

سورة ق
مكيّة إلّا الآية
٣٨ فمدنيّة ، وآياتها ٤٥ نزلت بعد المرسلات.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))
١ ـ (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .. ق) عن الصّادق عليهالسلام : هو جبل محيط بالأرض ، وخضرة السّماء منه ، وبه يمسك الله
الأرض أن تميد بأهلها. وفي القمّي (ق) جبل محيط بالدّنيا من وراء يأجوج ومأجوج وهو في المقام
قسم. (وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) وهو مثله قسم ، بل الشاهد على كونه في مقام القسم عطف (الْقُرْآنِ) عليه فإ نه في مقام القسم أيضا. وقيل إن المجيد والمجد لا
يوصف بهما غير الله تعالى فإنهما يدلّان على صفة
لا يوصف بها غير
الله سبحانه. لكنّ هذا غير مسموع من القائل لأن العرش قد يوصف بالمجيد على ما
ببالي وكذا غير العرش.
٢ ـ (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ ...) المراد بالمنذر محمّد (ص) والذي تعجّبوا هم قريش وهو منهم.
ولذا جاء ينظرهم عجيبا (فَقالَ الْكافِرُونَ) من قريش وغيرهم من المعاندين والضالّين : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي كيف يكون ذلك ، ويكون محمد الذي هو منّا ونعرفه جيّدا
فيصير نبيّا منذرا؟
٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) أي هل إذا جاءنا الموت وفنيت أجسادنا نعود ونرجع ونصير
أحياء كما كنّا ونسأل عمّا فعلناه (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) اي هذا الأمر محال فلا يعقل رجوعنا ووقوعه أمر محال عقلا.
والقمّي قال : نزلت في أبيّ بن خلف الذي قال لأبي جهل تعالى معي لأجعلك تتعجّب من
محمد صلىاللهعليهوآله ، ثم أخذ عظما ففتّه ثم قال : يا محمد تزعم أنّ هذا يحيا
بعد أن يبلى؟ فنزلت :
٤ ـ (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ ...) أي ما تأكل الأرض من أجسادهم بالموت فينقص عدد الأحياء (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها ، ومحفوظ عن التّغيير
والتبديل.
٥ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ...) يقال مرج البحرين أي خلّاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر ولا
يختلط كما تقول : مرجت الدابّة أي خلّيتها ترعى. والحاصل أن المراد بالمرج هو
الأمر الذي يوجب للبهت والتخليط والتحيّر مثل أنّ ماءين يكونان في محلّ واحد ولا
تمتزج أحدهما بالآخر بلا حاجز ولا مانع إلّا إرادة الله بعدم اختلاطهما
وامتزاجهما. وهذا يكشف عن كمال قدرة الله حيث إن من شأن الماء هو الاختلاط بجسم
سائل آخر ماء كان أو غيره ، إلّا أن يكون هناك مانع إلهيّ يمنع عن الاختلاط مثل ما
نحن فيه وقد عميت عين لا تراك يا ربّ ،
ففي كلّ شيء لك
آية تدلّ على أنّك واحد ليس كمثلك شيء وليس لك في جميع عوالم الكون ثان ولا مثل
ولا شبيه ، ولكن الهياكل التي في صور الإنسان ضلّوا عن معرفته تعالى ولم يقبلوه
ربّا ومعبودا ، بل هم ينكرونه سبحانه عزوجل.
* * *
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ
باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))
٦ ـ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ...) أي كيف لا ينظر من كفر بالبعث والنشور إلى السماء كيف
رفعناها فوقهم بلا عمد ولا شيء آخر تعتمد عليه وتتّكئ؟ وهذا ليس إلّا من كمال
قدرتنا الكاملة حيث قلنا لها كوني فكانت (وَزَيَّنَّاها) بالشمس والقمر والنّجوم وجعلناها مهابط وحينا ومساكن
ملائكتنا ونزول بركاتنا وغيرها ممّا هو موجب لشرفها على غيرها من المخلوقات (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي ليس فيها شقوق بل هي متلاصقة الطّباق شديدة البناء
والسّمك.
٧ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ...) أي بسطناها وأوسعناها يمنة ويسرة وفي جميع جوانبها حسب
استعدادها وتمكنها (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) أي جبالا مستقرّة ثوابت لو خلّيت وطبعها لمادت بأهلها ولكن
الجبال جعلت لها
أوتادا لتبقى
ثابتة. والجبال فيها كنوز مستورة من المعادن المختلفة بأنواعها تتحيّر منها العقول
، وفيها النّباتات التي تفيد للأدوية وغيرها ممّا لم يصل إلى معرفته البشر حتى
اليوم ولا يزال يستكشف فيها ما تتحيّر منه العقول (وَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي أخرجنا من الجبال والسهول وجميع منافق الأرض بحسب
أقسامها وأنواعها أصنافا بهيجة مسرّة من النباتات والأشجار المختلفة التي تبهج
النظر.
٨ ـ (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ ...) أي ما ذكر لمزيد البصيرة لكلّ عبد راجع إلى ربه يتفكر في
بدائع صنعه.
٩ ـ (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً ...) أي كثير الخير والبركة بحيث لا تحصى ولا تعتد منافعه. وعن
الباقر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلوات الله عليه وآله في هذه الآية :
ليس من ماء في الأرض إلّا وقد خالطه ماء السماء (فَأَنْبَتْنا بِهِ
جَنَّاتٍ) ذات أشجار وثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) كالزرع الذي هو قائم على ساقه فيحصد في أوان حصاده ، وكحبّ
الزّرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير.
١٠ ـ (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ ...) أي طوالا مرتفعات بحيث يصعب على كلّ إنسان طويل أن يجني ما
عليها إلّا بواسطة هيّئت له (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطّلع ما يخرج من النّخلة في أكمامها منضود بعضه أي ملتصق
بعضه ببعض.
١١ ـ (رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً ...) قوله : رزقا للعباد بالأوّل لكونه رزقا ونعمة في النتيجة.
وإلّا فبالفعل هو غير قابل للاستفادة أولا. وقوله (وَأَحْيَيْنا بِهِ) الضّمير فيه راجع إلى الماء. نعم قال سبحانه عزّ من قائل
في مورد آخر (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وما نحن فيه فرد من ذلك المورد ولذا عبّر فيما نحن فيه
بوصفه بالمبارك لأنه يحيي الأشياء بعد موتها فإنه حياة الكائنات وروحها. وقد أفرد
النخل بالذّكر مع أن
الأشجار كثيرة
وسكت عنها سبحانه لأنّه ليس في الأشجار شجر أكثر بركة من النّخل وأكثر فائدة منه
وتترتّب عليه بركات وفوائد عظيمة في الجامعة البشريّة من حيث أعواد النخلة وثمارها
وأليافها ونواة ثمرتها ، وكم من فوائد أخر تترتّب عليها بحيث يجرّ إحصائها بتمامها
إلى الملال ، وإجمالها ما من شجر من الأشجار الّتي خلقها الله جلّ وعلا أكثر نفعا
وبركة من النخل إذ لا يرمى شيء منها وليس شجر من الأشجار مثله على ما ببالي ، وهذا
شأن اختصاصها بالذّكر دون غيرها والله أعلم. وقوله تعالى (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي جدبا خلاف الخصب وبمعنى القحط أي يظهر فيه عدم الأرزاق
أو قلّتها وهذا القحط غالبا ما يكون في البلاد الّتي لا تمطر فيها ولا يوجد الماء
إلّا قليلا فيقع في البلد قحط وغلاء ، ذلك أن الماء هو سبب كلّ خصب وازدهار ونعيم
، وهو نعمة من الله تنعش العباد وتحيي البلاد. (كذلك الخروج) أي كما أنزلنا الماء
من السّماء وأخرجنا به النّبات من الأرض وأحيينا به البلدة الميّتة يكون خروجكم
أحياء بعد موتكم. وهو جواب لقولهم (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).
* * *
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ
وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))
١٢ إلى ١٤ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَأَصْحابُ الرَّسِّ ...) الذين رسّوا نبيّهم في الأرض أي حفروا له فيها. وقيل هو
اسم نهر في بلاد الشرق واسمه كان (رسّ) وقد قتلوا نبيّهم ودفنوه في ذلك النهر ،
وذلك
بعد سليمان بن
داود وكانوا يعبدون شجرة يقال لها شاه درخت. وجاء الرسّ بمعنى الدّفن وبمعنى الحفر
(وَثَمُودُ وَعادٌ
وَفِرْعَوْنُ) ثمود قبيلة من العرب الأولى وهم قوم صالح. وصالح من ولد
ثمود ، وقد سمّوا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عاثر بن آدم بن سام بن نوح. والمراد
بفرعون هو وقومه الذين كانوا يخالفون موسى عليهالسلام ومتابعيه ليطابق ما قبله وما بعده (وَإِخْوانُ لُوطٍ) أي متابعوه عليهالسلام (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) الأيكة واحدة الأيك ، وهو الشّجر الملتفّ و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أصحاب الشجر الملتفّ وكان وظنهم مزدهرا بالأشجار وحياتهم
في نعيم فكفروا بربّهم وأنكروا البعث والنشور كغيرهم. (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) تبّع بضمّ التاء وفتح الباء المشدّد أحد التابعة من ملوك
حمير سمّي به لكثرة أتباعه وهم سبعون تبّعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها من العرب
والعجم. وكان تبّع ابن تبّع الأكبر ابن تبع الأقرن وهو ذو القرنين. وفي بعض الأخبار
أنّ تبّع لم يكن مؤمنا ولا كافرا ولكن كان يطلب الدّين الحنيف إلى آخره (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِيدِ) أي ثبت ووجب وعده تعالى للمكذّبين للرّسل. بالانتقام. وفي
الشريفة تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوآله وتخويف للمنافقين والمشركين لعنهم الله جميعا.
١٥ ـ (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ...) عجزنا عن أن نأتي بمثل ما خلقنا أولا؟ يعني ما عجزنا أن
نأتي بمثلكم وأحسن بألف مرّة ، أي كلّ شيء أردناه فهو تحت قدرتنا لأننا إذا أردنا
شيئا نقوله له كن فيكون. وبعبارة اخرى : أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟
وهكذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأنه هو الخالق للعالم ثم أنكروا البعث والنّشر
ثانيا ، ويقال لكلّ من عجز عن شيء : عيّ به ، يعني لم يقدر عليه (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ) أي أنهم لا ينكرون قدرتنا عن الخلق الأول بل ينكرون الثاني
لشبهة حصلت فيه مثلا كشبهة الآكل والمأكول الّتي لا يقدر الإنسان على دفعها ، أي
الإنسان الذي لا وسع له في العلم ولا سيّما في المعقول
الذي هو الباب
لفتح تلك الشبهات في التوحيد. وعن الباقر عليهالسلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : ذلك أن الله تعالى إذا أتى
بهذا الخلق وهذا العالم وسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النّار جدّد الله عالما
غير هذا العالم وجدّد خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم
أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السّماء تظلّهم. لعلّك ترى أن الله
تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم؟ بلى والله
لقد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم وأنت في آخر تلك العوالم الآدميّين.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))
١٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ...) أي ما تحدّثه به نفسه ، وهو ما يخطر بالبال والوسوسة الصوت
الخفيّ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي نعلم صوت أموره الخفيّة الّتي ليس لها صوت بل تخطر على
البال فقط فكأننا أقرب إليه من شرايين دمه. وفي قوله (حَبْلِ الْوَرِيدِ) المراد بالحبل هنا العرق ، وإضافته إلى الوريد بيانيّة.
والوريد هو العرق المكتنف بصفحة العنق وفي مقدّمها متّصل بالوتين ، والوتين عرق
يتعلّق بالقلب إذا قطع مات صاحبه. و (حَبْلِ
الْوَرِيدِ) مثل في القرب غايته الإشعار بأنه غنيّ عن استحفاظ الملكين
فإنهما أعلم منها ومطلع على ما يخفى عليهما لأنه أقرب إليه منهما.
١٧ و ١٨ ـ (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ...) هما الملكان الحافظان يأخذان ما يتلفّظ به وقال تعالى (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ
قَعِيدٌ) أي لا يتلقّى أحدهما عن الآخر بل كلاهما لا بدّ منهما ،
كاتب للحسنات على يمينه ، وكاتب للسيّئات على يساره ، وصاحب الحسنات أمير على صاحب
السّيئات ، وإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين
لصاحب اليسار رعه سبع ساعات لعلّه يندم فيستغفر ويتوب (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أصل الرّقيب من الترقّب وهو الانتظار ، وعتيد هو الحاضر
المهيّأ. والرقيب والعتيد هما ملكان الأوّل على يمين كلّ إنسان مكلّف سواء كان
ذكرا أو أنثى ، والثاني على اليسار والأوّل مأمور من طرف الربّ عزوجل أن يكتب الحسنات والثاني يكتب السيّئات كما قلنا.
١٩ ـ (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
...) أي شدّته التي تغيّر وضع الإنسان وعقله بحيث لا يفهم شيئا
كالسّكر من الشراب ، ولذا منع السكران من الصّلاة لأنه في تلك الحالة لا يعرف شيئا
ولا يدري في أية حالة هو من أحواله. فالموت والسّكر إذا عرضا للإنسان واحد في عدم
وعي الإنسان شيئا ، غاية الفرق أن الميت لا يتحرّك والسكران في بعض الأحيان له
حركة كحركة المتقلّص لأنهما فاقدان للعقل والرّشد. والباء في قوله تعالى (بِالْحَقِ) إمّا للقسم والمراد من الحق هو الله تعالى ، وإمّا
للتّأكيد ، أي مجيء سكرة الموت حقّ ثابت لا شبهة فيه والمورد يحتاج إلى التأكيد
لاستبعادهم سكرات الموت وأهوال البرزخ. وسكرة الموت شدائده الّتي تذهب بالعقل (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تميل عنه يمنة ويسرة والمخاطب في الشريفة هو الإنسان
الذي يخشى الموت ويتّقي سكراته. وحاصل معنى الشريفة أيها الإنسان إن الموت الذي
يفرّ منه لا بد أنه
ملاقيك وستعالج
سكرته بلا ريب.
٢٠ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ) أي يوم وقوعه وتحقّقه.
٢١ ـ (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ
وَشَهِيدٌ ...) أي سائق يسوقها إلى محشرها وشاهد يشهد عليها بعملها الّذي
عملته في دار الدّنيا. والمراد بالسّائق والشاهد هما الملكان اللّذان كانا معها في
دار الدّنيا وكانا يكتبان أعمال خيرها وشرها واحد على يسارها على ما قدّمناه.
٢٢ ـ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ...) الكلام على إضمار القول وتقديره والقائل المقدّر هو الله
سبحانه ، يخاطب نبيّه صلىاللهعليهوآله بانّه إذا كان يوم القيامة تحضر كلّ نفس وكأنه يقال لها
بلسان الحال بأمر منه تعالى (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ) أي أزلنا ونزعنا الحاجب لأمور المعاد حيث كنتم منهمكا في
المحسوسات والألفة لها وحصر النّظر فيها وكنت لا تتصور يوم القيامة ولا شيئا من
المغيّبات ، لأنّ من كان في دار الدنيا كان هكذا لو خلّي وطبعه لا ينظر إلى غير ما
حوله من المرئيّات ويوم القيامة تنكشف وأمام عينه بقدرة الله سبحانه وتعالى إذ
أزمة الأمور كلّها بيده ، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي نظرك في دار البقاء في غاية الشدّة والحدّة فينفذ بحيث
تزول الموانع للأبصار.
* * *
(لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ
هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَأَلْقِياهُ
فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
قالَ
لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))
٢٣ ـ (وَقالَ قَرِينُهُ ...) أي الملك الموكّل به ، وفي المجمع عنهما عليهماالسلام : هو الملك الشهيد عليه فإنه يقول له : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي هذا هو الحاضر المهيّأ. ويقال : عتد الشيء عتادا أي حضر
وتهيّأ أي يقول قرينه عنه هذا هو المعدّ عند لإلقائه في جهنّم وبئس المصير.
٢٤ إلى ٢٦ ـ (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ :) الخطاب في هذه الآية الشريفة للملكين السّائق والشاهد.
والغيد الباغي الذي يردّ الحق مع العلم به ومع ذلك ينكره ويعاتده. وهذا يكشف عن
غاية خباثته وعتوّه مع الحق والحقيقة. ولذا حكم عليه بكفره بصيغة المبالغة فقال
تعالى : (أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) قال الشاعر العربي :
مفعال أو فعّال
أو فعيل
|
|
بكثرة عن فاعل
بديل
|
فالكفّار والعنيد
كلاهما صيغتا مبالغة. ويقال إن الخطاب يوم القيامة يوجّه إلى محمد وعليّ عليهما
صلوات الله وسلامه وهما المنجيان لمحبّتهم من النّار ، فعن السّجاد عن أبيه عن
جدّه أمير المؤمنين عليهمالسلام جميعا ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله إذا جمع النّاس يوم القيامة في صعيد واحد ، كنت
أنا وأنت يومئذ عن يمين العرش ثم يقول الله تبارك وتعالى لي ولك : قوما فألقيا من
أبغضكما وكذّبكما في النّار. وفي المجمع والأمالي من طريق إخواننا العامة مثله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي كثير المنع والبخل عن الإنفاق وصلة الأرحام وسائر
الأمور الخيريّة وأعمال البرّ
(مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) شاكّ في الله وفي دينه ومتعدّ على حرماته جلّ وعلا. (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي ارمياه في نار جهنم فإن النّار أشدّ عذابه أعاذنا الله
تعالى منها فإنها من شدّة حرارتها صارت سودّة ومن هول أصواتها تتقطّع الأفئدة.
٢٧ ـ (قالَ قَرِينُهُ ...) قرينه هو شيطان لأن كلّ إنسان يولد يولد معه شيطان أو يوجد
ويخلق بإذن من الله ويكون قرينه دائما وهو يوسوس له. فقال قرينه : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ
فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ما أنا الذي جعلته طاغيا باغيا متمرّدا على الدّين
ومصرّا على الكفر ، ولكنه هو اختاره ، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثّر في من كان
مختل العقيدة والرّأي مائلا إلى الفجور كما قال (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في ضلالة بعيدة عن الحق والحقيقة وعن الرّشاد والهداية.
والرّشد خلاف الغيّ والضّلال.
٢٨ ـ (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ...) أي لا تتنازعوا أمامي في موقف الحساب فان ذلك غير مفيدة
لأنّي أتممت الحجة عليكم برسلي وبما قرّرت في كتبهم وهم قرءوها عليكم وبلّغوها
إليكم (وَقَدْ قَدَّمْتُ
إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) فما بقي لكم بعد من قول مسموع.
٢٩ ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ...) أي تبديل القول وخلفه لا يجوز عندنا سواء كان القول منّا
أو منكم ، فنعمل على طبق جزائه سواء كان خيرا أو شرّا. وأمّا العفو عن بعض
المذنبين لبعض الأسباب فليس من التبديل ، لأنه إنما يكون عمّى قضي بالعفو عنه لأنه
لم يرتكب كبائر توجب النار ، فهو أيضا مما لا يبدّل القول فيه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فاعذّب من ليس لي تعذيبه.
* * *
(يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))
٣٠ ـ (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ...) وهذا السّؤال والجواب باعتبار ما يأتي فلا بعد فيه ، ألا
ولسان الحال. وعلى التصوّرين لا معنى لحملهما على التخييل والتّصوير كما قيل بل
نقول إنّ جهنّم بل ونارها قابلان للمآل للسؤال والجواب لأنّ كلّ شيء من الأشياء
الدنيويّة ، أو الأخرويّة له حياة بمقتضى الآية الشريفة : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وهذه الشريفة دالّة بظاهرها على حياة الأشياء في الدّنيا
وبطريق أولى تدل على حياة بعض الأشياء في الآخرة لأنّها دار حياة كلّ شيء فيها حتى
حجرها ومدرها. والمدر هو الطين اليابس. والحاصل أن الآية الشريفة تدلّ على أن
جهنّم تتسع لأهلها وتزيد فتطلب الزيادة لتنتقم من الظالمين ولأنها حريصة على تعذيب
أهلها بحيث كلّما ألقي فيها قوم فإنها لا تشبع منهم وتصيح : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فتطرح فيها الجنّة والنّاس فوجا فوجا حتى تمتلئ. وقال
القمّي : هو استفهام حقيقة يكشف عن غاية ميلها لتحريق العصاة أعاذنا الله منها
فإنها تسأل : هل من مزيد. والحاصل فإن الجنة تقول : ربّ وعدت النّار أن تملأها
ووعدتني أن تملأني فلم أمتلئ وقد ملئت النّار. وقيل فيخلق الله يومئذ خلقا ، فيملأ
بهم الجنّة. وقد قال أبو عبد الله عليهالسلام : طوبى لهم لم يروا غموم الدّنيا وهمومها.
٣١ إلى ٣٤ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
...) أي دنت وقربت الجنّة لهم. وفسّرت المباركة بزيّنت. وهذا
التفسير قريب للموضوع ومناسب للمقام
(غَيْرَ بَعِيدٍ) أي لا بعد فيه بينها وبين أهلها (هذا ما تُوعَدُونَ) أي ينادي المنادي من فوق العرش بهذا النداء (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) يعني لكلّ من يسبّح له سبحانه حافظ يحفظه من كل آفة وعاهة.
وهو (مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي بقلب راجع إليه تعالى بالتّوبة والانابة ومنه قوله
سبحانه وتعالى (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي راجعين إليه جلّ وعلا. وخشية الله هي الخوف من عقابه ،
وخشيته بالغيب خاصة هي دوام الخوف منه حتى في الخلوات التي لا يراه فيها غير الله
سبحانه وتعالى. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) يقال لأهل الجنة ادخلوها بسلامة من العذاب والغم ومسلّما
عليكم من الله (ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ) أي يوم الإقامة الدائمة في الجنّة إلى أبد الأبد.
٣٥ ـ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا
مَزِيدٌ ...) هو ما لا رأت عين ولا سمعت أذن بل ولا خطر على قلب بشر من
النّعم التي أعدّها الله لعباده الصالحين ، بل عند سبحانه مزيد من تلك النّعم
يفيضها حين يشاء على المؤمنين به وبرسله.
* * *
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))
٣٦ و ٣٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ ...) أي كم دمّرنا من قوم وأمة قبل قومك في الأزمنة القديمة
الماضية (هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً) البطش الأخذ بسرعة أو بعنف وسطوة وقوّة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) تفحّصوا في البلاد وتجسّسوا فيها لتحصيل الأخبار وما يجري
في البلاد ليطّلع عليها رأس القوم ورئيس العشيرة ، أو جالوا في الأرض. وأصل
النّقيب التّنقير في الشيء والبحث عنه (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) يعني هل من مفرّ لهم من الله أو من الموت؟ أعني ليس لهم من
محيص والمحيص المختبر المطهّر من الذنوب. (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتعقّل به ويتفكّر فيما يقال له من عنده تعالى
بواسطة رسوله صلىاللهعليهوآله (وَهُوَ شَهِيدٌ) الواو حاليّة ، والشهيد صيغة مبالغة أي في حال هو حاضر
بجميع مراتب الحضور حتى يفهم معانيه. وفي تنكير القلب وإبهامه تفخيم وإشعار بأن
ليس كلّ قلب له قابليّة التدبّر والتفكّر بل ذاك لصاحب القلب المتدبر في الحقائق. وفي
المعاني عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال بصوت عال : أنا ذو القلب ، ثم تلا هذه الآية.
٣٨ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ...) أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي ما أصابنا من تعب ولا عياء. وهذه الشريفة ردّ لقول
اليهود أن الله استراح يوم السّبت ، فعلى قولهم شرع يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة
واستراح يوم السبت واستلقى على العرش أي نام على قفاه على سريره مستريحا ، تعالى
الله عن التجسيم وعن أن يحتويه مكان أو أن يحدّ بحدّ.
٣٩ و ٤٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي اصبر على ما يقوله المشركون من تكذيبك فإنهم لا يعجزون
الله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّهه عمّا يقول الكافرون من اليهود وعمّا لا يليق به (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ) أي عند الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) أي فسبّحه
بعض اللّيل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي في عقيب الصّلاة. وعن الصّادق عليهالسلام هو الوتر آخر اللّيل.
* * *
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
نَحْنُ
أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))
٤١ و ٤٢ ـ (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ...) أي انتظر بهم إلى اليوم الذي ينادي فيه إسرافيل عليهالسلام بصيحته التي توقظ الأموات ويحيي الله تعالى الأجساد للبعث
والنشور ، فيسمع الكلّ على حدّ سواء ، وذلك (يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ) أي تلك النّفخة الثانية في الصور (بِالْحَقِ) أي بالوعد الحقّ الذي لا خلف فيه (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي يوم الرجعة والبعث للحساب والخروج من الأجداث. وفي
القمّي : الآية الكريمة تعني الصيحة باسم القائم عجّل الله تعالى فرجه وباسم أبيه
، وذلك يوم خروجه المبارك ليطهّر الأرض من الظالمين.
٤٣ و ٤٤ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ...) أي نحيي الأحياء في الدنيا ، ثم نميتهم بقدرتنا ومشيئتنا ،
وإلينا مصيرهم وما لهم في الآخرة (يَوْمَ تَشَقَّقُ
الْأَرْضُ) تنفتح عنهم قبورهم والأماكن التي ابتلعت رفاتهم من الأرض (سِراعاً) فيأتوننا مسرعين لأن (ذلِكَ) الأمر (حَشْرٌ) جمع (عَلَيْنا يَسِيرٌ) سهل يتم بكامل السرعة والسهولة.
٤٥ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ...) أي نحن أدرى بقولهم كلّه. وهذا تهديد لهم من جهة ، وتسلية
لقلب النبيّ صلىاللهعليهوآله من جهة أخرى ، ولذلك قال سبحانه له : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي لست عليهم بمتسلّط لتقهرهم وتجبرهم بالإيمان (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ) أي حذّر ونبّه به من يخشى تهديدنا ويخاف وعيدنا فإنه لا
ينتفع بالقرآن غيره. وفي ثواب الأعمال والمجمع عن الإمام الباقر عليهالسلام : من أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع الله عليه في
رزقه ، وأعطاه كتابه بيمينه ، وحاسبه حسابا يسيرا.
* * *
سورة الذاريات
مكيّة وآياتها ٦٠
نزلت بعد الأحقاف.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ
يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))
١ إلى ٦ ـ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) ... روي أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام وهو يخطب على المنبر فقال : ما الذّاريات ذروا؟ قال (ع) : الرّياح.
وفي قول مجاهد : الرّياح تذرو التّراب وتنثر شبه التّراب ممّا فيه خفّة لحكمة
ومصالح هو تعالى يعرفها ، وإلّا لزمت لغويّتها. وقال ابن الكواء لعليّ (ع) وهو
يخطب : يا أمير المؤمنين ما معنى (فَالْحامِلاتِ
وِقْراً)؟ قال : السّحاب. ومراده عليهالسلام السّحاب الحاملة للأمطار الثّقيلة لتراكمها ، فتحملها إلى
بلاد تحتاجها قال ابن الكواء : يا أمير المؤمنين (فَالْجارِياتِ
يُسْراً)؟ قال السّفن تجري على وجه الماء بسهولة إلى حيث سيّرت قال
ابن الكواء (فَالْمُقَسِّماتِ
أَمْراً)؟ قال (ع) : الملائكة يقسّمون الأرزاق بين الخلق على ما
أمروا به على حسب حوائجهم في البلاد
(إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ) أي من البعث وغيره ولا خلف فيه (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء (لَواقِعٌ) بلا شبهة وبلا ريب فيه. والفقرتان : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) ، و (إِنَّ الدِّينَ
لَواقِعٌ) هو جواب للقسم الذي بدأ من الآية المباركة الأولى وعطفت
عليه بقية الآيات التالية لها.
* * *
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))
٧ إلى ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ...) أي ذات الطّرق فيها وإليها ، أو النجوم المزيّنة لها ، وهي
جمع حبيك أو حباك أي ما تقاطع وارتبط بعضه ببعض فاشتبك كحياكة الخيطان وحبكه كنسجه
أي شدّه وأوثقه. وفي بعض التفاسير أن (الْحُبُكِ) طرائق النجوم وما يرى على وجه الرّمل وصفحة الماء من
التجاعيد إذا هبّت عليها الرّياح عليها فيشاهد بالوجدان والعيان.
وروى علي بن
إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرّضا عليهالسلام قال : قلت له : أخبرني عن قول الله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ). فقال : محبوكة إلى الأرض ، وشبّك بين أصابعه. فقلت كيف
تكون محبوكة إلى الأرض والله تعالى يقول : رفع السّماء بغير عمد؟ فقال : سبحان
الله أليس يقول بغير عمد ترونها؟ قلت : بلى. قال فثمّ عمد لكن لا ترى. فقلت : كيف
ذلك جعلني الله فداك؟ قال فصرّ كفّه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال هذه أرض
الدّنيا ، والسّماء الدّنيا
فوقها قبّة.
والسماء الثانية فوق السّماء الدّنيا. والسّماء الثالثة فوق الثانية ، ثم هكذا إلى
السماء السابعة فوقها قبة ، وعرش الرحمن فوق السماء السّابعة ، وهو قوله (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ
الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) وصاحب الأمر هو النبيّ والوصيّ بعده وهو على وجه الأرض. وإنما
ينزل الأمر اليه من فوق السماوات والأرضين إلى آخر الحديث فهو طويل أخذنا منه
شاهدا. (إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي إنكم يا أهل مكة أقوالكم مختلفة في محمّد (ص) إذ قال
بعضكم : هو شاعر ، وبعضكم : محمد ساحر ، وبعضكم قال : هو مجنون. وفي كتابه أيضا
أقوالكم مختلفة ، بعضكم قال إنه شعر ، وطائفة أخرى قالت : هو سحر ، وطائفة ثالثة
إنه رجز وكهانة بل تقولون هو ما سطّره الأوّلون (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) أي يصرف عن الإيمان بالحقّ من أفك أي من صرف. ويحتمل أن
يكون المعنى : يمنع عن الإيمان بالحقّ من منع اعتمادا على الإفك أي البهتان الذي
يقوله الكفّار والمعاندون.
١٠ إلى ١٤ ـ (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ...) أي الكذّابون على الله ورسوله. قال ابن عباس ، وقال ابن
الانباري : وإنّما كان القتل بمعنى اللّعنة هنا ، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة
القتيل الهالك. ثم وصف سبحانه هؤلاء الكفّار فقال (الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي في جهلهم ساهون بعمق الجهل وغمره لنفوسهم ، أي بواسطة
كثرة جهلهم كانوا تاركين لله ولرسوله فكيف بأحكامه تعالى (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم جزاء الأعمال ايّ يوم من الأيام وايّ وقت من
الأوقات هو؟ وهذا هو السّؤال ، وأمّا الجواب فهو : (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يحرقون وبأشدّ العذاب يبتلون ويقال لهم : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذاب حريقكم (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) لرؤيته وأنتم في الدّنيا استبعادا له ، فقد حصّلتم الآن
صحّته وعرفتم وقوعه.
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)
كانُوا
قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩))
١٥ إلى ١٩ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ ...) يوم القيامة يكون مقام المتّقين في بساتين الجنان التي جرت
بينها من عيونها أنهار كاللّجين (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قائلين نحن راضون بما أعطانا ربّنا ، ونشكره على عطائه
الذي اختصّنا به (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي أن المتّقين قد أحسنوا بأعمالهم في الدنيا وقبل يوم
القيامة والحساب ، وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا قليلا ما ينامون في لياليهم ، لأنهم كانوا يصلّون
في أكثرها. وبعبارة أخرى ينامون في قليل من اللّيل ، أو نوما قليلا (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي مع ذلك كانوا كأنّهم باتوا في معصية يستغفرون منها ،
ولذا يتململون تململ السليم في ابتهالهم وعبادتهم. (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌ) أي حق ونصيب معلوم ألزموا به أنفسهم (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي من عفّته لا يسأل
الناس فيحسب غنيا ويبقى محروما من الغنيمة والأخماس إذا كان هاشميّا أو في كل
المرّات.
* * *
(وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ
مِثْلَ
ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))
٢٠ إلى ٢٣ ـ (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ
...) أي فيها دلائل وبراهين من بسطها وسكونها وزلازلها واختلاف
بقاع وما فيها من المواليد وغيرها من الأعاجيب التي تحيّرت فيها العقول ، وكلّها
آيات خصّها سبحانه (بالموقنين) أي المصدّقين المقتنعين بالحقّ لأنهم وحدهم
المنتفعون بها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أخرى كثيرة لا تحصى (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أفلا ترون
الأعاجيب في نفوسكم إذ في الإنسان ما في العالم الأكبر ، ويروى أن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام قال :
أتزعم أنّك جرم
صغير
|
|
وفيك انطوى
العالم الأكبر
|
مع ما خصّ به من الأمور
العجيبة من العقل والفهم والإدراكات العجيبة التي ابتدعت الأعاجيب كالآلات
الطّائرة إلى عنان السّماء وكالادوات التي تهبط بها إلى تخوم الأرض وكالسّلطة على
ما بين السماء والأرض وأمثال ذلك من الأمور التي تتحيّر منها العقول البشريّة.
فهذه أمور صارت سببا موجبا لتنبيه الموقنين. (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أكّد سبحانه وتعالى أن الرزق من عنده ينزله إلى العباد ولا
يميّز بين مطيع وعاص لأنه يرحم جميع الأحياء ، وفي السماء كلّ ما وعد الله تعالى
العباد به إذ فيها صحف أعمالهم وثوابهم وعقابهم (فَوَ رَبِّ السَّماءِ) قسم منه عزوجل يقول فيه (إِنَّهُ لَحَقٌ) ما يقوله من أمر الرزق والوعد (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) هو أمر يقينيّ كنطقكم ،! وهو رهن بقوله عزّ اسمه : كن
فيكون.
* * *
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(٢٥) فَراغَ إِلى
أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١)
قالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤))
٢٤ و ٢٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ ...) أي هل جاءك خبر الضّيوف الذين نزلوا على إبراهيم أبي
الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ وفي عدد الملائكة المرسلين إليه خلاف ، وقيل
كانوا أربعة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل المكرمين عليهمالسلام (إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) ولعلّ المراد سلمنا سلاما. والسلام تأمين بالسّلامة من
الوارد على المورود (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ) أي قوم لا نعرفهم. لكنّه أحسّ ووجد في سيماهم السماحة
والنّجابة ، ولذا قال تعالى عنه :
٢٦ و ٢٧ ـ (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ ...) أي ذهب إلى أهل بيته وذبح عجلا له وطبخه (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) مطبوخ. وقال الله في قصة هود (حَنِيذٍ) أي مشويّ (قالَ : أَلا
تَأْكُلُونَ) بعد ما قربه إليهم والهمزة للاستفهام بكيفيّة العرض أو
للإنكار. أيديهم لا تصل إليه : (ما وجس في نفسه) أي أضمر.
٢٨ إلى ٣٠ ـ (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ...) أي خاف منهم لإعراضهم عن
طعامه (قالُوا لا تَخَفْ) لأنهم أحسّوا أنّه عليهالسلام خاف منهم حيث إنّهم امتنعوا عن الأكل والعادة جرت على أن
يأكل الضّيف عند المضيف إذا لم يرد سوءا بمضيفه. (وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وهو إسحاق (فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي توجّهت امرأته سارة صارخة في صيحة استهجان فلطمت على
صورتها تعجّبا وقالت : أنا عجوز عقيم ، أي بنت تسع وتسعين سنة ومن بلغ هذا القدر
من العمر فيطلق عليه العجوز وقولها عقيم أي لم أولد بعد هذا المبلغ من العمر ،
والعقيم بحسب اللغة لا عقب له مع أنه من شأنه أن يكون له عقب. ويطلق العقيم بهذا
اللفظ على الذكر والأنثى وحاصل معناه في كليهما واحد أي مقطوع العقب سواء كان أو
كانت من الأوّل كذلك أم حصل ذلك بعد مرض عرض له أو لها فيطلق عليه وعليها عاقر (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي كما قلنا حينما قلنا في البشارة (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه (الْعَلِيمُ) بخلقه.
٣١ إلى ٣٤ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ ...) أي ما هو شأنكم (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي إلى قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
طِينٍ) الحجارة على قسمين : قسم هو الحجارة الصخريّة المعروفة ،
وقسم آخر هو طين يحرق في نار الجحيم فيصير حجرا قاسيا أمره صعب مستصعب ، وهو يسمّى
بالسّجّيل ، والله تعالى أعدّه للعذاب ، ويكون أكبر من حبّة العدس وأصغر من البيضة
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي جرى وسمها وإعدادها حسب اللازم وأعدّت للمتجاوزين حدود
الله المنغمسين في الفجور الذين لا يقفون عند حدّ في ارتكاب الفواحش.
* * *
(فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٣٥)
فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))
٣٥ إلى ٣٧ ـ (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ...) فيها : يعني في قرى قوم لوط ، فقد كلّف سبحانه رسله من
الملائكة أن يخرجوا المؤمنين من تلك القرى قبل الخسف بها وبأهلها لينجّي سبحانه
المؤمنين من الهلاك (فَما وَجَدْنا فِيها) أي لم يكن في تلك القرى على كثرتها (غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سوى بيت واحد فيه مسلمون وهو بيت لوط عليهالسلام ، وفيه من المسلمين : لوط وابنتاه فقط لأن امرأته كانت على
سيرة قومها. وبعد ذلك أوقعنا فيها أمرنا (وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً) أي جعلناها علامة على بطشنا وإهلاكنا لمن عصانا وتمرّد
علينا وعلى رسلنا الكرام ، وبرهانا واضحا على قدرتنا (لِلَّذِينَ يَخافُونَ
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) لأنهم هم المعتبرون بما حلّ بها لأنهم يحفظون أنفسهم
ويحافظون عليها ولا يفعلون إلّا ما يرضينا ممّا هو في مصلحتهم لأننا لسنا بحاجة
إلى طاعتهم ولا طاعة أحد.
* * *
(وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨)
فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩)
فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠))
٣٨ إلى ٤٠ ـ (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ ...) هذا عطف على (وَفِي الْأَرْضِ) ، الآية ٢٠ أي إن في قصّة موسى عليهالسلام لآية لمن كان يتفكّر ويتدبّر ، وذلك حيث بعثناه رسولا منّا
(إِلى فِرْعَوْنَ) الجبار المتربّب على أهل مصر ، فأرسلناه إليه (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ببرهان واضح قاطع قاهر يجعل لرسولنا السلطة ليغلب به
فرعون وقومه (فَتَوَلَّى) فرعون أي
انصرف عن قول موسى
وإنذاره ، وانحاز (بِرُكْنِهِ) أي بجنوده الذين يستند إلى قوّتهم كالرّكن ويتقوّى بهم (وَقالَ) فرعون عن موسى إنه (ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ) وقد قالها جهلا وتلبيسا على قومه وتضييعا للحقيقة (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) استدرجناهم نحو البحر حين لحقوا بموسى ومن معه (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) ألقيناهم في غمر الماء وأغرقناهم مع فرعون الذي (هُوَ مُلِيمٌ) أي يلام على عمله وكفره وعتوّه وزندقته.
* * *
(وَفِي عادٍ إِذْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١)
ما
تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
فَمَا
اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))
٤١ و ٤٢ ـ (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ ...) هي ريح لا خير فيها ولا نفع ، وقد وصفها سبحانه بالعقيم من
هذه الجهة ولأنها ريح عذاب واستئصال والعياذ بالله منها. أو معناه أنها ريح لا
نظير لها وهذا المعنى أولى بالعقيم من المعنى الأول كما لا يخفى على من تدبّر.
وتلك الريح (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي لا تدع شيئا تمرّ عليه عليه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كفتات الدّم والعظام ورمادها بعد أن تبلى وتصير رميما
باليا.
٤٣ إلى ٤٦ ـ (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ...) قد مرّت قصص إهلاك هؤلاء الأقوام. (والحين) هو اسم للزمان
مبهم ، والمراد به في المقام هو التمتّع في دارهم ثلاثة أيّام كما مرّ سابقا ،
وبعد ذلك ينزل
العذاب عليهم
فيهلكون بها (فَعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي عصوا ، وبعد ثلاثة أيّام حيث جاءتهم معاينة بالنّهار (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما
كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ما قدروا على الثبات أمام الصاعقة وما كانوا ممتنعين
منها (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) اي خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان.
* * *
(وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ
فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
وَمِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا
مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
كَذلِكَ
ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))
٤٧ إلى ٥١ ـ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ...) أي لقادرون على بناء السماء فإنه كان بأيدينا وهي ليست
بواهية. والأيد هو اليد ، والمراد بها القوّة والقدرة التّامّة التي ليست لأحد من
المخلوقين ، ولذا أتى به بخلاف ما هو المشهور في استعماله كما هو الواضح (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي مهّدناها (فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ) أي الذين يبسطون الفراش (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي صنفين كالذّكر والأنثى والطويل والقصير والصّغير
والكبير ولو لم يظهر لهما وجود خارجيّ في بعض الأوقات أو بعض الأنواع.
وبعبارة أخرى
يستفاد من هذه الآيات أن الأشياء بعناوينها الأوليّة لها توالد وتناسل من ذكر
وأنثى لبقاء نسلهما ، غاية الأمر نحن لا ندركهما لغاية صغرهما ولطافة جثّتهما بحيث
لا نراهما أحيانا أكبر بآلاف المرات ممّا هو عليه في الحقيقة. إلّا بالمناظر
القويّة التي توصل الشيء الضعيف ونحن لا نرى مواضع تقاربهما وتناسلهما. والحاصل
أنّنا لا نعلم بشيء من أمور المخلوقين وهو اللّطيف الخبير العالم بجميع أمور
المخلوقات من الذّكر والأنثى ومن الصّغير والكبير والذي يطير والذي لا يطير والذي
يبيض والذي لا يبيض وهو على كلّ شيء قدير وعالم بما خلق. وفي الكافي عن الرّضا عليهالسلام في خطبة له يناسب ذكرها في المقام كما ذكرها بعض الأعاظم
وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين
له. ضادّ النور بالظّلمة واليبس بالبلل ، والخشن باللّين ، والصّرد بالحرّ ، مؤلفا
بين تعادياتها ، مفرّقا بين متدانياتها ، دالّة بتفريقها على مفرّقها ، وبتأليفها
على مؤلّفها. وذلك قوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، ففرّق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، الحديث
(فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ) أي اهربوا إليه بطاعتكم له خوفا من عقابه ، وفرّوا الى
الإيمان والتوحيد وملازمة الطاعة. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام مثله. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف لكم من
العقاب موضح لما جئتكم به من البيان والإنذار (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) لا تشركوا معه معبودا ولا تدعوا له شريكا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تكرير هذا القول للاهتمام بأمره ، والتكرار ملازم لعظمة
المكرّر به.
٥٢ إلى ٥٥ ـ (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) أي كمثل قومك هؤلاء ، فإنه لم يجيء لمن قبلهم (مِنْ رَسُولٍ) ينذرهم ويبشّرهم ويدعوهم للإيمان (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) إلا وصفوه بهذا الوصف. وفي الآية الكريمة تسلية له صلىاللهعليهوآله عما يقول
الظالمون (أَتَواصَوْا بِهِ) أي هل وصّى بعضهم بعضا بهذا القول؟ وهذا استفهام بمعنى
النّفي (بَلْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ) يعني لا ، لم يتواهوا به ولكنهم أهل بغي وطغيان (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي انصرف عنهم وأدر ظهرك لهم (فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ) يعني فلا تلام على إعراضك عنهم بعد بذل الجهد في تذكيرهم
وتخويفهم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي ثابر على الوعظ والإرشاد فإن ذلك ينفع المصدّقّين بنا
وبك ، وهؤلاء هم الذين يهمّنا أمرهم.
* * *
(وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))
٥٦ ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ...) أي ما خلقتهم إلّا من أجل طاعتي وعبادتي ومن أجل أن أختبر
المصدّقين بي وأميّزهم عن المكذّبين. ويستفاد من الشريفة أن الطائفتين كليهما على
حدّ سواء في الأمر بالعبادة. وأما وجه تقديم الجنّ على الإنس في المقام فيمكن أن
يكون لأنّ الجنّ خلق كثير وهم بعيدون عن القابلية للعبادة لأنهم ليسوا بدرجة رقيّ
الإنس ولا بدرجة حضارتهم ، فقدّمهم تشويقا لهم بالعبادة ، أي لأنهم كثيرون جدّا
فاهتمّ سبحانه بالكثرة ، أو أنه قدّمهم في الذّكر بسبب تقدّمهم في خلقهم على البشر
على ما يشار إليه في وجه خلق الإنسان في دار الدّنيا بعد أن كان الجنّ ساكنين فيها
فظهر أن تقديمهم في الآيات والروايات للإشارة إلى تقدّم خلقتهم على الإنسان وأن
خلق الإنسان متأخر بكثير عن خلقهم. وهذا وجه وجيه ذكرناه في علّة تقدّم الجن على
الإنس في الآيات وهذا ما خطر ببالنا القاصر.
وفي العلل عن
الصّادق عليهالسلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليهماالسلام على أصحابه وقال : أيّها النّاس إن الله جلّ ذكره ما خلق
العباد إلّا ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من
سواه. فقال له رجل : يا ابن رسول الله بأبي أنت وأمّي فما معرفة الله؟ قال معرفة
أهل كلّ زمان إمامهم الّذي يجب عليهم طاعته ... فتدبّر.
٥٧ و ٥٨ ـ (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ...) أي لم أخلقهم ليرزقوني ولا ليطعموني كما هو شأن السّادة
والأكابر بالنسبة إلى عبيدهم وأصاغرهم حيث إنهم إنما يملكونهم ويستصغرونهم
ويستعينون بهم في تحصيل معايشهم ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي الّذي يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) المتين من أسمائه تعالى. والمتين هو القويّ الشّديد الذي
لا يعتريه وهن ولا يمسّه لغوب ، ولا يصيبه التعب والإعياء ، ويطلق على مطلق التّعب
كما في المقام.
٥٩ ـ (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي ظلموا رسول الله بالتّكذيب وغصب حقوق أهل بيته عليهمالسلام ، إنّ لهم عليهم (ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي لا تطلبوا منّي العجلة في العذاب الذي ينتظرهم.
٦٠ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ...) أي ويل لهم من يوم القيامة. وفي ثواب الأعمال عن الصادق عليهالسلام : من قرأ سورة والذّاريات في يومه أو ليلته أصلح الله له
معيشته وأتاه برزق واسع ونوّر له في قبره بسراج يزهو إلى يوم القيامة إن شاء الله.
* * *
سورة الطور
مكيّة عدد آياتها
٤٩ نزلت بعد السّجدة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
(٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))
١ إلى ٨ ـ (وَالطُّورِ ...) جبل كلّم الله عليه موسى على نبيّنا وعليهالسلام في الأرض المقدّسة ، وهو في صحراء سيناء ، سمع فيها موسى عليهالسلام كلام الله تعالى على جبل فيها. ويقال لهذا الجبل طور سيناء
بالمدّ والكسر ، وطور سينين ولا يخلو أن يكون طور سيناء مركّبا مضافا ومضافا إليه
اسما للجبل كامرئ القيس. وفي معاني الأخبار : طور سيناء كانت عليه شجرة الزيتون ،
وكلّ جبل لا يكون عليه شجر الزيتون أو ما ينفع الناس من الأشجار والنّباتات لا
يقال له جبلا (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب فيه ، كالقرآن أو التوراة أو ما كتب في اللوح
المحفوظ ، أو
صحائف الأعمال والله أعلم (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أي في الجلد الذي يكتب فيه ما يكتب. أستعير لما كتب فيه
الكتاب. وتنكيرهما للإشعار بأنهما ليسا من المتعارف بين النّاس بل هو أمر آخر من
ذخائر الله تعالى (وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ) قال بعض الأكابر من المفسّرين : هو بيت في السماء الرابعة
عمر بالملائكة ، وقيل هو الصرح (وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ) السقف من البيت هو المرتفع منه الذي يحيط بسطحه وجدرانه
وهو معروف. وسقف كل شيء بحسبه من البيوت والخيم ونحوهما وارتفاع كلّ سقف بحسبه
وأرفعها السماء فإنه سقف الأرض ولذا اختصّه بالذّكر فقال تعالى (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي أقسم بالطور ، وبالكتاب المسطور ، وبالبيت المعمور ،
وبالسقف المرفوع لعظمتها فصارت مقسما بها ، وكذلك قوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) وقد روي أن البحار يوم القيامة تجعل نارا وتسجر بها جهنّم
كقوله (وَإِذَا الْبِحارُ
سُجِّرَتْ) أي ملئت ونفذت بعضها إلى بعض فصارت بحرا واحدا والحاصل ان
المراد بالبحر المسجور هو الذي يمتلئ نارا فتنفذ إلى غيره وهكذا حتى يصير مجموعها
بحرا واحدا مملوءا من النّار. فإنه تبارك وتعالى بعد أن أقسم بكلّ ما ذكر ، قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ
مِنْ دافِعٍ) حيث إنه إذا نزل القدر عمي البصر ، وهذه كناية عن وقوع
الشيء على ما قد قدّر ، ولا يغيّر عما هو كائن.
* * *
(يَوْمَ تَمُورُ
السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ
سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١)
الَّذِينَ
هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ
الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤)
أَفَسِحْرٌ
هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها
فَاصْبِرُوا
أَوْ
لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))
٩ إلى ١٢ ـ (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ...) أي تتحرّك وتضطرب وتدور بما فيها وتموج موجا ، والمور
الموج. أي تذهب وتجيء كما تمور النخلة وتتحرّك بسرعة ونعم ما قال الشاعر في أمثال هذا
المقام :
عباراتنا شتّى
وحسنك واحد وكلّ إلى ذاك الجمال تشير (وَتَسِيرُ الْجِبالُ
سَيْراً) أي سيرا سريعا كسير الريح حين كمال شدّته (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي المكذّبين بالبعث والنشور وبيوم القيامة أو كمال شدّته (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي يخوضون في المعاصي والملاهي كأن لم يكن شيء مذكورا في
باطلهم.
١٣ إلى ١٦ ـ (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا ...) الدّعّ هو الدّفع بعنف فبسرعة يدخلون إليها وشدّة. ومنه
قوله تعالى (فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه عن حقّه دفعا شديدا بعنف وعدم رحمة. ثم يقال لهم
: (هذِهِ النَّارُ
الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فانظروا إليها ليتحقّق لكم ما وعدناكم به من تعذيب من
عصانا وردّ دعوة رسلنا وقال إنهم سحرة وشعراء ، ومكذّبون (أَفَسِحْرٌ هذا) الذي تعاينونه كما كنتم تقولون عن الوحي أنه سحر؟ (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أو أنتم لا ترون دلائله يوم أنذركم بها رسلنا. وهذا تقريع
لهم وتهكم منهم يدلّان على اشتداد غضبه سبحانه على من عصاه وعلى المغضوب عليهم
والضّالّين. وهذا من أبلغ التهكّم والتقريع الذي يشفي الغليل من الكفرة والعصاة.
فهذه هي النّار التي كذّبتم بها من قبل (اصْلَوْها) أي ادخلوها واحترقوا فيها ، والضمير راجع إلى جهنّم (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي صبركم وعدمه (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) في عدم النّفع (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم يرجع إليكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما
آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨)
كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ
مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢)
يَتَنازَعُونَ
فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا
كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦)
فَمَنَّ
اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))
١٧ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَعِيمٍ ...) قال المفسّرون إن التنكير فيهما للتعظيم. وأمّا عقيدتنا
فإن تعريف الشيء لرفع الإبهام عنه ، وأما المواضع التي ليس فيها إبهام فلا تحتاج
إلى التعريف كما فيما نحن فيه. فإن الشيء ينصرف إلى أشرف وأعظم أفراده وما نحن فيه
من تلك الموارد حيث إن أعظم الجنّات وأشرف النّعم هي ما عنده سبحانه وتعالى فينصرفان
إليهما بلا حرف تعريف وبلا توجيه إلى التعظيم فالمتّقون يكونون يوم القيامة في تلك
الجنّات من النعيم الدائم (فاكِهِينَ بِما
آتاهُمْ رَبُّهُمْ) متلذّذين بفاكهتها. والآية الشّريفة قرئت بوجهين : الاوّل
ما كتبناه ، والثاني (فَكِهِينَ) ويفهم من المراجعة كتب اللغة أنه لا فريق بين القراءتين
بحسب المعنى ،
غاية الأمر أن إحدى القراءتين في بعض المعاني أكثر استعمالا من الأخرى وهذا لا
يوجب الفرق بينهما. وأمّا المعاني المشتركة بينهما فهي التعجّب والنّدامة والتنعّم
والتلذّذ وما هو قريب منها ونعم ما قال في نظير هذه المعاني الشاعر الذي تمثّلنا
بشعره قريبا ، وقال :
عباراتنا شتّى
وحسنك واحد
|
|
وكلّ إلى ذاك
الجمال تشير
|
(وَوَقاهُمْ
رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الجحيم المكان الشديد الحرارة أي جنّبهم عن هذا العذاب
الشّديد ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا طيّبا لكم بما عملتم من الحسنات وتراهم يوم
القيامة (مُتَّكِئِينَ عَلى
سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي مصطّفة موصول بعضها ببعض (وَزَوَّجْناهُمْ
بِحُورٍ عِينٍ) مرّ تفسيره.
٢١ إلى ٢٣ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ...) أي المؤمنون وأولادهم (أَلْحَقْنا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ) حشرنا أولادهم معهم (وَما أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرهون ومأخوذ بعمله ان كان خيرا فخير وإن كان شرّا فشرّ
ولا ننقص من عملهم شيئا أبدا بل نزيدهم (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي أعطينا بوفرة وزدناهم وقتا بعد وقت من مشتهياتهم من
أنواع النّعم وممّا فيه قوام حياة الإنسان به غالبا وقد ذكرهما الله تعالى في قوله
من الفواكه واللحوم بأقسامهما العديدة في كلّ زمان ومكان. وأما الألبسة فليست ممّا
به قوام حياة الإنسان كما لا يخفى ،! وكفى دليلا لنا في المقام أنه تعالى لم يذكر
غيرهما لأنه سبحانه في مقام بيان هذه الجهة فقط والمراد بالفاكهة واللحم هو أنواع
الفاكهة اللّذيذة واللحم الطيّب. فالمتّقون يكونون في تلك الجنان مع ذريّاتهم
يتنعّمون ويأكلون الفاكهة واللحم ، و (يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتعاطون بينهم في الجنّة كؤوس الخمر الحلال وقد سمّيت
باسم محلّها لأنها من كؤوس الجنّة التي لا لغو فيها ولا تأثيم أي لا كلام بعدها
بالباطل
والسفاهة بسبب
شربها كخمور الدنيا التي من لوازمها قول الباطل والعربدة التافهة والكلمات التي لا
طائل تحتها كما لا يخفى على من شاهد أهل السّكر في مجالس الشراب وهم في أباطيلهم
وفحشهم.
٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ...) أي يدور عليهم خدمهم ومماليكهم الذين هم في الحسن والبهاء
كالدّرر المستورة المخبّأة في الصّدف والمحفوظة في الأحقاق لتحتفظ برونقها وحسنها (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) أخذ يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم ويتحدّثون بنعمة ربّهم ويتلذّذون
بذكرها (قالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ) أي في أيام الدنيا (فِي أَهْلِنا
مُشْفِقِينَ) خائفين من عذاب الله وحاذرين منه فمن الله علينا بالرحمة
والمغفرة والعفو (وَوَقانا عَذابَ
السَّمُومِ) أي جنّبنا النّار النافذة حرارتها في المسامّ ، ذلك (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نعبده ونحن في دار الدنيا ونسأله فضله ورحمته وعفوه (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي أن ربّنا سبحانه كذلك ، والبرّ هو الجامع للخير كلّه ،
وقد يراد هنا. ببرّه عطاءه أي الجنّة بقرينة المقام. والرّحيم هو عظيم الرّحمة.
* * *
(فَذَكِّرْ فَما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)
قُلْ
تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ
أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))
٢٩ إلى ٣١ ـ (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ...) أي
أنذرهم وأدعهم إلى
الهدى ولست بكاهن يعمل الكهانة التي توجب إطاعة أوامر الجنّ ، وهي قريبة من السّحر
والشعوذة. والكاهن كافر في شرعنا ، والمجنون اسم من الجنّ بمعنى السّتر. ويسمّى
الجنين جنينا لأنه مستور ومخفيّ عن الأنظار ، فإذا ولدته أمه في وقته فلا يسمّى
جنينا لأنه يظهر من السترة التي كانت تخفيه. والحاصل أن المخالفين كانوا يسندون
إليه الجنون وينسبون له السحرة تارة ، ويرمونه بالكهانة تارة أخرى ، وهو سبحانه
نزّهه عن هذه الأمور وعن جميع النقائص والعيوب البشرية فقال : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي يقولون ننتظر به حوادث الدهر والموت (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي تمكّثوا موتي وانتظروه ، فأنا أيضا أنتظر موتكم ووقوع
الحوادث المهلكة بكم.
٣٢ إلى ٣٤ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا
...) أحلام جمع حلم ، وهو هنا العقل ، أي هل تأمرهم عقولهم بهذا
الذي هم عليه والذي يقولونه (أَمْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ) أي متجاوزون لحدودهم ومعاندون للحق؟ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلق القرآن وجعله من عنده ونسبه إلى ربّه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون عنادا وكفرا به (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) هذا في مقام تعجيزهم وردّ قولهم بأن القرآن مفترى ، فقد
تحدّاهم الله سبحانه أن يأتوا بمثله ، وهم عاجزون عن ذلك.
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧)
أَمْ
لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ
(٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ
الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ
عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ
غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))
٣٥ إلى ٤٣ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخالِقُونَ)؟ أي هل وجدوا من غير موجد وخالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) التي خلقت وأوجدت قبل خلقهم وإيجادهم؟ لا ، فإنه لا يعقل
الأثر قبل المؤثّر (بَلْ لا يُوقِنُونَ) لا يصدّقون بشيء من ذلك وإلّا لسمعوا كلام رسوله صلىاللهعليهوآله ، ووحدّوه وأطاعوه سبحانه وأطاعوا رسوله (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي هل يملكون خزائن علمه وفضله فحقّ لهم أن يختاروا
للنبوّة من شاؤوا (أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ) أي المتسلّطون على العالم يرونه حسب مشيئتهم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي مصعد ومرمى إلى السماء يصعدون بواسطته ف (يَسْتَمِعُونَ) الوحي (فِيهِ) أي من على ذلك السلّم (فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) يعني فليجئ ببرهان واضح على دعواه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) كما قال المشركون بأن الملائكة بنات الله (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) فتلك إذا قسمة ضيزى فيها حيف ونقص عجيب (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على تبليغ الرسالة التي أديتها إليهم (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي أثقلهم ذلك الأجر الذي طلبته منهم فصاروا لا يؤمنون
بنبيّهم من أجل ذلك؟ (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ) يعني هل إنهم يعلمون الغيب المختصّ بالله جلّ وعلا (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ذلك ويدوّنونه ويعلمون عواقب الأمور (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي يتمنون مكرا بك؟ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا
هُمُ الْمَكِيدُونَ) المغلوبون الذين يحيق بهم المكر ويعود عليهم وبال الكيد (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم منه سبحانه (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيها له تعالى عن شرك الآلهة. والاستفهام في كلّ ما مضى
من الآيات الشريفة للإنكار والتقريع والسخرية من
الكافرين
والمشركين.
* * *
(وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥)
يَوْمَ
لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))
٤٤ ـ إلى آخر
السورة المباركة : (وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ...) أي إذا رأوا قطعة من السماء ، وقسما منها (ساقِطاً) واقعا على الأرض ينذر بهلاكهم (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي يظنون أنه غيوم متراكبة فوق بعضها مع أنه عذاب ينزل بهم
ولكنهم يكذّبون به (فَذَرْهُمْ) دعهم واتركهم (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي حتى يصلوا إلى اليوم الذي يموتون فيه ويموت الناس جميعا
عند النفخة الأولى (يَوْمَ لا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينفعهم المكر ولا الخداع ولا الدفاع بالباطل ، ولا
يجدون من ينصرهم في باطلهم (وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي ينتظرهم عذاب يحل فيهم قبل عذاب يوم القيامة في الدنيا
بالقتل ، أو في القبر من عذاب البرزخ (وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وقت نزوله بهم (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ) أي انتظر واصبر لإمهالهم من قبلنا ونحن نتولّى أمرك (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرآنا ومنظر منّا وعناية ونحن نكلأك ونرعاك ، وقد
خاطبه سبحانه بالتعظيم والمبالغة ليطمئنّ قلبه الشريف (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ) من مجلسك ومن نومك (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ) أي بعض الليل لأن (مِنَ) للتبعيض
(وَإِدْبارَ
النُّجُومِ) أي حين تدبر فتذهب وتختفي عند ظهور الفجر وانتشار ضوء
الصباح لأنه كلّما وضح ضوء النهار كلّما اختفت أضواء النجوم والكواكب وغلب ضوء
النهار.
* * *
سورة النجم
مكيّة إلّا الآية
٣٢ وآياتها ٦٢ نزلت بعد الإخلاص.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦)
وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى
إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠))
١ و ٢ ـ (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ
صاحِبُكُمْ وَما غَوى ...) هذا قسم منه سبحانه ، قيل إنه أقسم بالقرآن إذ أنزله نجوما
في مدى ثلاث وعشرين سنة ، وقيل عنى الثريّا ، وقيل جميع النجوم ، وقيل قصد الرّجوم
من النجوم فقط وهي التي ترمى بها الشياطين إذا أرادوا الاستماع. والحاصل انه تعالى
أقسم بالشيء العظيم من مخلوقاته أنه (ما ضَلَ) أي ما عدل عن الحقّ (صاحِبُكُمْ) محمد صلىاللهعليهوآله (وَما غَوى) ولا فارق الهدى ، ولا سها عن شيء ممّا يؤدّيه من الوحي. وفي
المجمع عن الإمام
الصادق عليهالسلام أنها لّما نزلت أخبر بها عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله وطلّق ابنته وقال : كفرت بالنجم وبربّ النجم ، فدعا عليه
رسول الله (ص) وقال : اللهم سلّط عليه كليا من كلابك ، فخرج عتبة في تجارة الى
الشام فجاءه أسد فافترسه وهو نائم بين أصحابه بعد أن استولى عليه الخوف والرّعب
منذ دعاء النبيّ (ص) عليه.
٣ و ٤ ـ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ...) أي لا يتكلم معكم ويقرأ القرآن عن هوى في نفسه وميل في
طبعه (إِنْ هُوَ) أي ما القرآن (إِلَّا وَحْيٌ) نحن ننزله عليه ويبلّغكم إياه مع سائر ما فيه من عبر
وأحكام (يُوحى) من عندنا.
٥ إلى ٧ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى ...) أي علّمه ذلك القول وذلك القرآن جبرائيل عليهالسلام القويّ في نفسه وخلقته. والمرّة هي القوّة والشدّة في
الخلق وكيف لا يكون جبرائيل (ع) كذلك وقد اقتلع مدائن لوط ورفعها إلى السماء
وقلبها فدمّرها وأهلك من فيها بأمر ربّه تبارك وتعالى؟ وكلمة (فَاسْتَوى) تعني أنه ظهر لمحمد (ص) على صورته العظيمة التي خلقه الله
تعالى عليها (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى) هو : كناية عن جبرائيل (ع) حيث تجلّى لرسول الله (ص) في
أفق المشرق فرؤي يسدّ ما بين المشرق والمغرب ، فرآه النبيّ (ص) على صورته الحقيقية
فخرّ مخشيّا عليه لما أحسّ من عظمة الله سبحانه وتعالى :
٨ إلى ١٠ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ ...) أي اقترب من محمد (ص) على صورة الآدميين فضمّه إلى نفسه ،
وتدلّى يعني ازداد في القرب نزولا نحو محمد صلىاللهعليهوآله (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ) منه ، أي على بعد ذراعين (أَوْ أَدْنى) أو أقرب من ذلك (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فأوحى الله تبارك وتعالى إلى عبده محمد (ص) ما أراد أن
يوحيه على
لسان جبرائيل (ع).
* * *
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))
١١ و ١٢ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ...) الكلام المبارك يدور حول ما رآه النبيّ (ص) ليلة الإسراء
حيث (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) يومئذ ، أي لم يكذب فؤاد محمد بما رآه بأمّ عينه ، فإن
عقله ووعيه ما أوهماه بشيء ولكنه رأى ذلك حقيقة ، وهذا يعني أنه (ص) علم عظمة ربّه
بقلبه وأدرك قدرته وملكوته من خلال ما رآه من مظاهر العظمة من ملكوت السماوات (أَفَتُمارُونَهُ) يعني أتجادلونه بباطلكم (عَلى ما يَرى) بعينه ويعيه بعقله ويطمئنّ إليه قلبه؟ وذلك أنهم جادلوه
بقضية إسرائه ومعراجه وقالوا له صف لنا بيت المقدس كما ذكرناه في مكان آخر.
١٣ إلى ١٥ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ...) أي رأى جبرائيل عليهالسلام في صورته التي خلقه الله عليها مرة ثانية (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) وهي الشجرة التي عن يمين العرش فوق السماء السابعة ينتهي
إليها علم كل ملك ، وقيل هي ما ينتهي إليه عروج كل شيء ، ومن عندها ينزل كلّ أمر.
وقيل هي شجرة طوبى نفسها. (عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى) أي عندها جنّة الخلد والمقام الدائم.
١٦ إلى ١٨ ـ (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ...) قيل إن السدرة المذكورة
يغشاها الملائكة ففي
المرويّ عنه (ص) أنه قال : رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح الله. وإنّما
أبهم الأمر سبحانه في الآية لتعظيم شأن ما يغشاها وتفخيمه (ما زاغَ الْبَصَرُ) لصبر محمد (ص) ما انحرف يمينا ولا يسارا ولا مال لجهة (وَما طَغى) يعني ما جاوز القصد (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) وهي آياته العظيمة التي شاهدها ليلة معراجه الشريف كصورة جبرائيل
(ع) وكسدرة المنتهى ، وكعجائب السماوات كلها ، فقد رأى من الآيات ما زاد به يقينه
وعظم إيمانه.
* * *
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣))
١٩ و ٢٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ...) أي أخبرونا عن هذه الآلهة المزوّرة التي تعبدونها هي (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وتدّعون أنها شفعاء لكم ما هي قيمتها وما هو مبلغ
استطاعتها في الخلق والرّزق والعظمة؟ واللات صنم لثقيف ، وكذلك العزّى فهي شجرة
عظيمة عبدتها غطفان ، ومناة أصنام من حجارة كانت في الكعبة ، فهل نفعتكم هذه
الآلهة أم بيدها ضرر لمن عصاها ، وهل تعدلونها بالله جلّ وعلا؟
٢١ و ٢٢ ـ (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ...) أي يا كفار قريش ويا أيّها المشركون كيف تجعلون لأنفسكم
الذكور وتختارون لله عزوجل الإناث
وترضون له ما لا
ترضونه لأنفسكم؟ (تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى) أي هذه قسمة جائرة غير عادلة أن تستأثروا بالذكور وأن
تجعلوا لله تعالى البنات وتقولون : الملائكة بنات الله ..
٢٣ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ...) أي أن تسميتكم لهذه الأصنام وجعلها آلهة وأنّها بنات الله
، هي من بدعكم وبدع آبائكم من قبلكم (ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ) يعني لم ينزّل سبحانه فيها حجة ولا برهانا يصدّق قولكم
فيها (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) انصرف سبحانه من الخطاب للغيبة للتقرير ، فهم يسيرون على
غير هدى دون علم (وَ) يتّبعون (ما تَهْوَى
الْأَنْفُسُ) أي ما تميل إليه النفوس الأمّارة بالسوء (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) أي البيان الذي حمله إليهم رسوله الكريم في القرآن العظيم.
* * *
(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما
تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ
مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))
٢٤ و ٢٥ ـ (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ...) هذا استفهام تقريع واستهزاء ، يعني هل للإنسان الكافر (ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام؟. لا (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولى) ولا يملك فيهما أحد شيئا إلا من بعد إذنه سبحانه. وقيل إنه
يعني أن ليس للإنسان أن ينال ما يتمّناه دون عمل ، وليس الأمر كذلك.
٢٦ ـ (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ ...) فقد قصد أن الكثرة الكاثرة من الملائكة الموجودين في
السماء لا تفيد شفاعتهم بأحد ، ولا تجدي (شَيْئاً) ينتفع به الإنسان (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) يسمح لهم بالشفاعة (لِمَنْ يَشاءُ) من العباد الذين هم أهل لأن يشفع بهم من أهل الإيمان
والتوحيد (وَيَرْضى) بأن يشفع بهم ، وذلك كقوله سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ثم بدأ بذم مقالتهم السخيفة فقال سبحانه وتعالى :
٢٧ و ٢٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ ...) أي الذين لا يصدّقون بالبعث والنشور والحساب فإنهم (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ
الْأُنْثى) فيزعمون أنهم بنات الله ، تعالى الله عن أن يكون له ولد
علوّا كبيرا. فهم يقولون ذلك (وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ) فلا يقين عندهم بكون الملائكة بنات (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الذي يخطئ ويصيب (وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فلا يقوم الظنّ مقام العلم لأن المقصود بالحق هنا هو العلم
اليقينيّ.
٢٩ و ٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنا ...) أي انصرف يا محمد عن كلّ من انصرف عن توحيدنا والإيمان بنا
(وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا
الْحَياةَ الدُّنْيا) أي لم يرغب إلّا في الدنيا ومفاتنها. فلا تقم وزنا
لأقوالهم وداوم على إنذارهم لأن (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ) أي هذا منتهى علمهم فهم قاصرون قد غرّتهم الدنيا فتمتعوا
بلذّاتها العاجلة الزائلة شأن من لا ينتظر العواقب ، فهم كالأنعام التي تعيش بلا
تفكير ولا تدبّر (إِنَّ رَبَّكَ) يا
محمد (هُوَ أَعْلَمُ) من جميع الخلق ومنك وأدرى (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ) أي عدل عن سبيل الحق (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اهْتَدى) وأعرف بمن هدي إلى الحق.
* * *
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))
٣١ و ٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) يخبر سبحانه عن عظمة ملكه وسعة سلطانه ، فله السّماوات
والأرض وما فيهنّ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا) قيل إن اللّام جارّة وهي تتعلّق بمعنى الآية السابقة ، أي
أنه تعالى أعلم بمن ضلّ وبمن اهتدى ، وإذا كان كذلك جازى كلّا بعمله وبما يستحقه (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي وحّدوا ربّهم وعبدوه : فيجازيهم (بِالْحُسْنَى) أي بالجنّة التي وعدهم بها. ثم وصفهم سبحانه بقوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ) أي الذنوب العظيمة والكبائر (وَالْفَواحِشَ) وهي أقبح الذنوب (إِلَّا اللَّمَمَ) أي صغار الذنوب كالنظرة والقبلة وما كان دون الزّنى (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تاب وأناب (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) حتى قبل خلقكم (إِذْ) حيث (أَنْشَأَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) يعني بذلك أباكم آدم عليهالسلام ، ويعني الجميع لأنهم يتغذّون بما يعطيهم الله تعالى من
الأرض (وَإِذْ أَنْتُمْ
أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ) وحيث كنتم أجنّة في الأرحام وقبل أن تولدوا ، فإنه يعلم
كلّ نفس إلى ما هي صائرة إليه (فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ) لا تمدحوها ولا تعتبروها زكيّة خيّرة فإنه سبحانه (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أعرف بمن تجنّب الشّرك والكبائر واتّبع رضوان الله.
* * *
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩)
وَأَنَّ
سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ
الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))
٣٣ إلى ٤١ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى
قَلِيلاً وَأَكْدى ...) أي نظرت إلى الذي أدبر عن الحق واعطى قليلا من الصدقات
وأكدى : أي أمسك عن العطاء أو منعه منعا شديدا (أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي هل يعرف ما غاب عنه من علم العذاب الذي سيصل ويرى أن
صاحبه يتحمّل عنه عذابه الذي استحقّه؟ ... وقيل إن هذه الآيات نزلت في عثمان بن
عفّان أو في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع الرسول فعاتبه أحد الكافرين على
ذلك وقال له قد فضحت أشياخك وآباءك ، فعد إلى عقيدة آبائك فأنا أتحمّل عنك العذاب
في يوم القيامة ، فأطاعه ، فنزلت هذه الآيات. والحاصل أن المقصود كيف اقتنع وهو لا
يعلم ما يصير إليه أمر الكافرين؟ (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى) عليهالسلام يعني : ألم يخبر بما في التوراة (وَإِبْراهِيمَ) يعني وبما في صحف إبراهيم عليهالسلام (الَّذِي وَفَّى) أي أتمّ ما كلّف بتبليغه وأدّى ما أمر به كاملا؟ ثم بيّن
سبحانه ما في
صحفهما وهو (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد جرم أحد ولا يؤخذ أحد بذنب غيره (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) عطف على ما سبق ، يعني أنه لا يجزى إلّا بعمله. وقيل إن
هذا الشرط يصدق على الأمم السابقة أما أمّة سيّدنا ونبيّنا خاتم الرسل صلوات الله
عليه وآله فهي منسوخة بقوله جلّ وعلا : (ألحقنا بهم ذرياتهم) فرفع درجة الذّرية من
غير أن يستحقوها بأعمالهم. فهذه الأمة مرحومة بأن لهم ما سعى به غيرهم نيابة عنهم
، ومن هنا جاء تشريع النيابة بالطاعات إلّا ما قام عليه الدليل وفي المجمع أن
امرأة جاءت إلى رسول الله (ص) وقالت : إن أبي لم يحجّ ، فقال : حجّي عنه. (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يعني أن عمله سوف يرى عند الحساب (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيعطى عن الطاعات أكثر ما يستحق من الثواب تفضّلا من الله
وكرما.
* * *
(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ
أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ
الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرى (٤٩))
٤٢ إلى ٤٥ ـ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ...) هذا عطف على ما سبقه ، ومعناه ، أنّ النهاية تقود إلى ثواب
ربّك وعقابه ، وإليه المصير بعد أن ينقطع العمل بموت الإنسان (وَأَنَّهُ) سبحانه (هُوَ أَضْحَكَ
وَأَبْكى) أي خلق سبب الفرح والسرور أو الحزن والأسى. وفي المجمع أنه
أضحك أهل الجنّة بما وفّر لهم من أسباب السرور ، وأبكى أهل جهنّم بما حاق بهم
من سوء عملهم
الّذي أوصلهم إلى العذاب ، وقيل غير ذلك (وَأَنَّهُ هُوَ
أَماتَ وَأَحْيا) أي أمات الأحياء في الدّنيا ، وأحياهم في الآخرة للحساب
والجزاء وما من أحد يملك هذه القدرة غيره.
٤٥ إلى ٤٩ ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ...) أي جعل الصّنفين والنوعين من جميع الحيوانات ، وذلك (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي من نطفة ـ نواة صغيرة جدا ـ تنصبّ مع المنيّ في رحم
المرأة ويخلق منها الولد بعد أن تلبث فيه وقتا مقرّرا (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي إعادة الخلق يوم البعث حين تعود الأجساد إلى ما كانت
عليه في دار الدنيا ، وقد جعل هذا الأمر واجبا عليه أخذه على نفسه ليجزي المحسن
بإحسانه ويعاقب المسيء على إساءته ، ولذلك قال : (وَأَنَّ عَلَيْهِ) أي قد ضمن ذلك ليقتصّ للمظلوم من الظالم وليثيب من عمل
الصالح (وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى بالمال ، ومكّن الناس من اقتناء الأشياء والحصول
عليها مالا كانت أو غير مال ، وهو ما يدّخر بعد الاكتفاء منه. وقيل أغنى بالقناعة
وأقنى بالرضا (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ
الشِّعْرى) أي خالقها وموجدها ومالكها دون غيره. وقيل إن خزاعة كانت
تعبد الشّعرى التي هي مجموعة نجوم هائلة الحجم متباعدة المسافات ، كثيرة العدد ،
وربّما كانت هي التي يسميها الناس درب التّبان.
* * *
(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ
عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما
أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ
(٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ
اللهِ
كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا
تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ
سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا (٦٢))
٥٠ إلى ٥٦ ـ (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ...) وهم القوم المتناسلون من عاد بن إرم ، أهلكهم سبحانه
بالريح الصّرصر العاتية التي ذكرها في القرآن الكريم. وقد سمّاهم (عاداً الْأُولى) لأنهم كان منهم عاد الأخرى التي هي من عقبهم والتي أفنت
بعضها بالبغي على بعضها. فقد أهلك عادا (وَثَمُودَ) أهلكها أيضا وهي قوم صالح (فَما أَبْقى) فلم يترك منها أحدا. أمّا نصب (عاداً) و (ثَمُودَ) فهو على كون ذلك موجودا في صحف إبراهيم وموسى ، فكأنه قال
: أم لم ينبّأ بأنه أهلك كذا وكذا؟ إلخ ... (وَقَوْمَ نُوحٍ) أهلكهم (مِنْ قَبْلُ) قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي كانوا أشدّ ظلما وطغيانا من غيرهم بدليل طول المدة التي
دعاهم فيها نوح عليهالسلام أي ألف سنة إلا خمسين عاما ولم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا من
الإيمان إلى الكفر (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني قرى قوم لوط التي خسف الله تعالى بها (أَهْوى) أي أسقط ، إذ قلبها جبرائيل عليهالسلام بعد أن اقتلعها من الأرض وارتفع بها وأهوى بها إلى الأرض
فدمّرها بمن فيها (فَغَشَّاها) أي ألبسها الله ثوب العذاب الأليم (ما غَشَّى) أي ما ألبس من الخزي والرمي بالحجارة المسوّمة التي رماهم
بها من السماء (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى) أي بأي نعم الله وأفضاله تشكّ وترتاب أيها المخلوق الضعيف
المحتاج؟ فإن نعم الله سبحانه تدلّ على وحدانيته فكيف تنكرها وتجحد بوحدانيته؟
ولذلك عدّد سبحانه لك هذه النّقم التي حلّت بالأمم المعاندة الكافرة (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) النذير هو رسول الله صلىاللهعليهوآله. والنّذر الأولى هم الذين سبقوه في الرسالة. وقيل إن هذه
الأخبار التي سردها هي نذير لمن كان له فكر يتدبّر وعقل يتفكّر إذ (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة ودنت وأصبحت
ساعة القيامة
قريبة و (لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي أنها إذا حلّت بالخلق وغمرتهم شدائدها وأهوالها ، لم
يكشفها عنهم سوى الله عزوجل ولا يردّ أهوالها غيره (أَفَمِنْ هذَا
الْحَدِيثِ) أي ما قدّمنا لكم من الأخبار. وفي المجمع عن الإمام الصادق
عليهالسلام معناه : أفمن هذا القرآن ونزوله من عند الله على محمد صلىاللهعليهوآله وكونه معجزا. والحاصل هل من هذا القرآن الكريم وما فيه من
أخبار (تَعْجَبُونَ) تتعجبون أيها الكفرة المشركون ، ومنه (تَضْحَكُونَ) استهزاء به (وَلا تَبْكُونَ) خوفا ممّا فيه من الوعيد فتمتنعون عمّا أنتم فيه من الجحود؟
(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي غافلون في غيّكم ، لا هون عن الحقّ ، معرضون عن إنذاره؟
(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا) هذا أمر منه جلّ وعلا بالسجود له وبعبادته دون غيره بتمام
الإيمان والإخلاص لنيل مرضاته والدخول في رحمته. والسجدة واجبة هنا بحسب ما ذهب
إليه أصحابنا.
* * *
سورة القمر
مكية إلّا الآيات
٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦ ، فمدنية وآياتها ٥٥ نزلت بعد الطارق.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا
آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢)
وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ
فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥))
١ و ٢ ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ ...) أي قربت ساعة الموت لجميع الناس التي تعقبها القيامة ،
فخذوا حذركم منها وخذوا العدة. وأما انشقاق القمر ، فعن ابن عباس أنه اجتمع
المشركون إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم
رسول الله (ص) إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم. وكانت ليلة بدر. فسأل رسول الله (ص)
ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فرقتين ورسول
الله ينادي يا
فلان ويا فلان اشهدوا. وقال ابن مسعود : والذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقتي
القمر. وقال جبير بن مطعم : انشقّ القمر حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا
الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، وقال لهم رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس
كلهم. (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا) أي إذا رأوا معجزة أو برهانا صادقا على نبوّة محمد صلىاللهعليهوآله ينصرفون عنها عنادا وكفرا ولا يتأمّلون ولا يفكّرون.
والمقصود بهم قريش الذين لم ينقادوا للآيات حسدا وعنادا (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي أن الآيات التي يأتي بها محمد (ص) هي سحر قويّ ليس له
نظير. ومستمرّ : يعني مستحكم وشديد ، وهذا القول تلفّظوا به حين انشقاق القمر.
٣ إلى ٥ ـ (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ
...) العجيبة التي شاهدوها وعلموا بما وسوست لهم به نفوسهم
وسوّل لهم هواهم وزيّن لهم الشيطان من باطلهم المقيمين عليه (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي أن الخير يستقر بأهله ، والشر يستقر بأهله ، يعني أن كل
أمر ثابت على صاحبه حتى يجازى بحسبه فإمّا أن يثاب وإمّا أن يعاقب. وقيل إن كل أمر
استقر يعني أنه سيظهر على حقيقته في الآخرة ويعرف كما هو واقعا (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي جاء الكفار من الأخبار العجيبة في القرآن التي وصف بها
كفر من تقدّم من الأمم والنّقمة التي حلّت بهم حين أهلكهم الله تعالى ، فجاءهم من
ذلك (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه موعظة تزجر المرء عن العصيان والكفر والتكذيب (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) هذا القرآن العظيم هو أعظم حكمة بلغت الغاية في الوعظ
والبيان (فَما تُغْنِ
النُّذُرُ) أي ما تفيد النّذر مع تكذيب هؤلاء المعاندين وكفرهم.
والنّذر جمع نذير ، وهو المخوّف من عاقبة العصيان. و «ما» في (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) إمّا أنّها للجحد فهي حرف أي : فلا تغني النّذر ، وإمّا
أنّها استفهام فتكون اسما ويكون التقدير : فأيّ شيء تغني النّذر.
* * *
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠))
٦ إلى ٨ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ ...) أي أعرض عنهم وانصرف عن عنادهم وسفههم وكفرهم ولا تعتن بما
يقولون (يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي يوم يدعوا إلى شيء منكر غير معروف ولا تعوّده الناس ،
أو أنه أمر فظيع ينكرونه استعظاما لوقوعه. وقيل إن الداعي هو إسرافيل عليهالسلام يوم يدعو الناس إلى المحشر في النفخة الثانية. وقيل بل هو
من يدعوهم إلى النار بعد خروجهم من القبور وبعد الحساب. والحاصل أنه انتظر يا محمد
إلى ذلك اليوم حيث يكونون (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم خاضعة لهول الموقف ورؤية العذاب الشديد
حين (يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْداثِ) أي من القبور ومفردها : جدث (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
مُنْتَشِرٌ) وصف لكثرتهم وفيه تصوير لفزعهم ورعبهم واختلاط بعضهم ببعض
كالجراد الذي يطير من ها هنا إلى ها هنا على غير هدى (مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ) أي حائين مقبلين نحو الذي دعاهم ومسرعين لإجابته حيث (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي هذا يوم صعب شديد الصعوبة ، يقولون ذلك يومئذ عند
مواجهة العذاب الذي ينتظرهم.
٩ و ١٠ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّب قبل كفّار مكة قوم نوح الذين (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا ، تماما كما كذّب قومك يا محمد وكما جحدوا نبوّتك
ورسالتك ودعوتك (وَقالُوا) أي قوم نوح : هو
(مَجْنُونٌ) أي قد طمس على عقله (وَازْدُجِرَ) أي زجروه وشتموه ورموه بكل قبيح افتراء عليه (فَدَعا رَبَّهُ) استغاث به قائلا (أَنِّي مَغْلُوبٌ) مع قومي مهان مظلوم (فَانْتَصِرْ) فانتقم لي منهم وانصرني عليهم ودمّرهم وأهلكهم لأنهم
قهروني بالعناد ولم يقنعوا بحججي وبراهيني.
* * *
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١)
وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)
وَحَمَلْناهُ
عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي
بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥)
فَكَيْفَ
كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))
١١ إلى ١٥ ـ (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ ...) هذا بيان منه سبحانه لاستجابته إلى دعاء نبيّه نوح عليهالسلام ، فإنه حين دعا الله على قومه بالإهلاك فتح الله تعالى
أبواب السماء وفجّرها بالمطر فأجرى الماء كأنه كان محصورا بباب انفتح عنه فانهمر :
أي انصبّ انصبابا قويّا شديدا لا ينقطع (وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً) أي شققناها فخرجت منها الينابيع حتى جرى ماء المطر وماء
الينابيع على وجه الأرض فصارت طوفانا من الماء عجيبا (فَالْتَقَى الْماءُ) أي ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ) أي اجتمعنا من أجل إنجاز أمر قدّره الله سبحانه وهو إهلاك
قوم نوح بالغرق ، كما قدّر ذلك عليهم في سابق علمه وسجّله في اللوح المحفوظ (وَحَمَلْناهُ) أي حملنا نوحا عليهالسلام لننجيه من الغرق (عَلى ذاتِ أَلْواحٍ
وَدُسُرٍ) على سفينة مصنوعة من اللوح المركّب بعضه إلى بعض ، وهي
أخشابها. والدّسر يعني المسامير التي شدّتها بعضها إلى بعض ، ثم
راحت السفينة (تَجْرِي) تسير على الماء (بِأَعْيُنِنا) أي بحراستنا وحفظنا لها وبمرآنا تحفظها ملائكتنا الموكّلون
بها سائرة على وجه الماء الذي أعددناه (جَزاءً لِمَنْ كانَ
كُفِرَ) أي إكراما لمن كفر به قومه ورفضت دعوته فجعلنا ذلك ثوابا
له بأن نجّيناه وأغرقناهم لأنهم جحدوا رسالته ورفضوا الانصياع لأوامر ربّهم
ونواهيه (وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً) أي أبقينا هذه الحادثة برهانا واضحا ودليلا ساطعا ، وعلامة
يراها كلّ ذي لبّ فيعتبر بها (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) فهل في الناس من متذكّر ومتّعظ فيخاف بطش ربّه إذا عصاه؟
١٦ و ١٧ ـ (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ...) أي فكيف رأيتم انتقامي بعد إنذاري لكم بالعذاب أيها
المعاندون لرسلي؟ وهذا استفهام يدل على التعظيم لشأن هذه الواقعة الأليمة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي أننا سهّلنا هذا القرآن للتلاوة والحفظ فلا يصعب فهمه
ولا استيعاب ما فيه من عبر ، والتسهيل يدعو إليه ويجعله خفيفا على النفس سهلا على
اللسان ، قريبا للقلب لحسن بيانه وظهور برهانه ووضوح معانيه وكثرة حكمه. وقد كرّر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) رحمة بعباده ورأفة بهم فلعلّهم يتّعظون ويعتبرون بما في
القرآن من الآيات والبيّنات.
* * *
(كَذَّبَتْ عادٌ
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨)
إِنَّا
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))
١٨ إلى ٢٢ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي
وَنُذُرِ ...) أي كذّب قوم عاد رسولهم وهو هود عليهالسلام ، فأهلكناهم بتكذيبهم له ، فكيف ترى أيها المخلوق عذابي
لهم وإنذاري إيّاهم؟ ثم شرح سبحانه كيفيّة إهلاكهم فقال عزّ من قائل : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً) أي بعثنا عليهم
ريحا شديدة الهبوب
شدة البرودة ، من (الصر) الذي هو البرد ، أرسلناها (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) يوم شرّ وسوء وشؤم (مُسْتَمِرٍّ) دائم لأن الريح بقيت سبع ليال وثمانية أيام كما ذكر سبحانه
في غير هذا المقام ، فاستمرت عليهم حتى أهلكتهم ، وكانت (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي تقتلعهم وتجتثّهم ثم ترفعهم في الجو وترمي بهم الأرض
فتدقّ أعناقهم فيصبحون (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي كأنهم عروق النخل وجذوعها المنقطعة المنقلعة لأن رؤوسهم
فارقت أبدانهم (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) مرّ تفسيره منذ آيات (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ كرر الاستفهام سبحانه ليرغّب الناس في الارتداع عن
المعاصي.
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً
مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥)
سَيَعْلَمُونَ
غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ
(٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨)
فَنادَوْا
صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))
٢٣ إلى ٣٢ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ،
فَقالُوا ...) أي أنّ قوم صالح عليهالسلام ، وهم ثمود ، كذّبوه بإنذاره الذي جاءهم به. وعلى قول من
قال
إن النّذر جمع
نذير يكون المعنى أنهم كذّبوا جميع الرّسل بتكذيبهم لصالح عليهالسلام ، لأن من كذّب نبيّا فكأنه كذّب جميع أنبياء الله تعالى
لأنهم داعون للتوحيد ولعبادة الله ولحسن المعاش والمعاد (فقالوا أبشر منا واحد
نتبعه) أي كيف نصدّق قول واحد منّا من البشر ونتّبع ما يقوله لنا مع أنه من بني
آدم مثلنا؟ (إِنَّا إِذاً) في هذه الحالة (لَفِي ضَلالٍ) خطأ وانحراف عن الحق (وَسُعُرٍ) في عذاب شديد فيما يلزمنا من اتّباعه وطاعته إن نحن
صدّقناه. ولا يخفى على العاقل اللبيب أن هذا الاعتذار منهم بهذه الشّبهة ركيك سخيف
لأنهم برّروا تكذيب نبيّهم عليهالسلام فتعجّبوا قائلين : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟) أي كيف نزل عليه الوحي واختصّه الله بالنبوّة دون غيره
منّا؟ وهذا استفهام إنكار وجحود. لا ، لن يكون ذلك (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ
أَشِرٌ) أي كاذب بطر أخذته الكبرياء علينا فادّعى النبوّة. وعلى
هذا الكلام البذيء أجابهم سبحانه بقوله المبارك : (سَيَعْلَمُونَ غَداً) سيعرفون يوم القيامة ، وكلّ آت قريب فكأنه يقع غدا وذلك
على وجه التقريب. (مَنِ الْكَذَّابُ
الْأَشِرُ) من هو الكذاب رسولنا أم هم؟ وقد ذكر مثل قولهم تماما
توبيخا لهم وتحقيرا وتهديدا. أمّا الآن ف (إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي نحن باعثوها لهم تماما كما طلبوها من رسولنا صالح (ع)
قطعا لأعذارهم وجوابا على سؤالهم التعجيزيّ لنجعلها امتحانا لهم واختبارا فينفرد
المصدّقون عن المكذّبين بآيتنا العجيبة التي جعلناها تحدّيا لتعنّتهم وعنادهم إذ
سألوه أن يخرج لهم من اصخرة عيّنوها ناقة حمراء عشراء تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثم
تعود عليهم بمثله لبنا فكانت كما طلبوا (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظر أمر الله بهم وانظر ما يفعلون (وَاصْطَبِرْ) على أذاهم الذي يصيبك إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم (أَنَّ الْماءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي أنه يكون يوما للناقة ويوما لهم (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي كل نصيب هو لأهله يحضرونه فلا يحقّ لهم ورود الماء في
يومها ، ولا هي تقرب الماء في يومهم ، فلهم في
يوم ماء وفي يوم
لبن بدله يشربونه من الناقة بحينه تحلب لهم ما يكفيهم ويغنيهم عن الماء في يومها.
فلم يرضوا بذلك بعد إتمام المعجزة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) أي دعوا واحدا منهم عيّنوه من أشرارهم وهو قدار بن سالف
الملعون عاقر الناقة الخبيث (فَتَعاطى) تناول الناقة بالعقر وباشره. وقيل كف لها في أصل صخرة
فرماها بسهم فأصاب عضلة ساقها ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فارتمت إلى الأرض
فنحرها (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظر كيف كان عذابي لهم بعد إنذاري (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً
واحِدَةً) هي صيحة جبرائيل عليهالسلام بهم وقيل هو العذاب الذي نزل بهم (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي أنهم صاروا مثل حطام الشجر المنكسّر المرضوض الذي يلمّه
صاحب الحظيرة لغنمه. والمعنى أنهم هلكوا وأصبحوا كالحصيد اليابس المتحطّم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ هو قسم منه سبحانه بأنه سهّل هذا القرآن ليفهمه الناس
ويتّعظوا به كما قلنا سابقا.
* * *
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ
صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))
٣٣ إلى ٤٠ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ...) أي كذّبوا بما أنذرناهم به أو برسولنا إليهم (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) أي بعثنا عليهم ريحا تحمل
صغار الحجارة ،
حصبتهم بها ورمتهم بحجارة من السماء فحلّ بهم العذاب (إِلَّا آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ) استثنى لوطا (ع) وأهله ، أي خلّصهم من العذاب الذي حلّ
بقومه (بِسَحَرٍ) أي أنجاهم بأن خرجوا من بينهم قبيل الفجر وقبل نزول العذاب
(نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنا) تفضلا عليهم منّا ، والتقدير : أنعمنا عليهم نعمة (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي بهذه الطريقة وأمثالها ننعم على الذي يعرفنا ويوحّدنا
ويحمدنا على نعمنا (وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ) لوط عليهالسلام حذّر قومه (بَطْشَتَنا) أخذنا لهم بالعذاب المشار إليه (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي جادلوا إنذاره بالباطل وشكّوا به ولم يصدّقوه ، وهو على
صيغة المفاعلة من المراء (وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه أن يسلّمهم ضيوفه الذين نزلوا في بيته (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فأعميناها ، وقيل مسحت وجوههم حتى لا يرى أثر لعيونهم ،
وذلك أن جبرائيل عليهالسلام ضربها بجناحه. وقال : (فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ) أي استطعموا نتيجة تكذيب إنذاري لكم بمعاناة عذابي الذي
حلّ بهم في تلك الساعة (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي وقع فيهم عند الصباح الباكر (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) كرّرها سبحانه مرة عند طمس أعينهم ومرة عند نزول العذاب
عليهم للتقريع والإهانة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) مرّ تفسيره مكرّرا.
* * *
(وَلَقَدْ جاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا
كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))
٤١ و ٤٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ
...) آل فرعون هم أقرباؤه ومتابعوه في العقيدة والدّين ، قد
جاءهم الإنذار منّا على يد رسولنا موسى عليهالسلام ف (كَذَّبُوا بِآياتِنا
كُلِّها) أي اعتبروا الآيات والبراهين التسعة
التي أظهرها لهم
رسولنا كذبا وسحرا. وقد استعمل لفظة (كُلِّها) ليبيّن سبحانه أن عدد الآيات والمعجزات كان كبيرا ، وليوضح
شدة تكذيبهم وكفرهم (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب بالغرق (أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ) أي كما يأخذ القادر الذي لا يمتنع شيء من قدرته العظيمة.
* * *
(أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)
أَمْ
يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))
٤٣ و ٤٤ ـ (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ
...) أي هل كفّاركم يا مشركي مكة وعتاة قريش أفضل ممّن ذكرنا من
قوم نوح وعاد وثمود ولوط وفرعون؟ وهل هم أقوى منهم وأشد وأغنى وأكثر عددا (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟) وهل عندكم صكّ بالبراءة من العذاب. فما الذي يجعلكم في
مأمن من عذاب الله الذي أعدّه للكافرين؟ وهل عندكم شيء من هذا ذكرته الكتب
السماوية السابقة وعفتكم من العذاب الذي كان يصيب الأمم السابقة؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ) يعني أم يقول هؤلاء الكفرة الفجرة نحن منتصرون على أعدائنا
لكثرة جمعنا وعددنا ، وقيل لأننا يد واحدة على من خالفنا. وقد ورد لفظ (مُنْتَصِرٌ) بالمفرد مع أنه وصف به الجمع لأنه واحد في اللفظ ولكنه اسم
للجماعة مثل رهط. ثم قال سبحانه مقرّرا : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) أي جمع هؤلاء الكفار المعتزين باتّحادهم ضدّ الحق سيغلبون (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي يديرون ظهورهم لكم ويولون
أدبارهم حين
هزيمتكم لهم في يوم بدر مثلا (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ) فهي موعد العذاب لجميع العصاة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي أعظم في الضرر والإزعاج لهم وأشدّ في المرارة حين
يذوقون العذاب الأليم الشديد المرارة ، ولا يخلّصهم من العذاب أحد (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ
وَسُعُرٍ) أي في ضياع عن وجه الخلاص والنجاة وطريق الجنّة وهم صائرون
إلى نار ذات سعير ، فهم في ضلال : أي هلاك لذهابهم عن الحق (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) يجرّون فيها (عَلى وُجُوهِهِمْ) مكبكبين فيها تجرّهم ملائكة العذاب الذين يقولون لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يعني تذوّقوا طعم إصابتها لكم بالعذاب واللهب المحرق. وسقر
هي جهنّم.
* * *
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا
إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))
٤٩ إلى ٥١ ـ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ ...) أي أننا جعلنا كلّ شيء خلقناه مقدّرا بحسب الحكمة التي
اقتضتها مشيئتنا. وكذلك كل شيء أوجدناه ، ومثله العذاب الذي أعددناه للكفّار
والمنكرين ، ومثله الثواب المذخور للمؤمنين والمصدّقين ، فكلّ أمر عندنا مقدّر
محتوم في لوحنا المحفوظ (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي أن الأمر الصادر عنّا ينفذ كطرف البصر وكخطف النظرة السريعة
، وكذلك إذا أردنا أن تقوم
الساعة ، لنقتصّ
من الكافرين فنقول لكلّ شيء أردناه : كن فيكون (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أَشْياعَكُمْ) أي دمّرنا وأفنينا أمثالكم وأشباهكم في الكفر ممّن سبقكم ،
وقد سمّاهم أشياعا لهم لأنهم وافقوهم بالكفر وفي تكذيب الرّسل (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل متّعظ بما نقول؟
٥٢ و ٥٣ ـ (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
...) أي كلّ شيء عملوه مسجل في الكتب التي كتبها الحفظة عليهم ،
فإننا لم نهملهم ولم نترك صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصيناها عليهم (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي أن جميع ما قدّموه من عمل فهو مسجّل عليهم. وقيل أنه
عنى سبحانه الأرزاق والأعمار وغير ذلك.
٥٤ و ٥٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَهَرٍ ...) أي أن مقرّهم في جنان الخلد حيث أنهار الخمر والعسل
واللبن. وقد استعمل (نَهَرٍ) مكان (أنهار) لأنه اسم جنس يصلح للقليل والكثير. فالمؤمنون
يكونون في الجنان (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي مكان حقّ ومجلس لا لغو فيه ، وقد وصفه تعالى بذلك لأنه
مقعد مرضيّ منه تعالى ، فهم (عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ) أي عنده عزوجل فهو المالك القوي القادر الذي لا ملك كملكه ولا قدرة
كقدرته إذ لا يعجزه شيء.
* * *
سورة الرحمن
مكّية وآياتها ٧٨
نزلت بعد الرعد.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ
(٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥)
وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ
رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩))
١ إلى ٤ ـ (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ،
خَلَقَ الْإِنْسانَ ...) لفظة (الرَّحْمنُ) مختصة بالله عزّ وعلا فإنه هو الذي وسعت رحمته كلّ شيء ،
بخلاف رحيم وراحم فإنهما يجوز أن يوصف بهما غيره من الناس. وقد افتتح هذه السورة
المباركة بهذا الاسم الذي استأثر به لنفسه ولا يجوز أن يوصف به غيره ، وذلك ليعرف
الناس أن كلّ النّعم التي سيذكرها إنما صدرت عن مشيئته وبفيض رحمته. وقد أنكر
الكفار هذا الاسم المبارك له إذ قالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ) مرة ، وقالوا : (ما نعرف الرحمن إلا أنه
صاحب اليمامة)
فقال لهم جوابا على ذلك : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) أي هو الذي علّمه لنبيّه محمد صلىاللهعليهوآله وهو بدوره علّمه لأمّته. وهذا جواب للكافرين الذين قالوا :
(إنما يعلّمه بشر) فهو تبارك وتعالى الذي علّمه إياه ، وهو الذي (خَلَقَ الْإِنْسانَ) وأخرجه بقدرته من العدم إلى الوجود ، حين برأ آدم عليهالسلام ، وهو الذي (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي أسماء كلّ شيء من جهة ، والإفصاح عمّا في نفسه من جهة
ثانية. وفي المجمع عن الصّادق عليهالسلام : البيان هو الاسم الأعظم الذي به علم كلّ شيء. وقيل إن
لفظ (الْإِنْسانَ) جنس وهو يعني جميع الناس الذين بقدرته علّمهم النّطق
والقراءة والكتابة والخط والفهم بكافّة جهاته ، والله أعلم بما عنى بقوله.
٥ و ٦ ـ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ...) سجودهما هو استكانتهما لمشيئته جلّ وعلا ، وإذعانهما
لأوامره التي قدّرها لهما. فهما بحسبان أي يسيران بحسب منازل مقدّرة لا يتعدّيانها
فيدلّان بذلك على الأيام والشهور والأعوام لأنهما يجريان على وتيرة واحدة أجراهما
عليها الخالق عزّ وعلا فلا يقع فيهما تفاوت ولا خلل فيتوفّر نورهما للناس نهارا
وليلا وينتج من ذلك منافع لا تعد ولا تحصى فهما نعمتان عظيمتان لكافّة المخلوقات (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النجم هنا هو النبات الذي ليس له ساق ولا جذع كالأعشاب
الصغيرة. فهذا النبات ، وسائر الشجر يسجد لله عزّ اسمه بما فيه من آيات دالّة على
عظمة موجودة وبما يحتوي من براهين توجب السجود لقدرة ذلك المقدّر. وقيل إن السجود
المقصود ، هو سجود الظّلال بكرة وعشيّا وطيلة النهار ، يعني أن هذا الظّل يعطي صفة
الخضوع ويوحي بإثبات المبدع الذي أحدث هذه الأشياء بهذا الشكل الدقيق.
٧ إلى ٩ ـ (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ
الْمِيزانَ ...) أي أنه سبحانه رفعها فوق الأرض وأمسكها بلا عمد ترونها
بقدرته لتدلّ على كمال عظمته (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الذي هو آلة الوزن التي تحقّق الإنصاف في البيع
والشراء. وقيل هو
ميزان العدل بدليل قوله سبحانه : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزانِ) أي لا تتعدوا فيه الحقّ ، ولا تبخسوا النّاس حقوقهم ، ولا
تحكموا بالباطل (وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي حقّقوا العدل عند وزن الأمور ، أو أقيموا لسان الميزان
المعروف بدقّة حين الوزن للبيع أو الشراء (وَلا تُخْسِرُوا
الْمِيزانَ) لا تنقصوه ولا تبخسوا وتجوروا على المشتري أو البائع أو
المحكوم له أو عليه ، بل اتّبعوا العدل في ذلك كلّه.
* * *
(وَالْأَرْضَ وَضَعَها
لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))
١٠ إلى ١٣ ـ (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ...) بعد أن ذكر سبحانه السماء والشمس والقمر ذكر الأرض التي
أوجدها ووطّأها للأنام الذين قيل إنهم الجنّ ، وقيل إنهم النّاس ، وقيل : بل هم
جميع المخلوقات من كلّ ذي روح. وقد عبّر عن الأرض (بالوضع) كما عبّر عن السماء (بالرفع)
لبيان نعمته وكامل حكمته على الناس ، فقد جعل الأرض موطّأة للمخلوقات ، وجعلها (فِيها فاكِهَةٌ) وهو ما يتفكّه به الإنسان من الثمار ، وفيها (النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي الشجر الذي يعطى التمر والرّطب ، وهو ذو الأوعية
والغلافات المختلفة التي تدلّ على قدرة الصانع منذ بروز الزهرة إلى تمام نضج
الثمرة. وقيل إنّ الأكمام هو ليف النخل الذي تكمّ فيه ، والصحيح أنه جمع : كم ،
وهو البرعم من الورق الصغير الذي ينبت أول ما ينبت ملتفّا ثم يتفتح شيئا فشيئا.
فهو تعالى خالق ذلك (وَالْحَبُ) أي جمع الحبوب المعروفة هي من خلقه سبحانه (ذُو الْعَصْفِ) أي الحبّ صاحب الورق الصغير الذي يكون ملتّفا به فإذا يبس
صار تبنا ، فالعصف
هو التّبن الذي تعصفه الريح أي تطيّره عند هبوبها (وَالرَّيْحانُ) هو جميع ما يشمّ من الزهور وغيرها ، وقيل هو الرزق ،
والأول أقرب للصواب مع أنهم احتجّوا بأنه لمّا ذكر العصف الذي هو رزق الحيوان ،
ذكر إلى جانبه رزق الإنسان ، ولكنهم سهوا عن أنه سبحانه قد ذكر الحبّ قبل ذلك. فهو
سبحانه خالق ذلك كلّه بدءا من السماء والأرض ووصولا إلى الإنسان والحيوان والنبات
وجميع ما في السماوات والأرض (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي نعمة من نعم الله تكذّبان ، مخاطبا بذلك الإنس
والجنّ. وهذه الآية الكريمة تتكرّر في السورة المباركة مرارا للتقرير بالنّعم التي
يذكرها سبحانه ، وللتأكيد والتذكير والتدبّر. فإنه بعد كلّ نعمة يسأل مستنكرا
وموبّخا على التكذيب بوحدانيته وبنعمه التي لا يحصيها عد.
* * *
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)
وَخَلَقَ
الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ
لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))
١٤ إلى ١٦ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ
كَالْفَخَّارِ ...) هذا عطف
على السابق من
بيان قدرته والدليل على وحدانيّته وتعداد نعمه. والإنسان يعني به آدم عليهالسلام والصلصال هو الطين اليابس ، وقيل هو الحمأ المنتن وكلاهما
صحيح ، والفخّار هو الآجّر والخزف الذي يصنع من المواد الصلصالية (وَخَلَقَ) كذلك بقدرته (الْجَانَ) ولكن (مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ) أي من نار مختلط أحمرها وأبيضها وأسودها. وقيل إن المارج
هو الصافي من لهب النار الذي ليس فيه دخان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) يعني بأية نعمة من ذلك يكذب الثقلان بعد أن جعلكما على
الصورة المعلومة بعد خلقكما بالطريقة المبيّنة؟
١٧ و ١٨ ـ (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ
...)
يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب كلّ منهما. وقيل هما مشرقا الشمس والقمر
ومغرباها ، فبيّن قدرته على ذلك وقال سبحانه : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
١٩ إلى ٢١ ـ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ...) البحران هما العذب والمالح يلتقيان فلا يختلط ماؤهما (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز من قدرته جلّ وعلا (لا يَبْغِيانِ) لا يبغي المالح على العذب فيفسده ، ولا العذب على المالح
فيمتزج به. ومعنى (مَرَجَ) : أرسل وأطلق طرفيهما. ومزج وقيل إن البحرين هما بحر فارس
وبحر الروم فإن طرف هذا يتصل بطرف ذاك ، والبرزخ بينهما الجزائر الواقعة هناك ،
فمع هذه المعجزة الغريبة (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
٢٢ و ٢٣ ـ (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ ...) قيل : اللؤلؤ هو درّ البحر الكبير ، والمرجان صغاره ، وهما
معروفان. فاللؤلؤ أبيض لمّاع ثمين ، والمرجان حبيبات حمراء تختلف في الكبر والصغر
وتكون قضبانا من نباتات البحر. ولا يكونان إلّا في البحر المالح دون العذب ،
ولأنهما متصلان قال سبحانه (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) في حين أنه يخرج من واحد دون الآخر. وفي المجمع عن سلمان
المحمّدي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري
ان البحرين عليّ
وفاطمة عليهماالسلام ، بينهما برزخ : محمد صلىاللهعليهوآله ، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان : الحسن والحسين عليهماالسلام. وهما بحران في فضلهما وسمّو مرتبتهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مرّ الكلام فيه.
٢٤ و ٢٥ ـ (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلامِ ...) وهي السّفن الجارية في البحر بقدرته وتقديره الذي جعل
الماء يحملها والريح تسيّرها. والمنشآت أي المرفوعات المبنيّات التي رفع خشبها
بعضه فوق بعض وركّب بعضه فوق بعض ، وشدّ بعضه إلى بعض حتى تمّ إنشاؤها ورفعها
وجعلها كالقلاع ، والأعلام : مفردها علم وهو الجبل. فمن كان له الفضل في ذلك (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
٢٦ إلى ٢٨ ـ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى
وَجْهُ رَبِّكَ ...) أي جميع من هو على وجه الأرض من الحيوان هالك يعتريه
الفناء ويخرج من حالة الوجود إلى حالة العدم (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ) أي يبقى ربّك الظاهر بأدلّته كظهور الإنسان بوجهه على ما
في المجمع ، ووجه الله ـ تعالى الله عن الشّبيه ـ هو جهة قصده فليس هو جسما ليكون
له وجه وقفا ، بل (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وبالمناسبة نذكر ما جرى لأحد عظماء النصارى حين سأل أمير
المؤمنين عليهالسلام قائلا : أين وجه الله. فأخذ أمير المؤمنين عليهالسلام عيدانا وأشعلها ثم قال للجاثليق : أرني وجه هذه النار.
فقال الجاثليق : هي وجه من جميع جهاتها. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : ربّنا لا يوصف. فتعالى الله عن أن تدركه العقول أو أن
تتصوّره الأوهام. و (ذُو الْجَلالِ) أي صاحب العظمة والكبرياء المستحق للحمد والمدح لإحسانه
وتفضّله وذو (الْإِكْرامِ) الذي يكرم رسله وأولياءه ويلطف بهم ويتفضّل عليهم وعلى
سائر مخلوقاته ، فحقّ له أن يكون منزّها عمّا لا يليق بصفاته السامية (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟).
* * *
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))
٢٩ و ٣٠ ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي يطلبون منه الرّفد ولا يستغنون عن معونته فيتوجّهون
إليه بحوائجهم من رزق وحفظ ومغفرة وغيرها (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) اختلف المفسّرون في معنى هذا القول الشريف. فقالوا : من
شأنه الإحياء والإماتة ، والمعافاة والمرض ، والإعطاء والحرمان ، والإنجاء
والإهلاك ، وقالوا غير ذلك. وعن أبي الدرداء عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) ، قال : من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما
ويضع آخرين. والحاصل أنه سبحانه يفعل ما يشاء كيف يشاء فيعز ويذل ويحيي ويميت وهو
على كل شيء قدير.
٣١ و ٣٢ ـ (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ
...) أي سنتوجّه لحسابكم في موعده. وهو سبحانه لا يشغله شيء عن
شيء ، ولكنه سبحانه قال ذلك تهديدا ووعيدا للإنس والجنّ من العصاة. وقال الزجّاج :
إن الفراغ على ضربين : القصد للشيء ومن ذلك قولهم : سأفرغ لفلان أي أجعله مقصدي.
والفراغ من الشغل ، والله عزوجل لا يشغله شأن عن شأن. وقيل معناه سنعمل معكم يوم الحساب
عمل من يفرغ للعمل فيأتي به على
أكمل وجه وأجوده.
وعلى كلّ حال فإن الآية الكريمة تحمل تهديدا مرعبا (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) فيقتضي أخذ الحذر ، والعمل الموصل لمرضاته عزوجل.
٣٣ إلى ٣٦ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ...) أي أيها الناس والجنّ ، إن قدرتم أن تخرجوا من سلطاني
وتهربوا ، وتخلصوا من قبضة يدي ، وأن تنفذوا (مِنْ أَقْطارِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من نواحيهما وجوانبهما فإنهما ملك طلق لخالقهما. فإذا
استطعتم النفاذ من سمائي وأرضي (فَانْفُذُوا) أي اخرجوا ولكنكم لن تقدروا على ذلك و (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي تلزمكم قوّة هائلة من أجل ذلك ، ولكن أنّى توجهتم
وحيثما ذهبتم فإنكم تحت سلطاني آخذكم بالموت ، فلا مخرج لكم إلّا بالقوة التي
أمنحكم إياها وذلك بأن أخلق لكم إمكانيات معيّنة أو أخلق لكم مكانا آخر غير السماوات
والأرض فإنكم لا تفوتون قدرتي ولا تخرجون من ملكي. وفي هذا القول دلالة على توحيده
ودليل على عظمته ، وزجر عن المعاصي ، وترغيب في العمل الصالح (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟). (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ) وهو اللهب الأخضر الذي ينقطع من ألسنة النار (وَنُحاسٌ) وهو الصفر المذاب للعذاب. وهذا يعني أنكم إن حاولتم أن
تنفذوا من أقطار السماوات والأرض يرسل عليكم ذلك الشواظ من النار والنحاس السائل
المحرق. وفي المجمع أن الإمام الصادق عليهالسلام قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ،
وذلك أنه يوحي إلى السماء الدّنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا
بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل
الجميع مرّتين ، فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فيصير الجنّ والإنس في
سبع سرادقات من الملائكة ، ثم ينادي مناد : يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم ،
الآية .. فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة. وقوله (فَلا
تَنْتَصِرانِ) أي فلا تقدران على دفع ذلك عنكما وعن غيركما. فالثقلان
عاجزان عن الهرب من الجزاء ، وعن النفاذ من سلطان الله جلّ وعزّ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
* * *
(فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣)
يَطُوفُونَ
بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))
٣٧ و ٣٨ ـ (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ
وَرْدَةً كَالدِّهانِ ...) يعني إذا انصدعت يوم القيامة وتفكّك بعضها عن بعض ، فصارت
حمراء كلون الورد ثم تسيل وتجري (كَالدِّهانِ) جمع الدّهن السائل ، وذلك عند انقضاء مدة الحياة وانتهاء
الأمر (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
٣٩ إلى ٤٥ ـ (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ...) أي يوم القيامة لا يسأل مجرم لماذا أجرمت وارتكبت الذنوب ،
لا من الإنس ولا من الجنّ ، بل يصاب بالذهول من هول الموقف. والله تعالى قد أحصى
الأعمال وحفظها وإذا سئلوا فإنما يسألون سؤال تقريع واستهزاء. وعن الإمام الرّضا عليهالسلام أنه قال : فيومئذ لا يسأل عنكم عن ذنبه إنس ولا جانّ ،
والمعنى : ان من اعتقد الحقّ ثم أذنب ولم يتب في الدنيا ، عذّب عليه في البرزخ
ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه.
(فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) ، (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي يعرفون بعلاماتهم لأنهم يحشرون سود الوجوه ، زرق العيون
، تظهر عليهم أمارات الخزي والغضب (فَيُؤْخَذُ
بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يأخذهم زبانية جهنّم وملائكة العذاب فيجمعون بين
نواصيهم ـ أي رؤوسهم ـ وأقدامهم ـ أي أرجلهم ، فيربطونها بالأغلال والسلاسل
ويقودونهم الى النار (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) و (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي كذّب بها الكافرون حين كانوا في الدنيا ، وها هم الآن
معها وجها لوجه ليزول شكّهم بها. وقيل إن الله سبحانه قال لنبيّه صلىاللهعليهوآله : هذه جهنّم التي يكذّب بها المجرمون من قومك ، فسيردونها
فليهن عليك أمرهم (يَطُوفُونَ بَيْنَها
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي يتردّدون مرة إلى جحيم النار في جهنّم ، ومرّة بين
الحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم فيصهر ما في بطونهم والجلود فلا يرون من العذاب
فرجا أبدا (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
* * *
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى
فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧)
كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))
٤٦ إلى ٤٩ ـ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
...) بعد الوعيد للكافرين والمعاندين عقّب سبحانه بالوعد
للمؤمنين المصدّقين فقال إن لمن خاف المقام بين يدي ربّه وذلّ الحساب ، وصدّق بذلك
وعمل صالحا ، إن له جنّتين قيل هما جنة عدن وجنّة النعيم ، وقيل هما بستانان من
بساتين الجنّة ، وقيل أحدهما منزله والثاني منزل أزواجه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهما (ذَواتا أَفْنانٍ) يعني ذواتا أنواع من النعيم وذواتا ألوان من الفاكهة ،
وقيل : ذواتا أغصان لأن الأفنان مفردها فنن وهو الغصن ، وذلك كناية عن كثرة شجرهما
(فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مع وجود هذه النّعم؟
٥٠ إلى ٥٣ ـ (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ...) أي أن في الجنّتين عينين من ماء تجريان بين أشجارهما ،
وقيل إنهما واحدة من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذّة للشاربين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) والجنّتان (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ؟) أي فيهما من كلّ الثمرات نوعان متشابهان وقد سمّاهما زوجين
لأنهما نوعان يشابهان الذكر والأنثى لكونهما بين رطب كالعنب ويابس كالزبيب ،
وكالرّطب والتمر وما أشبه ذلك (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
٥٤ و ٥٥ ـ (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها
مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ...) أي أن أهل الجنّة يجلسون على فرش ويتّكئون ، وبطائن : جمع
بطانة أي غطاؤها الداخلي الذي تليه الظّهارة ، فبطائن تلك الفرش من الديباج الغليظ
فكأنّ ظهارتها من نوع أرفع من ذلك النوع (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي ثمر فواكه الجنّتين قريب في متناول صاحبها لأنها تدنو
منه حسب رغبته بحيث كلّما رغب فيها دنت منه ليقطفها وهو متكئ على فراشه الوثير (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ) مع هذه الخيرات؟
٥٦ إلى ٥٩ ـ (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ...) أي في الجنّتين أو على الأصح في الفرش حور عين ونساء قصرن
نظراتهنّ على أزواجهن فلا يرون غيرهم. وفي المجمع عن أبي ذرّ رضوان الله عليه :
إنها تقول لزوجها : وعزّة ربّي ما أرى في الجنّة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الذي
جعلني زوجتك وجعلك زوجي. أما الطّرف فهو جفن العين الذي يفتح ويطبق مرة بعد مرة.
وهؤلاء القاصرات الطّرف (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يفتضّهنّ ولم ينكحهنّ أحد بل هنّ أبكار كما خلقن
سواء كنّ من الحور العين أو من نساء الدنيا وفي الآية الكريمة ما يشير إلى أن
الجنّيّ يغشى أنثاه كما يغشى الإنسيّ أنثاء ، وأن له ثوابا وحورا عينا في الآخرة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهؤلاء القاصرات الطّرف (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) يعني أنهنّ في الصفاء والرونق كالياقوت والمرجان الشديد
الصفاء الذي يبهر الأبصار ، ففي الحديث أن المرأة من أهل الجنّة يرى مخّ ساقيها من
وراء سبعين حلّة من حرير (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
٦٠ و ٦١ ـ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ ...) هو استفهام بمعنى التقرير ، أي ليس جزاء العمل الصالح في
الدنيا إلّا أن يحسن الله إليه في الآخرة. وعن أنس بن مالك أنه قال : قرأ رسول
الله صلىاللهعليهوآله هذه الآية فقال : هل تدرون ما يقول ربّكم؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم. قال : فإنّ ربّكم يقول : هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلّا
الجنّة؟ والحاصل أنه قيل أيضا : هل جزاء من أحسن إليكم أيّها العباد بهذه النّعم
التي تتقلّبون فيها ، إلّا أن تحسنوا حمده وشكره وتقوموا بعبادته؟ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
* * *
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣)
مُدْهامَّتانِ
(٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ
نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧)
تَبارَكَ
اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))
٦٢ إلى ٦٩ ـ (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ ...) أي أن لمن خاف مقام ربّه وعمل لآخرته جنّتين أخريين غير
الجنّتين المذكورتين أولا ، يكونان أقرب إلى قصره وأقرب لمجالس أنسه وسروره يتنقّل
بينهما من وقت إلى وقت فيزيد من فرحه وسروره ونشوته لأن ذلك يكون أبعد عن الملل. وروى
أبو بصير عن الصادق عليهالسلام ـ كما في العياشي ـ أنه قال له : جعلت فداك أخبرني عن
الرجل المؤمن تكون له امرأة مؤمنة يدخلان الجنّة يتزوّج أحدهما الآخر؟ فقال : يا
أبا محمد ، إن الله حكم عدل ، إذا كان هو أفضل منها خيّره فإن اختارها كانت من
أزواجه ، وإن كانت هي خيرا منه خيّرها فإن اختارته كان زوجا لها. قال : وقال أبو
عبد الله عليهالسلام : لا تقولنّ الجنّة واحدة ، إن الله يقول : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ، ولا تقولنّ درجة واحدة ، إن الله يقول : (درجات بعضها
فوق بعض). إنما تفاضل القوم بالأعمال. قال : وقلت له : إن المؤمنين يدخلان الجنّة
فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر فيشتهي أن يلقى صاحبه؟ قال : من
كان فوقه فله أن
يهبط ، ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد لأنه لا يبلغ ذلك المكان ، ولكنّهم إذا
أحبّوا ذلك واشتهوه التقوا على الأسرّة. (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ فالجنّتان (مُدْهامَّتانِ) أي شديدتا الخضرة حتى أنهما يظهر في خضرتهما السواد ، وهذا
شأن كلّ نبات خصب فإن خضرته تضرب نحو السواد وذلك مما يزيد في حسنه ورونقه. وقيل
إن الجنّتين الأوليين للسابقين ، والأخريين للتابعين (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهاتان الجنّتان (فِيهِما عَيْنانِ
نَضَّاخَتانِ)؟ أي فوّارتان بالماء الذي ينبع فيهما ويجري فيهما متفرعا
بين بساتينهما وقصورهما وقيل إن ماءهما ينضح بالمسك والعنبر والكافور على أولياء
الله ، وبأنواع الخيرات (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ و (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) أي فيهما أنواع الفاكهة وقد ذكر النخل والرّمان مع أنهما
من الفاكهة لفضلهما ولم يقل أحد أنهما ليسا من الفاكهة ، وقد اختصّهما سبحانه
بالذكر لأنهما من خير الفاكهة وأزكاها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ) مع هذه النّعم المذكورة؟
٧٠ إلى آخر السورة
المباركة ـ (فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ ...) أي في تلك الجنّات الأربع يوجد (خَيْراتٌ حِسانٌ) يعني نساء طيّبات ذوات وجوه وأجسام جميلة وأخلاق فاضلة
وذوات صلاح يزيد في جمالهن. وقيل خيرات : جمع خيرة ، وهي المختارة الحسنة. وعن
عقبة بن عبد الغفار أن نساء أهل الجنّة يأخذن بعضهن بأيدي بعض ويتغنّين بأصوات لم
يسمع الخلائق مثلها ويقلن : نحن الراضيات فلا نسخط ،! ونحن المقيمات فلا نظعن ،
ونحن خيرات حسان حبيبات الأزواج الكرام. وعن عائشة أن الحور العين إذا قلن هذه
المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا قائلات : نحن المصلّيات وما صلاتين ،
ونحن الصائمات وما صمتنّ ، ونحن المتوضّئات وما توضّأتنّ ، ونحن المتصدّقات وما
تصدقتنّ ، فغلبتن والله (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ) أي بيض حسن بياضهنّ. والعين الحوراء هي التي يكون بياضها
شديد البياض ،
وسوادها شديد
السواد ، ومقصورات في الخيام أي محبوسات في قباب خاصة بهنّ مستورات فيها. وقيل
معناه مصونات مخدّرات قصرن على أزواجهنّ فلا يرغبن في غيرهم. وروى ابن مسعود أن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستّون ميلا ، في
كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وهنّ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) مرّ تفسيرها وقد كرّرها سبحانه وتعالى ليبيّن صفة الحور
المقصورات في الخيام (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وأنتم يوم القيامة تكونون معهنّ (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) أي على فرش خضر ، وقيل هي رياض الجنّة ومفردها : رفرفة ،
وقيل هي الوسائد التي توضع بجانب الفرش فيتّكأ عليها (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) أي يتّكئون أيضا على زرابيّ جميلة وهي الطنافس التي توضع
مع المساند (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أيها الثقلان من الإنس والجنّ؟ .. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) أي تعاظم وتعالى اسم هذا الربّ الذي لا ينبغي لغيره أن
يوصف بما يوصف به من الفضل والكرم والجلال : أي العظمة والإكرام : أي الذي يكرم
المؤمنين به والمصدّقين لرسله ، العظيم البركة الجزيل الفضل على عباده. وهاتان
ممّا لا يوصف به غيره عزّ وعلا.
* * *
سورة الواقعة
مكية إلّا الآيتان
٨١ و ٨٢ فمدنيّتان وآياتها ٩٦ نزلت بعد طه.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ
الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ
عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))
١ إلى ٣ ـ (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ
لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ...) يعني إذا جاءت الساعة ووقع أمر الله وقامت القيامة بعد
النفخة الأولى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ) من قبل أي لا يكون لحصولها وقيامتها تكذيب لأنها تحدث
بمرأى ومسمع من كلّ حي. وهذا حثّ على الاستعداد لها حيث يثبت وقوعها بالنظر
والسمع والعقل
لأنها (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض ناسا فتزجّهم في النار بما عملوا من المعاصي
فيصبحون أذلة مخزيّين بعد أن كانوا أعزّة في الدنيا ، وترفع أناسا فتوصلهم إلى
الجنّة والنعيم بما عملوا من الطاعة فيصيرون أعزّة مرضيّين في حين أنهم كانوا أذلة
في حياتهم الدّنيا لأنهم كان يستهزئ بهم الكفّار.
٤ إلى ١٦ ـ (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ...) أي إذا حرّكت الأرض وهزّت هزة عنيفة وزلزلت زلزالا شديدا
فمات من على ظهرها من جميع ذوي الحياة. وقيل ترجّ بأن تخرج ما في بطنها (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي تفجّرت وتفتّتت واجتثّت من أصلها. وقيل بسطت فكانت
كالرمل المنبسط وكتراب السهل ليس فيها تلّة ولا كثيب. (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي غبارا موزعا. والهباء هو ما نراه في شعاع الشمس الذي
يدخل إلى البيت من كوّة ضيّقة. والحاصل أنه إذا كان ذلك من قيام القيامة ورجّ
الأرض وبسّ الجبال ، بعثتم من بعد الموت وقمتم للحساب (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) بعد الحساب ، أي أصنافا ثلاثة فصّلها سبحانه وتعالى فقال :
(فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ) أي الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ويكونون من أهل الخير ،
فيؤخذن نحو اليمين لأنهم من أهل الجنة. وقد مدحهم سبحانه وكرّر ذكرهم بتعجّب فقال
: (ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ)؟ أي أيّ شيء هم؟ يعني : هم ما هم ، وشأنهم عظيم (وَ) أمّا (أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ) أي أهل الشؤم الذين يعطون كتبهم بشمالهم ويسيّرون نحو
الشمال أي إلى جهنّم الذي تعجّب سبحانه من شأنهم فقال : (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ؟) مندّدا بشأنهم في العذاب العظيم. ثم ذكر تبارك اسمه الصّنف
الثالث بقوله : (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ) أي السابقون إلى اتّباع أوامرنا التي أوحينا بها إلى رسلنا
، فإنهم يسبقون جميع العباد إلى الثواب العظيم والعطاء الكريم. لأنهم سبقوا لكلّ
طاعة وكلّ خير ، فسبقوا إلى أسمى منازل الرضوان عند الله تبارك وتعالى (أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ) فهم الذين يقرّبهم الله تعالى إلى رحمته فيجعل مقامهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) فهي نزلهم في دار كرامة الله. وعن مولانا أمير المؤمنين
كما في المجمع أنهم هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وقيل إلى الجهاد وقيل غير ذلك
، وهم (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ) أي جماعة كثيرة من الأمم الماضية (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من أمة محمّد صلىاللهعليهوآله ، يكونون جميعا (عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ) جمع سرير مصنوعة كصناعة الدرع الذي تدخل حلقاته بعضها بعض
فتكون منسوجة منظّمة بقضبان من الذهب مشبّكة بالياقوت والجواهر ، ويكونون (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) أي مستندين في حالة جذل وسرور (مُتَقابِلِينَ) كل واحد يقابل الآخر ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض بانشراح
وغبطة.
* * *
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢)
كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً
سَلاماً سَلاماً (٢٦))
١٧ إلى ١٩ ـ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ ...) ما زال سبحانه يصف حال السابقين إلى رضوانه وأنهم في
النعيم يدور عليهم خدمهم وغلمانهم المخلّدون الذين لا يموتون ولا يهرمون ولا
تتغيّر حالهم ولا ينكسف جمالهم. وروي عن النبيّ (ص) أنه سئل عن أطفال المشركين
فقال : هم خدم أهل الجنّة ، وقيل إنهم مخلوقون خصيصا لخدمتهم ، فهم يطوفون عليهم (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ) أي بقداح لا
خراطيم لها وهي معروفة
، وبأباريق ذات خراطيم ، وبكؤوس الخمر الظاهر للعيان الجاري أمام الأبصار ،
فيشربونها و (لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها) أي لا يصيبهم من شربها صداع ولا ضياع وهذيان ، وقيل لا
يتفرّقون عنها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا تذهب عقولهم بالسّكر.
٢٠ إلى ٢٤ ـ (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ
وَلَحْمِ طَيْرٍ ...) هذه عطف على سابقتها ، أي : ويطوف عليهم الولدان بفاكهة
مما يشتهونه ويختارونه (وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ممّا يتمنّون من أطايب اللحوم وألذّها ، فإن أهل الجنّة
إذا اشتهوا لحم طير معيّن خلقه الله تعالى لهم ناضجا لا يحتاج إلى ذبح يؤلمه ولا
إلى عمل يضني. وقد قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطير فيصير ممثّلا بين يديه على
ما اشتهى (وَحُورٌ عِينٌ) مرّ تفسيرها مكرّرا (كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي كالدر المحفوظ المخزون في أصدافه لم تلمسه يد ولا شوّهه
استعمال. ويكون ذلك لهم (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي ثوابا لطاعاتهم في دار الدنيا ولعملهم الذي كان طبق
أوامرنا ونواهينا.
٢٥ و ٢٦ ـ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً ...) أي لا يسمعون كلاما تافها ليس فيه فائدة ، ولا قولا يأثم
به قائله أو سامعه. وقيل إنهم لا يختلفون على شرب الخمر في الآخرة كما يكون شأن
أهل الدنيا ، ولا يسمعون فيما بينهم (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) أي قول بعضهم لبعض سلاما بقصد التحيّة لحسن أدبهم وكريم
خلقهم وكمال غبطتهم بما هم عليه من النّعيم.
* * *
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ
مَسْكُوبٍ
(٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢)
لا
مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (٤٠))
٢٧ إلى ٣٣ ـ (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ
الْيَمِينِ ...) وذكر سبحانه أصحاب اليمين فتعجّب من شأنهم كما سبق وقلنا
عن أصحاب الميمنة. فهم يتنعّمون أيضا ويتلذّذون (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي نبق منزوع الشوك قد خضد بنزع شوكة وكثرة حمله (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) يعني وموز منظّم مرتّب قد حملت شجرته من عرقها إلى آخر غصن
فيها ، وقد ذكر هاتين الشجرتين ترغيبا للعرب الذين كانوا يحبّونهما (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي فيء دائم لا شمس تذهب به. وفي المجمع أن في الجنّة شجرة
يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يعني أنه مصبوب يجري دائما ولا يحتاج أحد الى تعب في
تناوله (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي ثمار كثيرة وافرة (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا
مَمْنُوعَةٍ) أي لا موسم لها بل تستمرّ دائما وأبدا وليس لها وقت معلوم
ولا يمنع من قطفها شوك أو غيره.
٣٤ إلى ٤٠ ـ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ، إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ...) أي وبسط رفع بعضها فوق بعض فأصبحت عالية. وقيل هنّ نساء
رفيعات الخلق حصيفات العقول رائعات الحسن ، إذ يقال لامرأة الرجل فراشه ، ويقال
افترشها ، ولذلك قال تعالى : (أَنْشَأْناهُنَ) أي خلقناهنّ خلقا جديدا فأعدنا الهرمات والعجائز منهن
صبايا وشابّات. وقيل إنه عنى الحور العين اللواتي لا تتغيّر حالهنّ منذ خلقهنّ (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) أي عذارى غير مفتضّات البكارة ، وهكذا يبقين بحيث كلما
أتاهن أزواجهنّ وجدوهنّ عذارى (عُرُباً أَتْراباً) أي عاطفات على أزواجهن متحبّبات إليهم. وقيل
إن (العروب) هي
اللّعوب مع زوجها أنسا به. والأتراب هنّ المتساويات في السن اللواتي من جيل واحد
لا تكبر واحدة واحدة (لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي هذا المذكور كله من نعم وفواكه ونساء هو ثواب لأصحاب
اليمين وجزاء لطاعاتهم في الدنيا (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي إن ذلك لجماعة من الأمم السالفة وجماعة من أمة محمد (ص)
وقيل أكثرهم من أمته. وروي أنه صلوات الله وسلامه عليه قال : إني لأرجو أن يكون من
تبعني ربع أهل الجنّة ، قال الراوي : فكبّرنا ، ثم قال : إني لأرجو أن يكونوا ثلث
أهل الجنّة ، فكبّرنا ، ثم قال إني لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة ، ثم تلا رسول
الله صلىاللهعليهوآله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين. ثبّتنا الله تعالى على
اتّباعه لنحشر في أمّته المرحومة.
* * *
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧)
أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ
عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))
٤١ إلى ٤٤ ـ (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ
الشِّمالِ ...) ثم ذكر سبحانه أهل الشّمال الذين يقادون الى جهنّم لأنهم
أوتوا كتبهم بشمائلهم ، وقال إنهم : (فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ) السّموم هي الريح الشديدة الحرارة التي تدخل حرارتها في
مسامّ البدن ، وكذلك الحميم فإنه الماء الحارّ المغليّ (وَ) هم كذلك في (ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي دخان أسود كثيف شديد السواد. وعن ابن عباس وقتادة
وغيرهما أن (يَحْمُومٍ) جبل في جهنّم يستغيث أهل النار من حرّها ويفيئون إلى ظلّه
الذي نعته سبحانه بأنّه (لا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ) أي لا فيه برودة يستراح إليها ، ولا منفعة يحمدها من يأوي
إليه لأنه لا يخفّف عنهم عذابا ولا يريح من تعب.
٤٥ إلى ٤٨ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُتْرَفِينَ ...) أي أنهم كانوا في دار الدنيا مرفّهين متنعّمين يتركون
الطاعات طلبا لراحة أبدانهم فقد شغلتهم لذة أجسادهم عن الواجبات فهجروها دفعا
لمشقّتها (وَكانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي يقيمون ويداومون على الذنب الكبير. وقيل إن الحنث
العظيم هو الشّرك الذي لا يتوبون منه (وَكانُوا يَقُولُونَ) عنادا وكفرا : (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً) وبليت أجسادنا (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ) لعائدون إلى الحياة كما كنّا؟ فهم ينكرون البعث والحساب
والثواب والعقاب ويستبعدون ذلك قائلين هل نبعث ونحشر أحياء (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) أي وأن آباءنا يبعثون أيضا؟ فهما استفهامان بمعنى الإنكار.
٤٩ إلى ٥٦ ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
لَمَجْمُوعُونَ ...) أي قل لهم يا محمد : سيبعث الأولون والآخرون ، ويجمعون في
صعيد القيامة ، من تقدّم من المخلوقين ومن تأخّر منذ آدم (ع) حتى آخر نسمة ستكونون
مجموعين للحساب (إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ) أي ليوم القيامة الذي يحشر فيه الأموات ويعودون أحياء
للحساب والثواب والعقاب. فأكّد لهم ذلك يا محمد وقل : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين انحرفتم عن طريق الحق وجزتم الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيدنا وبأوامرنا ونواهينا ،
والرافضون لكلام
رسلنا ، إنكم (لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مرّ تفسيرها في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ) ثم إنكم من بعد أكل الزقّوم تشربون من حميم جهنّم ومائها
الذي بلغت حرارتها المنتهى (فَشارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ) يعني شرب الإبل التي أصابها الهيام ، يعني العطش الذي لا
يزال المصاب به يشرب ولا يرتوي حتى يموت (هذا نُزُلُهُمْ
يَوْمَ الدِّينِ) أي أن هذا هو مأوى الكافرين ، وهذا طعامهم وذاك شرابهم.
* * *
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠)
عَلى
أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢))
٥٧ ـ (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا
تُصَدِّقُونَ ...) حين أنكر الكافرون البعث والنشور قال سبحانه محتجّا عليهم
: نحن خلقناكم من العدم وأخرجناكم من طيّ الكتم وذلك شيء تعرفونه فكيف تنكرون
الإعادة وهي أسهل علينا؟ أفلا تعتبرون بخلقكم من لا شيء وتصدقون بالبعث كما سلّمتم
بخلقكم الأول؟
٥٨ إلى ٦٢ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ...) أي هل نظرتم إلى ما تقذفونه من المنيّ وتصبّونه في أرحام
نسائكم حاملا النّطفة التي تصير ولدا؟ (أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) يعني هل أنتم خلقتم ما تمنونه أم نحن خلقناه؟ وطالما أنه
ثبت عجزكم فإن ذلك يظهر أن القادر على خلق المنيّ والنّطف وجعلها مخلوقات سويّة ،
قادر أيضا على إعادة الأجسام حية بعد
الموت ف (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قضينا به وجعلناه على كيفية مرتّبة فهذا يموت طفلا وذاك
يكون سقطا ، والآخر يموت شابا والرابع يبلغ من العمر عتيّا ويردّ إلى أرذل العمر
بتقدير منّا (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ) أي لم يسبقنا أحد إلى هذا التقدير ولا نحن بمغلوبين على
أمر قدّرناه. ولا (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ) فنخلق مثلكم بدلا عنكم ، فإذا أردنا ذلك لم يمنعنا مانع
ولا سبقنا إليه سابق. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ) أي نخلقكم على صور لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة وخنازير.
فنحن قادرون على تغيير خلقكم ، ولا نعجز عنكم بعد موتكم. وقيل معناه ن نخلق المؤمن
على أحسن هيئة وأجمل صورة ، ونخلق الكافر على أقبح هيئة وأسوأ صورة. والإنشاء هو
ابتداء الخلق وبدء تطوره من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلخ ... (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فليتكم تعتبرون وتتذكّرون لتعرفوا قدرتنا على الخلق
والإنشاء والإماتة والإعادة.
* * *
(أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)
لَوْ
نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)
إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٦٧))
٦٣ إلى ٦٧ ـ (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ، أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ ...) أي هل نظرتم في ما تعملونه من فلاحة الأرض وإلقاء البذر
فيها؟ وهل أنتم أنبتّم البذر وجعلتموه زرعا أم نحن فعلنا ذلك (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المنبتون تلك الحبوب الجاعلون منها زرعا يعطي غلالا كثيرة؟
وفي المجمع أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : لا يقولنّ أحد زرعت ، وليقل : فلحت. فهذا الذي
تحرثونه ويصير زرعا (لَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي لو أردنا لصيّرناه هشيما لا تنتفعون به ولا يخرج منه
حبّ ولا غلال (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي فبقيتم
تتعجّبون ممّا حلّ
بكم ونزل في زرعكم وتندمون على ما أنفقتم في فلاحته وبذره ، تقولون : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي نحن نتحمّل عاقبة كفرنا بالله وعدم طاعتنا حتى حلّ بنا
ما حلّ ، فقد ذهب ما لنا وذهبت كذلك نفقتنا وضاع وقتنا وتعبنا ولم نحصل على نتيجة
من ذلك كلّه (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) أي لا حظّ لنا فنحن ممنوعون من الرّزق ومن كلّ خير.
* * *
(أَفَرَأَيْتُمُ
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠)
أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣)
فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))
٦٨ إلى ٧٠ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ ...) أي هل نظرتكم السحاب الذي يحمل لكم الماء الذي تشربونه
ويكون سبب حياتكم؟ (أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ) من السحاب بعد أن أنشأتم ذلك السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) لهذه النّعمة وتلك الرحمة؟ نحن أنزلنا ذلك ، و (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) أي لو أردنا لجعلنا الماء (أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة من كثرة ملوحته (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فيا ليتكم كنتم تشكرون الله على هذه النعمة الكريمة. ثم
لفت نظر الناس إلى دلالة أخرى فقال تعالى :
٧١ إلى ٧٤ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي
تُورُونَ ...) أي هلا نظرتم إلى النار التي تشعلونها وتقدحونها بزنادكم (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) هل أنتم أنبتّم الشجر الذي تستفيدون من إشعاله وأنشأتم
غيره ممّا توقدون (أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِؤُنَ) أي المبتدئون بإيجاده؟ بل نحن إذ لا أحد يدّعي أن خلق شجرا
ولا نارا ولا ما سوى ذلك مما يوقد (نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً) أي جعلنا هذه النار عبرة لنار جهنّم لتتذكّروا وتتدبّروا
بأن من جعل من الشجر الأخضر نارا قادر على خلق نار جهنّم ليجازي بها العصاة
والمتمرّدين فقد جعلنا نار الدنيا تذكرة من جهة (وَمَتاعاً
لِلْمُقْوِينَ) من جهة ثانية ، أي منفعة للمسافرين والمقيمين ممّن
يستمتعون بها من ضياء واصطلاء وطبخ وخبز وغير ذلك. والمقوي من الأضداد لأنه مرة
يدل على ذي القوّة والمال ، ومرة يدل على الفقير الذي ذهب ماله ونزل بالقواء من
الأرض. فالنار متاع للأغنياء والفقراء على السواء (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فنزّهه سبحانه وبرّئه ممّا يصفه به الظالمون. وقيل
معناه : قل : سبحان ربّي العظيم وبحمده. وقد صح أن النبيّ صلىاللهعليهوآله لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم.
* * *
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)
لا
يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ
أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))
٧٥ إلى ٨٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ...) أكّد سبحانه ما ذكره سابقا بهذا القول. و «لا» زائدة ، أي
: أقسم بمواقع النجوم ، وهي مطالعها ومساقطها وقيل إنه عنى الأنواء لأن أهل
الجاهلية كانوا يقولون
مطرنا بالنوء
الفلاني فيكون حرف «لا» غير زائد ، والقول : لا أقسم بذلك. وروي عن الصادقين عليهماالسلام أن مواقع النجوم هي رجومها للشياطين وكان المشركون يقسمون
بها فقال سبحانه : (فلا أقسم بها). وقيل أيضا أقسم سبحانه بنزول القرآن الذي نزل
متفرّقا نجوما وقطعا (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي أنه يمين عظيمة ذات أهمّية من أكبر الأيمان (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي أن هذا الذي ننزله عليك يا محمد قرآن كثير النفع جمّ
الخير ، وهو مكرّم عندنا ومعزّز نأجر من يتلوه ويعمل بما فيه لأنه يشتمل على
الأحكام والمواعظ وكلّ نافع للعباد ، فهو كتاب كريم (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مستور محفوظ عن الخلق في اللوح المحفوظ ، وقيل هو
المصحف المحفوظ الذي بين أيدينا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) أي الملائكة الموصوفون بالطهارة من الذنوب ، والعباد
المطهّرون من الشّرك ومن الأحداث والنجاسات ، ولذا قالوا لا يجوز للجنب والحائض
والمحدث مسّ المصحف ، فلا يجوز مسّ كتابة القرآن إلّا للطاهر ، وهو (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو منزل من عنده تبارك وتعالى على نبيّه صلىاللهعليهوآله ولذا سأل سبحانه أهل مكة متعجّبا ومستنكرا : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الذي رويناه لكم في القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي ممالئون ومراءون تعتبرونه كذبا وسحرا وشعرا أو أنكم
تداهنون فتقولون آمنّا به وتبقون على شرككم (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون نصيبكم من الخير والعطاء بالتكذيب وبتحويل
أسباب الرّزق عن واهب الرّزق؟ وعن ابن عباس أنه أصاب الناس عطش في بعض أسفار
النبيّ (ص) فدعا ربّه فسقوا ، فسمع رجلا يقول : مطرنا بنوء كذا فنزلت الآية. وقيل
معناه : وتجعلون نصيبكم من القرآن الذي رزقكم الله إياه التكذيب؟
* * *
(فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥)
فَلَوْ
لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))
٨٣ إلى ٨٧ ـ (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
...) أي فهلّا إذا بلغت روحكم الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) أي وأنتم يا أهل الميّت في ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) ذلك وترون حاله ولكنكم لا تستطيعون دفع ذلك ولا الحيلولة
دون قبض نفسه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي أننا ألصق به قدرة وعلما بحاله (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) لا ترون ذلك ولا تعلمون شيئا مما يجري في تلك اللحظة. وقيل
معناه أن الملائكة الموكّلين بقبض الأرواح أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرونهم (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والعامل في (إِذا) محذوف يدل عليه الفعل الواقع بعد (فَلَوْ لا) وهو (تَرْجِعُونَها) ويكون التقدير : فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم ، (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) ، فكرّر «لو لا» لطول الكلام. والحاصل أنه فهلّا ترجعون
نفس من يعزّ عليكم إذا بلغت حلقومه عند الموت وتعيدونه صحيحا. و (غَيْرَ مَدِينِينَ) معناه : غير مملوكين وأموركم بيد غيركم ، فإن كنتم صادقين
ردّوا الأرواح من حلوقكم إلى أجسامكم قبل قبضها عند الموت. ولن تقدروا على شيء من
ذلك لأنه تدبير حكيم عليم وقضاء قادر قاهر جلّ وعلا.
* * *
(فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠)
فَسَلامٌ
لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١))
٨٨ إلى ٩١ ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ ...) أي فإن كان الميّت الذي
حكينا عن احتضاره
من المؤمنين السابقين إلى مرضاة الله عزوجل (فَرَوْحٌ) أي فله راحة تامة وجميع ما تستلذّه نفسه ويحبه مما يزيل
همّه ويجلب سروره (وَ) وله أيضا (رَيْحانٌ) أي رزق في الجنة. والرّيحان هو النّبت الذي يشمّ وقيل إن
له ريحانا من الجنّة يؤتى به عند الموت. وقيل إن الرّوح هو النجاة من النار ،
والرّيحان الدخول في دار القرار (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي وله تلك الجنّة الموصوفة يدخلها (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي إذا كان المتوفّى من هؤلاء المؤمنين وقد مرّ وصفهم في
هذه السورة المباركة (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي فيقال له : سلمت وترى في أصحاب اليمين ما تحبّ من
السلامة والبعد عن المكاره. وقيل معناها : فسلام لك أيها الإنسان الذي هو من أصحاب
اليمين وسلامة من عذاب الله تعالى.
* * *
(وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
إِنَّ
هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))
٩٢ إلى آخر السورة
المباركة ـ (وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ...)
أي وإذا كان
المحتضر من المكذّبين بالتوحيد والبعث والرّسل وبأوامر الله ونواهيه ، ومن
الضالّين عن الهدى والحق (فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ) فله مقام في جهنّم وقد أعدّ له طعام وشراب من حميمها الذي
يقطّع الأمعاء (وَ) له أيضا (تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال في نار عظيمة اللهب والحرارة (إِنَّ هذا) الذي نقوله لكم أيها العباد (لَهُوَ حَقُّ
الْيَقِينِ) أي الحقّ المؤكّد ،
واليقين والحق
واحد وإضافتهما للتأكيد على أن منازل الأصناف الثلاثة هي كما قلنا لكم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه ربّك ذا العظمة والكبرياء عن الشّرك وأحسن الثناء
عليه بما هو أهله فإنه القادر القاهر الغني الحكيم العليم.
* * *
سورة الحديد
مدنية وآياتها ٢٩
نزلت بعد الزلزلة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣))
١ إلى ٣ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي نزّه الله تبارك وتعالى جميع ما فيهما وبرّأه ممّا يقول
الظالمون. ولفظة (ما) تعني كلّ ذي روح وغيره من سائر المخلوقات التي نعرف
تسبيحها والتي لا نعرف كيف تسبّح وتقدّس ، كالعقلاء الذين نفقه كيفيّة تسبيحهم له
، وكبقية المخلوقات التي تقدّسه بالاستكانة له وبالأدلة الدالة على وحدانيته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمُ) الذي أجرى الأمور جميعها وفق تدبير وحكمة بالغة (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالك ذلك كلّه والمتصرّف فيه لا يمنعه من ذلك مانع بل
له وحده المشيئة في
ذلك الملك ، وهو (يُحْيِي وَيُمِيتُ) ويقضي بذلك فيحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا
(وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنه قادر على الموجودات ، وقادر على المعدومات بأن ينشئ
ما يشاء كما يريد ، وهو الذي يهب القدرة للعباد وبقية المخلوقات ويسلبها منهم متى
شاء ، و (هُوَ الْأَوَّلُ) لأنه القديم الأزليّ وما عداه محدث ، وهو (الْآخِرُ) الباقي بعد فناء كلّ شيء يبقى وحده بلا انتهاء لأنه كان
قبل القبل ويبقى بعد البعد ولم يزل ولا يزال (وَالظَّاهِرُ) الغالب لكلّ شيء ، وكلّ شيء دونه (وَالْباطِنُ) العالم فلا أعلم منه. وقيل إنه الظاهر بالشواهد والأدلة ،
والباطن الخبير العالم ، كما قيل : إنه العالم بما ظهر وبما بطن ، وأنه الأول
بالأزليّة ، والآخر بالأبدية ، والظاهر بالأحديّة والباطن بالعمديّة (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه عالم لذاته.
* * *
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ
وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٦))
٤ إلى ٦ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ ...) أي أنه خلقهما سبحانه بما فيهما (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد كان يستطيع أن يخلقهما في لحظة واحدة لأنه قادر لذاته
، وقد فعل ذلك ليري ملائكته وعباده ما في ذلك من مصلحة ظهور شيء بعد شيء ، وما في
ذلك من حسن النظام والتدبير ، فقد أوجدهما هكذا (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) أي استولى على الملك
والسلطان فكان
قادرا على الخلق والإفناء. والعرش هو الذي فوق السماوات (يَعْلَمُ) يعرف سبحانه (ما يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها ويستتر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من سائر أنواع الحيوان والنبات والجماد ولا يخفى عليه شيء
من ذلك (وَ) يعلم (ما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ) من مطر ومن خيرات ومن أوامر ونواهي (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ما يصعد إليها من ملائكة ومن أعمال الخلق وغيرها (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بواسطة علمه الذي يحيط بكل شيء فلا يخفى عليه كبير ولا
صغير من أعمالكم وأحوالكم (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ) من خير أو شرّ أو حسن أو قبيح (بَصِيرٌ) أي عليم يرى ذلك على حقيقته ، إذ (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرّف فيهما بحسب مشيئته (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي تصير إليه يوم القيامة لأن كلّ ملك ملكه غيره يزول عنه
بعد موته ثم يصير ملك الكائنات إليه وحده عزّ اسمه كما كان قبل أن يخلق الخلق (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ،
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما نقص من هذا في هذا وبالعكس بحسب ما دبّر وقرّر
، وقد شرحنا ذلك في غير هذا المكان (وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف بأسرار خلقه ولا تخفى عليه وساوس الصدور ولا خطرات
الأفكار ولا خفيّات الضمائر. وفي هذا تحذير للعصاة من خلقه.
* * *
(آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
وَما
لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ
وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ
وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))
٧ إلى ١٠ ـ (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا) ... هذا خطاب لعباده المكلّفين بالطاعات يأمرهم فيه
بالإيمان والتصديق بوحدانيّته سبحانه وبعبادته (وَ) ب (رَسُولِهِ) أي صدّقوا به واعترفوا بأنه نبيّ مرسل (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي ابذلوا في سبيل الله وفي الوجوه التي أمركم من المال
الذي يسّره لكم بالميراث أو بالكسب وجعلكم ولاة عليه مدة حياتكم ، وقبل أن تموتوا
وتزول ولايتكم عنه (فَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي للمؤمنين بالله وبرسوله وكتابه ، المنفقين في سبيله ،
جزاء كبير وثواب عظيم. ثم أنكر سبحانه عليهم عدم امتثالهم ووبّخهم على عدم تصديقهم
فقال : (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يعني ما الذي يمنعكم من التصديق به مع الدلائل الكثيرة
الواضحة (وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) ونبيّه (ص) ينذركم ويحذّركم ويطلب إليكم أن تؤمنوا بخالقكم
(وَقَدْ أَخَذَ
مِيثاقَكُمْ) بما جعل سبحانه في عقولكم من التفكير الذي يمكن أن يوصل
إلى الإيمان بالدلائل الواضحة ، والميثاق هو الأمر الذي يجب العمل بمقتضاه لأنه
يؤكّد ذلك بين المواثقين ، فافعلوا ذلك (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين فعلا ، فلا عذر لكم في ترك الإيمان
بعد إزاحة العلة ولزوم الحجة للعقول المنكرة والقلوب الواعية. ثم أخذ يشرح دلائله
بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) محمد صلىاللهعليهوآله (آياتٍ بَيِّناتٍ) براهين واضحة (لِيُخْرِجَكُمْ) الله بتلك
البراهين وبالقرآن
(مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان والهداية (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وذلك بأنه رحمكم ومنّ عليكم بأن أرسل إليكم رسولا ونصب
أدلّة ولم يترك مجالا لبقائكم على الضلال. ثم عاد يحثّ على الإنفاق في سبيله
لأهمية هذا الإنفاق الذي يقرّب منه عزوجل فقال منكرا : (وَما لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما تنتظرون من وراء ترككم للإنفاق ، وأي شيء يتوفّر لكم
بالبخل؟ (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل ما فيهما يبقى له سبحانه بعد فناء من فيهما من الجنّ
والإنس والملائكة ، فاستوفوا حظوظكم من الأموال التي استخلفكم عليها قبل أن تصير
ميراثا لغيركم. ثم بيّن تعالى فضل السابقين للإنفاق في سبيله فقال : (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (مَنْ أَنْفَقَ) من ماله في سبيل الله (مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ ، وَقاتَلَ) الكفار ، فإن (أُولئِكَ) الفاعلين لذلك (أَعْظَمُ دَرَجَةً
مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أي بعد فتح مكّة أعزها الله. فالنفقة على جيش الإسلام مع
الجهاد قبل فتحها ، أعظم ثوابا عند الله من النفقة والجهاد بعده (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي وعد هؤلاء وهؤلاء بالجنّة وإن تفاضلوا في درجاتها (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه ولا يخفى عليه شيء من حالكم
ومقالكم وإنفاقكم وجهادكم ، بل هو أعلم بجميع تصرّفاتكم ونيّاتكم.
* * *
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
لِلَّذِينَ
آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ
اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ
هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))
١١ إلى ١٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) ... القرض هو ما تعطيه لغيرك ليقضيك إياه حين توفّره لديه.
فمن منكم أيها الناس ينفق من ماله في سبيل الله ثم يعتبره قرضا لله ودينا عليه
سبحانه بطيبة نفس (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يجعل له جزاء إقراضه هذا من سبعة إلى سبعين ضعفا ، بل
إلى سبعمائة؟ وقد قالوا إن القرض الحسن يجب أن تتوفّر فيه عشر صفات ، هي : أن يكون
من الحلال ، ومن أكرم ما يملكه صاحبه دون الرديء ، وأن يتصدق وهو يحب المال ويرجو
الحياة ، وأن يكتمه ما أمكن ، وأن لا يتبعه المنّ والأذى ، وأن يقصد به وجه الله
ولا يرائي بذلك ، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر ، وأن يكون من أحبّ ماله إليه ، وأن
يضعه في الأحوج الأولى بأخذه (وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ) أي لهم ثواب وجزاء خالص كثير ، وقد وصف بالكريم لأنه يجرّ
نفعا كثيرا ، وهو هنا الجنّة (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يا محمد في ذلك اليوم (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي أن ضياءهم الذي خلعه عليهم ربّهم تبارك وتعالى لإيمانهم
يضيء لهم طريق الصراط ويكون دليلهم إلى الجنّة. وعن قتادة كما في المجمع أن المؤمن
يضيء له نور كما بين عدن إلى
صنعاء ، ودون ذلك
، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه. (وَبِأَيْمانِهِمْ) يعني كتب أعمالهم يأخذونها بأيمانهم ثم يبشّرون فتقول لهم
الملائكة : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) باقين مؤبّدا وقد مرّ تفسير مثلها (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي أن هذا هو الظّفر والنجاح والحصول على المطلوب على أكمل
وجه يتمّناه الناس في الآخرة. وبعد هذا البيان لحال المؤمنين في يوم القيامة قال
جلّ جلاله : (يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بعد أن يروا ما هم عليه من النور والبشرى والنعيم : (انْظُرُونا) أي اصبروا نلحق بكم و (نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) أي مهلا حتى نستضيء بنوركم ونتخلّص من هذه الظّلمات (قِيلَ) للكافرين : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي عودوا إلى المحشر حيث كنتم وحيث خلع الله تعالى علينا
هذا النور وهذا البهاء (فَالْتَمِسُوا) هناك (نُوراً) تستضيئون به ، فيرجعون فلا يجدون شيئا. وقيل إن المراد من
قول المؤمنين لهم (ارْجِعُوا) أي ارجعوا إلى الدنيا واعملوا بالطاعات كما عملنا ليحصل
لكم مثل نورنا الذي حملناه بالإيمان (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ) أي أقيم بين المؤمنين والكافرين سور ، أي جدار حاجز عال
يحول بينهم. والباء في (بِسُورٍ) زائدة وهذا مثل قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، أي ليس ظلاما. وذلك السور يقام بين الجنّة والنار يفصل
بين الفريقين (لَهُ بابٌ باطِنُهُ
فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي من جهة ذلك الظاهر العذاب أي جهنم كما أن الرحمة من جهة
الجنّة (يُنادُونَهُمْ) أي أن المنافقين ينادون المؤمنين قائلين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) ألم نكن سوية في الحياة الدنيا نفعل ما تفعلون من صيام
وقيام وغيرهما؟ (قالُوا بَلى) هذا جواب المؤمنين ، أي : نعم كنتم كذلك (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي غششتم أنفسكم وأخذتم بفتنة النّفاق ورجعتم عن الإسلام (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي انتظرتم بمحمد (ص) الموت حتى تخلصوا منه وتستريحوا ممّا
جاءكم به من عند ربه ، أو تربّصتم به
(ص) وبالمؤمنين
كلّ سوء (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أصل الدين (وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُ) أي غشّتكم الآمال بأن تدور الدائرة بالمؤمنين فيهلكون (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني غرّكم الشيطان فأطعتموه لأن الله أمهلكم ولم ينتقم
منكم في الدنيا (فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي لا يفيدكم أن تدفعوا بدلا تفدون به أنفسكم لتنجوا من
العذاب (وَلا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي الذين تظاهروا بالكفر الذي أبطنتموه (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقرّكم الدائم الذي تأوون وتدخلون إليه (هِيَ مَوْلاكُمْ) يعني هي أولى بكم لكثرة ذنوبكم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وهي مصير بئيس تعيس.
* * *
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))
١٦ و ١٧ ـ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) ... أنى يأني إنّى
يعني : حان وقته. والمعنى : ألم يحن ويجيء الوقت الذي تلين فيها قلوب المؤمنين (لِذِكْرِ اللهِ) فترقّ لما يسمعون من تذكيره سبحانه ووعظه لهم بالآيات
البيّنات (وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِ) أي وتلين أيضا للقرآن الذي جاء بالحق من عند الله (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم (فَطالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ) أي الزمان قد بعد بينهم وبين رسلهم فاغترّوا بالدنيا
وفارقوا تعاليمهم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) غلظت وصارت قاسية تقبل المعاصي دون وجل لأنهم تعوّدوا
عليها. وممّا روي
عن عيسى عليهالسلام أنه قال : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم ،
فإن القلب القاسي بعيد من الله ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب ، وانظروا
في ذنوبكم كأنكم عبيد. والناس رجلان : مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا
الله على العافية (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) مارقون وخارجون عن إطاعة أوامر الله متمرّغون بمعاصيه (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها) يعني يحييها بالمطر فينبت النبات بعد يباسه وتخضرّ الأرض
بعد جدوبتها ، وهو كذلك يحيي الكافر الميّت القلب بالإيمان والهدى إلى الحق ،
ويليّن القلوب بعد قساوتها (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم البراهين والحجج (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بأمل أن ترجعوا إلى طاعتنا بعد التفكّر والتدبّر.
* * *
(إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ
لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ
مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))
١٨ إلى ٢٠ ـ (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ ...) قد مرّ سابقا الاختلاف في قراءة (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) و (الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) والحاصل أن المتصدقين والمحسنين إلى الفقراء والمساكين ،
من الرجال والنساء (وَ) الذين (أَقْرَضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي بذلوا في سبل الخير ، فأولئك (يُضاعَفُ لَهُمْ) ما بذلوه من قرض لله عزوجل (وَلَهُمْ أَجْرٌ
كَرِيمٌ) مرّ تفسيره في هذه السورة المباركة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني صدقوا بهم فوحّدوا الله واعترفوا بنبوّة أنبيائه (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي شديد والتصديق بحقّ وحقيقة. وعن مجاهد أن كلّ من آمن
بالله ورسله فهو صدّيق وشهيد. فهم الصدّيقون (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) أي وأولئك هم كذلك ، و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ) أي ثوابهم محفوظ لهم ، وكذلك نورهم الذي يهتدون به إلى
طريق الجنّة. وفي العياشي عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام أن منهال القصّاب قال له : ادع الله أن يرزقني الشهادة.
فقال له : إن المؤمن شهيد ، وقرأ هذه الآية. وعن الباقر عليهالسلام أنه قال : العارف منكم هذا الأمر ، المنتظر له ، المحتسب
فيه الخير ، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد عليهالسلام بسيفه. ثم قال : بل والله كمن جاهد مع رسول الله صلىاللهعليهوآله بسيفه. ثم قال : ثالثا : بل والله كمن استشهد مع رسول الله
صلىاللهعليهوآله في فسطاطه. ثم قرأ هذه الآية الكريمة وقال : صرتم والله
صادقين شهداء عند ربّكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي في النار يبقون فيها دائما وأبدا فكأنهم ملكوها وصاروا
أصحابها (اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي أنها بمنزلة اللهو الذي لا بقاء له مهما طال وقته. وقيل
إن اللعب ما رغّب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة. فهي كذلك ، وهي (زِينَةٌ) يتزيّن أهلها بها فتحلو في أعينهم ، وهي (تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) يفاخر بعضكم بعضا بزخرفها (وَتَكاثُرٌ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) بحيث تجمعون منها ما يحلّ وما لا يحل
وتفنون أعماركم في
كنز المال وذلك (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مثل مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ) أي أعجب الزارعين ما ينبت فيها من ذلك المطر ، وقد ذكر
إعجاب الكفّار دون غيرهم لأنهم أكثر إعجابا بمفاتن الدنيا وملاذّها (ثُمَّ يَهِيجُ) ذلك النبات أي يصيبه اليباس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) قد ضرب إلى الصّفرة وبلغ غايتها (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) مهشّما مكسّرا قشّه ، وقد عرضنا الشرح ذلك المظهر في سورة
يونس (وَفِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ شَدِيدٌ) مخصوص بأعدائه سبحانه وتعالى (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ
اللهِ وَرِضْوانٌ) للمؤمنين به ولأهل طاعته (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي أنها سبب غرور لمن اغترّ بها واشتغل بطلبها ، والمتاع
يستهلك ويزول ويفنى ، والدنيا كذلك فلا تغترّوا بها.
* * *
(سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))
٢١ إلى ٢٤ ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) ... هذا ترغيب منه
سبحانه في
المسابقة إلى الرغبة في الجنّة والرضوان ، يعني بادروا إلى صالح الأعمال والتوبة
وطلب المغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فسابقوا إلى جنّة هذا وصفها. وقد ذكر سبحانه عرضها ولم
يذكر طولها لأن هذا العرض الهائل لا بدّ له من طول أعظم ، ولأن الطول قد يكون بعرض
قليل ولا يصح عرض كبير بطول أصغر منه ،! ولأن عرضها هكذا ، فإن طولها لا يعلمه غير
خالقها جلّ وعلا ، فسبحانه أين خلقها وأين وضعها بهذه السعة العجيبة؟ وقد (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي هيّئت لهم لأنهم صدقوا (بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وآمنوا بما جاء به رسله الكرام (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ) أي أنها تفضّل منه تعالى على المؤمنين وإن كانوا لا
يستحقونها كما هي فقد أعطاهم منها ما يستحقونه مع زيادة تفضليّة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه صاحب الإحسان الجسيم إلى عباده المطيعين في
الآخرة. ثم انتقل إلى معنى آخر يبيّن عظمته جلّ وعلا فقال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) كالقحط وقلة المطر ونقص الإنتاج وغيره (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من مرض أو غيره ، ما من شيء من ذلك (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي أنه مثبت مذكور في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) يعني من قبل أن نخلقها ونوجدها ليستدل ملائكته وسائر عباده
أنه سبحانه عالم لذاته يعرف جميع الأشياء بمجملها ومفصّلها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هيّن بالرغم من كثرته. وقد أخبر بذلك وبيّن أنه
عالم بما كان وبما يكون (لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ) أي حتى لا تحزنوا على ما لا تصيبونه من نعيم الدنيا
وملذّاتها (وَلا تَفْرَحُوا بِما
آتاكُمْ) أي لا تسرّوا كثيرا بما منحكم الله من عطاءاتها ، ذلك أنه
تعالى ضمن لعبده الصالح عوض ما فاته منها ، وكلّفه بالشكر على ما ناله فيها ،
فيصرف تفكيره لما ينال به رضا الله تعالى في الآخرة الباقية الدائمة (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) أي يكره كل متكبّر يتعاظم على الناس. و (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بأداء ما كلّفوا به من الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)
يحثونهم عليه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض وينصرف عمّا ندبه الله تعالى إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن طاعاته وصدقاته وإحسانه ، وهو (الْحَمِيدُ) أي أهل الحمد والشكر على نعمه الجزيلة وفضله العميم.
* * *
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا
عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))
٢٥ إلى ٢٧ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ) ... أي بعثناهم بالبراهين والمعجزات والدلائل (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب السماويّة المتضمّنة للأحكام ولكل ما يحتاج إليه
الخلق (وَ) أنزلنا كذلك (الْمِيزانَ) إمّا ذا الكفّتين الذي نزن به الأشياء ، وإمّا صفة الميزان
الذي يحقّق العدل في المعاملات (لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) أي ليتعاملوا فيما بينهم
بالعدل (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) كذلك لفائدتكم. وفي المجمع روى ابن عمران النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض ، أنزل
الحديد ، والنار ، والماء ، والملح أما معنى (أَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) فهو : أحدثنا وجوده في الأرض وأنشأناه ، أي أنعمنا به
عليكم و (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي قوّة لأنه يستعمل في الحرب وفي كثير من الصناعات (وَ) له (مَنافِعُ لِلنَّاسِ) فوائد ينتفعون بها في معاشهم كالسكين والفأس والإبرة (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) هذا عطف على قوله (لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) أي ليعرف الله نصرة من ينصره وجهاد من يجاهد مع رسوله
الكريم (ص) و (بِالْغَيْبِ) يعني في الواقع من غير مشاهدة بالعين (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) يغلب أعداءه ويقهرهم (عَزِيزٌ) منيع من أن يعترض عليه معترض من سائر خلقه. ثم أتى سبحانه
على ذكر بعض الأنبياء وهو يتحدث عن رسله فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فخصّهما بالذكر لأنهما أبوا الأنبياء المتأخرين عنهما
ولفضلهما أيضا (وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) فالأنبياء المتأخرون عنهم كلّهم من نسلهما. ثم تكلّم عن
نسلهما إجمالا فقال : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى الحق وطريق الهدى (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله متّبعون لمعصيته (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ
بِرُسُلِنا) أي أتبعناهم برسل آخرين إلى أمم أخرى واحدا بعد واحد (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) من بعدهم أيضا (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه ، وهم الحواريّون ومن اتّبع عيسى عليهالسلام رأفة هي أشد الرحمة والرقّة فيها (وَرَحْمَةً) عطفا وشفقة (وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وهي طريقة العبادة في الكنيسة أو في محلّ منفرد عن الناس
والتنسّك الدائم والانقطاع عن الدنيا ، وهذا شيء لم نكلّفهم ولكنهم ابتدعوا ما
فيها من رفض النساء واتّخاذ الصوامع رغم أننا لم نكتبها عليهم فلم يتّبعوها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) أي رغبة في رضاه ، ولكن (فَما رَعَوْها حَقَ
رِعايَتِها) أي ما حفظوها بحسب الأصول التي وضعوها لها. وفي المجمع في
الخبر المرفوع عن النبيّ (ص) فما رعاها الذين بعدهم حقّ رعايتها وذلك لتكذيبهم
بمحمد (ص) (فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) أي أعطيناهم ثواب طاعتهم وتصديقهم وهم الذي آمنوا بالنبيّ
محمد صلىاللهعليهوآله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) أي كافرون ، وقد قال رسول الله (ص): من آمن بي وصدّقني
واتّبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))
٢٨ و ٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.
اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) ... قال ابن عباس : يا أيها الذين (آمَنُوا) ظاهرا (آمَنُوا) باطنا (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ) أي نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) من عفوه ولطفه ، لإيمانكم بمن قبل نبيّكم ، ولإيمانكم به صلىاللهعليهوآله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني يجعل لكم هدى ، أو هو نور القرآن المحتوي للأدلة
والبراهين الساطعة التي هو نور يمشي به الإنسان في يوم القيامة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يعفو عن ذنوبكم ويسترها عليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مرّ تفسيره (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) أي الذين لم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآله وحسدوا من آمن منهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ
عَلى شَيْءٍ)
ألّا : هي (أن)
المخفّفة و (لا)
والتقدير : أنهم
لا (يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل الاستحقاق (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يمنّ على من يشاء من عباده الصالحين. وقيل ان المقصود هنا
هو النبوّة ، أي أنهم لا يقدرون على فرض نبوّة الأنبياء ولا على صرفها عمّن يشاء
من مستحقّيها. والحاصل أن المعنى هو : إن الله يفعل بكم هذه الأشياء ليتبيّن جهل
أهل الكتاب وأنهم لا يعلمون ما يؤتيكم الله من فضله ، ولا يقدرون على تغيير شيء.
* * *
سورة المجادلة
مدنية وآياتها ٢٢
نزلت بعد المنافقين.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)
الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ
إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))
١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ... هذه الآية وما بعدها نزلت في امرأة من الأنصار اسمها
خولة بنت خويلد واسم زوجها أوس بن الصامت وكانت وسيمة جميلة القوام والهيئة رآها
زوجها وهي ساجدة في صلاتها فلما انصرفت منها أرادها بعد الصلاة بلا فصل فلم تستجب
له ، فغضب لسرعة فيه وقال لها : أنت عليّ كظهر أمي. وكان هذا القول يعتبر محرّما
للمرأة على زوجها بحسب عرفهم وهو الظهار الذي كان يعدّ طلاقا في الجاهلية. وقد ندم
الزوج بعد قوله هذا وقال ما أظنك إلّا حرمت عليّ. فقالت : لا تقل هذا واذهب إلى
النبىّ (ص) فاسأله عن حكم الظهار في الإسلام. قال : إن أخجل من سؤاله ، فقالت :
دعني أنا أسأله. وأتت النبيّ (ص) وقصّت عليه ما جرى وقالت هل من شيء يجمعني به؟
فإنه لم يذكر طلاقا وهو أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال (ص) : ما أراك إلّا حرمت
عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء. فقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي. اللهم فأنزل
شيئا على لسان نبيّك (ص). وما كان أسرع من أن أخذه مثل السّبات إلى أن قضي الوحي
فأفاق وقال : ادعي زوجك ، فدعته فتلا رسول الله صلىاللهعليهوآله عليه : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ، إلى آخر
الآيات. فسبحان من هو أسمع السامعين وأبصر الناظرين الذي سمع يا محمد مجادلة هذه
الزوجة التي تراجعك بشأن زوجها وقد سمع حوار كما وما أظهرته من شكوى ومكروه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) شديد السمع ، (بَصِيرٌ) شديد البصر ، يسمع السرّ وأخفى ويعلم وساوس الصدور.
٢ إلى ٤ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسائِهِمْ ...) أي هذا حكم الرجال الذين يقولون لنسائهم : أنتنّ كظهور
أمّهاتنا : (ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ) يعني لسن بأمّهاتهم ولا يصرن أمّهاتهم بهذا القول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي
وَلَدْنَهُمْ) وليس أمهاتهم إلّا الوالدات لهن من بطونهنّ (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً
مِنَ الْقَوْلِ) أي أن المظاهرين لا يعرفون الحكم الشرعي وقولهم
خلاف الشرع
يقولونه هجرا (وَزُوراً) أي كذبا لأن المظاهر منها لا تصير أمّا ولا يجري عليها حكم
الأم (وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) يعفو عمّن يقول ذلك ولكنه يأمرهم بالتكفير عن هذا المنكر
وهذا بيان حكمهم : (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني يفعلون ما ذكرناه من الظهار (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي يرجعون في القول ويرغبون في استحلالهنّ ونكاحهنّ بعد أن
ظنوا حرمتهنّ عليهم وندموا على ما قالوا (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم عتق رقبة قبل أن يجامعوا نساءهم اللاتي ظاهروا
منهنّ (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ
بِهِ) أي هذه الصعوبة في الحكم هي وعظ لكم لتتركوا الظهار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالكم فاحذروا من عدم الاتّعاظ وكفّروا عن
خطئكم قبل وطئهنّ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي فمن لم يجد رقبة يعتقها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فعليهم صيام شهرين متّصلين قبل الجماع. والتتابع أن
يوالي بين أيام الشهرين الهلاليّين أو صيام ستين يوما دفعة واحدة والتفصيل في كتب
الفقه (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة ولا قوي على الصوم (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي أن يطعم ستين فقيرا لكل واحد نصف صاع فإن لم يقدر فمدّ
من طعام (ذلِكَ) أي ذلك الفرض عليكم (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) لتصدقوا بما أمر به الله وبلّغه رسوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي ما ذكره من الكفّارات في الظهار هي أحكام الله عزوجل (وَلِلْكافِرِينَ) أي الجاحدين بها (عَذابٌ أَلِيمٌ) عذاب موجع في الآخرة.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
أَحْصاهُ
اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦))
٥ و ٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يعادون الله ورسوله ويخالفونهما (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أي ذلّوا وأخزاهم الله كما أخزى وأذلّ من سبقهم من
المشركين (وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلائل وحججا واضحات في القرآن الكريم (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) يعني وللجاحدين ما أنزلناه فيه على رسولنا عذاب فيه إهانة
لهم وخزي وذل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً) أي يجمعهم ويحشرهم إليه بعد أن يحييهم للحساب (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بأفعالهم ومعاصيهم التي أثبتها في كتب أعمالهم (وَنَسُوهُ) وذهب عن بالهم كأنهم لم يفعلوه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه سبحانه يعلم كل شيء من جميع وجوهه ويراه ولا تخفى
عليه خافية ، والشهادة هنا العلم ، وهو كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ) ، أي علم.
* * *
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى
ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا
أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ
يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ
يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ
بِما نَقُولُ
حَسْبُهُمْ
جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً
إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))
٧ و ٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله والمقصود به سائر المكلّفين. وفيه استفهام يفيد التقرير أي
اعلموا أن الله محيط بجميع المعلومات في السماوات والأرض ولا يفوته شيء مما يجري
فيهما لأنه صدر عن تقديره وبعلمه ، ولذلك (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يعني أن نجواهم معلومة عنده كأنه كان رابعا لهم حين
المناجاة (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا
هُوَ سادِسُهُمْ) أي حين يتناجى خمسة يعرف نجواهم كأنه سادس المتناجين يعرف
سرّهم وما قالوه (وَلا أَدْنى) أقل ممّا ذكر (مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) يعني أنه مطّلع على تصرفات الكلّ فرادى ومجتمعين كأنما هو
معهم وشاهد لهم فهو مع الإنسان أينما كان ولا يخفى عليه أمر من أموره (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنه شاهد ومشاهد لكل ما يخصّه. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا
عَنِ النَّجْوى) أي ألم تعرف حال هؤلاء الذين يتحدّثون سرّا بما يؤذي
المسلمين ويجلب لهم الغمّ والحزن وهم المنافقون واليهود وأعداء الذين (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) أي يرجعون إلى ما كانوا عليه من المناجاة رغم نهيهم عنها (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) أي يتسارّون فيما بينهم بما يخالفون به رسولنا (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الذي نهاهم عن مثل هذه النجوى فعصوه
وفعلوها مكرّرا (وَإِذا جاؤُكَ) يعني إذا أتوا إلى عندك وترددوا عليك (حَيَّوْكَ) سلّموا عليك (بِما لَمْ يُحَيِّكَ
بِهِ اللهُ) بغير التحية التي حيّاك بها ربّك ، لأن اليهود كانوا
يقولون له (ص) : السام عليك ، والسام هو الموت بلغتهم ، وهم يوهمون أنهم يقولون :
السلام عليك. وكان النبيّ (ص) يعرف ذلك منهم ويجيبهم قائلا : وعليك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي فيما بينهم وبين بعضهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا
اللهُ بِما نَقُولُ) يعني إذا كان هذا نبيّا حقّا فهلّا يعذّبنا الله بقولنا له
كذلك؟ وقد أجاب سبحانه على تساؤلهم : (حَسْبُهُمْ) أي تكفيهم (جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها) النار يحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فبئس المآل مآلهم في جهنم.
٩ و ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَناجَيْتُمْ ...) أي تساررتم فيما بينكم (فَلا تَتَناجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يعني لا تفعلوا مثل فعل اليهود والمشركين الذين يتهامسون
فيما يؤذي النبيّ والمسلمين (وَتَناجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بفعل الخير وتجنّب ما يغضب الله وترك معاصيه (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه يوم القيامة ليثيبكم على إيمانكم وطاعاتكم (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) يعني نجوى الكافرين والمنافقين بما يسوء المؤمنين هي نجوى
تنبعث عن وسوسة الشيطان اللعين وبإغوائه (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) ليجلب لهم الحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ
شَيْئاً) فهو لا يجلب عليهم ضررا ولا سوءا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه بحيث يكون سببا لإيلامهم وحزنهم وكربهم ، وقيل
إنه يضرهم بأن يحزنهم في اليقظة وفي الأحلام. وروى ابن مسعود أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما ، فإن
ذلك يحزنه.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ
اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (١١))
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ ...)
التفسّح هو
التوسيع في المجلس أو المكان ، وهذا يعني أن عليكم أيّها المؤمنون أن تتّسعوا في
مجلس النبيّ صلىاللهعليهوآله وفي جميع مجالس الذكر بحيث يفسح كل واحد لأخيه كي يجلس
ويجد مكانا له (فَافْسَحُوا) توسّعوا (يَفْسَحِ اللهُ
لَكُمْ) أي يوسّع الله تعالى لكم المجالس في الجنّة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي قوموا واتركوا المكان لإخوانكم (فَانْشُزُوا) قوموا وانهضوا. وقيل معناه انهضوا إلى الصلاة والجهاد فلا
تقصّروا في ذلك. وقيل إنها نزلت في جماعة كانوا يطيلون المكث في مجلس رسول الله (ص)
ولا يتركون المجالس لغيرهم فأمروا بذلك. فان تفعلوا ذلك (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع المؤمنين على غيرهم بطاعتهم للنبيّ (ص) ثم يرفع
الذين أوتوا العلم منهم على الذين لم يؤتوا العلم درجات بفضل علمهم وسابقتهم في
الجنّة. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على فضل العلم وجلالة أهله. وفي الحديث أنه
قال صلىاللهعليهوآله : فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد
درجة ، وفضل النبيّ على العالم درجة ، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على
خلقه ، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم (بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ) أي عليم كما سبق وقلنا.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ
صَدَقَةً
ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))
١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...) أي إذا ساررتموه (فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي تصدقوا على فقير قبل أن تدخلوا عليه (ص) لمناجاته. وهذا
تعظيم لشأنه صلوات الله وسلامه عليه ، وليكون سببا لعمل فيه نفع للفقير وفيه أجر
عظيم. وقيل إنهم بخلوا بالصدقة وكفّوا عن مناجاته (ص) فلم يناجه بعد ذلك إلّا أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وقد ذكرنا ذلك سابقا (ذلِكَ) أي ذلك التصدّق على الفقراء قبل مناجاته (ص) هو (خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه عمل مستحبّ عليه أجر كبير (وَأَطْهَرُ) يعني وأزكى لأعمالكم لأنكم تتطهّرون به قبل الدخول على
النبيّ (ص) كما يتطهّر المصلّي قبل صلاته (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدّقون به (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي عفوّ عنكم عطوف عليكم يرحم وينعم عليكم من واسع فضله.
ثم لما ضنّوا بذلك وشحّت نفوسهم ببذل الصدقات بين يدي مناجاته (ص) نسخ الله تعالى
الآية السابقة بقوله عزّ وعلا : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) يعني هل خفتم الفقر وبخلتم بالصدقة يا أهل الغنى واليسار؟ وهذا
تقريع لهم وتوبيخ لخوفهم من الحاجة (فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا) أي وما زلتم قد قصّرتم ولم تقدّموا الصدقات (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) عفا عن تقصيركم في أمره (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به من الطاعات (وَ) أطيعوا (رَسُولَهُ) أيضا (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) عالم بأفعالكم جميعها.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥)
اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))
١٤ إلى ١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) أي : ألم تنظر يا محمد إلى هؤلاء المنافقين الذين يوالون
اليهود الذين باءوا بغضب الله وسخطه ، فإنهم يجتمعون معهم ويفشون إليهم بأسرار
المسلمين ليسيئوا إليك وإلى المؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) أي أنهم ليسوا من المؤمنين بك ولا هم معهم في الإيمان ،
ولا هم من اليهود في الظاهر وإن كانوا معهم بالولاء (وَيَحْلِفُونَ عَلَى
الْكَذِبِ) أي يقسمون الأيمان أنهم لم ينافقوا ولا أفشوا أسرارا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون أنهم منافقون ، ولذلك (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً شَدِيداً) هيّأه لهم في الآخرة (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما فعلوا وما يفعلون من النّفاق وموالاة أعداء الله
ورسوله. إنهم قد (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا ما يقسمونه من الايمان
الكاذبة وقاية لهم
وشرا دون القصاص يدفعون بها التهمة والخيانة (فَصَدُّوا) أي منعوا نفوسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق المؤدية إلى معرفته سبحانه وإلى الحق والهدى (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) مرّ تفسيره. و (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) أي سوف لا تفيدهم الأموال التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) التي خلّفوها وتعبوا عليها ، لن تغني عنهم (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تمنع عنهم عذابه ولا تدفع غضبه (أُولئِكَ) هم (أَصْحابُ النَّارِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيرها مكرّرا (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ) يحييهم (جَمِيعاً) كلّهم (فَيَحْلِفُونَ) يقسمون (لَهُ) في الآخرة (كَما يَحْلِفُونَ
لَكُمْ) في الدنيا ، بأنهم كانوا مؤمنين بحسب اعتقادهم السخيف الذي
كانوا يظنونه حقّا (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويظنون أنهم كانوا على شيء من الحق ولذلك يحلفون بالكذب
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكاذِبُونَ) في أقوالهم وعقيدتهم وأيمانهم التي يقسمونها ، وقد (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم وأحاط بهم من جميع جهاتهم لشدّة اتّباعهم
له (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللهِ) فصاروا لا يذكرونه ولا يخافون منه (أُولئِكَ) هم (حِزْبُ الشَّيْطانِ) جنوده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الآخرة ، ويكفي أنهم يخسرون مرضاة الله تعالى ، والجنّة
ويستبدلون ذلك بالنار وبئس القرار.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)
لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(٢٢))
٢٠ إلى ٢٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ ...) أي الذين يخالفونهما في الحدود التي وضعها الله تعالى
لمعالم دينه ، وهم المنافقون و (أُولئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ) أي أنهم بمشيئة الله عزوجل في صنف الأذلّة في الدنيا وفي الآخرة مع الخزي العظيم ،
ذلك إذ (كَتَبَ اللهُ) في اللّوح المحفوظ وقدّر وذلك لا بدّ أن يكون ، وهو (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) لننتصرنّ على الكفّار والمنافقين. وهذا يجري مجرى القسم
المؤكّد لأنه أجاب عليه بجواب القسم المؤكّد باللام ونون التوكيد ، فلنغلبنّهم
بالحجج والبراهين وفي حربهم ، فإنه ما أمر سبحانه بحرب إلّا غلب إن عاجلا أو آجلا (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر قاهر (عَزِيزٌ) منيع غالب لمن خاصم أنبياءه وأولياءه (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقون بوحدانيّة الله سبحانه وبالبعث والحساب والثواب
والعقاب ثم (يُوادُّونَ) يوالون ويحبّون (مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) من خالفهما ولم يعمل بأوامرهما ، إذ لا تجتمع موالاة
الكفّار مع الإيمان مطلقا (وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني مهما قربت قرابتهم منهم ، فإنهم يتبرّءون منهم لأنهم
أعداء الله ورسوله. وقيل إن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب إلى أهل
مكة كتابا يخبرهم فيه يتوجّه رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى مكّة ليفتحها ، ثم لمّا صادر الإمام عليّ عليهالسلام الكتاب في الطريق بأمر من رسول الله (ص) الذي علم به من
جبرائيل (ع) اعترف حاطب أمام النبيّ (ص) واعتذر بأن أهله بمكة وأقاربه فيها وأراد
أن يصنع يدا مع الكفّار ليرفقوا بأهله وأقاربه. فالمؤمنون لا يوالون الكفّار في
حال من الأحوال ، إذ (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ) أي ثبّته فيها بلطفه فصار كأنه مكتوبا
فيها مسجلا عليها
فالإيمان سمة في قلوبهم ، وذلك عكس الطبع على قلوب الكافرين ، فإن المؤمنين رفق
سبحانه بهم (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) أي سدّدهم بالإيمان الذي كان لهم بمثابة الروح في البدن لأنه
بأمره عزّ وعلا. وقيل قوّاهم بالحجج والأدلة فاهتدوا إلى الحق ، وقيل قوّاهم
بالقرآن الكريم ، وقيل أيّدهم بجبرائيل عليهالسلام لينصرهم في المواطن كلّها (وَيُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) واضح المعنى وقد تكلّمنا حوله سابقا ، فقد (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لطاعتهم وعبادتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بالثواب الذي ينالونه في الجنّة (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جنوده وأنصاره (أَلا إِنَّ حِزْبَ
اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المنتصرون الظافرون الناجحون.
* * *
سورة الحشر
مدنية وآياتها ٢٤
نزلت بعد البيّنة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ
كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (٤))
١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) هذه السورة المباركة نزلت في إجلاء بني النّضير من اليهود
حين أنذرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله لكيدهم ومكرهم وخيانتهم فخرجوا إلى خيبر وبلاد الشام ، وقد
مرّ تفسير هذه الآية الشريفة ، والله تعالى (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي هؤلاء اليهود (مِنْ دِيارِهِمْ) بتسليطه المؤمنين عليهم وبأمر النبيّ (ص) بإخراجهم من
حصونهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) اختلف في معنى هذا القول والظاهر أنه سبحانه أخرجهم منها
على أن لا يعودوا إلى أرضهم حتى قبيل يوم القيامة ، ففرّقهم في البلاد وشتّت شملهم
في أقاصي المعمور (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ
يَخْرُجُوا) أي ما حسبتم أيها المؤمنون أنه يمكن إخراجهم من ديارهم
بسهولة لقوّتهم ومنعتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ) أي حسبوا أنهم تحميهم القلاع والحصون التي اعتصموا بها (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي جاء أمر الله تعالى وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من جهة لم يحسبوا حسابها لأنهم اغترّوا بقوّتهم وسلاحهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى الخوف في نفوسهم وخصوصا بعد قتل زعيمهم كعب بن
الأشرف (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمونها من الداخل ليهربوا ، ويهدمها المؤمنون من
الخارج للوصول إليهم (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) أي فانظروا وتدبّروا واتّعظوا يا أصحاب العقول فيما حلّ
بهم من البلاء من حيث لم يحتسبوا ، وذلك أن الله تعالى وعد رسوله أن يورث المؤمنين
أموالهم وديارهم قبل ذلك الإنذار الذي مزّقهم شذر مذر (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ
الْجَلاءَ) أي قدّره عليهم وحكم بأن يرحلوا عن ديارهم فلو لا ذلك (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل ونصر المؤمنين عليهم كما فعل ببني قريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع جلائهم عن وطنهم (عَذابُ النَّارِ) جزاء كفرهم وعنادهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ) أي هذا الذي فعل بهم هو بسبب أنهم خالفوا الله سبحانه
وعاندوا رسوله (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ) يخالفه (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) أي قويّ
القصاص لهم ولكلّ
من خالفه وحارب رسله.
* * *
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
وَما
أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (٨))
٥ ـ (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً ...) أي أنكم يوم حربكم لليهود لم تقطعوا لهم من شجرة نخل من
أنواع النخل الكريم الحسن النوع ، ولم تتركوا من نخلهم نخلة (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) بقيت قائمة دون قطع ودون قلع (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبأمره وتقديره ليذلّ بذلك أعداءكم (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) ليهينهم ويذلّهم حين يرونكم تتحكّمون في أموالهم وأملاكهم.
٦ إلى ٨ ـ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ ...) أي ما جعله له فيئا خالصا من أموالهم حين جلوا عن بلادهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
وَلا رِكابٍ) أي فلم تقربوه محاربين لا على الخيول ولا غيرها مما تركبون
ولكنكم مشيتم إليه مشيا لأنه في أطراف المدينة (وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بل الله تعالى يمكّن رسله من أعدائهم وينصرهم عليهم حين
يشاء من غير قتال كما فعل بالنسبة لبني النّضير حيث جعل سبحانه أموالهم للنبيّ (ص)
خالصة يفعل بها ما يريد ، فقسمها رسول الله (ص) بين المهاجرين منها شيئا إلّا
لثلاثة منهم كانت بهم حاجة شديدة وهم : سهل بن حنيف ، وأبو دجانة ، والحارث بن
الصمة (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى. وعرض سبحانه لحكم الفيء الذي ذكره فقال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال
الكفار في القرى المعادية له ، فهو «لله» يضعه سبحانه فيما أحب وبحسب ما يأمركم به
(وَلِلرَّسُولِ) بتمليك من الله له (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني أهل بيت رسول الله وقرابته من بني هاشم دون غيرهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ) أي يتامى أهل بيته (ص) ومساكينهم ، وابن السبيل منهم ، فعن
عليّ بن الحسين عليهالسلام ـ كما في المجمع : هم قربانا ، ومساكيننا ، وأبناء سبيلنا.
وقيل هم يتامى ومساكين وأبناء سبيل الناس عامة لأن ذلك روي عنهم عليهمالسلام فعن أبي جعفر عليهالسلام أنه قال : كان أبي يقول : لنا سهم رسول الله وسهم ذي
القربى ، ونحن شركاء الناس فيما بقي. وقال الإمام الصادق عليهالسلام : نحن قوم فرض الله طاعتنا ، ولنا الأنفال ، ولنا صفو
المال ، يعني ما كان مصطفى لرسول الله (ص) من خيار الدوابّ وحسان الجواري ومن
الجواهر وغيرها (كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي حتى لا يبقى ذلك متداولا بين الأغنياء فقط ، يحرزه هذا
مرة وهذا مرة ، وهذه هي المداولة كما يكون بين الرؤساء (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي اعملوا بحسب أمره في تقسيم
الأموال فإنه لا
يأمركم ألّا بحكم الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ) تجنّبوا غضبه بترك المعاصي وبفعل الواجبات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصى أوامره وأوامر رسوله. ثم منّ سبحانه على عباده
المحتاجين فقال : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ) الذين تركوا مكة وقصدوا المدينة هجرة إلى نبيّهم (ص) ومن
دار الحرب إلى دار الإسلام ، وهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانوا يملكونها (يَبْتَغُونَ) يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَرِضْواناً) راغبين بفضله ورضاه ورحمته (وَيَنْصُرُونَ اللهَ) أي هاجروا نصرة لدينه ، وينصرون (رَسُولَهُ) بتقويته على أعدائه (أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ) فعلا لأنهم قصدوا نصر الدّين واستجابوا لله تعالى ورسوله (ص).
وبعد أن مدح أهل مكة وغيرها من المهاجرين ، مدح الأنصار من أهل المدينة لأنهم طابت
أنفسهم عن الفيء فرضوا بتقسيمه على المهاجرين المحتاجين فقال :
* * *
(وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))
٩ و ١٠ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ...) أي سكنوا المدينة وهي دار الهجرة
التي تبوأها
الأنصار قبل المهاجرين (وَالْإِيمانَ) إذ لم يؤمنوا قبل المهاجرين ، بل آمنوا بعد هجرة النبي صلىاللهعليهوآله إليهم إلّا قليلا منهم. أما عطف الإيمان على الدار في
التبوّء فهو عطف ظاهريّ لا معنويّ لأن الإيمان لا يتبوّأ ، وتقديره : وآثروا
الإيمان على الكفر (مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني قبل قدوم المهاجرين إليهم حين أحسنوا إليهم بأن
أسكنوهم بيوتهم وشاركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ ولا حسد بسبب ما أخذ
المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النّضير ، بل طابت به نفوسهم
وكانوا (يُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ) أي يقدّمون المهاجرين ويفضّلونهم على أنفسهم في العطاء (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي ولو كانت بهم حاجة وفقر ، وذلك رأفة بإخوانهم وطلبا
للأجر والثواب (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ) أي الفائزون بثواب الله تعالى الرابحون لجنّته ونعيمها.
وقيل : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقي شحّ
نفسه. وقيل. شحّ النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة. ثم عقّب سبحانه بوصف التابعين
ومدحهم بعد المهاجرين والأنصار فقال : (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء وهم سائر التابعين لهم إلى يوم
القيامة (يَقُولُونَ رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة
والتجاوز عن الذنوب (وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشّا ، واجعل قلوبنا
معصومة عند ذلك لا تحب لهم إلّا الخير (رَبَّنا إِنَّكَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي متجاوز عن خطاياهم متعطّف عليهم بالرزق والمغفرة.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا
لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))
١١ إلى ١٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا
...) بعد مدح المهاجرين والأنصار والتابعين عطف على ذكر
المنافقين المسرّين للكفر والعصيان فقال لنبيّه (ص) : ألم تنظر يا محمد (إِلَى) هؤلاء المنافقين (الَّذِينَ نافَقُوا) فأظهروا لك الإيمان وأبطنوا الكفر ، وهم (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي يهود بني النّضير : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم (لَنَخْرُجَنَّ
مَعَكُمْ) مساوين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً) أي لا نطيع محمدا (ص) وأصحابه في قتالكم مطلقا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) من قبل المسلمين (لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لنعيننّكم في الحرب. وقد قالوا لهم ذلك كذبا إذ فضحهم
الله بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم فإنهم لا يخرجون معه ولا ينصرونهم وهم سيخلفون
بوعدهم لهم ولذا قال سبحانه (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا
يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ) أي إذا فرض وجود نصرهم الذي هو محال (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) لسوف يهربون وينهزمون (ثُمَّ لا
يُنْصَرُونَ) أي ثم لا ينتفع جماعتهم بهذا الوعد ولا بنصرتهم. وهذا
الوعد كان من بني قريظة لبني النّضير ، ولكنهم لم يخرجوا معهم ، وحين قوتل بنو
قريظة لم ينصروهم. ثم توجّه سبحانه بالخطاب للمؤمنين فقال (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا ورعبا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوبهم ونفوسهم (مِنَ اللهِ) أي أن خوفهم منكم أشدّ من خوفهم من الله لأنهم يرونكم
ويعرفون قوّتكم ، ولا يعرفون الله ولا يدركون قوّة بطشه بأعدائه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ) أي بسبب أنهم لا يعلمون الحق ولا يعرفوه عظمة الله عزّ
وعلا. وهم (لا يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المؤمنون (جَمِيعاً) أي مجتمعين بارزين لجريكم وجها لوجه (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي من حصون منيعة وأبراج يدفعون بها عن أنفسهم لجبنهم
وضعفهم أمامكم (أَوْ مِنْ وَراءِ
جُدُرٍ) أي من وراء أسوار وحيطان يرمونكم وهم محتمون بها لشدة
خوفهم منكم (بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي أن عداوتهم فيما بينهم شديدة فإنهم يكره بعضهم بعضا
وقلوبهم غير متّفقة (تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً) تظنّهم متّحدين في ظاهرهم (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) متفرّقة مختلفة الكلمة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) لا يميّزون الرّشد من الغي.
* * *
(كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ
الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما
أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))
١٥ إلى ١٧ ـ (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن حال الكافرين الذين تكلّمنا عنهم من اليهود وغيرهم
من الاغترار بعددهم وقوّتهم ، كحال من سبقهم من المشركين الذين حاربوكم يوم بدر
مثلا أو كبني قينقاع الذين نقضوا العهد مع رسول الله صلىاللهعليهوآله بعد بدر فأخرجوا صاغرين و (ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) أي ذاقوا عاقبة كفرهم وعنادهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة لأنهم من أهل النار. أو أن هؤلاء اليهود
والمنافقين مثلهم (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) فغشّه ووسوس له بالكفر وزيّنه له (فَلَمَّا كَفَرَ) ومارس الكفر وتحكّم فيه العناد واستحوذ عليه الشيطان (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) تبرّأ منه الشيطان ومن كفره وقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أخشى عقابه يوم القيامة. وهذه هي حال الشيطان مع الناس
فإنه يغرهم ويغويهم في الدنيا ويتبرّأ منهم ومن عملهم في الآخرة ويرميهم بعذاب
الضمير فوق عذاب جهنم وبئس المصير. وروي أن هذا المثل قد كان من واقع حياة اليهود
وإن له قصة يعرفونها. فقد كان في بني إسرائيل عابد زاهد اسمه برصيصا يؤتى
بالمجانين ويرقيهم ويشفيهم بقدرة الله. وقد أتي بامرأة شريفة أصابها مسّ من الجنون
فأخذ يعالجها فأغواه الشيطان فوقع عليها فحملت قبل أن تخرج من صومعته معافاة لتعود
إلى أهلها. وقد ظهر عليها الحمل فخاف أن يفتضح أمره فزيّن له الشيطان قتلها ودفنها
ففعل. فخرج الشيطان وطاف على إخوتها واحدا واحدا يذكر لهم قصّة العابد بالتفصيل
ويصف لهم مكان دفنها. فاجتمعوا وتذاكروا بالقصّة ثم أخبروا ملك الزمان بها ، فجاء
الملك مع الناس فأنزلوه من صومعته وسألوه عن الذي فعله وأظهروا له الدلائل فاعترف
، فأخذه الملك وأمر بصلبه. ولمّا علّق على الصليب أتاه الشيطان فقال أنا الذي
ألقيتك في هذا المأزق وأنا الوحيد الذي يخلّصك منه إذا أطعتني بشيء أطلبه منك ،
وذلك بأن تسجد لي فأنجّيك بقدرة قادر. فقال العابد : وكيف أستطيع السجود لك وأنا
معلّق على خشبتي؟ قال له
الشيطان : أكتفي
منك بالإيماء لأن السجود متعسّر عليك. فأومى له بالسجود ، فكفر بالله وكان من أهل
النار. وذلك تفسير قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ...) وهذا لا ينافي ما قلناه سابقا من أن الشيطان يغري الناس
ويغويهم ، ثم يتبرّأ منهم يوم القيامة (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني عاقبة الفريقين : الشيطان ومن أغواه (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ
فِيها) معذّبين إلى أبد الأبد (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) لأنفسهم ولغيرهم.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))
١٨ إلى ٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ...) أي تجنّبوا معاصيه واعملوا بطاعاته (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) أي ما قدّمت من عمل صالح ليوم القيامة أو من عمل سيّء (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه واتركوا المعاصي وتدبّروا الأمر قبل فوات الأوان فإن
الساعة قريبة الحدوث (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) عالم (بِما تَعْمَلُونَ) من خير أو شر. وقد كرّر الأمر بالتقوى ليتوب الإنسان مما مضى
من ذنوبه ـ وهذا الأمر الأول ـ وليتجنّب العصيان في المستقبل ـ وهذا الأمر الثاني
ـ وكلاهما رأفة منه سبحانه بالعباد. ولعلّ الثاني تأكيد للأول كما قيل (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ) أي لم يذكروه وتركوا أداء حقّه (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي حرمهم حظّهم من الخير الذي
ينالونه بالطاعات
فعموا عنها ولم يقوموا بها فكان ذلك مدعاة لإهلاك نفوسهم في العذاب (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله إلى معصيته ، و (لا يَسْتَوِي) أي لا يتساوى (أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) بالاستحقاق لأن هؤلاء يستحقّون الجنّة ، وأولئك يستحقّون
النار ، و (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بثواب الله ورضاه ونعيمه.
* * *
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ
الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))
٢١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ ...) هذا تعظيم لشأن القرآن الكريم الذي لو أنزله الله تعالى
على جبل من الجماد لا يشعر ولا يحس بطبع خلقته (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً
مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي لرأيت الجبل الجامد متذلّلا متخاذلا تعظيما لشأنه.
والتصدّع هو التفطّر ، أي التفسّح بعد التلاؤم ، والإنسان العاقل أجدر من الجبل
وأحق بأن يخشى الله ويخشع له لو عقل كلام القرآن وفهم أحكامه. وهذا كمثل قوله
تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهذا دليل على قسوة قلب الإنسان
الكافر الذي لا
يتعقّل ولا يتفكّر ولا يتدبّر ولا يلين قلبه لمواعظ القرآن وترهيبه وترغيبه (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ليعتبر الناس بهذه الأمثال التي هي من واقع حياتهم.
وبعد هذا التصغير من شأن الكافر المعاند انتقل كلامه عزوجل إلى وصف ربوبيّته ووحدانيّته وعظمته فقال عزّ من قائل :
٢٢ إلى آخر السورة
المباركة ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) يعني هو الربّ الذي لا ربّ غيره ، المستحقّ للعبادة
والتقديس دون سواه ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي العالم بما غاب عن عباده وبما يشاهدونه ويرونه ، أي بما
لا يقع عليه حسّهم ولا يصل إليه إدراكهم ، يعلم السرّ وأخفى. وفي المجمع عن أبي
جعفر عليهالسلام : الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان (هُوَ الرَّحْمنُ) الرازق لجميع خلقه طائعين وعصاة (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين منهم خاصة (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك لجميع الأشياء ، دون منازع في ملكيّته (الْقُدُّوسُ) الطاهر من كل آفة المنزّه عن كل قبيح ، وقيل المطهّر من
الشريك والولد والصاحبة ، فليس بجسم حتى تعرض له الحوادث ، بل هو المبارك واهب
الخيرات المتفضّل على الخلق بالنّعم (السَّلامُ) الذي يسلم العباد من ظلمه ومنه ترجى السلامة (الْمُؤْمِنُ) الذي تنجو المخلوقات من ظلمه ، وقيل هو الذي أمن أولياؤه
من عقابه كما قيل أنه الداعي إلى الإيمان والآمر به (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب المتسلّط على الأشياء ، وقيل هو الأمين الذي لا
يضيع عنده حقّ لأحد (الْعَزِيزُ) المنيع القادر الذي لا يقهر (الْجَبَّارُ) القاهر العظيم الشأن ولا جبّار غيره وإذا وصف الظالمون
بذلك فإنما يوضع الوصف في غير محلّه ويكون حينئذ ذمّا للموصوف. وهو (الْمُتَكَبِّرُ) المجلّل بالكبرياء الحقيق بصفات التعظيم المتعالي عن صفات
المحدثين (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن شرك المشركين به لأنه (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) المبتدع لأجسام الكائنات ولجميع الأعراض والمحدث
للأشياء بكاملها (الْبارِئُ) المنشئ للخلق (الْمُصَوِّرُ) الذي صوّر الأشياء على ما هي عليه كالإنسان والحيوان
والجماد (لَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى) مثل : الله ، الرحمان ، الرحيم ، العالم ، القادر ، الحق
إلخ ... (يُسَبِّحُ لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينزهه (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره. وعن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اسم الله الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر.
* * *
سورة الممتحنة
مدنيّة وآياتها ١٣
نزلت بعد الأحزاب.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١)
إِنْ
يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))
١ إلى ٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...)
نزلت في حاطب بن أبي
بلتعة الذي ذكرنا ملخّص قصّته قريبا ، وذلك أنه كتب لقريش ومشركي مكّة يخبرهم
بتوجّه رسول الله (ص) إلى مكة لفتحها فليأخذوا حذرهم ، وسلّم الكتاب إلى امرأة
ذاهبة إلى مكة وأعطاها عشرة دنانير لتوصل الكتاب إلى أهل مكة. ونزل جبرائيل عليهالسلام فأخبر محمدا صلىاللهعليهوآله بخبر الكتاب فبعث عليّا والزبير والمقداد وكانوا كلهم
فرسانا ، وقال لهم : ألحقوا بالمرأة فإن الكتاب معها وستدركونها مع ظعينة في روضة
خاخ. فمضوا وأدركوها في ذلك المكان فطلبوا الكتاب منها فأنكرت وحلفت أنها لا تحمل
كتابا ، فنحّوها عن القافلة وفتّشوها فلم يجدوا الكتاب فهمّوا بالرجوع فقال عليّ عليهالسلام : والله ما كذبنا ولا كذّبنا ، ثم سلّ سيفه وقال : أخرجي
الكتاب وإلّا والله لأضربنّ عنقك. فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابة شعرها فأخذوه
منها وعادوا به إلى رسول الله (ص) فاستحضر حاطبا فاعترف وأقسم قائلا : والله ما
كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكنّ أهلي بين
ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يدا. فصدّقه رسول الله (ص) وعذره.
وفي هذه الآيات
الكريمة خاطب سبحانه المؤمنين ناهيا إياهم عن تولّي الكافرين وموادّتهم فأنتم (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) تحبّونهم وتتقربون منهم وتنصحونهم. وقيل معناه هنا : تلقون
إليهم بأخبار النبيّ (ص) ، (وَقَدْ كَفَرُوا بِما
جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) أي القرآن الكريم والدّين الإسلامي ، وهم (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة ومن دياركم (أَنْ تُؤْمِنُوا
بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأنكم تؤمنون وتصدّقون ، وكراهة أن تؤمنوا (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إذا كان هدفكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي
فأعطوا خروجكم حقّه من معاداتهم ولا توادّوهم ولا تتولّوهم و (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعرّفونهم مودّتكم لهم سرّا (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ
وَما أَعْلَنْتُمْ) لأني لا يخفى عليّ شيء وأنا
أطلع رسولي عليه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي من والى عدوّي وأسرّ إليهم بأخبار رسولي أيها المؤمنون (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي انحرف وعدل عن طريق الحقّ وحاد عن طريق الرّشد ، لأن
الكفّار والمنافقين (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يصادفوكم ويظفروا بكم (يَكُونُوا لَكُمْ
أَعْداءً) ظاهري العداوة (وَيَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) يضربوكم ويقتلوكم ويشتموكم ويؤذوكم بأيديهم وألسنتهم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي أحبّوا أن تكفروا وترجعوا عن دينكم. و (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) لا تفيدكم القربى (وَلا أَوْلادُكُمْ) يفيدونكم ، وهم الموجودون بمكة من الذين تبلّغونهم أخبار
النبيّ (ص) والمسلمين (يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَفْصِلُ) الله تعالى (بَيْنَكُمْ) فيجعل أهل الطاعة في الجنّة وأهل المعاصي في النار حيث لا
يجتمع المؤمن في الجنّة مع قريبه الكافر لأنه يكون في جهنّم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مطّلع على أعمالكم عالم بأحوالكم.
* * *
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
رَبَّنا
لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥))
٤ و ٥ ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ ...) أي أنه قد كان لكم خير قدوة بإبراهيم الخليل عليهالسلام (وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين
والمتابعين له (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) الذين بقوا على الكفر : (إِنَّا بُرَآؤُا
مِنْكُمْ) تبرّأنا منكم ونحن لا نتولاكم ولا نتعاون معكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ونتبرّأ من أصنامكم ومعبوداتكم الوثنية (كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا بعقيدتكم الفاسدة (وَبَدا) ظهر (بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) فلن يكون بيننا موالاة ولا تعاون (حَتَّى تُؤْمِنُوا) تصدقوا وتوقنوا (بِاللهِ وَحْدَهُ) فتوحّدونه وتعبدونه (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي اقتدوا بنبيّنا إبراهيم (ع) في جميع أموره ، إلّا في
قوله لأبيه فلا تقتدوا به فإنه لم يستغفر له إلا لموعدة وعدها إياه فلمّا تبيّن له
أنه عدوّ لله تبرّأ منه وقال : (وَما أَمْلِكُ لَكَ
مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فلا أردّ عنك عقابا ولا أضمن لك ثوابا (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي كان إبراهيم (ع) والمؤمنون به يقولون ذلك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا بطاعتك وفي جميع أمورنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآل (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تبتلنا بهم ولا تسلّطهم علينا فنقع في الفتنة بديننا
، فاعصمنا من موالاتهم (وَاغْفِرْ لَنا) امح ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا يغلب ، والذي لا يفعل إلا الحكمة.
* * *
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ
قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))
٦ و ٧ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ ...) ثم كرّر سبحانه اتّخاذ إبراهيم الخليل عليهالسلام والمؤمنين معه قدوة حسنة ، وذلك بمعاداة الكفّار ولو كانوا
من قراباتهم ، فإنهم خير مثل (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) ذاك أن الأسوة الحسنة لا تكون إلا لمن يطمع بثواب الآخرة
ويخاف من عقابه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ينصرف ويعرض عن الاقتداء بهم فقد أخطأ طريق الصواب (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ) أي المستغني عن كل شيء فلا يضرّه تولّي من تولّ ولا مهاداة
من عادى (عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي فلعلّ الله يجعل بينكم وبينهم موالاة بأن يجمعكم على
الإسلام ، فموالاة الكافرين لا تفيد من جهة ، والله تعالى قادر على هدايتهم
للإيمان وتحصل تلك المودة بينكم وبينهم (وَاللهُ قَدِيرٌ) على تغيير ما في القلوب لأن كلّ شيء مقدور له (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن معاصي عباده ويلطف بهم ويرحمهم إذا أسلموا
وتابوا وأنابوا.
* * *
(لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))
٨ و ٩ ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ...) أي لا يمنعكم الله عن مخالطة الذين لم يقاتلوكم (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) ولا تعدّوا عليكم فاضطروكم لهجر وطنكم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي لا ينهاكم عن الوفاء لهم بالعهود (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أن تعدلوا في في معاملتهم. ولكن هذه الآية الكريمة منسوخة
بقوله تعالى (اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ) وقيل إن المقصود هم الذين آمنوا وأقاموا في
مكة ولم يهاجروا ،
والله سبحانه أعلم بما قال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) أي يحب أهل العدل والإنصاف (إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي الذين بقوا على الكفر وحاربوكم لأنكم أسلمتم ، وهم أهل
مكة ومن كان مثلهم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ) أي من بيوتكم وأرزاقكم (وَظاهَرُوا عَلى
إِخْراجِكُمْ) أي ساعدوا المعتدين عليكم وعاونوهم كالأتباع الذين ساعدوا
الرؤساء في قتالهم للمسلمين (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) يعني ينهاكم عن موادّتهم ومحبّتهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) أي ومن يساعدهم وينصرهم فهو ظالم لهم ولنفسه مستحقّ للعذاب
والسّخط.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))
١٠ و ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ...) نزلت هذه الشريفة بعد صلح الحديبية حيث صالح رسول الله صلىاللهعليهوآله مشركي مكة على أن من جاءه من مكة ردّه عليهم ، ومن جاء مكة
من
أصحاب رسول الله (ص)
فهو لهم ولا يردّونه عليه. وقد جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الصلح بلا
فصل والنبيّ (ص) لا يزال في الحديبية ، فأقبل زوجها المدعو مسافر من بني مخزوم في
طلبها وقال : يا محمد اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك لنا فنزلت الآية الكريمة بعد
قطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين. فحكم النساء أنهنّ إذا جئناكم (الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَ) أي تحقّقوا من إيمانهنّ واستنطقوهنّ لتعلموا ما هنّ عليه
من العقيدة (اللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِهِنَ) في القلب إذ لا تعلمون إلّا ظاهرهنّ. وامتحانهن قيل إنه
بالإقرار بالشهادتين ، وقيل بأن يحلفن أنهن خرجن للدّين والطاعة لا لغرض آخر ، كما
قيل أنه أخذ العهد عليهنّ بما في الآية التالية (فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) في ظاهر حالهنّ (فَلا تَرْجِعُوهُنَ) لا تعيدوهنّ (إِلَى الْكُفَّارِ) إذ (لا هُنَّ حِلٌّ
لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) فقد وقعت الفرقة بينهم وإن أبى أزواجهنّ الطلاق ، وحرمن
عليهم (وَآتُوهُمْ ما
أَنْفَقُوا) أي ردّوا لأزواجهنّ الباقين على الكفر ما بذلوه لهنّ من
المهر (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوجوا بهنّ (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) إذا دفعتم لهنّ مهورهنّ التي تستحلّ بها فروجهن بعد أن صرن
بائنات من أزواجهنّ بالإسلام (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) جمع كافرة ، أي لا تتمسكوا بنكاح الكافرات الذي سمّاه
سبحانه عصمة (وَسْئَلُوا ما
أَنْفَقْتُمْ) أي إذا لحقت زوجتكم الكافرة بأهلها فاطلبوا منهم ما أنفقتم
عليها من مهر إذا ارتدّت ومنعوها عن العودة (وَلْيَسْئَلُوا ما
أَنْفَقُوا) فأنتم وهم سواء في المعاملة العادلة (ذلِكُمْ) أي هذا الحكم المذكور في هذه الآية هو (حُكْمُ اللهِ) قضاؤه العادل ، وهو الذي (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يقضي بالحق (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) عارف بالأمور جميعها ولا يفعل إلّا ما فيه الحكمة (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) أي إذا لحق بهم مرتدّات من أزواجكم اللواتي عصمتكم (فَعاقَبْتُمْ) أي قاصصتم بالغزو أو غيره وغنمتم منهم شيئا (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ)
من عندكم فأعطوهم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) عليهنّ من المهور من رأس الغنيمة ، وكذلك الحال في من ذهبت
زوجته إلى قوم بينكم وبينهم عهد ثم نكث في إعطاء المهر ، فالذي ذهبت زوجته يعطى
المهر من رأس الغنيمة. وقيل إن المعنى أنه إن فاتكم أحد من أزواجكم إلى الكفار
المعاهدين معهم ، ثم غنمتم منهم فأعطوا زوجها صداقها الذي كان قد أعطاها إياه (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ) أي التزموا بأوامره واحذروا معصيته باعتبار أنكم مصدّقون
به وبأوامره ونواهيه. وقيل إن جماعة من الصحابة ارتدت زوجاتهم ولم يهاجرن معهم
فأعطاهم رسول الله (ص) مهور نسائهم من الغنيمة.
* * *
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا
مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))
١٢ و ١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) هذه حكاية بيعة النساء للنبيّ (ص) فبعد أن أنهى بيعة
الرجال بعد فتح مكة جاءته النساء وهو على الصّفا فنزلت هذه الشروط وأوحى إليه
سبحانه : (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ
يُبايِعْنَكَ) كالرجال فالشروط هي أن يبايعن (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) بل يوحّدنه ويكفرن بالأصنام (وَلا يَسْرِقْنَ) من
أزواجهنّ أو من
الآخرين (وَلا يَزْنِينَ) أي لا يرتكبن فاحشة الزّنى (وَلا يَقْتُلْنَ
أَوْلادَهُنَ) لا بالإسقاط ولا بالوأد ولا غيرهما (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ
يَفْتَرِينَهُ) أي لا يكذبن في مولود يوجد (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَ) ولا يلحقنه بأزواجهنّ وهو ليس منهم. فقد روي أن المرأة في
الجاهلية كانت تلتقط المولود من غير زوجها ثم تقول له هذا ولدي منك ، فذلك هو
البهتان الذي كنّ يفترينه. وقوله سبحانه (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَ) فإنه صورة واقعيّة لأن الولد إذا وضعته أمّه حين الولادة
يسقط بين يديها ورجليها. ثم أكمل عزّ اسمه شروط المبايعة فقال : (وَلا يَعْصِينَكَ) يا محمد (فِي مَعْرُوفٍ) تأمر به لأنك لا تأمر إلّا بالبرّ والتقوى وطاعة الله (فَبايِعْهُنَ) يا محمد على تلك الشروط (وَاسْتَغْفِرْ
لَهُنَّ اللهَ) أي أطلب العفو وغفران ذنوبهنّ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عنهنّ رحيم بهن. وكانت في بيعة النساء هند بنت عتبة
متنكّرة فلما شرط رسول الله صلىاللهعليهوآله أن (لا يَسْرِقْنَ) قالت : إن أبا سفيان رجل ممسك وإني أصبت من ماله هنات ، فقال
أبو سفيان : ما أصبت من مالي فهو لك حلال فابتسم رسول الله (ص) وقال لها : وإنك
لهند؟ قالت : نعم ، فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله عفا الله عنك. وحين قال : (وَلا يَزْنِينَ) فقالت هند من بين النساء : أوتزني الحرة يا رسول الله؟
فضحك عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة ، في تفصيل لتلك البيعة تجده في الكتب
المفصّلة.
أما كيفيّة البيعة
فإنها ما مسّت يد النبيّ (ص) يد امرأة قط ، بل دعا بطست مملوء بالماء غمس يده الشريفة
فيه وغمسن أيديهنّ فيه ... ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال عزّ من قائل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، فإن بعض فقراء المسلمين كانوا ينقلون أخبار
المسلمين لهم ويستفيدون منهم فنهوا عن ذلك. فإن اليهود (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي ليس لهم أمل بثوابها (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحابِ
الْقُبُورِ) أي كما فقد الأمل الكافر الذي مات وصار في القبر من أيّ
ثواب في الآخرة لأنهم قد أيقنوا بالعذاب وفقدوا العودة إلى الدنيا. وقوله تعالى : (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) يعني : من بعث أصحاب القبور ، فحذف المضاف. كما أنه يمكن
أن تكون (مِنَ) للتبيين بتقدير : كما يئس الكفار الذين هم من أصحاب القبور
من الآخرة.
* * *
سورة الصف
مدنية وآياتها ١٤
نزلت بعد التغابن.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)
كَبُرَ
مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤))
١ إلى ٤ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) فسّرناها سابقا وقد أعادها سبحانه تعظيما لاسمه عزّ اسمه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) جلّت عظمته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل إنه خطاب للمنافقين الذين تظاهروا بالإسلام ولم يبطنوه
، وقيل هو تنبيه للمؤمنين كي لا يقولوا ما لا يفعلونه (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ
تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم المقت عند الله تعالى أن يقول الإنسان ما لا يفعله
وأن يعد ولا يفي بوعده (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) أي الذين يصطفّون عند القتال ويثبتون في وجه الأعداء
ليرهبوهم ، وهم يظهرون أمامهم كالبناء المتين الشديد الذي تراصّت حجارته ومداميكه
وظهرت قوّته ومنعته وإحكامه ، ذلك أنه سبحانه يحب من يثبت في قتال أعداء الدّين
ويقاتل في سبيل الله بصبر وعزيمة.
* * *
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))
٥ و ٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ
لِمَ تُؤْذُونَنِي ...) هذه تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، أي اذكر يا محمد حين أنكر موسى عليهالسلام على قومه إيذاءهم له بشتى أنواع الأذى الذي منها قولهم :
اجعل لنا إلها ، وقولهم : اذهب أنت وربّك فقاتلا وما أشبه ذلك ، فقال : كيف
تؤذونني بهذه الأقوال وهذه الأفعال (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) وأنتم تعرفون حقّا (إِنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ) بعثني لهدايتكم (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)
أي وحين مالوا عن
الطريق المستقيم وانصرفوا عن الحق خلّاهم سبحانه وسوء اختيارهم وحجب عنهم ألطافه
فمالت قلوبهم إلى الضلال وانحرفت عن الايمان ، لأنه تبارك وتعالى لا يجوز أن يصرف
أحدا عن الإيمان ولكن إذا انصرف وأصرّ يخلّي بينه وبين هوى نفسه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) أي لا يرشدهم إلى ما فيه الأجر والثواب الموصل إلى الجنّة
ولا يفعل بهم ما يفعله بالمؤمنين لأنهم اختاروا طريق الضلال وفضّلوا ظلم أنفسهم
وظلم غيرهم. ثم اذكر يا محمد (وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) كما قال لهم موسى عليهالسلام ، وزادهم بأنني جئت (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي لم أنسخ أحكامها وهي كتاب موسى من قبلي (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني وناقلا لكم البشارة بنبيّ يظهر من بعد زمني سمّاه
الله تعالى أحمد ـ أي من أحمد الناس لله جلّ وعلا ، وهو محمود بأخلاقه وكريم صفاته
ـ وفي الآية معجزة عظيمة لعيسى عليهالسلام إذ بشّر قومه بمحمد صلىاللهعليهوآله قبل مجيئه بمئات ومئات السنين وأخبر بنبوّته وأمر من يدركه
بطاعته والإيمان به (فَلَمَّا جاءَهُمْ) محمد (ص) ، (بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات والدلائل الظاهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ) قالوا عن معجزاته إنها سحر ظاهر.
٧ إلى ٩ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ ...) أي ليس أشد ظلما من الذي يختلق الكذب عليه سبحانه ويسمّي
معجزاته سحرا ويكذّب رسوله (وَهُوَ يُدْعى إِلَى
الْإِسْلامِ) أي ينتدب لما فيه خلاصه من العذاب ونجاته في الآخرة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) وهم الكفّار والمنافقون المحاربون لله الذين (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ) أي يريدون الوقوف بوجه الايمان الذي هو نوره يقذفونه في
قلوب المؤمنين وإطفاؤه يكون بتمادي الكفر الشبيه بظلام القلوب ، وهذا كمن يحاول
إطفاء نور الشمس بفمه (وَاللهُ مُتِمُّ
نُورِهِ) أي مكمل لدينه ومظهر لأمر نبيّه ومعل لكلمته (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) رغم كرههم لذلك ومعارضتهم له (هُوَ
الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلىاللهعليهوآله (بِالْهُدى وَدِينِ
الْحَقِ) أي بالتوحيد وجعل العبادة خالصة له ، وبدين الحق الذي هو
الإسلام الذي تعبّد به سائر الخلق (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليقوّيه وينصره على كلّ دين بالحجة والبرهان والغلبة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) رغم كره المشركين لذلك. وفي العياشي أن أمير المؤمنين عليهالسلام سئل : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدّين كلّه ،! هل ظهر ذلك؟ قال :كلّا ، فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلّا
وينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله بكرة وعشيّا. أي في زمن دولة الحق بعد
ظهور الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)
يَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)
وَأُخْرى
تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))
١٠ إلى ١٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ ...)
خاطب سبحانه جميع
المؤمنين وعرض عليهم مرغّبا بتجارة تخلّصهم من العذاب بطريقة فيها تلطّف في الدعاء
إلى الخير ، والتجارة معه سبحانه رابحة دائما وهي : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فتوحّدونه وتعبدونه (وَرَسُولِهِ) فتقرّون بنبوّته وتستمعون لقوله الذي يصدر فيه عن ربّه (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)
تحاربون أعداء
الدّين (بِأَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ) فتبذلون بطريق الحقّ كلّ غال ونفيس (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) في الآخرة لعظيم ثوابه عند الله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تقدّرون ما عرضته لكم حقّ قدره. فالتجارة التي
أدلّكم عليها خير من التجارة التي تشتغلون بها وأكثر ربحا لأن جزاءها من النّعيم
لا ينتهي ولا يفنى كتجارتكم الدنيويّة التي قد يذهب ربحها ويبيد ، فعليكم أن
تتخيروا وتختاروا تجارة الآخرة على تجارة الدنيا إن علمتم الفرق بين منافع هذه
ومنافع هذه ، وإنكم إن فعلتم ذلك (يَغْفِرْ لَكُمْ) ربّكم (ذُنُوبَكُمْ) بأن يمحوها ويتجاوز عنها (وَيُدْخِلْكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه صفتها الدائمة التي لا تزول (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) يسكنكم فيها وهي مستطابة هنيئة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) حيث تتنعّمون إلى أبد الأبد (ذلِكَ الْفَوْزُ) الظّفر والنّجاح (الْعَظِيمُ) الذي لا يعلوه ولا يفوقه شيء (وَأُخْرى
تُحِبُّونَها) أي وأدلّكم على تجارة ثانية أو عمل ثان ترغبون فيه في
العاجلة وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) في الدنيا وظفر على أعدائكم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لبلادهم حيث تدخلونها منتصرين عليهم. وقيل إن فيه إشارة
لفتح فارس والروم وغيرهما من البلاد التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بلّغهم يا محمد هذه البشارة بالثواب الآجل وبالثواب
العاجل.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ
أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))
١٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
أَنْصارَ اللهِ ...) هذا حضّ للمؤمنين أن يكونوا أنصاره أي أنصار دينه عزوجل ، وقد أضاف إلى نفسه كإضافة الكعبة أعزّ الله إذ سمّاها
بيت الله ، وأن يثبتوا على نصره (كَما قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) أي كقوله لأنصاره وخاصّته حين ندبهم إلى الثبات وجهاد
عدوّه قائلا : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ) أي من هم المعينون لي في أمري. فقل يا محمد للمؤمنين إني
أدعوكم كما دعا عيسى حواريّيه فمن منكم يعينني على ما يقرّب إلى الله سبحانه فإن
عيسى لمّا دعاهم (قالَ الْحَوارِيُّونَ
: نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أجابوه بهذا الجواب ،! وقيل إنما سمّوا نصارى لقولهم
هذا (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي جماعة منهم صدّقت بعيسى عليهالسلام (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) كذّبت به وبما يدعو إليه (فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي سدّدناهم ونصرناهم عليهم (فَأَصْبَحُوا
ظاهِرِينَ) أي فصاروا منتصرين عليهم وغالبين لهم. وعن ابن عباس في
حديث ـ كما في المجمع ـ : وذلك أنه لمّا رفع تفرّق قومه ثلاث فرق : فرقة قالت :
كان الله فارتفع ، وفرقة قالت : كان ابن الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد
الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون. واتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس
فاقتتلوا ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث محمد صلىاللهعليهوآله فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين وذلك قوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).
* * *
سورة الجمعة
مدنيّة وآياتها ١١
نزلت بعد الصف.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))
١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) يعني ينزّه الله سبحانه كل شيء خلقه ويقرّ له بالوحدانية
والعبودية لأنه (الْمَلِكِ) أي المتسلّط على التصرف في جميع الأشياء (الْقُدُّوسِ) الجدير بالتعظيم والتكبير الطاهر (الْعَزِيزِ) الممتنع الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) الذي قدّر كل شيء وفق حكمته ، العالم بمصالح جميع مخلوقاته
يصفها وفق
الحكمة والمصلحة. و
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) يعني أرسل في العرب الذي هم أمّة لا تعرف القراءة ولا
الكتابة بأكثريّتها لأنها أمّية ولم يبعث فيهم نبيّ قبله. وقيل معناها : بعث في
أهل مكة لأنها تسمّى أمّ القرى ، فهو رسول (مِنْهُمْ) يعني أن محمدا (ص) جنسه من جنسهم ونسبه من نسبهم ، فهو
رسول من أنفسهم كما قال سبحانه في غير هذا المكان. وقد اختاره عزوجل أميّا لئلا يظنّوا أنه قد استفاد من الكتب التي تلاها
والحكم التي قرأها ، وليكونون إخباره لهم بشأن الأمم السابقة معجزا ، وهو (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأها عليهم وهي آيات الله أو آيات القرآن المشتملة
على الحلال والحرام وسائر الأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهّرهم من الذنوب ومن الكفر (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) وهي الشرائع كافة وتشمل الكتاب والسنّة (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بعثه فيهم (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في انحراف عن الحق وانصراف عن الدّين الحق (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي ليعلّم آخرين من المؤمنين (لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ) وهم المسلمون من بعد عهد صحابته (ص) إلى يوم القيامة. وقيل
هم غير العرب من الفرس وغيرهم من التّرك. وروي أن النبيّ (ص) قرأ هذه الآية فقيل
له : من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الإيمان في الثريّا لنالته
رجال من هؤلاء (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) أي الغالب الذي تجري الأمور على يده وفق الحكمة والتدبير (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي النبوّة التي اختصّ بها رسوله الكريم (ص) ، (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) يعني يعطيه لمن يريد وبحسب ما يراه من الصلاح وتحمّل
الرسالة (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هو سبحانه ذو المنّ الكثير على خلقه بأن أرسل لهم محمدا
(ص).
* * *
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً
بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا
يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))
٥ إلى ٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ
ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ...) انتقل حديثه الكريم سبحانه الى الإخبار عن اليهود الّذين
أنزل إليهم التوراة وكلّفهم بالقيام بما فيها والعمل بتعاليمها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي لم يقوموا بحملها كما يجب ولا قاموا بأداء حقها كما
ينبغي ولا عملوا بأوامرها ونواهيها إذ دوّنوها وتناقلوها وتركوا أحكامها فمثلهم (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الأسفار مفردها : سفر وهو الكتاب ، فما فائدة الحمار إذا
حمل كتب الحكمة على ظهره؟ إنه لا ينتفع بها لأنه لا يقرأها ولا يعمل بما فيها ،
وهذه هي حال اليهود مع توراتهم. وبناء على هذا فإن من تلا القرآن الكريم ولم
يتدبّر آياته ولا عمل بأحكامه كان ملحقا بأصحاب هذا المثل لأن القرآن دستور
الإسلام ونظام الحياة والممات وفيه ما يلزم للمعاش والمعاد ، و (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي تعس من الناس قوم ينكرون دلائل الله وبراهينه التي جاء
به رسله ، واليهود قد كذّبوا بالقرآن فبئس القوم هم لأنهم لم يؤمنوا برسول الله (ص)
، (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا تصيبهم نعمه وألطافه التي يحظى بها المؤمنون به
تعالى وبرسله (ع). (قُلْ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا) أي قل يا محمد للّذين تهوّدوا : (إِنْ زَعَمْتُمْ) أي إذا ظننتم بحسب قولكم (أَنَّكُمْ
أَوْلِياءُ
لِلَّهِ) أي أنصاره وأنه معكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ) دون بقيّة الناس (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي اطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى رضوانه ونعيمه في الجنّة
إن كنتم صادقين أنكم أبناء شعبه المختار وأنكم أحبّاؤه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) أي أنهم لا يطلبون الموت مطلقا وإلى الأبد لو استطاعوا ،
من شدة كفرهم ومعاصيهم ولعدم ثقتهم بصلاح عملهم و (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) من الذنوب والكبائر الموجبة للنار وغضب الجبّار (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أنه عارف بهم وبأفعالهم ومطّلع على سوء أعمالهم. وروي
أن النبيّ (ص) قال بعد نزولها : لو تمنّوا الموت لماتوا عن آخرهم. (قُلْ) يا محمد لهم : (إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) أي تهربون منه (فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ) أي مدرككم ولا تستفيدون من الهرب لأنه سيقع عليكم ولا ينفع
الفرار منه. وقد قال أمير المؤمنين عليهالسلام : كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه ، والأجل مساق النفس والهرب
منه موافاته (ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي أن ترجعون إلى الله سبحانه يوم المحشر ، وهو عالم
بسرّكم وجهركم (فَيُنَبِّئُكُمْ) فيخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) بما عملتموه في الدنيا من سيّء الأعمال وغيره.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا
اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)
وَإِذا
رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما
عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (١١))
٩ إلى آخر السورة
المباركة ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ...) خاطب سبحانه المؤمنين اعتناء بشأنهم لأنهم صلحاء خلقه ،
فقال : (إِذا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي إذا أذّن لها في ذلك اليوم وقعد إمام الجماعة على
المنبر للخطبة (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ) يعني امشوا مسرعين إلى الصلاة وامضوا إليها دون تلكّؤ
وسيروا بنيّة صادقة وسكينة وخشوع (وَذَرُوا الْبَيْعَ) اتركوا البيع والشراء على السواء وقد بولغ فقيل : كلّ بيع
تفوت فيه الصلاة يوم الجمعة فهو بيع حرام بمقتضى ظاهر الآية الكريمة (ذلِكُمْ) أي ما أمرناكم به من المبادرة الى صلاة الجمعة وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) أكثر فائدة (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ما ينفعكم وما لا ينفعكم وتعرفون المصالح والمفاسد. وصلاة
الجمعة لها شروطها المعلومة المحدّدة في كتب الفقه ولا مجال لشرح شروطها وكيفية
انعقادها هنا (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني أنه بعد انتهاء الصلاة والفراغ من الخطبة وما تسمعون
من التذكير والوعظ ، فتفرقوا لمصالحكم في جميع نواحي الأرض (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي اطلبوا نعمه ورزقه بيعا وشراء وعملا. وروي عن أبي عبد
الله الصادق عليهالسلام أنه قال : إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ، ما أركب
فيها إلّا التماس أن يراني الله أضحي في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عزّ اسمه
: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله؟ أرأيت لو أن رجلا دخل
بيتا وطيّن عليه بابه ثم قال ارزقني ـ يا ربّ ـ كان يكون هذا؟ أما إنه أحد الثلاثة
الذين لا يستجاب لهم. قيل : من هؤلاء الثلاثة؟ قال : رجل تكون عنده المرأة فيدعو
عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلّي سبيلها لخلّى سبيلها ،
والرجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه ، فيجحده حقّه فيدعو عليه فلا
يستجاب له لأنه ترك ما أمر به ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر
ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ، ثم يدعو فلا يستجاب له (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي أحمدوه
واشكروه على نعمه
وأنتم في أعمالكم وفي تجاراتكم ، وقد روي عن النبيّ (ص) قوله : من ذكر الله في
السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه ، كتب له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم
القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر. وقيل إن الذّكر المطلوب هو التفكّر في آيات
الله ومخلوقاته وعظمته. وقد قيل : تفكّر ساعة خير من عبادة سنة فاذكروه سبحانه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني لتفوزوا برضاه ولتنالوا الثواب الجزيل (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) إذا نظروا بيعا وشراء أو ما يلهيهم ويلفت أنظارهم من أعمال
الباطل (انْفَضُّوا إِلَيْها) يعني تفرّقوا عنك يا محمد وانصرفوا إلى التجارة ، فإن
الضمير قد رجع إلى التجارة دون اللهو لأنها هي الأهم عندهم ولأنهم يرون أن الكسب
يوصل إلى النعيم ، وإلى اللهو وغيره من متع الدنيا (وَتَرَكُوكَ قائِماً) إي تركوك قائما على المنبر تخطب ، وقيل تركوك قائما في
الصلاة ، والأول أصح (قُلْ) يا محمد لهم : (ما عِنْدَ اللهِ) من الأجر والثواب والنعيم جزاء على سماع خطبة النبيّ (ص) (خَيْرٌ) لكم وأكثر نفعا (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ
التِّجارَةِ) التي تبتغون ربحها (وَاللهُ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) لأنه موفّر رزقه للطائع والعاصي ، وهو يرزقكم حتى إذا
بقيتم مع رسول الله (ص) واستمعتم الخطبة وعطّلتم تجارتكم.
أما سبب نزولها
فقد قال جابر بن عبد الله : أقبلت عير ونحن نصلّي مع رسول الله (ص) الجمعة ،
فانفضّ الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم ، فنزلت الآية : وإذا رأوا
تجارة أو لهوا. وقال غيره أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، وقدم دحية بن خليفة
بتجارة زيت من الشام والنبيّ (ص) يخطب يوم الجمعة ، فلمّا رأوه قاموا إليه خشية أن
يسبقوا إليه ، فلم يبق مع النبيّ (ص) إلّا رهط فنزلت الآية فقال (ص): والذي نفسي
بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا. وروي السبب بصور
مشابهة لا حاجة لتكرارها ، والله تعالى أعلم.
* * *
سورة المنافقون
مدنية وهي ١١ آية
مدنية نزلت بعد الحج.
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)
اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣))
١ إلى ٣ ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...)
الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، والسورة كلّها وصف للمنافقين الذين كانوا من حوله يظهرون
الإيمان ويبطنون الكفر ،! وقد قال سبحانه له (إِذا جاءَكَ) يا محمد (الْمُنافِقُونَ) المذكورة صفاتهم (قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ
لَرَسُولُ
اللهِ) أي اعترفوا أمامك بأنهم يعتقدون كونك رسولا لله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقّا وحقيقة وعلمه كاف واف لا يلزمه دعم شهادتهم وكفى به
شهيدا (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فهو سبحانه كما شهدوا لك بالرسالة تمويها وكذبا يشهد لك
بذلك من جهة ، ثم يشهد بأنهم كاذبون في قولهم فإنهم لا يعتقدون ذلك في قلوبهم ،
فإن كلّ من قال قولا وأضمر خلافه فهو كاذب كمثل هؤلاء الذين (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي استتروا بحلف الإيمان التي كانوا يقسمونها بأنهم مؤمنون
حتى يدفعوا عن أنفسهم القتل (فَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) فتوصلوا بالدخول بينكم إلى صدّ غيرهم عن الحقّ وأسرّوا لهم
بالبقاء على الكفر وأنهم مثلهم حربا لله ورسوله (إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس ما عملوه من إظهار الإيمان وإبطان الكفر والصدّ عن
سبيل الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا) أي بسبب إيمانهم بألسنتهم حين نطقوا بالشهادتين (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم وكانوا يخلون بالمشركين وينقلون إليهم أسراركم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها وطمس فلا يدخلها الإيمان ، فوسمت بسمة تعرفها
الملائكة وتميّزها من قلوب المؤمنين (فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ) أي لا يعقلون الحق ولا يميّزونه من الباطل.
* * *
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ
تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ
(٦))
٤ إلى ٦ ـ (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ ...) أي إذا نظرت إليهم يا محمد يعجبك حسنهم وجمالهم وتمام
خلقتهم (وَإِنْ يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وأنت تصغي لأقوالهم لأنهم يستعملون حسن المنطق والفصاحة
والبلاغة (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ) أي كأنهم تماثيل حسنة الصنع وأشباح حسنة الصّقل ولكنهم
خالون من العقول والأفهام وقد شبههم لذلك بالخشب التي لا روح فيها ، فهم مظاهر
معجبة ولكنها فارغة من الجوهر (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي يظنّون كل صرخة مهلكة تكون موجهة إليهم لأنهم يعرفون
أنفسهم ويخشون أن يكون قد انكشف أمرهم ، وقيل إنهم كلّما نزلت آية خافوا أن تكشف
حالهم لما علموا من نفاقهم وغشّ قلوبهم ، ولذلك قال سبحانه لرسوله (ص) : (هُمُ الْعَدُوُّ) أي هم أعداؤك وأعداء المؤمنين حقيقة (فَاحْذَرْهُمْ) احترس من أن تأمنهم على سرّ من أسرارك وتجنّبهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) يعني أخزاهم وحرمهم من مرضاته ولعنهم. وقيل إنه دعاء عليهم
بالقتل (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي أنّى ينحرفون عن الحق ويتّبعون الإفك والكذب (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا
يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) أي هلمّوا إلى رسول الله تائبين ممّا أنتم عليه (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي حرّكوها هزءا وسخرية من هذا القول مستخفّين بهذا القول
ومعرضين عن الحق لشدّة كرههم للنبيّ (ص) كفرا واستكبارا وعنجهية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي رأيتهم يا محمد يمنعون الناس عن الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) متعجرفين مستهزئين باستغفار النبي (ص).
ثم ذكر سبحانه أن
استغفار رسوله (ص) لا ينفعهم شيئا لكفرهم وعنادهم وشركهم ، والله تعالى لا يغفر أن
يشرك به فقال لنبيّه (ص) : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي
يتساوى معهم
استغفارك لهم وعدمه فإن الله تعالى لا يغفر لهم مطلقا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) أي لا يوفّق الخارجين عن الإيمان إلى الهداية لطريق الحق
ولا يمنحهم ألطافه التي خص بها المؤمنين من عباده.
* * *
(هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَعْلَمُونَ (٨))
٧ و ٨ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...)
أي لا تقدّموا
معونة للمحتاجين من المؤمنين الموجودين عند رسول الله (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي حتى يتفرّقوا عنه ويضعف أمره (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فهو سبحانه يملك الأموال والأرزاق ولو شاء لأغنى جميع
الذين هم عند رسول الله من المؤمنين المحتاجين ، ولكنه لا يفعل إلّا ما فيه
المصلحة والحكمة التي لا يعلم وجههما غيره ، وربما يكون قد أفقرهم ليتعبّدهم
بالصبر وليجزل لهم الثواب (وَلكِنَّ
الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لا يعرفون وجه الحكمة ولا يدركون المصلحة (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى
الْمَدِينَةِ) أي إذا عدنا من غزوة بني المصطلق ووصلنا إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَ) يعني أنهم هم الأعزّة وسيخرجون منها النبيّ لأنه ذليل
وأتباعه فقراء مساكين. فردّ سبحانه عليهم بقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ) فهو تعالى العزيز المنيع ، وكذلك رسوله فهو القوي العزيز
المنتصر عليهم وسيعلي به كلمة الحق ويظهر دينه على الأديان كلّها ولو كره
المشركون
والكافرون (وَ) كذلك فإن العزّة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بأن يجعلهم سبحانه منصورين على أعدائهم متفوّقين عليهم ،
وقد حقق تعالى ذلك بأن فتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فهم جاهلون يظنون أنهم أعزّة ، وهم بالحقيقة أذلّة صاغرون.
وقد نزلت هذه الآيات في عبد الله بن أبيّ المنافق الذي غضب بعد وقعة بني المصطلق
وقال بعد خلاف مولى من المهاجرين مع مولى من الأنصار على الماء وكان قد انحاز
لأحدهما وهو فقير ، قال : سمّن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، يعني أنه هو الأعز ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوآله هو الأذل. ثم التفت إلى قومه وقال لهم : هذا ما فعلتم
بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال
وذويه فضل الطعام ، لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحوّلوا من بلادكم ويلحقوا
بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ،
ومحمّد (ص) في عزّة من الرّحمان ومودّة من المسلمين. ومشى زيد بن أرقم إلى رسول
الله (ص) فأخبره بذلك ، فأرسل بطلب عبد الله بن أبي المنافق فقال : ما هذا الذي
بلغني عنك؟ فقال : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط ، وإن زيدا
لكاذب. وقال من حضر من الأنصار : يا رسول الله ، شيخنا وكبيرنا لا تصدّق عليه كلام
غلام من غلمان الأنصار. فعذره رسول الله (ص) ولما عاد رسول الله لقيه أسيد بن
الحضير فحيّا الرسول وسأله عن التبكير في العودة فقال : أوما بلغك ما قال صاحبكم؟
زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذل. فقال أسيد : فأنت والله يا
رسول الله تخرجه إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول ارفق به
فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم ، وإنه
ليرى أنك قد استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه ،
فأتى رسول الله وقال : قد بلغني أنك تريد قتل
أبي ، فإن كنت لا
بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل
أبرّ بوالديه منّي ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر
إلى قاتل أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.
ثم نزلت الآيات
بتكذيب عبد الله بن أبي وتصديق زيد في نقله للنبيّ (ص). وعند ما أراد عبد الله بن
أبي أن يدخل المدينة أخذ ابنه عليه الطريق وقال : والله لا تدخلها إلّا بإذن من
رسول الله. وذكر أمره للنبيّ (ص) فأمر ابنه أن يخلّي سبيله ، فدخلها ثم اعتلّ
أياما ومات. وكان قد قيل له : نزل فيك آي من القرآن فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك
الله تعالى ، فلوّى برأسه وقال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة
مالي فأعطيت ، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد .. ثم مات على كفره.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ
ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))
٩ إلى ١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوالُكُمْ ...) أي لا تنشغلوا بأموالكم عن الطاعات (وَلا) ب (أَوْلادُكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللهِ) والذّكر هو الصلوات الخمس وسائر الطاعات حتى الشكر
والتسبيح والصبر على البلاء
وما أشبه ذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي من يتلهّى عن ذكر الله بما له وولده (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لثواب الله ورحمته ورضوانه ونعمه في الآخرة (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) أي اصرفوا في سبيل البرّ والخير وادمنوا الزكاة وجميع
الحقوق الواجبة عليكم (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي يفاجئه (فَيَقُولَ رَبِ) مستغيثا نادما حيث لا ينفع الندم : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) أي يا ليت لو فسحت بأجلي ولو لمدة قليلة وتبقيني في
الدنيا. وقيل بل يقول ذلك إذا عاين أسباب الموت وشاهد علامات الآخرة ولم يبق من
مجال للرجعة ، فلو أخّرتني يا ربّ (فَأَصَّدَّقَ) أي فأزكّي مالي وأتصدق وأنفق في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين عملوا ما يرضيك (وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فالأجل محتوم وهو واقع لا محالة في حينه (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم بأعمالكم ويجازيكم بحسبها ، وهو عالم أيضا بما
تعملونه ولو بقيتم في الدنيا طويلا.
* * *
سورة التغابن
مدنية ، وآياتها
١٨ نزلت بعد التحريم.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))
١ إلى ٤ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ ...) قد مرّ تفسير مثلها وبيان أن تسبيح المكلّف يكون بالقول ،
وتسبيح الكائنات الأخرى يكون بالدلالة والاستكانة ، فكل شيء يسبّحه سبحانه وتعالى
، و (لَهُ الْمُلْكُ) جميع الملك لا يشاركه فيه أحد ويتصرف بما يشاء كيف شاء (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الشكر على جميع نعمه من أصل الوجود فإلى سائر مننه
وأفضاله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على فعل ما يشاء ويحيي ويميت وبيده القدرة والاستطاعة
اللتين لا حدود لهما ، و (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ) أوجدكم من العدم (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) لم يعترف بخالقه ووحدانيّته وقدرته (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقرّ بذلك ، فالمكلّفون نوعان : كافر يدخل تحته سائر أنواع
الكفر ، ومؤمن به تعالى وبرسله وكتبه ، ولكنه تعالى لم يخلقهم هكذا كافرين ومؤمنين
بل الكفر والإيمان من فعلهم وبدافع اختيارهم ودلالاتهم العقلية إذ بعث الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم وأزاح العلة وأظهر آياته لكل ذي بصيرة ، والمولود إنما
يولد على الفطرة كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
، وقال أيضا كما
في المجمع حكاية عن الله تبارك وتعالى : خلقت عبادي كلّهم حنفاء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم بأعمالكم مطّلع على أحوالكم (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِ) أي أنشأهما وأوجدهما بإحكام الصنعة وأقامهما على الحق وصحة
التقدير. وقيل يعني خلقهما للحق ولإظهاره وأوجد فيهما العقلاء المتدبّرين
ليتعرّضوا إلى ثوابه بالعمل بطاعاته (وَصَوَّرَكُمْ) يعني خلق البشر على ما هم عليه من الهيئة (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) من حيث تمام الخلقة ، وهو كقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وهذا لا يمنع أن يكون بينهم المشوّه بالعرض فأصل الخلقة
حسن الصورة بالنسبة لبقية المخلوقات (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع يوم القيامة (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كبيرا كان أم صغيرا ولا يفوت علمه شيء (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) ما تفعلون في سرّكم (وَما تُعْلِنُونَ) وما تظهرونه من غير فرق بين من يخفي في صدره ولا بين من
يجهر ويفصح (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي عارف حقّ المعرفة بما يجري في بواطن الصدور ما تهمس به
وما يدور في الخلد.
* * *
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ
وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))
٥ و ٦ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ...) أي ألم يجئكم أخبار الكافرين (مِنْ قَبْلُ) يعني الكافرين الماضين الذين كانوا قبل هؤلاء (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي لقوا عاقبة كفرهم وخساره بما نالهم من الإهلاك بالآيات
وبالقتل وغيره في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي موجع في الآخرة فوق عذاب الدنيا الذي ذاقوه (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي ذلك الإهلاك والقتل والعذاب ، كان بسبب أنه جاءتهم
الأنبياء بالمعجزات والحجج الباهرة الواضحة (فَقالُوا) للرّسل : (أَبَشَرٌ) مثلنا (يَهْدُونَنا) يرشدوننا إلى مصالحنا وإلى الحق ، فهل هم أعقل منّا وأعرف
حتى يمتازوا علينا ويأمروننا؟ وقد قالوا هذا استكبارا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي جحدوا وجود الله سبحانه ووحدانيّته وأنكروا رسله
وأعرضوا عنهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عنهم وعن أيمانهم لأنه غنيّ بملكه وسلطانه ولم يكلّفهم
إلّا لنفعهم ولم يحتج لعبادتهم ولا لطاعتهم لأن ذلك لا يزيد في عظمته ولا ينقص من
ربوبيّته (وَاللهُ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ) مستغن عن طاعتكم وعبادتكم ، مستحق للحمد على ما أفاض من
نعمه على خلقه ، وقيل معناه : محمود في كل أفعاله.
* * *
(زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))
٧ إلى ١٠ ـ (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ
يُبْعَثُوا ...) أي ظنّوا ظنّا كاذبا بأنهم لا يعادون أحياء للحساب يوم
القيامة وأنه لا بعث ولا نشور ، فأمر سبحانه رسوله بتكذيب زعمهم السخيف وقال له : (قُلْ) يا محمد لهم : (بَلى وَرَبِّي) أي : أجل وحقّ ربي ، وهذا قسم مؤكّد لبلى (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرنّ وتعادنّ أحياء كما كنتم. فأصبح التأكيد
لتكذيبهم في زعمهم ببلى ، وباليمين ، وباللام ، وبالنون ثم (لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرنّ بأعمالكم وتحاسبون عليها وتثابون أو تعاقبون (وَذلِكَ) الأمر من البعث والحساب (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل عليه وهيّن يتمّ بلا مشقّة ولا عناء (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) صدّقوا بهما أيها العقلاء من المكلّفين (وَ) آمنوا ب (النُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا) وهو القرآن الذي سمّاه نورا لأنه ينير طريق الناس بما فيه
من دلائل وبراهين وبيان للحق من الباطل (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بذلك كله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي حين يحشركم ليوم القيامة والحساب (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أي اليوم الذي يستعيض فيه المؤمن ما ترك من حظه في الدنيا
وينال حظّه من الآخرة فيكون قد ترك ما هو شرّ وأخذ ما هو خير فكان غابنا ، وبعكسه
الكافر الذي ترك حظّه من الآخرة وأخذ حظّه من الدنيا ، فأخذ بذلك الشرّ وترك الخير
وكان مغبونا. فيوم التغابن هو يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار. وقد روي أن النبيّ
صلّى الله
عليه وآله قال :
ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من
عبد يدخل النار إلّا أري مقعده في الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي يتجاوز عن معاصيه ويمحوها من صحيفة عمله (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) باقيا فيها إلى الأبد لا يزول ما هو فيه من النعيم و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الجزاء هو النجاح الأوفر الأكبر (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله تعالى (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) أي بحججنا وبراهيننا (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) باقين فيها وهي بئس المرجع.
* * *
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))
١١ إلى ١٣ ـ (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ ...) أي أنها لا تقع مصيبة (إِلَّا بِإِذْنِ
اللهِ) إلّا برخصة منه وبعلمه عزّ وعلا. والمصائب بعضها فيه ظلم
وهو سبحانه لا يأذن ولا يرخّص بالظّلم ، ولكنه تعالى يخلّي بينها وبين فاعلها لأنه
خلق له التمكّن وجعل له الاختيار ، فهي تحدث بعلمه ، ولذلك قيل إن معنى (بِإِذْنِ اللهِ) هنا : بعلمه (وَمَنْ يُؤْمِنْ) يصدّق (بِاللهِ) ويرض بقضائه المقدّر (يَهْدِ قَلْبَهُ) للتسليم والإيمان فيعرف أن ما يصيبه هو بعلم الله فلا
يستعظم ولا يجزع ليفوز بثواب الله
ورضاه. وعن مجاهد
أن معنى (يَهْدِ قَلْبَهُ) : إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، وإن ظلم غفر. (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) خبير به بصير يجازي كل مكلّف بعمله (وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) فيما جاءكم به من الحق من أوامرنا ونواهينا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم وأعرضتم عن ذلك (فَإِنَّما عَلى
رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي أنه هو مكلف بتبليغ الرّسالة وبيان الأحكام والطاعات ،
وليس عليه أن يجبر أحدا على الإيمان ولا على العمل (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فهو الربّ الذي لا ربّ غيره ولا تحق العبادة لغيره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) أي أنهم يفوّضون أمرهم إليه ويرضون بقضائه وبتدبيره.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
١٤ إلى آخر السورة
ـ (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ ...) هذا خطاب للمؤمنين ينبّههم فيه سبحانه وتعالى إلى (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ
وَأَوْلادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ) أي أن بعضهم فقط فيهم هذه الصفة لأن (مِنْ) للتبعيض ، فقليل من الأزواج والأولاد يكونون أعداء لذويهم (فَاحْذَرُوهُمْ) أي فخذوا حذركم منهم ، ولا تطيعوهم في ما لا يرضي الله
فبينهم من يتمنّى موت الزوج ، أو موت الأب أو الأم للإرث والاستقلال وغيره ، وهذه
أكبر العداوة. والحاصل أن من كانت هذه صفتهم فلا تطيعوهم فيما يرضيهم ويغضب الله عزوجل (وَإِنْ تَعْفُوا
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي وإن تتركوا عقابهم وتتجاوزوا عنهم وتتناسوا ما فعلوه
لتستروا عليهم ما يبدر منهم (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) عفوّ يتجاوز عن الذنوب ويرحم العباد (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ) أي أنهم محنة لكم تمتحنون بها لأنهم قد يشغلونكم عن
الطاعات فإن الأب قد يقع في الاجرام بدافع من زوجه أو من بنيه ، وقد يفعل بدوافعهم
ما لا تحمد عقباه. وقد روى عبد الله بن بريدة أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يخطب فجاء الحسن والحسين عليهماالسلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعشران ، فنزل رسول الله صلىاللهعليهوآله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال : صدق
الله عزوجل : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى
قطعت حديثي ورفعتهما. (وَاللهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عنده ثواب كبير فلا تعصوه ولا تؤثروا طاعة أحد ولا طاعة
نسائكم وأبنائكم على طاعته لأن من ثوابه الجزيل الجنّة والنعيم (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي تجنّبوا معاصيه وما يسخطه قدر طاقتكم واستطاعتكم (وَاسْمَعُوا) أوامر الله وما يقوله لكم رسوله الكريم (وَأَطِيعُوا) الله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم الزكوات والصدقات (خَيْراً
لِأَنْفُسِكُمْ) أي قدّموا خيرا لأنفسكم من أموالكم كما قال الزجاج (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي يخلص من بخل نفسه ويدفع حق الله تعالى من ماله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فهم الفائزون بثواب الله ، وقد قال الصادق عليهالسلام : من أدّى الزكاة فقد وفي شحّ نفسه
(إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قد مرّ تفسيره ، ولكن نشير إلى أنه سبحانه قد تلطّف في
الدعوة لإخراج حقّ المال وسمّى ذلك إقراضا له وإقراضا حسنا فتبارك اسم ذلك
المستقرض العظيم الذي إن أقرضه عبده وأنفق على عياله من الفقراء والمحتاجين (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يعطيه بدل قرضه أضعاف ذلك الذي أعطاه حتى تصل الأضعاف
إلى سبعمائة فما فوق (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يمحوها ويتجاوز عنها (وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) أي مجاز على الشكر بثوابه الجزيل ، وهو رؤف لا يعاجل
العباد بالعقوبة ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما حضر وما غاب ويعلم السّر والجهر وما هو أخفى من
السّر (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) القوي الممتنع القادر الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.
سورة الطلاق
مدنية وآياتها ١٢
نزلت بعد الإنسان.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ
يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ
بالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
(٣))
١ إلى ٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ ...) الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله أنشأه به سبحانه ليبيّن حكما ، بل أحكاما شرعيّة هي
للمكلّفين وعليهم وهي لأمّة محمد (ص) إلى آخر الدهر ، ف (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي إذا أردتم طلاقهنّ لسبب مشروع (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لوقت عدّتهن ، والعدّة هي الطّهر الذي لم يواقعها فيه
زوجها ، وهذا يعني : طلّقوهنّ في الطّهر الذي يحصينه من عدّتهنّ لأنهنّ يعتددن
بذلك الطّهر الذي يقع فيه الطلاق ، وتحصل في العدة عقيب الطلاق. فلا تطلّقوهنّ
لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من القرء. وقد قيل إن (اللام) للسبب الذي ذكرناه ،
فكأنّه قال سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) ، لأن هذا الحكم للمدخول بها بلا ريب ، ولأن المطلقة قبل
المسيس بها وقبل مجامعتها لا عدّة لها ، وذلك قوله تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَها). ونلفت النظر إلى أن ظاهر الشريفة يدل على أنه إذا طلّقها
في الحيض ، أو في طهر واقعها فيه ، فلا يقع الطلاق ، لأن الأمر فيها ب (لِعِدَّتِهِنَ) يقتضي الإيجاب. وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر طلّق
امرأته وهي حائض تطليقة واحدة ، فأمر رسول الله (ص) أن يراجعها ويمسكها حتى تطهر
وتحيض عنده حيضة أخرى ، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها ، فإذا أراد أن يطلّقها
فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق
بها النساء (وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ) أي عدّوا الأقراء التي تعتدّ بها المطلّقة ، لأن لها فيها
حقّ النفقة والسّكنى ، وللزوج فيها حقّ المراجعة ومنعها عن أن تتزوج بغيره ، لثبوت
نسب الولد إذا حصل حمل. أما العدّة فهي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة
المرتّبة بحسب الشرع (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَ) لا تدعوهن يغادرنّ بيوتهنّ التي هي بيوتكم ـ بيوت
المطلّقين ـ فلا يجوز للزوج أن يخرج المطلّقة المعتدّة من منزله
الذي كان يضعها
فيه قبل طلاقها (وَلا يَخْرُجْنَ) هنّ أيضا من ذلك المنزل إلّا لضرورة هامّة (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) أي إلّا إذا حصل منها زنى وهو فاحشة (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة ، فإنها تخرج لإقامة الحد عليها. وقيل هي أن يخرج
البذاء منها على أهلها فيحلّ لهم إخراجها وهو المرويّ عن الصادقين عليهماالسلام، كما أن في المرويّ عن الرضا عليهالسلام أنه قال : الفاحشة أن تؤذي أهل زوجها وتسبّهم ، وعن ابن
عباس أنه قال : كلّ معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة (وَتِلْكَ) أي ما ذكر هو (حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه في الطلاق الصحيح وشرائطه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي ومن يخالف أوامره هذه بأن يطلّق على غير هذه الشروط (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أذنب وارتكب إثما وعصى الله سبحانه واستحق العذاب (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لعلّه سبحانه يغيّر رأي الزوج في زوجته المطلّقة ويوقع
حبّها في قلبه فيرجع إليها فيما بين الطلقة الأولى والثانية ، وفيما بين الطلقة
الثانية والثالثة (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) أي كدن يصلن إليه
وقاربنه ، وهو خروجهنّ من عدّتهنّ (فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) يعني راجعوهن وقوموا لهنّ بالنفقة والمسكن وحسن الصحبة
والمعاشرة (أَوْ فارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ) أو اتركوهن وتخلّوا عنهن بسهولة. وقد قلنا إن معنى (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) كدن يصلن إليه لنلفت النظر إلى أن انقضاء أجل العدّة يحول
بين الزّوج وبين حق الرجوع عن الطلاق ، ويجعل المطلّقة تملك نفسها لأنها تبين منه
ويصير لها الحق بالزواج من غيره (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ)
أي وأشهدوا اثنين
عدلين عند الطلاق لصيانة دينكم ، وقال المفسّرون : وعند الرجعة أيضا لئلا تجحد
المرأة أن زوجها المطلّق راجعها ، والأول هو الأصحّ المرويّ عن أئمتنا عليهمالسلام
وهو من شرائط
الطلاق (وَأَقِيمُوا
الشَّهادَةَ لِلَّهِ) يعني : يا أيها الشهود اجعلوا شهادتكم قائمة لله سبحانه
وأقيموها لوجهه (ذلِكُمْ) الأمر الذي قلناه
لكم (يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي
المؤمنون بالله
وبأوامره ونواهيه لينتفعوا بالطاعة ويمتنعوا عن المعاصي ، فيستحقون الثواب (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يعمل بما أمر وينتهي عمّا نهى (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كروب الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي يعطيه الرزق من حيث لا يخطر له على بال ولا يضعه في
حسابه. وروي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي يبارك له فيما آتاه
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي من يجعل أمره بيد الله تعالى ويفوّضه إليه مع الثقة
بحسن تقديره وتدبيره فإنه يكفيه أمر الدنيا ، ويعطيه ثوابا في الآخرة (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي أنها لا تكون إلا مشيئته لأنه يدبّر الأمور بحسب ما
قدّر ، ويبلغ ما أراد ممّا قضى وقدّر (قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي قضى بما يشاء في كل شيء ، وجعل لكل شيء مقدارا وأجلا لا
يزيد ولا ينقص.
ثم أخذ سبحانه في
بيان اختلاف العدّة باختلاف أحوال النساء اللواتي تلزمهن العدّة فقال عزوجل فيما يلي :
* * *
(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)
ذلِكَ
أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))
٤ و ٥ ـ (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ
مِنْ نِسائِكُمْ ...) أي اللواتي لا يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي إذا شككتم بهنّ فلا تعرفون هل ارتفع حيضهن لكبر السنّ
أم لعارض صحيّ آخر (فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وهؤلاء هن
اللواتي تحيض من
كانت مثلهنّ ، لأنهن لو كنّ في سنّ من لا تحيض من كبيرات السنّ لكان لا ينبغي
الارتياب بشأنهنّ. وهذا المعنى هو المرويّ عن أئمتنا عليهمالسلام. وقيل إن معناه : إن ارتبتم فلم تعرفوا أن دمهنّ دم حيض أو
استحاضة ، فعدتهنّ ثلاثة أشهر كما عن مجاهد والزهري وغيرهما ، كما قيل معناه : إن
ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما الحكم فيهنّ (وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ) أي إن ارتبتم بحيضهنّ فعدتهنّ ثلاثة أشهر أيضا ، وهن
اللواتي لم يبلغن المحيض في حين أن مثلهنّ تحيض عادة (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ) أي الحوامل ، الحبالى ، إذا طلّقتموهنّ ف (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي تنتهي عدتهنّ بالولادة ، وهي في المطلّقات خاصة كما هو
المرويّ عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، لأن المتوفّى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين
،! فإذا مضت عليها أربعة أشهر وعشر انتظرت وضع حملها ، أمّا إذا توفّي عنها زوجها
ووضعت قبل الأشهر الأربعة وعشر فيجب عليها أن تستوفي هذه المدة (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره به (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْراً) فيسهّل له أمر دينه ودنياه وآخرته (ذلِكَ) يعني المذكور سابقا في أمور العدّة والطلاق (أَمْرُ اللهِ) لكم (أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ) لتعملوا به وتطيعوه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعة أوامره واجتناب نواهيه (يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ) يمحوها عنه ويتجاوز عنها (وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً) أي يزيد له في ثوابه في الآخرة.
* * *
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ
اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))
٦ و ٧ ـ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ ...) أي أسكنوا النساء المطّلقات في بيوتكم وحيثما سكنتم من
مساكنكم التي في ملككم وما تقدرون عليه وما تجدونه من المساكن وبحسب طاقتكم ووسعكم
بحسب الغنى والفقر فإنه لا بد للمطلّقة طلاقا رجعيّا من السكن والنفقة ، وشروط
المطلّقة طلاقا بائنا فيه خلاف مذكور في مكانه من كتب الفقه وإن كان المشهور عن
أئمتنا عليهمالسلام أنه لا سكنى لها ولا نفقة ، ففي المرويّ عن الشعبي أنه قال
: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالت : طلّقني زوجي البتّة مخاصمته إلى رسول الله (ص)
في السّكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة (وَلا تُضآرُّوهُنَ) أي لا تسبّبوا لهنّ ضررا بأن تقصّروا في سكناهنّ ونفقتهنّ (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) يعني لتضطرّوهن إلى الخروج من بيوت السكن أو لترك النفقة (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي حوامل ، حبالى (فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) حتى يلدن لأن عدّتهنّ تنتهي حين الوضع ، وهذا أمر ماض
بالنسبة للمطلّقة الرجعية أو المبتوتة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أولادكم منهنّ حال طلاقهن (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) فأعطوهنّ بدل الرضاع (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي اتّفقوا بالحسنى والجميل. وهذا أمر للرجل والمرأة على
السواء ليتّفقا على ما يقبلان به معا (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي إذا حصل خلاف أوجب عسر الاتّفاق على أجر الرضاع ، فيحق
أن ترضع للرجل امرأة أجنبيّة ، غير أمه (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي على ذوي السعة أن يوسّعوا في النفقة وأجر الرضاع
لأولادهم (وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي من كان رزقه قليلا ومحدودا (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) يعني أنه يعطي بمقدار ما أعطاه الله تعالى وبحسب
طاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما
آتاها) أي لا يحمّلها فوق طاقتها وإمكانها ولا يكلّف أحدا ما لا
يقدر عليه (سَيَجْعَلُ اللهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي بعد ضيق سعة وبعد الصعوبة سهولة فإن الفقر ليس ملكا ولا
يدوم على أحد إلّا لمصلحة اقتضاها الله سبحانه لحكمة يجهلها العباد.
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ
لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ
آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))
٨ إلى ١١ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّها ...) أي وكم من أهل قرية عاندوا أمر ربّهم وتجاوزوا الحدّ في
العصيان والتمرّد (فَحاسَبْناها حِساباً
شَدِيداً) أي جازيناها بعد محاسبتها وانتقمنا منها بأن دقّقنا معها
الحساب ولم نرأف بها لعتوّها (وَعَذَّبْناها
عَذاباً نُكْراً) أي كان عذابنا لها شديدا فظيعا لم ير مثله كأنه مستنكر عند
من لم يعرفه (فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها) أي ذاقت عاقبة أمر الكفر الذي كانت عليه (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي كانت نتيجة حالها خسارا في الدنيا والآخرة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ
عَذاباً
شَدِيداً) هو عذاب النار المعدّ الموجود حاضرا لها لحين ميعاده. وقيل
إنه العذاب الأول هو عذاب الدنيا بالقتل والخسف وغيره من الآيات ، وأن هذا العذاب
هو عذاب الآخرة (فَاتَّقُوا اللهَ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) أي احذروه يا أصحاب العقول ولا تعملوا عمل هؤلاء المذكورين
، فإنكم أنتم (الَّذِينَ آمَنُوا) وهذا وصفهم. وقد خصّهم بالذكر لأنهم وحدهم ينتفعون بذلك
دون غيرهم ، وقد قال لهم سبحانه أيضا : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي قد أنزل عليكم هذا القرآن الكريم. وقيل الذّكر هنا
الرسول صلىاللهعليهوآله وهو المرويّ عن الإمام الصادق عليهالسلام
، بدليل قوله
تعالى : (رَسُولاً) أي نبيّا مبعوثا من عندنا ، واللفظة بدل من (ذِكْراً) والمراد به رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقيل إنه جبرائيل عليهالسلام ، ووصفه بالذّكر لتشريفه ، أي أنه ذو ذكر جميل (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ
مُبَيِّناتٍ) أي يقرأها عليكم واضحات لا لبس فيها (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن الجهل إلى
المعرفة (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسيرها (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ
لَهُ رِزْقاً) أي أنه يعطيه أحسن ممّا يعطي أيّ أحد من نعيم الجنّة.
* * *
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))
١٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ...) أي خلق السماوات السبع وخلق مثلهنّ : سبع أرضين. ولم يرد
في القرآن
الكريم ذكر لسبع
أرضين إلّا في هذه الآية المباركة. وقد عبّر أن السماوات طباقا فوق بعضها ، ولكنه
لم يصف الأرضين أنها طباق ولا غير ذلك ، وهو سبحانه أعلم بما خلق ، ولعلهنّ جميعهن
تحت السماء الدنيا وفي أنحاء الفضاء. ولكن في العياشي عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام أنه قال ـ كما عن الحسين بن خالد ـ : بسط كفّه ثم وضع
اليمنى عليها فقال : هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبّة ، والأرض الثانية
فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق السماء
الثانية والسماء الثالثة فوقها قبّة ، حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال :
والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمان فوق
السماء السابعة ، وهو قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) أي يتنزل الأمر لنبيّنا (ص) من فوق السماوات والأرضين ،
وكذلك ينزل الملائكة بأمر ربّهم فيما بينهن بالحياة والموت والرزق وتصريف الأمور
بحسب الحكمة وغير ذلك (لِتَعْلَمُوا) لتعرفوا (أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر لذاته على تصريف أمور ما خلقه (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْماً) أي أنه لا يفوته شيء ممّا يجري في مخلوقاته.
* * *
سورة التحريم
مدنيّة وآياتها ١٢
نزلت بعد الحجرات.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢))
١ و ٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الخطاب له صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته يسأله
مسبحا فيه متلطفا به : لم تجعل الحلال لك حراما على نفسك؟ وسبب نزول هذا السؤال في
هذه الآية المباركة كان محلّ خلاف بين المفسّرين ، وقد قالوا : إن رسول الله (ص)
كان إذا صلّى الغداة يدخل على نسائه واحدة بعد واحدة ، وكانت زينب بنت جحش قد
أهديت لها عكّة من عسل فكانت إذا دخل عليها النبيّ (ص) تحبسه حتى تسقيه منه ، وأن
عائشة أنكرت احتباسه وعرفت أنها تسقيه العسل مدافا بالماء ، فاجتمعت إلى حفصة وبعض
صواحبها
وقالت لهنّ : إذا
دخل عليكنّ رسول الله (ص) فقلن له : إنّا نجد منك ريح المغافير ـ وهو صمغ العرفط
الكريه الرائحة الذي قد تقع عليه النحلة ـ. وكان رسول الله (ص) يكره أن يصدر منه
ريح غير طيّبة لأنه يأتيه الملك عليهالسلام. فدخل على حفصة فقالت : يا رسول الله ما هذه الريح التي
أجدها منك ، أكلت المغافير؟ فقال : لا ، ولكن زينب سقتني عسلا. ثم دخل على عائشة
فأخذت بأنفها فقال لها : ما شأنك؟ قالت أجد ريح المغافير ، أكلتها يا رسول الله؟
فقال : لا ، بل سقتني زينب عسلا. فقالت : جرست ـ أي لحست ـ نحلها العرفط. فقال (ص)
: لن أعود إليه فنزلت الآيات.
وقيل أيضا إنه كان
قد قسم الأيام بين نسائه ، فلمّا كان يوم حفصة قالت : يا رسول الله إن لي إلى أبي
حاجة ، فأذن لي أن آتيه. فأذن لها ، فلما خرجت أرسل رسول الله (ص) إلى جاريته
مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فرجعت حفصة فوجدتها عنده في بيتها ، فقالت :
إنما أذنت لي من أجل أن أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي؟ أما ما
رأيت لي حرمة وحقّا؟ فقال (ص) أليس هي جاريتي قد أحلّ الله ذلك لي؟ اسكتي فهي حرام
عليّ ولا تجزي بهذا امرأة منهنّ وهو عندك أمانة. ولكنها أخبرت عائشة لأنهما كانتا
متصافيتين فنزلت الآيات الكريمة. والحاصل أنه سبحانه قد ناداه قائلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) تشريفا له وتعليما للمكلّفين كيف يخاطبونه : لم تحرّم على
نفسك بعض الأشياء اللذيذة (تَبْتَغِي مَرْضاتَ
أَزْواجِكَ) أي طلبا لرضاهنّ مع أنهنّ هنّ أحقّ بطلب رضاك. وهذا لا
يشكّل ذنبا كبيرا ولا صغيرا إذ لا عجب أن يحرّم الرجل على نفسه لذة ما ، أو امرأة
ما ، لسبب أو لغير سبب ، بل ليس هذا الأمر بقبيح أصلا لأنه من الأمور الشخصية التي
ليس فيها أيّة معصية ، وهو صلوات الله وسلامه عليه قال : خيركم ، خيركم لنسائه. لأنه
لم يكن خير منه لنسائه بين الناس (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يعفو عن عباده ويرحمهم إذا
فعلوا الأولى
بالتقوى (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد قدّر لكم ما تتحلّلون به من أيمانكم إذا حصلت منكم ،
ثم شرع لكم أن تحنثوا بها لتنحلّ ، والتحلّة هي الكفارة المتوجّبة على من أراد أن
يرجع عن يمينه ليستبيح ما حرّمه على نفسه. وقد بيّن سبحانه أن التحريم لا يحصل
إلّا بأمره سبحانه ونهيه ، ولا يصير الشيء حراما إلّا إذا حلف الإنسان على تركه
وحينئذ ينبغي عليه التكفير. وعن مقاتل قال : أمر الله نبيّه (ص) أن يكفّر يمينه
ويراجع وليدته (مارية) فأعتق رقبة وعاد إليها (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي أنه هو سبحانه وليكم أيّها المؤمنون وحافظكم ومتولّي
أموركم وينصركم (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه مصالحكم (الْحَكِيمُ) في تدبيركم وفي إنزال أوامره ونواهيه. وقيل هو العليم بما
قالت عائشة لحفصة.
* * *
(وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ
اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ
قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ
عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))
٣ إلى ٥ ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ
أَزْواجِهِ ...) أي حين أسرّ (ص) إلى حفصة زوجته (حَدِيثاً) أي كلاما أمرها بكتمانه وعدم إفشائه لأن السرّ ينبغي
إخفاؤه (فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ) أي أخبرت غيرها بما أسرّ به إليها
رسول الله (ص) ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي أطلع نبيّه (ص) على ما وقع من حفصة من إفشاء سرّه (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ
بَعْضٍ) أي عرّف النبيّ (ص) حفصة بعض ما ذكرت وأخبرها به ، وترك
بعض ما ذكرت ولم يخبرها به ولم يعاتبها. وهذا يدل بأنه (ص) قد علم بكل ما قالته
لأن إعراضه عن بعض يدل على تمام معرفته ، وهذا من كرم خلقه (ص) فلم يستعص معها كلّ
ما عرفه من قولها (فَلَمَّا نَبَّأَها
بِهِ) أي حين أخبرها بما علم من أمرها بعد أن أظهره الله تعالى
على ذلك (قالَتْ) حفصة له : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) يعني من عرّفك إياه وأخبرك به؟ (قالَ) صلىاللهعليهوآله : (نَبَّأَنِيَ
الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)
أي أخبرني به
العليم بجميع الأمور ، الخبير بذوات الصدور. ثم خاطب سبحانه عائشة وحفصة معا : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) من المعاونة على إيذاء النبيّ (ص) والاتفاق عليه فقد وجبت
عليكما التوبة مما كان منكما ، فإن تفعلا ذلك (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) أي مالت إلى الإثم كما عن ابن عباس ومجاهد ، وقيل : عدلت
عن الثواب إلى ما يوجب الإثم فيما فعلتما. وقيل معناه : إن تبتما قبل الله توبتكما
(وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ) أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذائه وتتّفقا. وفي المجمع عن
ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله (ص)؟
قال : عائشة وحفصة ، وأورده البخاري في صحيحة. فإن تتّفقا عليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي حافظه وناصره والقائم بحياطته (وَجِبْرِيلُ) كذلك مولاه (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) يعني الأخيار منهم هم أولياؤه أيضا. وفي المجمع أن الخاصّ
والعامّ روى أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام
(وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي والملائكة أعوانه بعد الله تعالى وجبرائيل عليهالسلام وصالح المؤمنين. ولفظة (ظَهِيرٌ) هي للواحد ولكنها تؤدّي معنى الجمع وذلك كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، أي رفقاء (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَ) أي واجب منه سبحانه إن طلّقكنّ يا نساء النبيّ (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً
مِنْكُنَ) أي
أن يعطيه بدلكنّ
من هنّ أصلح له بحيث يكنّ (مُسْلِماتٍ) أي راضيات بأمر الله (مُؤْمِناتٍ) مصدّقات بالله وبرسوله وبكل ما جاء عن الله عزوجل (قانِتاتٍ) أي خاضعات خاشعات لله ومطيعات لأزواجهن (تائِباتٍ) مستغفرات من الذنوب ونادمات على كلّ تقصير (عابِداتٍ) مصلّيات لله تعالى قائمات بالفروض والسّنن (سائِحاتٍ) مرضيات في الطاعة ، وقيل صائمات لأن الصائم يمسك عن الطعام
ويستمر عليه كاستمرار السائح في سياحته في الأرض (ثَيِّباتٍ) وهنّ اللواتي افتضّ أزواجهنّ بكاراتهنّ (وَأَبْكاراً) أي عذارى لم يصرن زوجات.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))
٦ إلى ٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) انتقل سبحانه إلى خطاب المؤمنين فأمرهم أن يقوا أنفسهم
وأهليهم من النار ، أي أن يحفظوها ويمنعوها من النار ، وذلك بالصبر على الطاعات
وبالامتناع عن المعاصي ، ولا تتهاونوا بأهلكم بأن تعلّموهم ذلك وتعوّدوهم عليه ،
وهذه دعوة لأن يؤدّب المرء عياله بأدب الدّين ويعلّمهم تعاليمه ، ومنهم خدمه وإماؤه
ومن كان يعوله ، فيجب أن يقوا أنفسهم من النار التي (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) أي أن حطبها من الناس وحجارتها من الكبريت الذي يلتهب
ويزيد في اشتعال النار ولهبها وحرارتها (عَلَيْها مَلائِكَةٌ
غِلاظٌ شِدادٌ) أي أنه موكلّ بها ملائكة غلاظ القلوب أقوياء لا يرحمون أهل
النار ولا يعطفون عليهم ، وهم زبانيتها التسعة عشر ومساعدوهم (لا يَعْصُونَ اللهَ) في شيء (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) لا يخالفون ما حكم به على العصاة ولا تأخذهم بأحد رحمة. ثم
ذكر ما يقال للكفار يومئذ فقال تبارك وتعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) أي أنهم حين يعذّبون بذنوبهم يشرعون في الاعتذار عمّا فرط
منهم فيقال لهم : دعوا أعذاركم التي لا تسمع لأنكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تلقون جزاء أعمالكم التي فعلتموها. وعاد سبحانه
يخاطب المؤمنين لما يجب عليهم في دار العمل والتكليف فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ) أقلعوا عن معاصيه وارجعوا إلى طاعته ولتكن توبتكم (تَوْبَةً نَصُوحاً) أي خالصة لوجه الله. وعن ابن عباس أنه قال : قال معاذ بن
جبل : يا رسول الله ما التوبة النّصوح؟ قال : أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب
كما لا يعود اللّبن في الضّرع. فهي إذن أن يناصح الإنسان نفسه بالنّدم الخالص
والعزم على عدم العودة ، لأنها استغفار في اللسان وندم في القلب وإمساك عن الذّنب (عَسى رَبُّكُمْ) أي توبوا بأمل أن ربّكم سبحانه وتعالى أوجب عليه نفسه أن (يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يمحوها عنكم ويسترها (وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)
فيثيبكم بها بعد
أن يحط عنكم ذنوبكم ، وذلك (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يذلّهم بل يعزّهم بإعطائهم الثواب الجزيل ويشفّع
النبيّ صلىاللهعليهوآله بالمؤمنين ويرفع من درجته وكرامته بذلك (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ) مرّ تفسيره في سورة الحديد (يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) أي اجعله تامّا لنا بفضلك وكرمك. وعبارة (يَقُولُونَ رَبَّنا) في محل نصب على الحال ، والتقدير : قائلين ذلك. وقيل (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مبتدأ ، و (نُورُهُمْ يَسْعى) خبره ، و (يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) خبر آخر من الذين آمنوا وحال منهم (وَاغْفِرْ لَنا) أي اعف عن معاصينا وذنوبنا (إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) واضح المعنى. وعاد سبحانه لخطاب النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) أي قاتلهم وحاربهم (وَ) جاهد (الْمُنافِقِينَ) بالقول لردعهم عن كل ما يفعلونه من قبائح. فابذل جهدك مع
هؤلاء ومع هؤلاء. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليهالسلام أنه قرأ : (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ) ثم قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقاتل منافقا قط ، إنما كان يتألّفهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد عليهم ،! والغلظة على المنافقين هنا هي إقامة
الحدّ (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وهي مآلهم ومستقرّهم.
* * *
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ
مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)
وَمَرْيَمَ
ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))
١٠ إلى آخر السورة
ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ذكر سبحانه مثلا على الكفار بقوله : إن (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ
كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي كانتا زوجتين لنبيّين من رسلنا وعبادنا الصالحين (فَخانَتاهُما) فلم تحفظا رسالتهما ولا عملتا بدينهما وكانتا كافرتين. وقد
قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس إنه مجنون ، وإذا آمن واحد بنوح
تخبر الجبابرة من قومها ليعذّبوه. وكانت امرأة لوط تدلّ على أضيافه ليقصدوهم
بالفاحشة ، وهذه هي خيانتهما ، وما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت الخيانة في
الدّين (فَلَمْ يُغْنِيا
عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لم يغن نوح ولا لوط عن زوجته شيئا من العذاب مع أنهما
نبيّين ، ولم تنفع واحدة منهنّ نبوّة زوجها لأنها كانت كافرة (وَقِيلَ) أي يقال لهما يوم القيامة : (ادْخُلَا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ) فأنتما من أهل النار معهم. وقيل إن اسم امرأة نوح : واغلة
، واسم امرأة لوط : واهلة ، وقيل هما : والغة ووالهة (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) أي وأعطى وذكر مثلا (لِلَّذِينَ آمَنُوا
امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم رضوان الله عليها ، فإنها لمّا رأت
معجزة العصا من موسى عليهالسلام وشاهدت غلبته للسّحرة آمنت وأسلمت ، وعلم فرعون بإيمانها
فنهاها عن ذلك فامتنعت أشدّ امتناع ، فعاقبها بأن شدّ يديها ورجليها بالحبال إلى
أربعة أوتاد في مكان معرّض للشمس ، ثم ألقى
عليها صخرة عظيمة.
ولما وافاها الأجل (قالَتْ رَبِّ ابْنِ
لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فرفعها الله سبحانه إليه شهيدة تأكل وتشرب ويأتيها رزقها
الدائم مع الشهداء والصالحين. فقد دعت ربّها بذلك وقالت (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي خلّصني منه ومن كفره ودينه الذي هو عليه (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من أعوان فرعون الظالمين لأنفسهم ولغيرهم. وقال مقاتل :
يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية
وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم ابنة عمران الذي قال تعالى فيها : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي منعته من دنس المعصية وكانت عفيفة عن الحرام ممتنعة عن
الأزواج ولم تبتغ رجلا ولا زوجا (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) أي نفخ جبرائيل عليهالسلام بأمرنا في جيبها وخلق الله تعالى عيسى عليهالسلام من تلك النفخة فصار حيّا (وَصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها) آمنت بما جاء عن ربّها على لسان رسله وبما أوحاه لهم
ولملائكته ، (و) صدّقت ب (كتبه) المنزلة على رسله كالتوراة والإنجيل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي من المطيعين لله تعالى. ولم يقل (مِنَ الْقانِتِينَ) لأن أهلها كانوا كذلك نساء ورجالا ، فغلّب سبحانه المذكّر
على المؤنث.
وفي المجمع عن
معاذ بن جبل أنه قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله على خديجة وهي تجود بنفسها فقال : أكره ما نزل بك يا خديجة
، وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا. فإذا قدمت على ضرّاتك فاقرئيهنّ منّي السلام.
قالت : يا رسول الله : ومن هنّ؟ قال : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وحليمة
أو كليمة أخت موسى ـ والشكّ من الراوي ـ فقالت : بالرفاء والبنين.
* * *
سورة الملك
مكيّة وآياتها ٣٠
نزلت بعد الطّور.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤))
١ إلى ٤ ـ (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ...) أي تعالى الله عمن كلّ ما لا يجوز عليه ، وعظم شأنه
باستحقاقه الربوبيّة والمعبودية ، والملك والسلطان بيده والتدبير بإرادته ووفق
حكمته. وقد ذكر اليد جريا على الاصطلاح لأن أكثر التصرّفات تكون باليد (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تجري الأمور كما يشاء من عطاء وحرمان وقضاء ، وهو (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي جعل الموت حقّا على العباد وتعبّدهم بالصبر عليه
والتسليم لأمر الله فحمده
المؤمنون به على
السرّاء والضراء وشكروه على النعمة والرّخاء ، فكان الموت آية منه تعالى للاعتبار
، وكانت الحياة للتزوّد وعمل الصالحات ، وكان ذلك منه (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم أيها الناس (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أيّ أيّكم أكثر امتثالا لأوامر الله تعالى واجتنابا
لنواهيه ، ومن يكون منكم أورع عن محارم الله وأطوع وأسرع في طاعته (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) المنيع الذي ينتقم ممّن عصاه ولا يستعطى عليه شيء في حين
أنه يتجاوز عن ذنوب التائبين ويغفر لهم سيئاتهم ويعفو عنهم إذا تابوا وأنابوا ،
وهو (الَّذِي خَلَقَ) أي أنشأ من العدم (سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً) جعلهنّ واحدة فوق الأخرى متشابهات في اتفاق الخلق لأحكام
الصّنع (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي ليس فيه اختلاف من ناحية الحكمة وإن كانت المخلوقات
مختلفة من حيث هيئاتها وصورها. وفي المجتمع أن في هذا دلالة على أن الكفر والمعاصي
لا يكون من خلق الله لكثرة التفاوت في ذلك (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي أدره أيها الإنسان في الخلق واستقص إيجاد السماوات (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) هل تنظر فيها من شقوق أو خلل (ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي كرّر النظر ليبين لك الشيء أكثر فأكثر (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً
وَهُوَ حَسِيرٌ) يرجع إليك نظرك فاشلا لم ينل ما كان يتمنّاه من رؤية الخلل
، بل يعود حسيرا : كالّا قد عجز عن رؤية وهن وعاد في إعياء خائبا عن أن يرى ما
يخالف الإتقان وكامل الحكمة.
* * *
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ
مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا
بَلى
قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠)
فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))
٥ ـ (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ ...) أقسم سبحانه وحقق قسمه باللام وو بعد ، بأنه حسّن السماء
وزخرفها بمصابيح : أي بنجوم وكواكب مضيئة ، وواحدها مصباح أي سراج (وَجَعَلْناها) أي جعلنا الكواكب (رُجُوماً
لِلشَّياطِينِ) نرجم الشياطين منها بشهب حين يسترقون السمع (وَأَعْتَدْنا) أي هيّأنا وأعددنا لهم للشياطين (عَذابَ السَّعِيرِ) عذاب النار المسعرة التي يظهر لهيب اشتعالها.
٦ ـ (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : بعد أن توعّد سبحانه الشياطين الذين يدعون الناس إلى
الكفر ، ذكر الكفّار الذين يطيعونهم ويتّبعون هوى نفوسهم فقال : إن لهم عذاب جهنم
، وبئس ذلك المآل الذي يصيرون إليه. وقد ذمّ مرجعهم (ببئس) لأنه مرجع سوء لما
يصيرون إليه من عذاب وهوان.
٧ إلى ٩ ـ (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها
شَهِيقاً ...) أي إذا طرح الكفار في نار جهنّم سمعوا لها صوتا مخيفا يشبه
صوت غليان الماء في القدر فتصطك لذلك أسماعهم وتنخلع أفئدتهم من الفزع والهول (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي كغلي القدر ، و (تَكادُ تَمَيَّزُ
مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد تتفرّق وتصير قطعا من شدّة الغضب المتجلّي في
التهابها الشديد فحالها كحال المغتاظ الغاضب ، فهي تتلقّى الكفار بالهيجان واللهب
المحرق ، و (كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ) أي كلّما طرحت في جهنم جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) قال لهم خزّان جهنّم وملائكة العذاب قائلين : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي : ألم يجيئكم
محذّر يخوّفكم من
هذا المصير التعيس؟ (قالُوا بَلى) ردّوا بالإيجاب مصرّحين بنعم (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ
فَكَذَّبْنا) فلم نصدّقه (وَقُلْنا ما نَزَّلَ
اللهُ مِنْ شَيْءٍ) فلم نقبل منه وأنكرنا أن تكون دعوته صادرة عن الله تعالى ،
فيجيبهم الملائكة قائلين : (إذن أنتم) أي ما أنتم (إِلَّا فِي ضَلالٍ
كَبِيرٍ) أي في ذهاب عن الصواب وضياع عن الحق.
١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ ...) فأجاب الكفرة قائلين : لو كنّا نسمع من الرّسل في دار
الدنيا ، أو نعقل ما قالوه لنا ونميّز الحقّ من الباطل (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ما كنّا من أهل النار الملتهبة. وفي الحديث عن ابن عمر أن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إن الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة
والصيام ، وممّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وما يجزى يوم القيامة إلا على
قدر عقله (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) أي أقرّوا بما ارتكبوه من الكفر والعناد ولم يسعهم إلّا
الإقرار (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ
السَّعِيرِ) أي أسحق الله أهل النار وأبعدهم من النجاة. وهذا دعاء يدل
على غضبه سبحانه وتعالى عليهم.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣)
أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))
١٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) أي أن الذين يخافون عذاب ربّهم حال كونهم غائبين عن رؤية
ذلك العذاب ، ومصدّقين به لمجرّد أقوال رسله الكرام ، فأولئك لهم عفو من ربّهم
وتجاوز عن ذنوبهم
(وَ) لهم (أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم لا فناء له ولا نفاد. ولفظة «بالغيب» في محل
نصب على الحال والتقدير : يخشون عذاب الله غائبين عن رؤيته ، أو غائب عن رؤيتهم.
١٣ و ١٤ ـ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ ...) أي أن الله سبحانه يعلم السّر والظاهر ، ويعرف ما تّسرّون
وما تعلنون ، فأبطنوا ما شئتم أو بوحوا به فإن ذلك لا يخفى عليه سبحانه لأنه يعلم
ما في الضمائر (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) يعرف ما في القلوب ويطّلع على ما يدور في النفوس (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : أفلا يعلم ما في القلوب من خلق القلوب ، ألا يعرف
السرّ من خلق السّر والعلن؟ بلى ، إن الخالق تعالى عالم بمخلوقاته وبكل ما يصدر
عنهم (وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ) أي العارف بأدقّ الأمور ، العالم بعباده وبأعمالهم المطّلع
على سائر أحوالهم وأفعالهم.
* * *
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ
نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))
١٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولاً ...) أي جعلها مسخّرة سهلة مذعنة تصنعون فيها ما تريدون فلا
تمتنع منكم ،
وتمشون في سهلها
وحزنها ، لأنه تعالى وطّأها لكم تتمكّنون منها ومن زراعتها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي سيروا في طرقاتها ، وقيل إن المنكب هو أعلى الشيء ،
يعني سيروا في جبالها لمنافعكم وتجاراتكم وفي سبيل ما أباحه لكم من الطاعات
والمباحات (وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ) أي مما أعطاكم من غلال جبالها وسهولها (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي إليه سبحانه يكون البعث ، وإلى حكمه يرجع العباد يوم
النشور بعد الموت والقيام للمحاسبة على الأعمال.
١٦ و ١٧ ـ (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ...) يعني هل أمنتم عذاب الله تعالى الذي في السماء سلطانه ،
وأمره وتدبيره ، وفي الأرض تجري حكمته وتقديره؟ فهل أمنتم منه أن يأمر ملائكة
العذاب فيخسف بكم الأرض بأن يشقها ويغرقكم فيها إذا عصيتموه (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تضطرب وتتحرّك كما يجري أثناء الهزّات والزلازل؟ والمور
هو التردد في الذهاب والإياب كما يجري لموج البحر مثلا (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ
أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهل أنتم في أمان من أن يرسل سبحانه عليكم ريحا تحمل
الحجارة والحصي وتحصبكم بها كما فعل بقوم لوط وغيرهم ، (فَسَتَعْلَمُونَ) حين الحصب بالحجارة من السماء (كَيْفَ نَذِيرِ) أي كيف إنذاري وتخويفي لكم من عاقبة العصيان حين ترون
العذاب.
١٨ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ ...) أي كذّبوا رسلي وكفروا بآياتي وجحدوا بربوبيّتي (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فانظر كيف كان إنكاري لعملهم وعقوبتي لهم حين أنزلت
عليهم العذاب ودمّرتهم وأهلكتهم كما جرى في الأمم السابقة.
* * *
(أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ
ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا
الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ
إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي
يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً
ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))
١٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ ...) أي ألم ينظروا إلى الطيور محلّقة في الجو تصفّ أجنحتها في
الهواء فوقهم؟ وقد نبّه سبحانه إلى ذلك ليبيّن أن من أقدر الطير على ذلك يقدر على
الخسف وإرسال الحجارة في السماء لإنزال العذاب بالمعاندين. أفلا يرون إلى من يحمل
الطير في الهواء بقدرته (وَ) هنّ (يَقْبِضْنَ) أجنحتهن بعد بسطها ، فتارة يفعلن هذا وتارة هذا وكأنهن
يسبحن في بحر من الهواء كالسابح في الماء؟ و (ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا الرَّحْمنُ) فهو جلّت قدرته يمسك الطير بما وطّأ له من الهواء ، ومن
سخّر الهواء على هذا الشكل يكون على كل شيء قدير و (إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي أنه عليم بجميع الأشياء ولا يفوت علمه شيء في الأرض ولا
في السماء.
٢٠ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ
لَكُمْ ...) بعد أن بيّن سبحانه قدرته على جميع الأشياء أورد هذا
الاستفهام الإنكاري ، ومعناه : ليس لكم جند ينصركم مني مع قدرتي الظاهرة على كل
شيء ، ولا قوّة لكم
تمنعكم من عذابي
إذا عصيتموني ، إذ لا جند لكم يردّ العذاب عنكم ، ولا أصنامكم تقدر على حمايتكم من
غضبي (إِنِ الْكافِرُونَ
إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ليسوا إلا مغشوشين ومغرورين من الشيطان الذي يطغهم
ويغويهم.
٢١ ـ (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ
أَمْسَكَ رِزْقَهُ ...) أي ماذا يفعل من تدّعون أنه رازقكم إن أمسك الله تعالى
عنكم أسباب رزقه فمنع المطر فأجدبت الأرض مثلا ، فمن يرزقكم غير الله إذا منع عنكم
رزقه؟ (بَلْ لَجُّوا فِي
عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي لقد تمادوا في تجاوزهم للحد ونفورهم من الحق وبعدهم عن
الإيمان وتلبّسهم بالكفر فعموا وصمّوا.
٢٢ ـ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى
وَجْهِهِ أَهْدى ...) هذا مثل محسوس للمؤمن والكافر ، فقد سأل سبحانه : هل أنّ
الذي يمشي منكسا رأسه الى الأرض لا ينظر الى الطريق أمامه ولا يرى من على يمينه أو
على شماله يكون أهدى للطريق (أَمَّنْ يَمْشِي
سَوِيًّا) مستويا منتصبا ينظر أمامه وإلى جميع جهاته ويعرف أين يضع
قدميه وأين يقصد متمكنا من عدم الضلال ومن دفع المحاذير لأنه يسير (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق واضح لا عوج فيه فيصل إلى أهدافه ويحقق مآربه؟.
٢٣ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين : إنّ الله
سبحانه هو الذي أوجدكم من كتم العدم ، ثم خلق لكم ما تسمعون به الأصوات وما تبصرون
به الأشياء ، وجعل لكم (الْأَفْئِدَةَ) أي القلوب التي تتدبّرون بها وتعقلون الأمور ، وبذلك
أعطاكم جميع إمكانيات التفكير والتقدير لتميّزوا الأشياء ولتصلوا إلى معرفة الخالق
العظيم القادر ، وقد فعل بكم ذلك (قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) أي ولكنكم تشكرونه قليلا. وقليلا صفة لمصدر محذوف ،
والتقدير : وتشكرون شكرا قليلا.
٢٤ ـ (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
...) أي قل لهم يا محمد : إن
الله تعالى هو
الذي خلقكم في الأرض وبثّكم فيها (وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه بعد أن تبعثوا في يوم القيامة احياء
ليجازيكم على أعمالكم في الدنيا.
* * *
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ
زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ
مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ
الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))
٢٥ ـ و ٢٦ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ :) أي أن الكفّار والمعاندين يرون البعث مستحيلا ويرون العذاب
بطيئا أو غير كائن ، فيقولون : متى يجيء العذاب في الدنيا من خسف أو رمي بالحجارة
أو متى يكون عذاب الآخرة إن كنتم أيها الرّسل صادقين في قولكم؟ ف (قُلْ) يا محمد لهؤلاء السائلين المنكرين : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فلا يعلم ساعة العذاب ولا ساعة القيامة غير الله تبارك
وتعالى (وَإِنَّما أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) وما أنا سوى مخوّف لكم ، موضح لكم معالم الطريق ، هاد إلى
الحق ، مبعد عن الضلال ، أبيّن لكم ما أنزل الله تعالى عليّ من الأحكام والشرائع ،
ومن الوعد والوعيد
ولا أعلم إلّا ما علّمني ربّي.
٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي فلما شاهدوا العذاب قريبا منهم يوم القيامة ، وعلى هذا
فاللفظ في الماضي ولكنه أريد به المستقبل لأنه واقع لا محالة ، فعندها تسودّ
وجوههم بالسوء ويغمرها الغمّ والحزن والكآبة والخزي (وَقِيلَ) لهم توبيخا حين يرون العذاب : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي هذا الذي كنتم تدعون الوصول إليه ، فقد قال الغراء :
تدّعون ، وتدعون واحد. فالذي كنتم تستعجلون حصوله قد حصل وأنتم وجها لوجه مع
الجنّة والنار والحساب والثواب والعقاب وأنواع النعيم وأنواع العذاب. وفي المجمع
عن الباقر عليهالسلام : فلمّا رأوا مكان عليّ عليهالسلام من النبيّ صلىاللهعليهوآله ، سيئت وجوه الذين كفروا ، يعني الذين كذّبوا بفضله ، وفيه
أن الأعمش قال : لمّا رأوا لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام عند الله من الزّلفى ، سيئت وجوه الذين كفروا.
٢٨ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ
اللهُ وَمَنْ مَعِيَ ...) يعني قل يا محمد للكفّار الذين عاندوا دعوتك : ماذا بيدي
لو شاء الله فأهلكني بالموت وأمات من معي من الأتباع (أَوْ) إن شاء ف (رَحِمَنا) بتأخير آجالنا لنعمل بطاعته ونستزيد من ثوابه ، ولكن (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) إذا نزل بهم بعد أن استحقّوه بالكفر والعناد ، ومن يرفع
عنهم ذلك العذاب إذا أنزله الله تعالى بهم ، وقد قيل إن الكافرين كانوا يتمنّون
موت محمد صلىاللهعليهوآله وموت أصحابه ؛ فقال له الله تبارك وتعالى قل لهم يا محمد
إن أماتني الله وأمات أصحابي أو أبقانا فرحمنا فهو وليّنا ، ولكن من الذي يؤمّنكم
من العذاب حين وقوعه بكم ولا رجاء لكم كرجائنا بربّنا عزوجل؟.
٢٩ ـ (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا ...) يعني قل يا محمد
للكافرين مؤنّبا
لهم وموبّخا : إن الذي أدعوكم إلى طاعته ورجاء عفوه هو الرّحمان الذي عمّ لطفه
الخلائق ، وقد صدّقنا به واعتمدنا عليه في أمورنا وفوّضناها إليه (فَسَتَعْلَمُونَ) أيها الكافرون يوم البعث والحساب (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في ذلك اليوم نحن أم أنتم. وقريء : فسيعلمون : أي فسيعرف
الكفار ذلك يوم القيامة.
٣٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
ماؤُكُمْ غَوْراً ...) يعني اسألهم يا محمد : كيف بكم إذا أصبح ماؤكم غائرا ناضبا
في الآبار والعيون بحيث جفّت كلها وحبس الله تعالى عنكم المطر لتستعيضوا عنه (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي من غيره عزوجل يقدر أن يأتيكم بماء تشاهدونه بعيونكم وقيل إن الماء
المعين هو الذي تناله الدّلاء.
* * *
سورة القلم
مكيّة إلّا من ١٧
الى ٢٣ ومن ٤٨ إلى ٥٠ فمدنيّة وآياتها ٥٢ نزلت بعد العلق.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ
لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣)
وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ
وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))
١ إلى ٤ ـ (ن ، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ...) قد اختلف المفسّرون في معنى (ن) فقال بعضهم : هو اسم من أسماء السورة مثل ص ، ق ، حم وإلخ
... وقال بعضهم : هو الموت ، وقال آخرون : هو حرف من حروف (الرَّحْمنِ) وقيل : بل هو لوح من نور ، وفي المجمع ـ مرفوعا إلى النبيّ
صلىاللهعليهوآله : هو نهر في الجنّة قال الله له : كن مدادا ، فجمد ، وكان
أبيض من الّلبن وأحلى من الشّهد ، ثم قال للقلم : اكتب ، فكتب القلم ما كان وما هو
كائن إلى يوم القيامة. وروي ذلك
عن أبي جعفر
الباقر عليهالسلام. فقد أقسم الله تعالى ب (ن) كائنا ما كان من هذه الأشياء الدالّة على عظمته سبحانه
وقدرته في مخلوقاته (وَ) أقسم ب (الْقَلَمِ) الذي يكتب به به لمنافع الإنسان لأنه لسانه الثاني الذي
يترجم عن فكره وينقل إلى الآخرين معلوماته وأفكاره ودعوته إلى الحق ، وما يكتبه لا
يفنى ولا يذهب كما يذهب كلام اللسان بل يبقى إلى الأبد فيراه القريب والبعيد. لذا
أقسم به سبحانه (وَ) ب (ما يَسْطُرُونَ) أي بما يكتبه الملائكة المكلّفون بما يوحى إليهم ،
والملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، فأقسم عزوجل بذلك كلّه قائلا للنبيّ صلىاللهعليهوآله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) يعني لست يا محمد بجاهل لنعمة ربّك التي أنعم بها عليك ،
ولا هي تغيب عن وعيك كما تغيب الأشياء عن وعي المجانين ، فلست ناسيا لما منحك الله
سبحانه من النبؤة وكمال العقل وجليل الحكمة. وهذا ردّ لقول الكافرين به الذين
قالوا له : يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر إنك لمجنون. فقد نفى عنه سبحانه الجنون
وردّ عليهم قائلا : (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ) أي أن لك ثوابا على أداء الرسالة وتحمّل أعباء الدعوة غير
مقطوع ، فلا تهتمّ بأقوالهم ولا تنزعج من كلامهم ونعتهم لك بهذه النعوت التي أنت
بعيد عنها فثوابنا لك يوم القيامة سيكون غير مكدّر بالمنّ بل سنعطيك من نعمنا في
الجنّة بغير حساب. وعن ابن عباس قال : ليس من نبيّ إلّا وله مثل أجر من آمن به
ودخل في دينه ... وبعد أن برّأه الله تعالى ممّا يقول الظالمون قال له سبحانه (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ) أي انك متخلّق بأخلاق الإسلام العالية ، ومتطبّع على أحسن
الأخلاق وأجمل الآداب ، وأنت إلى جانب سمّو أخلاقك ورفيع صفاتك تتحمل الصعوبات في
حمل الدعوة ، وتصبر على أداء الرسالة ، وتتجاوز وتعفو عمّن ظلمك ، وتبسط جناحك لمن
آمن بك وتعاشر الناس بأسمى أخلاقهم وأعلى صفاتهم حتى صرت المثل الأعلى في الأخلاق
وأدب المعاشرة وجمعت مكارم الأخلاق. وفي الصحيح
عنه صلىاللهعليهوآله : إنّما بعثت لأتّمم مكارم الأخلاق ، وقوله : أدّبني ربّي
فأحسن تأديبي. فهو صلىاللهعليهوآله على خلق عظيم كما قال عنه بارئه جلّ وعلا.
٥ و ٦ ـ (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ :) اي فسترى يا محمد ، ويرى الذين قالوا إنك لمجنون ، بأيّكم
المفتون ، يعني : من منكم المجنون ، والفتنة هنا تعني الجنون ، فستعلم يا رسولنا
غدا يوم القيامة ، ويعلم أعداؤك والمعاندون لك ، أيّ الفريقين منكم هو المفتّن
الضالّ عن الحق الذي استحوذ عليه الشيطان.
٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي ان ربّك يا محمد أدرى بالمنحرف عن سبيله التي هي سبيل
الحق وبمن ضلّ وتاه عنها بغروره وكبريائه (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) أي وهو أعرف بمن اهتدى إلى طريق الحق من العالمين ، وهو
يجازي كلّ واحد بما يستحقه من ثواب أو عقاب بحسب عمله. وفي المجمع عن الضحاك بن
مزاحم قال : لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلىاللهعليهوآله عليّا عليهالسلام وإعظامه له ، قالوا من عليّ وقالوا : قد افتتنّ به محمد.
فأنزل الله تعالى : (ن ، وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ :) قسم أقسم الله به : ما أنت يا محمد بنعمة ربك بمجنون وإنك
لعلى خلق عظيم ـ يعني القرآن ـ إلى قوله : (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ) : وهم النفر الذين قالوا ما قالوا ، وهو اعلم بالمهتدين :
علي بن أبي طالبعليهالسلام.
* * *
(فَلا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ
(١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢)
عُتُلٍّ
بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ
وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ (١٦))
٨ و ٩ ـ (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ، وَدُّوا
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ :) أي لا تكن مطيعا للمكذبين بتوحيد الله تعالى والجاحدين
لوجوده ولنبوّتك ، ولا توافقهم فيما يريدون منك ، لأنهم يحبّون أن تداهنهم في دينك
وتلين لهم فيلينون لك ويتظاهرون بمسايرتك وبتصديقك وينافقون في إظهار التصديق
وإضمار العداوة والتكذيب لك ، فهم يحبّون أن تصانعهم فيصانعوك كذبا وزورا.
١٠ إلى ١٦ ـ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ،
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ ...) ولا تركن يا محمد لكثير الحلف بالباطل من جهة قلة مبالاته
بالكذب لأنه مهين : أي ذليل عند الله وعند سائر الناس وقيل إنها نزلت بالوليد بن
المغيرة الذي عرض المال على النبيّ صلىاللهعليهوآله ليرجع عن دينه ، وقيل نزلت في غيره من كل همّاز أي وقّاع
في الناس كثير الغيبة لهم ، مشاء بنميم ساع بينهم بالنميمة يعمل على ضرب بعضهم
ببعض (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) بخيل مقترّ بالمال ، فقد قيل إن هذا الكافر قال : من دخل
في دين محمد فإنني لا أنفعه بشيء أبدا ، ولا تطع كل (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي المتعدي على الحق المجاوز له الفاجر الذي يرتكب الآثام
الظالم لنفسه ولغيره (عُتُلٍ) فاحش سيء الخلق (بَعْدَ ذلِكَ) من الصفات القبيحة شديد الكفر والخصومة بالباطل (زَنِيمٍ) أي دعيّ قد ألصق بقوم وألحق بهم ليس هو منهم في النّسب
فصار يعرف بذلك كما تعرف العنزة بزنمتها أي باللّحمة المدلّاة في عنقها شبه القرط
في الأذن. وعن عليّ عليهالسلام أن الزنيم هو الذي لا أصل
له. وقد قال ابن
قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحدا وبلغ من ذكر عيوبه ما بلغ من ذكر عيوب الوليد بن
المغيرة لأنه وصف بالحلف والمهانة والعيب للناس والمشي بالنمائم والبخل والظلم
والإثم والجفوة والدعوة ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة .. (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطعه يا محمد لمجرّد كونه صاحب مال وذا بنين» وقيل
إن الآية تقرأ بالاستفهام ، ومعناها : ألأن كان ذا مال وبنين يجحد بآياتنا؟ وهل
جعل الجحود بدل النّعم التي خوّلناه إياها وصار (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا ، قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) اي إذا قرئت عليه آيات كتابنا الكريم قال إن ذلك ممّا
سطّره الأوّلون في أحاديثهم الخرافية ولا أصل لها؟ ولذلك توعّده الله سبحانه بقوله
: (سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ) أي سنشوّهه يوم القيامة بسمة على أنفه والخرطوم هو الأنف
كما لا يخفى نطبعها بسفّود من نار فيعرفه بها كل من رآه ويعلم أنه من أهل النار.
وقد خص الوسم بالأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه وشكل أنفه لوقوعه وسط الوجه. وعلى كل
حال سيعرف المجرمون يوم القيامة بسيماهم اسوداد وجوههم ، وسيعرف الوليد ابن
المغيرة بهذا الوسم الذي يعيبه زيادة عن غيره لشدة كفره وعناده للرسول صلىاللهعليهوآله.
* * *
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها
طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩)
فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا
مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى
حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا
وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى
حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها
قالُوا
إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩)
فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا
إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ
يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))
١٧ و ١٨ ـ (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا
أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) يعني إننا اختبرنا أهل مكة بالقحط والمجاعة كما اختبرنا
أصحاب ذلك البستان الذي فيه الشجر الوارف والثمار اليانعة. وقيل إنه كان لشيخ مؤمن
في اليمن كان يأخذ من ثمره قدر كفايته وكفاية عائلته ثمّ يتصدّق بجميع ما بقي من
ثمره الكثير. فلما توفي قال أولاده : نحن أحقّ بهذا الثمر الكثير من الفقراء ولن
نصنع كما صنع أبونا ، وذلك (إِذْ أَقْسَمُوا) أي حيث اجتمعوا وحلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي ليقطفنّ ثمرها عند الصباح ، والصّرم للنخل بمنزلة
الحصاد للزرع والقطف للثمار ، وقد تقاسموا على ذلك (وَلا يَسْتَثْنُونَ) في أيمانهم ، أي لم يقولوا : إن شاء الله. وهذا من باب : لأفعلنّ
ذلك الأمر غدا إلّا أن يشاء الله ، فهو استثناء كما هو ظاهر ، والمعنى : إلّا أن
يشاء الله منعي عن الفعل.
١٩ و ٢٠ ـ (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ...) أي طرقها طارق من أمر الله أتاحه ربّك (وَهُمْ نائِمُونَ) في الليلة التي حلفوا فيها وقرروا قطع ثمرها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فاحترقت بتلك النار التي طرقتها بأمر الله عزّ وعلا.
والصّريم هو الليل المظلم ، والصّريمان هما الليل والنهار ، لانصرام أحدهما من
الآخر ، أي انفصاله عنه. وقيل بل الصّريم هو
البستان التي قطعت
ثماره.
٢١ إلى ٢٥ ـ (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ ، أَنِ اغْدُوا
عَلى حَرْثِكُمْ ...) أي نادى بعضهم بعضا عند الصباح قائلين لبعضهم : هيّا الى
ما حرثتم من زرعكم لتقطفوا ثماره ، والحرث هو الزرع والأعناب وما شابهما فامضوا
إليه (إِنْ كُنْتُمْ
صارِمِينَ) أي إذا قرّرتم قطع ثمار النخل كما اتّفقنا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي مضوا إلى عملهم وهم يتسارّون فيما بينهم يوسوس بعضهم لبعض
، يجب أن لا يدخل حديقتنا اليوم مسكين ولا فقير يقاسمنا ثمرها (وَغَدَوْا) مشوا غدوة ، صباحا (عَلى حَرْدٍ) على قصد منع الفقراء (قادِرِينَ) مقدّرين في أنفسهم وذلك لمنع الفقراء ، ولإحراز جميع ما في
حديقتهم من ثمر. وقيل ؛ الحرد هو الغضب والحنق على الفقراء ، ولذلك بكّروا في
الرواح إليها قبل أن يعرف بذلك أحد.
٢٦ و ٢٧ ـ (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا
لَضَالُّونَ ...) أي فلمّا شاهدوا حديقتهم على تلك الصنعة من الحرق وتلف
الثمار قالوا : ضللنا الطريق ، وليس هنا حديقتنا ، ولا هذا بستاننا. وقيل بل معناه
: إنّا لضالّون عن طريق الحق ولذلك نلنا عقاب ضلالنا بذهاب ثمر بستاننا ، ثم
استدركوا فقالوا : (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) يعني ان هذه هي حديقتنا فعلا ولكننا حرمنا خيرها لأننا
قررّنا منع حقوق المساكين والفقراء فيها.
٢٨ و ٢٩ ـ (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
لَوْ لا تُسَبِّحُونَ ...) أي قال أعقلهم وأفضلهم قولا ، وقيل هو أوسطهم سنّا قال لهم
: ألم احذّركم سوء قولكم وفعلكم ، فكأنّه كان قد نبّههم إلى أن ينبغي لهم أن
يتوكّلوا على الله وأن يعتقدوا أنه لا قدرة لأحد على شيء إلّا بمشيئته عزوجل ، وقد سمّى ذلك تسبيحا لأنه تعظيم لشأن الله عزّ وعلا
وتنزيه له ومعناه : هلّا تذكرون نعم الله تعالى عليكم فتشكرونه عليها بإخراج حقّ
الفقراء والمساكين من
أموالكم (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له وتعظيما وقد ظلمنا أنفسنا حين عزمنا على حرمنا
المساكين حقّهم ، وقالوا : (إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) لأنفسنا ويضرنا بقولنا الذي قلناه وفعلنا الذي فعلناه.
٣٠ إلى ٣٣ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ ...) أي أخذ يلوم بعضهم بعضا على ما كان منهم من تفريط و (قالُوا) فيما بينهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا طاغِينَ) أي قد أسرفنا في الظلم وتجاوزنا الحدود فيه. والويل هو
الوقوع في المكروه والمشقّة (عَسى رَبُّنا أَنْ
يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي لعل الله تعالى يخلف علينا ما هو خير من هذه الحديقة
التي أتلفتها آية من آيات ربّنا بسبب سوء تصرّفنا ، وقد تّبنا إلى ربّنا و (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) بعد توبتنا مما فرط منّا (كَذلِكَ) أي مثل هذا الذي جرى يكون (الْعَذابُ) للعاصين في الدنيا (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) منه وأعظم وأشد إيلاما وأطول مدة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو عقلوا ذلك وآمنوا به.
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)
ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ
لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ
أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ (٣٩))
٣٤ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ :) بعد أن ذكر قصة أصحاب الحديقة وتوبتهم وذكر عذاب العاصين
في الدنيا وشدة عذابهم في الآخرة ، عقّب سبحانه بما أعدّه للمؤمنين الذين يتجنّبون
سخطه ويطلبون
مرضاته فقال إن
لهم الجنّة يتلذّذون بنعيمها ويتقلّبون في خيراتها ومسرّاتها ، ثم قال تعالى :
٣٥ إلى ٣٨ ـ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ ...) هذا استفهام إنكار ، أي لا نجعل المسلمين لنا كالمشركين
بنا في الجزاء والثواب ، لأن الذين ارتكبوا جرم الكفر وعدم التصديق بما جاء به
محمد صلىاللهعليهوآله وكانوا يقولون إن كان محمد صادقا فيما وعد به من البعث
والحساب فإننا سنكون أحسن حالا ممّن اتّبعوه ، فوبّخهم الله تعالى وقال لا تكون
حال المسلم والمجرم سواء في الآخرة (ما لَكُمْ) ماذا دهاكم (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف تقضون بذلك من عندكم؟ وهذا تقريع شديد لهم واستهزاء
بهم ، إذ لو كانوا ذوي عقول لما حكموا بذلك. و (كَيْفَ) هنا في محل نصب على الحال ، والتقدير : أجائرين تحكمون أم
عادلين. كما يجوز أن تكون في محل مصدر بتقدير : أيّ حكم تحكمون ، وحينئذ تكون (تَحْكُمُونَ) في محل النصب على الحال : اي أيّ شيء ثبت لكم حال حكمكم
كذلك (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ
فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي هل لكم كتاب لا تتعدّون أحكامه وشرائعه تعملون بما فيه
ولا تلتفتون إلى ما يخالف أحكامه؟ وبما أنكم ليس لديكم ذلك فإن القرآن الكريم حجة
عليكم ودلالاته قائمة إلى قيام الساعة وهي تلزمكم وتدينكم (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ) أي في كتابكم الذي هو غير موجود فعلا (لَما تَخَيَّرُونَ) ما تختارونه منه ، والأمر خلاف ذلك وعلى غير ما تهوى
أنفسكم.
٣٩ ـ (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ...) أي هل لكم مواثيق مؤكّدة عاهدناكم بها تدوم الى يوم
القيامة ولا يمكن نقضها معكم؟ (إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ) يعني ما تقضون به لأنفسكم من الكرامة عند الله يوم حساب
الخلائق. وهذا يعني أنّ ليس لهم ذلك قطعا ، ولذلك أتبعه بقوله عزوجل فيما يلي :
* * *
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ
بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ
شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ
عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)
خاشِعَةً
أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ
وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥))
٤٠ و ٤١ ـ (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ،
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ...) أي اسألهم با محمد : من يكفل لهم في الآخرة أن يكون لهم ما
للمسلمين من الكرامة والعفو والمغفرة والرضوان؟ (أَمْ) أنهم ذوو شركاء وشفعاء يشفعون لهم يوم الدين؟ (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) فليجيئوا بأولئك الشركاء الذين يعبدونهم مع الله ، والذين
يدفعون عنهم سخط الله وعذابه (إِنْ كانُوا
صادِقِينَ) في دعواهم.
٤٢ و ٤٣ ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ ...) أي فليجيئوا بشركائهم الذين عبدوهم مع الله في ذلك اليوم
الذي تبدو فيه الأهوال قائمة على قدم وساق بحيث لا يردّها شيء حين تشتد ، ويطلب
منهم على وجه التوبيخ أن يسجدوا لربّهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فلا يقدرون على أداء السجود الذي يلجأ إليه الخائف من
الأمر العظيم ليكشفه الله سبحانه عنه كما يفعل المؤمنون في دار الدنيا ، فتراهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة منكّسة إلى الأرض من الفزع والندم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تغشاهم مهانة فتتعبهم وتثقل كواهلهم (وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى
السُّجُودِ) لربّهم (وَهُمْ سالِمُونَ) ناجون من هذه الآفات ،
أصحّاء يتمكّنون
من الإتيان به حين أمروا بالصلاة فلم يفعلوا. وفي المرويّ عن الصادقين عليهماالسلام أنهما قالا : في هذه الآية أفحم القوم ودخلتهم الهيبة
وشخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلّة ، وقد
كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ، أي يستطيعون الأخذ بما أمروا به والتّرك لما
نهوا عنه ، ولذلك ابتلوا. وقال قتادة ومجاهد : يؤذّن المؤذّن يوم القيامة فيسجد
المؤمن ، وتصلب ظهور المنافقين ، فيصير سجود المؤمنين حسرة على المنافقين وندامة.
٤٤ و ٤٥ ـ (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا
الْحَدِيثِ ...) أي فاترك يا محمد أمر هؤلاء المنافقين لي. وهذا كقولك :
دعني وإياه ، أو : اتركه عليّ. وهذا يعني : خلّ بيني وبين المكذّبين بهذا الحديث :
أي القرآن ولا تشغل نفسك بأمرهم فأنا أكفيك ذلك (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) سنأخذهم للعذاب استدراجا (مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ) فيصلون إليه دون ان يشعروا كيف اقتدناهم إليه (وَ) أنا (أُمْلِي لَهُمْ) أطيل أعمارهم ولا أستعجل عذابهم لأنهم لن يهربوا من ملكي
وسلطاني (إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ) إن تدبيري قويّ محكم وعذابي شديد.
* * *
(أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
أَمْ
عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧)
فَاصْبِرْ
لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ
فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))
٤٦ و ٤٧ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً ...) الخطاب موجه للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، ومعطوف على قوله السابق : أم لكم كتاب فيه تدرسون ، وهو
يعني أم تسأل يا محمد هؤلاء الكفّار أجرا على أداء الرسالة والدعوة إلى عبادة الله
(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ) أي فإنهم يستثقلون لزوم ذلك عليهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي هل عندهم معرفة صادقة بصحة ما يزعمونه ولا يعرف ذلك
غيرهم (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) يسجّلون ذلك الذي يظهرونه من مزاعمهم كأنهم استأثروا
بمعرفتها وحدهم ،.
٤٨ إلى ٥٠ ـ (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ
كَصاحِبِ الْحُوتِ ...) أي اصبر يا محمد على ما تلقاه في سبيل إبلاغ دعوتك إلى أن
يحكم الله تعالى بنصرك عليهم فتقهرهم وتكون لك الغلبة عليهم ، ولا تكن كيونس عليهالسلام ـ الذي هو صاحب الحوت ـ الذي استعجل عقاب قومه ودعا
بإهلاكهم وخرج من بينهم منتظرا نزول العذاب عليهم. فلا تخرج من بين قومك حتى نأذن
لك ولا تفعل فعل صاحب الحوت الذي (لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) لولا أن أدركته رحمة ربّه وشمله عفوه حين دعا ربّه قائلا :
لا إله إلّا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين ، لما نجا ، ولكنه استجاب له وخلّصه
من بطن الحوت كما مرّ في قصته. فلو لا أنه أدركته رحمة ربّه (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي طرح في الفضاء (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم على ما فعله من استعجال عقاب قومه ، ولكنه تاب وأناب
فنّجاه الله وسمع دعائه (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) اختاره نبيّا (فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) المرضيّين عنده المطيعين له.
٥١ و ٥٢ ـ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ...) لفظة (إِنْ) هذه ، هي المخففة من (إِنْ) وتقدير الكلام : وإنّه يكاد ، أي يوشك ويقارب الذين كفروا
أن يزلقونك : يزهقونك بأبصارهم فيقتلونك بالإصابة بالعين. وقيل معناه : ينظرون
إليك عند تلاوة القرآن والدعاء الى التوحيد ، نظر عداوة وبغض وإنكار لما يسمعونه
وتعجّب منه ، فيكادون
يصرعونك بحدّة
نظرهم ويزيلونك عن موضعك.
وفي كلام العرب :
نظر إليّ فلان نظرا يكاد يصرعني ، ونظرا يكاد يأكلني فيه ... وقد كان حصل منهم ذلك
(لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ) حين سماع تلاوته للقرآن الكريم (وَيَقُولُونَ) حينئذ : (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) قد غلب على عقله (وَما هُوَ) أي القرآن ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ) شرف (لِلْعالَمِينَ) للناس وسائر المخلوقات إلى ان تقوم الساعة ، إن معناه :
وما محمد إلّا شرف للخلق لأنه ارشدهم وهداهم وخلّصهم من الضلال.
* * *
سورة الحاقة
مكية وآياتها ٥٢
نزلت بعد الملك.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَاقَّةُ (١)
مَا
الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ
وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها
صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ
مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))
١ إلى ٣ ـ (الْحَاقَّةُ ، مَا الْحَاقَّةُ ، وَما
أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ...) الحاقة : من حقّ ، أي وجب. وهي هنا تعني القيامة لأنها يوم
المحاقّة والمخاصمة وإعطاء كل امرئ ما يستحق. فالقيامة هي الحاقة الواجبة الصدق
والحصول بسائر أحداثها وأحكامها. ومعنى ما الحاقة ؛ استفهام معناه
التعظيم لشأن يوم
القيامة الذي افتتح هذه السورة المباركة بذكره. ثمّ زاد في التخويف منه بقوله تعالى
: (وَما أَدْراكَ مَا
الْحَاقَّةُ) وأنت لا تعلمها إذا لم ترها بعينك ولم تشاهد أهوالها ولو
كنت تعلمها بالصفة التي وصفناها لك؟ ثم ضرب سبحانه مثلا عمّن كذّب بيوم القيامة
وحاق به سوء تكذيبه فقال عزّ من قائل :
٤ إلى ٨ ـ (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ
...) أي كذّب هؤلاء القومان بيوم القيامة الذي كنّى سبحانه عنه
بالقارعة لأنها صفة له هائلة جعلها بعد الكناية بالحاقّة ، فإنه يقرع الأسماع بما
فيه من مخاوف بل يقرع جميع الحواس. ثم بيّن كيفية إهلاكهما فقال تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ) الذين هم قوم صالح (فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ) يعني أبيدوا ودمّروا بالصيحة الطاغية التي تجاوزت المقدار
الذي يحتمله الإنسان ، وقيل هي الرجفة ، وقيل عنى طغيانهم وكفرهم (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ
صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) أي دمّروا بالريح الشديدة البرد التي عتت في شدة هبوبها
وشدة بردها (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي سلّطها وأرسلها مسخّرة بأمره (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وهي الأيام التي تدعوها العرب : أيام العجوز لأنه قيل إن
عجوزا منهم دخلت سربا تحت الأرض فلحقت بها الريح فقتلتها في اليوم الثامن من نزول
العذاب ، وقيل دعيت كذلك لأنها تأتي في عجز الشتاء ، أي في آخره ، وقد أتت تلك
الليالي والأيام (حُسُوماً) أي متتابعة ليس بينها فترة حتى استأصلتهم وحسمت وجودهم (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) أي مصروعين في تلك الأيام وقد وقعوا أرضا (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي كأنهم أصول نخل بالية قد نخرها القدم فهي جوفاء خاوية
قد بلي لبّها (فَهَلْ تَرى لَهُمْ
مِنْ باقِيَةٍ) أي من نفس باقية ، أو من بقية من آثارهم.
٩ و ١٠ ـ (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ...) مرّ تفسيره سابقا ، أي وجاء بعدهم فرعون ومن سبقه بطغيانهم
وكفرهم وعنادهم (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) يعني وتبعهم أهل القرى المؤتفكات التي انقلبت بأهلها وصار
عاليها سافلها وهي
قرى قوم لوط الذين
ائتفكوا وانقلبوا (بِالْخاطِئَةِ) أي بخطاياهم وذنوبهم التي هي الشّرك وسائر الكبائر التي
ارتكبوها (فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ) لم يطيعوا أمره ولا امتثلوا لما دعاهم إليه من الخير (فَأَخَذَهُمْ) الله عزوجل بالعذاب عقوبة لهم (أَخْذَةً رابِيَةً) أي أخذا زائدا في الشدّة تفوق عذاب الأمم من قبلهم لأنهم
كانوا مصرّين على فعل المنكرات.
* * *
(إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)
فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ
فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))
١١ و ١٢ ـ (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ...) يتحدث في هاتين الآيتين الكريمتين عن قصة نوح عليهالسلام والطوفان الذي أغرق الكفرة من قومه ، فلمّا طغى ماء
الطوفان اي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض ومن بقي عليها ولم يلجأ إلى سفينة
نوح (ع) (حَمَلْناكُمْ فِي
الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم السابقين في السفينة التي كانت تجري على
سطح الماء (لِنَجْعَلَها) أي لنجعل تلك الفعلة (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة تعتبرون بها وتتفكّرون بكمال قدرة الله عزوجل وتمام حكمته (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ)
أي وتسمعها
وتحفظها الأذن السامعة الحافظة التي تنفعها الذكرى. وفي المجمع روى الطبري أنه
لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : اللهم اجعلها أذن عليّ. ثم قال عليّ عليهالسلام : فما سمعت شيئا من رسول الله (ص) فنسيته.
١٣ إلى ١٥ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ
واحِدَةٌ ...) أي إذا نفخت النفخة الأولى التي يصعق منها الخلائق ، وقيل
هي النفخة الأخيرة التي يبعثون بها (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها محمولة في الفضاء (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي كسرتا كسرة واحدة وضرب بعضها ببعض حتى يستوي أديمها
وتصير لا جبل فيها ولا مرتفع (فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي في ذلك اليوم تقوم القيامة ويقع ما وعدنا العباد
بحدوثه.
١٦ إلى ١٨ ـ (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ
يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ...) أي تشقّقت وانفرج بعضها عن بعض فصارت واهية : ضعيفة مفكّكة
البنية بعد قوّتها وصلابتها (وَ) صار (الْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) أي رؤي الملائكة على أطرافها ونواحيها المختلفة ينتظرون
الأمر لما يحدث من سوق أهل الجنة إلى الجنة وسوق أهل النار للنار (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل العرش فوق الخلائق في يوم القيامة ثمانية من
الملائكة. وقيل إن حملة العرش أربعة في أيام الدنيا ولكنهم يؤيّدون بأربعة آخرين
يوم القيامة. وقيل هم ثمانية صفوف وعددهم لا يعلمه إلّا الله عزّ وعلا ف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) بين يدي الله وعلى أعين الخلائق أيها المكلّفون (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) فلا يغيب شيء من أعمالكم عن الخلق لتنقطع المعاذير ، لأن
الله سبحانه وتعالى عالم بذلك كله قبل عرض الخلق وعرض الأعمال ، وهذا العرض ليرى
الخلائق ذلك ولإلقاء الحجة على كل مكلّف.
* * *
(فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ
أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣)
كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))
١٩ إلى ٢٤ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ ...) من هنا بدأ سبحانه بوصف تقسيم حالة المكلّفين فقال أما
أصحاب اليمين (فَيَقُولُ) كلّ واحد منهم لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) أي تعالوا اقرأوا ما في كتابي ، يقول ذلك مسرورا فرحا بما
لاقاه من ثواب صالح أعماله ، وهو لا يستحي من عرض كتابه على غيره ، بل يظهره
معتزّا بما قدّم لنفسه. وفي اللغة معنى : هاؤم : خذوا كمثل قولهم : هاكم ، يقول
لهم ذلك ويقول جذلا : (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت قطعا وأيقنت وأنا في دار الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أني محاسب بالتأكيد على أعمالي ولذلك حسبت حسابا لهذا
اليوم لأثاب على الطاعات التي عملتها. فهذا الذي يكون من أصحاب اليمين ويقول ذلك
القول (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ) في ذلك اليوم ، أي في حياة هنيئة إذ نال الثواب ونجا من
العقاب لأنه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة الدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها جميعا قريبة المنال ، فعن البراء بن عازب قال :
يتناول الرجل من الثمر وهو نائم وعن عطاء عن سلمان عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : لا يدخل الجنّة أحدكم الّا بجواز : بسم الله
الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية.
فهذه حال المؤمنين إذ يقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في الجنّة التي دخلتموها (هَنِيئاً) خالصا من الكدر (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي بما قدّمتم (فِي الْأَيَّامِ
الْخالِيَةِ) يعني في الأيام الماضية في الدنيا.
* * *
(وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥)
وَلَمْ
أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ
الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا
يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥)
وَلا
طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ
إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))
٢٥ إلى ٢٩ ـ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِشِمالِهِ ...) بعد ذكر أهل الجنّة ذكر سبحانه أهل النار فقال عزّ من قائل
، وأما أصحاب الشمال فإن من أعطي كتابه : صحيفة أعماله بشماله (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتابِيَهْ) يتمنّى أنه لا يعطى كتابه لما فيه من القبائح والسيئات
والمعاصي التي تسوّد الوجه (وَلَمْ أَدْرِ ما
حِسابِيَهْ) أي ويا ليتني لم أعرف أي شيء عن حسابي لأن أعمالي كلها
كانت سيئة (يا لَيْتَها كانَتِ
الْقاضِيَةَ) أي يا ليت حالي كانت موتة واحدة أصير فيها إلى العدم ولا
أعود إلى الحياة مرة ثانية (ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ) فإن مالي لم ينفعني ولم يدفع عني عذاب الله مع أنني قضيت
عمري في جمعه وتركته للورثة (هَلَكَ عَنِّي
سُلْطانِيَهْ) أي قد ذهب عني ما كنت أعدّه حجة لي عند الله ، وقد زال
أمري ونهيي في الدنيا ولا أمر اليوم لي ولا نهي ولا حول ولا قوة إلّا لله تبارك
وتعالى.
٣٠ إلى ٣٧ ـ (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ ...) الخطاب موجّه لملائكة العذاب حيث يقال لهم : خذوا هذا
العاصي فأوثقوه بالغلّ ، أي
القيد وشدّوا إحدى
يديه وإحدى رجليه إلى عنقه بسلاسل من نار (ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ) أي أدخلوه النار وأذيقوه حرّها ولهبها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي اجعلوه ملفوفا في سلسلة طولها سبعون ذراعا. وقال سويد
بن نجيع : إن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب
من حرّها ، وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب استحقاقه لهذا العذاب الشديد فقال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ
الْعَظِيمِ) أي أنه كان لا يصدق بوحدانية الله تعالى في دار التكليف (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي أنه كان لا يحث الناس على إعطاء الزكاة للمحتاجين ولا
يتصدق على الفقراء (فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي ليس له صديق تفيده صداقته يوم القيامة (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أي وليس له أكل إلّا من صديد أهل النار وما يجري منهم من
قيح ودماء وغيرهما. وقيل إن أهل النار درجات ، فمنهم من طعامه الغسلين ، ومنهم من
طعامه الزّقوم ، ومنهم من طعامه الضريع (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا
الْخاطِؤُنَ) أي لا يأكل الغسلين المذكور إلّا المذنبون المتعمّدون
الجائرون عن طريق الحق ، وهم العصاة والمعاندون الكافرون.
* * *
(فَلا أُقْسِمُ بِما
تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ
(٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ
كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ
لَحَسْرَةٌ عَلَى
الْكافِرِينَ
(٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))
٣٨ إلى ٤٣ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَما
لا تُبْصِرُونَ ...) هذا ردّ لقول المشركين الذين كذّبوا بالقرآن فكأنه قال سبحانه
: ليس الأمر كما يزعمون وحرف «لا» هنا زائدة فمعناه : أقسم بما ترون من الأشياء
وبما لا ترون (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ) هو محمد صلىاللهعليهوآله. وقيل إنه نفي للقسم ومعناه أن هذا الأمر لا يحتاج إلى قسم
لوضوح الأمر في أن القرآن قول رسول كريم نقله له الرسول الأمين جبرائيل عليهالسلام عن الله عزوجل (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) أي وليس بقول شاعر تؤمنون به إيمانا قليلا (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ) أي ليس بقول ساحر حتى تعتبروه اعتبارا قليلا ، فقد عصم
سبحانه رسوله عن الشعر الذي يدعو إلى الهوى ، وعن الكهانة التي هي سجع يفتن الحجى
، والقرآن كلام خراج عن تلك الأنواع وهو فريد في بلاغته وإعجازه ، فهو (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل من عند الله تبارك وتعالى وحيا نقله جبرائيل (ع)
بلفظه.
٤٤ إلى ٤٧ ـ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ ...) أي ولو اخترع محمد صلىاللهعليهوآله كلاما وادّعى انه من عندنا (لَأَخَذْنا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ) أي لكنّا أخذناه بيده اليمنى إذلالا له ولقطعناها ، وقيل
لأخذنا بقدرتنا وسلطاننا (ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ولكنّا نقطع وتينه وهو وريد الدم في عنقه نقطعه لنهلكه
إذا كذب علينا. وقيل إن الوتين عرق في القلب متصل بالظهر والعنق (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) أي وما من أحد منكم يحجزنا ويمنعنا عنه أو يقدر أن يدفع
عقوبتنا عنه لو تقوّل علينا كذبا ، فهو صادق فيما يقوله ولا ينقل إلّا عنّا.
٤٨ إلى آخر السورة
المباركة ـ (وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ...) أي أن القرآن
عظة وعبرة لمن
يتجنّب سخط الله تعالى وغضبه ويعمل بطاعته (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ) نعرف بالتأكيد (أَنَّ مِنْكُمْ
مُكَذِّبِينَ) أي أن منكم من لا يصدّق بالقرآن ويكذّب قول رسولنا وينكر
كتابنا المنزل عليه (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ
عَلَى الْكافِرِينَ) فهذا القرآن يكون حسرة عليهم يوم القيامة إذ لم يعملوا بما
فيه في دار الدنيا فيندمون حين لا ينفع الندم (وَإِنَّهُ لَحَقُّ
الْيَقِينِ) أي أن القرآن يقين لا شك فيه ، واليقين هو الحق وقد
أضافهما إلى بعضهما زيادة في التأكيد (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) هذا الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ويراد به سائر المكلّفين لينزهوه سبحانه ، وتعالى عمّا لا
يليق به من صفات غيره لأنه جلّ وعزّ عن أن يشاركه أحد في عزّه وسلطانه وسامي
صفاته.
* * *
سورة المعارج
مكيّة وآياتها ٤٤
نزلت بعد الحاقة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥)
إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))
١ إلى ٤ ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ...) أي دعا داع على نفسه بوقوع العذاب عليه عاجلا ففي المجمع
عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام قال : لمّا نصّب رسول الله صلىاللهعليهوآله عليّا عليهالسلام يوم الغدير وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، طار ذلك في
البلاد ، فقدم على النبيّ (ص) النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن
نشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة
والزكاة فقبلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعليّ
مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال : والله الذي لا إله إلّا هو إنّ
هذا من الله. فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول :
اللهم إن كان هذا
هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ،
وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ ...) فقد سأل السائل عذابا واقعا (لِلْكافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دافِعٌ) أي لا يدفعه عنهم شيء لأنه نازل عليهم (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) قيل هي معارج السماء ، أي طريق عروج الملائكة ، مفردها :
معراج وهو المصعد (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي تصعد بواسطة تلك المعارج ، والروح هو جبرائيل الأمين عليهالسلام وقد اختصه بالذكر تشريفا له. فهم يصعدون (إِلَيْهِ) أي الى الموضع المعيّن للعروج والذي لا يتجاوزونه لأنه
محدّد مقدّر ، يعرجون إليه بأمره سبحانه (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي أن مكان عروجهم الذي يصلون إليه يحتاج غيرهم إلى خمسين ألف
سنة حتى يصل إليه سيرا من الأرض إلى ما فوق السماوات السبع ، وقيل معناه أنه من
أول نزول الملائكة في الدنيا وأمره ونهيه وقضائه سبحانه بين الخلائق إلى آخر
عروجهم الى السماء يوم القيامة يكون المقدار خمسين الف سنة ، وهو عمر الدنيا ولا
يعلم ما مضى منها وما بقي إلّا الله تبارك وتعالى. وقيل إن يوم القيامة مقداره
خمسون ألف سنة تقضى فيه الأمور وتجري الأحكام بين العباد في تلك المدة ، وروى أبو
سعيد الخدري أنه قيل : يا رسول الله ما أطول هذا اليوم؟ فقال : والذي نفس محمد
بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا. وروي
عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه قال : لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف
سنة من قبل أن يفرغوا ، والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة. وعنه عليهالسلام أيضا أنه قال : لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في
الجنة ، وأهل النار في النار.
٥ إلى ٧ ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ...) أي اصبر يا محمد على تكذيبهم لقولك ، وليكن صبرك جميلا لا
شكاية ممّا تلاقيه ولا جزع مما يقابلونك به وممّا تقاسيه من أذاهم (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) أي يرون مجيء يوم القيامة
وحلول العقاب بهم
أمرا بعيدا مستبعدا لأنهم لا يؤمنون بصحته (وَنَراهُ قَرِيباً) ونحن نرى حلوله قريبا إذ كلّ آت قريب ... ثم شرع سبحانه في
وصف يوم القيامة فقال عزّ من قائل :
* * *
(يَوْمَ تَكُونُ
السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١)
وَصاحِبَتِهِ
وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ
الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))
٨ إلى ١٠ ـ (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ
...) أي يوم تصير السماء كورديّ الزيت ـ العكر ـ وهو ما يبقى
راسبا في أسفل الزيت من الكدر ، وقيل كعكر القطران أو كالفضّة أو النحاس المذابين (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي تصير كالصوف المصبوغ المنفوش. وقال الحسن : إنها أولا
تصير كثيبا مهيلا ، ثم تصير عهنا منفوشا ، ثم تصير هباء منثورا (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي لا يطلب صاحب من صاحب يرأف به أو يشفع له أو يدفع عنه
لانشغال كل واحد بنفسه. والحميم من تختصّه بمودّتك واشفاقك قريبا كان في الرحم أو
بعيدا.
١١ إلى ١٤ ـ (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ
لَوْ يَفْتَدِي ...) بعد أن بيّن سبحانه أن الحميم لا يتعاطى مع حميمه لانشغاله
بنفسه وبما هو فيه ، قال : يبصّرونهم : أي يشاهد الكفّار بعضهم بعضا ليعرفوا سوء
مآلهم
وتعاسة مصيرهم ،
ثم لا يتعارفون بعدها ويفرّ بعضهم من بعض. وقيل يرى المؤمنون الكافرين وما هم
عليهم من سوء الحال فيشمتون بهم ويسرّون بما هم فيه من النجاة بالنسبة للكافرين.
بل قيل إن الملائكة يبصّرون الناس فيقودون أهل الجنّة للجنّة ، وأهل النار للنار ،
و (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يحب العاصي ويتمنّى (لَوْ يَفْتَدِي) لو يقدّم فداء عن نفسه (مِنْ عَذابِ
يَوْمِئِذٍ) يوم القيامة ، لافتدى (بِبَنِيهِ) وهم أعزّ المخلوقات عليه (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته التي كان يسكن إليها ويؤثرها (وَأَخِيهِ) الذي كان جناحه ومعينه (وَفَصِيلَتِهِ) عشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) تحميه في المصائب والشدائد (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) أي يتمنى أن لو يفتدي بجميع المخلوقات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يخلّصه هذا الفداء من العذاب في نار جهنم.
* * *
(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى
(١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ
(٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤)
لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ
مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩)
إِلاَّ
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١)
وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ
هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي
جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))
١٥ إلى ١٨ ـ (كَلَّا إِنَّها لَظى ، نَزَّاعَةً
لِلشَّوى ...) هذا إنكار لزعم الكافر بأن بنيه أو صاحبته أو أخيه أو
غيرهم ينجيه من العذاب. لا ، إنه لا ينجيه أحد و (كَلَّا) ردع وتنبيه ، يعني لا ينجي أحد أحدا فارتدعوا عمّا أنتم
فيه في دار الدنيا ، أما في الآخرة فإنها لظى : أي نار جهنّم المحرقة ، وسمّيت لظى
لأنها تشتعل فتتلظّى وتلتهب بأهلها ، والعقبة قصة موقف الكافرين معها وجها لوجه
وهي بهذه الحالة ، وهي (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي تشوي الأطراف وتشوي لحوم الأجسام فتنزع الجلود واللحوم
بالحريق ، وتحرق أمّ الرأس وتأكل الدماغ و (تَدْعُوا) إلى نفسها (مَنْ أَدْبَرَ) الطرف عن الإيمان (وَتَوَلَّى) انحرف عن طاعة الله تعالى ، فلا يفوتها عاص من العصاة بل
يجيبونها مكرهين ، وقيل : إن زبانية جهنّم وملائكة العذاب يدعون أهل النار ـ إلى
النار ـ كما قيل إن الله تعالى ينطقها فتدعو أهلها (وَ) من (جَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أي خبّأه في الأوعية وأمسكه ولم يدفع منه صدقة ولا زكاة
ولم ينفقه في طاعة ربّه ، وقيل جمعه من باطل ، ومنعه من حق.
١٩ إلى ٢٣ ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ...) أكدّ سبحانه أن الإنسان خلق جزوعا ، والهلع سدة الحرص ،
وقيل إن تفسير (هَلُوعاً) هو : (إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) يعني أنه لا يصبر إذا أصابه فقر ولا يحتسبه ، وإذا أصابه
الغنى منعه من البر والإحسان ، ثم إنه تعالى أعلم بمخلوقاته ، فقد استثنى المؤمنين
من ذلك فقال : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي الذين يستمرّون على صلواتهم ولا ينقطعون عن أدائها ولا
يتركونها في حال من الأحوال.
٢٤ إلى ٢٨ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ ...) يعني في أموالهم حقّ معيّن مفروض وهو الزكاة المعدّة (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وهما الذي يكون محتاجا ويسأل ، والفقير الذي يتعفّف ولا
يسأل ، وقد مرّ تفسير مثلها. وقد روي أن الصادق عليهالسلام قال : الحق المعلوم ليس من الزكاة ، وهو الشيء الذي تخرجه
من مالك إن شئت كلّ جمعة وإن شئت كلّ يوم ، ولكل ذي فضل فضله (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ) أي يوقنون بيوم القيامة والحساب ولا يشكّون فيه (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ
مُشْفِقُونَ) يعني خائفون من العذاب الذي أعدّه الله للكافرين في الآخرة
(إِنَّ عَذابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي أنه لا يؤمن نزوله في الكفّار والعصاة. وقيل إنه غير
مأمون لأن المكلّف لا يعرف هل أدّى جميع واجبه فنجا من العذاب ، أم أنه قصّر في
بعض الواجبات ، فاستحق عذابا عليها؟.
٢٩ إلى ٣١ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ ...) أي يضاف إلى من وصف سبحانه في أعلاه ، الذين يحفظون فروجهم
عن المناكح المحرّمة ويمتنعون عن مباشرة النساء في كلّ وجه (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) الشرعيات (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) من الإماء اللواتي يشترونهنّ ويملكونهنّ (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون على نكاحهنّ لأنهنّ محلّلات لهم (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب (وَراءَ ذلِكَ) أي وراء ما أباحه الله تعالى له من المناكح (فَأُولئِكَ) أي الذين يطلبون سوى ما أحلّه الله سبحانه (هُمُ العادُونَ) أي المتعدّون لحدود الله.
٣٢ إلى ٣٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي الحافظون للعهود المؤدون للأمانات : كالودائع والوصايا
وغيرها ، أو أن الأمانات هي ما أخذه الله تعالى على عباده من الإيمان بما أوجبه
عليهم والتصديق بما نهاهم عنه (وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي أنهم يؤدون الشهادات على وجهها الصحيح ، ويخبرون بالشيء
الذي رأوه إذا سئلوا عنه إخبارا صحيحا لا زيادة فيه ولا نقصان (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلَواتِهِمْ
يُحافِظُونَ) مرّ تفسير قريب منها منذ آيات ، ومعناها هنا المحافظة على
أوقات الصلوات وأركانها ، وعن أبي الحسن عليهالسلام ـ كما في رواية محمد بن الفضيل ـ قال : أولئك أصحاب
الخمسين صلاة من شيعتنا ، ثم بيّن سبحانه أن جميع من وصفهم بالصفات السابقة (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي يكونون في الجنان محترمين معظّمين ينالون كل إكرام بما
ينالونه من جزيل الثواب.
* * *
(فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦)
عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨)
كَلاَّ
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً
أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))
٣٦ إلى ٣٨ ـ (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ
مُهْطِعِينَ ...) المهطع هو الذي يقبل ببصره على الشيء لا يزيله عنه ، كنظر
العدوّ إلى عدوّ يتربص به شرّا. فالله سبحانه وتعالى يخاطب نبيّه الكريم قائلا :
ما بال هؤلاء الكافرين بوحدانية الله وبرسالتك ممّن يلتفّون حولك ويسرعون إليك
ويحيطونك بأبصارهم ناظرين إليك بالعداوة وهم (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ
الشِّمالِ) أي عن يمينك وشمالك (عِزِينَ) أي متفرقين وموزّعين جماعة وفرقة فرقة. والواحدة من غرين :
عزة (أَيَطْمَعُ كُلُّ
امْرِئٍ) من هؤلاء المنافقين المحيطين بك (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كما يدخل الموصوفون بالإيمان والتصديق والعمل الصالح؟ ذلك
أنهم كانوا يقولون : إذا كان ما يقوله محمد حقا فإنّ لنا عند الله خيرا ممّا
لهؤلاء الذين اتّبعوه. وقد ردّ سبحانه وتعالى قولهم بقوله الكريم التالي :
٣٩ ـ (كَلَّا ، إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا
يَعْلَمُونَ :) أي : لا ، لا يكون الأمر كما زعموا ، ولا يدخلون الجنّة ،
فإننا خلقناهم من النّطفة القذرة التي هي من ماء مهين ، وهم في غاية الهوان عندنا
، إذ لا يستحق الجنّة أي مخلوق بهذا الأصل الدنيء ، بل بالعمل الصالح وبتصديق
الرّسل وبما يرضي الخالق تبارك وتعالى.
٤٠ إلى آخر السورة
ـ (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ...) قد مرّ تفسير مثل هذا القسم في سورة الحاقة ، والمشارق هي
مشارق الشمس ، والمغارب مغاربها فإن لها ثلاثمئة وستّين مطلعا بحسب أيام السنة ولا
تعود لمطلع أي يوم إلّا في مثله من العام القابل ، فقد أقسم تعالى بهذا التدبير
الحكيم وهذا التقدير الدقيق (إِنَّا لَقادِرُونَ
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي اننا قادرون على إهلاكهم وخلق من هم خير فيهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ولن يسبقنا على عذاب الكفار والمكذّبين أحد ، ولا يفوتنا
إدراكهم ، ولن يغلبنا عنادهم وسيقعون في قبضة عبادنا من ملائكة العذاب لينالوا
جزاءهم الأليم (فَذَرْهُمْ) دعهم يا محمد في باطلهم (يَخُوضُوا) في غيّهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) يلهوا بما هم فيه من اللعب (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي يوم القيامة الذي وعدناهم به فلم يصدّقوا به ، وذلك (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور ، يخرجون (سِراعاً) مسرعين لأن الملائكة تسوقهم بسياطها ، وتراهم (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي مثل من يسرعون إلى علم نصب لهم يريدون أن يبلغوه
ويلتفّوا من حوله
، وقيل كأنهم يسرعون إلى أوثانهم التي كانوا يعكفون على عبادتها (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) خاضعة ذليلة منكّسة إلى الأرض لا يستطيعون رفعها من شدة
أهوال ذلك اليوم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) يغشاهم خزي وحقارة وهوان (ذلِكَ الْيَوْمُ
الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) يعني فهذا هو اليوم الذي وعدناهم به في دار الدنيا وأيام
التكليف فكذّبوا به وجحدوه ، فرأوه بأم العين حين بعثهم ونشرهم.
* * *
سورة نوح
مكيّة ، وآياتها
٢٨ نزلت بعد النّحل.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا
جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))
١ ـ ٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ
...) هذا إخبار منه سبحانه لرسوله صلىاللهعليهوآله ولسائر عباده ، يقول فيه : إنّا بعثنا نوحا إلى قومه ،
رسولا منّا لهم (أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي حذّرهم من العذاب إذا لم يؤمنوا بنا وبرسالتك إليهم.
وهذا إنذار من عذاب لهم يقع في الدنيا قبل عذاب الآخرة. وعبارة (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) في محل نصب بأرسلنا لأن أصلها : بأن أنذر قومك ، فلمّا
سقطت الباء افضى الفعل. ثم حكى سبحانه إنّ نوحا (ع) امتثل الأمر ، و (قالَ
يا
قَوْمِ) وأضافهم إلى نفسه احتراما لهم وتقريبا وتحريكا لعواطفهم
مثل من يقول : أنتم عشيرتي يسرّني ما يسرّكم ، ويسوؤني ما يسوؤكم ، فيا قومي (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي رسول مخوّف موضح لصدق تخويفي وتحذيري ، وموضح لأمور
الدين ومعالم ما أدعوكم إليه (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
وَاتَّقُوهُ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به واجتنبوا غضبه وسخطه (وَأَطِيعُونِ) واسمعوا كلامي واستجيبوا لي في ما آمركم به فإن طاعتي من
طاعة الله الذي إن أطعتموه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) أي يتجاوز عن معاصيكم السالفة ، ولفظة (مِنْ) هنا زائدة ، أي : يغفر لكم ذنوبكم التي سبق أن ارتكبتموها
إذا آمنتم بقولي (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) فقد اشترط عليهم الأجل في الوعد المسمّى بعبادة الله تعالى
، فاذا لم تقع منهم الطاعة ولا العبادة أخذوا بعذاب الاستئصال قبل أجلهم المحدود
الذي هو الأجل الأقصى (إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) يعني أن أجله الأقصى الذي عيّنه لإهلاككم لا يؤخّر عن وقته
(لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) لو كنتم تعرفون ذلك تؤمنون به ، والأجل الأقصى هو الذي
سمّاه (أَجَلَ اللهِ) وهو يوم القيامة الذي سيقع في موعده ويكون البعث فيه
للحساب.
* * *
(قالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي
أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَيَجْعَلْ
لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْواراً (١٤))
٥ ـ ٧ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي
لَيْلاً وَنَهاراً ...) أي قال نوح عليهالسلام : يا ربّ إني دعوت قومي إلى توحيدك وعبادتك وترك الشّرك ،
وإلى الاعتراف بنبوّتي ، وفعلت ذلك معهم ليلا ونهارا (فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي فكانوا ينفرون من دعوتي ، وكلمّا كررتها عليهم كانوا
يفرّون مني ولا يقبلون قولي (وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ) إلى الوحدانية والإخلاص في العبودية لك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) لتعفو عن سيئاتهم وتمحو ذنوبهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدّوا آذانهم بأصابعهم حتى لا يسمعوا كلامي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) غطّوا وجوههم بثيابهم حتى لا يروني (وَأَصَرُّوا) داموا وأقاموا على كفرهم وعنادهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي : أنفوا وتكبّروا وترفّعوا عن قبول الحق ، وقيل إن
الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح عليهالسلام فيقول له : احذر هذا لا يغوينّك ، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه
وأنا مثلك فحذّرني مثل ما حذّرتك.
٨ ـ ١٢ ـ (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ
وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ...) أي أنني دعوتكم سرّا وعلانية. وقيل إنه سلام الله عليه
أعلن الدعوة مع جماعة وأسرّها مع جماعة ثم عكس ذلك فأعلنها إلى هؤلاء وأسرّها مع
أولئك ، وذهب معهم كل مذهب وألان لهم جانبه فما أجابوا دعوته (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا منه المغفرة والعفو عن معاصيكم وكفركم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) يتجاوز عمّن استغفره إذا تاب وأناب ، فافعلوا ذلك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) أي يمطركم بالغيث ويجعل السماء كثيرة الإدرار عليكم. وقيل
إنه عليهالسلام قال لهم ذلك في وقت كانوا قد أصيبوا فيه بقحط شديد وهلك
أولادهم فرغّبهم بذلك وأطمعهم برحمة الله تعالى
(وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثّر لكم أموالكم وأولادكم بعد أن ذهبت من القحط (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين مزدهرة في الدنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
أَنْهاراً) تروونها بها ، وكان نوح عليهالسلام قد قال لهم : هلمّوا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا
والآخرة. وللاستغفار فوائد لا تحصى فقد روى الربيع بن صبيح أن رجلا أتي الحسن
السبط عليهالسلام فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن استغفر الله ، وأتاه
آخر فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا اليه الفقر ،
فقال له استغفر الله ، وأتاه آخر فقال : ادع الله أن يرزقني أيضا ، فقال له استغفر
الله. فقلنا : أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا ، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار؟
فقال : ما قلت ذلك من ذات نفسي ، إنما اعتبرت منه قول الله تعالى حكاية عن نبيّه
نوح ، إنه قال لقومه : استغفروا ربّكم إنه كان غفارا.
١٢ ـ ١٤ ـ (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً
...) قال لهم نوح عليهالسلام لقومه على سبيل التوبيخ والتبكيت : ما لكم أيها الكفّار لا
تخافون غضب الله ولا تخشون عظمته وقدرته ، ومعنى ذلك أنكم ما بالكم لا تخافون
عقابا ولا تطمعون بثواب (وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْواراً) أي أوجدكم متطوّرين نطفة إلى علقة فمضغة فعظام كساها لحما
وأنشأ من ذلك هذا الخلق القويم المستقيم بعد أن تدرّج في ذلك حالا بعد حال إلى أن
صار على حاله المعلومة ، فكيف لا تطيقونه ولا تهابون قدرته وعظمته؟
* * *
(أَلَمْ تَرَوْا
كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥)
وَجَعَلَ
الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧)
ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها
سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))
١٥ و ١٦ ـ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ...) هذا خطاب منه سبحانه لسائر المكلّفين ينبّههم فيه إلى
توحيده لأنه الخالق القادر ، وهو يعني أنكم أفلا تنظرون إلى السماوات السّبع التي
خلقها الله تعالى طباقا : أي واحدة فوق الأخرى كالقباب ، ولفظة (طِباقاً) منصوبة على أنه نعت للفظة (سَبْعَ) أي سبع سماوات ذات طباق ، أو هو منصوب على أن يكون التقدير
أخلقهنّ طباقا (وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً) أي جعله نورا في السماوات والأرض : وجه منه يضيء للأرض ،
والوجه الآخر يضيء للسماوات.
وقيل إن معنى (فِيهِنَ) هو معهنّ ، أي جعل القمر منيرا معهنّ ، وقيل بل جعله نورا
في حيّزهنّ وإن لم يضيء إلّا واحدة منهنّ (وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِراجاً) أي مصباحا ينير الأرض ويضيء لأهلها جميعا كما يضيء المصباح
للإنسان.
١٧ ـ و ١٨ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً ...) لفظة (نَباتاً) مصدر لفعل محذوف : والتقدير : أنبتكم فنبتّم نباتا ، وقال
الزجاج : إنه محمول على المعنى لأن معنى (أَنْبَتَكُمْ) جعلكم تنبتون نباتا. وهذا يعني مبتدأ خلق آدم الذي خلق من
الأرض ، والناس من ولده ، وهو سبحانه ينشئ جميع الناس بالتغذي على ما تنبته الأرض
من حبوب وفواكه وغير ذلك فكل غذاء مرجعه إلى الأرض (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ
فِيها) حين الموت يرجعكم إلى الأرض فتدفنون فيها وتنحلّ فيها
أجسادكم (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث والنشور إخراجا يتمّ بأمره سبحانه وقد ذكر
هذا المصدر لتأكيد ذلك الإخراج.
١٩ ـ ٢٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
بِساطاً ...) أي جعلها سبحانه مبسوطة ليسهل عليكم السير والعمل فيها
والاستقرار عليها ، وقد فسّر ذلك بقوله تعالى : (لِتَسْلُكُوا مِنْها
سُبُلاً فِجاجاً) أي لتقطعوا طرقا
واسعة ، وقيل :
سبلا في الصحاري ، وفجاجا في الجبال. وقد ذكر سبحانه جميع هذه النّعم على العباد
ليتعظوا ويفكّروا ويوحدوه ويخلعوا الشّرك ويؤمنوا بكونه واحدا أحدا مدبّرا حكيما
خالقا رازقا منّانا تجب طاعته وعبادته وشكره على نعمه الجليلة الجميلة.
* * *
(قالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ
خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا
خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ أَنْصاراً (٢٥))
٢١ ـ ٢٥ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي
...) هذا عود إلى ذكر نوح عليهالسلام الذي شكا عناد قومه فخاطب ربّه سبحانه على سبيل الدعاء
قائلا : إلهي إنّ قومي لم يطيعوني فيما أمرتهم به ولا فيما نهيتهم عنه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي أنهم عصوني وتابعوا أغنياءهم وغيّرهم ما أعطوا من مال
وولد ، وسخروا مني وقالوا لو كان هذا رسولا لأعطاه الله مالا وولدا ولكان ذا ثراء
وجاه. والخسار هو الهلاك كما لا يخفى ، فإن المال الذي لا يكتسب من أبواب الحلال ،
ولا ينفق في أبواب الحلال ، والولد الذي لا ينشأ على الإيمان والتقوى ، ولا يعمل
بأوامر الله وينتهي عن نواهيه ، كلاهما يؤدّيان إلى الهلاك في الدنيا وفي
الآخرة. فقد اتّبع
فقراؤهم اغنياءهم ولم يسمعوا لدعوتي (وَمَكَرُوا مَكْراً
كُبَّاراً) أي احتالوا في الدين احتيالا كبيرا جاوز الحد ، وقالوا فيه
قولا عظيما واجترأوا على الله تعالى بالشّرك مرة وبالتكذيب به مرة (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تدعوا عبادة الأصنام التي اتّخذتموها أربابا ، وقد
ذكروا بعضها فقالوا : (وَلا تَذَرُنَّ
وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهي بعض معبوداتهم من الأحجار ، وقد عبد بعضها العرب من
بعدهم. وقيل إن هذه الأسماء كانت لصلحاء مؤمنين كانوا بين آدم ونوح عليهماالسلام وقد كان من بعدهم يقدسونهم ويتّبعون طريقتهم في العبادة ،
فدخل إبليس ووسوس لهم أن يصوّروهم ليصيروا أنشط على العبادة ، ففعلوا واتخذوهم
أصناما يعبدونها (وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً) أي حاد عن الحق بسبيلهم كثير من الناس. وهذا مثل قوله
تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)(وَلا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي فلا تزدهم يا ربّ إلّا إهلاكا ، وهذا أيضا مثل قوله
تعالى (إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ، أي في هلاك وعقوبة. فزدهم يا ربّ منعا عن الطاعات
وانغماسا في المعاصي عقوبة لهم على الكفر والعناد فإنهم إذا فعلت بهم ذلك ومنعت
عنهم ألطافك وعطاياك قد يمتثلون ويطيعون ويعودون إلى صوابهم. فهؤلاء الظالمون (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من خطيئاتهم فإن (مِمَّا) هي (مِنْ) و «ما» المزيدة ،
فمن أجل ما اقترفوه من الذنوب وارتكبوه من السيئات والكبائر (أُغْرِقُوا) بالطوفان على وجه العقوبة الدنيويّة (فَأُدْخِلُوا ناراً) في الآخرة ليعاقبوا عقاب الآخرة (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ أَنْصاراً) أي فلم يجدوا أحدا يمنع عنهم سخط الله تعالى ويدفع عنه
عقوبته وينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقد عبّر سبحانه بما يدل على الماضي
والمقصود معنى المستقبل ، وهذا جائز ومعروف لصدق الوعد به ولحتميّة وقوعه.
* * *
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ
تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))
٢٦ إلى آخر السورة
ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ ...) وتابع نوح عليهالسلام دعاءه على الظالمين من الكافرين المعاندين الذين آذوه
ورفضوا دعوته بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، فقال : ربّ لا تترك على
وجه الأرض من الكافرين صاحب دار ، ولا تدع أحدا إلّا أهلكته. وقيل إنه سلام الله
عليه لم يتجرّأ على الدعاء عليهم بهذه القسوة إلّا بعد أن انزل عليه قوله تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ومن أجل ذلك قال سلام الله عليه : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) إذا تركتهم دون عقاب (يُضِلُّوا عِبادَكَ) يفتنوهم عن دينهم ويغروهم بخلافه ويغوونهم (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي ويكون أولادهم مثلهم. وهذا أيضا كان نوح (ع) قد علمه من
ربّه حتى نطق به في دعائه إذ أيقن ان كل من ولد منهم سيكون كافرا بعد بلوغه سنّ
التكليف لا محالة ، وعن مقاتل وعطاء والربيعة : ان نوحا عليهالسلام قال ذلك لأنّ الله تعالى أخرج من أصلابهم من يكون مؤمنا ثم
أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، فحينئذ دعا عليهم
بعد أن عرّفه الله تعالى حالهم ومآلهم ، وقد كانوا حين هلاكهم ليس منهم صبيّ واحد
... ثم دعا نوح عليهالسلام لنفسه وللمؤمنين قائلا (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) وأبوه اسمه لمك بن موشلح ، فأمه اسمها سمحاء بنت أنوش ،
وهما مؤمنان ، وقيل أراد بدعائه أبويه آدم وحوّاء (وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ
مُؤْمِناً) أي دخل داري ، وقيل مسجدي ، مصدّقا بك يا ربّ وبدعوتي إلى
توحيدك وعبادتك ، وقيل أراد بيت محمد صلىاللهعليهوآله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) جميعا ، وقيل من أمة محمد (ص) كما ذكر الكلبي (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
تَباراً) أي خرابا ودمارا وهلاكا.
* * *
سورة الجن
مكيّة وآياتها ٢٨
نزلت بعد الأعراف.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى
جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ
رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))
١ ـ ٢ ـ (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوآله ، أي قل يا محمد للناس أوحى إليّ ربّي عزوجل أن جماعة من الجنّ استمعوا إليّ وأنا أقرأ القرآن على الناس.
والجنّ جيل
لطاف الأجسام
رقاقها لهم صور خاصة بهم ، فالإنسان مخلوق من الطين ، والملك مخلوق من النور ،
والجن مخلوق من النار ، فقد أصغى نفر من هؤلاء الجنّ إلى تلاوة القرآن (فَقالُوا) فيما بينهم ، أي قال بعضهم لبعض : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي داعيا للتعجّب
لإعجازه ، ولخروج تأليفه عن المعتاد الذي نسمعه من الكلام ، ولمباينته لقول الناس
فصاحة ونظما ونظاما وتشريعا وأحكاما واحتواء لأخبار الأولين والآخرين ، ولما كان
وما يكون ، جريا على لسان رجل أميّ من قوم أميين ، ولذلك سمّوه عجبا ، وقالوا :
إنه (يَهْدِي إِلَى
الرُّشْدِ) أي يدل عليه ، والرّشد هو الهدى ... ضد الضلال ... (فَآمَنَّا) صدّقنا (بِهِ) وأنه من عند الله تبارك وتعالى (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فسنوحّده ونخلص في عبادتنا له دون شريك أو صاحبة. وهذا يدل
على أن نبيّنا صلىاللهعليهوآله مبعوث إلى الجن والإنس على السواء ، ويدل على ان الجنّ
يعرفون لغتنا وأنهم عقلاء مفكّرون متدبّرون. وروي ان النفر الذي استمع إلى النبي (ص)
كانوا سبعة من جن نصيبين رآهم النبيّ (ص) فآمنوا به وأرسلهم إلى سائر الجن فبلّغوا
رسالته ونقلوا دعوته.
٣ ـ ٤ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا
اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ...) هذا الكلام المقدّس معطوف على القول السابق الذي تكلّم به
الجنّ. إنّا سمعنا قرآنا عجبا ، ولذلك اختاروا كسر همزة (إن) فيه ، ومن فتحها عطفه
على (فَآمَنَّا بِهِ) بتقدير : وآمنّا بأنه تعالى جدّ ربّنا ، ومعناه تعالت عظمة
ربّنا وتعالت صفاته وذاته المقدّسة عن الصاحبة ، والشريك والولد ، وجلّت قدرته
وعلا ذكره ، وعظم سلطانه وسمت آلاؤه عن ذلك ، وليس لله تعالى جد ، ولكن الجنّ قالت
ذلك فحكاه سبحانه بحسب قولهم كما في المرويّ على الصادقين عليهماالسلام(وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي كان يقول الجاهل منّا قولا سفيها فيه خروج عن حدود الحق
الذي ينبغي أن يقال فيه تبارك وتعالى ، وقصدوا بسفيههم إبليس اللعين الذي هو من
الجنّ والذي يغري
الخلق بالمعاصي والكفر.
٥ ـ ٧ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) هذا اعتراف منهم بأنهم كانوا يحسبون ما يقال عن الله صدقا
، وأنه ذو صاحبة وولد ، وأنه لن يقول الإنس والجنّ (عَلَى اللهِ كَذِباً) ولكننا بعد سماع القرآن ظهر لنا الحق ورجعنا عن تقليد
المفترين الذين يقولون بالصاحبة والشريك فقد باتت الحجة وظهر الدليل القاطع على
وحدانيّته وتنزيهه عن ذلك (وَأَنَّهُ كانَ
رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي يلجأون إليهم ويعتصمون بهم مستجيرين من كل مكروه ، فقد
كان الواحد من العرب إذا نزل إلى الوادي ليلا يقول عند دخولها : أعوذ بعزيز هذا
الوادي من شرّ سفهاء قومه. وكانوا يزعمون أن الجن تحميهم وتحفظهم من النوازل
والدواهي. وقيل بل معناه أن رجالا كانوا يستعيذون من شرّ الجنّ وأذاهم ، والله
تعالى أعلم بما قال (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) يعني فزاد الجنّ الإنس ، إثما وكفرا وطغيانا : أو على
العكس فزادت استعاذة الإنس الجنّ طغيانا وظنّوا أنهم سادوا الإنس وتفوّقوا عليهم
لأنهم لجأوا إليهم واستعاذوا بهم (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَما ظَنَنْتُمْ) أي زعموا كما زعمتم (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ
اللهُ أَحَداً) أي لن يرسل رسولا بعد موسى وعيسى عليهماالسلام وهذه الآية الكريمة وما قبلها فيها معنى التوبيخ لعتاة
العرب وجبابرة الكفّار إذ كانوا أولى بالتفكّر والتدبّر ليهتدوا ويؤمنوا بالرسول (ص)
لأنه من جنسهم ولغته من لغتهم وهو منهم ، وكان ينبغي أن يصدّقوا نبوّته ودعوته إلى
توحيد الله وعبادته والإيمان بالبعث الذي كانوا ينكرونه.
* * *
(وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً
رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))
٨ ـ ١٠ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ ...) لمسناها بمعنى التمسنا أي ابتغينا الوصول إليها لنسترق
السمع منها ونعلم ما يجري فيها فوجدنا أنها ملئت أبوابها (حَرَساً شَدِيداً) حفظة من الملائكة أقوياء على صدّنا عن ذلك أشداء في ردعنا (وَشُهُباً) جمع شهاب وهو النور الذي ينزل من السماء في وميض كالبرق
الخاطف حشوه النار المحرقة ، وكانت الملائكة ترسل تلك الشّهب على من يريد استراق
السمع من السماء (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي انه كان يتهيأ لنا في السابق أن نتّخذ مقاعد لنا قرب
أبوابها فنستمع إلى ما يجري فيها بين الملائكة (فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ) فمن يحاول منّا الاستماع بعد ظهور محمد (ص) (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يجد أن له واحدا من تلك الشّهب يرصدونه به ويرمونه به إذا
اقترب محاولا أن يستمع إلى شيء من كلام الملائكة ، فقد شدّد الله تعالى أمر
حراستها بعد بعثه نبيّنا صلىاللهعليهوآله مع أن الشّهب كانت موجودة وكانت تنزل من السماء ، ولكن رمي
الجنّ بها صار بعد البعثة المباركة (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي لا نعلم حقيقة ما أريد بعد الرمي بهذه الشّهب ، هل يدل
على انقطاع التكليف ونهاية الحياة الدنيا ونهاية حياة الجنّ والإنس (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أم أن الله تعالى أراد بالجنّ والإنس صلاحا وهداية إلى
نبيّ الزمان ، أي أنّهم لا يعلمون هل هي شهب عذاب أم شهب هداية.
* * *
(وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً
(١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً
وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا
رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))
١١ ـ ١٥ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا
دُونَ ذلِكَ ...) هذا من تمام ما قاله الجنّ ، أي أن منّا من يؤمن ويعمل
الصالحات فيكون قد حسن إيمانه وعمله ، ومنّا من يكون دونهم في الرّتبة عقيدة وعملا
ف (كُنَّا طَرائِقَ
قِدَداً) أي كنا فرقا مختلفة متباينة في رسوخ عقيدتها وصلاح عملها ،
فقد قال السدّي : الجنّ أمثالكم ، فيهم قدريّة ، ومرجئة ، ورافضة ، وشيعة (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ
اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي علمنا يقينا أننا لن نفوت قدرة الله علينا إذا شاء بنا
أمرا من الأمور لأنه قادر على أخذنا حين يريد (وَلَنْ نُعْجِزَهُ
هَرَباً) فإنه يدركنا إذا هربنا إذ نبقى تحت سلطانه وفي ملكه الذي
وسع الكائنات والوجود (وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي حين استمعنا إلى القرآن الذي هو هدى للناس صدّقنا به (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) يصدّق به ويوحّده ويعرف صفاته الكريمة ويخشاه (فَلا يَخافُ بَخْساً) لا يخشى نقصانا في الثواب الذي يستحقه (وَلا رَهَقاً) أي لا يخاف أن يلحق به ظلم ومكروه ، فلا ينقص من حسناته
ولا يزاد من سيئاته. وفي هذا القول دليل على شدة إيمان قائليه من الجنّ الذين قالوا
أيضا : (وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ) الذين أذعنوا لما أمرهم الله تعالى به (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الحائدون عن طريق الحق ، فان القاسط هو الجائر عن الحق
والمقسط هو العادل إلى الحق ، هما ضدّان (فَمَنْ أَسْلَمَ) استسلم لأمر الله (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا
رَشَداً) أي فأولئك التمسوا الهدى وطلبوا الثواب ولم يزيغوا
كالمشركين المكابرين (وَأَمَّا
الْقاسِطُونَ) العادلون عن الحق المائلون عن
الدين (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) سيكونون من أهل النار التي تحرقهم كما تحرق النار الحطب.
* * *
(وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨)
وَأَنَّهُ
لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما
أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))
١٦ ـ ١٧ ـ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ...) هذا الكلام المقدس ابتدأ الله تعالى به إنشاء حكم بأن
المستقيم على الهدى من الإنس والجنّ ينزل عليه بركات من السماء ، وقيل قصد سبحانه
مشركي مكة الذين رفع عنهم المطر سبع سنوات. وقد عنى بالماء النازل من السماء الخير
كلّه لأن الرزق إنما يكون بالمطر ، وهذا كقوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ) ... (لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقوله تعالى أيضا : (لَفَتَحْنا
عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). وقيل أيضا معناه : لو استقاموا على طريقة الكفر لوسّعنا
عليهم لنعظم المحنة عليهم ، وهو قريب للمعقول بدليل تمام الآية الكريمة : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم هل يشكرون أم يزدادون كفرا. أما إذا أريد
بالاستقامة الهدى فالمعنى : لنختبرهم كيف يكون شكرهم وهذا هو المقدّم لأنه المراد
من الاستقامة ، ففي تفسير أهل البيت عليهمالسلام ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليهالسلام : قول الله : إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا؟ قال
: هو والله ما أنتم
عليه
، وبخصوص هذه
الآية الكريمة : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)
روى بريد العجلي
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : معناه : لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمة (وَمَنْ يُعْرِضْ) ينصرف (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) عن التفكير فيما يوصله إلى معرفة الله تعالى وشكره وطاعته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي يدخله في عذاب شديد يتصعّد في المشقّة والعظم.
١٨ ـ (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا
مَعَ اللهِ أَحَداً ...) تقدير الكلام : ولأن المساجد لله ، فلا تدعوا فيها مع الله
أحدا ، واجعلوها بيوتا خالصة لذكر الله ، ولا تفعلوا فعل المشركين في الكعبة ولا
فعل أهل الكتاب في بيعهم وكنائسهم حيث يتحدّثون فيها ويتاجرون ويتسامرون. وقيل إن
المساجد هنا هي مواضع السجود ، وهي الجبهة والكفّان ، وأصابع الرجلين دعينا
الرّكبتين ، فهي لله تعالى وقد خلقها فلا يجوز أن يسجد عليها لغيره ، فقد روي أن
المعتصم العباسيّ سأل الإمام محمدا الجواد عليهالسلام عن قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ) ، فقال : هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.
١٩ ـ ٢٠ ـ (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ ...) أي لمّا أخذ عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوآله (يَدْعُوهُ) يدعو ربّه عزّ وعلا ويقول : لا إله إلا الله ، ويدعو إلى
توحيد ربّه تاليا القرآن (كادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَداً) أي تجمّع الجنّ من حوله وركب بعضهم بعضا من شدّة الزّحام
رغبة باستماع تلاوته ودعوته. وقيل هذا القول قالته الجنّ حين رجعوا إلى قومهم
ووصفوا لهم ازدحام أصحاب النبيّ (ص) من حوله حرصا على أن لا يفوتهم شيء ولذلك
يتلبّد بعضهم فوق بعض. بل قيل إنما قصد بذلك دعوة النبيّ (ص) لقريش بأن يؤمنوا
بالله ويوحّدوه ، فتكاثروا عليه ليحولوا بينه وبين دعوته وليزيلوه عمّا هو فيه ،
ولكن الله تعالى نصره عليهم ، وعلى هذا التفسير يكون ابتداء الكلام : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا
أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)
وذلك أنهم أنكروا
دعوته ورفضوها ، والله تعالى أعلم بما قال.
* * *
(قُلْ إِنِّي لا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١)
قُلْ
إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً
(٢٢) إِلاَّ
بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ
نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))
٢١ ـ ٢٤ ـ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
وَلا رَشَداً ...) أي قل يا محمد للناس : إني لا أدفع عنكم ضررا ولا أوصل لكم
خيرا من عند نفسي ، ولكنّ الله تعالى هو القادر على ذلك ، وأنا رسوله إليكم وما
عليّ إلّا البلاغ والدعوة إلى الهدى والرشاد. والآية تفصح عن أن الحول والطّول لله
عزوجل ، وأن النبيّ (ص) عبده ورسوله (قُلْ) يا محمد للمكلّفين : (إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي) أي لا يمنعني ويحميني (مِنَ اللهِ أَحَدٌ) فيدفع عنّي ما قدّره الله تعالى لي (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ولا أجد غيره ملجأ التجئ إليه طلبا للسلامة (إِلَّا بَلاغاً) أي تبليغا (مِنَ اللهِ) من وحيه (وَرِسالاتِهِ) ما جئت به عنه جلّ وعز ، أما قبولكم لذلك وإيمانكم به فإنه
ليس إليّ ولكنه راجع إليكم. ثم عقّب سبحانه بوعيد شديد لمن لم يختر الهدى لنفسه
فقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) يخالفهما ويبقى على الكفر والشّرك واقتراف الذنوب (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً) فالنّار مثواه إلى أبد الأبد. والضمير في (لَهُ) عائد إلى (مِنَ) وإن كانت من تعبّر عن المفرد والجمع ، ولذلك ـ أيضا ـ عبّر
ب (خالِدِينَ) أي جميع من يعصون يخلدونه في النار (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما
يُوعَدُونَ) أي عاينوا ما وعدناهم به من عقاب الدنيا وعذاب الاستئصال (فَسَيَعْلَمُونَ) يومئذ (مَنْ أَضْعَفُ
ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) من كلّ من المؤمنين والمشركين. وقيل إن الكافرين كانوا
يفتخرون على النبيّ (ص) بكثرتهم ويعيّرونه بقلّة أتباعه فبيّن سبحانه أن ذلك سيكون
بالعكس يوما ما.
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً
(٢٦)
إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ
قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))
٢٥ ـ إلى آخر
السورة ـ (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
...) إن محقّقة إنّ بمعنى ليس ، أي لست أعرف (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ
رَبِّي أَمَداً) أي وقتا ومهلة وحدّا ينتهي إليه. وقال عطاء : أراد أنه لا
يعرف يوم القيامة إلّا الله وحده ، فهو (عالِمُ الْغَيْبِ) يعرف متى يكون يوم القيامة الغائب علمه عن الناس (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي لا يطلع عليه واحدا من عباده. ولكنه جلّ وعزّ استثنى
بعض عباده المختارين فقال : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ) أي الأنبياء صلوات الله عليهم فإن نبوّتهم تثبت بأن يخبروا
الناس ببعض المغيّبات عند المعجزة وإظهار الآية الدالة على صدقهم. فمن ارتضاه
واختاره لرسالته يطلعه على ما شاء وما رأى له مصلحة فيه وذلك قوله سبحانه (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي يجعل له طريقا إلى معرفة ما كان قبله وما يكون بعده ،
والرّصد هو الطريق. وقيل إنه تعالى يحفظ ما يطلع على رسوله فيجعل من بين يدي رسوله
ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه من الأعداء وكيدهم
(لِيَعْلَمَ) أي ليعرف الرسول ويوقن (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) أي الملائكة. فعن سعيد بن جبير : ما نزل جبرائيل بشيء من
الوحي إلّا ومعه أربعة من الملائكة حفظة ، فيعلم الرسول أنه قد أبلغ الرسالة على
الوجه الذي أمر به. وقيل : ليعلم محمد (ص) أن الرّسل الذين سبقوه قد أبلغوا ـ جميعهم
ـ (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما أبلغ هو رسالته (وَأَحاطَ بِما
لَدَيْهِمْ) يعني : وعلم الله تعالى بما جرى بين رسله وخلقه وأنهم ـ هم
ـ لا يحيطون إلّا بما يطلعهم الله سبحانه عليه (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَداً) أي عرف جميع ما خلقه ولم يفت علمه شيء حتى مثقال الذرّة.
* * *
سورة المزّمل
مكيّة إلّا الآيات
١٠ ، ١١ و ٢٠ فمدنية ، وآياتها ٢٠ نزلت بعد القلم.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ
إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ
انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً
(٥))
١ ـ ٤ ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ...) المزّمّل هو المتزمّل بثيابه أي الملتفّ بها ، وقد أدغمت
التاء في الزاي لأن مخرجهما الصوتيّ متقارب والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، يعني يا أيها المتزمل بسربال النبوّة الحامل لأثقال
الرسالة ، قم الليل للصلاة ولا تنم منه إلّا قليلا. ولفظة (اللَّيْلَ) منصوبة على الظرفية ، كما أن (قَلِيلاً) نصب على الاستثناء ، وهي تعني : إلّا شيئا قليلا من الليل (نِصْفَهُ) أي نصف الليل ، وهو بدلّ منه جاء بيانا للمستثنى ، يعني :
قم نصف الليل إلّا قليلا بدليل قوله (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً) من النصف الذي تقومه للصلاة (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي زد في قيام الليل للصلاة عن مقدار نصف الليل ، وقال بعض
المفسرين : أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث ، أو زد على
النصف إلى الثلثين
، ولكنه روي ان الصادق عليهالسلام قال : القليل النصف أو انقص من القليل قليلا ، أو زد على
القليل قليلا. كما أنه قيل : معناه قم نصف الليل إلّا قليلا من ليالي العذر كالمرض
وغيره. وعن سعيد بن هشام انه قال لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالت : ألست تقرأ يا ايّها المزّمّل؟ قلت : بلى. قالت
فإن الله افترض قيام الليل في أول السورة ، فقام نبيّ الله وأصحابه حولا وأمسك
الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف ،
فصار قيام الليل تطوّعا بعد أن كان فريضة. وقيل كان هذا بمكة قبل فرض الصلوات
الخمس ثم نسخ بالخمس. والقيام بالليل سنّة مؤكّد وليس بفرض على كل حال (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأه مرتلا بفصاحة وتجويد متمهلا بحيث تنطق نطقا صحيحا
بجميع الحروف وتوفّي الحق من الإشباع والعنّة والإدغام وغيرها ، وتفعل ذلك مترسّلا
، وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : بيّنه بيانا ولا تهزّه هزّ الشّعر ولا تنثره نثر الرمل ،
ولكن أقرع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة. وقال الإمام
الصادق عليهالسلام : إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة ، وإذا
مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذّ بالله من النار. وعنه عليهالسلام أيضا : هو أن تتمكّث فيه وتحسّن صوتك. وعن أنس أن النبيّ (ص)
كان يمد صوته مدّا (إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي سننزل عليك من الوحي ما يثقل عليك لما فيه من تبليغ
الرسالة وما يلحق ذلك من أذى الناس وما يلزم من جهاد النفس ، وما يثقل على الأمة
لما فيه من الأمر والنهي والحدود. وقيل إن ذلك القول ثقيل لأنه لا يحمله إلّا قلب
مؤيّد بالتوفيق ونفس مؤيّد التوحيد كما في المجمع. وهو ثقيل في الميزان لأنه كلام
ربّنا جلّ وعلا ، وكذلك قيل إنه ثقيل على الكفار لما فيه من تجهيلهم وسفه أحلامهم
وقبح ما هم عليه من العقيدة الفاسدة والعمل الباطل.
* * *
(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)
إِنَّ
لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)
وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))
٦ ـ ١٠ ـ (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئاً ...) أي إن ساعات الليل المتوالية لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ،
والتقدير : إن ساعات الليل الناشئة هي أشدّ وطأ : أي أكثر ثقلا ومشقّة على قائم
الليل للصلاة لأن الليل وقت الراحة والسكون. وقرأ : أشدّ وطاء : أي أشدّ مواطأة
للسمع والبصر إذ يتوافق فيها سمع المصلي وبصره ولسانه على التفكّر لأن القلب لا
يكون منشغلا بأمور الدنيوية (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أكثر استقامة للقول لانقطاع القلب الى العبادة وانصراف
الفكر إلى التدبّر. وروي عن الصادق عليهالسلام أنه : هو قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلّا الله تعالى (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً
طَوِيلاً) أي أن لك يا محمد في النهار منصرفا إلى حوائجك ومشاغلك
الكثيرة التي من أهمّها تبليغ الرسالة ودعوة الناس وإصلاح معيشتك ومعيشة عيالك ،
إلى جانب جهاد الكافرين والكلام مع المعاندين. أما في الليل فيفرغ قلبك للعبادة
فتأخذ حظك للدنيا والآخرة (وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي اذكر أسماء ربّك التي تتعبّد بها في الدعاء والسؤال
والابتهال ، وأخلص له في عبادتك إخلاصا ، والتّبتيل هو الانقطاع في عبادة لله
تبارك وتعالى. وكان يجب أن يقول سبحانه : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ
تَبْتِيلاً) ولكنه طابق أواخر الآيات. وروي عن الصادقين عليهماالسلام أن معنى التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي رب العالم
جميعه لأنه يقع بين المشرق والمغرب ،
ومالكه المتصرّف
فيه والمدبّر له (لا إله الّا هو) أي لا تحق العبادة لسواه (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) اجعله حافظا لأمرك. وفوّض أمرك إليه فهو خير كاف وحافظ لك (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي تحمّل أذى ما يقوله الكفّار من تكذيبك ورفض دعوتك (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) أي اتركهم ولكن لا تتخلّ عنهم في ترك دعوتهم إلى الحق
وثابر على نصحهم ، وهذا هو معنى الصبر على الأذى في سبيل نشر الدعوة لأن الرفق
أدعى إلى الاجابة وسماع القول.
* * *
(وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا
غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))
١١ ـ ١٤ ـ (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي
النَّعْمَةِ ...) ذر بمعنى : دع ، ولا يقال وذر ، ودع ، والنّعمة بفتح النون
هي لين اللمس وضدّها الخشونة في حين أن النّعمة بالكسر هي الثروة ، والمعنى : دعني
واتركني يا محمد مع هؤلاء المكذّبين لك في الدعوة إلى التوحيد والإيمان والإخلاص
في العبادة من المتنعّمين بثراء الدنيا ولا تشغل نفسك بهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) اي أعطهم مهلة قليلة لينزل بهم غضبنا. ولم يكن إلّا وقت
يسير حتى كانت وقعة بدر التي أزهقت أولئك الصناديد من منافقي قريش والمستهزئين
بالنبيّ (ص) (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً) أي عندنا قيود لأن الأنكال واحدها نكل وهو القيد الذي لا
يفك (وجحيما) ونارا عظيمة الاستعار ، وقيل هو اسم من أسماء جهنم (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما شائكا فلا يدخل الحلق فيبتلعه الإنسان ، ولا يخرج
منه فيرتاح بل يتردد في الحق ويؤذي آكله وهو الزقوم والضريع (وَعَذاباً أَلِيماً) وعقابا موجعا ، وذلك يكون (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ) أي تضطرب بشدّة وتهتزّ (وَكانَتِ الْجِبالُ) أيضا تضطرب فيها (وَكانَتِ الْجِبالُ
كَثِيباً مَهِيلاً) أي وتصير رملا سائلا يتناثر هنا وهناك وإذا وطأته قدم زال
من تحتها وينهار أعلاه على أسفله بعد أن تنقلع الجبال من أصولها.
* * *
(إِنَّا أَرْسَلْنا
إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً
(١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ
إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧)
السَّماءُ
مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))
١٥ ـ ١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً
شاهِداً عَلَيْكُمْ ...) يعني إنّنا بعثنا إليكم محمدا (ص) رسولا من عندنا يهديكم
لما فيه صلاحكم في الدنيا والآخرة ، ويشهد عليكم في الآخرة بما كان منكم في الدنيا
(كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً) هو موسى بن عمران سلام الله عليه بعثناه الى فرعون مصر (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) لم يطعه ولم يقبل منه النصح (فَأَخَذْناهُ) بالعذاب والغرق (أَخْذاً وَبِيلاً) شديدا مدمّرا له ولقومه مع كثرة قومه. وهذا تحذير لكفّار
مكة بأن يتّقوا كيلا يصيبهم ما أصاب فرعون وأتباعه ، ولذلك سألهم سبحانه : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً؟) أي تتجنّبون إذا كفرتم برسولنا محمد (ص) يوما تشيب فيه
الأطفال من شدّة الأهوال؟ وبأي شيء تتحصّنون من عذاب الآخرة وتدفعون عنكم وهو يشيب
النواصي لما فيه من مخاوف؟ والشّيب : جمع أشيب. والسؤال منه سبحانه سؤال إنكار
لحالهم واستهجان لما هم فيه ، وتخويف من يوم مرعب (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) أي متشقّق وقد انفصلت أجزاؤه من الهول؟ وقد ذكّر (منفطر)
لأن السماء يذكّر ويؤنّث ، وقيل
يوم تكون السماء
ذات انفطار كما يقال : امرأة مطفل أي ذات أطفال (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) أي حاصلا لا خلف فيه ولا تبديل لوعده به (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي أن هذه الصفة التي ذكرناها من الهول وبيّنّاها من
المخاوف ، هي عظة لمن أهمّته نفسه (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى
رَبِّهِ سَبِيلاً) سلك طريقا إلى نيل الثواب من ربّه ، فهو قادر على أن يكون
مطيعا كما أنه قادر على المعاصي وإذا فعل الطاعة وصل إلى الثواب بحسن اختياره
لنفسه.
* * *
(إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ
أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))
٢٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ...) الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوآله يقول له مقال فيه : إن ربك على علم بقيامك للصلاة إلى ما
يقرب أو يقل عن ثلثي الليل (وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ) وأقلّ من نصفه وثلثه. أي تقوم في بعض الليالي قريبا من
الثلثين ، وفي بعضها قريبا من النصف ، وفي أخرى قريبا من الثلث ، وبالاختصار إنه
يعلم أنك تقوم ثلثه أو نصفه (وَطائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ) وجماعة من أصحابك تقوم
للصلاة معك ثابتة
على الإيمان بما جاء من عندنا ، وروى الحاكم عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في
قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ) ، قال : عليّ وأبو ذر (وَاللهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي هو يقدّر ويعلم الوقت الذي تقدمونه فيهما (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي عرف انكم لا تتمكّنون من حصر الوقت المستحب ، فعن مقاتل
أن الرجل كان يصلّي الليل كلّه مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فلذلك طيّب
سبحانه نفوسهم وقال : علم أن لن تحصوه ، لأنكم لا تطيقون معرفة ذلك بدقّة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بأن جعل ذلك تطوّعا ولم يجعله فرضا فغفر لكم ولم يلزمكم
إثما ولا تبعة بل خفّف عنكم (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) في صلاة الليل عن أكثر المفسّرين. وقيل معناه : فصلّوا ما
تيسّر من الصلاة ، فعبّر عن الصلاة بالقرآن لأنها تتضمّن القرآن ، وقراءة القرآن
في ذلك الوقت محمولة على الاستحباب أيضا لا على الوجوب ، ثم اختلفوا في ذلك وفي
القدر الذي تضمّنه هذا الأمر بقراءة القرآن فقيل هو خمسون آية ، وقيل مائة آية ،
كما قيل مائتان ، وعندنا أنه خمسون آية لا على طريقة الوجوب (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) يقتضي التخفيف عنهم (وَآخَرُونَ) منكم (يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ) يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ
فَضْلِ اللهِ) تجارة وسعيا وراء الكسب (وَآخَرُونَ) منكم أيضا (يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) يجاهدون الكفار ، وحالهم تقضي بالتخفيف عنهم أيضا (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن فاقرأوا ما قدرتم عليه ، وروي عن الإمام
الرضا عليهالسلام مرفوعا قال : ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بشروطها وحدودها الواجبة (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَقْرِضُوا اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أنفقوا في سبيل مرضاته وعلى عياله من الفقراء والمساكين (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ) أي ما تقدّمونه بين أيديكم من طاعة ثوابها خير (تَجِدُوهُ) تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ
خَيْراً) معدّا لكم عنده سبحانه (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أني أكثر ثوابا (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ) توبوا إليه
واطلبوا مغفرته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عن ذنوبكم ، ساتر لها ، ذو صفح جميل لأنه شديد
الرحمة بمخلوقاته.
* * *
سورة المدّثّر
مكيّة وآياتها ٥٦
نزلت بعد المزّمّل.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)
وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))
١ ـ ٧ ـ (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ
فَأَنْذِرْ ...) المدّثّر أي المتدثّر وقد أدغمت الثاء في الدال. وهو
المتغطى بالثياب عند النوم لأن الدّثار هو الثوب. فقد خاطب سبحانه نبيّه محمدا صلىاللهعليهوآله أن يا أيها الملتفّ بثوبه عند النوم قم فأنذر الناس
وخوّفهم من عدم الإيمان بالله وأدعهم إلى التوحيد ، وخوّفهم النار وغضب الجبّار ، وعن
جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : أحدّثكم ما حدّثنا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت
الوادي ، فنوديت ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر أحدا. ثم نوديت
فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء ـ يعني جبرائيل ـ فقلت دثّروني دثّروني.
فصبّوا عليّ ماء ،
فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ). وفي رواية : فحييت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت
إلى أهلي فقلت : زمّلوني ، فنزل : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)
أي فعظّم ربّك
سبحانه ، وقيل : كبّره في الصلاة بأن تقول : الله أكبر (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي فطهّرها من النجاسات للصلاة. وقيل معناها : ونفسك فطهّر
من الذنوب ، كما قيل : وثيابك فقصّر ، لأن تقصير الثوب يبعده عن النجاسة بعكس ما
لو انجرّ على الأرض. وقد قال أمير المؤمنين عليهالسلام ـ كما في المجمع ـ : غسل الثياب يذهب الهمّ والحزن ، وهو
طهور للصلاة. وتشمير الثياب طهور لها. وقد قال الله سبحانه : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ، أي : فشمّر (وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) أي اترك الأصنام والأوثان واهجرها واجتنبها تمام الاجتناب.
وقال الكسائي. الرّجز بالضمّ : الصنم ، والرّجز بالكسر : العذاب (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يعني : لا تعط أحدا عطيّة ليعطيك أكثر منها. وهذه للنبي صلىاللهعليهوآله خاصة لأن الله تعالى أدّبه بأشرف الآداب. وقيل إن من معناها
، لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيتهم فإن المنّ يكدّر الصّنيعة (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي فاصبر على تحمّل أذى المشركين والكافرين متقرّبا إلى
وجه ربك ، أو أصبر على أداء الرسالة وما تلاقي من مشاق ، طالبا بذلك رضى الله
تعالى.
٨ ـ ١٠ ـ (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ،
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ...) أي إذا نفخ في الصور وقد مرّ تفسير مثلها في النفخة الأولى
التي هي أول الشدائد والأهوال ، وقيل بل إذا نفخ فيه النفخة الثانية لبعث الخلائق
وإحيائهم ، فذلك اليوم يكون عسيرا : صعبا شديدا (عَلَى الْكافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير هينّ ولا سهل لما يرون من سوء العاقبة التي
تنتظرهم.
* * *
(ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ
وَحِيداً
(١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً
(١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ
قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما
سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨)
لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ
إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا
مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))
١١ ـ ١٧ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ...) نزلت هذه الآيات في الوليد ابن المغيرة المخزومي الذي كان
معاندا للرسالة يكيد للنبيّ (ص) ويقف في سبيل الدعوة ، والذي استمع إلى القرآن
وسأل جماعته من المشركين عن قولهم في النبيّ (ص) فقالوا إنه شاعر ، فعبس ثم قال :
قد سمعنا الشعر فيما يشبه قوله الشعر ، فقالوا : نقول إنه كاهن ، قال : إنه لا
يحدّث بما تحدّث به الكهنة ، قالوا : نقول : انه مجنون ، فقال : تأتونه فلا تجدونه
مجنونا. فقالوا : ماذا نقول فيه إذا؟ ففكّر مليا ثم عبس قليلا ثم قال :
تقولون إنه ساحر.
فخرجوا وصاروا لا يلقى أحدهم النبيّ (ص) إلّا قال : يا ساحر يا ساحر فنزلت هذه
الآيات التي فيها تهديد ظاهر لهذا الكافر إذ يقول لرسوله : (ذَرْنِي) أي دعني ومن خلقته متوحّدا بخلقه ولم يشاركني أحد في ذلك ،
فاترك عليّ عقابه وأنا أكفيك ذلك. فخلّ بيني وبينه وغدا أريك ما أفعل به فقد خلقته
وكان لا مال له ولا ولد (وَجَعَلْتُ لَهُ
مالاً مَمْدُوداً) أي مالا كثيرا (وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين قد كانوا عشرة فيما ذكر وكانوا يبقون بين يديه ولا
يغادرون مكة لتجارة أو غيرها لأنهم أغنياء عن ذلك (وَمَهَّدْتُ لَهُ
تَمْهِيداً) أي وسّعت عليه في العيش وبسطت له فيه بسطا وسهّلت له
الأمور (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ) أي يطلب الزيادة ويرغب فيها دون أن يشكرني على ذلك. (كَلَّا) وهذا ردع وزجر له ، أي : لان لا يكون ذلك كما ظنّ هذا
الكافر لي وبنعمتي ، فليمتنع ذلك الجاهل وليرتدع عمّا هو فيه من كفر (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي كان معاندا لحججنا ينكرها مع معرفته بصدقها ، ولذلك (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأحمّله مشقة عذاب لا راحة فيه بل فيه ازدياد. وقيل إنه
سيتعبه في ارتقاء جبل من نار في جهنم اسمه صعود ، يأخذ المعذّب في ارتقائه فإذا
وضع يده عليه ذابت من حرّه ، وإذا رفعها عادت ، ولذلك يصيب رجله إذا حطها عليه ،
كما قيل إنه صخرة في النار ملساء يكلّف بصعودها فيفعل بعناء شديد ، ثم إذا ما بلغ
أعلاها انحدر إلى أسفلها ، وذلك دأبه لا يفترّ عنه لأنه يضرب بسياط من نار من خلفه
، ويجذب بسلاسل من نار من أمام فيصعدها في أربعين سنة كما عن الكلبي.
١٨ ـ ٣١ ـ (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ ...) أي أنه تأمّل وتفكّر فيما يقوله في نعت محمد صلىاللهعليهوآله وفيما يحتال به للباطل لا للحق لأنه سبحانه قال : فقتل أي
لعن وعذّب كيف قدّر : أي على أيّ حال قدّر من الكلام لأنه لا يقدّر إلا سوءا ،
فلعن على تقديره ذلك في آياتنا مع وضوح دلائلها وحججها.
وقيل معناه : عوقب
في الآخرة مرة تلو مرة ، وجاء في صيغة الماضي لتحقق وقوعه (ثُمَّ نَظَرَ) قلّب البصر في طلب ما يردّ به القرآن (ثُمَّ عَبَسَ) قطّب (وَبَسَرَ) كلح وجهه ونظر بكراهة (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن التصديق والإيمان وولّى ظهره له (وَاسْتَكْبَرَ) تعجرف حين دعي إلى الاعتراف بالوحدانية والرسالة (فَقالَ إِنْ هذا) ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ) أي انه سحر يروى لواحد عن واحد من السّحرة. وقيل : يؤثر من
الإيثار ، أي يستحسن لحلاوته (إِنْ هذا) ما هذا الكلام الذي سمعته من القرآن (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) قول الإنس وليس من عند الله تعالى ولو كان كذلك لأتى
السحرة بمثله ، ولكنهم عجزوا وقصّروا هم وغيرهم .. ثم هدّده سبحانه على هذه البدعة
التي افتراها على رسول الله (ص) فقال : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأحرقه في نار جهنم التي لا يموت فيها ولا يحيا ،
وألزمه بها فلا يغادرها. وقيل إن سقر دركة من دركات جهنّم وقد وصفها خالقها متعجبا
: (وَما أَدْراكَ ما
سَقَرُ) أي ما معرفتك أيها السامع بسقر ، وهل تبلغ معرفتها ونعتها
في هولها وشدّة عذابها وضيقها وكثير من صفاتها؟ لا فإنها (لا تُبْقِي) لسكّانها لحما إلّا أكلته (وَلا تَذَرُ) لا تدع لهم خلقا حين يعادون كما كانوا بل تشوّهه وتحرقه
حتى تذيقهم ألوان العذاب بما تذيب من شحمهم ولحمهم وبما تدقّ من عظامهم وبما تسيخ
من ألبابهم ، لأنها (لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ) أي مغيرة لجلودهم تجعلها محروقة سوداء أشد سوادا من فحمة
الليل ، قد جعلنا (عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ) ملكا من ملائكة العذاب هم خزنتها لهم أعين كالبرق الخاطف
وأنياب كالصياصي يخرج اللهب من أفواههم إذا تكلّموا ، وهم ذوو خلقة عجيبة وصفوا
بأن ما بين منكبي كلّ واحد منهم مسيرة سنة ، وان كفّ الواحد منهم تسع مثل قبيلتي
ربيعة ومضر نزعت الرحمة من قلوبهم ، ويقبض الواحد منهم على السبعين ألفا فيرميهم
حيث أراد من جهنم يدعّهم فيها دعا ، هذا عدا عن بقية الملائكة الموكّلين بالعذاب ،
والذين لا يحصيهم إلّا خالقهم عزوجل. وقيل في تخصيص هذا العدد أقوال كثيرة لا مجال لذكرها ،
وأهمها ، أنه عدد
يجمع أكثر القليل من العدد وأقلّ الكثير منه ، لأن العدد آحاد وعشرات ومئات وألوف
، فأقلّ العشرات عشرة وأكثر الآحاد تسعة ، والله تعالى أعلم بما أراد إذ قال عزّ
من قائل : (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي ما جعلنا الموكّلين بالنار إلا ملائكة وخلقنا شهوتهم في
التعذيب لأهل النار (وَما جَعَلْنا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لم نجعلهم في هذا العدد بالذات إلا محنة للكافرين الذين
أنكروا الوحدانية ، وليفكّروا في ذلك مليّا فإنه سبحانه لا يفعل إلّا ما فيه
الحكمة فكيف جعل هؤلاء تسعة عشر في حين أنه خلق ملكا واحدا يقبض أرواح العالمين
جميعا ، فتبارك الله وتقدّس لأنه العالم بما خلق حين جعل تسعة عشر يسوقون الناس
إلى عذاب جهنّم ولم يجعلهم أكثر ولا أقل (لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليصدّق اليهود والنصارى أن رسولنا محمد صادق في كلّ ما
أخبر من كتبهم التي بين أيديهم من غير أن يقرأها ومن دون أن يتعلّمها منهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي ليزدادوا يقينا بهذا العدد وبصدق جميع ما جاء به رسولنا
الكريم لأنه يخبر أهل الكتاب بما في كتبهم دون زيادة أو نقصان (وَلا يَرْتابَ) ولا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) بهذا العدد من خزنة جهنّم ، وليؤمن من لم يؤمن إذا تدبّر
وفكّر في هذه الأمور التي يقولها رسولنا لهم (وَلِيَقُولَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي زيغ ونفاق (وَ) ليقول معهم (الْكافِرُونَ : ما ذا
أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً؟) أي ماذا أراد الله بهذا الوصف للعدد وليفكّروا فيصلوا الى
التدبّر والإذعان والإيمان. واللام في (ليقول) هي للعاقبة ، أي ليكون عاقبة أمرهم
أن يقولوا ذلك (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما جعلنا خزنة جهنّم ملائكة عددهم محنة واختيار ،
فكذلك نكلّف الخلق ليظهر الضلال من بعضهم ، والهدى من بعضهم الآخر. وقد أضاف الهدى
والضلالة إلى نفسه لأن سبب التكليف يأتي من جهته عزوجل. وقيل إنه يضل في الآخرة عن طريق الجنّة من يشاءوهم
مستحقّو العذاب ، ويهدي إليه من يشاء ، وهم مستحقو الثواب (وَما
يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي لا يعرف كثرة عددهم غيره ولم يجعل خزنة جهنّم تسعة عشر
فقط لقلة جنوده ، بل فيها من ملائكة العذاب ما لا يحصي عددهم. غيره.
وقيل هذا جواب
لأبي جهل حين قال : ما لمحمد أعوان إلّا تسعة عشر. وكان قد قال لكفّار قريش :
ثكلتكم أمّهاتكم .. أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟ فقال أبو
الأسود الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر : عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم
اثنين فنزل : وما يعلم جنود ربّك إلا هو ... وعاد سبحانه إلى ذكر جهنّم فقال : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي موعظة وتذكرة للعالم لا بد أن يجتنبوها إذا عرفوا
صفاتها ويحذروا عذابها وويلاتها.
* * *
(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ
(٣٤)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ
(٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))
٣٢ ـ ٣٧ ـ (كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ ...) أي : لا ، ليس الأمر كما يتوهّم الكفار من التغلّب على
خزنة النار ، ثم أقسم سبحانه بالقمر لما فيه من الآيات العجيبة في مشارقه ومغاربه
وزيادته ونقصانه وعكسه لنور الشمس على الأرض ، وبالليل إذا ولّى وذهب بعد انسلاخه
من النهار (وَ) أقسم أيضا ب (الصُّبْحِ) نور الفجر (إِذا أَسْفَرَ) أضاء وأنار وكشف الظلام وتعارفت الأشياء والمخلوقات وقال
بعض المفسّرين كأنه سبحانه أقسم بربّ هذه الأشياء لأن اليمين لا تكون إلّا به عزوجل (إِنَّها لَإِحْدَى
الْكُبَرِ) أي أن سقر التي تحدّثت عنها الآيات السابقة هي إحدى
العظائم. وهذا جواب القسم ، والكبر جمع الكبرى أي العظمى (نَذِيراً
لِلْبَشَرِ) أي مخوّفا ومنذرا ومحذّرا ممن ينبغي الحذر منه. وكلّ نبيّ
نذير لقومه. وقد قيل إنه جلّ وعزّ وصف النار بأنها نذير للناس. أما نصب (نَذِيراً) فقيل إنه على الحال وذو الحال الضمير في إحدى الكبر العائد
الى الهاء في (إِنَّها) وهي كناية على النار ، وتذكيره بناء على قولهم : امرأة
طالق ، وقيل أيضا إنه حال يتعلّق بأول السورة ، أي : يا أيّها المدّثر قم نذيرا
للبشر والأول أقرب للمعقول (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي ان يتقدّم في طاعة الله أو يتأخر عنها بارتكاب المعاصي
، فهذا الإنذار متوجه لمن يتمكن من اجتناب المعاصي واتّقاء العذاب بفعل الطاعات. وروى
محمد بن الفضيل عن أبي الفضل عن أبي الحسن عليهالسلام أنه قال ؛ كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر عن سقر ، وكلّ
من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر.
* * *
(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ
الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ
يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ
(٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا
الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨))
٣٨ ـ ٤٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
...) أي ان كلّ نفس مرهونة بعملها حبيسة مطالبة بما جنته من
طاعات أو من معاصي (إِلَّا أَصْحابَ
الْيَمِينِ) أي ما عدا الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، وهم المؤمنون
العاملون للصالحات المستحقّون للثواب. وفي المجمع عن الباقر عليهالسلام قال : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم
بعضا عن حاله ،
وقيل يتساءلون (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) اي المذنبين الذين استحقّوا النار قائلين : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي ما أدخلكم في النار وأوقعكم فيها؟ وهو سؤال توبيخ
وتقريع من أهل الجنة لأهل النار (قالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نؤدّ الصلوات المفروضة بحسب تقرير الشرع لها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي لم نخرج الزكاة من أموالنا ولم نعطها لأربابها ولا
تصدّقنا على الفقراء والمساكين (وَكُنَّا نَخُوضُ
مَعَ الْخائِضِينَ) أي كنا ندخل في كلّ باطل ونغوي مع الغاوين (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي كنّا ننكر البعث والحساب والثواب والعقاب كما ننكر
الجنّة والنار (حَتَّى أَتانَا
الْيَقِينُ) حتى أتانا الموت الذي هو حق ونحن على هذه الحالة أو معناه
: حتى وصلنا إلى ما عاينّاه الآن (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي لا تفيدهم شفاعة الأنبياء ، ولا الملائكة كما تنفع
غيرهم من الموحّدين ، وعن ابن مسعود قال : يشفع نبيّكم صلىاللهعليهوآله رابع أربعة : جبرائيل ، ثم إبراهيم ، ثم موسى أو عيسى ، ثم
نبيّكم (ص) لا يشفع أحد أكثر مما يشفع فيه نبيّكم (ص) ثم النبيّون ، ثم الصدّيقون
، ثم الشّهداء ، ويبقى قوم في جهنّم فيقال لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ) ، إلى قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).
* * *
(فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا
يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))
٤٩ ـ الى آخر
السورة ـ (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ...) أي فما
بالهم قد انصرفوا
عن القرآن الذي هو تذكرة وموعظة ولا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عنه في الدنيا.
فلم ينفرون عنه ويفرون عن الدعوة إليه (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ) أي كأنهم حمر وحشيّة نافرة هربا (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يعني هربت خوفا من الأسد ، وكذلك هؤلاء الكفار كانوا
يفرّون من النبيّ صلىاللهعليهوآله كلمّا رأوه يقرأ القرآن على الناس ويعظهم وينذرهم ويحذّرهم
ويبشّرهم ويلقي عليهم أوامر الله تعالى ونواهيه (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي يودّ كلّ واحد منهم أن تنزل عليه كتب من السماء باسمه
تأمره بالإيمان بمحمد (ص) وبالبراءة من العقوبة ، وبالنّعمة والدعة وإلّا فإنهم
يقيمون على الضلال ، وقيل : بل يريد كلّ واحد منهم أن يكون رسولا ، ولذلك قال
سبحانه : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما قالوا ولا كما أحبّوا (بَلْ) هم (لا يَخافُونَ
الْآخِرَةَ) لتكذيبهم بحدوثها ولو آمنوا بها لآمنوا برسولنا وبدعوته (كَلَّا) هذه ليست ردعا بل معناها : حقّا (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي القرآن فإن فيه تذكيرا (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن أراد اتّعظ به وتذكّر (وَما يَذْكُرُونَ) أي ما يتذكّرون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) يريد. وهذا لمشيئة غير الأولى ، لأن الأولى مشيئة اختيار
والثانية مشيئة إجبار ـ. والمعنى انّ هؤلاء المعاندين من الكفّار لا يذكرون إلا
إذا أجبرهم الله تعالى على ذلك (هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي أنه سبحانه هو الجدير بأن تتّقى محارمه ويخشى غضبه ،
وهو الغفّار المتجاوز عن ذنوب المخطئين. وعن أنس قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله تلا هذه الآية فقال : قال الله سبحانه : أنا أهل أن أتّقى
فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أتّقى فلا يجعل معي
إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له.
* * *
سورة القيامة
مكيّة وآياتها ٤٠
نزلت بعد القارعة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى
أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤))
١ ـ ٤ ـ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ،
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ...)
معناه : أقسم بيوم
القيامة وعظمة ما يجري فيه من مظاهر قدرة الله تعالى. وحرف (لا) هنا صلة لأنه قيل : إن مجاري القرآن مجاري الكلام الواحد
والسورة الواحدة ، بدليل أنه قد يذكر الشيء في سوره ويأتي بجوابه في سورة ثانية
وكقوله تعالى حكاية عن الكفّار : يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر إنك لمجنون ؛ فقد
جاء جوابه في سورة أخرى : ما أنت بنعمة ربّك بمجنون. والمعنى : لأقسمنّ بيوم
القيامة وبالنّفس اللّوامة ، لا كما تظنون ، فإني أقسم بذلك. واللوامة هي كثيرة
اللّوم لصاحبها يوم القيامة والندامة (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي هل يظن بأننا لن نقدر على جمع عظامه البالية المتفرّقة.
و (أَلَّنْ) هي : أن ولن مدغمتان ، وقيل إن
كل نفس تكون
لوّامة لصاحبها يوم القيامة ، فالنفس البارّة تلوم صاحبها على عدم الازدياد في عمل
الخير ، والنفس الفاجرة تلوم صاحبها على فعل الشر ، وكلّ نفس تلوم على ما مضى حتى
في كثير من أفعال الدنيا. والسؤال : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ ...) سؤال إنكار على الكافرين بالبعث ، لا سؤال استفهام ، لأنه
سبحانه قادر على البعث الذي كنّى عنه بجمع العظام بعضها الى بعض (بَلى) أي : نعم (قادِرِينَ) نحن (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ) نؤلّف بينها حتى تستوي ، وتعود كما كانت من كبار العظام
وصغارها ، نقدر على ذلك ولا يعجزنا هذا الأمر. و (قادِرِينَ) نصب على الحال بتقدير : بلى نجمعها قادرين على ذلك ،
والعامل في الحال محذوف لدلالة ما تقدّم عليه كما في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً) ، أي فصلّوا رجالا.
* * *
(بَلْ يُرِيدُ
الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ
الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
كَلاَّ
لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ (١٥))
٥ ـ ١٥ ـ (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ
أَمامَهُ ...) هذا إخبار من الله تبارك وتعالى عمّا في علمه من شأن
الإنسان وهو اعلم بما خلق إذ يقول : إن الإنسان الكافر يريد أن يمضي قدما في
المعاصي ، راكبا عناده بحيث لا
يقف عند حدّ ولا
يتوب ، وهذا الانغماس في المعاصي يحجبه عن التفكير في أوامر ربّه فينكر البعث
وغيره ، وقيل : ليفجر أمامه : أي ليفكر بما هو أمامه من البعث والحساب ويكذّب ،
وأن الفجور هو التكذيب ، أي أنه يكذّب بما هو لاقيه فيعجّل بالمعصية ويسوّف
بالتوبة ، ثم (يَسْئَلُ أَيَّانَ
يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي متى تكون القيامة والحساب؟ وهو لا يستفهم بمقدار ما
يسخر من ذلك ويكذّب به ، وقد أجاب سبحانه على ذلك بقوله : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي شخص عند معاتبة الموت وانخطف فهو لا يطرق من شدة الفزع (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب نوره (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) جمع بينهما بذهاب الضوء وتمام الخسوف والكسوف حيث تلفّ
الأرض ظلمة هائلة ، ف (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المنكر ليوم البعث (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إلى أين المهرب؟ فيجيبه الكلام القدسيّ : (كَلَّا لا وَزَرَ) أي لا مهرب تهربون إليه ، ولأن الوزر ما يحصّن به كالجبل
وغيره ، ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في المهامّ (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي أن المنتهى في ذلك اليوم إلى ربّك سبحانه وتعالى ، وهم
صائرون إلى حكمه وأمره يوم (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ) يخبّر (بِما قَدَّمَ
وَأَخَّرَ) بأول عمله وآخره فيجازى بحسبه ، وقيل معناه بما قدّم من
عمل قام به ، وبما أخّر ممّا سنّة فعمل به غيره بعد مماته (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ) ذلك أنه يعرف ما قدّم وما أخّر. مضافا إلى أن جوارحه تشهد
عليه بذلك فهو شاهد على نفسه بعلمه بما عمل وبشهادة جوارحه عليه. وما أحسن ما قاله
القتيبي من أن الإنسان ها هنا هو الجوارح التي تشهد عليه ولذلك أنّث (بَصِيرَةٌ) وإن كان الأخفش قد قال هي كقولك : فلان حجة ، وهذا الأمر
عبرة. وفي العياشي عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : ما يصنع أحدكم إن يظهر حسنا ويسرّ سيئا ، أليس إذا
رجع الى نفسه يعلم أنه ليس كذلك ، والله سبحانه ، يقول : بل الإنسان على نفسه
بصيرة. إن السّريرة إذا أصلحت قويت العلانية (وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ) يعني ولو
اعتذر ودافع عن
نفسه وجادل فإنه لا ينفعه ذلك ولو أدلى بكل حجة عنده.
* * *
(لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)
إِنَّ
عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ
تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))
١٦ ـ ١٩ ـ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ ...) الخطاب للنبيّ (ص) أي لا تحرّك لسانك بتلاوة القرآن حين
الوحي به إليك ، ولا تتعجّل تلاوته قبل أن يقضى الوحي. فقد قال ابن عباس : كان
النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه لحبّه إياه وحرصه
على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه ، فنهاه الله عن ذلك. (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ) في قلبك وحفظه في صدرك (وَقُرْآنَهُ) وترتيبه وتأليفه بحسب نزوله عليك ، فلا تخف أن يفوتك شيء
منه (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبرائيل عليهالسلام عليك بأمر منّا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته إذا فرغ منها. وكان النبيّ (ص) بعد هذا إذا نزل
عليه جبرائيل (ع) أطرق مصغيا ، فإذا ذهب قرأ. وقال البلخي : لم يرد القرآن هنا
وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة ، يدل على ذلك من قبله وما بعده ،
وليس فيه شيء يدل على أنه القرآن ولا شيء من أحكام الدنيا. وفي ذلك تقريع للعبد
وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة ، يقول : لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك التي
فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك ولا تعجل ، فإن هذا الذي هو على نفسه بصيرة
إذا رأى سيئاته
ضجر واستعجل فيقال له توبيخا : لا تعجل وتثبّت لتعلم الحجة عليك فإن نجمعها لك ،
فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد لحكمه والاستسلام للتبعة فيه فإنه لا يمكنك
إنكاره (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ) ولو أنكرت ، أي علينا بيان ما أخبرناك عنه في الآخرة.
٢٠ ـ ٢٥ ـ (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ...) أي أنكم أيّها الكفار تختارون حبّ الدنيا وتعملون لها
وتفضلّونها على الآخرة التي تذرونها : تتركونها ولا تعملون لعقباكم لجهلكم وسوء
اختياركم ، ف (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضِرَةٌ) حسنة البهجة ناعمة المنظر مضيئة بالسرور يعلوها نور
الإيمان وتبدو عليها نعمة الرضى من الله تعالى ، وهي وجوه أهل الإيمان والطاعة
الفائزين بالثواب وحسن المآب ، وتكون (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) أن ناظرة إلى نعمة ربّها وثوابها على ما عملته في الدنيا
وهذا كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ، أي : جاء أمر ربّك بحضور الملائكة فإن الله تعالى سبحانه
عن الرؤية بالحاسّة. وقيل معناه : منتظرة لرحمة ربّها وغفرانه مؤمّلة بكرمه ومنّه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة مقطّبة كالحة من خوف المصير وهي وجوه أهل الكفر
والمعاصي (تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي تعتقد أنها ستحلّ بها داهية تكسر فقرات ظهورها لأنها لم
تقم بالطاعات ولم تعمل شيئا من الصالحات ، أعاذنا الله من سوء المصير بمحمد وآله
الطاهرين.
* * *
(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢)
ثُمَّ
ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ
فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
(٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)
أَلَمْ
يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى
(٣٧)
ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))
٢٦ ـ ٣٠ ـ (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ
وَقِيلَ مَنْ راقٍ ...) أي حقا ما قلناه سابقا من شأن وجوه المؤمنين ووجوه
الكافرين ، فإذا بلغت روح المحتضر التراقي وهي العظام المحيطة بالحلق عظما الترقوة
وما يليهما وكنّى بذلك عن الإشراف على الموت ، فإذا صارت الروح قرب اللهاة وحصل
اليأس من المحتضر (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي وقال أهل المحتضر هل من أحد يرقي هذا المريض وهل من
طبيب يشفيه؟ وقيل معناه : لو التمستم له الأطبّاء والرّقاة فلن يجيروه من عذاب
الله ، كما قيل ان الملائكة يقولون : من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة
العذاب لأن الأهل يجهّزون جسد الميّت والملائكة يجهّزون روحه (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي علم ذاك الذي بلغت روحه تراقيه أنه مفارق لأهله ودنياه (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي امتدّت ساقاه عند الموت لأنه ييبس بعد الموت ويلتفّ
بعضه ببعض ، وقيل هو التفافهما في الكفن ، كما قيل هو التفاف أمر الدنيا بأمر
الآخرة ، والأول أقرب إلى الصواب (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي أن المساق بعد هذه الحالة يكون إلى الله لجميع الخلائق
بعد وفاتهم إذ له الأمر والنهي ، فمن كان من أهل الجنة فإلى الجنة ، وإن كان من
أهل النار فإلى النار.
٣١ ـ إلى آخر
السورة ـ (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى ...) أي لم يصدّق بالله ولا بأوامره ولا بنواهيه التي نقلها
رسله إلى العباد ، ولا صلّى لربّه الصلاة المفروضة (وَلكِنْ كَذَّبَ) أنكر ذلك كلّه واعتبره كذبا (وَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان والطاعة والعمل (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي أنه بعد سماع الدعوة إلى الإيمان عاد إلى أهله يتبختر
في مشيته ويختال في خطراته متمرّدا على ما سمعه ، وقيل إن هذا نزل في أبي جهل (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك المكروه والشرّ يا أبا جهل ولفظة (أَوْلى) مبتدأ وخبره (لَكَ)
وقيل إنه خبر
لمبتدأ محذوف بتقدير : الشّر أولى لك من الخير يا أبا جهل لشدة عنادك ، وفي المجمع
أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أخذ بيد أبي جهل وقال له : أولى ، لك فأولى ، ثم أولى لك
فأولى. فقال أبو جهل : بأيّ شيء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا
، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي ، فأنزل الله تعالى ذمه كما قال رسوله (ص) وذلك بمعنى
: الويل لك من الله وهو وعيد شديد ، وإن تكراره مرّتين للتأكيد من جهة ولبيان
حرمانه من خير الدنيا والآخرة من جهة ثانية ، لأنه رأى أول الويلين يوم بدر حيث
قتل وعاين عذاب الدنيا ، ويوم القيامة يعاين الويل الثاني بعذاب الآخرة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) يعني أيظن أبو جهل وكلّ إنسان (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أن يهمل؟ وهذا استفهام إنكاري يعني أنه لا ينبغي للإنسان
أن يظنّ أنه مهمل في دنياه أو في آخرته (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي كان نطفة منيّ ثم تنقّل من حال إلى حال تدل كل حال منها
على أنه له خالقا مدبّرا حكيما لم يهمله في طور من أطوار حياته ، بل شملته عنايته
حتى بلغ مرتبة وهبه فيها عقلا وقدرة ، ثم كلّفه بما فيه صلاحه في الدارين ليختبره أيشكر
أم يكفر (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً) بعد أن كان نطفة من منيّ (فَخَلَقَ) منها سبحانه خلقا في الرحم (فَسَوَّى) هيئته وأعضاءه جميعا في بطن أمه ، وقدّر لكل جارحة عملها
الخاصّ بها (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من ذلك الإنسان (الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ليتزاوجا ولتتمّ سنة الحياة (أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أليس فاعل ذلك كلّه مستطيعا لأن يعيد الموتى بعد فنائهم
بعد أن كان خلقهم بهذه الكيفية العجيبة وأوجدهم من كتم العدم؟ وتتجلّى في هذه
الآية الكريمة صحة القياس العقلي لأن الله تعالى قرّر النشأة الثانية بالنشأة
الأولى واعتبرها بها ، وقد قال البراء بن عازب : لمّا نزلت هذه الآية : أليس ذلك
بقادر على أن يحيي الموتى ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : سبحانك اللهم وبلى.
* * *
سورة الإنسان
مكيّة وآياتها ٣١
، نزلت بعد الرحمن.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
إِنَّا
أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))
١ ـ ٤ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ ...) أي ألم يأت على الإنسان وقت من الدهر الذي هو مرور الليل
والنهار وقد كان شيئا ، ولكنه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً) لأنه كان لا يزال ترابا قبل أن تنفخ فيه الروح. ومعنى هذا
الاستفهام التقرير ، يعني أنه قد أتى على الإنسان ذلك ، وكل إنسان يعرف أنه كان
غير موجود ثم وجد ، فما أولى المفكرين بالتفكّر والتدبّر لمعرفة الصانع العظيم
جلّت قدرته! والمراد بالإنسان هنا آدم عليهالسلام لأنه أول مخلوق وجد ودعي بهذا الاسم ، وقيل إنه أتى عليه
أربعون
سنة لم يكن شيئا
مذكورا لا في السماء ولا في الأرض إذ كان جسدا من طين ملقى على الأرض قبل أن تجري
فيه الروح. وفي العياشي أن زرارة سأل أبا جعفر عليهالسلام عن قوله : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً) ، قال : كان شيئا ولم يكن مذكورا ، وعن حمران بن أعين قال
: سألت عنه فقال : كان شيئا مقدورا ولم يكن مكوّنا. وفي هذا دلالة على أن المعدوم
معلوم عنده سبحانه وإن لم يكن مذكورا ، وأن المعدوم يسمى شيئا أيضا. وقد يقصد
بالإنسان الجنس ، وأنه قبل الولادة لا يعرف ولا يذكر ولا يعلم من هو ولا ما يراد
به (إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) أي خلقنا بني آدم (ع) جميعا من قطرة ماء من الرجل والمرأة
تنعقد فيخلق منها الولد الذي هو في الأصل (أَمْشاجٍ) أي أخلاط من الماءين تمتزج في الرحم فأيهما علا صاحبه كان
الشّبه له. وقيل : أمشاج تعني الأطوار طورا بعد طور من نطفة إلى علقة فمضغة إلخ ..
وقيل : الأمشاج :
هي العروق التي في النطفة ، وقيل : هي الأخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من
حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وغيرها ، أوجدها الله تعالى في النطفة ثم أظهرها في
بنية الإنسان بعد أن خلقه وشقّ سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين على هذه
القدرة الربّانية ، فقد ذكر ذلك وقال (نَبْتَلِيهِ) نختبره بالتكليف ليختار إمّا الطاعة وإمّا المعصية (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) من أجل أن نبتليه ومن أجل ان يكون قادرا على حسن الاختيار
لنفسه ، فقد أعطيناه الآلات التي تمكّنه من التمييز ، ثم ذكر منها السمع والبصر
وليكنّي عن جميع طاقاته الكامنة فيه من قدرة وإرادة وعقل وغيره ... (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي نصبنا له الأدلة وأزحنا العلة إذ جعلناه مميزا للحسن من
القبيح وأرشدناه إلى طريق الحق ومكّنّاه من معرفة الخير من الشر فيكون (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي مختارا للإيمان والشكر ، أو مكتفيا بالإنكار والكفر ،
وأيّ الأمرين اختار جازاه الله تعالى عليه بعدله ، وهذا كقوله جلّ وعلا : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ،
وَمَنْ
شاءَ فَلْيَكْفُرْ). وفي الآية الكريمة دلالة على أن الله تعالى هدى جميع خلقه
فمنهم من اختار الهدى ومنهم من ظلّ على العمى ولذلك قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي هيّأنا وأعددنا (لِلْكافِرِينَ) بنا وبرسلنا وأوامرنا ونواهينا هيّأنا لهم جزاء عصيانهم (سَلاسِلَ) من نار في جهنم تنتظرهم (وَأَغْلالاً) جمع غل ، وهو القيد (وَسَعِيراً) ونارا مشتعلة معدّة لعذابهم.
* * *
(إِنَّ الْأَبْرارَ
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً
(٥)
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)
يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
إِنَّما
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً
(٩) (إِنَّا نَخافُ مِنْ
رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠))
٥ ـ ٦ ـ (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ ...) الأبرار جمع برّ ، وهو المحسن المطيع لله تعالى الذي يقوم
بالحقوق الواجبة ويؤدّي النافلة. وقد أجمع المسلمون بكافة طوائفهم وفرقهم ،
المخالفون منهم والمؤالفون أن المراد بالأبرار هنا علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، وأن هذه الآية وما بعدها نزل فيهم دون غيرهم ، فهؤلاء
الأبرار يشربون في الآخرة من كأس : أي من إناء فيه شراب (كانَ مِزاجُها) أي يخالط الكأس (كافُوراً) وهو اسم عين في الجنة ، ذات رائحة طيّبة ، أي يمازجها ريح
الكافور الذي هو غير كافور الدنيا (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) أي أن العين الممتزجة بريح الكافور يشرب منها أولياء الله
وخصّهم بكونهم عباده تشريفا لهم (يُفَجِّرُونَها
تَفْجِيراً) أي يجرّون ماء هذه العين حيث شاؤوا من قصورهم ومنازلهم.
والتفجير هو شق الأرض بجري الماء. وقد قيل
إنّ أنهار الجنة
تجري بغير أخاديد ، وأن المؤمن إذا شاء أن يجري نهرا خطّ له خطّا فينبع الماء من
ذلك الموضع ويجري بدون تعب. أما قصة نزول هذه الآية في أمير المؤمنين وفاطمة
والحسن والحسين عليهمالسلام جميعا فهي أن الحسن والحسين عليهماالسلام مرضا فعادهما جدّهما رسول الله صلىاللهعليهوآله ووجوه أصحابه وقالوا يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذرا ،
فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهما الله تعالى ، ونذرت فاطمة عليهاالسلام مثل ذلك ، ونذرت فضّة خادمتهم مثله أيضا ، فبرئا وشفاهما
الله سبحانه ، فاستقرض عليّ عليهالسلام ثلاثة أصوع شعير من يهوديّ على ان يؤبّر له نخلا ، وجاء
بالأصوع إلى فاطمة عليهاالسلام فطحنت صاعا واختبزته وهيأته الفطور الصائمين. وبعد صلاة
المغرب قدمته لعليّ عليهالسلام فأتاهم مسكين فسألهم الطعام فأعطوه طعامهم قبل أن يذوقوه
وآثروا المسكين الجائع على أنفسهم ، وأفطروا على الماء ولم يذوقوا غيره. وفي اليوم
الثاني فعلت الزهراء عليهاالسلام بصاع ثان من الشعير ما فعلته بالصاع الذي قبله ، وقدمته
للصائمين في اليوم الثاني في موعد الإفطار فإذا يتيم يستطعمهم ويقف بالباب مستجديا
فأعطوه طعام فطورهم ولم يذوقوا غير الماء ، وكان اليوم الثالث الذي اختبزت فيه ما
بقي من الشعير وهيأته للفطور لأنهم باتوا صياما لليوم الثالث ، وبعد صلاة المغرب
قدّمت الفطور للصائمين فإذا أسير في الباب يستطعمهم فأعطوه الطعام ولم يفطروا إلّا
على الماء ، وفي اليوم الرابع كانوا قد قضوا نذرهم فأتى عليّ عليهالسلام إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ومعه الحسن والحسين عليهماالسلام وبهما ضعف ، فبكى رسول الله (ص) لحالهما وجوعهما ، فنزل
جبرائيل عليهالسلام بسورة هل أتى مدحا بهم ...
وهكذا وصف الله
تعالى أولئك الأبرار الذي برّوا بقولهم ووفوا نذرهم وتجشّموا صيام ثلاثة أيام على
الماء لأنهم تصدّقوا بطعامهم على المسكين واليتيم والأسير ، فقال تبارك وتعالى
فيهم :
٧ ـ ١٠ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ
يَوْماً ...) أي إذا نذروا طاعة لله وفوا بها وأدّوا الطاعة على أكملها.
والإيفاء بالنذر هو فعل ما نذر عليه إذا استجيب نذره ، فهم يفعلون ذلك على أتمّه (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ
مُسْتَطِيراً) أي يخشون شرّ يوم بلغ الشرّ فيه الغاية القصوى وانتشر في
كل الجهات كأنه يتطاير في الآفاق. وشرّ يوم القيامة هو العذاب الذي سمّاه سبحانه
شرّا لأنه لا خير فيه ، أو هي أهواله الضاربة في كل مكان والموجودة في كل موقف (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي يطعمونه للآخرين مع أنهم شديد والحبّ له والرغبة فيه ،
وهذا معناه أنهم يؤثرون المستحقين على أنفسهم. وروى أبو سعيد الخدري أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : ما من مسلم أطعم مسلما على جوع ، إلّا أطعمه الله من
ثمار الجنّة ، وما من مسلم كسا أخاه على عري ، إلّا كساه الله من خضر الجنّة ، ومن
سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق.
فهؤلاء عليهمالسلام رغم حبّهم للطعام وشهوتهم إليه ، يطعمون (مِسْكِيناً) أي فقيرا لا شيء له يطلب الطعام (وَيَتِيماً) لا والد له وهو من الأطفال غير القادرين (وَأَسِيراً) وهو المأخوذ أسرا من دار الحرب ، ويقولون في أنفسهم : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي طعاما خالصا مخلصا لله دون رياء ودون طلب جزاء (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا
شُكُوراً) على إطعامنا لكم ، فلا نطلب المكافأة العاجلة ولا نطلب
شكركم لنا من أجله إذ جعلناه خالصا لله تعالى (إِنَّا نَخافُ مِنْ
رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي نخاف عذاب يوم تقطّب فيه وجوه الكافرين خوفا وهلعا
فيبدو اليوم نفسه مكفهرّا غاضبا (قَمْطَرِيراً) صعبا شديدا لأنه يقلّص الوجوه ويقبض الجباه وما بين
الأعين.
* * *
(فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ
ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً
وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما
صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً
(١٢)
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا
زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ
ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا
(١٥)
قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً
(١٦)
وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً
(١٧)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))
١١ ـ ١٨ ـ (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ
...) أي كفى سبحانه الأبرار شرّ يوم القيامة ومنع عنهم أهواله
وشدائده (وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي أوصلهم إلى النّعم والسرور واستقبلهم بها (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) كافأهم لصبرهم على الطاعة ولاجتنابهم المعاصي ، ولرضاهم
ببلاء الدنيا وصعوباتها ، أثابهم (جَنَّةً وَحَرِيراً) يسكنون الجنّة ويلبسون الحرير ويفترشونه ويجلسون عليه (مُتَّكِئِينَ فِيها) يستندون كجلوس الملوك في الجنّة (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرّة والكراسي الفخمة الوثيرة (لا يَرَوْنَ فِيها) في الجنّة (شَمْساً) يتأذّون بحرّها (وَلا زَمْهَرِيراً) هواء باردا ينزعجون من برودته (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي تلفّهم أفياء تلك الجنة لأنها قريبة منهم لا تزيلها شمس
كما تزيل شمسنا ظلال الأشياء في الدنيا (وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي سهل أخذها وتناولها لأنها مسخّرة لطالبها إن قام واقفا
ارتفعت وإن جلس قاعدا نزلت وإذا اضطجع تدلّت إلى قربه فلا يحول دونها بعد ولا
مشقّة (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي يدار على أولئك الأبرار بأوعية من فضّة (وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو الكأس المعدّ للشرب من دون عروة ، أي بأقداح (كانَتْ قَوارِيرَا) أي هي من زجاج (مِنْ فِضَّةٍ)
قال عنها الإمام
الصادق عليهالسلام : ينفذ البصر في فضّة الجنة كما ينفذ في الزجاج. والمعنى
أنه اجتمع لها لمعان الفضة وصفاء
الزجاج مضاء يرى
ما في داخلها من خارجها. وقيل : هي قوارير من زجاج لها صفاء الفضة وقد حذف المضاف
هنا والتقدير : من صفاء الفضة (قَدَّرُوها
تَقْدِيراً) أي قدّرها الذين يسقون الأبرار بها تقديرا يساوي ريّ
الأبرار بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فالخدم هم الذين يقدّرون ذلك وهم الذين يسقون بها
الشاربين (وَيُسْقَوْنَ فِيها) في الجنّة (كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ممزوجة بالزنجبيل الذي هو ليس كزنجبيل الدنيا بل يفوقه
طعما ورائحة (عَيْناً فِيها
تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي أن المزيج هذا من عين تسمى السلسبيل ، وهي ـ كما قال
الزجاج ـ صفة لما كان في غاية السلاسة. وهي تسيل في طرقهم وفي منازلهم وحدائقهم
وتنبع من أصل العرس من حبّة عدن إلى سائر أهل الجنان. وقال ابن الأعرابي : لم أسمع
بالسلسبيل إلّا في القرآن. وقيل سميت السلسبيل لأنها يقاد ماؤها أينما شاء شاربها
، والله أعلم.
* * *
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ
ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ
رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
إِنَّ
هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))
١٩ ـ ٢٢ ـ (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ ...) أي يدور على أهل الجنة ، وعلى أولئك الأبرار خاصة ، ولدان
ذكرنا وصفهم سابقا (إِذا رَأَيْتَهُمْ) إن نظرت إليهم في صفائهم (حَسِبْتَهُمْ
لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لحسن منظرهم وجمال صورهم وبهاء رونقهم (وَإِذا رَأَيْتَ) نظرت (ثَمَ) يعني في الجنّة (رَأَيْتَ نَعِيماً) عظيما (وَمُلْكاً كَبِيراً) جزيلا قال عنه الإمام
الصادق عليهالسلام : لا يزول ولا يفنى. فهو ملك واسع ونعيم لا توصف كثرته ،
إذ قيل : إن أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى
أدناه (عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ) قيل : عالي : ظرف ، وذلك كقولك : فوقهم ثياب سندس. وقيل هي
حال وذلك كقولك : يعلوهم ثياب سندس وهو الثياب الرقيقة (خُضْرٌ) لونها كذلك (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو السندس الغليظ بخلاف الرقيق (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي تحلّت أيديهم بأساور الفضة الشفّافة التي يرى ما وراءها
فهي أفضل من الدر والياقوت (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) طاهرا من القذارة والدنس لا يصير بولا كخمر الدنيا بل
يترشح من أبدانهم كريح المسك. وقيل إن الرجل من الجنّة يعطى شهوة مائة رجل من أهل
الدنيا فيأكل ما شاء ، ثم يسقى الشراب الطّهور فيصير ما أكله رشحا كما ذكرنا وتهور
شهوته كما كانت (إِنَّ هذا) الذي وصفه سبحانه من نعيم الآخرة وملذّاتها (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي مكافأة لكم أيّها الأبرار والمؤمنون على أعمالكم
الصالحة (وَكانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُوراً) أي كان عملكم ومضيّكم في طاعة الله ، مقبولا مرضيّا وجزاؤه
كان بمثابة الشكر لكم عليه.
* * *
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦))
٢٣ ـ ٢٦ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ...) هذا خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقيل في معناه أنه سبحانه فصّله في الإنزال آية بعد آية
ولم ينزله جملة واحدة كما عن ابن عباس (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما
حمّلتك من أعباء
الرسالة ، واصبر (لِحُكْمِ رَبِّكَ) تقديره بأن تبلّغ الكتاب وتعمل بما فيه وتأمر الآخرين بذلك
، ثم اصبر على التكذيب والأذى أيضا ، وقيل إن قوله هذا سبحانه وعيد للمكذّبين
بدليل قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من المشركين في مكة (آثِماً) مرتكبا للإثم عنى به عتبة بن ربيعة (أَوْ كَفُوراً) عنى به الوليد بن المغيرة ، وذلك أن هذين المعاندين قالا
لرسول الله صلىاللهعليهوآله : ارجع عن هذا الأمر ونحن نعطيك من المال حتى ترضى ونزوّجك
بمن شئت من كرائم النساء ، وقيل إن الكفور هو أبو جهل الذي نهى النبيّ عن الصلاة
في حرم الكعبة وقال : لئن رأيت محمدا يصلّي لأطأنّ عنقه فنزلت الآية ، وقيل أيضا
إن هذا عامّ يشمل كل كافر عاص فلا تطع يا محمد من يدعوك للإثم والكفر (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) امض على طيّتك من العبادة والدعاء ودعوة الناس إلى الهدى (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في أول النهار وآخره ، وهو معينك وناصرك (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي بعض الليل لأن (مِنَ) للتبعيض لأنه لم يأمره بالقيام للصلاة طول الليل (وَسَبِّحْهُ) نزّه الله تعالى (لَيْلاً طَوِيلاً) طول الليل تطوّعا في حال انتباهك ويقظتك.
* * *
(إِنَّ هؤُلاءِ
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ
وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩)
وَما
تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ
يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١)
٢٧ ـ الى آخر
السورة : (إِنَّ هؤُلاءِ
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ...) أي أن هؤلاء
الكفرة الآثمين
المعاندين لكلام الله ودعوة رسوله ، يؤثرون ملذّات الدنيا الزائلة ويرغبون في
المنافع في دار الدنيا (وَيَذَرُونَ) يتركون (وَراءَهُمْ) يعني هنا أمامهم ، وقيل (وَراءَهُمْ) لأن يوم القيامة يأتي من بعدهم ، فهم يدعون (يَوْماً ثَقِيلاً) أي شديد العذاب عسير المآب لما يحمل لهم من أهوال وآلام (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ) أي أوجدناهم وأحكمنا خلقهم. وقيل إن الأسر يعني المفاصل
والأوصال والعروق التي ربطنا بعضها إلى بعض حتى يمكن العمل بها والانتفاع
بواسطتها. وقيل : شددنا أسرهم يعني قوّيناهم ، وقيل أيضا أخذناهم بالأمر والنهي
وجعلنا أمرهم بيدنا ومرجعهم إلينا كما يشد الأسير لكيلا يجد المهرب (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ
تَبْدِيلاً) يعني إذا أردنا أهلكناهم وأتينا بغيرهم ، ولكننا نبقيهم
حتى تتمّ عليهم الحجة ثم نأخذهم إلى عذاب لا ينقضي (إِنَّ هذِهِ) السورة أو المقالة (تَذْكِرَةٌ) عظة لمن شاء أن يتّعظ (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي من أراد سلك الطريق لما يرضي ربّه فعمل بطاعته وانتهى
عن معصيته وسلك الصراط السويّ (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي وما تريدون اتّخاذ تلك الطريق اختيارا إلّا أن يجبركم
الله تعالى عليها ويلجئكم إليها ، ولكن ـ حينئذ ـ لا ينفعكم ذلك إذ تكونوا مجبرين
على العمل ، ولذا لم يشأ سبحانه هذه المشيئة القسرية التي لا ثواب لفاعلها ، وترك
لكم الاختيار في الإيمان لتستحقوا الثواب. وقيل معناه أنكم لا تشاؤون شيئا من
العمل بطاعة الله إلّا شاءه الله لكم وأراده ، وليس معناه أنه سبحانه يشاء كل ما
يشاؤه العبد من المباحات والمعاصي وسائر الأعمال لأنه تعالى عن أن يريد القبيح
وجلّ عن أن يشاء لعبده ما ليس في مصلحته (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) فسّرناه سابقا (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ) أي تشملهم رحمته في الحياة ويدخلهم الجنة في الآخرة (وَالظَّالِمِينَ) من الكافرين والمشركين (أَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) هيأه لهم مسبقا ، وهم ملاقوه.
* * *
سورة المرسلات
مكيّة إلّا الآية
٤٨ فمدنية ، وآياتها ٥٠ نزلت بعد الهمزة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ
نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ
لَواقِعٌ (٧))
١ ـ ٧ ـ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ
عَصْفاً ...) أقسم سبحانه وتعالى بالرياح المرسلة متتابعة كعرف الفرس ،
وبالرّياح العاصفات الشديدة الهبوب ، وهو تعالى كأنه يقسم بقدرته التي صنعت ذلك. و
(عُرْفاً) نصت على كونها حالا على تقدير : والمرسلات تأتي عرفا واحدا
، وقيل إن الكلام يعني الملائكة الذين يرسلون بأمر الله تعالى ، وقيل هم الأنبياء
يجيئون بالمعروف والأول أقرب إلى الصواب (وَالنَّاشِراتِ
نَشْراً) أي وبحق القدرة المسيّرة للرياح التي تنشر السحاب نشرا
وتأتي بالمطر ، وقيل إنها الأمطار التي تنشر النبات ، والأقرب إلى الصواب أنها
الرياح التي ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته (فَالْفارِقاتِ
فَرْقاً) أي الملائكة التي تأتي بما يفرق بين الحق والباطل ، وقيل
هي آيات القرآن التي تفرّق بين الهدى
والضلال (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) وهي الملائكة التي تلقي الذّكر إلى الأنبياء وتلقيه
الأنبياء ، إلى الأمم لهدايتها (عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي أنها تلقي الذّكر للإعذار والإنذار من الله إلى خلقه.
وهذه كلّها أقسم الله بها ، أي بربّها وموجدها ، إذ لا يجوز القسم إلّا به سبحانه
، ليؤكد (إِنَّما تُوعَدُونَ
لَواقِعٌ) الذي هو جواب القسم الذي معناه أن ما وعدكم الله به من
البعث والثواب والعقاب كائن بلا شكّ وأنكم محاسبون ومثابون أو معاقبون بدون ريب ،
وقد أخذ سبحانه ببيان وقت وقوعه فقال به عزوجل :
* * *
(فَإِذَا النُّجُومُ
طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ
نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ
أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))
٨ ـ ١٥ ـ (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا
السَّماءُ فُرِجَتْ ...) أي فانتظروا يوم القيامة إذا محيت النجوم وزال ضوؤها ،
وانشقّت السماء وتصدعت وظهرت فيها فروج وشقوق (وَإِذَا الْجِبالُ
نُسِفَتْ) اقتلعت من أصولها وأزيلت من أمكنتها بإذهابها بسرعة حتى لا
يبقى لها أثر (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ) أي جمعت في وقت معيّن لتشهد على الأمم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخّرت وجعل لها أجل محدود. وقال الإمام الصادق عليهالسلام كما في المجمع ـ : أقّتت أي بعثت في أوقات مختلفة. وبعد
هذا كلّه بيّن سبحانه أنها كلها علامات (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي حين يفضل الله تعالى بين العباد ، وقد عظّم تعالى شأن
ذلك اليوم بسؤاله : (وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الْفَصْلِ) أي وأيّ شأن تعرف لذلك اليوم؟ وأخبر سبحانه عن حال
المكذّبين بوقوع ذلك اليوم فقال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) فهدّدهم وتوعّدهم لأنهم جحدوا بوقوعه وكان تكذيبهم به
نابعا من كفرهم بالله وبرسله ومن
ارتكابهم للمعاصي
وغرورهم بالدنيا الزائلة.
* * *
(أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤))
١٦ ـ ١٩ ـ (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ...) تابع سبحانه وعيده وتهديده للمكذّبين فقال سائلا منكرا
مقرّرا : ألم نفن المكذّبين السابقين لكم ونقتلهم بالعذاب في الدنيا كما فعلنا
بقوم نوح وعاد وثمود وغيّرهم من الأمم الكافرة الجاحدة (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي نلحق بهم من بعدهم كقوم لوط وإبراهيم ومن سواهم. والفعل
(نُتْبِعُهُمُ) غير معطوف على (نُهْلِكِ) ليكون مجزوما مثله ، ولكنه كلام مستأنف (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي كفعلنا بهؤلاء ممّن تقدّم ويتأخر ، نفعل بمجرمي مكة
ونقتلهم يوم بدر وفي غير تلك الواقعة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل وتعس لهم يوم الجزاء حيث نجازيهم بأشد العذاب.
٢٠ ـ ٢٤ ـ (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ
...) سؤال توبيخ وتقريع وإذلال ، يعني قد خلقناكم ، من ماء حقير
قذر جعلنا منه هذا العقل الحصين وهذا الجسم التامّ القوام إلى جانب النّطق
والإحساس وغيره ممّا يدل على الصانع الحكيم المدّبر القادر ، لأن ذلك الماء خلقناه
(فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ) يعنّي في الرحم محفوظا من العوامل الطبيعية المفسدة له
وأبقيناه (إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ) أي إلى وقت معيّن وهو مدة الحمل (فَقَدَرْنا) يعني قدّرنا خلقه ذكرا أو أنثى ، طويلا أو قصيرا ، أبيض أو
أسمر
(فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ) فما أعظم قدرتنا على ذلك ونعم المقدّرون نحن لذلك بتمام
حسن التقدير والتدبير (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) المنكرين أننا قادرون على الخلق والبعث.
* * *
(أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً
وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها
رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))
٢٥ ـ ٢٨ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ...) أي ألسنا نحن جعلنا الأرض تكفت العباد على ظهرها (أَحْياءً) وفي بطنها (أَمْواتاً) وتحوزهم في الحالين وتضمّهم في جميع أحوالهم. وفي المجمع
أن الشعبي خرج في تشييع ميّت ونظر إلى الجنازة فقال : هذه كفات الأموات ، ثم نظر
إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء (وَجَعَلْنا فِيها
رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي أرسينا فيها جبالا ثابتة عالية غاية العلوّ (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي ماء عذبا حلو الطّعم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بإحيائنا للناس وبإماتتنا لهم وبخلقنا المذكور.
* * *
(انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩)
انْطَلِقُوا
إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا
يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ
صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ (٣٥))
٢٩ ـ ٣٤ ـ (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ ...) هذا ما يخاطب به المكذّبون بالبعث وبعقابهم على عنادهم
وكفرهم ، يناديهم به خزنة جهنّم
قائلين لهم :
اذهبوا إلى النار التي كنتم تكذّبون بها في حياتكم ، ثم يكررون أمرهم بالانطلاق
إلى موضع معيّن منها : (انْطَلِقُوا إِلى
ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي نار ذات ثلاث شعب أو هو دخان تلك النار الذي سمّوه ظلّا
لسواده وشدّة ظلمته تحيط شعبه بالكافر من فوقه وعن يمينه وشماله ، وقيل إن ألسنة
من لهب جهنّم تلفّ المكذبين بهذا الشكل حتى يفرغوا من الحساب بحيث يكونون في ظلّ (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي أنه لا يعتبر ظلّا يستريح المرء فيه ويمنع عنه الأذى
والعذاب ، ولا يردّ عنه شيئا من اللهب المستعر الذي يرتفع من نار قال سبحانه في
وصفها : (إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي أن شرارها الذي يتطاير منها في الجهات تكون الشرارة منه
بحجم القصر ، أي المنزل الكبير الضخم (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ
صُفْرٌ) جمع : جمل ، أي كأن الشرارة الواحدة كالجمل الأصفر (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النار المخيفة التي أعدّها الله لهم وسجرّها لغضبه
وللكافرين بما جاء من عنده.
* * *
(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))
٣٥ ـ ٤٠ ـ (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا
يُؤْذَنُ لَهُمْ ...) وصف سبحانه حال الكافرين بالبعث وأنهم يوم القيامة لا
ينطقون بشيء ينفعهم ولا بحجّة تدفع عنهم قبل أن يختم على أفواههم. فقد جاء عكرمة
رجل قال له : أرأيت قول الله تعالى : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ) ، وقوله ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)؟ فقال عكرمة : انها مواقف. فأمّا موقف منها فتكلّموا
واختصموا ، ثم ختم على أفواههم
وتكلّمت أيديهم
وأرجلهم ، فحينئذ لا ينطقون (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) أي لا يسمح لهم (فَيَعْتَذِرُونَ) فيبدون أعذارهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه الحال التي تصيب الكافرين (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المؤمنين من أهل الجنّة ، وبين الكافرين من أهل النار
وهو يوم القضاء ، وعزل هؤلاء عن هؤلاء والانتصاف للمظلوم من الظالم (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) حشرناكم يا مكذّبي هذه الأمة من كفرة مكة وغيرها مع مكذّبي
الأمم السابقة في يوم واحد وصعيد واحد (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إذا كانت بيدكم حيلة فاستعملوها لتنجوا أنفسكم من
العذاب ، وتخلّصوا من بطشي وانتقامي إذا استطعتم أيها المعاندون المكابرون. وهذا
غاية التقريع والتوبيخ لهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الموقف الرهيب المخزي للكافرين.
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥))
٤١ ـ ٤٥ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ
وَعُيُونٍ ...) هنا يبيّن سبحانه حال المؤمنين الذين صدّقوا رسله وعملوا
بطاعته وتجنّبوا معاصيه ، وأنهم يكونون في ظلال أشجار الجنة وعيونها جارية من
حولهم (وَفَواكِهَ) أي ثمار (مِمَّا يَشْتَهُونَ) من الثمار التي يحبّونها وتهواها نفوسهم ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي يقال لهم بلسان الحال وبمعنى الإباحة : كلوا من الثمر
خالصا من الكدر وتهنّأوا بأكلكم وشربكم (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نكافئ من أحسن إلى نفسه وإلى غيره من عبادنا بهذه
العطايا السنيّة وننزله في الجنّة خالدا مخلّدا في نعيمها (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بوعدنا
هذا لعبادنا
المؤمنين.
* * *
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))
٤٦ ـ إلى آخر
السورة ـ (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ...) عاد سبحانه إلى تقريع المكذّبين وتوبيخهم فقال عزوجل : كلوا في دنياكم ، واستمتعوا استمتاعا قليلا في حياتكم ،
لأن متاع الدنيا قليل (إِنَّكُمْ
مُجْرِمُونَ) مسيئون لأنفسكم ولغيركم وقد ارتكبتم جريمة الشّرك والكفر (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النهاية التي يؤول إليها أمر المكذّبين بالبعث
والحساب وبهذا الوعيد ، فإنهم كانوا عصاة معاندين لم يؤمنوا ولا وحّدوا الله ولا
عبدوه (وَ) كانوا (إِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا) اي صلّوا (لا يَرْكَعُونَ) لا يمارسون الركوع بل يأنفون منه ويعدّونه مذلّة ، فعن
مقاتل أن هذه الآية نزلت في ثقيف فقد أمرهم النّبيّ صلىاللهعليهوآله بالصلاة فقالوا : لا ننحني فإن ذلك سبّة علينا. فقال (ص):
لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود. وعن ابن عباس : أنه يقال هذا للكافرين في يوم
القيامة فلا يستطيعون الركوع بل تتصلّب ظهورهم لأنهم لم يتعوّدوه في دار الدنيا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالصلاة وبعبادة الله تبارك وتعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي فبأيّ كتاب بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) يصدّقون به ، وهم لم يصدّقوا بهذا الكتاب المعجز الجميل
السبك البليغ القول المشتمل على الحجج والآيات البيّنات؟.
* * *
سورة عمّ
مكيّة ، وآياتها
٤٠ نزلت بعد المعارج.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ (٥))
١ ـ ٥ ـ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ ...) النبأ هو الخبر العظيم الذي يكون له شأن وأهميّة ،
والتعبير هنا تعبير سؤال واستفهام ، ولكنّ المراد به تفخيم الأمر الذي (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا عنه ، وهو كمثل قولنا : أيّ رجل فلان إذا
أردنا تعظيم شأنه ، وقد أنزل الله تعالى ذلك لأنهم حين بعث محمد صلىاللهعليهوآله وأخبرهم بوجوب توحيد الله وبالعبادة وبالبعث والحساب ،
وتلا عليهم القرآن ، تساءلوا متعجّبين ومنكرين ما جاء به النبيّ (ص) من أمر البعث
بعد الموت بصورة خاصة. وقيل إن النبأ العظيم هو القرآن الذي يخبر عن ذلك كلّه
ويتحدث عن الخلق والملائكة والجنّة والنار والنبوّة والخلافة وما الى ذلك من (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) بين مصدّق ومكذّب ، ولذلك قال سبحانه : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يقولون و (سَيَعْلَمُونَ) عاقبة التكذيب بما
جاء به محمد (ص)
حين ينكشف لهم أمر النبوّة وما جاءت به ، وأمر العبادة والخلافة والبعث والجنّة
والنار. وقد قال تعالى ذلك مهدّدا ومتوعدا ، ثم أكّد توعّده وتهديده بقوله : (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) اي حقّا سيعرفون ذلك ويرون ما يصيبهم يوم القيامة من
العذاب. ثم أخذ سبحانه يبيّن للناس قدرته واستدلّ على صحة ذلك القول بقوله عزّ من
قائل فيما يلي :
* * *
(أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ
أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ
أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا
النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً
وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً
(١٦))
٦ ـ ١٦ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ،
وَالْجِبالَ أَوْتاداً ...) أي أننا قادرون على البعث كما أننا قدرنا على الخلق الأول
فنحن خلقنا الأرض وجعلناها مهادا : أي وطاء وبساطا مهيأ للتصرّف بسهولة وبدون أذية
لكم (وَ) جعلنا (الْجِبالَ أَوْتاداً) تمسك الأرض حتى لا تميد بأهلها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) ذكرانا وإناثا من أجل التناسل وبقاء النوع وبحيث يستمتع
بعضكم ببعض ، وقيل : خلقناكم أشكالا متشابهة ، كما قيل جعلناكم أصنافا من أبيض
وأسود وصغير وكبير ، والأول أصح لأن أكثر المخلوقات تتوالد بالتلقيح (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي جعلنا النوم لكم راحة واستقرارا لأجسادكم ، وقيل يعني
لم نجعله موتا ولا خروجا من الحياة والإدراك ، ولكنه هدوء ودعة وقطع لأعمالكم
ترتاح أثناءه أجسامكم (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً) أي سترة تستترون بظلامه كما يستر أحدكم جسمه
بالثياب (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وقتا تطلبون فيه العيش وتبتغون فيه من ربّكم الرزق (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سماوات قويّة محكمة الصّنع قد اتقنّا بناءها (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) وهو الشمس التي جعلها تعالى سراجا للعالمين يتّقد ويتوهّج
بنوره المتلألئ فيستضيئون به. وعن مقاتل : جعل فيه نورا وحرّا ، والوهج يجمعهما (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً
ثَجَّاجاً) أي أنزلنا من الرياح ذوات الأعاصير مطرا. فكأنه سبحانه قال
: أنزلنا من الرياح ذوات الأعاصير مطرا. فكأنه سبحانه قال : أنزلنا بالمعصرات ، أي
بواسطتها لأنها هي التي تحمل المطر وتسوقه من مكان إلى مكان. وعن ابن عباس وغيره
أن المعصرات هي السحائب التي تتحلّب المطر. و (ثَجَّاجاً) يعني يندفع حين انصبابه ، وقيل : مدرارا ، وقيل متتابعا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) أي لننبت به الحبّ الذي تزرعونه ، وغيره من الحبوب التي
تتفتّح عنها الأكمام بعد نضجها ، فقد جمع الله تعالى بين كلّ ما يخرج من الأرض من
نبات الحبوب المختلفة. وقيل حبّا تأكله الناس ، ونباتا تطلعه حدائق وبساتين ملتّفة
الأشجار كثيرة الثمار. وقد كنّي عنها بالجنّات لأن شجرها يجنّ الأرض ، أي يسترها
... فهذه آيات كثيرة تدل على قدرة الخالق عزّت قدرته ، وتفيد من قدر على ذلك لا
يعجزه البعث بعد الموت إذا تفكّر الإنسان وتدبّر.
* * *
(إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧)
يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)
وَفُتِحَتِ
السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ
الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً
(٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً
وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ
شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً
(٣٠))
١٧ ـ ٢٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً
...) بعد بيان آيات الخلق الدالّة على عظمته سبحانه ، أكد قائلا
: (إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي أن اليوم الذي يفصل فيه الله تعالى بين الخلائق ويقضي
بينهم ، هو (ميقات) : موعد محدّد لما وعد به سبحانه من البعث والحساب والثواب
والعقاب ، وهو معيّن بوقت محتوم (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) مرّ تفسيره (فَتَأْتُونَ
أَفْواجاً) فتجيئون جماعات جماعات وزمرا زمرا حتى تكتملوا للحساب ،
ويكون كلّ شكل مع شكله ، بل قيل تأتي كلّ أمّة مع نبيّها (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي انشقّت لتنزل منها الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي ذات أبواب وطرق ، ولم تكن كذلك قبل ذلك (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي أزيلت عن أماكنها ودكّت وذهبت وانهدّت وصارت كالسراب
الذي يحسبه الظمآن ماء وهو ليس بماء. و (يَوْمَ يُنْفَخُ) منصوب لأنه بدل من يوم الفصل ، و (أَفْواجاً) نصبت على الحال من الضمير في (فَتَأْتُونَ)
وفي المجمع عن
البراء بن عازب : سأل معاذ بن جبل رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) ، الآيات : فقال : يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر ، ثم
أرسل عينيه ـ أي بكى بدموع ـ ثم قال : يحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتا قد ميّزهم
الله من المسلمين وبدّل صورهم ، بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير
، وبعضهم منكسّون أرجلهم من فوق ، ووجوههم من تحت ، ثم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي
يتردّدون ، وبعضهم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم
لعابا يتقذّرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على
جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيّف ، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران
لاصقة بجلودهم.
فأمّا الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ـ أي النمّامون ـ وأما الذين على
صورة الخنازير فأهل السّحت ، وأمّا المنكّسون على رؤوسهم فأهل الرّبا ، والعمي
الجائرون في الحكم ، والصمّ والبكم المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون بألسنتهم
فالعلماء والقضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم ، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين
يؤذون الجيران ، والمصلّبون على جذوع من نار فالسّعاة بالناس إلى السلطان ، والذين
هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتمتّعون بالشهوات واللذات ويمنعون حقّ الله في
أموالهم ، والذين يلبسون الجلبات فأهل الفخر والخيلاء. نعوذ بالله وحده من كلّ
ذلك.
٢١ ـ ٣٠ ـ (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً
لِلطَّاغِينَ مَآباً ...) أي هي محلّ رصد يرصد بها خزنتها الكفّار ليلقوهم فيها.
وقيل يعني هي معدّة للكفّار ، وقيل هي محبس للعاصين يكون منهلهم وموردهم ، فهي على
رصد للكافرين فلا يفوتونها. والطاغون هم الذين جاوزوا حدود الله وطغوا في معاصيه ،
فجهنّم مآبهم : مرجعهم الذين يئوبون إليه في نهاية مطافهم ، فكأنهم قد كانوا فيها
بطغيانهم وإجرامهم ثم عادوا إليها آيبين (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة كما عن قتادة. أي أنهم
يبقون فيها حقبا بعد حقب حتى يبلغ ذلك زمانا كثيرا. أما مجاهد فقال : الأحقاب
ثلاثة وأربعون حقبا ، كلّ حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمئة
وستون يوما ، وكل يوم ألف سنة! ـ نعوذ بالله من ذلك ـ ومن الأقوال ـ كما في المجمع
ـ أن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال : لابثين فيها أحقابا ، فو الله
ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر كذلك إلى أبد الآبدين. وفي العياشي بإسناده عن
حمران قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن هذه الآية فقال : هذه في الذين يخرجون من النار. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
شَراباً) أي لا يصادفهم برد يمنع عنهم حرّ جهنّم ، ولا شراب ينقع
غلّتهم ويدفع
عطشهم فيها ، وقيل
لا يتذوّقون فيها برد النوم ولا شراب ماء ينفع من العطش ، إذ يقال عن النوم :
البرد ، كما في قول الكندي :
بردت مراشفها
عليّ فصدّني
|
|
عنها وعن
قبلاتها البرد
|
فلا يذوقون فيها
النوم إذا ولا الماء (إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً) سوى الماء الحارّ ، والغسّاق الذي هو صديد أهل النار ،
ليكون (جَزاءً وِفاقاً) أي عقابا موافقا لكفرهم وشركهم فإنه ليس بعد الكفر ذنب ،
وليس أعظم من ذنب الشّرك أيضا ، وليس أعظم من هذا العذاب بالنار ، فجزاؤهم موافق
لعملهم (إِنَّهُمْ كانُوا لا
يَرْجُونَ حِساباً) فهم لم يكونوا يتوقعون بعثا ولا محاسبة على كفرهم وشركهم ،
وكانوا ينكرون المجازاة على السيئات ولا يظنّون ان ذلك واقع بهم (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي أنكروا ما جاءهم به رسلنا من البيّنات ، وقيل : يعني
كذّبوا بالقرآن تكذيبا ولم يصدقوه (وَكُلَّ شَيْءٍ) من أعمالهم وأعمال سائر المخلوقات (أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي أحصيناه في اللوح المحفوظ ، وقيل : وأحصينا كلّ شيء من
أعمالهم وحفظناه لنعاقبهم عليه ، وذلك ما كتبه الحفظة عليهم بدليل قوله سبحانه :
كتابا ، أي كتابة ، واللفظة حال هي تعني أن الإحصاء وقع بالكتابة (فَذُوقُوا) أي فيقال لأولئك الكفرة : ذوقوا العذاب الذي أنتم فيه (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ) معه وبعده (إِلَّا عَذاباً) يزاد عليه كيلا ترتاحوا من ألم العذاب.
* * *
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ
أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً
حِساباً
(٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧)
يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))
٣١ ـ ٤٠ ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً ،
حَدائِقَ وَأَعْناباً ...) بعد أن ذكر سبحانه وعيده للكافرين ، أخذ بذكر وعده
للمؤمنين فقال : إن للمتّقين للذين اجتنبوا ما يسخط الله تعالى مفازا : أي منجى ،
وهو النجاة من النار ، ثم بيّن ذلك الفوز قائلا (حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي حدائق الجنّة وثمارها التي كنّى عنها بالأعناب (وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي جواري ـ صبايا ـ قد تكعّبت أثداؤهنّ ، فالكواعب مفردها
: كاعب ، وهي التي برز ثديها في أول صباها ، وكنّى عنهنّ بالأتراب لبدلّ على أنهنّ
يكنّ من سنّ أزواجهن ومثلهم في الحسن (وَكَأْساً دِهاقاً) أي كؤوسا مملوءة بالشراب تكون على قدر ريّهم فلا تزيد ولا
تنقص (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يسمعون في الجنّة لغوا : كلاما لا فائدة فيه ولا
يكذّب بعضهم بعضا. وقرئ : كذابا : بالتخفيف ، أي ولا كذبا على أنه مصدر : كذب. فهم
كذلك منعّمون (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي ثوابا لتصديقهم بالله تعالى وبرسوله صلىاللهعليهوآله ، وكان ذلك (عَطاءً) لهم من ربّك. واللفظة منصوبة على المصدر ، أي أعطاهم عطاء (حِساباً) أي محسوبا كافيا ، وقيل كثيرا ، كما قيل على حسب الاستحقاق
وقد قدّر كافيا لما يشتهونه. وهذا العطاء من ربّك يا محمد (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مرّ تفسير مثلها ، فهو خالق كل ذلك ومدبّره (الرَّحْمنِ) اللطيف به الذي يرحم المؤمن والكافر ، وهم (لا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ
خِطاباً) أي لا يقدرون أن يسألوه إلّا فيما رخّص به وأذن للمقرّبين
منه تبارك وتعالى. والخطاب هو توجيه الكلام ولذا قال مقاتل معناه : لا يقدر الخلق
ان يكلّموا الرّب إلّا بإذنه.
وقرأ الحجازيون (رَبِ) بالرفع ، فقطعوه عن البدليّة من الاسم الأول ، وجعلوه
مبتدأ خبره (الرَّحْمنِ) واعتبروا الكلام مستأنفا ، (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي يقفون مصطفّين في ذلك اليوم قائمين بأمر الله منتظرين
ما يصدر عنه عزّ وعلا. أما (الرُّوحُ) فقيل هو خلق من خلقه سبحانه ، وتعالى ، يشبه بني آدم
وليسوا منهم ، يقومون يوم القيامة صفّا في مقابل صفّ الملائكة. وقال مقاتل ومجاهد
وغيرهما : (صَفًّا) هما سماطا ربّ
العالمين يوم القيامة ، أي هما صفّان : واحد من الملائكة ، وواحد من الروح. وقيل
إن الروح واحد من الملائكة لم يخلق الله تعالى أعظم منه يكون هو وحده صفّا يوازي
صفّ الملائكة أجمعين. ثم قيل إنه عنى النوع أي أن أرواح الناس تقوم مع الملائكة
بين النفختين ، بل قيل هو جبرائيل عليهالسلام ، والجميع يقفون بين يدي الربّ منكّسة رؤوسهم من رهبة
الموقف ، فإذا أذن الله للملائكة بالكلام قالوا : لا إله إلّا أنت. فهم (لا يَتَكَلَّمُونَ) بشيء (إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ) أي رخّص له ، وهم الملائكة والمؤمنون (وَقالَ صَواباً) أي قال في الدنيا بالتوحيد ، وقيل إن (القول) هنا الشفاعة
فهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى. وفي المجمع عن الصادق عليهالسلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم
القيامة والقائلون ، نمجّد ربّنا ونصلّي على نبيّنا صلىاللهعليهوآله ونشفع لشيعتنا فلا يردّنا ربّنا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي اليوم الذي لا ريب فيه دلائل (فَمَنْ شاءَ) أراد (اتَّخَذَ إِلى
رَبِّهِ مَآباً) أي جعل لنفسه مرجعا صالحا ، فآب : رجع إلى ربّه حين الموت
بعمل صالح وطاعة تامّة بعد أن هداه الله بالرّسل ومكنّه من عمل الطاعات. وانتقل
سبحانه بعد هذا الترغيب إلى ترهيب الكفّار وتخويفهم بقوله : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ)
خوفّناكم أيها
الكافرون (عَذاباً قَرِيباً) لأنه آت تلاقونه بعد موتكم وتواجهونه يوم القيامة (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ) كل إنسان (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) ما قدّم من الطاعة التي عبّر عنها باليدين لأن أكثر
الأعمال تباشر بهما ، يرى ذلك مكتوبا في صحيفة أعماله مثبتا بكل دقّة (وَيَقُولُ الْكافِرُ) حينئذ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً) أي : آه لو بقيت ترابا ولم يرجع جسمي ولم تعد روحي لأتخلّص
من الحساب في هذا اليوم ، ويا ليتني لم أبعث ولم أحشر. وقيل إنه يتمنّى أن يكون
ترابا لأن الله سبحانه يحشر الوحوش والهوامّ وجميع الحيوانات لتقتصّ الجمّاء ـ التي
ليس لها قرون ـ من القرناء التي نطحتها أو اعتدت عليها بقرونها ، وبعد أن يتم
الاقتصاص لجميعها يقول الله سبحانه وتعالى : انّا خلقناكم وسخرّناكم لبني آدم ،
وكنتم مطيعين أيام حياتكم ، فارجعوا إلى الذي كنتم ، كونوا ترابا ، فتكون ترابا.
فإذا رأى الكافر ذلك قال : يا ليتني كنت ترابا ، أي يا ليتني كنت حيوانا في الدنيا
، لأصير ترابا في هذا اليوم العصيب.
* * *
سورة النازعات
مكيّة وآياتها ٤٦
نزلت بعد النبأ.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً (٥))
١ ـ ٥ ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَالنَّاشِطاتِ
نَشْطاً ...) قيل إن النازعات هي الملائكة التي تنتزع أرواح الكفار
بشدّة وعنف كما يغرق نازع القوس فيبلغ به عناية المدى لينطلق السهم منه بسرعة ، أو
هو نزعها لأرواح جميع بني آدم مغرقة في ذلك ماضية فيه تشتد مع الكافر وترفق
بالمؤمن. وقيل هي النجوم تنتقل من أفق إلى أفق وتطلع وتغيب ، كما قيل إنهم
المجاهدون في سبيل الله المشهرون لسلاحهم الماضون لذلك بعزم وقوة. وكذلك الناشطات
قيل معناها ما ذكرناه سابقا من نزع نفوس الكافرين مما بين الجلد والأظفار لتخرجها
منهم بكرب وصعوبة كما ورد عن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام. والنّشط هو الجذب ، ولذلك قيل إنهم الملائكة ينشطون نفوس
المؤمنين ويقبضونها بسهولة ، بل قيل إنها نفوس المؤمنين تنشط للخروج من الأجساد
عند الموت إذ تعرض الجنة على المؤمن
قبيل موته ويرى
موضعه فيها وحاله من القصور والأزواج والحور ، فتنشط نفسه وتخرج مختارة (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) قيل هي الملائكة تقبض أرواح المؤمنين وتسبح بها في الفضاء
، كما قيل إنها الملائكة التي تنزل من السماء مسرعة كقولهم : جواد سابح ، أي سريع
، وعن عطاء أنّها السفن تسبح في الماء (فَالسَّابِقاتِ
سَبْقاً) قيل انها الملائكة لأنها سبقت بني آدم بالإيمان والطاعة ،
أو أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنّة كما في المرويّ عن أمير المؤمنين عليهالسلام
، وقيل هي أرواح
المؤمنين تسبق إلى الملائكة حين يقبضونها ، أو هي الخيل في الحرب (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)
أي الملائكة تدبّر
أمر العباد من سنة إلى سنة كما عن عليّ عليهالسلام
، أو هم جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل وملك الموت الموكّلون بتدبير الدنيا لأن جبرائيل (ع) موكّل
بالرياح والجنود ، وميكائيل (ع) بالقطر والنبات ، وملك الموت بقبض الأرواح ،
وإسرافيل يتنزّل بالأمر عليهم. وقد قال الإمام الصادق عليهالسلام : إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لخلقه أن
يقسموا ألّا به. ذلك أنه يقسم بالخلق بغية العبرة لعظم شأن المقسم به ولعظيم قدرة
خالقه ، وقد أقسم سبحانه بكل ما مرّ بأنكم أيها العباد لتحشرنّ ولتحاسبنّ في يوم
القيامة الذي وصفه سبحانه فيما يلي :
* * *
(يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا
عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (١٤))
٦ ـ ١٤ ـ (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ،
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ...) أي يوم النفخة
الأولى التي هي
صيحة عظيمة ترجف منها الأرض وتنخلع لها الأفئدة فتموت جميع الخلائق ، ثم تتبعها
الرادفة : النفحة الثانية التي تردف الأولى أي تتبعها فتبعث الخلائق من جديد ، وهو
كقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خائفة أعظم خوف ، مضطربة أشد اضطراب (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) وذليلة من أهوال ذلك اليوم (يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي يقول الكافرون المنكرون للبعث ، هل إننا معادون أحياء
بعد الموت ، ونردّ إلى حالنا السابقة. والحافرة معناها : أول الشيء وابتداء الأمر
، وقال ابن عباس : هي الحياة الثانية ، وقيل إن الحافرة هي الأرض المحفورة ، وعلى
هذا الأساس يكون معنى كلامهم : أنردّ بعد الموت من قبورنا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي وبعد أن نصير عظاما بالية مفتّتة؟ (قالُوا : تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي قال الكافرون : هذه الرجعة بعد الموت رجعة خسران حيث
نقلنا من نعيم الحياة الدنيا إلى عذاب النّار في الحياة الآخرة. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي : ليست النفخة الأخيرة إلّا صيحة من إسرائيل عليهالسلام يزجرهم بها فيسمعونها وهم في بطن الأرض فيعودون أحياء (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي : وفجأة يكونون على وجه الأرض وقد سمّيت الساهرة لأنها
تعمل في تغذية النبات ليلا كما تعمل في النهار. وقيل إن الساهرة هي عرصة يوم
القيامة حيث يقف الناس في سهر دائم ولا يستطيعون النوم.
* * *
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ
إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى
رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ
الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ
أَدْبَرَ
يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))
١٥ ـ ٢٦ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ
رَبُّهُ ...) إكمالا لفائدة تفصيل حال الكفّار في الآخرة وأخذ العبرة في
الدنيا ، ذكر سبحانه قصة موسى عليهالسلام مع قومه في استفهام أراد به التقرير ، أي : يا محمد قد
أتاك حديث موسى وعرفت قصّته (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) حيث ناداه تعالى اسمه فقال له : يا موسى (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي حينما كان في طوى ـ وهو اسم الوادي ـ المطهّر بما ظهر
فيه من آيات الله العظمى إذ أمره بقوله : (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي رح إليه فإنه تكبّر وعلا وتجاوز الحدّ في الكفر
والاستعلاء (فَقُلْ هَلْ لَكَ
إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي اسأله قائلا : هل لك أن تتطهّر من الشّرك والكفر بشهادة
لا إله إلّا الله ، وهل ترغب في الإسلام؟ (وَأَهْدِيَكَ إِلى
رَبِّكَ) أدلّك إلى معرفته جلّ وعلا فتسلك الطريق التي تؤدّي إلى
ثوابه (فَتَخْشى) فتخاف على نفسك وتقلع عمّا أنت فيه من الحال؟ (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي أن موسى عليهالسلام أرى فرعون آية العصا (فَكَذَّبَ) فرعون وأنكر كونها آية من الله تعالى (وَعَصى) خالف نبيّ الله وكذّب بنبوّته (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أشاح بوجهه عن آية ربّه وولّى دبره ليفكّر بما يردّ به
معجزة موسى ، ومضى (يَسْعى) في الفساد كعادته. وقيل إنه لمّا رأى الحية أدبر منفتلا
وهرب ساعيا للنجاة ، والأول أصحّ (فَحَشَرَ فَنادى) أي فجمع قومه وجنوده وصرخ فيهم : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي أنني لا ربّ لكم فوقي ، وبيدي ضرركم ونفعكم (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولى) أي أخذه وأهلكه بالغرق ونكلّ به نكالا وأعدّ له نكالا في
الآخرة. والنكال مصدر (نكل) إذا حارب الآخرين وفعل بهم الأفاعيل من العذاب. وفي
المجمع عن أبي جعفر عليهالسلام أنه كان بين الكلمتين أربعون سنة ، وعن ابن عباس قال : قال
موسى عليهالسلام : يا رب إنك أمهلت
فرعون أربعمائة
سنة وهو يقول أنا ربّكم الأعلى ويجحد رسلك ويكذّب بآياتك. فأوصى الله تعالى إليه :
إنه كان حسن الخلق سهل الحجاب فأحببت ان أكافيه. وأما إمهاله هذا فقد قال عنه أبو
جعفر عليهالسلام ـ كما عن أبي بصير ـ : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال جبرائيل عليهالسلام : قلت : يا ربّ تدع فرعون وقد قال أنا ربّكم الأعلى؟ فقال
: إنما يقول هذا مثلك من يخاف الفوت ـ أي أن فرعون لعنه الله في ملك الله وتحت
سلطانه وهو لا يعجزه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في فعل فرعون وتكذيبه ومعصيته وأخذنا له وتنكيلنا به (لَعِبْرَةً) أي عظة (لِمَنْ يَخْشى) لمن يخاف الله تعالى ويخاف عقابه ، وهي دليل واضح يميّز
فيه الحق من الباطل ، فينبغي للعاقل أن يتّعظ ويستفيد فيأخذ من دنياه لآخرته.
* * *
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧)
رَفَعَ
سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها
وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ
أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))
٢٧ ـ ٣٣ ـ (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ بَناها ...) بعد ذكر قصة فرعون وما فعل به سبحانه ، وبقومه من الغرق
فضلا عمّا أعدّه لهم من عذاب الآخرة ، خاطب من كان من المكابرين على عهد رسول الله
صلىاللهعليهوآله محذّرا لهم ومهدّدا وقال : هل أنتم أيّها المشركون أشد :
أقوى خلقا من السماء التي (بَناها) بهذه العظمة وهذه السعة التي لا تحدّ؟ إنه لا يكبر عليه
سبحانه خلق شيء مهما عظم فقد خلق السماء هكذا و (رَفَعَ سَمْكَها) أي سقفها وما ارتفع منها (فَسَوَّاها) جعلها مستوية بلا فطور ولا شقوق فأحكم بناءها (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) جعله مظلما (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر نهارها ، وقد أضاف النهار والليل إلى السماء لأن
النور
والظلام ينشئان
منها بشروق الشمس وغروبها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السماء بسط الأرض ، والدحو هو البسط ، وقيل إن
الأرض كانت ربوة تحت الكعبة فبسطها سبحانه من هناك ، ثم (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها ما يأكله
الإنسان والحيوانات وما تحصل منه سائر أرزاق الأحياء (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي ثبّتها في الأرض فجعلها راسية فكانت الأرض هكذا (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أوجد فيها ما تستمتعون به أنتم وأنعامكم مما تخرجه
الأرض من خيراتها العميمة. وقد دلّ بذلك كلّه على قدرته سبحانه على البعث كما قدر
على إيجاد هذه الأشياء وعلى إيجادكم.
* * *
(فَإِذا جاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى (٤١))
٣٤ ـ ٤١ ـ (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ...) أي إذا جاءت القيامة الهائلة المخيفة التي تطمّ على كل
مصيبة وكل داهية مخيفة وتغلبها وتفوقها. فالقيامة داهية عظمي تتجلّى عظمتها في
الفصل ، حيث يساق أهل الجنة ، إلى الجنّة وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي يكون ذلك التذكّر لما قدّمه الإنسان من عمل حين مجيء
تلك الطامة الكبرى إذا بدت الجنّة للمؤمنين (وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ) أي أظهرت النار (لِمَنْ يَرى) من الخلق بحيث يراها جميع الخلائق رأي العين ويشاهدون
أهوالها (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي فأمّا الذي تجاوز حدود الله وعصى أوامره (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فضّلها على الآخرة وقدّمها عليها (فَإِنَ
الْجَحِيمَ) أي النار (هِيَ الْمَأْوى) أو مأواه ومقرّه الذي يؤول أمره إليه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي خاف الوقوف بين يدي الحساب وخشي مساءلة ربّه عمّا فعله
وتركه (وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) أي زجر نفسه ومنعها عن ركوب هواها وممارسة المحارم
وعمّاتهم به من المعاصي (فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى) أي : فالجنّة مقرّه الذي يأوي إليه يتنعّم فيه جزاء عمله
الطيّب وطاعاته.
* * *
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢)
فِيمَ
أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))
٤٢ ـ آخر السورة ـ
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ...) أي يسألك المنكرون للبعث يا محمد : متى يكون قيام القيامة
المؤكّد الثابت المحدد الوقت والمكان؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها) أي وما أنت على شيء من العلم بها وبذكر موعدها إذ لا تعلم
وقتها وإن كنت تعلم أن وقوعها كائن لا محالة ، وليس من وظيفتك معرفة ذلك وإن كانت
رسالتك تحتوي التحذير منها ليعمل لها الناس ويحسبوا لها حسابا (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) المنتهى هو الموضع الذي يبلغه الشيء ، والمعنى أن ربّك
يعرف منتهى أمرها ومنتهى علمها الذي لا يعرفه غيره (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي فلست إلّا منذرا : مخوّفا ومحذّرا لكلّ من يخافها
ويرهبها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها) أي كأن الناس يوم يشاهدونها ويعاينون يوم القيامة (لَمْ يَلْبَثُوا) لم يبقوا في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً
أَوْ ضُحاها) سوى قدر بسيط من نهاية النهار أو من أوله ، فالعشيّة هي
آخر النهار وما قبل المغيب بقليل ، والضحى هو بعد الصباح وحيث ترتفع الشمس في
الأفق قليلا. وقد قيل : كأنهم حين
يرون القيامة
يعتبرون أن الحياة الدنيا كانت قصيرة كالعشية أو كالضحى. وقرئ (مُنْذِرُ) بالتنوين وبدون تنوين.
* * *
سورة عبس
مكيّة وآياتها ٤٢
نزلت بعد النّجم.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)
أَمَّا
مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ
جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى (١٠))
١ ـ ١٠ ـ (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى ...) لنزول هذه الفقرة من هذه السورة المباركة سبب هامّ ذكره
المفسّرون ونذكره تقليدا لا اقتناعا به وسنذكر غيره ، وهو أن عبد الله بن أم مكتوم
أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يناجي جبابرة من قريش هم : عتبة بن ربيعة ، وأبو جهل
بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبيّ وأمّيّة ابنا خلف ، ويدعوهم الى الإسلام
ويرجو إقناعهم ، فقال ابن أم مكتوم : علّمني ممّا علّمك الله يا رسول الله. فلم
يلتفت له ، فراح يكرر نداءه حتى ظهرت الكراهة في وجه النبيّ (ص) لقطع كلامه ،
وأقبل على القوم يحدّثهم ، فنزلت الآيات
وبعد ذلك كان رسول
الله (ص) يكرمه إذا رآه ويقول له : مرحبا بمن عاتبني فيه ربيّ يقول : هل لك حاجة
فأقضيها؟
أما السيد المرتضى
قدّس الله روحه فقال : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها الى النبيّ (ص) بل هو
خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. وفيها ما يدل على أن المعنيّ به غيره لأن العبوس
ليس من صفات النبيّ (ص) مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم
الوصف بأنه يتصدّى للأغنياء ، ويتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة ، ويؤيد
هذا القول قوله سبحانه في وصفه (ص) : وإنك لعلى خلق عظيم ، وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ). فالظاهر أن قوله ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) المراد به غيره.
وقد روي عن الصادق
عليهالسلام : أنها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ (ص) فجاء
ابن أم مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله
سبحانه ذلك وأنكره عليه.
ومما لا شك فيه أن
النبي (ص) أعلى من ذلك خلقا ، وأن تألّف المؤمن وزيادة فائدته أولى من تأليف
الكافر رغبة في إيمانه ، وقد روي عن الصادق عليهالسلام أيضا أنه قال : كان رسول الله (ص) إذا رأى عبد الله بن أم
مكتوم قال : مرحبا مرحبا ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا وكان يصنع به من
اللّطف حتى كان يكفّ عن النبيّ (ص) مما كان يفعل به. والله أعلم بما قال.
وعلى كل حال (عبس)
يعني قبض وجهه وبسر (وَتَوَلَّى) أعرض وأمال وجهه (أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى) يعني لأن جاءه ذلك الأعمى (وَما يُدْرِيكَ) ومن عرّفك (لَعَلَّهُ) لعلّ هذا الأعمى (يَزَّكَّى) يتطهّر بالطاعة والعمل الصالح بفضل ما يتعلّمه منك (أَوْ يَذَّكَّرُ) يتذكّر ويعتبر بمواعظك وبما تتلوه عليه من قرآن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) فيستفيد من عبرته
(أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى) كان متمولا وكبيرا في عشيرته (فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى) فانك تتصدّى : تتعرض له كما يتعرّض الصديات للماء فتقبل
عليه بوجهك وتعتني به (وَما عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى) يلزمك أنت شخصيّا إن لم يسلم ولم يتطهّر من كفره؟ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أمّا الذي قصدك ساعيا في طلب الخير ، وهو عبد الله بن أم
مكتوم (وَهُوَ يَخْشى) الله أي يخافه (فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى) فأنت تتلهّى وتتشاغل عنه وتغفل أمره.
* * *
(كَلاَّ إِنَّها
تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)
كِرامٍ
بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩)
ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ
ما أَمَرَهُ (٢٣))
١١ ـ ٢٣ ـ (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ ... كَلَّا) أي امتنع عن ذلك وانزجر عنه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي أن آيات ربّك هذه تذكرة لك وموعظة لسائر الناس (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي من أراد لنفسه الخير ذكر الآيات والقرآن والوعظ
والانتفاع. وهذا يدل على أن العبد مريد مختار قادر على فعل ما يريده إذا استفاد من
التذكرة التي هي (فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ) هي القرآن العظيم القدر الجليل الشأن المثبت في اللوح
المحفوظ ، وقيل إن الصحف هي كتب الأنبياء التي أنزلت عليهم (مَرْفُوعَةٍ) عالية عن كل دنس مرفوعة في السماء (مُطَهَّرَةٍ) مصونة عن أن تدنّسها أيدي الكفرة
لأنها في أعزّ
مكان ، وقيل مطهّرة من الشك فيها أو التناقض أو غيره من الاختلاف (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي بأيدي سفراء الوحي بين الله تعالى ورسله. وعن الصادق عليهالسلام أنه قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام
البررة (كرامة) كرامة عند ربّهم وهم أعزّاء عنده (بَرَرَةٍ) مطيعين سامعين له ، وقيل : هم كرام عن المعاصي ، صالحون
متّقون. وعن مقاتل أن القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا ليلة
القدر الى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبرائيل عليهالسلام الى النبي صلىاللهعليهوآله .. ثم عرض سبحانه لمن يكذّب بآيات ربّه فقال : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) أي عذّب الإنسان ولعن إذ ما أشد كفره وما أعظم ضلاله مع
وضوح البراهين على توحيد الله والإيمان به! وهذا تعجب من عظيم كفره مع الشواهد
القائمة على التسليم بوجود الله وقدرته. وقيل إن (ما) للاستفهام والكلام يعني : أي شيء أدّى به الى الكفر
والعناد وجرّه الى إنكار الوحدانية مع هذه النّعم التي منحه الله إياها والتي كان
ينبغي أن تنبّهه الى خالقه ورازقه إذ قال تعال : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ)؟ أي فلينظر الى خلقه وابتداء وجوده ، فقد استفهم سبحانه
استفهام تقرير أي أننا نعرف ، وهو يعرف ، أصل خلقته لأنه (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) آي أن أصله من تلك النّطفة المعلومة الحال أوجده الله
تبارك وتعالى وجعل له هذا الجسم القويم بسائر حواسّه وأعضائه التي قدّرها له وقدّر
معها عمره ورزقه وجميع مقوّمات حياته (ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ) يعني أنه سهّل له سبيل الخروج من بطن أمه ، وقيل يسر له
طريق الهداية وبيّن له طريقي الخير والشر ومكّنه من الاختيار لنفسه وأحياه حياة
ميسورة (ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ) أي قضى بإنهاء حياته ، وانتهى به الأمر الى أن يقبره الناس
في لحد ولم يجعله طعمة للسّباع والهوامّ (ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ) أي إذا أراد أحياه في قبره وبعثه منه في يوم النشور للحساب
(كَلَّا) أي حقا ، وليست للردع هنا (لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ) أي أنه قصّر
في عمله ولم يؤدّ
حقّ الله تعالى من عبادته التي يستحقها والتي لم يعبده سبحانه مؤمن ولا كافر
العبادة اللائقة به وبأفضاله.
* * *
(فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا
الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً
وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠)
وَفاكِهَةً
وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))
٢٤ ـ ٣٢ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ
...) بعد ذكر معجزة خلق الإنسان من تلك النطفة وجعله في أحسن
تقويم من أجل العبرة بهذه القدرة ، أخذ يذكر كيفيّة رزقه الذي وهبه له فقال : يجب
أن ينظر الإنسان إلى ما يأكله من سائر أنواع مشتهياته ويفكّر كيف مكّنه الله تعالى
من الانتفاع بها ليرى (أَنَّا صَبَبْنَا
الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من السماء إنزالا. وفتح همزة (أَنَّا) يجعل الجملة بدل اشتمال لأن هذه الأشياء التي أخذ يذكرها
تشتمل على كيفية حدوث الطعام ، وهي كقوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)؟ وكسرها (أَنَّا) يجعل الجملة تفسيرا للنظر إلى الطعام (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي فتقناها بالنبات الذي يخرج منها بعد المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض (حَبًّا) ذكر النوع ، أي جميع الحبوب المفيدة للتغذية والحفظ (وَعِنَباً وَقَضْباً) ذكر العنب لجزيل فائدته ، وذكر القضيب : أي القتّ الرّطب
يقضب : أي يقطع ، مرة بعد أخرى ويعطى علفا للحيوانات (وَزَيْتُوناً) وهو ما يؤكل ويستخرج منه الزيت (وَنَخْلاً) جمع نخلة وهي التي تعطي الرّطب والتمر (وَحَدائِقَ غُلْباً) يعني وبساتين مسوّرة ذات أشجار عظيمة وارفة (وَفاكِهَةً) جميع
أنواع الفواكه (وَأَبًّا) وهو العشب الذي يكون في المراعي ترعاه الحيوانات ولا يزرعه
الإنسان فهو للحيوانات كالفاكهة للإنسان (مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ) أي جعل ذلك منفعة لكم وللأنعام التي تقتنونها وتستفيدون
منها.
* * *
(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ
(٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
(٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥)
وَصاحِبَتِهِ
وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠)
تَرْهَقُها
قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
(٤٢))
٣٣ ـ آخر السورة ـ
(فَإِذا جاءَتِ
الصَّاخَّةُ ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...)
عاد سبحانه وتعالى
الى ذكر يوم القيامة لينبّه الناس إلى ما ينتظرهم في الآخرة ، والصاخّة هي صيحة
القيامة التي تصخّ الآذان : أي تطرقها وتبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها.
وقيل سمّيت بذلك
لأنها يصخّ إليها الخلق ويستمعون ، وذكر وقتها وما يجري فيها فقال عزّ من قائل : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) يهرب ولا يلتفت (مِنْ أَخِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) أولاده ، فهو مشغول بنفسه عن كل هؤلاء بالرغم من أنهم
كانوا محلّ عنايته في دار الدنيا ، فهم يومئذ لا ينفعونه ولا يدفعونه عن ما هو فيه
، كما أنه لا يستطيع نفعهم ولا دفع ما هم فيه من ضيق وفزع (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي أن لكل واحد منهم في ذلك اليوم حال تحول بينه
وبين أقربائه
وتشغله عنهم كما تشغلهم عنه ، ومعنى (يُغْنِيهِ) هنا : يكفيه لأن الحال التي هو فيها قد أحاطت به فجعلته
غنيّا عن طلب الزيادة منها. وروي عن عطاء عن سودة زوجة النبيّ صلىاللهعليهوآله قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يبعث الناس عراة حفاة غرلا يلجمهم العرق ويبلغ شحمة
الآذان. قالت : قلت يا رسول الله وا سوأتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال : شغل الناس
عن ذلك ، وتلا رسول الله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ... أمّا حالة الناس في
ذلك اليوم فقسّمها سبحانه قائلا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ)
أي تكون بعض
الوجوه في ذلك اليوم مشرقة منيرة قد تألق نورها وإشراقها ، فهي (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) مسرورة فرحة تتباشر بالثواب الذي أعدّه لها الله تبارك
وتعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي عليها سواد وهمّ ظاهر وكآبة (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يغشاها سواد وانكساف عند مشاهدة النار وما أعدّه الله
لها من العذاب. وقيل إن الغبرة ما نزلت من السماء إلى الأرض ، والقترة ما صعدت من
الأرض إلى الجو (أُولئِكَ) أي أصحاب تلك الوجوه (هُمُ الْكَفَرَةُ
الْفَجَرَةُ) الذين كفروا بالدّين وكانت أفعالهم فاجرة متجاوزة لحدود
الله سبحانه وتعالى.
* * *
سورة التكوير
مكيّة وآياتها ٢٩
نزلت بعد المسد.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ
سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ
عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ
قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ
كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢)
وَإِذَا
الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ (١٤))
١ ـ ١٤ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ...) ما زال سبحانه يتحدث عن علامات وأحوال يوم القيامة الذي
ذكر بعض حالاته في سورة (عبس) السابقة. والتكوير : أصله التلفيف على جهة الاستدارة
كتكوير العمامة ، والانكدار : انقلاب الشيء رأسا على عقب. والمعنى أنه إذا كوّرت
الشمس فذهب ضوؤها وخفت نورها وأصبحت كرة
مطفأة بعد أن لفّت
على بعضها ، وإذا تساقطت النجوم وانتثرت وتزعزعت عن أماكنها وأفلاكها (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي نسفت عن وجه الأرض وأصبحت كالسراب كما عبّر سبحانه في
غير مكان (وَإِذَا الْعِشارُ
عُطِّلَتْ) العشار هي النوق الحوامل التي أتي عليها عشرة شهور ، وهي
تسمّى عشارا حتى بعد الوضع وهي أغلى ما عند العرب ، فإذا تركت هذه العشار بلا راع
مهملة لا صاحب لها ولا مسئول عنها (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) أي إذا جمعت يوم القيامة ليقتصّ بعضها من بعض (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي حيل ما بين عذابها ومالحها وتفجّر بعضها على بعض فصارت
بحرا واحدا ـ وقيل أوقدت فصارت نارا تضطرم (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) أي إذا قرن كلّ شكل من الناس مع شكله من أهل الجنة أو من
أهل النار. وقيل يقرن الغاوي بمن أغواه ، كما أنه قيل : قرنت نفوس المؤمنين بالحور
العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أي وإذا سئلت البنت التي دفنها أهلها حية خوفا من عارها
إذا كبرت ، فقد كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت إليها ، فإن ولدت
بنتا رمتها حيّة في الحفرة ، وطمرتها بالتراب لتموت وإن ولدت غلاما أبقته واحتفظت
به. فإذا سئلت هذه البنت التي طمرها أهلها بالتراب (وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ) يعني إذا فتحت كتب أعمال الناس التي كتبتها الملائكة
الحفظة عليهم ليقرأها أصحابها وليعرفوا ما يستحقونه من ثواب أو عقاب جزاء ما عملوه
(وَإِذَا السَّماءُ
كُشِطَتْ) أي أزيلت عن موضعها كما يكشف الجلد حين يسلخ عن الحيوان
المذبوح ، وقيل : إذا رفعت وكشفت عمّن فيها لأن الكشط رفع شيء عن شيء غطّاه (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي إذا أوقدت وازداد ضرامها (وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ) يعني إذا قربت من أهلها ، فيزداد أهلها سرورا بمرآها ، كما
يزداد الكافرون عذابا وحسرة بمرأى جهنّم ... إذا كان ذلك الذي ذكره تبارك وتقدّس (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علمت ما وجدته حاضرا من عملها
الذي جنته وكأنها
أحضرته هي بنفسها لأنه جاء معها مكتوبا تحمله في يمينها أو في شمالها.
* * *
(فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ
(١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا
تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)
وَلَقَدْ
رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ
أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))
١٥ ـ ٢٢ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ
الْكُنَّسِ ...) الخنّس : جمع خانس ، وهو المستتر ، والكنّس : جمع كانس ،
وهو الذي يختفي في الكناس ، كالظبي يختبئ في كناسه. فقد أكدّ سبحانه وتعالى كلّ ما
ذكره في نصف السورة الذي مضى بالقسم ، فلا أقسم : يغني : أقسم ، لأن «لا» زائدة
كما مرّ سابقا ، فهو تعالى يقسم بمخلوقاته الدالة على عظمته (بِالْخُنَّسِ) أي النجوم التي تظهر في الليل وتخنس في النهار ، أي تختفي
، و (الْجَوارِ) هي صفة للنجوم لأنها تجري في أفلاكها الخاصة بها و (الْكُنَّسِ) صفة من صفاتها أيضا لأنها تطلع وتتوارى في بروجها كما
تتوارى الظّباء في كناسها. وعن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام أن هذه النجوم التي أقسم بها هي الخمسة الأنجم : زحل
والمشتري والمريخ والزّهرة وعطارد (وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ) يعني إذا أدبر بظلامه كما عن أمير المؤمنين
عليهالسلام، وقيل إذا أقبل بظلامه أيضا والعسعسة تعني الضدّين (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) إذا أسفر وأضاء وامتدّ ضياؤه حتى يصير نهارا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي وحقّ ما ذكرناه أن القرآن قول رسول
كريم على الله تعالى ، وهو جبرائيل عليهالسلام ، قد حمل كلام الله سبحانه الذي أنزله على لسانه إلى نبيّه
(ص) والمعنى أن محمدا صلىاللهعليهوآله سمعه منه ، ولم يقله من عند نفسه. وقد أضاف القول سبحانه
إلى جبرائيل عليهالسلام لأنه قال له : ائت محمدا صلىاللهعليهوآله وقل له كذا وكذا. ثم وصف هذا الملك العظيم فقال : (ذِي قُوَّةٍ) على تبليغ ما حمّلناه من الرسالة ، وذي قدرة في نفسه لأن
منها اقتلاع مدائن لوط بمن فيها بقوادم جناحه ، ورفعها إلى عنان السماء وقلبها
رأسا على عقب ، فهو كذلك من حيث القوّة ، وهو (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ
مَكِينٍ) أي هو ذو مكانة عند صاحب العرش تبارك وتعالى ، رفيع
المنزلة ، مقرّب لديه (مُطاعٍ ثَمَ) أي أنه مطاع هناك في السماء ، تطيعه الملائكة فيها ، ومن
ذلك أنه أمر خازن الجنّة بفتح باب الجنّة ليلة المعراج ففتحها فدخل محمد صلىاللهعليهوآله ورأى ما فيها ، ثم أمر خازن النار ففتح له عنها حتى نظر
إليها. وهو إلى جانب ذلك (أَمِينٍ) مؤتمن على الوحي والرسالات السماوية ..
وفي المجمع أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لجبرائيل عليهالسلام : ما أحسن ما أثنى عليك ربّك : ذي قوّة عند ذي العرش مكين
، مطاع ثمّ أمين ، فما كانت قوّتك ، وما كانت أمانتك؟ فقال : أمّا قوّتي فإني بعثت
إلى مدائن لوط في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري ، فحملتهم من الأرض
السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهنّ فقلبتهن.
وأمّا أمانتي فإني لم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره. ثم خاطب الله تعالى بعد ذلك
جماعة الكفّار قائلا : (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) أي ليس هذا الذي يدعوكم إلى الله
وإلى الإخلاص في
معرفته وطاعته مجنونا قد غطّى على عقله فلا يدرك الأمور ، وهذا أيضا من جواب القسم
الذي يفيد أن القرآن نزل به جبرائيل الأمين عليهالسلام ، وأن محمدا صلىاللهعليهوآله ليس بمجنون بحسب ما يريده به كفّار مكة (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي أن محمدا صلىاللهعليهوآله رأى ان جبرائيل عليهالسلام بحسب صورته التي خلقه الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس ،
وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما عن قتادة وغيره (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : ليس ببخيل فيما يؤدّي عن الله تعالى فهو يعلّم النبيّ
كما علّمه الله تعالى. وقريء بظنين ـ بالظاء لا بالضاد ـ أي : وليس هو بمتّهم على
وحي الله تعالى ، وعلى ما يخبر به عنه لأنه صادق أمين (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ليس هذا القول بقول شيطان ملعون ، رجمه الله باللعنة
كما يرجم بالشّهب ، فقد قال المشركون إن الشيطان يلقي إلى النبيّ بهذا القول ،
فوبّخهم الله تعالى وأنّبهم بقوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فيما هذا المسلك الذي تسلكونه وهذا المذهب الذي تذهبون
ولم تميلون عن هذا القرآن الذي هو هدى وشفاء من عمى الكفر (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ليس القرآن سوى موعظة للخلق وعن طريقه يتوصلون الى الحق
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ) وإنه سيكون كذلك لمن أراد منكم الاستقامة على أمر الله
وطاعته ، فإنه هو الوحيد الذي يستفيد من تذكير القرآن (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ
رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما تريدون الاستقامة على الحق إلّا إذا أرادها الله
تعالى لكم لأنه خلقكم لها وكلفكم بها فمشيئته قبل مشيئتكم. وقيل إنه خطاب للكفّار
: أي لا تشاؤون الإسلام الّا ان يشاء الله إجباركم عليه وإلجاءكم إليه ، ولكنه لا
يفعل لأنه يريد أن تؤمنوا مختارين لتستحقوا الثواب ، كما أنه قيل : وما تشاؤون
الإسلام إلّا أن يشاء الله أن يلطف لكم في اعتناقه ، والله تعالى أعلم.
سورة الانفطار
مكيّة وآياتها ١٩
نزلت بعد النازعات.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))
١ ـ ٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا
الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ...) أي إذا انشقّت السماء وتقطّعت قطعا ، ومثله : إذا السماء
انشقّت ، ويوم تشقّق السماء بالغمام. فإذا كان ذلك وانتثرت النجوم : أي تساقطت هنا
وهناك ووقعت سوداء لا ضوء لها كما عن ابن عباس (وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ) أي فتح بعضها على بعض فاختلط عذبها بمالحها ، وقيل ذهب
ماؤها (وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ) أي قلب ترابها وبحثت عن الموتى فأخرجوا منها يوم البعث
والنشور ، إذا كان ذلك (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي عرفت ما قدّمت من خير فيما أحضرته من سجلّ عملها ، وما
عملته من سنن تستحق عليها الثواب ، وما أخّرت من سنن حسنة كان ينبغي أن تعمل بها
لتستحق الثواب ، وبالعكس. وهذا كقوله سبحانه : (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ). وفي الحديث أن سائلا سأل عن ذلك فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : من
استنّ خيرا فاستنّ
به ، فله أجره ومثل أجور من اتّبعه غير منتقص من أجورهم ، ومن استنّ شرا فاستنّ به
فعليه وزره ومثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم. فنعوذ بالله من استنان
الشر ونسأله أن ينجينا من ذلك.
* * *
(يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما
تَفْعَلُونَ (١٢))
٦ ـ ١٢ ـ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ...) أي ما الذي خدعك أيّها الإنسان بخالقك ورازقك وغشّك بأن
سوّل لك بالباطل حتى أنكرته وعصيته مع أنه كريم خلقك ولم يبخل عليك بنعمة من نعمه
التي لا تحصى؟ وروي أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال حين تلا هذه الآية الكريمة : غرّه جهله.
أما لفظة (الْكَرِيمِ) هنا فقالوا : هذا المنعم المحسن الذي لا يجرّ لنفسه نفعا
ولا يدفع عنها ضررا بل يعطي ما عليه وما ليس عليه ، وقالوا : هو الذي يعطي الكثير
ويقبل اليسير. وقيل إن من كرمه أنه لم يرض بالعفو عن السيئات بل بدّلها بالحسنات.
ومن جميل الالتفات أنه قيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه
فقال : ما غرّك بربّك الكريم ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة.
وقال يحيى بن معاذ : أقول غرّني بك برّك بي سالفا وآنفا. وقال بعضهم : أقول غرّني
حلمك. وقال أبو بكر الوراق : أقول غرّني كرم الكريم.
وبالحقيقة إنه
سبحانه وضع لفظة (الْكَرِيمِ) هنا دون سائر صفاته الشريفة ، ليلقّن الإنسان الإجابة على
السؤال فيقول : غرّني كرم الكريم.
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : كم مغرور بالستر عليه ومستدرج بالإحسان إليه. أجل سيقال
للإنسان : ما غرك بربك الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ) ابتدعك من نطفة ولم تكن شيئا مذكورا (فَسَوَّاكَ) جعلك إنسانا سميعا بصيرا قادرا مفكّرا مختارا (فَعَدَلَكَ) صيّرك معتدلا في خلقتك وأعضائك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي في أي صورة تشبه الأب أو الأم أو العم أو الخال أو الجد
أو غيرهم جعلك. وفي المجمع عن الرضا عن آبائه عليهمالسلام جميعا عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال لرجل : ما ولد لك؟ قال : يا رسول الله وما عسى أن
يولد لي ، إمّا غلام وإمّا جارية؟ قال : فمن يشبه؟ قال : يشبه أمّه أو أباه. فقال صلىاللهعليهوآله : لا تقل هكذا. إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أحضرها
الله كلّ نسب بينها وبين آدم. أما قرأت هذه الآية : في أيّ صورة ما شاء ركّبك؟ أي
فيما بينك وبين آدم. والمعنى أنه سبحانه يقدر على جعل الإنسان في أية صورة شاء (كَلَّا) أي مهلا فليس الأمر كما تزعمون أيّها الكافرون بالبعث مع
وجود الدليل عليه (بَلْ) أنتم (تُكَذِّبُونَ) يا معاشر الكفّار (بِالدِّينِ) الذي جاء به رسولنا محمد صلىاللهعليهوآله ، وهو الإسلام ، ونحن نعلم ذلك منكم (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) رسلا من الملائكة يحفظون ما تعملونه ويحصونه عليكم
ويسجلونه في صحائف أعمالكم ، وصفهم سبحانه بقوله (كِراماً) أي مكرّمين عند ربهم (كاتِبِينَ) ما تقولونه وما تفعلونه (يَعْلَمُونَ ما
تَفْعَلُونَ) يعرفون أعمالكم ويميّزون بين الخير والشر بقدرة من الله عزوجل ولا يخفى عليهم من أفعالكم إلّا ما شاء الله أن يخفيه من
بواطن الأمور التي يلطف بها.
* * *
(إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ
عَنْها
بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ
ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))
١٣ ـ آخر السورة ـ
(إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ ...) فصّل سبحانه هنا حالة الناس فأكّد أن الأبرار : المؤمنين
المطيعين من أوليائه وعباده الصالحين ، يكونون منعّمين بنعيم الجنّة (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) أي وإن الكفّار المكذّبين للنبيّ صلىاللهعليهوآله العاصين لأوامر ربّهم في الجحيم : أي النار العظيمة
الاشتعال والحرارة (يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ) يعني يكونون فيها معرّضين لحرّها ويلزمونها يوم القيامة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) لا يغيبون عنها ولا يغيّبون لأنهم مؤبّدون في عذابها. وفي
هذه الآية الكريمة دليل على أن أهل الكبائر من المسلمين لا يخلّدون في النار ،
لأنه تعالى ذكر المكذّبين بالدّين لا المعترفين به (وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الدِّينِ) أي وما حدّ معرفتك عن يوم الدّين ، وماذا تدري من شأنه : (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) كرّرها سبحانه تعظيما لشأنه وتنبيها لشدته وعظيم حاله وكبير
أهواله ، فذلك (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يملك حق الدفاع عن مستحقّي العذاب أحد ، ولا تقدّم
نفس لنفس نفعا بل كلّ امرئ بما كسب رهين (وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فالحكم بيده سبحانه وهو يثيب ويعاقب ، ويعفو وينتقم. وعن
أبي جعفر الباقر عليهالسلام ـ كما عن عمرو بن شمر ، عن جابر ـ أنه قال : إن الأمر
يومئذ واليوم كلّه لله ، يا جابر ، إذا كان يوم القيامة بادت الحكام ، فلم يبق
حاكم إلّا الله ... أما إذا قيل إنه لا يصح على هذا أن يشفع النبيّ صلىاللهعليهوآله؟ فالجواب أن الشفاعة تكون بأمر الله تعالى وبإذنه ، وهو
قوله تبارك وتعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى ...)
* * *
سورة المطففين
مكيّة وآياتها ٣٦
نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا
اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
(٣) أَلا
يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
(٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥))
١ ـ ٥ ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ
إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ...)
التطفيف هو نقص
المكيال والميزان. والطّفيف هو الشيء القليل الذي يؤخذ عند الكيل والوزن. والمعنى
: ويل لأولئك الذين يسرقون في الميزان والمكيال الشيء الطفيف ، ويبخسون الناس حقهم
عند ذلك. والمطفّفون هؤلاء الذين ذمّهم الله وخوّفهم ، هم (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى
النَّاسِ) أي الذين إذا كالوا لأنفسهم ما على الناس (يَسْتَوْفُونَ) فيأخذون حقّهم وافيا (وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يردّوا إليهم حقهم ،
ينقصون من ذلك الحق.
وهذا يعني أنهم
إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا له ، ينقصون. وروي أن
ابن مسعود قال :
الصلاة مكيال ، فمن وفى وفى الله له ، ومن طفّف قد سمعتم ما قال الله في المطفّفين
، وبعد هذا التحذير من بخس المكيال والميزان لفت الله تعالى نظر خلقه إلى غفلة
المطفّفين وأمثالهم عن أوامره ونواهيه فسأل متعجبا (أَلا يَظُنُ) أي أفلا يعتقد (أُولئِكَ) المخسرون (أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة الذي وصفه بالعظمة لما فيه من العدل الذي
لا تتحمّله نفوس البشر ، وذلك (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ) بعد الموت (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأمره وبأمره للجزاء والحساب. وفي الحديث أنهم يقومون
حتى يبلغ الرشح ـ أي العرق ـ إلى أطراف آذانهم ، وذلك من شدة الفزع والهلع. ويمكن
أن يكون معنى الشريفة ألا يحسب هؤلاء أنهم يبعثون؟ لأن من ظنّ الحساب ، والجزاء
فإنه يجب عليه أن يتحرّز منه ويخاف من الحساب ، وذلك كمن يتحرّز من سلوك طريق
فيتجنبه ويحيد عنه عقلا. وأورد مسلم في صحيحة عن المقداد بن الأسود أنه قال : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى
تكون الشمس بقدر ميل أو ميلين. ثم قال : صهرتهم الشمس فيكونون في العرق بقدر
أعمالهم ، فمنهم من يأخذه إلى عقبه ومنهم من يلجمه إلجاما ، وقال : فرأيت رسول
الله صلىاللهعليهوآله يشير بيده إلى فيه ويقول : يلجمه إلجاما. فنستجير بالله من
شر ذلك اليوم.
* * *
(يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
كَلاَّ
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧)
وَما
أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ
إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ
عَلى
قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦))
٦ ـ ١٦ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي
سِجِّينٍ ...) كلّا : كلمة ردع وزجر ، والمعنى : انزجروا عن المعاصي فإن
الأمر ليس على ما أنتم عليه فإن كتاب الفجّار الحاوي لما ارتكبتموه من الفجور
وعظائم الأمور لفي سجّين ، أي مسجّل فيه. فالفجار يكونون في سجّين التي هي الأرض
السابقة كما عن ابن عباس وكثيرين. وقيل إن روح الفاجر يصعد بها الى السماء فتأبى
قبولها فيهبط بها إلى سجّين وهو موضع جند إبليس ، فكتاب عملهم أيضا يوضع هناك.
وقيل إن سجين جبّ في جهنم مفتوح ، والفلق جبّ في جهنّم مغطىّ كما في رواية أبي
هريرة عن النبي صلىاللهعليهوآله (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي وما علمك به يا محمد ، فلست تعلمه أنت ولا قومك. ثم
فسّر سبحانه كتاب الفجّار بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل رقم لهم فيه ما عملوه من السيئات وختم لهم فيه
بشرّ وسوء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد لمن يكذّب بالبعث والجزاء ، فالمكذّبون هنا هم (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ) أي بيوم الجزاء لأنه يكذّب بحقّ لا ريب فيه (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أنه يكذّب به التارك للحق المتّبع للباطل الكثير الإثم
الذي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا قرئ عليه القرآن قال هذا من أباطيل الأمم السابقة
التي لا أصل لها (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : لا ، فليس الأمر كما زعموا ، بل غلب على قلوبهم
الرّين وهو أن يتراكم الذنب فوق الذنب حتى يموت القلب ولا يعدّ الذنب ذنبا. وفي
العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا
أذنب ذنبا خرج من تلك النكتة نكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السواد ، وإن
تمادى في الذنوب
زاد ذلك السواد حتى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا ،
وهو قول الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ) ، الآية ... وفي المجمع عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه قال : نعيد القلب فإذا ذكّرته بآلاء الله انجلى عنه. (كَلَّا) أي : لا فإنهم لا يصدّقون كما عن ابن عباس ، ثم استأنف
فقال : (إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي أن هؤلاء الفجّار يحال بينهم وبين رحمة ربّهم وإحسانه
يوم القيامة ويحرمون من كرامته ويدفعون عن ثوابه (ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد ذلك (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي أنهم يلازمون حرّ جهنّم وهم غير مفارقيها بحيث يصيرون
صلاها يعني وقودها (ثُمَّ يُقالُ) لهم تقريعا وتوبيخا : (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا هو العقاب الذي أنكرتموه في دار الدنيا واعتبرتم
الوعد به كذبا فلم تؤمنوا به فذوقوه الآن.
* * *
(ثُمَّ يُقالُ هذَا
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما
عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ
نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))
١٧ ـ ٢٨ ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ ...) بعد أن بيّن سبحانه حال الكفّار والفجّار ، قال : كلّا ،
أي حقّا إن كتاب المطيعين العاملين بما يرضي الله تعالى في (السماء السابعة) حيث
أرواح المؤمنين وصحائف
أعمالهم قد قبلت
راضية مرضيّة ، وقيل بل هي في (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) كما قيل إنها (الجنة)
بالذات ، وعلى كل حال فإنها في ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية بعد ارتفاعها لأنها
شملتها رحمة الله ولطفه وكرمه. وعن البراء بن عازب عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : في علّيين : في السماء السابعة تحت العرش (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) وهذا تعظيم لشأن تلك المنزلة السامية وإشارة إلى أن عظمتها
لا تمكن الإحاطة بها ، ثم وصف ذلك الكتاب بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسجّل فيه جميع أعمالهم الصالحة وطاعاتهم وفيه ما
يسرّهم بخلاف كتاب الفجّار الذي فيه ما يسوؤهم ، فقد رقم وختم لهم فيه بالخير في
ساق العرش بدليل قوله تعالى : (يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ) يعني يحضره ويشهد عليه الملائكة المقرّبون. وفي المجمع أن
عبد الله بن عمر قال : إن أهل علّيين لينظرون إلى أهل الجنّة من كذا ، فإذا أشرف
رجل منهم أشرقت الجنّة وقالوا : قد اطّلع علينا رجل من علّيّين (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي أنهم في أنواع من النعمة ، وفي ملاذّ من الجنّة وهم (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي يجلسون على الحجال والسّرر والكراسي الوثيرة ويتأمّلون
ما منحهم الله من النّعم والعطايا الكريمة (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) يعني إذا شاهدتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لأن وجوههم تطفح
نورا وسرورا وبهجة وجمالا لا يستطيع الإنسان وصفهم ، وهم (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) أي يشربون خمرا صافية خالية من الغش ختمت برائحة المسك
ومنع فضّ ختمها حتى يفضه الأبرار (خِتامُهُ مِسْكٌ) آخر طعمه ريح المسك. وقيل ختم الإناء بالمسك بدلا عن الطين
وغيره وقد قال أبو الدرداء : هو شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ، ولو أن
رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجه ، لم يبق ذو روح إلّا ونال طيبها (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي ففي مثل هذه النعمة يتبارى المتبارون ، ويتنازع
المتنازعون السّبق إليه ، وفي الحديث : من صام في يوم صائف ، سقاه الله على
الظمأ من الرحيق
المختوم. وفي وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام قال : من ترك الخمر لله ، سقاه الله من الرحيق المختوم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي أن ذلك الرحيق المختوم (وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ) أي أن ذلك الرحيق المختوم يمزج من عين في الجنة تسمّى
تسنيما فيها أشرف شراب في الجنّة ، قال مسروق : يشربها المقرّبون صرفا ، ويمزج بها
كأس أصحاب اليمين فيطيب ، وقد وصف الله سبحانه تلك العين فقال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فهي خالصة لهم يشربونها صرفا ويمزج بها السائر أهل الجنّة.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا
إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢)
وَما
أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))
٢٩ ـ آخر السورة ـ
(إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ...) أي أن مرتكبي الجرائم والمعاصي من كفرة مكة ومشركيها كأبي
جهل وغيره كانوا يسخرون من المؤمنين برسالة محمد صلىاللهعليهوآله ويستهزئون بهم في دار التكليف ويعيبون عقيدتهم وعبادتهم ،
وذلك بسبب إنكارهم للبعث وإعادة الأجسام للحساب (وَإِذا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وكانوا إذا مرّ بهم المؤمنون يشير بعضهم إلى بعض
بالسخرية منهم لاعتقادهم بصدق نبوّة محمد صلىاللهعليهوآله وصدق
الوحي وصدق
الرسالة. وقيل إن هذه الآية الكريمة نزلت في أمير المؤمنين عليهالسلام وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فرآهم المنافقون فسخروا منهم وتغامزوا عليهم وقالوا :
رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه ، فنزلت الآية المباركة قبل أن يصل عليّ ومن معه
إلى النبيّ (ص) وعن ابن عباس ، فيما أخرجه الحاكم الحسكاني ، قال : إن الذين
أجرموا : منافقو قريش ، والذين آمنوا : علي بن أبي طالب (ع) وأصحابه (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ
انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي إذا عاد هؤلاء الكفّار إلى أهلهم وذويهم عادوا وهم
يتفكّهون ويضحكون ممّا عملوه مع المؤمنين (وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي إذا شاهدوهم كانوا يقولون : إنهم ضائعون عن طريق الصواب
، قد خدعهم محمد (ص) فهم يصلّون ويصومون ويعملون رجاء ثواب لا حقيقة له. ثم سخر
الله تعالى من قولهم فقال عزوجل : (وَما أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ولم يجعل الكفار حافظين على المؤمنين ، ولا أحد كلّفهم
بمراقبة أعمالهم وتقييمها ، فليسوا شهداء عليهم بل العكس هو الصحيح (فَالْيَوْمَ) يوم القيامة والجزاء (الَّذِينَ آمَنُوا
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) منهم ويسخرون كما سخر الكفّار منهم في الدنيا. وقيل إنه
يكون ذلك حيث يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم : اخرجوا إليها ، فإذا وصلوا
إليها أغلق الباب دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون. وقيل إن ضحك
أهل الجنّة من أهل النار يكون بالسرور الذي يحصل لهم من جرّاء رؤية الكفّار
معذّبين لأنهم أعداؤهم الذين آذوهم في الدنيا. فالمؤمنون يومئذ (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) يعني ينظرون إلى عذاب أعدائهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا
يَفْعَلُونَ) يعني : هل جوزي الكفرة بأعمالهم السيئة؟ وقد استعمل لفظة (الثواب)
في مجال (العقاب) لأن الثواب في اللغة (جزاء) والعقوبة (جزاء) أيضا. وهذا السؤال
الذي معناه الاستهزاء يمكن أن يقوله المؤمنون بعضهم لبعض ، ويمكن أن يقوله
الملائكة إذا
كانت الحملة
مستأنفة. أما إذا تعلّقت بينظرون فمعناها أن المؤمنين ينظرون من على آرائكهم
ويقولون : هل جوزي الكفّار على عملهم ، وهو الأصح والله العالم.
* * *
سورة الانشقاق
مكية وآياتها ٢٥
نزلت بعد الانفطار.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))
١ ـ ٦ ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ ...) الانشقاق الافتراق بالشّق بعد الالتئام ، وأذن : يعني
استمع وقد قال الشاعر :
وإن ذكرت بشرّ
|
|
عندهم أذنوا
|
أي استمعوا لذلك.
والمعنى أنه : إذا تصدّعت الأرض وانفرجت ، وذلك من علامات القيامة والبعث ، وقد
مرّ ذلك بتعبير آخر في القرآن الكريم ، وإذا أذنت الأرض : أي استمعت لأمر ربّها
وانقادت لتدبيره وحقّت : يعني حقّ لها الإذن بالانقياد لذلك الأمر والإطاعة له (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي انبسطت بعد دكّ الجبال ونسفها وصارت كالصحراء التي لا
كثبان فيها ، وهذا يعني أنها تسوّى بحيث لا يبقى فيها جبل ولا تلّة
ولا بناء مطلقا (وَأَلْقَتْ ما فِيها) لفظت ما فيها من الموتى (وَتَخَلَّتْ) أي تركت كلّ ما في بطنها. وقيل : ألقت ما في بطنها من
كنوزها ومعادنها ، وتخلّت ممّا على ظهرها من الجبال وغيرها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) وهذا ليس تكرارا لأن الآية الأولى في صفة السماء ، وهذه
الآية في صفة الأرض ، وكلّ ذلك من أشراط الساعة ومجيء يوم القيامة. ومجمل الكلام
أنه إذا حصلت هذه الأمور العظام التي ذكرها الله تعالى ، رأى الإنسان ما قدّمه
لنفسه في ذلك اليوم. يدل على ذلك قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ
إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي : إنك ساع إلى ثواب ربّك سعيا متعبا ، وأنت تعمل عملا
تتحمّل مشقته لتحمله معك ليوم الله العظيم. والخطاب لسائر الناس لأنه سبحانه قصد
بالنداء النوع لا واحدا بالذات. فأنت تعمل لتلقى ربك بهذا الزاد (فَمُلاقِيهِ) فأنت ملاق لجزائه ، فكأن لقاء الثواب أو العقاب لقاء له.
وأنت في هذه الحال صائر إلى ربّك إذ لا حكم في الآخرة إلّا له.
ثم قسّم سبحانه
أحوال الناس فقال عزّ من قائل فيما يلي :
* * *
(فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا
ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢)
إِنَّهُ
كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ
كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))
٧ ـ ١٥ ـ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ ...) أي من أعطي صحيفة أعماله التي أثبتت فيها جميع طاعاته
وأعماله بيده اليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً
يَسِيراً) أي أنه لا يناقش بشيء ولا يعاتب على السيئات التي تاب عنها
وأقلع إقلاعا تاما إذ عفا الله تعالى عنها. وقيل إن الحساب اليسير هو التجاوز عن
السيئات والإثابة على الحسنات ، ومن نوقش في الحساب عذّب. وفي حديث مرفوع : ثلاث
من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنّة برحمته. قالوا : وما هي يا رسول
الله؟ قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك (وَيَنْقَلِبُ) يعود بعد الحساب (إِلى أَهْلِهِ
مَسْرُوراً) فرحا بما أوتي من رحمة وكرامة. وأهله هنا هم ما أعدّه الله
له من الحور العين وأزواجه وأولاده وعشيرته التي سبقته إلى الجنّة (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ
ظَهْرِهِ) ذلك أن يده اليمنى مغلولة إلى عنقه ، فإنه يعطى صحيفة
أعماله بيده اليسرى المشدودة إلى وراء ظهره ، وهذه إمارة على أنه من أهل النار ،
ودلالة على أن صاحب الكتاب سيناقش الحساب ويأوي إلى سوء المآب ولذلك (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي بالويل والهلاك معولا باكيا صارخا (وَيَصْلى سَعِيراً) يدخل في النار ويعذّب فيها ، ويكون حطب جهنّم ويلزم النار
إلى أبد الآبدين (إِنَّهُ كانَ) في دار الدنيا (فِي أَهْلِهِ
مَسْرُوراً) ناعما فرحا لا يهتمّ بشؤون الآخرة ولا يتّقي الله ولا
يتحمّل مشقة العبادة والعمل الصالح. وقيل إن من عصى وسرّ بالمعصية فقد ظنّ أنه لا
يبعث ولا يحاسب. ذلك (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ) أي اعتقد في الدنيا أنه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت ،
ولذلك قال الله تعالى : (بَلى) أي ليرجعنّ وليحاسبنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ
بِهِ بَصِيراً) لم يغب عنه شيء من أمره منذ خلقه إلى أن توفّاه وبعثه.
* * *
(فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما
وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ
(٢١) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))
١٦ ـ آخر السورة ـ
(فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ ...) أي أقسم بالشفق الذي هو الحمرة التي تظهر عند المغرب في
الأفق وتختفي بعد قليل دالة على آخر خيوط الشمس التي تغيب عن العين (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي وبالليل وما ضمّ وجمع لأن ظلمة الليل تجعل كل حيّ يأوي
إلى مسكنه (وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ) أي إذا تكامل وصار بدرا متناسق الجهات مجتمع الضوء ، وهو
يستوي بين الليلة الثالثة عشرة والسادسة عشرة ، فهو يقسم بذلك كله (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) فهذا جواب القسم بأنه يا محمد لتصعدنّ سماء بعد سماء ودرجة
بعد درجة في المقربة إلى الله تعالى. ولذلك روى مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقرأ
لتركبنّ بفتح الباء ، قال : يعني : نبيّكم (ص) هو المخاطب بذلك. أما من قرأ بالضمّ
(لَتَرْكَبُنَ) فالخطاب يكون للناس ، ويعني لترتقنّ حالا بعد حال في
الآخرة بحيث تصيرون على غير الحال التي كنتم عليها في الدنيا ، و (عَنْ) هنا بمعنى (بعد) أي طبقا بعد طبق ، وهذا كقوله عزوجل : (عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) ، أي بعد قليل. وقيل معناه : ستركبنّ شدة بعد شدة من حياة
إلى موت فإلى بعث ، وقيل هو رخاء بعد شدة ، وفقر بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، كما قيل
أيضا إنه يعني تطوّر الخلق ما بين النّطفة والخلقة السويّة وما بين الطفولة والهرم
، والله تعالى أعلم بما قال (فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) أي ما بال كفّار قريش لا يصدّقون بنبوّة محمد صلىاللهعليهوآله : وهو استفهام إنكار لحالهم فلا شيء لهم من الثواب وحسن
المآب إذا بقوا في هذا الارتياب الصارف لهم عن الإيمان ، فلا عذر لهم في الانصراف
عن الإيمان مع الدلائل الواضحة التي أتى بها محمد صلىاللهعليهوآله (وَإِذا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) هذا الكلام معطوف على ما سبقه ، وهو يعني
أنهم ما بالهم لا
يؤمنون ولا يسجدون كما أمروا في القرآن بالصلاة التي منها السجود (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي أنهم يكذّبون بقولنا تقليدا لأسلافهم ولم يصرفهم عن
الإيمان قصور الفهم ولا عدم وجود البرهان (وَاللهُ أَعْلَمُ) هو سبحانه أعرف (بِما يُوعُونَ) بما يضمرون في نفوسهم ويحتوون في صدورهم من التكذيب
المتعمّد. وقد قال الفرّاء : الإيعاء : جعل الشيء في وعاء ، والقلوب أوعية لما
يحصل فيها من علم أو جهل. أما أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا محمد أخبرهم بعذاب موجع واجعل ذلك الخبر لهم سلفا
مكان البشارة بما يسرّ المبشّر كبشارة المؤمنين بالرحمة مثلا ... ثم أخرج سبحانه
وتعالى المؤمنين من هذا القول واستثناهم بقوله (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فهؤلاء المصدّقون بك العاملون بأوامرنا المنتهون عن
نواهينا نعطيهم أجرا غير منقوص ولا منقطع ولا مكدّر بالمنّ.
* * *
سورة البروج
مكيّة وآياتها ٢٢
نزلت بعد الشمس.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
(٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)
وَما
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)
الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))
١ ـ ٩ ـ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ...) أقسم سبحانه بالسماء ذات البروج : مفردها برج ، وهي
المنازل التي أراد بها منازل الشمس والقمر والكواكب والتي هي اثنتا عشرة منزلة أو
برجا ، يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاث ليال ، وتسير الشمس في كل برج شهرا.
أما اليوم الموعود فهو يوم القيامة الذي يتم فيه الفصل والحساب (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) وهو كلام معطوف على القسم ، وقيل إن الشاهد هو يوم الجمعة
، والمشهود يوم عرفة كما في المرويّ عن الصادقين عليهماالسلاموابن عباس. وقد سمّي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل
إنسان بما
عمل فيه ، وسمّي
يوم عرفة مشهودا لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج وكذلك الملائكة. وقيل أيضا الشاهد
يوم النحر ، والمشهود يوم عرفة ، والشاهد محمد صلىاللهعليهوآله ، والمشهود يوم القيامة بدليل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، إِنَّا
أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، وقوله عن يوم القيامة : (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ). وقيل إن الشاهد هو الملك الذي يشهد على ابن آدم بما عمله
، كما قيل إنها أعضاء المرء تشهد عليه. فقد أقسم بما مضى جميعه بأن (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) فكان هذا الكلام جوابا للقسم ، أي وحقّ ما ذكرناه لعن
أصحاب الأخدود ، الذي هو الشقّ العظيم في الأرض. أمّا قصة أصحاب الأخدود فقد قال
الحسن : كان النبيّ صلىاللهعليهوآله إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء. وهي كما في
رواية العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام أنه قال : أرسل عليّ عليهالسلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود فأخبره بشيء فقال عليهالسلام : ليس كما ذكرت ، ولكن سأخبرك عنهم. إنّ الله بعث رجلا
حبشيّا نبيّا ، وهم حبشة فكذّبوه ، فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروه وأسروا ـ من بقي
من ـ أصحابه ، ثم بنوا له حيرا ـ أي شبه الحظيرة ، ثم ملأوه نارا ثم جمعوا الناس
فقالوا : من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في
النار ، فجعل أصحابه يتهافتون في النار ، فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ،
فلمّا هجمت على النار هابت ورقّت على ابنها ، فناداها الصبيّ : لا تهابي وارمي بي
وبنفسك في النار فإن هذا والله في الله قليل. فرمت بنفسها في النار وصبيّها ، وكان
ممّن تكلّم في المهد.
وبإسناده عن ميثم
التمار قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام وذكر أصحاب الأخدود فقال : كانوا عشرة ، وعلى مثالهم عشرة
يقتلون في هذا السوق ـ أي من أصحابه عليهالسلام ـ وكان الأمر كذلك.
وقال مقاتل : كان
أصحاب الأخدود ثلاثة : واحد ، بنجران ،
والآخر بالشام ،
والآخر بفارس حرقوا بالنار ، أما الذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي ، وأما الذي
بفارس فهو بخت نصّر ، وأما الذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأما من كان
بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في الذي كان بنجران. وذلك أن
رجلين مسلمين ممن يقرءون الإنجيل ، أحدهما بأرض تهامة ، والآخر بنجران اليمن. أجرّ
أحدهما نفسه في عمل يعمله ، فجعل يقرأ الإنجيل فرأت ابنة المستأجر النور يضيء من
قراءة الإنجيل ، فذكرت لأبيها ، فرمق ـ أي أطال النظر إليه ـ حتى رآه ، فسأله فلم
يخبره. فلم يزل به حتى أخبره بالدّين والإسلام فتابعه مع سبعة وثمانين إنسانا من
رجل وامرأة. وهذا بعد ما رفع عيسى (ع) إلى السماء. فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل
بن تبّع الحميري ، فخرّ لهم في الأرض وأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى قذفه في
النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف فيها ، وإذا امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا
يتكلّم ، فلمّا قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت ، فقال : يا أمّاه إني
أرى أمامك نارا لا تطفئ ـ أي نار جهنم المعدّة للكافرين بالله تعالى ـ فلمّا سمعت
من ابنها ذلك قذفت بنفسها في النار فجعلها الله وابنها في الجنة ، وقذف في النار
سبعة وسبعون إنسانا.
وقال ابن عباس :
من أبى ان يقع في النار ضرب بالسّياط فأدخل الله أرواحهم في الجنّة قبل أن تصل
أجسامهم إلى النار.
ف (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) معناه : لعنوا بحرق الناس في نار الدنيا لمجرّد أنهم كانوا
مؤمنين بالله. وفي هذا ثناء على من رموا بأنفسهم في النار ومدح لحسن بصيرتهم
وصبرهم على (النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ) وكلمة (النَّارِ) بدل من الأخدود ، وهو بدل اشتمال لأن الأخدود يشتمل على ما
فيه من النار ـ. وعبارة (ذاتِ الْوَقُودِ) صفة له. وهذه العبارة تعطي أنهم قد جمعوا لتلك النار كثيرا
من الحطب إذ عبّر عنه بذات الوقود تعظيما لوقودها إذ أن
كلّ نار لا تخلو
من وقود عاديّ ، (إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ) أي حيث كان الكفار قاعدين من حوالي النار يعذّبون المؤمنين
بها وهم على كراسيهم (وَهُمْ) يعني الملك وحاشيته الذين حفروا الأخدود وأمروا بالنار ،
كانوا (عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) من العرض على النار ، أو الرجوع إلى دينهم الوثنيّ (شُهُودٌ) حضور. وقال الربيع بن أنس ـ كما في المجمع ـ : لمّا ألقوا
في النار نجّى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم قبل أن تمسّهم النار ، وخرجت النار
إلى من على شفير الأخدود من الكفّار فأحرقتهم (وَما نَقَمُوا
مِنْهُمْ) أي ما حابوا عليهم وكرهوا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) إلّا إيمانهم وإسلامهم وتصديقهم بالله (الْعَزِيزِ) القويّ الذي لا يمتنع عليه شيء ولا يقهره شيء (الْحَمِيدِ) المحمود في سائر تدابيره وأفعاله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فهو مالكهما المتصرف فيهما كيف شاء بلا منازع في ذلك ولا
معارض (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنه شاهد عليهم أيضا لأنه شاهد على كل شيء ولم يغب عنه
فعلهم وسيعاقبهم عليه لينصف منهم المؤمنين الذين عذّبوهم بالنار.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)
إِنَّ
بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)
إِنَّهُ
هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧)
فِرْعَوْنَ
وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))
١٠ ـ آخر السورة ـ
(إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) أي الذين أحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار كما مرّ
وعذّبوهم بها لإيمانهم يريدون بذلك ردّهم إلى الكفر (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) لم يستغفروا الله من الشّرك الذي هم عليه. وقد ذكر سبحانه
التوبة لأنه وجّه إليهم الوعيد التالي : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء كفرهم وشركهم (وَلَهُمْ عَذابُ
الْحَرِيقِ) جزاء حرقهم للمؤمنين ، يعني أن لهم أنواعا من العذاب في
جهنّم ... أما المؤمنون فقال تعالى عنهم (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) صدّقوا بالله ووحدّوه (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) قاموا بالطاعات المطلوبة (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مرّ تفسيرها و (ذلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ) أي : وهذا هو النجاح العظيم والظفر بالثواب الجزيل.
وبالمقابل توعّد الكافرين والمعاندين بقوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ) أي أن أخذ ربّك ـ يا محمد ـ للكافرين بالعذاب أخذ أليم ،
فسيأخذهم بالعنف ليضاعف عليهم البلاء والعناء في الآخرة (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) يعني أنه سبحانه يبدئ الخلق في الدنيا (وَيُعِيدُ) أولئك الخلق أحياء بعد الموت ليحاسبهم ويجازيهم بحسب
أعمالهم (وَهُوَ الْغَفُورُ) المتجاوز عن ذنوب التائبين من المؤمنين ومن أهل طاعته ، بل
هو كثير المغفرة لأنه استعمل صيغة (فعول) وهو (الْوَدُودُ) المحب لعباده الصالحين وأوليائه من المؤمنين ، وهو (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) صاحب ذلك العرش ذي العظمة والحسن والعلوّ والكمال والرفعة.
وأكثر القراءة في (الْمَجِيدُ) الرفع لأنه هو سبحانه الموصوف بالمجد (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يفعل ما يشاء ولا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه كائن. ثم انتقل
سبحانه لذكر بعض من كفر وحلّ به عذابه في الدنيا قبل الآخرة فقال مخاطبا رسوله صلىاللهعليهوآله ليتّعظ سائر الناس : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ) أي هل بلغك خبر أولئك الذين جنّدوا أنفسهم لمحاربة أنبيائه
ورسله (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في محلّ جرّ على أنها بدل من (الْجُنُودِ) فتذكّر خبرهم يا محمد والتفت إلى ما فعلوه من تكذيب
الرّسل ، وكيف صبر
الأنبياء ، وكيف نزل بالجبارة العذاب. وهذا من الإيجاز البديع الذي يغني عن
التطويل في شرح أمرهم إذا انتقل سبحانه لما كان النبيّ صلىاللهعليهوآله فيه من الضيق بتكذيب قومه فقال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش وغيرهم (فِي تَكْذِيبٍ) لقولك وللقرآن وقد مضوا في كفرهم وأعرضوا عمّا فيه نجاتهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) فهم لا يفوتونه لأنهم في سلطانه وفي قبضته وكأنهم محاصرون
يتعذّر عليهم الهرب من ملكه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ) وهذا القرآن الذي بين يديك : كريم لأنه كلام الله ، وعظيم
السخاء بما يعطي من الخير العميم والنفع الكثير ، إذ فيه الدلائل والحكم والآيات
والحق الذي لا يقوم معه باطل ، وهو (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي أنه عندنا محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة
والنقصان. وقد قرئ (مَحْفُوظٍ) بالرفع فجعل صفة للقرآن و (مَحْفُوظٍ) بالجر على أنه صفة للّوح ، وهو في اللوح المحفوظ الذي قيل
إنه من درّة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب كما
عن ابن عباس.
* * *
سورة الطارق
مكيّة وآياتها ١٧
نزلت بعد البلد.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ
(٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤))
١ ـ ٤ ـ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، وَما
أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ...) هذا قسم منه سبحانه بالسماء وبالطارق ، أي بربّ السماء
والطارق العظيم الذي سيبينه. والطارق لغة : هو الذي يجيء ليلا ويطرق المكان أي
يأتيه في ذلك الوقت (وَما أَدْراكَ) أي وما علمك يا محمد (مَا الطَّارِقُ) فلم يكن النبيّ صلىاللهعليهوآله ليعرفه لولا بيانه فيما يلي. و (مَا الطَّارِقُ) استفهام ، والجملة مبتدأ وخبر وهي متعلّقة بأدراك ،
وإعرابها : مفعول ثان ل (أدرى) أمّا الطارق المقسم به فهو (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) يعني : الكوكب المضيء ضياء ساطعا ، ويشمل سائر النجوم وإن
قيل هو القمر. أما جواب القسم فهو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) يعني : ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ من الملائكة يحفظ أعمالها
ويحصي أقوالها. وقرئ
(لَمَّا) بالتخفيف : يعني أنّ كلّ نفس لعليها حافظ يحفظها ويحفظ
عملها ورزقها وأجلها وما يتعلّق بها.
* * *
(فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى
رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ
قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))
٥ ـ ١٠ ـ (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ
...) بعد أن ذكر سبحانه عنايته بكل نفس بحيث سخّر ملائكة
يحفظونها ، وذكر أنه تعالى يسجّل عليها أعمالها لينبّه إلى التفكّر والتدبّر ، قال
عزّ من قائل : فلينظر المكذّب بالبعث (مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلقه الله تعالى وكيف أنشأه حتى يعرف أن الذي
ابتدأه من هذه النّطفة قادر على إعادته ، فإنه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ) أي من ماء منصبّ في رحم المرأة ، وهو المنيّ الذي يصير منه
الولد ، وقد وصف سبحانه ذلك الماء بقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي من بين صلب الرجل : ظهره ، وترائب المرأة : يعني موضع
قلادتها من الصّدر ، أي بين الثديين. وهي بالضبط ملتقى عظام الصدر والنحر (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي : إن الله الذي خلق الإنسان من هذا الماء قادر على
إرجاعه حيّا بعد الموت ، وذلك (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) أي يوم القيامة حين تظهر أعمال بني آدم التي أكثرها كان
سرّا بينه وبين ربّه. و (تُبْلَى) معناها : تختبر ويظهر خيرها من شرّها. وعن أبي الدرداء قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ضمّن الله خلقه أربع خصال : الصلاة والزكاة وصوم رمضان ،
والغسل من الجنابة ، وهي السرائر التي قال الله : يوم تبلى السرائر. وقد قيل إن
الله تعالى يظهر أعمال كل أحد لأهل القيامة ليعلموا على أي شيء أثابه أو عاقبه ،
ويكون
هذا مزيد سرور
للمؤمن ، وزيادة استياء للكافرين (فَما لَهُ) أي أن هذا الإنسان المنكر للبعث ليس له (مِنْ قُوَّةٍ) تمنع عنه العذاب (وَلا ناصِرٍ) يعينه على دفع غضب الله عزّ وعلا.
* * *
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))
١١ ـ آخر السورة ـ
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ...) هذا قسمّ منه سبحانه بالسماء ذات المطر ، وإن قيل إن الرجع
هو الشمس والقمر والنجوم التي تغيب وترجع. فالرجع يعني إعطاء السماء للخير الذي
يأتي من جهتها مرة بعد مرة. أمّا الأرض ذات الصّدع فهي التي تتصدّع : أي تتشقّق
بالنبات والأشجار. وجواب القسم هو : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ)
أي أن القرآن قول
يفصل بين الحق والباطل كما في المرويّ عن الإمام الصادق عليهالسلام(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي هو جدّ وليس باللّعب (إِنَّهُمْ) يقصد مشركي قريش (يَكِيدُونَ كَيْداً) يحتالون ويمكرون بك يا محمد وبمن معك من المؤمنين ليقفوا في
وجه دعوتك ويطفئوا نورك (وَ) أنا (أَكِيدُ كَيْداً) يعني : أريد أمرا يخالف ما يريدون ، وأدبّر ما يقضي على
تدبيرهم ويحبط مكائدهم ، وقد سمّاه سبحانه كيدا لأنّ تدبيره يخفى عليهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي أعطهم مهلة قليلة يا محمد ، وانتظر بهم ، ترّبص تدبير
الله فيهم (أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً) أي أمهلهم قليلا. وقيل إنه سبحانه عنى به أن أمهلهم إلى
يوم بدر حيث نبطش بهم ، وقيل بل عنى أن لا تعجل فإن الله تعالى مجازيهم بالذل
والقتل في الدنيا ، وبالعذاب في الآخرة.
سورة الأعلى
مكيّة وآياتها ١٩
نزلت بعد التكوير.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً
أَحْوى (٥))
١ ـ ٥ ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ...) أي نزّه ربّك يا محمد عمّا لا يليق بذاته الكريمة ، لأن
التسبيح تنزيه لله تعالى عن كل ما هو مذموم. والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله ولكنه موجّه لسائر المكلّفين. والأعلى صفة للاسم وهي تعني
القادر الذي ليس فوقه قادر بذاته وبصفاته. وقد قال الإمام الباقر عليهالسلام : إذا قرأت سبّح اسم ربك الأعلى فقل : سبحان ربّي الأعلى ،
وإن كان بينك وبين نفسك. فنزّه أيها السامع هذا الرّب العظيم المتعالي في سمّوه (الَّذِي خَلَقَ) الخلق جميعه (فَسَوَّى) بين مخلوقاته بالإتقان والإحكام ، فعدل القامات وأعطى الحواسّ
وسوّى الصّنع على أحسن تقويم في كل ما خلقه (وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدى) أي قدّر خلقة كل كائن على ما هو عليه ثم هدى جميع الأحياء
لتحصيل معايشهم
وأرزاقهم ، كما هدى الناس إلى دينه ومعرفة توحيده وأعطاهم الاقتدار على الاختيار
والتمييز بين الحسن والقبيح وإلى ما فيه الخير منذ أن كانوا صغارا ، فهدى الطفل
إلى ثدي أمّه إلى أن كبر فدلّه على ما فيه مصلحته ليطلبها وعلى ما فيه ضرره
فيتجنّبه. وقيل : قدّر الولد في البطن تسعة أشهر أو أكثر ، وهداه للخروج منه حين
تمام الحمل ، كما قيل : قدّر المنافع في جميع الأشياء وهدى الناس لاستخراجها منها
، إذ جعل بعضها غذاء وبعضها دواء وبعضها ضارّا أو سامّا (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت العشب والكلأ لمنافع الحيوانات (فَجَعَلَهُ) أي المرعى (غُثاءً أَحْوى) يعني جعله بعد الخضرة هشيما جافا أسود بعد أن كان أخضر ،
وذلك أن العشب إذا يبس اسودّ. وقيل (أَحْوى) تعني أنه أخضر شديد الخضرة يميل إلى السواد. والغثاء لغة :
هو ما يقذف به السيل على جانب مجاري المياه من الحشيش والنبات ومن الأخلاط
المختلفة ، فهو سبحانه الذي خلق المرعى أخضر ثم صيّره يابسا هشيما تذروه الرياح أو
يجرفه السيل ، وقد قدّر سبحانه أن تكون أعشاب المراعي غذاء للحيوان في الحالتين ،
أي حين تكون خضراء وحين تصير يابسة.
* * *
(سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ
نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى (١٣))
٦ ـ ١٣ ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ، إِلَّا ما
شاءَ اللهُ ...) أي سنعلمك قراءة القرآن يا محمد فلا تنساها. وقيل سيقرأه
عليك جبرائيل (ع) بأمرنا فلا تنساه بعد سماعه منه. وعن ابن عباس أن النبيّ صلىاللهعليهوآله كان إذا
نزل عليه جبرائيل عليهالسلام بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه ، فكان لا يفرغ جبرائيل عليهالسلام من آخر الوحي حتى يتكلّم هو بأوّله. فلما نزلت هذه الآية
لم ينس بعد ذلك شيئا. وهذا مثل قوله سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ). فنحن سنقرئك إيّاه فلا تنساه بمشيئتنا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سوى ما أراد الله تعالى أن ينسيك ، إيّاه بالنّسخ أو برفع
حكمه. وقال الفرّاء : لم يشأ الله أن ينسى عليهالسلام شيئا ، فهو كقوله : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ، ولا يشاء. وفي المجمع أن في الآية بيانا لفضيلة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وإخبارا أنه ـ مع كونه أمّيّا ـ كان يحفظ القرآن ، وأن
جبرائيل عليهالسلام كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظها بمرة واحدة ثم لا ينساها
، وهذه دلالة على الإعجاز الدالّ على نبوّته (إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي أن الله تبارك وتعالى يعلم العلن والسرّ. والجهر هو رفع
الصوت ، وما يخفى : ما هو مستور. فالله تعالى يعلم ما نخفيه وما نبديه ولا تخفى
عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا تفوت علمه (وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى) أي نسهّل لك عمل الخير ، فاليسر هو ضد العسر ، أي التسهيل
، واليسرى هي على صيغة (الفعلى) من اليسر : أي السهولة ، فنحن سنوفّقك يا محمد
للشريعة السهلة السمحة ، وهي الحنيفية الشريفة ، ونهوّن عليك حفظ الوحي ونؤيّدك
بألطافنا لتثبت على أمرك ، ثم نسهّل لك أداء الرسالة والصبر على الصعاب في سبيلها
، وهذا وعد له بالنّصر وتسهيل الصعب ولذلك أمره بقوله : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي ذكّر الناس وعظهم فإن تذكيرك لهم نافع في جعلهم مؤمنين
، وفي امتناعهم عن الشّرك والمعاصي أو امتناع بعضهم ممّن هدى الله فإنما أنت
للإنذار والإعذار فذكّر نفعت ذكراك أم لم تنفع ، وقد أشار سبحانه إلى حالتي النفع
وعدمه بقوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى) يعني أنه سيتّعظ وينتفع من يخاف عقاب الله تعالى (وَيَتَجَنَّبُهَا) ينصرف عن الذكرى وينحرف (الْأَشْقَى) أي الأكثر
شقاء من العاصين ،
فإن للعاصين درجات في عصيانهم ، والشقاوة أعظم تلك الدرجات إذ منها الكفر والشّرك
، والأشقى هو (الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرى) أي يلزم أكبر ميزان جهنّم ويكون من وقودها وحطبها ويتلظّى
بلظاها. وقيل إن النار الكبرى هي الطبقة السفلى من جهنّم كما عن الفرّاء (ثُمَّ لا يَمُوتُ) هذا الأشقى في نار جهنّم (وَلا يَحْيى) ولا يعيش ، وهذا يعني أنه لا يموت فيرتاح ، ولا يعيش حياة
يهنأ بها ، بل يذوق أنواع العذاب ، والعياذ بالله من ذلك.
* * *
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)
بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦)
وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى (١٩))
١٤ ـ آخر السورة ـ
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ...) يعني فاز ونجح من طهر نفسه من الشّرك بتوحيد الله سبحانه
وتعالى وقال : لا إله إلّا الله. وقيل : تزكّى : أعطى زكاة ماله. وقيل أراد صدقة
الفطرة وصلاة العيد كما عن أبي عبد الله عليهالسلام
وكثيرين غيره.
أمّا ذكر الله فقيل هو ذكره بقلبه عنه الصلاة ، ورجاء الثواب ، وخوف العقاب ، وقيل
إن الصلاة هنا منها التكبير وقول : الله أكبر ، والحقيقة أنه قصد الصلاة بما فيها
من خشوع وخشية ورجاء ، وقصد الصلوات الخمس المكتوبة ، ولذلك خاطب الكافرين الذين
لم يؤمنوا ولا اعترفوا بها ولا أدّوها وشغلتهم ملاذّ الدنيا عنها فقال لهم : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تختارونها على الآخرة وتفضّلونها عليها ، وتشتغلون بها
وتعمرونها ولا تتفكّرون بأمر الآخرة. وقيل إن الخطاب للعاصين والطائعين ، على
السواء ليوبّخ العاصين وينبّه الطائعين ولذا قال مطمعا إياهم : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)
أي والدار الآخرة
، يعني الجنة. أفضل من الدنيا وأدوم. وقد جاء في الحديث : من أحبّ آخرته أضرّ
بدنياه ، ومن أحبّ دنياه أضرّ بآخرته (إِنَّ هذا) الذي ذكر في هذه الآيات (لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولى) أي مذكور في الصحف السابقة التي أنزلت على الرّسل قبل
القرآن ، فقد ذكر سبحانه فيها فلاح المتزكّي ، وفوز المصلّي ، وحب الناس للدنيا
وتفضيلها على الآخرة مع أن الآخرة أفضل وأبقى ، ثم بيّن عزّ اسمه تلك الصّحف
الأولى فقال : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى) والصّحف : جمع صحيفة ، وهو الأوراق المكتوبة التي تكون بين
دفّتين ، أي الكتاب ، وقد ذكر هنا إبراهيم وموسى عليهماالسلام كمثل على الأنبياء الذين أوتوا صحفا ونزلت عليهم كتب ،
وإلّا فالأنبياء صلوات الله عليهم كثيرون. فعن أبي ذرّ رضوان الله عليه قال : قلت
: يا رسول الله كم الأنبياء؟ فقال : مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا ، قلت : يا
رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وبقيّتهم أنبياء ـ قلت :
كان آدم عليهالسلام نبيّا؟ قال : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده ، يا أبا ذر ،
أربعة من الأنبياء عرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيّك. قلت : يا رسول الله كم
أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة وأربعة كتب ، أنزل الله منها على آدم عشر صحف ،
وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خطّ
بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل ، والزبور ، والفرقان.
سورة الغاشية
مكيّة وآياتها ٢٦
نزلت بعد الذاريات.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً
حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ
طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ
عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ
جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ
مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ (١٥))
١ ـ ١٥ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ...) هذا استفهام أراد به سبحانه التقرير ، أي قد جاءك يا محمد
خبر يوم القيامة الذي وصفه بالغاشية. والغاشية هي التي تغشى الناس فتجلّلهم بأهوالها
ومخاوفها. وقيل هي النار التي تغشى وجوه الكفار بالعذاب ، وذلك كقوله تعالى : (تَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ)(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي في ذلك اليوم تكون وجوه ذليلة بالعذاب الذي ينزل بها ،
فأصحابها يشاهدون الويلات والشدائد والأهوال ويكونون خاضعين لما يراد بهم أذلّة
لما يغشاهم ، فوجوهه (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) يعني أنها عاملة في الدنيا بالمعاصي ، ناصبة : متعبة في
النار بمعالجة لهبها وسلاسلها وأغلالها. وقيل إنهم الرهبان الذين يتعبون في الدنيا
بالعمل الذي يكون خلاف ما أمر الله ، وأهل البدع والباطل والضلال. وقال أبو عبد
الله عليهالسلام ـ كما في المجمع ـ : كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد ، يصير
إلى هذه الآية : عاملة ناصبة .. (تَصْلى ناراً
حامِيَةً) أي تتلظّى وتلزم الاحتراق في نار قد بلغت حرارتها الغاية (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي يكون شرابها من عين وقد بلغت أناها لأن الآنية هي
البالغة النهاية في الشدّة والحرارة ، وقال الحسن : قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت
فدفعوا إليها عطاشا. وهذا شرابهم ، ولكن طعامهم ف (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الضريع : نبت شائك تأكله الإبل وهو يضرّ ولا ينفع ، وإذا يبس
فهو أخبث طعام لا ترعاه دابّة من الدواب ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أمرّ من الصبر
وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار ، سمّاه الله الضريع ... ولمّا نزلت هذه
الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذّبوا في ذلك لأن الإبل لا
ترعاه ، فقال سبحانه يكذّبهم (لا يُسْمِنُ وَلا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) فهو لا يردّ جوعا ولا يأتي بسمنة ... ثم انتقل سبحانه لوصف
أهل الجنة ، فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ) أي وفي ذلك اليوم تكون وجوه منعّمة في أنواع الملذّات
والطيّبات قد ظهر عليها أثر النّعم الكثيرة فهي مسرورة مشرقة (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي أنها راضية عن عملها في الدنيا الذي أدّى بها إلى
الجنّة. وهذا يعني أنها قد رضيت بثواب سعيها أي عملها للطاعات ، وهي (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي في جنّة مرتفعة القصور ، عالية الدرجات. وقيل إن علوّ
الجنّة على ضربين : علو درجاتها
وأنها مشرفة على
غيرها ، وعلو شرفها وجلالة مكانها بالنسبة إلى النار (لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً) أي لا تسمع في الجنّة كلمة لغو ولهو ولا فائدة منها (فِيها) أي في الجنّة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) عبّر هنا سبحانه عن الجنس إذ لكل إنسان في قصره عين جارية
من كل نوع من أنواع الشراب الذي يرغب فيه. وقد قال جارية لأن في العيون الجارية من
الحسن والرونق والمنافع ما لا يوجد في العيون الواقفة ، فضلا عن أن عيون الجنّة
تجري بغير أخاديد في الأرض ، وتسير حيث يريد صاحبها (فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ) أي في الجنة سرر عالية ما لم يجيء أهلها إليها ، فإذا
قصدوها تواضعت لهم وقد قال ابن عباس : ألواحها من ذهب ، مكللة بالزبرجد والدّر
والياقوت. (وَأَكْوابٌ
مَوْضُوعَةٌ) أي كؤوس موضوعة على حافات العيون وجوانبها إذا أراد المؤمن
الشرب منها وجدها مملوءة ، وقيل هي الذهب والفضة والجواهر يجد فيها ما يشتهيه من
الشراب وينظر إليها بمتعة وأنس وسرور لجمال منظرها (وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ) أي : وفيها ووسائد مرتبة بعضها إلى جانب بعض لتشكّل مجالس
فاخرة (وَزَرابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ) يعني : وبسط فاخرة ، وطنافس مبسوطة وموزّعة هنا وهناك في
نواحي المجلس. وعن عاصم بن ضمرة عن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام أنه ذكر أهل الجنّة فقال : يجيئون فيدخلون ، فإذا أساس
بيوتهم من جندل اللؤلؤ ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ
مبثوثة. ولو لا أن الله تعالى قدّرها لهم لالتمعت أبصارهم بما يرون. ويعانقون
الأزواج ، ويقعدون على السّرر ، ويقولون الحمد لله الذي هدانا لهذا.
* * *
(وَزَرابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)
وَإِلَى
السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ
(٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ
الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
حِسابَهُمْ (٢٦))
١٦ ـ آخر السورة ـ
(أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ...) ضرب الله تعالى لهم مثلا بخلق الإبل ... أي الجمال ـ لأنها
كانت وسيلة عيش لهم في عصر النبوّة الكريمة. أي ألا يتفكرون ويعتبرون بخلق الإبل
وما جعل فيها من منافع إذ يخرج من ضروعها اللبن الصافي من بين الفرث والدم ، وقد
ركّب الله فيها من عجيب الخلق وعظم إيهامه ثم ذلّلها للصغير والكبير وسخّرها
لمنافع الناس من اللحم إلى اللبن إلى الجلد إلى الوبر فالفرث فغيره من الركوب ونقل
الأثقال ، وجعلها من أعزّ ما لهم وأغلى مقتضياتهم لا تكلّفهم طعاما وتجلب لهم
الخير الكثير ، أفلا ينظرون إلى خلقها العجيب؟ فأنا أصنع لأهل الجنّة أحسن ممّا
صنعت لأهل الدنيا ممّا ينتفعون به ، فليعتبروا وليتّعظوا (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي : أفلا ينظرون كيف رفع الله تعالى السماء فوقهم بلا عمد
، ثم جعل فيها الخير الذي ينزل على العباد ، وبث فيها الشمس والقمر والنجوم
لمنافعهم (وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ) أي كيف جعلت أوتادا تثبت بها الأرض من أن تميد بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطها سبحانه وجعلها واسعة يمشون فيها ويأكلون من
رزقه ويستفيدون ممّا جعلت لهم فيها من معايش ومعادن وخيرات ، فلو تفكّروا بذلك
لعلموا أن لهم صانعا ومدبّرا هو الذي أوجدهم ورزقهم وتكفّل بحياتهم ، وأوحى لنبيّه
صلّى الله عليه قائلا (فَذَكِّرْ) يا محمد الناس وعرّفهم بذلك وأدعهم إلى التوحيد فإن
التذكير هو طريق العلم وسبيل والمعرفة (إِنَّما أَنْتَ
مُذَكِّرٌ) تذكّرهم بعظمة الله وبنعمه الوفيرة ، وتنبّههم إلى ما يجب
عليهم من التوحيد والشكر والعبادة لربّهم الخالق الرازق المنعم وذلك بأن تقدّم لهم
هذه الأدلة الواضحة على وجوده وعلى قدرته وفضله و (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ) أي لست متسلطا
عليهم تسلّطا
يجعلك حقيقا بإجبارهم على الإيمان ، ولا أنت مكلّف بذلك ، بل الواجب عليك التذكير
والإنذار وتبليغ الدعوة إلى الحق ، وأنت لا تتحمّل وزر رفضهم لدعوتك (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي سوى من انصرف عن تذكيرك ودعوتك ولم يستفد منها وكفر بما
جئت به ، فكأنك لست مذكّرا له لأنه لا يقبل منك ، فدع أمره إلى الله (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ
الْأَكْبَرَ) أي يتولى إدخاله في جهنم والخلود فيها ، ولا عذاب أكبر من
الخلود في النار. فلا تهتمّ يا محمد بمن نفر وكفر ف (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ) أي إن مرجعهم بعد الموت إلينا وكذلك مصيرهم يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي محاسبتهم لإثابتهم أو مجازاتهم ، فإن الآية الكريمة
تشمل الوعد والوعيد ، فمهما عاندوك وآذوك فإنهم صائرون إلينا وهم لا يفوتون حكمنا
وسترى كيف نفعل بأعدائك وبالمكابرين لدعوتك والمعاندين لأمرك.
* * *
سورة الفجر
مكيّة وآياتها ٣٠
نزلت بعد الليل.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْفَجْرِ (١)
وَلَيالٍ
عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨)
وَثَمُودَ
الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ
ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا
فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ (١٤))
١ ـ ١٤ ـ (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ ،
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ...) هذا قسم منه سبحانه بالفجر الذي هو انفجار الصبح في كلّ
نهار ، وقيل هو فجر ذي الحجة خاصة لأنه ذكر بعده الليالي العشر ، وقيل هو فجر
المحرّم لأنه تتجدد عنده السنة ، وقيل غير ذلك. والقسم بالفجر بحد ذاته يدل على
عظمة مفجّره
بقدرته حيث قدّر دوران الأرض ومنازل الشمس وإيلاج الليل في النهار والنهار في
الليل. أما ذكر الليالي العشر والقسم بها ، فذلك لأنها أيام الحج التي شرّفها الله
ورغّب الناس فيها بالعمل الصالح. وفي قول أنها العشر الأواخر من شهر رمضان ، وأنها
العشر التي أتم الله بها ميقات موسى عليهالسلام ، والأول أقرب للمعقول. ثم عطف على قسمه سبحانه قوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي الزوج والفرد من العدد. وقيل إن ذلك لما في الحساب من
النفع للناس. وقيل هي كل ما خلقه الله تعالى لأن جميع الأشياء إما زوج وإما فرد. وفي
رواية ابن حصين عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : الشفع والوتر : الصلاة ، ومنها شفع ومنها وتر. وعن
الصادقين عليهماالسلام : الشفع بوم التروية والوتر يوم عرفة. وقيل أخيرا : الشفع
الأيام والليالي والوتر : اليوم الذي لا ليل بعده ، وهو يوم القيامة ، كما قيل :
الشفع : عليّ وفاطمة عليهماالسلام ، والوتر : محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والله تعالى أعلم بما قال (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) أي إذا سار وأدبر ومضى بظلامه ، فإن سيره ذاك ، المرتّب من
لدن خالق عظيم مدبّر ، يدل على عظمة خالقه ومدبّره على تلك الحال. وسير الليل إنما
هو تابع لسير الشمس وحركة الأرض في الفلك ، وهو آية عظمي من آيات الله تبارك
وتعالى ولذلك استحقّت عظمة الخالق أن يقسم به (هَلْ فِي ذلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟) أي هل في ذكر هذه الأيمان التي أقسم بها سبحانه يمين تقنع
صاحب العقل؟ وهذا يعني أن من كان ذا عقل ولبّ يقتنع بهذه الأيمان ، ومن كان ذا عقل
ولبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه المذكورات فيه عجائب وغرائب تدل على
وحدانية موجدها وعلى عظمة صنعه وبديع تدبيره وحكمته. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ؟) هذه الحكاية اعتراض بين القسم المذكور وجوابه الذي لم يأت
بعد. وهي خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله وتنبيه للكفرة والمعاندين له على ما جرى لمن سبقهم لمّا
كفروا بالله وبأنبيائه وكتبه كعاد قوم هود
المذكورين في هذه
الشريفة. أما لفظة (إِرَمَ) فقالوا هو اسم قبيلة من قوم عاد كان فيها الملك فقد كان (عادان)
وإرم هي عاد الأولى ، وقيل هو جدّ عاد المعروف بعاد بن عوص بن إرم إلخ ... وقيل هو
اسم بلد هي دمشق ، كما قيل إنه لقب لعاد ، وأن الحسن قرأ : بعاد إرم ، على
الإضافة. ومن جعله بلدا فالتقدير : بعاد صاحب إرم ، و (ذاتِ الْعِمادِ) العماد جمعه عمد وهو ما تبنى به الأبنية والقصور ، ويستعمل
في الشّرف فيقال : فلان رفيع العماد ، وقيل معناه ذات الطول والشدة ، وقيل إنهم
كانوا طوال القامات فقال سبحانه في وصفهم (الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة وعمارة
الأجسام ، وهم الذين قالوا : من أشدّ منّا قوة ، وقيل إن الواحد منهم كان يحمل
الصخرة ويرميها على الحيّ من الناس فيهلكهم والأصح ـ والعلم عند الله تعالى أن ذات
العماد : ذات الأبنية العالية القائمة على الأعمدة القوية ، التي لم يخلق مثل
أعمدتها وأبنيتها في جميع البلاد (وَثَمُودَ الَّذِينَ
جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي ألم تر كيف فعل ربّك بثمود؟ وهذا عطف على سابقه. فثمود
هم الذين قطعوا الصخر في الوادي الذي كانوا يسكنونها وهي وادي القرى. وعن ابن عباس
أنهم كانوا ينحتون الجبال الصّخريّة فيجعلون منها بيوتا (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي فرعون موسى ، صاحب الجنود الذين كانوا يشيدون ملكه
ويقوّون سلطانه وقد دعاهم سبحانه ، أوتادا. وقيل : إنه كان يعذّب أعداءه بأربعة
أوتاد يشدّهم فيها باليدين والرّجلين ثم يتركهم مشدودين حتى يموتوا. وقد فعل ذلك
مع امرأته آسية بنت مزاحم رضوان الله عليها لأنها آمنت بموسى عليهالسلام وكفرت بربوبيّة فرعون ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى
ماتت وقد ذكرنا ذلك في صورة ص. فهل رأيت يا محمد ما فعل ربّك بهؤلاء القوم (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) كما طغى قوم عاد وثمود ، أي تجبّروا وعصوا أنبياء الله
وعملوا بالمعاصي (فَأَكْثَرُوا فِيهَا) أي في البلاد (الْفَسادَ) أي
القتل والمعاصي
على اختلافها (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فجعل السوط الذي ضربهم فيه وأهلكهم عذاب الإهلاك في
الدنيا قبل الآخرة. وقد أجرى سبحانه على العذاب لفظ (سوط) لأنه ألقى عليهم العذاب
وصبّه عليهم كما يصب الإنسان ضربات سوطه على عدوه حتى يهلكه (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي أنه يترصد عباده ولا يفوته شيء ممّا هم فيه لأنه سامع
ناظر إلى سائر أحوالهم. وروي عن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام أن معناه : إن ربّك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم. كما
أنه روي أن الإمام الصادق عليهالسلام قال : المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.
وهذا يعني أنه سبحانه يراقب عبده وينتصف منه إذا ارتكب مظلمة بحقّ نفسه أو بحق
غيره. وقد قيل : إن ربّك لبالمرصاد ، هو جواب القسم. وقيل أيضا : جواب القسم محذوف
وتقديره : ليقبضنّ الله على كل ظالم.
* * *
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
(١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧)
وَلا
تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ
التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ
الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤)
فَيَوْمَئِذٍ
لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ
وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ
راضِيَةً
مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي
عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))
١٥ ـ آخر السورة ـ
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ...) أي إذا امتحنه واختبره (فَأَكْرَمَهُ) بأن أعطاه النّعم الكثيرة (وَنَعَّمَهُ) جعل عيشه رغيدا بما أفاض عليه من الرزق والصحة والأمن
والزوج والولد (فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ) أي أنه يسر بذلك ويقول إن ربّي وهبني ذلك كلّه لكرامتي
عنده ، وهو يظن أن كرامته عند الله تعالى تتجلّى بسعة الدنيا التي أعطاه إياها (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ) بالحاجة أو الفقر التام (فَقَدَرَ عَلَيْهِ
رِزْقَهُ) يعني فضيقه عليه وقتّره (فَيَقُولُ رَبِّي
أَهانَنِ) أي أنه يظن بينه وبين نفسه أنه ليس في محل كرامة من الله
تعالى ، وأنه أذله بالفقر وأنزل فيه المسكنة والحاجة (كَلَّا) أي : ليس كما ظنّ هذا ولا كما ظنّ ذاك ، فإنني لا أعطي
الإنسان لكرامته عندي ، ولا أحرمه لهوانه عليّ ، ولكني أعطي من أشاء وأمنع عمّن
أشاء بحسب حكمتي وتدبيري ووفق ما يقتضي صلاح العبد ، أمّا إكرامي فيكون على
الطاعات ، وأمّا إهانتي فتكون على المعاصي ... ثم فصّل سبحانه بعض المعاصي فقال : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي الولد الذي لا أب له فإنكم لا تعطونه ممّا وهبكم الله ،
ولا تغنوه عن ذل السؤال والحاجة. وذكر سبحانه اليتيم خاصة لأنه القاصر الذي لا
كافل له يتولّى أمره ، ولذا قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة ، وأشار بالسبّابة
والوسطى (وَلا تَحَاضُّونَ
عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا تحثون على إطعامه ولا تتواصون بالصدقة عليه. وقرئ :
لا تحاضّون أي : لا يحضّ بعضكم بعضا (وَتَأْكُلُونَ
التُّراثَ) أي الميراث الذي يتركه الميّت ، وقيل هو هنا أموال اليتامى
لأن الميراث الحلال لا يلام الوارث على أكله. وقد كانوا لا يورّثون النساء
والصبيان ويأكلون سهامهم ، فأنتم تأكلون ذلك (أَكْلاً لَمًّا) أي أكلا تلمّون به جميعا بحيث تأخذون نصيبكم ونصيب غيركم ،
ولا تفكّرون في الطيّب
والخبيث والحلال
والحرام (وَتُحِبُّونَ الْمالَ
حُبًّا جَمًّا) أي شديدا وأنتم مولعون به تحبّون كثرته وتحرصون عليه ولا
تنفقون زكاته ولا تعطون يتيما ولا مسكينا ولا صاحب حاجة (كَلَّا) أي لا يكون الأمر كذلك ولو فعلتموه. و (كَلَّا) كلمة زجر وروع معناه : لا ، لا تفعلوا هكذا ، ولذلك خوّف
سبحانه الناس عاقبة هذا الفعل بقوله : كلا (إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا زلزلت وانخسفت وتهدّم كل ما عليها ، وقيل إذا دقّت
جبالها واستوى أديمها وزالت بيوتها وقصورها وصارت كالصحراء (وَجاءَ رَبُّكَ) أي جاء أمر ربّك وحكمه وقضاؤه في يوم القيامة حين يحاسب
العباد. وقيل إذا جاءت آياته الهائلة التي تدل على قدرته وتكون من آثار وجوده
الدالّ على حضوره بمعرفة وجوده وقدرته من دون ظهوره إلى الخلق إذ جلّ من أن يرى أو
يتصوّر في الأوهام لأنه ليس بجسم ولا تحتويه الفكر. وإن زوال الشك في أنه هل هو
موجود أم لا ، والإيمان بوجوده ، هو بمثابة مجيئه بعد رفع الشك بوجوده ... أجل ،
فإذا جاء أمر ربّك (وَالْمَلَكُ) وكان الملائكة حينئذ (صَفًّا صَفًّا) حيث يكون أهل كل السماء صفّا وحده كما عن عطاء. وقيل إنهم
يكونون سبعة صفوف محيطين بالأرض يأتي الصف الأول ثم الثاني فالثالث إلخ ... (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يعني كشف عنها وأحضرت لمعاقبة من يستحقونها فيرى أهل
الموقف جميعا أهوالها. وقد قال أبو سعيد الخدري : لمّا نزلت هذه الآية تغيّر وجه
رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله. (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يوم يجاء بجهنم يتّعظ الإنسان الكافر ويعتبر ويتوب (وَ) لكن (أَنَّى لَهُ
الذِّكْرى؟) أي ومن أين له أن ينفعه التذكّر والاعتبار والتوبة ، وقد
كان ينبغي له أن يتذكّر ويعتبر في دار الدنيا ، وأن يتوب عمّا جناه على نفسه ويعمل
لآخرته لينجو من النار وغضب الجبّار ، وهو الآن يقول : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنّى لو أنه عمل بالطاعات وفعل الصالحات لحياته
الأبديّة أي للحياة
الحقيقية التي
تدوم ، يوم كان يعب في حياته الدنيا الفانية (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ
أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب الله سبحانه أحد من المخلوقين ، فإن عذابه
أصعب من كل عذاب ، وآلم من كل ألم ، وهو يبقى ويفنى كل معذّب غيره ويفنى عذابه معه
، إلّا عذاب الله فهو دائم خالد (وَ) هو كذلك (لا يُوثِقُ وَثاقَهُ
أَحَدٌ) أي لا يكبّل الكفار بسلاسل النار كما يكبلهم ملائكة العذاب
الذين أوكل إليهم أمر جهنّم (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الآمنة المؤمنة المصدّقة بالثواب ، المطيعة التي
اطمأنّت إلى حسن عاقبتها ، العالمة ببشارتها بالجنّة والرضوان : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) عودي إلى رحمة ربّك وثوابه ، وهذا يقال لها عند الموت ،
فارجعي إلى النعيم الذي وعدت به (راضِيَةً) بذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم (مَرْضِيَّةً) أعمالك عند ربّك قد أثابك عليها أحسن الثواب فرضي عنك
وأرضاك (فَادْخُلِي فِي
عِبادِي) كوني في زمرتهم ومعهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي وعدت بها عبادي الصالحين وأعددت لهم نعيمها المقيم
الدائم السرمد.
* * *
سورة البلد.
مكيّة وآياتها ٢٠
نزلت بعد ق.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ
بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما
وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ (٥))
١ ـ ٥ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ،
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ...) تقدّم أن هذا معناه : أقسم بهذا البلد ، وأن (لا) زائدة. أما (الْبَلَدِ) فهي مكة بإجماع المفسّرين يعني أحلف ببلدك يا محمد (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي مقيم فيه ، والذي زاد شرفا بحلولك فيه لأنك الداعي إلى
توحيد الله وعبادته ، فالقسم بمكة وبه صلىاللهعليهوآله كأنّه قسم به وقد وقع من أجل حلوله به ، وذلك كتسمية
المدينة (طيبة) لأنها طابت وطهرت بوجوده (حِلٌ) فيها. وقد قرئ (وأنت محل بهذا البلد) وهو من الإحلال ،
يعني أنك تّحل فيه قتل من فيه من الكافرين حين فتح مكة ، وقد قال صلىاللهعليهوآله يوم قاتل في مكة : لا يحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد من
بعدي ، ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار كما في المرويّ عن ابن عباس. أما
المرويّ عن أبي
عبد الله عليهالسلام فهو قوله : كانت قريش تعظّم البلد وتستحلّ محمدا صلىاللهعليهوآله فيه ، فقال : لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ لهذا البلد ،
يريد أنهم استحلّوك فيه ، فكذّبوك وشتموك ، وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل
أبيه ، ويتقلّدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليدهم إياه ، فاستحلّوا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ما لم يستحلّوا من غيره فعاب الله ذلك عليهم. ثم عطف
سبحانه على قسمه بقوله : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)
وعنى بذلك آدم عليهالسلام وذرّيته من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم كما عن الإمام
الصادق عليهالسلام. وقيل عنى بذلك إبراهيم عليهالسلام وأولاده لأنه هو الذي بنى البيت الحرام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ) أي خلقناه في تعب ونصب وشدة ، يعني أنه يكابد مصائب الدنيا
وشدائد الآخرة ، وقيل بل أراد أن الإنسان يتحمّل شدة القيام بالأمر والنهي في مجال
العبادات الشاقة وسائر الطاعات والواجبات ، وعليه أن يعرف كبد الدنيا ومشقاتها
وأنه لا راحة إلّا في الآخرة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) أي هل يزعم الإنسان أنه لا يقدر على عقابه والاقتصاص من
أحد إذا أمعن في المعاصي وارتكاب الآثام؟ وهذا الاستفهام إنكاريّ يعني أنه لا
ينبغي له أن يظنّ ذلك.
* * *
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ
لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ
لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً
وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا
مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ (١٦))
٦ ـ ١٦ ـ (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً ...) في هذه الآية يحكي سبحانه
مقولة هذا الإنسان
الذي كان عدوّا للنبيّ صلىاللهعليهوآله وهو يقول : أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبيّ مفتخرا بذلك
على قومه ، وقيل هو الحرث ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف الذي أذنب ذنبا وسأل
النبيّ (ص) عن ذلك فأمره أن يكفّر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات
منذ دخلت في دين محمد ، فقال سبحانه وتعالى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ) فيسأله كيف اكتسب هذا المال وفيم أنفقه ، ليعلم أننا نحن
أعطيناه ، ونحن أمرناه بالإنفاق في أبواب الحلال؟ وعن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة : عن عمره
فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن عمله ماذا عمل به ، وعن
حبّنا أهل البيت. وقيل إن المدّعي للإنفاق قد كان كاذبا في مدّعاه فقال له سبحانه
: أيظنّ أننا لم نر ذلك ولم نعرف أنه فعل أو لم يفعل؟ ثم أخذ سبحانه ببيان نعمه
على عبده فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ) ينظر بهما عظمة المخلوقات الدالّة على عظمة الخالق (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) ينطق بواسطة الكل ويشكر خالقه ورازقه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي دللناه على سبيل الخير وسبيل الشر كما عن أمير المؤمنين
عليهالسلام ، (فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ) أي فلم يتجاوز هذا الإنسان الطريق الصعبة التي كنّى عنها
سبحانه بالعقبة وهي مجاهدة النفس ومخالفة الشيطان للوصول إلى عمل الخير والقيام
بالطاعات ، وهذا أمر أشبه بصعود العقبة في مشقّته ، وروي أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون ، وأنا
أريد أن أخففّ عنكم لتلك العقبة. وقيل إن العقبة هي الجسر الذي ينصب فوق جهنم ، أي
الصراط. فكأنه سبحانه قال : لم يحمل نفسه على المشقة بعتق الرقبة والإحكام وغيرهما
ممّا سيذكره ولذلك سأل سبحانه : (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ؟) أي ما هو ذلك الاقتحام للعقبة الذي ذكرناه؟ إنه (فَكُّ رَقَبَةٍ) تحريرها من أسر الرّق. وقيل أن يفك رقبته من الذنوب وأن
يتوب وينيب (أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ) أي الإطعام في أيام الجوع. وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من
باب من أبواب الجنّة لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أطعم يتيما من أقاربه درهمه ، وهذا حثّ على تقديم ذوي
القربى من المحتاجين في الإطعام والبر (أَوْ مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ) أي فقيرا محتاجا قد لصق بالتراب من شدة الجوع والفقر.
* * *
(ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ
مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
١٧ ـ آخر السورة ـ
(ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ...)
بعد أن تكلّم
سبحانه عن الأعمال المقرّبة إليه تعالى ، عطف على ذلك بقوله إنها إنما تنفع مع
الإيمان ، فينبغي للإنسان مع هذه الأعمال أن يكون مؤمنا مصدّقا بعد الخير ويقوم
بالطاعات كسائر الذين آمنوا وعملوا (وَتَواصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الفرائض وترك المعاصي
، وتواصوا كذلك بالتراحم وببذل الرحمة للفقراء منهم خاصة ف (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أنهم هم الذين تأخذ بهم الملائكة يوم القيامة إلى ناحية
اليمين ويعطونهم كتبهم بأيمانهم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِنا) أنكروا حججنا ودلائلنا ولم يصدّقوا رسلنا (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي هم أهل الشؤم على أنفسهم ويؤخذ بهم إلى جانب الشمال
ويعطون كتبهم بشمائلهم (عَلَيْهِمْ نارٌ
مُؤْصَدَةٌ) أي نار مطبقة مقفلة أبوابها عليهم ، فهي لا تفتح لهم ولا
يخرجون من غمّ العذاب ، ولا يدخل إليها روح من الرحمة.
* * *
سورة الشمس
مكية وآياتها ١٥
نزلت بعد القدر.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها
(١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا
جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما
بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦)
وَنَفْسٍ
وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))
١ ـ ١٠ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها ، وَالْقَمَرِ
إِذا تَلاها ...) هذا قسم أيضا بالشمس وضحاها الذي هو صدر وقت طلوعها لأن
ضحى النهار صدر وقته. و (الواو) هنا للقسم وسائر الواوات بعدها للعطف إلى قوله
تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها). وقد قدّمنا أنه سبحانه له أن يقسم بما يشاء من خلقه
لينبّه ، إلى عظيم قدرته ، فإن في الشمس وفي ضوئها وحرارتها منافع لا تحصى تدلّ
على الموجد الحكيم المدبّر (وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) أي إذا تبعها وسار خلفها يستمدّ من نورها بمقابلته لها ـ سابقا
لها أو تاليا لأنه يواجهها دائما ، واستعمل سبحانه (تَلاها) لهذا المعنى الدقيق (وَالنَّهارِ
إِذا
جَلَّاها) أي كشف الظّلمة وبدّد ظلام الليل ، ولم يذكر هذا المعنى
لوضوحه (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها) أي يغطّيها ويخفيها ـ يعني الشمس حين يواريها عن الأنظار
بنتيجة دوران الأرض ـ (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) يعني ومن بناها ، فكأنه سبحانه أقسم هنا بذاته القدسية.
وقيل هو : والسماء وبنائها المحكم الدقيق (وَالْأَرْضِ وَما
طَحاها) أي وبسطها وتسطيحها ليتمكّن الخلق من العمل عليها والتصرّف
على سطحها (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها) أي وحقّ النفس ـ الجسم الروح ـ حقّ من سوّى أعضاءها وزانها
بالعقل. وقيل قصد نفس آدم عليهالسلام (فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها سبل الفجور وسبل التقوى ، وزهّدها بالفجور ،
وهدّد بارتكابه ، ورغّب بالتقوى وأثاب عليه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) هذا جواب القسم ، يعني قد فاز ونجح من زكّى نفسه بتطهيرها
من الدنس والرّجس ، وأصلحها بالطاعات والأعمال الصالحة (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي خسر من أضلّ نفسه وأخملها وجعلها دنيئة خسيسة. وفي
المجمع عن الصادقين عليهماالسلام في قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) ، قالا : بيّن لها ما تأتي وما تترك ، وفي قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) : قد أفلح من أطاع ، وقد خاب من دسّاها : قد خاب من عصى. وعن
سعيد بن أبي هلال قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا قرأ : قد أفلح من زكّاها وقف ثم قال : اللهم آت نفسي
تقواها ، أنت وليّها ومولاها ، وزكّها وأنت خير من زكّاها.
* * *
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ
اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ
فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ
عُقْباها (١٥))
١١ ـ آخر السورة ـ
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْواها ...) أي كذبت ثمود ، وهم قوم صالح عليهالسلام ـ بطغيانها وكثرة معاصيها وتجاوزها حدّ المعقول من الظّلم
لنبيّهم (ع) والطّغوى ، اسم من الطغيان قيل إنه اسم العذاب الذي نزل بهم بعد عقر
الناقة فإنهم كذّبوا به فأتاهم ما كذّبوا به (إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقاها) أي حين خرج أشقى القوم لعقر الناقة كذّبوا بنزول العذاب
طغيانا منهم. والانبعاث معناه انتداب ذلك الشقي وقيامه بالمهمة ، وهو قيدار بن
سالف الذي قال عنه رسول الله صلىاللهعليهوآله : هو أشقى الأوّلين. وقد قال لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام : من أشقى الأوّلين؟ قال : عاقر الناقة. قال : صدقت ، فمن
أشقى الآخرين؟ قال : لا أعلم يا رسول الله. قال : الذي يضربك على هذه ، وأشار إلى
يافوخه. وقيل إن عاقر الناقة كان أشقر أزرق قصيرا (فَقالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللهِ) أي قال صالح عليهالسلام لقومه : (ناقَةَ اللهِ) أي أحذّركم ناقة الله ، فاللفظ منصوب على تقدير : احذروا
ناقة الله فلا تعقروها (وَسُقْياها) أي ودعوها وشربها فلا تتعرّضوا لها بسوء ولا تزاحموها ،
وذلك كقوله تعالى : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ
شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)(فَكَذَّبُوهُ) أي فكذّبه قومه ورفضوا قوله ولم يخافوا تحذيره بالعذاب (فَعَقَرُوها) أي قتلوها (فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) فدمّر عليهم وأطبق العذاب عليهم وأهلكهم (بِذَنْبِهِمْ) بمعصيتهم التي نسبت إليهم جميعا لأنهم رضوا بها بل
اقترحوها وبعثوا قيدار لعقر الناقة (فَسَوَّاها) أي فاستوت الدمدمة ـ يعني الهلاك والتدمير عليهم وعمتهم
فشملت صغيرهم وكبيرهم ، فنزل العذاب عليهم وكانوا فيه سواء (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لا يخاف سبحانه أيّ تبعة تنشأ عن إهلاكهم لاستحقاقهم
لذلك ، لأنه لا يفعل إلّا الحكمة ولا ينازعه في فعله أحد ، وهذه كقوله : (لا يسأل
عما يفعل). وقيل معناه : ولا يخاف عاقر الناقة عقبى عقرها ولا يخشى عاقبة صنعه
لأنه كان من أشد المكذّبين بقول صالح عليهالسلام.
* * *
سورة الليل
مكية وآياتها ٢١
نزلت بعد الأعلى.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢)
وَما
خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥)
وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ
مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))
١ ـ ١١ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ
إِذا تَجَلَّى ...) هذا قسم منه سبحانه بالليل إذا غشي بظلمته النهار فغطّاه
وأخفاه فلفّت العتمة ما بين السماء والأرض ، والمعنى : إذا أظلم (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) يعني إذا ظهر وبان مشرقا بنوره ، وقد كرر سبحانه ذكر
اللّيل والنّهار في السورتين لشدة الانتفاع بكليهما ، ففي النهار السعي والعمل في
طلب المعاش ، وفي الليل الراحة والدعة والسكون ، فما أعظم قدر الليل والنهار ،
فإنهما نعمتان عظيمتان على الخلق (وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (ما) هنا بمعنى
الذي ،
أي والذي خلقهما.
وقيل عنى بذلك آدم وحوّاء عليهماالسلام ، وقيل قصد النوع : (إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى) هو جواب القسم ، فقد أقسم سبحانه بما تقدّم أن أعمالكم
مختلفة بعضها يؤدّي إلى الجنّة وبعضها يؤدّي إلى النار ، فهذا يسعى للنجاة وفكاك
رقبته من النار ، وذاك يسعى للدنيا وللخسار في الآخرة ولدخول النار (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى)
لهذه الآية قصة
نزلت بسببها ، وهي أن رجلا كانت له نخلة مائلة تتدلّى فروعها في دار رجل فقير ذي
عيال. وكان صاحب النخلة إذا صعد إليها ليقطف من ثمرها ربما سقطت تمرة فتناولها أحد
أولاد الفقير ، فكان ينزل صاحب النخلة فيأخذ التمرة من الصبيّ حتى ولو وجدها في
فمه أدخل إصبعه وأخرجها من فمه. فشكا الفقير ذلك إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال له (ص) اذهب. ثم لقي
رسول الله (ص) صاحب النخلة فقال له : تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان
ولك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل : ان لي نخلا كثيرا وما فيه نخلة أعجب إليّ
تمرة منها. ثم ذهب ولم يستجب لطلب النبيّ (ص) وسمع رجل يدعى أبا الدحداح الحديث
فقال : يا رسول الله أتعطيني ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها؟ قال نعم. فذهب الرجل
وساوم صاحب النخلة واشتراها منه بأربعين نخلة وأشهد على ذلك ، ثم جاء ، ووهبها
للنبيّ (ص) فذهب رسول الله (ص) إلى صاحب الدار فقال له : لك النخلة ولعيالك ، فنزلت
هذه السورة المباركة. فالذي أعطى واتّقى هو أبو الدحداح (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بأن الله يعطي الواحد عشرا إلى أكثر من ذلك (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي نسهّل أموره للخير لأنه لا يسعى إلّا للخير ولا يسعى في
الشر (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى) أي بخل بماله وضنّ به كما فعل مالك النخلة الذي بخل بحقّ
الله تعالى ثم التمس الغنى وطلبه بمنع العطاء وبالبخل ، وعمل علم من لا يطلب عطاء
الله ورحمته (وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى) أي لم يصدّق بحسنى الثواب وبالجنّة (فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى) أي سنخلّي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا
تَرَدَّى) أي لا يفيده ماله إذا هلك ومات. وعن أبي جعفر عليهالسلام : وما يغني عنه ماله إذا تردّى : أما والله ما تردّى من
جبل ، ولا تردّى من حائط ، ولا تردّى في بئر ، ولكن تردّى في نار جهنّم.
* * *
(إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ
الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي
مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)
إِلاَّ
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))
١٢ ـ آخر السورة :
(إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى ...) أي إن علينا بيان الهدى بالدلالة عليه وبإقدار الإنسان على
الاختيار. فنحن نبيّن الطاعات والمعاصي بواسطة رسلنا لنقطع سبيل العذر (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي أن لنا أمرهما لأننا نملكهما ، ولذلك فإنه لا يزيد في
ملكنا من اهتدى ، ولا ينقص منه من ضل وغوى ، ونحن لا نجبر أحدا إذ يبطل الثواب ،
ولكننا نبيّن ونأمر ونزجر ولكلّ امرئ ما شاء من حسن أو سوء الاختيار لنفسه. ثم
أورد تحذيره للمخالفين بقوله (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى) أي فحذّرتكم وخوّفتكم نارا تستعر وتلتهب وتتوقّد ويزيد
وهجها و (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى) أي لا يلزمها ويدخلها فيكون دائما فيها إلّا الكافر بالله
فإنه ليس بعد الكفر ذنب والكافر أشقى الأشقياء (الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى) أي كذّب بآيات الله ودلائله وانصرف عنها بتكذيب رسله ،
وأعرض عن الإيمان (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي يجنّب النار المتلظية ويحيّد عنها (الْأَتْقَى)
الشديد التقوى
والإيمان (الَّذِي يُؤْتِي
مالَهُ) ينفقه في مرضاة الله وفي طرق إنفاقه و (يَتَزَكَّى) يتطهّر ويطلب أن يكون زكيّ النفس عند ربّه جلّ وعلا (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى) أي أن الذي أعطى ماله لمستحقّيه وأنفقه في سبيل الله ولم
يبتغ من وراء ذلك جزاء ممّن يعطيهم ولا يريد عوضا ، وأنه لا يكافئ من يعطيه من جهة
، ولا يعطي أحدا ليجعل له عليه يدا أو منّة ، ولا يفعل ذلك (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلى) أي طلبا لوجه الله سبحانه ورغبة في رضاه وثوابه (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي وسوف نعطيه حتى نرضيه من الثواب في الآخرة وينال فوق ما
كان يتمنّاه من الأجر الكثير.
* * *
سورة الضحى
مكيّة وآياتها ١١
نزلت بعد الفجر.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالضُّحى (١)
وَاللَّيْلِ
إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ
رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
(٤) وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))
١ ـ ٥ ـ (وَالضُّحى ، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ...) هذا قسم منه سبحانه بالضّحى الذي هو وقت ارتفاع الشمس في
الثلث الأول من النهار ، يعني أنه أقسم بقدرة من جعل الضّحى وأظهره في كل يوم (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن واستقرّ ظلامه وخيّم على البسيطة والأفق المقابل
لها وغطّى ذلك كله ، أي بربّ ذلك كلّه ، القادر عليه وحده دون غيره (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) يعني ما فارقك ربّك يا محمد ولا قطع عنك الوحي ولا أبغضك
وقلاك فابتعد عنك منذ اختارك للنبوّة. وهذا جواب القسم يؤكّد له فيه عدم هجره له
وعدم تخلّيه عنه. وقصة ذلك ـ كما عن ابن عباس ـ أنه احتبس الوحي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله خمسة عشر يوما فقال المشركون : إنّ محمدا قد ودّعه ربّه
وقلاه ، ولو لا ذلك لتتابع الوحي عليه فنزلت هذه الآية المباركة ... أما مقاتل
فقال انقطع عنه (ص)
الوحي أربعين يوما
فقال المسلمون : ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله؟ فقال : وكيف ينزل عليّ الوحي ،
وأنتم لا تنقّون براجمكم ـ أي لا تنظّفون عقد أصابعكم التي يجتمع فيها الوسخ ـ ولا
تقلّمون أظفاركم؟ ولمّا نزلت السورة الشريفة قال النبيّ (ص) لجبرائيل (ع) : ما جئت
حتى اشتقت إليك؟ فقال جبرائيل (ع) : وأنا كنت أشد إليك شوقا ولكنّي عبد مأمور ،
وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك. وقيل إن اليهود سألوا رسول الله (ص) في هذه الفترة عن
ذي القرنين وعن أصحاب الكهف وعن الروح ، فقال سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله
فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام فاغتمّ لشماتة الأعداء ، فنزلت السورة تسلية لقلبه
وقال سبحانه فيها : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولى) أي أن ثواب الآخرة المعدّ لك خير ممّا في الدنيا الزائلة
والحياة فيها ، ففي المجمع ان ابن عباس : أن له في الجنّة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ،
ترابه من المسك ، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم على أتمّ الوصف (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي سيمنحك من الشفاعة وأنواع الكرامة ما ترضى به. فعن محمد
بن الحنفية أنه قال : يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزوجل : (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلخ ... وإنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله :
ولسوف يعطيك ربّك فترضى ، وهي والله الشفاعة ليعطينها في أهل لا إله إلّا الله حتى
يقول : ربّ رضيت. وعن الإمام الصادق عليهالسلام : أن رسول الله (ص) دخل على فاطمة عليهاالسلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها
فدمعت عينا رسول الله (ص) لمّا أبصرها ، فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا
بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله عليّ : ولسوف يعطيك ربّك فترضى. وقال الصادق عليهالسلام أيضا : رضا جدّي أن لا يبقى في النار موحّد.
* * *
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧)
وَوَجَدَكَ
عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))
٦ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) بعد تطمين قلب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن الله تبارك وتعالى لم يهجره ولا قلاه ، أخذ يعدّد نعمه
سبحانه عليه في الدنيا فقال : ألم تكن يتيم الأب والأم فآويتك إلى كنف عبد المطّلب
وسخّرته لتربيتك وتعهّدك ، ثم عند ما مات آويتك إلى ظل أبي طالب فحماك وقدّمك على
أولاده ودافع عنك؟ فقد مات أبوه (ص) وهو في بطن أمّه ، ثم ماتت أمّه وهو ابن سنتين
، ومات جدّه عبد المطلب وهو ابن ثماني سنين ، فأخذه أبو طالب وبقي في حماه لما بعد
البعثة. وقد سئل الإمام الصادق عليهالسلام : لم أوتم النبيّ صلىاللهعليهوآله عن أبويه؟ فقال : لئلّا يكون لمخلوق عليه حق. فقد آواك
ربّك يا محمد بعد اليتم وحماك (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) أي غائب الفكر عمّا أنت فيه الآن من النبوّة والرسالة
فهداك. وهذا مثل قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، ومثل قوله أيضا
: وإن كنت من قبله لمن الغافلين فالضلال هنا عدم العلم بالشيء وانصراف الذهن عنه. وقيل
في معناه : وجدك متحيّرا في معاشك فهداك إلى ذلك ، ففي الحديث عن أبي مسلم : نصرت
بالرّعب ، وجعل رزقي في ظلّ رمحي ، أي في جهاد الكفّار. وقيل أيضا : وجدك مضلولا
عنك فهدى قومك إلى معرفتك وأرشدهم إلى أمرك (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا لا تملك مالا (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة وبالغنائم وبالقناعة والرضى بما أعطاك
فصرت غنيّ النفس. وفي العياشي عن الإمام الرضا عليهالسلام في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى) ، قال : فردا لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس إليك. (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) ، أي ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجد له
عائلا : تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك .. ثم أوصاه سبحانه قائلا :
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلا تَقْهَرْ) أي لا تذهب بحقه لضعفه ولا تقهره بماله كما يفعل العرب وسائر
الناس باليتامى ، فلا تحتقره واحفظ كرامته وحقّه. وقد قال صلىاللهعليهوآله : لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه
إلّا كتب الله له بكل شعرة. حسنة ، ومحا عنه بكل شعرة سيئة ، ورفع له بكل شعرة
درجة. وقال صلىاللهعليهوآله : أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتّقى الله عزوجل ، وأشار بالسّبابة والوسطى ... (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي لا تردّ السائل إذا أتاك وطلب منك صدقة ، حتى ولو كنت
فقيرا فخاطبه خطابا ليّنا وردّه ردّا جميلا. وقيل إن المراد بالسائل هو طالب العلم
، ومعناه : علّم من يسألك الشرائع ولا تزجره ولا تمنعه من معرفة شرائع ربّه وأمور
دينه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي اذكر نعم ربّك وأفضاله بشكرها. وقد قيل : التحدّث بنعمة
الله شكر ، وتركه كفر. وقيل إن نعمة الله هنا هي القرآن الذي هو من أعظم نعم الله
على رسول الله صلىاللهعليهوآله فأمره بقراءته ، وقيل بل هي النبوّة والرسالة فبلّغ ما
أرسلت به وأخبر الناس به. وقد قال الإمام الصادق عليهالسلام : معناه : فحدّث بما أعطاك الله وفضّلك ورزقك وأحسن إليك
وهداك.
* * *
سورة الانشراح
مكية وآياتها ٨
نزلت بعد الضحى.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ
ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧)
وَإِلى
رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))
١ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...) شرح الصدر هو التوسعة والتعبير عن سعة القلب والسرور
والانبساط. وفي هذه السورة يكمل سبحانه تعداد نعمه على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن الخطاب له خاصة وهو يعني ألم نفتح صدرك ونوسّع قلبك
بالعلم وبالنبوّة حتى قدرت على القيام بأداء الرسالة؟. فقد شرح سبحانه صدره بأن
ملأه علما وحكمة. وقد سئل (ص) : أينشرح الصدر؟ قال : نعم. قالوا : يا رسول الله
وهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال : نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار
الخلود ، والإعداد للموت قبل نزول الموت. أما معنى الاستفهام في الآية فهو التقرير
، يعني أننا قد فعلنا ذلك وشرحنا
صدرك (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي حططنا وأنزلنا عنك الثقل (الَّذِي أَنْقَضَ
ظَهْرَكَ) أي الذي أثقله حتى كان له نقيض أي صوت تعب. وقالوا أراد
بذلك تخفيف عبء النبوّة التي يثقل القيام بها فقد سهّل الله تعالى له أمرها. وكلّ
شيء أثقل الإنسان وغمّه وأتعبه يمكن أن يسمى وزرا ، ولذلك تسمى الذنوب أوزارا
لأنها تغم صاحبها وتثقل كاهله. ثم وعد سبحانه وتعالى نبيّه (ص) بالرّخاء بعد الشدّة
فقال : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً) أي إن مع الفقر سعة وغنى أو إن مع الشدة والضّيق فرجا ،
وذلك بأن يظهرك الله تعالى على المعاندين والكافرين وعلى أعدائك من المشركين
وينصرك عليهم فتقتل جبابرتهم وينقاد بعضهم للحق طوعا أو كرها (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كرّرها سبحانه للتأكيد على ذلك. وقد قال الزّجاج : إنه ذكر
العسر مع الألف واللام ثم ثنّى ذكره فصار المعنى : إن مع العسر يسرين ، وقال
الفرّاء : إن العرب تقول : إذا ذكرت نكرة ثم أعدتها نكرة مثلها ، صارتا اثنتين ،
كقولك إذا كسبت درهما فأنفق درهما ، فالثاني غير الأول ، فإن مع العسر يسرين فلا
يحزنك ما يقوله الكافرون والمشركون ، فإنك منتصر عليهم وأنا منجز لك ما وعدتك ،
وهذا الذي كان بالضبط ، فقد فتح الله تعالى عليه الحجاز واليمن وصار يعطي العطيّات
ويهب الهبات ويعطي فيغني (فَإِذا فَرَغْتَ
فَانْصَبْ) أي إذا انتهيت من أمر الصلاة المكتوبة فانصب وأتعب نفسك
بالدّعاء والتضرّع إلى الله تعالى (وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ) أي أقبل عليه وأطمع فيما عنده من الرحمة. وقد قال الإمام
الصادق عليهالسلام : هو الدعاء في دبر الصلاة وأنت جالس. وقيل في معناه أيضا
: إذا فرغت من أمور الدنيا ، فانصب في عبادة ربّك ، كما أنه قيل : فإذا فرغت من
جهاد أعداء الله فانصب بالعبادة لربّك ، وارفع حوائجك إلى الله وحده ولا ترفعها
لأحد من خلقه وارغب إليه بطلباتك.
* * *
سورة التين
مكيّة وآياتها ٨
نزلت بعد البروج.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)
فَما
يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))
١ ـ السورة
بكاملها ـ (وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ ، وَطُورِ سِينِينَ ...) إنه كغيره ممّا سبق ، قسم بالتين الذي نأكله أخضر ويابسا ،
وبالزيتون الذي نأكله ونعصر منه الزيت ، واختارهما سبحانه لأنهما فاكهتان
ضروريّتان للحياة ولأنهما غنيّتان بالمواد الغذائية مفيدتان أعظم فائدة في قوام
الجسم مخلصتان من شوائب التنغيص سائغتان في الطعم ، فضلا عن أن الزيت يدخل في كثير
من الأطعمة. وقد روى أبو ذرّ رضوان الله عليه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال في التين لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه
هي لأن فاكهة
الجنة بلا عجم.
فكلوها فانها تقطع البواسير وتنفع من النقرس. وقد قيل إن التين هو الجبل الذي عليه
دمشق ، وان الزيتون هو الجبل الذي عليه القدس ، وقال عكرمة : هما جبلان سميّا بذلك
لأن التين والزيتون ينبتان فيهما (وَطُورِ سِينِينَ) أي الجبل ـ الطور ـ الذي كلّم الله عليه موسى عليهالسلام ، وسينين وسيناء واحد. وقيل إن كل جبل فيه شجر مثمر فهو
سينين وسيناء ، بلغة النبط (وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ) أي مكة المكرّمة والبلد الحرام ، أقسم بها أيضا لأنها
مقدّسة يأمن بها الخائف ويستجر بحرمها (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم السابق ، وربما أراد سبحانه جنس الإنسان
الذي هو آدم عليهالسلام وذريته ، فقد جعلهم على أحسن تقويم واعتدال في الخلقة ،
فهم منتصبوا القامة في حين أن الحيوان مكب على وجهه ، كما أنهم في كمال في أجسامهم
وجوارحهم وأنفسهم ، وقد ميزّهم عن غيرهم بالعقل والنطق والتمييز والاختيار
والتدبير ، فجعل الإنسان منهم كذلك تامّ الخلقة من مبدأ حياته إلى شباب فهرمه (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي أرجعناه إلى أرذل العمر والخرف ونقصان العقل. أمّا
السافلون فهم : الضعفاء والزمنى ، والأطفال والشيخ أسفل هؤلاء جميعا كما عن قتادة
وابن عباس وغيرهما. وقد يراد بالإنسان الكفّار ، أي بعد أن خلقناهم في أحسن تقويم
، رددناهم إلى أسفل سافلين من جهنّم لأنهم كافرون ، ذلك أننا جعلناهم عقلاء
مكلّفين فاختاروا الكفر على الإيمان ، فرددناهم إلى النار على أقبح صور الكفّار ،
واستثنى سبحانه من الناس (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الذين صدّقوا بوحدانيّة الله وصدّقوا ما جاء به رسله
الكرام ، وقاموا بالطاعات والواجبات ، وأخلصوا في عملهم ، هؤلاء (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي أجر يستحقونه ولا منة عليهم به ، وقيل إنه أجر غير
مقطوع ، وقيل : غير محسوب ، وقيل : غير مكدّر بأذية أو بغمّ (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) أي أيّ شيء بعد هذه الحجج يجعلك
أيها الإنسان
تكذّب بالدّين ، يعني بالحساب والثواب والجزاء ، وأنت تمرّ في هذه الأدوار وتتطوّر
بتلك الأطوار حتى تصل إلى الموت الذي ينتظرك ، أفلا تعتبر بما بين ولادتك وشبابك
وهرمك لتستدل على أن الله الذي فعل ذلك بك قادر على بعثك وحسابك وجزائك (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) هذا سؤال يحمل معنى التقرير ، يعني : إن الله تعالى أحكم
الحاكمين في صنعه وفعله وتدبيره وحكمته التي لا خلل فيها ، فإنه أقضى من يقضي بأمر
الخلق ، وسيحكم كذلك فيما بينك وبين الذين كذّبوك يا محمد فطب نفسا لأن ربّك أحكم
الحاكمين. وقال قتادة : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا ختم هذه لسورة قال : بلى ، وانا على ذلك من الشاهدين. ونحن
من الشاهدين على أن الله أحكم الحاكمين ، وعلى أن رسوله الأمين أصدق القائلين بعد
ربّ العالمين.
* * *
سورة العلق
مكيّة وآياتها ١٩
وهي أول ما نزل من القرآن.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)
خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)
اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))
١ ـ ٥ ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
...) الخطاب لمحمد صلىاللهعليهوآله ، يأمره فيه ربّه بأن يقرأ باسمه وأن يدعوه به لأن في
تعظيم الاسم تعظيم المسمّى ، ولذا قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). ولذا قال أيضا : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ). فالباء هنا زائدة ، والتقدير : اقرأ باسم ربّك. وعند جميع
المفسّرين أن هذه السورة الشريفة هي أول ما نزل من القرآن الكريم ، وكان ذلك في
أول يوم نزل فيه جبرائيل عليهالسلام على نبيّنا رسول الله محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو قائم على غار حراء ، علّمه هذه
الآيات الخمس من
أول هذه السورة. وقد كنّا ذكرنا ذلك في سورة المدثّر ونزيدها هنا ـ كما عن أبي
ميسرة أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال لخديجة عليهاالسلام : إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت : ما يفعل الله بك
إلّا خيرا. فو الله إنك لتؤدّي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث. ثم قالت
خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل ـ ابن عمّها ـ فأخبره رسول الله صلىاللهعليهوآله بما رأى ، فقال له ورقة : إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما
يقول ، ثم ائتني فأخبرني. فلمّا خلا ناداه : يا محمد ، قل : بسم الله الرّحمن
الرّحيم ، الحمد لله رب العالمين ، حتى بلغ : ولا الضالّين ، قل : لا إله إلّا
الله. فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشّر
به ابن مريم ، وانك على مثل ناموس موسى ، وأنك نبيّ مرسل ، وأنك سوف تؤمر بالجهاد
بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك. فلمّا توفي ورقة قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لقد رأيت القسّ في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي
وصدقني .. ثم بعد أن أمره بقراءة اسم ربّه ، وصف سبحانه ذلك الربّ ـ أي نفسه القدسية
عزّ وعلا ـ فقال (الَّذِي خَلَقَ) يعني ابتدع وأوجد جميع المخلوقات على مقتضى حكمته ،
فأخرجها من العدم إلى الوجود بقدرته الكاملة ، وقد خصّ الإنسان بالذكر تشريفا
للإنسان لأنه أكمل المخلوقات فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ عَلَقٍ) الإنسان هو الجنس من بني آدم ، يعني خلقهم من قطعة دم
جامدة بعد النّطفة ، وهذا يعني أنه خلقه من شيء مهين حقير ثم بلغ به الغاية من
الكمال بقدرته وحكمته وتدبيره فجعله بشرا سويّا عاقلا مفكّرا مختارا ، قد نقله من
مرتبة الجهالة الى مرتبة العلم والمعرفة ، بل قد أوصل بعضه الى مرتبة النبوّة
والرسالة ... ثم أعاد أمره سبحانه لنبيّه فقال : (اقْرَأْ) يا محمد ما نوحيه إليك (وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ) أي الأعظم كرما من كلّ كريم لأنه يهب ما لا يقدر عليه غيره
، وهو (الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ) أي علّم الكاتب أن يكتب بالقلم
ليرسم ما يدور في
فكره على القرطاس ممّا ينتفع به هو أو غيره. قال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة
، لولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ، وقيل إنه أراد هنا آدم عليهالسلام لأنه أول من كتب بالقلم كما عن كعب ، ولكن الضحاك قال :
أول من كتب بالقلم إدريس. وقيل أراد كلّ نبيّ كتب بالقلم ، فالله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فقهّه وفهمّه أنواع الهدايات ، وأبان له أمور الدين
والأحكام والشرائع ، فصار كل ما يتعلّمه الإنسان آتيا من جهته تعالى لأنه هو
الهادي والدليل وهو العالم بذاته المعلّم لغيره.
* * *
(كَلاَّ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ
كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥)
ناصِيَةٍ
كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ
(١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)
كَلاَّ
لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))
٦ ـ آخر السورة ـ (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ،
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ...)
كلّا : معناها هنا
: حقّا إن الإنسان ليطغى : ليتجاوز حدّه في ظلم نفسه حين يستكبر على خالقه ولا
يعترف بوجوده لمجرّد (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي لأنه رأى نفسه غنيّا بقومه أو بماله أو بقوّته ، فقد
تعدّى طوره وظنّ أنه بغنى عن ربّه لمّا رأى أولاده كثيرين وأمواله وافرة وأموره
ميسّرة فحسب أنه إنما يحصل له ذلك بحسن تدبيره. وقيل إن هذه الآية وما يليها إلى
آخر السورة المباركة قد نزلت في أبي جهل لعنه الله ، وقد تهدّده سبحانه قائلا :
(إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) أي إليه مرجع جميع المخلوقات بما في ذلك هذا الطاغية الذي
غرّته أمواله وأولاده وحياته الدنيا ، والله قادر على إهلاكه كغيره من الناس
وسيجازيه إذا رجع إليه ، وقد خاطب سبحانه النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك ليطيّب نفسه لكثرة ما رأى من أذى هذا العدوّ الضالّ ،
وقال : (أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) معناه : ألا ترى هذا الكافر الذي ينهاك عن صلاتك ويعاديك
من أجل دعوتك الناس إلى توحيد ربّك وعبادته؟ انتظر ما سنفعله به لأنه ينهاك عن
الصّلاة ويقف في وجهك ليعطّل مسيرة أداء رسالتك.
ففي الأخبار أن
أبا جهل قاتله الله قال للناس : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال
: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له : ها هو ذاك
يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه؟ ..
فقالوا : مالك يا أبا الحكم؟ ... قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة
... وقال نبيّ الله : والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ...
وهكذا رجع خاسئا مخزيّا ، وأنزل الله تبارك وتعالى : أرأيت يا محمد ما ذا يصيب من
يريد أن ينهاك عن صلاتك وما ذا يكون جزاؤه ، وما الذي يستحقه من العذاب؟ وهذا كله
محذوف يدلّ عليه القول ولسان الحال. وقد كرر استفهامه التقريريّ بقوله عزّ من قائل
: (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ
عَلَى الْهُدى) أي إذا كان العبد المصلّي على هدى ونهي عن صلاته (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أمر الآخرين بتقوى الله ومخافته ولزوم طاعته. وهنا يوجد
حذف آخر هو : ألا ترى إلى العبد المهتدي المنهيّ عن الصلاة الذي يأمر الناس
بالتقوى كيف تكون حال من يمنعه عن ذلك؟. (أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ) هذا الضالّ الكافر أبو جهل (وَتَوَلَّى) الصرف عن تصديقك وعن الإيمان وأعرض عن دعوتك ولم يسمع لكلامك
(أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) فهل غفل عن أن الله تعالى يراه ويرى ما يصنعه معك ولا تخفى
عليه خافية منه
ولا من غيره؟ (كَلَّا) يعني : لا يعلم ذلك ولا يصدّقه لأنه كافر بوجود ربّه. ثم
هدّده سبحانه قائلا : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) إذا لم يمتنع أبو جهل قبّحه الله عن تكذيبك والوقوف بوجه
رسالتك وإيذائك المستمرّ (لَنَسْفَعاً
بِالنَّاصِيَةِ) أي لنسحبنّه بناصيته ولنجرّنه بها إلى النار. والناصية هي
الرأس أو مقدّمتها ، وهذا يعني لنأخذنّ برأسه ولنرمينّه في جهنم. وهذا كقوله تعالى
: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي
وَالْأَقْدامِ) ، وصفا لأخذ الكفّار يوم القيامة لإذلالهم وإهانتهم فإن
الأخذ بالناصية فيه منتهى الذل والإهانة والاستخفاف ، فلتأخذنّ هذا العدوّ بناصيته
خصوصا وهو ذو (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ
خاطِئَةٍ) وصفها سبحانه بالكذب والخطأ لأن صاحبها كاذب في ما يقوله في
محمد ، وخاطئ في فعله معه (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي ليصرخ بأهل ناديه ، أي بعشيرته وأهل مجلسه لينصروه منّا
ويخلّصوه من غضبنا ، فقد قيل إن النبيّ صلىاللهعليهوآله انتهره لمّا تقدّم منه ، فقال أبو جهل : أتنتهرني يا محمد؟
فو الله لقد علمت ما بها ـ أي بمكة ـ أحد أكثر ناديا ـ أي مجلسا ـ منّي ، فأنزل
الله سبحانه : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، فليأت بجلسائه ليخلّصوه ممّا يقع فيه. أمّا نحن ف (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني سننتدب لعذابه ملائكة العذاب الموكّلين بالنار فهم
غلاظ شداد لا يعصون ما نأمرهم به (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يشاء أبو جهل ولا بحسب ما يريد ، فانتظر
به قليلا لتراه مقتولا مجندلا في بدر قبل أن ندعو الزبانية لأخذه معاينة وعلى مرأى
من الناس ف (لا تُطِعْهُ) إذا نهاك عن الصلاة (وَاسْجُدْ) لربّك (وَاقْتَرِبْ) إليه بالثواب الذي أعدّه لك بطاعتك ، أو اسجد له متقرّبا
إليه بالطاعة ، فعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا. والسجود
هنا فرض لأن عبد الله بن سنان روى أن أبا عبد الله عليهالسلام قال : العزائم : ألم تنزيل ، وحم السجدة ، والنّجم إذا هوى
، واقرأ باسم ربّك. وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.
* * *
سورة القدر
مكيّة وآياتها ٥
نزلت بعد عبس.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما
لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
(٤)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))
١ ـ السورة
بكاملها ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) القدر هو كون الشيء مساويا لغيره دون زيادة أو نقصان. وقدر
الله الأمر : جعله على مقدار ما تدعو إليه الحكمة. والهاء في (أَنْزَلْناهُ) تعني القرآن الكريم وإن لم يرد له ذكر لأنه لا يشتبه الحال
فيه هنا. والمعنى أننا أنزلنا القرآن في ليلة القدر ، فعن ابن عباس قال : أنزل
الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم
كان ينزله جبرائيل عليهالسلام على محمد صلىاللهعليهوآله نجوما ، وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة. فقد ابتدأ
سبحانه بإنزاله في ليلة القدر التي اختلفت
أقوال العلماء
فيها ، والتي سمّيت ليلة القدر لأنها يحكم الله فيها ويقضي ويقدّر ما يكون في
السنة بكاملها من كل امر ، وهي الليلة المباركة التي قال فيها : إنّا أنزلناه في
ليلة مباركة ، لأنه سبحانه ينزل فيها الخير والمغفرة ، فهي من أشرف الليالي
وأعظمها ويستحبّ إحياؤها في الصلاة والدعاء والطاعة لأن ثواب إحيائها جزيل إذ أنزل
فيها كتاب ذو قدر عظيم على رسول ذي قدر عظيم على يدي ملك ذي قدر عظيم ولأمّة ذات
قدر عظيم إن هي عملت بما في هذا القرآن. أما متى تكون ليلة القدر فقد روي مرفوعا
أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : التمسوها في العشر الأواخر ، يعني من شهر رمضان
المبارك ، وعن عليّ عليهالسلام أن النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من شهر رمضان ، قال : وكان
إذا دخل العشر الأواخر دأب وأدأب أهله. أي داوم العمل بالطاعات. وعن أبي جعفر عليهالسلام ـ كما في المجمع وغيره أنها في ليلتين : ليلة ثلاث وعشرين
، وليلة إحدى وعشرين. فقيل له : أفرد إحداهما ، فقال : وما عليك أن تعمل في ليلتين
هي إحداهما؟ وتكررت الروايات عن المعصومين سلام الله عليهم بهذا المعنى. فقد
أنزلنا القرآن عليك يا محمد في ليلة القدر (وَما أَدْراكَ ما
لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي وما علمك يا محمد بخطر هذه الليلة وحرمتها؟ وهذا تحريض
على العبادة والدعاء والطاعات فيها إذ بيّن سبحانه أهمّيتها بقوله الكريم : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) أي أن قيامها والعبادة فيها خير من القيام والعبادة في ألف
شهر ، والأوقات إنما تتفاضل بمقدار ما يكون فيها من أعمال الخير والبركة (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي تتنزل فيها من السماء (وَالرُّوحُ) أي جبرائيل عليهالسلام (فِيها) في ليلة القدر ، ينزلون إلى الأرض ليسمعوا قراءة القرآن ،
والثناء على الله سبحانه وتعالى ، وليروا الطاعات والعبادات. وقيل ليسلّموا على
المسلمين (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره ينزلون. وهذا كقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ)(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي بكل أمر يأتيهم من عندنا فيه خير لهم وبركة ورزق
من هذا العام إلى
العام المقبل. فهذه الليلة هي خير وبركة و (سَلامٌ هِيَ) أي سلامة من الشرور والبلايا ومن همزات الشياطين (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) تبقى كذلك ليلة مباركة يفوز من يحييها بالطاعة والعبادة
لأنها تمتد إلى وقت طلوع الفجر في صبيحتها.
* * *
سورة البيّنة
مكيّة وآياتها ٨
نزلت بعد الطلاق.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)
رَسُولٌ
مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
وَما
أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))
١ ـ ٥ ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...) الذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى لأنهم أصحاب
كتاب سماويّ كفروا برسالة محمد صلىاللهعليهوآله. والمشركون هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممّن ليس له
كتاب. والمعنى أن الكافرين من أهل الكتاب ، والكافرين من المشركين ، ليسوا (مُنْفَكِّينَ) منتهين عن كفرهم ولا تاركين له (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) حتى يجيئهم البيان الواضح الذي هو محمّد صلىاللهعليهوآله. وهذا إخبار منه تعالى عن الكفار بأنهم لا ينتهون
عمّا هم فيه من
الكفر والشّرك بالله حتى جاءهم محمد (ص) فبيّن لهم ضلالهم عن الحق ودعاهم إلى
الإيمان فقامت عليهم الحجة وأصبحوا غير معذورين في عدم الإذعان ، فالبيّنة التي
جاءتهم هي (رَسُولٌ مِنَ اللهِ
يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) فرسول من الله بدل من (الْبَيِّنَةُ) التي قبله ، والعبارة بيان لها وتفسير أي ان البيّنة كانت
الرسول من الله الذي (يَتْلُوا) يقرأ عليهم (صحفه المطهرة) المنزلة من السماء التي لا
يمسّها إلّا الملائكة المطهّرون. وهذه الصّحف (فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ) ذات قيمة ، مستقيمة عادلة ليس فيها عوج ، لأنها تظهر الحق
من الباطل ، وهي تعني القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالقرآن ـ بما فيه ـ يحتوي على معاني الكتب السماوية المتقدّمة له ، ومن تلاه كأنه
تلا جميع الكتب السماوية ، وقيل : بل لأن في القرآن تبيان كلّ شيء لأنه يحتوي
كثيرا من العلوم إلى جانب ما فيه من التاريخ والوعظ والإرشاد ، وإلى جانب كونه
دستورا حافلا بأحكام المعاش والمعاد (وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي ولم يختلف هؤلاء اليهود والنصارى في محمد صلىاللهعليهوآله إلّا بعد مجيء البشارة به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فصارت
الحجة قائمة عليهم. وقيل معناها : أنّ أهل الكتاب ظلّوا مجتمعين على تصديق البشارة
بمحمد (ص) حتى بعثه الله تعالى ، وعندئذ تفرّقوا واختلفوا في أمره فآمن بعض وكفر
آخرون (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي لم يأمرهم ربّهم ولا أمرهم رسلهم إلّا بتوحيد الله
وعبادته ، فإن ذلك ممّا لا تختلف فيه الأديان ، وأن يكونوا (حُنَفاءَ) مائلين عن جميع العقائد إلى عقيدة الإسلام ، مؤمنين
بالرّسل وبما جاؤوا به وبما بشّروهم به ، فأمروا بذلك (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكاةَ) فيداومون على إقامة الصلاة ويدفعون زكاة أموالهم
لمستحقّيها (وَذلِكَ) الدين الذي تقدّم ذكره وفرض هذه الأشياء هو (دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي دين الكتب القيّمة الرفيعة
القدر التي مرّ
ذكرها.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧)
جَزاؤُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))
٦ ـ آخر السورة ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ...)
بدأ سبحانه بذكر
الفريقين من المكذّبين للرسول (ص) والمصدّقين له في دعوته ، فقال : إن من جحد
توحيد الله وأنكر نبوّة محمد (ص) ومن أشرك مع الله إلها آخر في العبادة ، أولئك
جميعا (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فهي مقرّهم في الآخرة ويكونون (خالِدِينَ فِيها) لا ينتهي عقابهم لا يخفّف عنهم (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) فهم أسوأ الخليقة وشرّها. ثم بيّن سبحانه حال المؤمنين
المصدّقين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) صدّقوا رسولنا وعملوا بأمره الذي هو أمرنا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقاموا بالطاعات وسائر الأعمال الحسنة (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي أحسن الخليقة وخيرها ، و (جَزاؤُهُمْ) ثوابهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسير مثله (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) فارتضى عملهم وما قاموا به من طاعات (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من ثواب. وقيل : رضي عنهم لتوحيده وتنزيهه عمّا
لا يليق به وأطاعوا أوامره ، ورضوا عنه إذ أعطاهم ما كانوا يطمعون به من الرحمة
والثواب ، و (ذلِكَ) الرضا والثواب يكون (لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ) أي لمن خاف منه فعمل بأوامره وامتنع عن نواهيه. وفي المجمع
نقلا عن شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني مرفوعا إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري ـ كاتب
عليّ عليه
السلام ـ قال :
سمعت عليّا عليهالسلام يقول : قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وأنا مسنده إلى صدري ، فقال : يا عليّ ألم تسمع قول الله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)؟ هم شيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب
، يدعون غرّا محجّلين. وعن ابن عباس في قوله : (هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ) ، قال : نزلت في عليّ وأهل بيته عليهمالسلام.
* * *
سورة الزلزلة
مدنيّة وآياتها ٨
نزلت بعد النساء.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ
ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))
١ ـ آخر السورة ـ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها
...) الزّلزلة هي شدة الاضطراب ، وهو ارتجاف الأرض واهتزازها ،
وقد خوّف الله سبحانه عباده بذلك أي : ما حالكم مع أهوال يوم القيامة إذا تزلزلت
الأرض (وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي لفظت الموتى من بطنها أحياء للحساب والعقاب والثواب.
وقد سمّى سبحانه الموتى أثقالا تشبيها للأرض بالنساء الحوامل اللواتي يضعن أثقالهنّ
: أي أحمالهنّ من المواليد ، فكأن الأرض كانت حبلى بالموتى ، وهي يوم القيامة
تخرجهم وتلقي تلك الأثقال التي هي
الناس (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي أن المرء يقول متعجّبا من ذلك : ما للأرض تتزلزل ويحدث
فيها ما لم يحدث قبل هذا؟ وقيل لا يقول ذلك إلّا الكافر فإن المؤمن موعود بذلك وهو
معترف به ومنتظر له لأنه مصدّق بالبعث (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها) أي تخبر بما جرى على ظهرها. وفي الحديث أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال :
أخبارها أن تشهد على كلّ عبد بما عمل على ظهرها تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا
، وهذا إخبارها. وبناء عليه يمكن أن يحدث الله تعالى فيها قوّة النّطق فتشهد بذلك
، وذلك (بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها) يعني أنها تحدّث بالأخبار قائلة إن ربّك يا محمد أوحى لها
: ألهمها التحدث بالأخبار. وروى الواحدي مرفوعا إلى ربيعة الحرشي أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : حافظوا على الوضوء ، وخير أعمالكم الصلاة. وتحفّظوا
من الأرض فإنها أمّكم ، وليس فيها أحد يعمل خيرا أو شرّا إلّا وهي مخبرة به (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة وزلزال الأرض (يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً) يرجعون من موقف الحساب بعد العرض على ربّهم متفرّقين ،
فأهل الإيمان وحدهم ، وأهل الكفر وحدهم ، وكل أمة وحدها. وهذا كقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) ، وكقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)(لِيُرَوْا
أَعْمالَهُمْ) يعني ليروا ثواب أعمالهم أو عقابها ، أي أنهم يعودون إلى
قصورهم في الجنّة فيرون جزاء ما قدّمت أيديهم من طاعات ، أو إلى مقاعدهم من جهنم
فيرون جزاء ما كسبت أيديهم من معاصي. والإراءة هنا بالعين سواء برؤية الثواب أو
العقاب ، أو برؤية صحائف الأعمال التي يقرءونها ويرون ما فيها من عملهم المسجّل
عليهم (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي أن من يعمل خيرا يجد خير جزاء (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ) يعني يجد عقاب ما عمله من السّيئات والقبائح. والتائب
المنيب المقلع عن الذنب معفوّ عنه بفضل الله وحسن تجاوزه عن المذنبين.
* * *
سورة العاديات
مكيّة وآياتها ١١
نزلت بعد العصر.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢)
فَالْمُغِيراتِ
صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)
وَإِنَّهُ
عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا
بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))
١ ـ آخر السورة ـ (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً ...) العاديات هي الخيل التي تعدو ـ تركض ـ في الغزو للجهاد في
سبيل الله ، أقسم بها سبحانه وهي تضبح ضبحا أي تصوّت من أجوافها وهي تعدو من غير
أن تصهل أو تحمحم ، بل هو صوت نفسها ، وعن عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام : هي الإبل تمد أعناقها في السير فهي تضبح أي تضبع. وقد
قال سلام الله عليه لابن عباس. تفتي الناس بما لا علم لك به؟ والله إن
كانت لأول غزوة في
الإسلام بدر ، وما كانت معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف
تكون العاديات الخيل؟ بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى مزدلفة ، ومن مزدلفة إلى
منى. فرغب عن قوله ورجع إلى ما قاله عليّ عليهالسلام (فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً) هي الخيل التي توري النار بحوافرها إذا سارت في الأرض
المحصبة. وقيل شاذّا : هي النيران بجمع ـ منى ـ (فَالْمُغِيراتِ
صُبْحاً) أي الخيل التي تغير على العدو بفرسانها وقت الصّبح. وقد
ذكر هذا الوقت لأن من عادة الإغارة أن يأتي المغيرون ليلا ثم يفاجئون الأعداء صبحا
(فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) أي حرّكن الغبار الذي هو النّقع ، وهيّجنه فثار وطار في
النواحي وانعقد وراءها كالغيوم (فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعاً) أي توسّطن جمع العدوّ بعدوهنّ وقد قيل : نزلت هذه السورة
الشريفة لمّا بعث النبيّ صلىاللهعليهوآله عليّا ، إلى ذات السلاسل فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم
مرارا غيره من الصحابة فرجعوا كلّهم دون فتح ـ وقد سمّيت ذات السلاسل لأنه أسر
منهم وقتل وسبى وشدّ أسراهم بالحبال مكتّفين كأنهم في السلاسل. (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم ، أي : وحقّ ما ذكرنا إن الإنسان لكافر
بربّه ، فالكنود هو الكفر ، وكنود كفور جاحد (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ) أي أن الله سبحانه يشهد ويرى كفر ذلك الإنسان. وقيل إن
الهاء تعود إلى الإنسان ، وأنه يكون يوم القيامة شاهدا على نفسه بما جنت يداه
وبكنوده في دار الدنيا (وَإِنَّهُ) أي الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ
لَشَدِيدٌ) يعني أنه شديد الحب للمال ، فعن ابن زيد أن الله تعالى
سمّى المال «خيرا» وعسى أن يكون خبيثا وحراما ، ولكن الناس يعدّونه خيرا. ثم قال
تبارك وتعالى مذكّرا ومتوعّدا : (أَفَلا يَعْلَمُ) أفلا يعرف هذا
الإنسان الذي تكلّمنا عنه (إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ) أي إذا بعث الموتى وأخرجوا من القبور ونشروا للحساب.
والبعثرة هي تفريق الشيء في كلّ اتّجاه وبغير نظام (وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ) أي أظهر ما أخفته
الصدور ليجازى من
يكتم كفرا بكفره كما يجازى الكافر المعلن لكفره (إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أنه تعالى خبير بحالهم في ذلك اليوم وإن كان خبيرا بهم
في كل حال وهذا مثل قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ، مع أنه يعلم ما في جميع القلوب. فهو تعالى يجازي يوم
القيامة بعلمه ويثيب بعلمه لأنه عالم بجميع أحوال خليقته. فعلى الإنسان أن يتّعظ
بهذه الآية الكريمة فإنه إذا علم أن ربّه يعلم السرّ وأخفى ، ويعلم وساوس الصدور ،
لا بد أن يمنع نفسه عن المعاصي ويخاف سوء المصير.
* * *
سورة القارعة
مكيّة وآياتها ١١
نزلت بعد قريش.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا
الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما
هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))
١ ـ آخر السورة ـ (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ، وَما
أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ...)
القارعة هي
البليّة التي تقرع القلب بالمخافة الشديدة ، وقوارع الدهر دواهيه. وهي هنا اسم من
أسماء يوم القيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف وتقرع أعداء الله بالعذاب. وقوله : (مَا الْقارِعَةُ) تعظيم لشأن القارعة وتهويل له. وما أدراك : أي أنك يا محمد
لا تعلم حقيقة القارعة ، ولا تعرف وصفها بدقّة ، وهذا كلّه تخويف منها. وقد بيّن
سبحانه شيئا من صفاتها بقوله : (يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي ذلك يكون
حين ترى الناس
كأنهم الفراش المتفرّق ها هنا وها هنا ، فبعضهم يموج في بعض وهم حائرون كالفراش
الذي إذا ثار تفرّق ولم يعرف إلى أية جهة يسير. وهذا يدل على فزع الناس وخوفهم في
ذلك اليوم لأن مقاصدهم تختلف وتوجهاتهم متفرّقة وهم لا يعرفون ما يصنعون (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ) أي تصير الجبال كأنها الصوف المندوف لأنها تتزلزل وتزول عن
أماكنها وتصير كأنها ليست بذات ثقل ينسفها ربّي نسفا (فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في ذلك اليوم ، أي رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي أنه يصير إلى معيشة يرضاها لأنها ذات رضى (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن قلّت حسناته وكثرت سيئاته فرجحت بالحسنات (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي فمأواه النار يسكن فيها ، وقد سمّاها «أمه» لأنه يأوي
إليها كما يأوي الإنسان إلى حضن أمّه. أما قتادة فقال : هي كلمة عربية كان الرجل
إذا وقع في أمر شديد قيل : هوت أمّه. فقوله سبحانه : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) ، لأن العاصي يهوي إلى أمّ رأسه في النار (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) هذا تهويل لأمر جهنّم يراد به أنك لا تعلم تفصيل حال جهنّم
وما فيها من ألوان العذاب (نارٌ حامِيَةٌ) أي نار حارّة شديدة الحرارة يقع فيها من خفّت موازينه
والعياذ بالله من ذلك.
* * *
سورة التكاثر
مكيّة وآياتها ٨
نزلت بعد الكوثر.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ
(١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢)
كَلاَّ
سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))
١ ـ آخر السورة ..
(أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ...) أي شغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد عن العمل للآخرة ،
وتفاخرتم بكثرة الأموال والأولاد (حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) يعني إلى أن متّم قبل أن تتوبوا وأنتم مثابرون على ذلك.
وقيل بل حتى زرتم المقابر وعددتم الأموات تتكاثرون بهم قبيلة مع قبيلة وعشيرة مع
عشيرة. فقد قيل إنها نزلت في اليهود الذين كانوا دائما يقولون : نحن أكثر من بني
فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان فألهاهم ذلك عن الدّين فماتوا كفارا ضالّين. بل
قيل إنها نزلت في حيّين من قريش هما : بنو عبد مناف بن قصي ، وبنو سهم بن عمرو ،
قد تكاثروا فيما بينهم وعدّوا أشرافهم ، فكثرهم بنو عبد مناف. ثم قالوا :
نعدّ موتانا ، حتى
زاروا القبور فعدّوها وقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان ، فكثرهم بنو سهم لأنهم
كانوا أكثر عددا في الجاهلية.
ومهما كان سبب
نزول السورة الكريمة فقد ألهى الناس التكاثر بالمال والولد حتى الموت ، وقد روي أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : يقول ابن آدم : مالي لي. ومالك من مالك إلّا ما أكلت
فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت. وقد ردّ الله تعالى على حال الإنسان
هذه بقوله عزوجل : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما أنتم عليه من التكاثر بالمال والولد وأنا
أتوعّدكم وأقول لكم : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ ،
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قالها مكرّرة لتكون وعيدا بعد وعيد ، أي أنكم سترون عاقبة
تفاخركم هذا بالتأكيد ، إذا نزل الموت بساحتكم ، ولكن زر بن حبيش روى أن عليّا
أمير المؤمنين عليهالسلام قال : معناه : سوف تعلمون في القبر ، ثم سوف تعلمون في
الحشر. وفي قول بعض المفسّرين : كلّا سوف تعلمون إذا رأيتم دار الأبرار ، ثم كلّا
سوف تعلمون إذا رأيتم دار الفجّار (كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لا ، وليتكم تعلمون هذا الأمر علما يقينيّا ، وإذن
لشغلكم علمكم به عن التباهي بالمال والرجال ، ثم زاد سبحانه في التوعّد فقال عزّ
من قائل : (لَتَرَوُنَ) هذا كأنّه قسم ، وهو يعني أن (الْجَحِيمَ) تبدو يوم القيامة للكفرة قبل دخولها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) بعد الدخول إليها (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي بالمشاهدة المؤكّدة التي لا تترك مجالا للشك بها إذ
تدخلون إليها وتعذّبون بها (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يعني ستسألون ـ يا كفّار مكة ـ عن شكر ما كنتم فيه من
النعيم الذي هو من الله ثم عبدتم غيره وأشركتم به ، وعن قتادة : إن الله سائل كلّ
ذي نعمة عمّا أنعم عليه ، وقيل عن نعيم المأكل والمشرب. وفي العياشي ـ في حديث
طويل ـ قال : سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليهالسلام عن هذه الآية. فقال له : ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال :
القوت من الطعام والماء البارد. فقال : لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى
يسألك عن كلّ أكلة
أكلتها وشربة شربتها ليطولنّ وقوفك بين يديه؟ ... قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال
: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد أن
كانوا مختلفين ، وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء ،
وبنا هداهم الله للإسلام وهي النّعمة التي لا تنقطع. والله سائلهم عن حق النعيم
الذي أنعم الله به عليهم ، وهو النبيّ صلىاللهعليهوآله وعترته. فالحمد لله ربّ العالمين على ولايتهم جميعا.
* * *
سورة العصر
مكيّة وآياتها ٣
نزلت بعد الانشراح.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))
١ ـ آخر السورة ـ (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي
خُسْرٍ ...) العصر هنا العشي اي ما بعد الظّهر من النهار. وقد أقسم
سبحانه به لأنه يدل على إدبار النهار وإقبال الليل ، وذلك دليل على وحدانيّة
موجدهما ومقدّرهما والمتسلط على مخلوقاته المدبّر لها بحكمته : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) فهذا جواب القسم الذي تقدّم. ومعناه أن كلّ إنسان في خسر ،
أي في نقصان من عمره يوما بعد يوم ، وإذا نقص عمره وقضاه في غير طاعة الله تعالى ،
فهو على نقصان وخسر دائم (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنه سبحانه استثناهم من جملة الناس لأنهم مصدّقون به
وبرسله وكتبه وملائكته ، عاملون بطاعاته ومنتهون عن معاصيه ، فليسوا في خسر كغيرهم
لأنهم فعلوا ذلك (وَتَواصَوْا
بِالْحَقِ) يعني وصّي بعضهم بعضا باتّباع الحق
وترك الباطل ، وقد
قيل إن الحق هو القرآن ، وقيل هو الإيمان ، وقيل غير ذلك (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي بتحمّل الصّعاب والمشاقّ في الطاعات ، وبالصّبر على ترك
المعاصي والمحرّمات ، فهؤلاء في ربح عظيم لأنهم يرجون الثواب الجزيل من الربّ
الجليل الذي أنفقوا أعمارهم في طاعته وعبادته.
* * *
سورة الهمزة
مكيّة ، وآياتها ٩
نزلت بعد القيامة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً
وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ
فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا
الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ (٩))
١ ـ آخر السورة ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ...) الهمزة هو كثير الطّعن على غيره بدون حق ، والعائب لما ليس
بعيب. واللّمزة : العائب للآخرين أيضا ، فالويل للطاعن في الناس بغير حقّ ، العائب
لهم ، المفرّق بينهم بالنّميمة ، المغتاب لهم (الَّذِي جَمَعَ مالاً
وَعَدَّدَهُ) أي كدّس المال عنده وأحصاه مرارا ، ويقال : معناه أعدّه
لآفات الزمان وادّخره من غير الحلال ومنع الحق الذي فيه عن المستحقّين من الفقراء
والمساكين. وقيل إن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة الذين كان كثير الغيبة
لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، والذي كان يتكلم عليه في حضوره ويقف في وجه دعوته ، كما
قيل إنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يغتاب الناس
كثيرا. فقد هدّد
سبحانه ذلك الهمزة اللّمزة الذي (يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ) يظنّ أن ما جمعه من مال يجعله من الخالدين في الدنيا ويحول
بينه وبين الموت ، في حين أنه (كَلَّا) أي لا يكون ذلك ولا يخلّده ماله ولا يدوم له ، وما حسبه
ليس بحق فإنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي
الْحُطَمَةِ) يعني ليطرحنّ في جهنّم ، ويقذفنّ في تلك النار التي تحطم
العظام وتأكل اللحوم. ثم قال سبحانه معظّما شأن تلك النار : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟) أي وما علمك يا محمد ، ويا أيها الإنسان ما شأن تلك الحطمة؟
ثم بيّن سبحانه شأنها بقوله : (نارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ) أي المشعلة المؤجّجة بالوقود الهائجة اللهب ، وقد أضافها
تعالى إلى نفسه ليبيّن أنها ليست كسائر النيران التي يعرفها الإنسان بل لها شؤون
عظيمة أخرى ، فهي متّقدة دائما وأبدا ، وهي (الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي تعرف ما في القلوب ، وتشرف عليها فيبلغها ألمها الشديد
، وقيل إن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر فتلتهب منها الأحشاء والأفئدة قبل
الجلود (إِنَّها عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مقفلة أبوابها على الكافرين لييأسوا من الخروج
منها ، وهي مقفلة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) يعني أطبقت عليهم وشدّت أبوابها بأوتاد وبأعمدة من نار
ممتدّة على مداخلها لإحكام إقفالها بحيث لا يدخل إليها روح ولا راحة من حرّها
وألمها. وفي العياشي ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : إن الكفّار والمشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار
، ويقولون : ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا ، وما نحن وأنتم إلّا سواء. قال :
فيأنف لهم الربّ تعالى فيقول للملائكة : اشفعوا ، فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول
للنبيّين : اشفعوا ، فيشفعون لمن شاء الله. ثم يقول للمؤمنين : اشفعوا ، فيشفعون
لمن شاء الله. ويقول الله : أنا أرحم الراحمين ، اخرجوا برحمتي كما يخرج الفراش.
ثم قال أبو جعفر عليهالسلام : ثم مدّت العمد وأوصدت عليهم ، وكان والله الخلود ..
فنعوذ بالله من ذلك.
* * *
سورة الفيل
مكيّة ، وآياتها ٥
نزلت بعد الكافرين.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢)
وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))
١ ـ آخر السورة ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحابِ الْفِيلِ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله محمد صلىاللهعليهوآله يلفت نظره فيه إلى الآية السماويّة العجيبة التي أمر
بحلولها بأصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن بقيادة ملكها أبرهة بن الصباح الأشرم
المكنّى بأبي يكسوم الذي بنى (كعبة) باليمن وجعل فيها قبابا من ذهب وأمر أهل
مملكته بالحج إليها وأراد بذلك مضاهاة بيت الله الحرام ، وأراد أن يدعو سائر العرب
للحج إليها وأن يهجروا الكعبة المشرفة. وقيل إن رجلا من بني كنانة ذهب إلى اليمن
ورآها ، فدخل إليها وتغوّط فيها وخرج. ثم دخلها أبرهة فوجد العذرة فيها ، فسأل
عمّن اجترأ وفعل ذلك ، ثم حلف أن يهدم بيت الله
في مكة حتى لا يحج
اليه حاجّ أبدا. ثم دعا قومه وركب فيلا وسار بهم حتى إذا كان ببعض الطريق بعث رجلا
يدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه. فتلقّاه رجل من بني كنانة أيضا فقتله ، فازداد
أبرهة بذلك حنقا ، وحث السير وطلب من أهل الطائف دليلا يرشده فبعثوا معه دليلا خرج
يرشدهم إلى الطريق حتى إذا كان على ستة أميال من مكة المكرّمة فنزلوا يستريحون
ويستعدّون لهدم الكعبة. وخرجت قريش إلى رؤوس الجبال تستشرف الجيش الغازي وقالوا لا
طاقة لنا بقتال هؤلاء. ولم يبق في مكة إلّا عبد المطّلب بن هاشم سلام الله عليهما
قرّ على السقاية ، وإلّا شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت ، فوقف
عبد المطّالب بباب الكعبة وأخذ بعضادتيه وقال :
لا همّ إنّ
المرء يمنع
|
|
رحله فامنع
حلالك
|
لا يغلبوا
بصليبهم
|
|
ومحالهم عدوا
محالك
|
لا يدخلوا البلد
الحرام
|
|
إذا فأمر ما ،
بدا لك
|
أي ان المرء يحمي
من يركبه في قافلته ويحفظه ، فاحفظ اللهمّ حلالك : يعني القوم الحالّين ببيتك.
ثم إن مقدمة جيش
أبرهة أصابت إبلا لقريش فيها مائتا بعير لعبد المطّلب بن هاشم (ع) فلمّا بلغه ذلك
خرج يطلبها. وكان حاجب أبرهة رجلا يعرف عبد المطلب حق المعرفة فاستأذن له على
الملك قائلا : أيها الملك ، جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحيّ ووحشها في
الجبل. فقال ائذن له. فأذن له. وكان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا مهيبا رآه أبرهة
بهذه الهيبة فعظّمه وكرّمه أن يجلسه تحته ، وكره أن يجلسه معه على سريره ، فنزل
على الأرض وجلسا معا عليها ، وقال لعبد المطّلب : ما حاجتك؟ قال : حاجتي مائتا
بعير لي أصابتها مقدمتك. فقال أبرهة : والله لقد رأيتك فأعجبتني ، ثم تكلمت فزهدت
فيك. فقال عبد المطّلب : ولم أيّها الملك؟ قال : لأني جئت إلى بيت عزّكم ومنعتكم
من العرب ،
وفضلكم في الناس
وشرفكم عليهم ودينكم الذي تعبدون ، فجئت لأكسره. وأصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن
حاجتك فكلّمتني في إبلك ولم تطلب إليّ في بيتكم؟ فقال عبد المطلب (ع) : أيها الملك
، أنا أكلّمك في مالي ، ولهذا البيت ربّ هو يمنعه ، لست أنا منه في شيء. فارتاع
لذلك أبرهة وأمر بردّ الإبل لعبد المطلب وبات ليلة كالحة كلها هواجس ووساوس. وكذلك
قضاها جيشه. ثم أصبحوا فبعثوا فيلهم ليتوجّهوا نحو الكعبة لهدمها ، فربض. فضربوه
فتمرّغ. وما زالوا به حتى وجّهوه نحو اليمن فانبعث وقام متجها نحوها مهرولا.
فحاولوا أن يعطفوه نحو مكة فربض على الأرض من جديد. ولم يزالوا يعالجونه هكذا إلى
أن طلعت الشمس ، فطلعت عليهم طير معها حجارة من سجّيل فجعلت ترميهم بها. وكان كل
طائر منها يحمل في منقاره حجرا ، وفي رجليه حجرين ، لا يقع حجر منها عن بطن إلّا
خرقه ، ولا عظم إلّا ثقبه ، فقضي على الجيش بكامله ، وولّى أبرهة هاربا نحو اليمن
فأصابه حجر فكان كلما مشى مسافة انقطع شيء من أوصاله وتناثر شيء من لحمه ، حتى إذا
انتهى إلى اليمن تصوّع صدره ، وانشقّ بطنه فهلك. وكان عبد المطّلب سلام الله عليه
قد طاف بالبيت ووقف يرتجز :
يا ربّ لا أرجو
لهم سواكا
|
|
يا ربّ فامنع
منهم حماكا
|
إنّ عدوّ البيت
من عاداكا
|
|
إنّهم لم يقهروا
قواكا
|
وروى العياشي
بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام ، قال : أرسل الله على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطاف ونحوه
، في منقاره حجر مثل العدسة ، فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجارة فيخرج من
دبره ، فلم تزل بهم حتى أتت عليهم ، قال : فأفلت رجل منهم فجعل يخبر الناس بالقصة.
فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا فقال : هذا هو منها. قال : فحاذى فطرحه على رأسه
فخرج من دبره.
أجل .. ألم تر يا
محمد ما فعلناه بأصحاب الفيل لمّا أرادوا هدم بيتنا
الحرام ، والذين
كان معهم فيل اسمه محمود؟ وكان النبيّ صلىاللهعليهوآله لم ير هذه الحادثة السماوية التاريخية العجيبة ، لأنه (ص)
قد ولد في ذلك العام ـ عام الفيل (أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) يعني ألم يجعل ربّك يا محمد مكرهم وكيدهم في تخريب البيت
وقتل أهله ، واستباحة الحرام بكامله في ضياع عمّا قصدوا إليه ، وقد ضلّ سعيهم ولم
ينالوا ما أرادوه في مكرهم (وَأَرْسَلَ) بعث الله ـ ربّك (عَلَيْهِمْ) على أصحاب الفيل (طَيْراً أَبابِيلَ) أي رفوفا وأسرابا يتبع بعضها بعضا ، قيل إنها كانت لها
خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب (تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) يعني تقذفهم بها ـ وقد فسّرنا السجّيل في سورة هود ولا
نكرّر ذلك ... (فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي تركتهم كالزرع اليابس وتبنه الذي أكلته الدواب وراثته
ثم ديس وتفرّق ، وتناثرت الأجزاء الباقية من قشّه وحصيده مختلطا هذا بذاك. وقد
حصلت هذه الآية في ذلك العام بالذات إيذانا بمولد نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله فيه. وهي معجزة سماويّة ليس لأحد أن ينكرها لأن أهل مكة
رأوها بأعينهم ولذلك لم ينكروها عند ما قرأ النبيّ صلىاللهعليهوآله هذه السورة المباركة مع شدة تكذيبهم لنبوّته ، وذلك أنهم
لا يزالون قريبي العهد بآية أصحاب الفيل.
* * *
سورة قريش
مكيّة وآياتها ٤
نزلت بعد التين.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١)
إِيلافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا
رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))
١ ـ آخر السورة ـ (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ، إِيلافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ...) الإيلاف عكس الإيحاش ، وهو من المؤالفة والاجتماع كالايناس
وسكون النفس إلى من تألفه. وكلمة (لِإِيلافِ) جارّ ومجرور متعلّقان بالآية : فجعلهم كعصف مأكول ، التي
في سورة الفيل السابقة. فقد فعل الله تعالى ذلك بأصحاب الفيل وجعلهم كعصف مأكول من
أجل لّم شمل قريش والتأليف بينهم ، وهذه نعمة منا عليهم تضاف إلى نعمتنا التي
تشملهم في رحلة الشتاء ورحلة الصيف. فقد أهلكنا أبرهة وجيشه لتعود قريش إلى سابق
ائتلافها ووحدتها ، ولتتمسك بمكة وبيت الله فيولد محمد صلىاللهعليهوآله فيها فلا يعجبون من تلك الآية التي هيأت الأذهان لأمر
سماويّ عظيم. و (إِيلافِهِمْ) بدل من السابق و (رِحْلَةَ
الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ) في محل نصب بوقوع (الإيلاف) عليها. وقد كانت لقريش رحلتان
تجاريتان تربح منهما مرابح طائلة : رحلة في الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حارّة ،
ورحلة في الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة. وقيل إن الرحلتين كانت إلى الشام
ولكنهم كانوا في الشتاء يسلكون طريق البحر وأيلة طلبا لدفء السواحل ، ويسلكون في
الصيف طريق بصرى خوفا من الحرّ الشديد (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هذَا الْبَيْتِ) أمر منه سبحانه بأن تكون عبادتهم موجهة لربّ الكعبة
المقدّسة التي حماها الله لهم بآية من آياته العجيبة على مرأىّ منهم ومسمع ، فإنه
هو الذي ألّف بينهم من حول ذلك البيت الحرام وأغناهم في رحلتيهم ، وهو (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أطعمهم بما فتح عليهم من الأرزاق في رحلاتهم ، وآمنهم بأن
لم يتعرّض لهم أحد في أسفارهم إذا قالوا له : نحن أهل حرم الله. فقد كان يصاب حيّ
من أحياء العرب فيقال لمن يصيبه : هو حيّ حرميّ ، فيخلّي عنه وعن أمواله تعظيما
للحرم ، ولذلك لم يكن بنو أب أكثر مالا ولا أعزّ من قريش كما في المجمع.
* * *
سورة الماعون
الآيات الثلاث
الأولى مكيّة ، والباقي مدنيّة. آياتها ٧ نزلت بعد التكاثر.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ
(٧))
١ ـ آخر السورة ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ ...) يعني هل نظرت فعلمت يا محمد هذا الكافر المنكر للتوحيد
والنبوّة والبعث والجزاء مع وضوح الدلالات على ذلك وقيام الحجج الظاهرة على ذلك.
وقد أورد سبحانه وتعالى ذلك بصيغة الاستفهام ليبالغ في أهمية الأمر وطريقة إفهامه
للسامع كما هو المألوف في لغة العرب ، فعن السدّي أنها نزلت في الوليد ابن المغيرة
، وعن الكلبي أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي ، بل قيل أنها نزلت في أبي سفيان
بن حرب الذي كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله أن يعطيه شيئا فضربه
بعصاه وطرده ، ولذلك قال سبحانه : (فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف وجفوة ، وإهانة.
والدعّ لغة هو
الدفع بشدة. فذلك هو الذي يكذّب بالدين (وَلا يَحُضُ) أي لا يدعو غيره ولا يشجع أحدا (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ولا يطعمه ولا يأمر بذلك لأنه لا يؤمن بدين ولا بخلق (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي الويل لمن يؤخّرون الصلاة عن وقتها ، أو هم الذين
أسلموا أو أبطنوا النّفاق وكانوا لا يرون ثوابا للصلاة ولا يخافون العقاب على
تركها ، وهم يتغافلون عنها حتى يذهب وقتها لعدم اهتمامهم بها ، فإذا كانوا مع
المؤمنين صلّوها في وقتها رياء ، وإذا كانوا وحدهم أهملوها ولم يعتنوا بها ولم
يندموا على تركها. وفي العياشي عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه سئل : عن قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، أهي وسوسة الشيطان؟ فقال : لا ، كلّ أحد يصيبه هذا ،
ولكن أن يغفلها ويدع أن يصلي في أول وقتها. وفي حديث آخر قال عليهالسلام : هو التّرك لها والتواني عنها. وفي رواية لمحمد بن فضيل
عن أبي الحسن عليهالسلام ، قال : هو التضييع لها. وقيل : هم (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) يفعلونها رياء أمام الناس ولا إخلاص لله عندهم في إقامتها (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الماعون لغة هو كلّ ما فيه منفعة ، وقد روي عن أبي عبد
الله عليهالسلام ـ كما في المجمع ـ أنه القرض تقرضه ، والمعروف تصنعه ،
ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزكاة.
* * *
سورة الكوثر
مكيّة ، وآياتها ٣
نزلت بعد العاديات.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ (٣))
١ ـ آخر السورة ـ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ...) الكوثر من الكثرة وهو على وزن : فوعل ، وهو يعني الخير
الكثير ، والشيء الكثير. وهذا خطاب منه سبحانه لنبيّه محمد صلىاللهعليهوآله أورد في مجال تعداد النّعم التي أنعم سبحانه بها عليه. وقد
قيل في الكوثر أنه نهر في الجنّة أعطاه الله تعالى لرسوله (ص) وهو أشدّ بياضا من
اللبن حافتاه قباب الدّر والياقوت.
فعن أنس قال :
بينا رسول الله صلىاللهعليهوآله ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاء ثم رفع رأسه مبتسما ،
فقلت : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : نزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ سورة الكوثر ثم
قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه نهر وعدني عليه ربّي
خيرا كثيرا. هو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء ، فيختلج
القرن منهم فأقول : يا ربّ إنهم من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
وقد أورده مسلم في صحيحة. وقيل أيضا إن الكوثر
هنا هو كثرة
النّسل والذرّية وهو يحتمل جميع ما يذكر من الخير الكثير لأن الله سبحانه وتعالى
قد أعطى رسوله (ص) خير الدنيا والآخرة ، ولكن كثرة النسل ربما كانت هي المقصودة في
هذه السورة بالذات باعتبار ما ختم سبحانه به السورة إذ قال جلّ وعلا (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اشكر ربّك علي نعمه الجزيلة وصلّ صلاة العيد لأنه
عقّبها بنحر الأضحية والهدي. وقيل : يعني صلّ صلاة الغداة المفروضة بجمع ، وانحر
البدن بمنى. ثم قيل إن معناه : صلّ لربّك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك.
أمّا العترة الطاهرة من أهل البيت عليهمالسلام فرووا في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) : وهو رفع يديك حذاء وجهك .. أثناء الصلاة للتكبير ـ وأبو
عبد الله عليهالسلام قال لجميل بن دراج : يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في
افتتاح الصلاة. وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ صلىاللهعليهوآله لجبرائيل عليهالسلام : ما هذه النّحيرة التي أمرني بها ربّي. قال : ليست بنحيرة
، ولكنه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة ، أن ترفع يديك إذا كبّرت ، وإذا ركعت ، وإذا
رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع.
فإن لكل شيء زينة ، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة. وقد قال رسول الله (ص):
رفع الأيدي من الاستكانة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) أي : إن مبغضك يا رسول الله هو المنقطع عن الخير ، أو
منقطع النسل. وقيل إن الآية الكريمة نزلت في العاص بن وائل السهمي الذي التقى
برسول الله صلىاللهعليهوآله يخرج من المسجد عند باب بني سهم متحدّثا قليلا على مرأى من
جبابرة قريش الذين كانوا يجلسون في المسجد ، فلما دخل العاص عليهم سألوه عمّن كان
يتحدّث معه ، فقال : ذلك الأبتر ـ أي الذي لا عقب له ولا ولد ـ إذ كان قد توفّي
عبد الله بن رسول الله (ص) الذي هو من خديجة في ذلك الوقت. وقد كانوا يسمّون من لا
عقب له ولا ولد :
الأبتر. ونزلت هذه
الآية الشريفة لتطييب قلب النبي ولإعلامه بأن الذي عابه بقلة النسل ، سيكون منقطع
النسل ، وبأنك يا محمد ستكون ذا نسل كثير يملأ الدنيا ، أما قريش التي أمّلت ان
تبقى بدون ذرّية فتموت فيموت ذكرك وينقطع نسلك ويموت دينك ، فبئس ما أمّلت وتعسا
لما قالته فهي قليلة الخير منقطعة عنه. وفي هذه السورة دلالات على صدق الوحي وصدق
نبيّنا صلىاللهعليهوآله لأنه أخبر عمّا دار بينهم سرّا ، ولأن دين محمد (ص) قد
انتشر رغما عنهم وعلا ذكره وقوي أمره ، ولأن ذرّيته (ص) هي اليوم أكثر من ذرّية أي
إنسان على وجه البسيطة في حين أن نسل الذين عابوه قد انقطع أو كاد أن ينقطع والحمد
لله.
* * *
سورة الكافرون
مكيّة ، وآياتها ٦
نزلت بعد الماعون.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ
ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (٦))
١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا
أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...)
الخطاب لرسول الله
صلىاللهعليهوآله يأمره فيه ربّه أن (قُلْ) يا محمد : (يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) المنكرون لله ولرسوله وأوامره ونواهيه : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي لا أقدّس آلهتكم ولا أعبد أصنامكم التي تعبدونها. ويلاحظ
أن الألف واللام في (الْكافِرُونَ) هي للعهد ، فالكافرون هنا إذن قوم معروفون كانوا يناوئون
محمدا (ص) ويقفون بوجه دعوته ، وقد نزلت السورة فيهم ، وقيل إنهم نفر من قريش ،
منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص بن أبي وائل ، والوليد بن المغيرة ، والأسود
بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطّلب بن أسد ، وأميّة بن خلف الذين قالوا :
هلمّ يا محمد فاتّبع ديننا نتّبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد
آلهتنا سنة ونعبد
إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا ممّا بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا
بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت
بحظّك منه. فقال (ص): معاذ الله أن أشرك به غيره. قالوا : فاستلم بعض آلهتنا
نصدّقك ونعبد إلهك. فقال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربّي ، فنزل عليه : قل يا
أيّها الكافرون ... فعدل إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم
قرأ السورة عليهم فأيسوا منه عند ذلك وأخذوا يؤذونه ، ويؤذون أصحابه ... فلا أعبد
ما تعبدون من الأصنام (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهو الله عزّ وعلا ، في هذا اليوم وفي هذه الحال التي
بيننا (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ) فيما بعد اليوم وإلى الأبد (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل وفيما بعد اليوم. وقد أعلمه الله سبحانه أنهم
لا يؤمنون به لشدة عنادهم. وهذا كقوله تعالى لنوح عليهالسلام : إنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. وبهذا التكرير
للآيات حسم سبحانه ما عندهم من أطماع ، فاعبدوا ما شئتم بعد أن دعوتكم فلم تمتثلوا
(لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) أي لكم كفركم الذي قنعتم به وسيوردكم موارد الهلاك ، ولي
دين التوحيد والإخلاص الذي به النجاة والفوز. وفي ظاهر الآيات إباحة لأن يختار كل
امرئ ما شاء في عبادته وعقيدته ، ولكن الكلام ينطوي على تهديد ووعيد لمن اختار
الكفر ، كما أنه ينطوي على زجر عن الشّرك وعبادة غير الله ، وهو كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). وعن أبي عبد الله عليهالسلام ، أنه قال : إذا قرأت قل يا أيّها الكافرون فقل : أيّها
الكافرون ، وإذا قلت : لا أعبد ما تعبدون فقل : أعبد الله وحده ، وإذا قلت : لكم
دينكم ولي دين فقل : ربيّ الله وديني الإسلام.
* * *
سورة النّصر
نزلت في حجة الوداع
، وهي آخر ما نزل من السور وتعد مدنيّة ، وآياتها ٣ نزلت بعد التوبة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً
(٣))
١ ـ آخر السورة ـ (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ...) أي إذا (جاءَ) ك يا محمد نصر الله على من قاومك وعادى رسالتك ، وهم
القرشيّون وأشباههم. وفاعل جاء هو : نصر الله ، ومفعول جاء محذوف تقديره : ك ـ جاءك.
فإذا جاءك الظّفر بهم والنّصر عليهم (وَالْفَتْحُ) أي فتح مكة الذي نعدك به قبل وقوعه. وهذه بشارة منه سبحانه
لنبيّه صلىاللهعليهوآله بذلك. فإذا كان ذلك لك (وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي رأيتهم يسلمون ويسلّمون لك جماعة بعد جماعة وفرقة بعد
فرقة ، ويلتزمون بدينك وبأمرك ويعتقدون صحته ويقيمون أحكامه ، يوم ترى كل قبيلة
تدخل في الدين دفعة واحدة بعد أن كان يدخل فيه الواحد
والاثنان ، عند
ذلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي نزّهه عمّا لا يليق به من الصفات القبيحة التي لا يجوز
أن يوصف بها ، واطلب رحمته ومغفرته حين يوليك هذه النّعمة العظيمة مع ماله من نعم
جسيمة عليك ، واحمده واشكره على ذلك (إِنَّهُ كانَ
تَوَّاباً) أي : إنه كان منذ كان ، يقبل التوبة ولو أذنب الإنسان وتاب
، ثم عاد للذنب وعاد للتوبة ، فإنه تعالى كثير القبول لتوبة التائبين متجاوز عن
المذنبين. وعن مقاتل أنه لمّا نزلت هذه السورة قرأها النبيّ صلىاللهعليهوآله على أصحابه ففرحوا واستبشروا ، وسمعها العباس فبكى ، فقال (ص)
: ما يبكيك يا عمّ؟ فقال : أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله ، فقال : إنه
لكما تقول. فعاش (ص) بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكا مستبشرا. وقيل إنهم استنتجوا
نعي نفسه (ص) إليه من الأمر بتجديد التوحيد واستدراك الفائت بالاستغفار ، وعن أمّ
سلمة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلّا قال :
سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله وأتوب إليه. فسألناه عن ذلك فقال : إنّي أمرت بها
، ثم قرأ : إذا جاء نصر الله والفتح.
أما قصة فتح مكة
فقد مرّ أنه كان من شروط عهد الحديبية الذي مرّ ذكره وفيه أن من أحبّ أن يدخل في
عهد رسول الله (ص) دخل فيه ، فدخلت خزاعة فيه ، وبمقابلها دخلت بنو بكر في عقد
قريش لأنه كان بين القبيلتين شرّ قديم. وبعدها وقع قتال بين خزاعة وبني بكر فساعدت
قريش بني بكر بالسلاح وبالرجال ، فقصد عمرو بن سالم الخزاعي رسول الله (ص) ليخبره
بما حصل. ولما وصل التي المدينة وقف بين يديه وهو في المسجد وقال :
لا همّ إنّي ناشد
محمدا
|
|
حلف أبينا وأبيه
الأتلدا
|
إنّ قريشا
أخلفوك الموعدا
|
|
ونقضوا ميثاقك
المؤكّدا
|
وقتلونا ركّعا وسجّدا
فقال (ص): حسبك يا
عمرو. ثم قام ودخل دار ميمونة وقال اسكبي لي ماء فجعل يغتسل وهو يقول : لا نصرت إن
لم أنصر بني كعب. وتوالت عليه (ص) الأنباء ، فكان ذلك ممّا أهاج فتح مكة ، فأمر من
جاء بالأخبار أن يعودوا إلى ديارهم وقال (ص) لأصحابه : كأنكم بأبي سفيان قد جاء
ليشدّد العقد ويزيد في المدة ـ أي في مدة عهد الحديبية ـ وقد كان ذلك وجاء أبو
سفيان حتى قدم على رسول الله (ص) فقال : يا محمد احقن دم قومك وأجر بين قريش وزدنا
في المدّة. فقال (ص): أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال : لا. قال (ص) : فنحن على ما كنّا
عليه. فخرج فلقي أبا بكر فقال : أجر بين قريش. قال : ويحك ، وأحد يجير على رسول
الله (ص)؟ ولقي عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ، ثم خرج فدخل على أم حبيبة ـ بنته
، وزوجة الرسول (ص) ـ فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته. فقال : يا
بنيّة ، أرغبت بهذا الفراش عنّي؟ فقالت : نعم ، هذا فراش رسول الله (ص) ما كنت
لتجلس عليه وأنت رجس مشرك. ثم خرج فدخل على فاطمة عليهاالسلام فقال : يا بنت سيد العرب ، تجيرين بين قريش وتزيدني في
المدة فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت عليهاالسلام : جواري جوار رسول الله (ص). قال : أتأمرين ابنيك ـ أي
الحسن والحسين عليهماالسلام ـ أن يجيرا بين الناس؟ قالت : والله ما بلغ ابناي أن يجيرا
بين الناس وما يجير على رسول الله (ص) أحد. فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد
اشتدّت عليّ فانصحني. فقال عليّ عليهالسلام : إنك شيخ قريش ، فقم على باب المسجد وأجر بين قريش ثم
الحق بأرضك. قال : وترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال : لا والله ما أظنّ ذلك ، ولكن
لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد فقال : يا أيها الناس إني قد أجرت
بين قريش ، ثم ركب بعيره ، فانطلق إلى أن بلغ مكة ، فقالوا : ما وراءك؟ فأخبرهم
بما جرى له. فقالوا : والله إن زاد
علي بن أبي طالب
على أن لعب بك ، فما يغني عنّا ما قلت. قال : لا والله ما وجدت غير ذلك.
ثم أمر رسول الله (ص)
بالتجهيز لدخول مكة وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في
بلادها. وكان من أمر كتاب حاطب لقريش ما كان ، ومن أمر المرأة التي حملت الكتاب
وأخذه منها عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام كما ذكرنا في سورة الممتحنة .. ثم استخلف النبيّ (ص) أبا
ذرّ الغفاري على المدينة وخرج قاصدا مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ، في
عشرة آلاف من المسلمين ، ونحو أربعمائة فارس ، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار
أحد ، ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران وغمّت الأخبار عن قريش فلم يعرفوا عن رسول الله (ص)
ومن معه خبرا. وفي تلك الليلة خرج أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن
ورقاء يتجسّسون الأخبار. وكان العباس قد قال وقتئذ : يا سوء صباح قريش ، والله لئن
بغتها رسول الله فدخل مكة عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ، فخرج على بغلة رسول
الله (ص) وقال : أخرج إلى الأراك لعليّ أرى أحدا يدخل مكة فنخبرهم بمكان رسول الله
(ص) فيأتونه فيستأمنونه. وفيما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان ومن معه ، وكان أبو
سفيان يقول : والله ما رأيت كالليلة نيرانا ، فيقول بديل : هذه نيران خزاعة. فيجيب
أبو سفيان قائلا : خزاعة الأم من ذلك. فناداه العباس باسمه فعرفه وقال : لبّيك
فداك أبي وأمّي ، ما وراءك؟ فقال : هذا رسول الله (ص) قد جاء بما لا قبل لكم به ،
قال : فما تأمرني؟ قال : تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك من رسول الله (ص) فو الله
لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك. ثم أردفه وراءه ودخل بين المسلمين فكان كلما اجتاز نارا
قالوا : هذا عم رسول الله (ص) على بغلة رسول الله ، حتى اشتدّ به نحو رسول الله (ص)
ودخل عليه به وقال : إني قد أجرته ، ثم دنا من رسول الله (ص) وناجاه قليلا فقال (ص):
اذهب
فقد أمّنّاه حتى
تغدو به عليّ في الغداة. ورجع به صباحا فقال له النبيّ (ص) : ويحك يا أبا سفيان
ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلّا الله؟ فقال : بأبي أنت وأمّي ما أوصلك وأكرمك
وأرحمك وأحلمك! والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أحد. فقال (ص)
: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال : بأبي أنت وأمي أمّا
هذه فإن في النفس منها شيئا. عندها قال له العباس : ويحك ، اشهد بشهادة الحق قبل
أن أضرب عنقك. فقال (ص) للعباس : انصرف به فاحبسه عند مضيق الوادي حتى تمرّ عليه
جنود الله. فأخذه وحبسه هناك فمرّت عليه القبائل واحدة واحدة وهو يسأل عنها والعباس
يجيبه حتى مرّ رسول الله (ص) في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد
لا يرى منهم إلّا الحدق. فقال : من هؤلاء يا أبا الفضل : قال : هذا رسول الله (ص)
في المهاجرين والأنصار. فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. فقال العباس : ويحك
إنها النبوّة. ثم جاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأسلما وبايعا رسول الله (ص)
فبعثهما بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام وقال (ص) : من دخل دار أبي سفيان
فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم فهو آمن ، ومن أغلق بابه وكفّ يده فهو آمن. ولما خرج
أبو سفيان ومن معه إلى مكة بعث في إثرهم الزبير بن العوّام وأمرّه على الخيل وأمره
أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون وقال له : لا تبرح حتى نأتيك. ثم دخل رسول الله (ص)
مكة وضربت هناك خيمته وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمته وبعث خالد بن
الوليد في من كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأمره أن يدخل أسفل مكة ويغرز رايته دون
البيوت. وأمرهم رسول الله (ص) أن يكفّوا أيديهم ولا يقاتلوا إلّا من قاتلهم ، كما
أنه أمرهم بقتل أربعة هم : عبد الله بن سعد ابن أبي سرح ، والحويرث بن نفيل ، وابن
خطل ، ومقبس بن ضبابة ، وبقتل قينتين كانتا تغنّيان بهجائه (ص) وقال : اقتلوهم ولو
وجدتموهم
متعلّقين بأستار
الكعبة. وسمع رسول الله (ص) سعدا يقول : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ،
فقال (ص) : لعليّ : أدركه فخذ الراية منه وكن أنت الذي يدخل بها ، وأدخلها :
إدخالا رفيقا. فأخذها عليّ عليهالسلام ودخل كما أمره رسول الله (ص) ودخلها النبيّ (ص) في حين
اجتمع عتاة قريش في الكعبة وهم يظنّون القتل واقعا بهم. فأتى رسول الله (ص) وقام
على باب الكعبة وقال :
لا إله إلّا الله
وحده وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إنّ كلّ مال أو
مأثرة ودم تدّعى ، فهو تحت قدميّ هاتين ، إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما
مردودتان إلى أهليهما. ألا إن مكة محرّمة بتحريم الله ، لم تحلّ لأحد كان قبلي ،
ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار ، وهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة.
ثم قال (ص) : ألا
لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم
حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني! اذهبوا فأنتم الطّلقاء. فخرجوا كمن يخرج من
القبور ودخلوا في الإسلام أفواجا ، والحمد لله رب العالمين ... وروى ابن مسعود أن
النبيّ (ص) دخل مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمئة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في
يده ويقول : جاء الحق ، وما يبدئ الباطل وما يعيد. جاء الحق وزهق الباطل ، إن
الباطل كان زهوقا.
* * *
سورة المسد
مكيّة ، وآياتها ٥
نزلت بعد الفاتحة.
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ
مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ (٥))
١ ـ آخر السورة ـ (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما
أَغْنى عَنْهُ مالُهُ ...)
تبّت : من التّباب
أو التّب وهو الخسران المؤدي للهلاك. فالمعنى : خسرت يدا أبي لهب ، أي : خسر هو
نفسه. وقد عبّر باليدين لأنهما يكون العمل بهما. وتبّ عطف عليه ، وقد خسر خسرانا
أكيدا ولا ينال خيرا لأن مصيره إلى النار بتكذيبه للنّبي صلىاللهعليهوآله. وعن الفرّاء أن العبارة الأولى دعاء عليه ، والثانية خبر
، وهذا مثل قولهم : أهلكه الله ، وقد هلك. أمّا أبو لهب الذي خلد ذكره السيء في
القرآن الكريم فهو ابن عبد المطّلب ، عمّ النبيّ (ص) وقد كذّب الرسول وعاداه كفرا
وبغيا وآذاه كثيرا. فعن طارق المحاربي أنه قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا بشاب
يقول : أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا ، وإذا برجل يرميه قد أدمى
ساقية وعرقوبيه
ويقول : يا أيّها الناس إنه كذّاب فلا تصدّقوه. فقلت : من هذا؟ فقالوا : هذا محمد
يزعم أنه نبيّ ، وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنه كذّاب. وأما اسمه فهو عبد العزى ، وقد
ذكر الله سبحانه كنيته لأنه كره أن ينسبه إلى العزى التي هي صنم ، وقيل إنه كان
يكنّى بذلك لحسن وجهه ـ قبّحه الله ـ واشراق منظره وأن وجنّتيه كانتا كأنهما
تلتهبان فأبو لهب هذا مصيره إلى التباب والهلاك في جهنم في الآخرة ، وليس يغني عنه
ماله ولا كسبه ، ولا يدفع ذلك عنه عذابا ولا ينفعه في تخفيف ألم. وقيل إنه سبحانه
ذكر ماله وما كسب ، لأن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنذره بالنار إن بقي على كفره وعناده ، فقال له : إن كان
ما تقول حقّا فإني أفتدي بمالي وولدي ، ومن أجل ذلك أكدّ سبحانه بقوله : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيدخل نارا ذات اشتعال واتّقاد شديد ، وهي نار جهنّم.
وفي هذه الآية الشريفة دلالة واضحة على صدق الوحي ، وعلى صدق نبوّة سيّدنا ونبيّنا
محمد صلىاللهعليهوآله لأن أبا لهب مات على كفره وعناده وكان كما قال الوحي وكما
قال محمد (ص) ولو لا صدق ذلك لكان ربّما تغيرت حاله فخاف وتاب وأناب ، ولكنّ صدق
الله ورسوله فقد خسر هو (وَامْرَأَتُهُ) التي هم أم جميل بنت حرب ، أخت أبي سفيان رأس الشّقاق
والنّفاق ، فلا غرو أن تكون مثله ، وقد ذمّها سبحانه بأن وصف كونها (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) بسبب أنها كانت تحمل الشوك فتطرحه في طريق رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا خرج الى الصلاة ليعقر رجليه الشريفتين إلى جانب أنها
كانت تمشي بين الناس بالنميمة وتوقع بينهم الفتن وتبثّ الضغائن وتحتطب بذلك
السيئات وتحمل وزر العداوة التي تلقيها بين الناس وتشعل نارها كما توقّد النار
بالحطب ، فهي حمّالة خطايا كما أنها حمالة حطب شائك تؤذي به الرسول (ص) ولذلك
فإنها من أهل النار حيث يكون (فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ) أي يكون في عنقها حبل كحبل الليف ولكنه من سلاسل النار
إذلالا لها وخزيا لصنيعها في دار الدنيا. وقد وصفها جلّ وعلا بذلك
انتقاصا لها لأنها
أهل للانتقاص ، وتحقيرا لها ، وسيكون طول السلسلة المحماة بالنار التي تلف عنقها
وتغل يديها سبعين ذراعا ، وقد سمّيت هذه السلسلة (مسدا) لأنها تكون ممسودة في
عنقها ، أي مفتولة فتلا جيدا. وقيل إنه سبحانه ذكر هذه الخصوصية من ألوان عذابها ـ
قبّح الله وجهها ـ لأنها كانت لها في جيدها قلادة من الجوهر الثمين وأنها قالت :
لأنفقنّ هذه القلادة في عداوة محمد ، فجعل الله تعالى ثمن قولها عذابا لها في نار
جهنم بهذا الشكل. ولمّا نزلت هذه السورة المباركة التي أخزتها وأخزت زوجها إلى أبد
الآبدين خرجت تولول وتصرخ بجنون وبيدها حجر ملء كفّها تريد أن ترمي به محمدا (ص)
وكانت تقول : مذمّما أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، واتّجهت نحو المسجد
لترشقه (ص) بالحجر فردها أبو بكر فقال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك.
فقال (ص): إنها لن تراني ، ثم قرأ قرآنا فاعتصم به وكان بينه وبينها ستر مصداقا
لقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً) ، فشاهدت أبا بكر ولم تر النبيّ (ص) فقالت : يا أبا بكر
أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا وربّ البيت ما هجاك ، فرجعت وهي تقول : قريش
تعلم أني بنت سيّدها ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : صرف الله سبحانه عنّي ، إنهم يذمّون مذمما وأنا محمّد.
وقيل في سبب
افتتاح هذه السورة المباركة بتباب يدي أبي لهب ـ كما عن ابن عباس ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوآله صعد يوما على الصّفا وقال : يا صباحاه! فأقبلت قريش إليه
وقالوا : مالك؟ فقال : أرأيتم لو أخبرتكم أن العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم
تصدّقوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب :
تبّا لك ، لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل الله تعالى هذه السورة مفتتحة ب : تبّت يدا
أبي لهب.
* * *
سورة الإخلاص
مكيّة ، وآياتها ٤
نزلت بعد الناس وقيل إنها مدنيّة أيضا.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢)
لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ (٤))
١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ
الصَّمَدُ ...) أي : قل يا محمد : الله أحد. و (أَحَدٌ) أصله : وحد ، وقد قلبت الواو همزة. وقيل إنه اسم كأحد
وعشرين ، كما قيل إنه صفة كربّ أحد. وأحد : يجمع على أحدان كما يجمع الواحد على
وحدان.
أما معنى الأحد
فهو يختلف عن الواحد الذي يدخل في الحساب ويضمّ إليه ثان وثالث إلخ ... فإن الأحد
متفرّد عن الشّبه والمثل لا يدخل في الحساب ولا يكون مجموعا لثان مثله. فكونه
سبحانه أحدا يجعله متصفا بصفة لا يشاركه فيها أحد يجيز تعداد أحدّيته وإضافتها إلى
غيره ممن يمكن أن يكون مثله ، فتعالى عن الشبيه وجلّ وسما عن المثيل ، وليس كمثله
شيء حتى يكون «أحدا» ويشاركه في أحديّته.
أما من حيث
الإعراب فيجوز ان يكون (اللهُ) خبر مبتدأ على قول
من قال إن (هُوَ) كناية عن اسم الله تعالى ، والتقدير : هو الله. كما أنه
يجوز أن يكون مبتدأ و (أَحَدٌ) خبره (اللهُ أَحَدٌ) ومعنى (اللهُ الصَّمَدُ) أنه السيد المعظّم الذي يصمد إليه في الحوائج ، أي أنه
المقصود. و (اللهُ) معناه ـ كما عن الباقر عليهالسلام ـ : المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته والإحاطة
بكيفيته. وذلك أنهم تحيّروا فلم يحيطوا به علما ، وولهوا إليه أي فزعوا إليه في
حاجاتهم وطلباتهم. وقد قال الإمام الباقر عليهالسلام : حدثني أبي زين العابدين عليهالسلام عن أبيه الحسين ابن عليّ عليهالسلام أنه قال : الصّمد الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد الدائم
الذي لم يزل ولا يزال ، والصمد الذي لا جوف له ، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب ،
والصمد الذي لا ينام ، وعنه عليهالسلام : والصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه. أما
محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه فقال : الصمد القائم بنفسه الغنيّ عن غيره. وسئل
عليّ بن الحسين عليهالسلام عن الصمد فقال : الصمد الذي لا شريك له ، ولا يؤوده حفظ
شيء ولا يعزب عنه شيء. ثم فسّر سبحانه الصمد فقال عزّ من قائل : (لَمْ يَلِدْ) أي لم يخرج منه ولد ، أي لم يخرج منه شيء كثيف كالولد
وغيره ، ولا شيء لطيف كالنّفس (وَلَمْ يُولَدْ) يعني لم يتولّد ـ هو نفسه تعالى ـ من شيء آخر ولده كما هي
العادة ، ولا كان لطيفا خرج من لطيف غيره كما يخرج البصر من العين ، والسمع من
الأذن وغير ذلك أو كما يخرج الإدراك من القلب والعقل ، بل هو الله تعالى الذي كان
لا من شيء ، بل هو مبتدع الأشياء كبيرها وصغيرها ، ومنشئها بقدرته (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس كمثله شيء يكون عديلا له ونظيرا فيشاكله ويكون ندا
له. وفي المجمع أن رجلا سأل عليّا أمير المؤمنين عليهالسلام عن تفسير هذه السورة فقال : قل هو الله أحد : بلا تأويل
عدد ، الصمد : بلا تبعيض بدد ، لم يلد : فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد : فيكون
إلها مشاركا ، ولم يكن له : من خلقه ، كفوا أحد. وعن الفضيل
* * *
ابن يسار قال :
أمرني أبو جعفر أن اقرأ قل هو الله أحد وأقول إذا فرغت منها : كذلك الله ربّي ،
ثلاثا. وذلك أن السورة المباركة هي نسبة الله تعالى ، فقد قيل في سبب نزولها أن
جماعة سألوا النبيّ (ص) : إلى ما تدعونا يا محمد؟ فقال : إلى الله فقالوا : صفه
لنا فنزلت السورة المباركة التي هي نسبة الله تعالى خاصته.
* * *
سورة الفلق
مكيّة وآياتها ٥
نزلت بعد الفيل.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما
خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ (٥))
١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ
شَرِّ ما خَلَقَ ...) هذا خطاب من الله سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوآله يأمره فيه بأن يستعيذ برب (الْفَلَقِ) الذي هو الفرق الواسع لغة ، وذلك من قولهم : فلق رأسه
بالسيف أي جعله قسمين وفرق ما بينهما. وكقولهم هذا واضح كفلق الصبح ، لأن عمود
الصبح ينفلق بالضياء.
فاستعذ يا محمد
واعتصم ، وليستعذ كل واحد من أمّته وليعتصم ، بربّ الصبح الذي ينبلج ضياؤه فيبدّد
الظّلمة بقدرة خالقه ومطلعه (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي استعذ من الإنس والجن وسائر الحيوانات التي قد تؤذي. وتقديره
: استعذ من شرّ جميع ما خلق الله تعالى ويمكن أن يحصل منه شر كالناس والشياطين
والسّباع والهوامّ وغيرها من الأشياء (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا
وَقَبَ) يعني واستعذ من شرّ الليل الهاجم بما تستر ظلمته من كائنات
ضارّة لأنه موعد خروج السباع والهوامّ. وقد عبّر سبحانه عنه بالغاسق لهجومه شيئا
فشيئا لأن الغسّاق سمّي بذلك لسيلانه ، ولأن العين إذا سال دمعها قيل ، غسقت ،
فالليل يغسق ويهجم وتنساب ظلمته إذا وقب ، أي إذا دخل. فالغسق الجريان والهجوم ،
والوقب الدخول (وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي من شر الساحرات اللواتي يقرأن وينفثن في عقد الخيط الذي
يرقينه ليتمّ السّحر. وقد أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله بالتعوّذ من شرّ السّحرة لأنهم يوهمون الناس بأنهم ينفعون
ويضرّون ، ويمرضون ويشفون فتصدّقهم عامة الناس ، فأمره (ص) هو أمر لسائر الناس
ليتعوّذوا من شرّهم الذي يتوهمونه (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ) والحاسد هو الذي يتمنّى زوال النّعمة عن صاحبها وإن لم
يردها لنفسه ، وهو مذموم ، وعكسه الغبطة المحمودة التي هي تمنّي النّعمة لنفسه كما
هي لصاحبها من غير أن يريد زوالها عن صاحبها. فالحسد يؤدي إلى إيقاع الشر بالمحسود
، فأمر سبحانه بالتعوذ من شرّ الحاسد ، وقيل من شرّ نفس الحاسد ، ومن شرّ عينه فإنه
ربّما أصاب بهما فأضر. وقد جاء في الحديث أن العين حق ، وقد أشرنا إلى ذلك فيما
مضى. وروي أن النبيّ صلىاللهعليهوآله كان كثيرا ما يعوّذ الحسن والحسين عليهماالسلام بهاتين السورتّين.
* * *
سورة الناس
مكيّة ، وآياتها ٦
نزلت بعد الفلق.
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢)
إِلهِ
النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ (٦))
١ ـ آخر السورة ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ...) أي استعذ يا محمد بخالق الناس ومنشئهم ومدبّرهم ، أي ب (مَلِكِ النَّاسِ) يعني سيّدهم والقادر عليهم ، ولم يجز هنا إلّا (مَلِكِ) وجاز في فاتحة الكتاب (مالِكِ). و (مَلِكِ) من أجل أن صفة (مَلِكِ) تدل على تدبير شؤون من يشعر بالتدبير ، وليس (مالِكِ) كذلك. وقد جرت صفة (مالِكِ) في سورة الفاتحة على معنى الملك في يوم الجزاء ، لأنه
الواحد المتصرّف ، وجرت (مَلِكِ) في هذه السورة على معنى تدبير من يعقل التدبير ، فهو تعالى
ملك الناس كلّهم وإليه مرجعهم ومفزعهم في سائر حوائجهم ، وقد وصف نفسه ب (إِلهِ النَّاسِ) الذي تحق العبادة له دون
غيره. وخصّ الناس
دون غيرهم مع أنه إله جميع الكائنات ، لأن في الناس كبراء وعظماء فأخبر بأنه ربّ
كل عظيم وكل كبير وإن عظم هذا أو كبر ذاك ، وكذلك هو ملك الناس وإن كان منهم ملوك
، وأمر نبيّه (ص) وأمّته بأن يستعيذوا به تعالى من شرّ الناس. وقد قال جامع العلوم
النحوي : ليس قوله (النَّاسِ) تكرارا ، لأن المراد بالأول (الأجنّة) ولهذا قال : بربّ
الناس لأنه يربّيهم ، والمراد بالثاني (الأطفال) ولذلك قال : ملك الناس ، لأنه
يملكهم ، والمراد بالثالث (البالغون المكلّفون) ولذلك قال : إله الناس ، لأنهم
يعبدونه ، والمراد بالرابع (العلماء) لأن الشيطان يوسوس إليهم ولا يريد الجهّال
لأن الجاهل يضلّ بجهله وإنما تقع الوسوسة في قلب العالم. أما قوله (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) فمعناه من شرّ الوسوسة الواقعة من الجن ، أو هو : من شر ذي
الوسواس الذي هو الشيطان الذي وصفه سبحانه بقوله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ) أي ينفث في قلوبهم كلاما خفيّا يصل مفهومه إليها من غير أن
يكون قول ومن غير أن يكون سماع. ثم ذكر أن الشيطان الموسوس قد يكون (مِنَ الْجِنَّةِ) الذين هم الشياطين (وَ) قد يكون من (الناس) فاستعذ من شرّ الإنس والجن وقوله تعالى
(مِنَ الْجِنَّةِ) بدل من قوله (الْوَسْواسِ) فكأنه قال : أعوذ بالله من شر الجنّة والناس. وإن شئت قلت
: من شرّ الوسواس الواقع من الجنّة بما توسوسه في الصدور ، فيكون فاعل (يُوَسْوِسُ) ضمير (الْجِنَّةِ) وإنما ذكر لأن الجنّة والجنّ واحد.
وفي هذه السورة
المباركة والسورة التي سبقتها دلالة على أنه لا ضرر ممّن يتعوّذ به ، وإنّما الضرر
كلّه ممّن يتعوّذ منه ، وهو سبحانه يكفي الشرور بهاتين المعوّذتين ، ولولا ذلك لما
دعا سبحانه النبيّ إلى ذلك. وفي المجمع أن أبا عبد الله عليهالسلام قال لعبد الله بن سنان : إذا قرأت قل أعوذ بربّ الفلق ،
فقل في نفسك : أعوذ بربّ الفلق. وإذا قرأت قل أعوذ
بربّ الناس ، فقل
في نفسك : أعوذ بربّ الناس. والحمد لله رب العالمين وبه نستعيذ من كل شيطان رجيم ،
ونستعين في جميع أمورنا ، وهو الموفّق لما فيه رضاه في الدارين.
تمّ بحمد الله
تسويد تفسيرنا المسمّى «بالجديد» في تفسير القرآن المجيد في غرّة سنة ١٤٠٤ هجرية ،
وله الشكر على التوفيق ، ونسأله العفو والتجاوز عن الزلل ، وصلّى الله على محمد
وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الفهرس
سورة ق
١
ـ ق ، والقرآن المجید............................................................ ٥
٢ ـ بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم................................................ ٦
٣ ـ إإذا متنا وكنا تراباً............................................................. ٦
٤ ـ قد علمنا ما تنقض الارض منهم................................................ ٦
٥ ـ بل كذبوا بالحق............................................................... ٦
٦ ـ أفلم ينظروا إلى السماء........................................................ ٧
٧ ـ والارض مددناها.............................................................. ٧
٨ ـ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب................................................. ٨
٩ ـ ونزّلنا من السماء ماء مباركاً.................................................... ٨
١٠ ـ والنخل باسقات............................................................ ٨
١١ ـ رزقاً للعباد وأحيينا بلدة ميتاً................................................... ٨
١٢ إلى ١٤ ـ كذبت قبلهم قوم نوح................................................ ٩
١٥ ـ أفعيينا بالخلق الاول........................................................ ١٠
١٦ ـ ولقد خلقنا الانسان....................................................... ١١
١٧ و ١٨ ـ إذ يتلقى المتلقيان.................................................... ١٢
١٩ ـ وجاءت سكرة الموت....................................................... ١٢
٢٠ ـ ونفخ في الصور........................................................... ١٣
٢١ ـ وجاءت كل نفس معها سائق شهيد.......................................... ١٣
٢٢ ـ لقد كنت في غفلة من هذا.................................................. ١٣
٢٣ ـ وقال قرينة................................................................ ١٤
٢٤ إلى ٢٦ ـ ألقيا في جهنم..................................................... ١٤
٢٧ ـ قال قرينة................................................................. ١٥
٢٨ ـ قال لا تختصموا لدي...................................................... ١٥
٢٩ ـ ما يبدل القول لدي........................................................ ١٥
٣٠ ـ يوم يقول لجهنم........................................................... ١٦
٣١ إلى ٣٤ ـ وأزلفت الجنة للمتقين............................................... ١٦
٣٥ ـ لهم ما يشاؤون............................................................ ١٧
٣٦ و ٣٧ ـ وكم اهلكنا قبلهم من قرن............................................ ١٨
٣٨ ـ ولقد خلقنا السماوات...................................................... ١٨
٣٩ و ٤٠ ـ فاصبر على ما يقولون................................................ ١٨
٤١ و ٤٢ ـ واستمع يوم ينادي المناد.............................................. ١٩
٤٣ و ٤٤ ـ إنا نحن نحيي ونميت والينا
المصير....................................... ١٩
٤٥ ـ نحن أعلم بما يقولون....................................................... ٢٠
سورة
الذاريات
١ إلى ٦ ـ والذاريات ذروا........................................................ ٢١
٧ إلى ٩ ـ والسماء ذات الحبك................................................... ٢٢
١٠ إلى ١٤ ـ قتل الخراصون..................................................... ٢٣
١٥ إلى ١٩ ـ إن المتقين في جنات وعيون.......................................... ٢٤
٢٠ إلى ٢٣ ـ وفي الأرض آیات للموقنين.......................................... ٢٥
٢٤ و ٢٥ ـ هل أتاك حديث ضيف ابراهيم........................................ ٢٦
٢٦ و ٢٧ ـ فراغ إلى اهله....................................................... ٢٦
٢٨ إلى ٣٠ ـ فأوجس منهم خيفة................................................ ٢٦
٣١ إلى ٣٤ ـ قال فما خطبكم................................................... ٢٧
٣٥ إلى ٣٧ ـ فأخرجنا من كان فيها من
المؤمنين.................................... ٢٨
٣٨ إلى ٤٠ ـ وفي موسى إذ أرسلنا................................................ ٢٨
٤١ و ٤٢ ـ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم
الريح........................................ ٢٩
٤٣ إلى ٤٦ ـ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا........................................... ٢٩
٤٧ إلى ٥١ ـ والسماء بنيناها بأيدٍ................................................ ٣٠
٥٢ إلى ٥٥ ـ كذلك ما أتى الذين من قبلهم....................................... ٣٨
٥٦ ـ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون......................................... ٣٢
٥٧ و ٥٨ ـ وما أريد منهم من رزقٍ............................................... ٣٣
٥٩ ـ فإن للذين ظلموا.......................................................... ٣٣
٦٠ ـ فويل للذين كفروا.......................................................... ٣٣
سورة
الطور
١ إلى ٨ ـ والطور............................................................... ٣٤
٩ إلى ١٢ ـ يوم تمور الساء....................................................... ٣٦
١٣ إلى ١٦ ـ يوم يدعون إلى نار جهنم........................................... ٣٦
١٧ إلى ٢٠ ـ إن المتقين في جنات ونعيم........................................... ٣٧
٢١ إلى ٢٣ ـ والذين آمنوا....................................................... ٣٨
٢٤ إلى ٢٨ ـ ويطوف عليهم غلمان.............................................. ٣٩
٢٩ إلى ٣١ ـ فذكر فما أنت بنعمة ربك.......................................... ٣٩
٣٢ إلى ٣٤ ـ أم ثأمرهم أحلامهم................................................ ٤٠
٣٥ إلى ٤٣ ـ أم خلقوا من غير شيء.............................................. ٤١
٤٤ ـ وإن يروا كسفاً............................................................ ٤٢
سورة
النجم
١ و ٢ ـ والنجم إذا هوى........................................................ ٤٤
٣ و ٤ ـ وما ينطق عن الهوى..................................................... ٤٥
٥ إلى ٧ ـ علمه شديد القوى.................................................... ٤٥
٨ إلى ١٠ ـ ثم دنا فتدلى........................................................ ٤٥
١١ و ١٢ ـ ما كذب الفؤاد ما رأى............................................... ٤٦
١٣ إلى ١٥ ـ ولقد رآه نزله أخرى................................................ ٤٦
١٦ إلى ١٨ ـ إذ يعشى السدرة................................................... ٤٦
١٩ و ٢٠ ـ أفرأيتم اللات والعزى................................................ ٤٧
٢١ و ٢٢ ـ ألكم الذكر وله الانثى............................................... ٤٧
٢٣ ـ إنّ هي إلاّ أسماء.......................................................... ٤٨
٢٤ و ٢٥ ـ أم للانسان ما تمنى.................................................. ٤٩
٢٦ ـ وكم من ملك في السماوات................................................. ٤٩
٢٧ و ٢٨ ـ إن الذين لا يؤمنون.................................................. ٤٩
٢٩ و ٣٠ ـ فاعرض عن من تولى................................................. ٤٩
٣١ و ٣٢ ـ ولله ما في السماوات................................................. ٥٠
٣٣ إلى ٤١ ـ أفرأيت الذي تولى................................................. ٥١
٤٢ إلى ٤٥ ـ وأن إلى ربك المنتهى................................................ ٥٢
٤٦ إلى ٤٩ ـ وأنه خلق الزوجين.................................................. ٥٣
٥٠ إلى ٥٦ ـ وأنه أهلك عاداً الأولى.............................................. ٥٤
سورة
القمر
١ و ٢ ـ اقتربت الساعة......................................................... ٥٦
٣ إلى ٥ ـ وكذبوا واتبعوا أهواءهم................................................. ٥٧
٦ إلى ٨ ـ فتول عنهم يوم يدع الداعي............................................. ٥٨
٩ و ١٠ ـ كذبت قبلهم قوم نوح................................................. ٥٨
١١ إلى ١٥ ـ ففتحنا أبواب السماء............................................... ٥٩
١٦ و ١٧ ـ فكيف كان عذابي ونذر.............................................. ٦٠
١٨ إلى ٢٢ ـ كذبت عاد....................................................... ٦٠
٢٣ إلى ٣٢ ـ كذبت ثمود بالنذر................................................. ٦١
٣٣ إلى ٤٠ ـ كذبت قوم لوط................................................... ٦٣
٤١ و ٤٢ ـ ولقد جاء آل فرعون................................................. ٦٤
٤٣ و ٤٤ ـ أكفاركم خير من أولئك.............................................. ٦٥
٤٩ إلى ٥١ ـ إنا كل شيء خلقناه بقدر........................................... ٦٦
٥٢ و ٥٣ ـ وكل شيء فعلوه في الزبر.............................................. ٦٧
٥٤ و ٥٥ ـ إن المتقين في جنات................................................. ٦٧
سورة
الرحمن
١ إلى ٤ ـ الرحمن ، علم القرآن................................................... ٦٨
٥ و ٦ ـ الشمس
والقمر یسجدان................................................ ٦٩
٧ إلى ٩ ـ والسماء رفعها........................................................ ٦٩
١٠ إلى ١٣ ـ والأرض وضعها للانام.............................................. ٧٠
١٤ إلى ١٦ ـ خلق الانسان من صلصال.......................................... ٧٢
١٧ و ١٨ ـ رب المشرقين........................................................ ٧٢
١٩ إلى ٢١ ـ مرج البحرين يلتقيان................................................ ٧٢
٢٢ و ٢٣ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان............................................. ٧٢
٢٤ و ٢٥ ـ وله الجوار المنشآت.................................................. ٧٣
٢٦ إلى ٢٨ ـ كل من عليها فان.................................................. ٧٣
٢٩ و ٣٠ ـ يسأله من في السماوات.............................................. ٧٤
٣١ و ٣٢ ـ سنفرغ لكم أيه الثقلان.............................................. ٧٤
٣٣ إلى ٣٦ ـ يا معشر الجن والإنس.............................................. ٧٥
٣٧ و ٣٨ ـ فإذا انشقت السماء................................................. ٧٦
٣٩ إلى ٤٥ ـ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه........................................... ٧٦
٤٦ إلى ٤٩ ـ ولمن خاف مقام ربه................................................ ٧٨
٥٠ إلى ٥٣ ـ فيهما عينان تجريان................................................. ٧٨
٥٤ و ٥٥ ـ متكثين على فرش................................................... ٧٨
٥٦ إلى ٥٩ ـ فيهن قاصرات الطرف.............................................. ٧٩
٦٠ و ٦١ ـ هل جزاء الاحسان إلا الاحسان...................................... ٧٩
٦٢ إلى ٦٩ ـ ومن دونهما جنتان................................................. ٨٠
٧٠ إلى ٧٨ ـ فيهن خيرات حسان................................................ ٨١
سورة
الواقعة
١ إلى ٣ ـ إذا وقعت الواقعة...................................................... ٨٣
٤ إلى ١٦ ـ إذا رجت الأرض.................................................... ٨٤
١٧ إلى ١٩ ـ ويطوف عليهم ولدان............................................... ٨٥
٢٠ إلى ٢٤ ـ وفاكهة مما يتخيرون................................................ ٨٦
٢٥ و ٢٦ ـ لا يسمعون فيها لغواً................................................. ٨٦
٢٧ إلى ٣٣ ـ وأصحاب اليمين................................................... ٨٧
٣٤ إلى ٤٠ ـ وفرش مرفوعة...................................................... ٨٧
٤١ إلى ٤٤ ـ وأصحاب الشمال................................................. ٨٩
٤٥ إلى ٤٨ ـ إنما كانوا قبل ذلك مترفين........................................... ٨٩
٤٩ إلى ٥٦ ـ قل إن الاولين والآخرین............................................. ٨٩
٥٧ ـ نحن خلقناكم فلولا تصدقون................................................ ٩٠
٥٨ إلى ٦٢ ـ أفرأيتم ما تمنون.................................................... ٩٠
٦٣ إلى ٦٧ ـ أفرأيتم ما تحرثون................................................... ٩١
٦٨ إلى ٧٠ ـ أفرأيتم الماء الذي تشربون........................................... ٩٢
٧١ إلى ٧٤ ـ أفرأيتم النار التي تورون.............................................. ٩٢
٧٥ إلى ٨٢ ـ فلا أقسم بمواقع النجوم............................................. ٩٣
٨٣ إلى ٨٧ ـ فلولا إذا بلغت الحلقوم.............................................. ٩٥
٨٨ إلى ٩١ ـ فأما إن كان من المقربين............................................. ٩٥
٩٢ إلى ٩٦ ـ وأما ان كان من المكذبين............................................ ٩٦
سورة
الحديد
١ إلى ٣ ـ سبح لله ما في السماوات............................................... ٩٨
٤ إلى ٦ ـ هو الذي خلق السماوات.............................................. ٩٩
٧ إلى ١٠ ـ آمنوا بالله ورسوله................................................... ١٠١
١١ إلى ١٥ ـ من ذا الذي يقرض الله............................................ ١٠٣
١٦ و ١٧ ـ ألم يأن للذين آمنوا................................................ ١٠٥
١٨ إلى ٢٠ ـ إن
المصدقين والمصدقات.......................................... ١٠٧
٢١ ـ إلى ٢٤ ـ سابقوا
إلى مغفرة من ربكم........................................ ١٠٨
٢٥ إلى ٢٧ ـ لقد
أرسلنا رسلنا بالبينات.......................................... ١١٠
٢٨ و ٢٩ ـ يا ايها
الذين آمنوا................................................. ١١٢
سورة المجادلة
١ ـ قد سمع الله
قول التي تجادلك في زوجها....................................... ١١٥
٢ إلى ٤ ـ الذين
يظاهرون منكم................................................ ١١٥
٥ و ٦ ـ إن الذين
يحادون الله.................................................. ١١٧
٧ و ٨ ـ ألم تر ان
الله يعلم ما في السماوات...................................... ١١٨
٩ و ١٠ ـ يا ايها
الذين آمنوا إذا تناجيتم......................................... ١١٩
١١ ـ يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم............................................ ١٢٠
١٢ و ١٣ ـ يا ايها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول................................. ١٢١
١٤ إلى ١٩ ـ ألم تر إلى الذين تولوا
قوماً......................................... ١٢٢
٢٠ إلى ٢٢ ـ إن الذين يحادون الله
ورسوله....................................... ١٢٤
سورة
الحشر
١ إلى ٤ ـ سبح لله ما في السماوات............................................. ١٢٧
٥ ـ ما قطعتم من لينة.......................................................... ١٢٨
٦ إلى ٨ ـ ما أفاء الله على رسوله منهم........................................... ١٢٩
٩ و ١٠ ـ والذين تبوؤا الدار.................................................... ١٣٠
١١ إلى ١٤ ـ ألم تر إلى الذين نافقوا............................................ ١٣٢
١٥ إلى ١٧ ـ كمثل الذين من قبلهم............................................ ١٣٤
١٨ إلى ٢٠ ـ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله......................................... ١٣٥
٢١ ـ لو أنزلنا هذا القرآن علد جبل............................................. ١٣٦
٢٢ إلى
٢٤ ـ هو الله الذي لا إله إلا هو........................................ ١٣٧
سورة
الممتحنة
١ إلى ٣ ـ يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي.................................... ١٣٩
٤ و ٥ ـ قد كان
لكم اسوة حسنة............................................... ١٤١
٦ و ٧ ـ لقد كان
لكم فيهم أسوة حسنة......................................... ١٤٢
٨ و ٩ ـ لا ينهاكم
الله عن الذين لم يقاتلونكم.................................... ١٤٣
١٠ و ١١ ـ يا ايها
الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات................................ ١٤٤
١٢ و ١٣ ـ يا ايها النبي إذا جاءك
المؤمنات...................................... ١٤٦
سورة
الصف
ا إلى ٤ ـ سبح لله ما في السماوات............................................... ١٤٩
٥ و ٦ ـ وإذ قال موسى لقومه.................................................. ١٥٠
٧ إلى ٩ ـ ومن أظلم ممن افترى................................................. ١٥١
١٠ إلى ١٣ ـ يا ايها الذين آمنوا هل أدلكم...................................... ١٥٢
١٤ ـ يا ايها الذين آمنوا کونوا انصار الله......................................... ١٥٤
سورة
الجمعة
١ إلى ٤ ـ يسبح لله ما في السماوات............................................. ١٥٥
٥ إلى ٨ ـ مثل الذين حملوا التوراة................................................ ١٥٧
٩ إلى ١١ ـ يا ايها الذين آمنوا.................................................. ١٥٩
سورة
المنافقون
١ الى ٣ ـ إذا جاءك المنافقون................................................... ١٦١
٤ إلى ٦ ـ وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم......................................... ١٦٣
٧ و ٨ ـ هم الذين يقولون..................................................... ١٦٤
٩ إلى ١١ ـ يا ايها الذين آمنوا.................................................. ١٦٦
سورة
التغابن
١ الى ٤ ـ يسبح لله ما في السماوات............................................. ١٦٨
٥ و ٦ ـ ألم يأتكم نبأ الذين كفروا.............................................. ١٧٠
٧ إلى ١٠ ـ زعم الذين كفروا................................................... ١٧١
١١ إلى ١٣ ـ ما أصاب من مصيبة.............................................. ١٧٢
١٤ إلى ١٨ ـ يا ايها الذين آمنوا................................................ ١٧٣
سورة
الطلاق
١ الى ٣ ـ يا ايها النبي......................................................... ١٧٦
٤ و ٥ ـ واللائي يشن من المحيض............................................... ١٧٨
٦ و ٧ ـ اسكنوهن من حيث سكنتم............................................ ١٨٠
٨ إلى ١١ ـ وكأين من قرية..................................................... ١٨١
١٢ ـ الله الذي خلق سبع سماوات............................................... ١٨٢
سورة
التحريم
١ و ٢ ـ يا ايها النبي لم تحرم ما أحل
الله لك...................................... ١٨٤
٣ إلى ٥ ـ وإذا أسرّ النبي....................................................... ١٨٦
٦ ـ يا ايها الذين آمنوا قوا أنفسكم.............................................. ١٨٩
١٠ ـ ١٢ ـ ضرب الله مثلاً للذين كفروا.......................................... ١٩١
سورة
الملك
١ الى ٤ ـ تبارك الذي بيده الملك................................................ ١٩٣
٥ ـ ولقد زينا السماء الدنيا..................................................... ١٩٥
٦ ـ وللذين كفروا بربهم......................................................... ١٩٥
٧ إلى ٩ ـ إذا لقوا فيها سمعوا................................................... ١٩٥
١٠ و ١١ ـ وقالوا لو كنا نسمع................................................ ١٩٦
١٢ ـ إن الذين يخشون ربهم.................................................... ١٩٦
١٣ و ١٤ ـ وأسروا قولهم...................................................... ١٩٧
١٥ ـ هو الذي جعل لكم الارض ذلولا.......................................... ١٩٧
١٦ و ١٧ ـ أأمنتم من في السماء............................................... ١٩٨
١٨ ـ ولقد كذب الذين من قبلهم............................................... ١٩٨
١٩ ـ أو لم يروا إلى الطير....................................................... ١٩٩
٢٠ ـ ام من هذا الذي هو جند لكم............................................ ١٩٩
٢١ ـ ام من هذا الذي يرزقكم.................................................. ٢٠٠
٢٣ ـ أفمن يمشي مكبأ على وجهه.............................................. ٢٠٠
٢٣ ـ قل هو الذي أنشأكم.................................................... ٢٠٠
٢٤ ـ قل هو الذي ذرأكم...................................................... ٢٠٠
٢٥ و ٢٦ ـ ويقولون متى هذا الوعد............................................. ٢٠١
٢٧ ـ فلما رأوه زلفة........................................................... ٢٠٢
٢٨ ـ قل أرأيتم إن أهلكني..................................................... ٢٠٢
٢٩ ـ قل هو الرحمن........................................................... ٢٠٢
٣٠ ـ قل أرايتم ان أصبح ماؤكم غوراً............................................. ٢٠٣
سورة
القلم
١ إلى ٤ ـ ن ، والقلم.......................................................... ٢٠٤
٥ و ٦ ـ فستبصر ويبصرون.................................................... ٢٠٦
٧ ـ إن ربك هو أعلم.......................................................... ٢٠٦
٨ و ٩ ـ فلا تطع المكذبين..................................................... ٢٠٧
١٠ إلى ١٦ ـ ولا تطع كل حلاّف.............................................. ٢٠٧
١٧ و ١٨ ـ إنما بلوناهم....................................................... ٢٠٨
١٩ و ٢٠ فطاف عليها طائف................................................. ٢٠٩
٢١ الى ٢٥ ـ فتنادوا مصبحين.................................................. ٢١٠
٢٦ و ٢٧ ـ فلما رأوها قالت................................................... ٢١٠
٢٨ و ٢٩ ـ قال أوسطهم ألم أقل لكم.......................................... ٢١٠
٣٠ إلى ٣٣ ـ فأقبل بعضهم على بعض.......................................... ٢١١
٣٤ ـ إن للمتقين عند ربهم..................................................... ٢١١
٣٥ إلى ٣٨ ـ أفنجعل المسلمين كالمجرمين......................................... ٢١٢
٣٩ ـ أم لكم أيمان علينا....................................................... ٢١٢
٤٠ و ٤١ ـ سلهم أيهم بذلك زعيم............................................. ٢١٣
٤٢ و ٤٣ ـ يوم يكشف عن ساق.............................................. ٢١٣
٤٤ و ٤٥ ـ فذرني ومن يكذب................................................. ٢١٤
٤٦ و ٤٧ ـ أم تسألم أجراً..................................................... ٢١٥
٤٨ الى ٥٠ ـ فاصبر لحكم ربك................................................ ٢١٥
٥١ و ٥٢ ـ وإن يكاد الذين كفروا.............................................. ٢١٥
سورة
الحاقة
١ إلى ٣ ـ الحاقة ، ما الحاقة.................................................... ٢١٧
٤ الى ٨ ـ كذبت ثمود......................................................... ٢١٨
٩ و ١٠ ـ وجاء فرعون ومن قبله................................................ ٢١٨
١١ و ١٢ وإنا لما طغى الماء.................................................... ٢١٩
١٣ إلى ١٥ ـ فإذا نفخ في الصور............................................... ٢٢٠
١٦ إلى ١٨ ـ وانشقت السماء................................................. ٢٢٠
١٩ إلى ٢٤ ـ فأما من أوتي كتابه بيمينه.......................................... ٢٢١
٢٥ إلى ٢٩ ـ وأما من أوتي كتابه بشماله......................................... ٢٢٢
٣٠ إلى ٣٧ ـ خذوه فغلوه...................................................... ٢٢٢
٣٨ إلى ٤٣ ـ فلا أقسم بما تبصرون............................................. ٢٢٤
٤٤ إلى ٤٧ ـ ولو تقول علينا................................................... ٢٢٤
٤٨ ـ وانه لتذكرة للمتقين...................................................... ٢٢٤
سورة
المعارج
١ الى ٤ ـ سأل سائل بعذاب واقع............................................... ٢٢٦
٥ الى
٧ ـ فاصبر صبراً جميلاً.................................................... ٢٢٧
٨ الى ١٠ ـ يوم تكون السماء كالمهل............................................ ٢٢٨
١١ الى ١٤ ـ يبصرونهم يود المجرم............................................... ٢٢٨
١٥ إلى ١٨ ـ كلا إنها لظى.................................................... ٢٣٠
١٩ إلى ٢٣ ـ إن الانسان خلق هلوعا........................................... ٢٣٠
٢٤ إلى ٢٨ ـ والذين في اموالهم حق معلوم........................................ ٢٣١
٢٩ إلى ٣١ ـ والذين هم لفروجهم حافظون...................................... ٢٣١
٣٢ إلى ٣٥ ـ والذين هم لأماناتهم.............................................. ٢٣١
٣٦ إلى ٣٨ ـ فمال الذين كفروا................................................ ٢٣٢
٣٩ ـ كلا ، إنا خلقناهم مما يعلمون............................................. ٢٣٣
٤٠ ـ فلا أقسم برب المشارق................................................... ٢٣٣
سورة
نوح
١ إلى ٤ ـ إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه.............................................. ٢٣٥
٥ إلى ٧ ـ قال رب إني دعوت قومي............................................. ٢٣٧
٨ إلى ١٢ ـ ثم إني اعلنت لهم.................................................. ٢٣٧
١٢ إلى ١٤ ـ مالكم لاترجون لله وقاراً........................................... ٢٣٨
١٥ و ١٦ ـ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات.................................. ٢٣٩
١٧ و ١٨ ـ والله انبتكم من الارض نباتاً......................................... ٢٣٩
١٩ و ٢٠ ـ والله جعل لكم الارض بساطاً....................................... ٢٣٩
٢١ إلى ٢٥ ـ قال نوح رب انهم عصوني......................................... ٢٤٠
٢٦ إلى ٢٨ ـ وقال نوح رب لا تذر على
الارض.................................. ٢٤٢
سورة
الجن
١ و ٢ ـ قل أوحي إلىّ انه استمع نفر من
الجن.................................... ٢٤٤
٣ و ٤ ـ وانه تعالى جد ربنا..................................................... ٢٤٥
٥ إلى ٧ ـ وانا ظننا أنلن نقول.................................................. ٢٤٦
٨ الى ١٠ ـ وانا لمسنا السماء................................................... ٢٤٧
١١ إلى ١٥ ـ وانا منا الصالحون................................................. ٢٤٨
١٦ إلى ١٧ ـ وأن لو استقاموا.................................................. ٢٤٩
١٨ ـ وأن المساجد لله.......................................................... ٢٥٠
١٩ و ٢٠ ـ وانه لما قام عبد الله................................................. ٢٥٠
٢١ و ٢٤ ـ قل إنما لا املك لكم ضراً........................................... ٢٥١
٢٥ إلى ٢٨ ـ قل إن ادري أقريب............................................... ٢٥٢
سورة
المزمل
١ إلى ٤ ـ يا ايها المزمل ، قم الليل
إلا قليلاً....................................... ٢٥٤
٦ إلى ١٠ ـ إن ناشئة الليل هي أشد وطأ........................................ ٢٥٦
١١ ـ إلى ١٤ ـ ذرني والمكذبين أولي
النعمة....................................... ٢٥٧
١٥ إلى ١٩ ـ إنا ارسلنا اليكم رسولاً............................................ ٢٥٨
٢٠ ـ إن ربك يعلم انك تقوم أدنى.............................................. ٢٥٩
سورة
المدثر
١ إلى ٧ ـ يا ايها المدثر ، قم فأنذر.............................................. ٢٦٢
٨ إلى ١٠ ـ فإذا نقر في الناقور................................................. ٢٦٣
١١ إلى ١٧ ـ ذرني ومن خلقت وحيداً........................................... ٢٦٤
١٨ إلى ٣١ ـ انه فكر وقدر.................................................... ٢٦٥
٣٨ إلى ٤٨ ـ كل نفس بما كسبت رهينة......................................... ٢٦٩
٤٩ إلى ٥٦ ـ فما لهم عن التذكرة معرضين....................................... ٢٧٠
سورة
القيامة
١ إلى ٤ ـ لا اقسم بيوم القيامة................................................. ٢٧٢
٥ إلى ١٥ ـ بل يريد الانسان ليفجر أمامه........................................ ٢٧٣
١٦ إلى ١٩ ـ لا تحرك به لسانك لتعجلبه........................................ ٢٧٥
٢٠ إلى ٢٥ ـ كلا بل تحبون العاجلة............................................. ٢٧٦
٢٦ إلى ٣٠ ـ كلا إذا بلغت التراقي............................................. ٢٧٧
٣١ إلى ٤٠ ـ فلا صدق ولا صلى.............................................. ٢٧٧
سورة
الانسان
١ الى ٤ ـ هل أتى على الانسان حينّ........................................... ٢٧٩
٥ و ٦ ـ إن الابرار يشربون من كأس............................................ ٢٨١
٧ إلى ١٠ ـ يوفون بالنذر...................................................... ٢٨٣
١١ إلى ١٨ ـ فوقاهم الله شر ذلك اليوم......................................... ٢٨٤
١٩ إلى ٢٢ ـ ويطوف عليهم ولدان............................................. ٢٨٥
٢٣ إلى ٢٦ ـ إنا نحن نزلنا عليك القرآن......................................... ٢٨٦
٢٧
إلى ٣١ ـ إن هؤلاء يحبون العاجلة........................................... ٢٨٧
سورة
المرسلات
١ إلى ٧ ـ والمرسلات عرفاً...................................................... ٢٨٩
٨ إلى ١٥ ـ فإذا النجوم طمست............................................... ٢٩٠
١٦ إلى ١٩ ـ ألم نهلك الاولين................................................. ٢٩١
٢٠ إلى ٢٤ ـ ألم نخلقكم من ماء مهين.......................................... ٢٩١
٢٥ إلى ٢٨ ـ ألم نجعل الارض كفاتاً............................................. ٢٩٢
٢٩ إلى ٣٤ ـ انطلقوا إلى ما كنتم به
تكذبون..................................... ٢٩٢
٣٥ إلى ٤٠ ـ هذا يوم لا ينطقون............................................... ٢٩٢
٤١ إلى ٤٥ ـ إن المتقين في ظلال............................................... ٢٩٤
٤٦ إلى ٥٠ ـ كلوا وتمتعوا قليلاً................................................. ٢٩٥
سورة
عم
١ إلى ٥ ـ عم يتساءلون....................................................... ٢٩٦
٦ إلى ١٦ ـ ألم نجعل الارض مهاداً.............................................. ٢٩٧
١٧ إلى ٢٠ ـ إن يوم الفصل كان ميقاتاً......................................... ٢٩٩
٢١ إلى ٣٠ ـ إن جهنم كانت مرصاداً........................................... ٣٠٠
٣١ إلى ٤٠ ـ إن للمتقين مفازاً................................................. ٣٠٢
سورة
النازعات
١ إلى ٥ ـ والنازعات غرقاً...................................................... ٣٠٦
٦ إلى ١٤ ـ يوم ترجف الراجفة................................................. ٣٠٧
١٥ إلى ٢٦ ـ هل أتاك حديث موسى........................................... ٣٠٩
٢٧ إلى ٣٣ ـ أأنتم اشد خلقاً.................................................. ٣١٠
٣٤ إلى ٤١ ـ فإذا جاءت الطامة الكبرى......................................... ٣١١
٤٢ إلى ٤٦ ـ يسألونك عن الساعة............................................. ٣١٢
سورة
عبس
١ إلى ١٠ ـ عبسى وتولى...................................................... ٣١٤
١١ إلى ٢٣ ـ كلا انها تذكرة.................................................... ٣١٦
٢٤ إلى ٣٢ ـ فلينظر الانسان.................................................. ٣١٨
٣٣ إلى ٤٢ ـ فإذا جاءت الصاخة.............................................. ٣١٩
تفسير
سورة التكوير
١ إلى ١٤ ـ إذا الشمس كورت................................................. ٣٢٢
١٥ إلى ٢٢ ـ فلا أقسم بالخنس................................................ ٣٢٤
سورة
الانفطار
١ إلى ٥ ـ إذا السماء انفطرت.................................................. ٣٢٨
٦ إلى ١٢ ـ يا أيها الانسان ما عرك............................................. ٣٢٩
١٣ إلى ١٩ ـ إن الابرار لفي نعيم............................................... ٣٣١
سورة
المطففين
١ إلى ٥ ـ ويل للمطففين...................................................... ٣٣٢
٦ إلى ١٦ ـ كلا إن كتاب الفجار............................................... ٣٣٤
١٧ إلى ٢٨ ـ كلا إن كتاب الابرار لفي
عليين.................................... ٣٣٥
٢٩ إلى ٣٦ ـ إن الذين اجرموا.................................................. ٣٣٧
سورة
الانشقاق
١ إلى ٦ ـ إذا السماء انشقت.................................................. ٣٤٠
٧ إلى ١٥ ـ فأما من أوتي كتابه بيمينه........................................... ٣٤١
١٦ إلى ٢٥ ـ فلا أقسم بالشفق................................................ ٣٤٣
سورة
البروج
١ الى ٩ ـ والسماء ذات البروج................................................. ٣٤٦
١٠ إلى ٢٢ ـ إن الذين فتنوا المؤمنين............................................ ٣٥٠
سورة
الطارق
١ إلى ٤ ـ والسماء والطارق.................................................... ٣٥٢
٥ إلى ١٠ ـ فلينظر الانسان مما خلق............................................. ٣٥٣
١١ إلى ١٧ ـ والسماء ذات الرجع.............................................. ٣٥٤
سورة
الأعلى
١ إلى ٥ ـ سبح اسم ربك الأعلى............................................... ٣٥٦
٦ إلى ١٣ ـ سنقرئك فلا تنسى................................................. ٣٥٧
١٤ إلى ١٩ ـ قد افلج من تزكّى................................................. ٣٥٩
سورة
الغاشية
١ إلى ١٥ ـ هل أتاك حديث الغاشية............................................ ٣٦٢
١٦ إلى ٢٦ ـ أفلا ينظرون إلى الابل............................................. ٣٦٥
سورة
الفجر
١ إلى ١٤ ـ والفجر وليال عشر................................................. ٣٦٨
١٥ إلى ٣٠ ـ فأما الانسان إذا ما ابتلاه
ربه...................................... ٣٧٢
سورة
البلد
١ إلى ٥ ـ لا اقسم بهذا البلد................................................... ٣٧٦
٦ إلى ١٦ ـ يقول أهلكت مالا لبداً............................................. ٣٧٧
١٧ إلى ٢٠ ـ ثم كان من الذين آمنوا............................................ ٣٧٩
سورة
الشمس
١ إلى ١٠ ـ والشمس وضحاها................................................. ٣٨٠
١١ إلى ١٥ ـ كذبت ثمود بطغواها.............................................. ٣٨٢
سورة
الليل
١ إلى ١١ ـ والليل إذا يغشى................................................... ٣٨٤
١٢ إلى ٢١ ـ إن علينا للهدى.................................................. ٣٨٦
سورة
الضحى
١ إلى ٥ ـ والضحى ، والليل إذا سجى.......................................... ٣٨٨
٦ إلى ١١ ـ ألم يجدك يتيما فآوى............................................... ٣٩٠
سورة
الانشراح
١ إلى ٨ ـ ألم نشرح لك صدرك................................................. ٣٩٢
سورة
التين
١ إلى ٨ ـ والتين والزيتون....................................................... ٣٩٤
سورة
العلق
١ إلى ٥ ـ أقرأ باسم ربك...................................................... ٣٩٨
٦ إلى ١٩ ـ كلا إن الانسان ليطغى............................................. ٤٠٠
سورة
القدر
١ إلى ٥ ـ إنا انزلناه في ليلة القدر............................................... ٤٠٤
سورة
البينة
١ إلى ٥ ـ لم يكن الذين كفروا.................................................. ٤٠٨
٦ إلى ٨ ـ ان الذين كفروا من اهل الكتاب....................................... ٤١٠
سورة
الزلزلة
١ إلى ٨ ـ إذا زلزلت الارض زلزالها............................................... ٤١٢
سورة
العاديات
١ إلى ١١ ـ والعاديات ضبحاً................................................... ٤١٤
سورة
القارعة
١ إلى ١١ ـ القارعة ما القارعة.................................................. ٤١٨
سورة
التكاثر
١ إلى ٨ ـ ألهاكم التكاثر....................................................... ٤٢٠
سورة
العصر
١ إلى ٣ ـ والعصر إن الانسان لفي خسر........................................ ٤٢٤
سورة
الهمزة
١ إلى ٩ ـ ويل لكل همزة لمزة.................................................... ٤٢٦
سورة
الفيل
١ إلى ٥ ـ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب
الفيل.................................. ٤٢٨
سورة
قريش
١ إلى ٤ ـ لإيلاف قريش....................................................... ٤٣٢
سورة
الماعون
١ إلى ٧ ـ أرايت الذي يكذب بالدين........................................... ٤٣٤
سورة
الكوثر
١ إلى ٣ ـ إنا اعطيناك الكوثر.................................................. ٤٣٦
سورة
الكافرون
١ إلى ٦ ـ قل يا ايها الكافرون.................................................. ٤٤٠
سورة
النصر
١ إلى ٣ ـ إذا جاء نصر الله والفتح.............................................. ٤٤٢
سورة
المسد
١ إلى ٥ ـ تبّت يدا أبي لهب.................................................... ٤٤٨
سورة
الاخلاص
١ إلى ٤ ـ قل هو الله أحد..................................................... ٤٥٢
سورة
الفلق
١ إلى ٥ ـ قل اعوذ برب الفلق.................................................. ٤٥٦
سورة
الناس
١ إلى ٦ ـ قل أعوذ برب الناس................................................. ٤٥٨
|