد والسقوط عن الفطرة بالاحتجاب ، وانقطاع الوصلة من الحق والبعد ، إذ لو بقيت فيه مسكة من النور الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه بالذات فرجا وصول ذلك الأثر إليه ، وإن أسرف في الميل إلى الجهة السفلية وفرط في جنب الحضرة الإلهية لاتصاله بعالم النور بتلك البقية. وإنما اليأس لا يكون إلا مع الاحتجاب الكلي واسوداد الوجه بالإعراض عن العالم العلويّ ، والتغشي بالغطاء الخلقي المادّي.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) بشرط بقاء نور التوحيد في القلب وهو مستفاد من اختصاص العباد لإفاضتهم إلى نفسه في قوله : (يا عِبادِيَ) (١) ، ولهذا قيل : يغفر جميعها للأمة المحمدية الموحدين دون سائر الأمم ، كما قال لأمّة نوح عليه‌السلام : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (٢) أي : بعضها. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لهيئات الرذائل من الإفراط والتفريط (الرَّحِيمُ) بإفاضة الفضائل.

[٥٤ ـ ٥٩] (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) بالتنّصل عن هيئات السوء (وَأَسْلِمُوا لَهُ) وجوهكم بالتجرّد عن ذنوب الأفعال والصفات من قبل انسداد باب المغفرة بوقوع العذاب الذي تستحقونه بالموت فلا يمكنكم الإنابة والتسليم لفقدان الآلات وانسداد الأبواب (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) بترك السعي في طلب الكمال والتقصير في الطاعة حين كنت في جوار الله ، قريبا منه ، لصفاء استعدادي وتمكّني من السلوك فيه بوجود الآلات البدنية المعدّة لي.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٥٣.

(٢) سورة نوح ، الآية : ٧١.

[٦٠] (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) من المحجوبين الذين يسوّونه بالمخلوقات ، إذ يجسمونه ويجوّزون عليه ما يمتنع عليه من الصفات لاحتجابهم بالموادّ (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بارتكاب الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ) الطبيعة الهيولانية (مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الذين احتجبوا بصفات نفوسهم المستولية عليهم.

[٦١] (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الرذائل بتجرّدهم عن تلك الصفات (بِمَفازَتِهِمْ) وأسباب فلاحهم من هيئات الحسنات وصور الفضائل والكمالات (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) لتجرّدهم عن الهيئات المؤلمة المنافية (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات كمالاتهم التي اقتضتها استعداداتهم.

[٦٢] (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢))

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو وحده يملك خزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها ، يفتح لمن يشاء بأسمائه الحسنى ، إذ كل اسم من أسمائه مفتاح لخزانة من خزائن جوده لا ينفتح بابها إلا به ، فيفيض عليه ما فيها من فيض رحمته العامة والخاصة ونعمته الظاهرة والباطنة.

[٦٣] (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : حجبوا عن أنوار صفاته وأفعاله بظلمات طباعهم ونفوسهم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين لا نصيب لهم من تلك الخزائن لإطفائهم النور الأصلي القابل لها ، وتضييعهم الاستعداد الفطري ، والاسم الذي يفتح به مقاليدها.

[٦٤ ـ ٦٧] (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) بالجهل ، فأحتجب عن فيض رحمته ونور كماله ، فأكون (مِنَ الْخاسِرِينَ) بل خصص العبادة بالله موحدا فانيا فيه عن رؤية الغير إن كنت تعبد شيئا (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) به له ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوه حق معرفته إذ قدروه

في أنفسهم وصوّروه وكل ما يتصوّرونه فهو مجعول مثلهم (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) أي : تحت تصرّفه وقبضة قدرته وقهر ملكوته (وَالسَّماواتُ) في طيّ قهره ويمين قوته يصرفها كيف يشاء ويفعل بها ما يشاء ، يطويها ويفنيها عن شهود الشاهد يوم القيامة الكبرى ، والفناء في التوحيد لفناء الكل حينئذ في شهود التوحيد ، وكل تصرّف تراه بيمينه وكل صفة تراها صفته ، ويرى عالم القدرة بيمينه ، بل كل شيء عينه فلا يرى غيره بل يرى وجهه ، فلا عين ولا أثر لغيره (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات الغير وتأثيره وقدرته.

[٦٨] (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) عند الإماتة بسريان روح الحق وظهوره في الكل وشهود ذاته بذاته وفناء الكل فيه (فَصَعِقَ) أي : هلك (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) حال الفناء في التوحيد وظهور الهوية بالنفخة الروحية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من أهل البقاء بعد الفناء الذين أحياهم الله بعد الفناء بالوجود الحقاني فلا يموتون في القيامة كرّة أخرى لكون حياتهم به وفنائهم عن أنفسهم من قبل (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) عند البقاء بعد الفناء والرجوع إلى التفصيل بعد الجمع (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) بالحق (يَنْظُرُونَ) بعينه.

[٦٩ ـ ٧٠] (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

(وَأَشْرَقَتِ) أرض النفس حينئذ (بِنُورِ رَبِّها) واتّصفت بالعدالة التي هي ظلّ شمس الوحدة والأرض كلها في زمن المهدي عليه‌السلام بنور العدل والحق (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي : عرض كتاب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته التي هي نفسه المنتقشة فيها صور أعماله المنطبع منها تلك الصور في بدنه (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) من السابقين المطلعين على أحوالهم الذين قال فيهم : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (١) أي : أحضروا للشهادة عليهم لاطلاعهم على أعمالهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) حيث وزن أعمالهم بميزان العدل ووفّى جزاء أعمالهم لا ينقص منها شيء (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) لثبوت صور أفعالهم عنده.

[٧١ ـ ٧٢] (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٦.

(وَسِيقَ) المحجوبون (إِلى جَهَنَّمَ) بسائق العمل وقائد الهوى النفسيّ والميل السفليّ (فُتِحَتْ أَبْوابُها) لشدّة شوقها إليهم وقبولها لهم لما بينهما من المناسبة (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) من مالك والزبانية ، أي : الطبيعة الجسمانية والملكوت الأرضية الموكلة بالنفوس السفلية.

[٧٣] (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الرذائل وصفات النفوس (إِلَى الْجَنَّةِ) بسائق العمل وقائد المحبة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) قبل مجيئهم لأن أبواب الرحمة وفيض الحق مفتوحة دائما والتخلف من جهة القبول لا من جهة الفيض بخلاف أبواب جهنم ، فإنها مطبقة تنفتح بهم وبمجيئهم إليها لكون المواد غير مستعدّة لقبول النفوس إلّا بآثارها (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) من رضوان والأرواح القدسية والملكوت السماوية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : تحيتهم الصفات الإلهية والأسماء العليّة بإفاضة الكمال عليهم وتبرئتهم من الآفة والنقص (طِبْتُمْ) عن خبائث الأوصاف النفسانية والهيئات الهيولانية ، فادخلوا جنة الفردوس الروحانية مقدّرين الخلود لنزاهة ذواتكم عن التغيرات الجسمانية.

[٧٤ ـ ٧٥] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالاتّصاف بكمالاته والوصول إلى نعيم تجليات صفاته (الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بإيصالنا إلى ما وعدنا في العهد الأول وأودع فينا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله (وَأَوْرَثَنَا) جنّة الصفات (نَتَبَوَّأُ) منها (حَيْثُ نَشاءُ) بحسب شرفنا ومقتضى حالنا (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الذين عملوا بما علموا فأورثوا جنّة القلب والنفس من الأنوار والآثار (وَتَرَى) ملائكة القوى الروحانية في جنّة الصفات (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ) عرش القلب (يُسَبِّحُونَ) بتجرّدهم عن اللواحق المادية ، حامدين ربّهم بالكمالات الروحانية (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) بتسالمهم واتحادهم في التوجه نحو الكمال بنور العدل والتوحيد واختصاص كل بما حكم بالحق في تسبيحه من غير تخاصم وتنازع (وَقِيلَ) على لسان الأحدية (الْحَمْدُ) المطلق في الحضرة الواحدية للذات الإلهية الموصوفة بجميع صفاتها (رَبِّ الْعالَمِينَ) مربيهم على حسب استعدادات الأشياء وأحوالها.

أو ملائكة النفوس والأرواح السماوية حافين في جنة الفردوس من حول عرش الفلك الأعظم ، يسبّحون بحمد ربّهم باتصاف ذواتهم المجرّدة بالكمالات الربانية. وقضى بينهم

بالحق باختصاص كل بما حكم به الحق من الأفعال والكمالات. وقيل على لسان الكل : الكمال المطلق لله ربّ العالمين ، وإن حملت القيامة على الصغرى فمعناه : وأرض البدن جميعا قبضته ، يتصرّف فيها بقدرته ويقبضها عن الحركة ويمسكها عن الانبساط بالحياة وقت الموت وسموات الأرواح وقواها مطويات بيمينه ونفخ في الصور عند النفس الآخر فصعق من في السموات من القوى الروحانية ومن في الأرض من القوى النفسانية الطبيعية إلا من شاء الله من الحقيقة الروحانية واللطيفة الإنسانية التي لا تموت ، ثم نفخ فيه أخرى في النشأة الثانية بنور الحياة والاعتدال ووضع الكتاب ، أي : لوح النفس المنتقش فيه صور أعماله فتنتشر بظهور تلك النفوس عليه وجيء بالنبيين والشهداء من الذين اطلعوا على استعدادهم وأحوالهم بأن يحشروا معهم فيجازوا على حسب أعمالهم ، وقضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون. وباقي التأويلات بحالها إلى آخر السورة والله تعالى أعلم.

سورة المؤمن وهي غافر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)) هذه (حم) أي : الحق المحتجب بمحمد فهو حق بالحقيقة ، محمد بالخليقة ، أحبه فظهر بصورته فكان ظهوره به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) المحمدي (مِنَ اللهِ) أي : ذاته الموصوفة قد تجمع صفاته (الْعَزِيزِ) بستور جلاله حال كون الكتاب قرآنا (الْعَلِيمِ) الظاهر بعلمه ، فيكون فرقانا فقوله : (حم) معناه في الحقيقة : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أي : الحق الباطن حقيقته الظاهر بمحمد هو تنزيل الكتاب الذي هو عين الجمع الجامع للكل المكنون بعزّته في سرادقات جلاله المتنزّل في مراتب غيوبه ومظاهر علية في الصورة المحمدية التي ظهر علمه بها في مظهر العقل الفرقاني.

[٣] (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(غافِرِ الذَّنْبِ) بظهور نوره وستره لظلمات النفوس والطبائع (وَقابِلِ التَّوْبِ) برجوع الحقيقة المجرّدة من غواشي النشأة إليه (شَدِيدِ الْعِقابِ) للمحجوب الواقف مع الغير بالشرك غير الراجع إليه بالتوحيد (ذِي الطَّوْلِ) أي : الفضل بإفاضة الكمال الزائد على نور الاستعداد الأول على حسب قبوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أولا وآخرا وظاهرا وباطنا معاقبا ومتفضلا (إِلَيْهِ) مصير الكل على كل الأحوال من الراجع التائب والواقف المعاقب إما إلى ذاته أو صفاته أو أفعاله كيف كان لا يخرج عن إحاطته شيء فيكون خارجا عن ذاته موجودا بوجود غير وجوده ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

[٤ ـ ٦] (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا) المحجوبون عن الحق لأن غير المحجوب يقبلها بنور استعداده من غير إنكار لصفاته. وأما المحجوب فلظلمة جوهره وخبث باطنه لا يناسب ذاته آياته فينكرها ويجادل فيها (بِالْباطِلِ) ليدحض بجداله آياته فيحق له العقاب.

[٧ ـ ١٠] (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) من النفوس الناطقة السماوية اللاتي أرجلهم في الأرضين السفلى بتأثيرهم فيها وأعناقهم مرقت من السموات العلى لتجرّدهم منها وتدبيرهم إياها أو الأرواح التي هي معشوقاتها (وَمَنْ حَوْلَهُ) من الأرواح المجرّدة القدسية والنفوس الكوكبية (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهونه عن اللواحق المادية بتجرّد ذواتهم حامدين له بإظهار كمالاتهم المستفادة منه تعالى فكأنهم يقولون بلسان الحال : يا من هذه صفاته وهباته (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الإيمان العياني الحقيقي (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالأمداد النورية والإفاضات السبوحية لمناسبة ذواتهم ذواتهم في الحقيقة الإيمانية (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي : شملت رحمتك وأحاط بالكل علمك (فَاغْفِرْ) بنورك (لِلَّذِينَ تابُوا) إليك بالتجرّد عن الهيئات الظلمانية والظلمات الهيولانية (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) بالسلوك فيك على متابعة حبيبك في الأعمال والمقامات والأحوال يتنصلون عن ذنوب أفعالهم وصفاتهم وذواتهم (وَقِهِمْ) بعنايتك (عَذابَ) جحيمالطبيعة (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ) صفاتك وحظائر قدسك (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ) بالتجرّد عن الغواشي المادية واستعدّ لذلك بالتزكية والتحلية من أقاربهم المتصلين بهم للمناسبة والقرابة الروحانية (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على التعذيب (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل ما يفعل إلا بالحكمة ومن الحكمة الوفاء بالوعد (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) بتوفيقك وحسن عنايتك وكلاءتك.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) فقد حقّت له رحمتك (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأن المرحوم سعيد ، والمحجوب يمقت نفسه حين تظهر له هيئاتها المظلمة وصفاتها المؤلمة وسواد وجهه الموحش وقبح منظرها المنفر بارتفاع الشواغل الحسيّة التي كانت تشغله عن إدراك ذاته فينادى : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ هو نور الأنوار وكلما كان الشيء أشدّ نورية

وأكثر ضوءا فهو أبعد مناسبة من الجوهر المظلم الكدر ، فيكون أشدّ مقتا له ، ومقته لنفسه أيضا ناشئ من النور الأصلي الاستعدادي لانطباع محبة النور في الأصل الاستعدادي النوري ، بل النور لذاته محبوب والظلمة مبغوضة.

(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي : كبر مقته إياكم وقت احتجابكم عنه وعدم قبولكم للدعوة إلى الإيمان التوحيدي أو لاحتجابكم وإبائكم عن الدعوة الإيمانية.

[١١ ـ ١٢] (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي : أنشأتنا أمواتا مرتين (وَأَحْيَيْتَنَا) في النشأتين (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) عند وقوع العقاب المرتب عليها وامتناع المحيص عنه (ذلِكُمْ) العذاب السرمد والمقت الأكبر بسبب شرككم واحتجابكم عن الحق بالغير (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) بعقابكم الأبدي لا للغير فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه فلا يمكن أحدا ردّ حكمه وعقابه.

[١٣ ـ ١٤] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) آيات صفاته بتجلياته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ) من سماء الروح (رِزْقاً) حقيقيا ما أعظمه وهو العلم الذي يحيا به القلب ويتقوى (وَما يَتَذَكَّرُ) أحواله السابقة بذلك الرزق (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) إليه بالتجرّد وقطع النظر عن الغير فأنيبوا إليه لتتذكروا بتخصيص العبادة به وإخلاص الدين عن شوب الغيرية وتجريد الفطرة عن النشأة ولو أنكر المحجوبون وكرهوا.

[١٥] (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥))

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي : رفيع درجات غيوبه ومصاعد سماواته من المقامات التي يعرج فيها السالكون إليه (ذُو الْعَرْشِ) أي : المقام الأرفع المالك للأشياء كلها (يُلْقِي الرُّوحَ) أي : الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة (مِنْ) عالم (أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الخاصة به أهل العناية الأزلية (لِيُنْذِرَ يَوْمَ) القيامة الكبرى الذي يتلاقى فيه العبد والربّ بفنائه فيه أو العباد في عين الجمع.

[١٦ ـ ٣٣] (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) عن حجاب الإنيات أو غواشي الأبدان (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) مما ستروا من أعمالهم واستخفوا بها من الناس توهما أنه لا يطلع عليهم لظهورها في صحائفهم وبروزها من الكمون إلى الظهور ، كما قال : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١) ، وقالوا : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٢) ، ولا يخفى عليه منهم شيء لبروزهم عن حجب الأوصاف إلى عين الذات.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ينادي به الحق سبحانه عند فناء الكل في عين الجمع فيجيب هو وحده (لِلَّهِ الْواحِدِ) الذي لا شيء سواه (الْقَهَّارِ) الذي أفنى الكل بقهره (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لوقوعه دفعة باقتضاء سيئاتهم المكتوبة في صحائف نفوسهم تبعاتها وحسناتها ثمراتها (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : الواقعة القريبة وهي القيامة الصغرى (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) لشدّة الخوف.

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ٦.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٤٩.

[٣٤ ـ ٤٢] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢))

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (١) أي : الإضلال والخذلان كل واحد منهما مرتب على الرذيلتين العلمية والعملية.

فإن الكذب والارتياب كلاهما من باب رذيلة القوة النطقية لعدم اليقين والصدق والإسراف عن رذيلة القوتين الأخريين والإفراط في أعمالها.

والصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه هو قاعدة الحكمة النظرية من القياسات الفكرية ، فإن القوم كانوا منطقيين محجوبين بعقولهم المشوبة بالوهم غير المنوّرة بنور الهداية ، أراد أن يبلغ طرق سموات الغيوب ويطلع على الحضرة الأحدية بطريق الفكر دون السلوك في الله بالتجريد والمحو والفناء ولاحتجابه بأنانيته وعلمه قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ) أي : مثل ذلك التزيين والصدّ (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) لاحتجابه بصفات نفسه ورذائله (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) لخطئه في فكره ، أي : فسد علمه ونظره لشدة ميله إلى الدنيا ومحبته إياها بغلبة الهوى بخلاف حال الذي آمن حيث حذر أولا من الدنيا بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لسرعة زوال الأولى وبقاء الأخرى دائما (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي : التوحيد والتجريد الذي هو سبب نجاتكم (وَتَدْعُونَنِي) إلى الشرك الموجب لدخول النار (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي) بوجوده علم إذ لا وجود له (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) الغالب الذي يقهر من عصاه (الْغَفَّارِ) الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه بأنواره.

[٤٣ ـ ٥٠] (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ٢٨.

مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

(لا جَرَمَ) إلى آخره ، أي : وجب وحق (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه واستحالة وجوده فيهما (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي : تصلى أرواحهم بنار الهيئات الطبيعية واحتجاب الأنوار القدسية والحرمان عن اللذات الحسيّة والشوق إليها مع امتناع حصولها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) بمحشر الأجساد أو ظهور المهدي عليه‌السلام. قيل لهم : ادخلوا (أَشَدَّ الْعَذابِ) لانقلاب هيئاتهم وصورها وتراكم الظلمات وتكاثف الحجب وضيق المحبس وضنك المضجع على الأول ، وقهر المهدي عليه‌السلام إياهم وتعذيبه لهم لكفرهم به وبعدهم عنه ومعرفته إياهم بسيماهم على الثاني.

[٥١ ـ ٥٤] (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤))

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالتأييد الملكوتي والنور القدسي في الدارين.

[٥٥ ـ ٥٩] (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : احبس النفس عن الظهور في مقابلة أذاهم ، واعلم أنك ستغلب حال البقاء والتمكين ، إنّا غالبون (وَاسْتَغْفِرْ) لذنب حالك بالتنصل عن أفعالك

(وَسَبِّحْ) بالتجريد (بِحَمْدِ رَبِّكَ) موصوفا بكماله دائما ، أي : ما دمت في حال الفناء لا تأمن التلوين بظهور النفس وصفاتها ، وجب عليك الصبر والاستغفار والتجريد عن الأوصاف التي تظهر بها النفس ، والتحقق بالله وصفاته ، فإذا حصل لك مقام الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء فذلك وقت الغلبة وظهور النفس والوفاء بالوعد.

[٦٠ ـ ٦١] (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١))

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) هذا دعاء الحال ، لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعوّ به خير له أم لا دعاء المحجوبين ، وقال الله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١) أي : ضياع. وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما تطلبه ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء كمن طلب المغفرة ، فتاب إلى الله وأناب بالزهد والطاعة ، ومن طلب الوصول فاختار الفناء ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي : لا يدعونني بالتضرّع والخضوع والاستكانة بل تظهر أنفسهم بصفة التكبّر والعلوّ (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) لدعائهم بلسان الحال مع القهر والإذلال إذ صفة الاستكبار ومنازعة الله في كبريائه تستدعي ذلك.

[٦٢ ـ ٦٩] (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩))

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي : ذلكم المتجلي بأفعاله وصفاته الله الموصوف بجميع الصفات ربّكم بأسمائه المختصّة بكل واحدة من أحوالكم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بالاحتجاب به (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود يخلق شيئا ويظهر بصفة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) عن طاعته إلى إثبات الغير وطاعته.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١٤.

مثل ذلك الضرب الذي ضربتم به لاحتجابكم بالكثرة يؤفك الجاحدون بآيات الله حين لم يعرفوها إذ يسترها إلى الغير.

[٧٠ ـ ٧٤] (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) لبعد مناسبتهم له واحتجابهم بظلماتهم عن النور (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال أمرهم (إِذِ) أغلال قيود الطبائع المختلفة (فِي أَعْناقِهِمْ) وسلاسل الحوادث الغير المتناهية ممنوعين بها عن الحركة إلى مقاصدهم (يُسْحَبُونَ فِي) حميم الجهل والهوى ثم (يُسْجَرُونَ) في نار الأشواق إلى المشتهيات واللذات الحسيّة مع فقدها ووجدان آلام الهيئات المؤذية بدلها ، فاقدين لما احتجبوا بها ووقفوا معها من صور الكثرة التي عبدوها قائلين (لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) لاطلاعهم على أنّ ما عبدوه وضيعوا أعمارهم في عبادته ليس بشيء فضلا عن إغنائه عنهم شيئا.

[٧٥ ـ ٨٥] (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(ذلِكُمْ) العذاب بسبب فرحكم بالباطل الزائل الفاني في الجهة السفلية بالنفس ونشاطكم به لمناسبة نفوسكم الكدرة الظلمانية البعيدة عن الحق له (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) لرسوخ رذائلكم واستحكام حجابكم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الظاهرين برذيلة

الكبر (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : المحجوبون بالعقول المشوبة بالوهم وبمعقولهم الخالي عن نور الهداية والوحي ، إذ جاءتهم الرسل بالعلوم الحقيقية التوحيدية والمعارف الحقانية الكشفية ، فرحوا بعلومهم وحجبوا بها عن قبول هدايتهم واستهزءوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به في جنب علومهم ، فحاق بهم جزاء استهزائهم وهلكوا عن آخرهم ، والله أعلم.

سورة حم السجدة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) حم) ظهور الحق بالصورة المحمدية (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ) الكل الجامع لجميع الحقائق من الذات الأحدية الموصوفة بالرحمة الرحمانية العامّة للكل ، بإفاضة الوجود والكمال عليه ، والرحيمية الخاصة بالأولياء المحمديين ، المستعدّين لقبول الكمال الخاص العرفاني ، والتوحيد الذاتيّ. وهو كتاب العقل الفرقاني الذي (فُصِّلَتْ آياتُهُ) بالتنزيل بعد ما أجملت قبل في عين الجمع حال كونه (قُرْآناً) أي : فصّلت بحسب ظهور الصفات وحدوث الاستعدادات في حال كونه جامعا للكل (عَرَبِيًّا) لوجود نشأته في العرب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) حقائق آياته لقرب استعداداتهم منه وصفاء فطرهم (بَشِيراً) للقابلين المستعدّين للكمال ، المستبصرين بنوره باللقاء (نَذِيراً) للمحجوبين بظلمات نفوسهم من العقاب (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) لاحتجابهم بالأغيار وبقائهم في ظلمات الاستتار (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) كلام الحق لوقر سمع القلب كما قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) لأنّ غشاوات الطبيعة وحجب صفات النفوس أعمت أبصار قلوبهم وأصمّت آذانها وجعلتها في أغطية وأكنّة وحجبت بينهم وبينه.

[٦] (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦))

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : إني من جنسكم وأناسبكم في البشرية والمماثلة النوعية ، لتوجهه للإنس والخلطة ، وأباينكم بالوحي المنبه على التوحيد المبين لطريق السلوك ، فاتصلوا بي بالمناسبة النوعية ومجانسة البشرية لتهتدوا بنور التوحيد والوحي المفيد لبيان الدين ، وتسلكوا سبيل الحق الذي عرّفنيه بقوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له في الوجود (فَاسْتَقِيمُوا) بالثبات على الإيمان والسكينة والإيقان في التوجه (إِلَيْهِ) من غير انحراف إلى الباطل والطرق المتفرّقة ولا زيغ بالالتفات إلى الغير والميل إلى النفس (وَاسْتَغْفِرُوهُ) بالتنصل

عن الهيئات المادية والتجرّد عن الصفات البشرية ليستر بنور صفاته ذنوب صفاتكم (وَوَيْلٌ) للمحتجبين بالغير.

[٧ ـ ٨] (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

(الَّذِينَ) لا يزكون أنفسهم بمحو صفاتها ليرتفع حجاب الغيرية فتتحقق بالوحدة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لسترهم النور الفطري المقتضي الشوق إلى عالم القدس ومعدن الحياة الأبدية بظلمات الحسّ وهيئات الطبيعة البدنية.

[٩ ـ ١١] (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١))

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي : في حادثين كما ذكر أنّ اليوم معبّر به عن الحادث لنسبته إليه في قولهم : الحوادث اليومية لتشابههما في الظهور والخفاء ، وهما الصورة والمادّة (وَبارَكَ فِيها) أي : أكثر خيرها (وَقَدَّرَ فِيها) معايشها وأرزاقها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) هي الكيفيات الأربع والعناصر الأربعة التي خلق منها المركبات بالتركيب والتعديل (سَواءً) مستوية بالامتزاج والاعتدال للطالبين للأقوات والمعايش ، أي : قدّرها لهم (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إلى إيجادها وثم للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه ، واختلافهما في الجهة والجوهر لا للتراخي في الزمان إذ لا زمان هناك (وَهِيَ دُخانٌ) أي : جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي : تعلق أمره وإرادته بإيجادهما فوجدتا في الحال معا كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله ، وهو من باب التمثيل إذ لا قول ثمة.

[١٢ ـ ١٩] (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ

بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩))

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي : المادة والصورة كالأرض (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي : أشار إليها بما أراد من حركتها وتأثيرات ملكوتها وتدبيراتها وخواص كوكبها وكل ما يتعلق بها.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : السطح الذي يلينا من فلك القمر (بِمَصابِيحَ) الشهب (وَ) حفظناها (حِفْظاً) من أن تنخرق بصعود البخارات إليها ووصول القوى الطبيعية الشيطانية إلى ملائكتها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب على أمره كيف يشاء (الْعَلِيمِ) الذي أتقن صنعه بعلمه ، أو أإنكم لتكفرون وتحتجبون بالغواشي البدنية عن الذي خلق أرض البدن وجعلها حجاب وجهه في يومين أي شهرين أو حادثين مادة وصورة ، وتجعلون له أندادا بوقوفكم مع الغير ونسبتكم التأثير إلى ما لا وجود له ولا أثر ، ذلك الخالق هو الذي يربّ العالمين بأسمائه وجعل فيها رواسيالأعضاء من فوقها أو رواسي الطبائع الموجبة للميل السفلي من القوى العنصرية والصور الماديّة التي تقتضي ثباتها على حالها ، وبارك فيها بتهيئة الآلات والأسباب والمزاجات والقوى التي تتم بها لمقته وأفعاله وقدّر فيها أقواتها بتدبير الغاذية وأعوانها وتقدير مجاري الغذاء وأمور التغذية وأسبابها وموادّها في تتمة أربعة أشهر ، أي : جميع ذلك في أربعة أشهر سواء متساوية أو في مواد العناصر الأربعة ، ثم استوى أي : بعد ذلك قصد قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شيء آخر ، إلى سماء الروح وتسويتها وهي دخان أي : مادة لطيفة من بخارية الأخلاط ولطافتها مرتفعة من القلب. وقد جاءفي الحديث : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقيّ أم سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ويعضده». حديث آخر في أنّ نفخ الروح في الجنين يكون بعد أربعة أشهر من وقت الحمل.

فقال لها ولأرض البدن : ائتيا ، أي : تعلقت إرادته بتكوينهما وصيرورتهما شيئا واحدا وخلقا جديدا ، فتكونا على ما أراد من الصورة وهذا معنى خلوّ الأرض قبل السماء غير مدحوّة ودحوها بعده. فإن المادة البدنية وإن تخلقت بدنا قبل اتصال الروح وانتفاخه فيها لكن الأعضاء لم تنبسط ولم ينفتق بعضها من بعض إلا بعده ، فقضاهنّ سبع سموات ، أي : الغيوب السبعة المذكورة من القوى والنفس والقلب والسرّ والروح والخفاء ، والحق الذي أدرج هويته في هوية الشخص الموجود وتنزل بإيجاده في هذه المراتب واحتجب بها وإن جعلت السبعة من المخلوقات حتى تخرج الهوية من جملتها فإحداها وهي الرابعة بين القلب ، والسرّ العقل ،

وهي السماء الدنيا باعتبار دنوّها من القلب الذي به الإنسان إنسانا في يومين في شهرين آخرين ، فتمّ مدة الحمل ستة أشهر أو مدة خلق الإنسان ، ولهذا إذا ولد بعد تمام الستة على رأس الشهر السابع عاش مستوي الخلق أو في طورين مجرّدة وغير مجرّدة أو حادثين روح وجسد والله أعلم. وأوحى في كل سماء من الطبقات المذكورة أمرها وشأنها المخصوص بها من الأعمال والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات والمواصلات والمناغيات والتجليات. وزيّنا السماء الدّنيا : أي العقل بمصابيح الحجج والبراهين وحفظناها من استراق شياطين الوهم والخيال ، كلام الملأ الأعلى من الروحانيات بالترقي إلى الأفق العقلي واستفادة الصور القياسية لترويج أكاذيبها وتخيلاتها بها.

[٢٠ ـ ٢٩] (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) أي : غيّرت صور أعضائهم وصوّرت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدّلت جلودهم وأبشارهم ، فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) إذ لا يخلو شيء ما من النطق ، ولكنّ الغافلين لا يفهمون (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي : قدّرنا لهم أخدانا وأقرانا من شياطين الأنس والجنّ من الوهوم والتخيل لتباعدهم من الملأ الأعلى ، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية بانغماسهم في الموادّ الهيولانية ، واحتجابهم بالصفات النفسانية ، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية ، فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة ، والكدرة المظلمة ، وخالفوا الجواهر القدسية والذوات المجرّدة ، فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية والشهوات الطبيعية (وَما خَلْفَهُمْ)

من الآمال والأماني التي لا يدركونها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) في القضاء الإلهيّ بالشقاء الأبديّ كائنين (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ) المكذبين بالأنبياء والمحجوبين عن الحق من الباطنيين والظاهريين (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لخسرانهم نور الاستعداد الأصلي ، وربح الكمال الكسبي ، ووقوعهم في الهلاك الأبديّ والعذاب السرمديّ.

(رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) أي : حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلّهم من الفريقين عند وقوع العذاب وتمنوا أن يكونوا في أشدّ من عذابهم وأسفل من دركاتهم لما لقوا من الهوان وألم النيران وعذاب الحرمان والخسران بسببهم وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم وأنزل مراتبهم ، كما ترى من وقع في البليّة بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها يتجرّد عليه ويتغيظ ويكاد أن يقع فيه مع غيبته ويتحرّق.

[٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : وحدوه بنفي غيره وعرفوه بالإيقان حق معرفته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) إليه بالسلوك في طريقه والثبات على صراطه مخلصين لأعمالهم عاملين لوجهه ، غير ملتفتين بها إلى غيره (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي والإيمان اليقيني والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه ، غير ناكثين في عزيمة ولا منحرفين عن وجهه ولا زائغين في عمل كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة فتنزّلت عليهم (أَلَّا تَخافُوا) من العقاب لتنوّر ذواتكم بالأنور وتجرّدها عن غواسق الهيئات (وَلا تَحْزَنُوا) بفوات كمالاتكم التي اقتضاها استعدادكم (وَأَبْشِرُوا) بجنّة الصفات (الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) حال الإيمان بالغيب أو قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) بالفناء فيه ثم استقاموا به بالبقاء بعد الفناء عند التمكين (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) للتعظيم عند الرجوع إلى التفصيل ، إذ في حال الفناء لا وجود للملائكة ولا لغيرهم ، ألّا تخافوا من التلوين ولا تحزنوا على الاستغراق في التوحيد ، فإن أهل الوحدة إذا ردّوا إلى التفصيل ورؤية الكثرة غلب عليهم الحزن والوجد في أول الوهلة لفوات الشهود الذاتي في عين الجمع والاحتجاب بالتفصيل حتى يتمكنوا في التحقق بالحق حال البقاء وانشراح الصدر بنور الحق فلا تحجبهم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة ، شاهدين في تفاصيل الصفات عين الذات بالذات ، كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام في هذه الحال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)) (١) وأبشروا بجنّة الذات

__________________

(١) سورة الشرح ، الآيات : ١ ـ ٣.

الشاملة لجميع مراتب الجنان التي كنتم توعدونها في مقام تجلّيات الصفات.

[٣١ ـ ٣٣] (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) وأحباؤكم في الدارين للمناسبة الوصفية والجنسية الأصلية بيننا وبينكم ، كما أن الشياطين أولياء المحجوبين لما بينهم من الجنسية والمشاركة في الظلمة والكدورة (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من المشاهدات والتجليات والروح والريحان والنعيم المقيم أي : إذا بلغتم الكمال الذي هو مقتضى استعدادكم فلا شوق لكم إلى ما غاب عنكم ، بل كل ما تشتهون وتتمنون فهو مع الاشتهاء والتمني حاضر لكم في الجنان الثلاث (نُزُلاً) معدّا لكم (مِنْ غَفُورٍ) ستر لكم بنوره ذنوب آثاركم وأفعالكم وصفاتكم وذواتكم (رَحِيمٍ) رحمكم بتجليّات أفعاله وصفاته وذاته وإبدالكم بها إياها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) أي : حالا إذ كثيرا ما يستعمل القول بمعنى الفعل والحال منه ، قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) أي : جعلوا دينهم التوحيد ، ومنهالحديث : «هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا ...» أي : أعطى. (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : ممن أسلم وجهه إلى الله في التوحيد وعمل بالاستقامة والتمكين ، ودعا الخلق إلى الحق للتكميل ، فقدّم الدعوة إلى الحق والتكميل لكونه أشرف المراتب ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي ، وإلا لما صحت الدعوة وإن صحت ما كانت إلى الله ، أي : إلى ذاته الموصوفة بجميع الصفات ، فإن العالم الغير العامل إن دعا كانت دعوته إلى العليم ، والعامل الغير العالم إلى الغفور الرحيم ، والعالم العامل العارف الكامل صحّت دعوته إلى الله.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥))

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) لكون الأولى من مقام القلب تجرّ صاحبها إلى الجنّة ومصاحبة الملائكة ، والثانية من مقام النفس تجرّ صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إذا أمكنك دفع السيئة من عدوّك بالحسنة التي هي أحسن ، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها ، فكيف بالسيئة؟! ، فإن السيئة لا تندفع بالسيئة بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب ، فإن قابلتها بمثلها كنت منحطا إلى مقام النفس ، متّبعا للشيطان ، سالكا طريق النار ، ملقيا لصاحبك في الأوزار وجاعلا له ولنفسك من جملة الأشرار ، متسببا لازدياد الشرّ معرضا

عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة سكنت شرارته وأزلت عداوته وتثبت في مقام القلب على الخير ، وهديت إلى الجنة وطردت الشيطان ، وأرضيت الرحمن وانخرطت في سلك الملكوت ومحوت ذنب صاحبك بالندامة. وإن دفعتها بالتي هي أحسن ناسبت الحضرة الرحيمية بالرحموت وصرت باتصافك بصفاته تعالى من أهل الجبروت وأفضت من ذاتك فيض الرحمة على صاحبك فصار (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ولأمر ماقال النبي عليه‌السلام : «لو جاز أن يظهر البارئ لظهر بصورة الحلم» ، ولا يلقى هذه الخصلة الشريفة والفضيلة العظيمة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) مع الله ، فلم يتغيروا بزلّة الأعداء لرؤيتهم منه تعالى وتوكلهم عليه واتّصافهم بحلمه أو طاعتهم لأمره (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الله بالتخلّق بأخلاقه.

[٣٦] (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ينخسنك نخس بالمقابلة بالسيئة وداعية بالانتقام وهيجان من غضبك (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) بالرجوع إلى جنابه واللجوء إلى حضرته من شرّه ووسوسته ونزغه بالبراءة عن أفعالك وصفاتك والفناء فيه عن حولك وقوّتك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما هجس ببالك من أحاديث نفسك وأقوالك (الْعَلِيمُ) بنياتك وما بطن من أحوالك.

[٣٧ ـ ٣٩] (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

(وَمِنْ آياتِهِ) ليل ظلمة النفس بظهور صفاتها الساترة للنور لتقعوا في السيئات وتستعدّوا لقبول الوساوس الشيطانية ونهار نور الروح بإشراق أشعتها من القلب إلى النفس ، فتباشروا الحسنات وتدفعوا السيئات بها وتمتنعوا عن قبول الوساوس وتتعرّضوا للنفحات وشمس الروح وقمر القلب (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) بالفناء فيه والوقوف معه والاحتجاب به عن الحق (وَلا لِلْقَمَرِ) بالوقوف مع الفضائل والكمالات والنبوّ إلى جنّة الصفات (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) بالفناء في الذات (إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، مخصصين العبودية به دون غيره لا مشركين ولا محجوبين (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الفناء فيه بظهور الأنانية والطغيان والاستعلاء بصفات النفس والعدوان (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ) بالتجريد والتنزيه عن حجب ذواتهم وصفاتهم دائما بليل الاستتار في مقام التفصيل ونهار التجلي في مقام الجمع (لا يَسْأَمُونَ) لكونهم قائمين بالله ذاكرين بالمحبة الذاتية.

[٤٠ ـ ٤٣] (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ

مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي : يميلون ويزيغون فيها من طريق الحق إلى الباطل فينسبونها إلى غير الحق لاحتجابهم عنه ويتلونها بأنفسهم فيفهمون منها ما يناسب صفاتهم (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وإن خفينا عنهم (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) منيع محميّ عن أن يمسّه ويفهمه النفوس الخبيثة المحجوبة فتغيره ويطلع عليه المبطلة فتبطله لبعده عن مبالغ عقولهم وما اعتقدوه من باطلهم إذ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ) جهة من الجهات لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشدّ إحكاما في كونه حقا وصدقا ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله ويغيّرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق ، كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) (١).

[٤٤ ـ ٥٢] (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي : هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق وتبصرهم بالمعرفة وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل كالنفاق والشك أي : تبصرهم بطريق النظر والعمل فتعلمهم وتزكّيهم (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من المحجوبين لا يسمعونه ولا يفهمونه بل يشتبه عليهم ويلتبس لاستيلاء الغفلة عليهم وسدّ الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية طرق

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٩.

أسماع قلوبهم وأبصارها فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا كالذي ينادي من مكان بعيد لبعدهم عن منبع النور الذي يدرك به الحق ويرى ، وانهماكهم في ظلمات الهيولى.

[٥٣] (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣))

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي : نوفقهم للنظر في تصاريفنا للممكنات وأحوالها (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) بطريق الاستدلال واليقين البرهاني (أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) للذين شاهدوه من أهل العيان (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر مطلع ، أي : لم يكف شهوده على مظاهر الأشياء في معرفته وكونه الحق الثابت دون غيره حتى تحتاج إلى الاستدلال بأفعاله أو التوسل بتجليات صفاته وهذا هو حال المحبوب المكاشف بالجذب قبل السلوك ، والأول حال المحبّ السالك المجاهد لطلب الوصول.

[٥٤] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) لاحتجابهم بالكون عن المكوّن والمخلوق عن الخالق (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) لا يخرج عن إحاطته شيء وإلا لم يوجد ، إذ حقيقة كل شيء عين علمه تعالى ووجوده به ، وعلمه عين ذاته وذاته عين وجوده ، فلا يخرج شيء عن إحاطته إذ لا وجود لغيره ولا عين ولا ذات (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) (٢).

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة الرحمن ، الآيات : ٢٦ ـ ٢٧.

سورة حم عسق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

(حم* عسق) أي : الحق ظهر بمحمد ظهور علمه بسلامة قلبه ، فالحق محمد ظاهرا وباطنا ، والعلم سلامة قلبه عن النقص والآفة أي : كماله وبروزه عن الحجاب إذ تجرّد القلب ظهور العلم (كَذلِكَ) مثل ذلك الظهور على مظهرك وظهور علمه على قلبك (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء (اللهُ) الموصوف بجميع صفاته (الْعَزِيزُ) المتمنع بسرادقات جلاله وستور صفاته (الْحَكِيمُ) الذي يظهر كماله بحسب الاستعدادات ويهدي بالوسائط والمظاهر جميع العباد على وفق قبول الاستعداد.

[٤ ـ ٧] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلها مظاهر صفاته وصور مملكته ومحالّ أفعاله (وَهُوَ الْعَلِيُ) عن التقيّد بصورها والتعين بأعيانها (الْعَظِيمُ) الذي تضاءلت وتصغّرت في سلطانه وتلاشت وتفانت في عظمته (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) لتأثرهنّ من تجليات عظمته ويتلاشين من علوّ قهره وسلطنته (وَالْمَلائِكَةُ) من العقول المجرّدة والنفوس المدّبرة (يُسَبِّحُونَ) ذاته بتجرّد ذواتهم حامدين له بكمالات صفاتهم (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بإفاضة الأنوار على أعيانهم ووجوداتهم بعد استفاضتهم إياها من الحضرة الأحدية (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ) بستر ظلمات ذوات الكل من الملائكة والناس بنور ذاته (الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمالات بتجليات صفاته على وجوداتهم لا غيره.

[٨ ـ ١٢] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ

شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) كلهم على الفطرة موحدين بناء على القدرة ولكن بنى أمره على الحكمة فجعل بعضهم موحدين عادلين وبعضهم مشركين ظالمين كما قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١) لتتميز المراتب وتتحقق السعادة والشقاوة وتمتلئ الدنيا والآخرة والجنة والنار ويحصل لكل أهل ويستتب النظام ويحدث الانتظام (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لا ولاية لهم في الحقيقة إذ لا قدرة ولا قوة ولا وجود (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) دون غيره لتوليه كل شيء وسلطانه وحكمه (وَهُوَ) المحيي القادر ، فكيف تستقيم ولاية غيره (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) بفناء الأفعال ، فلا أقابل أفعالكم بفعلي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) بفناء صفاتي ، فلا أظهر بصفة من صفاتي في مقابلة صفات نفوسكم.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : كل الأشياء فانية فيه هالكة ، فلا شيء يماثله في الشيئية والوجود (وَهُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع به كل من يسمع (الْبَصِيرُ) الذي يبصر به كل من يبصر جمعا وتفصيلا يفني الكل بذاته ويبدئهم بصفاته ، بيده مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت ، يبسط ويقدّر بمقتضى علمه على من يشاء من خلقه بحسب مصالحهم في الغنى والفقر.

[١٣ ـ ١٤] (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) المطلق الذي وصى جميع الأنبياء بإقامته واجتماعهم عليه وعدم تفرّقهم فيه ، وهو أصل الدين ، أي : التوحيد والعدل وعلم المعاد المعبّر عنه بالإيمان بالله واليوم الآخر دون فروع الشرائع التي اختلفوا فيها بحسب المصالح كأوضاع الطاعات والعبادات والمعاملات ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٢) ، فالدين القيم

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤٨.

هو المتعلق بما لا يتغير من العلوم والأعمال ، والشريعة هي المتعلقة بما يتغير من القواعد والأوضاع (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) المحجوبين عن الحق بالغير (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد لكونهم أهل المقت ومظاهر الغضب والقهر ، ليسوا من المحجوبين الذين اجتباهم الله بمحض عنايته ومجرد مشيئته ولا من المحبين الذين وفّقهم الله للإنابة إليه بالسلوك والاجتهاد والسير فيه بالشوق والافتقار ، فهداهم إليه بنور وجهه وجمال ذاته ، فجذب المحبوبين إليه قبل السلوك والرياضة بسابقة الاجتباء ، وخصّ المحبين بعد التوفيق بالسلوك فيه والرياضة بالاصطفاء وطرد المحجوبين عن بابه وأبعدهم عن جنابه بسابقة كلمة القضاء عليهم بالشقاء.

[١٥] (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

(فَلِذلِكَ) التفرّق في الدين (فَادْعُ) إلى التوحيد (وَاسْتَقِمْ) في التحقق بالله والتعبّد حق العبودية وأنت على التمكين ولا تظهر نفسك بصفة عند إنكارهم واستمالتهم إياك في موافقتهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المتفرّقة بالتلوين فيضلك عنالتوحيد.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : اطلعت على كمالات جميع الأنبياء وجمعت في علومهم ومقاماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ، فكمل توحيدي وصرت حبيبا لكمال محبتي ، ورسخت في نفسي ، فتمت عدالتي وهذا معنى قوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) هو التثبيت في مقام التوحيد والتحقيق (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) صورة الاستقامة والتمكين في العدالة (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) كمال المحبة والصفاء لاقتضاء مقام التوحيد النظر إليهم بالسواء (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) في القيامة الكبرى والفناء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في العاقبة للجزاء.

[١٦] (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) لاحتجابهم بنفوسهم (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) بالاستسلام والانقياد لدينه وقبول التوحيد بسلامة الفطرة (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) لكونها ناشئة من عند أنفسهم لا أصل لها عند الله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لاستحقاقهم لذلك بظهور غضبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لحرمانهم.

[١٧ ـ ١٨] (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : العلم التوحيدي بالمحبة التي اقتضت استحقاقه لذلك فكان حقا له (وَالْمِيزانَ) أي : العدل ، وإذا حصل العلم والتوحيد في الروح والمحبة في القلب والعدل في النفس قرب الفناء في الله ووقوع القيامة الكبرى.

[١٩] (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يلطف بهم في تدبير إيصال كمالاتهم إليه وتهيئة أسبابه وتوفيقهم للأعمال المقرّبة لهم إليها (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) العلم الوافر بحسب عنايته به في هيئة استعداده له ، (وَهُوَ الْقَوِيُ) القاهر (الْعَزِيزُ) الغالب ، يمنع من يشاء بمقتضى عدله وحكمته ولكل أحد نصيب من اللطف والقهر لا يخلو أحد منهما وإنما تتفاوت الأنصباء بحسب الاستعدادات والأسباب والأعمال والأحوال.

[٢٠ ـ ٢٢] (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) بقوة إرادته وشدّة طلبه لزيادة نصيب اللطف وتوجهه وإقباله إلى الحق لحيازة القرب (نَزِدْ لَهُ) في نصيبه ، فنصلح حال آخرته ودنياه لأن الدنيا تحت الآخرة وظلها ومثالها وصورتها تتبعها (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) وأقبل بهواه إلى جهة السفل وتعلق همّه بزيادة نصيب القهر وبعد عن الحق (نُؤْتِهِ مِنْها) ما هو نصيبه وما قسم له وقدر لا مزيد عليه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لإعراضه عنها وعقد همّه بالأدون ووقوفه معه وجعله حجابا للاشراف وإدباره عن النصيب الأوفر ، فلا يتهيأ لقبوله ولا يستعد لحصوله إذ الأصل لا يتبع الفرع.

[٢٣ ـ ٣٦] (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)

وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) استثناء منقطع وفي القربى متعلق بمقدر أي : المودة الكائنة في القربى. ومعناه : نفي الأجر أصلا لأن ثمرة مودّة أهل قرابته عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم ، إذ المودة تقتضي المناسبة الروحانية المستلزمة لاجتماعهم في الحشر ، كماقال عليه الصلاة والسلام : «المرء يحشر مع من أحبّ» فلا تصلح أن تكون أجرا له ولا يمكن من تكدّرت روحه وبعدت عنهم مرتبته محبتهم بالحقيقة ، ولا يمكن من تنوّرت روحه وعرف الله وأحبه من أهل التوحيد أن لا يحبهم لكونهم أهل بيت النبوّة ومعادن الولاية والفتوة محبوبين في العناية الأولى ، مربوبين للمحل الأعلى فلا يحبهم إلا من يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ولو لم يكونوا محبوبين من الله في البداية لما أحبّهم رسول الله إذ محبته عين محبته تعالى في صورة التفصيل بعد كونه في عين الجمع وهم الأربعة المذكورون في الحديث الآتي بعد ، ألا ترى أن له أولادا آخرين وذوي قرابات في مراتبهم كثيرين لم يذكرهم ولم يحرض الأمّة على محبتهم تحريضهم على محبة هؤلاء وخص هؤلاء بالذكر.

روي أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟قال : «عليّ وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما». ثم لما كانت القرابة تقتضي المناسبة المزاجية المقتضية للجنسية الروحانية كان أولادهم السالكون لسبيلهم ، التابعون لهديهم في حكمهم ، ولهذا حرّض على الإحسان إليهم ومحبتهم مطلقا ونهى عن ظلمهم وإيذائهم ووعد على الأول ونهى عن الثاني. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرّمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع ضيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة». وقال عليه‌السلام : «من مات على حبّ آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيدا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب محمد وآل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد

فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنة».

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) بمحبة آل الرسول (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) بمتابعته لهم في طريقتهم لأن تلك المحبة لا تكون إلا لصفاء الاستعداد وبقاء الفطرة ، وذلك يوجب التوفيق لحسن المتابعة وقبول الهداية إلى مقام المشاهدة ، فيصير صاحبها من أهل الولاية ويحشر معهم في القيامة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) بتنويره ظلمة صفات من أحبّ أهله (شَكُورٌ) لسعي من ناسبهم فيحبهم بتضعيف جزاء حسناته وإفاضة كمالاته بتجليات صفاته ليوافقهم (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي : لا يفتري على الله إلا من هو مختوم القلب مثلهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) كلام مبتدأ ، أي : ومن عادة الله أن يمحو الباطل (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وقضائه إن كان افتراء يمحه ويثبت نقيضه وإن كان الافتراء ما يقولون فكذلك (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) لكونه أشرف وأدوم (لِلَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني ولا يتوكلون إلا على ربّهم بفناء الأفعال أي الذين علمهم اليقين وعملهم التوكل بالانسلاخ عن أفعالهم.

[٣٧ ـ ٥٠] (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) التي هي وجوداتهم وهو أخسّ صفات نفوسهم التي تظهر بأفعالها في مقام المحو (وَإِذا ما غَضِبُوا) في تلويناتهم (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : الأخصاء بالمغفرة دون غيرهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) بلسان الفطرة الصافية إذا دعاهم إلى التوحيد بتجلي نور الوحدة (وَأَقامُوا) صلاة المشاهدة ولم يحتجبوا بآرائهم وعقولهم بل (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) لعلمهم أن لله مع كل أحد شأنا وإليه نظرا وفيه سرّا ليس لغيره ذلك الشأن والنظر والسرّ (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) بالتكميل (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) بالعدالة احترازا عن الذلّة والانظلام لكونهم في مقام الاستقامة ، قائمين بالحق والعدل الذي ظله في نفوسهم.

[٥١ ـ ٥٢] (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢))

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي : إلا بثلاثة أوجه ، إما بوصوله إلى مقام الوحدة والفناء فيه ثم التحقق بوجوده في مقام البقاء فيوحي إليه بلا واسطة كما قال الله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)) (١). (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بكونه في حجاب القلب ومقام تجليات الصفات فيكلمه على سبيل المناجاة والمكالمة والمكاشفة والمحادثة دون الرؤية لاحتجابه بحجاب الصفات كما كان حال موسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من الملائكة فيوحي إليه على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام أو الهتاف أو المنام كماقال عليه‌السلام : «إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» ، (إِنَّهُ عَلِيٌ) أن يواجه ويخاطب ، بل يفنى ويتلاشى من يواجهه لعلوه من أن يبقى معه غيره ويحتمل شيء حضوره (حَكِيمٌ) يدبّر بالحكمة وجوه التكليم ليظهر علمه في تفاصيل المظاهر ويكمل به عباده ويهتدوا إليه ويعرفوه.

ومثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً) تحيا به القلوب الميتة (مِنْ) عالم (أَمْرِنا) المنزّه عن الزمان المقدّس عن المكان (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) أي العقل الفرقاني الذي هو كمالك الخاص بك (وَلَا الْإِيمانُ) أي : الخفي الذي حصل لك عند البقاء بعد الفناء حال كونك محجوبا بغواشي نشأتك وحال وصولك لفنائك وتلاشي وجودك (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) عند استقامتك (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) المخصوصين بالعناية الأزلية ، إما المحبوبين وإما المحبين (وَإِنَّكَ) أيّها الحبيب (لَتَهْدِي) بنا من تشاء (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٨ ـ ١٠.

لا يبلغ كنهه ولا يدرى وصفه.

[٥٣] (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(صِراطِ اللهِ) المخصوص به ، أي : طريق التوحيدي الذاتي الشامل للتوحيد الصفاتي والأفعالي المسمى توحيد الملك ، أعني سير الذات الأحدية مع جميع الصفات الظاهرة والباطنة بمالكية سموات الأوراح وأرض الجسم المطلق (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) بالفناء فيه ، فينادي بذاته : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١) ويجيب هو نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١ ـ ٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

سورة الزخرف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)) أقسم بأول الوجود وهو الحق وآخره وهو محمد وما أجل قسما بما هو أصل الكل وكماله ، ولهذا كانت الشهادة بهما أساس الإسلام وعماد الإيمان والجمع بينهما هو المذهب الحق والملّة القويمة. فإنّ أحدية الوجود والتأثير هو الجبر وإثبات التفصيل في الوجود والتأثير هو القدر ، والجمع بينهما بقولنا : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، هو الصراط المستقيم ، والدّين المتين. أو بما يناسب الكتاب وهو اللوح والقلم لقوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)) (١) وقد يكنى عن الكلمة بآخرها كما يكنى عنها بأولها. فعلى الوجه الأول يمكن أن يؤوّل الكتاب بنفس محمد لكونه مبينا للحق جمعا وتفصيلا وكونه منزّلا من عند الله (قُرْآناً) أي : جامعا لجميع تفاصيل الوجود ، حاصرا للصفات الإلهية والمراتب الوجودية والكمالية (عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما نخاطبكم به.

[٤] (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤))

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي : أصل الوجود في الرتبة الأولى وأول نقطة الوجود الإضافي الممتاز بالتعين الأول عن الوجود المطلق التالي للهوية المحضة المشار إليه بقوله : (لَدَيْنا لَعَلِيٌ) رفيع القدر بحيث لا رفعة وراءها (حَكِيمٌ) ذو الحكمة إذ به ظهرت صور الأشياء وحقائقها أعيانها وصفاتها وترتيب الموجودات ونظامها على ما هي عليه. وأما على الوجه الثاني فلا يستقيم هذا التأويل ، بل هو القرآن المبين للتوحيد والتفصيل الدال عليهما ، المقسم به إجمالا وإنه في أمّ الكتاب أي : الروح الأعظم المشتمل على كل العلوم بل كل الأشياء لدينا قريبا منا أقرب من سائر العلوم الحاصلة في مراتب التنزلات. فإن العلم اللدني هو الذي انتقش في الروح الذي هو أول الأرواح قبل تنزّله في المراتب ، وكون القرآن ذا الحكمة كونه مشتملا على الحكمة النظرية المفيدة للاعتقادات الحقّة من التوحيد والنبوّة وبيان أحوال المعاد وأمثالها ، فالحكمة العملية من بيان أحكام أفعال المكلفين كالشرائع وكيفية السلوك في المراتب وأحوال المكاسب والمواهب.

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ١.

[٥ ـ ١٤] (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي : أنهملكم ونصرف الذكر عنكم لإسرافكم وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف ، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط ، ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) (١).

[١٥ ـ ١٩] (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي : اعترفوا بأنه خالق السموات والأرض ومبدعهما وفاطرهما وقد جسموه وجزءوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع لكونهم ظاهريين جسمانيين لا يتجاوزون عن رتبة الحسّ والخيال ولا يتجرّدون عن ملابس الجسمانيات ، فيدركون الحقائق المجردة والذوات المقدّسة فضلا عن ذوات الله تعالى ، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئا جسمانيا ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد ، إذ لا يتعدّى إدراكهم الحياة الدنيا وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش فلا مناسبة أصلا بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية ، فلا حاجة إلى ما وراءها. ولما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها إما باعتبار اللفظ ، وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية توهموا أنوثتها في الحقيقة التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصاصها بالله فجعلوها بنات ، وقلما يعتقدها العامي إلا صور إنسية لطيفة في غاية الحسن.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٣.

[٢٠ ـ ٣٠] (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار ، وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان بل على سبيل العناد والإفحام ، ولهذا ردّهم الله تعالى بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين لا ينسبون التأثير إلا إلى الله فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرا (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل حين عظموهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم كما قال قوم هود : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (١) ، ولما خوّفوا إبراهيم عليه‌السلام كيدهم أجاب بقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) (٢) إلى قوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) (٣).

[٣١ ـ ٣٥] (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ) إلى آخره ، لما لم يكونوا أهل معنى ولا حظ لهم إلا من الصورة لم يتصوروا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا يعظمونه به إذ لا مال له ولا حشمة ولا جاه عندهم ، وعظم في أعينهم الوليد بن المغيرة وأضرابه كأبي مسعود الثقفي وغيره لمكان حشمتهم ومالهم وخدمهم ، فاستخفوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : لا يناسب حاله اصطفاء الله إياه

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٨٠.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٨١.

وكرامته عنده ، ولو كان هذا القرآن من عند الله لاختار له رجلا عظيما كالوليد وأبي مسعود فأنزل عليه لتناسب حاله عظمة الله ، فردّهم الله لأنهم ليسوا بقاسمي رحمة الدين والهداية التي لا حظ لهم منها ولا معرفة لهم بها ، بل ليسوا بقاسمي ما هم يعرفونه ويتصرّفون فيه من المعيشة والحطام الدنيوي الذي يتهالكون على كسبه ولا يقصدون إلا إيّاه ، فكيف بما لم يشموا عرفه ولم يعرفوا حاله.

[٣٦] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) قرئ : يعش بضم الشين وفتحها ، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشي لعارض أو متعمدا من غير آفة في بصره ، وعشي إذا أيف بصره. فعلى الأول معناه : ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة الإدراك ذكر الرّحمن أي : القرآن النازل من عنده وفهم معناه وعلم كونه حقا فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغى وحسد أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته لاحتجابه بالغواشي الطبيعية واشتغاله باللذات الحسيّة عنه ، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نقيض له شيطانا جنيّا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات وحرص عليه من الزخارف أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه ، أو إنسيا يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه : ومن أيف استعداده في الأصل وشقي في الأزل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر وقصر عن فهم معناه نقيض له شيطانا من نفسه أو من جنسه يقارنه في ضلالته وغوايته.

[٣٧ ـ ٣٨] (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨))

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) وإنّ الشياطين يصدّون قرناءهم عن طريق الوحدة وسبيل الحق (وَيَحْسَبُونَ) الهداية فيما هم عليه (حَتَّى إِذا جاءَنا) أي : حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق وزين له ما وقع بسببه في العذاب واستوحش من قرينه واستذمه لعدم الوصلة الطبيعية أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.

[٣٩ ـ ٦٥] (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا

أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥))

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذ ثبت وصح ظلمكم لاشتراككم في سببه ، أو : ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدّته وإيلامه (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي : أنّ عيسى عليه‌السلام مما يعلم به القيامة الكبرى وذلك أن نزوله من أشراط الساعة. قيلفي الحديث : «ينزل على ثنية من الأرض المقدسة اسمها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس ويدخل بيت المقدس والناس في صلاة الصبح ، فيتأخر الإمام فيقدّمه عيسى عليه‌السلام ويصلي خلفه على دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم». فالثنية المسماة أفيق إشارة إلى مظهره الذي يتجسد فيه ، والأرض المقدسة إلى المادة الطاهرة التي يتكون منها جسده ، والحربة إشارة إلى صورة القدرة والشوكة التي تظهر فيها. وقتل الدجال بها إشارة إلى غلبته على المتغلب المضلّ الذي يخرج هو في زمانه. وكسر الصليب وهدم البيع والكنائس إشارة إلى رفعه للأديان المختلفة. ودخوله بيت المقدس إشارة إلى وصوله إلى مقام الولاية الذاتية في الحضرة الإلهية الذي هو مقام القطب. وكون الناس في صلاة الصبح إشارة إلى اتفاق المحمديين على الاستقامة في التوحيد عند طلوع صبح يوم القيامة الكبرى بظهور نور شمس الوحدة. وتأخر الإمام إشارة إلى شعور القائم بالدين المحمدي في وقته بتقدّمه على الكل في الرتبة لمكان قطبيته وتقديم عيسى عليه‌السلام إياه واقتداؤه به على

الشريعة المحمدية إشارة إلى متابعته للملّة المصطفوية وعدم تغييره للشرائع وإن كان يعلمهم التوحيد العياني ويعرفهم أحوال القيامة الكبرى وطلوع الوجه الباقي ، هذا إذا كان المهدي عيسى بن مريم على ماروي في الحديث : «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» ، وإن كان المهدي غيره فدخوله بيت المقدس وصوله إلى محل المشاهدة دون مقام القطب والإمام الذي يتأخر هو المهدي ، وإنما يتأخر مع كونه قطب الوقت مراعاة لأدب صاحب الولاية مع صاحب النبوة ، وتقديم عيسى عليه‌السلام إياه لعلمه بتقدمه في نفس الأمر لمكان قطبيته وصلاته خلفه على الشريعة المحمدية اقتداؤه به تحقيقا للاستفاضة منه ظاهرا وباطنا والله أعلم.

وإنما قال : (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لأن الطريقة المحمدية هي صراط الله لكونه باقيا به بعد الفناء فدينه دين الله وصراطه صراط الله واتباعه اتباع الله ، فلا فرق بين قوله : (وَاتَّبِعُونِ) ، وقوله : واتبعوا رسولي. ولهذا كان متابعته تورث محبة الله إذ طريقه هي طريق الوحدة الحقيقية التي لا استقامة إلا لها ولهذا لم يسع عيسى إلا اتباعه عند الوصول إلى الوحدة وارتفاع الاثينية يوجب المحبة الحقيقية.

[٦٦ ـ ٧٦] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦))

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أي : ظهور المهدي دفعة وهم غافلون عنه (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الخلة ، إما أن تكون خيرية أو لا ، والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ، والغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي. والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل لقربها من الحضرة الأحدية وتساويها في الحضرة الواحدية التي قال فيها : فما تعارف منها ائتلف ، فهم إذا برزوا في هذه النشأة واشتاقوا إلى أوطانهم في القرب وتوجهوا إلى الحق وتجردوا عن ملابس الحس ومواد الرجس ، فلما تلاقوا تعارفوا وإذا تعارفوا تحابوا لتجانسهم الأصلي وتماثلهم الوضعي وتوافقهم في الوجهة والطريقة ، وتشابههم في السيرة والغريزة وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية التي هي سبب العداوة ، وانتفع كل منهم بالآخر في

سلوكه وعرفانه وتذكره لأوطانه والتذّ بلقائه وتصفّى بصفائه وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأولياء والأنبياء والأصفياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة ، ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ومحبة العرفاء والأولياء إياهم ، ومحبة الأنبياء العامة أممهم. والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأغراض الجزئية كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واجتلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش وتيسير المصالح الدنيوية كمحبة التجار والصناع ومحبة المحسن إليه للمحسن ، فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل زال بزواله وانقلب عند فقدانه عداوة لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه من اللذة المعهودة والنفع المألوف مع عدمه وامتناعه لزوال سببه ، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين أطلق الكلام وقال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) لانقطاع أسباب الوصلة بينهم وانتفاء الآلات البدنية عنهم وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا قد زالت اللذات والشهوات وبقيت العقوبات والتبعات ، فكل يمحق صاحبه ويبغضه لأنه يرى ما به من العذاب منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم كما قال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢).

ولعمري إن القسم الأول أعزّ من الكبريت الأحمر وهم الكاملون في التقوى البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها ، اجتنبوا أولا المعاصي ثم الفضول ثم الأفعال ثم الصفات ثم الذوات ، فما بقيت منهم بقايا حتى يتنافسوا فيها ويضنوا بها عن حبيبهم فيفسد محبتهم ، بل ما بقي منهم إلا نفس الحب. وأما الفريق الثاني فاقتصروا على الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الدنيا وما فيها بالفضل الجسيم فأبقى محباتهم فيما بينهم لبقاء أسبابها وهي الصفات المتماثلة والهيئات المتشابهة في ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخط الله وعقابه ، فهم العباد المرتضون أي كلا القسمين لاشتراكهما في طلب الرضا فلذلك نسبهم إلى نفسه بقوله : يا عباد لا خوف على الفريقين لأمنهم من العقاب ولا هم يحزنون على فوات لذات الدنيا لكونهم على ألذ منها وأبهج وأحسن حالا وأجمل ، وإن تفاوت حالهم في اللذة والسرور والروح والحبور بما لا يتناهى ، وشتان بين محمد ومحمد.

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ١٣.

والجنة التي أمروا بدخولها هي جنة النفس لاشتراك الفريقين فيها دون جنتي الصفات والذات المخصوصتين بالسابقين بدليل قوله بعده : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما الجنة التي هي ثواب الأعمال جنّة النفس لقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

[٧٧ ـ ٨٠] (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

(وَنادَوْا يا مالِكُ) سمي خازن النار مالكا لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)) (١) كما سمّى خازن الجنة رضوانا لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. وقيل : الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وهو الطبيعة الجسمانية الموكلة بأجساد العالم والهيولى الظلمانية أو النفس الحيوانية الكلية الموكلة بالتأثير في الأجساد الحيوانية المستعلية على النفوس الناطقة المحبوسة في قيود اللذات الحسيّة والمطالب السفلية ، وإنما لا يتعذب بالنار لكونه من جوهر تلك النار فهي له جنة ، وللجهنميين نار لتنافي جواهرهم وجوهرها وتباينهما. واختصاص ندائهم بمالك دون الله تعالى لاحتجابهم وبعدهم عن الله بالكلية وتعبّدهم لمالك بالنية والأمنية ، وما ذلك النداء إلا توجههم إليه وطلب المراد منه ودعوتهم بقولهم : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) إشارة إلى تمني زوال بقية الاستعداد بالكلية وإماتة الغريزة الفطرية لئلا يتأذوا بالهيئات المؤذية والنيران المردية ، أو تمني تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدّة التألم بالعذاب الجسماني و (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إشارة إلى المكث المقدّر بحسب رسوخ الهيئات وارتكام الذنوب والآثام إن كانت الاستعدادات باقية والاعتقادات صحيحة أو الخلود فيها إن لم تكن ، فإن المكث أعم من المتناهي وغيره. وكذا المجرم أعم من الشقي الأصلي وغيره ، وعلى هذا حمل الخلود في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) (٢) على المكث الطويل الأعم من المتناهي وغيره ، فإنه قد يستعمل في العرف بمعناه كثيرا مجازا ، وإنما جعلنا المجرم شاملا للقسمين المذكورين من الأشقياء لمقابلته للمتقي الشامل للقسمين المذكورين من السعداء وإن خصصناه بالشقي المردود المطرود في الأزل كان المكث في قوله : (ماكِثُونَ).

(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كل ما خطر فينا بالبال من الأشرار ينتقش في النفوس

__________________

(١) سورة النازعات ، الآيات : ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) سورة الزخرف ، الآية : ٧٤.

الفلكية كما ينتقش في الإنسانية لاتصالها بها وانتقاشها كما هي ، إما في القوى الخيالية إن كانت جزئية وإما في القوى العاقلة إن كانت كلية ، وكلاهما يظهر على النفس عند ذهولها عن الحسّ ورجوعها إلى ذاتها وما كانت تنساها تنعكس إليها من النفوس الفلكية عند المفارقة فتذكرها دفعة وذلك معنى قوله : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١) فالرسل الكاتبون هم النفوس الفلكية المناسبة لكل واحد من الأشخاص البشرية بحسب الوضع المقارن لاتصال النفس بالبدن.

[٨١ ـ ٨٩] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي : لذلك الولد ، وهو إما أن يدل على نفي الولد عن الله بالبرهان وأما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم ، أما دلالته على الأول فلما دلّ قوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) إلى قوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) على نفي التالي وهو عبادة الولد أي : أوحده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلا لشيء لكونه ربّا خالقا للأجسام كلها فلا يكون من جنسها ، فيفيد انتفاء الولد على الطريق البرهاني. وأما دلالته على الثاني : فإذا جعل قوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) إلى آخره ، من كلام الله تعالى لا من كلام الرسول ، أي : نزّه ربّ السموات عمّا يصفونه فيكون نفيا للمقدّم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق ، كما قال في استبعاد الرؤية : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٢) والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

سورة حم الدخان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الليلة المباركة هي بنية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونها حادثة مظلمة ساترة لنور شمس الروح ، ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة من الهداية والعدالة في العالم بسببها وازدياد رتبته وكماله بها. كما سماها ليلة القدر لأن قدره عليه‌السلام معرفته بنفسه وكماله إنما يظهر بها ، ألا ترى أنّ معراجه إنما كان بجسده؟ ، إذ لو لم يكن جسده لم يكن ترقيه في المراتب إلى التوحيد وإنزال الكتب فيها إشارة إلى إنزال العقل القرآني الجامع للحقائق كلها ، والفرقاني المفصّل لمراتب الوجود ، المبين لتفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها ، المميز لمعاني الأسماء وأحكام الأفعال فيها وهو معنى قوله فيها : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أو إلى إنزال الروح المحمدي الذي هو الكتاب المبين حقيقة في صورتها أو القرآن (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) لأهل العالم بوجوده.

[٥ ـ ٩] (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) خصّ الأمر الحكمي بكونه من عنده لأن كل أمر يبتني على حكمة وصواب كما ينبغي من الشرائع والأحكام الفقهية إنما يكون من عنده مخصوصا به مطلقا لما في نفس الأمر وإلا كان أمرا مبنيا على الهوى والتشهي (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تامة كاملة على العالمين بإنزاله لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية وصلاح معاشهم ومعادهم وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه أو مرسلين إليك لرحمة كاملة شاملة عليهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم (الْعَلِيمُ) بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المخيلة ومعايشهم الغير المنتظمة ، فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين ، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا. المرشد إلى الصواب فيهما بتوضيح الصراط المستقيم وتحقيق التوحيد بالبرهان وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.

[١٠ ـ ١٢] (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢))

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي : وقت ظهور آيات القيامة الصغرى أو الكبرى فإن الدخان من أشراطها. فاعلم أن الدخان هو من الأجزاء الأرضية اللطيفة المتصاعدة عن مركزها لتلطفها بالحرارة ، فإن فسرنا القيامة الصغرى فالدخان هو السكرة والغشية والانقباضية العارضة لسماء الروح عند النزع بسبب هيئة التعلق البدني والفترة المرتكبة على وجهها من مباشرة الأمور السفلية والميل إلى اللذات الحسية ولهذاقال عليه‌السلام في وصفه : «أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». فأن المؤمن لقلّة تعلقه بالأمور البدنية وضعف تلك الهيئة المستفادة من مباشرة الأمور السفلية يقل انفعاله منها ويسهل زواله وخصوصا إذا اكتسب ملكة الاتصال بعالم الأنوار. وأما الكافر فلشدّة تعلقه وقوة محبته للجسمانيات وركونه إلى السفليات تغشاه تلك الهيئة فتحيره وتشمله حتى عمّت مشاعره الظاهرة والباطنة ومخارجه العلوية والسفلية فلا يهتدي إلى طريق لا إلى العالم العلوي ولا إلى العالم السفلي (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ولما كان الغالب عليه التمني والتندّم فيتمنى ما كان فيه من الحياة والصحة ويتندّم على ما كان عليه من الفسوق والعصيان والفجور والطغيان ، قال بلسان الحال : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أو بلسان المقال على ما ترى عليه حال بعض من وقع في النزع من العصاة من التوبة وموعدة الرجوع إلى الطاعة.

[١٣ ـ ١٦] (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : الاتعاظ والإيمان بمجرد انكشاف العذاب (وَقَدْ جاءَهُمْ) ما هو أبلغ منه من الرسول المبين طريق الحق بالمعجز والبرهان ودعاهم إلى سبيله بالطرق الثلاثة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن (ثُمَ) أعرضوا ونسبوه إلى الجنون والتعليم المتنافيين لفرط احتجابهم وعنادهم (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) بتعطيل الحواس والإدراكات (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إليه.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي : وقت تمام الفراغ إلى إدراك العذاب المؤلم بتلك الهيئات وتحقق الخلود (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) معذّبون بالحقيقة أو بالردّ إلى الصحة والحياة البدنية ، إنكم عائدون إلى الكفر لرسوخه فيكم يوم نبطش البطشة الكبرى بزوال الاستعداد وانطفاء نور الفطرة بالرين الحاصل من ارتكاب الذنوب والاحتجاب الكلي الموجب للعذاب الأبدي كما

قال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) (١) ننتقم منهم بالحقيقة بالحرمان الكلي والحجاب الأبدي والعذاب السرمدي. وإن فسرنا القيامة الكبرى : فالدخان هو حجاب الإنية الذي يغشى الناس عند ظهور نور الوحدة بطغيان النفس لانتحال صفات الربوبية وغلبة سكرة يوم الجمع المورثة للإباحة إذ هو من بقية النفس الأرضية اللطيفة بنور الوحدة المرتقبة إلى محل الشهود التي تأتي بها سماء الروح لتأثيره فيها بالتنوير إذ لم تحترق بالكلية بنار العشق بل صفت وتلطفت وتصعدت. فأما المؤمن بالإيمان الحقيقي الموحد التام الاستعداد ، المحب الغالب المحبة ، فيصيبه كهيئة الزكمة ، أي : السكرة التي قال فيها أبو زيد قدّس الله روحه : سبحاني ما أعظم شأني. والحسين بن منصور رحمه‌الله : أنا الحق. ثم يرتفع عنه سريعا لمزيد العناية الإلهية وقوة الاستعداد الفطرية وشدة المحبة الحقيقية ، فيتنبه لذلك ويتعذب به غاية التعذب ويشتاق إلى الانطماس في عين الجمع غاية الشوق ، فيقول : هذا عذاب أليم ، ويطلب الفناء الصرف ، كما قال الحلاج قدّس الله روحه :

بيني وبينك أني ينازعني

فارفع بفضلك أني من البين

ويدعو بلسان التضرع والافتقار : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)) (٢) بالإيمان العيني عند كشف الحجاب الآني ، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) من أين لهم ذكر الذات والإيمان العيني في مقام حجاب الأنانية ، (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي : رسول العقل المبين لوجوداتهم وصفاتهم ، أي : إنما احتجبوا بحجاب الإنية لظهور العقل وإثباته لوجوداتهم ، فكيف ذكرهم للذات تعجب من تذكرهم مع كونهم عقلاء ثم بيّن كونهم عشاقا مشتاقين بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) لقوة المحبة وفرط العشق وقالوا : (مُعَلَّمٌ) أي : من عند الله بإفاضة العلم عليه (مَجْنُونٌ) مستور الإدراك ، محجوب عن نور الذات ، كماقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت». (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي : عذاب الحجاب والحرمان لإعراضهم بقوة العشق عن الرسول قليلا بطلوع نور الوجه الباقي وإشراق سبحاته وإحراقها ما انتهى إليه بصره من خلقه (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) بالتلوين إلى الحجاب بعد تجلي نور الذات لبقية الآثار إلى وقت التمكين (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي : وقت الفناء الكلي والانطماس الحقيقي بحيث لا عين ولا أثر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي : ننتقم بالقهر الأحدي والإفناء الكلي من وجوداتهم وبقاياهم فيطهرون عن الشرك الخفي بالوجود الأحدي. وأما الكافر ، أي : المحجوب عن نور الذات ، الممنوّ بحجب الصفات ، المحروم عن الطمس عن عين الجمع

__________________

(١) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٥.

(٢) سورة الدخان ، الآية : ١٢.

بتوهم الكمال فيبقى في مقام الأنانية ويتفرعن وراء حجاب الأنانية كما قال اللعين : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١) (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢) ، فيخلع عن عنقه ربقة الشريعة ويسير بسيرة الإباحة ويتجسر على المخالفات ويتزندق بارتكاب المعاصي وتركه الطاعات ، فيكون من شرار الناس الذين قال فيهم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» ، فهو في عدم التمييز والرجوع إلى التفصيل والانهماك في الدواعي الطبيعية والتعمّق في الجاهلية كالسكران غلب الهوى على عقله وأحاط به الحجاب من جميع جهاته وظهر أثر الغيّ من مشاعره ، هذا عذاب أليم لكنه لا يشعر به لشدّة انهماكه في تفرعنه وقوة شكيمته في تشيطنه ، كلما دعاه الموحد القائم بالحق المهدي إلى نور الذات بالفناء المطلق المنصور من عند الله بالوجود الموهوب المتحقق ونبهه على ما به من الاحتجاب أبى واستكبر وطغى وتجبّر لاستغنائه بنفسه وثباته في غيّه حتى إذا وقع في الارتياب وتفطّن بالحجاب عند ارتتاج الباب بتعين المآب وتيقن العقاب قال : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)) (٣) كما قال فرعون حين أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) (٤) ، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : الاتعاظ والإيمان الحقيقي وقد عاندوا الحق وأعرضوا عن القائم بالحق ، فلعنوا وطردوا. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) ريثما تحققوا ما هم فيه من الوقوف مع النفس وتبينوا التفريط في جنب الحق (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) لفرط تمكين الهوى من أنفسكم وتشرّب قلوبكم بمحبة نفوسكم واستيلاء صفاتها عليكم وقوّة الشيطنة فيكم. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) بالقهر الحقيقي والإذلالالكلي والطرد والإبعاد ننتقم منهم لمكان شركهم وعبادتهم لأنفسهم ومبارزتهم علينا بالظهور في مقابلتنا ومنازعتهم رداء الكبرياء منّا ، كما قلنا : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» ، وأما حكاية قوم فرعون فاشتهيت تطبيقها على حالك فافهم منها.

[١٧ ـ ١٨] (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) النفس الأمارة من قبط القوى الحيوانية (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) هو موسى القلب الشريف المجرّد (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) المخصوصين به من القوى الروحانية المأسورين في قيود طاعتكم ، المستضعفين باستيلائكم ، المستبعدين لقضاء حوائجكم

__________________

(١) سورة النازعات ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة الدخان ، الآية : ١٢.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٩٠.

وتحصيل مراداتكم من اللذات الحسيّة والشهوات البدنية (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) بحصول علم اليقين المأمون من تغيره.

[١٩ ـ ٢٠] (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠))

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) بعصيانه وترك ما أدعوكم إليه واستكباركم (إِنِّي آتِيكُمْ) بحجة واضحة من الحجج العقلية (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) بأحجار الهيولى السفلية والأهواء النفسية والدواعي الطبيعية فتجعلوني بحيث لا حراك في طلب الكمالات الروحانية والأنوار الرحمانية وتهلكوني.

[٢١ ـ ٢٢] (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢))

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) بطاعتي ومشايعتي في التوجه إلى ربّي وطلب كمالي والتنوّر بأنواري (فَاعْتَزِلُونِ) بعدم ممانعتي وترك محاجزتي ومعاوقتي في سيري وسلوكي (فَدَعا رَبَّهُ) بلسان التضرّع والافتقار (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) في اكتساب المطالب الجرمية واللذات الحسيّة ، منهمكون فيها ، لا يرفعون منها رأسا.

[٢٣ ـ ٤٢] (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧))

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

(فَأَسْرِ) أي : فقال الله : أسر (بِعِبادِي) الروحانيين من القوى العقلية والفكرية والحدسية والقدسية وصفاتك المخلصة إلى حضرة القدس وراء بحر الهيولى (لَيْلاً) وقت نعاس القوى الحسيّة وتعطل القوى البدنية (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) بمطالبتهم إياكم بكمالات الحسّ ومجاذبتهم لكم عن جناب القدس (وَاتْرُكِ) بحر الهيولى والمواد الجسمانية ساكنة على قرارها ساجية عن أمواجها غير مزاحمة إياكم باضطراب أحوالها وانحراف مزاجها ، ومتسعة طرقها

منفرجة لنفوذ تلك القوى وسريانها وتصرفها فيها (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) هالكون بتموّج البحر وطمسه إياهم عند خراب البدن.

[٤٣ ـ ٤٨] (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨))

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ) شجرة الزقوم هي النفس المستعلية على القلب في تعبّد الشهوة وتعوّد اللذات ، سميت زقوما لملازمتها اللذة ، إذ الزقم والتزقم عندهم أكل الزبد والتمر ، ولكونه لذيذ نسبت تبعة اللذة إليه واشتق لها اسم منه ، ولا يطعم منها ويستمد من قواها وشهواتها إلا المنغمس في الإثم المنهمك في الهوى (كَالْمُهْلِ) أي : دردى الزيت لثقلها وترسبها وسرعة نفوذها في المسام للطافتها وحرارتها اللازمة لطلبها ما يهواها ، أو النحاس الذائب في ميلها إلى الجهة السفلية وإيذائها القلب بشدّة الداعية ولهج الحرص ولهب نار الشوق مع الحرمان (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) تضطرب وتقلق في البواطن من شدّة حرّ التعب في الطلب فتقلق القلوب وتحرقها بنار الهوى ومنافاة ظلمتها لنوريتها وتسري فيها بالأذى لاستيلاء هيئتها عليها ولطف هواها الذي هو روح النفس ورسوخ محبتها فيها ، ولهذا فيل : ذواق السلاطين محرقة الشفتين ، (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) الساري بحرّه في المسامّ للطافته وقوله في البطون كقوله : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧)) (١).

[٤٩ ـ ٥٠] (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) إشارة إلى انعكاس أحوالها لانتكاس فطرتها ، فإنّ اللذة والعزّة الجسمانية والكرامة النفسانية موجبة للألم والهوان والذلّة الروحانية (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) لحسبانكم انحصار اللذات والآلام في الحسيّة واحتجابكم بها عن العقلية.

[٥١ ـ ٥٩] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الكاملين في التقوى باجتناب البقايا (فِي جَنَّاتٍ) عالية من الجنان الثلاث

__________________

(١) سورة الهمزة ، الآيات : ٦ ـ ٧.

(وَعُيُونٍ) من علوم الأحوال والمعارف وغيرها من المنافع الحقيقية (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) لطائف الأحوال والمواهب لاتصافهم بها كالمحبة والمعرفة والفناء والبقاء (وَإِسْتَبْرَقٍ) فضائل الأخلاق كالصبر والقناعة والحلم والسخاوة (مُتَقابِلِينَ) على رتب متساوية في الصف الأول من صفوف الأرواح لا حجاب بينهم لتجرّد ذواتهم وبروزهم إلى الله عن صفاتهم (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : قرناهم بما فيه قرّة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم وحصولهم على كمال مرادهم (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي : كل ما يتلذذ به من لذائذ الجنان الثلاث (آمِنِينَ) من الفناء والحرمان عن تلك النعماء (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي : الطبيعة الجسمانية لا الفناء من الأفعال والصفات والذات فإنّ كل فناء منها وإن كان موتا إراديا لكنه حياة أصفى وألذ وأشهى وأبهج مما قبلها وكل منها في جنة (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : جحيم الحرمان بوجود البقية فضلا عن الخذلان في جحيم الطبيعة (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) موهبة محضة وعطاء صرفا من ربك بالوجود الحقاني عند تلاشي الآلات النفسانية (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والله أعلم.

سورة حم الجاثية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) حم) جواب القسم محذوف لدلالة تنزيل الكتاب عليه ، أي : أقسم بحقيقة الهوية ، أي : الوجود المطلق الذي هو أصل الكل وعين الجمع ، وبمحمد أي : الوجود الإضافي الذي هو كمال الكل وصورة التفصيل لأنزلنّ الكتاب المبين لهما أو يجعل (حم) مبتدأ و (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبره على تقدير حذف مضاف أي : ظهور حقيقة الحق المفصلة ، (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : إرسال الوجود المحمدي أو إنزال القرآن المبين الكاشف عن معنى الجمع والتفصيل في غير موضع كما جمع في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١) ثم فصّل بقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٢). (مِنَ اللهِ) من عين الجمع (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) في صورة تفاصيل القهر واللطف اللذين هما. أما الأسماء ومنشؤها الكثرة في الصفات إذ لا صفة إلا وهي من باب القهر أو اللطف.

[٣ ـ ٤] (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤))

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : في الكل (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) بذاته لأن الكل مظهر وجوده الذي هو عين ذاته (وَفِي خَلْقِكُمْ) إلى آخره ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بصفاته لأنكم وجميع الحيوانات مظاهر صفاته من كونه حيّا عالما مريدا قادرا متكلما سميعا بصيرا ، لأنكم بهذه الصفات شاهدون بصفاته.

[٥] (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

(وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى آخره ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أفعاله ، فإن هذه التصرفات أفعاله ، وإنما فرّق بين الفواصل الثلاث بالإيمان والإيقان والعقل لأن شهود الذات أوضح وإن خفي لغاية وضوحه والوجود أظهر والمصدّقون به أكثر لكونه من الضروريات

__________________

(١ ـ ٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨.

ومشاهدة الصفات أدّق وألطف من القسمين الباقيين فعبر عنها بالإيقان ، فكل موقن مؤمن بوجوده ولا ينعكس وقد يوجد الإيقان بدون الإيمان بالذات لذهول المؤمن بالوجود الموقن بالصفات عن شهود الذات لاحتجابه بالكثرة عن الوحدة. وأما الأفعال فمعرفتها استدلال بالعقل إذ التغير في الأشياء لا بد له من تغيير مغير عند العقل لاستحالة التأثر بدون التأثير عقلا. والأول فطري روحي ، والثاني علمي قلبي ، أي : كشفي ذوقي ، والثالث عقلي. فالمحبوب الباقي على الفطرة يؤمن أولا بالذات ثم يوقن بالصفات ثم يعقل الأفعال. وأما المحب المحتجب عن الفطرة بالنشأة والمادة فهو في مقام النفس يعقل أولا أفعاله ثم يوقن بصفاته التي هي مبادئ أفعاله ، ثم يؤمن بذاته ولهذا لماسئل حبيب الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بم عرفت الله؟قال : «عرفت الأشياء بالله».

[٦ ـ ٨] (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨))

(تِلْكَ) أي : آيات سموات الأرواح وأرض الجسم المطلق ، أي الكل وآيات الأحياء من الموجودات وآيات سائر الحوادث من الكائنات (آياتُ اللهِ) أي : آيات ذاته وصفاته وأفعاله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) وآيات صفاته وأفعاله (يُؤْمِنُونَ) إذ لا موجود بعدها إلا حديث بلا معنى واسم بلا مسمى ، كما قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) (١) أي : بلا مسميات (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) منغمس في إفك الوجود المزخرف الباطل الموهوم ، وإثم الشرك بنسبة الأفعال لذلك الوجود (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) من كل موجود قائل بلسان الحال أو القال (تُتْلى عَلَيْهِ) على لسان كل شيء إلا على لسان النبي وحده (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) في نسبتها إلى الغير لاحتجابه بوجوده واستكباره وأنائيته لفرط تفرعنه أو لغرّته وغفلته (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) لعدم تأثره بها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ) الحجاب المؤلم والحرمان الموبق.

[٩ ـ ١٧] (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧))

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) بنسبتها إلى من لا وجود له أصلا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) في ذلّ الإمكان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : في تسخير ما في السموات وما في الأرض لكم دلائل لمن يتفكر في نفسه من هو؟ ولما ذا سخّر له هذه الأشياء؟ حتى الملكوت والجبروت منه من جهته فيرجع إلى ذاته ويعرف حقيقته وسرّ وجوده وخاصيته التي بها شرّف وفضل عليها وأهل لتسخيرها له فيأنف عن التأخر عن رتبة أشرفها فضلا عن أخسها ويترقى إلى غايته التي يندب إليها.

[١٨ ـ ١٩] (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩))

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) طريقة من أمر الحق هي طريقة التوحيد (فَاتَّبِعْها) بسلوكها على بينة وبصيرة (وَلا تَتَّبِعْ) جهالات أهل التقليد (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) علم التوحيد (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لن يدفعوا عنك ضرّا بأفعالهم لعدم تأثيرهم ولا جهالة وحجابا بأوصافهم لعدم قواهم وقدرهم وعلومهم ، إذ لا حول ولا قوّة إلا بالله ولا وحشة بحضورهم إذ لا مناسبة بينك وبينهم فتستأنس بهم بل لا أنس لك إلا بالحق وهم لا شيء محض في شهودك فلا موالاة بينك وبينهم بوجه وإنما موالاة الظالمين ليست إلا مع الظالمين لما بينهم من الجنسية والمناسبة في الاحتجاب (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي : متولي أمور من اتقى أفعاله بالتوكل عليه في شهود توحيد الأفعال أو ناصر من اتقى صفاته في مقام الرضا بمشاهدة تجليات الصفات أو حبيب من اتقى ذاته في شهود توحيد الذات إذ الوليّ يستعمل بالمعاني الثلاثة لغة.

[٢٠ ـ ٢٢] (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

(هذا) أي : هذا البيان (بَصائِرُ) أي : بيّنات لقلوب الذين طالعوا بهجة الصفات ، يطالعون بكل بصيرة تجلي طلعة صفته (وَهُدىً) لأرواحهم إلى محل شهود الذات (وَرَحْمَةٌ) لنفوسهم من عذاب حجاب الأفعال (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذه البيانات.

[٢٣ ـ ٢٥] (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الإله المعبود ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها ، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه ولو كان حجرا (وَأَضَلَّهُ اللهُ) عالما بحاله من زوال استعداده وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين على تقدير أن يكون على علم حالا من الضمير المفعول في أضله الله لا من الفاعل وحينئذ يكون الإضلال لمخالفته علمه بالعمل وتخلف القدم عن النظر لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى كحال بلعام بن باعورا وأضرابه كماقال عليه‌السلام : «كم من عالم ضلّ ومعه علمه لا ينفعه» أو على علم منه غير نافع ، لكونه من باب الفضول لا تعلق له بالسلوك (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) بالطرد عن باب الهدى والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه لمكان الرين وغلظ الحجاب (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) عن رؤية جماله وشهود لقائه (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) إذ لا موجود سواه يقوم بهدايته (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الموحدون (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي : الحسيّة (نَمُوتُ) بالموت البدني الطبيعي (وَنَحْيا) الحياة الجسمانية الحسيّة لا موت ولا حياة غيرهما ولا ينسبون ذلك إلا إلى الدهر لاحتجابهم عن المؤثر الحقيقي القابض للأرواح والمفيض للحياة على الأبدان.

[٢٦] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) لا الدهر (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) إليه بالحياة الثانية عند البعث ، أو الله يحييكم لا الدهر بالحياة الأبدية القلبية بعد الحياة النفسانية ثم يميتكم بالفناء فيه ثم يجمعكم إليه بالبقاء بعد الفناء والوجود الموهوب لتكونوا به معه.

[٢٧ ـ ٣٥] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا مالك غيره في نظر الشهود (وَيَوْمَ تَقُومُ) القيامة

الكبرى (يَخْسَرُ) الذين يثبتون الغير إذ كل ما سواه باطل ومن أثبته واحتجب به عنه مبطل (وَتَرى) يا موحد (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) لا حراك بها إذ هي بنفسها ميتة غير قادرة كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) أو تراها جاثية في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء على حالها في النشأة الأولى عند الاجتنان وفيه سرّ.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي : اللوح الذي أثبت فيه أعمالها وتجسدت صورها وانتقشت فيه على هيئة جسدانية فإن كتابة الأعمال إنما تكون في أربعة ألواح أحدها : اللوح السفلي الذي يدعى إليه كل أمّة ويعطى بيمين من كان سعيدا وشمال من كان شقيّا ، والثلاثة الأخرى سماوية علوية أشير إليها فيما قبل. وإنما قلنا هذا الكتاب هو اللوح السفلي لأن الكلام هاهنا في جزاء الأعمال لقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والناسخون هم الملكوت السماوية والأرضية جميعا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي التقليدي أو اليقيني العلمي (وَعَمِلُوا) ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني من أبواب البرّ (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي) رحمة ثواب الأعمال في جنّة الأفعال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) احتجبوا عن الحق بالكفر الأصلي والانغماس في الهيئات الجرمانية المظلمة بالإجرام بدليل قوله : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : نترككم في العذاب كما تركتم العمل للقائي في يومكم هذا لعدم اعترافكم ، أو نجعلكم كالشيء المنسيّ المتروك بالخذلان في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا بنسيان العهد الأزلي.

[٣٦ ـ ٣٧] (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الكمال المطلق الحاصل للكل ببلوغ الأشياء إلى غاياتها وحصولها على أجلّ ما يمكن من كمالاتها (رَبِّ السَّماواتِ) مكمل الأرواح ومدبرها (وَرَبِّ الْأَرْضِ) مدبر الأجساد ومالكها ومصرّفها (رَبِّ الْعالَمِينَ) موجه العالمين إلى كمالاتهم بربوبيته إياهم (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أي : استعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه ، فكل يحمده بإظهار كماله وجميع صفاته بلسان حاله ويكبره بتغيره وإمكانه وانخراطه في سلك المخلوقات المحتاجة إليه الفانية بالذات القاصرة عن سائر الكمالات غير ما اختصّ به (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي القاهر لكل شيء بتأثيره فيه وإجباره على ما هو عليه (الْحَكِيمُ) المرتب لاستعداد كل شيء بلطف تدبيره ، المهيّئ لقبوله لما أراد منه من صفاته بدقيق صنعته وخفيّ حكمته.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.

سورة حم الأحقاف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بالوجود المطلق الثابت الأحدي الصمدي الذي يتقوّم به كل شيء ، أو بالعدل الذي هو ظل الوحدة المنتظم به كل كثرة ، كما قال : بالعدل قامت السموات والأرض. (وَ) بتقدير (أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : كمال معين ينتهي به كمال الوجود وهو القيامة الكبرى بظهور المهدي وبروز الواحد القهار بالوجود الأحدي الذي يفنى عنده كل شيء كما كان في الأزل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالاحتجاب عن الحق (عَمَّا أُنْذِرُوا) من أمر هذه القيامة (مُعْرِضُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تسمونه وتثبتون له وجود أو تأثير أي شيء كان (أَرُونِي) ما تأثيره في شيء أرضي بالاستقلال أو شيء سماويّ بالشركة (ائْتُونِي) على ذلك بدليل نقليّ من كتاب سابق أو عقلي من علم متقن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) شيئا ، أي : كان كدعاء الموالي للسادة مثلا إذ لا يستجيب له أحد إلا الله.

[٦ ـ ١٢] (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني وكذا استعباد الموالي لخدمهم فإذا ارتفعت الأغراض وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداء وأنكروا عبادتهم يقولون : ما خدمتمونا ولكن خدمتم أنفسكم ، كما قيل في تفسير قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١).

[١٣] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : تجرّدوا عن العلائق ورفضوا العوائق وانقطعوا إلى الله عن كل ما سواه ورحموا البصر عن طغواه فصدقا قالوا : ربنا الله ، إذ لو بقيت منهم بقايا ولم يأمنوا التلوينات في عرصة الفناء لم يقولوا صادقين : ربّنا الله (ثُمَّ اسْتَقامُوا) بالتحقق به في العمل والتحفظ به في مراعاة آداب الحضرة عن الزلل والخطل ، بحيث لم ينبض منهم عرق ولم يتحرك منهم شعرة إلا بالله ولله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذ لا حجاب ولا عقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إذ لا مرغوب إلا وهو حاصل لهم فلم يفت منهم شيء ولا يفوت كما قيل : إنّ في الله عزاء لكل مصيبة ودركا عن كل ما فات.

[١٤ ـ ١٨] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨))

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المطلقة الشاملة للجنان كلها (خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في حال السلوك حتى الوصول (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) لما كانت النفس ممنوّة بتدبير البدن لتوقف استكمالها عليه مشغولة عن كمالها به في أول النشأة لم تنفتح بصيرتها ولم يصف إدراكها ولم يتبين رشدها إلا وقت بلوغ النكاح كما قال في اليتامى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) وذلك هو الأشد الصوري. ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولة إلى هذا الحد لا تتفرغ إلى تحصيل مادة النوع عن إيرادها ما يزيد

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٦.

في الأقطار من الغذاء زائدا على بدل المتحلل من البدن لضعف الأعضاء وشدّة الاحتياج إلى النمو والتصلب ، فالنفس حينئذ منغمسة في البدن ، مستعملة للطبيعة في ذلك العمل ، ذاهلة عن كمالها إلى هذا الأجل ، فلما قربت الآلات من حدّ كمالها ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها تفرّغت الطبيعة إلى ذخيرة مادة النوع من الشخص لاستغنائها بكمال الشخص عن مادته فتفرّغت النفس إلى تحصيل كمالها ، فانفتحت بصيرة عقلها وظهرت أنوار فطرتها واستعدادها وتنبّهت عن نومها في مهدها ، وتيقّظت عن سنة غفلتها وتفطّنت لقدس جوهرها وطلبت مركزها وغايتها لأمرين صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال وفراغها عن تخصيص البدن بالإقبال لقلة الإشغال ، لكنها ما دامت سنّ النموّ باقية وزيادة الآلاف في القوة والشدة ممكنة ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية وما تجرّدت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب القدسية للاشتغال المذكور وإن قلّ وذلك إلى منتهى الثلثين من السن كما تبين في علم الطب ، فلما جاوزتها وأخذت في سنّ الوقوف أقبلت إلى عالمها وأشرقت أنوار فطرتها فاشتدّت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليها ، فأخذ كافل الأيتام الحقيقية الذي هو روح القدس أن آنس رشدها في دفع أموالها التي هي الحقائق والمعارف والعلوم والحكم إليها ، لبلوغها نكاح الغواني من المفارقات القدسية والنورانيات الجبروتية وذلك وقت سيرها في صفات الله إلى ذات الله حتى الفناء التام بالاستغراق في عين الجمع لإمكان السير في أفعاله من وقت الأشدّ الصوري إلى أشدّ هذا الأشدّ المعنوي الذي نهايته الأربعون تقريبا. ولهذا قيل : الصوفيّ بعد الأربعين أبذّ ، إذ لم يستعدّ بالتوجه والطلب والسير في الأفعال بالتزكية لقبول تلك الأموال والتصرف فيها فلم يأنس روح القدس منه الرشد فلم يدفع إليه ، وإذا تم سيره في الله عند ذلك الأشدّ بالفناء فيه كان وقت البقاء بعد الفناء وأوان الاستقامة في العمل.

وأشار إليها بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ولهذا لم يبعث نبي قط إلا بعد الأربعين سوى عيسى ويحيى ومع ذلك وقفا في بعض السموات. ولما كانت النعم أوابد يجب تقييدها بالشكر استوزع الشكر على نعمة الكمال الحاصل المسبوق بالنعم الغير المتناهية لمحافظتها لئلا يحتجب برؤية الفناء فيترك الطاعة تبرّما لحاله واتكالا على كماله ، فإن آفة مقام الفناء رؤية الفناء والمبتلي بها يقع في التلوين ويحرم نعمة التمكين ، ولهذاقال عليه‌السلام : «أفلا أكون عبدا شكورا». فطلب محافظة نعمة الهداية والكمال عليه بإيقافه على الطاعات التي هي شكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه الذين هما السبب القريب لوجوده إذ لو لم يكن فيهما خير وخلق حسن وسرّ صالح لم يظهر عليه ذلك الكمال لأنه سرّهما ولهذا وجب الإحسان والدعاء بالوالدين ولهما (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) بتكميل المستعدّين فإن الواجب على الكامل

أولا محافظة كماله ثم تكميل المستكملين ، إذ العمل إنما هو من الأمور النسبية فربما كان صالحا بالنسبة إلى أحد سيئا بالنسبة إلى غيره ، كما قال : «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». ولهذا قال : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي : أولادي الحقيقية سواء كانوا صلبية أو لا لأن علمه الصالح الذي هو التكميل وتربية المريدين لا ينجع إلا بعد تهيء استعدادهم والصلاح في أعمالهم وأحوالهم وذلك من فيضه الأقدس ، ولو لم يكن هذا الصلاح والقبول التام الذي لا يكون إلا من عند الله لما كان للإصلاح والتكميل والإرشاد أثر كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) وهما ، أي : محافظة الكمال بالشكر بالقيام بحق الملهم بالطاعات والتكميل بالإرشاد ملاك العمل في الاستقامة ووظيفة المتحقق بالوجود الحقاني في مقام البقاء (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من ذنب رؤية الفناء وهذه التوبة هي التي تاب بها موسى عليه‌السلام عند الإفاقة كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين المستسلمين في سلك العباد لمكان الاستقامة (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك التوبة والاستقامة هم (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) بظهور آثار تربيتهم وحسن هدايتهم في مريديهم لأن التكميل أحسن أعمالهم ، ألا ترى أن كل من لم يثبت على طريق المتابعة ولم يتشدّد في حفظ السنة من الكمل لم يكن له أتباع ولم يقم منه كامل لخلله في الاستقامة واتكاله على حاله من الكرامة وذلك علامة عدم قبول عمله الصالح. وهؤلاء لما قاموا بشكر نعمة الكمال قبل عملهم (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي هي بقايا صفاتهم وذواتهم بالمحو الكلي والطمس الحقيقي في مقام التمكين فلا يقعون في ذنب رؤية الفناء ولا تلوين ظهور الإنية والأنانية (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) المطلقة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) حيث قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣).

[١٩ ـ ٢٨] (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

(٣) سورة الطور ، الآية : ٢١.

إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) لما ذكر السابقين وعقبهم بذكر من يقابلهم من المطرودين الذين حقّ عليهم القول وبين أنّ الفريق الأول في عداد السعداء والفريق الثاني من جملة الأشقياء. تناول الكلام الأصناف السبعة المذكورة في أول الكتاب للتصريح بذكر الصنفين اللذين هما الأصل في الإيمان والكفر ، والتعريض بذكر الخمسة الباقية فقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : ولكل صنف من أصناف الناس درجات من جزاء أعمالهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، وغلب الدرجات على الدركات بل لكل أحد من كل صنف رتبة ومقام وموقع قدم من إحدى الجنان أو طبقات النيران.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أنكر عليهم إذهاب جميع الحظوظ في لذات الدنيا لأن لكل أحد بحسب استعداده الأول كمالا ونقصا يقابله ، وبحسب وقت تكوّنه في هذا العالم سعادة عاجلة وشقاوة تقابلها فله بحسب كل واحدة من النشأتين طيبات وحظوظ تناسب كلا كماليه ، فمن أقبل بوجهه على طيبات الدنيا وحظوظها والاستمتاع بها وأعرض بقلبه عن طيبات الأخرى ولذاتها حرم الثانية أصلا لانغماسه في الأمور الظلمانية واحتجابه عن المطالب النورانية ، كما قال تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١) ، وذلك معنى قوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) لأن حظوظ الأخروية التي تقتضيها هويته ذهبت في هذه ، فكأن ما زاد في النهار نقص من الليل. وأما من أقبل بوجهه إلى الأخرى وتنزّه عن هذه بالزهد والتقوى ورغب في المعارف الحقيقية والحقائق الإلهية واللذات العلوية والأنوار القدسية التي هي الطيبات بالحقيقة فقد أوتي منها حظه ولم ينقص من حظوظه العاجلة على قياس الأول بل وفر منها نصيبه كما قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) (٢) وذلك لأن الاستغراق في عالم القدس والتوجه إلى جناب الحق يورث النفس قوة وقدرة تؤثر بها في عالم الحسّ ، فكيف إذا اتصلت بمنبع القوى والقدر؟ أما ترى أن عالم الملكوت مؤثر في عالم الملك

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ٢٠.

متصرّف فيه ، قاهر له بإذن الله تعالى؟ ، وتسخيره والانهماك في عالم الحسّ يخمد قوة الفطرة ويطفئ نور القلب فلا تبقى له قدرة ولا قوة وتأثير في شيء ، وكيف وقد تأثرت عمّا من شأنه التأثر المحض وتسخرت لما من شأنه التسخر الصرف والانفعال المطلق؟ ، ولهذا قيل : الدنيا كالظل تتبع من أعرض عنها وتفوت من أقبل إليها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : «من أقبل إليها فاتته ومن أعرض عنها أتته».

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الذلة والصغار لملازمتكم بالطبع للجهة السفلية وتوجهكم بالعشق إلى المطالب الدنية ، فأنتم اخترتم الدناءة والانقهار بالتجبر والاستكبار وذلك معنى قوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : في مقام النفس باستيلاء القوة الغضبية التي شأنها الاستكبار (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إذ لو تجرّدوا عن الهيئات الغضبية والشهوية ، وترّفعوا عن الصفات النفسية ونضوا جلابيب الإنية والأنانية لاستكبروا بالحق في السماء والأرض ولكان تكبّرهم كبرياء الله كماقال الصادق عليه‌السلام لمن قال له : فيك كل فضيلة وكمال إلا أنك متكبّر! ، فقال : «لا والله ، بل انخلعت عن كبري فخلع عليّ كبرياء الله» أو ما هذا معناه ، فهذا هو التكبر بالحق (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) باستيلاء القوة الشهوانية التي خاصيتها الفسق والفساد.

[٢٩] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩))

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الجنّ نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها حكماء الفرس الصور المعلقة ، ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية ومشاركتها الإنس في ذلك سميّا ثقلين ، وكما أمكن الناس التهدّي بالقرآن أمكنهم.

وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن ردّ الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل ، وإن شئت التطبيق فاسمع. وإذ صرفنا إليك نفرا من جنّ القوى الروحانية من العقل والفكر والمتخيلة والوهم حال القراءة في الصلاة ، أي : أملناهم نحوك واتّبعناهم سرّك بالإقبال بهم إليك وصرفهم عن جانب النفس والطبيعة بتطويقهم إياك وتسخيرهم لك حتى يجتمع همّك ولا يتوزع قلبك ولا يتشوّش بالك بحركاتهم في وقت حضورك عند طلوع فجر نور القدس (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الوارد إليك من العالم القدسيّ (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : حضروا العقل القرآني الجامع للكمالات عند ظهور النور الفرقاني عليك (قالُوا أَنْصِتُوا) أي : سكنوا وسكت بعضهم بعضا عن كلامهم الخاص بهم مثل الأحاديث النفسانية والتصورات والهواجس والوساوس والخواطر والحركات الفكرية والانتقالات التخيلية. والقول هاهنا حاليّ كما ذكر غير مرة إذ لو لم يسكنوا وينصتوا مستمعين لما يفيض عليهم من الواردات القدسية لم يبق من الوارد أثر ، بل لم يكن بتلقي الغيب ولا ورود المعنى القدسي ولا تلاوة الكلام الإلهي كما

ينبغي ، ولهذا قال : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)) (١) ولأمر ما كان مبدأ الوحي منامات صادقة وذلك كون هذه القوى ساكنة متعطلة عند النوم حتى قوي على عزلها عن أشغالها وتعطيلها في اليقظة (فَلَمَّا قُضِيَ) أي : الوارد المعنوي والنازل القدسي الكشفي (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ) القوى النفسانية والطبيعية ينذرونهم عقاب الطغيان والعدوان على القلب بالتأثير فيهم بالملكات الفاضلة وإفاضات الهيئات النورية المستفادة من المعنى القدسي النازل ويمنعونهم الاستيلاء على القلب بالتسخير والارتياض.

[٣٠] (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي : ما تأثرنا بمثل هذا التأثر النوري في الوجود المحمدي إلا في زمن موسى ومن بعده إلى هذا الزمان ما تلقينا هذا المعنى لأن عيسى عليه‌السلام ما تم معراجه وما بلغ حاله حال النبيين المذكورين ، موسى ومحمد ، في الانخراط في سلك القدس في حياته ومشايعة جميع قواه لسرّه وما كمل فناؤه ليتحقق جميع قواه بالوجود الحقاني ولذلك بقي في السماء الرابعة واحتجب فيها بخلافهما وسيتبع الملة المحمدية بعد النزول ليتم حاله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لكونه مطابقا له في الهداية إلى التوحيد والاستقامة كما أشير إليه بقوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

[٣١ ـ ٣٥] (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) بمطاوعة القلب في التوجه إلى الله والتأدّب بآدابه والاستسلام لأحكامه والانقياد لأوامره ونواهيه في طاعته (وَآمِنُوا بِهِ) بالتنوّر بنوره والانخراط في سلك عبادته (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) الهيئات الرذائل والميل إلى الجهات السفلية بمتابعة الهوى وحجب الصفات النفسانية دون التعلقات البدنية والشواغل الطبيعية لامتناع تجريدها عن المادة ، ولهذا المعنى أورد من التبعيضية (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بسبب النزوع والانجذاب

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٦.

إلى اللذات والشهوات مع الحرمان لفقدان الآلات وما قال بعض المفسرين : إنّ الجنّ لا ثواب لهم وإنما إسلامهم يدفع عقابهم ، في تفسير الآية إن ثبت إشارة إلى أن هذه القوى البدنية لا حظ لها من المعاني الكلية العقلية والهيئات النورية واللذات القدسية لكن انقيادها ومطاوعتها للسر يدفع آلامها الحسية والنزوعية والله أعلم.

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

[١ ـ ١٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

تطبيق (الَّذِينَ كَفَرُوا) على القوى النفسانية المانعة عن السلوك في سبيل الله و (الَّذِينَ آمَنُوا) على الروحانية المعاونة إلى آخر الكلام ظاهر مما سبق فلا نكرر.

[١٥ ـ ١٨] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي : صفة الجنة المطلقة المتناولة للجنان كلها (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) من الأصناف الخمسة المذكورة غير مرة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي : أصناف من العلوم والمعارف الحقيقية التي تحيا بها القلوب وتروى بها الغرائز كما تحيا بالماء الأرض وتروى

الأحياء. غير آسن : غير متغيّر بشوائب الوهميات والتشكيكات واختلاف الاعتقادات الفاسدة والعادات وهي للمتقين المجتبين من الصفات النفسانية الواصلين إلى مقام القلب (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي : من علوم نافعة متعلقة بالأفعال والأخلاق مخصوصة بالناقصين المستعدّين الصالحين للرياضة والسلوك في منازل النفس قبل الوصول إلى مقام القلب بالاتّقاء عن المعاصي والرذائل كعلوم الشرائع والحكمة العملية التي هي بمثابة اللبن المخصوص بالأطفال الناقصين ، لم يتغير طعمه بشوب الأهواء والبدع واختلافات أهل المذاهب وتعصبات أهل الملل والنحل (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) أي : أصناف من محبة الصفات والذات (لَذَّةٍ) أي : لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) الكاملين البالغين إلى مقام مشاهدة حسن تجليات الصفات وشهود جمال الذات ، العاشقين المشتاقين إلى الجمال المطلق في مقام الروح والاستغراق في عين الجمع من المتّقين عن صفاتهم وذواتهم (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ) أي : حلاوات الواردات القدسية والبوارق النورية واللذات الوجدانية في الأحوال والمقامات للسالكين الواجدين للأذواق والمريدين المتوجهين إلى الكمال قبل الوصول إلى مقام المحبة من الذين اتّقوا الفضول ، فإن الآكلين للعسل أكثر من الشاربين للخمر ، وليس كل من ذاق حلاوة العسل ذاق لذّة الخمر دون العكس (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : أنواع اللذات من تجليات الأفعال والصفات والذات بأسرها كما قال الشاعر :

وكل لذيذة قد نلت منه

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

لأن شهود المعذب وتجلي صفات القهر له لذة خاصة بمن ذاقها يعرفها منت يعرفها وينكرها من ينكرها (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) بستر هيئات المعاصي وتكفير سيئات الرذائل لأصحاب الألبان ثم بستر الأفعال أيضا لأصحاب المياه ، ثم بمحو الصفات لأصحاب العسل وبعض أصحاب الخمر ، ثم بطمس ذنوب الأحوال والمقامات وإفناء البقيات وإخفاء ظهورها بالأنوار والتجليات لأهل الفواكه والثمرات ثم بإفناء الذات بالاستغراق في جمع الأحدية والاستهلاك في عين الهوية لشراب الخمور الصرفة وكلهم أصناف المتّقين (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) كمن هو في مقابلتهم في دركات جحيم الطبيعة وشرب حميم الهوى.

[١٩ ـ ٢٦] (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦))

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : حصل علم اليقين في التوحيد ثم اسلك طريقه إذ الاستغفار الذي هو صورة السلوكمسبوق بالإيمان العلمي دون الظني لأن من لم يرزق ثبات الإيمان لم يمكنه السلوك ، والثبات لا يكون إلا باليقين إذ الاعتقاد التقليدي يمكن تغيره وكل حجاب ذنب سواء كان بالهيئات البدنية أو الصفات النفسانية أو القلبية أو الإنية كما قيل :

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

فالأمر بالعلم ها هنا هو الحث على شهود الوحدة وبالاستغفار لذنبه هو التحريض على التنصل عن ذات ظهور البقية والأنانية (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بتكميلهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الحق وهدايتهم إلى سلوك طريق التوحيد ، وهذا وأمثاله مما يدل على أن أكثر سلوكه في الله إنما كان بعد البعثة والنبوّة (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) انتقالاتكم في السلوك من رتبة إلى رتبة وحال إلى حال (وَمَثْواكُمْ) ومقامكم الذي أنتم فيه فيفيض عليكم الأنوار وينزل الأمداد على حسبها.

[٢٧ ـ ٢٨] (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) توفي الملائكة مخصوص بالقاطنين في مقام النفس المنخرطين في سلك الملكوت الأرضية أي : ما حيلتهم أو كيف يعملون إذا توفّتهم الملائكة الأرضية بقبض أرواحهم على الصفة المؤلمة المؤذية من جهتهم بالحجب عن الأنوار القدسية من وجوههم والمنع عما يميلون إليه من اللذات الحسية من أدبارهم إذ وجه النفس هو الجهة التي تلي القلب والضرب فيه هو الإيلام من جهته بالحجب عن أنواره وما فيه قرّة العين من تجليات الصفات والدبر هو الجهة التي تلي البدن والضرب فيه هو التعذيب من جهته بالحجز عن الجهة السفلية واللذات الحسية التي انجذبت إليها بالميل الطبيعي والهوى والحجب عنها بأخذ الآلات الموصلة إليها منهم (ذلِكَ) أي : ذلك الضرب والإيلام من الجهتين بسبب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الانهماك في المعاصي والشهوات البدنية المبعدة عن جنابه ، فاستحقوا الضرب في الأدبار (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) الذي هو الانسلاخ عن صفاتهم للاتصاف بصفاته والتوجه إلى جنابه الموجب لمقام الرضا والقرب ، فاستحقوا الضرب في الوجوه.

[٢٩ ـ ٣٠] (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) لما كانت سراية هيئات النفس إلى البدن أسرع من تعدي هيئات البدن إلى النفس لكونها من الملكوت التي من شأنها التأثير وكون البدن من عالم الملك الذي من شأنه الانفعال لم يمكن إخفاء الأحوال النفسانية كما ترى من ظهور هيئات الغضب والمساءة والمسرّة على وجوه أصحابها لكن الجهل الذي هو من أصعب أمراض القلوب يغرّ صاحبه ويعميه فيحسب أنّ ما في قلبه من الغلّ والحقد والحسد يخفيه والله يظهرها على صفحات وجهه وفي فلتات لسانه كماقال النبي عليه‌السلام : «ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه». وذلك معنى قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ولهذا قيل : لو بات أحد على معصية أو طاعة في مطمورة وراء سبعين بابا مغلقة لأصبح الناس يتقاولون بها لظهورها في سيماه وحركاته وسكناته وشهادة ملكاته بها.

[٣١ ـ ٣٨] (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) علم الله تعالى قسمان : سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء ، وتفصيلا في لوح القدر ، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية والنفوس السماوية الجزئية ، فمعنى حتى نعلم : حتى يظهر علمنا التفصيلي في المظاهر الملكوتية والإنسية التي يثبت بها الجزاء ، والله أعلم.

سورة الفتح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فتوح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة : أوّلها : الفتح القريب المشار إليه بقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (١) وهو فتح باب القلب بالترقي عن مقام النفس وذلك بالمكاشفات الغيبية والأنوار اليقينية ، وقد شاركه في ذلك أكثر المؤمنين كما أشار إليه بقوله : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (٢) ، وقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٣) ويلزمه البشارة بالأنوار الملكوتية والتجليات الصفاتية كما قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤). وحصول المعارف اليقينية وكشوف الحقائق القدسية المشار إليها بقوله : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) (٥). وثانيها : الفتح المبين بظهور أنوار الروح وترقي القلب إلى مقامه وحينئذ تترقى النفس إلى مقام القلب فتستتر صفاتها اللازمة إياها السابقة على فتح القلب من الهيئات المظلمة بالأنوار القلبية وتنتفي بالكلية ، وذلك معنى قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) وكذا الحادثة المتأخرة عنه من الهيئات النورانية المكتسبة بالتنوّر بالأنوار القلبية التي تظهر بها في التلوينات وتخفي حالها وهي الذنوب المشار إليها بقوله : (وَما تَأَخَّرَ) ولا تنتفي هذه بالفتح القريب وإن انتفت الأولى به لأن مقام القلب لا يتم ولا يكمل إلا بعد الترقي إلى مقام الروح واستيلاء أنواره على القلب فيظهر تلوين القلب حينئذ وينتفي تلوين النفس الذي كان في مقام القلب بالكلية وتنقطع مادته ويحصل في هذا الفتح مغانم المشاهدات الروحية والمسامرات السرية. وثالثها : الفتح المطلق المشار إليه بقوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١)) (٦) وهو فتح باب الوحدة بالفناء المطلق والاستغراق في عين الجمع بالشهود الذاتي وظهور النور

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة الصف ، الآية : ١٣.

(٣) سورة الفتح ، الآية : ١٨.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٧.

(٥) سورة الفتح ، الآية : ١٩.

(٦) سورة النصر ، الآية : ١.

الأحدي ، فهذا الفتح المذكور هاهنا هو المتوسط يترتب عليه أمور أربعة : المغفرة المذكورة وإتمام النعمة الصفاتية والمشاهدات الجمالية والجلالية بكمال مقام القلب كما ذكر ، والهداية إلى طريق الوحدة الذاتية بالسلوك في الصفات وانخراق حجبها النورية وانكشاف غيومها الرقيقة حتى الوصول إلى فناء الإنية والنصرة العزيزة بالوجود الموهوب والتأييد الحقاني الموروث بعد الفناء.

[٤ ـ ٥] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن وهو من مبادئ عين اليقين بعد علم اليقين كأنه وجدان يقينيّ معه لذة وسرور (لِيَزْدادُوا إِيماناً) وجدانيا ذوقيا عينيا (مَعَ إِيمانِهِمْ) العلميّ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) من الأنوار القدسية والأمداد الروحانية (وَالْأَرْضِ) من الصفات النفسانية والملكوت الأرضية كالقوى البشرية وغيرها ، يغلب بعضها على بعض بمقتضى مشيئته كما غلّب الملكوت السماوية الروحية على الأرضية النفسية في قلوبهم بإنزال السكينة ، وغلّب الأرضية على السماوية في قلوب أعدائهم فوقعوا في الشك والريبة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بسرائرهم ومقتضيات استعداداتهم وصفات فطرة الفريق الأول وكدورة نفوس الفريق الثاني (حَكِيماً) بما يفعل من التغليب على ما اقتضى الحكمة والصواب (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بإنزال السكينة (جَنَّاتٍ) الصفات الجارية من تحتها أنهار علوم التوكل والرضا والمعرفة وأمثالها من علوم الأحوال والمقامات والحقائق والمعارف (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) من صفات النفوس (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً) بنيل درجات المقربين (عَظِيماً) بالنسبة إلى جنات الأفعال.

[٦ ـ ٩] (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) المبطلين لاستعداداتهم ، المكدّرين لصفائها بأفعالهم وملكاتهم (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) المردودين المطرودين عن جناب الحق من الأشقياء الذين لا يمكنهم موافقة المؤمنين ظاهرا لما بينهم من التضادّ الحقيقي والتباغض الذاتي الأصلي بحسب الفطرة (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) لمكان الشك والارتياب وظلمة نفوسهم

بالاحتجاب (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع كالقتل والإماتة والإذلال (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالقهر والحجب (وَلَعَنَهُمْ) بالطرد والإبعاد في الآخرة (وَأَعَدَّ لَهُمْ) أنواع العذاب (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين بعكس ما فعل بالمؤمنين ، وبدّل عليما بقوله : عزيز ، ليفيد معنى القهر والقمع لأن العلم من باب اللطف والعزّة من باب القهر.

[١٠ ـ ١٩] (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) هذه المبايعة هي نتيجة العهد السابق المأخوذ ميثاقه على العباد في بدء الفطرة وإنما كانت مبايعته مبايعة الله لأن النبي قد يفنى عن وجوده ويحقق الله في ذاته وصفاته وأفعاله فكل ما صدر عنه ونسب إليه فقد صدر عن الله ونسب إليه ، فمبايعته مبايعة الله تعالى ، وإنما قلنا إنها نتيجة ميثاق الفطرة إذ لو لم تكن جنسية ومناسبة أصلية بينهم وبينه لما وجدت هذه البيعة لانتفاء الألفة والمحبة المقتضية لها بانتفاء الجنسية ، فهي دليل سلامة فطرتهم وبقائها على صفائها الأصلي (يَدُ اللهِ) الظاهرة في مظهر رسوله الذي هو اسمه الأعظم (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي : قدرته البارزة في يد الرسول فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم فيضرّهم عند النكث وينفعهم عند الوفاء (فَمَنْ نَكَثَ) العهد بتكدير صفاء فطرته والاحتجاب بهيئات نشأته وتغليب ظلمة صفات نفسه على نور قلبه الموجب لمخالفة العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ

عَلى نَفْسِهِ) أي : يعود ضرر نكثه عليه دون غيره لسقوطه عن الفطرة الأصلية واحتجابه في الظلمات البدنية وحرمانه عن اللذات الروحانية وتعذّبه بالآلام النفسانية ، وهذا هو النفاق الحقيقي (وَمَنْ أَوْفى) بالمحافظة على نور فطرته (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) بأنوار تجليات الصفات ولذات المشاهدات ولهذا سميت هذه البيعة بيعة الرضوان ، إذ الرضا هو فناء الإرادة في إرادته تعالى وهو كمال فناء الصفات. ولتحقيق هذا الثواب لاطلاع الله تعالى على صفاء فطرتهم قال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد وحفظ النور المذكور (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) بتلألؤ نور التجلي الصفاتي الذي هو نور كمالي على نور ذاتي فحصل لهم اليقين (وَأَثابَهُمْ) الفتح المذكور ، فحصلوا على مقام الرضا ورضوا عنه بما أعطاهم من الثواب ، ولو لم يسبق رضا الله عنهم لما رضوا (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) من علوم الصفات والأسماء (يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) حيث كانت قدرته فوق قدرتهم (حَكِيماً) حيث خبّأ في صورة هذا القهر الجليّ معنى هذا اللطف الخفي ، إذ ظاهر قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قهر ووعيد حصل منه معنى قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الذي هو لطف محض.

[٢٠ ـ ٢٩] (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) من علوم توحيد الذات (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ) ناس صفاتكم عنكم (وَلِتَكُونَ آيَةً) دالة ، شاهدة (لِلْمُؤْمِنِينَ) على توحيد الذات (وَيَهْدِيَكُمْ) سلوك صراطه بعد العلم به (وَأُخْرى) من علومه تعالى التي هي عين ذاته بعد فنائكم فيه وتحققكم به حال البقاء بعد الفناء (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) إذ لا تكون إلا له (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) دون من سواه (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من معلوماته (قَدِيراً) والله أعلم.

سورة الحجرات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) طلب الجمع بين أدبي الظاهر والباطن من أهل الحضور ونهى عن التقدمة المطلقة في الحضرة الإلهية والحضرة النبوية المتناولة للتقدم في الأقوال والأفعال وحديث النفس والظهور بالصفات والذات ، ولحضرة كل اسم من أسماء الله تعالى أدب يجب مراعاته على من تجلى الله له به ولكل مقام وحال أدب يجب على صاحبه محافظته. فالتقدمة بين يدي الله في مقام الفناء هي الظهور بالأنائية في حضرة الذات ، وفي مقام المحو الظهور بصفة تقابل الصفة التي تشاهد تجليها في حضرة الأسماء كالظهور بإرادته في مقام الرضا ، ومشاهدة الإرادة في حضرة تجلي اسم المريد ، والظهور بعلمه بالاعتراض في مقام التسليم بحضرة العليم وبالتجلّد في مقام العجز ، ومشاهدة القادر وتحديث النفس في مقام المراقبة وشهود المتكلم ، وبالفعل في مقام التوكل والانسلاخ عن الأفعال في حضرة الفعال ، وهذه كلها إخلال بأدب الباطن مع الله تعالى. وأما الإخلال بأدب الظاهر معه ، ف : كترك العزائم إلى الرخص والإقدام على الفضول المباحة من الأقوال والأفعال وأمثالهما. وأما التقدمة بين يدي الرسول بإخلال أدب الظاهر فهو : كالتقدم عليه في الكلام ، والمشي ، ورفع الصوت ، والنداء من وراء الحجرات ، والجلوس معه واللبث عنده للاستئناس بالحديث ، والدخول عليه والانصراف عنه بغير الاستئذان وأمثاله. وأما إخلال أدب الباطن معه ف : كالطمع في أن يطيعه الرسول في أمر ، وظن السوء في حقه وأمثال ذلك. وأما المخالفات التي تتعلق بالأوامر والنواهي والإقدام على الشيء قبل معرفة حكم الله تعالى وحكم

الرسول فيه فهي من سوء أدب أهل الغيبة لا الحضور الذي نحن فيه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه التقدمات كلها فإن من اتّقى الله حق تقاته لا يصدر عنه أمثال هذه التقدمات في المواقع المذكورة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) للتقدمات القولية في باب أدب الظاهر ، ولأحاديث النفس في باب أدب الباطن (عَلِيمٌ) بالفعليات والوصفيات وبظهور البقيات.

[٧ ـ ٨] (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) الآية ، لما كان تمني المؤمنين طاعة الرسول إياه معربا عن ظهور نفسه بصفاته ، محتجبا عن فضل الرسول وكماله ، وذلك لا يكون إلا لضعف الإيمان وكدورة القلب بهوى النفس ، واستيلاء النفس على القلب بالميل إلى الشهوات واللذات لغلبة الهوى عليها ، أورد لفظه (وَلكِنَ) بين قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) وبين قوله : (اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) لصفاء الروح وبقاء الفطرة على النور الأصلي (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بإشراق أنوار الروح على القلب وتنويرها إياه واستعدادها للإلهامات الملكية المفيدة للاستسلام والانقياد لأحكامه (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) أي : الاحتجاب عن الدين (وَالْفُسُوقَ) أي : الميل إلى اتباع الشهوات بالهوى ومتابعة الشيطان بالعصيان لتنوّر النفس بنور القلب وانقيادها له واستفادتها ملكة العصمة بالاستسلام لأمره. والعصمة هيئة نورية في النفس يمتنع معها الإقدام على المعاصي كل ذلك لقوة الروح واستيلائه على القلب والنفس بنوره الفطري كما أن أضداد ذلك في الذين تمنوا طاعة الرسول إياهم لقوة النفس واستيلائها على القلب وحجبها إياه عن نور الروح (أُولئِكَ) الموصوفون بمحبة الإيمان وتزيينه في قلوبهم وكراهتهم المعاصي (هُمُ الرَّاشِدُونَ) الثابتون على الصراط المستقيم دون من يخالفهم (فَضْلاً مِنَ اللهِ) بعنايته بهم في الأزل المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد (وَنِعْمَةً) بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال استعداداتهم ، (حَكِيمٌ) يفيض عليها ما يليق بها ويناسبها بحكمته.

[٩ ـ ١٤] (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا

تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إلى آخره ، الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا والركون إلى الهوى والانجذاب إلى الجهة السفلية والتوجه إلى المطالب الجزئية ، والإصلاح إنما يكون من لوازم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة ، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له كما خرج عمار رضي الله عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية. وقيد الإصلاح في القسم الثاني وهو أن الباغية إحداهما بالعدل لأن بغي الطرفين يوغر الصدور ويهيج النفوس على الظلم فنهاهم عن ذلك إذ الإصلاح إنما يكون فضيلة معتبرة إذا لم يكن بالنفس بل بالقلب على مقتضى العدالة المحضة لإزالة الجور لا لغرض آخر كالحماية والحمية ورعاية المصلحة الدنيوية وغير ذلك ، ولذلك قال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : المحبة الإلهية إنما تترتب على العدالة ، فالإصلاح إذا لم يكن عن عدالة لم يكن عن محبة ، وإذا لم يكن عن محبة فلا يحبهم الله لوجوب اقتضاء محبة الله إياهم محبتهم له ، واقتضاء محبتهم له العدالة ومحبة المؤمنين فلو أحبهم لأحبوه كما قال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) ولو أحبوه لأحبوا المؤمنين ولزموا العدالة. ثم بيّن أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين للمناسبة الأصلية والقرابة الفطرية التي تزيد على القرابة الصورية والنسبة الولادية بما لا يقاس لاقتضائه المحبة القلبية اللازمة للاتصال الروحاني في عين جمع الوحدة لا المحبة النفسانية المسببة عن التناسب في اللحمة فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة وإحدى خصالها إذ لو لم يعدوا عن الفطرة ولم يتكدّروا بغواشي النشأة لم يتقاتلوا ولم يتخالفوا فوجب على أهل الصفاء بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى الصفاء.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في تكدّر الفطرة والبعد عن النور الأصلي بمقتضيات النشأة والرضا بالمفسدة وترك الإصلاح لضعف المحبة الدال على الاحتجاب عن الوحدة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بإفاضة نور الكمال المناسب لصفاء الاستعداد والمناهي المذكورة بعدها إلى قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) كلها من باب الظلم المقابل للعدالة اللازمة للإيمان التوحيدي.

قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) معناه : لا كرامة بالنسب لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب لا للتفاخر فإنه من الرذائل ، والكرامة لا تكونإلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى.

ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة كان صاحبها أكرم عند الله وأجلّ قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها وعن نسبة التأثير والفعل إلى الغير بالتوكل ، ومشاهدة أفعال الحق أكرم من الفاضل المتدرب بالفضائل الخلقية المعتدّ بتأثير الغير ، المحجوب برؤية أفعال الحق عن تجليات أفعال الحق وعن الحجب الصفاتية بالانسلاخ عنها في مقام الرضا ومحو الصفات أكرم من المتوكل في مقام توحيد الأفعال المحجوب بالصفات عن تجليات صفات الحق وعن وجوده المخصوص أي : أنيته التي هي أصل الذنوب بالفناء أكرم الجميع (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمراتب تقواكم (خَبِيرٌ) بتفاضلكم.

[١٥ ـ ١٨] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إلى آخره ، لما فرق بين الإيمان والإسلام وبين أنّ الإيمان باطني قلبي والإسلام ظاهري بدني. أشار إلى الإيمان المعتبر الحقيقي وهو اليقين الثابت في القلب المستقرّ الذي لا ارتياب معه لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ونوّرتها بأنوارها فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح فلم يمكنها إلا الجري بحكمها والتسخر لهيئتها وذلك معنى قوله : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد نفي الارتياب عنهم لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ وأثره في الظاهر (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الإيمان لظهور أثر الصدق على جوارحهم وتصديق أفعالهم وأقوالهم بخلاف المدّعين المذكورين.

سورة ق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١٦] (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦))

(ق) إشارة إلى القلب المحمدي الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل كما أن (ص) إشارة إلى صورته على ما رمز إليه ابن عباس في قوله : (ص) جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار ، ولكونه عرش الرحمن ، قال : «قلب المؤمن عرش الله» ، وقال : «لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن».

قيل : (ق) جبل محيط بالعالم وراءه العنقاء لإحاطته بالكل وكونه حجاب الربّ لا يعرفه من لم يصل إلى مقام القلب وإنما يطلع عليه من طلع هذا الجبل. أقسم به وبالقرآن المجيد أي : العقل القرآني الكامل فيه الذي هو الاستعداد الأولي الجامع لتفاصيل الوجود كله ، فإذا برز وصار إلى الفعل كان عقلا فرقانيا ولا يخفى مجده وشرفه بهذا المعنى ، أو القرآن المجيد النازل عليه الذي هو بعينه الفرقان البارز الذي أشرنا إليه جمعهما في القسم لتناسبهما وجواب القسم محذوف كما في (ص) وغيرها من السور ، وهو : إنه لحق أو إنه لمعجز مدلول عليه بقوله : (بَلْ عَجِبُوا) إلخ ، وبقوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي : أما اهتدينا إلى إبداع الحقائق وإيجاد الأشياء الأولية كالأرواح والسموات وأمثالها ، بل اعترفوا بذلك إنما هم في شبهة والتباس من خلق حادث يتجدد كل وقت ، لبس عليهم الشيطان حتى قالوا : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) ونسبوا التأثير إلى الزمان واحتجبوا عن معنى قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، ولو

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٩.

عرفوا الله حق معرفته وكان اعترافهم بإيجاده للخلق الأول عن علم ويقين لشاهدوا الخلق الجديد في كل آن فلم ينكروا البعث وكانوا عبادا مخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة ، وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والإثنينية الرافعة للاتحاد الحقيقي ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود من حيث هو وجود ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. فحبل غاية القرب الصوري أي : الاتصال بالجزئية الذي لا اتصال أشدّ منه في الأجسام مع كونه سبب حياة الشخص ، هذا أتم منه لبقائه. ثم بين أقربيته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هو مع كل شيء» ، لا بمقارنة إذ الشيء به ذلك الشيء وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه.

[١٧ ـ ١٨] (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي : يعلم حديث نفسه الذي يوسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين مع كونه أقرب إليه منهما ، وإنما تلقيهما للحجة عليه وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية للجزاء ، والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة ، وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة وهي جهة النفس التي تلي الحق ، والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية والآراء الشيطانية الوهمية والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة وهي التي تلي البدن ، ولأن الفطرة الإنسانية خيّرة بالذات لكونها من عالم الأنوار مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته ، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال ، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال عن كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح أي : التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية بالرجوع إلى مقره الأصلي وسنخه الحقيقي وحاله الغريزي لينمحي أثر ذلك الأمر العارضي بالنور الأصلي والاستغفار ، أي : التنوّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كماقال عليه الصلاة والسلام : «كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكتاب السيئات على يساره ، وكاتب

الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار : دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر».

[١٩ ـ ٢٠] (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠))

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي : شدّته المحيرة الشاغلة للحواس المذهلة للعقل (بِالْحَقِ) بحقيقة الأمر الذي غفل عنه من أحوال الآخرة والثواب والعقاب ، أي : أحضرت السكرة التي منعت المحتضر عن الإدراكات الخارجية أحواله الباطنة وأظهرت عليه (ذلِكَ ما كُنْتَ) أيها المحتضر (مِنْهُ تَحِيدُ) أي : تميل إلى الأمور الظاهرة وتذهل عنها (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) للإحياء ، أي : أحيى كل منهم في صورة تناسبه في الآخرة (ذلِكَ) النفخ وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخّر.

[٢١] (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) من علمه (وَشَهِيدٌ) من عمله لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره وما اختاره بعلمه ، والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمه وقواه ، أو أمرا علويا روحانيا بعثه عليه عقله ومحبته الروحانية وحرّضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه ، وشاهده بالميل الغالب عليه والحب الراسخ فيه والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه وينطق عليه كتابه بالحق وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله.

[٢٢ ـ ٢٣] (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣))

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه لاشتغالك بالظاهر عن الباطن (فَكَشَفْنا عَنْكَ) بالموت (غِطاءَكَ) المادي الجسماني الذي احتجبت به (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي : إدراكك لما ذهلت عنه ولم تصدق بوجوده يقينا قوي تعاينه (وَقالَ قَرِينُهُ) من شيطان الوهم الذي غرّه بالظواهر وحجبه عن البواطن (هذا ما لَدَيَ) مهيأ لجهنم ، أي : ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية وإنه ملكه واستعبده في طلب اللذات البدنية حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة.

[٢٤ ـ ٢٦] (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦))

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) الخطاب للسائق والشهيد اللذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية وغيابة جب الطبيعة الظلمانية في نيران الحرمان أو لمالك.

والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل كأنما قال : ألق ، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية ، ويقوّي الأول أنه عدد الرذائل الموبقة التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ووقوعهم في نيران الجحيم وبين أنها من باب العلم والعمل والكفران ومنع الخير كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية لانهماكها في لذاتها واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ومن حقها أن تذكره وتبعث على شكره وشدّة حرصها ومكالبتها عليها لفرط ولوعها بها فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه وغلبتهما عليه وتعمقه فيهما الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة ، والعتود والاعتداء كلاهما من إفراط القوة الغضبية واستيلائها لفرط الشيطنة والخروج عن حد العدالة ، والأربعة من باب فساد العمل والريب والشرك كلاهما من نقصان القوة النطقية وسقوطها عن الفطرة بتفريطها في جنب الله وقصورها عن حدة القوة العاقلة وذلك من باب فساد العلم.

[٢٧ ـ ٢٩] (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال ، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه كالغضبية والشهوية مثلا ، ولهذا قال : (لا تَخْتَصِمُوا). ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية كان أصل التخاصم بينهما وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر لتوقع نفع أو لذة يتوافقان ما دام مطلوبهما حاصلا ، فإذا حرما أو وقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر لاحتجابهما عن التوحيد وتبرئ كل منهما عن ذنبه لمحبة نفسه ، ولذلكقال حارثة رضي الله عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورأيت أهل النار يتعاورون» (١). وصوّب عليه‌السلام قوله وقول الشيطان : (ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، كقوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢)

__________________

(١) قوله : يتعاورون ، هكذا في النسخ ، وليحرر الحديث. اه.

(٢) سورة ق ، الآية : ٢٢.

لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية لم يقبل وسوسة الشيطان وقبل إلهام الملك ، فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب عن نور الفطرة واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة ، والنهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاؤهما بل عدم فائدته والاستماع إليه كأنه قال : لا اختصام مسموع عندي.

وقد ثبت وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأسا حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ورانت على قلوبكم وتحقق الحجاب وحق القول بالعذاب ، ف (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) حينئذ لوجوب العذاب حال وقوعه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ) حيث وهبت الاستعداد وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة واستبدل ما يفنى بما يبقى.

[٣٠] (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) أي : يوم يتكثر أهل النار حتى تستبعد الزيادة عليهم ولا تنتقص سعتها بهم ولا يسكن كلبها. وفي الحديث : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟! حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فتقول : قط قط بعزتك وكرمك» ، أي : لا يزال الخلق يميلون إلى الطبيعة بالشهوة والحرص والطبيعة باقية على حالها ، جاذبة لما يناسبها ، قابلة لصورها الملاءمة لها ، ملقية لما قبلت إلى أسفل الدركات إلى ما لا يتناهى حتى يصل إليها أثر نور الكمال الوارد على القلب فتتنور به وتنتهي عن فعلها. وعبر عن تشعشع النور الإلهي من القلب على النفس بقدم ربّ العزة القوي على قهرها ومنعها عن فعلها وإجبارها على موافقة القلب ، فتقول : قطني ، قطني.

[٣١ ـ ٣٣] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣))

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي : جنة الصفات للذين اتقوا صفات النفس بدليل قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) لأن الخشية تختص بتجلي العظمة ولقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : مكانا غير بعيد لكون جنة الصفات أقرب من جنة الذات في الرتبة دون الظهور ، إذ الذات أقرب في الظهور لأن في عالم الأنوار كل ما كان أبعد في العلوّ والمرتبة من الشيء كان أقرب إليه في الظهور لشدة نوريته ولقوله : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي : رجّاع إلى الله بفناء الصفات (حَفِيظٍ) أي : محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي كي لا يتكدّر بظلمة النفس من اتصف

بالخشية وصارت الخشية مقامه عند تجلي الحق في صفة الرحمة الرحمانية إذ هي أعظم صفاته لدلالتها على إفاضة جميع الخيرات والكمالات الظاهرة على الكل وهي جلائل النعم وعظائمها (بِالْغَيْبِ) أي : في حالة كونه غائبا عن شهود الذات ، إذ المحتجب بتجلي الصفات غائب عن جمال الذات (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) إلى الله عن ذنوب صفات النفس في معارج صفات الحق دون الساكن في مقام الخشية الذي لا يقصد التوقي.

[٣٤ ـ ٣٥] (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

(ادْخُلُوها) بسلامة عن عيوب صفات النفس آمنين عن تلوينها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) من نعم التجليات الصفاتية وأنوارها بحسب الإرادة (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) من نور تجلي الذات الذي لا يخطر على قلوبهم.

[٣٦ ـ ٣٧] (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧))

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) قبل هؤلاء المتقين بالإفناء والإحراق بسبحات تجلي الذات (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : أولياء أقوى منهم في صفات نفوسهم لأن الاستعداد كلما كان أقوى كانت صفات النفس في البداية أقوى (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي : مفاوز الصفات ومقاماتها (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) عن الفناء بالاحتجاب ببعضها والتواري بها عند إشراق أنوار سبحات الوجه الباقي ، وكيف المحيص ولا تبقى صفة هناك فضلا عن تواريه بها (إِنَّ فِي ذلِكَ) المعنى المذكور لتذكيرا (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) كامل بالغ في الترقي إلى حد كماله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) في مقام النفس إلى القلب لفهم المعاني والمكاشفات للترقي ، وهو حاضر بقلبه ، متوجه إليه ، مفيض لنوره ، مترقّ إلى مقامه.

[٣٨] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨))

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي : ست جهات إن فسرنا السموات والأرض على الظاهر وإن أوّلنا السموات بالأرواح والأرض بالجسم ، فهي صور الممكنات الستّ من الجبروت والملكوت والملك التي هي مجموع الجواهر والإضافيات والكميات والكيفيات التي هي مجموع الأعراض ، فهذه الستة تحصر المخلوقات بأسرها ، والستة الآلاف المذكورة التي هي مدة دور الخفاء على ما ذكر في (الأعراف).

[٣٩ ـ ٤٠] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) بالنظر إليهم بالفناء وعدم تأثير أقوالهم بالانسلاخ عن الأفعال وحبس النفس عن الظهور بأفعالها إن لم تحبسها عن الظهور بصفاتها (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) بالتجريد عن صفات النفس حامدا لربّك بالاتصاف بصفاته وإبراز كمالاته المكتوبة فيك في مقام القلب (قَبْلَ طُلُوعِ) شمس الروح ومقام المشاهدة (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) غروبها بالفناء في أحدية الذات (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي : في بعض أوقات ظلمة التلوين فنزّهه عن صفات المخلوقين بالتجرّد عن الصفة الظاهرة بالتلوين (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وفي أعقاب كل فناء ، فإن عقيب فناء الأفعال يجب الاحتراز عن تلوين النفس وعقيب الفناء عن الصفات يجب التنزّه عن تلوين القلب ، وعقيب فناء الذات يجب التقدّس عن ظهور الأنانية.

[٤١ ـ ٤٣] (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣))

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ) الله بنفسه من أقرب الأماكن إليك كما نادى موسى من شجرة نفسه ، يوم يسمع أهل القيامة الكبرى صيحة القهر والإفناء بالحق من الحق (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من وجوداتهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : شأننا الإحياء والإماتة نحيي أولا بالنفس ثم نميت عنها ثم نحيي بالقلب ثم نميت عنه ثم نحيي بالروح ثم نميت عنه بالفناء (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) بالبقاء بعد الفناء بل في كل فناء إذ لا غير يصيرون إليه.

[٤٤ ـ ٤٥] (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

(يَوْمَ تَشَقَّقُ) أرض البدن (عَنْهُمْ سِراعاً) إلى ما يجانسهم من الخلق (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) نحشرهم مع من يتولّونه بالمحبة بانجذابهم إليه دفعة بلا كلفة من أحد (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) لإحاطة علمنا بهم وتقدمه عليهم وعلى أقوالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تجبرهم على خلاف ما اقتضى استعدادهم وحالهم التي هم عليها ، (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (١) فاصبر بشهود ذلك مني واحبس النفس عن الظهور بالتلوين وذكر بالقرآن بما نزل عليك من العقل الجامع بجميع المراتب (مَنْ) يتأثر بالتذكير ف (يَخافُ وَعِيدِ) لكونه قابلا للوعظ مجانسا لك في الاستعداد قريبا مني دون المردودين الذين لا يتأثرون به والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الغاشية ، الآية : ٢١.

سورة الذاريات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣))

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) أي : النفحات الإلهية والنسائم القدسية التي تذرو غبار الهيئات الظلمانية وتراب الصفات النفسانية ذروا (فَالْحامِلاتِ) أي : الواردات النورانية التي تحمل أوقار الحقائق اليقينية والعلوم الكشفية الحقيقية التي لها ثقل في الميزان لبقائها دون التي تخف من الأمور الفانية إلى قلوب أهل العرفان والنفوس القابلة المستعدة الحاملة لتلك الحقائق والمعاني (فَالْجارِياتِ يُسْراً) أي : النفوس التي تجري في ميادين المعاملات ومنازل القربات بواسطة تلك النفحات والواردات يسرا بلا كلفة كما للمحرومين عن ذلك أو القلوب التي تجري في أبحر الصفات بتلك النفحات يسرا.

[٤ ـ ٦] (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي : الملائكة المقرّبين من أهل الجبروت والملكوت التي تقسم بكل واحدة قسطا من السعادة والرزق الحقيقي على حسب الاستعدادات (إِنَّما تُوعَدُونَ) من حال القيامة الكبرى وحصول الكمال المطلق (لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ) أي : الجزاء الذي هو الفيض الوارد بحسب السعي في السلوك والعمل المعدّ للقبول أو الحرمان والتعذب بالحجاب والتأذي بالهيئات المؤذية المظلمة بسبب الركون إلى الطبيعة (لَواقِعٌ) كما قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) ، وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)) (٢). أقسم بالمعدّات والقوابل والمفيضات على أن مقتضى اجتماعها واجب الوقوع.

[٧ ـ ٩] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩))

(وَالسَّماءِ) أي : الروح (ذاتِ) الطرائق من الصفات ، فإن من كل صفة طريقا إلى سماء الروح يصل إليها من يسلكها وكل مقام وحال بابا إليها (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) من

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩.

(٢) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٦.

حديث النفس وشجونه المتنوّعة المانعة عن اتحاد الوجهة في السلوك أو الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة المانعة عن الكمال من أنواع الجهل المركب (يُؤْفَكُ عَنْهُ) أي : بسبب ذلك القول المختلف الذي هو حديث النفس أو الاعتقاد الفاسد (مَنْ أُفِكَ) أي : المحجوب المحكوم عليه في القضاء السابق بسوء الخاتمة دون غيره أو يصرف عما توعدون من الكمال من صرف بالشقاوة الأزلية في علم الله.

[١٠ ـ ١٣] (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣))

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي : لعن الكذابون بالأقوال المختلفة (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي : جهل يغمرهم ، غافلون عن الكمال والجزاء (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) لبعدهم عن ذلك المعنى واستبعادهم لذلك وتعجبهم منه لمكان الاحتجاب ، أي : متى وقوع هذا الأمر المستبعد (يَوْمَ هُمْ) أي : يقع يوم هم يعذبون على نار الحرمان في ظلمات الهيئات بفساد الأبدان والوقوع في الهلاك والخسران مقولا لهم.

[١٤] (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي : عذابكم (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة والكمالات البهيمية والسبعية.

[١٥ ـ ١٦] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين تجرّدوا عن هيئات الطبيعة وصفات النفس في جنات الصفات وعلومها (آخِذِينَ) أي : قابلين (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من أنوار تجليات الصفات راضين بها (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي : قبل الوصول إلى مقام تجليات الصفات (مُحْسِنِينَ) بشهود الأفعال في مقام العبادات والمعاملات كماقال عليه‌السلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».

[١٧ ـ ٤٩] (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١))

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ

هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩))

(كانُوا قَلِيلاً) من ليل الاحتجاب في مقام النفس ما يغفلون عن السلوك (وَبِالْأَسْحارِ) أي : أوقات طلوع أنوار التجليات وانقشاع ظلمة صفات النفس (هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يطلبون التنوّر بالأنوار وتستر صفات النفس وهيئات السوء بها ومحوها (وَفِي أَمْوالِهِمْ) أي : علومهم الحقيقية والنافعة (حَقٌّ لِلسَّائِلِ) أي : المستعدّ الطالب (وَالْمَحْرُومِ) القاصر الاستعداد ، أو المحجوب عن نور فطرته بالغواشي البدنية والرسوم العادية بإفاضة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية على الأول ، والعلوم النافعة الباعثة على الرياضة والمجاهدة على الثاني (وَفِي الْأَرْضِ) أي : ظاهر البدن (آياتٌ) من ظواهر الأسماء والصفات الإلهية (لِلْمُوقِنِينَ) الذين يشاهدون صفات الله في مظاهرها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) من أنوار تجلياتها. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) وفي سماء الروح (رِزْقُكُمْ) المعنوي من العلوم كما في سماء العالم رزقكم الصوريّ (وَما تُوعَدُونَ) من الأنوار وأحوال القيامة الكبرى (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي : ما ذكر من آيات الأرض والأنفس ووجوه الرزق وما وعد في السماء حق (مِثْلَ) نطقكم فإنه صفة من صفات المتكلم الحقيقي ظهر على لسانكم وفي أرض أبدانكم وتجلى بها المتكلم الحقيقي على قلوبكم إن حضرتم وشهدتم ونزل بها الرزق المعنوي الذي يندرج في صورة الألفاظ من سماء روحكم عليكم إن كان نطقا حقيقيا لا صوتا كأصوات الحيوانات ، فإنه لا يسمى نطقا إلا مجازا ، وحصل به كمالكم وأشرق نوره عليكم لتهتدوا به إلى أحوال الآخرة. وأما حديث ضيف إبراهيم وما نزلوا به فقد مرّ تحقيقه في سورة (هود).

[٥٠ ـ ٥٥] (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي : انقطعوا إليه واستضيئوا بنوره واستمدّوا من فيضه في محاربة النفس والشيطان ، وتخلصوا إليه من عدوانهما وطغيانهما ولا تلتفتوا إلى غيره ولا تثبتوا لما سواه وجودا وتأثيرا فيستولي عليكم الشيطان ويسوّل عليكم طاعته وعبادته ولا تجعلوا معه بهوى النفس معبودا كالنفس وما تهواه فتشركوا وتحتجبوا به عنه فتهلكوا.

[٥٦] (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦))

(وَما خَلَقْتُ) جنّ النفوس وأنس الأبدان أو الثقلين المشهورين (إِلَّا) ليظهر عليهم صفاتي وكمالاتي فيعرفوني ثم يعبدوني إذ العبادة بقدر المعرفة ومن لم يعرف لم يعبد ، كماقال العارف المحقق عليه‌السلام : «لا أعبد ربّا لم أره» ، أي : لم أخلقهم ليحتجبوا بوجوداتهم وصفاتهم عني فيجعلوا أنفسهم آلهة معبودة غيري أو يحتجبوا بخلقي وما تهوى أنفسهم فيجعلوه إلها غيري ويعبدوه.

[٥٧ ـ ٥٨] (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨))

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : خلقتهم بأن احتجبت بهم بذاتي وصفاتي ليظهروا فيتخلقوا بخلقي فيحتجبوا بي ويستتروا بفناء الأفعال والصفات ولا ينسبوا الرزق والإطعام والتأثير إلى أنفسهم لظهورها بالأفعال والصفات وانتحال أفعالي وصفاتي لها بالكذب والطغيان (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي : ذاته الموصوفة بجميع الصفات هي مصدر الأفعال اللطيفة كالرزق والقهرية كالتأثير في الأشياء دون غيره.

[٥٩] (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩))

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بنسبة الفعل والتأثير إلى الغير من مخلوقاته سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيرهم نصيبا وافرا من عذاب الله (مِثْلَ) نصيب نظرائهم من المحجوبين بالصفات (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) في الاستمتاع بأفعالهم.

[٦٠] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن الحق في أي مرتبة كانت بأي شيء كان (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) في القيامة الصغرى ، والله أعلم.

سورة الطور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالطُّورِ) الطور هو الجبل الذي كلم عليه موسى ، وهو الدماغ الإنساني الذي هو مظهر العقل والنطق أقسم به لشرفه وكرامته ولكون الفلك الأعظم الذي هو محدد الجهات بالنسبة إلى العالم بمثابة الدماغ بالنسبة إلى الإنسان ، يمكن أن يكون إشارة إليه ، وأقسم به لشرفه وكونه مظهر الأمر الإلهي ومحل القضاء الأزلي.

والكتاب المسطور هو صورة الكل على ما هو عليه من النظام المعلوم المنتقش في لوح القضاء الذي هو الروح الأعظم المشار إليه هاهنا بالرقّ المنشور وتنكيرهما للتعظيم.

[٤ ـ ٨] (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو قلب العالم أي : النفس الناطقة الكلية ، وهو لوح القدر ، وعمرانه كثرة إطافة الملكوت به (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) هو السماء الدنيا التي تنزل الصور والأحكام من لوح القدر الذي هو اللوح المحفوظ إليه ثم تظهر في عالم الشهادة بحلولها في المواد وهو لوح المحو والإثبات بمثابة محل الخيال في الإنسان (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) هو الهيولى المملوءة بالصور التي يظهر عليها جميع ما أثبت في الألواح المذكورة.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) بظهور القيامة الصغرى. وعلى التأويل الأول وهو تأويل الطور بالدماغ يكون الكتاب المسطور إشارة إلى المعلومات المركوزة في الروح الإنساني المسماة بالعقل القرآني ، والروح هو الرقّ المنشور ونشوره ظهوره وانبثاثه في البدن والبيت المعمور هو القلب الإنساني والسقف المرفوع هو مصعد الخيال المنتقش بالصور الجزئية والبحر المسجور هو مادة البدن المملوءة بالصور والله أعلم.

[٩ ـ ١٢] (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢))

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي : تضطرب الروح وتجيء وتذهب عند السكرات ومفارقة

البدن (وَتَسِيرُ الْجِبالُ) أي : تذهب العظام وترم وتصير هباء منبثا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين احتجبوا بالدنيا عن الآخرة فكذبوا بالجزاء (الَّذِينَ) يخوضون في باطل الذات الحسيّة والاعتقادات الفاسدة والأقوال المزخرفة ويتعمقون في اللعب الذي هو الحياة الدنيا وزينتها السريعة الزوال.

[١٣ ـ ١٦] (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

(يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي : يجرّون ويسحبون بالعنف (إِلى نارِ) الحرمان والآلام في قعر بئر الطبيعة الفاسقة المنحوسة في سلاسل التعلقات وأغلال الهيئات الجرمانية.

[١٧ ـ ١٨] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتّقوا الرذائل وصفات النفوس (فِي جَنَّاتٍ) من جنات الصفات ولذّة وذوق وتنعم فيها (فاكِهِينَ) متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من أنوار التجليات ومعارف الوجدانيات والكشفيات (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ) جحيم الطبيعيات والاحتجاب بالبهيميات والسبعيات من الهيئات.

[١٩] (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩))

(كُلُوا) من أرزاق الحكم والعلوم الحقيقية التي هي قوت القلوب (وَاشْرَبُوا) من مياه العلوم النافعة وخمور العشق والمحبة أكلا هنيئا وشربا (هَنِيئاً) سائغا غير ذي غصّة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسبب أعمالكم في الزهد والعبادة والمجاهدة والرياضة.

[٢٠ ـ ٢٣] (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ) أي : مراتب ومقامات (مَصْفُوفَةٍ) مترتبة كالتسليم والتوكل والرضا أو متقابلة تتساوى في مقاماتهم كقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١).

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : قرناهم بما في درجاتهم من الصور المقدسة والجواهر المجردة من الروحانيات التي لا حسن وراء حسنها (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) من الواردات اللذيذة

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٤٧.

والمواجيد الذوقية والإشراقات البهيجة (وَلَحْمٍ) من العلوم المقوية للقلوب والحكم المحيية لها (مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي : يشتاقون إليه بمقتضى استعداداتهم وأحوالهم (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون ويتعاورون في مباحثاتهم ومحاوراتهم ومذاكراتهم (كَأْساً) خمرا لذيذا من المعارف والعشقيات والذوقيات (لا لَغْوٌ فِيها) بسقط الحديث والهذيان والكلام بما لا طائل تحته (وَلا تَأْثِيمٌ) ولا قول يأثم به صاحبه وينسب إلى الإثم كالغيبة والفواحش والشتم والأكاذيب.

[٢٤] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) من الملكوت الروحانية أي : تخدمهم الروحانيات أو أهل الإرادة وصفاء الاستعداد من الأحداث الطالبين (كَأَنَّهُمْ) لفرط صفائهم ونوريتهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) محفوظ من تغيرات هوى النفس وغبار الطبائع مخزون من ملامسة ذوي العقائد الرديئة والعادات المذمومة.

[٢٥ ـ ٤٧] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧))

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عن بداياتهم وأحوال رياضاتهم في عالم النفس ومأوى الحس الذي هو الدنيا (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي : قبل الوصول إلى فضاء القلب وروح الروح في الآخرة (فِي أَهْلِنا) من القوى البدنية وصفات النفس (مُشْفِقِينَ) وجلين من ذكر الله خائفين من العقاب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بتجليات الصفات ونعم المكاشفات (وَوَقانا عَذابَ) سموم هوى النفس وجحيم الطبيعة (إِنَّا كُنَّا مِنْ) قبل هذا المقام (نَدْعُوهُ) نذكره ونعبده (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن بمن دعاه بإفاضة العلم والتحقيق (الرَّحِيمُ) لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.

[٤٨ ـ ٤٩] (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

(وَاصْبِرْ) بمنع النفس عن الظهور بالاعتراض على الحكم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) فإنّا نراك ونرقبك فاحترز عن ذنب ظهور النفس بحضورنا (وَسَبِّحْ) نزّه الله بالتجرد عن ملابس صفات النفس حامدا لربّك بإظهار كمالاتك التي هي صفاته (حِينَ تَقُومُ) في القيامة الوسطى عن نوم غفلة مقام النفس بالرجوع إلى الفطرة (وَمِنَ اللَّيْلِ) ومن بعض أوقات الظلمة عند التلوين بظهور صفة من صفاتها (فَسَبِّحْهُ) بالتجرد عنها والتنوّر بنور الروح (وَإِدْبارَ) نجوم الصفات وغيبتها بظهور نور شمس الذات وطلوع فجر بداية المشاهدة ، والله تعالى أعلم.

سورة النجم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أقسم بالنفس المحمدية إذا فنيت وغربت عن محل الظهور وسقطت عن درجة الاعتبار في الظهور والحضور (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) بالوقوف مع النفس والانحراف عن المقصد الأقصى بالميل لها (وَما غَوى) بالاحتجاب بالصفات والوقوف معها في مقام القلب (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) بظهور صفة النفس في التلوين (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إليه من وقت وصوله إلى أفق القلب الذي هو سماء الروح إلى انتهائه إلى الأفق الأعلى الذي هو نهاية مقام الروح المبين (عَلَّمَهُ) روح القدس الذي هو (شَدِيدُ الْقُوى) قاهر لما تحته من المراتب مؤثر فيها تأثيرا قويا (ذُو مِرَّةٍ) ذو متانة وأحكام في علمه لا يمكن تغيره ونسيانه (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الذاتية والنبي بالأفق الأعلى لأنه حين كون النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي وكان من أحسن الناس صورة وأحبهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر لم يفهم القلب كلامه ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي عليه‌السلام إلا مرتين عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام الأول عند سدرة المنتهى في التدلي.

[٨ ـ ٩] (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩))

(ثُمَّ دَنا) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترقى عن مقام جبريل بالفناء في الوحدة والترقي عن مقام الروح ، وفي هذا المقامقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت» ، إذ وراء مقامه ليس إلا الفناء في الذات والاحتراق بالسبحات (فَتَدَلَّى) أي : مال إلى الجهة الإنسية بالرجوع من الحق إلى الخلق حال البقاء بعد الفناء والوجود الموهوب الحقاني (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي : كان عليه‌السلام مقدار دائرة الوجود الشاملة للكل المنقسمة بخط موهوم إلى قوسين باعتبار الحق والخلق ، والاعتبار هو الخط الموهوم القاسم للدائرة إلى نصفين. فباعتبار البداية

والتداني يكون الخلق هو القوس الأول الحاجب للهوية في أعيان المخلوقات وصورها والحق هو النصف الأخير الذي يقرب منه شيئا فشيئا وينمحي ويفنى فيه ، وباعتبار النهاية والتدلي فالحق هو القوس الأول الثابت على حاله أزلا وأبدا والخلق هو القوس الأخير الذي يحدث بعد الفناء بالوجود الجديد الذي وهب له (أَوْ أَدْنى) من مقدار القوسين بارتفاع الاثنينية الفاصلة الموهمة لاتصال أحد القوسين بالآخر وتحقق الوحدة الحقيقية في عين الكثرة بحيث تضمحل الكثرة فيها وتبقى الدائرة غير منقسمة بالحقيقة أحدية الذات والصفات.

[١٠ ـ ١١] (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١))

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) في مقام الوحدة بلا واسطة جبريل عليه‌السلام (ما أَوْحى) من الأسرار الإلهية التي لا يجوز كشفهالصاحب النبوّة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) في مقام الجمع والفؤاد هو القلب المترقي إلى مقام الروح في الشهود المشاهد للذات مع جميع الصفات الموجود بالوجود الحقاني ، وهذا الجمع هو جمع الوجود لا جمع الوحدة الذي لا فؤاد فيه ولا عبد لفناء الكل فيها المسمى باصطلاحهم : عين جمع الذات ، وأما هذا الجمع فيسمى الوجه الباقي أي : الذات الموجودة مع جميع الصفات.

[١٢] (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

(أَفَتُمارُونَهُ) أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوّره ، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصوّر الأمر المختلف فيه ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقية.

[١٣ ـ ١٧] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧))

(وَلَقَدْ رَآهُ) أي : جبريل في صورته الحقيقية (نَزْلَةً أُخْرى) عند الرجوع عن الحق والنزول إلى مقام الروح (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قيل : هي شجرة في السماء السابعة ينتهي إليها علم الملائكة ولا يعلم أحد ما وراءها وهي نهاية مراتب الجنة يأوي إليها أرواح الشهداء فهي الروح الأعظم الذي لا تعين وراءها ولا مرتبة ولا شيء فوقها إلا الهوية المحضة ، فلهذا نزل عندها وقت الرجوع عن الفناء المحض إلى البقاء ورأى عندها جبريل عليه‌السلام على صورته التي جبل عليها (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها أرواح المقرّبين (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ) من جلال الله وعظمته (ما يَغْشى) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يراها عند تحققه بالوجود الحقاني بعين الله فرأى الحق متجليا في صورتها ، فقد غشي السدرة من التجلي الإلهي ما سترها وأفناها فرآها بعين الفناء لم يحتجب بها وبصورتها ولا بجبريل وحقيقته عن الحق ، ولهذا قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ)

بالالتفات إلى الغير ورؤيته (وَما طَغى) بالنظر إلى نفسه واحتجابه بالأنائية.

[١٨ ـ ٢٥] (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥))

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي : الصفة الرحمانية الذي يندرج فيها جميع الصفات بتجليه تعالى فيها بل حضرة الاسم الأعظم الذي هو الذات مع جميع الصفات المعبر عنه بلفظة الله في عين جمع الوجود ، بحيث لم يحتجب عن الذات بالصفات ولا بالصفات عن الذات.

[٢٦ ـ ٣٦] (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦))

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) إلى آخر الآية ، الشفاعة من الملائكة هي إفاضة الأنوار والإمداد على المستشفع عند استفاضته بالتوسل بالشفيع الذي هو الوسيلة والواسطة المناسبة بينهما واتصال فعلي ، هذا شفاعتهم في حق النفوس البشرية لا تكون إلا إذا كانت مستعدّة في الأصل ، قابلة لفيض الملكوت. ثم تزكّوا عن الهيئات البشرية والغواشي الطبيعية بالتوجه إلى جناب القدس والتجرّد عن ملابس الحس ومواد الرجس فتستفيض من نورها وتستمد من فيضها وتتصل بها وتنخرط في سلكها ، فتتقرّب إلى الله بواسطتها. فالاستعداد القابل الأصلي هو الإذن في الشفاعة والرضا بها هو الزكاء والصفاء الحاصل بالسعي والاجتهاد ، فإذا اجتمعا حصلت الشفاعة وإن لم يكن الاستعداد في الأصل أو كان وقد تغير بالعلائق والغواشي ولم تبق على صفائها فلم يكن إذن ولا رضا من الله فلا شفاعة ، فقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) معناه : عدم الشفاعة لا وجودها ، وعدم إغنائها لاستحالة ذلك في عالم الملكوت فهو كقوله :

ولا ترى الضب بها ينحجر

[٣٧] (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧))

(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) حق الله عليه بتسليم الوجود إليه حال الفناء في التوحيد بالقيام بأمر العبودية وتبليغ الرسالة والنبوة في مقام الاستقامة أو أتم الكلمات التي ابتلاه الله بها وهي ما ذكر من الصفات. وقرئ : وفى ، مخففا ، أي : بعهده المأخوذ ميثاقه عليه في أول الفطرة بأن ثبت عليه حتى بلغ مقام التوحيد المشار إليه بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١).

[٣٨ ـ ٥٦] (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦))

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب وكذلك الثواب إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل ، كما قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بخلاف الحظوظ العاجلة المقسومة المقدّرة وإن كانت تلك أيضا مستندة إلى قضاء من الله وقدر ، لكن المعتبر هو السبب القريب الموجب لكل منهما.

النشأة الأخرى تقع على أمور ثلاثة : الأول : إعادة الأرواح إلى الأجساد للحساب والجزاء المرتب على أعمال الخير والشر بالمصير إلى النار أو جنة الأفعال.

والثاني : هو العودة إلى الفطرة الأولى والرجوع إلى مقام القلب.

والثالث : هو العود إلى الوجود الموهوب الحقاني بعد الفناء التام.

والأول لا بد لكل أحد منه سواء كانت الأجساد نورانية أو ظلمانية دون الباقيين.

[٥٧ ـ ٦٢] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٩.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) إن حملت على القيامة الصغرى فقربها ظاهر ، والكاشفة إما المبينة لوقتها أو الدافعة وإن حملت على الكبرى فقربها من وجهين : أحدهما القرب المعنوي لأنها أقرب شيء إلى كل أحد لكونه في عين الوحدة وإن كان هو بعيدا عنها لغفلته وعدم شعوره بها ، والثاني : أن وجود محمد وبعثته عليه‌السلام مقدمة دور الظهور وأحد أشراطه ، ولهذاقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وجمع بين السبابة والوسطى ، وتظهر بوجود المهدي عليه‌السلام (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي : نفس مبينة لامتناع وجود غيره وعلمه عندها (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) بالفناء (وَاعْبُدُوا) بالبقاء بعده ، والله أعلم.

سورة القمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦))

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إنما كان انشقاق القمر آية قرب القيامة الكبرى ، لأن القمر إشارة إلى القلب لكونه ذا وجهين : وجه مظلم يلي النفس ، وآخر منوّر يلي الروح ، ولاستفادته النور من الروح كاستفادة القمر النور من الشمس وانفلاقه بتأثير نور الروح فيه وظهور شمسه من مغربها أي : بروزها من حجاب القلب بعد كونها فيه علامة قرب الفناء في الوحدة لكونه مقام المشاهدة المؤدية إلى الشهود الذاتي وإن حملت على دور الظهور الذي هو زمان المهدي المبعوث في نسمها. فانشقاق القمر انفلاقه عن ظهور محمد عليه‌السلام لظهوره في دور القمر وإن حملت على الصغرى فالقمر هو البدن لاستفادته نور الشعور والحياة من شمس الروح وظلمته في نفسه ويقويه قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي : يظهر مقتضى الموت ويدعو موجبه إلى شيء منكر فظيع تكرهه النفوس.

[٧ ـ ١٠] (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠))

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) من الذلّة والعجز والمسكنة والحرمان (يَخْرُجُونَ) من أجداث الأبدان (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) شبهها بالجراد لكثرة النفوس المفارقة وذلتها وضعفها وحرصها وتهالكها على حضرة الذات الحسية والشهوات الطبيعية وميلها إلى الجهة السفلية كما شبهها بالفراش لتهالكها إلى نور الحياة. وعلى الأول يوم يدعو داعي الروح والقلب النفوس إلى شيء منكر عندها من ترك الحظوظ العاجلة واللذات البدنية والحسيّة الذي هو الموت الإرادي بالرياضة ومشايعة السرّ في التوجه إلى جناب الحق خشعا أبصارهم ، ذليلة منكسرة لقهر الداعي لها واستيلائه عليها يخرجون من أجداث الأبدان بالتجرد والانخلاع عنها كأنهم جراد لضعفها

وطيرانها في شعاع نور شمس الروح (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) على كلا التأويلين لانقيادها طوعا وكرها (يَقُولُ الْكافِرُونَ) أي : المحجوبون عن الدين أو الحق (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) لنزوعهم إلى اللذات والشهوات الحسيّة وشوقهم إليها وضراوتهم بها ، فأما غير المحجوب فأيسر شيء عليه الموت الطبيعي والإرادي جميعا.

[١١] (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١))

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ) سماء العقل بعلم منصب إلى العالم السفلي بقوة ، أي : نكسنا عقولهم بالميل إلى الدنيا والاشتغال بتدابير الأمور الجزئية وترتيب اللذات الحسية والانهماك في أمر المعاش وصرف عملها فيه ووقوفها معها واحتجابها بها عن الأمور الأخروية المؤدّي إلى هلاكهم ، فهو كقوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) (١).

[١٢ ـ ١٤] (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤))

(وَفَجَّرْنَا) أرض النفس (عُيُوناً) علوما جزئية حسيّة متعلقة بكسب الحطام وجمعه والتلذذ به والترفه فيه كأن نفوسهم كلها ذلك التدبير لشدة انجذابها إليها وحرصها فيها (فَالْتَقَى) العلمان في طلب الدنيا وجذبها (عَلى أَمْرٍ) قد قدّره الله تعالى وهو : إهلاكهم بسبب التورط في الشهوات بالجهل وحملنا نوحا على شريعة ذات أعمال وعلوم ترتبط بها الأعمال أو أحكام ومعاقد تستند إليها الأحكام (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي : تنفذ على حفظ منا في لجة جهلهم الغالب الغامر إياهم ، فلا يغلبها جهلهم فيبطلها (جَزاءً) لنوح عليه‌السلام الذي كان نعمة مكفورة من قومه بأن لم يعرفوه فيطيعوه ويعظموه فينجوا به ، بل أنكروه فعصوه فهلكوا بسببه.

[١٥ ـ ٢٦] (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي : آثار تلك الشريعة والدعوة إلى يومنا هذا (آيَةً) بينة لمن يعتبر بها

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٦.

(فَهَلْ) من متعظ ، فإنّ طريق الحق واحد والأنبياء كلهم متوافقون في أصول الشرائع (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) لقومه بإهلاكهم في ورطة الجهل وحرمان الحياة الحقيقية واللذة السرمدية وإنذاري على لسان نوح عليه‌السلام.

ووجه آخر وهو : تأوّل فتح السماء بإنزال الرحمة والوحي على نوح ، أي : فتحنا أبواب سماء روح نوح بعلم كلي منصب بقوّة شاملة لجميع الجزئيات وفجرنا أرض نفسه عيونا ، أي : علوما جزئية ، كإن نفسه كلها علوم ، فالتقى العلمان بانضمامها فصارت قياسات وآراء صحيحة بنى عليها شريعته المؤسسة على العمليات والنظريات ، فحملناه عليها بالعمل بها والاستقامة فيها فنجا فيها وبقي قومه في ورطة الجهل ، فغرقوا في تيار بحر الهيولى وأموال الجهالات وهلكوا.

[٢٧ ـ ٣٦] (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦))

(إِنَّا مُرْسِلُوا) ناقة نفسه ابتلاء (لَهُمْ) ليتميز المستعدّ القابل السعيد ، من الجاهل المنكر الشقي (فَارْتَقِبْهُمْ) لتنظر نجاة الأول وهلاك الثاني (وَاصْطَبِرْ) على دعوتهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَ) ماء العلم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) لها علم الروح الفائض عليها ولهم علم النفس ، أي : لها المعقولات ولهم المحسوسات (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) هي تحضر شربها بالتوجه إلى الروح وقبول العلوم الحقيقية والنافعة منها وهم يحضرون شربهم بالأوي إلى منبع الخيال والوهم ، وتلقي الوهميات والخياليات منه.

[٤٦] (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي : القيامة الصغرى ووقوعهم في العذاب الأبدي بزوال الاستعداد وقلب الوجوه إلى أسفل ، وهي أشدّ وأمرّ من عذاب القتل والهزيمة.

[٤٧] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧))

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بكسب الهيئات المظلمة الرديئة الجسمانية (فِي ضَلالٍ) عن طريق الحق لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم (وَسُعُرٍ) أي : جنون ووله لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم وحيرتها في الباطل.

[٤٨ ـ ٥٣] (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢))

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) بحشرها في صور وجوهها إلى الأرض وتسخيرها في قهر الملكوت الأرضية فيقهرها في أنواع العذاب ويعذبها بنيران الحرمان يقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وَما أَمْرُنا إِلَّا) كلمة (واحِدَةٌ) أي : تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معين على وجه معلوم ثابت في لوح القدرية المسمى في الشرع : كن ، فيجب وجوده في ذلك الزمان على ذلك الوجه دفعة (فِي الزُّبُرِ) أي : ألواح النفوس.

[٥٤ ـ ٥٥] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) على الإطلاق (فِي جَنَّاتٍ) من مراتب الجنان الثلاث عالية رفيعة (وَنَهَرٍ) علوم مرتبة بحسب مراتب الجنان المذكورة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي : خير وأي خير هو مقام الوحدة (عِنْدَ مَلِيكٍ) في حضرة الأسماء حال البقاء بعد الفناء ومقام الفرق بين الذات والصفات كائنين بالذات في مقعد صدق وبالصفات عند مليك مدبر مملكة الوجود على حسب الحكمة ومقتضى العناية على أحسن وجه وأتمّ نظام (مُقْتَدِرٍ) يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.

سورة الرحمن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) الرَّحْمنُ) اسم خاص من أسماء الله تعالى باعتبار إفاضة أصول النعم كلها من الأعيان وكمالاتها الأولية بحسب البداية ، وإنما أورد هاهنا لعموم وصفيته الشاملة للأوصاف التي تحت معناه في المبدئية ليسند إليه الأصول المختلفة الواردة بعده.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : الاستعداد الكامل الإنساني المسمى بالعقل القرآني الجامع للأشياء كلها ، حقائقها وأوصافها وأحكامها إلى غير ذلك مما يمكن وجوده ويمتنع بإيداعه في الفطرة الإنسانية وركزه فيها ولأن ظهوره وبرزوه إلى الفعل بتفصيل ما جمع فيه. وصيرورته فرقانا إنما تكون بحسب النهاية ما ذكر الفرقان كما ذكره في قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) (١) لأنه من باب الرحمة الرحيمية لا الرحمانية.

[٣ ـ ٤] (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤))

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : لما أبدع فطرته وأودع العقل القرآني فيها أبرزه في هذه النشأة بخلقه في هذه الصورة العجيبة (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي : النطق المميز إياه عن جميع ما سواه من المخلوقات ليخبر به عما في باطنه من العقل القرآني.

[٥ ـ ٦] (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦))

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي : الروح والقلب يجريان فيه ويسيران بحساب ، أي : قدر معلوم من منازلهما ومراتبهما مضبوط لا يجاوز أحدهما قدره ومرتبته التي عينت له ، فلكل منهما كمالات ومراتب محدودة القدر معلومة الغاية ينتهي إليها (وَالنَّجْمُ) أي : النفس الحيوانية النورانية بالشعور الحسي في ليل الجسم (وَالشَّجَرُ) أي : النفس النباتية المنمية له. (يَسْجُدانِ) بتوجههما إلى أرض الجسد ووضع جبهتهما عليها بالميل والإقبال الكلي نحوها لتربيتها وإنمائها وتكميلها.

[٧] (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧))

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ١.

(وَالسَّماءَ) أي : سماء العقل (رَفَعَها) إلى محل شمس الروح وثمر القلب (وَوَضَعَ) أي : خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن. فإن العدالة هيئة نفسانية لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق ولما استقام أمر الدين والدنيا بالعدل ، واستتب كمال النفس والبدن بحيث لولاه لفسدا. أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها لشدة العناية به وفرط الاهتمام بأمره ، فوسط بينه وبين قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠)) (١).

[٨ ـ ٩] (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩))

قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال ، فيلزم الجور الموجب للفساد (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) بالاستقامة في الطريقة ، وملازمة حدّ الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) بالتفريط عن حد الفضيلة. قال بعض الحكماء : العدل ميزان الله تعالى ، وضعه للخلق ونصبه للحق.

[١٠ ـ ١٢] (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢))

(وَالْأَرْضَ) أي : أرض البدن (وَضَعَها) لهذه المخلوقات المذكورة (فِيها فاكِهَةٌ) أي : ما تفيد اللذات الحسية من إدراكات الحواس والمحسوسات (وَالنَّخْلُ) أي : القوى المثمرة للذات الخيالية والوهمية الباسقة من أرض الجسد في هوى النفس (ذاتُ الْأَكْمامِ) أي : غلف اللواحق المادية (وَالْحَبُ) أي : القوة الغاذية التي منها لذة الذوق والأكل والشرب (ذُو الْعَصْفِ) أي : الشعب والأوراق الكثيرة المنبسطة على أرض البدن من الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والمغيرة والمصورة الملازمة للبدن ، المقتضية لخواصها وأفعالها وما تعدّها وتهيئها وتصلحها لحفظ القوة والإنماء مما يصير بدل ما يتحلل ويزيد في الأقطار (وَالرَّيْحانُ) أي : المولدة ، الموجبة لذّة الوقاع التي هي أطيب اللذات الجسمانية وأسلاف البذر بتوليد مادة النوع.

[١٣] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من هذه النعم المعدودة أيها الظاهريون والباطنيون من الثقلين أبالنعم الظاهرة أم الباطنة.

[١٤ ـ ١٦] (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ١٠.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : ظاهره وجسده الذي يؤنس ، أي : يبصر (مِنْ صَلْصالٍ) من أكثف جواهر العناصر المختلطة الذي تغلب عليه الأرضية واليبس (كَالْفَخَّارِ) الصلب الذي يناسب جوهر العظم الذي هو أساس البدن ودعامته (وَخَلَقَ الْجَانَ) أي : باطنه وروحه الحيواني الذي هو مستور عن الحسّ وهو أبو الجنّ ، أي : أصل القوى الحيوانية التي أقواها وأشرفها الوهم أي : الشيطان المسمّى إبليس الذي هو من ذريته (مِنْ مارِجٍ) من لهب لطيف صاف (مِنْ نارٍ) أي : من ألطف جواهر العناصر المختلطة الذي يغلب عليه الجوهر الناري والحرّ ، والمارج هو اللهب الذي فيه اضطراب ، وهذه الروح دائمة الاضطراب والتحرّك.

[١٧ ـ ١٨] (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨))

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي : مشرقي الظاهر والباطن ومغربيهما بإشراق نور الوجود المطلق على ماهيات الأجساد الظاهرة وغروبه فيها باحتجابه بماهياتها وتعينها به فله في ربوبيته لكل موجود شروق بإيجاده بنور الوجود وظهوره به وغروب باختفائه فيه وتستره به يربّه بهما.

[١٩ ـ ٢١] (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١))

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرد الذي هو العذب الفرات (يَلْتَقِيانِ) في الوجود الإنساني (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الأرواح المجردة ولطافتها ولا في كدورة الأجساد الهيولانية وكثافتها (لا يَبْغِيانِ) لا يتجاوز حدّهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته فلا الروح يجرّد البدن ويمزج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجمد الروح ويجعله ماديا ، سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء.

[٢٢ ـ ٢٣] (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣))

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) بتركيبهما والتقائهما لؤلؤ العلوم الكلية ومرجان العلوم الجزئية ، أي : لؤلؤ الحقائق والمعارف ومرجان العلوم النافعة كالأخلاق والشرائع ٨

[٢٤ ـ ٢٨] (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))

(وَلَهُ الْجَوارِ) أي : أوضاع الشريعة ومقامات الطريقة التي يركبها السالكون ، السائرون إلى الله في لجّة هذا البحر المريح ، فينجون ويعبرون إلى المقصد. وتشبيهها بالأعلام إشارة إلى شهرتها وكونها معروفة كما تسمى شعائر الله ومعالم الدين. (الْمُنْشَآتُ) أي : المرفوعات

الشرع وشرعها الأشواق والإرادات التي تجري عند ارتفاعها وتعلقها بالعالم العلوي بقوة رياح النفحات الإلهية سفينة الشريعة والطريقة براكبها إلى مقصد الكمال الحقيقي الذي هو الفناء في الله ، ولهذا قال عقيبه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : كل من على الجواري السائرة واصل إلى الحق بالفناء فيه ، أو كل من على أرض الجسد من الأعيان المفصلة كالروح والعقل والقلب والنفس ومنازلها ومقاماتها ومراتبها ، فان عند الوصول إلى المقصود (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الباقي بعد فناء الخلق ، أي : ذاته مع جميع صفاته (ذُو الْجَلالِ) أي : العظمة والعلوّ بالاحتجاب بالحجب النورانية والظلمانية والظهور بصفة القهر والسلطنة (وَالْإِكْرامِ) بالقرب والدنو في صور تجليات الصفات وعند ظهور الذات بصفة اللطف والرحمة.

[٢٩ ـ ٣٢] (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢))

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من أهل الملكوت والجبروت (وَالْأَرْضِ) من الجنّ والأنس ، والمراد : يسأله كل شيء فغلب العقلاء وأتى بلفظ من أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه فله كل وقت في كل خلق شأن بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده ، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار يفيضها عليه مع حصول الاستعداد ، ومن استعدّ بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ولوث العقائد الفاسدة والخبائث للشرور والمكاره وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. وهذا معنى قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لأنه تهديد وزجر عن الأمور التي بها يستحق العقاب ، وسميا ثقلين لكونهما سفليين مائلين إلى أرض الجسم.

[٣٣ ـ ٣٤] (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤))

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي : الباطنيين والظاهريين (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالتجرّد عن الهيئات الجسمانية والتعلقات البدنية (فَانْفُذُوا) لتنخرطوا في سلك النفوس الملكية والأرواح الجبروتية ، وتصلوا إلى الحضرة الإلهية (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) بحجة بينة هي التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء في الله.

[٣٥ ـ ٣٦] (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) أي : يمنعكما عن النفوذ من أقطارهما والترقي من أطوارهما لهب صاف عن ممازجة الدخان ، أي : سلطان الوهم وأحكامه ومدركاته بإرساله الوهميات إلى حيز العقل والقلب وممانعته إياهما عن الترقي دائما (وَنُحاسٌ) دخان ، أي : هيئة ظلمانية ترسلها النفس الحيوانية بالميل إلى الهوى والشهوات ، فالشواظ مانع من جهة العلم والنحاس من جهة العمل (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان عنهما وتغلبان عليهما فتنفذان إلا بتوفيق الله وسلطان التوحيد.

[٣٧ ـ ٣٨] (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨))

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : السماء الدنيا وهي النفس الحيوانية ، وانشقاقها انفلاقها عن الروح عند زهوقه إذ الروح الإنساني نسبته إلى النفس الحيوانية كنسبته إلى البدن. فكما أن حياة البدن بالنفس فحياتها بالروح فتنشق عنه عند زهوقه بمفارقة البدن (فَكانَتْ وَرْدَةً) أي : حمراء لأن لونها متوسط بين لون الروح المجرّد وبين لون البدن ، ولون الروح أبيض لنوريته وإدراكه اللذات ولون البدن أسود لظلمته وعدم شعوره باللذات ، والمتوسط بين الأبيض والأسود هو الأحمر ، وإنما وصفها في سورة (البقرة) بالصفرة وهاهنا بالحمرة لأن هناك وقت الحياة والصفاء وغلبة النورية عليها وطراوة الاستعداد وهاهنا وقت الممات والتكدّر وغلبة الظلمة عليها وزوال الاستعداد (كَالدِّهانِ) كدهن الزيت في لونه ولطافته وذوبانه لصيرورتها إلى الفناء والزوال.

[٣٩ ـ ٤٠] (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠))

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ) من الظاهريين (وَلا جَانٌ) من الباطنيين لانجذاب كل إلى مقرّه ومركزه وموطنه الذي يقتضيه حاله وما هو الغالب عليه باستعداده الأصلي أو العارضي الراسخ الغالب. وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) (١) ونظائره ، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة وهو في حال عدم غلبة إحدى الجهتين واستيلاء أحد الأمرين. ففي زمان غلبة النور الأصلي وبقاء الاستعداد الفطري أو حصول الكمال والترقي في الصفات ، وفي وقت استيلاء الهيئات الظلمانية وترسخ الغواشي الجسمانية وزوال الاستعداد الأصلي بحصول الرين لا يسئلون ، وفي وقت عدم رسوخ تلك الهيئات إلى حدّ الرين وبقائها في القلب مانعة ، حاجزة إياها عن الرجوع إلى مقرّها ، يوقفون ويسئلون حتى يعذبوا بحسب سيئاتهم على قدر

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٤.

رسوخها ، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم على الأمر الأكثر كما ذكر وقد يكون بعده ، وذلك عند حبط الأعمال وغلبة الأمر العارضي واستيلائه على الذاتي إلى حد إبطال الاستعداد بالكلية فيدافعه الاستعداد الأصلي قليلا قليلا ويتجلى بصور التعذّبات والبليّات شيئا فشيئا ، حتى يتساوى الأمران كتبرّد الماء المسخّن حين بلوغه إلى كونه فاترا ، فهذا الشخص مطرود في أول الأمر عند قرب الاستعداد إلى الزوال ثم قد يوقف ويسئل عند قرب رجوع الاستعداد إلى الحالة الأولى وإمكان اتصاله بالملكوت. وأما الأشقياء المردودون ، المخلّدون في العذاب ، والسعداء المقرّبون الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فلا يسئلون قط ولا يوقفون للسؤال. فقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) (١) ونظائره مخصوص ببعض المعذبين ، وهم الأشقياء الذين عاقبتهم النجاة من العذاب.

[٤١ ـ ٤٢] (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢))

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ) الذين غلبت عليهم الهيئات الجرمانية باكتساب الرذائل ورسوخها (بِسِيماهُمْ) أي : بعلامات تلك الهيئات الظاهرة الغالبة عليهم (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي) فيعذبون من فوق ويحجبون ويحبسون مقيدين أسراء من جهة رذيلة الجهل المركب ورسوخ الاعتقادات الفاسدة (وَالْأَقْدامِ) أي : يعذبون من أسفل ، ويجرّون ويسحبون على وجوههم ، ويردّون إلى قعر جهنم كما قيل : يهوي أحدهم فيها سبعين خريفا لرسوخ الهيئات البدنية والرذائل العملية من إفراط الحرص والشره والبخل والطمع وارتكاب الفواحش والآثام من قبيل الشهوة والغضب.

[٤٣ ـ ٤٥] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

(هذِهِ جَهَنَّمُ) قعر بئر أسفل سافلين من الطبيعة الجسمانية (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ) قد انتهى حره وإحراقه من الجهل المركب ولهذا قيل : يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم ، لأن العذاب المستحق من جهة العمل هو نار جهنم من تحت والمستحق من جهة العلم هو الحميم من فوق.

[٤٦ ـ ٥١] (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١))

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٤.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : خاف قيامه على نفسه بكونه رقيبا ، حافظا ، مهيمنا عليه كما قال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١) كما يقال : خدمت حضرة فلان أي : نفسه (جَنَّتانِ) إحداهما جنة النفس ، والثانية جنة القلب لأن الخوف من صفات النفس ومنازلها عند تنوّرها بنور القلب (ذَواتا أَفْنانٍ) لتفنن شعبهما من القوى والصفات المورقة للأعمال والأخلاق المثمرة للعلوم والأحوال ، فإن الأفنان هي المغصنات التي تشعبت عن فروع الشجر عليها الأوراق والثمار (فِيهِما عَيْنانِ) من الإدراكات الجزئية والكلية (تَجْرِيانِ) إليهما من جنة الروح تنبتان فيهما ثمرات المدركات وتجليات الصفات.

[٥٢ ـ ٥٧] (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من مدركاتها اللذيذة (زَوْجانِ) أي : صنفان ، صنف جزئي معروف مألوف وصنف كلي غريب لأن كل ما يدركه القلب من المعاني الكلية فله صورة جزئية في النفس وبالعكس (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) هي مراتب كمالاتها ومقاماتها (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي : جهتها التي تلي السفل ، أعني : النفس من هيئات الأعمال الصالحة من فضائل الأخلاق ومكارم الصفات ومحاسن الملكات ، وظهائرها التي تلي الروح من سندس تجليات الأنوار ولطائف المواهب والأحوال الحاصلة من مكاشفات العلوم والمعارف كما هو في سورة (الدخان).

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) ثمراتها ومدركاتها (دانٍ) قريب ، كلما شاؤوا حيث كانوا على أي وضع كانوا قياما أو قعودا أو على جنوبهم أدركوها واجتنوها ونبت في الحال مكانها أخرى من جنسها كما ذكر في وصفها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) مما يتصلون بها من النفوس الملكوتية التي في مراتبها وما تحتها سماوية كانت أو أرضية ، مزكاة صافية مطهرة لا يجاوز نظرها مراتبهم ولا تطلب كمالا وراء كمالاتهم لكون استعدادتها مساوية لاستعدادهم أو أنقص منها ، وإلا جاوزت جناتهم وارتفعت عن درجاتهم ، فلم تكن قاصرات الطرف ولم تقنع بوصالهم ولذات معاشراتهم ومباشراتهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) من النفوس البشرية لاختصاصها بهم في النشأة ولتقدّس ذواتها وامتناع اتصال النفوس المنغمسة في الأبدان بها (وَلا جَانٌ) من القوى الوهمية والنفوس الأرضية المحجوبة بالهيئات السفلية.

[٥٨ ـ ٥٩] (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩))

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٣٣.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) شبهت اللواتي في جنّة النفس من الحور بالياقوت لكون الياقوت مع حسنه وصفائه ورونقه وبهائه ذا لون أحمر يناسب لون النفس ، واللواتي في جنة القلب بالمرجان لغاية بياضه ونوريته ، وقيل : صغار الدرّ أصفى وأبيض من كبارها.

[٦٠ ـ ٦١] (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل وهو العبادة مع الحضور (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب بحصول الكمال والوصول إلى الجنّتين المذكورتين.

[٦٢ ـ ٦٥] (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥))

(وَمِنْ دُونِهِما) أي : من ورائهما من مكان قريب منهما كما تقول : دونك الأسد ، لا من دونهما بالنسبة إلى أصحابهما فيكون بمعنى قدّامهما بل بمعنى بعدهما أو من غيرهما ، كقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١).

(جَنَّتانِ) للمقرّبين السابقين ، جنة الروح وجنة الذات في عين الجمع عند الشهود الذاتي بعد المشاهدة في مقام الروح (مُدْهامَّتانِ) أي : في غاية البهجة والحسن والنضارة.

[٦٦ ـ ٦٧] (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧))

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي : علم توحيد الذات وتوحيد الصفات أعني علم الفناء وعلم المشاهدة فإنهما ينبعان فيهما ، بل العلمان المذكوران الجاريان في الجنتين المذكورتين منبعهما من هاتين الجنّتين ينبعان منهما ويجريان إلى تينك.

[٦٨ ـ ٦٩] (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩))

(فِيهِما فاكِهَةٌ) وأيّ فاكهة؟! فاكهة لا يعلم كنهها ولا يعرف قدرها من أنواع المشاهدات والأنوار والتجليات والسبحات (وَنَخْلٌ) أي : ما فيه طعام وتفكه ، وهو مشاهدة الأنوار وتجليات الجمال والجلال في مقام الروح وجنّته مع بقاء نوى الإنية المتقوتة منها المتلذذة بها (وَرُمَّانٌ) أي ما فيه تفكه ودواء في مقام الجمع وجنة الذات أي : الشهود الذاتي بالفناء المحض الذي لا أنية فيه فتطعم بل اللذة الصرفة ودواء مرض ظهور البقية بالتلوين ، فإن في الرمان صورة الجمع مكنونة في قشر الصورة الإنسانية.

[٧٠ ـ ٧١] (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) أي : أنوار محضة وسبحات صرفة لا شائبة للشر والإمكان ، فيها حسان من تجليات الجمال والجلال ومحاسن الصفات.

[٧٢ ـ ٧٥] (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥))

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي : مخدّرات في حضرات الأسماء بل حضرة الوحدة والأحدية لا تبرز منها بالانكشاف لمن دونها وليس وراءها حد ومرتبة ترتقي إليها وتنظر إلى ما فوقها فهي مقصورة فيها.

[٧٦ ـ ٧٧] (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧))

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف نوع من الثياب عريض ، لطيف في غاية اللطافة ، والمراد : نور الذات الذي هو في غاية البهجة واللطافة أو نور الصفات حال البقاء بعد الفناء والاستناد إلى صمدية الوجود المطلق والتحقق به (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقريّ في اللغة : ثوب غريب منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجنّ ، أي : الوجود الموهوب الحقاني الغريب الموصوف بصفاته المتجلية في غاية الحسن الذي هو منسوب إلى عالم الغيب بل غيب الغيب الذي لا يعلم أحد أين هو.

[٧٨] (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

(تَبارَكَ) أي : تعالى وتعاظم (اسْمُ رَبِّكَ) أي : الاسم الأعظم الذي به تزيد وترتقي مرتبة السالكين من البداية إلى النهاية حتى الوصول إليه والفوز به (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : الجلال في صورة الجمال والجمال في صورة الجلال اللذان لا يحجب أحدهما عن الآخر عند البقاء بعد الفناء للمحبوبين المحبين السابقين إلى غاية الدرجات بخلاف الجلال والإكرام المذكورين قبل ، فإنهما هناك يحجب أحدهما عن الآخر لعدم تحقق الفاني بالوجود الحقاني والرجوع إلى تفاصيل الصفات وشهودها في عين الجمع.

سورة الواقعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : القيامة الصغرى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) نفس تكذب على الله أن البعث وأحوال الآخرة لا تكون ، لأن كل نفس تشاهد أحوالها من السعادة والشقاوة (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات.

[٤ ـ ٩] (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨))

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) إِذا رُجَّتِ) أي : حركت وزلزلت أرض البدن بمفارقة الروح تحريكا يخرج به جميع ما فيها وينهدم معه جميع أعضائه (وَبُسَّتِ) أي : فتتت جبال العظام بصيرورتها رميما ورفاتا أو سيقت وأذهبت حتى صارت (هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) السعداء الذين هم الأبرار والصلحاء من الناس ، والأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس.

وإنما سمى الأولون أصحاب الميمنة لكونهم أهل اليمن والبركة أو لكونهم متوجهين إلى أفضل الجهتين وأقواهما التي هي الجهة العليا وعالم القدس ، وسمى الآخرون أصحاب المشأمة لكونهم أهل الشؤم والنحوسة أو لكونهم متوجهين إلى أرذل الجهتين وأضعفهما التي هي الجهة السفلى وعالم الحسّ.

[١٠ ـ ١٤] (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤))

(وَالسَّابِقُونَ) الموحدون الذين سبقوا الفريقين وجاوزوا العالمين بالفناء في الله (السَّابِقُونَ) أي : الذين لا يمكن مدحهم والزيادة على أوصافهم (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) حال التحقق بالوجود الحقاني بعد الفناء (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) من جميع مراتب الجنان (ثُلَّةٌ) أي : جماعة كثيرة (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي : المحبوبين الذين هم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح ، أهل العناية الأولى في الأزل (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : المحبين الذين تتأخر مرتبتهم عن مرتبة المحبوبين أهل الصف الثاني ، ووصفوا بالقليل لأن المحب قلما يدركه شأو

المحبوب ويبلغ غايته في الكمال بل أكثرهم في جنات الصفات واقفين في درجات السعداء ، والمحبوبون كلهم في جنة الذات بالغين أقصى الغايات ، ولهذاقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الثنتان جميعا من أمتي» ، أي : ليس الأولون من أمم المتقدمين والآخرون من أمّته عليه‌السلام ، بل العكس أولى أو ثلة من أوائل هذه الأمة الذين شاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدركوا طراوة الوحي في زمانه أو قاربوا زمانه وشاهدوا من صحبه من التابعين ، والآخرون هم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم في آخر دور الدعوة وقرب زمان خروج المهدي عليه‌السلام لا الذين هم في زمانه ، فإن السابقين في زمانه أكثر لكونهم أصحاب القيامة الكبرى وأهل الكشف والظهور.

[١٥ ـ ١٦] (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي : متواصلة متراصفة من الوجودات الموهوبة الحقانية المخصوصة بكل أحد منهم ، كقوله عليه‌السلام : «على منابر من نور» أو على مراتب الصفات (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) متظاهرين فيها لكونها من مقاماتهم (مُتَقابِلِينَ) متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلا في عين الوحدة لتحققهم بالذات وتخيرهم في الظهور بأيّ صفة من الصفات شاءوا بجمعهم المحبة الذاتية لا يحتجبون بالصفات عن الذات ولا بالذات عن الصفات.

[١٧] (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧))

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) تخدمهم قواهم الروحانية الدائمة بدولة ذواتهم أو الأحداث المستعدّون من أهل الإرادة المتصلون بهم بفرط الإرادة ، كما قال : (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) أو الملكوت السماوية.

[١٨ ـ ٢٤] (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢))

(كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) من خمور الإرادة والمعرفة والمحبة والعشق والذوق ومياه الحكم والعلوم (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : كلها لذّة لا ألم معها ولا خمار لكونهم واصلين واجدين لذة برد اليقين ، شاربين الشراب الكافوري. فإن محبة الوصول خالصة عن ألم الشوق وخوف الفقدان (وَلا يُنْزِفُونَ) لا يذهب تمييزهم وعقلهم بالسكر ولا يطفحون لكونهم أهل الصحو غير محجوبين بالذات عن الصفات فيلحقهم السكر ويغلب عليهم الحال (وَفاكِهَةٍ) من

__________________

(١) سورة الطور ، الآية : ٢١.

مواجيدهم وكشفياتهم الذوقية (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يأخذون خيره لأنهم واجدون جميعها فيختارون أصفاها وأبهاها وأشرفها وأسناها (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من لطائف الحكم ودقائق المعاني المقويّة لهم (وَحُورٌ عِينٌ) من تجليات الصفات ومجردات الجبروت وما في مراتبهم من الأرواح المجرّدة (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ) الرطب في صفائها ونوريتها (الْمَكْنُونِ) في الأصداف أو المخزون لكونها في بطنان الغيب وخزائنه مستورة عن الأغيار من أهل الظاهر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في حال الاستقامة من الأعمال الإلهية المقصودة لذاتها المقارنة لجزائها ، أو بما كانوا يعملون في حال السلوك من أعمال التزكية والتصفية.

[٢٥ ـ ٢٦] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) هذيانا وكلاما غير مفيد لمعنى لكونهم أهل التحقيق متأدّبين بين يدي الله بآداب الروحانيين (وَلا تَأْثِيماً) من الفواحش التي يؤثم بها صاحبها كالغيبة والكذب وأمثالهما (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) أي : قولا هو سلام في نفسه منزه عن النقائص مبرأ عن الفضول والزوائد ، وقولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص ويوجب سروره وكرامته ويبين كماله وبهجته لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحايا ولطائف على اختلاف وجهي الإعراب.

[٢٧ ـ ٣٤] (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤))

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي : هم شرفاء عظماء كرماء يتعجب من أوصافهم في السعادة (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي : في جنة النفس المخضودة عن شوك تضادّ القوى والطبائع وتنازع الأهواء والدواعي لتجرّدها عن هيئات صفاتها بنور الروح والقلب أو موقرة بثمار الحسنات والهيئات الصالحات على اختلاف التفسيرين (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي : في جنة القلب لأن الطلح شجرة الموز وثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها كمدركات القلب ومعانيه المجردة عن المواد والهيئات الجرمية بخلاف السدر التي هي شجرة النبق الكثيرة النوى كمدركات النفس الجزئية المقرونة باللواحق المادية والهيئات الجرمية منضود نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه لا ساق بارزة لها لكثرة تكون مدركاته غير متناهية الكثرة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) من نور الروح المروّح (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : علم يرشح عليهم ويسكب من عالم الروح ، وإنما سكب سكبا ولم يجر جريانا لقلّة علوم السعداء بالنسبة إلى أعمالهم ، إذ ثقل علومهم الروحانية من المواجيد والمعارف والتوحيديات والذوقيات وإن كثرت علومهم النافعة (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)

من المدركات الجزئية والكلية اللذيذة كالمحسوسات والمخيلات والموهومات والمعاني الكلية القلبية (لا مَقْطُوعَةٍ) لكونها غير متناهية (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لكونها اختيارية كلما شاؤوا أين شاؤوا وجدوها (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) من فضائل الأخلاق والهيئات النورانية النفسية المكتسبة من الأعمال الحسنة ، رفعت عن مرتبة الهيئات البدنية والجهة السفلية إلى حيز الصدر الذي هو الجهة العليا من النفس المتصلة بالقلب ، أو حور من النسوان أي : الملكوت المتصلة بهم المساوية في المرتبة على اختلاف التفسيرين.

[٣٥ ـ ٤٠] (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩))

(وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) عجيبا نورانيا مجردة عن المواد ، مطهرة عن أدناس الطبائع وألواث العناصر (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) أي : لم تتأثر بملامسة الأمور الطبيعية ومباشرة الطبيعيين الظاهرين من أهل العادة والمخالطين للمادة من النفوس (عُرُباً) متحببة إليهم محبوبة لصفائها وحسن جوهرها ودوام اتصالها بهم (أَتْراباً) لكونها في درجة واحدة متساوية المراتب أزلية الجواهر (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) لأن المحبوبين يدخلون على أصحاب اليمين جناتهم عند التداني والترقي في الدرجات وعند التدلي والرجوع إلى الصفات فيختلطون بهم وينخرطون في سلكهم (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن المحبين أكثرهم أصحاب اليمين واقفون مع الصفات دون محبة الذات وإن فسرنا الأولين والآخرين بأوائل الأمة المحمدية وأواخرها فظاهر لكثرة أصحاب اليمين في أواخرهم أيضا دون السابقين.

[٤١ ـ ٥٦] (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي : هم الذين يتعجب من أحوالهم وصفاتهم في الشقاوة والنحوسة والهوان والخساسة (فِي سَمُومٍ) من الأهواء المردية والهيئات الفاسقة المؤذية (وَحَمِيمٍ) من العلوم الباطلة والعقائد الفاسدة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من هيئات النفوس المسودة بالصفات المظلمة والهيئات السود الردئية لأن اليحموم دخان أسود بهيم (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي : ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح ونفع من يأوي إليه بالراحة

بل له إيذاء وإيلام وضرّ بإيصال التعب واللهب والكرب (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) منهمكين في اللذات والشهوات ، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية ، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلّد والعقاب المؤبّد (وَكانُوا يَقُولُونَ) أي : من جملة عقائدهم إنكار البعث (الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) أي : الجاهلون المصرون على جهالاتهم وإنكار ما يخالف عقائدهم الباطلة من الحق (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) أي : من نفس متعبدة اللذات والشهوات ، منغمسة فيها ، منجذبة إلى السفليات من الطبيعيات لتعوّدكم بها وبفوائدها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) ومن ثمراتها الوبية البشعة المحرقة التي هي الهيئات المنافية للكمال الموجبة للوبال (الْبُطُونَ) لشدّة حرصكم ونهمكم وضراوتكم بها لشرهكم وسقمكم (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) من الوهميات الباطلة والشبهات الكاذبة التي هي من باب الجهل المورّط في المهالك والمعاطب ، المسيغ لتلك الأعمال الشيطانية والأعمال البهيمية الظلمانية (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي : التي بها الهيام من الإبل وهو داء لا ريّ معه لشدّة شغفكم وكلبكم بها.

[٥٧ ـ ٧٤] (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) بإفاضة الصورة الإنسانية عليه (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) بإنزال الصور النوعية عليه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أَفَرَأَيْتُمُ) ماء العلم الذي تشربونه بتعطش استعدادكم (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) من مزن العقل الهيولاني (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) بصرفه في تدابير المعاش وترتيب الحياة الدنيا (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ) نار المعاني القدسية (الَّتِي تُورُونَ) بقدح زناد الفكر (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي : القوة الفكرية (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تذكير للعهد الأزلي في العالم القدسي (وَمَتاعاً) للذين لا زاد لهم في السلوك من العلم والعمل.

[٧٥ ـ ٧٦] (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي : أوقات اتصال النفس المحمدية المقدّسة بروح القدس وهي أوقات وقوع نجوم القرآن إليه ، فيا لها أوقاتا شريفة واتصالات نورية ، أو مساقط النجوم وهي أوقات غيبته عن الحواس وأفول حواسه في مغرب الجسد عند تعطيلها بانغماس سرّه في الغيب وانخراطه في سلك القدس بل غيبته في الحق واستغراقه في الوحدة (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وأنى يعلمون ، وأين هم وعلم ذلك؟!.

[٧٧ ـ ٨٠] (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي : علم مجموع له كرم وشرف قديم وقدر رفيع (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) هو قلبه المكنون في الغيب عن الحواس وما عدا المقرّبين من الملائكة المطهرين لأن العقل القرآني مودع فيه كما قال عيسى عليه‌السلام : «لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ، ولا في تخوم الأرض من يصعد به ، ولا من وراء البحار من يعبر ويأتي به ، بل العلم مجعول في قلوبكم تأدّبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين يظهر عليكم» ، أو الروح الأول الذي هو محل القضاء ومأوى الروح المحمدي ، بل هو هو (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأرواح المجرّدة المطهرة عن دنس الطبائع ولوث تعلق المواد (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لأن علمه ظهر على المظهر المحمدي فهو منزل منه على مدرجته منجما.

[٨١ ـ ٨٢] (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون ولا تبالون به ولا تتصلبون في القيام بحقه وفهم معناه كمن يلين جانبه ويداهن في الأمر تساهلا وتهاونا به (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي : قوتكم القلبي ورزقكم الحقيقي تكذيبه لاحتجابكم بعلومكم وإنكاركم ما ليس من جنسه كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه ، أو رزقكم الصوري أي : لمداومتكم على التكذيب كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم كما تقول للمواظب على الكذب : الكذب غداؤه.

[٨٣ ـ ٨٧] (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي : فلولا ترجعون الروح عند بلوغها الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم غير مسوسين مربوبين مقهورين يعني أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر

الربوبية وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشدّ الكراهية وهو الموت.

[٨٨ ـ ٩٦] (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢))

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من جملة الأصناف الثلاثة فله روح الوصول إلى جنة الذات وريحان جنة الصفات وتجلياتها البهيجة المبهجة وجنة نعيم الأفعال ولذاتها (وَأَمَّا إِنْ كانَ) من السعداء والأبرار فله السرور والحبور بلقاء أصحاب اليمين وتحيتهم إياه بسلامة الفطرة والنجاة من العذاب والبراءة عن نقائص صفات النفوس في جنة الصفات (وَأَمَّا إِنْ كانَ) من الأشقياء والمعاندين للسابقين المنكرين لكمالاتهم المحجوبين بالجهل المركب فلهم عذاب هيئات الاعتقادات الفاسدة وظلمات الجهالات الموحشة من فوق المشار إليه بقوله : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) وعذاب الهيئات البدنية وتبعات سيئاتهم العملية من تحت المشار إليه بقوله : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا) المذكور من أحوال الفرق الثلاث وعواقبهم (لَهُوَ) حقيّة الأمر وجلية الحال من معاينة أهل القيامة الكبرى المتحققين بالحق في يقينهم وعيانهم ، والله تعالى أعلم.

سورة الحديد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أظهر كل موجود تنزيهه عن الإمكان وقبول الفناء بوجوده الإضافي وثباته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الذي يقهرها ويجبرها (الْحَكِيمُ) الذي يرتب كمالاتها وعن العجز بحدوثه وتغيره وعن جميع النقائص بإظهار كمالات كل موجود ونظامها على ترتيب حكمي.

[٣ ـ ٦] (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

(هُوَ الْأَوَّلُ) الذي يبتدئ منه الوجود الإضافي باعتبار إظهاره (وَالْآخِرُ) الذي ينتهي إليه باعتبار إمكانه وانتهاء احتياجه إليه فكل شيء به يوجد وفيه يفنى ، فهو أوله وآخره في حالة واحدة باعتبارين (وَالظَّاهِرُ) في مظاهر الأكوان بصفاته وأفعاله (وَالْباطِنُ) باحتجابه بماهياته وبذاته (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن عين ماهيته صورة من صور معلوماته إذ صور الأشياء كلها في اللوح المحفوظ وهو يعلم اللوح مع تلك الصور بعين ماهية اللوح المنقش بتلك الصور فعلمه بها عين علمه بذاته.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من الأيام الإلهية أي : الآلات الستة التي هي من زمان آدم إلى زمان محمد عليهما‌السلام جميع مدّة دور الخفاء ، أي : احتجب بها فظهر الخلق دونه إذ الخلق احتجاب الحق بالأشياء وهذا الزمان زمان الاحتجاب كما ذكر في (الأعراف).

(ثُمَّ اسْتَوى) على عرش القلب المحمدي بالظهور في جميع الصفات غير محتجب

بعضها ببعض ولا الذات بالصفات ولا الصفات بالذات ، بل استوت كلها في الظهور في اليوم السابع أو في صور المراتب الستّ من الجواهر والأعراض المذكورة في (ق) ، ثم استوى على عرش الروح الأعظم بالتأثير في جميع الأشياء في الصورة الرحمانية بالسوية والظهور باسم الرحمن (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) في أرض العالم الجسماني من الصور النوعية لأنها صور معلوماته (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من الأرواح التي تفارقها والصور التي تزايلها عند الفناء والفساد وهي التي تنزل من السماء وتعرج فيها ، أو ما ينزل من سماء الروح من العلوم والأنوار الفائضة على القلب وما يعرج فيها من الكليات المنتزعة من الجزئيات المحسوسة وهيئات الأعمال المزكية (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) لوجودكم به وظهوره في مظاهركم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لسبق علمه به وكونه منقوشا في أربعة ألواح في عالم ملكوته بحضرته يولج ليل الغفلة في نهار الحضور ويولج نهار الحضور في ليل الغفلة ، ويستر الجمال بالجلال ويحجب الجلال بالجمال (وَهُوَ عَلِيمٌ) بما أودع الصدور من أسراره ودقائق الغفلة والحضور وحكمتهما ولطائف التستر والتجلي وفائدتهما لا يعلمها إلا هو.

[٧] (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

(آمِنُوا بِاللهِ) الإيمان اليقيني بتوحيد الأفعال (وَرَسُولِهِ) أي : لا تحتجبوا بأفعال الحق في إيمانكم بتوحيد الأفعال عن أفعال الخلق فتقعوا في الجبر وحرمان الأجر ، بل شاهدوا أفعال الحق بالإيمان به جمعا في مظاهر التفاصيل بحكم الشرع ليحصل لكم التوكل ويسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي هو في أيديكم وجعلكم مستخلفين فيه بتمكينكم وإقداركم على التصرّف فيه بحكم الشرع إذ الأموال كلها لله واختصاص نسبة التصرّف إنما هو بحكمه في شريعته ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بشهود الأفعال (وَأَنْفِقُوا) عن مقام التوكل (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) في جنة الأفعال.

[٨] (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨))

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وقد اعتضد السببان الداخلي والخارجي الموجب اجتماعهما للإيمان إيجابا ذاتيا. أما الخارجي فدعوة الرسول الذي هو السبب الفاعلي ، وأما الداخلي فأخذ الميثاق الأزلي وهو الاستعداد الفطري الذي هو السبب القابلي وقوة الاستدلال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالقوة ، أي : إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.

[٩ ـ ١٢] (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ

بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) من بيان تجليات الأفعال والصفات والذات (لِيُخْرِجَكُمْ) من ظلمات صفاتالنفس والهيئات البدنية المستفادة من الحس إلى تنوّر القلب ومن ظلمات صفات القلب إلى نور الروح ومن ظلمات وجوداتكم وإنباتكم إلى نور الدين ، وهي الظلمات المشار إليها بقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (١) (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يدفع آفة النقصان عنكم بهبة الاستعداد وتوفيق الهداية إلى إزالة الحجب ببعث الرسول وتعليمه إياكم ، رحيم بإفاضة الكمالات مع حصول القبول بتزكية النفوس وتصفية الاستعدادات.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي : بذلوا أموالهم وأنفسهم قبل الفتح المطلق الذي كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعراج التام والوصول إلى حضرة الوحدة (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) لقوة استعدادهم وشدّة أنوار باطنهم الأصلية عرفوه وألفوه بتشامّ الروح وظهرت عليهم كمالاتهم من غير واسطة تأثيره فيهم وهم الذين غلبت عليهم القوة القدسية التي (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢) ، وأما الذين أنفقوا من بعد فلضعف استعداداتهم وقلّة نوريتها احتاجوا إلى قوة تأثيره فيهم وإخراج كمالاتهم إلى الفعل (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) لحصول اليقين وظهور الكمال كيف كان مع تفاوت الدرجات بما لا تحصى ، إذ الآخرون هم الذين حازوا الكمال الخلقي في مقام النفس الذين أقرضوا الله أموالهم رغبة في الإضعاف من الثواب وكرامة الأجر ، والأوّلون هم السابقون الذين تجرّدوا عنها ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم في طريق الحق فهم المؤمنون الذين (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لكونهم على الصراط المستقيم متوجهين إلى وجه الله بتوحيد الذات ، والمتأخرون هم الذين يسعى نورهم بإيمانهم لكونهم أصحاب اليمين من المؤمنين والمؤمنات الكائنين في مقام القلب واليقين (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) خطاب لكلا الفريقين مع تغليب السابقين لذكر الجنات الثلاث ، ووصف الفوز بالعظم إذ عظم الفوز إنما هو للفرقة الثالثة ، وأما فوز من

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة النور ، الآية : ٣٥.

دونهم من أصحاب الجنّتين فموصوف بالكبير والكريم.

[١٣ ـ ١٦] (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) أي : المستعدّون الأقوياء الاستعداد والضعفاء المحجوبون بصفات النفوس وهيئات الأبدان ، المنغمسون في ظلمات الطبائع وغسق الآثام الذين قد بقي فيهم مسكة من نور الفطرة ولم تنظف بالكلية يشتاقون به إلى نور الكمال الحاصل لفريق المؤمنين ويلتمسونه ويطلبونه في حسرات وزفرات عند بروزهم عن حجاب البدن بالموت وظهور الحرمان محبوسين واقفين في حضيض النقصان ، متندّمين عند تبين الخسران والمؤمنون يمرّون كالبرق الخاطف لا يلتفتون إليهم.

(انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) بجنسية الاستعداد وظاهر الإسلام (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا ومحل الكسب ، فإن النور إنما يكتسب بالآلات البدنية والقوى الجسمانية من الحواس الظاهرة والباطنة بالأعمال الحسنة والعلوم الحقة (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هو البرزخ الهيولاني الذي يحتجبون به على حسب اقتضاء هيئاتهم الظلمانية (لَهُ بابٌ) هو القلب ، إذ لا يطلع من عالم القدس على عالم الرجس إلا من طريق القلب (باطِنُهُ) وهو عالم القدس (فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي : النور والروح والريحان وجنة النعيم من المراتب المذكورة (وَظاهِرُهُ) الذي يلي النفس وهو عالم الرجس ومقرّ تلك النفوس المظلمة من الأشقياء (مِنْ قِبَلِهِ) أي : من جهته (الْعَذابُ) الذي يستحقونه بحسب هيئاتهم وتنوّعها وهذا الباب لا مفتح له من جهة ظاهره الذي إلى الأشقياء بل هو مسدود مغلق لا ينفتح أبدا. وأما من جهة باطنه فكلما شاء أهل الجنة من السابقين انفتح لهم فاطلعوا على أهل النار وتعذّباتهم ويدخلون عليهم فينطفئ لهب النار من نورهم بل يحرق نورهم النار بالنسبة إليهم دون الجهنميين فتقول جهنم : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي.

(أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الفطرة الأولى وعين جمع الصفات (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) ابتليتموها باللذات الحسية والشهوات البدنية والصفات البهيمية والسبعية (وَتَرَبَّصْتُمْ) باستيلاء التخيلات من الآمال والأماني الغالبة بدواعي الحسد والطمع (وَارْتَبْتُمْ) باستيلاء

الوهميات على المعقولات وغلبة الأوهام على العقول (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) بدواعي الوهم ومقتضى التخيل (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) من الموت وحصول العقاب.

[١٧] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) تمثيل لتأثير الذكر في القلوب وإحيائها.

[١٨ ـ ٢٠] (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) من المؤمنين بالغيب في مقام النفس لقوله : (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) من أهل الإيقان في مقام القلب لقوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي : من جنة النفس ونورهم من جنة القلب بتجلي الصفات (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) بقوة اليقين (وَالشُّهَداءُ) أهل الحضور والمراقبة والذين حجبوا عن الذات والصفات في مقابلتهم ، أي : ليسوا من أهل الإيمان بالغيب ولا من أهل الإيقان (أُولئِكَ أَصْحابُ) جحيم الطبيعة.

[٢١] (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) لما حقّر الحياة الحسية النفسية الفانية وصوّرها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء دعاهم إلى الحياة العقلية القلبية الباقية فقال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : تستر صفات النفس بنور القلب (وَجَنَّةٍ عَرْضُها) العالم الجسماني بأسره لإحاطة القلب به وبصوره أو نفرهم عن الحياة البشرية ودعاهم إلى الحياة الإلهية أي : سابقوا إلى مغفرة تستر ذواتكم ووجوداتكم التي هي أصل الذنب العظيم بنور ذاته وجنّة عرضها سموات الأرواح وأرض الأجساد بأسرها ، أي : الوجود المطلق كله الشامل للوجودات الإضافية بأجمعها (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الإيمان العلمي اليقيني على الأول والإيمان العيني والحقي على الثاني.

[٢٢ ـ ٢٣] (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣))

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) من الحوادث الخارجية والبدنية والنفسانية (إِلَّا فِي كِتابٍ) هو القلب الكلي المسمى باللوح المحفوظ. لتعلموا علما يقينا أنه ليس من لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم مدخل وتأثير ، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلّة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل ، فلا تحزنوا على فوات خير ونزول شر ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شرّ إذ كلها مقدّرة إن (اللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي : متبختر من شدّة الفرح بما آتاه (فَخُورٍ) به لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا وانجذابه إلى الجهة السفلية بمنافاته للحضرة الإلهية واحتجابه بالظلمات عن النور.

[٢٤] (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) لشدّة محبة المال (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) لاستيلاء الرذيلة عليهم (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : يعرض عن الله بالتوجه إلى العالم السفلي والجوهر الغاسق الظلماني (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه لاستغنائه بذاته (الْحَمِيدُ) لاستقلاله بكماله ، أي : يخذله ويمهله.

[٢٥ ـ ٢٧] (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) بالمعارف والحكم (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي : الكتابة (وَالْمِيزانَ) أي : العدل لأنه آلته (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي : السيف لأنه مادّته وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي وينضبط النظام الكلي المؤدّي إلى صلاح المعاش والمعاد إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول هو العلم والحكمة ، والأصل المعوّل عليه في العمل والاستقامة في طريق الكمال هو العدل ، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذان يتم بهما أمر السياسة ، فالأربعة هي أركان كمال النوع وصلاح الجمهور ويجوز أن تكون البينات إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية ، والكتاب إشارة إلى الشريعة والحكم العملية ، والميزان إلى العمل بالعدل ، والسوية والحديد إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل : البينات العلوم الحقيقية والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية ، أي : الشرع والدينار المعدّل للأشياء في المعاوضات والملك وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصي والنوعي في الدارين إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم

والعمل ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم. أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الإنسان مدنيّ بالطبع محتاج إلى التعامل والتعاون لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع ، والنفوس إما خيرة أحرار بالطبع منقادة للشرع وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال ، والعمل بالعدالة اللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك.

[٢٨ ـ ٢٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني (اتَّقُوا اللهَ) بالتجرّد عن صفاتكم والتنزّه عن ذواتكم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بالاستقامة في أعمالكم وأحوالكم على طريق المتابعة (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) في جنة النفس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً) من أنوار الروح وتجليات الصفات في مقام القلب (تَمْشُونَ بِهِ) تسيرون به في الصفات (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب ذواتكم (وَاللهُ غَفُورٌ) بإفناء البقيات (رَحِيمٌ) بهبة الوجودات الحقانيّة بعد فناء الإنيات (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي : المحجوبون بالرين عن الحق أو بطريق الضلالة ودين الباطل عن الصراط المستقيم ودين الحق (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لأنه موهوب لا يمكن اكتسابه (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) أي : في تصرفه وتحت ملكه وقدرته (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) موهبة لا كسبا منه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي هو نهاية الكمال ، والله تعالى أعلم.

سورة المجادلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) بإقامتهم عن مراقد الأبدان (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) لانتقاش صور أعمالهم في ألواح نفوسهم (أَحْصاهُ اللهُ) بإثباته في الكتب الأربعة المذكورة (وَنَسُوهُ) لذهولهم عنه باشتغالهم باللذات الحسية وانهماكهم في الشواغل البدنية (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر معه رقيب (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) لا بالعدد والمقارنة بل بامتيازهم عنه بتعيناتهم واحتجابهم عنه بماهياتهم وإنياتهم وافتراقهم منه بالإمكان اللازم لماهياتهم وهوياتهم وتحققهم بوجوبه اللازم لذاته واتصاله بهم بهويته المندرجة في هوياتهم وظهوره في مظاهرهم وتستره بماهياتهم ووجوداتهم المشخصة وإقامتها بعين وجوده وإيجابهم بوجوبه ، فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم ، ولو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم ولهذا قيل : لو لا الاعتبارات لارتفعت الحكمة. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم نقطة كثرها الجاهلون».

[٨ ـ ١١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ

حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) إنما نهوا لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث ، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوّى ويتأيد بعضها بالبعض فيما هو سبب الاجتماع لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد فإذا كانت شريرة يتناجون في الشر ويزداد فيهم الشر ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع ، ولهذا ورد بعد النهي : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) الذي هو رذيلة القوى البهيمية (وَالْعُدْوانِ) الذي هو رذيلة القوى الغضبية (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) التي هي رذيلة القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطنة. ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات ليتقوّوا بالهيئة الاجتماعية ويزدادوا فيها فقال : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي : الفضائل التي هي أضداد تلك الرذائل من الصالحات والحسنات المخصوصة بكل واحدة من القوى الثلاث (وَالتَّقْوى) أي : الاجتناب عن أجناس الرذائل المذكورة (وَاتَّقُوا اللهَ) في صفات نفوسكم (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالقرب منه عند التجرّد منها (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : افسحوا من ضيق التنافس في الجاه والنخوة فإنه من الهيئات النفسانية واستيلاء القوة السبعية وركود النفس في ظلمة الإنية واحتجابها عن الأنوار القلبية والروحية ، فتنزهوا عنها يفسح الله لكم بالتجريد عن الهيئات البدنية والإمداد بالأنوار فتنشرح صدوركم وتنفسح ويتسع مكانكم في فضاء عالم القدس (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الإيمان اليقيني (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : علم آفات النفس ودقائق الهوى وعلم التنزّه منها بالتجريد (دَرَجاتٍ) من الصفات القلبية والمراتب الملكوتية والجبروتية في عالم الأنوار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم ويعاقبكم بتلك الهيئات.

[١٢ ـ ١٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

(إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) لأن الاتصال بالرسول في أمر خاص لا يكون إلا لقرب روحاني أو مناسبة قلبية أو جنسية نفسانية وأيّا ما كان وجبت

الصدقة. أما الأول والثاني فيجب فيهما تقديم الانسلاخ عن الأفعال والصفات والتجرّد عن الخارجيات من الأسباب والأموال وقطع تعلقات المسمى بالترك ثم محو آثار والهيئات الباقية منها النفس المسمى بالتجريد عندهم ثم قطع النظر عن أفعاله وصفاته والترقي إلى مقام الروح في الأول وإلى مقام القلب في الثاني حتى يصفو له مقام التناجي الروحي مع النبي في الأسرار الإلهية والمسارة القلبية في الأمور الكشفية. ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه : «كان لعليّ عليه‌السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى». وأما الثالث فيجب فيه تقديم الخيرات ببذل الأموال شكرا لتلك النعمة حتى تبقى وتزيد.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) في الأوّلين للتخلف عن المقامين بالوقوف مع النفس ، وفي الثالث لشح النفس والفقر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للصفات النفسانية بأنوار صفاته (رَحِيمٌ) بإفاضة أنوار التجليات والمشاهدات والمعارف والمكاشفات الموجبة لوجدان تلك الصدقة في الأولين أو غفور لرذيلة الشحّ وكربة الفقر ، رحيم بالتوفيق لاكتساب الفضيلة وتيسيرها وإعطاء المال في الثالث وكذا الإشفاق والتوبة إنما يكونان لما ذكر. ثم أمر بما يزيل التخلف المذكور ورذيلة الشح وشدّة الفقر إذ بصلاة الحضور والمراقبة في مقام القلب يحصل الأول ، وبزكاة الترك والتجريد يحصل الثاني ، وبطاعة الله ورسوله في الأعمال الخيرية يحصل الثالث لأن الخير عادة ، وببركة الطاعة ينتفي الفقر لحصول الاستغناء باللهقال الله تعالى : «من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه».

[١٤ ـ ٢١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) لأنّ الموالاة لا تكون ثابتة حقيقة إلا مع الجنسية والمناسبة ، فإن كانت وجب إزالتها وإلا وجب الاحتراز من سرايتها بالصحبة والموالاة وإنما تمكن الموالاة مع عدمها إذا كانت بسبب خارجي من نفع أو لذّة زالت بزواله وإلا لما أمكنت ، ولهذا نفى الموالاة الحقيقية بينهم بنفي موجبها فقال : (ما

هُمْ مِنْكُمْ) إنما هي محض النفاق. (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي : الوهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) بتسويل اللذات الحسيّة والشهوات البدنية لهم وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم.

[٢٢] (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الإيمان اليقيني (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) إلى آخره ، لأن المحبة أمر روحاني فإذا أيقنوا وعرفوا الحق وأهله غلبت قلوبهم وأرواحهم نفوسهم وأشباحهم فمسخت المحبة الروحانية. والمناسبة الحقيقية بينهم وبين الحق وأهله المحبة الطبيعية المستندة إلى القرابة واتصال اللحمة لأن الاتصال الروحاني أشد وأقوى وألذّ وأصفى من الطبيعي (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) بالكشف واليقين المذكر للعهد الأول الكاشف عنه (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) لاتصالهم بعالم القدس أو بنور تجلي الذات (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) من الجنان الثلاث (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم التوحيد والتشريع (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بمحو صفاتهم بصفاته بنور التجلي (وَرَضُوا عَنْهُ) بالاتصال بصفاته (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) السابقون الذين لا يلتفتون إلى غيره ولا يثبتونه (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالكمال المطلق.

سورة الحشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي : نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به لاستحقاقهم لذلك ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته ولوجود الشك في قلوبهم وكونهم على غير بصيرة من أمرهم وبينة من ربهم إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم ولعرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنور اليقين وآمنوا به فلم يخالفوه (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) لأنه متحقق بالله فكل ما أمر به فهو أمر الله وما نهى عنه نهي الله لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)) (١).

[٨ ـ ٩] (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) أي : التاركين المجرّدين المهاجرين عن مقام النفس (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) أي : أخرجهم الله ، إذ لوخرجوا بنفوسهم لاحتجبوا بها وبرؤية الترك والتجريد

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٣ ـ ٤.

فوقعوا في مقام النفس مع حجاب العجب الذي هو أشدّ من الذنب (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) من مواطنهم ومألوفاتهم أي : صفات نفوسهم ومعلوماتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) من العلوم والفضائل الخلقية (وَرِضْواناً) من الأحوال والمواهب السنية من أنوار تجليات الصفات (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ببذل النفوس لقوة اليقين (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم ، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي : المقرّ الأصلي الذي هو الفطرة الأولى والعهد الأول الذي هو محل الإيمان وموطنه ولهذا قرنه به ، فإن النفس موطن الغربة (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قبل هجرة المهاجرين من دار الغربة التي هي النفس إليها لأن هذه الدار هي الدار الأصلية المتقدمة على ديارهم ، ولهذاقال عليه‌السلام : «حبّ الوطن من الإيمان». فهم الذين لم يسقطوا عن الفطرة ولم يحتجبوا بحجاب النفس في النشأة وبقوا على صفائها بخلاف الأولين الذين تكدّروا وتغيروا ثم رجعوا إلى الصفاء بالسير والسلوك (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لوجود الجنسية في الصفاء وتحقق المناسبة الأصلية والقرابة الحقيقية بالوفاء وتذكر العهد السابق بالموافقة في الدين والإخاء (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا) أوتي المهاجرون من الحظوظ لسلامة قلوبهم عن آفات النفوس وطهارتها عن دواعي الحرص وتنزّهها عن محبة الحظوظ وتيقنها بالأقسام.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) لتجرّدهم وتوجههم إلى جناب القدس وترفّعهم عن مواد الرجس وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا باقتضاء الفطرة وفرط محبة الإخوان بالحقيقة والأعوان في الطريقة (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم لمكان الفتوّة وكمال المروءة ولقوة التوحيد والاحتراز عن حظ النفس وخوف الرجوع إلى المطالب الجزئية بعد وجدان الذوق من المطالب الكلية.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) بعصمة الله وكلاءته ، فإنّ النفس مأوى كل شرّ ووصف رديء ، وموطن كل رجس وخلق دنيء ، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها لملازمتها الجهة السفلية ومحبتها الحظوظ الجزئية فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بالكمالات القلبية.

[١٠ ـ ١٢] (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

(وَالَّذِينَ جاؤُ) من بعد الذين هاجروا إلى الفطرة ، أي : أخذوا في السلوك وقطع منازل النفس متضرّعين قائلين بلسان الافتقار : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) هيئات الرذائل وصفات النفوس بأنوار القلوب (وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ذنوب التلوينات بظهور تلك الصفات والضلالة بعد الهدى (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) بالاحتجاب بالهيئات السبعية والشيطانية ورسوخها في قلوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) تستر تلك الهيئات بأنوار الصفات (رَحِيمٌ) بإفاضة الكمالات وإراءة التجليات.

[١٣ ـ ١٥] (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لاحتجابهم بالخلق عن الحق بسبب جهلهم بالله وعدم معرفتهم له إذ لو عرفوه لعلموا أن لا مؤثر غيره وشعروا بعظمته وقدرته فلم يبق عظم الخلق ولا أثرهم وقدرهم عندهم ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك». (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) لكونهم غير مقهورين هناك بقهر الله ولا واقعا ظل قهر الرسول وهيبته وعكس نور تأييده وتنوّر نفسه بالاتصال بعالم القدس عليهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) لاتفاقهم في الظاهر (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) لانتفاء الجمعية الحقيقية بنور التوحيد عنها وتجاذب دواعيها لتفنن تعلقاتها بالأمور السفلية وتفرّقها عن الحق بالباطل لاحتجابها بالكثرة عن الوحدة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فيختارون طريق التوحيد العلمي ويتنحون عن السبل المتفرّقة الوهمية ، فإن طريق العقل واحد وطريق شيطان الوهم متفرّقة ، وتشتت القلوب يوهن العزائم ويضعف القوى.

[١٦ ـ ١٧] (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي : مثل إخوانهم المنافقين في إغوائهم كمثل الشيطان ، أي : الوهم الإنساني ، إذ زين للإنسان حال كونه على الفطرة اللذات الحسية والشهوات البدنية وحرّضه على مخالفة العقل بالهوى والاحتجاب بالطبيعية ليقع في الردى فلما احتجب بها عن الحق

وانغمس في ظلمة النفس تبرأ منه بإدراك المعاني دونه ، والتقرّب إلى جناب الحق بالترقي إلى الأفق العقلي والاطلاع على بعض الصفات الإلهية واستشعار الخوف بإدراك آثار العظمة والقدرة وأنوار الربوبية (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) لكونهما جسمانيين ملازمين للطبيعة ونيرانها المتفننة وآلامها المتنوعة (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا العبادة غير موضعها فعبدوا صنم الهوى وطاغوت البدن ، واتخذوا آلهتهم أهواءهم.

[١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي التقليدي (اتَّقُوا اللهَ) في اجتناب المعاصي والسيئات والرذائل واكتساب الحسنات والطاعات والفضائل (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) لما بعد الموت من الصالحات (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاحتجاب بالأعراض والأغراض وتوسيط الحق للمشتهيات (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) بأعمالكم ونيّاتكم فيجازيكم بحسبها ، كماقال عليه‌السلام : «لكل امرئ ما نوى». أو آمنوا الإيمان التحقيقي واتّقوا الله في الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم ولتنظر نفس ما قدّمت لغد من محقرات الأعمال والصفات ، فإنها حجب حاجزة ووسائل مردودة مذمومة ، واتّقوا الله في البقيات والتلوينات فإن الله خبير بما تعملون بنفوسكم وما تعملون به لا بنفوسكم.

[١٩] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية والاشتغال باللذات النفسانية (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه فذهلوا عن الجوهرة القدسية والفطرية النورية (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها وخانوا وغدروا وجاسوا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.

[٢٠ ـ ٢١] (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

(لا يَسْتَوِي) الناسون الغادرون الذين هم (أَصْحابُ النَّارِ وَ) المؤمنون المتحققون المتّقون الموفون بعهدهم الذين هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) والخاسرون لفرط غفلتهم وذهاب تمييزهم كأنهم لا يفرقون بين الجنة والنار وإلا لعملوا بمقتضى تمييزهم (عَلى جَبَلٍ) أي : قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع

[٢٢ ـ ٢٤] (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لما كان الإسلام مبنيّا على الجمع والتفصيل كثر تكرارهما في المثاني ، أي : لا إله في الوجود إلا هو ، فجمع ثم فصّل بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) والعلم مبدأ التفصيل إذ عالميته هي تميّز الحقائق وأعيان الماهيات في عين الجمع أي : صور الماهيات في عالم الغيب عن عالميته ووجوداتها في عالم الشهادة هي بعينها ظهرت في مظاهر محسوسة لا بمعنى الانتقال بل بمعنى الظهور والبطون كظهور الصورة المعلومة على القرطاس بالكتابة ، فكل ما ظهر فعن علمه السابق ظهر.

(الرَّحْمنُ) بإفاضة وجودات الماهيات وصورها النوعية على المظاهر باعتبار البداية (الرَّحِيمُ) بإفاضة كمالاتها في النهاية. ثم كرر التوحيد الذاتي باعتبار الجمع لينبه على أن هذه الكثرة المعتبرة باعتبار تفاصيل الصفات لا تنافي وحدته الذاتية كالإضافيات والسلبيات المعدودة بعده (الْمَلِكُ) أي : الغنيّ المطلق الذي يحتاج إليه كل شيء المدبر للكل في ترتيب النظام ، الحكيم الذي لا يمكن كون أتمّ وأكمل منه (الْقُدُّوسُ) المجرد عن المادة وشوائب الإمكان في جميع صفاته فلا يكون شيء من صفاته بالقوة وفي وقت دون وقت (السَّلامُ) أي : المبرّأ عن النقائص كالعجز (الْمُؤْمِنُ) لأهل اليقين بإنزال السكينة (الْمُهَيْمِنُ) الحافظ لمن أمّنه على حالة الأمن من كل مخوف (الْعَزِيزُ) القوي الذي يغلب ولا يغلب (الْجَبَّارُ) الذي يجبر كل أحد على ما أراد (الْمُتَكَبِّرُ) المتعالي عن أن يصل إليه غيره ويقارنه في الوجود (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات الغير (الْخالِقُ) المقدّر للمظاهر على حسب ما أراد ظهوره من أسمائه وصفاته (الْبارِئُ) المفصل المميز بعضها عن بعض بالهيئات المتميزة في عين ذاته (الْمُصَوِّرُ) لصورة تفاصيل مظاهر صفاته (لَهُ) هذه (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الظاهرة في صور المخلوقات المصوّرة الباطنة في صور المبدعات المغيبة ليسبح ذاته على لسان أسمائه وصفاته والله أعلم.

سورة الممتحنة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤))

عدوّ الله هو الذي خالف عهده وأعرض بقلبه عن جنابه ، فبالضرورة يكون مشركا بمحبة الغير وعدوّا لكل موحد ينفي الغير لكون كل منهما في عدوة حينئذ ولهذا قال : (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) وأشار إلى كون الموالاة بينهما عرضيا لا ذاتيا بقوله : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ثم بين امتناع كونه ذاتيا ببيان المنافاة الذاتية بينهما وعدم المناسبة والجنسية من جميع الوجوه بقوله : (وَقَدْ كَفَرُوا) إلى آخره ، ثم أشار إلى أن وقوعها لا يكون إلا عند الجنسية وحدوث الميل إلى الشرك ، فإن وقعت فلا بد منهما بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : طريق الوحدة. ثم أشار إلى أن العرضية لا يجوز أن يختارها أهل التحقيق لأن السبب الموجب لها أمور فانية لا يبقى نفعها إلا في الدنيا والعاقل يجب أن يختار الأمور الباقية دون الفانية بقوله : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) أي : لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله لأن القيامة الصغرى مفرّقة بينكم تفريقا أبديا لعدم الاتصال الحقيقي الباقي بعد الموت بينكم ، وهذا معنى قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي : يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم ، كما قال : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)) (١). ثم علّمهم طريق التوحيد بالتأسي بالموحد الحقيقي السابق إبراهيم النبي عليه‌السلام وأصحابه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي : لأطلبن لك الغفران بمحو صفاتك وسيئات أعمالك بالنور الإلهي (وَما أَمْلِكُ)

__________________

(١) سورة عبس ، الآيات : ٣٤ ـ ٣٦.

إلا الطلب. وأما وجود ذلك فأمر متعلق بمشيئة الله وعنايته كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١).

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) بالخروج عن أفعالنا بشهود أفعالك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) بمحو صفاتنا بمطالعة صفاتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بفناء ذواتنا ووجوداتنا في ذاتك وهو التوحيد التام.

[٥ ـ ١٣] (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي : إنّا لا نخافهم ولا نرى لهم تأثيرا ولا وجودا ولكنا نعوذ بعفوك من عقابك حتى لا تعاقبنا بهم ولا تبلينا بأيديهم بسبب ما فرط منا من السيئات والظهور بالصفات (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب تفريطاتنا بالعفو لا بالعقوبة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القويّ على عقابنا بهم وعلى دفعهم عنا وقمعهم وقهرهم (الْحَكِيمُ) لا يفعل أحد الأمرين ولا يختاره إلا بمقتضى الحكمة ثم كرر وجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه وأثبته لمن كان في بداية التوحيد في مقام الرجاء وتوقع الكمال (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) برفع موجب العداوة الذي هو الكفر ، إذ الاحتجاب ليس أمرا فطريا بل الإيمان بمقتضى الفطرة الأصلية والتحاب وإنما حدث الكفر عند الاحتجاب بالنشأة والانغمار في الغواشي الطبيعية (وَاللهُ) قادر على رفعها ، وإذا ارتفعت ظهرت المودّة الحقيقية بنور الوحدة

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

الذاتية ومقتضى الأخوة الإيمانية (وَاللهُ غَفُورٌ) يستر تلك الهيئات المظلمة الحاجبة بنور صفاته (رَحِيمٌ) يرحم أهل النقصان فيجبره بإفاضة كمالاته (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) لأن العدالة هي ظل المحبة والمحبة ظل الوحدة فما ظهرت العدالة في مظهر إلا وقد تعلقت محبة الله به أولا إذ لا ظلّ بغير الذات والله تعالى أعلم.

سورة الصف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة ، إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما ، وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) يحتمل الكذب وخلف الوعد ، فمن ادّعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان وإلا فلا حقيقة لإيمانه ، ولهذا قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادئ الإيمان فضلا عن كماله إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى والدين القيم وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة ، والكاذب لا مروءة له فلا إيمان له حقيقة. وإنما قلنا : لا مروءة له لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير المعنى المدلول عليه باللفظ والإنسان خاصته التي تميزه عن غيره هي النطق فإذا لم يطابق الإخبار لم تحصل فائدة النطق ، فخرج صاحبه عن الإنسانية وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير المواقع فدخل في حدّ الشيطنة فاستحق المقت الكبير عند الله بإضاعة استعداده واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف لأنه قريب من الكذب ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة وأول درجاتها ، فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه فثبت المقت من الله.

[٤ ـ ٦] (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه ، فأصل الشرك ومحبة الأنداد محبة النفس فإذا سمح بالنفس كان غير محب لنفسه وإذا لم يحب نفسه

فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا وإذا كان بذله للنفس في الله وفي سبيله لا للنفس كما قال : «ترك الدنيا للدنيا» ، كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء فكان من الذين قال فيهم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (١) ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم لقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢).

وبالحقيقة لا تكون محبة الله إلا منه.

(فَلَمَّا زاغُوا) عن مقتضى علمهم لفرط الهوى وحب الدنيا (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن طريق الهدى وحجبهم عن نور الكمال لإقبالهم على الجهة السفلية وميلهم عن مقتضى الفطرة الأصلية (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مقتضى الفطرة التي هي الدين القيم إلى نور الكمال لزوال الاستعداد وعدم القابل.

[٧ ـ ٩] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إذ وضع نوره في الظلمة وصرف بضاعة البقاء ، أي : الاستعداد الفطري في متاع الفناء مع وجود الداعي الخارجي الذي هو النبي إلى الإسلام الذي هو مقتضى ذلك النور الأصلي (وَاللهُ لا يَهْدِي) الموصوفين بهذه الصفة إلى النور الكمالي أي : نور ذاته وسبحات وجهه لما ذكر في الفاسقين.

[١٠ ـ ١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان التقليدي لأن التجارة المنجية من العذاب الأليم التي دعاهم إليها إنما تكون للمحتجبين عن نور الله بصفات النفوس وهيئاتها (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تحقيقا ويقينا استدلاليا (وَ) بعد صحة الاستدلال وقوة اليقين (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) لأن بذل المال والنفس في سبيل الله لا يكون إلا عن يقين (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنهما ستصيران إلى الفناء فإذا بعتموهما بالباقيات من اللذات المستعلية عليهما كان خيرا لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) علما يقينيا.

[١٢] (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة المائدة : الآية : ٥٤.

(يَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب سيئات أعمالكم وهيئات نفوسكم المظلمة (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ) من جنات النفوس لأنهم كانوا تاجرين باذلين الأنفس والأموال للأعواض ، عاملين بقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم التوكل وتوحيد الأفعال وعلوم الشرائع والأخلاق (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) كمقام التوكل وسائر منازل النفوس ومقاماتها (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) بالنسبة إلى من ليس له هذه المقامات في تلك الجنات لا العظيم المطلق.

[١٣] (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) وتجارة أخرى أربح منها وأجلّ محبوبة إليكم هي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بالتأييد الملكوتي والكشف النوري (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) بالوصول إلى مقام القلب ومطالعة تجليات الصفات وحصول مقام الرضا ، وإنما قال : تحبونها ، لأن المحبة الحقيقية لا تكون إلا بعد الوصول إلى مقام القلب وإنما سماها تجارة لاستبدالهم صفات الله تعالى مكان صفاتهم.

[١٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

الحواريون هم الذين خلصوا عن ظلمة النفوس وسواد الهيئات الطبيعية بالوصول إلى مقام القلب وتنوّروا بنور الفطرة الأصلية ، فابيضّت وجوههم الحقيقية بالتصفية (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : من معي متوجها إلى نصرة اللهبالسلوك في صفاته (قالَ الْحَوارِيُّونَ) الصافون (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ننصره بإظهار كمالات صفاته في مظاهرنا فسلكوا في صفاته وأظهروا أنوارها حتى بلغوا الكمال القلبي والتكميل بالتأثير (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ) بهم وبتأثير صحبتهم لقبول استعداداتهم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لاحتجابهم بصفاتهم (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) بالتأييد النوري (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين عليهم بالحجج النيرة والبراهين الواضحة ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

سورة الجمعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) كل وضع لا تطلع العقول البشرية على سببه فهو من طور وراء العقل المشوب بالوهم لامتناع وقوع التخصيص من غير مخصص كوضع حروف التهجي وأيام الأسابيع ، بل وضع اللغات كلها ، فإن في كل بقعة من بقاع الأرض لغة لا شك أن أول التكلم بها أمر توقيفي اقتضاه استعداد خاص باجتماع أمور سفلية وعلوية لا يمكننا ضبطها ، ولو قلنا بالاصطلاح لكان لا يخلو أيضا من سبب يوجب الاصطلاح على ذلك الوضع المخصوص ، فأيام الأسبوع وضعت بإزاء الأيام الإلهية التي هي مدة الدنيا وقد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأعصار أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب السبعة ، فكل ألف سنة يوم من أيام الله لقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١). وتفيد مدة الدنيا بالسبعة هو أن جميع مدّة دور الخفاء المطلق ستة آلاف سنة ويبتدئ الظهور في السابع مع ظهور محمد عليه‌السلام كماقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وجمع بين

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٧.

السبابة والوسطى. ويزداد إلى تمام سبعة آلاف سنة من لدن آدم عليه‌السلام أول الأنبياء إلى زمان المهدي عليه‌السلام ، وينقضي الخفاء بالظهور التام لقيام الساعة ووقوع القيامة الكبرى وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب ويتميز أهل النار وأهل الجنة ويرى عرش الله بارزا كما حكى حارثة رضي الله عنه عن شهوده وهي في الآخرة. فالستة منها هي التي خلق فيها السموات والأرض لأن الخلق حجاب الحق ، فمعنى خلق اختفى بهما فأظهرهما وبطن ، واليوم السابع هو يوم الجمع وزمان الاستواء على العرش بالظهور في جميع الصفات ، وابتداء يوم القيامة الذي طلع فجره ببعثة نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله ، فالمحمديون أهل الجمعة ومحمد صاحبها وخاتم النبيين ، وإنما سمي يوم الجمع لأنه وقت الظهور في صورة الاسم الأعظم لجميع الصفات ووقت استوائه في الظهور بجميعها بحيث لا يختلف بالظهور والخفاء. ولهذا السر ندبت الصلاة يوم الجمعة وقت الاستواء وكرهت في سائر الأيام ، ويسمى هذا الظهور عين الجمع لاجتماع الكل فيه ولهذا المعنى سميت الجمعة جمعة. واتفق أهل الملل كلها من اليهود وغيرهم أن الله فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع ، إلا أن اليهود قالوا : إنه السبت ، وابتداء الخلق من الأحد. وعلى ما أوّلنا يكون هو يوم الجمعة. وكون الأحد ابتداء الخلق مؤوّل بأن أحدية الذات منشأ الكثرة وإن جعلنا الأحد أول الأيام ووقت ابتداء الخلق كان جميع دور النبوة دور الخفاء. وفي السادس ابتداء الظهور وازداد في الخواص حتى ينتهي إلى تمام الظهور وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي ، ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت. ولما كان هذا اليوم ـ أي يوم الجمعة ـ موضوعا بإزاء هذا المعنى ، ندب الناس فيه إلى الفراغ من الأشغال الدنيوية التي هي حجب كلها والحضور والاجتماع في الصلاة وأوجب السعي إلى ذكر الله فيه وترك البيع لكي تتظاهر النفوس بهيئة الاجتماع في صلاة الحضور المعدّ للوصول إلى حضرة الجمع عسى أن يتذكر أحدهم بالفراغ عن الأشغال الدنيوية التجرّد عن الحجب الخلقية ، وبالسعي إلى ذكر الله ، السلوك في طريقه ، والصلاة مع الاجتماع : الوصول إلى حضرة الجمع ، فيفلح.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سرّ ذلك وحقيقته (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) الأمر بالانتشار (فِي الْأَرْضِ) وابتغاء الفضل بعد انقضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع إلى التفصيل بعد الفناء في الجمع بالصلاة الحقيقية ، فإن الوقوف مع الجمع حجاب الحق عن الخلق وبالذات عن الصفات. فالانتشار هو التقلّب في الصفات حال البقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني والسير بالله في الخلق وابتغاء فضل الله هو طلب حظوظ تجليات الأسماء والصفات والرجوع إلى مقام أرض النفس وتوفية حظوظها بالحق (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : احضروا الوحدة الجمعية الذاتية في صورة الكثرة الصفاتية بحيث لم تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة فتضلوا

بعد الهداية ولازموا طريق الاستقامة في توفية حقوق الحق والخلق معا ومراعاة الجمع والتفصيل جميعا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالفلاح الأعظم الذي هو حكمة وضع الجمعية (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) إلى آخره ، أي : أين هم وهذا المعنى؟ وأنى لهم هذه المعاملة؟ لقد بعدوا فذهلوا واحتجبوا فلهوا (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) أي : إن لم تر بأفطرتكم بهمتكم إلى هذا المعنى فاعملوا للأعواض الباقية عند الله فإنها خير من الأمور الفانية التي عندكم وفوّضوا أمر الرزق إليه بالتوكل فإن الله هو (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) والله تعالى أعلم.

سورة المنافقون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))

(الْمُنافِقُونَ) هم المتذبذبون الذين يجذبهم الاستعداد الأصلي إلى نور الإيمان والاستعداد العارضي الذي حدث برسوخ الهيئات الطبيعية والعادات الرديئة إلى الكفر ، وإنما هم كاذبون في شهادة الرسالة لأن حقيقة معنى الرسالة لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم الذين يعرفون الله ويعرفون بمعرفته رسول الله ، فإن معرفة الرسول لا تمكن إلا بعد معرفة الله وبقدر العلم بالله يعرف الرسول فلا يعلمه حقيقة إلا من انسلخ عن علمه وصار عالما بعلم الله وهم محجوبون عن الله بحجب ذواتهم وصفاتهم وقد أطفؤا نور استعداداتهم بالغواشي البدنية والهيئات الظلمانية فأنى يعرفون رسول الله حتى يشهدوا برسالته (ذلِكَ) سبب (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بالله بحسب بقية نور الفطرة والاستعداد (ثُمَّ كَفَرُوا) أي : ستروا ذلك النور بحجب الرذائل وصفات نفوسهم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) برسوخ تلك الهيئات وحصول الرين من المكسوبات فحجبوا عن ربهم بالكلية (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) معنى الرسالة ولا علم التوحيد والدين.

[٤ ـ ٦] (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لأن التناسب في أشكالهم وحسن مناظرهم وروائهم وكمال صباحتهم ووسامتهم دلّ على استعدادهم من جهة الفراسة ونمّ بنور فطرهم ، ولهذا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقولهم : واستمع إلى كلامهم. فإن الصباحة وحسن المنظر لا يكون إلا من صفاء الفطرة في الأصل. ولما رأى غلبة الرين على قلوبهم وانطفاء نور استعدادهم وإبطال الهيئات البدنية العارضية خواصهم الأصلية آيس منهم وتعجب من حالهم بقوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي : يصرفون عن النور إلى الظلمة وعن الحق إلى الباطل. وروي عن بعض

الحكماء أنه رأى غلاما حسنا وجهه ، فاستنطقه لظنه ذكاءه وفطنته فما وجد عنده معنى فقال : ما أحسن هذا البيت لو كان فيه ساكن ، وهذا معنى قوله : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي : أجرام خالية عن الأرواح لا نفع فيها ولا ثمر كالأخشاب المسندة إلى الجدران عند الجفاف وزوال الروح النامية عنها ، فهم في زوال استعداد الحياة الحقيقية والروح الإنساني بمثابتها (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) لأن الشجاعة إنما تكون من اليقين ، واليقين من نور الفطرة وصفاء القلب ، وهم منغمسون في ظلمات صفات النفوس محتجبون باللذات والشهوات أهل الشك والارتياب ، فلذلك غلبهم الجبن والخور فاحذرهم فقد بطل استعدادهم فلا يهتدون بنورك ولا تؤثر فيهم صحبتك (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) لضراوتهم بالأمور الظلمانية واعتيادهم بالكمالات البهيمية والسبعية فلا يألفون النور ولا يشتاقون إليه ولا إلى الكمالات الإنسانية لمسخ الصورة الذاتية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) يعرضون لانجذابهم إلى الجهة السفلية والزخارف الدنيوية فلا ميل في طباعهم إلى الجهة العلوية والمعاني الأخروية (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) لغلبة الشيطنة واستيلاء القوة الوهمية واحتجابهم بالأنائية وقصور الخيرية (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لرسوخ الهيئات الظلمانية فيهم وزوال قبول استعداداتهم للهداية لفسقهم وخروجهم عن دين الفطرة القيم.

[٧ ـ ٨] (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

(يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) لاحتجابهم بأفعالهم عن رؤية فعل الله وبما في أيديهم عما في خزائن الله فيتوهمون الإنفاق منهم لجهلهم وكذا توهموا العزّة والقدرة ولأنفسهم لاحتجابهم بصفاتهم عن صفات الله فقالوا : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ولم يشعروا أن العزة والقوة والقدرة كلها أنوار ذات الله تعالى وصفاته اللازمة لذاته فبقدر القرب منه والفناء فيه والمحو في صفاته تظهر على المظاهر الإنسية ولا أقرب إليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم المؤمنين المحققين الموقنين فلا أعز منه عليه‌السلام من جميع الخلق ثم الذين يلونه من المؤمنين (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) لمكان احتجابهم وشدّة ارتيابهم. ولقد قيض من نفس من تكلم بهذا الكلام من أخرجه وحبسه ولم يدعه يدخل المدينة حتى أقر بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. روي أن القائل لذلك هو عبد الله بن أبيّ ، فلما رجعوا إلى المدينة سلّ ابنه السيف ومنع أباه من الدخول ، فلم يزل حبيسا في يده حتى أذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهد هو بعزّة الله ورسوله والمؤمنين.

[٩ ـ ١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

(لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إن صدقتم في الإيمان ، فإن قضية الإيمان غلبة حب الله على محبة كل شيء فلا تكن محبتهم ومحبة الدنيا من شدّة التعلق بهم وبالأموال غالبة في قلوبكم على محبة الله فتحتجبوا بهم عنه فتصيروا إلى النار فتخسروا نور الاستعداد الفطري بإضاعته فيما يفنى سريعا ، وتجرّدوا عن الأموال بإنفاقها وقت الصحة والاحتياج إليها ليكون فضيلة في أنفسكم وهيئة نورية لها ، فإن الإنفاق إنما ينفع إذا كان عن ملكة السخاء وهيئة التجرّد في النفس. فأما عند حضور الموت فالمال للوارث لا له فلا ينفعه إنفاقه وليس له إلا التحسر والتندم وتمنى التأخير في الأجل بالجهل فإنه لو كان صادقا في دعوى الإيمان وموقنا بالآخرة لتيقن أن الموت ضروري وأنه مقدّر في وقت معين قدّره الله فيه بحكمته فلا يمكن تأخره (وَاللهُ خَبِيرٌ) بأعمالكم ونياتكم فلا ينفع الإنفاق في ذلك الوقت ولا تمني التأخير في الأجل ، ووعد التصدّق والصلاح لعلمه بأنه ليس عن ملكة السخاء ولا عن التجرد والزكاء بل من غاية البخل وحب المال كأنه يحسب أنه يذهب به معه وبأن ذلك التمني والوعد محض الكذب ومحبة العاجلة لوجود الهيئة المنافية للتصدّق والصلاح في النفس والميل إلى الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٢٨.

سورة التغابن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٨] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨))

(فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) لما حجبوا بصفات نفوسهم عن النور الذي هو به يفضل عليهم بما لا يقاس ولم يجدوا منه إلا البشرية أنكروا هدايته ، فإن كل عارف لا يعرف معروفه إلا بالمعنى الذي فيه فلا يوجد النور الكمالي إلا بالنور الفطري ولا يعرف الكمال إلا الكامل ، ولهذا قيل : لا يعرف الله غير الله. وكل طالب وجد مطلوبه بوجه ما دالا لما أمكن به التوجه نحوه ، وكذا كل مصدّق بشيء فإنه واجد للمعنى المصدّق به بما في نفسه من ذلك المعنى ، فلما لم يكن فيهم شيء من النور الفطري أصلا لم يعرفوا منه الكمال فأنكروه ولم يعرفوا من الحق شيئا فيحدث فيهم طلب فيحتاجوا إلى الهداية فأنكروا الهداية (فَكَفَرُوا) مطلقا أي : حجبوا عن الحق والدين والرسول وأعرضوا بالتوجه إلى ما وجدوا من المحسوسات عن المعقول (وَ) قد (اسْتَغْنَى اللهُ) بكماله لأنه واجد كماله مشاهد لذاته عرفوا أو لم يعرفوا (وَاللهُ غَنِيٌ) بذاته عن إيمانهم لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم ولا على معرفتهم له (حَمِيدٌ) كامل في نفسه بكمالاته الظاهرة في مظاهر ذرات الوجود خصوصا على أوليائه وإن لم يظهر عليهم ، أي : إن لم يبصروه وإن لم يحمدوه بتلك الكمالات لاحتجابهم عنها فهو حميد من كل موجود بكماله المخصوص به.

[٩] (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي : ليس التغابن في الأمور الدنيوية فإنها أمور فانية سريعة الزوال ،

ضرورية الفناء ، لا يبقى شيء منها لأحد ، فإن فات شيء من ذلك أو أفاته أحد ولو كان حياته فإنما فات أو أفيت ما لزم فوته ضرورة فلا غبن ولا حيف حقيقة وإنما الغبن والتغابن في إفاتة شيء لو لم يفته لبقي دائما وانتفع به صاحبه سرمدا وهو النور الكمالي والاستعدادي فتظهر الحسرة والتغابن هناك في إضاعة الربح ورأس المال في تجارة الفوز والنجاة كما قال : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١) فمن أضاع استعداده ونور فطرته كان مغبونا مطلقا كمن أخذ نوره وبقي في الظلمة ، ومن بقي نور فطرته ولم يكتسب الكمال اللائق به الذي يقتضيه استعداده أو اكتسب منه شيئا ولم يبلغ غايته كان مغبونا بالنسبة إلى الكامل التام فكأنما ظفر ذلك الكامل بمقامه ومرامه وبقي هذا متحيرا في نقصانه (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) بحسب نور استعداده (وَيَعْمَلْ صالِحاً) بمقتضى إيمانه فإن العمل إنما يكون بقدر النظر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) التي اتقى الله فيها بعمله (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) على حسب درجات أعماله ، فإن آمن تقليدا واجتنب المعاصي وعمل بالطاعات يكفر عنه سيئات ذنوبه ويدخله جنات النفس على حسب درجات عمله وتقواه ، وإن آمن تحقيقا واجتنب صفاته وعمل بالسلوك في صفات الله ومرضاته يكفر عنه سيئات صفات نفسه ويدخله جنات القلب على قدر مراتبه في الأعمال والمقامات ، وإن آمن إيمانا عينيا وعمل بالمشاهدة واتقى الله في وجوده يدخله جنات الروح بتكفير سيئات وجود قلبه وصفاته ، وإن آمن إيمانا حقيقيا واتقى في آنيته ورؤية فنائه يكفر عنه سيئات بقيته وتلوينه بظهور أنائيته ويدخله جنات الذات.

[١٠] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا في مقابلة المؤمنين ومراتبهم (أُولئِكَ أَصْحابُ) نار الطبقة التي حجبوا بها معذبين.

[١١] (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١))

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) من هذه المصائب الحاجبة وغيرها (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بتقديره ومشيئته على مقتضى حكمته (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) أحد الإيمانات المذكورة (يَهْدِ قَلْبَهُ) إلى العمل بمقتضى إيمانه حتى يجد كمال مطلوبه الذي آمن به ويصل إلى محل نظره (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم مراتب إيمانكم وسرائر قلوبكم وأحوال أعمالكم وآفاتها وخلوصها من الآفات.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٦.

[١٢ ـ ١٣] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) على حسب معرفتكم بالله وبالرسول فإن أكثر التحلف من الكمال والوقوع في الخسران والنقصان إنما يقع من التقصير في العمل وخور القدم لا من عدم النظر.

[١٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) أي : بعضهم لاحتجابكم بهم ووقوفكم معهم بالمحبة وشدة العلاقة فتشركونهم بالله في المحبة بالتساوي في المحبتين وتعبدونهم من دون الله بإيثارهم عليه (فَاحْذَرُوهُمْ) أي : احفظوا أنفسكم عن محبتهم وشدّة التعلق بهم والاحتجاب ، وعاقبوهم عند التماسهم ذلك ، أي : إيثار حقوقهم على حقوق الله في كل شيء من المحبة وغيرها (وَإِنْ تَعْفُوا) بالمداراة (وَتَصْفَحُوا) عن جرائمهم بالحلم (وَتَغْفِرُوا) جناياتهم بالرحمة ، فلا ذنب ولا حرج إنما الذنب في الاحتجاب بهم وإفراط المحبة وشدة التعلق لا في مراعاة العدالة والفضيلة ومعاشرتهم بحسن الخلق فإنه مندوب بل اتصاف بصفات الله (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فعليكم التخلق بأخلاقه.

[١٥] (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥))

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ابتلاء وامتحان من الله إياكم (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن صبر في مقام الابتلاء وراعى حق الله فيه وتدارك ما قصر مما يجب لهم عليه فأساء الخلق وخالف أمر الله بما أمسك من المال وجمع ومنع حق الله فارتكب رذيلة البخل والعصيان ، وما أفرط في محبتهم ومراعاتهم فأضاع حق الله واحتجب بهم وكذا في محبة المال فوضع في المقت والخسران وما أسرف فيه وأنفقه في المعاصي فكفر بنعمة الله ، وقعد عن القيام بشكرها ، وإن أصاب مالا وولدا موافقا شكر وما بطر من شدّة الفرح وما استغنى فطغى وإن فاته شيء من ذلك صبر وما جزع من شدّة الحزن فهلك وغوى.

[١٦ ـ ١٨] (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

(فَاتَّقُوا اللهَ) في هذه المخالفات والآفات في مواضع البليات (مَا اسْتَطَعْتُمْ) بحسب

مقامكم ووسعكم على قدر حالكم ومرتبتكم (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي : افهموا هذه الأوامر واعملوا بها (وَأَنْفِقُوا) أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه وأتوا خيرا لكم أي : اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم (وَمَنْ يُوقَ) بعصمة الله هذه الرذيلة المعجونة في طينة النفس (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بمقام القلب وثواب الفضيلة.

سورة الطلاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤))

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بحسب مقتضى مقامه واجتنب ذنب حاله (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من ضيق المقام والمكاسب إلى سعة روح الحال والمواهب فمن يتقيه في معاصيه يجعل له مخرجا من مضايق الهيئات المظلمة وعقوبات نيران الطبيعة (وَيَرْزُقْهُ) ثواب جنة النفس وأنوار الفضائل من عالم الغيب (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) لعدم وقوفه منها ومن يتقيه في أفعال نفسه يجعل له مخرجا إلى مقام التوكل ويرزقه تجليات الأفعال من حيث لا يحتسب ، ومن يتقيه في صفات نفسه يجعل له مخرجا إلى مقام الرضا ويرزقه روح اليقين وثمرات تجليات الصفات الإلهية في جنة القلب من حيث لا يحتسب لعدم شعوره بها ، ومن يتقيه في وجوده والتنزه عنه يجعل له مخرجا من ضيق أنائيته إلى فسحة الوجود المطلق ويرزقه الوجود الموهوب من حيث لا يحتسب ولا يخطر بباله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) بقطع النظر عن الوسائل والانقطاع إليه من الوسائط (فَهُوَ حَسْبُهُ) كافيه يوصل إليه ما قدّر له ويسوق إليه ما قسم لأجله من أنصبة الدنيا والآخرة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي : يبلغ ما أراد من أمره لا مانع له ولا عائق ، فمن تيقن ذلك ما خاف أحدا ولا رجا ، وفوّض أمره إليه ونجا (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي : عين لكل أمر حدّا معينا ووقتا معينا في الأزل لايزيد بسعي ساع ولا ينقص بمنع مانع وتقصير مقصّر ولا يتأخر عن وقته ولا يتقدّم عليه ، والمتيقن لهذا الشاهد له متوكل بالحقيقة.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في مراعاة وقته والاجتناب عن ذنب حاله (يَجْعَلْ لَهُ) من أمر سلوكه

(يُسْراً) أي : متى راعى آداب مقامه واجتنب ذنوب حاله في المواطن تيسر له الترقي منه إلى أعلى ذلك اليسر المرتب على التقوى في كل مرتبة.

[٥ ـ ١١] (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

(أَمْرُ اللهِ) وشأنه المخصوص به وهو التوفيق على حسب الاستعداد والفيض بقدر القبول (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ثم كرر للمبالغة تفصيل ما أجمل فقال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي : موانعه وهيئات نفسه الحاجبة عن الفيض ، المانعة للمزيد (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) بإفاضة ما يناسب حاله بحسب القبول والاستعداد الجديد من الجمال (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : اعتبروا بحال الأمم الماضيين من المنكرين المعاندين وما نزل بهم من العذاب والوبال فاتّقوا الله في أوامره ونواهيه إن خلصت عقولكم من شوب الوهم ، فإن اللبّ هو العقل الخالص من شوائب الوهم وذلك بخلوص القلب من شوائب صفات النفس والرجوع إلى الفطرة ، وإذا خلص العقل من الوهم والقلب من النفس كان الإيمان يقينيا فلذلك وصفهم : ب (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : الإيمان التحقيقي.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي : فرقانا مشتملا على ذكر الذات والصفات والأسماء والأفعال والمعاد (رَسُولاً) أي : روح القدس الذي أنزله به فأبدل منه بدل الاشتمال لأن إنزال الذكر هو إنزاله بالاتصال بالروح النبوي وإلقاء المعاني في القلب (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) أي : يجلي عليكم صفاته ويكشف لكم توحيدها (مُبَيِّناتٍ) متجليات أو مجليات لأنوار الذات (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني من ظلمات صفات القلب إلى نور الروح ومقام المشاهدة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) الإيمان العيني بالمشاهدة (وَيَعْمَلْ صالِحاً) بالسير في الله بالله (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) من مشاهدات تجليات صفاته ومطالعات أنوارها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم توحيد الأفعال والصفات والذات (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) من تلك العلوم.

[١٢] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) إن أخذنا السموات بمعناها الظاهر ، فالأراضي السبعة هي طبقات العناصر المشهورة فإنها قوابل بالنسبة إلى المؤثرات فهي أرضها التي تنزل عليها منها الصور الكائنة وهي النار الصرفة والطبقة الممتزجة من النار والهواء المسماة كرة الأثير التي تتولد فيها الشهب وذوات الأذناب والذوائب وغيرها ، وطبقة الزمهرير وطبقة النسيم وطبقة الصعيد والماء المشمولة للنسيم الشاملة للطبقة الطينية التي هي السادسة وطبقة الأرض الصرفة عند المركز وإن حملناها على مراتب الغيوب السبعة المذكورة من غيب القوى والنفس والعقل والسرّ والروح والخفاء وغيب الغيوب أي : عين جمع الذات ، فالأرضون هي الأعضاء السبعة المشهورة (يَتَنَزَّلُ) أمر الله بالإيجاد والتكوين وترتيب النظام والتكميل (بَيْنَهُنَ) والله تعالى أعلم.

سورة التحريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦))

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) الأهل بالحقيقة هو الذي بينه وبين الرجل تعلق روحاني واتصال عشقي سواء اتصل به اتصالا جسمانيا أو لا ، وكل ما تعلق به تعلقا عشقيا فبالضرورة يكون معه في الدنيا والآخرة فوجب عليه وقايته وحفظه من النار كوقاية نفسه فإنه زكّى نفسه عن الهيئات الظلمانية وفيه ميل ومحبة لبعض النفوس المنغمسة فيها لم يزكها بالحقيقة لأنه بتلك المحبة تنجذب إليها فيكون معها في الهاوية محجوبا بها سواء هي قواها الطبيعية الداخلة في تركيبه أو نفوس إنسانية منتكسة في عالم الطبيعة خارجة عن ذاته ولهذا يجب على الصادق محبة الأصفياء والأولياء ليحشر معهم فإن المرء يحشر مع من أحبّ. (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي : نارا مخصوصة من بين النيران بأن لا تتقد إلا بالناس والحجارة لكونها نارا روحانية من صفات قهر الله تعالى مستولية على النفوس المرتبطة بالأمور السفلية المقترنة بالأجرام الجاسية الأرضية بسلسلة المحبة الروحانية ، فلما قرنت تلك النفوس أنفسها بها حبا وهوى حشرت معها في الهاوية (عَلَيْها) أي : يلي أمرها (مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) أعزاء جافية غلاظ الأجرام وهي القوى السماوية والملكوت الفعالة في الأمور الأرضية التي هي روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثنا عشر المشار إليها بالزبانية التسعة عشر غير مالك الذي هو الطبيعة الجسمانية الموكلة بالعالم السفلي وجميع القوى والملكوت المؤثرة في الأجسام التي لو تجرّدت هذه النفوس الإنسانية ترقت من مراتبها واتصلت بعالم الجبروت وصارت مؤثرة في

هذه القوى الملكوتية ولكنها لما انغمست في الأمور البدنية وقرنت أنفسها بالأجرام الهيولانية المعبر عنها بالحجارة صارت متأثرة منها محبوسة في أسرها معذبة بأيديها (شِدادٌ) أي : أقوياء لا لين ولا رأفة ولا رحمة فيهم لأنهم مجبولون على القهر لا لذة لهم إلا فيه (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) لتسخرهم وانقيادهم لأمره وطاعتهم وإذعانهم له لأنهم وإن كانوا قهارين مؤثرين بالنسبة إلى ما تحتهم من أجرام هذا العالم وقواها فإنهم مقهورون ومتأثرون بالنسبة إلى الحضرة الإلهية ، ولو لم يكن انقيادهم للأمر الإلهي طبعا لما كان لهم تأثير في هذا العالم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) لدوام تأثيرهم وعدم تناهي قواهم وقدرهم.

[٧ ـ ٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

(لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) إذ ليس بعد خراب البدن ورسوخ الهيئات إلا الجزاء على الأعمال لامتناع الاستكمال ثمة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ) بالرجوع إليه في كل حال من أحوالكم فإن مراتب التوبة كمراتب التقوى فكما أن أول مراتب التقوى هو الاجتناب عن المنهيات الشرعية وآخرها الاتقاء عن الأنانية والبقية فكذلك التوبة أولها الرجوع عن المعاصي وآخرها الرجوع عن ذنب الوجود الذي هو من أمّهات الكبائر عند أهل التحقيق (تَوْبَةً نَصُوحاً) أي : توبة ترقع الخروق وترتق الفتوق وتصلح الفاسد وتسدّ الخلل ، فإن خلل كل مقام وفساده ونقصانه لا ينسدّ ولا ينصلح ولا ينجبر إلا عند التوبة عنه بالترقي إلى ما هو فوقه فإذا تاب عنه بالترقي وبرز عن حجاب رؤية ذلك المقام انجبر نقصه وتمّ. وهو من النصح بمعنى الخياطة أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى المقام الذي تاب عنه والنظر إليه بعدم الالتفات وقطع النظر عنه من النصوح بمعنى الخلوص (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) من ذنوب المقام الذي تبتم إليه عنه وحجبه وآفاته والنظر إليه أو الاعتداد به والميل إليه ورؤيته أو التلوين الذي يحدث بعد الترقي عنه كالتلوين بظهور النفس في مقام القلب وبظهور القلب في مقام الروح وبظهور الأنانية في مقام الوحدة (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ) مترتبة على مراتب التوبة (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) بظهور الحجاب في مقام القرب (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : الذي لهم بحسب النظر والكمال العلمي (وَبِأَيْمانِهِمْ) أي : الذي لهم بحسب العمل وكماله إذ النور العلمي من منبع الوحدة والعملي من جانب القلب الذي هو يمين النفس أو نور السابقين منهم

يسعى بين أيديهم ونور الأبرار منهم يسعى بأيمانهم (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي : يعوذون به ويلوذون إلى جنابه من ظهور البقية ، فإنها ظلمة في شهودهم فيطلبون إدامة النور بالفناء المحض ، أو : أدم علينا هذا الكمال بوجودك ودوام إشراق سبحات وجهك. يقولون ذلك عن فرط الاشتياق مع الشهود كقوله :

ويبكي إن دنوا خوف الفراق

أو يقول بعضهم ، وهم الذين لم يصلوا إلى الشهود الذاتي (وَاغْفِرْ لَنا) ظهور البقايا بعد الفناء أو وجود الإثبات قبله.

[٩ ـ ١٢] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

(جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) للمضادّة الحقيقية بينك وبينهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) لقوّتك بالله منبع القوى والقدر ومعدن القهر والعزّة ، عسى أن تنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم وعريكتهم فتنقهر نفوسهم وتذلّ وتخضع فتنفعل عن النور القهري وتهتدي فتكون صورة القهر عين اللطف (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ما دام هم هم ، أي : ما داموا على صفتهم أو دائما أبدا لزوال استعدادهم أو عدمه.

ثم بين أن الوصل الطبيعية والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية بل المحبة الحقيقية والاتصالات الروحانية هي المؤثرة فحسب ، والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت ولا تكون إلا في الدنيا بالتمثيلين المذكورين ، وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح والاعتقاد الحق كإحصان مريم وتصديقها بكلمات ربّها وطاعتها المعدّة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بطاعة الروح والقلب ولا بحسن معاشرتهما ولا تطيعهما بامتثال أوامرهما ونواهيهما ولا تحفظ أسرارهما وتبيح مخالفتهما وتسير بسير الإباحة باستراق كلمة التوحيد والطغيان بانتحال الكمال داخله في نار الحرمان وجحيم الهجران مع المحجوبين ولا تغني هداية الروح أو القلب عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب وإن أغنت عنها في باب الخلود ، وإن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية الطالب

للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت قوة محبة الله لصفائه وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه لا يبقى في العذاب مخلدا ويخلص إلى النجاة ويبقى في النعيم سرمدا ، وإن تعذب بمجاورتها حينا وتألم بأفعالها برهة. وأن النفس المتزينة بفضيلة العفّة المشار إليها بإحصان الفرج هي القابلة لفيض روح القدس ، الحاملة بعيسى القلب ، المتنوّرة بنور الروح ، المصدّقة بكلمات الربّ من العقائد الحكمية والشرائع الإلهية المطيعة لله مطلقا علما وعملا وسرّا وجهرا ، المنخرطة في سلك التوحيد جمعا وتفصيلا باطنا وظاهرا والله تعالى أعلم.

سورة الملك

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) الملك عالم الأجسام كما أن الملكوت عالم النفوس ، ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك بحسب مشيئته بالتبارك الذي هو غاية العظمة ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة ، وباعتبار تسخيره عالم الملكوت بمقتضى إرادته بالتسبيح الذي هو التنزيه كقوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) كلّا بما يناسبه ، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام ، والتنزّه يناسب المجرّدات عن المادة. فمعنى تبارك : تعالى وتعاظم الذي يتصرّف في عالم الملك بيد قدرته ، لا يتصرّف فيه غيره ، فبيده كل ما وجد من الأجسام لا بيد غيره يصرّفها كما يشاء (وَهُوَ) القادر على كل ما عدم من الممكنات يوجدها على ما يشاء ، فإن قرينة القدرة تخص الشيء بالممكن إذ تعلل القدرة به فيقال : إنه مقدوره لأنه ممكن.

[٢ ـ ٤] (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الموت والحياة من باب العدم والملكة ، فإن الحياة هي الإحساس والحركة الإرادية ولو اضطرارية كالتنفس والموت عدم ذلك عما من شأنه أن يكون له وعدم الملكة ليس عدما محضا بل فيه شائبة الوجود وإلا لم يعتبر فيه المحل القابل للأمر الوجودي فلذلك صح تعلق الخلق به كتعلقه بالحياة وجعل الغرض من خلقهما بلاء الإنسان في حسن العمل وقبحه ، أي : العلم التابع للمعلوم الذي يترتب عليه الجزاء وهو العلم الذي يظهر على المظاهر الإنسانية بعد وقوع المعلوم ، فإنه ليس إلا علم الله الكامن في الغيب الظاهر بظهور المعلوم لأن الحياة هي التي يتمكن بها على الأعمال والموت وهو الداعي إلى حسن العمل الباعث عليه وبه يظهر آثار الأعمال كما أن الحياة يظهر بها أصولها وبهما تتفاضل

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٨٣.

النفوس في الدرجات وتتفاوت في الهلاك والنجاة. وقدّم الموت على الحياة لأن الموت في عالم الملك ذاتي والحياة عرضية.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي يقهر من أساء العمل (الْغَفُورُ) الذي يستر بنور صفاته من أحسن (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) نهاية كمال عالم الملك في خلق السموات لا ترى أحكم خلقا وأحسن نظاما وطباقا منها. وأضاف خلقها إلى الرحمن لأنها من أصول النعم الظاهرة ومبادئ سائر النعم الدنيوية ، وسلب التفاوت عنها لبساطتها واستدارتها ومطابقة بعضها بعضا وحسن انتظامها وتناسبها ، ونفى الفطور لامتناع خرقها والتئامها وإنما قال : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفسد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع ، وما أتعب من طلب وجود الممتنع.

[٥] (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) من السموات المعنوية ، أي : العقل الإنساني (بِمَصابِيحَ) الحجج والبينات (وَجَعَلْناها رُجُوماً) لشياطين الوهم والخيال (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ) سعير الاحتجاب في قعر الطبيعة والهويّ في هاوية العالم الجسماني والبرزخ الغاسق الظلماني أو السماء المحسوسة التي هي أقرب إلينا من السماء العقلية بمصابيح الكواكب ، وجعلناها بحيث ترجم بها النفوس البعيدة عن عالم النور لظلمة جواهرها بملازمة الكواكب ، وجعلناها بحيث ترجم بها النفوس البعيدة عن عالم النور لظلمة جواهرها بملازمة الغواسق الجسمانية المخالفة بجواهرها الخبيثة عن الجواهر المقدّسة التي غلبت عليها ظلمة الكون وشدّة الرين وتكدّرت بمباشرة الشهوات الطبيعية وتلوّثت بألواث التعلقات الجسمانية وامتزجت بها فترسخت فيها الهيئات المظلمة وتغيرت عن طباعها فتأثرت بتأثيرات الأجرام العلوية كلما اشتاقت بسنخها إلى عالمها ، رجمتها روحانيات الكواكب وطردتها إلى جحيم العالم السفلي وألزمتها مجاورة الهياكل المناسبة لهيئاتها وملازمة البرازخ المشاكلة لطباعها وألقتها في عذاب تضادّ الطبائع وسعير استيلاء طبائع تلك الغواسق.

[٦ ـ ٧] (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧))

(وَلِلَّذِينَ) حجبوا عن ربّهم عامة سواء الشياطين الذين هم في غاية البعد والمنافاة وقوة الشرّ وغيرهم من الضعفاء المحجوبين الذين ليسوا في غاية الشرارة (عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : العالم السفلي الغاسق المضادّ بطبعه لعالم النور (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ذلك المهوى المظلم المهين المحرق (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا) لأهلها الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسيّ

والروحانيين أو لأنفسهم فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات القبيحة المنظر المنكرة الصوت (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي عليهم وتستولي وتعلو.

[٨ ـ ١١] (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي : تتفارق أجزاؤها من شدّة غلبة التضاد عليها وشدّة مضادتها لجواهر النفوس. ولعمري إن شدّة منافرة الطباع بعضها بعضا تستلزم شدّة العداوة والبغض المقتضية لشدة الغيظ والحنق ، فتلك المهواة لشدة منافاتها بالطبع لعالم النور والجوهر المجرد وأصل فطرة النفس يشتدّ غيظها عليها وتحرقها بنار غضبها أعاذنا الله من ذلك.

والخزنة هم النفوس الأرضية والسماوية الموكلة بعالم الطبيعة السفلية وسؤالهم اعتراضهم ومنعهم إياها عن النفوذ من الجحيم بحجة تكذيب الرسل ومنافاة عقائدها لما جاءت به ومعاندتها إياهم وعدم معرفتها بالله وكلامه وصممها عن الحق وانتفاء سماعها وعدم عقلها عن الله معارفه وآياته ودلائل توحيده وبيناته فإنهم لو سمعوا وعقلوا لعرفوا الحق وأطاعوا فنجوا وخلصوا إلى عالم النور وجوار الحق فما كانوا في أصحاب السعير.

[١٢ ـ ١٤] (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) بتصور عظمته غائبين عن الشهود الصفاتي في مقام النفس بتصديق الاعتقاد (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من صفات النفس (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) من أنوار القلب وجنة الصفات أو الذين يخشون ربّهم بمطالعة صفات العظمة في مقام القلب غائبين عن الشهود الذاتي لهم مغفرة من صفات القلب وأجر كبير من أنوار الروح وجنة الذات (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) لكون تلك السرائر عين علمه ، فكيف لا يعلم ضمائرها من خلقها وسوّاها وجعلها مرائي أسراره (وَهُوَ اللَّطِيفُ) الباطن علمه فيها ، النافذ في غيوبها (الْخَبِيرُ) بما ظهر من أحوالها ، أي : المحيط ببواطن ما خلق وظواهره بل هو هو بالحقيقة باطنا وظاهرا لا فرق إلا بالوجوب والإمكان والإطلاق والتقييد واحتجاب الهوية بالهذية والحقيقة بالشخصية.

[١٥] (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أرض النفس (ذَلُولاً فَامْشُوا) بأقدام الفطرة في أعالي صفاتها

وأعز أطرافها وجهاتها واقهروها مذللة (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الذي ينال من جهتها أي : العلم المأخوذ من الحسّ وهو الأكل من تحت الأرجل المشار إليه بقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) بالعروج إلى مقام الولاية وحضرة الجمع.

[١٦ ـ ١٨] (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))

(أَأَمِنْتُمْ) الذي قهر سلطانه سماء الروح وبهر نوره شمس العقل بالتأثير والتنوير (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ) أرض النفس بأن يحركها ويقلبها عليكم فتقهركم وتستولي عليكم فتذهب بنوركم وتهلككم وتجعلكم أسفل سافلين (فَإِذا هِيَ) تضطرب عالية طياشة لا قرار لها ولا طمأنينة بالسكينة لما في طباعها من الطيش والاضطراب (أَمْ أَمِنْتُمْ) ذلك العالي القهار (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) حاصب صفات النفس ولذاتها وشهواتها المستعلية بريح الهوى على القلب في جوّ الأماني والآمال فيهلككم هلاك المكذبين الذين تحرّكت نفوسهم بقهر من الله فاحتجبوا بظلماتها عن نور هداية الرسل فخسفوا ومسخوا وكان من حالهم ما يتعجب منه ، وعاينوا ما أنذروا به من المنكر الفظيع.

[١٩] (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى) طير المعارف والحقائق والإشراقات النورية والمعاني القدسية (فَوْقَهُمْ) في سماء الروح (صافَّاتٍ) أنفسهنّ مترتبة متناسقة فيها (وَيَقْبِضْنَ) عن النزول إلى القلب (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) المسوّي للاستعداد ، المهيّئ لقبولها ، المودع إياها فيها ، المرتب لها بسعة رحمته الواسعة الشاملة لكل ما خلق وقدر ، المعطية كل شيء خلقه. وما يرسلهنّ إلا الرحيم المفيض لكل ما قدّر من الكمال بحسب الاستعداد المظهر لكل ما دبر في الغيب من المعاني والصفات (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) في مكمن غيبه فيعطيه ما يليق به ويسوّيه بحسب مشيئته ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته ثم يهديه إليه بتوفيقه.

[٢٠] (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠))

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) أي : من يشار إليه ممن يستعان به من الأغيار حتى الجوارح والآلات والقوى وكل ما ينسب إليه التأثير والمعونة من الوسائط فيقال : (هُوَ جُنْدٌ

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) فيرسل ما أمسك من النعم الباطنة والظاهرة أو يمسك ما أرسل من النعم المعنوية والصورية أو يحصل لكم ما منع ولم يقدّر لكم أو يمنع ما أصابكم به وقدّر عليكم (إِنِ) المحجوبون الذين ستروا نور فطرتهم (إِلَّا فِي غُرُورٍ) بالوسائط.

[٢١] (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١))

(أَمَّنْ) يشار إليه منها فيقال : (هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ) الرحمن (رِزْقَهُ) المعنوي أو الصوري (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) أي : عناد وطغيان لمضادّتهم الحق بالباطل الذي أقاموا عليه ومنافاتهم النور بظلمة نفوسهم (وَنُفُورٍ) أي : شراد لبعد طباعهم ونبوّها عنه.

[٢٢ ـ ٣٠] (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) متنكسا بالتوجه إلى الجهة السفلية ومحبته للملاذ الحسيّة وانجذابه إلى الأمور الطبيعية (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) منتصبا على صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة التامة التي لا يبلغ كنهها ولا يقدر قدرها ولما فرّق بين الفريقين الضالين والمهتدين الموحدين. أشار إلى توحيد الأفعال بقوله : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) وذكر من أفعاله الإبداء والإعادة وبيّن أنّ المحجوبين مع اعترافهم بالإبداء منكرون للإعادة فلا جرم يسوء وجوههم رؤية ما ينكرونه ، ويعلوها الكآبة ويأتيهم من العذاب الأليم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يجيرهم منه ما احتجبوا به من الحق ونسبوا التأثير إليه لعجزه وانتفاء قدرته ولا الرحمن لأنهم لم يتكلوا عليه برؤية جميع الأفعال منه ونفي التأثير عن الغير فلم يؤمنوا به الإيمان الحقيقي ولذلك عرّض بكفرهم وشركهم بقوله : (هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي : لم نتوكل على غيره لأنّا شاهدنا الحضرة الرحمانية التي تصدر عنها الأشياء كلها فمنعنا ذلك الإيمان الحقيقي نسبة الفعل إلى الغير فهو يجيرنا دونكم ، والله أعلم.

سورة القلم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ن) هو النفس الكليّة (وَالْقَلَمِ) هو العقل الكلي والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها ، والثاني من باب التشبيه إذ تنتقش في النفس صور الموجودات بتأثير العقل كما تنتقش الصور في اللوح بالقلم (وَما يَسْطُرُونَ) من صور الأشياء وماهياتها وأحوالها المقدّرة على ما يقع عليها ، وفاعل ما يسطرون الكتبة من العقول المتوسطة والأرواح المقدّسة وإن كان الكاتب في الحقيقة هو الله تعالى ، لكن لما كان في حضرة الأسماء نسب إليها مجازا ، أقسم بهما وبما يصدر عنهما من مبادئ الوجود وصور التقدير الإلهي ومبدأ أمره ومخزن غيبه لشرفهما وكونهما مشتملين على كل الوجود في أول مرتبة التأثير والتأثر ومناسبتهما للمقسم عليه.

[٢] (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢))

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي : ما أنت بمستور العقل مختلّ الإدراك في حالة كونك منعما عليك بنعمة الاطلاع على هذا المسطور بهما فإنه لا أعقل ممن اطلع على سرّ القدر وأحاط بحقائق الأشياء في نفس الأمر.

[٣] (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣))

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) من أنوار المشاهدات والمكاشفات من هذين العالمين (غَيْرَ) مقطوع لكونه سرمديا غير مادي فلا يتناهى وهم مادّيون محجوبون عنه ، متضادّون إياك في الحال والوجهة ، فلهذا ينسبونك إلى الجنون لانحصار عقولهم وأفكارهم في المادّيات.

[٤] (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤))

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لكونك متخلقا بأخلاق الله متأيدا بالتأييد القدسي فلا تتأثر بمفترياتهم ولا تتأذى بمؤذياتهم إذ بالله تصبر لا بنفسك كما قال : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (١).

[٥ ـ ٦] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦))

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٢٧.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) عند كشف الغطاء بالموت أيكم المجنون بالحقيقة ، أأنت الذي كوشفت بأسرار القدر وأوتيت بجوامع الكلم أم هم الذين حجبوا عما في أنفسهم من آيات الله والعبر وفتنوا بعبادة الصنم.

[٧ ـ ١٥] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥))

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ) جنّ في الحقيقة ف (ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) واحتجب عن الدين وبمن عقل فاهتدى إليه ، أي : لا يعلم أحد كنه جنونهم وضلالهم إلا الله لكونه في الغاية وكذا كنه اهتدائك واهتداء من اهتدى بهداك فلا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهم في الباطن. فإن موافقة الظاهر أثر موافقة الباطن وكذا المخالفة وإلا كان نفاقا سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقضاء ، وأما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلوين والاختلاف لتشعب أهوائهم وتفرّق أمانيهم وميول قواهم وجهات نفوسهم يصانعون ويضمون تلك الرذيلة إلى رذائلهم طمعا في مداهنتك معهم ومصانعتك إياهم ، فلا يفتننك كثرة أموال من كان أغناهم وكثرة قومه وتبعه فتطيعه وتصانعه مع كثرة رذائله ، ودم على توافق الظاهر والباطن مستعينا بالله مستظهرا به مصادقا لمن صدقك مصافيا لمن وافقك مصاحبا لصعاليك المؤمنين الزاهدين في الدنيا.

[١٦ ـ ٤١] (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١))

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي : نغير وجهه في القيامة الصغرى ونجعل آلة حرصه مشاكلا لهيئة نفسه كخرطوم الفيل مثلا ، ونبدّل أعز أعضائه بما فيه علامة غاية الذل لخسّة نفسه المنجذبة إلى ما في جهة السفل الجاذبة لمواد الرجس.

[٤٢ ـ ٤٧] (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧))

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي : اذكر يوم يشتدّ الأمر وتتفاقم شدته بحيث لا يمكن وصفها بمفارقة المألوفات البدنية والملاذ الحسية وظهور الأهوال والآلام النفسية بالهيئات الموحشة والصور المؤذية (وَيُدْعَوْنَ) على لسان الملكوت للجنسية الأصلية والمناسبة الفطرية (إِلَى) سجود الإذعان والانقياد لقبول الأنوار الإلهية والإشراقات السبوحية (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) الانقياد والإذعان لقبولها لزوال استعدادهم الأصلي بالهيئات المظلمة واحتجابهم بالغواشي الجسمانية والملابس الهيولانية (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ذليلة متحيرة لذهاب قوتها النورية وعدم قدرتها على النظر إلى عالم النور وبعدها عن إدراك الشعاع مفيد السرور (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) الركون إلى السفليات والركود إلى خساسة الانفعاليات وملازمة الطبيعيات (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) عند بقاء الاستعداد ووجود الآلات (إِلَى) سجود الانقياد بتهيئة الاستعداد لقبول الإمداد من عالم الأنوار (وَهُمْ سالِمُونَ) الاستعداد متمكنون على إحراز السعادة في المعاد.

[٤٨ ـ ٥٢] (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ونجاة من نجا وهلاك من هلك وهداية من اهتدى وضلال من ضلّ (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) في استيلاء صفات النفس عليه وغلبة الطيش والغضب والاحتجاب عن حكم الربّ حتى ردّ عن جناب القدس إلى مقر الطبع (فَالْتَقَمَهُ) حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس وابتلى بالاجتنان في بطن حوت الرحم (إِذْ نادى) ربّه لقهر قومه وإهلاكهم لفرط الغضب عن مقام النفس لا بإذن الحق (وَهُوَ) ممتلئ غيظا (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ) كاملة (مِنْ رَبِّهِ) بالهداية إلى الكمال لبقاء سلامة الاستعداد وعدم رسوخ الهيئة الغضبية والتوبة عن فرطات النفس والتنصل عن صفاتها (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي : بظاهر عالم الحسّ وطرد من جناب القدس بالكلية وترك في وادي النفس (وَهُوَ مَذْمُومٌ) موصوف بالرذائل مستحق للإذلال والخذلان ، محجوب عن الحق ، مبتلى بالحرمان ، ولكنه اجتباه (رَبُّهُ) برحمته لمكان سلامة فطرته وبقاء نوره الأصلي فقرّبه إليه وجمعه إلى ذاته بإلقاء كلمة التوحيد إليه وإيصاله إلى مقام الجمع (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) لمقام النبوّة بالاستقامة حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع ، والله تعالى أعلم.

سورة الطاغية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥))

(الْحَاقَّةُ) هي الساعة الواجبة الوقوع التي لا ريب فيها إن أريد بها القيامة الصغرى أو التي تحقّ فيها الأمور ، أي : تعرف ، وتحقق إن أريد بها الكبرى. والمعنى : أنّ الساعة ما هي وما أعلمك أي شيء هي ، أي : لا يعرف شدّتها وهولها وما يظهر فيها من الأحوال على المعنى الأول ، أو لا يعرف حقيقتها وارتفاع شأنها وإنارة برهانها وما يبدو فيها أحد إلا الله. وكلتا القيامتين تقرع الناس وتهلكهم وتفنيهم وتستأصلهم بالشدة والقهر ، وأما تكذيبهم بالأولى فلإقبالهم من الدنيا وترك العمل لها وغفلتهم وغرورهم بالحياة الحسية. وأما بالثانية فلعدم وقوفهم عليها وإنكارهم لها واحتجابهم عنها ، وقد يطابق مثل المكذبين بمثل المفرطين أي : المقصرين والغالين بأن يقال : (فَأَمَّا ثَمُودُ) وهم أهل الماء القليل أي : أهل العلم الظاهر المحجوبون عن العلوم الحقيقية (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي : الحالة الكاشفة عن الباطن وعالم التجرد التي تطغى على علومهم فتفنيها وهي خراب البدن.

[٦] (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦))

(وَأَمَّا عادٌ) الغالون المجاوزون حدّ الشرائع بالتزندق والإباحة في التوحيد (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ) هوى النفس الباردة بجمود الطبيعة وعدم حرارة الشوق والعشق العاتية أي : الشديدة الغالبة عليهم الذاهبة بهم في أودية الهلاك.

[٧ ـ ٨] (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

(سَخَّرَها) الله (عَلَيْهِمْ) في مراتب الغيوب السبعة التي هي لياليهم لاحتجابهم عنها. والصفات الثمانية الظاهرة لهم كالأيام وهي الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلم ، أي : على ما ظهر منهم وما بطن تقطعهم وتستأصلهم (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) موتى لا حياة حقيقية لهم لأنهم قائمون بالنفس لا بالله كما قال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ

مُسَنَّدَةٌ) (١) ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أي : أقوياء بحسب الصورة لا معنى فيهم ولا حياة ، ساقطون عن درجة الاعتبار والوجود الحقيقي إذ لا يقومون بالله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي : بقاء أو نفس باقية لأنهم فانون من أسرهم.

[٩] (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩))

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ) النفس الأمارة (وَمَنْ قَبْلَهُ) من قواها وأعوانها (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) من القوى الروحانية المنقلبة عن طباعها بالميل إلى الظاهر والانقلاب عن المعقول إلى المحسوس (بِالْخاطِئَةِ) بالخصلة التي هي خطأ وهي المجاوزة عن البواطن إلى الظواهر.

[١٠] (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : العقل الهادي إلى الحق (فَأَخَذَهُمْ) بالغرق في بحر الهيولى ورجفة اضطراب مزاج البدن وخرابه (أَخْذَةً) زائدة في الشدّة.

[١١ ـ ١٢] (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

(إِنَّا لَمَّا طَغَى) ماء طوفان الهيولى (حَمَلْناكُمْ) في جارية الشريعة المركبة من الكمال العلمي والعملي (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) لعالم القدس وحضرة الحق التي هي مقرّكم الأصلي ومأواكم الحقيقي (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : تحفظها أذن حافظة لما سمعت من الله في بدء الفطرة باقية على حالها الفطرية غير ناسية لعهده وتوحيده ، وما أودعها من أسراره بسماع اللغو في هذه النشأة وحفظ الباطل من الشيطان والإعراض عن جناب الرحمن ، ولهذا لما نزلتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» ، إذ هو الحافظ لتلك الأسرار كماقال : «ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة».

[١٣] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣))

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) هي النفخة الأولى التي للإماتة في القيامة الصغرى إذ يمنع حمله على الكبرى قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٢) وما بعده من التفصيل. وهذا النفخ عبارة عن تأثير الروح القدسي بتوسط الروح الإسرافيلي الذي هو موكل بالحياة في الصورة الإنسانية عند الموت لإزهاق الروح فيقبضه الروح العزرائيلي وهو تأثير في آن واحد ، فلذلك وصفها بالوحدة.

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ٤.

(٢) سورة الحاقة ، الآية : ١٩.

[١٤ ـ ١٥] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥))

(وَحُمِلَتِ) أرض البدن وجبال الأعضاء (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) وجعلتا أجزاء عنصرية متفرقة.

[١٦] (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦))

(وَانْشَقَّتِ) سماء النفس الحيوانية وانقشعت لزهوق الروح بانفلاقها عنه (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) لا تقدر على الفعل ولا تقوى على التحريك والإدراك حالة الموت.

[١٧] (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

(وَالْمَلَكُ) أي : القوى التي تمدّها وتأوي إليها وتعتمد عليها في الإدراك وتجتمع مدركاتها عندها أو تدرك بواسطتها أو تظهر بها مدركاتها (عَلى أَرْجائِها) أي : جوانبها من الروح والقلب والعقل والجسم ، فافترقت عنها وتشعبت إلى جهاتها الناشئة منها أولا (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) أي : القلب الإنساني (فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) منهم هي الأنوار القاهرة أرباب الأصنام العنصرية من الصور النوعية تحمله بالاجتماع من الطرفين العلوي والسفلي الفاعل والحامل عند البعث والنشور من كل طرف أربعة. ولهذاقال النبي عليه الصلاة والسلام : «هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية» ، ولكن تلك الأملاك مختلفة الحقائق بحسب اختلاف أصنافها العنصرية قال بعضهم : إنها مختلفة الصور ولكونها مستولية مستعلية على تلك الأجرام شبّهت بالأوعال ، وقيل : هم على صور الأوعال تشبيها لأجرامها بالجبال ولكونها شاملة لتلك الأجرام بالغة إلى أقصاها حيث ما بلغت. قال بعضهم : ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون والله أعلم بحقائق الأمور.

[١٨ ـ ٢٤] (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله بما في أنفسكم من هيئات الأعمال وصور الأفعال (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي : اللوح البدني الذي فيه صور أعماله (بِيَمِينِهِ) أي : جانبه الأقوى الإلهي الذي هو العقل فيفرح به ويحب الاطلاع على أحواله من الهيئات الحسنة وآثار السعادة وهو معنى قوله : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ) أني تيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لإيماني بالبعث والنشور والحساب والجزاء (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : حياة

حقيقية أبدية سرمدية (فِي جَنَّةٍ) من جنان القلب والروح (عالِيَةٍ قُطُوفُها) من مدركات القلب والروح من المعاني والحقائق (دانِيَةٌ) كلما شاؤوا نالوها.

[٢٥ ـ ٣٧] (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩))

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) أي : جانبه الأضعف النفساني الحيواني ، فيتحسر ويتندّم ويتوحش من تلك الصور والهيئات السمجة والقبائح التي نسيها وأحصاها الله ويتنفر منها ويتمنى الموت عندها ويتيقن أن الذي صرف عمره فيه وأكبّ بوجهه عليه من المال والسلطنة والجاه ما كان ينفعه بل يضرّه ، وهو معنى قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) إلى آخره ، وينادى على لسان العزة والقهر الملكوت الموكل بعالم الكون والفساد من النفوس السماوية والأرضية أن (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي : قيدوه بما يناسب هيئات نفسه من الصور واحبسوه في سجين الطبيعة بما يمنع الحركات على وفق الإرادة من الأجرام (ثُمَ) جحيم الحرمان ونيران الآلام (صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) الحوادث الغير المتناهية (فَاسْلُكُوهُ) ليتعذب بأنواع التعذيبات. والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة الغير المحصورة لا العدد المعين (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : كل ذلك بسبب كفره واحتجابه عن الله وعظمته وشحه لمحبّة المال (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) لاستيحاشه عن نفسه فكيف لا يستوحش غيره عنه وهو متنفر عن كل أحد حتى عن نفسه؟ ، (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ) غسالات أهل النار وصديدهم وقد شاهدناهم يأكلونها عيانا.

[٣٨ ـ ٥٢] (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(فَلا أُقْسِمُ) بالظاهر والباطن من العالم الجسماني والروحاني ، الوجود كله ظاهرا وباطنا (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي : محض اليقين وهو الكلام الوارد من عين الجمع ، إذ لو نشأ من مقام القلب لكان علم اليقين ، ولو نشأ من مقام الروح لكان عين اليقين. فلما صدر من

مقام الوحدة كان حق اليقين ، أي : يقينا حقا صرفا لا شوب له بالباطل الذي هو غيره. نسب القول أولا إلى الرسول ثم إلى الحق ليفيد التوحيد الذاتي ، ثم قال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي : نزّه الله وجرّده عن شوب الغير بذاتك الذي هو اسمه الأعظم الحاوي للأسماء كلها بأن لا يظهر في شهودك تلوين من النفس أو القلب فتحتجب برؤية الاثنينية أو الأنانية وإلا كنت مشبّها لا مسبّحا ، والله تعالى أعلم.

سورة المعارج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) ذِي الْمَعارِجِ) أي : المصاعد وهي مراتب الترقي من مقام الطبائع إلى مقام المعادن بالاعتدال ، ثم إلى مقام النبات ، ثم إلى الحيوان ، ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المرتبة بعضها فوق بعض ، ثم في منازل السلوك كالانتباه واليقظة والتوبة والإنابة إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من منازل النفس ومناهل القلب ، ثم في مراتب الفناء في الأفعال والصفات إلى الفناء في الذات مما لا يحصى كثرة. فإن له تعالى بإزاء كل صفة مصعدا بعد المصاعد المتقدمة على مقام الفناء في الصفات.

[٤] (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤))

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) من القوى الأرضية والسماوية في وجود الإنسان (وَالرُّوحُ) الإنساني إلى حضرته الذاتية الجامعة في القيامة الكبرى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : في الأدوار المتطاولة والدهور المتمادية من الأزل إلى الأبد لا المقدار المعين. ألا ترى إلى قوله في مثل هذا المقام في عروج الأمر : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

[٥ ـ ٧] (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) فإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة يوم (يَرَوْنَهُ) لاحتجابهم عنه (بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) حاضرا واقعا يتوهمه المحجوبون متأخرا إلى زمان منتظر لغيبتهم عنه ونحن نراه حاضرا.

[٨ ـ ١٤] (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

(يَوْمَ تَكُونُ) سماء النفس الحيوانية متذائبة متفانية (كَالْمُهْلِ) على ما مر في قوله :

__________________

(١) سورة السجدة ، الآية : ٥.

(وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (١) (وَتَكُونُ) جبال الأعضاء هباء منبثا على اختلاف ألوانها (كَالْعِهْنِ* وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لشدّة الأمر وتفاقم الخطب وتشاغل كل أحد بما ابتلي به من هيئات نفسه وأهوال ما وقع فيه مع ترائيهم.

[١٥ ـ ١٨] (كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

(كَلَّا) ردع عن تمني الافتداء والإنجاء فإنه بهيئة أجرامه استحق عذابه وبمناسبة نفسه للجحيم انجرّ إليها.

ألا ترى إلى قوله : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) فإن لظى نار الطبيعة السفلية ما استدعت إلا المدبر عن الحق المعرض عن جناب القدس وعالم النور المقبل بوجهه إلى معدن الظلمة المؤثر بمحبته الجواهر الفاسقة السفلية المظلمة فانجذب بطبعه إلى مواد النيران الطبيعية واستدعته وجذبته إلى نفسها للجنسية فاحترق بنارها الروحانية المستولية على الأفئدة ، فكيف يمكن الإنجاء منها وقد طلبها بداعي الطبع ودعاها بلسان الاستعداد.

[١٩ ـ ٢١] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١))

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أي : النفس بطبعها معدن الشرّ ومأوى الرجس لكونها من عالم الظلمات ، فمن مال إليها بقلبه واستولى عليه مقتضى جبلته وخلقته ناسب الأمور السفلية واتصف بالرذائل التي أردؤها الجبن والبخل المشار إليهما بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) لمحبته البدن وما يلائمه وتسببه لشهواته ولذاته وإنما كانت أردأ لجذبهما القلب إلى أسفل مراتب الوجود ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : «شرّ ما في الرجل شحّ هالع وجبن خالع».

[٢٢ ـ ٢٦] (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦))

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي : الإنسان بمقتضى خلقته وطبيعة نفسه معدن الرذائل إلا الذين جاهدوا في الله حق جهاده وتجرّدوا عن ملابس النفس وتنزّهوا عن صفاتها من الواصلين الذين هم أهل الشهود الذاتي (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) فإن المشاهدة صلاة الروح ، غابوا في دوام مشاهدتهم عن النفس وصفاتها عن كل ما سوى مشهودهم.

والمجرّدين الذين تجرّدوا عن أموالهم الصورية والمعنوية من العلوم النافعة والحقيقية

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٣٧.

وفرّقوها على المستحق المستعدّ الطالب وعلى القاصر الممنوّ بالشواغل عن الطلب (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ) من أهل اليقين البرهاني والاعتقاد الإيماني بأحوال الآخرة والمعاد وهم أرباب القلوب المتوسطون.

[٢٧ ـ ٣١] (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١))

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي : أهل الخوف من المبتدئين في مقام النفس السائرين عنه بنور القلب لا الواقفين معه أو المشفقين من عذاب الحرمان والحجاب في مقام القلب من السالكين أو في مقام المشاهدة من التلوين فإنه لا يؤمن الاحتجاب ما بقيت بقيته كما قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) من أهل العفة وأرباب الفتوة.

[٣٢ ـ ٣٩] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) التي استودعوها بحسب الفطرة من المعارف العقلية (وَعَهْدِهِمْ) الذي هو أخذ الله ميثاقه منهم في الأزل (راعُونَ) أي : الذين سلمت فطرتهم ولم يدنسوها بالغواشي الطبيعية والأهواء النفسانية (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي : يعملون بمقتضى شاهدهم من العلم فكل ما شهدوه قاموا بحكمه وصدروا عن حكم شاهدهم لا غير (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي : صلاة القلب وهي المراقبة (يُحافِظُونَ) أو صلاة النفس على الظاهر (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) على اختلاف طبقاتهم ، فالفرقة الأولى في جنات من الجنان الثلاث ، والمتوسطون من أرباب القلوب في جنات من جنتين منها والباقون في جنات النفوس دون الباقيتين.

[٤٠ ـ ٤٤] (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) من الموجودات التي أوجدها بشروق نوره عليها وغروبه فيها بتعينه بها أو أعدمها بشروق نوره منها وأوجدها بغروبه فيها (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى) أن نطلع نورنا منهم فنهلكهم ونجعله غاربا في آخرين (خَيْراً مِنْهُمْ) فنوجدهم (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) من أجداث الأبدان (سِراعاً) إلى مقارّ ما يناسب هيئاتهم من الصور ، والله تعالى أعلم.

سورة نوح ـ عليه‌السلام ـ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بالمجاهدة والرياضة في سبيله (وَاتَّقُوهُ) بالتجرّد عما سواه حتى صفاتكم وذواتكم (وَأَطِيعُونِ) بالاستقامة (يَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب آثار أفعالكم وصفاتكم وذواتكم (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ) معين لا أجل بعده ، وهو الفناء في التوحيد (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) الذي هو توفيه إياكم بذاته (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) بوجود غيره بل يفنى كل ما عداه (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) في مقام الجمع بين الظلمة والنور إلى التوحيد (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) لأنهم كانوا بدنيين ظاهريين لا يرون النور إلا للضوء الجسماني ولا الوجود إلا للجواهر الجسمانية الغاسقة ، فينفروا عن إثبات نور مجرد أنوارهم بالنسبة إليه ظلمات.

[٧ ـ ٩] (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩))

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) وتسترهم بنورك تصاموا عنه لعدم فهمهم وقصور استعدادهم أو زواله (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتستروا بأبدانهم والتحفوا بها لشدّة ميلهم إليها وتعلقهم بها واحتجابهم (وَأَصَرُّوا) على ذلك ولم يعزموا التجرّد (وَاسْتَكْبَرُوا) لاستيلاء صفات نفوسهم واستعلاء غضبهم (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) نزلت عن مقام التوحيد ودعوتهم إلى مقام العقل وعالم النور (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) بالمعقولات الظاهرة (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ) في مقام القلب بالأسرار الباطنة ليتوصلوا إليها بالمعقولات.

[١٠ ـ ١٢] (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢))

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : اطلبوا أن يستركم ربّكم بنوره فتتنوّر قلوبكم وتكاشفوا

بالحقائق الإلهية والأسرار الغيبية (يُرْسِلِ) سماء الروح (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) بأمطار المواهب والأحوال (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) المكاسب والمقامات (وَبَنِينَ) التأييدات القدسية من عالم الملكوت (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) الصفات في مقام القلب وأنهار العلوم.

[١٣ ـ ١٤] (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي : تعظيما يوقركم بالترقي في الدرجات إلى عالم الأنوار (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) كل طور أشرف مما قبله وكان حالكم فيه أحسن وشرفكم أزيد مما تقدمكم ، فما بالكم لا تقيسون الغيب على الشهادة والمعقول على المحسوس والمستقبل على الماضي فترتقون إلى سماء الروح بسلم الشريعة والعلم والعمل كما ارتقيتم بسلم الطبيعة والحكمة والقدرة في أطوار الخلقة.

[١٥ ـ ١٦] (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦))

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) من مراتب الغيوب السبعة المذكورة ذات طبقا بعضها فوق بعض (وَجَعَلَ) قمر القلب (فِيهِنَّ نُوراً) زائدا نوره على نور النفس ونجوم القوى (وَجَعَلَ) شمس الروح (سِراجاً) باهرا نوره.

[١٧ ـ ٢٠] (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ) من أرض البدن (نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بميلكم إليها وتلبسكم بشهواتها ولذاتها وبهيئات نفوسكم الجسمانية وغواشيكم الهيولانية (وَيُخْرِجُكُمْ) بالبعث منه في مقام القلب عند الموت الإرادي (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ) تلك (الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها) سبل الحواس (فِجاجاً) خروقا واسعة أو من جهتها سبل سماء الروح إلى التوحيد ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض» ، أراد الطرق الموصلة إلى الكمال من المقامات والأحوال كالزهد والعبادة والتوكل والرضا وأمثال ذلك ، ولهذا كان معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبدن.

[٢١ ـ ٢٤] (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤))

(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) من رؤساءهم المتبوعين أهل المال والجاه

المحجوبين عن الحق الهالكين الذين خسروا نور استعدادهم بالاحتجاب بهما وبالأولاد والأتباع أو المحجوبين بأموال العلوم الحاصلة بالعقل الشيطاني المشوب بالوهم ونتائج فكرهم المقتضية لمحبة البدن والمال (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي : معبوداتكم التي عكفتم بهواكم عليها من ودّ البدن الذي عبدتموه بشهواتكم وأحببتموه وسواع النفس ويغوث الأهل ويعوق المال ونسر الحرص.

[٢٥ ـ ٢٦] (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦))

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي : من أجل أعمالهم المخالفة للصواب (أُغْرِقُوا) في بحر الهيولى ، (فَأُدْخِلُوا) نار الطبيعة.

[٢٧] (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧))

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ملّ عن دعوة قومه وضجر واستولى عليه الغضب ودعا ربّه لتدمير قومه وقهرهم وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله ، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة وتتربى بهيئتها المظلمة لا تقبل إلا نفسا مثلها ، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. وغفل أن الولد سر أبيه ، أي : حاله الغالبة على الباطن فربما كان الكافر باقي الاستعداد ، صافي الفطرة ، نقيّ الأصل بحسب الاستعداد الفطري وقد استولى على ظاهره العادة ودين آبائه وقومه الذين نشأ هو بينهم فدان بدينهم ظاهرا وقد سلم باطنه فيلد المؤمن على حاله النورية كولادة أبي إبراهيم إياه فلا جرم تولد من تلك الهيئة الغضبية الظلمانية التي غلبت على باطنه وحجبته في تلك الحالة عما قال مادة ابنه كنعان ، فكان عقوبة لذنب حاله.

[٢٨] (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

(رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي : استرني بنورك بالفناء في التوحيد ولروحي ونفسي اللذين هما أبوا القلب (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي : مقامي في حضرة القدس (مُؤْمِناً) بالتوحيد العلمي ولأزواج الذين آمنوا بي ، أي : ونفوسهم فبلغهم إلى مقام الفناء في التوحيد (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) الذين نقصوا حظهم بالاحتجاب بظلمة نفوسهم عن عالم النور (إِلَّا تَباراً) هلاكا بالغرق في بحر الهيولى وشدّة الاحتجاب ، والله تعالى أعلم.

سورة الجنّ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢))

قد مرّ أن في الوجود نفوسا أرضية قوية لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ولا في صفاء النفوس المجرّدة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرّد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء : الصور المعلقة ، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي : النفوس المجرّدة ، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرحمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم ، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل ، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان ، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء خصوصا أكملهم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإن شئت التطبيق ، فاعلم : أن القلب إذا استعدّ لتلقي الوحي وكلام الغيب استمع إليه القوى النفسانية من المتخيلة والوهم والفكر والعاقلة النظرية والعملية وجميع المدركات الباطنة التي هي جنّ الوجود الإنساني ، ولما لم يكن الكلام الإلهي الوارد على القلب بواسطة روح القدس من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل أو المستنتج من القياسات العقلية والمقدّمات الوهمية والتخيلية ، قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي : الصواب وذلك هو تأثرها بنور الروح وانتعاشها بمعاني الوحي وتنوّرها بنوره وتأثيرها في سائر القوى من الغضبية والشهوية وجميع القوى البدنية (فَآمَنَّا بِهِ) تنوّرنا بنوره واهتدينا إلى جناب القدس (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي : لن نمثله بمثال من جنس مدركاتنا فنشبه به غيره ، بل نشايع السرّ في التوجه إلى جناب الوحدة ، ولن ننزوي إلى عالم الكثرة لنعبد الشهوات بهوى

النفس وتحصيل مطالبها من عالم الرجس فنعبد غيره.

[٣ ـ ٥] (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥))

(وَأَنَّهُ تَعالى) عظمة (رَبِّنا) من أن نتصوّره مدركة فتكيفه فيدخل تحت جنس فيتخذ (صاحِبَةً) من صنف تحته أو ولدا من نوع يماثله (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) الذي هو الوهم (عَلَى اللهِ شَطَطاً) بأن كان يتوهمه في جهة ويجعله من جنس الموجودات المحفوفة باللواحق المادية فيماثل المخلوقات صنفا أو نوعا (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ) إنس الحواس الظاهرة ولا جنّ القوى الباطنة (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما أدركوا منه فتوهمنا أن البصر يدرك شكله ولونه والأذن تسمع صوته والوهم والخيال يتوهمه ويتخيله حقا مطابقا لما هو عليه قبل الاهتداء والتنوّر ، فعلمنا من طريق الوحي أن ليست في شيء من إدراكه بل هو يدركها ويدرك ما تدركه ولا تدركه.

[٦] (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦))

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ) أي : تستند القوى الظاهرة إلى القوى الباطنة وتتقوّى بها (فَزادُوهُمْ) غشيان المحارم وإتيان المناهي بالدواعي الوهمية والنوازغ الشهوية والغضبية والخواطر النفسانية.

[٧] (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) قبل التنوّر بنور الهدى (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) عليهم العقل المنوّر بنور الشرع فيهذبهم ويزكيهم ويؤدّبهم بالآداب الحسنة فيأتون ما يشتهون بمقتضى طباعهم ويعملون على حسب غرائزهم وأهوائهم ويتركون سدى بلا رياضة ويهملون هملا بلا مجاهدة.

[٨ ـ ٩] (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

(وَأَنَّا لَمَسْنَا) أي : طلبنا سماء العقل لنستفيد من مدركاته ما نتوصل به إلى لذاتنا ونسترق من مدركاته ما يعين في تحصيل مآربنا كما كان قبل التأدّب بالشرائع (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) معاني حاجزة عن بلوغنا مقاصدنا وحكما مانعة لنا عن مشتهياتنا قوية (وَشُهُباً) وأنوارا قدسية وإشراقات نورية تمنعنا من إدراك المعاني التي صفت عن شوب الوهم والوصول إلى طور العقل المنوّر بنور القدس ، فإن العقل قبل الهداية كان مشوبا بالوهم ، قريبا من أفق

الخيال والفكر ، مقصورا على تحصيل المعاش مناسبا للنفس وقواها ، فلما تنوّر بنور القدس بعد عن منازل القوى ومبالغ علمها وإدراكها. وهذا معنى قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي : نورا ملكوتيا وحجة عقلية تطردنا عن الأفق العقلي وتحفظ العقل عن أن يميل إلى النفس فتختلط بنا وتنزل إلى ما ارتقينا إليه من المقاعد فنكتسب منه الآراء القياسية المؤدّية إلى موافقات البدن وأمان النفس.

[١٠] (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أرض البدن من القوى فتبقى في المجاهدة والرياضة ، ممنوعة من لذاتها ، محجوبة عن مشتهياتها وما تهواها (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) بالأحكام الشرعية والمناهي الدينية والأوامر التكليفية (رَشَداً) استقامة وصوابا وما يوجب صلاحها ، فإن مقصد الشرع وكمال النفس أمر وراء مبالغ إدراك هذه القوى.

[١١ ـ ١٣] (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) كالقوى المدّبرة لنظام المعاش وصلاح البدن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) من المفسدات كالوهم والغضب والشهوة العاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية (كُنَّا) ذوي مذاهب مختلفة لكل طريقة ووجهة مما عيّنه الله ووكله به (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : تيقنا أن الله غالب علينا لن نعجزه ، كائنين في أرض البدن ولا هاربين إلى سماء الروح لعجز كل أحد منا عن فعل الآخر ، فكيف عن فعل مبدأ القوى والقدر (الْهُدى) أي : القرآن تنوّرنا (بِهِ) وصدّقناه بامتثالنا أوامره ونواهيه كماقال عليه‌السلام : «لكل أحد شيطان ، إلّا أن شيطاني أسلم على يديّ». (فَلا يَخافُ) بخس حق من حقوقه وكمالاته التي أمكنت له وحظوظه أيضا ، فإن النفس وإن اطمأنت وتنوّرت قواها بحيث لا تزاحم السرّ ولا تعلو القلب لم تمنع من الحظوظ بل وفرّت عليها لتتقوّى بها هي وقواها على الطاعة وتنشط على الأفعال الإلهية حالة الاستقامة كتمتيع نفسه عليه‌السلام بنكاح تسع نسوة وغيره من التمتعات ، ولا رهق ذلّة وقهر بالرياضة أو بخس كمال ورهق رذيلة من الرذائل أو لحوق هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد.

[١٤ ـ ١٦] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦))

(مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) المذعنون لطاعة القلب وأمر الربّ بالطبع كالعاقلة (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ)

الجائرون عن طريق الصواب كالوهم (فَمَنْ) انقاد وأذعن (فَأُولئِكَ) قصدوا الصواب والاستقامة (وَأَمَّا) الجائرون (فَكانُوا) حطبا لجهنم الطبيعة الجسمانية (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) من جملة الموحى لا من كلام الجنّ ، أي : لو استقام الجن كلهم على طريقة التوجه إلى الحق والسلوك في متابعة السرّ السائر إلى التوحيد (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي : لرزقناهم علما جمّا كما ذكر في إنباء آدم للملائكة.

[١٧] (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنمتحنهم هل يشكرون بالعمل به وصرفه فيما ينبغي من مراضي الله أم لا؟ كما قال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) (١) (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) فيبخل بنعمته أو يصرفها فيما لا ينبغي من الأعمال وينسى حق نعمته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) بالرياضة الصعبة والحرمان عن الحظ حتى يتوب ويستقيم أو بالهيئة المنافية المؤلمة ليتعذب عذابا شديدا شاقّا غالبا عليه.

[١٨] (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨))

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ) أي : مقام كمال كل قوة وهو هيئة إذعانها وانقيادها للقلب الذي هو سجودها أو كمال كل شيء حتى القلب والروح (لِلَّهِ) أي : حق الله على ذلك الشيء ، بل صفة الله الظاهرة على مظهر ذلك الشيء (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) بتحصيل أغراض النفس وعبادة الهوى وطلب اللذات والشهوات بمقتضى طباعكم ، فتشركوا بالله وعبادته.

[١٩] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩))

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي : القلب المتوجه إلى الحق الخاشع المطيع (يَدْعُوهُ) بالإقبال إليه وطلب النور من جنابه ويعظمه ويبجله (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) يزدحمون عليه بالاستيلاء ويحجبونه بالظهور والغلبة.

[٢٠] (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أوحده ولا ألتفت إلى ما سواه فأكون مشركا.

[٢١ ـ ٢٤] (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي : غيّا وهدى ، إنما الغواية والهداية من الله

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٨.

إن سلطني عليكم تهتدوا بنوري وإلا بقيتم في الضلال ليس في قوّتي أن أقسركم على الهداية.

(إِلَّا بَلاغاً) أي : أن أبلغكم بلاغا صادرا من الله (وَ) أبلغكم (رِسالاتِهِ) من معاني الوحي وأحكام الحق ، أي : لا أملك إلّا التبليغ والرسالات فهو استثناء من معمول أملك. وقوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة والقدرة عليهم ، أي : لن يجيرني أيضا (مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أرادني الله بضرّ أو غواية فيسلطكم أو غيركم عليّ (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملجأ وملاذا ومهربا ومحيصا إن أهلكني أو عذّبني على أيديكم أو غيركم ، وإذ لا أملك النفع والضرّ والهداية والغواية لنفسي فكيف أملك لكم شيئا منها؟.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) منكم فلم يقبل نوره ولم يسمع ما يبلغه رسول العقل (فَإِنَّ لَهُ نارَ) الطبيعة المحرقة باستيلائها عليه أبدا (حَتَّى إِذا رَأَوْا) أي : يكونون عليه لبدا يستولون عليه بالازدحام حتى إذا رأوا (ما يُوعَدُونَ) في الرسالات من وقوع القيامة الصغرى بالموت أو الوسطى بظهور نور الفطرة واستيلاء القلب عليها ، أو الكبرى بظهور نور الوحدة فسيظهر ضعفهم وقلّة عددهم وخمود نارهم وانطفاؤها وكلالة حدّهم وشوكتهم بإحدى الأحوال الثلاث ولا ينصر بعضهم بعضا لانقهارهم وعجزهم وفنائهم فيعلمون أنهم (أَضْعَفُ ناصِراً) من القلب (وَأَقَلُّ عَدَداً) وإن كادوا أن يقهروه بالكثرة واستقلّوه بالنسبة إلى عددهم فإن الواحد المؤيد من عند الله أقوى وأكثر (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢)) (١) ، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (٢).

[٢٥ ـ ٢٧] (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧))

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) في القيامة الصغرى من الفناء والدخول في نار الطبيعة عند البعث لعدم الوقوف على قدر الله أو في الأخريين من الموت الإرادي والفناء الحقيقي لعدم الوقوف على قوة الاستعداد وضعفه فيقع عاجلا ، أم ضرب الله له غاية وأجلا هو (عالِمُ الْغَيْبِ) وحده (فَلا) يطلع (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي : أعدّه في الفطرة الأولى وزكّاه وصفّاه من رسول القوة القدسية (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : من جانبه الإلهي (وَمِنْ خَلْفِهِ) وجهته البدنية (رَصَداً) حفظة أما من جهة الله التي إليها وجهه فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية ، وأما من جهة البدن فالملكات الفاضلة

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٠.

والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات يحفظونه من تخبيط الجنّ وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات بمعارفها اليقينية ومعانيها القدسية والواردات الغيبية والكشوف الحقيقية.

[٢٨] (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) ليظهر علمه تعالى في مظاهر الرسل مما كان مكنونا في استعدادهم فيكملوا ويكملوا بما أمكنهم حمله من رسالاته وإبلاغه (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) من العقل الفرقاني والمعاني المكنونة في فطرتهم أزلا فأظهرها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) أي : ضبط كل شيء بالعقل الفرقاني وإبراز الكمال التام جملة وتفصيلا كليا وجزئيا ، أو ضبط عدد كل شيء مطلقا في القضاء والقدر كليا وجزئيا ، والله تعالى أعلم.

سورة المزمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي : المتلفف في غواشي البدن وملابسه (قُمِ) من نوم الغفلة سائرا في سبيل الله ، سالكا مسالك بيداء النفس ومراحل مفازة القلب إلى الله ، ليل مقام النفس واستيلاء الطبع (إِلَّا قَلِيلاً) بحكم الضرورة للاستراحة والأكل والشرب ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن التعيّش بدونها وذلك هو نصفه ، أي : نصف كونه في مقام الطبيعة من الزمان بأسره ليكون الربع من الدورة التامة التي هي أربع وعشرون ساعة للاستراحة والربع لضروريات البدن (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) إن كنت من الأقوياء حتى يبقى الثلث فيكون السدس للاستراحة والسدس لضروريات المعاش (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قليلا إن كنت من الضعفاء حتى يصير إلى الثلثين فيكون الثلث للاستراحة والثلث للضروريات والثلث للاشتغال بالله والسير في طريقه.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) أي : فصل ما في فطرتك من المعاني والحقائق مجموعة ، وفي استعدادك مكنونة بإظهارها وإبرازها بالتزكية والتصفية.

[٥ ـ ٧] (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) بتأييدك بروح القدس وإفاضة نوره عليك حتى يخرج ما فيك بالقوة إلى الفعل من المعاني والحكم (قَوْلاً ثَقِيلاً) ذا وزن واعتبار (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي : النفس المنبعثة من مقام الطبيعة ومقيل الغفلة (هِيَ أَشَدُّ) موافقة للقلب وأصوب ، قولا صادرا من العلم لا من التخيل والظنّ والوهم (إِنَّ لَكَ) في نهار مقام القلب وزمان طلوع شمس الروح (سَبْحاً) أي : سيرا وتصرّفا وتقلّبا في الصفات الإلهية ومقامات الطريقة (طَوِيلاً) بلا أمد ونهاية.

[٨ ـ ٩] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) الذي هو أنت ، أي : اعرف نفسك واذكرها ولا تنساها فينساك الله ، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها (وَتَبَتَّلْ) وانقطع إلى الله بالإعراض عما سواه انقطاعا تاما معتدّا به (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي : الذي ظهر عليك نوره فطلع من أفق وجودك بإيجادك ، والمغرب الذي اختفى بوجودك وغرب نوره فيك واحتجب بك (لا إِلهَ) في الوجود (إِلَّا هُوَ) أي : لا شيء في الوجود يعبد غيره ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي : انسلخ عن فعلك وتدبيرك برؤية جميع الأفعال منه فيكون أمرك موكولا إليه يدبر أمرك ويفعل بك ما يشاء فكنت متوكلا.

[١٠ ـ ١١] (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١))

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) واحبس نفسك عن الطيش والاضطراب والحركة في طلب الرزق والاهتمام به على ما توسوس إليك قوى نفسك وتلقي إليك من خواطر الوهم ودواعي الشهوة ونوازغ الهوى فتبعثك وتتعبك في حوائجك (وَاهْجُرْهُمْ) بالإعراض عنهم (هَجْراً) مبنيا على العلم الشرعيّ والعقلي لا على الهوى والرعونة (وَذَرْنِي) وإياهم فإنهم المكذبون بمقام التوكل وتكفلي بحوائجك لاحتجابهم بما أنعمت عليهم من نعمة الإدراك والشعور والقدرة والإرادة عني فلا يشعرون إلا بقواهم وقدرهم ولا يصدّقون قولي (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) ريثما أسلب عنهم القوة والقدرة بتجلي الصفات فيظهر عجزهم.

[١٢ ـ ١٣] (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣))

(إِنَّ لَدَيْنا) قيودا شرعية وتكاليف مانعة لهم عن أفعالها (وَجَحِيماً) من حر نار التعب في الطلب (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) من مخالفات طباعهم وحقوقهم بدل حظوظهم (وَعَذاباً أَلِيماً) من أنواع الرياضة والمجاهدة.

[١٤ ـ ٢٠] (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(يَوْمَ تَرْجُفُ) أرض النفس باستيلاء إشراقات أنوار التجليات في القلب فتقشعرّ وتضطرب ، وجبال هيئاتها وصفاتها فتندكّ.

(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) فتنمحى وتذهب. أو ريثما يهيج أعصير انحراف المزاج وغلبة بعض الكيفيات بعضا إن لدينا أنكالا من الهيئات المنكرة والصور المعذّبة المؤذية وجحيما من نيران الطبيعة وطعاما ذا غصّة مما لا تستلذه من أنواع الغسلين والزقوم والضريع ، وعذابا أليما بتلك النيران والصور يوم ترجف أرض البدن بزهوق الروح وسكرات الموت وجبال الأعضاء فتتفتت وتصير كثيبا مهيلا ، والله أعلم.

سورة المدثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧))

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي : المتلبس بدثار البدن ، المحتجب بصورته (قُمْ) عن ما ركنت إليه وتلبست به من أشغال الطبيعة وانتبه عن رقدة الغفلة (فَأَنْذِرْ) نفسك وقواك وجميع من عداك عذاب يوم عظيم (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي : إن كنت تكبر شيئا وتعظم قدره فخصص ربّك بالتعظيم والتكبير لا يعظم في عينك غيره ويصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي : ظاهرك طهره أولا قبل تطهير باطنك عن مدانس الأخلاق وقبائح الأفعال ومذامّ العادات ورجز الهيولى المؤدّي إلى العذاب (فَاهْجُرْ) أي : جرّد باطنك عن اللواحق المادية والهيئات الجسمانية الغاسقة والغواشي الظلمانية الهيولانية (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ولا تعطي المال عند تجرّدك عنه مستغزرا طالبا للأعواض والثواب الكثير به ، فإن ذلك احتجاب بالنعمة عن المنعم وقصور همّة ، بل خالصا لوجه الله افعل ما تفعل صابرا على الفضيلة له لا لشيء آخر ، وهذا معنى قوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أو لا تعط ما أعطيت في الزهد والطاعة والترك والتجريد مستكثرا رائيا إياه كثيرا فتحتجب برؤية فضيلتك وتبتلى بالعجب فيكون ذنب رؤية الفضيلة أعظم من ذنب الرذيلة ، كماقال عليه‌السلام : «لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشدّ من الذنب ، العجب العجب العجب» ، بل اصبر على الفضيلة خالصا لوجه ربّك لا لغرض آخر هاربا عن الرذيلة بالطبع لا فضيلة لها أصلا ، فلا تبتهج برؤية زينتها بالفضيلة بل بفضل الله عليك فتتذلل وتخضع لا تتعزز وتستكثر.

[٨ ـ ٢٥] (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥))

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) أي : نزع الروح عن الجسد فتنقر الهيئات الروحانية ومحاسن الصور والملاذ والإدراكات عنه ويؤثر بالتفريق والتبديد في ذلك المنقور ، وذلك عبارة عن النفخة الأولى للإماتة أو ينقر في البدن المبعوث فتنتقش فيها الهيئات المكتسبة المردية الموجبة للعذاب أو الحسنة المنجية الموجبة للثواب ، فيكون عبارة عن النفخة الثانية التي للإحياء وهو الأظهر ، فلا يخفى عسر ذلك اليوم على المحجوبين على أحد وإن خفي يسره على غيرهم إلا على المحققين من أهل الكشف والعيان.

[٢٦ ـ ٢٨] (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨))

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) بدل من قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧)) (١) والصعود : عقبة شاقة المصعد ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» وهو والله أعلم إشارة إلى طور النفس الذي هو أعظم أطوارها أي : أفقها الذي يلي الفطرة الإنسانية يصعد إليه سنين متطاولة في صور التعذيب وبرازخ الاحتجاب يهلك ويحترق فيها كماقال عليه‌السلام : «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت إذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت ويهوي فيه إلى أسفل سافلين». كذلك ينتقل دركة دركة في برازخ متنوعة أبدا فذلك الصعود هو سقر الطبيعة من أعلى طبقاتها إلى أسفلها سأصليه إياها لا تبقى فيها شيئا إلا أهلكته وأفنته وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فأهلكته مرة أخرى هكذا دائما.

[٢٩ ـ ٣٠] (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) مغيرة لظواهر الأجساد إلى لون سواد خطاياهم وهيئات سيئاتهم وذلك من خاصية تلك النار كما تغير النار الجسمانية الألوان والهيئات (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) هي الملكوت الأرضية التي تلازم المادة من روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر الموكلة بتدبير العالم السفلي المؤثرة فيه تقمعهم بسياط التأثير وتردّهم في مهاويها.

[٣١] (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) لتغلبهم وتقهرهم فإن عالم الملك في قهر عالم الملكوت وتسخيره (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) إلا لابتلاء المحجوبين وتعذيبهم وزيادة احتجابهم وارتيابهم.

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ١٧.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا) كتاب العقل الفرقاني (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني العلمي (إِيماناً) بالكشف والعيان فلا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون بالجهل البسيط المحجوبون. أو ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من المقلّدين ويزداد المحققون تحقيقهم ولا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون الذين لا اعتقاد لهم تحقيقا ولا تقليدا (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق وشك من الجاهلين بالجهل البسيط (وَالْكافِرُونَ) المحجوبون باعتقاداتهم الفاسدة من الجاهلين بالجهل المركب (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي : شيئا عجيبا كالمثل المستغرب المتعجب منه أي : ما ذكرنا عدّتهم وما جعلناها كذلك إلا ليكون سببا لظهور ضلال الضالين وهداية المهتدين كسائر الأسباب الموجبة لضلال من ضلّ وهداية من اهتدى مثل ذلك المذكور (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) من أهل الشقاوة الأصلية (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من أهل السعادة الأزلية (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) عددها وكميتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيات وأحوالها (وَما هِيَ) أي : وما سقر متصل بقوله : سأصليه سقر من تتمة أوصافه.

وقوله : (وَما جَعَلْنا) إلى قوله : (إِلَّا هُوَ) اعتراض لبيان حال الزبانية (إِلَّا) تذكرة للبشر.

[٣٢ ـ ٣٧] (كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

(كَلَّا) إنكار أن يكون تذكيرا لهم مطلقا ، فإن أكثرهم غير مستعدين مطبوع على قلوبهم محكوم بشقاوتهم فلا يتعظون به ، ثم أقسم بالقمر أي : بالقلب المستعدّ الصافي القابل للإنذار المتّعظ به المنتفع بتذكيره تعظيما له وبليل ظلمة النفس (إِذْ أَدْبَرَ) أي : ذهب بانقشاع ظلمتها عن القلب بانشقاق نور الروح عليه وتلألؤ طوالعه وبصبح طلوع ذلك النور إذا أسفر فزالت الظلمة بكليتها وتنوّر القلب (إِنَّها) أي : سقر الطبيعة (لَإِحْدَى) الدواهي (الْكُبَرِ) العظيمة أوحدية منها فردة لا نظير لها من جملتها كقولك : إنه أحد الرجال وإنها لإحدى النساء تريد فردا منهم ، منذرة (لِلْبَشَرِ) أو إنذارا أي : فردا في الإنذار لهم لا لكلهم بل للمستعدّين القابلين الذين إن شاؤوا تقدموا باكتساب الفضائل والخيرات والكمالات إلى مقام القلب والروح وإن شاؤوا تأخروا بالميل إلى البدن وشهواته ولذاته فوقعوا فيها.

[٣٨ ـ ٥٦] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ

الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(كُلُّ نَفْسٍ) بمكسوبها (رَهِينَةٌ) عند الله لا فكاك لها لاستيلاء هيئات أعمالها وآثار أفعالها عليها ولزومها إياها وعدم انفكاكها عنها (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) من السعداء الذين تجرّدوا عن الهيئات الجسدانية وخلصوا إلى مقام الفطرة ففكوا رقابهم عن الرهن هم (فِي جَنَّاتٍ) من جنات الصفات والأفعال يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين لاطلاعهم عليها وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر الطبيعة ، فأجاب المسؤولون بأنّا سألناهم عن حالهم بقولنا : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا) بلسان الحال أو القال : إنّا كنا موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية ومحبة المال وترك العبادات البدنية والحالية والرياضات والخوض في الباطل والهزء والهذيانات والتكذيب بالجزاء وإنكار المعاد التي هي رذائل القوى الثلاث الموجبة للانغمار في نار الطبيعة الهيولانية (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي : الموت فرأينا به ما كنا ننكره عيانا (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ) شافع من نبي أو ملك لو قدر على سبيل فرض المحال لأنهم غير قابلين لها ، فلا إذن في الشفاعة فلذلك فلا شفاعة فلا نفع فإن الشفاعة هناك إفاضة النور وإمداد الفيض ولا يمكن إلا عند قبول المحل بالصفاء. ثم بين امتناع قبولهم لذلك وانتفاعهم بالشفاعة بإعراضهم عن التذكرة وبلادة قلوبهم كقلوب الحمر وتمنياتهم الباطلة لعنادهم ولجاجهم وعدم خوفهم من الآخرة لعدم اعتقادهم وكل ذلك بمشيئة الله وقدره ، والله تعالى أعلم.

سورة القيامة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) جمع بين القيامة والنفس اللوّامة في القسم بهما تعظيما لشأنهما وتناسبا بينهما ، إذ النفس اللوّامة هي المصدّقة بها ، المقرّة بوقوعها ، المهيئة لأسبابها لأنها تلوم نفسها أبدا في التقصير والتقاعد عن الخيرات وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البرّ تيقنا بالجزاء فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانا. وحذف جواب القسم لدلالة قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) عليه وهو : لتبعثن. والمراد بالقيامة هاهنا الصغرى لهذه الدلالة بعينها (بَلى) أي : بلى نجمعها (قادِرِينَ عَلى) تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها بأن نعدّلها كما كانت. وقيل في بعض التفاسير الظاهرة : على أن نضمها فنجعلها مسوّاة شيئا واحدا كحافر الحمير وخفّ البعير.

[٥ ـ ١٢] (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢))

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية والشهوات البهيمية غارزا رأسه فيها فيما بين يديه من الزمان الحاضر والمستقبل ، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها كونه مقصورا على اللذات العاجلة وفرط تهالكه عليها واحتجابه بها عن الآجلة سائلا عنها متعنتا مستبعدا إياها بقوله : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي : تحير ودهش شاخصا من فزع الموت (وَخَسَفَ) قمر القلب لذهاب نور العقل عنه (وَجُمِعَ) شمس الروح وقمر القلب بأن جعلا شيئا واحدا طالعا عن مغرب البدن لا يعتبر له رتبتان كما كان حال الحياة بل اتحدا روحا واحدا (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي : يطلب مهربا ومحيصا (كَلَّا) ردع له عن طلب المفرّ (لا وَزَرَ) لا ملجأ (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) خاصة مستقرّ من نار أو جنة مفوّض إليه لا إلى غيره ولا إلى اختياره أو إليه خاصة استقراره ورجوعه كقوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)) (١).

__________________

(١) سورة العلق ، الآية : ٨.

[١٣ ـ ١٥] (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ) من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه من الخيرات والصالحات (وَأَخَّرَ) ففرّط وقصر فيه ولم يعمله (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) حجة بينة يشهد بعلمه لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه ورسوخها في ذاته وصيرورة صفاته صور أعضائه ، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي : أرخى ستوره فاختفى بها عند ارتكاب تلك الأعمال. أو ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة.

[١٦ ـ ٢١] (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) أي : الإنسان عجول بالطبع كما قال : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (١) فلذلك اختار العاجلة واحتجب بها عن الآجلة. ألا ترى أنك مع وفور سكينتك وكمال وقارك بالله تعجل عند إلقائنا الوحي إليك فتظهر نفسك لتتلقفه وهو ذنب حالك وحجاب وجودك ، وهو معنى قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فلا تفعل ولا تحرّك لسانك به ، فظهور نفسك واضطرابها عجلة به ولتكن قواك هادية ونفسك غائبة عن مورد الوحي وقلبك سالما عن صفاتها خالصا في التوجه آمنا عن حركة النفس.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) إن علينا جمعه فيك وقرآنه أي : ليكن جمعه في مقام الوحدة وقراءتك إياه بنا فانيا عن ذاتك وفي عين الجمع حيث لم يكن لك وجود ولا بقية ولا عين ولا أثر (فَإِذا قَرَأْناهُ) أوجدناه حال فنائك فينا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) بالرجوع إلى مقام البقاء بعد الفناء وظهور القلب والنفس فيّ ، ثم عند كونك في مقام التفصيل (إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وإظهار معانيه في حيز قلبك ونفسك مفصلة مشروحة (كَلَّا) ردع له عن العجلة (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) سواء حالك وحالهم بحكم البشرية ومقتضى الطبيعة والنفس الطيّاشة.

[٢٢ ـ ٤٠] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٧.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) للتنوّر بنور القدس والاتصال بعالم النور والسرور والنعيم الدائم متبجحة بزينة معارفها وهيئاتها ، مبتهجة ببهجة ذواتها منخرطة في سلك الملكوت والجبروت (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي : إلى حضرة الذات خاصة متوجهة متوقعة للرحمة التامة في مقام أنوار الصفات أو ناضرة بنوره إلى وجهه خاصة ، ناظرة مشاهدة إياه لا تلتفت إلى ما سواه مشاهدة لجمال ذاته وسبحات وجهه أو مطالعة لحسن صفاته لا تشتغل بغيره (باسِرَةٌ) كالحة لجهامة هيئاتها وظلمة ما بها من الجحيم والنيران وسماجة ما تراه مما هناك من الأهوال وأنواع العذاب والخسران (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها) داهية تفصل فقار الظهر لشدّتها وسوء حالها ووبالها ، وشتان ما بين المرتبتين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة الإنسان

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

(هَلْ أَتى) أي : قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ) فيه (شَيْئاً مَذْكُوراً) أي : على وجه التقرير والتقريب ، أي : كان شيئا في علم الله بل في نفس الأمر لقدم روحه ولكنه لم يذكر فيما بين الناس لكونه في عالم الغيب وعدم شعور من في عالم الشهادة به.

(إِنَّا هَدَيْناهُ) سبيل الحق بأدلة العقل والسمع في حالتي كونه شاكرا مهتديا مستعملا لنعم المشاعر والآلات والوسائط فيما ينبغي أن يستعمل من الطاعات متوصلا بها إلى المنعم (أَوْ كَفُوراً) محتجبا بالنعم عن المنعم مستعملا لها في غير ما يحب أن يستعمل من المعاصي (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) المحتجبين بالنعم (سَلاسِلَ) الميول والمحبات إلى المشتهيات الجسمانية الموجبة لتقيدهم بها والحرمان عن المقاصد الحقيقية في النيران وأغلال الصور والهيئات المانعة عن الحركة في طلب المراد وسعير التعذيب في قعر الطبيعة وقهر الحرمان.

[٥ ـ ٦] (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) أي : السعداء الذين برزوا عن حجاب الآثار والأفعال واحتجبوا بحجب الصفات غير واقفين معها بل متوجهين إلى عين الذات مع البقاء في عالم الصفات وهم المتوسطون في السلوك (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) محبة حسن الصفات لا صرفا بل كان في شرابهم مزج من لذة محبة الذات وهي العين الكافورية المفيدة للذة برد اليقين وبياض النورية وتفريح القلب المحترق بحرارة الشوق وتقويته ، فإن للكافور خاصية التبريد والتفريح والبياض.

والكافور عين (يَشْرَبُ بِها) صرفة (عِبادُ اللهِ) الذين هم خاصته من أهل الوحدة الذاتية المخصوص محبتهم بعين الذات دون الصفات ، لا يفرقون بين القهر واللطف والرفق والعنف والبلاء والشدة والرخاء بل تستقر محبتهم مع الأضداد وتستمر لذاتهم في النعماء والسراء والرحمة والزحمة كما قال أحدهم :

هواي له فرض تعطف أم جفا

ومشربه عذب تكدّر أم صفا

وكلت إلى المحبوب أمري كله

فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا

وأما الأبرار فلما كانوا يحبون المنعم واللطيف والرحيم لم تبق محبتهم عند تجلي القهار والمبلي والمنتقم بحالها ولا لذتهم بل يكرهون ذلك (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) لأنهم منابعها لا اثنينية ثمة ولا غيرية ، وإلا لم يكن كافور الظلمة حجاب الأنانية والاثنينية وسواده.

[٧] (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧))

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : الأبرار يوفون العهد الذي كان بينهم وبين الله صبيحة يوم الأزل بأنهم إذا وجدوا التمكن بالآلات والأسباب أبرزوا ما في مكامن استعداداتهم وغيوب فطرتهم من الحقائق والمعارف والعلوم والفضائل وأخرجوها إلى الفعل بالتزكية والتصفية (وَيَخافُونَ) يوم تجلي صفة القهر والسخط والانتقام لكونهم وصفيين (يَوْماً كانَ شَرُّهُ) فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ باستيلاء الهيئات المظلمة والحجب الساترة للنور من صفات النفس على القلب وهو نهاية مبالغ الشرّ.

[٨] (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨))

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي : يتجرّدون عن المنافع المالية ويزكون أنفسهم عن الرذائل خصوصا عن الشحّ لكون محبة المال أكثف الحجب فيتصفون بفضيلة الإثار ويطعمون الطعام في حالة احتياجهم إليه لسدّ خلّة جوع من يستحقه ، ويؤثرون به غيرهم على أنفسهم كما هو المشهور من قصة علي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام في شأن نزول الآية من الإيثار بالفطور على المستحقين الثلاثة والصبر على الجوع والصوم ثلاثة أيام أو يزكون أنفسهم عن رذيلة الجهل فيطعمون الطعام الروحاني من الحكم والشرائع مع كونه محبوبا في نفسه على حبّ الله المسكين الدائم السكون إلى تراب البدن واليتيم المنقطع عن تربية أبيه الحقيقي الذي هو روح القدس والأسير المحبوس في أسر الطبيعة وقيود صفات النفس.

[٩] (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩))

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي : قائلين في أنفسهم ذلك ، ناوين بالإطعام رضا الله ، فأن الأبرار يقصدون الخيرات مراضي الله لا الثواب لكونهم بارزين عن حجاب الأفعال إلى الصفات أو لذات الله ومحبتها إذ الوجه عبارة عن الذات مع الصفات لكونهم سالكين سائرين في بيداء الصفات إلى مقصد الذات ، غير واقفين معها (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) مكافأة (وَلا شُكُوراً) وثناء لعدم احتجابنا بالأغراض والأعواض.

[١٠ ـ ١٢] (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) يوم تجلي السخط والغضب وظهوره في صفة العبوس والقهر (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) بتجليه في صورة الرضا واللطف (وَلَقَّاهُمْ) نضرة الرضوان وسرور النعيم الدائم (وَجَزاهُمْ) بصبرهم عن اللذات النفسانية والتزيينات الشيطانية في جنان الأفعال مع أنوار الصفات جنة الذات وحرير ملابس الصفات الإلهية النورانية اللطيفة.

[١٣] (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣))

(مُتَّكِئِينَ) في تلك الجنة على أرائك الأسماء التي هي الذات مع الصفات بحسب مقاماتهم ومراتبهم ودرجاتهم منها (لا يَرَوْنَ فِيها) شمس حرارة الشوق إليها مع الحرمان ولا زمهرير برودة الوقوف مع الأكوان ، فإن الوقوف مع الكون برد قاسر وثقل عاصر.

[١٤] (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤))

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ) ظلال الصفات قريبة منهم ساترة إياهم لاتصافهم بها وكونهم في روحها (وَذُلِّلَتْ) لهم (قُطُوفُها) من ثمار علوم توحيد الذات وتوحيد الصفات والأحوال والمواهب (تَذْلِيلاً) تاما كلما شاؤوا جنوها وتلذذوا وتفكهوا بها.

[١٥ ـ ١٦] (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦))

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) هي مظاهر حسن الصفات من محاسن الصور وكونها من فضة نوريتها وبياضها وزينتها وبهاؤها (وَأَكْوابٍ) من صور أوصاف المجردات اللطيفة والجواهر المقدسة لكونها بلا عرى التعلق بالمواد فلا يمكن قبضها بالعرى من غير الاتصال بذواتها ولكونها من عالم الغيب لم تكن مكشوفة الرأس كالأواني (كانَتْ قَوارِيرَا) لصفائها وتلألؤ نور الذات من ورائها ، وكما قال في تشبيه القلب بالزجاجة : (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) (١) أي : في صفاء الزجاجة وضياء الكوكب فكذلك هاهنا قال : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي : هي في صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة وبريقها (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي : على حسب استعداداتهم ومبالغ ريهم على قدر أشواقهم وإرادتهم كما قدّروا في أنفسهم وجدوها كما قيل : لا تغيض ولا تفيض.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٣٥.

[١٧ ـ ١٨] (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها) زنجبيل لذة الاشتياق ، فإنهم لا شوق لهم ليكون شرابهم الزنجبيل الصرف الذي هو غاية حرارة الطلب لوصولهم ، ولكن لهم الاشتياق للسير في الصفات وامتناع وصولهم على جميعها فلا تصفو محبتهم من لذة حرارة الطلب كما صفت لذة محبة المستغرقين في عين جميع الذات فكان شرابهم العين الكافورية الصرفة (عَيْناً) بدل من زنجبيلا أي : هو عين في الجنة لكون حرارة الشوق عين المحبة الناشئة من منبع الوحدة مع الهجران (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) لسلاستها في الحلق وذوقها. فإن العشاق المهجورين الطالبين السالكين سبيل الوصال في ذوق وسكر من حرارة عشقهم لا يقاس به ذوق.

[١٩ ـ ٢٠] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) من فيوض الأسماء الإلهية المتجلية عليهم في عالم القدس وهي الأنوار الملكوتية والجبروتية المنكشفة عليهم في حضرات الصفات وجناتها. ولو كانت جنانهم من جنان الأفعال لطافت عليهم الحور مكان الولدان ، لأن الأسماء مؤثرة في الأفعال والصفات مصادرها ومبادئ الآثار والهيئات وكونهم مخلّدين بقاؤهم على التجرّد أبدا (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لنوريتهم وصفائهم وبساطة جواهرهم.

[٢١] (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١))

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) أي : تعلوهم ملابس سندس الأحوال والمواهب اللطيفة من أنوار الصفات البهيجة. والخضرة عبارة عن البهجة والنضرة وإستبرق الأخلاق الإلهية (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي : زينوا بزينة المعاني المعقولة المنوّرة بنور الوجدان (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) من لذة محبة الذات والعشق الحقيقي الصرف الصافي عن كدر الغيرية واثنينية الصفات الطاهر عن دنس ظهور الأنانية والبقية.

[٢٢] (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

(إِنَّ هذا) المذكور من الجنة والأواني والولدان والشراب (كانَ لَكُمْ جَزاءً) لقيامكم بحق تجليات الصفات (وَكانَ سَعْيُكُمْ) من الأعمال القلبية في مقامها كالخشية والهيبة عند تجلي العظمة والخضوع والأنس عند تجلي صفة الرحمة والإخلاص في طلب تجلي الوحدة وأمثال ذلك (مَشْكُوراً) بهذا الجزاء.

[٢٣ ـ ٢٤] (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤))

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) بذاتنا دون من عدانا (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ) التجلي الأحدي الذاتي في مقام الفناء مع بلاء ظهور الأنانية والبقية ، فإن الربّ في مقام نزول الصفات هو الذات وحدها (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) محتجبا بالصفات والأحوال أو بذاته عن الذات وبصفات نفسه وهيئاتها عن الصفات (أَوْ كَفُوراً) محتجبا بالأفعال والآثار واقفا معها بأفعاله ومكسوباته عن الأفعال فتحتجب بموافقتهم.

[٢٥] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥))

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي : ذاتك الذي هو الاسم الأعظم من أسمائه بالقيام بحقوقه وإظهار كمالاته (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في المبدأ والمنتهى بالصفات الفطرية من وقت طلوع النور الإلهي بإيجادها في الأزل وإيداع كمالاته فيها وغروبه بتعيينها واحتجابه بها وإظهارها مع كمالاتها.

[٢٦] (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦))

(وَمِنَ اللَّيْلِ) وخصص مقام النفس أو القلب حال البقاء بعد الفناء والرجوع إلى الخلق للتشريع بسجود الفناء والعبادة الحقانية فإن الدعوة لا تمكن إلا بحجاب القلب ووجود النفس (فَاسْجُدْ لَهُ) سجود الفناء برؤية بقاء نفسك بالحق وفناء البشرية بالكلية فتكون موجودا به لا بها ، ونزّهه عن المعيّة والاثنينية والأنانية وظهور البقية (لَيْلاً طَوِيلاً) بقاء دائما أبديّا ما دمت في ذلك المقام.

[٢٧] (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧))

(إِنَّ هؤُلاءِ) أي : المحتجبين بالآثار والأفعال أو الصفات (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي : شاهدهم الحاضر من الذوق الناقص (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) يوم التجلي الذاتي ، أي : القيامة الكبرى الشاق المعتبر الذي لا يحتمله أحد.

[٢٨] (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨))

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) بتعيين استعداداتهم (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قوّيناهم بالميثاق الأزلي والاتصال الحقيقي (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) بأن نسلب أفعالهم بأفعالنا ونمحو صفاتهم بصفاتنا ، ونفني ذواتهم بذواتنا فيكونوا أبدالا.

[٢٩ ـ ٣٠] (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠))

(إِنَّ هذِهِ) تذكير لسلوك طريقي والسير فيّ (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) سبيلا إليّ (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا) بمشيئتي بأن أريدهم فيريدوني فتكون إرادتهم مسبوقة بإرادتي ، بل عين إرادتي الظاهرة في مظاهرهم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما أودع فيهم من العلوم (حَكِيماً) بكيفية إيداعها وإبرازها فيهم بإظهار كمالهم.

[٣١] (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بإفاضة ذلك الكمال المودع فيه عليه وإظهاره (وَالظَّالِمِينَ) الباخسين حقهم الناقصين حظهم منها بالاحتجاب عنها ، أو الواضعين نور فطرتهم الذي هو النور الإلهي الأصلي الحاصل من اسمه المبدئ في غير موضعه من محبة الأنداد والاحتجاب بالآثار وعبادة الأغيار (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً) بالوقف على الربّ لوقوفهم مع الغير ثم على النار لوقوفهم مع الآثار مؤلما إيلاما شديدا.

سورة والمرسلات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أقسم سبحانه بأنوار القهر واللطف الموجبة للكمال والوقوف على أحوال القيامة فقال : والمرسلات ، أي : الأنوار القاهرة التي أرسلت إلى النفوس الإنسانية (عُرْفاً) أي : متتالية متتابعة ولوائح ولوامع وطوالع من قولهم : جاءوا عرفا ، ثم تشتدّ وتقوى كالرياح العاصفة فتعصف بالصفات النفسانية والقوى البدنية والروحانية بتجليات صفات العظموت والجبروت فتقهرها وتذريها. وإن فسر العرف بالذي هو ضدّ النكر فمعناه : والمرسلات للإحسان فإن هذا القهر في ضمنه لطف خفيّ كماقال : «سبقت رحمتي غضبي». وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته.

[٣ ـ ٥] (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥))

(وَالنَّاشِراتِ) والأنوار التي تنشر وتحيي ما أهلكته وأفنته العاصفات من تجليات صفات المحبة والرحموت ، فتفرق بينها بإقامة كل في مقامها ليتميز بعضها من بعض وتفصل بين الحق والباطل من أفعالها ، فتلقي الذكر أي : العلم والحكمة لأن العلم يستدعي دعاء وجوديا ظاهرا فلا يمكن فيضانه في حال الفناء بالتجلي القهري ولا قبله وإلا لكان فكريا مستنبطا بالعقل المشوب بالوهم فكان شيطنة وشبها مختلطا فيها الحق بالباطل.

[٦] (عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦))

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) كلاهما بدل من ذكرا أي : عذرا للمستغفرين المتصلين ومحوا لسيئاتهم وهيئات نفوسهم وصفاتهم وإنذارا للمنغمسين في ملابس الطبيعة والبدن المحجوبين بغواشيها ولذاتها وشهواتها عن الحق أو مفعول لهما أي : لمحو سيئات الأوّلين وذنوب صفاتهم وأفعالهم وإنذار الآخرين أو حالان أي : فيلقين ذكرا عاذرات ومنذرات.

[٧ ـ ١٢] (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢))

(إِنَّما تُوعَدُونَ) من أحوال القيامة الصغرى والكبرى (لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ) أي : الحواس

(طُمِسَتْ) ومحيت بالموت (وَإِذَا السَّماءُ) أي : الروح الحيوانية (فُرِجَتْ) وشققت وانفلقت من الروح الإنسانية (وَإِذَا الْجِبالُ) أي : الأعضاء (نُسِفَتْ) أي : فنيت وأذريت (وَإِذَا الرُّسُلُ) أي : ملائكة الثواب والعقاب (أُقِّتَتْ) عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لها ، إما لإيصال البشرى والروح والراحة وإما لإيصال العذاب والكرب والذلة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي : ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال أو رسل البشر وهم الأنبياء ، عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم للفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقيّ فأن الرسل يعرفون كلّا بسيماهم.

[١٣ ـ ١٤] (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤))

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بين السعداء والأشقياء ، وإن فسرت القيامة الكبرى فإذا نجوم القوى النفسانية محيت بالعاصفات ، وإذا سماء العقل فرجت وشقت بتأثير نور الروح فيها ، وإذا جبال صفات النفس نسفت بالتجليات الوصفية في القيامة الوسطى ، بل جبال النفس والقلب والعقل والروح وكل ما عليها بالتجلي الذاتي ، وإذا الرسل الناشرات بالأحياء في حال البقاء بعد الفناء عينت لوقت الفرق بعد الجمع وهو حال البقاء أي وقت الرجوع من الجمع إلى التفصيل المسمى يوم الفصل أخرت من وقت الجمع الذي هو الفناء إلى ذلك الوقت.

[١٥ ـ ٢٩] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩))

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بإحدى القيامتين المحجوبين عن الجزاء ، وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وما بعده يدل على أن المراد بما توعدون هو القيامة الصغرى.

[٣٠ ـ ٣١] (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١))

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي : ظل شجرة الزقوم وهي النفس الخبيثة الملعونة الإنسانية إذا احتجبت بصفاتها وانقطعت عن نور الوحدة بظلمة ذاتها فبقيت راسخة في أرض البدن نابتة ناشئة في نار الطبيعة متشعبة إلى شعب النفوس الثلاث البهيمية والسبعية والشيطانية وهي القوة الملكوتية المغلوبة بالوهم العاملة بمقتضى هوى النفس (لا ظَلِيلٍ) كظل شجرة طوبى ، أي : حالها في إفادة الروح والراحة بخلاف حال تلك وهي النفس الطيبة المتنوّرة بنور الوحدة الوحدانية في أفعالها الصادرة عن العقل الغير المتشعبة إلى الشعب المختلفة المتضادّة (وَلا يُغْنِي) من لهب نار الهوى وتعب طلب ما لا يبقى.

[٣٢ ـ ٣٤] (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤))

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) الدواعي العظيمة والتمنيات الباطلة كالجبال النارية مع الحرمان عن المتمنيات.

[٣٥ ـ ٣٧] (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧))

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) لفقدان آلات النطق وعدم الإذن فيه بالختم على الأفواه فلا يعتذرون لأنهم لا يتمكنون من الاعتذار وذلك اليوم يوم طويل لا نهاية لطوله والمواقف فيه مختلفة ففي بعض المواقف لا ينطقون وفي بعضها يمكنهم النطق.

[٣٨ ـ ٤٠] (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ) بالحشر العامّ في عين جمع الوجود مع الأولين ثم فرّقنا بين السعداء منكم والأشقياء أو فصلنا بينكم بتمييزكم من السعداء وجمعناكم مع الأولين من الأشقياء المتوفين قبلكم في النار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تعجيز لهم وبيان لمقهوريتهم وعدم حيلتهم في رفع العذاب.

[٤١] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) المتزكين عن صفات النفوس وهيئات الأعمال المتجردين عنها (فِي ظِلالٍ) من الصفات الإلهية (وَعُيُونٍ) من العلوم والمعارف والحكم والحقائق المستفادة من تجلياتها.

[٤٢ ـ ٤٣] (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

(وَفَواكِهَ) من لذات المحبات والمدركات (مِمَّا يَشْتَهُونَ) على حسب إرادتهم مقولا لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : كلوا من تلك الفواكه واشربوا من تلك العيون أكلا هنيئا وشربا هنيئا سائغا رافها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال الزكية والرياضات القلبية والقالبية.

[٤٤ ـ ٤٧] (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧))

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين يعبدون الله في مقام مشاهدة الصفات والذات من ورائهالقوله : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».

[٤٨] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) انخفضوا واخشعوا بالانكسار وتواضعوا لقبول الفيض بترك التجبر والاستكبار لا يقبلون ولا ينقادون وذلك إجرامهم الموجب لهلاكهم.

سورة النبأ

[١ ـ ١٦]

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) النبأ العظيم هو القيامة الكبرى ، ولذلك قيل في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

هو النبأ العظيم وفلك نوح

أي : الجمع والتفصيل باعتبار الحقيقة والشريعة لكونه جامعا لهما.

[١٧] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧))

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء وبين كل طائفة من الفريقين باعتبار تفاوت الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها (كانَ) عند الله وفي علمه وحكمه (مِيقاتاً) حدّا معينا ووقتا موقتا ينتهي الخلق إليه.

[١٨] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨))

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) باتصال الأرواح بالأجساد ورجوعها بها إلى الحياة (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فرقا مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.

وعن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا معاذ! سألت عن أمر عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه وقال : «يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا وبعضهم صمّا بكما وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة

الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصمّ والبكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصّاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلّبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات وممنعو حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» ، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٩] (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩))

(وَفُتِحَتِ) سماء الروح عند العود إلى البدن بأبواب الحواس الظاهرة والباطنة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي : ذات أبواب كثيرة هي طرق الشعور كأن كلها أبواب لكثرتها.

[٢٠] (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠))

(وَسُيِّرَتِ) جبال الحجب الساترة لهيئاتهم وصفاتهم عن الأعين الحاجزة عن ظهورها من الأبدان والأعضاء العارضة دون تلك الهيئات التي ظهرت في المحشر (فَكانَتْ سَراباً) كقوله تعالى : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)) (١) أي : صارت شيئا كلا شيء في انبثاثها وتفرّق أجزائها.

[٢١ ـ ٢٢] (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢))

(إِنَّ جَهَنَّمَ) الطبيعة (كانَتْ مِرْصاداً) حدّا يرصد فيه كل أحد ، يرصدهم عندها الملائكة ، أما السعداء فلمجاوزتهم وممرّهم عليها لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٢). وعن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن الآية فقيل له : أنتم أيضا واردوها؟ فقال : «جزناها وهي خامدة». وأما الأشقياء فلكونها مآبهم كما قال : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) وكقوله : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٣).

[٢٣] (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣))

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أزمنة متطاولة متتابعة أما غير متناهية إن كانت الاعتقادات باطلة فاسدة أو متناهية بحسب رسوخ الهيئات إن كانت الأعمال سيئة مع عدم الاعتقاد أو مع الاعتقاد الصحيح.

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية : ٦.

(٢) سورة مريم ، الآيات : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٧٢.

[٢٤ ـ ٢٦] (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦))

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) روحا وراحة من أثر اليقين (وَلا شَراباً) من ذوق المحبة ولذتها (إِلَّا حَمِيماً) من أثر الجهل المركب (وَغَسَّاقاً) من ظلمة هيئات محبة الجواهر الفاسقة والميل إليها (جَزاءً) موافقا لما ارتكبوه من الأعمال وقدموه من العقائد والأخلاق.

[٢٧ ـ ٢٨] (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨))

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي : ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات والصفات أي : لفساد العمل والعلم فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.

[٢٩] (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩))

(وَكُلَّ شَيْءٍ) من صور أعمالهم وهيئات عقائدهم ضبطناه ضبطا بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم وصحائف النفوس السماوية.

[٣٠] (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي : بسببها ذوقوا عذابا يوازيها لا مزيد عليه فإنها بعينها معذبة لكم دون ما عداها. والمعنى : فذوقوا عذابها فإننا لن نزيدكم عليها شيئا إلا التعذيب بها الذي ذهلتم عنه.

[٣١ ـ ٣٦] (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥))

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) المقابلين للطاغين المتعدّين في أفعالهم حدّ العدالة مما عينه الشرع والعقل وهم المتزكون عن الرذائل وهيئات السوء من الأفعال (مَفازاً) فوزا ونجاة من النار التي هي مئاب الطاغين (حَدائِقَ) من جنان الأخلاق (وَأَعْناباً) من ثمرات الأفعال وهيئاتها (وَكَواعِبَ) من صور آثار الأسماء في جنة الأفعال (أَتْراباً) متساوية في الرتب (وَكَأْساً) من لذّة محبة الآثار مترعة ممزوجة بالزنجبيل والكافور لأن أهل جنة الآثار والأفعال لا مطمح لهم إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي (عَطاءً حِساباً) كافيا إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي (عَطاءً حِساباً) كافيا يكفيهم بحسب هممهم ومطامح أبصارهم لأنهم لقصور استعداداتهم لا يشتاقون إلى ما وراء ذلك فلا شيء ألذّ لهم بحسب أذواقهم مما هم فيه.

[٣٧] (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) أي : ربّهم المعطي إياهم ذلك العطاء هو

الرحمن لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة ، فمشربهم من اسم الرحمن دون غيره (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) لأنهم لم يصلوا إلى مقام الصفات فلا حظ لهم من المكالمة.

[٣٨ ـ ٣٩] (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) الإنساني وملائكة القوى في مراتبهم صافين أي : مرتبة كل في مقامه كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) (١) (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) يسر له بأن هيأ له استعداد المكالمة في الأزل ووفقه لإخراج ذلك الاستعداد إلى الفعل بالتزكية (وَقالَ صَواباً) قولا حقا لا باطلا.

[٤٠] (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً) هو عذاب الهيئات الفاسقة من الأعمال الفاسدة دون ما هو أبعد منه من عذاب القهر والسخط وهو ما قدّمت أيديهم ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٦٤.

سورة النازعات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧))

أقسم بالنفوس المشتاقة التي غلب عليها النزوع إلى جناب الحق ، غريقة في بحر الشوق والمحبة التي تنشط من مقرّ النفس وأسر الطبيعة أي : تخرج من قيود صفاتها وعلائق البدن كقولهم : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، أو من قولهم : نشط من عقاله. والتي تسبح في بحار الصفات فتسبق إلى عين الذات ومقام الفناء في الوحدة فتدبر بالرجوع إلى الكثرة أمر الدعوة إلى الحق والهداية وأمر النظام في مقام التفصيل بعد الجمع ، وبالكواكب السيارة التي تنزع من المشرق إلى المغرب مفرقة في سيرها إلى أقصى المغرب وتخرج من برج إلى برج وتسبح في أفلاكها فيسبق بعضها بعضا في السير وتدبر أمر العالم فيما نيط بها وبسيرها ، أو بالملائكة من النفوس الفلكية التي تنزع الأرواح البشرية من الأجساد إغراقا في النزع من أقاصي البدن ، أنامله وأظفاره ، والتي تخرجها من الأبدان من قولهم : نشط الدلو من البئر ، إذا أخرجها. والتي تسبح في جريها فيما أمرت به فتسبق إليه فتدبر المأمور به على الوجه الذي أمر به. والمقسم عليه محذوف كما ذكر غير مرة أي : لتبعثنّ ، ويدل عليه قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي : تقع الواقعة التي ترجف لها أرض الجسد وجبال الأعضاء وهي النفخة الأولى أو وقت زهوق الروح (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي : النفخة الثانية وهي الإحياء بالبعث.

[٨ ـ ١٣] (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣))

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) أي : وقت وقوع الرجفة في حال النزع (واجِفَةٌ) مضطربة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) ذليلة (يَقُولُونَ) المحجوبون المنكرون البعث على سبيل الإنكار (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) في الطريقة الأولى من الحياة بعد صيرورتنا عظاما بالية فنحن إذا خاسرون إن صح ذلك (فَإِنَّما هِيَ) أي : الرادفة التي هي الرجفة إلى الحياة بالبعث (زَجْرَةٌ) أي : صيحة (واحِدَةٌ) هي تأثير الروح الإسرافيلي في تعلق هذه الروح المفارقة بالمادة القابلة لها دفعة فتحيا وذلك يوم القيامة الصغرى.

[١٤ ـ ١٥] (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥))

(فَإِذا هُمْ) أي : فاجؤوا الحصول (بِالسَّاهِرَةِ) وقت هذه النفخة أي : النفخ والكون بالساهرة في آن واحد ، والساهرة أرض بيضاء مستوية أي : عالم الروح الإنساني المفارق الغير الكامل ، فإنها أرض بالنسبة إلى سماء عالم القدس الذي هو مأوى الكمل ، سميت بالساهرة لنوريتها وبساطتها أو الروح الحيواني لاتصال الأرواح الإنسية الناقصة بها عند البعث فتلبثها بها ضرورة انجذابها إلى المادة ويمكن أن يكون إشارة إلى المحل الذي تتصل به الروح عند البعث لبياضه واستواء أجزائه.

[١٦ ـ ١٧] (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧))

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) الوادي المقدّس هو عالم الروح المجرّد لتقدّسه عن التعلق بالمواد واسمه (طُوىً) لانطواء الموجودات كلها من الأجسام والنفوس تحته وفي طيه وقهره وهو عالم الصفات ومقام المكالمة من تجلياتها ، فلذلك ناداه بهذا الوادي. ونهاية هذا العالم هو الأفق الأعلى الذي رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده جبريل على صورته (طَغى) أي : ظهر بأنانيته ، وذلك أن فرعون كان ذا نفس قوية حكيما عالما سلك وادي الأفعال وقطع بوادي الصفات واحتجب بأنانيته وانتحل صفات الربوبية ونسبها إلى نفسه وذلك تفرعنه وجبروته وطغيانه فكان ممنقال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» لقيامه بنفسه وهواها في مقام توحيد الصفات وذلك من أقوى الحجب.

[١٨ ـ ١٩] (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

(هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) بالفناء عن أنائيتك (وَأَهْدِيَكَ إِلى) الوحدة الذاتية بالمعرفة الحقيقية (فَتَخْشى) وتلين أنانيتك فتفنى.

[٢٠ ـ ٣٣] (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي : الهوية الحقيقية بالتوحيد العلمي والهداية الحقانية فلم يرها لقوة حجابه ورسوخ توهمه فكذبه في أنّ وراء ما بلغ من المقام رتبة (وَعَصى) أمره لتفرعنه وعتوّه (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن مقام توحيد الصفات الذي هو فيه لذنب حاله وتوجه إلى مقام النفس بالكلية لعناده واستيلاء نفسه وشدة ظهورها بالدعوى (يَسْعى) في دفع موسى بالمكايد

الشيطانية والحيل النفسانية فردّ عن جناب القدس مطرودا وازداد حجابه فتظاهر بقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أو نازع الحق لشدة ظهور أنائيته رداء الكبرياء فقهر وقذف في النار ملعونا كماقال تعالى : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار». ويروى : قصمته ، وذلك القهر هو معنى قوله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) فيخشع وتلين نفسه وتنكسر فلا تظهر.

[٣٤] (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤))

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي : تجلى نور الوحدة الذاتية الذي يطمّ على كل شيء فيطمسه ويمحوه.

[٣٥] (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥))

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) سعيه في الأطوار من مبدأ فطرته إلى فنائه وسلوكه في المقامات والدرجات حتى وصل إلى ما وصل فيشكره.

[٣٦] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦))

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : نار الطبيعة الآثارية (لِمَنْ يَرى) ممن بصر بنور الله وبرز من الحجاب لله دون العمي المحجوبين الذين يحترقون بناره ولا يرونه ، فيومئذ يصير الناس في شهوده قسمين.

[٣٧ ـ ٣٩] (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩))

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي : تعدّى طور الفطرة الإنسانية وجاوز حدّ العدالة والشريعة إلى الرتبة البهيمية أو السبعية وأفرط في تعدّيه (وَآثَرَ الْحَياةَ) الحسيّة على الحقيقية بمحبة اللذات السفلية (فَإِنَّ الْجَحِيمَ) مأواه ومرجعه.

[٤٠ ـ ٤٤] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤))

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) بالترقي إلى مقام القلب ومشاهدة قيوميته تعالى على نفسه (وَنَهَى النَّفْسَ) لخوف عقابه أو قهره (عَنِ) هواها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) مأواه على حسب درجاته (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي : في أي شيء أنت من علمها ، وذكرها إنما إلى ربك ينتهي علمها فإن من عرف القيامة هو الذي انمحى علمه أولا بعلمه تعالى ثم فنيت ذاته في ذاته فكيف يعلمها ولا علم له ولا ذات ، فمن أين أنت وغيرك من علمها بل لا يعلمها إلا الله وحده.

[٤٥ ـ ٤٦] (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) لإيمانه بها تقليدا (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي : وقت غروب نور الحق في الأجساد أو وقت طلوعه من مغربه ، أي : وقت رؤيتهم القيامة بالفناء في الوحدة تيقنوا إن لم يكن لهم وجود قط إلّا توهما باللبث في عالم الأجسام والاحتجاب بالحس أو في عالم الأرواح والاحتجاب بالعقل وهما المراد بقول من قال : خطوتين وقد وصلت ، أي : إذا جزت هذين الكونين فقد وصلت ، والله أعلم.

سورة عبس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦))

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجر تربية ربّه لكونه حبيبا فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق حتى تحرك بنفسه لا بالله. عوتب وأدّب كماقال : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» ، إلى أن تخلّق بأخلاقه تعالى. فإن التخلّق بأخلاقه كان بعد الوصول والفناء والتحقق به حال البقاء وهو الاستقامة وقت التمكين وانتفاء التلوين ، فلما نظر بظاهر الحال إلى الكبراء وعظم في عينه غنى الأغنياء وأعرض عن الفقير اعتناء بالقوم وتقوّى الإسلام بهم إن آمنوا ، واحتقارا للفقير وإيمانه ، نبّه بأن مثلك لا ينبغي أن ينظر إلى ظاهر الحال فيتشاغل عن المستعد الطالب الضعيف بالغني القويّ بل يجب أن يكون نظرك مقصورا على الاستعداد وقبول الإيمان فتعتبر ذلك دون غيره ولا تحتجب بالظاهر عن الباطن عسى أن يكون الفقير المتلهي عنه عاملا بالتزكية والتحلية بالغا حدّ الكمال ، فيصير مهديا هاديا لغيره. والغنيّ المتصدّي له لم يؤمن لعدم استعداده أو لاستكباره وعناده.

[٧ ـ ١٤] (وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١))

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) وَما عَلَيْكَ) بأس في امتناعه عن الإسلام (كَلَّا) ردع له عن ذلك ، ولهذا روي أنه ما تعبّس بعد نزول هذه الآية في وجه فقير قط ، ولا تصدّى لغني (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) عند الله هي ألواح النفوس السماوية التي نزل القرآن إليها أولا من اللوح المحفوظ كما ذكر (مَرْفُوعَةٍ) القدر والمكان (مُطَهَّرَةٍ) عن دنس الطبائع وتغبراتها.

[١٥ ـ ٣٢] (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي : كتبة هي العقول المقدّسة المؤثرة في تلك الألواح (كِرامٍ) لشرفها وقربها من الله (بَرَرَةٍ) أتقياء لتقدّسها عن المواد ونزاهة جوهرها عن التعلقات. ثم لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير وعدم النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس من مبادئ خلقته وأحواله في نفسه وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به وقرر أنه مع اجتماع الدليلين أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن (لَمَّا يَقْضِ) في الزمان المتطاول (ما أَمَرَهُ) الله به من شكر نعمته باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل والتوصل بها إلى المنعم ، بل احتجب بها وبنفسه عنه.

[٣٣ ـ ٤١] (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١))

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي : النفخة الأولى المذهبة للعقل والحواس (يَوْمَ) يهتم كل أحد بأمر نفسه لا يتفرّغ إلى غيره لشدة ما به واشتغاله بما يظهر عليه من أحوال نفسه ، انقسم الناس قسمين : السعداء المسفرة وجوههم المضيئة المتهللة بنورية ذواتهم وصفائها المستبشرة بما لقوا من هيئات أعمالهم ونعيم جنانهم ، والأشقياء المسودة وجوههم بسواد كفرهم وظلمة ذواتهم المغبرة بغبار هيئات فجورهم وقتام آثار أعمالهم.

[٤٢] (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي : اجتماع كفرهم وفجورهم هو السبب في اجتماع السواد والغبرة على وجوههم.

سورة التكوير

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي : إذا كوّرت شمس الروح بطيء ضوئها الذي هو الحياة وقبضها عن البدن وإزالتها ، وإذا انكدرت نجوم الحواس بذهاب نورها ، وإذا سيرت جبال الأعضاء بتفتيتها وجعلها هباء ، وإذا عطلت عشار الأرجل المنتفع بها في السير عن الاستعمال في المشي وترك الانتفاع بها أو الأموال النفيسة المنتفع بها فإن العشار أنفس أموال العرب ، وإذا حشرت وحوش القوى الحيوانية بأن هلكت وأفنيت من قولهم : حشرتهم السنة إذا بالغت في إهلاكهم أو حشرت بالإحياء عند البعث. وإذا سجرت أي : ملئت بحار العناصر بأن فجرّ بعضها إلى بعض واتصل كل جزء بأصله فصار بحرا واحدا ، وإذا زوّجت النفوس بأن تحشر كل نفس إلى ما تجانسه وتشاكله من صنف فصنفت أصنافا من السعداء والأشقياء كل مع قرنائه ، وإذا سئلت موءودة النفس الناطقة التي أثقلتها وائدة النفس الحيوانية في قبر البدن وأهلكتها (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أي : طلب إظهار الذنب الذي به استولت النفس الحيوانية على الناطقة من الغضب أو الشهوة أو غيرهما فمنعتها عن خواصها وأفعالها وأهلكتها فأظهر فكنى عن طلب إظهاره بالسؤال ، ولهذاقال عليه‌السلام : «الوائدة والموؤدة في النار» ، لأن النفس الناطقة في العذاب مقارنة للنفس الحيوانية. وفي الحديث سرّ آخر ليس هذا موضع ذكره.

[١٠] (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠))

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي : صحائف القوى والنفوس التي فيها هيئات الأعمال تطوى عند الموت وتكوّر شمس الروح وتنشر عند البعث والعود إلى البدن.

[١١] (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١))

(وَإِذَا السَّماءُ) أي : الروح الحيوانية أو العقل (كُشِطَتْ) أزيلت وأذهبت.

[١٢] (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢))

(وَإِذَا الْجَحِيمُ) أي : نار آثار الغضب والقهر في جهنم الطبيعة (سُعِّرَتْ) أوقدت للمحجوبين.

[١٣ ـ ١٤] (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

(وَإِذَا الْجَنَّةُ) أي : نعيم آثار الرضا واللطف (أُزْلِفَتْ) قربت للمتقين (عَلِمَتْ) كل (نَفْسٌ) ما أحضرته ووقفت عليه بعد نسيانها وذهولها عنه.

[١٥ ـ ١٦] (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي : الرواجع من الكواكب السيارة (الْكُنَّسِ) التي تدخل في بروجها كالوحوش في كناسها أو النفوس الرواجع إلى الأبدان الجارية الداخلة مواضعها.

[١٧] (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧))

(وَاللَّيْلِ) أي : ليل ظلمة الجسد الميت (إِذا عَسْعَسَ) أي : أدبر بابتداء ذهاب ظلمته بنور الحياة عند تعلق الروح به وطلوع نور شمسه عليه.

[١٨ ـ ٢٢] (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢))

(وَالصُّبْحِ) أي : أثر نور طلوع تلك الشمس (إِذا تَنَفَّسَ) وانتشر في البدن بإفادة الحياة (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي : روح القدس النافث في روع الإنسان.

[٢٣ ـ ٢٥] (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥))

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي : نهاية طور القلب الذي يلي الروح وهو مكان إلقاء النافث القدسي (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي لأن عقله ما ستر بل صفى عن شوب الوهم (وَما هُوَ) من إلقاء شيطان الوهم المرجوم بنور الروح فيكون كله وهميّا لما ذكر.

[٢٦ ـ ٢٧] (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧))

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي : بعد هذا الكلام من إلقاء الوهم ومزجه وصاحبه من الجنة بما لا يخفى على أحد ، فمن سلك هذه الطرق ونسبه إلى أحد الأمور الثلاثة فقد بعد عن الصواب بما لا يضبط ولا تقرب إليه بوجه ، كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده فيقال : أين تذهب.

[٢٨ ـ ٢٩] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) من جملة العالمين الاستقامة في طريق السلوك ، والصراط المستقيم هو الطريق الذي عليه الحق لقوله : إنّ ربي على صراط مستقيم ، فما يشاء أحد سلوكها إلا بمشيئة الله فإن طريقه لا يسلك إلا بإرادته ، والله تعالى أعلم.

سورة الانفطار

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي : إذا انفطرت سماء الروح الحيوانية بانفراجها عن الروح الإنساني وزوالها.

[٢] (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢))

(وَإِذَا الْكَواكِبُ) أي : الحواس (انْتَثَرَتْ) بالموت وذهبت.

[٣] (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣))

(وَإِذَا الْبِحارُ) أي : الأجسام العنصرية (فُجِّرَتْ) بعضها في بعض بزوال البرازخ الحاجزة عن ذهاب كل إلى أصله وهي الأرواح الحيوانية المانعة عن خراب البدن ورجوع أجزائه إلى أصلها.

[٤ ـ ٥] (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

(وَإِذَا الْقُبُورُ) أي : الأبدان (بُعْثِرَتْ) بحثت وأخرج ما فيها من الأرواح والقوى.

[٦ ـ ١٩] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

(ما غَرَّكَ) إنكار للغرور بكرمه ، أي : إن كان كونه كريما يسوغ الغرور ويسهله لكن له من النعم الكثيرة والمنن العظيمة والقدرة الكاملة ما يمنع من ذلك أكثر من تجويز الكرم إياه ، والكرام الكاتبون هم النفوس السماوية والقوى الفلكية المنتقشة بما يصدر عنهم من الأفعال ، أي : ارتدعوا عن الغرور بالكرم بل إنما عصيانهم للتكذيب بالجزاء أصلا الذي هو أعظم من الغرور. وإن الكرام الأشراف التي كرمت عن الكون والفساد يحفظون أفعالكم ويكتبونها عليكم فضلا عن الملكين الموكلين بكم ، كما قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١) فكيف تجترءون على المعاصي وقد تكتب عليكم في السماء والأرض ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ١٧.

سورة المطففين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الباخسين حقوق الناس في الكيل والوزن ، يمكن أن يحمل بعد الظاهر على التطفيف في الميزان الحقيقي الذي هو العدل ، والموزونات به هي الأخلاق والأعمال ، والمطففون هم الذين إذا اعتبروا كمالات أنفسهم متفضلين (عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يستكثرونها ويزيدون على حقوقهم في إظهار الفضائل العلمية والعملية أكثر مما لهم عجبا وتكبرا.

[٣] (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣))

(وَإِذا) اعتبروا كمالات الناس بالنسبة إلى كمالاتهم أخسروه واستحقروها ولم يراعوا العدالة في الحالين لرعونة أنفسهم ومحبة التفضل على الناس كقوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (١).

[٤ ـ ٥] (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥))

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الرذيلة التي هي أفحش أنواع الظلم ، أي : ليس في ظنهم (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فيظهر ما في أنفسهم من الفضائل والرذائل ، أو يحاسب عليه ويرتدع فضلا عن العلم (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) لا يقدر أحد فيه أن يظهر ما ليس فيه ولا أن يكتم ما فيه لانقلاب باطنه ظاهره وصفته صورته فيستحيي ويذوق وبال رذيلته.

[٦] (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) عن مراقد أبدانهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بارزين لا يخفى عليه منهم شيء.

[٧ ـ ١١] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١))

(كَلَّا) ردع عن هذه الرذيلة (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي : ما كتب من أعمال المرتكبين

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨.

للرذائل الذين فجروا بخروجهم عن حدّ العدالة المتفق عليها الشرع والعقل (لَفِي سِجِّينٍ) في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة يزحفون على بطونهم كالسلاحف والحيّات والعقارب أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ولذلك فسر بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم.

[١٢ ـ ١٣] (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) مجاوز طور الفطرة الإنسانية بتجاوزه حدّ العدالة إلى الإفراط والتفريط في أفعاله (أَثِيمٍ) محتجب بذنوب هيئات صفاته.

[١٤ ـ ١٧] (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(كَلَّا) ردع عن هاتين الرذيلتين (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : صار صدأ عليها بالرسوخ فيها وكدر جوهرها وغيرها عن طباعها ، والرين حد من تراكم الذنب على الذنب ورسوخه تحقق عنده الحجاب وانغلق باب المغفرة ، نعوذ بالله منه ولذلك قال : (كَلَّا) أي : ارتدعوا عن الرين (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لامتناع قبول قلوبهم للنور وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري كالماء الكبريتي مثلا ، إذ لو روّق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ، ولهذا استحقوا الخلود في العذاب وحكم عليهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

[١٨ ـ ٢١] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١))

(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي : ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته وكونه ديوان أعمال أهل الخير كما قال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : محل شريف رقم بصور أعمالهم من جرم سماوي أو عنصري إنساني (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : يحضر ذلك المحل أهل الله الخاصة من أهل التوحيد الذاتي.

[٢٢ ـ ٢٥] (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) السعداء الأتقياء عن دون صفات النفوس (لَفِي نَعِيمٍ) من جنان الصفات والأفعال (عَلَى الْأَرائِكِ) التي هي مقاماتهم من الأسماء الإلهية في حجال عالم القدس الخفي عن أعين الإنس (يَنْظُرُونَ) إلى جميع مراتب الوجود ويشاهدون أهل الجنة والنار وما هم فيه من النعيم والعذاب لا تحجب حجالهم عنه شيئا وتحجب أغيارهم عنهم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجته ونوريته وآثار سروره (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) خمر صرف من المحبة الروحانية الغير الممزوجة بحب النفس للجواهر الجسمانية (مَخْتُومٍ) بختم الشرع لئلا تمتزج به النجاسات الشيطانية من المحبات الوهمية المحرمة والشهوات النفسانية المهيئة.

[٢٦ ـ ٢٧] (خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧))

(خِتامُهُ مِسْكٌ) هو حكم الشرع بالمباحات المطيبة للنفوس المقوية للقلوب.

(وَفِي ذلِكَ) أي : في شرب رحيق المحبة الروحانية الصرفة المقيدة بقيد الشريعة ولذتها الصافية (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فإنه أعزّ من الكبريت الأحمر (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي : مزاج خمر الأبرار من تسنيم العشق الحقيقي الصرف وهو محبة الذات المعبر عنها بالكافور باعتبار الخاصية حال الجمع عبر عنها بالتسنيم باعتبار المرتبة حال التفصيل فإنه في أعلى رتب الوجود ويجري كما قيل في غير أخدود لتجرّده عن المحل والتعين بصورة وصفه ، أي : لهم مع محبة الصفات في مقامها محبة الذات الصرفة ممزوجة بشرابهم لمشاهدتهم الذات من وراء حجب الصفات.

[٢٨ ـ ٣٦] (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي : التسنيم عين يشرب بها المقرّبون صرفة وهم الكاملون الواصلون إلى توحيد الذات من أهل التمكين القائمين بالله في مقام التفصيل بالاستقامة ، ففرق بين أهل الاستقامة في مقام التفصيل وأهل الاستغراق في مقام الجمع باختلاف اسمهم واسم شرابهم مع إيجاد حقيقتهم وحقيقة شرابهم بأن سماهم مقرّبين للإشعار بالفرق مع القرب ، وسمّى شرابهم التسنيم للإشعار بعلوّ الرتبة بالنسبة إلى سائر الرتب ، وسمّى أهل الاستغراق بعباد الله للإشعار بالمقهورية مع الاختصاص المؤذنة بالفناء ، وسمّى شرابهم بالكافور للإشعار بالوحدة الصرفة والبياض الخالص بلا نسبة وفرق.

سورة الانشقاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) كقوله : انفطرت (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : انقادت لأمره بانفراجها عن الروح الإنساني انقياد السامع المطيع لأمره المطاع (وَحُقَّتْ) أي : حقّ لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر المطلق ولا تمتنع وهي حقيقة بذلك.

[٣ ـ ٥] (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥))

(وَإِذَا) أرض البدن (مُدَّتْ) وبسطت بنزع الروح عنها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الروح والقوى (وَتَخَلَّتْ) تكلفت في الخلو عن كل ما فيها من الآثار والأعراض كالحياة والمزاج والتركيب والشكل بتبعية خلوها عن الروح.

[٦] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))

(إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت ، أي : تسير مع أنفاسك سريعا كما قيل : أنفاسك خطاك إلى أجلك ، أو مجتهد مجد في العمل خيرا أو شرّا ذاهبا إلى ربّك (فَمُلاقِيهِ) ضرورة ، والضمير إمّا للربّ وإما للكدح.

[٧ ـ ٩] (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩))

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) بأن جعل من أصحاب اليمين في الصورة الإنسانية آخذا كتاب نفسه أو بدنه بيمين عقله ، قارئا ما فيه من معاني العقل القرآني (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) ممن يجانسه ويقارنه من أصحاب اليمين مسرورا فرحا بصحبتهم ومرافقتهم وبما أوتي من حظوظه.

[١٠] (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠))

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي : جهته التي تلي الظلمة من الروح الحيوانية والجسد ، فإن وجه الإنسان جهته التي إلى الحق وخلفه جهته التي إلى البدن الظلماني بأن ردّ

إلى الظلمات في صور الحيوانات.

[١١ ـ ١٢] (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢))

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) لكونه في ورطة هلاك الروح وعذاب البدن (وَيَصْلى سَعِيراً) أي : سعير نار الآثار في مهاوي الطبيعة.

[١٣ ـ ١٤] (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤))

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي : ذلك لأنه كان بطرا في أهله بالنعم محتجبا بها عن المنعم ، ظانّا أنه لن يرجع إلى ربّه أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيا ويموت ولا يهلكه إلا الدهر.

[١٥] (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

(بَلى) ليحورنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) فيجازيه على حسب حاله.

[١٦] (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) أي : النورية الباقية من الفطرة الإنسانية بعد غروبها واحتجابها في أفق البدن الممزوجة بظلمة النفس عظمها بالإقسام بها لإمكان كسب الكمال والترقي في الدرجات بها.

[١٧] (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧))

(وَاللَّيْلِ) أي : وليل ظلمة البدن (وَما) جمعه من القوى والآلات والاستعدادات التي يمكن بها اكتساب العلوم والفضائل والترقي في المقامات ونيل المواهب والكمالات.

[١٨] (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨))

(وَالْقَمَرِ) أي : قمر القلب الصافي عن خسوف النفس (إِذَا اتَّسَقَ) أي : اجتمع وتمّ نوره وصار كاملا.

[١٩ ـ ٢٠] (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي : مراتب مجاوزة عن مراتب وطبقات وأطوار مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بها.

[٢١ ـ ٢٢] (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢))

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) بتذكير هذه الأطوار والمراتب لا يخضعون ولا ينقادون (بَلِ) المحجوبون عن الحق محجوبون بالضرورة عن الدين.

[٢٣] (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣))

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في وعاء أنفسهم وبواطنهم من الاعتقادات الفاسدة والهيئات الفاسقة.

[٢٤ ـ ٢٥] (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) من نيران الآثار وحرمان الأنوار مؤلم غاية الإيلام لكن (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العلمي بتصفية قلوبهم عن كدر صفات النفس وتزكيتها (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) باكتساب الفضائل (لَهُمْ أَجْرٌ) ثواب الآثار والصفات في جنة النفس والقلب غير مقطوع لبراءته عن الكون والفساد وتجرّده عن المواد والله سبحانه وتعالى أعلم.

سورة البروج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي : الروح الإنساني ذات المقامات في الترقي والدرجات (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي : القيامة الكبرى التي هي آخر درجاته من كشف التوحيد الذاتي (وَشاهِدٍ) أي : الذي شهد الشهود الذاتي في عين الجمع (وَمَشْهُودٍ) أي : الذات الأحدية ومعنى التنكير التعظيم ، أي : شاهد لا يعرفه أحد ولا يقدّر قدره إلا الله لفنائه فيه وانتفاء عينه وأثره فكيف يعرف؟! ، ومشهود لا يعلمه أحد إلا هو. ولعمري إنه عين الشاهد لا فرق إلا بالاعتبار وجواب القسم محذوف مدلول عليه بقوله : (قُتِلَ) أي : لتحجبنّ أو لتلعننّ.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : لعن البدنيون المحجوبون بصفات النفس في شقوق أرض البدن وأوهادها (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بدل الاشتمال من الأخدود لملازمتها إياه وهي الطبيعة الآثارية المحرقة أربابها بالشهوات والأماني (إِذْ هُمْ عَلَيْها) أي : على تلك النار (قُعُودٌ) عاكفون ملازمون لا يبرحون فيتنفسوا في فضاء القدس ويذوقوا روح النفحات الإلهية (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الموحدين أهل الكشف والعيان من الازدراء والاستحقار والاستهزاء والاستنكار (شُهُودٌ) يشهد بعضهم على بعض بذلك.

[٨] (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨))

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي : وما أنكروا منهم (إِلَّا) الإيمان (بِاللهِ الْعَزِيزِ) الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام والحجب والحرمان (الْحَمِيدِ) المنعم على أوليائه بالهداية والإيقان.

[٩] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحتجب بهما عن الأشقياء ويتجلى فيهما على الأولياء (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر يظهر ويتجلى على أوليائه على كل ذرة ، فلهذا آمن من آمن وأنكر من أنكر.

[١٠] (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠))

(إِنَ) المحجوبين (الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) من قلوب أهل الشهود ونفوسهم بالإنكار والاحتقار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي : بقوا في الحجاب ولم يستبصروا فيرجعوا (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : من تأثيرنا والطبيعة السفلية (وَلَهُمْ عَذابُ) حريق القهر من نار الصفات فوق نار الآثار وذلك لشوقهم عند خراب البدن إلى أنوار الصفات في عالم القدس وحرمانهم وطردهم بقهر الحق فعذبوا بالنارين جميعا.

[١١] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العيني الحقيّ (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في مقام الاستقامة من الأفعال الإلهية المقتضية لتكميل الخلق وضبط النظام (لَهُمْ جَنَّاتٌ) من الجنان الثلاث (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم توحيد الأفعال والصفات والذات وأحكام تجلياتها (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) التامّ الذي لا فوز أكبر منه.

[١٢ ـ ١٦] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) بالقهر الحقيقي والإفناء (لَشَدِيدٌ) لا يبقي بقية ولا أثرا (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) البطش (وَيُعِيدُ) أي : يكرره ، يبدئ أولا بإفناء الأفعال ثم يعيد بإفناء الصفات ثم بالذات (وَهُوَ الْغَفُورُ) يستر ذنوب وجودات المحبين وبقاياهم بنوره (الْوَدُودُ) للمحبوبين بإيصالهم إلى جنابه وتنعيمهم وإكرامهم بكمالاته من غير رياضة (ذُو الْعَرْشِ) أي : المستوي على عرش قلوب أحبائه من العرفاء (الْمَجِيدُ) ذو العظمة المتجلي بصفات الكمال من الجمال والجلال (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) على مظاهرهم لاستقامتهم فيختارون اختياره في أفعالهم أو يحجب من يريد بجلاله كالمنكرين ويتجلى لمن يريد بجماله كالعارفين.

[١٧ ـ ٢٢] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١))

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) المحجوبين إما بالأنائية كفرعون ومن يدين بدينه أو بالآثار والأغيار كثمود ومن يتصل بهم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا مطلقا في أي مقام كان وبأي شيء كان (فِي تَكْذِيبٍ) لأهل الحق لوقوفهم مع حالهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ) فوق حالهم وحجابهم

(مُحِيطٌ) يسع كل شيء وهم حصروه في شاهدهم وما شاهدوا إحاطته فلذلك أنكروا (بَلْ هُوَ) أي : هذا العلم (قُرْآنٌ) جامع لكل العلوم (مَجِيدٌ) لعظمته وإحاطته.

(فِي لَوْحٍ) هو القلب المحمدي (مَحْفُوظٍ) عن التبديل والتغيير وإلقاء الشياطين بالتخييل والتزوير هذا إذا حمل اليوم الموعود على القيامة الكبرى ، فأما إذا أوّل بالصغرى فمعناها : الروح ذات الأبدان للأرواح كالأبراج أو الحواس فإنها تخرج منها كالحمام من البروج وشاهد لعلمه وما عمل. وجواب القسم ليهلكنّ البدنيون ، قتل أصحاب الأخدود ، أي : أهلك القوى النفسانية الملازمة لأخدود البدن إذ هم عليها عاكفون وهم على ما يفعلون بمؤمني القوى الروحانية من الاستيلاء عليهم وحجبهم عن مقاصدهم الشريفة وكمالاتهم النفيسة واستعبادهم في أهوائهم وشهواتهم شهود بألسنة أحوالهم وما أنكر هذه القوى المحجوبة عن الكمالات المعنوية من الروحانيين إلا الإيمان بالله المجرّد عن الأين والجهة الغالب على المحجوبين بالقهر الحميد المنعم على المهتدين بالهداية المحتجب بظواهر ملك السموات والأرض الشهيد الظاهر على كل شيء. إن هؤلاء الفاتنين بالاستيلاء والاستخدام لمؤمني العقول ومؤمنات النفوس ثم لم يرجعوا بالرياضة واكتساب الملكات الفاضلة والانقياد لهم فلهم عذاب جهنم الآثار والطبيعة وعذاب حريق الشوق إلى المألوفات مع الحرمان عنها.إن الذين آمنوا الإيمان العلمي من الروحانيين وعملوا الصالحات من الفضائل والأخلاق الحميدة لهم جنّات من جنان الأفعال والصفات وهي جنات النفوس والقلوب. ذلك الفوز أي : النجاة من النار والوصول إلى المقصود الكبير بالنسبة إلى الحالة الأولى ، إن بطش ربك أي : أخذه للمحجوبين بالإهلاك والتعذيب لشديد ، فإنه هو يبدئهم ويهلكهم ثم يعيدهم للعذاب وهو الغفور للتائبين المؤمنين من الروحانيين يستر لهم ذنوب هيئات السوء بنور الرحمة الودود لهم بالمحبة الأزلية فيكرمهم بإفاضة الكمالات والفضائل ، ذو العرش المستولي على القلب المجيد المنوّر بنوره جميع القوى ، فعال لما يريد ، المتجلي بالأفعال على مظاهر الملك للقلب فيصحح مقام التوكل بالفناء في توحيد الأفعال ، والله تعالى أعلم.

سورة الطارق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أي : والروح الإنساني والعقل الذي يظهر في ظلمة النفس وهو النجم الذي يثقب ظلمتها وينفذ فيها فيبصر بنوره ويهتدي به كما قال : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١).

[٤ ـ ٨] (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨))

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) مهيمن رقيب يحفظها وهو الله تعالى ، إن أريد بالنفس الجملة وإن أريد بها النفس المصطلح عليها من القوة الحيوانية فحافظها الروح الإنساني (إِنَّهُ) أي : إنّ الله على رجع الإنسان في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى.

[٩ ـ ١٠] (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) تظهر وتعرف خفيات الضمائر بالمفارقة عن الأبدان وجعل الباطن ظاهرا (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) في نفسه يمتنع بها على قدرته (وَلا ناصِرٍ) يمنعه وينصره على الامتناع.

[١١ ـ ١٢] (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢))

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي : والروح ذات الرجع في النشأة الثانية (وَالْأَرْضِ) أي : والبدن (ذاتِ الصَّدْعِ) بالانشقاق عن الروح وقت زهوقه أو الشقّ وقت اتصاله به.

[١٣ ـ ١٧] (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

(إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فارق بين الحق والباطل بين أي عقل فرقاني ظهر بعد ما كان قرآنيا (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب والله القادر ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٦.

سورة الأعلى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) اسمه الأعلى والأعظم هو الذات مع جميع الصفات ، أي : نزّه ذاتك بالتجرّد عما سوى الحق وقطع النظر عن الغير ليظهر عليها الكمالات الحقانية بأسرها ، وهو تسبيحه الخاص به في مقام الفناء لأن الاستعداد التام القابل لجميع الصفات الإلهية لم يكن إلا له ، فذاته هو الاسم الأعلى عند بلوغ كماله ولكل شيء تسبيح خاص يسبح به اسما خاصا من أسماء ربّه.

[٢] (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢))

(الَّذِي خَلَقَ) أنشأ ظاهرك (فَسَوَّى) أي : عدل بنيتك على وجه قبلت بمزاجه الخاص الروح الأتم المستعدّ لجميع الكمالات.

[٣] (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣))

(وَالَّذِي قَدَّرَ) فيك الكمال النوعي التام (فَهَدى) إلى إبرازه وإظهاره وإخراجه إلى الفعل بالتزكية والتصفية.

[٤] (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤))

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي : زينة الحياة الدنيا ومنافعها ومآكلها ومشاربها فإنها مرعى النفس الحيوانية ومرتع بهائم القوى.

[٥] (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي : سريع الفناء وشيك الزوال كالهشيم والحطام البالي المسودّ فلا تلتفت إليه ولا تشتغل به فيمنعك عن تسبيحك الخاص من تنزيه ذاتك وتجريدها فتحتجب به عن كمالك المقدّر فيك ولا تعد عيناك عنه إليه ، فإنه الفاني وذلك هو الباقي أبدا لا يزال.

[٦ ـ ٧] (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧))

(سَنُقْرِئُكَ) نجعلك قارئا لما في كتاب استعدادك الذي هو العقل القرآني من القرآن الجامع للحقائق فتذكره ولا تنساه أبدا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسيك ويذهلك عنها فيدخر

للمقام المحمود إذا بعثت فيه (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي : ما ظهر فيك من الكمال (وَما يَخْفى) بعد بالقوة.

[٨] (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨))

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي : نوفقك للطريقة اليسرى أي : الشريعة السمحة السهلة التي هي أيسر الطرق إلى الله وهو عطف على سنقرئك أي : نكلمك بالكمال العلمي والعملي التام وفوق التام الذي هو التكميل وهي الحكمة البالغة والقدرة الكاملة.

[٩ ـ ١٠] (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠))

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : كمل الخلق بالدعوة إن كانوا قابلين مستعدّين لقبول التذكرة فتنفعهم ، يعني : أن التذكير وإن كان عاما لا ينفع الخلق كلهم بل هو مشروط بشرط الاستعداد ، فمن استعدّ قبل انتفع به ، ومن لا فلا ، أجمل في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ، ثم فصّل بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي : يتذكر ويتعظ وينتفع به من كان لين القلب سليم الفطرة مستعدا لقبوله يتأثر به لنوريته وصفائه.

[١١ ـ ١٣] (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) أي : يتحاماه المحجوب عن الربّ ، العديم الاستعداد ، النائي القلب الذي هو أشقى من المستعدّ الذي زال استعداده واحتجب بظلمة صفات نفسه (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) التي هي نار الحجاب عن الربّ بالشرك والوقوف مع الغير ، ونار القهر في مقام الصفات ونار الغضب والسخط في مقام الأفعال ونار جهنم الآثار في المواقف الأربعة من موقف الملك والملكوت والجبروت وحضرة اللاهوت أبد الآبدين فما أكبر ناره. وأما الثاني فلا يصلى إلا بنار الآثار.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) لامتناع انعدامه (وَلا يَحْيى) بالحقيقة لهلاكه الروحاني أي : يتعذب دائما سرمدا في حالة يتمنى عندها الموت وكلما احترق وهلك أعيد إلى الحياة وعذب ، فلا يكون ميتا مطلقا ولا حيّا مطلقا.

[١٤ ـ ١٥] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥))

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي : فاز وظفر من تطهر عن صفات نفسه وظلمات بدنه بعد حصول استعداده (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي : الاسم الخاص الذي يريه به بإفاضة كماله الذي يسأل ربّه بلسان استعداده كالعليم للجاهل والهادي للضالّ والغفار للمذنب وهو في الحقيقة عين ذاته

التي غفل هو عنها بحجاب الآثار والهيئات وصفات النفس وسائر الظلمات ، كما قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١). وذكره تعرفه وطلب كماله المخصوص به بالتأييد الرباني والتوفيق الإلهي (فَصَلَّى) فعبد معبوده الذي هو الحق المتجلي له في صورة ذلك الاسم الخاص الذي يعرف ربّه به بعد رؤيته بكماله المقدّر له.

[١٦ ـ ١٧] (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧))

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : تغفلون وتحتجبون عن ذكر ذلك الاسم وصلاة الربّ بالحياة الحسية وطيباتها وزخارفها لعدم التزكية وتؤثرونها بالمحبة على الحياة الحقيقية الدائمة الروحانية وهي أفضل وأدوم.

[١٨ ـ ١٩] (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(إِنَّ هذا) المعنى من انتفاع المستعدّ بالتذكير وعدم انتفاع العديم الاستعداد وتعذّبه بالنار الكبرى وفلاح أهل التزكية والتحلية من المستعدّين وهلاك المؤثرين للحياة الحسيّة منهم (لَفِي الصُّحُفِ) القديمة المنزّهة عن التبديل والتغيير المحفوظة عند الله من الألواح النورية المجرّدة التي اطلع عليها النبيان المذكوران ونزل عليهما الظهور على مظاهرها والسلام ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية : ١٩.

سورة الغاشية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها أي : القيامة الكبرى التي تغشى الذوات وتفنيها بنور التجلي الذاتي ، فينكشف الناس يوم إذ غشيت على من غشيته منقسمين أشقياء وسعداء ، والصغرى التي تغشى العقل بشدّة السكرات وتلبس المغشي أهوالها فيكون الناس يوم إذ غشيتهم إما أشقياء وإما سعداء.

[٢ ـ ٥] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : ذوات (خاشِعَةٌ) أي : ذليلة خائفة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها كالهويّ في دركات النار والارتقاء في عقباتها وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا وإتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب (تَصْلى ناراً) من نيران آثار الطبيعة (حامِيَةً) مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) من الجهل المركب الذي هو مشربهم والاعتقاد الفاسد المؤذي.

[٦ ـ ٧] (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الشبه والعلوم الغير المتنفع بها المؤذية كالمغالطات والخلافيات والسفسطة وما يجري مجراها (لا يُسْمِنُ) أي : لا يقوّي النفس (وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ولا يسكن داعية النفس ونهم الحرص على تعلمها والمباحثة عنها ويمكن أن يحشر بعض الأشقياء على صور طعامهم الشبرق اليابس كالزقوم لبعضهم والغسلين لبعضهم.

[٨ ـ ١٦] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) تظهر عليها نضرة النعيم من اللطافة والنورية لتجرّدهم (لِسَعْيِها) وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل والسير في الله (راضِيَةٌ) شاكرة لا تندم ولا تتحسر

ولا تتجرّد عما فعلت كالأولى (فِي جَنَّةٍ) من جنان الصفات وحضرة القدس (عالِيَةٍ) رفيعة القدر من علوّ المكانة (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) لأن كلامهم الحكمة والمعرفة والتسبيح والتحميد (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) من عيون مياه علوم المعارف والذوق والكشف والوجدان والتوحيد (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) من مراتب الأسماء الإلهية التي بلغوها بالاتصاف بصفاته رفعت قدرها عن مراتب الجسمانية (وَأَكْوابٌ) من أوصاف الذوات المجرّدة ومحاسنها التي هي ظروف خمور المحبة (مَوْضُوعَةٌ) لثباتها على حالها في محالها (وَنَمارِقُ) من مقاماتهم ومقاعدهم في مراتب الصفات ، فإن لكل صفة من ابتداء تجليها وطوالع أنوارها وكونها حالا إلى كمال الاتصاف بها وكونها ملكا ومقاما مواضع أقدام ومقاعد فإذا استوفى السالك حظه منها بحسب استعداده وبلغ غاية مبلغه حتى تمّ سيره فيها وصارت ملكا له كان مقامه منها نمرقة على تلك الأريكة التي هي موضع ذلك الوصف مع الذات (مَصْفُوفَةٌ) مرتبة (وَزَرابِيُ) من مقامات تجليات الأفعال التي تحت مقامات الصفات كالتوكل تحت الرضا (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة تحتهم.

[١٧ ـ ٢٠] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى الآثار الظاهرة بالحس فيعتبرون ويعبرون عنها إلى تجلي الوصل إلى تجلي الصفات.

[٢١ ـ ٢٤] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤))

(فَذَكِّرْ) عسى أن يكون فيهم مستعدّ يتذكر ويتعظ فيترقى في السلم المنخلعة إلى جناب الحق لا من أعرض واحتجب بهذه الآثار عن المؤثر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو النار الكبرى المشار إليها في سورة (الأعلى) المعدّة للمحجوب المطلق في جميع مراتب الوجود وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) اعتراض أي : ما إليك إلا التذكير لا الغلبة والقهر كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٢).

[٢٥ ـ ٢٦] (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي : خاصة إلينا إيابهم لا إلى غيرنا ، فإنّا نحاسبهم ونعذبهم بالعذاب الأكبر فإن القهر والغلبة لنا لا لك.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة ق ، الآية : ٤٥.

سورة الفجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)) أقسم بابتداء ظهور نور الروح على مادة البدن عند أول أثر تعلقه به (وَلَيالٍ عَشْرٍ) ومحال الحواس العشرة الظاهرة والباطنة التي تتعين عند تعلقه به لكونها أسباب تحصيل الكمال وآلاتها (وَالشَّفْعِ) أي : الروح والبدن عند اجتماعهما وتمام وجود الإنسان الذي يمكن به الوصول (وَالْوَتْرِ) أي : الروح المجرّد إذا فارق.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي : ظلمة البدن إذا ذهبت وزالت بتجرّد الروح فيكون الإقسام بالمبتدأ والمنتهى أو بالقيامة الكبرى وآثارها أي : والفجر الذي هو مبتدأ طلوع نور الحق وتأثيره في ليلة النفس وليال عشر من الحواس الراكدة الهادئة المظلمة المتعطلة عن أشغالها عند تجلي النور الإلهي والشفع الذي هو الشاهد والمشهود قبل تجلي الفناء التام حال المشاهدة في مقام الصفات ، والوتر أي : الذات الأحدية عند الفناء التام وارتفاع الاثنينية ، والليل أي : ظلمة الأنانية إذا ذهبت وزالت بزوال البقية أو بالقيامة الصغرى أي : فجر ابتداء ظهور نور الشمس الطالعة من مغربها. وليال عشر أي : الحواس المتكدّرة المظلمة عند الموت ، والشفع أي : الروح والبدن ، والوتر أي : الروح المفارق إذا تجرّد ، والليل إذا يسر ، والبدن إذا انقشع ظلامه عن الروح وزوال بالموت.

[٥ ـ ١٤] (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩))

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) استفهام في معنى الإنكار ، أي : هل عاقل يهتدي إلى الإقسام بهذه الأشياء ووجه تعظيمها بالقسم بها وحكمة انتظامها في قسم واحد وتناسبها فإن عقول أهل الدنيا المشوبة بالوهم لا تهتدي إلى ذلك. وجواب القسم ليعذبن المحجوبون لدلالة قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) إلى قوله : (لَبِالْمِرْصادِ) عليه أو في معنى التقرير أي : إنما يهتدي إلى ذلك أولو الألباب الصافية المجرّدة عن شوب الوهم. وجواب القسم :

ليثابنّ العقلاء المعتبرون بحال المحجوبين دونهم.

[١٥ ـ ٢٠] (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩))

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي : الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمانلقوله : «الإيمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر» ، لأن الله تعالى لا يخلو من أن يبتليه إما بالنعم والرخاء فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول : إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده ، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال ويمنع المستحقين ، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول : إن الله أهانني ، فربما كان ذلك إكراما له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق كما أن الأول ربما كان استدراجا منه.

[٢١ ـ ٢٢] (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢))

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي : البدن بالموت (دَكًّا دَكًّا) متفتتا (وَجاءَ رَبُّكَ) أي : ظهر في صورة القهر لمن برز عن حجاب البدن بالمفارقة (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي : ظهر تأثير الملائكة من النفوس السماوية والأرضية المترتبة في مراتبهم في تعذيبه بعد ما كان محتجبا عنهم بشواغل البدن.

[٢٣ ـ ٢٦] (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي : برزت نار الطبيعة وأحضرت للمعذبين.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) خلاف ما اعتقده في الدنيا وصار هيئة في نفسه من مقتضيات فطرته فإن ظهور الباري بصفة القهر والملائكة بصفة التعذيب لا يكون إلا لمن اعتقد خلاف ما ظهر عليه مما هو في نفس الأمر كالمنكر والنكير (وَأَنَّى لَهُ) فائدة (الذِّكْرى) ومنفعته فإن الاعتقاد الراسخ يمنع نفع هذا التذكير.

[٢٧ ـ ٢٨] (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨))

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) التي نزلت عليها السكينة وتنوّرت بنور اليقين فاطمأنت إلى الله من الاضطراب (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) في حال الرضا ، أي : إذا تمّ لك كمال الصفات فلا

تسكني إليه وارجعي إلى الذات في حال الرضا الذي هو كمال مقام الصفات والرضا عن الله لا يكون إلا بعد رضا الله عنها ، كما قال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١).

[٢٩ ـ ٣٠] (فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في زمرة عبادي المخصوصين بي من أهل التوحيد الذاتي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) المخصوصة بي أي : جنّة الذات وقرئ في عبدي وقرئ في جسد عبدي أي : حالة البعث والنشور وردّ الأرواح إلى الأجساد ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١١٩.

سورة البلد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣)) أقسم بالبلد الحرام الذي هو البلد القدسي النازل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الأفق الأعلى والوادي المقدّس (وَأَنْتَ حِلٌ) مطلق (بِهذَا الْبَلَدِ) تفعل به ما تشاء غير مقيد بقيود صفات النفس والعادات (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي : روح القدس الذي هو الأب الحقيقي للنفوس الإنسانية كقول عيسى عليه‌السلام : «إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي» ، وقوله : «تشبّهوا بأبيكم السماويّ». ونفسك التي ولدها هو أي : بروح القدس ونفسك الناطقة.

[٤] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي) مكابدة ومشقة من نفسه وهواه أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

[٥ ـ ٧] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧))

(أَيَحْسَبُ) لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا ، أي : في المكارم للافتخار والمباهاة كقول العرب : خسرت عليه كذا ، إذا أنفق عليه يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله ولهذا قال : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي : أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة.

[٨ ـ ١٠] (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال ليبصر ما يعتبر به ويسأل عما لا يعلم ويتكلم فيه (وَهَدَيْناهُ) إلى طريقي الخير والشر.

[١١ ـ ١٧] (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧))

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي : عقبة النفس وهواها الحاجبة للقلب بالرياضة والمجاهدة ، وأي عقبة كؤود هي لا يدري كنه مشقتها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي : العقبة التي يجب اقتحامها تخليص رقبة القلب الأسير في قيد هوى النفس وفكها عن أسرها بالتجريد عن الميول الطبيعية بالكلية فإن لم يكن الفك بالكلية بالرياضة وإماتة القوى وقهر النفس فتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طباعا وهو معنى قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) إلى قوله : (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فإن الإطعام خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق الذي هو وضع في موضعه من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها وهو الإيمان العلمي اليقيني والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة وأخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين ، والمرحمة أي : التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة فانظر كيف عدد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخص خصالها الذي هو السخاء ، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس وجاء بلفظة ثم لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ وعبر عن الحكمة به لكونه أم سائر مراتبها وأنواعها ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين وأخر العدالة التي هي نهايتها واستغنى بذكر المرحمة التي هي صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

[١٨ ـ ٢٠] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : الموصوفون بهذه الفضائل هم السعداء أصحاب اليمن وسكان عالم القدس (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي : حجبوا عن هذه الصفات التي هي آيات الله الحقيقية التي تعرف بها ذاته (هُمْ أَصْحابُ) الشؤم وسكان عالم الرجس (عَلَيْهِمْ) تستولي نار الطبيعة الآثارية مطبقة عليهم أبوابها محبوسين فيها ممنوعين عن الروح والمراتب أبد الآبدين ، والله أعلم.

سورة الشمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١))

(وَالشَّمْسِ) أقسم بشمس الروح وضوئها المنتشر في البدن الساطع على النفس.

[٢] (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢))

(وَالْقَمَرِ) أي : قمر القلب إذا تلى الروح في التنوّر بها وإقباله نحوها واستضاءته بنورها ولم يتبع النفس فينخسف بظلمتها.

[٣] (وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣))

(وَالنَّهارِ) ونهار استيلاء نور الروح وقيام سلطانها واستواء نورها (إِذا جَلَّاها) وأبرزها في غاية الظهور كالنهار عند الاستواء في تجلية الشمس.

[٤] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤))

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي : ليل ظلمة النفس إذا سترت الروح فإن وجود القلب الذي هو محل المعرفة وعرش الرحمن لا يكون إلا بامتزاج نور الروح وظلمة النفس كأنه موجود مركب منهما متولد من اجتماعهما ولو لا ظلمة النفس لم تستبن المعاني في القلب ، فلم تضبط كما في حيز الروح لغاية صفائها ونوريتها وإن كانت الثلاثة حقيقة واحدة تختلف أسماؤها بحسب اختلاف مراتبها.

[٥] (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥))

(وَالسَّماءِ) أي : الروح الحيوانية التي هي سماء هذا الوجود والقادر الذي بناها.

[٦] (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦))

(وَالْأَرْضِ) أي : البدن والخالق الذي طحاها.

[٧] (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧))

(وَنَفْسٍ) أي : القوة الحيوانية المنطبعة في الروح الحيوانية المسماة باصطلاح أهل الشرع والتصوّف النفس مطلقا أو الجملة أو النفس الناطقة والحكيم الذي (سَوَّاها) عدّلها بين

جهتي الربوبية والسفالة لا في ظلمة الجسم وكثافته ولا في ضوء الروح ولطافته كما قال : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) (١) على الأول ، وعدّل مزاجها وتركيبها على الثاني ، وأعدّها لقبول الكمال ووسطها بين العالمين على الثالث.

[٨] (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي : أفهمها إياهما وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.

[٩] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩))

(قَدْ أَفْلَحَ) بالوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى (مَنْ زَكَّاها) وطهرها.

[١٠ ـ ١٥] (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وأخفاها في تراب البدن عن نور الحق ورحمته وجواب القسم محذوف ، أي : ليهلكنّ المحجوبون المكذبون للنبي بطغيانهم كما أهلكت ثمود لتكذيبهم نبيهم بطغيانهم لعدم قبول ذلك الإلهام وبقائهم على الفجور واحتجاب العقل واستيلاء ظلمة النفس وقد مرّ تأويل الناقة وسقياها والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٣٥.

سورة الليل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)) أقسم بليل ظلمة النفس إذا ستر نور الروح وبنهار نور الروح (إِذا تَجَلَّى) فظهر من اجتماعهما وجود القلب الذي هو عرش الرحمن فإن القلب يظهر باجتماع هذين له وجه إلى الروح يسمى الفؤاد يتلقى به المعارف والحقائق ووجه إلى النفس يسمى الصدر يحفظ به السرائر ويتمثل فيه المعاني والقادر العظيم القدرة الحكيم الباهر الحكمة الذي (خَلَقَ الذَّكَرَ) الذي هو الروح (وَالْأُنْثى) التي هي النفس فولد القلب.

[٤ ـ ٧] (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧))

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أشتات مختلفة لانجذاب بعضكم إلى جانب الروح والتوجه إلى الخير لغلبة النورية وميل بعضكم إلى جانب النفس والانهماك في الشر لغلبة الظلمة وتفصيل ذلك في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي : آثر الترك والتجريد فرفض ما يشغله عن الحق وتركه بالسهولة واتقى عن هيئات النفس فجرّدها عن الميل إلى ما رفض والالتفات نحوه (وَصَدَّقَ) بالفضيلة (بِالْحُسْنى) التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلمي إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي : فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى التي هي السلوك في الله لقطع علائقه وقوة يقينه.

[٨ ـ ١٠] (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠))

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) آثر محبة المال وجمعه ومنعه واستغنى به عن كسب الفضيلة لاحتجابه به عن الحق (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بوجود مرتبة الكمال والفضيلة لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم النور والآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) فسنهيئه بالخذلان للطريقة العسرى التي هي الانحطاط عن رتبة الفطرة إلى قعر الطبيعة ودركات أسفل سافلين مأوى الحشرات والديدان والحيلولة بينه وبين شهواته بالحرمان.

[١١] (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) الذي تعب في تحصيله وأفنى عمره في حفظه (إِذا تَرَدَّى) إذا وقع في قعر بئر جهنم وعمق الهاوية وهلك.

[١٢ ـ ١٣] (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣))

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) بالإرشاد إلينا بنور العقل والحسّ والجمع بين الأدلة العقلية والسمعية والتمكين على الاستدلال والاستبصار.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي : نعطيهما من توجه إلينا فلا نحرم التارك المجرّد عن ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة فإن من آثر الأشرف يكون الأخس تحت قدمه بالضرورة كقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١).

[١٤ ـ ١٥] (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥))

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي : نارا عظيمة يبلغ لظاها جميع مراتب الوجود وهي النار الكبرى الشاملة للحجاب والقهر والسخط والتعذيب بالآثار ، ولهذا قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) العديم الاستعداد ، الخبيث الجوهر ، المشرك بالله في المواقف الأربعة.

[١٦ ـ ١٧] (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧))

(الَّذِي كَذَّبَ) بالله لشركه (وَتَوَلَّى) وأعرض عن الدين لعناده (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي : يتحاماها ويبعد عنها في جميع مراتبها (الَّذِي) اتقى ما عدا الله من ذاته وصفاته وأفعاله وكل شيء من الأغيار والآثار بالاستغراق في عين الجمع وهو الأتقى المطلق الذي لم يقف مع غير الله فيوقف على الله ويعذب ببعض النيران. وأما التقي فقد لا يجنب جميع مراتبها كالمتجرّد من الهيئات والأفعال ، الواقف مع الصفات فإنه وإن كان مغفورا ذنوبه فقد حرم عن روح الذات ولذة المقرّبين في حجاب وجوده.

[١٨] (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨))

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) الذي يعطيه في حالة كونه متطهرا عن لوث محبة الأنداد وتعلق الأغيار والالتفات إلى ما سوى الله والاشتغال به مزكيا نفسه عن الشرك الخفي.

[١٩ ـ ٢٠] (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠))

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي : لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) باجتناب ما عداه ولكونه على أعلى مراتب التقوى لأن الله تعالى بحسب كل اسم له

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

وجه يتجلى به لمن يدعوه بلسان حاله بذلك الاسم ويعبده باستعداده والوجه الأعلى هو الذي له بحسب اسمه الأعلى الشامل لجميع الأسماء وإن جعلته وصفا لربّه ، فالرب هو ذلك الاسم.

[٢١] (وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) بالوصول إليه في عين الجمع والشهود الذاتي ثم مشاهدة ذلك الوجه في مقام التفصيل حال البقاء بعد الفناء لاستدعاء الرضا وجوده مع الوصف ، والله تعالى أعلم.

سورة الضحى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)) أقسم بالنور والظلمة الصرفة (....) (١) حالها الذين هما أصل الوجود الإنساني وجماع الكونين على أن ربك ما تركك ترك مودّع في عالم النور وحضرة القدس مع بقاء المحبة والشوق في مقام الصفات محجوبا عن الذات ، فإنّ المودع لا بدّ له من محبة وشوق (وَما قَلى) أي : وما قلاك في عالم الظلمة والوقوف مع الكون بلا محبة وشوق في مقام النفس محجوبا عن الربّ وصفاته وأفعاله ترك قال مبغض وذلك أن المحبوب الذي يسبق كشفهاجتهاده إذا كوشف بالتوحيد الذاتي ورفع غطاؤه ليعشق ردّ إلى الحجاب وسدّ طريقه إلى حضرة تجلي الذات ليشتدّ شوقه ويلطف سرّه وتذوب أنائيته بنار الشوق ثم فتح طريقه ورفع حجابه بالكلية وكوشف بالحق الصرف ليكون ذوقه أتم وكشفه أكمل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الاحتجاب يصعد الجبال ليرمي بنفسه فإذا نفدت طاقته رفع الحجاب ونزل.

[٤ ـ ٥] (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))

(وَلَلْآخِرَةُ) أي : وللحالة الآخرة التي هي التجلي بعد الاحتجاب واشتداد الشوق (خَيْرٌ لَكَ مِنَ) الحالة (الْأُولى) لا منك في الحالة الثانية عن التلوين بوجود البقية وظهور الأنانية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) الوجود الحقاني لهداية الخلق والدعوة إلى الحق بعد هذا الفناء الصرف (فَتَرْضى) به حيث ما رضيت بالوجود البشري والرضا لا يكون إلا حال الوجود.

[٦ ـ ٨] (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨))

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) منفردا محجوبا بصفات النفس عن نور أبيك الحقيقي الذي هو روح القدس منقطعا عنه ضائعا (فَآوى) أي : فأواك إلى جنابه وربّاك في حجر تربيته وتأديبه وكفلك أباك ليعلمك ويزكيك (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن التوحيد الذاتي عند كونك في عالم أبيك محتجبا بالصفات عن الذات فهداك بنفسه إلى عين الذات (وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا عديما فانيا فيه بالفقر

__________________

(١) طمس رسم الكلمة في المطبوعة.

الذي هو سواد الوجه في الدارين الذي هو الفناء المحض بعد الفقر الذي هو فخره أي : فناء الصفات كما قال : «الفقر فخري» فأغناك بما أعطاك من الوجود الموهوب الموصوف بصفات الكمال الحقانيّ المتخلق بالأخلاق الربانية ، فإذا تم كمالك فتخلق بأخلاقي وافعل بعبادي ما فعلت بك لتكون عبدا شكورا أي : قائما بشكر نعمتي.

[٩ ـ ١١] (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ) أي : المنفرد المنكسر القلب ، المنقطع عن نور القدس ، المحتجب بحجاب النفس (فَلا تَقْهَرْ) والطف به بالمداراة والرفق وآوه إلى نفسك بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة كما آويتك (وَأَمَّا السَّائِلَ) أي : المستعدّ المحجوب الضالّ عن طريق مقصده الطالب إياه (فَلا تَنْهَرْ) ولا تمنعه عن السؤال واهده كما هديتك (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) من العلم والحكمة الفائض عليك في مقام البقاء (فَحَدِّثْ) بتعليم الناس وإغنائهم بالخير الحقيقي كما أغنيتك ، والله تعالى أعلم.

سورة الانشراح

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤))

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) استفهام بمعنى إنكار انتفاء الشرح ليفيد ثبوته ، أي : شرحنا لك صدرك وذلك لأن الموحد في مقام الفناء محجوب بالحق عن الخلق لفنائه وضيق الفاني عن كل شيء إذ العدم لا يقبل الوجود كما كان قبل الفناء محجوبا بالخلق عن الحق لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبول وجود التجلي الذاتي الإلهي ، فإذا ردّ إلى الخلق بالوجود الحقاني الموهوب ورجع إلى التفصيل وسع صدره الحق والخلق لكونه وجودا حقيا وذلك انشراح الصدر أي : شرحناه بنورنا للدعوة والقيام بحقائق الأنباء والوزر الذي يحمل ظهره على النقيض وهو صوت الكسر ، أي : يكسره بثقله هو وزر النبوّة والقيام بأعبائها لأنه في مقام الشهود لم يجد للخلق وجودا فضلا عن الفعل ولم يفرق بين فعل وفعل لشهوده لأفعاله تعالى ، فكيف يثبت خيرا وشرّا ويأمر وينهى وهو لا يرى إلا الحق وحده فإذا ردّ إلى مقام النبوة عن مقام الولاية وحجب بحجاب القلب ثقل ذلك عليه وكاد أن يقصم ظهره لاحتجابه عن الشهود الذاتي حينئذ ، فوهب التمكين في مقام البقاء حتى لم يحتجب بالكثرة عن الوحدة وشاهد الجمع في عين التفصيل ، ولم يغب عن شهوده بالدعوة وذلك هو شرح الصدر وهو بعينه وضع الوزر المذكور ورفع الذكر لأن الفاني في الجمع لا يكون شيئا فضلا عن أن يكون مذكورا ، ولو بقي في عين الجمع لما صح محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قولنا : لا إله إلا الله لفنائه ولما تمّ الإسلام لصحته بهما.

[٥ ـ ٦] (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦))

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أي : الاحتجاب الأول بالخلق عن الحق (يُسْراً) وأيّ يسر هو كشف الذات ومقام الولاية (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أي : الاحتجاب الثاني بالحق عن الخلق (يُسْراً) وأيّ يسر هو شرح الصدر بالوجود الموهوب الحقاني ومقام النبوة.

[٧ ـ ٨] (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

(فَإِذا فَرَغْتَ) عن السير بالله وفي الله وعن الله (فَانْصَبْ) في طريق الاستقامة والسير إلى الله واجتهد في دعوة الخلق إليه (فَارْغَبْ) خاصة في الدعوة إليه ، أي : لا ترغب إلا إلى ذاته دون ثواب أو غرض آخر لتكون دعوتك وهدايتك به إليه وإلا لما كنت قائما به مستقيما إليه به بل زائغا عنه قائما بالنفس ، والله تعالى أعلم.

سورة والتين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣))

(وَالتِّينِ) أي : المعاني الكلية المنتزعة عن الجزئيات التي هي مدركات القلب ، شبّهها بالتين لكونها غير مادية معقولة صرفة مطابقة لجزئياتها مقوية للنفس لذيذة كالتين الذي لا نوى له بل هو لبّ كله مشتمل على حبات كالجزئيات التي هي في ضمن الكليات ، مسمن للبدن فيه غذائية وتفكه (وَالزَّيْتُونِ) أي : المعاني الجزئية التي هي مدركات النفس شبهها بالزيتون لكونها مادية معدّة للنفس لإدراك الكليات كالزيتون الذي له نوى وهو دابغ لآلات الغذاء مثله (وَطُورِ سِينِينَ) أي : الدماغ الذي هو معدن الحس والتخيل المرتفع من أرض البدن كالجبل (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي : القلب الحافظ ما فيه من المعاني الكلية أو المأمون فساده وفناؤه لتجرّده عن اختلاف الاشتقاق من الأمانة والأمن.

أقسم بما يحصل به كمال الإنسان ووجوده من المعاني الكلية والجزئية والقلب والنفس أي : المدركين ومدركاتهما تعظيما للإنسان وإظهارا لشرفه وتكريما على أنه خلق الإنسان.

[٤] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤))

(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي : تعديل من جمع الظلمة والنور فيه والجمع بين الأضداد والموافقة بينها وجعله واسطة بين العالمين جامعا لهما ، وتسوية خلقه وخلقه وتحسين صورته ومعناه : في أعدل مزاج وأكمل نوع وأفضل مخلوق.

[٥] (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥))

(ثُمَّ رَدَدْناهُ) لاحتجابه بالظلمة عن النور والوقوف مع رذائل الأخلاق والإعراض عن الفضائل (أَسْفَلَ) من سفل خلقا ورتبة من أهل الدركات ، وأقبح من قبح صورة وتركيبا وأشوهه خلقة وشكلا ومنظرا وهم أصحاب النار في سجين الطبيعة.

[٦ ـ ٧] (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧))

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بتغليب نور القلب على ظلمة النفس والكلي عن الجزئي ، وكسبوا

الفضائل والخيرات أي : حصلوا الكمال العملي والعملي فإنهم في درجات عالية من عالم القدس (فَلَهُمْ أَجْرٌ) من ثواب جنات القلوب والنفوس (غَيْرُ مَمْنُونٍ) لاتصال مدده من عالم القدس وبراءته عن الكون والفساد وأبدية وجوده ، فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء أيها الإنسان بأن تكذب به فتكون كاذبا بعد وقوفك على هذا الخلق العجيب الجامع لمراتب الوجود أسفلها وأعلاها الحاصر لكمالات الكونين أشرفهما وأخسّهما.

[٨] (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فيحكم عليه بالوقف في أي مرتبة من المراتب شاء في وأعلاها فيثيبه أو أسفلها فيعاقبه.

سورة العلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٨] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزلت في أول رتبة ردّه عليه‌السلام عن الجمع إلى التفصيل ولهذا قيل : هي أول سورة نزلت من القرآن ، ومعنى الباء في باسم : الاستعانة كما في قوله : كتبت بالقلم ، لأنه إذا رجع إلى الخلق عن الحق كان موجودا بالوجود الحقاني بعد الفناء عن وجوده موصوفا بصفاته ، فكان اسما من أسمائه لأن الاسم هو الذات مع الصفة ، أي : اقرأ بالوجود الذاتي الذي هو اسمه الأعظم فهو الآمر باعتبار الجمع والمأمور باعتبار التفصيل ولهذا وصف الربّ ب (الَّذِي خَلَقَ) أي : احتجب بصورة الخلق ، يعني ظهرت بصورتك فقم بي في صورة الخلق وارجع عن الحقية إلى الخلقية وكن خلقا بالحق. ولما ردّه إلى الخلقية في صورة الجمعية الإنسانية وأمره بالاحتجاب بها لتمكن الوحي والتنزيل والنبوّة خصّ الخلق بعد تعميمه بالإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ) باسم (رَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي : البالغ إلى النهاية في الكرم الذي لا يمكن فوق غايته كرم لجوده بذاته وصفاته وهب لك ذاته وصفاته فهو أكرم من أن يدعك فانيا في عين الجمع فلا يعوّض وجودك بنفسك شيئا ولو أبقاك على حال الفناء لم يظهر له صفة فضلا عن الكرم ، ومن قضية أكرميته أنه الذي آثرك بأشرف صفاته الذي هو العلم وما ادّخر عنك شيئا من كمالاته ، فلهذا وصف الأكرم ب (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : القلم الأعلى الذي هو الروح الأول الأعظم أي : علم بسببه وواسطته ثم لما كان في أول حال البقاء ولم يصل إلى التمكين أراد أن يمكنه ويحفظه عن التلوين بظهور أنائيته وانتحال صفة الله فقال : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي : لم يكن له علم فعلمه بعلمه ووهب له صفة عالميته لئلا يرى ذاته موصوفة بصفة الكمال فيطغى بظهور الأنانية ولهذا ردعه عن مقام الطغيان بقوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي : بسبب رؤيته نفسه مستغنيا بكماله (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) بالفناء الذاتي فلا ذات لك ولا صفة فارتدع عليه‌السلام متأدّبا بأدب حاله وقال : لست بقارئ ، أي ما أنا بقارئ إنما القارئ أنت.

[٩ ـ ١٤] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي) أي : المحجوب الجاهل المستغني بحاله وماله وقومه عن الحق (يَنْهى عَبْداً) أيّ عبد عن صلاة الحضور والعبادة في مقام الاستقامة بطغيانه (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) في شركه ودعوته إلى الشرك فرضا وتقديرا كما زعم أو (إِنْ كَذَّبَ) بالحق لكفره وأعرض عن الدين المستقيم لعناده وطغيانه كما هو في نفس الأمر (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ) يراه في الحالتين فيجازيه.

[١٥ ـ ١٨] (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨))

(كَلَّا) ردع عن النهي عن الصلاة وإثبات للقسم الثاني من الشرطية بنفي القسم الأول بالوعيد عليه (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عنه وعن نسبة الكذب والخطأ إليه على أبلغ وجه وآكده ، وبيان احتجابه بقومه واتكاله على قوتهم وغفلته عن قهر الحق وسخطه بتسليط الملكوت السماوية والأرضية الفعالة في عالم الطبيعة عليه التي لا يمكن أحدا مقاومتها.

[١٩] (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(كَلَّا لا تُطِعْهُ) أي : لا توافقه ودم على ما أنت عليه من مخالفته بملازمة التوحيد (وَاسْجُدْ) سجود الفناء في صلاة الحضور (وَاقْتَرِبْ) إليه بالفناء في الأفعال ثم في الصفات ثم في الذات أي : دم على حالة فنائك التام في مقام الاستقامة والدعوة حتى تكون في حالة البقاء به فانيا عنك ولا يظهر فيك تلوين بوجود بقية من إحدى الثلاث ، ولهذاقرأ عليه‌السلام في هذه السجدة : «أعوذ بعفوك من عقابك» أي : بفعل لك من فعل لك ، «وأعوذ برضاك من سخطك» أي : بصفة لك من صفة لك ، «وأعوذ بك منك» أي : بذاتك من ذاتك وهو معنى اقترابه بالسجود ، وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه إذا سجد» ، والله تعالى أعلم.

سورة القدر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ليلة القدر هي البنية المحمدية حال احتجابه عليه‌السلام في مقام القلب بعد الشهود الذاتي لأن الإنزال لا يمكن إلا في هذه البنية في هذه الحالة ، والقدر هو خطره عليه‌السلام وشرفه إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها ، ثم عظمها بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي : أيّ شيء عرفت كنه قدرها وشرفها.

[٣ ـ ٤] (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤))

(خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قد مرّ أن اليوم يعبر به عن الحادث كقوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) فلكل كائن يوم ، وإذا بنى على هذه الاستعارة كان كل نوع شهرا لاشتماله على الأيام والليالي اشتمال النوع على الأشخاص ، وكل جنس سنة لاشتمالها على الشهور اشتمال الجنس على الأنواع ، والألف هو العدد التام الذي لا كثرة فوقه إلا بالتكرار والإضافة ، فيكنى به عن الكل ، أي : هذا الشخص وحده خير من كل الأنواع. ثم بيّن وجه تفضيله وسبب خيريته فقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : القوة الروحانية والنفسانية بل الملكوت السماوية والأرضية والروح (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي : من جهة كل أمر هو معرفة جميع الأشياء ووجوداتها وذواتها وصفاتها وخواصها وأحكامها وأحوالها وتدبيرها وتسخيرها.

[٥] (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

(سَلامٌ هِيَ) سلامة عن جميع النقائص والعيوب (حَتَّى) وقت طلوع فجر الشمس الطالعة من مغربها وقرب الموت ، فحينئذ لا تكون سلامة أي سالمة أو سلام في نفسها لكثرة السلام عليها من الله والملائكة والناس أجمعين.

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٥.

سورة البينة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١))

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا إما عن الدين وطريق الوصول إلى الحق كأهل الكتاب وإما عن الحق أيضا كالمشركين (مُنْفَكِّينَ) عما هم فيه من الضلالة (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي : الحجة الواضحة الموصلة إلى المطلوب وذلك أن الفرق المختلفة المحتجبة بأهوائهم وضلالاتهم من اليهود والنصارى والمشركين كانوا يتخاصمون ويتعاندون ويدعي كل حزب حقية ما عليه ويدعو صاحبه إليه وينسب دينه إلى الباطل ، ثم يتفقون على أنّا لا ننفك عما نحن فيه حتى يخرج النبي الموعود في الكتابين المأمور باتباعه فيهما فنتبعه ونتفق على الحق على كلمة واحدة كما عليه الآن بعينه حال هؤلاء المتعصبين من أهل المذاهب المتفرّقة وانتظارهم خروج المهدي في آخر الزمان ووعدهم على اتباعه متفقين على كلمة واحدة ولا أحسب حالهم إلا مثل حال أولئك إذا خرج ، أعاذنا الله من ذلك ، فحكى الله قولهم وبين أنهم ما تفرّقوا تفرّقا قويا وما اشتدّ اختلافهم وتعاندهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة بخروجه لأن كل فرقة ، بل كل شخص ، توهم أنه يوافق هواه ويصوّب رأيه لاحتجابه بدينه ، فلما ظهر خلاف ذلك ازداد كفره وعناده واشتدّت شكيمته وضغينته.

[٢ ـ ٤] (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤))

(رَسُولٌ) بدل من البينة أي : الحجة القائمة الواضحة رسول (مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً) من ألواح العقول والنفوس السماوية لاتصاله بها بتجرده (مُطَهَّرَةً) من دنس الطبائع وكدر العناصر ودنس المواد وتحريف العباد (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي : مكتوبات ثابتة أبدية مستقيمة ناطقة بالحق والعدل لا تتغير ولا تتبدّل أبدا هي أصول الدين القيم.

[٥ ـ ٨] (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

(وَما أُمِرُوا) أي : أهل الكتابين المحجوبون بأهوائهم عن الدين بما أمروا فيهما (إِلَّا) لأن يخصصوا العبادة بالله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عن شوب الباطل والالتفات إلى الغير.

(حُنَفاءَ) عن كل طريق غير موصل إليه وعن كل ما سواه ويتوصلوا إليه بالعبادات البدنية والمالية ، أي : ما أمروا بما أمروا إلا للالتزام بأصول ثلاثة التوحيد على الإخلاص وقطع النظر عن الغير في الطاعة والإعراض عما سواه والقيام بالعبادات البدنية من الأعمال المزكية كالصلاة التي هي العمدة في بابهاكقوله عليه‌السلام : «الصلاة عماد الدين» ، والقيام بحقائق الزهد من الترك والتجريد كالزكاة التي هي أساسها وذلك بعينه دين الكتب القيمة التي يتلوها هذا الرسول. فالملة الحقيقية الحنيفية واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا ، وهي ملازمة التوحيد وسلوك طريق العدالة الشاملة للأصلين الآخرين فلو لم يحتجبوا بأهوائهم ولم يحرفوا كتبهم ويتعصبوا بظهور نفوسهم السبعية ولم يقفوا مع شهواتهم ولم يحتجبوا بتوهماتهم وتصوّراتهم بظواهر أوضاعهم وعاداتهم وأمانيهم ومراداتهم عن حقائق ما في كتبهم لكان دينهم هذا الدين بعينه. فالحاصل أن المحجوبين من أيّ الفرق كانوا هم شرّ البرية في نار جهنم الآثار قعر بئر الطبيعة والموحدين بالتوحيد العلمي العاملين على قانون العدالة في اكتساب الفضائل (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) في جنان الخلد بحسب درجاتهم من جنات الأفعال والصفات وأعلى درجاتهم مقام كمال الصفات الذي هو الرضا (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : ذلك المقام مخصوص بمن علّته الخشية الربانية عند تجليه بصفة العظمة لأنه إذا تجلى الربّ على القلب بصفة العظمة استولت الخشية على العبد وذلك ليس هو الخوف المنافي لمقام الرضا بل هو حكم التجلي وأثره في النفس ، وكما أثبت القدر المشترك للمحجوبين من النار دون النار الكبرى التي للأشقين أثبت القدر المشترك للموحدين من الجنة دون الجنة العليا التي للعارفين الأتّقين فلذلك كان أعلى درجاتها الرضا والسلام.

سورة الزلزلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) إِذا زُلْزِلَتِ) أرض البدن عند نزع الروح الإنساني باضطراب الروح الحيواني والقوى (زِلْزالَها) الذي استوجبته في تلك الحالة المؤذنة بخرابها وانتقاض بنيتها.

[٢] (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢))

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي : متاعها التي هي بها ذات قدر من القوى والأرواح وهيئات الأعمال والاعتقادات الراسخة في القلب جمع ثقل وهو متاع البيت

[٣] (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣))

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي : ما لها زلزلت واضطربت ما طبّها ، ما داؤها؟ الانحراف المزاج أم لغلبة الأخلاط.

[٤ ـ ٥] (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥))

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) بلسان حالها (بِأَنَّ رَبَّكَ) أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال عند زهوق الروح وتحقق الموت.

[٦] (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) عن مراقدهم ومخارج أبدانهم إلى مواثيقهم ومواطن حسابهم وجزائهم (أَشْتاتاً) متفرّقين سعداء وأشقياء (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي : جزاءها بما أثبت في صحائف نفوسهم من صورها وهيئاتها.

[٧ ـ ٨] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(فَمَنْ يَعْمَلْ) من السعداء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ) من الأشقياء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) والمخصص لعموم من في ، فمن يعمل في الموضعين. قوله أشتاتا لأن خيرات الأشقياء محبطة بالكفر والاحتجاب وشرور السعداء معفوّة بالإيمان والتوبة وغلبة الخيرات وسلامة الفطرة.

سورة العاديات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١))

(وَالْعادِياتِ) أي : النفوس المجتهدة السائرة في سبيل الله التي تعدو من شدّة سيرها ورياضتها وجدّها في سعيها كالخيل العادية تتنفس الصعداء من برحاء الشوق.

[٢] (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢))

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فتوري نارا بقداح النتائج والاشتغال بنور العقل الفعال بقدح زناد النظر وتركيب المعلومات بالفكر.

[٣] (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣))

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي : التي تغير ما يتعلق بها مما في ظواهرها وخارجها من الماليات ، ومما في بواطنها وداخلها من هيئات صفات النفوس وآثار الأفعال وميول الشهوات واللذات ووساوس الوهم والخيال بنور صبح التجلي الإلهي وأثر الطوالع ومبادئ الوصول تركا وتجريدا.

[٤] (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤))

(فَأَثَرْنَ بِهِ) بنور ذلك التجلي وصبح يوم القيامة الكبرى ونقع تراب البدن بإنهاكه وتلطيفه وتنحيفه بالرياضة ومنع الحظوظ لشدة التوجه إلى الحق والإقبال إليه بالعشق وانزعاج القوى في مشايعة القلب والروح عن جانب البدن واشتغالها عنه بتلقي الأنوار كما يقال : أثار عنه الغبار ، أي : أفناه وأهلكه وجعله كالغبار في التلاشي.

[٥] (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥))

(فَوَسَطْنَ بِهِ) أي : بذلك الصبح ونوره أجمع عين الذات فاستغرقن فيه أي : لطفن كثافة تراب البدن حتى يصير كالنقع في اللطافة ، فوسطن بذلك النقع جمع الذات فإن الوصول إنما يكون بالأبدان كمعراجه عليه‌السلام فإنه كان بالبدن ، أي : العالمات العاملات التاركات المجرّدات بنور التجلي المنهمكات للأبدان بالرياضة فالواصلات.

[٦] (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦))

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أقسم بحرمة الشاكرين لأنعمه الواصلين إليه بتوصلها على أن الإنسان لكفور لربّه باحتجابه بنعمه عنه ووقوفه معها وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.

[٧] (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧))

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) لعلمه باحتجابه وشهادة عقله ونور فطرته أنه لا يقوم بحقوق نعم الله ويقصّر في جنب الله بكفرانه.

[٨] (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨))

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي : وإنه لحب المال لقوي أو لأجل حب المال بخيل ، فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه مشغولا به عن الحق معرضا عن جنابه ، أو أنه لحب الخير الموصل إلى الحق منقبض غير هشّ منبسط.

[٩ ـ ١١] (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(أَفَلا يَعْلَمُ) أي : أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل لا يعلم بنور فطرته وقوة عقله (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم وظواهرهم فيجازيهم على حسبها (إِذا بُعْثِرَ) أي : بعث ما في قبور أبدانهم من النفوس والأرواح (وَحُصِّلَ) ما في صدورهم أي : أظهر ما في قلوبهم من هيئات أعمالهم وصفاتهم وأسرارهم ونياتهم المكتومة فيها.

سورة القارعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))

(الْقارِعَةُ) الداهية التي تقرع الناس وتهلكهم وهي إما القيامة الكبرى أو الصغرى ، فإن كانت الكبرى فمعناها الحالة التي تفني المقروع من تجلي الذات الأحدية وإفناء البشرية بالكلية وهي حالة لا يعرف كنهها ولا يقدر قدرها ، تقرعهم.

[٤ ـ ٥] (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥))

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ) أي : يكونون في ذلك الشهود في الذلة وتفرّق الوجهة كالفراش المنتثر وأحقر وأذلّ لأنه لا قدر ولا وقع لهم في عين الموحد كقوله : لن يكمل إيمان المرء حتى يكون الناس عنده كالأباعر أو كالفراش (الْمَبْثُوثِ) إذا احترق وانبثّ بالنار لنظره إليهم بعين الفناء.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ) أي : الأكوان ومراتب الوجود على اختلاف أصنافها وأنواعها (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) لصيرورتها هباء منبثّا وانتقاعها وتلاشيها بالتجلي وإن كان المراد بالناس المقروعين من أهل الكبرى فمعناها : كالفراش المبثوث المحترق بنور التجلي المتلاشي لا غير ، وتكون الجبال أي : ذواتهم وصفاتهم مع اختلاف مراتبها وألوانها كالعهن المنفوش في التلاشي ، إلا أن قوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)) لا يساعده لانتفاء التفصيل هناك. واعلم أن ميزان الحق بخلاف ميزان الخلق ، إذ صعود الموزونات وارتفاعها فيه هو الثقل وهبوطها وانحطاطها هو الخفّة لأن ميزانه تعالى هو العدل والموزونات الثقيلة أي : المعتبرة الراجحة عند الله التي لها قدر ووزن عنده هي الباقيات الصالحات ولا ثقل أرجح من البقاء الأبديّ ، والخفيفة التي لا وزن لها ولا قدر ولا اعتبار عند الله هي الفانيات الفاسدات من اللذات الحسية والشهوات. ولا خفّة أخفّ من الفناء الصرف.

[٦ ـ ٧] (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧))

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بأن كانت من العلوم الحقيقية والفضائل النفسانية والكمالات القلبية والروحانية (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) ذات رضا ، أي : حياة حقيقية في جنان الصفات فوق جنان الأفعال.

[٨ ـ ١١] (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن كانت من الأعمال السيئة والرذائل النفسانية (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي : مأواه قعر بئر جهنم الطبيعة الجسمانية التي تهوي فيها أهلها (وَما أَدْراكَ) حقيقتها وكنه حالها إنها (نارٌ) آثارية (حامِيَةٌ) بالغة إلى نهاية الإحراق. ويكون معنى : أمّه هاوية ، إنه هالك ، وما أدراك ما الداهية التي يهلك بها نار حامية وإن كانوا من أهل الصغرى فمعناها الحالة التي تقرع الناس بشدّتها وهي الموت يوم يكون الناس بفراقهم عن الأبدان وانبعاثهم من مراقدها وقصدهم إلى ضوء عالم النور وذلّتهم وخشوعهم وتفرّق مقاصدهم وتحيرهم بحسب تفرّق عقائدهم وأهوائهم كالفراش المبثوث وتكون جبال الأعضاء في اختلاف ألوانها وأصنافها وتفرّق أجزائها وتفتتها وصيرورتها هباء كالعهن المنفوش والباقي بحاله كما ذكر ، والله أعلم.

سورة التكاثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي : شغلتكم اللذات الحسيّة والخيالية الفانية من نعيم الحياة الدنيا التي احتجبتم بها وحبستم كمالكم فيها وأذهبتم طيباتكم من نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والمعقولات فيها عن اللذات العقلية والكمالات المعنوية الباقية من نعيم الآخرة وذهب بكم المفاخرة والمباهاة بهذه الأمور الفانية من كثرة الأموال والأولاد وشرف الآباء والأجداد كل مذهب (حَتَّى) ما اكتفيتم بالموجودات منها وارتكبتم المفاخرة بالمعدومات السالفة من العظام البالية لشدة الحجاب وغلبة لذة الخيال وسلطنة شيطان الوهم أو حتى متم وأفنيتم عمركم فيها وما تنبهتم طول عمركم على ما هو سبب نجاتكم.

[٣ ـ ٤] (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤))

(كَلَّا) ردع عن الاشتغال بها وتنبيه على وخامة عاقبتها (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند خراب الأبدان وكشف غطاء الأكوان حين لا ينفعكم العلم لانعدام الأسباب والآلات التي يمكن بها الاستكمال بالموت وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الحسيّات والوهميات السريعة الزوال العظيمة الوبال لبقاء تبعاتها وتعذبكم بهيئاتها واستيلاء نار آثارها (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرار للوعيد.

[٥ ـ ٦] (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦))

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لو ذقتم اللذات الحقيقية من العلوم اليقينية والإدراكات النوانية المستعلية على هذه الحسيات والخياليات الفانية لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز فيها والذهول عنها بها (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي : والله لترونّ بسبب احتجابكم بهذه المحسوسات نار جحيم الطبيعة الآثارية.

[٧ ـ ٨] (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

(ثُمَ) لتذوقنها عيانا يقينيا بالذوق والوجدان فوق العلم (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي : شيء هو الدنيوي ولذاته الفانية الذي هذه عاقبته ومآله وتبعته ، أم الأخروي الباقي أبدا

على حاله الذي كنتم تنكرونه. ويجوز أن يكون قوله : لترونّ الجحيم ، سادّا مسدّ جواب لولا أنّ القسم والشرط إذا اجتمعا اتحد جوابهما معنى وخصّ بالقسم لفظا سادّا مسدّ جواب الشرط كقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١) أي : والله لو علمتم علم اليقين ووصلتم إلى مرتبته لرأيتم نار جحيم الطبيعة المخصوصة بالمحجوبين بهذه الرذائل من الانغماس في الشهوات واللذات الوهمية والخيالية والكمالات الحسيّة والبدنية التي غرزتم لأرؤسكم فيها وتهالكتم عليها فانتهيتم عنها الانتهاء البالغ ثم ما وقفتم على مرتبة العلم اليقيني لوجدانكم ذوقه ومعرفتكم لذته وبقاءه وحسنه وشرفه وبهاءه وبقاء تبعة ما أنتم الآن فيه وفنائه وقبحه وخسّته ووباله ، فترقيتم إلى رتبة العيان والمشاهدة ، فعاينتم الحقائق على ما هي عليه من الأنوار القدسية والصفات الإلهية فشاهدتم بنور العيان حقيقة الجحيم ووبال هذه اللذات وما لها من آلام الهيئات وعذاب النيران والحرمان. ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم أي شيء هو ، أهذا الذي أنتم الآن فيه من النعيم الأخروي أم ذاك النعيم الدنيوي؟ أو لو تعلمون العلم اليقيني أيها المحجوبون بهذه الزخارف والخرافات لترون الجحيم من شدة الشوق واستيلاء نار العشق ، ثم لترقون بذلك الشوق إلى رتبة عين اليقين والمشاهدة فترون حقيقة نار العشق عيانا ، ثم لتسألنّ بعد هذا الذوق عن النعيم الذي هو حق اليقين ما هو ، أي : ثم لتجدنّ ذوق الوصول وأثر مرتبة حق اليقين فيمكنكم الإخبار عنها ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٢١.

سورة والعصر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)) أقسم بالعصر أي : بامتداد بقاء الزمان وما فيه وما يحدث معه بمبدعه وعلّته الذي هو الدهر الناس يضيفون تغيرات الأمور والأحوال إليه ويجعلونه مؤثرا فيه كقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١). والمؤثر بالحقيقة هو الله تعالى كماقال عليه‌السلام : «لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر» ، تعظيما له لظهوره تعالى بصفاته وأفعاله في مظهره على أن المحجوب به عنه في خسر وهو الإنسان لخسارته برأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية من الاستعداد الأزليّ باختيار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر وإضاعة الباقي في الفاني.

[٣] (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله الإيمان العلمي اليقيني وعرفوا أن لا مؤثر إلا الله وبرزوا عن حجاب الدهر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الباقيات من الفضائل والخيرات ، أي : اكتسبوها فربحوا بزيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي : الثابت الدائم الباقي على حاله أبدا من التوحيد والعدل ، أي : التوحيد الذاتي والوصفي والفعلي فإنه الحق الثابت فحسب (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) معه وعليه عن كل ما سواه بالتمكين والاستقامة ، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة في العبودية فأعزّ من الكبريت الأحمر والغراب الأبيض ، فالفحوى أن نوع الإنسان في خسر إلا الكاملين في العلم والعمل ، المكملين بهما. ويجوز أن يؤخذ العصر بمعنى المصدر من عصر يعصر أي : وعصر الله الإنسان بالبلاء والمجاهدة والرياضة حتى تصفو نقاوته ، إن الإنسان الباقي مع الثفل الواقف مع حجاب البشرية في خسر إلا الذين اتصفوا بالعلم والعمل وتواصوا بالحق الثابت الذي هو الاعتقاد اليقيني اللازم للصفاوة الباقية بعد ذهاب الثفل وتواصوا بالصبر على العصر والانعصار بالبلاء والرياضة ، ولهذاقال عليه‌السلام : «البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ، وقال : «البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه».

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

سورة الهمزة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي : الذي تعوّد بالرذيلتين وضري بهما ، فإن هذه الصيغة للعادة. والهمز أي : الكسر من أعراض الناس ، واللمز أي : الطعن فيهم ، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة وأن عدم الرذيلة ليس بفضيلة ، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية. ثم أبدل منه الوصف برذيلة القوة الشهوانية بقوله : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) وفي عدّده إشارة أيضا إلى الجهل لأن الذي جعل المال عدّة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجرّ إليه النوائب لاقتضاء حكمة الله تفريقه بالنائبات فكيف يدفعها وكذا في قوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي : لا يشعر أن المقتنيات المخلّدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل ، والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية أصل جميع الرذائل ومستلزم لها فلا جرم أنه يستحق صاحبها المغمور فيها العذاب الأبدي المستولي على القلب المبطل لجوهره.

[٤ ـ ٧] (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧))

(كَلَّا) ردع عن حسبان وقوع الممتنع (لَيُنْبَذَنَ) أي : ليسقطنّ عن مرتبة فطرته إلى رتبة الطبيعة الغالبة وهي الحطمة التي عادتها كسر كل ما وقع في رتبتها باستيلاء قوّتها عليه وهي النار الروحانية المنافية لجوهر القلب المؤلمة له إيلاما لا يوصف كنهه المستعلية عليه النافذة في أشرف وجهه وباطنه ، وأعلاه الذي هو الفؤاد المتصل بالروح.

[٨ ـ ٩] (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي : مطبقة مغلقة الأبواب لاحتجاب القلب في محلها بالمواد الجسمانية واستحكام الهيئات المظلمة واللواحق الهيولانية والصور البهيمية والسبعية والشيطانية فيه ، وامتناع تخلصه منها إلى عالم القدس (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) من محيط فلك القمر إلى المركز وهي الطبائع العنصرية التي صار مربوطا بها بالتعلق وسلاسل الميل والمحبة ، والله أعلم.

سورة الفيل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم كانت قريبة من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر ، ومن اطلع على عالم القدرة وكشف له حجاب الحكمة عرف لمية أمثال هذه ، وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة ابيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شطّ جيحون وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شطّ نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر وهي لا تقبل التأويل كأحوال القيامة وأمثالها. وأما التطبيق فاعلم أن أبرهة النفس الحبشية لما قصد تخريب كعبة القلب الذي هو بيت الله بالحقيقة والاستيلاء عليها وأراد أن يصرف حجاج القوى الروحانية إلى قلس الطبيعة الجسمانية التي بناها وأراد تعظيمها فخرا فيها قرشي العاقلة العملية بإلقاء فضلة الغذاء العقلي فيها من صور التأديب المخصوص بالأمور الطبيعية كالعادات الجميلة والآداب المحمودة أوقع فيها شرارا من نار الشوق التي أوقدها عير قريش القوى الروحانية فأحرقها بالرياضة فساق جنوده وعبى جيوشه من جنس القوى النفسانية وصفاتها الظلمانية بالطبع كالغضب والشهوة وأمثال ذلك ، وقدّم فيل شيطان الوهم الذي لا ينهزم عن جنود العقل ويعارضه في الحرب والشيطان أكثر ما يتشكل يكون بصورة الفيل كما رآه معاذ في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذاقال عليه‌السلام : «إن الشيطان ليضع خرطومه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس». جعل الله كيدهم في تضييع.

[٣ ـ ٥] (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) طيور الأفكار والأذكار بيضاء منوّرة بنور الروح (أَبابِيلَ) أي : خرابق جماعات كصور القياسات وكثرة الأذكار (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي : رياضة مما سجل وخص بكل واحد منهم كتب على كل واحد منها اسم المرمي بها بقلم الشرع والعقل وعين

أن هذه الرياضة مزجرة للقوة الفلانية مهلكة لها كالانقهار والتسخر للغضب والصوم للشهوة والضّعة للتكبّر والذلّة للتجبر وأمثال ذلك (فَجَعَلَهُمْ) هلكى هامدة لا حراك بها (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي : كقوى نباتية أميتت وذهبت قوتها وخاصيتها ووقفت عن فعلها لضعفها بالرياضة ، والله أعلم.

سورة قريش

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) القوى الروحانية وإيقاع مؤالفتها وموافقتها ومسالمتها في اكتساب الفضائل واتحادها في التوجه نحو الكمال في الرحلتين (رِحْلَةَ الشِّتاءِ) وبعد شمس الروح عن سمت رؤوسهم والأوى إلى غور البدن وترتيب مصالح المعاش وإصلاح أحوال البدن والقيام بضرورياته وعمارته ورحلة صيف قرب تلك الشمس من سمت رؤوسهم والرقيّ إلى أنجاد عالم القدس والتلقي لروح اليقين.

[٣ ـ ٤] (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) بالتوحيد وتخصيص العبادة به والتوجه نحوه بعد معرفته (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) أطعمة المعاني اليقينية والمعارف الحقيقية والحقائق الإلهية (مِنْ جُوعٍ) داعية الاستعداد وتقاضي الفطرة في سنة الجهل البسيط (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) استيلاء حبشة القوى النفسانية وتخطفهم إياهم ومنعهم عن الانقياد والسعي في تخريب الديار والأسر عن الاختيار والاستئصال بالدمار والبوار والله الموفق. والسورتان كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة وبعض كبار الصحابة قرأهما في ثانية المغرب معا والسلام.

سورة الماعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي : هل عرفت الجاهل المحجوب عن الجزاء من هوان لم تعرفه (فَذلِكَ) هو المرتكب جميع أصناف الرذائل ، المنهمك فيها لأن الجهل والاحتجاب الذي هو رذيلة القوة النطقية أصل جميعها (الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يؤذي الضعيف ويدفعه بعنف وخشونة لاستيلاء النفس السبعية وإفراطها (وَلا يَحُضُ) أهله (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ويمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال واستحكام رذيلة البخل في نفسه. المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال واستحكام رذيلة البخل في نفسه.

[٤ ـ ٥] (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥))

(فَوَيْلٌ) لهم أي : للموصوفين بهذه الصفات الذين إن صلوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم ، والمصلين من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص. وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس.

[٦ ـ ٧] (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) لاحتجابهم بالخلق عن الحق (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الذي يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به لكون الحجاب حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي واحتجابهم بالمطالب الجزئية عن الكلية وعدم اعتقادهم بالجزاء ، فلا محبة لهم للحق للركون إلى عالم التضادّ والهبوط إلى طبيعة الكون والفساد والاحتجاب عن حقيقة الاتحاد ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل ولا خوف ولا رجاء لغفلتهم عن الكمال والجهل بالمعاد فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا ، والله أعلم.

سورة الكوثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي : معرفة الكثرة بالوحدة وعلم التوحيد التفصيلي وشهود الوحدة في عين الكثرة بتجلي الواحد الكثير والكثير الواحد وهو نهر في الجنة من شرب منه لم يظمأ أبدا (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي : إذا شاهدت الواحد في عين الكثرة فصلّ بالاستقامة الصلاة التامة بشهود الروح وحضور القلب وانقياد النفس وطاعة البدن بالتقلّب في هياكل العبادات فإنها الصلاة الكاملة الوافية بحقوق الجمع والتفصيل (وَانْحَرْ) بدنة أنائيتك لئلا تظهر في شهودك بالتلوين ونسلبك مقام التمكين ، وكن مع الحق بالفناء الصرف ، باقيا ببقائه أبدا ، فلا تكون أبتر في وصولك وحالك واتصال أمتك الذين هم ذريتك بك (إِنَ) مبغضك الذي على خلاف حالك المنقطع عن الحق (هُوَ الْأَبْتَرُ) لا أنت ، فإنك الباقي ببقائه الدائم المتصل بك ذرياتك الحقيقة من أهل الإيمان أبد الآبدين المذكور فيهم دهر الداهرين وهو الفاني بالحقيقة الهالك الذي لا يوجد ولا يذكر ولا ينسب إليه ولد حقيقة ، والله أعلم.

سورة الكافرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الذين ستروا نور استعدادهم الأصلي بظلمة صفات النفوس وآثار الطبيعة ، فحجبوا عن الحق بالغير (لا أَعْبُدُ) أبدا وأنا شاهد للحق بالشهود الذاتي (ما تَعْبُدُونَ) من الآلهة المجعولة بهواكم ، المصوّرة بخيالكم والممثلة المعينة بعقولكم لمكان حجابكم.

[٣ ـ ٥] (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥))

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) أبدا وأنتم أنتم أي : على حالكم وما أنتم عليه من احتجابكم (ما أَعْبُدُ) لامتناع معرفة الحق من الذين طبع على قلوبهم بالرين (وَلا أَنا) قط (عابِدٌ) في الزمان الماضي قبل الكمال والوصول التام بحسب الاستعداد الأول والفطرة الأولى أي : الذات المجرّدة وحدها (ما عَبَدْتُّمْ) فيه بحسب استعداداتكم الأوّلية قبل الاحتجاب والرين لكمال استعدادي في الأزل وتوجهه إلى الحق في الفطرة ونقصان استعداداتكم أزلا (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) بحسب ذلك الاستعداد (ما أَعْبُدُ) أي : ولا يمكنكم عبادة معبودي بحسب الفطرة لنقصها الذاتي ، والحاصل إن عبادتي معبودكم وعبادتكم معبودي على الحال التي نحن فيها من الاستعداد الثاني الذي هو كمالي واحتجابكم كلاهما محال في الحال والاستقبال ، وكذا قبل هذا الاستعداد حال الاستعداد الأولي أيضا بحسب الذوات والأعيان أنفسها كان غير ممكن في الأزل لوفور استعدادي وقصور استعداداتكم ، ومعناه : سلب الإمكان الاستقبالي والوصفي والذاتي والأزلي ليفيد ضرورة السلب الأزلية.

[٦] (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

(لَكُمْ دِينُكُمْ) من عبادة معبوداتكم (وَلِيَ دِينِ) من عبادة معبودي أي : لما لم يمكن الوفاق بيننا تركتكم ودينكم فاتركوني وديني ، والله أعلم.

سورة النصر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي : المدد الملكوتي والتأييد القدسي بتجليات الأسماء والصفات (وَالْفَتْحُ) المطلق الذي لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الأحدية والكشف الذاتي بعد الفتح المبين في مقام الروح بالمشاهدة ٨

[٢] (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢))

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ) أي : التوحيد والسلوك على الصراط المستقيم بتأثير نورك فيهم عند فراغك من تكميل نفسك (أَفْواجاً) مجتمعين كأنهم نفس واحدة تستفيض من فيض ذاتك قائمة مقام نفسك وهم المستعدّون الذين كانت بين نفسه عليه‌السلام وأنفسهم علاقة مناسبة ورابطة جنسية توجب اتصالهم به بقبول فيضه.

[٣] (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

(فَسَبِّحْ) أي : نزّه ذاتك من الاحتجاب بمقام القلب الذي هو معدن النبوّة بقطع علاقة البدن والترقي إلى مقام حق اليقين الذي هو معدن الولاية (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : حامدا له بإظهار كمالاته وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلي (وَاسْتَغْفِرْهُ) واطلب ستره ذاتك بذاته كما كان حال الفناء قبل الرجوع إلى الخلق أبدا (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) قابلا لرجوع من رجع إليه بإفنائه بنوره ، ولما كمل الدين واستقرّت دعوته التي كانت بعثته لأجلها أمره بالرجوع إلى مقام حق اليقين الذي لا يستمر إلا بعد الموت ، ولذلك لما نزلت فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استبشر الأصحاب وبكى ابن عباسفقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك؟» قال : نعيت إليك نفسك! فقال عليه‌السلام : «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا». وروى أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله» ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعنه أنه دعا فاطمة عليها‌السلام فقال : «يا بنتاه! نعيت إليّ نفسي» فبكت ، فقال : «لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي» ، فضحكت. وتسمى هذه السورة (سورة التوديع) ، وروي أنه عاش بعدها سنتين ونزلت في حجة الوداع.

سورة تبت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢))

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) أي : هلك ما هو سبب عمله الخبيث الذي استحق به الجهنمي الملازم لنار الهلاك وهلك ذاته الخبيثة لاستحقاقها بحسب استعدادها ، أي : استحق النار بذاته وبوصفه نارا على نار ولذلك ذكره بكنيته الدالة على لزومه إياها (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي : ما نفعه ماله الأصلي من العلم الاستعدادي الفطري ولا مكسوبه لعدم مطابقة اعتقاده لما في نفس الأمر وكلاهما متعاونان في تعذيبه وما يجدي له أحدهما.

[٣ ـ ٤] (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤))

(سَيَصْلى ناراً) عظيمة لاحتجابه بالشرك (ذاتَ لَهَبٍ) زائد على أصله لخبث أعماله وهيئاتها فيصلى بالاعتقاد الفاسد والعمل السيئ هو (وَامْرَأَتُهُ) متقارنين فيها (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي : التي تحمل أوزار آثامها وهيئات أعمالها الخبيثة التي هي وقود نار جهنم وحطبها.

[٥] (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

(فِي جِيدِها حَبْلٌ) قويّ مما مسد ، أي : فتل فتلا قويّا من سلاسل النار لمحبتها الرذائل والفواحش فربطت هيئاتها وآثامها بذلك الحبل إلى عنقها تعذيبا لها بما يجانس خطاياها ، والله أعلم.

سورة الإخلاص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قل ، أمر من عين الجمع وارد على مظهر التفصيل هو عبارة عن الحقيقة الأحدية الصرفة أي : الذات من حيث هي بلا اعتبار صفة لا يعرفها إلا هو ، والله بدل منه وهو اسم الذات مع جميع الصفات دال بالإبدال على أن صفاته تعالى ليست بزائدة على ذاته بل هي عين الذات لا فرق إلا بالاعتبار العقلي ولهذا سميت سورة (الإخلاص) لأن الإخلاص تمحيص الحقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، وإياه عنى من قال : صفاته تعالى لا هو ولا غيره ، أي : لا هو باعتبار العقل ولا غيره بحسب الحقيقة. وأحد : خبر المبتدأ ، والفرق بين الأحد والواحد أن الأحد هو الذات وحدها بلا اعتبار كثرة فيها أي : الحقيقة المحضة التي هي منبع العين الكافوري بل العين الكافوري نفسه وهو الوجود من حيث هو وجود بلا قيد عموم وخصوص وشرط عروض ولا عروض ، والواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات وهي الحضرة الأسمائية لكون الاسم هو الذات مع الصفة فعبر عن الحقيقة المحضة الغير المعلومة إلا له ب «هو» ، وأبدل عنها الذات مع جميع الصفات دلالة على أنها عين الذات وحدها في الحقيقة وأخبر عنها بالأحدية ليدلّ على أن الكثرة الاعتبارية ليست بشيء في الحقيقة وما أبطلت أحديته وما أثرت في وحدته ، بل الحضرة الواحدية هي بعينها الحضرة الأحدية بحسب الحقيقة كتوهم القطرات في البحر مثلا.

[٢ ـ ٤] (اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

(اللهُ الصَّمَدُ) أي : الذات في الحضرة الواحدية بحسب اعتبار الأسماء هو السند المطلق لكل الأشياء لافتقار كل ممكن إليه وكونه به فهو الغني المطلق المحتاج إليه كل شيء كما قال : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (١). ولما كان كل ما سواه موجودا بوجوده ليس بشيء في

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٣٨.

نفسه لأن الإمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود فلا يجانسه ولا يماثله شيء في الوجود.

(لَمْ يَلِدْ) إذ معلولاته ليست موجودة معه بل به فهي به هي وبنفسها ليست شيئا (وَلَمْ يُولَدْ) لصمديته المطلقة ، فلم يكن محتاجا في الوجود إلى شيء ولما كانت هويته الأحدية غير قابلة للكثرة والانقسام ولم يمكن مقارنة الوحدة الذاتية لغيرها إذ ما عدا الوجود المطلق ليس إلا العدم المحض فلا يكافئه أحد. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إذ لا يكافئ العدم الصرف الوجود المحض ، ولهذا سميت سورة الأساس ، إذ أساس الدين على التوحيد بل أساس الوجود. وعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» وهو معنى صمديته.

سورة الفلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي : ألتجئ إلى الاسم الهادي وألوذ به بالاتصاف به والاتصال بروح القدس في الحضرة الأسمائية لأن الفلق هو نور الصبح المقدّم على طلوع الشمس ، أي : بربّ نور صبح تجلي الصفات الذي هو مقدمة طلوع نور الذات ، وربّ نور صبح الصفات هو الاسم الهادي وكذا معنى كل مستعيذ بربّه من شرّ شيء فإنه يستعيذ بالاسم المخصوص بذلك الشيء كاستعاذة المريض مثلا بربّه فإنه يستعيذ بالشافي ، وكاستعاذة الجاهل من جهله بالعليم.

[٢] (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢))

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي : من شرّ الاحتجاب بالخلق وتأثيرهم فيه فإن من اتصل بعالم القدس في حضرة الأسماء واتّصف بصفاته تعالى أثر في كل مخلوق ولم يتأثر من أحد لأنهم في عالم الآثار ومقام الأفعال وقد ارتقى هو عن مقام الأفعال إلى مباديها من الصفات.

[٣] (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣))

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي : من شرّ الاحتجاب بالبدن المظلم إذا دخل ظلامه كل شيء واستولى وأثر بتغيرات أحواله وانحراف مزاجه في القلب لمحبة القلب له وميله إليه وانجذابه نحوه.

[٤] (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤))

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ) أي : القوى النفسانية من الوهم والتخيّل والغضب والشهوة ونحوها التي تنفث في عقد عزائم السالكين بإيهانها بالدواعي الشيطانية وحلها ونكثها بالوساوس والهواجس.

[٥] (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي : النفس إذا حسدت تنوّر القلب فانتحلت صفاته ومعارفه باستراق السمع ، فطغت وظهرت عليه وحجبته وذلك هو التلوين في مقام القلب.

ويجوز أن يكون الغاسق هو النفس المستولية الحاجبة بظلمة صفاتها للقلب والحاسد هو القلب

إذا ظهر في مقام الشهود ، فإن تلوين مقام الشهود بوجود القلب كما أن تلوين مقام القلب بوجود النفس وتخصيص هذه الثلاثة بالاستعاذة منها بعد الاستعاذة من المخلوقات عموما إنما كان لأن أكثر الاحتجاب منها دون ما عداها من المخلوقات عموما لاتصالها به وتعلقه بها ، والله تعالى أعلم.

سورة الناس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣))

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ربّ الناس هو الذات مع جميع الصفات لأن الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربّه الذي أوجده وأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المعبر عنه بالله ، ولهذا قال تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١) بالمتقابلين من الصفات كاللطف والقهر والجمال والجلال الشاملين لجميعها تعوّذ بوجهه بعد ما تعوّذ بصفاته ولهذا تأخرت هذه السورة عن المعوّذة الأولى إذ فيها تعوّذ في مقام الصفات باسمه الهادي فهداه إلى ذاته.

ثم بيّن ربّ الناس بملك الناس على أنه عطف بيان لأن الملك هو الذي يملك رقابهم وأمورهم باعتبار حال فنائهم فيه من قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) فالملك بالحقيقة هو الواحد القهار الذي قهر كل شيء بظهوره ثم عطف عليه (إِلهِ النَّاسِ) لبيان حال بقائهم بعد الفناء لأن الإله هو المعبود المطلق وذلك هو الذات مع جميع الصفات باعتبار النهاية. استعاذ بجنابه المطلق ففنى فيه فظهر كونه ملكا ثم ردّه إلى الوجود لمقام العبودية فكان معبودا دائما فتم استعاذته به.

[٤ ـ ٥] (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥))

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) لأن الوسوسة تقتضي محلا وجوديا كما قال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ولا وجود في حال الفناء فلا صدور ولا وسواس ولا موسوس بل إن ظهر هناك تلوين بوجود الأنانية فقل : أعوذ بك منك ، فلما صار معبودا بوجود العابد ظهر الشيطان بظهور العابد كما كان أولا موجودا بوجوده. والوسواس اسم للوسوسة سمي به الموسوس لدوام وسوسته كأن نفسه وسواس ، وإنما استعاذ منه بالإله دون بعض أسمائه كما في السورة الأولى لأن الشيطان هو الذي يقابل الرحمن ويستولي على الصورة الجمعية الإنسانية ويظهر في صور جميع الأسماء ويتمثل بها إلا بالله ، فلم تكف الاستعاذة منه بالهادي والعليم والقدير

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٧٥.

(٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

وغير ذلك فلهذا لما تعوّذ من الاحتجاب والضلالة تعوّذ بربّ الفلق وهاهنا تعوّذ بربّ الناس ومن هذا يفهم معنىقوله عليه‌السلام : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثّل بي». الخناس ، أي : الرجّاع لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة وكلما تنبّه العبد وذكر الله خنس فالخنوس عادة لهكالوسواس. عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربّه خنس الشيطان وولى ، وإذا غفل وسوس إليه.

[٦] (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس ، فإن الموسوس من الشياطين جنسان : جني غير محسوس كالوهم ، وإنسي محسوس كالمضلين من أفراد الإنسان أما في صورة الهادي كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (١) وأما في صورة غيره من صور الأسماء فلا يتم أيضا الاستعاذة منه إلا بالله ، والله العاصم.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٨.

قال مصحح طبعه ومحسن وضعه الفقير إلى الله تعالى محمد الصباغ

أسبغ الله عليه النعم أتم إسباغ :

سبحان من أحيا قلوب أحبابه بإشارات كتابه المنزّل في وصفه المجيد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فتمّ لهم من التفسير ما أرادوه وائتموا به فيما قصدوه وصلاة وسلاما على النبي الكريم المنزّل عليه ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه.

وبعد : فقد تم طبع هذا التفسير ذي الفضل الغزير لم ينسج ناسج على منواله ولم يحك حائك على مثاله :

إذا امتحنت محاسنه أتته

غرائب جمة من كل باب

كيف لا وهو مع حسن كلمة تدفقت بحار علومه وحكمه ، وأينعت أفنان فنونه وأزهرت عذبات غصونه وزكت مغارسه ونمت نفائسه وطابت ثمراته وعظمت خيراته وامتدّ وارف ظلاله وراق منظر حسنه وجماله فهو جدير بتهذيب الطبع وتحسين الوضع بالطبعة العامرة ببولاق ـ مصر ـ القاهرة ، ذات الشهرة الباهرة ، والمحاسن الزاهرة في أيام ابتسم ثغرها عن العدل ، وأفاضت على الأنام جزيل الفضل في ظلّ صاحب السعادة الأكرم الخديوي الأعظم عزيز مصر ، ووحيد العصر ، سعادة أفندينا المحروس بعناية ربّه العلي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي لا زال جيد الدهر حاليا بعقود مواكبه ، وفم الأفق ناطقا بسعود كواكبه حفظ الله دولته كما حفظ رعيته وأدام مجده وخلد حمده وحرس أشباله الكرام وجعلهم غرة في جبين الأيام ملحوظة دار الطباعة المذكورة بنظر ناظرها المشمر عن ساعد الجدّ والاجتهاد في تدبير نضارها من لا تزال عليه أخلاقه باللطف ، تثنى حضرة حسين بك حسني ثم إن تضوّع عرف ختامه وتمام سلك نظامه في العشر الأخير من شوال من عام ألف ومائتين وثلاث وثمانين من هجرة من ليس له في وصفه مثال عليه الصلاة والسلام وعلى آله وأصحابه الكرام.

فهرس المحتويات

سورة مريم..................................................................... ٥١

سورة طه عليه السلام............................................................. ٨

سورة الأنبياء................................................................... ٣٨

سورة الحج..................................................................... ٥٣

سورة المؤمنون.................................................................. ٦٥

سورة النور..................................................................... ٧٢

سورة الفرقان................................................................... ٨١

سورة الشعراء................................................................... ٩٢

سورة النمل.................................................................. ١٠٢

سورة القصص................................................................ ١١٥

سورة العنكبوت............................................................... ١٣٠

سورة الروم................................................................... ١٣٧

سورة لقمان.................................................................. ١٤٣

سورة السجدة................................................................ ١٤٦

سورة الأحزاب................................................................ ١٥٠

سورة سبأ.................................................................... ١٦٠

سورة الملائكة................................................................. ١٦٧

سورة يس.................................................................... ١٧٢

سورة الصافات............................................................... ١٧٨

سورة ص.................................................................... ١٨٥

سورة الزمر................................................................... ١٩٧

سورة المؤمن وهي غافر......................................................... ٢٠٩

سورة حم السجدة............................................................ ٢١٨

سورة حم عسق............................................................... ٢٢٧

سورة الزخرف................................................................ ٢٣٥

سورة حم الدخان............................................................. ٢٤٤

سورة حم الجاثية.............................................................. ٢٥١

سورة الاحقاف............................................................... ٢٥٦

سورة محمد (صلى الله عليه وسلم).............................................. ٢٦٤

سورة الفتح................................................................... ٢٦٨

سورة الحجرات................................................................ ٢٧٣

سورة ق..................................................................... ٢٧٧

سورة الذاريات................................................................ ٢٨٤

سورة الطور.................................................................. ٢٨٨

سورة النجم.................................................................. ٢٩٢

سورة القمر.................................................................. ٢٩٧

سورة الرحمن.................................................................. ٣٠١

سورة الواقعة.................................................................. ٣١٠

سورة الحديد.................................................................. ٣١٧

سورة المجادلة................................................................. ٣٢٤

سورة الحشر.................................................................. ٣٢٨

سورة الممتحنة................................................................ ٣٣٣

سورة الصف................................................................. ٣٣٦

سورة الجمعة.................................................................. ٣٣٩

سورة المنافقون................................................................ ٣٤٢

سورة التغابن................................................................. ٣٤٥

سورة الطلاق................................................................. ٣٤٩

سورة التحريم................................................................. ٣٥٢

سورة الملك................................................................... ٣٥٦

سورة القلم................................................................... ٣٦١

سورة الطاغية................................................................. ٣٦٤

سورة المعارج.................................................................. ٣٦٩

سورة نوح (عليه السلام)....................................................... ٣٧٢

سورة الجن................................................................... ٣٧٥

سورة المزمل................................................................... ٣٨١

سورة المدثر................................................................... ٣٨٤

سورة القيامة.................................................................. ٣٨٨

سورة الإنسان................................................................ ٣٩١

سورة والمرسلات.............................................................. ٣٩٧

سورة النبأ.................................................................... ٤٠٠

سورة النازعات................................................................ ٤٠٤

سورة عبس................................................................... ٤٠٨

سورة التكوير................................................................. ٤١٠

سورة الانفطار................................................................ ٤١٣

سورة المطففين................................................................ ٤١٤

سورة الانشقاق............................................................... ٤١٧

سورة البروج.................................................................. ٤٢٠

سورة الطارق................................................................. ٤٢٣

سورة الاعلى................................................................. ٤٢٤

سورة الغاشية................................................................. ٤٢٧

سورة الفجر.................................................................. ٤٢٩

سورة البلد................................................................... ٤٣٢

سورة الشمس................................................................ ٤٣٤

سورة الليل................................................................... ٤٣٦

سورة الضحى................................................................ ٤٣٩

سورة الانشراح................................................................ ٤٤١

سورة والتين.................................................................. ٤٤٣

سورة العلق................................................................... ٤٤٥

سورة القدر.................................................................. ٤٤٧

سورة البينة................................................................... ٤٤٨

سورة الزلزلة.................................................................. ٤٥٠

سورة العاديات............................................................... ٤٥١

سورة القاعة.................................................................. ٤٥٣

سورة التكاثر................................................................. ٤٥٥

سورة والعصر................................................................. ٤٥٧

سورة الهمزة................................................................... ٤٥٨

سورة الفيل................................................................... ٤٦٠

سورة قريش.................................................................. ٤٦٢

سورة الماعون................................................................. ٤٦٣

سورة الكوثر................................................................. ٤٦٤

سورة الكافرون............................................................... ٤٦٥

سورة النصر.................................................................. ٤٦٦

سورة تبت................................................................... ٤٦٧

سورة الإخلاص............................................................... ٤٦٨

سورة الفلق................................................................... ٤٧٠

سورة الناس.................................................................. ٤٧٢

تفسير ابن عربي - ٢

المؤلف: محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]
الصفحات: 478
  • سورة مريم 51
  • سورة طه عليه السلام 8
  • سورة الأنبياء 38
  • سورة الحج 53
  • سورة المؤمنون 65
  • سورة النور 72
  • سورة الفرقان 81
  • سورة الشعراء 92
  • سورة النمل 102
  • سورة القصص 115
  • سورة العنكبوت 130
  • سورة الروم 137
  • سورة لقمان 143
  • سورة السجدة 146
  • سورة الأحزاب 150
  • سورة سبأ 160
  • سورة الملائكة 167
  • سورة يس 172
  • سورة الصافات 178
  • سورة ص 185
  • سورة الزمر 197
  • سورة المؤمن وهي غافر 209
  • سورة حم السجدة 218
  • سورة حم عسق 227
  • سورة الزخرف 235
  • سورة حم الدخان 244
  • سورة حم الجاثية 251
  • سورة الاحقاف 256
  • سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) 264
  • سورة الفتح 268
  • سورة الحجرات 273
  • سورة ق 277
  • سورة الذاريات 284
  • سورة الطور 288
  • سورة النجم 292
  • سورة القمر 297
  • سورة الرحمن 301
  • سورة الواقعة 310
  • سورة الحديد 317
  • سورة المجادلة 324
  • سورة الحشر 328
  • سورة الممتحنة 333
  • سورة الصف 336
  • سورة الجمعة 339
  • سورة المنافقون 342
  • سورة التغابن 345
  • سورة الطلاق 349
  • سورة التحريم 352
  • سورة الملك 356
  • سورة القلم 361
  • سورة الطاغية 364
  • سورة المعارج 369
  • سورة نوح (عليه السلام) 372
  • سورة الجن 375
  • سورة المزمل 381
  • سورة المدثر 384
  • سورة القيامة 388
  • سورة الإنسان 391
  • سورة والمرسلات 397
  • سورة النبأ 400
  • سورة النازعات 404
  • سورة عبس 408
  • سورة التكوير 410
  • سورة الانفطار 413
  • سورة المطففين 414
  • سورة الانشقاق 417
  • سورة البروج 420
  • سورة الطارق 423
  • سورة الاعلى 424
  • سورة الغاشية 427
  • سورة الفجر 429
  • سورة البلد 432
  • سورة الشمس 434
  • سورة الليل 436
  • سورة الضحى 439
  • سورة الانشراح 441
  • سورة والتين 443
  • سورة العلق 445
  • سورة القدر 447
  • سورة البينة 448
  • سورة الزلزلة 450
  • سورة العاديات 451
  • سورة القاعة 453
  • سورة التكاثر 455
  • سورة والعصر 457
  • سورة الهمزة 458
  • سورة الفيل 460
  • سورة قريش 462
  • سورة الماعون 463
  • سورة الكوثر 464
  • سورة الكافرون 465
  • سورة النصر 466
  • سورة تبت 467
  • سورة الإخلاص 468
  • سورة الفلق 470
  • سورة الناس 472