

سورة يس
مكية وآياتها ٨٣
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يس (١) وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ
الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً
ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(٧))
١ ـ (يس ...)
في المعاني عن
الصّادق عليهالسلام : وأمّا يس فاسم من أسماء النبيّ صلىاللهعليهوآله، ومعناه : يا أيّها السّامع للوحي. وعن الباقر عليهالسلام قال : إن لرسول الله صلىاللهعليهوآله له عشرة أسماء ، خمسة في القرآن ، وخمسة ليست في القرآن.
فأمّا التي في القرآن : محمّد ، وأحمد ، وعبد الله ، ويس ، ون. والرّوايات
والأقوال بذلك المضمون كثيرة. وقيل معناه يا إنسان ، ويحتمل على هذا التفسير ، أن
يكون
المخاطب هو
الإنسان الكامل وهو محمّد صلىاللهعليهوآله ، فلا ينافي الرّوايات والأقوال الأخر ، قال الصّادق عليهالسلام : يس اسم رسول الله والدّليل قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
٢ ـ (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ... الواو للقسم. أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من تطرّق
البطلان إليه أو سمّاه حكيما لما فيه من الحكمة ، فكأنه المظهر للحكمة الناطق بها
في عين كونه صامتا لكثرة ظهور الحكمة منه والحلف به إشارة ورمز إلى عظمته فإن
المقسم به لا بدّ من كونه ذا شأن وعظمة ولا سيّما إذا كان الحالف ذا شأن وسمّو.
٣ و ٤ ـ (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ... الصراط المستقيم هو التوحيد والاستقامة في الأمور.
قال الصّادق عليهالسلام : على الطريق الواضح.
٥ ـ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ... أي منزّل ذلك من عند (الْعَزِيزِ) أي الغالب. وحرّك بالكسر صفة للقرآن ، وحفص قرأ بالنصب بتقدير
أعني ، وبالرفع خبرا لمحذوف.
٦ ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ
آباؤُهُمْ) ... (ما) نافية أي : لم ينذر آباؤهم القريبون لبعد زمان الفترة
وطولها ، فلم ينذرهم في الفترة رسول بشريعة وإن كان فيها أوصياء لامتناع خلوّ
الزمان من حجة (فَهُمْ غافِلُونَ) عمّا تضمّنه القرآن وعمّا أنذر الله به من نزول العذاب.
والغفلة حالة مثل السّهو وهو ذهاب المعنى عن النفس الناطقة. والحاصل أن الضمير في
قوله (فَهُمْ غافِلُونَ) راجع إلى الآباء.
وأمّا بناء على
كون (ما) مصدريّة فالضمير المزبور راجع إلى القوم. والمعنى على
المصدرية هكذا : لتنذر قوما مثل إنذار آبائهم الذين كانوا في زمن أنبيائهم كعيسى
وموسى ونحوهما.
٧ ـ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى
أَكْثَرِهِمْ) ... أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب على معانديهم ومنكري
التوحيد (فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) أي يموتون على جحودهم وكفرهم ، ولمّا لم يقرّوا بالتوحيد
ولا بالنبوّة ، ولا بالولاية لأمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليهمالسلام على ما في الروايات الكثيرة كانت عقوبتهم ما بيّنه الله
تعالى :
* * *
(إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ
بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))
٨ ـ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ... يعني أيديهم ، كنّى عنها وإن لم يذكرها لأن الأعناق
والأغلال تدلّان عليها ، وذلك لأنّ الغلّ إنّما يجمع اليد إلى الذّقن فيما إذا كان
يراد أن تشدا إلى العنق ، لأن الغل في الأكثر لا يكون في العنق دون اليد ، ولا في
اليد دون العنق (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي مرفوعة رؤوسهم لا يستطيعون خفضها ولا تحريكها ،
لأنّ أيديهم لما
غلّت إلى أعناقهم ورفعت الأغلال إلى أذقانهم صارت رؤوسهم مرفوعة قهرا برفع الأغلال
لها فلا يستطيعون تحريكها لضيق الغلّ وتحكمه عند أذقانهم.
٩ ـ (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَدًّا ... فَأَغْشَيْناهُمْ) ... أي غطّيناهم. وروى القمّي أن الباقر عليهالسلام يقول : فأعميناهم (فَهُمْ لا
يُبْصِرُونَ) الهدى. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام قال : هذا في الدّنيا ، وفي الآخرة في نار جهنم مقمحون.
١٠ و ١١ ـ (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ... فهؤلاء المذكورون في الآيات السابقة لا تفيد معهم
الذكرى ولا ينفعهم الإنذار لأنهم لا يؤمنون بقولك لفرط عنادهم وكفرهم. وأنت (إِنَّما تُنْذِرُ) تخوّف (مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ) تابع هذا القرآن واستمع لمقالته واتّعظ بمواعظه ، وفي
الكافي أن القول يعني أمير المؤمنين عليهالسلام (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ) أي صدّق بما غاب عنه من الأمور الأخروية. فهذا الذي يكون
بهذه الصفة المذكورة (فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي جزاء عظيم وعفو عن ذنوبه.
١٢ ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) ... هذه ردّ على منكري البعث ولذا أكّده بقوله (إِنَّا) وبالضمير (نَحْنُ وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا) أي نحصي ما قدّموا وأسلفوا من الأعمال الصّالحة والأفعال
الطالحة ، وكذلك نكتب ما أخّروا. وهذه الجملة ما ذكرها واكتفى بذكر الأولى مثل
قوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) والمراد (البرد) أيضا لأن ذكر الأولى يدل على الثانية (وَآثارَهُمْ) اي ما يقتدى بهم فيه من بعدهم من حسنة وسيّئة. وقيل ونكتب
خطاهم إلى المسجد. وجهة ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري من أن بني سلمة كانوا في
ناحية من المدينة فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه
وآله بعد منازلهم
عن المسجد والصلاة معه فنزلت الآية فظلّوا في دورهم ثابتين ، فقال صلىاللهعليهوآله إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليها فالزموا بيوتكم وكانوا
قبل ذلك ناوين على الانتقال من منازلهم فرجعوا عما نووا والتزموا بيوتهم (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ
مُبِينٍ) أي عدّدناه في اللّوح المحفوظ ، أو هو عليّ بن أبي طالب عليهماالسلام فإن علم جميع الحوادث من الخير والشر عنده. وفي الاحتجاج
عن النّبيّ في حديث قال : معاشر الناس ما من علم إلّا علّمنيه ربّي وأنا علّمته
عليّا. وبهذا المضمون روايات كثيرة. وقيل أراد به صحائف الأعمال ، وسمّي (مبينا)
لأنه لا يدرس أثره. وفي المعاني عن الباقر عن أبيه عن جدّه عليهمالسلام قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوآله (وَكُلَّ شَيْءٍ) الآية قام أبو بكر وعمر من مجلسهما وقالا يا رسول الله هو
التوراة؟ قال : لا. قالا فهو الإنجيل؟ قال : لا. قالا : فهو القرآن؟ قال فأقبل
أمير المؤمنين عليهالسلام فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : هو هذا ، إنه الإمام الذي أحصى الله فيه علم كلّ شيء ثم
إنه تعالى أمر رسوله على أن يمثّل لأهله أي أهل مكة بأهل أنطاكية في رسوخ الكفر
والعناد وعدم الطاعة والانقياد مع وجود المعجزات الظاهرات والآيات الواضحات فقال
عزّ من قائل :
* * *
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ
إِلاَّ
بَشَرٌ
مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥)
قالُوا
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦)
وَما
عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))
١٣ و ١٤ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ) ... أي مثّل لهم مثالا ، من قولهم : هؤلاء أضراب ، أي :
أمثال. وقيل معناه واذكر لهم مثلا. والمراد من القرية قرية أنطاكية فأهلها كانوا
عبدة أوثان مثل أهل مكة (إِذْ جاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ) أي حينما جاءهم رسل عيسى عليهالسلام بأمر الله سبحانه فاذكر لهم (إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) كانا مسمّيين بصادق ومصدّق أو صدوق وقيل يوحنّا ويونس وقيل
غيرهما من ياروص وماروص وقد أرسلا لدعوة الناس إلى الله تعالى وتوحيده فسمع الناس
منهما مقالة لا يعرفونها فأخذوهما وسجنوهما في بيت الأصنام فبعث الله الثالث فدخل
المدينة فقال : أرشدوني إلى باب الملك فأرشدوه إليه. فلما وقف على الباب قال أنا
رجل كنت أتعبّد في فلاة من الأرض وقد أحببت أن أعبد إله الملك. فأبلغوا كلامه
للملك فقال : أدخلوه إلى بيت الآلهة. فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه ، إلى آخر
الحديث. فإشارته إلى قضية هؤلاء الرّسل الثلاثة. وقوله (فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوّيناهما بالرجل الثالث من الحوارّيين (فَقالُوا) أي الرسل قالوا للكفرة : (إِنَّا إِلَيْكُمْ
مُرْسَلُونَ) أي يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم لنرشدكم إلى الحق.
١٥ ـ (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُنا) ... أي لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بالرّسالة إلينا
(وَما أَنْزَلَ
الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) من وحي ورسالة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعواكم ، فقد اعتقدوا أن من كان
مثلهم في لباس البشرية لا يصلح أن يكون رسولا ، ولم يعلموا أن الله عزّ اسمه يختار
من يشاء لرسالته سواء كان آدميّا أو غيره.
١٦ ـ (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ... انما قال الرّسل ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة
كإبراء الأكمه والأبرص وشفاء الأعمى وإحياء الموتى كابن الملك وغيره كما قرّر في
محلّه ولم يقبلوها ، ووجه الاحتجاج بهذا القول أنّهم ألزموهم بذلك النظر في
معجزاتهم ليعلموا أنهم صادقون على الله. ففي ذلك القول تحذير شديد لأن قولهم أنّ
الله (يَعْلَمُ) هذا استشهاد بعلمه تعالى وهو يجري مجرى القسم وإشارة إلى
أنّهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا ادّعاءهم بل عادوا وكرّروا القول عليهم
وأكّدوه بلام التأكيد واستشهدوا بعلم الله في رسالتهم كما قلنا آنفا.
١٧ ـ (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) ... أي ليس يلزمنا إلّا أداء الرّسالة والتّبليغ الظاهر
ولا نقدر أن نحملكم على الإيمان ونرغمكم عليه.
١٨ ـ (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) ... أي هؤلاء الكفرة قالوا في جواب الرّسل حين عجزوا عن
إيراد جواب يقنعهم ، ولا أقلّ من إيقاع الرّسل في الشّبهة وعدلوا عن النظر في
المعجزة فقالوا : نحن تشأّمنا بكم فإنكم من يوم جئتمونا ، انقطع المطر وجفّت
مياهنا ويبست مزارعنا وأشجارنا (لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا) عن مقالتكم من دعوى الرّسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنهلكنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن تكون هذه الجملة بيانا لقولهم لنرجمنّكم ، ولذلك
أجابهم الرّسل بقولهم :
١٩ ـ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ... أي سوء عقيدتكم الفاسدة وتشؤمكم وأعمالكم الباطلة صارت
أسبابا لما تقولون وتنسبونه إلينا لا دعوتنا إياكم إلى الله تعالى وتوحيده فإنها
غاية خير ويمن وبركة (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي لو وعظتم بموعظة ونصح فيه خير الدنيا والآخرة ، فجواب
الناصح الواعظ وجزاؤه هو التطيّر به ووعيده بالرّجم والتعذيب. فجواب (إِنْ) الشرطيّة محذوف بقرينة المقام (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي عادتكم الإسراف ، وليس فينا ما يوجب التشائم بنا
ولكنّكم متجاوزون عن حدّ الشرع والشريعة والعقل والعقلاء في تكذيبكم للرّسل الذين
جاؤوكم بما فيه صلاحكم الدنيويّ والأخروي ومعهم لما يدّعونه من الرسالة البيّنات
والحجج الظاهرة فلا عذر لكم عند ربّكم فأنتم مستحقّون للعذاب الأليم (ومعنى
الإسراف الإفساد ومجاوزة الحدّ والشرّ والفساد).
* * *
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠)
اتَّبِعُوا
مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ
شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي
يَعْلَمُونَ
(٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ (٢٧))
٢٠ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعى) ... وهو حبيب النجار المعروف بمؤمن آل يس في الرّوايات
التي وردت بشأنه رضوان الله تعالى عليه. والمراد من (أَقْصَا) أي أبعد ناحية من نواحي البلد جاء وهو يعدو ويركض و (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ) أي نادى أهل بلده وأمرهم بالمعروف من اتّباع الرّسل وأقرّ
هو برسالتهم قبل ذلك. قال المفسّرون : إنما علم بنبوّتهم لأنهم لما دعوه قال : أتأخذون
على ذلك أجرا؟ قالوا : لا ففهم صدق دعواهم. وقيل كان به زمانة أو جذام فأبرأوه
فآمن بهم. ونقل هذا عن ابن عباس. وقال القمّي : نزلت في حبيب النجار إلى قوله : (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). وقيل إنه آمن بمحمّد صلىاللهعليهوآله وبينهما ستّمائة سنة ولعلّه لهذه الجهة صار معروفا بمؤمن
آل يس. وقيل كان في غار يعبد الله فلمّا بلغه خبر الرّسل أظهر دينه الذي كان عليه
طبق شرع زمانه وجاء رسوله به في ذلك العصر. وفي المجالس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : الصّدّيقون ثلاثة : حبيب النّجار مؤمن آل يس الذي
يقول اتّبعوا المرسلين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب عليهالسلام وهو أفضلهم. وفي الجوامع عنه صلىاللهعليهوآله قال : سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي
بن أبي طالب عليهالسلام ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصديقون وعليّ أفضلهم.
وفي رواية الخصال عنه عليهالسلام : ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين : مؤمن آل يس ، وعلي بن
أبي طالب عليهالسلام ، وآسية امرأة فرعون.
٢١ ـ (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً) ... أي على النصح وتبليغ الرّسالة. ولعلّ عدم سؤال الأجر
من الدّعاة على الدّعوة كان في ذلك العصر رمزا على صدق دعواهم كما أشرنا إليه آنفا
في إيمان الحبيب ، وإلّا
فما معنى قوله في
أمره إياهم بالمتابعة للرّسل بتعليله بحسب الواقع بعدم سؤال الرّسل أجرا على إبلاغ
الرّسالة وتبليغهم الأحكام. اللهم إلا أن نقول بأن الناس كانوا في تلك الأعصار في
ضنك المعاش ، ولو كان إيمانهم بالرّسل متوقفا على إعطاء الرّسل أجرا لم يصدّقوهم
ولم يؤمنوا بهم. ولذا تشويقا لهم وتنبيها على ذلك المعنى قال : لا يسألكم أجرا
فالله اعلم بما قال (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق وهم يهدونكم إلى خير الدارين إن كنتم تتفكّرون
فيما يقول الرّسل وتعقلونه بعين المعرفة.
٢٢ ـ (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي
فَطَرَنِي) ... أي لم لا أعتقد بوحدانيّة الخالق ولا أعبد الذي خلقني
وجاء بي من العدم إلى الوجود. ولا يخفى أن إضافة الخلق إلى نفسه دالة على إظهار
الشكر والتلطّف في الإرشاد ومحض النصح ، لأنه ما طلب لنفسه أراده لهم ، وكان قصده
في هذا البيان تقريعهم على ترك عبادة الخالق والاشتغال بعبادة معبود مصنوع لهم ،
وهو لا يضرّ ولا ينفع (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) هذا مضافا إلى تنبيههم على خالقهم وأنه هو الذي يستحقّ
العبادة وحده ، وقد عرّفهم ونبّههم على الحشر والنشر. ثم إنه لمحض النّصح وإتمام
الحجة مرة أخرى أورد الكلام السابق بطريق آخر وعبارة أخرى ، فقال :
٢٣ ـ (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ... أي هل ينبغي لي أن أترك من هو خالقي ورازقي وأتّخذ
الأوثان آلهة لي مع أنّهم (إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي لو أراد من الذي بيده الرحمة العامة أن يضرّني بكيفيّة
خاصّة لا تنفعني شفاعة الأصنام أبدا ولا مثقال ذرّة. فإن الإتيان بلفظ عامّ منكّر
بعد النفي يدل على غاية المبالغة في المنفي أي : فليس هذا من الإنصاف والعدل. ولا
يخفى أن عدم الإغناء من باب عدم قابليّة الأصنام للشفاعة حيث إنها جماد وهي غير
قادرة عليها فالانتفاء لانتفاء الموضوع (وَلا يُنْقِذُونِ) أي الأصنام لا يقدرون على أن يخلصوني من الضرر بنصر
ولا مظاهرة ،
فأنّي لا أعبد الذي لا يقدر على دفع ضرر ولا إيصال نفع وأترك عبادة القادر المطلق
وخالق الموجودات طرّا من العدم.
٢٤ و ٢٥ ـ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ...) أي بيّن غير خاف على عاقل ومتدبّر. فلما سمع القوم مقالته
هذه قصدوه وأرادوا قتله فتوجّه إلى الرّسل وقال (إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) وقيل إنه توجّه إلى قومه بهذه الخطابة نصحا وعظة لهم ،
لكنّهم كانوا يرجمونه بالحجارة وهو لا زال يقول اللهم اهد قومي حتى قتل رضوان الله
تعالى عليه ، وقيل إنه صلب وأخذته الملائكة.
٢٦ و ٢٧ ـ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ...) أي قال له الملائكة بأمر من الله تعالى لما قتلوه : ادخل
الجنّة ، أو بشّره الرّسل بها قبل موته (قالَ يا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) هنا حذف القول للعلم به كأنّه قيل ما قال في الجنّة؟ فأجيب
بأنه قال : يا ليت (الآية) وقوله بما غفر لي ربّي أي بغفرانه أو بالذي غفره بسبب
إيماني (وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ) لمّا كان دخول الجنة له أمرا مقطوعا به ذكرت القصة في جميع
الجمل بصيغة الماضي كقوله تعالى أتى أمر الله وبرزوا لله جميعا ونحوهما وأمثال ذلك
كثيرة في الكتاب الكريم. أي ما اكتفى ربّي بالعفو عنّي والتجاوز عن ذنوبي ، بل
أدخلنى في زمرة أهل الكرامة والجود ولهم مقام منيع رفيع في الجنة. وفي الجوامع ورد
في حديث مرفوعا أنّه نصح قومه حيّا وميّتا : تمنّى رضوان الله تعالى عنهم علمه
بحالهم وتلطّفا بهم ليرغبوا في مثله. نعم هذا شأن أولياء الله ولا زال ديدنهم هكذا
بالنسبة الى البشر حيث ان الناس يرجمونهم ومع هذا يدعون لهم بالهداية والرّشاد حتى
عند الوفاة فهم يتمنّون خيرهم وصلاحهم فيشابهون خالقهم في صفة الرّحمانيّة
والإكرام إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التعظيم.
* * *
(وَما أَنْزَلْنا عَلى
قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
يا
حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))
٢٨ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ
بَعْدِهِ ...) أي على قوم حبيب النجار بعد قتله أو رفعه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) لإهلاك قومه ما نزلنا جنديّا من الجنود السّماويّة (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) اي ما صحّ في شرعنا وحكمتنا أن ننزّل الجند لإهلاك الكفرة
وأهل الجحود والعناد ، فإن إفناءهم أدنى وأقل عندنا من إنزال الملك فإنّا غير
محتاجين لذلك ، وإنّما أنزلنا ملائكة النّصر يوم بدر وحنين تعظيما وتكريما لشأن
خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ، لا للحاجة ، وإلّا فأسباب الإفناء عندنا لا تحصى وفي
عدّة موارد أهلكنا الكفرة بها.
٢٩ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً
...) أي ما كانت العقوبة المفنية إلّا صياحا واحدا ، صاح بهم
جبرائيل (فَإِذا هُمْ
خامِدُونَ) مهلكون ميّتون ، من خمدت النار : أي سكن لهبها ، فكأنّ
الكفرة نار ما داموا أحياء فهي تلهب وتشتعل فإذا ماتوا يسكن لهبها والناس يستريحون
من لهب أذاهم وكفرهم ونفاقهم ومكرهم وحيلهم ، بخلاف المؤمن فإنّه نور يستضاء به
ويستفيد البشر من ضوئه فإذا مات المؤمن ذهب نوره والناس
يخسرون بموته
وربما يقعون في ظلمة عمياء كما إذا لم يكن غيره بينهم حتى يستفيدوا منه ويستضيئوا
بنور علمه ومعارفه.
٣٠ ـ (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ...) أي يا حزناه ويا أسفاه عليهم حيث ظلموا أنفسهم وأتلفوا
أعمارهم في الكفر جحودا وعنادا لله ورسوله فخسروا خسرانا مبينا وخلّدوا أنفسهم في
نار جهنّم وبئس المصير. ونصبه بفعل محذوف ، أي : يا أيّها المتحسّر تحسّر حسرة.
وهذه الكلمة صارت من الأمثلة الجارية على ألسن الناس في مقام التحزّن والتلطف على
شخص. ثم إنه سبحانه تخويفا لمشركي قريش يقول :
٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ ...) أي ألم يعلموا كم أهلكنا قبلهم (مِنَ الْقُرُونِ) ممّن قد مضى سابقا عليهم كقوم عاد وثمود وأصحاب الرسّ
وأنطاكية أفلا يشاهدون آثار بيوتهم في أسفارهم وهي شاهدة عليهم؟ أفلا يتدبّرون أم
على قلوبهم أقفالها (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ
لا يَرْجِعُونَ) أي إنّ الهالكين لا يرجعون إلى أهل مكة ولا إلى الدنيا
يعودون ، فلما ذا لا يعتبرون من الماضين؟ ولماذا لا يقيسون حال المهلكين بحالهم أو
حالهم بحالهم ولا يحذرون ممّا هو واقع بهم في نتيجة كفرهم وجحودهم وعنادهم؟
٣٢ ـ (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ ...) يحتمل كون (إِنْ) مخفّفة من الثقيلة و (لَمَّا) مخفّفة و (ما) مزيدة للتأكيد ، وكذا اللّام المزيدة عليها
وهي الفارقة بينها وبين النافية فلها فائدتان. كما أنّ كلمة (جَمِيعٌ) و (كُلٌ) للتأكيد ردّا على منكري الحشر والنّشر وهم الدهريّون الذين
قالوا (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) ويحتمل كونها نافية فحينئذ (لَمَّا) مشدّدة بمعنى (إلّا) وحاصل المعنى أنّ الأمم يوم القيامة ،
من الماضين والباقين ، مبعوثون للحساب وجزاء الأعمال ، أنكروا البعث أو قبلوه. ثم
قال تعالى :
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))
٣٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
...) أي هذه حجة قاطعة لهم على قدرتنا على بعثهم ، وهي الأرض
المجدبة اليابسة الممنوعة من المطر (أَحْيَيْناها) بإنبات نباتها (وَأَخْرَجْنا مِنْها
حَبًّا) يحتمل كونها بيانا للإحياء حيث إن إخراج الحب فرع إنبات
النبات (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) قدّم الصّلة ، أي الجارّ إيذانا بأن الحبّ معظم القوت وما
يعاش به. بل ذكر الحب بالخصوص من بين ما يخرج من الأرض من النّعم الكثيرة العظيمة
يؤذن ويشعر به. فتقديم الصلة تأكيد للإشعار المستفاد ممّا قبله لا أنّه تأسيس
للإيذان.
٣٤ ـ (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ ...) أي من أنواعهما ، وخصّا بالذّكر لكثرة منافعهما وأنواعهما
وأهميّة خواصّهما المذكورة في الآثار الواردة عن النّبي والآل صلوات الله عليهم
أجمعين.
٣٥ ـ (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ...) بيّن سبحانه أنّه إنما فعل ذلك للأكل من ثمر النخيل. وعود
الضّمير إلى أحد المذكورين لحصول العلم بأن الأعناب في حكم النخيل كما في قوله عزوجل (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ، الآية وترك الذّهب مع أنّه أهمّ ، ولعلّه قدّم
في الذكر لذلك.
ويمكن أن يكون الضمير فيما نحن فيه عائدا إلى المذكور من جنّات ، أو كلّ واحد
منهما (وَما عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ) منه كالدّبس والعصير والخلّ ونحوها أو لم تعمله أيديهم
وإنما يوجد في الجنّات بخلق الله تعالى إيّاه (أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) الاستفهام إنكار لترك الشكر أي : فليشكروا نعم المنعم تعالى.
ثم إنه تعالى نزّه نفسه المقدّسة على بعض آخر من مظاهر قدرته فقال :
٣٦ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ ...) أي الأصناف والأنواع والأشكال (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من أزواج النبات والأشجار (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من الذكور والإناث. وهذا مما يعلمون غالبا (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي وأزواجا ممّا لم يروها ولم يسمعوا بها ولا يطلعهم الله
عليه مما في بطون الأرض وقعور البحار وفوق كرة الأرض.
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))
٣٧ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ ...) أي آية أخرى على كمال قدرتنا مضافا إلى خلق اللّيل والنهار
، هي أنّا نسلخ من اللّيل النّهار أي
نستلّه منه ،
ومعنى الاستلال هو انتزاع الشيء عن الشيء وإخراجه عنه برفق ، مستعار من سلخ الشاة
، وإنّما اختار سبحانه السلخ دون النزع والإزالة وما يفيد هذا المعنى لأنه تعالى
جعل الليل بمنزلة الجسم لظلمته والنهار كالجلد العارض للأجسام. فالنهار كالكسوة
العارضة ، والليل كالجسم الأصيل ، فإذا انتزع منه الضوء (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي أن الناس داخلون في ظلام الليل. ففي هذه الاستعارة
رمزان وسرّان : الأوّل الإيذان إلى كون الأشياء في بدء الخلقة في الظلمة ،
والضّياء حصل ووجد بعدها فهو متأخّر عنها في الوجود كما هو شأن كل عارض بالإضافة
إلى معروضه. والثاني هو أنّ انتزاع نور النهار ليس آنيّا بل أمر تدريجيّ الحصول
كما في انتزاع جلد الشاة وغيرها فلا يناسب المقام غير هذا التعبير. وفي الكافي عن
الباقر عليهالسلام : يعني قبض محمد صلىاللهعليهوآله وظهرت الظّلمة فلم يبصروا فضل أهل بيتهعليهمالسلام.
٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
...) أي آية أخرى لهم هي الشمس التي تجري لحدّ لها موقّت بقدر
تنتهي إليه من فلكها آخر السنة. وشبّه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره ، أو لمنتهى
لها من المشارق والمغارب حتى تبلغ أقصاها في السنة فذلك مستقرّها لأنها لا تعدوه.
وعدّت تلك المشارق والمغارب بثلاثمئة وستّين يوما وهي تطلع كلّ يوم من مشرق ،
وتغرب في مغرب. وقيل مستقرها هو حين انقطاع الدّنيا. وفي المجمع عنهما عليهماالسلام : لا مستقرّ لها ب (لا) النافية ونصب الرّاء ، أي لا سكون
لها فإنّها متحركة دائما إلى انقضاء الدنيا (ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي جري الشمس لمستقرّها مقرّر وثابت من عند الله الذي هو
غالب بقدرته على كلّ شيء ، والمحيط بعلمه الكامل بجميع المقدورات والمعلومات.
٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ ...) والقمر : قرئ بالرّفع عطفا على الشمس ، أي وآية لهم القمر.
وقرئ بالنّصب بمقدّر يفسّره ما بعده وهو
قوله (قَدَّرْناهُ) منازل ، أي مسيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل كلّ
ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه. والتقدير : وجعلنا القمر ذا منازل ،
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذه المنازل من البروج الاثني عشر ، وتزايد
نور القمر وتناقصه على حسب بعده من الشمس وقربه ، فكلّما بعد في منازله من الشمس
يزيد نوره ، وكلّما قرب بها لينقص تدريجا ويميل إلى التقوّس إلى أن يعود في آخر
الشهر وآخر منازله دقيقا بحيث يرى كالعرجون وهو أصل العذق أي أصل العنقود ، (الْقَدِيمِ) الذي يعوجّ لثقل العذق تدريجا فيميل إلى المركز أي الأرض
ويبقى على النخل يابسا بعد التقاط التمر والرّطب عنه ، ثم يخفى القمر يومين آخر
الشهر وهما يسمّيان بليالي المحاق ، وقيل هي ثلاث ليال ، والمشهور ليلتان ، وفيهما
يقرب القمر باجتماعه مع الشمس ويحصل له تمام القرب في آخر منزله بحيث يضمحل نور
القمر وينمحي تحت شعاعها كما في الشمعة التي توضع تحت السّماء في رابعة النهار (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) والمراد بالقديم : قيل هو مضيّ ستّة أشهر لأن العذق أصله
يصير كذلك في هذه المدّة وقيل معناه المعوجّ العتيق. قال رجل حين موته : كلّ مملوك
لي قديم فهو حرّ لوجه الله. وسئل الرّضا (ع) عن ذلك فقال : كلّ مملوك دخل في ملكه
وبقي ستة أشهر فيه فهو حرّ. فسئل من أين تقول هذا؟ قال إن الله يقول : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وعذق النخل يصير كذلك في مدة ستة أشهر. ثم إنه تعالى أخذ
في بيان تعاقب الشمس والقمر وتتالي الليل والنهار الذي يفيد الحيوانات والذي تكوّن
النباتات منوط به ومعلق عليه فقال :
٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ...) أي لا يصحّ ولا يتأتّى (أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ) في سرعة سيره لإخلال ذلك بالنظام الأحسن ، فإن القمر أسرع
سيرا من الشمس لأنه يقطع البروج الاثني عشر في شهر ، والشمس في
سنة. فلو كانت
الشمس في سرعته تختلّ فصول السنة عن وضعها الطبيعيّ فيقع الخلل بتكوّن النباتات
وأثمار الأشجار من حيث الوجود والنضج ويؤثر ذلك على الحيوانات. وإن قيل إن المراد
من الإدراك هو الإدراك في مقامه ومرتبته ، فالأمر أفسد وأشكل لأن القمر في الفلك
الأوّل باصطلاح قدماء الهيويّين ، والشمس في الرابع من الأفلاك السبّعة فتختلّ
الأمور السماويّة والأرضيّة عن أوضاعها المطبوعة عليها المخلوقة على طبق المصالح
العامّة الإلهيّة التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه وتعالى (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا يسبق الليل النهار ولا يجتمعان فيكون ليلتان ليس
بينهما يوم بل يتعاقبان ولا يخفى أن الشمس لما كانت لا تقطع فلكها إلّا في طول
السنة بخلاف القمر فإنه يقطع فلكه في كل شهر فلذا اتّصفت الشمس لتباطئها بالإدراك
والقمر لسرعته بالسّبق. قال العياشي في تفسيره ما حاصله أنه سأل الفضل بن سهل في
مجلس المأمون في خراسان الإمام الرضا عليهالسلام أنه : هل النهار خلق أوّلا أو الليل؟ فقال (ع) : من القرآن
أجيب أم من الحساب؟ قال : منهما. فقال عليهالسلام : أمّا من الحساب فاعلم أن طالع الدنيا كان السرطان حينما
كانت الكواكب في شرف الارتفاع فكان زحل في الميزان والمشتري في السرطان والشمس في
الحمل والقمر في الثور ، وهذا يدلّ على كينونة الشمس في الحمل في وسط السماء ،
فاليوم كان قبل اللّيل مخلوقا. وأمّا من القرآن فقرأ الكريمة : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ)
إلخ .. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) السباحة هي السير والحركة الانبساطيّة الطبيعية ، كسير
الأسماك وحركتها في المياه. أي أن الشمس والقمر والنجوم في مدارها وفي أفلاكها
تسير بانبساط وسهولة ، وكلّ من انبسط في شيء فقد سبح فيه ، ومنه السّباحة في
الماء. قال ابن عباس كلّ من الشمس والقمر والكواكب يجري في فلكه كما يجري المغزل
في فلكته ، أي يدور في مداره ، وفلك الشيء مداره. ولما كان سير النّيرين وسائر
الكواكب في مدارها ، في الانتظام والإتقان ، على نسق
كفعل ذوي العقول
فلذا استعمل فيها صيغة جمع ذوي العقول ، أو أنها لها أنفس تعقل ونفس الآية الكريمة
تؤيّد هذا القول ، وقوله تعالى (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) من صيغ القلب ، فإنها إذا تقلب هذه الحروف تكون عين
المقلوب منه. وللكراجكي كلام لا بأس بالاشارة إليه في المقام ، فإنه ذهب إلى أن
الأفلاك غير السماوات كما هو ظاهر بعض الأحاديث الواردة عنهم عليهمالسلام وبالجملة قال في فصل عقده في ذكر هيئة العالم : اعلم أن
الأرض على هيئة الكرة ، والهواء يحيط بها من كل جهة ، والأفلاك تحيط بالجميع إحاطة
استدارة ، وهي طبقات يحيط بعضها ببعض. ثم عدّ أفلاك السيّارات ثم قال : ويحيط بهذه
الأفلاك السّبعة فلك الكواكب الثابتة وهي جميع ما يرى في السّماء غير ما ذكرناه ،
ثم الفلك المحيط الأعظم المحرّك جميع هذه الأفلاك ، ثم السمّاوات السّبع تحيط
بالأفلاك ، وهي مساكن الأفلاك ومن رفعه الله تعالى إلى سمائه من أنبيائه وحججهم عليهمالسلام. وللجميع نهاية. انتهى موضع الحاجة من كلامه وقد ذكرناه
ليكون الطالب على بصيرة في الجملة في الأمور السّماويّة. ثم أنه تعالى لمّا بيّن
فنون نعمه الدالة على وجوب العبوديّة له وكمال قدرته أخذ يذكر بعضا آخر من أنواع
نعمه فقال :
* * *
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا
حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ
نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً
مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ
لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ
مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))
٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ ...) أي حجّة وعلامة لهم على كمال اقتدارنا أنّا حملنا ورفعنا
آباءهم وأجدادهم بواسطة سفينة نوح ونجّيناهم من الغرق (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي بأن أدخلناهم في تلك السفينة المملوءة بالناس ومن كل
شيء يحتاج إليه نوح عليهالسلام ومن كان معه في الفلك فأبقيناهم بعد الطوفان. وتسمية
الأجداد والآباء ذرّية يمكن أن يكون باعتبار أنّهم أصول خلقتهم ، واشتقاق الذرّية
من ذرأ باشتقاق الكبير كما لا يخفى على أهل الأدب ، فالذرّية من ذرأ الله الخلق أي
خلقهم ، فإن الأبناء والأولاد خلقوا منهم فالآباء ذرّية الأبناء بهذا الاعتبار. أو
أن المراد بحمل الذرّية هو حمل آبائهم الأقدمين لهم وهم في أصلابهم ذرّيّاتهم. وتخصيص
الذرّية لأنه أبلغ في الامتنان وأدخل في التعجّب مع الإيجاز.
٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ...) أي خلقنا للناس من أهل مكّة وغيرهم مثل سفينة نوح ، أي
السفن التي على هيئة فلك نوح وصورتها أو من جنسها ، ممّا (يَرْكَبُونَ) كالزّورق وغيره. وقيل إن المراد من (مِنْ مِثْلِهِ) هي الإبل فإنّها سفائن البرّ ، أو مطلق ما يركب من الانعام
والدوابّ ، وتشمل الآية عموم ما يركبون من مراكب في جميع الأزمان كعصرنا الحاضر
وما يجيء بعده من السّيارات والطيارات ونحوها مما هو موجود بالفعل أو سيوجد بعد
عصرنا.
٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا
صَرِيخَ لَهُمْ ...) أي لا مغيث لهم ينصرهم ولا حارس يحرسهم من الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي ينجون من الموت لو أردنا أن نهلكهم (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) أي لا يغاثون ولا ينقذون إلا أن تشملهم العناية الرّحمانية
منّا حسب ما نرى من المصالح والحكم في من علمنا منه خيرا وأنّه مؤمن أو سوف يؤمن
أو سيولد منه مؤمن ونحو ذلك من المقتضيات للنّجاة والحراسة ، فنمتّعه متاعا قليلا
في الدنيا إلى (حِينٍ) أي إلى زمان قدّرناه لهم لتقضى آجالهم ، فالمغيث والمنقذ
هو هذا فقط لا غيره.
٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ ...) أي وقائع الأمم الماضية (وَما خَلْفَكُمْ) أي أمر الساعة أو ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخّر ، أو عذاب
الدنيا وعذاب الآخرة ، أو عكسه. وفي المجمع عن الصّادق عليهالسلام : معناه اتّقوا ما بين أيديكم من الذّنوب وما خلفكم من
العقوبة. وجواب (إِذا) محذوف دلّ عليه ما بعده ، أي : لا يتّقون ويعرضون. ويدلّ
على هذا المحذوف قوله تعالى :
٤٦ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ...) أي من حجة وبرهان على صدق ما يدّعيه الرّسول (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ، إِلَّا كانُوا
عَنْها مُعْرِضِينَ) عن التفكّر في الحجج والمعجزات (مِنْ) الأولى هي التي تزاد بعد النفي للتّأكيد والاستغراق ،
والثانية للتّبعيض ، أي : ليس آية تأتيهم إلا أعرضوا عنها ، وذلك سبيل من ضلّ
الهدى وخسر الآخرة.
٤٧ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ ...) أي من ماله على خلقه المحاويج الذين هم عيال الله (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) هذا القول إيهام بأنّ الله لما كان قادرا على أن يطعمهم
فلم يطعمهم ، فنحن أحقّ بأن لا نطعمهم أيضا. وهذا الكلام من فرط
جهالتهم لأنّ الله
تعالى يطعم البشر بأسباب ، منها الإيجاب على الأغنياء بإطعام الفقراء وتوفيقهم له
، وما جرت عادة الله تعالى أن يشقّ سقف بيوت الفقراء وينزل عليهم منه أرزاقهم وإن
كان قادرا على ذلك ، لكن المصلحة اقتضت خلاف ذلك وأن تجعل أرزاقهم على أيادي
الأغنياء حتى يمتحنهم ويأجرهم ويثيبهم على ذلك بعد أن يمحّصهم ويختبرهم بأنّهم
يؤدّون ما فرض عليهم إلى مصارفه المقرّرة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا من تتمّة قول الكفرة لمن أمرهم بالإطعام. وقيل إنه قول
الله حين ردّوا هذا الجواب.
* * *
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ
إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠))
٤٨ إلى ٥٠ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي الوعد بالبعث متى يتحقّق إذا كنتم صادقين في قولكم؟
ولكنهم للأسف (ما يَنْظُرُونَ
إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أجابهم تعالى : ما ينتظرون ، وما يمهلون إلّا أن تأخذهم
الصيحة الواحدة (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) يتنازعون ويختصمون في أمورهم ومعاملاتهم في غفلة عنها ،
ويمكن أن تكون الواو حاليّة (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
تَوْصِيَةً) بشيء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ) يعودون من
أسواقهم أو
بساتينهم أو بيوت أقاربهم أو أمثالها وهي النفخة الأولى. وفي المجمع : في الحديث :
تقوم الساعة والرّجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم السّاعة ،
والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي
ماشيته فما يسقيها حتى تقوم. والقميّ قال : ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم
في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلّهم في مكانهم لا يرجع أحد إلى منزله ولا يوصي
بوصيّة.
* * *
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ
صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ
الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)
هُمْ
وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦)
لَهُمْ
فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))
٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ...) أي مرّة ثانية للبعث (فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي من قبورهم يسرعون إلى خالقهم يعني إلى الموضع الذي يحكم
الله فيه ولا حكم لغيره تعالى هناك.
٥٢ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ
مَرْقَدِنا ...) الكفرة منهم قالوا يا ويلنا أي هلاكنا وفي الجوامع عن عليّ
عليهالسلام أنّه قرأ من بعثنا على (مَنْ) الجارّة والمصدر والمرقد مكان الرقود أي المنام (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ) يحتمل كون هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرّحمان خبر لمبتدأ
محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، ويمكن كون (ما) مصدرية وعلى هذا ، فالمصدر خبر لهذا ، أي : هذا وعد
الرّحمان ، والمصدر بمعنى المفعول. وقيل : هذا قول الملائكة ، أو المؤمنين يقولون
للكفّار على وجه التقريع ، أي هذا هو الوعد الذي أخبر به الرّسل وأنتم تكذبونهم
وكنتم تقولون إنكارا لهم واستهزاء : متى هذا الوعد. ثم إنّه تعالى أخبر عن سرعة
البعث وكمال قدرته في بعثهم ونشرهم بقوله :
٥٣ ـ (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً
...) أي ما كان بعثهم إلّا بصيحة واحدة ، وهي النفخة الأخيرة
التي تتمّ بصرف النفخ في البوق وهي إعلان على رؤوس الأشهاد لحضور الأشخاص (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ) هذا التفريع يدل على غاية السّرعة في حضور الخلق الأولين
منهم والآخرين في عرصات القيامة وموقف الحساب بلا فاصل بين النفخ والحضور ، وأيضا
يدلّ على تهوين أمر البعث وأنّه أهون وأسهل شيء عنده سبحانه وتعالى ، ومن ثم فهو
ردّ على منكري البعث الذين يعدّونه أمرا محالا ويحسبونه من الأساطير والموهومات
التي لا واقع لها ، ولذا اهتّم سبحانه في ردّ زعمهم الفاسد وجاء بهذه الجملة
الوجيزة المتضمّنة المعنى الراقي الرائع المبطل لعقيدة الخصم الذي هو ضدّ لما هو
عقيدتهم بكمال الضدّية. فإذا حضروا المحشر فالله تعالى يبسط بساط عدله ويخاطبهم
بقوله الذي ظاهره الغيبة
وباطنه الخطاب :
٥٤ ـ (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
...) أي لا ينقص من ثواب المثاب شيء ، ولا يزاد على عقاب
المعاقب من مقدار استحقاقه شيء ، لأنه تعالى يجري جميع الأمور على مقتضى العدل
التامّ (وَلا تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يقول سبحانه على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ما
حاصله : يا أهل الموقف إنّما الجزاء على طبق الأعمال إن خيرا فخير وإن شرّا فشر
وكلّ حسب مرتبته علوّا واقترابا ، أو دنوا وابتعادا. وقوله (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ) ليأمن المؤمن ، وقوله (وَلا تُجْزَوْنَ
إِلَّا) ... الآية لييأس الكافر. ثم ذكر سبحانه حال أوليائه فقال
عزّ من قائل :
٥٥ ـ (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) أي الذين فازوا وسعدوا في الدّنيا بالعمل الصالح ، هم في
يوم القيامة (فِي شُغُلٍ) في سرور وملاذّ (فاكِهُونَ) ناعمون لأنهم ذوو نعمة ، أو متمازحون ، فإنه جمع فاكه من
الفكاهة بمعنى الممازحة أي المداعبة. والقميّ قال : في افتضاض العذارى فاكهون.
وقال يفاكهون النساء ويلاعبونهنّ وفي المجمع عن الصّادق عليهالسلام شغلوا بافتضاض العذارى ، قال : وحواجبهنّ كالأهلّة وأشفار
أعينهنّ كقوارم النّسور.
٥٦ ـ (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ...) أي لا يصيبهم حرّ الشمس ، جمع : ظلّ أو ظلّة ، وهي المظلّة
وما يستر به من حرّ الشمس أو المطر وما يستظل به منهما. أو المراد بها ظلال أشجار
الجنّة ، أو المراد هي المواضع التي تستتر بها حليلة المؤمن مع زوجها عن أعين
النّاس. وهم على سبيل التنعّم (عَلَى الْأَرائِكِ
مُتَّكِؤُنَ) أي على السّرر المزيّنة في الحجال ، وقيل هي الوسائد
يتّكئون عليها.
٥٧ ـ (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ...) المراد هو جنس الفاكهة من الأنواع المختلفة
(وَلَهُمْ ما
يَدَّعُونَ) افتعال من الدّعاء أي ما يتمنّونه ، من قوله : ادّع عليّ
ما شئت ، أي تمنّ منّي. ويؤيّد القول الأخير ما نقل عن ابن عباس من أن أهل الجنّة
كلّ ما يخطر ببالهم يكون عندهم بلا مقال ، أي علمه بحالهم كفى عن مقالهم.
٥٨ ـ (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ...) السلام على أهل الجنّة هو البشارة بإبقائهم هناك مخلّدين
متنعّمين متلذّذين بجميع أنواع النّعم والمشتهيات والمتلذّذات ، وهو على أهل
الدنيا هو التحيّة بطول العمر والسلامة من الحوادث والآفات. وأهل الجنّة مستغنون
عن ذلك فتحيّتهم والسلام عليهم غير تحيّة أهل الدنيا. والسّلام هو التحيّة
المتعارفة بين الناس ، ومعناه دعاء من المسلّم على المسلّم عليه بطيب العيش
ورفاهيّة الحال ومتضمّن لاحترامه له. ولذا فكلّ شخص يحبّ الآخر يحبّ أن يسلّم عليه
ويلتذّ به طبعا. وإذا كان المسلّم شخصيّة عظيمة جليلة فإنّ سلامه يكون ألذّ وأوقع
في النفس ، وهذا أمر وجداني لا حاجة إلى البرهان على صدقه. فإذا كان الأمر هكذا
فسلام الله تعالى ألذّ من كلّ لذيذ ، وألذّ اللذائذ عند أهل الجنّة هو سلامه تعالى
وتحيّته عليهم. ونقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : إذا جاء النّداء من ساحة القدس الرّبوبي ب (السلام
عليكم يا أهل الجنة) فهذه غاية أمانيهم ونهاية مدّعاهم. وقد نقلنا الرواية بالمعنى
وقيل سلامه تعالى عليهم يكون بواسطة الملائكة. وسلام يحتمل أن يكون ، مبتدأ وخبره
محذوف ، أي (عليهم سلام) أو خبره : (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) و (قَوْلاً) حال بمعنى مقول ، أو نصبه على الاختصاص بتقدير (أعني) وفي
قوله (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) رمز إلى اختصاص رحمته الرحيميّة في ذلك اليوم بالمؤمنين لا
تشمل غيرهم. فإذا افتهموا تلك الخصيصة يزيد فرحهم ، كما أنّ الكفرة ييأسون من
الرحمة فيزيد ذلك في حزنهم وهمهم ، فيكون هذا
عذابا فوق عذابهم
بكفرهم وعصيانهم.
* * *
(وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا
الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ
لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)
وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))
٥٩ ـ (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ ...) أي انفردوا وانفصلوا أيّها العصاة عن المؤمنين وذلك عند
اختلاطهم بهم في المحشر حينما يسيرون مع المؤمنين إلى الجنّة فيجيء النّداء من
قبله سبحانه بالامتياز والتفريق بينهم وبين المؤمنين. وقيل إن لكلّ كافر بيتا في
النار يدخل فيه فيردم ويسدّ بابه لا يرى ولا هو يرى أحدا ، أعاذنا الله من جهنم
فإنها ساءت مستقرّا
ومصيرا. ثم خصّهم
بالتّوبيخ فقال :
٦٠ و ٦١ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي
آدَمَ ...) أي ألم أنهكم على ألسنة الأنبياء والرّسل في الكتب المنزلة
أن لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به وينهاكم عنه؟ وقد جعل تعالى إطاعة الشيطان
عبادة له لأنّه الآمر بها المزيّن لها. وقد ثبت أن كلّ من أطاع المخلوق في معصية
الخالق فقد عبده. فعن الباقر عليهالسلام : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يروي عن
الله فقد عبد الله عزوجل ، وإن كان الناطق يروي عن الشيطان فقد عبد الشيطان (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) هذا تحذير للنّاس منه لعنه الله وأخزاه وأعاذنا منه.
فأمرتكم بترك عبادة الشيطان (وَأَنِ اعْبُدُونِي) قوموا بعبادتي. و (هذا) إشارة إلى عبادة الله التي هي (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لا عبادة غيري فإنها عبادة للشيطان لأنه الآمر بها.
٦٢ ـ (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا ...) أي جرّ إلى الكفر والضلال خلقا كثيرا. و (جِبِلًّا) فيه لغات : بضمّتين بالتّشديد والتخفيف. وبالضّم والسّكون
، وبكسر الجيم وفتح الياء والتخفيف ، جمع جيلة كخلقة وخلق ، وجيل واحد الأجيال.
وقرئ بجميع هذه الصّيغ. وهذه الكريمة تنبيه للبشر حتّى يكونوا على حذر منه ولا
يغفلوا آنا ما ، وإلّا اختلسهم الخبيث واجتذبهم بسرعة بحيث لا يمهلهم أبدا. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)؟ أي ألم تتعقّلوا أنه يغويكم ويصدّكم عن الحق ويضلكم عن
الصّراط السويّ؟ أفلا تتنبّهون؟ وهذه صورة استفهام ومعناه الإنكار عليهم والتبكيت
لهم. وفي الآية بطلان مذهب أهل الجبر حيث إنه سبحانه لم يرد إضلالهم لأنه أنكر
عليهم إضلال الشيطان إياهم ، ووبّخهم على متابعتهم إيّاه وأمرهم بعبادة ذاته
المقدّسة وطاعته. ثم بيّن سبحانه ما يقال للكفرة يوم الحشر حين تظهر جهنّم ويرونها
رأي العين ويصيرون على شفيرها :
٦٣ و ٦٤ ـ (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ ...) أي توعدون بها على ألسنة الرّسل. فها هي أمامكم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) احترقوا بها ، أو التزموا عذابها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وتكذيبكم رسلنا وكتبنا ما دمتم في الدنيا.
وهذا أمر إهانة وتنكيل كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.) وقيل معنى الكريمة : ادخلوها وقاسوا فنون عذابها وذوقوا
شديد حرّها.
٦٥ ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ
...) يحتمل قويّا أن لا يكون المراد من الختم هو المعنى المعروف
المشهور بين الناس ، بل المراد به هو نتيجة الختم بأن يقيم هو تعالى البراهين
والحجج عليهم. بحيث لا يقدرون على ردّها ويعجزون عن الجواب ويلجمون بالبراهين
والشواهد. ومن أقوى الشواهد وأتمّ الدلائل والآيات على تقصيرهم واستحقاقهم أشدّ
العذاب ، شهادة الأعضاء واعتراف الجوارح بالمعاصي التي صدرت عنها ، فحينئذ كأنه ختم
على اللسان لأنه لا يقدر أن ينكر ويردّ واحدا من تلك الحجج أو الشواهد ؛ ويمكن أن
يحدث في اللسان فتور من عنده سبحانه فلا يقدر الإنسان على تحريكه والتكلم به فكأنه
ختم عليه ولذلك فسّر الختم بعضهم بمنع الألسن عن الكلام وإن كان منعها أعم من أن
يحدث فيها فتور. ويحتمل أن يكون قوله سبحانه (وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) ، الآية عطفا على (نَخْتِمُ) عطف بيان له. أي اليوم (يوم القيامة) تتكلم الأعضاء
والجوارح معنا ، وبالأمس كان اللسان يتكلّم في الدنيا. وتكلّم الجوارح من خصائص
يوم القيامة. واختلف في كيفيّة تكلم الجوارح على وجوه ، منها أنه تعالى يمكّنها
حتى تقدر على التكلّم وأداء الشهادة كما مكّن اللّسان على النطق. ومنها أنه سبحانه
يوجد فيها الكلام بنحو إيجاد الأصوات في الأجسام الجماديّة كإيجاد الكلام في الشجر
والنّسبة إليها لأنه لا يظهر إلّا من جهتها. ومنها أنه تعالى يجعل فيها آثارا
ودلائل دالّة على أنّ
صاحبها فعل فعلا
قبيحا كذائيّا فسمّي ذلك شهادة. ومنها كما يقال عيناه تشهدان بكذا وكذا. وأنه كان
نائما مثلا أو مريضا. والذي يقوى في النظر هو الأوّل وإن كان الجميع من المعقول
إلّا أن يجيء أمر في ذلك من ينابيع العلم والحكمة فهو الحق. وقال القمّي : إذا جمع
الله عزوجل الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ إنسان كتابه (أي قائمة عمله)
فينظرون فيه فينكرون أنهم عملوا من ذلك شيئا فتشهد عليهم الملائكة فيقولون يا ربّ
إن ملائكتك يشهدون لك ، ثم يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا. وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) فإذا فعلوا ذلك ختم الله على ألسنتهم وتنطق جوارحهم بما
كانوا يكسبون. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام : وليست تشهد الجوارح على مؤمن ، إنّما تشهد على من حقّت
عليه كلمة العذاب. فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عزوجل (فَمَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
٦٦ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ ...) أي لاستأصلنا أثرها كأن لم يكن لهم أعين في صفحة وجوههم
أبدا فيصيرون ممسوحي الأعين (فَاسْتَبَقُوا
الصِّراطَ) أي فاستطرقوا الطريق التي كانت تبدو معتادة لهم سلوكها (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) فكيف يبصرون بعد ذلك طريق الهدى وكيف يقدرون المشي إليها
والسير نحوها ، أي أنهم لا يبصرونها أبدا فهم لا يزالون في ضلالة وغواية.
٦٧ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ ...) أي كأنّ قائلا يقول : إنّ الأعمى قد يهتدي بالأمارات
العقليّة أو النقليّة أو الحسيّة غير حسّ البصر ، كاللّمس باليد على الجدران ونحوه
، فقال سبحانه : ولو أردنا لمسخناهم قردة وخنازير أو حجارة بتغيير صورهم وإبطال
قواهم (عَلى مَكانَتِهِمْ) أي في مكانهم الذي هم جالسون فيه بحيث يجمدون. وفي القمّي
: يعني في
الدنيا (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا
يَرْجِعُونَ) أي لا يقدرون على ذهاب ولا مجيء ، وقيل يعني تصيبهم العاهة
الّتي تعطّل القوى بحيث لا يقدر الإنسان على الحركة ؛ والكريمتان تهديد من الله
سبحانه للكفرة ، والمكان والمكانة واحد. ثم بعد بيان قدرته على الطمس والمسخ ذكر
تنبيها لضرب آخر من القدرة الكاملة فقال عزوجل :
٦٨ ـ (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ ...) أي من نجعله ذا عمر طويل (نُنَكِّسْهُ) نردّه إلى ما خرج منه من انتقاص بنيته وضعف قوّته
الظاهريّة والباطنيّة كما كان عليه بدء أمره وزمن طفوليّته إلى أوان شبابه ورشده
وكمال قواه وتزايدها التام الى أن بلغ حدّ الهرم فيردّ إلى حالة الصّباوة (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أن من قدر على ذلك فهو قادر على الطّمس والمسخ فانه مشتمل
عليهما وزيادة ، أو قادر على البعث والحشر. وقيل إن القرآن لمّا نزل وقرئ على أهل
مكة ورأوا أنه على أسلوب غريب وتركيب بديع ونظم عجيب قالوا : إنّ محمدا شاعر ،
فردّ هو تعالى عليهم ونزّهه ممّا قالوا فيه بقوله :
* * *
(وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ
كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠))
٦٩ و ٧٠ ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) يعني أنّه أمّي ، فلو كان شاعرا لا بدّ له من معلم يعلّمه
أوزان الشعر وبحوره وعروضه التي هي معروفة ومتعارفة بين الشعراء. ولو كان له معلم
فهو ليس غيرنا ، ونحن ما علّمناه
الشعر بتعليم
القرآن ، وليس ما أنزلناه عليه من صناعة الشعر في شيء ممّا يتوخّاه الشعراء من
التخيّلات المرغّبة والمنفّرة ونحوهما ممّا لا حقيقة له ولا أصل بل هو تمويه محض (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا تنبغي للنبيّ صلىاللهعليهوآله الصّناعة الشعريّة أو للقرآن أن يكون شعرا ، فإن نظمه ليس
على نظم الشعر. على أن القرآن يدلّ أسلوبه وتركيب كلماته أنه ليس بشعر لأن الشّعر
كلام منسوج على منوال الوزن والقافية ، مبنيّ نوعا على أمور واهية خيالية ، ومثل
هذا لا يصلح للنبيّ المرسل لهداية البشر كافّة كما جعلناه أمّيا لا يهتدي للخط ولا
لقراءة الكتب ليكون للحجّة أثبت والشبهة أدحض. نعم قد صحّ أنه صلىاللهعليهوآله كان يسمع الشعر ويحبّه ويحثّ عليه إذا كان شعر حكمة. وقد
قال صلىاللهعليهوآله لحسّان بن ثابت : لا تزال يا حسّان مؤيّدا بروح القدس ما
نصرتنا بلسانك (إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ) أي نصح وعظة من عند ربّ العالمين وليس بشعر ولا رجز ولا
خطبة. والمراد بالذّكر أنّه يتضمّن ذكر الحلال والحرام والدلائل على التوحيد
وأخبار الأمم الماضية وقصصهم للاعتبار ، فجمع سبحانه هذه الأمور فيه لاختلاف
فوائدها (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي مبيّن للأحكام والبراهين الدالّة على وجود الصّانع
وتوحيده (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ
حَيًّا) أي لينذر القرآن أو النبيّ من كان مؤمنا حيّ القلب فإنّه
المتعقّل المتفكّر لأن الكافر الغافل كالميّت لا ينتفع لا بالقرآن ولا بالنبيّ
الأكرم صلىاللهعليهوآله بل الكافر أقلّ من الميت لأن الميت لا ينتفع ولا يتضرّر
والكافر هو أيضا لا ينتفع بدينه ويتضرّر به (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب ويلزم القول ، ولعلّ المراد بالقول هو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ
الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بقرينة قوله سبحانه (قالَ الَّذِينَ حَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) فسّر القول هنا بقوله (لَأَمْلَأَنَ) الآية و (الْكافِرِينَ) أي المصرّين على كفرهم من الذين لم يكونوا في دنياهم
مخلّدين ولذا خلّدوا في النار طبق عقيدتهم ونيّاتهم وهذا هو معنى : نيّة الكافر
شرّ من عمله ، لأنّه لو كان عقابه على طبق عمله
كان لعقابه غاية
حيث كان للعمل نهاية ، لأن الأعمار كان لها في الدنيا غاية وقصيرة مغيّاة بغايات
محدودة فالأعمال على ميزان الأعمار بخلاف النيّات ، فإنّ المرء قد ينوي ما لا
يدركه مثل الكافر فإنه ينوي أن يعصي الله تعالى عنادا وجحودا لو بقي في الدنيا
مخلّدا ، فإنه وإن لم يدرك الخلود لكن الله سبحانه يؤاخذه طبق ما نواه ويعذّبه على
ما أراد. فهذه شرّ له من عمله ، وهذا ما أجاب عليهالسلام عنه في السّؤال عن أن نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة
الكافر شرّ من عمله. ولمّا لم يتنبّه الكفرة بالأدلّة المذكورة إلى ما هو المقصود
من ذكرها من وجود الصّانع تعالى وتوحيده ولا سلكوا طريق الحق ، عطف هو سبحانه زمام
الكلام إلى أدلّة التوحيد فقال :
* * *
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ
فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها
مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))
٧١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ ...) أي ألم يعلموا علما يقينيّا متاخما للمعاينة أنّا لأجلهم
خلقنا (مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا أَنْعاماً) أي باشرنا إحداثها بالذات من غير وليّ ولا معين. وذكر
الأيدي من باب الاستعارة لإفادة
التفرّد والاختصاص
في العمل. وإسناد العمل إليها للمبالغة في تفرّده وتوحّده سبحانه بالإحداث. وقال
القمّي : أي بقوّتنا خلقنا الأنعام ، واختصّها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة
وعجائب الخلقة وكثرة المنفعة (فَهُمْ لَها
مالِكُونَ) يتصرّفون فيها وهم متملّكون لها قاهرون لها بتسخيرنا
إيّاها لهم مع كمال ضعف الإنسان وغاية قوتها ... أقول : فإذا يعلم ويعرف كلّ من
يتدبّر ويتعقّل أنه لا بدّ من قوة قاهرة فوق قوى الطبيعيّة تسخّر الأنعام وغيرها
من ذوات القوى الغالبة على قوة الإنسان ، للإنسان الضعيف خلقة كما أشار إلى ما
ذكرنا بقوله عزوجل :
٧٢ ـ (وَذَلَّلْناها لَهُمْ ...) أي صيّرناها منقادة ومسخّرة لهم غير نافرة ، فانظروا إلى
الإبل وهي في تمام القوة وعظيم الجثّة. يسوقها صبيّ وكذلك الثور الذي يقاوم الأسد
وربّما يغلبه فترى أن الإنسان الضعيف يخلّي على رقبته الضخمة الخشبة ويفلح عليه
ويزرع الأرض وهو في كمال الانقياد والذّل ، فأيّ قوة تقدر أن تذلّله أو يسخّر غير
من هو خالقه وفاطر السّماوات والأرض وما فيهما (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي هي الركوب ، وهذه منفعة مهمّة يمنّ بها الله تعالى على
عباده على ما أشار في قوله سبحانه (وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي إلى بلدان بعيدة لم تكونوا واصلين إليها إلّا بجهد
ومشقّة هما فوق طاقتكم (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي هي معدّة للأكل كالأغنام فإن من منافعها المهمّة أكل
لحمها وإن كانت لها منافع أخر على ما أشار إليه تعالى بقوله :
٧٣ ـ (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ...) فمن منافعها لبس أوبارها وأصوافها وأشعارها والاكتساب بها
وبجلودها ومنها شرب ألبانها وأكل لحومها والكسب بها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) ألا يشكرون المنعم على هذه النّعم الجزيلة؟ ثم بيّن سبحانه
جهلهم وكمال حماقتهم ، يقول سبحانه :
٧٤ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً
...) أي وضعوا الشّرك مكان الشّكر ،
والمعصية بدل
الإطاعة (لَعَلَّهُمْ
يُنْصَرُونَ) اي التجأوا واستعانوا بالتراب عن ربّ الأرباب لعلّ
الجمادات أي الأصنام والأوثان يعينونهم وينصرونهم. فأيّ حماقة تبلغ مرتبة حماقتهم
نعوذ بالله منها.
٧٥ ـ (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ...) أي هذه الآلهة التي عبدوها من أصنامهم وأوثانهم لا يقدرون
على نصرهم والدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ
مُحْضَرُونَ) بل الكفّار جند للأصنام يغضبون لهم ويحضرون لخدمتهم
ولحفظهم والذبّ عنهم في الدنيا مع أن الأصنام لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم
شرّا ، لأن الجماد لا يشعر بشيء. وقيل إن الآلهة مع العبدة في النار محضرون لأن كل
حزب مع ما عبده من دون الله كالأوثان والأصنام فإنها تكون في النار ، ولا الجند
يدفعون عنها الإحراق ولا هي تدفع عنهم العذاب كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).
٧٦ ـ (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) لا تغضب لمصارحتك بالشّرك والإلحاد ، ولا لمقابلتك
بالتكذيب والجنون والسّحر. وهذه تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوآله والالتفات من الغيبة إلى الخطاب تأكيد لعدم اعتنائه بهم
وعدم اعتباره لأقوالهم وأفعالهم. وأكّد هذا بقوله : (إِنَّا نَعْلَمُ ما
يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي علمنا محيط بأسرارهم من الحقد والبغض للمؤمنين وإعلانهم
الأقوال الموجبة لكفرهم وعصيانهم فسوف نجازيهم عليهما أشدّ الجزاء ونعذّبهم بأليم
العذاب وكفى بذلك تسلية لك.
* * *
(أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ
نُطْفَةٍ
فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
وَضَرَبَ
لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)
الَّذِي
جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٨٢)
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))
٧٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا
خَلَقْناهُ ...) أي ألم يعلم أنّا خلقناه (مِنْ نُطْفَةٍ) اي من ماء عفن متعفّن يستقذره كلّ من يراه (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) في القمي أي ناطق عالم بليغ يجادل في البعث والنشر وينكره
مع أنه إذا تدبّر وتفكّر يعلم بأنّ من يقتدر على خلق الإنسان من ماء مهين يقدر على
البعث لأن الإعادة أسهل من الإنشاء أو خصيم مبين معناه شديد الخصومة.
٧٨ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ ...) أي بيّن لنا في إنكار البعث أمرا عجيبا بعقيدته وتشبّث
بالعظم البالي وفتّته بيده وتعجّب ممّن يقول إنّ الله يحييه بعد فنائه. ففعل
الإنسان ذلك واعتبره دليلا على عدم إمكان البعث. وفي العيّاشي عن الصّادق عليهالسلام قال : جاء أبيّ بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط وفتّته ثم
قال : يا محمد إذا كنّا عظاما ورفاتا أإنّا لمبعوثون خلقا جديدا؟ فنزلت فيه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ)
أي بدأ خلقه فلذا
تعجّب (قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فقد نسي
أنّنا خلقناه من
قبل ولم يك شيئا وهذا بنظرهم أصعب من إعادتهم.
٧٩ ـ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها
أَوَّلَ مَرَّةٍ ...) نبّه بأن الذي أنشأها وأوجدها من العدم إلى عالم الوجود
فإنّ قدرته باقية كما كانت في بداية الأمر (وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي عالم وقادر على خلق الأشياء بتفاصيلها وكيفيّة إيجادها
أوّلا وآخرا. وعن الصّادق عليهالسلام أن الرّوح مقيمة في مكانها روح المؤمن في ضياء وفسحة ،
وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه خلق. وما تقذف به السّباع
والهوام من أجوافها مما أكلته ومزّقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه
مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ، وإنّ تراب الرّوحانيين بمنزلة
الذّهب في التّراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض
مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسّل بالماء والزبد
واللّبن إذا مخض ، ثم يتجمّع تراب كلّ قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى
حيث الرّوح فتعود الصّور بإذن المصوّر كهيئتها ، والحاصل أنه تعالى علمه فوق كل ذي
علم يعلم تفاصيل خلق كل مخلوق وأجزاءه المتفرقة في البقاع وفي أجواف السباع وغيرها
فتجتمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول قبل أن يرتدّ إليك طرفك بل في أسرع من ذلك.
وتلج الرّوح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا. ثم إنه سبحانه لمّا كان
في بيان قدرته الكاملة للجهلة فمزيدا لذلك يخبر عن صنعة عجيبة غريبة تتحيّر عقول
ذوي الألباب منها وهي أمر حسّي مشاهد غير محتاج إلى نظر وتدبّر ولا يمكن لذوي
الشعور إنكاره فيقول سبحانه :
٨٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ ناراً ...) أي الذي يقدر على إعادة الأجسام على صورها وهيآتها هو
القادر على أمر أعجب منها إذ يخرج من الشجر الأخضر الذي إذا قطع منه غصن يقطر منه
الماء جعل منه
نارا بقدرة غريبة.
وقيل عنى بذلك الشجر : المرخ ، والعفار وهما شجران معروفان يكونان في ناحية المغرب
من بلاد العرب فإذا أرادوا أن يستوقدوا أخذوا من ذلك الشجر عودا ومن الآخر عودا ثم
يسحق العفار على المرخ فتنقدح منهما النار ويقطر منهما الماء ، العفار. فمن قدر أن
يخرج من الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا مع مضادّة النار للرّطوبة ، وبعبارة
أخرى يخرج الضدّ من الضدّ أي النار من الماء ، فهو قادر على اعادتكم والحاصل إنه
إذا كمنت النار الحارة في الشجر الأخضر المملوء من الماء فهو على الإعادة من بلي
أقدر ، وهي أهون عليه مع ما تتصوّرون من أنها أصعب من كل شيء قال بعض أهل الفحص
والتحقيق إن كل شجر ينقدح منه النار إلّا العنّاب فإنه فاقد لتلك المادة والعرب
اختاروا المرخ والعفار لكثرة هذه المادة فيهما. ثم إنه تعالى لتقريعهم يقول :
٨١ ـ (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
...) هذا الاستفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على إيجاد هذه
الأجرام العلويّة والسّفليّة وإبداعهما مع عظمهما وكبر جرمهما وكثرة أجزائهما ،
يقدر على إعادة خلق البشر مع كونه في غاية الحقارة. ثم أجاب عن هذا الاستفهام
بقوله (بَلى) أي نعم يقدر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ) أي كثير الخلق وكثير العلم بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة
أو شيء وبحيث لا تحصى ولا تعدّ مخلوقاته. ثم إنه تعالى أخذ في بيان إظهار قدرته
وكنه عظمته بقوله :
٨٢ ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
...) أي إنما شأنه حينما يقصد إحداث شيء وإبداعه (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بمجرّد هذه الإرادة ، فإذا بهذا الشيء متكوّن وموجود بلا
حاجة إلى قول كن أي أن هناك ملازمة بين الإرادة ووجود المراد وحدوثه دون حاجة إلى
أيّ شيء ، وقوله (أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ) بيان أو بدل عن قوله (شَيْئاً) فالجملة محلّا منصوبة والتقدير : إذا أراد أن يقول لشيء كن
فيكون ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل خبرا
لقوله (أَمْرُهُ) والوجه الأوّل أوجه لأنه أبلغ وآكد في المدّعى كما لا يخفى
على من تدبّر. وبالجملة نستفيد من الآية المباركة أن قوله سبحانه (أَنْ يَقُولَ لَهُ ، كُنْ ، فَيَكُونُ) أن هذا القول تقريب لأفهامنا ، والواقع انه لو أراد شيئا
كان الشيء بلا حاجة إلى لفظ كن. فإيجاده عين وجود الشيء خارجا وخطور الشيء بساحته
المقدسة عين وجوده وحضوره لا فصل بينهما ولا تقدّم وتأخّر إلّا بالمرتبة. وتفسير
هذا المعنى بلفظ كن لكونه أبلغ فيما أراد إيجاده ولو كان لفظ آخر أبلغ لاختاره عزوجل. فاذا كانت قدرته في الإيجاد والتكوين بهذه المرتبة فسبحان
الذي إلخ ...
٨٣ ـ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ ...) أي منزّه عن نفي قدرته على إعادة المخلوقات وإلباسهم ثوب
الوجود للرّجوع إلى المعبود الذي (بِيَدِهِ) أي قدرته (مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ) أي حقيقته التي
قوامه بها أو ملكه وسلطانه (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) وعد للمقرّين أي الموحّدين ووعيد للمنكرين.
سورة الصّافّات
مكية وآياتها ١٨٣
نزلت بعد الأنعام.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))
١ إلى ٥ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ...) الصّافّات صفّا ، أي الملائكة تصطفّ في العبادة في
السماوات كصفوف المؤمنين للصّلاة في الأرض ، أو المراد مطلق نفوس الصّافين في
الصلاة أو الدّعاء إلى الله أو في الجهاد. وهو قسم وجوابه (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) ومثله (فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) أي الملائكة تزجر الخلق عن المعاصي أو الملائكة الموكّلة
بالسّحاب تزجره وتسوقه بأمره تعالى أو الملائكة يزجرون المردة من الشياطين عن
التعرّض لبني آدم بالشرّ والإيذاء وإلقاء الهداية في قلوب البشر في مقابل إغواء
الشياطين وإضلالهم للبشر. فقوله : (فَالزَّاجِراتِ) إشارة الى تأثير الجواهر الملكيّة في تنوير
الأرواح القدسيّة
البشرية كما قال سبحانه : (فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً) وذلك إشارة إلى كيفيّة تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن
الأرواح البشرية أو الملائكة التي تزجر وتمنع الشياطين من الصّعود إلى السّماء
لاخذ كلام الملائكة الذين يطّلعون على أسرار اللّوح المحفوظ. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) أي الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، والذكر الذي ينزل على
الموحى إليه ، أو جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين يتلونه في الصّلاة. وإنّما لم
يقل (تلوا) كما قال (صَفًّا) و (زَجْراً) لأن التالي جاء بمعنى التابع كقوله (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) فلإزالة الإبهام بيّنه بما يزيله. وبالجملة هذه الأمور
الثلاثة المقسم بها يحتمل أن تكون صفات للملائكة أو للأعمّ ، أقسم بها سبحانه
وتعالى لعظمتها وليقول : (إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ) فهذه الجملة جواب للقسم ، وليعلم أنّ له تعالى أن يحلف
بمخلوقاته الدالّة على ذاته وصفاته الذاتيّة المنبئة على عظمته ، لكن ليس
للمخلوقين أن يحلفوا إلّا بذاته تعالى وتقدّس ، وإن قيل ذكر القسم إمّا أنه للمؤمن
فهو مقرّ بالتوحيد بلا حلف ، وإمّا أنه للكافر فهو منكر ومحتاج إلى إقامة البرهان
ولكنّ الحلف لا يكون برهانا فيصبح الحلف بلا فائدة؟ والجواب : إن القرآن نزل بلغة
العرب وعندهم إثبات الأمر والدّعوى بالحلف طريقة متعارفة مألوفة وان لم يكن بدليل
، مضافا إلى أنه تعالى ما اقتصر على الحلف في إثبات مدّعاه بل أتى بالدّليل
اليقينيّ والبرهان الواضح في كون الإله واحدا حيث عقّب يمينه بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن النظر في انتظام العالم وفطرته برهان ساطع على وجود
الصّانع القادر الحكيم ووحدانيّته. فالقسم مؤكّد لذلك لا أنه دليل على هذه الدعوى
، فهو ربّهما (وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات العجيبة والموجودات البديعة الغريبة (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي مشارق الشمس فإن لها في كل يوم مشرقا ، أو لكلّ
النيّرات. ولم يذكر المغارب لدلالتها عليها مع أن الشروق أدل على القدرة أو لأن
الشروق قبل الغروب فلذا قدّم.
(إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨)
دُحُوراً
وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))
٦ ـ (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
...) أي الكرة التي هي أقرب الكرات منكم. وإنما خصّت بالذكر
لاختصاصها بالمشاهدة (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) قرأ عاصم بالتنوين في (بِزِينَةٍ) ونصب (الْكَواكِبِ) يريد (زينا الكواكب) والزجّاج قال : يجوز أن يكون نصب
الكواكب بدلا من قوله (بِزِينَةٍ) لأن (بِزِينَةٍ) في موضع النصب. والباقون (بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ) بالجر على الإضافة من غير تنوين ، والإضافة بيانية. وقيل
المراد من الزينة الناشئة من الكواكب هي ضوؤها.
٧ إلى ١٠ ـ (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ ...) عطف على (زَيَّنَّا) ونصبه بفعل مقدر من مادّته ، أي : إنّا حفظنا السّماء
الدّنيا (حِفْظاً) من كل شيطان مارد ، فهو مفعول مطلق. والحاصل من الكريمتين
أنّه سبحانه جعل الكواكب في السماء الدنيا لأمرين مهمّين : أحدهما التزيين الذي
نتيجته تنوير الأرض ، والضوء أحسن أنواع الزينة ، والثاني هو الحفظ من الشياطين
المردة الخبثاء حيث يرمون بالشّهب. وكلّ من الأمرين ذو أهمّية بالغة. فالأول لأن
الإنسان إذا نظر إلى الفلك في الليلة الظّلماء يرى هذه الجواهر الزاهرة المشرقة
تلمع وتتلألأ على ذلك السطح الأزرق ، فيرى منظرا معجبا وأمرا عجيبا وقبة مزدهرة
بالأضواء تكشف عن قدرة وحيدة ليس فوقها قدرة ، ولا يعقل أن توازيها قدرة. والثاني
هو حفظ السماء
الدنيا من مردة
الشياطين الذين يسترقون السمع من الملائكة الموكّلين بحراستها وبأيديهم الشّهب
الملتهبة المتوقّدة التي يرمون المردة بها كما يرمى الناس بالسهام القاتلة ،
ليمنعوهم من الاستماع إلى أي شيء من أمر السماء ، وإلى أي قول يتفوّه به الملائكة
المطّلعون على شيء من أسرار اللوح المحفوظ. فالله سبحانه وتعالى جعل في السماء
الدنيا (حرسا شديدا وشهبا). وقال أحد المفسّرين عن تلك الشّهب إنها كأنها الكواكب
تنقضّ متأجّجة بالنار ، وهذه النار لها خاصيّة إحراق الشياطين لأنها أقوى من
ناريّتهم التي خلقوا منها ، فشبهة عدم تأثير الشيء في مثله شبهة باطلة موهونة في
مورد إحراق الشياطين بالشّهب الملتهبة كما لا يخفى. وقد روى ابن أبي عمير ، عن بعض
أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليهالسلام إنه قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في
الأرض ، مربوطة كلّ مدينة بعمود من نور طول ذلك العمود في السماء مسيرة مائتين
وخمسين سنة. ولا يخفى أن هذا الخبر من أكبر البراهين على حقّانية الإسلام التي
تثبت في عصر العلوم المتجدّدة التي اتسع نطاقها فيما بين الذّرة في صغرها ، وذرى
السماء في اتّساعها وعدم تناهيها ، وكلّها لم تدل على وجود عمران في السيّارات من
الكواكب وإن كانت قد دلّت الاكتشافات على قانون التجاذب فيما بين الكواكب
والأفلاك. وقد قال العلّامة الشهرستاني في (الهيئة والإسلام) قوله : مربوطة بعمود
من نور ، قد يكون مربوطا بالإشارة إلى تأثير جاذبية الشمس في حفظ نظام السيارات ،
واتّصال حامل الجاذبية بالنجوم على نحو الخط العمودي كما اتّفق عليه الحكماء
المتأخّرون ... وفي رواية أخرى : بعمودين من نور ، وهذا يمكن أن يكون إشارة إلى ما
تقرّر أخيرا من أن نظام السيّارات تحفظه قوّتان من الشمس بحسب التحرّك الدّوري ،
فلو انفردت الأولى في التأثير ولم تكافئها الثانية لهوت جملة السيّارات في كورة
الشمس ، ولو انفردت الثانية ولم تكافئها الأولى لرميت النجوم إلى خارج نظام الشمس
من الفضاء الوسيع.
وأنّما استقرّت السيّارات في أفلاكها المعيّنة وانضبط نظامها بواسطة ارتباطها مع
الشمس وانقيادها لها بعمودين بين جاذب ودافع ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
والحاصل أن
الشياطين معزولون عن استماع ما يجري في السماء الدّنيا ، وهم مبعدون عنها بواسطة
حرسها يطردون (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون بالشّهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جوانب السماء (دُحُوراً) أي طردا شديدا (وَلَهُمْ عَذابٌ
واصِبٌ) اي للشّياطين عذاب دائم في الآخرة. وعن الباقر عليهالسلام : دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم. فذلك معدّ لكل مستمع (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من الاستماع. والتقدير لا يستمعون إلى الملأ
الأعلى ، أي الملائكة ، إلا من اختلس كلام الملائكة مسارقة واستلب استلابا بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي فعقبه ما يرمي به الملائكة الحرسة الشياطين ، وهو الذي
كأنّه كوكب ينقضّ مضيئا كأنّه يثقب الجوّ بضوئه. وفسّر الشّهاب بالنار المضيئة
المحرقة وهو خلاف معناه لغة ، ومع صحّته لا تدلّ الكريمة على احتراق الشيطان الذي
يرمى بها ، ولا يبعد أن يتأذى بها ويتخوّف بحيث لا يصعد بعد ذلك أبدا. وقد نقل أن
ركانة بن زيد وأبا الأسدين كانا من المنكرين للبعث ولا يزالان يظهران الشجاعة
ويفتخران بذلك في قريش فالله سبحانه وتعالى أنزل الآية الشريفة ردّا عليهم فقال :
* * *
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ
(١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا
تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))
١١ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً
...) أي استخبرهم واسألهم هل هم أقوى خلقا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي قبلهم (بقرينة الفعل الماضي) من الأمم الماضية والقرون
السّالفة ، يعني أنهم ليسوا بأحكم وأتقن من حيث الخلقة والقوى ممّن سبقهم وقد
أهلكناهم بعذاب واقع وكذلك ليسوا أشدّ خلقا من السّماوات والأرض وما بينهما وما
فيهما من الكواكب والشّهب الثاقبة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) في القمّي : يعنى يلزق باليد. والحاصل أنه تعالى بيّن بدء
الخلقة ومنشأها وأن الخلق عندنا سواء ، فإذا كنّا قادرين على إيجادهم في ابتداء
الخلقة من التراب فكذلك نقدر على الإيجاد منها ثانيا بأن نجمعهم منها ولو صاروا
ترابا وعظامهم رفاتا ونحشرهم ليوم الجمع للجزاء ومكافأة الأعمال فإذا عرفوا بدء
خلقهم لم يستبعدوا بعثهم فلم ينكروه.
١٢ ـ (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ...) أي تتعجّب من إنكارهم البعث مع كمال قدرتنا وهم يشاهدونها
في بدء خلقهم وخلق غيرهم والحال أنهم يسخرون ويستهزئون بقولك في البعث وغيره من
الآيات ودلائل التوحيد والقدرة ، ولا يتفكرون في شيء مما جئتهم به. فكيف تتعجّب
منهم والحال أنهم هكذا؟ يعني لا تتعجّب من هؤلاء الذين هم كالبهائم بل هم أضلّ
طريقا ، والدّليل على ذلك أنّهم :
١٣ ـ (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ...) أي وإذا وعظوا بالقرآن أو خوّفوا بالله لا يتذكرون ولا
يتّعظون ولا يتدبّرون فيما يدلّ على صحّة الحشر والنّشر حتى ينتفعوا به ، وذلك
لبلادتهم وحماقتهم وقلة فكرهم ، وكذا :
١٤ إلى ١٩ ـ (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
...) أي إذا شاهدوا معجزة تدلّ على صدق القائل بالبعث والحشر (يَسْتَسْخِرُونَ) يهزأون ويبالغون في السخرية والاستهزاء بها بأن يحملوها
على السّحر كما أخبر به سبحانه بقوله (وَقالُوا إِنْ هذا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) إشارة إلى ما يرونه من الآية التي ينبغي أن يتّعظوا بها بل
قالوا ساخرين (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً) أي كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا وعظامنا رفات متكسرة مسحوقة
(أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ؟) بالغوا في إنكار البعث أشدّ مبالغة لشدة عنادهم في الكفر
أوّلا بتبديل الفعليّة أي أنبعث بالاسميّة وهي (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ)؟ وثانيا بتقديم (إِذا) وثالثا بتكرير الهمزة كما لا يخفى على أهل الأدب (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محلّ اسم (إِنْ) أو ضمير مبعوثون ومعناه هل إنّ آبائنا لمبعوثون بعد طول
مدّة موتهم وفنائهم؟ والاستفهام للإنكار وهم يعنون إنّنا وآباءنا لا نبعث أبدا. ثم
قال سبحانه لنبيّه (قُلْ) يا محمد (نَعَمْ) ستبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي ذليلون أشدّ الذّلة صاغرون مرغمون. وحين يريد سبحانه
وتعالى بعثكم وإحياءكم (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي البعثة ليست إلّا بعد صيحة واحدة وهي النفخة الثانية ،
وهي من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها (فَإِذا هُمْ
يَنْظُرُونَ) أي بصرف الصّيحة إذا هم قيام من مراقدهم حاضرون في المحشر
ينتظرون ما يفعل بهم ، أو يبصرون صعيد المحشر وهم حيارى منتظرون للأمر الإلهي يرون
البعث الذي كانوا منكريه ، فإذا تفكّروا في أعمالهم القبيحة وأفعالهم السّيئة
نادوا بالويل والثّبور.
* * *
(وَقالُوا يا وَيْلَنا
هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))
٢٠ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ
...) أي يوم الحساب ويوم المجازاة الذي كنّا نكذّب به ،
فيعترفون بعصيانهم واستحقاقهم بما كان الرسل يوعدون به ، ولذا يقولون (يا وَيْلَنا) من العذاب ، وهذه كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة
بيده وتقصيره. وبعد صدور هذا الكلام والاعتراف بالتقصير ينادون :
٢١ ـ (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ ...) أي يوم الحكم والقضاء بين المحسن والمسيء أو التميّز
بينهما (الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي منكرون له بأشد الإنكار ولا تقبلون قول الرسول به وكنتم
به تستهزئون والمنادي بذلك لعلّهم الملائكة من قبل الربّ تعالى. ثم إنه تعالى يقول
للملائكة :
٢٢ و ٢٣ ـ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي اجمعوا الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك وتكذيب الرّسل
وإنكار ما جاؤا به ، أو ظلموا الناس بالاعتداء عليهم بأيّة كيفيّة ، أو المراد هو
الأعمّ (وَأَزْواجَهُمْ) أي أشياعهم ، أو المراد أزواجهم المشركات. فكأنّه قال
سبحانه : أحشروا المشركين والمشركات ، أو المراد كلّ طائفة مع أشباهها ، فإنّ
الزّوج جاء
بمعنى الشبه
والشكل ، قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) أي أشباها. فالمعنى اجمعوا عابد الوثن مع عابدته ، وعابد
النجم مع عابدته ، أو قرناءهم من الشياطين. والقميّ قال : الذين ظلموا آل محمد
صلوات الله عليهم حقّهم (وَما كانُوا
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي احشروا العابد والمعبود الذي هو من دون الله من الأوثان
ونحوها (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) دلّوهم على طريق جهنّم. وفي القمي عن الباقر عليهالسلام قال : ادعوهم إلى طريق الجحيم.
٢٤ ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ...) أي احبسوهم في الموقف يعني قبل دخولها فإنهم لا بدّ وأن
يسألوا عن عقائدهم وأعمالهم. وفي القمّي : عن ولاية أمير المؤمنين. وفي العلل عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيما
أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين جمعه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل
البيت ثم إنّه توبيخا وتقريعا يقول الملائكة قولوا لهم بعد توقيفهم للمحاسبة :
٢٥ ـ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ...) أي لم لا ينصر بعضكم بعضا بالتّخليص من العذاب. وهذا
استفهام استهزاء وتقريع.
٢٦ ـ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ...) أي منقادون متذلّلون لعجزهم وذلّهم. وبعد ما عجزوا عن
الجواب في الموقف ورأوا أنفسهم أذلّاء عجزة فخاصم بعضهم بعضا فوصفهم سبحانه بقوله
:
* * *
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ
(٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠)
فَحَقَّ
عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣))
٢٧ و ٢٨ ـ (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ ...) أي واجهه وقابله للسّؤال يسأل بعضهم بعضا توبيخا فيقول
المغوي للغاوي : لم أغويتني وأضللتني : فيجيبه المغوي : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) أي ما أغويناكم جبرا وكرها فإنكم كنتم تأتوننا (عَنِ الْيَمِينِ) قيل هي مستعارة لجهة الخير وجانبه ومعناه كنتم تأتوننا عن
اليمين أي من قبل الدّين بزعمكم أنّ الدين والحقّ عندنا وأنّ ما كنّا عليه هو الحق
، وكنتم تتركون الرّسل باختياركم مع أن الآيات والمعجزات تظهر منهم. وقيل إنها
مستعارة للقوّة والقهر لأنّ اليمين موصوفة بالقوّة وبها يقع البطش ، فقوله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي بالقوة والقدرة وهذا المعنى لا يناسب ما اخترناه أوّلا
من أن جملة قالوا جواب الغاوين عن المغوين ، بل يتمّ هذا المعنى بناء على كون
الجملة من تتمّة قول المغوين كما لا يخفى. هذا ولكنّنا نظنّ وإن كان الظنّ لا يغني
من الحق شيئا غالبا : إن المراد من اليمين هو معناها المعروف وهو العضو المخصوص في
مقابل الشمال واليسار واكتفى بذكرها عنها لدلالتها عليها بقرينة المقابلة ، واختصّها
بالذكر لشرافتها على اليسار على ما هو المستفاد من الآيات والرّوايات ، فكأنّه
سبحانه وتعالى أراد بكلامه أن يحكي قول الغاوين للمغوين تأتوننا عن اليمين والشمال
كناية عن كثرة التردّد لئلّا نخلّيكم فيختلسكم الرّسول وأتباعه. فالتقصير منكم لا
منّا. هذا محصّل
ما حكى الله تعالى
عنهم ، بناء على أن تكون الجملة من كلام الغاوين. ويحتمل أن تكون من كلام المغوين
فالكلام هو الكلام إلّا أن كثرة التردد تكون من ناحية الغاوين حتى يضلّوهم
ويمنعوهم من اتّباع الرّسول. وعلى هذا يمكن أن يكون اليمين مستعارة للقوة والقهر
بمعنى أنهم أجبروهم وقهروهم جبرا وقهرا وأدخلوهم في الضلالة ولذا قالوا لهم خطابا (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ
الْيَمِينِ) كناية عن القوة والجبر.
٢٩ ـ (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
...) يمكن أن يكون القائلون هم الغاوون ، ويحتمل أن يكونوا
خصومهم ، والظاهر أن الجملة من المتبوعين والرؤساء فإنهم أجابوا التابعين بقولهم :
ليس الأمر كما تزعمون بل لم تكونوا مؤمنين من أوّل الأمر ولم تكونوا على صراط
الهداية والرّشاد حتى نكون نحن ممّن يضلكم فإن الأنبياء والرّسل كلما كانوا
يدعونكم إلى الهدى كنتم مصرّين ومختارين للضلالة على الهداية والكفر على الإيمان.
٣٠ و ٣١ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ ...) أي لم تكن لنا قوّة وقدرة حتى نجبركم ونكرهكم على ما كنتم
عليه من الضّلال بل كنتم مستمرّين عليه بالاختيار (بَلْ كُنْتُمْ
قَوْماً طاغِينَ) مختارين للطّغيان والعصيان ومتجاوزين عن الحدود المقرّرة
من الله ورسوله فلا لوم ولا عتاب علينا فقط بل عليكم وعلينا الإثم بما فعلنا (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي وجب ولزم علينا قول الله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) أو مطلق وعيده في كتابه الكريم كقوله (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ) فقد وجب علينا العذاب و (إِنَّا لَذائِقُونَ) هم أكّدوا قولهم بأمور ثلاثة ، تبديل الفعلية بالاسميّة ،
واللّام الدّاخلة عليها ، و (إن) المشدّدة. أي إنّا لذائقون العذاب قطعا. ثم إنهم
بعد المجادلات والمخاصمات يعترفون بالإغواء فيقولون :
٣٢ ـ (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ
...) أي لمّا كنّا في الضلالة أحببنا أن
تكونوا مثلنا
فأغويناكم أي دعوناكم إلى الغيّ فأجبتمونا بلا إكراه ولا إجبار.
٣٣ ـ (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ ...) يعني أن الأتباع والمتبوعين في العذاب (مُشْتَرِكُونَ) كما كانوا في الغواية كذلك.
* * *
(إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
إِنَّكُمْ
لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))
٣٤ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ ...) أي المشركين الذين فعلوا المعاصي. ثم بيّن سبحانه أنّه
إنّما فعل ذلك بهم من أجل :
٣٥ و ٣٦ ـ (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) أي إذا أمرهم النبيّ بكلمة التوحيد (يَسْتَكْبِرُونَ) فلا يجيبون الرسول الأكرم استكبارا وعنادا بل كانوا يرفضون
قوله (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا) أي كيف نترك آلهتنا وأصنامنا (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. فالله تعالى ردّهم بقوله :
٣٧ ـ (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ ...) يعني ليس محمد بشاعر كما تزعمون بل هو القارئ لكتاب سماويّ
جامع لخير الدّنيا والآخرة ، ولكنّكم جماعة جهلة لا تميّزون بين الشعر والكلام
البديع ، وليس بمجنون
بل هو أعقل
العقلاء من الأوّلين والآخرين. وكيف يكون مجنونا مع أنه أتى بما تقبله العقول من
الدين الحق الثابت بالبرهان ، وهو أحسن الأديان لأنّه أكملها من حيث إنه واجد لخير
الدنيا والآخرة. أو المراد بالحق هو الكتاب الحق. فالمجنون من لا يفرّق بين الحق
والباطل ولا يتعقّل أنه أشرف ممّا يعبده ويخضع له من الأصنام والأوثان ويترك عبادة
خالق السّماوات والأرض بل خالق عوالم الإمكانية طرا. والحاصل كبرت كلمة تخرج من
أفواههم إن يقولون إلّا كذبا ، فقد قال نبيّنا صلىاللهعليهوآله الحقّ وجاء بالصّدق (وَصَدَّقَ
الْمُرْسَلِينَ) حقّق ما أتى به المرسلون من بشارتهم بمقدمه الشريف أو
صدّقهم بأن أتى بمثل ما أتوا به من الدعوة إلى التّوحيد. ثم خاطب تعالى الكفار
فقال سبحانه :
٣٨ ـ (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ
الْأَلِيمِ ...) التفات إلى الخطاب لاهتمامه بمقالته سبحانه لهم ، يعني
أنتم أيها المشركون لذائقو العذاب الشديد للشّرك وتكذيب الرّسول ونسبة الشاعرية
والتجنّن إليه (ص).
٣٩ ـ (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ ...) أي جزاؤكم على قدر أعمالكم كمّا وكيفا. ثم استثنى فقال
تعالى :
* * *
(إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ (٤٦)
لا
فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ (٤٩))
٤٠ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) استثناء منقطع ، أي لكن عباد الله الذين أخلصوا عباداتهم
له تعالى وأطاعوه في كلّ ما أمرهم به ونهاهم عنه فإنهم لا يذوقون العذاب ، وإنما
ينالون الثواب. ثم بيّن سبحانه ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النّعم فقال :
٤١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ...) أي للمخلصين في الجنّة أعدّ رزق معلوم من حيث الوقت كقوله
تعالى (لَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أو من جهة كونه موصوفا بخصائص من الدّوام والطعم وطيب
الرائحة وحسن المنظر واللّذة ونحوها من الخصوصيّات ، أو من حيث الآثار الّتي لا
تكون في رزق غير المخلصين ثم فسّر سبحانه ذلك الرزق من حيث النوع إجمالا فقال :
٤٢ ـ (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ...) أي أرزاق أهل الجنة منحصرة في الفواكه بأقسامها وأنواعها
يتفكّهون بها ويتنعّمون بالتصرّف فيها كيف يشاءون. والتعبير بالفاكهة لأن الفاكهة
عبارة عما يؤكل لأجل التلذّذ لا لأجل الحاجة فإنهم مستغنون عن حفظ الصّحة بالأقوات
والمقوّيات لأنهم أجسام أبديّة فهي قهرا مخلوقة بإحكام بلا حاجة في استحكامها وحفظ
صحتها إلى الأغذية والأقوات المخصوصة كالأبدان الدنيويّة. فكل ما يأكلونه في الجنة
فهو على سبيل التلذّذ. ولمّا كانت الفاكهة بأنواعها ألذّ من غيرها فالله تعالى زادهم
من تلك النّعم وجعل أرزاقهم أكثرها منها. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في حديث يصف فيه أهل الجنة قال : وأمّا قوله (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) قال : فإنهم
لا يشتهون شيئا في
الجنة إلّا أكرموا به. ولمّا ذكر مأكولهم وصف مساكنهم فقال :
٤٣ و ٤٤ ـ (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ...) أي منازلهم ومستقرّهم في البساتين التي إذا دخل الإنسان
إليها كان رغيد العيش فارغ البال مرّفه الحال من جميع الجهات. فهم فيها الجنان
متنعّمون بأنواع النّعم ، وهم (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) ولا يخفى أن الإنسان الذي من خصائصه اللاذّة الأنس إذا كان
في قصر عال ، أو في بستان جامع لأنواع الفواكه وكان متمتّعا بأنواع النّعم ،
ولكنّه مع هذه كلها إذا كان وحده بلا أنيس يركن قلبه إليه فعيشه ناقص غير مرفّه ،
ولذا بيّن سبحانه أن أهل الجنّة متمتّعون بجميع النّعم حتى نعمة المؤانسة
والمؤالفة لتسكن قلوبهم بنسائهم سواء كنّ من الأزواج أو الحور العين ، أو الخدم أو
السدنة أو الأصدقاء أو الرفاق الدنيويّين الذين كان كلّ واحد منهم يأنس بالآخر ،
فيقعدون في الجنّات على سررها متواجهين ، وهذا الجلوس أحسن أقسام الجلوس للتّرفيه
والمؤانسة. وهذه حالة ثانية من حالاتهم :
٤٥ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ ...) هي حالة أخرى ، فالحور العين ، وغلمان الجنّة يدورون عليهم
بكؤوس من معين أي فيها خمر يجري أنهارا في أرض الجنّة أو يتدفّق من العيون.
والمعين هو الماء العذب وصفت به لأنّها جارية كالماء الصّافي. والكأس هو الإناء من
جنس القارورة أي الزجاج يستعمل غالبا في شرب الخمر. وليس خمر الآخرة كخمر الدنيا
في اللّون ولا الطّعم ولا الخاصيّة ، فإن خمور الدنيا من خواصّها أنها تعرّض
شاربها للخبال والتهوّع والصداع وإزالة العقل بخلاف الخمور الأخرويّة التي لونها
كما وصفه الله تعالى :
٤٦ و ٤٧ ـ (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ...) أي لذيذة لهم ، وهي هكذا من حيث اللّون والطّعم ، ثم إنها (لا فِيها غَوْلٌ) هي خالية من المفاسد
التي تترتب على
خمر الدّنيا من الآثار التي ذكرناها آنفا (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) أي يسكرون ، من نزف إذا ذهب عقله ـ وقد أفرده بالذّكر مع
أنّها داخل تحت الغول. بل قيل الغول : هو اغتيال العقل ، لأن فساد العقل أعظم
المفاسد. فلذا اختصّ بالذكر من بينها ولما ذكر سبحانه مشروبهم بيّن منكوحهم فقال :
٤٨ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ
...) الطّرف النظر ومعنى القصر هنا الحبس. أي تلك الزّوجات
يحبسن نظرهنّ على أزواجهنّ ولا ينظرن إلى غيرهم. و (عِينٌ) جمع عيناء أي واسعات العيون لحسنها ، أو المراد هو الأعين
التي بياضها شديد كسوادها.
٤٩ ـ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ...) مكنون يعني مصون عن الغبار والكدورة وعن كلّ آفة. وتشبّه
الجارية بالبيض : بياضا وملامسة وصفاء لون ، لأنّه أحسن الألوان للبدن. وقد جرت
عادة العرب بتشبيه النّساء بالبيض بقولهم بيضات الخدود. والمراد من البيض على ما
يقولون هو بيض النعام لأن بيضه أصفى البيض وأحسنه لونا لأنه مشوب بقليل من الصّفرة
، وهذا أحسن الألوان لأبدان النساء عند العرب.
* * *
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ
مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي
سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا
الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))
٥٠ ـ (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ ...) فمن حالات أهل الجنة التي يتلذّذون بها هو المحادثات
والكلام عن المعارف وما جرى بينهم في الدنيا وفي عالم البرزخ إلى يوم ورودهم إلى
الجنّة ، ولا سيّما في هذه الحالات من كونهم على السّرر بجانب الحور ، والغلمان
تخدمهم وتدور عليهم بالكؤوس المملوءة بالخمر فيشربون ويتحادثون ، وهذه ألذّ حالات
الإنسان وقد قيل :
وما بقيت من
اللّذات إلّا
|
|
أحاديث الكرام
على المدام
|
٥١ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ...) أي حينما يتكالمون يقصّ واحد منهم على الجلساء حكاية فيقول
: كان لي في الدنيا قرين منكر للبعث وكان يقول لي توبيخا :
٥٢ ـ (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟
...) أي أأنت تصدّق الحشر وتقبل النشر كما يقول بذلك جماعة من
أتباع محمد (ص) فلا يزال يوبّخني هذا الجليس على التصديق بالبعث ويقول لي :
٥٣ ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً ...) أي بعد ما نصير ترابا كما نشاهد أعضاء الماضين من أهالينا
وغيرهم ، وتصير عظامنا رفاتا (أَإِنَّا
لَمَدِينُونَ) أي نحيا ونحشر ونحاسب ونجازى على أعمالنا؟ وقد كان يقول
ذلك على
وجه الاستنكار
وأنّ هذا لا يكون أبدا. والإتيان بالجملة الاسميّة أبلغ في النفي. والمدين من
الدّين بمعنى الجزاء ومنه يوم الدّين أي الجزاء.
٥٤ ـ (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ ...) أي أنّ الذي يقصّ على جلسائه يسألهم قائلا : هل تطّلعون
إلى أهل النار؟ وهل في الجنّة موضع يرى منه أهل النار لأريكم ذلك القرين؟ يفتح لهم
كوّة من الجنّة نحو النار ليرى هذا المؤمن قرينه فيقال له : انظر إلى قرينك وجليسك
المنكر للبعث والجزاء.
٥٥ ـ (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ ...) أي أشرف من تلك الكوّة على أهل الجحيم فرأى جليسه في وسط
النار. وفي القمي عن الباقر عليهالسلام : في وسط الجحيم ، وقيل إنّ في الجنّة كوى ينظر منها أهلها
إلى أهل النار.
٥٦ ـ (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
...) أي لتهلكني ، يعني قال القائل بعد ما اطّلع على حال قرينه
مخاطبا له تالله قد كان قريبا أن تهلكني بالإغواء وتجعل حالي كحالك. و (إِنْ) مخفّفة من المثّقلة بدلالة مصاحبته (لام الابتداء) لها أي
أنّك كدت تهلكني بما دعوتني إليه في الدنيا بقولك لا نبعث ولا نعذّب ، ومن مات
فات.
٥٧ ـ (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ
مِنَ الْمُحْضَرِينَ ...) أي لو لم يشملني لطفه تعالى بالهداية والعصمة لي لكنت أنا
معك في النار. ولا يستعمل (أحضر) إلّا في الشرّ ، وهكذا قيل كما بيّنا ذلك سابقا
وضربنا الأمثلة العديدة.
٥٨ و ٥٩ ـ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا
مَوْتَتَنَا الْأُولى ...) ثم إن المؤمن يخاطب قرينه ويقول له توبيخا وتقريعا أما قلت
في الدّنيا لا نموت (إِلَّا مَوْتَتَنَا
الْأُولى) التي كانت في الدّنيا (وَما نَحْنُ
بِمُعَذَّبِينَ) حيث كنت تنكر
البعث والعذاب. أرأيت
أنّ الأمر ظهر على خلاف ما تعتقده وتزعمه ، فإنه تعالى بعد ما أماتنا في الأولى ،
أحيانا في العقبى كما ترى أفما صرنا ميّتين معكم في الدّنيا ، والآن نحن وأنتم
أحياء ، ونحن عند ربّنا مرزوقون في جنّات النعيم وأنتم أيّها المنكرون للبعث
والنشور في درك الجحيم. وفي أكثر التفاسير أنّ هذا الكلام من مقالات أهل الجنة
ومكالماتهم فيما بينهم تعجّبا وسرورا بدوام نعيم الجنّة. فقولهم (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) يعني أنحن مخلّدون ولم يعد من شأننا الموت (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) التي في الدنيا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على الكفر السّابق قبل الإيمان؟ ويؤيّد القول الأخير تعقيب
الآيات السابقة بقوله تعالى :
٦٠ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
...) أي النعمة والخلود في الأمن من العذاب ، والظفر من المهالك
والنجاة من المكاره ، وعظيم كمال العظمة بناء على كونه من قول الله تعالى تصديقا
لقول المؤمن لا أنّه أيضا من قول المؤمن.
٦١ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ
...) وهذا الكلام يحتمل أن يكون من قوله تعالى ، أي لمثل هذه
النعم التي ذكرناها ينبغي أن يعمل العاملون في دار الدّنيا ، ويحتمل كونه من قول
أهل الجنّة.
* * *
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ
الشَّياطِينِ
(٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ
عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى
آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٧٤))
٦٢ ـ (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ ...) أي هل ما ذكر من الرّزق المعلوم وسائر النّعم خير نزلا؟ والنّزل
ما يعدّ ويهيّأ للضّيف بل لكلّ نازل من المكان والغذاء وسائر التشريفات ممّا
يتقوّت به وغيره. فهل نزل أهل الجنّة خير أم نزل أهل النّار وهو الزقّوم مع أنّه
لا خير فيه؟ وإنّما قال (خَيْرٌ) على وجه المقابلة. ومن هذا القبيل من التّعابير كثير كقوله
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قال أبو السّعود في تفسيره : الزقّوم شجرة صغيرة الورق
زفرة كريهة الرائحة مرّة غاية المرارة ولا شبهة في كون ما في الجحيم أنتن وأمرّ
بمراتب من كلّ ما يتصوّر. ولأهل جهنّم وراء هذا أنواع من العذاب وأصناف من العقاب
لا تخطر بخواطر أحد. وشجر الزقوم موجود بتهامة. ولما سمع كفّار مكة أن شجر الزقوم
ينبت في البرزخ تعجّبوا وقالوا إنّ نار جهنّم تذيب الحديد على زعم محمد وتابعيه من
شدّة حرّها فكيف ينبت فيها شجرة الزقّوم ولا تحرقها؟ فمن هذا الخيال الفاسد
استنتجوا بأن قول محمد هذا كذب وكذا سائر أقواله فقال تعالى ردّا عليهم :
٦٣ ـ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ ...) أي اختبارا لهم في الدّنيا حيث إنهم كذّبوا نبيّنا لمّا
سمعوا بأن في الجحيم شجرة الزقّوم جهلا بقدرتنا وأنّنا أعددناها محنة وعذابا لهم
في الآخرة. فالله سبحانه يشرح حال تلك الشجرة لنبيّه صلىاللهعليهوآله :
٦٤ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ ...) أي منبتها في قعر جهنّم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها ولا
بعد أن يخلق الله تعالى بكمال قدرته شجرة في النار من جنس النار أو من جوهر ضد النار
فلا تأكله النار ولا تؤثّر فيه كما أنها لا تحرق السّلاسل والأغلال والحيّات
وعقاربها ، وكما أنّه سبحانه بقدرته خلق السّمندر في النار ينشأ وينمو فيها ويبيض
فيها ويطلع منه الفرخ ويربيّه فيها. ثم أكمل سبحانه وصفها بقوله :
٦٥ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ
...) أي ثمر الشجرة شبيه برؤوس الشياطين في الكبر أو في التشويه
وتناهي القبح والكراهة في الصورة. وبعبارة أخرى وجه التشبيه الله أعلم به ولعله هو
الأخير حيث يتخيّل الإنسان أن رأس الشياطين وبني الجانّ ليس كرويّا صورة ، بل يجيء
في النظر التوهّمي أنّه مخروطيّ من طرف ذقنهم إلى منتهى رأسهم بطول من غير عرض.
فهو باصطلاح أهل المساحة مخروطي يبتدئ بسطح مستدير ويرتفع مستدقّا حتى ينتهي إلى
نقطة ضيّقة. فحمل هذه الشجرة وثمرها شكلا هكذا. ويؤيّد هذا المعنى استعارة لفظ
الطّلع الذي هو من النّخل شيء يخرج كأنّه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود.
والحاصل أن طلعها مستعار من طلع التمر المستطيل مخروطيّ الصّورة تقريبا ، وهو من
أقبح الصّور في الحيوان المستقيم القامة كالإنسان وبني الجان وأمثالهما من
الشياطين إذا كانوا على الاستقامة. وعلى كل تقدير :
٦٦ ـ (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ...) أي أن طعام أهل النار من ثمرة تلك الشجرة يملأون منها
بطونهم من شدّة الجوع فيغلي في
بطونهم كغلي
الحميم ، فاذا شبعوا من أكل الزقوم يشتدّ عطشهم فيحتاجون إلى الشراب فعند هذا وصف
الله تعالى شرابهم فقال :
٦٧ ـ (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً
مِنْ حَمِيمٍ ...) أي أنّ لأهل النار بعد أكل ثمرة الزقّوم أن يغلب عليهم عطش
شديد ويطول استسقاؤهم إذ إنّ فيهم (لَشَوْباً مِنْ
حَمِيمٍ) أي من ماء حارّ في غاية الحرارة مخلوط بغسّاق أو صديد
يقطّع أمعاءهم.
٦٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى
الْجَحِيمِ ...) أي بعد الأكل والشرب يردّونهم إلى الجحيم. وظاهر الآية يدل
على أنّ الحميم خارج عن الجحيم وأنهم يوردونهم إليه أوّلا ثم يردّون إليها. ويؤيّد
هذا الظهور قوله سبحانه (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) فهم يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى
الجحيم.
٦٩ ـ (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ
...) أي وجدوهم على الضّلالة فاقتفوا آثارهم وتسرّعوا إلى
اتّباعهم كما قال سبحانه :
٧٠ ـ (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ...) الإهراع هو الإسراع الشّديد ، كأنّهم يزعجون ويحملون على
الإسراع على أثر آبائهم. وفيه إشعار بالمبادرة إلى ذلك من غير توقّف على فكر أو
بحث ونظر. فالشريفة تعليل لاستحقاقهم تلك الشّدائد. ثم إنه تعالى تنبيها لقريش
وسائر كفار مكة أخبر رسوله عن الأمم الماضية والقرون السّالفة فقال عزّ من قائل :
٧١ ـ (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ
الْأَوَّلِينَ ...) (اللّام) هي التي
تدخل على جواب القسم المحذوف و «قد» للتّأكيد. أي قبل هؤلاء الذين هم في عصرك من
المشركين الذين كذّبوك ، ضلّ أكثر الأمم السّالفة.
٧٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ
مُنْذِرِينَ ...) أي الأنبياء والرّسل لإنذارهم ، فأنذروهم وخوّفوهم ووعظوهم
فما خافوا وما اتّعظوا.
٧٣ ـ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ ...) أي انظر كيف أهلكناهم ، وماذا حلّ بهم من العذاب. ثم
استثنى فئة من المنذرين فقال :
٧٤ ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ...) أي الذين تنبّهوا بإنذارهم واتّعظوا بمواعظهم فأخلصوا
دينهم لله فأخلصهم الله لدينه. ثم انه سبحانه بعد بيان ذكر الأمم الماضية إجمالا
أخذ في تفصيل قصصهم فقال :
* * *
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ (٨٢))
٧٥ ـ (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ ...) أي حين آيس نوح عليهالسلام من إيمان قومه به نادى ربّي انصرني ونحوه (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فأجبناه أحسن الإجابة. و (اللّام) في قوله (فَلَنِعْمَ) لام جواب القسم ، أي فوالله لنعم المجيبون نحن.
٧٦ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أهل الرجل هو زوجته ، ويطلق على عشيرته وقومه. وأهل مذهبه
هو من يدين به. والمراد هاهنا هو معناه الأخير سواء كان من عشيرته وقومه أو من
غيرهم ، أي
الجماعة الذين
كانوا معه في السّفينة ، أي رفعنا العذاب عنه وعمّن آمن به وخلّصناه (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) والكرب كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصّدر بحيث يعرض عليه ضيق
ربما يكاد أن يختنق منه الإنسان. والمراد به هنا هو الغرق ، بقرينة صفته ، أو أذى
قومه فأنّه في هذه المدّة الطويلة ينبغي أن يتّصف بالعظيم.
٧٧ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْباقِينَ ...) أي بعد الغرق. فالناس كلّهم من بنيه الثلاثة وهم : سام بن
نوح ، وحام بن نوح ، ويافث بن نوح. وجاء في خبر انّ أهل الفرس والرّوم والعرب من
أولاد سام ، والترك والصقالبة وهم قوم كانت تتاخم بلادهم بلاد الخزر ثم انتشروا
منها إلى بلاد سواها من أوربا. وقرئ بالسين (سقالبة جمع سقلبي) والخزر طائفة من
الناس خزر العيون والخزر هو ضيق العين ومنه بحر الخزر المعروف في إيران وسمّي
البحر باسم الجيل الذين كانوا يسكنون في سواحله وكلا الطائفتين انتشروا من هناك
إلى أقطار متعددة منها أوربا وغيرها. والخزر ويأجوج من نسل يافث ، والهنود والسود
جميعا من أولاد حام. وعن الكلبي أن نوحا لمّا خرج مع من كان معه من السفينة مات
كلّ من كان معه إلّا أولاده وزوجاتهم. وفي القمّي عن الباقر عليهالسلام في هذه الآية أنه كان يقول : الحقّ والنبوّة والكتاب
والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح. قال الله عزوجل في كتابه : (احْمِلْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقال أيضا (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).
٧٨ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) أي أبقينا لنوح ذكرا جميلا وثناء عاليا في الأمم المتأخّرة
عنه كأمّة محمّد صلىاللهعليهوآله إلى يوم القيامة ، وكأنّه يبيّن مراده من الثناء والذكر
الجميل بقوله تعالى :
٧٩ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ...) يحتمل كون هذه الجملة بيانا لما ترك عليه من الذكر الجميل
، فكأنه قال : تركنا على نوح التسليم والصّلوات إلى يوم القيامة في الأمم
اللّاحقة. نعم ، وأيّ تذكار وثناء جميل أحسن وأعلى منهما؟
٨٠ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
...) أي مثل ما جزينا نوحا نفعل ونجزي كلّ من أحسن وفعل ما فعله
نوح ، وأتى بأفعال الطّاعات وتجنّب المعاصي.
٨١ ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
...) أي أنّ نوحا منهم. وهذه الشريفة تتضمّن مدح المؤمنين حيث
خرج من بينهم مثل نوح عليهالسلام.
٨٢ ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ...) أي كفرة قومه. ثم إنه تعالى بعد قصة نوح وقومه شرع في بيان
قصة إبراهيم الخليل عليهالسلام وعرض كيفيّة مجادلته مع قومه قال سبحانه وتعالى :
* * *
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥)
أَإِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦)
فَما
ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧))
٨٣ ـ (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ
...) أي من أتباع نوح عليهالسلام في أصول شرعه وكثير من سننه وطريق الحق وإيذائه من قومه
إبراهيم عليه
السلام. والفاصل
بينهما ألفان وستمائة وأربعون سنة وكان في هذه المدة رسولان أحدهما هود ، والآخر
صالح. وفي تفسير اللّباب وبعض آخر من التفاسير أن الضمير في قوله (مِنْ شِيعَتِهِ) راجع إلى خاتم الأنبياء محمد (ص) كناية غير مذكورة في
الكلام المكنّى عنه لا سابقا ولا لاحقا فإن إبراهيم وإن كان سابقا على خاتم
الأنبياء صورة أما معنى. وفي عالم الواقع فكان تابعا له في أصول عقائده وفروعها ،
وذلك أنّ الله سبحانه لما أرى إبراهيم ملكوت سماواته توجّه عليهالسلام إلى العرش فرأى نورا عظيما وفي يمينه ويساره أنوارا أخرى ،
فقال : اللهم من هؤلاء الأنوار؟ فجاءه النداء من ساحة قدسه تعالى : النور الأنور
من الكلّ هو حبيبي وصفيّي محمد خاتم أنبيائي ، ومن على يمينه هو وصيّه وزوج ابنته
فاطمة وأخوه علي بن أبي طالب ، ومن على يساره هي ابنته فاطمة الزهراء زوجة خير
الأوصياء ، سمّيتها فاطمة لأنّها تفطم أحبّاءها من النار ، أي تمنعهم منها كما
تفطم الأمّ رضيعها من لبنها. وأمّا النوران الآخران فهما الحسن والحسين ولداها.
فقال : يا ربّ أرى أنوارا تسعة أحاطوا بالخمسة؟ فجاء النداء : هم الأئمّة من ولد
الحسين. فقال يا ربّ أرى أنوارا كثيرة تدور حول الأنوار المذكورة المعروفة. فجاءه
النداء : إنّهم المحبّون لعلي بن أبي طالب وأشياعه. فقال يا ربّ اجعلني من شيعتهم
ومحبّيهم. فالله تعالى استجاب دعاءه ، وأخبر نبيّه بذلك فقال سبحانه (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي من شيعة عليّ عليهالسلام إبراهيم ، ومن كان من شيعة عليّ فهو من شيعة محمّد وآله
صلوات الله وسلامه عليه وعليهم. ولعلّ بهذه المناسبة قال المفسّرون إن الضّمير
راجع إلى النبيّ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم. والله تعالى أمر نبيّه أن يتذكّر قصّته ويذكرها لقومه.
٨٤ ـ (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ...) أي حين صدّق الله وآمن به بقلب خالص من الشّرك برىء من
المعاصي ، وعلى ذلك عاش وعلى ذلك
مات. وقيل بقلب
سليم من كلّ ما سوى الله ، لم يتعلق بشيء غيره كما عن أبي عبد الله عليهالسلام والصّلاة ، وقيل من حبّ الدنيا.
٨٥ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا
تَعْبُدُونَ؟ ...) ظرف لجاء أو سليم. أي كان قلبه حين قيامه لترويج دين الله
وشرعه بمبارزته مع المشركين وعبدة الكواكب والأصنام على اختلاف آرائهم فارغا
وسالما عن جميع ما سوى الله. ولعلّ المراد بالأب هو عمّه آزر لأنه كان قائما
بأموره في صغره كما ذكرنا سابقا ، والولد إذا مات أبوه وله عمّ يقوم مقام أبيه في
تربيته وتجهيز أموره فيعرف بأنه أبوه. والطفل لا يعرف أبا غيره إلى أن يكبر. ففي
حين الكبر احتراما وتشريفا جبرا لإحسانه أيضا يطلق عليه (الأب) تنزيلا ، كما أن
المعروف والمتعارف عند الناس أنهم يطلقون (الأب) على كلّ شائب احتراما (ما ذا تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدونه من دون خالقكم وخالق ما تعبدونه؟ قال
لهم ذلك إنكارا وتقريعا.
٨٦ ـ (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ
تُرِيدُونَ ...) الإفك هو أشنع الكذب ، وأصله قلب الشيء عن جهته الّتي هو
عليها أي هل تعبدون عبادة كذبا ، وتريدون عبادة آلهة غير الله للكذب والبهتان؟
وتقديم المفعول له أي «الإفك» للاهتمام به والعناية وكذا المفعول به. يعني لا
تصلون إلى ما تقصدون وتريدون من إطفاء نور الله تعالى بعبادة غيره سبحانه أبدا.
٨٧ ـ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ؟
...) أي ما زعمكم وعقيدتكم بمن هو حقيق بالعبادة ، وأنتم أشركتم
به غيره كأنكم أمنتم من عذابه. ثم إنّ قومه كان لهم عيد ومهرجان في يوم مخصوص من
أيام السّنة فعزموا أن يأخذوه معهم فاعتذر.
* * *
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي
النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فَراغَ
إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣))
٨٨ إلى ٩٠ ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ...) أي بعد أن نظر في النجوم (فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ) مريض. وكان المنجمون من قومه يخافون العدوى ، فخافوا أن
يكون به مرض يؤثّر فيهم وينتقل إليهم وكانت أغلب أسقامهم يومئذ بالطّاعون ، ولذلك
حكى تعالى عنهم بقوله (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ
مُدْبِرِينَ) أي تركوه هاربين خوفا من كون مرضه الطاعون وهو مرض سار ،
فلمّا ذهبوا بأجمعهم إلى عيدهم دخل المعبد :
٩١ و ٩٢ ـ (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا
تَأْكُلُونَ؟ ...) أي ذهب إليهم خفية ومال عليهم سرّا وكان عندهم طعام زعموا أنهم
يأكلونه أو يتبارك فيهم (فَقالَ) إبراهيم (ع) للآلهة استهزاء : (أَلا تَأْكُلُونَ) من هذا الطعام اللذيذ؟ ولمّا كانت الأصنام أحجارا صمّاء ،
قال : (ما لَكُمْ لا
تَنْطِقُونَ؟) أي لم لا تجيبونني؟ وفي هذا تنبيه على أنّها جماد لا تأكل
ولا تنطق ، بل هي أخسّ الأشياء وأدناها.
٩٣ ـ (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ
...) أي فمال عليهم مستخفيا. والتعدية بعلى للاستعلاء (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي أخذ يضربهم ضربا باليمين لأنها أقوى. أو ضربهم بقوة
كاملة. واليمين كناية عن ذلك. أو المراد بذلك هو الحلف الذي سبق منه وهو قوله (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) يعني بسبب اليمين ، أي الحلف السابق. والحاصل أنه دخل بيت
الأصنام وكان فيه اثنان وسبعون صنما وكسّرها كلّها إلّا الكبير منها وكان مصنوعا
من
ذهب أحمر وكانت
عيناه من الياقوت ، فعلّق المعول في رقبة الكبير منها. فلمّا رجعوا من عيدهم
وراحوا إلى زيارة الأصنام ورأوا أنها مكسورة تغيّرت أحوالهم.
* * *
(فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))
٩٤ ـ (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ...) أي أسرعوا إلى إبراهيم بتمام السّرعة. والزفيف حالة بين
المشي والعدو ، فإنّهم لمّا اطّلعوا على ما صنع بأصنامهم قصدوه مسرعين وحملوه إلى
بيت أصنامهم وجرت بينهم وبينه المحاورات التي نطق به قوله تعالى في غير هذه
السّورة : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) فأجابهم على طريق الحجاج :
٩٥ ـ (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ ...) يعني كيف يصحّ عند عاقل أن يخضع ويعبد مصنوعه ومعموله؟ وهل
يعقل الجماد أو هو ذو شعور وهو لا يضرّ ولا ينفع؟ والاستفهام إنكاريّ قد جاء في
مقام التّوبيخ. ثم قال إتماما للحجّة على وجه الإرشاد والتّنبيه :
٩٦ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ...) أي الذي ينبغي أن يعبد ويخضع له هو الذي أوجدكم من العدم
إلى الوجود ، وكذلك خلق أصول ما
تعملونه ، وجواهره
كلّها مخلوقة وموجودة بقدرته وإيجاده تعالى في عالم الوجود ، فهو أحقّ بالعبادة
والإطاعة. فالشريفة تنبيه كامل على أن الأوثان جمادات وهي أخسّ الموجودات وأدونها
فكيف تعبدونها من دون تعقّل ولا رويّة؟
٩٧ ـ (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ...) قال ابن عباس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السّماء
ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملأوه نارا وطرحوه فيه. وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وقال الزجّاج كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. وقيل إنّ
الجحيم هي النار العظيمة.
٩٨ ـ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَسْفَلِينَ ...) أي أرادوا حيلة في هلاكه بأن أوقعوه في النار بواسطة
المنجنيق ورموه في تلك النار العظيمة التي يعبّر عنها بالجحيم (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي أبطلنا تدبيرهم بأن صاروا مقهورين وجعلنا النار بردا
وسلاما على إبراهيم وكان هذا برهانا منيرا على علوّ شأنه وعظمته وصدق دعواه ،
وإلزاما للخصم. ومع ذلك لم يؤمنوا به ، فعلم أن القوم مصرون على شركهم جاحدون
بآياته ومعجزاته ، فأراد المهاجرة وقال ، ما حكى الله تعالى عنه بقوله :
* * *
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي
أَرى
فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
فَلَمَّا
أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ
يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١))
٩٩ ـ (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي
سَيَهْدِينِ ...) إلى ما أمرني ربّي من الأمكنة المقدّسة. وفي الكافي عن
الصّادق عليهالسلام : يعني بيت المقدس. أمّا (سَيَهْدِينِ) فقال هذا ترغيبا لمن هاجر معه وتابعه في الهجرة وهو أوّل
من هاجر من أذى قومه ومعه لوط وسارة ، ولعل هاجر خادمة سارة قد هاجرت معهم أيضا
وكانوا ممّن آمنوا به واتّبعوه في الهجرة من بلد الكفر بعد يأسه من إيمانهم به عليهالسلام. وقيل إن هاجر في طريقه إلى الشام صارت في تصرّف سارة وهي
وهبتها لزوجها لعلّ الله يرزق إبراهيم منها ولدا ، فإن سارة كانت عقيما لا تلد وقد
يئست من نفسها. ولمّا ملكها إبراهيم استوهب من ربّه الولد بقوله :
١٠٠ ـ (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ...) أي أعطني بعض الصّالحين ، يريد الولد. لأنّه يقال إن لفظ
الهبة في القرآن أو مطلقا غلب في الولد كما في قوله (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، (وَوَهَبْنا لَهُ
يَحْيى) ويستفاد أن الصّلاح أشرف مقامات العباد. وهذا الدّعاء
والسؤال منه عليهالسلام
كان حين وروده
الأرض المقدسة فاستجاب الله سبحانه دعاءه وبشّره بالاستجابة بقوله :
١٠١ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ...) وهذه الشريفة تؤيّد ما قيل من أن مراده عليهالسلام باستيهابه كان هو الولد. وقيل ما وصف الله نبيّا بالحلم
لعزّة وجوده غير إسماعيل. والحليم هو الوقور ، والحليم هو الذي لا يعجل في الأمر
قبل وقته مع القدرة عليه. والمعنى أخبر سبحانه أنه تعالى استجاب لإبراهيم بقوله (فَبَشَّرْناهُ) بابن وقور غير مستعجل في الأمور قبل أوانها وكان حلمه
بمرتبة أنه في غضاضة سنّه وطلوع شبابه قال له أبوه يا ولدي أمرت أن أذبحك فأجاب ف (افْعَلْ) ما أنت مأمور به بلا تردّد ولا سؤال عن الآمر ، أو لماذا
أمرت بذبحي أبدا أبدا ، وكان سلما محضا لأبيه في أوامره ونواهيه ، وهذا من لوازم
حلمه لأنه لم يعجل في أمر أبدا بسؤال ولا بجواب.
١٠٢ ـ (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...) أي أدرك وبلغ السنّ الذي يقدر على السعي في أمور والده معه
، يعني حدّ الشباب (قالَ يا بُنَيَّ
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي فكّر في الأمر حتى ترى وتعرف رأيك ووظيفتك. وقد شاوره
في أمر محتوم ليوطّن نفسه عليه فيهون عليه فقال بكلّ تروّ وتأمّل وكمال اطمئنان
قلب ووقار ومتانة (يا أَبَتِ افْعَلْ ما
تُؤْمَرُ) اي ما تؤمر به ، وإنما أتى بلفظ المضارع لتكرّر الرّؤيا (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ) أي على أمره تعالى وبلائه الممتثلين لما يريد.
١٠٣ ـ (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
...) أي حين استسلما لأمر الله ، أو أسلم إبراهيم وتهيّأ لذبح
ابنه ، وأسلم الابن نفسه للبلاء المكتوب على الأولياء ، وفي المجمع عن أمير
المؤمنين والصّادق عليهماالسلام ، أنّهما قرءا : فلمّا سلّما ، من التسليم (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعة على شقّه وهو أحد جانبي الجبهة ، فوقع جبينه على
الأرض ، أو أكبّه على وجهه حسب
طلبه كيلا يراه
فيرقّ له بتحريك عرق الأبوّة فتلحق به رقّة الآباء. وبالجملة فإنه بعد أن رأى ليلة
التّروية ذلك المنام وأصبح تروّى في ذلك المنام من الصّباح الى الرّواح : أمن الله
هذه الرّؤيا أم من الشيطان ، فمن ثمّ سمّي يوم التّروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك
فعرف أنّه من الله ، ولعلّه بإلهام منه تعالى أوحى إليه فسمّى ذلك اليوم يوم عرفة.
ثم رأى مثله في اللّيلة الثالثة فاطمأنّ فهمّ بنحره فسمّي يوم النّحر. وعند ما
اهتّم بنحره وتلّه للجبين جاءه النداء من قبل الرّب : يا إبراهيم.
١٠٤ و ١٠٥ ـ (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ...
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ...) أي بالعزم على الإتيان بما كان تحت قدرتك واستطاعتك من
مقدّمات العمل. وجواب «لما» في (فَلَمَّا أَسْلَما) محذوف وتقديره : (فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ) ، إلى قوله (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) ففازا وظفرا ونجوا من محن الابتلاء والامتحان. قال الرّازي
: احتجّوا بهذه الآية على أنّ الله قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، والدليل عليه أنه
سبحانه أمر بالذبح وما أراد وقوعه. أمّا أنّه أمر بالذبح فلما تقدّم في تفسير الآية.
وحيث إنه لم يقع يكشف أنه ما أراد وقوعه فإن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح ، والنهي
عن الشّيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح وأنه ما
أراده. ويدلّ ذلك أيضا على أن الأمر قد يوجد من دون الإرادة ، فيستفاد أن غرض
الآمر ليس أن يأتي المأمور بما أمر به ، لأن ذلك الفعل قد يكون وقوعه مبغوضا عند
الآمر بل الغرض من الأمر به أن يوطّن المأمور نفسه على الانقياد والطّاعة ، فإذا
انقاد وفعل مقدمات التكليف رفع عنه عند ذلك التكليف ، لأن الغرض قد حصل ويعبّرون
عن هذا الأمر بالأمر الاختباري أو الانقيادي ، ويثاب عليه فيما إذا لم يأت
بالمأمور به ، أي الذي لم يرده الآمر. وإذا أراده وجاء به المكلّف فالثواب على
المكلّف به فقط لا عليه وعلى مقدّمته على ما يستفاد من الأخبار وكثير من الأقوال.
والتحقيق في المقام أن يقال كما قيل في الأوامر
الاختباريّة
كمسألة الذبح ونحوها ، فالتكليف تعلّق بنفس المقدّمة بحسب الواقع والحقيقة ،
والمكلّف به هو المقدّمة لها ما هو في الظاهر متعلّق الأمر ، لأنه ليس بمراد
للمولى. فإن ما هو المراد والمقصود ما هو بحسب الظاهر مقدّمة فهو المكلّف به واقعا
، فإن المدار في باب التكاليف على ما هو المراد لا ما تعلّق به الأمر الظاهريّ ولو
لم يكن بمراد. وبعبارة أخرى فالأمر بالذبح في المقام مقدّمة للإتيان بمقدّماته
لأنها مراد للمولى. فما هو المقدّمة في مرحلة الظاهر بحسب الفهم العرفي هو ذو
المقدّمة في نفس الأمر ، ولذا يثاب عليه ويعاقب به. وما هو ذو المقدّمة ظاهرا فهو
مقدّمة واقعا لأنه ليس بمراد للمولى. ويدل على ما ذكر ظاهر الشريفة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) مع أن الرّؤيا كانت على ذبح الولد ، والذبح ما وقع ، فكيف
صدّقها وما وقع ولا صدر منه إلّا المقدّمات التي تدل الآية السابقة عليها؟ فهو عليهالسلام لم يأت إلّا بها ، فالتّصديق راجع لما أتى به. فنستكشف من
المجموع أنّ المأمور به هو ما أتى به ، في الواقع ، لا ما هو متعلّق الأمر الظاهري
أي الذبح ، وما يطلق على إسماعيل من أنه ذبيح الله فهو اما باعتبار أن ما كان تحت
قدرته قد أتى به على ما دلت عليه الآيات السابقة ، وما قصّر في شيء مما كان عليهالسلام الله عليه. وأما عدم وقوعه فلأن إرادة الله تعالى كانت على
عدم الذبح فصارت مانعة ، وهذا لم يكن تحت قدرته وإرادته. فحضوره وتسليمه للذّبح
بمنزلة الذّبح فالإطلاق تنزيلي ، أو باعتبار بدله وهو الكبش لأنه في حكم المبدل
والله أعلم بأسرار كتابه (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا إبراهيم وابنه إسماعيل على حسن عملهما بأن
بدّلنا حزنهما بالفرح ومحنتهما بالسّرور ، هكذا نعمل مع كلّ من أحسن عمله وأتى
بعمل مرضيّ عندنا.
١٠٦ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ
...) أي ابتلاء إبراهيم واختباره هو
امتحان وابتلاء
ظاهر يميّز به المخلص من غيره ، والمحبّ الثابت في محبّته عن المبغض.
١٠٧ ـ (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ...) أي بكبش أملح سمين كان يرتع قبل ذلك في رياض الجنّة ،
والمراد بالعظيم يمكن أن يكون عظيما جثّة أو قدرا. لمّا جيء بالكبش وذبحه الخليل
اعتنق ابنه وقال يا بني اليوم وهبت لي. ويكفى في أهميّته وقدره أنّ مرتعه الجنّة ،
ومرسلة الله ، والواسطة في الإرسال جبرائيل ، والمرسل إليه هو الخليل بدلا عن
النبيّ إسماعيل جدّ خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ، يكفي ذلك كلّه ليكون
ذبحا عظيما ...
١٠٨ إلى ١١١ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ...) قد سبق بيان هذه الآية وما بعدها في قصّة نوح.
* * *
(وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))
١١٢ ـ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ ...) أي ولدا نبيّا من جملة الأنبياء المرسلين الصّالحين ، وهذا
ترغيب في تحصيل الصلاح بأن مدح ونعت مثله مع جلالته بالصّلاح.
١١٣ ـ (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ...) أي أفضنا عليهما بركات الدّنيا
والآخرة. وجميع ما
أكرمناهما به وأفضناه عليهما ثبّتناه وأدمناه عليهما. أو المراد أن أولادهما
وذراريهما صيّرناهم كثيرين وأبقيناهم إلى يوم الدّين حتى أخرجنا من صلبهم كثيرا من
الأنبياء (وَ) مما أعطيناهما (مِنْ ذُرِّيَّتِهِما
مُحْسِنٌ) أي بعض منهم محسن بالإيمان والطّاعة وحسن السلوك ومنهم (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والعصيان. ويستفاد من الشريفة أنّ النسب لا أثر له
في الهدى والضلال ، وأنّ الظّلم في أعقابهما لا يسري إلى الآباء والأجداد ولا يصير
سببا للنّقص والعيب فيهم ، كما أنّ هداية الآباء والأجداد لا تستلزم هداية الأعقاب
والأنجال ، فالعقاب والثواب ليسا بمتفرّعين على الأصول والفروع ، بل كلّ يعمل على
شاكلته ، ويعمل به على طبق ما عمله (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) فإن السؤال في ذلك اليوم عن الأعمال لا الأنساب. و (مُبِينٌ) أي بيّن الظّلم. ثم إنه تعالى بعد ذكر قصّة إبراهيم
وأولاده وبيان ما أنعم عليهم يظهر ما أنعم على موسى وأخيه هارون عليهماالسلام فيقول :
* * *
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما
وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)
وَنَصَرْناهُمْ
فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))
١١٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ
...) أي أنعمنا عليهما بأعظم النّعم ، وهي النبوّة وغيرها من
المنافع الدّنيويّة والأخرويّة. اما الأولى منها فالوجود والعقل والصّحة والكمال
ودفع المضار ، وأما الثانية فالعلم والطاعة والعصمة عمّا لا يرضى الله بفعله
وأعظمها ما قلناه من الرسالة.
١١٥ ـ (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ...) أي من تسلّط فرعون وتغلّبه عليهما. وهذه الشريفة إشارة إلى
دفع المضارّ عنهما وكذلك ما يتلوها من قوله جلّ وعلا :
١١٦ ـ (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ
الْغالِبِينَ ...) أي على فرعون وقومه ، فقد غلبوهم بنصرنا وتقوّوا عليهم.
١١٧ ـ (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ
الْمُسْتَبِينَ ...) أي التوراة التي هي في غاية الظهور ونهاية الاتضاح بالإضافة
إلى ما تشتمل عليه من الأحكام البيّنة والقصص الواضحة ، ولهذا سمّي بالتوراة. وهذه
اللفظة عند البعض لفظ عربيّ مشتقّ من أورى الزّند أي أخرج النار من الزّناد أو
استخرج ناره. فكأنّ العلوم التي يحتاج إليها الناس تترشح منها كما أن النار تنقدح
وتنطلق من الزناد.
١١٨ إلى ١٢٢ ـ (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ ...) أي دللناهما وأرشدناهما إلى الطّريق الموصل إلى الحقّ
والحقيقة (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما الثناء الجميل بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ذاك أننا (كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ) ف (إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وقد سبق تفسير مثل تلك الآيات فلا نكرّر تفسيرها. ولما كان
الياس على ما هو المعروف والمشهور سبط هارون والسبط هو ولد الولد
ويغلب على ولد
البنت مقابل الحفيد الذي هو ولد الابن ، فمن هذه الجهة عقّب حكايته لذكر موسى
وهارون وقال عزّ من قائل :
* * *
(وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
(١٣٢))
١٢٣ ـ (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) هو إلياس بن ياسين بن ميشا بن فنخاص بن الغيران بن هارون
أخي موسى ، بعث بعده. وقيل هو إدريس. وقيل إن إلياس صاحب البراري والخضر صاحب
البحار أو الجزائر ويجتمعان في كل يوم عرفة بعرفات. وبالجملة فإنه سلام الله عليه
من المرسلين لهداية الناس ثم قال سبحانه : اذكر يا محمد قصّة الياس :
١٢٤ إلى ١٢٦ ـ (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟
...) أي ألا تخافون الله أن تعبدوا غيره؟ وكان لقومه صنم
يعبدونه وكان الصنم من الذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه ، وكان اسمه (بَعْلاً) وكان أجوف قد يدخل الشيطان جوفه ويدعوهم إلى عبادته من دون
الله. وكان له أربعمائة
خادم ، وهم يزعمون
أنهم أنبياؤه ورسله. وكان البعل في مدينة بعلبك ولذا سمّيت (بعلبك) باسم ذلك
الصنم.
والحاصل أن إلياس عليهالسلام قال لقومه :
أتعبدونه (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي وتتركون عبادة أحسن المصوّرين أو أحسن الصّانعين أو
المراد ما هو الظاهر من الشريفة : أي أحسن الموجدين. ولمّا لم يكن تعدّد في الخالق
والموجد فلا بدّ من أن نحمل الخلق على التقدير ، أي أحسن المقدرين. فإن كلّ ما
يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أوّلا ، وإيجاده على وفق التقدير ثانيا
، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا ، فالله تعالى خالق من حيث هو مقدّر ، أي مرتّب
خلقه على تقديره. فيصحّ أن يقال إنه خالق أي مقدّر ، أو أننا لا نؤوّله ونبقيه على
ظاهره بلا أيّ تأويل وتصرّف ونقول : المراد أنّه تعالى أحسن الخالقين فرضا وبزعمكم
أن له تعالى شركاء في الخلق وسائر جهات الألوهيّة ، لكنه أحسن الآلهة في الخلق
والتدبير وغيرهما ، فكيف تقدّمون المرجوح على الراجح والحسن على الأحسن لو كنتم
تعقلون؟ فإن تقديم الحسن على الأحسن هو تقديم بلا مرجّح إن لم نقل إنه من القسم
الأوّل. والحاصل إن إلياس لما عابهم على عبادة غير الله وعيّرهم على ذلك صرّح بنفي
الشركاء فقال : (اللهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبائِكُمُ) قرئ بنصب الثلاثة بدلا من قوله (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) وقرئ بالرفع خبرا عن المحذوف من الضمير الراجع إلى أحسن
الخالقين بتقدير : الذي هو الله ربّكم وربّ آبائكم ... ثم إنهم بعد هذه الدعوة
غضبوا عليه وكذّبوه كما في الآتي :
١٢٧ إلى ١٣٢ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
...) أي سنحضرهم في محضر الحساب لنذيقهم العذاب الذي لا نجير
منه (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) والاستثناء إمّا منقطع ، أو هو استثناء من فاعل (فَكَذَّبُوهُ) أي أن عباد الله المخلصين لم يكذّبوه بل صدّقوا دعوته (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي
الْآخِرِينَ) فأبقينا له الذّكر الحسن والثناء الجميل (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) سلام في هذه الآيات كلّها مبتدأ ، والجارّ ومجروره الذي بعده
خبره ، والجملة في موضع المفعول له لقوله (وَتَرَكْنا) وبيان للذكر الحسن. يعني أننا أبقينا لإلياس في من بعده من
الباقين سلاما على إلياسين. أي هذه الكلمة الطيبة. أمّا إلياسين فلغة في إلياس ،
أو جمع له يراد هو ومن تبعه. وقرئ آل ياسين ، أي آل محمد وهو مرويّ عندنا بطرق
كثيرة. ولا يخفى ان هذه العبارة أي (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ : سَلامٌ) مذكورة بعد كل نبيّ يذكر وهي هنا أيضا راجعة إلى إلياس.
والقراءة : الياس أو إلياسين ، وآل ياسين خلاف الظاهر مضافا إلى أن آل ياسين خلاف
سياق الآيات القبلية والبعدية كقوله (إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فإن إفراد الضمير في قوله (إِنَّهُ) يأبى أن يكون المرجع هو الآل لأن الآل إما جمع لا مفرد له
من لفظه أو من أصله ، أو اسم جمع وعلى كلا الأمرين فيه معنى الجمعيّة ولا يناسبه
الضمير المفرد. ولا بأس بذكر حديث شريف في المقام ليكون دليلا على المدّعى أي كون
الآل فيه معنى الجمع ، ففي معاني الأخبار سئل الصادق من آل محمد؟ فقال ذرّيته.
فقيل : ومن أهل بيته؟ قال عليهالسلام : الأئمّة عليهمالسلام. قيل : ومن عترته؟ قال : أصحاب العباء. قيل : فمن أمته؟
قال المؤمنون. ثم إنه تعالى عطف قصة لوط على قصص الأنبياء السابقين تنبيها للعباد
وإنذارا لأهل العناد فقال :
* * *
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ
(١٣٦) وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))
١٣٣ إلى ١٣٥ ـ (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم (ع) كان ممن أرسل إلى سدوم.
فنحن نروي لك قصته (إِذْ نَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ) فاذكر يا محمد إذ خلّصناه ومن آمن معه من قومه من عذاب
الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ) أي في الباقين الذين اهلكوا ، وهي امرأته التي كانت معاندة
كافرة.
١٣٦ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ...) قد مضى تفسيرها.
١٣٧ ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ ...) الخطاب لأهل مكة يعني يا قريش أنتم في أسفاركم لا زلتم
تمرّون عليهم وعلى منازلهم الخربة (مُصْبِحِينَ) وكانت كيفية أسفارهم أنهم يسيرون ليلا بحيث عند الصباح
يدخلون قرية سدوم المدمّرة ويستريحون فيها ولا يعتبرون أنها كان منازل أقوام
أقوياء أصحاب أغنام وإبل وبساتين وقصور عاليات ، وكانوا مرفّهين في منازلهم
فأصبحوا مخسوفا بهم في مساكنهم هالكين في دورهم. وهذه الشريفة في مقام تهويلهم
وتخويفهم.
١٣٨ ـ (وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ...) عطف على (مُصْبِحِينَ) أي :أفليس فيكم عقل تعتبرون به؟ وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : تمرّون عليهم في القرآن ، إذا
قرأتم القرآن تقرأون ما قصّ الله عليكم من خبرهم. ثم إنه تعالى بعد ذكر قصة لوط
يبيّن قصّة يونس :
* * *
(وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ
مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ
شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))
١٣٩ إلى ١٤١ ـ (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
...) أي اذكر يا محمد يونس بن متّى الذي بعث إلى أهل نينوى من
بلاد الموصل في العراق (إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) حيث هرب إلى السّفينة المملوءة بالناس وبأمتعتهم. وأبق حسب
وضعه اللغوي هو من (أبق العبد من سيده) أي هرب منه. ولمّا خرج يونس من بين أقوامه
بلا رخصة من مولاه الحقيقي ، فينبغي أن يطلق على فراره من القوم الإباق. وبالجملة
نفهم من قوله تعالى (إِذْ أَبَقَ) أن خروجه من بين القوم كان بلا إذن منه تعالى وبلا رضاه
فلذا أطلق الإباق عليه. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) : أي قارع فكان أنّ القرعة خرجت باسمه وقد خسرت صفقته فوقع
في القرعة فقال : أنا الآبق ، ورمى بنفسه في البحر. وعن الصادق عليهالسلام : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله عزوجل إلّا خرج سهم المحقّ : وقال عليهالسلام : أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا الأمر إلى الله
أليس الله عزوجل يقول (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ؟).
١٤٢ ـ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
...) أي ابتلعه. وقيل إن الله أوحى إلى الحوت : إنّي لم اجعل
عبدي رزقا لك ، ولكنّي جعلت بطنك مسجدا له فلا تكسرنّ له عظما ، ولا تخدش له جلدا.
وهذا القول على فرض صحّته لا بدّ من التأويل بأن الوحي إلى أعضاء الحوت المجهّزة
كل واحد منها للأعمال الخاصة كجهاز الهضم (وهي المعدة وجهاز التفرقة والتبديل
والتصفية من الأمعاء وغيرها) والوحي إليها عبارة عن توقيفها عن أعمالها الخاصة.
وإلّا فلا معنى للوحي إلى الحوت بما ذكر ، والنهي عمّا ذكر ، فإن أعمال القوى
المجهزة في بدن الحيوان للوظائف الخاصة المقررة ليس تحت قدرة الحيوان واختياره حتى
يؤمر بعدم هضم شيء وبابقائه في البطن سالما صحيحا ، فإن الأعضاء كلّ منها يعمل على
طبق وظيفته التي خلق لها قهرا وبلا اختيار لصاحبها كما هو المشاهد بالوجدان في بدن
الإنسان ، فكذلك غيره (وَهُوَ مُلِيمٌ) أعني مستحقّا للّوم ، (لوم العتاب) لأنه ترك الأولى
والنّدب ، أي الإجازة من سيّده الحقيقي (لا لوم العقاب) أو معناه أنه عليهالسلام لام نفسه بأنّه لم ترك الاستجازة من مولاه؟ ومن جوّز
الصّغيرة على الأنبياء قال قد وقع منه صغيرة مكفّرة. والحوت بالمقدار الممكن الذي
كان تحت قدرته كان يحفظه ويحرسه ويرعاه بإلهام ربّه فيخرج رأسه من الماء مدّة حتى
يتنفس يونس ويستنشق الهواء الموافق لمزاجه ولا يأكل إلّا الطيّبات ممّا في البحر
ونحو ذلك مما هو موافق للمزاج البشري. واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت ، بين
ثلاثة أيام وسبعة وعشرين وأربعين يوما وهو تعالى أعلم.
١٤٣ و ١٤٤ ـ (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ ...) أي الذاكرين لله تعالى بالتسبيح أو غيره. ولعلّ المراد
أنّه كان يقول في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) فلو لا ذلك (لَلَبِثَ فِي
بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي ليوم الحشر الأكبر ، ولبث : بقي.
١٤٥ ـ (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ
سَقِيمٌ ...) أي أمرنا الحوت بالخروج إلى ساحل البحر فرماه من بطنه إلى
أرض عارية من الأشجار والنباتات خالية من الجبال والتّلال مسطّحة (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي كفرخ الطائر الذي لا ريش عليه أو المولود خرج من بطن
أمّه من ساعته ، متعبا ممّا ناله في بطن الحوت من الضّعف والهزال.
١٤٦ ـ (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ ...) أي أنشأنا شجرة الدّباء وغطّيناه بورقها العريض بعد
إنباتها حتى لا يتأذّى من حرارة الشمس والذباب ، فإنه قيل : من خواصّ القرع أن
الذباب لا يدور مداره ، ولا يقربه حيث يتأذى من رائحته. فكان يونس عليهالسلام محفوظا به ويستفيد من أكله ثمره. فلمّا مضت مدة بحيث نبت
لحمه واشتدّ عظمه ثم إن الأرضة أكلت الشجرة فيبست من أصلها فحزن يونس عليها حزنا
شديدا فقال : يا ربّ كنت استظلّ تحت هذه الشجرة من الشمس والريح ، وكنت آكل من
ثمرها ، وقد سقطت. فقيل له : يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة وأسقطت بعدها ،
ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم وفررت منهم؟ فانطلق إليهم ، وذلك قوله :
١٤٧ و ١٤٨ ـ (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ ...) قيل لمّا وصل خبر مجيء يونس إلى أهل نينوى وعودته إليهم
خرج الملك وجميع أهل البلد إليه واستقبلوه بحفاوة فدعاهم إلى ما دعاهم اليه أول
الأمر من التوحيد ورفض الشّرك. أما (أَوْ) فقيل هي بمعنى بل ، وقيل بمعنى الواو ، وقيل للتخيير ، أي
كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال هم مائة ألف أو يزيدون. وقد دعاهم عند عودته
من جديد (فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي قبلوا منه وأجابوه فمتّعناهم إلى انقضاء آجالهم
المقضيّة. ولمّا أمر سبحانه وتعالى نبيّه في أول السّورة باستفتاء قريش عن جهة
إنكارهم البعث ، ساق كلامه إلى قصص الأنبياء وبيان عقوبات أممهم الذين كانوا
مشركين ومساوين
لقريش في عقائدهم الباطلة تنبيها لكفار قريش وغيرهم ، وإنذارا لهم ، ثم جرّ الكلام
ثانيا إلى كفرة أهل مكة وأمر نبيّه باستفتائهم على وجه القسمة غير المرضيّة وهو
تخصيص الإناث بالله سبحانه والذّكور بأنفسهم فقال سبحانه : يا محمد :
* * *
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)
أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧))
١٤٩ و ١٥٠ ـ (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ
وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ ...) أي أطلب منهم الحكومة في تقسيمهم واسأل بني خزاعة وبني
مليح وجهينة الذين يقولون بأن الملائكة بنات الله : ما وجه الاختصاص؟ ولماذا كانوا
هم يكرهون البنات ويتشاءمون بهنّ وكانوا يدفنونهنّ في الحياة بعد ولادتهنّ؟ وقد قال
القمي : قالت قريش إن الملائكة هم بنات الله فردّ الله عليهم بقوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً
وَهُمْ شاهِدُونَ) : أي حين خلق الملائكة هل رأوا خلقه لهم؟ وهذا استفهام
تقريع. أي كيف يقولون ذلك ويضيفون الأنوثية إلى الملائكة مع عدم حضورهم ومشاهدتهم
لخلقهم ولا يمكن معرفة
مثل ذلك إلّا
بالمشاهدة؟
١٥١ و ١٥٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ
لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ ...) أي من افترائهم زعموا أن الملائكة بنات الله وقالوا كذبا (وَلَدَ اللهُ) فردّ الله عليهم بقوله : (إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) فيما ينسبونه إليه تعالى.
١٥٣ ـ (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟
...) استفهام إنكار ، أي ليس الأمر كما يزعمون ، فكيف يختار
الله تعالى من هو الأدنى على الأعلى مع كونه حكيما عليما قادرا؟ ثم وبّخهم بقوله :
١٥٤ ـ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ ...) عدل سبحانه عن الغيبة إلى الخطاب استعظاما لقولهم وتأكيدا
لردّهم. أي بأيّ برهان ودليل تقولون بهذه المقالة المشؤومة وتحكمون بهذه الحكومة
الباطلة؟
١٥٥ ـ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ ...) أي أفلا تتنبّهون وتفتهمون أنه سبحانه منزّه عن ذلك؟
١٥٦ و ١٥٧ ـ (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ...) أي هل عندكم برهان واضح نزل عليكم من السّماء بأن الملائكة
بناته والعياذ بالله من ذلك (فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل إليكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم. والمراد أنه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة
عقل ولا من ناحية شرع.
* * *
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))
١٥٨ ـ (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجِنَّةِ نَسَباً ...) أي قال الكفرة إن بين الله سبحانه وبين الجنّ نسبة
المصاهرة تعالى الله عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا (وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) أي : إنّ المشركين (لَمُحْضَرُونَ) في يوم الحساب وأنّهم في النار. وقيل ولقد علمت الملائكة
أن هؤلاء الذين قالوا هذا القول محضرون في العذاب يوم القيامة. وسمّيت الملائكة
جنّة لاستتارهم عن العيون كما أن الجن كذلك ، وكل ما كان مستورا عن العيون يسمّيه
العرب جنّا لأن الجنّ مستورة عن العيون.
١٥٩ و ١٦٠ ـ (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ...) نزّه هو تعالى نفسه المقدّسة عمّا لا يليق به من الولد
والنسب وممّا وصفه به الكافرون ، ثم قال : (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى عباده الذين استخلصهم لنفسه من القائلين بهذه
الأقوال السّخيفة التي أوجبت الدخول في النار. يمكن أن يكون هذا الاستثناء منقطعا
من (يَصِفُونَ) أو من (لَمُحْضَرُونَ) أو هو متّصل منه إن عمّ ضمير : هم ، وما بينهما اعتراض. ثم
إنه تعالى بعد ذلك عاد يخاطب المشركين عموما فيقول :
* * *
(فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣))
١٦١ إلى ١٦٣ ـ (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) أي أيّها الكفرة خاصّة أو مع الجنّة والأصنام التي
تعبدونها لأن مصيركم ومصيرها واحد (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفاتِنِينَ) ما أنتم عن الله وعن دينه بمضلّين أحدا (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ)
إي الا من سبق في
علمه تعالى أنه من أهل النار فهو لا محالة يصلى جحيم النار. وقيل إن ضمير (عَلَيْهِ) يرجع إلى الموصول أي (ما) تعبدون والتقدير : إنكم وما تعبدونه ما أنتم بفاتنين عن
عبادة الله أحدا إلّا من كتب عليه أنه يصلى الجحيم وقدّر له ذلك ، فهو بمشيئته
تعالى وتقديره له صال الجحيم لا بقدرتكم. والحاصل أنكم أيّها المشركون وأصنامكم
التي تزعمون أنها آلهتكم لا تقدرون على إغواء أحد من عباد الله ولا على إضلالهم عن
دينهم إلّا أن يشاء الله أن يرتدّ عن دينه ويموت على ارتداده ويصلى سعيرا. ثم إنه
سبحانه ردّا على من زعم أن الملائكة آلهة وصاروا يعبدونهم ، أمر أمين وحيه جبرائيل
عليهالسلام أن يخبر حبيبه محمدا صلىاللهعليهوآله بأنه وأتباعه كلّهم يعبدون خالقهم وبارئهم فقال قل لنبيّنا
محمد :
* * *
(وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ
اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))
١٦٤ إلى ١٦٦ ـ (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ ...) يعنى ليس لأحد منّا إلا وله بعبادته مكان مقرّر متعيّن لا
يتجاوزه ، وذلك على قدر مراتبنا ودرجاتنا علما ومعرفة وعملا ـ وهذا من الكلام الذي
يجري على ألسنة الملائكة أو غيرهم ممّن عبده المشركون ـ فقد قالوا ذلك وقالوا :
ليس لنا قابليّة المعبوديّة ومقامها
فإن تلك القابليّة
والعلّو والرفعة منحصرة بذاته المقدّسة جلّت عظمته ، فهو الذي خلق الأشياء كلّها
بقدرته وما لأحد من المخلوقين مشاركته في الرّبوبيّة إذ أين الثّرى من الثرّيا.
فهذه الشريفة حكاية اعتراف الملائكة بالعبوديّة ، للرّد على عبدتهم وقد قالوا أيضا
(وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) أي المصطفّون للصلاة وهي أعظم مصاديق الطاعة والخضوع له
تعالى ومنازل الخدمة. (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) أي المنزّهون الله تعالى عمّا لا يليق به. ويحتمل أن يكون
الأول إشارة إلى مقام طاعتهم حين اصطفاهم للصلاة ، والثاني دلالة على درجاتهم في
المعرفة التي أوصلتهم إلى تنزيهه جلّ وعلا. وفي نهج البلاغة في وصف الملائكة :
صافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون. وفي القمي أن جبرائيل (ع) قال : يا محمد
إنّا لنحن الصافّون ، وإنّا لنحن المسبّحون. وعن الصادق عليهالسلام : كنّا أنوارا صفوفا حول العرش نسبّح فيسبّح أهل السماء
بتسبيحنا إلى أن هبطنا إلى الأرض فسبّحنا فسبّح أهل الأرض بتسبيحنا ، وإنّا لنحن
الصافّون ، وإنّا لنحن المسبّحون. وفي الرّواية أن المسلمين كانوا قبل نزول هذه
الآية الشريفة لا يراعون تنظيم الصفوف في صلاة الجماعة ، فلمّا نزلت الآية اهتمّوا
بالصف المرتّب ، والله تعالى أعلم.
١٦٧ و ١٦٨ و ١٦٩ ـ
(وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ ...) المقصودون هم كفّار مكة. و (إِنْ) هي المخفّفة من (أنّ) و (اللّام) هي الفارقة. والمعنى أنهم
بالتأكيد كانوا يقولون : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً) أي يا ليت كنا نملك كتابا أو شيئا آخر يذكّرنا بالله وبالحق.
ونقل أن كفار مكة كانوا قبل البعثة يقولون : لو كان لنا كتاب لكنّا نتّبعه ونترك
الشّرك ولا نكذّبه مثل اليهود والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل
فكذّبوهما ولم يطيعوا أوامرهما ونواهيهما. فلمّا نزل القرآن الذي كان أشرف وأعظم
الكتب السّماوية لم يقبلوه ولا
أطاعوه بل كذّبوه
ونسبوه الى غيره تعالى وغير رسوله فأخبر سبحانه وتعالى رسوله بذلك قائلا له : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) يعني أن المشركين قبل نزول القرآن كانوا يتمنّون أن ينزل
عليهم الكتاب فلما جئتهم بكتاب من عندنا رجعوا عمّا كانوا عليه. و (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من جنس كتب الأقدمين. فلو كان لنا ذلك (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصوا العبادة له تعالى ، أو إن الله تعالى أخلص
عبادتهم له واختصّها بذاته فما كانت فيها شائبة الشّرك والرياء والسّمعة ، فعلى
ذلك تقرأ الصّفة بصيغة المفعول.
١٧٠ ـ (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
...) أي حين جاءهم محمد صلىاللهعليهوآله بكتابه الكريم أعرضوا عمّا قالوا وأصرّوا على جحدهم
وعنادهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم. وهذه الجملة تهديد ووعيد لكفار مكة وكذا
الآيات اللّاحقة وعيد لقريش ووعد بالنصر والغلبة للنبيّ صلىاللهعليهوآله.
* * *
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
وَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ
(١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))
١٧١ إلى ١٧٣ ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) ... إنّ الله تعالى حلف بأنه قد تقدّم في علمنا وقضائنا و (كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) التي فسّرها سبحانه وتعالى بقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) فهذه الشريفة بيان ل (كَلِمَتُنا) واللام في قوله لقد سبقت لام جواب القسم (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) فهو تعالى أضاف المؤمنين إلى نفسه ووصفهم بأنهم جنده
تشريفا لهم وتنويها بذكرهم حيث قاموا بنصرة دينه. وقيل معناه أن رسلنا هم
المنصورون لأنهم جندنا ، وأن جندنا هم الغالبون الذين يقهرون الكفار بالحجة تارة
وبالفعل أخرى. والمراد بسبق الكلمة إثباته في اللوح المحفوظ كما قال تعالى (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي) ثم إنه سبحانه بعد بيان الأدلة الواضحة على بطلان مذهب أهل
الشرك والنفاق ، أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله ـ في حال كونهم ثابتين على شركهم وجحودهم بعد هذه البراهين
السّاطعة والحجج القائمة عليهم ـ بالإعراض عنهم ، فقال :
١٧٤ و ١٧٥ ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) ... أي فاعرض عنهم إلى موعد الأمر بقتالهم وانقضاء إمهالهم
وحصول وقت نصرك. وقيل هو يوم بدر ، وقيل يوم الفتح. فانتظر أمرنا لك بذلك (وَأَبْصِرْهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي اجعلهم على بصيرة بضلالتهم وعاقبة إشراكهم وعمّا قريب
يرون ما وعدناك به من النصر في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. وكأنهم قالوا :
متى هذا العذاب الموعود فنزلت الشريفة :
١٧٦ و ١٧٧ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) ... أي هل يطلبون التعجيل في العذاب؟ قل لا تستعجلوا (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا حلّ بفنائهم بغتة كما يستعجلون (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) فلبئس الصّباح صباح الذين يحذّرون ولم يحذروا. والسّاحة
معنّاها الدار وفناؤها. وكانت العرب
تفاجئ أعداءها
بالغارات صباحا فخرج الكلام على عادتهم. هذا ، ولأن الله تعالى أجرى العادة بتعذيب
الأمم وقت الصّباح كما قال (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) لأن وقت الصباح وقت الاستراحة وفراغ البال وغير مترقّب فيه
هجوم الأعداء ونزول البلاء ، فالعذاب في هذا الوقت أصعب وأشدّ على الإنسان كما هو
المشاهد بالوجدان ولا يحتاج إلى البرهان.
١٧٨ و ١٧٩ ـ (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ...)
كرّر الآيتين
تأكيدا لتسلية النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولتهديد قومه. أو أن الأولى لعذاب الدنيا مثل بدر والفتح
وأشباههما كما فسّرت ، والثانية للآخرة ، وبناء على ذلك هذا الكلام تأسيس لا أنّه
مفيد للتأكيد. ثم نزّه سبحانه ذاته المقدّسة عن وصفهم وبهتانهم بقوله :
١٨٠ إلى ١٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...) أي منزّه ربّك الذي هو ذو قوّة وغلبة ، (عَمَّا يَصِفُونَ) عمّا يقوله المشركون من اتّخاذ الأولاد والشريك (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) المبلّغين عن الله دينه ليهدوا الناس (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على ما أفاض عليهم وعلى من اتّبعهم من النّعم وحسن
العاقبة. وفيه تعليم المؤمنين للحمد والتّسليم. وفي الكافي عن أمير المؤمنين عليهالسلام : من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل إذا أراد أن
يقوم من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله
ربّ العالمين.
سورة ص
مكية وآياتها ٨٨
نزلت بعد القمر.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))
١ ـ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ...)
في المعاني عن
الصّادق عليهالسلام : وأمّا ص فعين تنبع من تحت العرش ، وهي التي توضّأ منها
النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا عرج به ، الحديث ، وعن الكاظم عليهالسلام بعد ما سئل عنه ، قال عين تنفجر من ركن من أركان العرش
يقال لها ماء الحياة. وروي انه اسم من أسماء الله تعالى. وفي بعض الأدعية أنه من
أسماء النبىّ (ص) (وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ) هذا قسم وجوابه قوله :
٢ ـ (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقاقٍ ...) إضراب عمّا سبق ، أي ليس في القرآن نقص ولا قصور ، ولا ريب
في إعجازه ، بل التقصير والعيب في الكفرة الذين هم في استكبار عن الحق وخلاف لله
ورسوله ولذلك كفروا به وأخذتهم العزّة في الكفر والعناد.
٣ ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ
قَرْنٍ ...) هذه الشريفة تهديد لهم على كفرهم ونفاقهم فقد دمّرنا
الكثيرين قبلهم ممّن كفروا (فَنادَوْا وَلاتَ
حِينَ مَناصٍ) أي نادوا باستغاثة وتضرّعوا حين نزول العذاب عليهم ولكن
ليس الحين والوقت وقت مفرّ ولا يفيد في ذلك الوقت الندامة والرجوع لأنه وقت معاينة
العذاب. وهو كقوله (فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا) وقوله (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا) وأما لفظ (لاتَ) فقال سيبويه : إنّ لات هي (لا) المشبّهة بليس زيدت عليها
تاء التأنيث كما زيدت على (رب) و (ثم) للتأكيد وبسبب هذه الزيادة اختصّت بأحكام :
منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان ، ومنها أنها لا يبرز الّا أحد جزأيها : إمّا
الاسم وإمّا الخبر ، ويمتنع بروزهما جميعا. وقال الأخفش أنها (لا) النّافية للجنس
زيدت عليها التاء ، وخصّت بنفي الأحيان و (حِينَ مَناصٍ) منصوب بها كأنك قلت : ولات حين مناص لهم ، وقد يرتفع
بالابتداء ، أي : ولات حين مناص كائن لهم. والمناص المنجى والغوث ، وناصه ينوصه
إذا أغاثه.
٤ ـ (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ ...) قال الكفرة إن محمدا منّا وهو مساو لنا في الخلقة والشكل
والنّسب ، يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق فكيف يختصّ من بيننا بهذا الأمر العظيم وهو
من رهطنا وعشيرتنا؟ فاستنكفوا عن الدخول تحت طاعته والانقياد لأوامره ونواهيه. وما
كان سبب هذا التعجّب منهم ، إلّا الحسد والكبر (وَقالَ الْكافِرُونَ
هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) وضع الظاهر فيه موضع الضمير غضبا عليهم وذمّا لهم وإشعارا
بأن كفرهم جسّرهم
على هذا القول الشنيع حيث يطلقون على المعجزة سحرا وعلى قول الحق كذبا ، فالويل
لهم ثم الويل لهم.
٥ ـ (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ...) أي بالغ في العجب مبلغا لا يتحمّل حين دعا إلى ربّ واحد ...
فكيف نترك ثلاثمئة وستّين صنما ، ونأخذ بإله واحد ونعبده فقط؟ فإنه خلاف ما أطبق
عليه آباؤنا.
* * *
(وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا
عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
(٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))
٦ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ...) أي الأشراف منهم خرجوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي
طالب (ع) وهم يقولون اثبتوا على آلهتكم واصبروا على دينكم وتحمّلوا المشاق في سبيل
آلهتكم وعبادتها وإطاعتها كما حكى قولهم سبحانه (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ) أي هذا
الذي يقوله محمد
من أمر الله وتوحيده شيء يريده ولا يمكن أن يصرفه عمّا أراده صارف ، ولا يستنزله
عن عزمه مستنزل ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله وصرف نظيره عنه ، وما نزل علينا من
نوائب الدّهر على يده فلا خلاص لنا منه ولا انفكاك ولا مردّ له.
٧ ـ (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ ...) أي ملة عيسى وأتباعه من النصارى. أي هذا التوحيد الذي أتى
به محمد ما سمعناه في دين النّصارى وهو آخر الملل. قال ابن عباس : إن النصارى لا
يوحّدون الله ، وإنهم يقولون : ثالث ثلاثة (إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) أي كذب اختلقه واخترعه من عند نفسه ولا برهان له على
دعواه. وقد قال القمّي : نزلت بمكة لما أظهر رسول الله صلىاللهعليهوآله الدعوة بمكة اجتمعت قريش على أبي طالب عليهالسلام وقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفّه أحلامنا وسبّ
آلهتنا وأفسد شبّاننا وفرّق جماعتنا ، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له
مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش ، ونملّكه علينا. فأخبر أبو طالب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في
يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه. ولكن يعطوني كلمة يملكون بها
العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا في الجنّة فقال لهم أبو طالب ذلك ،
فقالوا : نعم وعشر كلمات. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوآله : تشهدون أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله. فقالوا :
ندع ثلاثمئة وستين إلها ونعبد إلها واحدا؟ فأنزل الله تعالى (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ) إلى قوله (إِلَّا اخْتِلاقٌ).
٨ ـ (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا ...) إنكار لاختصاصه بالوحي وهو منهم أو أدنى منهم في الرئاسة
وكثرة الثروة بحسب عقيدتهم الفاسدة. فمبدأ تكذيبهم ليس إلّا الحسد وقصر النظر
والتهالك على حطام الدّنيا ،!
فيقول الله تعالى
ردّا عليهم : (بَلْ) أي ليس الأمر كما يزعمون من كون القرآن مختلقا ومخترعا من
عنده و (هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ
ذِكْرِي) وشاكّون في إن القرآن كتابي أنا أنزلته عليه. ومنشأ الشكّ
هو ترك النظر والتدبّر فيه حسدا وعنادا (بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ) أي لا يذهب الشك بالدّلائل والحجج عنهم إلّا حين يذوقون
عذابي لهم في النار ، فحينئذ يصدّقون أن ما جاء به نبيّنا كان حقّا وكان من عندنا
لا من عنده.
٩ و ١٠ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؟ ...) هذه تتمّة الجواب عن شبهتهم بقولهم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا) فقال سبحانه : أبأيديهم مفاتيح النبوّة والرّسالة التي هي
من جملة محتويات الخزائن عندهم ، فيضعونها حيث شاؤوا من صناديدهم؟ يعني ليست خزائن
الرّحمة باختيارهم ، وهي التي منها النبوّة والرّسالة ، حتى يكون لهم تعيين النبيّ
والرّسول في من أرادوه. ولكنّها بيد (الْعَزِيزِ) الغالب (الْوَهَّابِ) الذي يعطى ما يشاء لمن يشاء فيخصّ بالنبوّة من شاء من خلقه
وحسب اقتضاء المصلحة. ولما ذكر في الآية الأولى قوله (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) وذكر الخزائن على عمومها وهي غير متناهية ، أردف ذلك بذكر
ملك السماوات والأرض. ومعناه أن ملك السّماوات والأرض أحد أنواع خزائن الله. ومن
المعلوم أنهم غير قادرين على تملّك السّماوات والأرض والسّلطة عليهما ، فكيف
يتصرّفون في أمور ربّانيّة وتدابير إلهيّة تختصّ بذاته المقدّسة كإعطاء منصب
النبوّة والرسالة من له الأهليّة والقابليّة على حسب ما اقتضته المصلحة. أمّا إذا
زعموا أن لهم مدخلا في ذلك وهو جزء يسير من خزائنه (فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبابِ) إن كانوا صادقين فيما زعموا فليصعدوا في المعارج التي
يتوصّل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويأخذوا بتدبير أمر العالم فينزلوا الوحي
على من يستصوبون ، وهذا الكلام في غاية التهكّم عليهم. ويحتمل أن يكون المراد
بالأسباب : السماوات ، لأنها
أسباب الحوادث
السّفليّة ، وكيف يكونون قادرين على الارتقاء وتدبير عوالم الملك والملكوت والحال
أنهم عجزة ما هم الا جند مّا :
١١ ـ (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ
الْأَحْزابِ ...) لفظة (ما) في هذه الموارد زائدة تجيء للتقليل غالبا والمعنى : هم جند
حقير و (هُنالِكَ) إشارة إلى بدر أو الخندق أو الفتح و (مَهْزُومٌ) أي مكسور عمّا قريب (مِنَ الْأَحْزابِ) أي أنّهم من جملة الكفرة المتحزّبين على الرّسل في كلّ عصر
، وأنت يا محمد غالبهم ، فلا تبال بهم. وهذا الكلام إعجاز ، لأنه إخبار عن الوقائع
التي تحدث بعد زمان الإخبار ، وقد ظهرت كما أخبر. ولما ملّ خاطره الشريف (ص) عن
تكذيب القوم له ، سلّاه الله سبحانه بقوله يا محمد :
* * *
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ
لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))
١٢ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي أن تكذيبك من قومك ليس بأمر جديد بديع ، بل كذّب قبل
قومك قوم نوح نوحا ، وقوم كلّ نبيّ نبيّهم ، إلى أن انتهى الأمر إلى قومك فكذّبوك
فيما جئتهم به. فلا تعتن
بتكذيبهم إيّاك.
وقد ذكر سبحانه ستة أصناف من المكذّبين أوّلهم قوم نوح فأهلكهم الله بالغرق
والطوفان ، والثاني عاد قوم هود عليهالسلام لمّا كذّبوه أهلكهم الله بالرّيح العقيم ، سمّيت به لأنها
ما خرجت ولا تخرج بعد ذلك أبدا وكانت ريح عذاب شديد. والثالث فرعون لمّا كذّب موسى
عليهالسلام أهلكه الله بالغرق مع قومه. والرابع ثمود قوم صالح لمّا
كذّبوه أهلكوا بالصّيحة. والخامس قوم لوط حيث كذّبوه فأهلكوا بالخسف. والسادس
أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب فأهلكوا بعد تكذيبه بعذاب يوم الظّلة (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ)
في العلل عن
الصّادق عليهالسلام أنه سئل عن قوله تعالى وفرعون ذو الأوتاد ، لأيّ شيء سمّي
ذا الأوتاد؟ فقال : لأنه كان إذا عذّب رجلا بسطه على الأرض على وجهه ومدّ يديه
ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض ، وربما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه
ويديه بأربعة أوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت. فسمّاه الله عزوجل فرعون ذا الأوتاد. وعن ابن عباس أنه كانت له ملاعب من
أوتاد يلعب بها.
١٣ ـ (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ ...) قد فسّرت في ضمن ما قبلها من الآية (١٢) (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي المتحزّبين على الرّسل الذين جعل سبحانه صفتهم أنهم
الجند المهزوم ، أي وقومك منهم. والحاصل أن هؤلاء الأحزاب مع غاية قوّتهم وكثرتهم
صارت عاقبة أمرهم الهلاك والبوار ، فكيف بهؤلاء الضّعفاء من قومك فلا تبتئس بما
كانوا يعملون فعمّا قريب يهلكون.
١٤ ـ (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ عِقابِ ...) مبالغة في وصفهم بتكذيب الرّسل ومخالفتهم إيّاهم كأنهم لا
شغل لهم إلا هذا العمل الشنيع ، فلذا سجّل عليهم العذاب. والتفريع بالفاء إشارة
إلى عدم التراخي لأنها موضوعة له (فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجب لذلك عقابي لهم.
١٥ ـ (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ ...) أي ما ينتظر قومك أو الأحزاب جميعا (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) فسّر أكثر المفسّرين بل كلّهم الصيحة بالنفخة الأولى التي
يموت الخلائق كلّهم بها. وقال الطبرسي رحمهالله : من الآيات الدّالة على عدم تعذيب هذه الأمة بعذاب
الاستئصال هذه الآية ، يعني أن عذابهم بالاستئصال مؤخّر إلى يوم النفخ كما قال
سبحانه (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ) ، الآية. بخلاف عقوبة سائر الأمم فانها معجّلة في الدنيا.
وتلك الصيحة التي وعدهم بها (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي ما لهم من موت بعدها أو من رجعة إلى الدّنيا مقدار رجوع
اللّبن إلى الضّرع ، فإن البهيمة إذا ارتضعت أمّها ثم تركتها حتى تنزل اللّبن فتلك
الإفاقة هي الفواق ، ثم قيل لكلّ انتظار واستراحة فواق. ثم إن الآية الشريفة نزلت
وعيدا وتهديدا للكفرة فاستهزؤوا بإخباره سبحانه وقالوا :
* * *
(وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ
نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى
داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ
فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا
إِلى
سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ
ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
يا
داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا
يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))
١٦ ـ (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
...) أي قدّم لنا نصيبنا من العذاب في الدّنيا (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) استعجلوا ذلك استخفافا بخبر النبيّ (ص) وخبر الله تعالى ،
فحزن النبيّ صلوات الله عليه من قولهم كثيرا فأنزل الله عزوجل عليه تسلية بقوله :
١٧ ـ (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ...) أي أصبر على التكذيب والاستخفاف بما جئتهم به إلى أن نأمرك
بقتالهم وننزل عليك النّصر (وَاذْكُرْ عَبْدَنا
داوُدَ) فلما ذكر سبحانه أحوال السلف من الأنبياء وتكذيب أقوامهم
لهم وذكر عواقب أمر الأقوام من الهلاك والبوار وذكر السّتة الأصناف منهم ، أخذ في
بيان أحوال بعض آخر من عظماء الأنبياء عليهمالسلام ، فقال لنبيّه صلىاللهعليهوآله : يا محمد بيّن لقومك قصّة عبدنا داود (ذَا
الْأَيْدِ) أي صاحب القوّة والاقتدار والنّعم الكثيرة ، وذلك أنّه كان
يبيت حول محرابه كلّ ليلة آلاف من الرجال يطعمون من إطعامه ويشتغلون بعبادة ربّهم
إلى الصباح. ولعلّ هذا الوجه أحسن الوجوه وأوجهها بالنسبة إلى ذكر اليد كما لا
يخفى ، ومع ذلك ما أنسي ربّه ، بل (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إلى مرضاة الله أو دعّاء له تعالى لقوّته في
الدين وفي تحمل أعباء الخلافة والرسالة ، أو كان صاحب قوة في العبادة فإنه كان
يصوم يوما ويفطر يوما ، وهذا أشدّ من صوم الدّهر حيث إن صيام الدهر موجب للاعتياد
، والرياضة الاعتيادية ليس فيها مزيد مشقّة على النفس بخلاف ما فيه الفصل.
١٨ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ...) أي صيّرناها مأمورة بأمره فتسايره حيث سار وتقف حيث وقف (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي حين تغيب الشمس وحين تطلع ويصفو شعاعها. وقد مرّ تفسير
تسبيح الجبال في سورة الأنبياء أو سبأ ، والظاهر أننا قد اخترنا ما هو ظاهر
الشريفة من أنه تعالى خلق في جسم الجبال حياة وقدرة وشعورا ومنطقا وحينئذ يصير
الجبل مسبّحا لله تعالى بأمره وقدرته الكاملة كما صارت الحصى كذلك أي مسبّحة بلسان
فصيح سمعه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله وفهموا تسبيحها. وفي بعض الأوقات رأينا جمادات أخر أو
حيوانات غير ناطقة كانت تتكلّم بلسان فصيح بالشهادة للرسالة أو بالولاية والخلافة
أو بما تؤمر به من عنده سبحانه أو بأمر النبيّ أو الوليّ. والحاصل أن تسبيح الجبال
باللسان أو بما يشبه اللسان تسبيحا حقيقيا أمر غير محال بالإضافة إلى الخالق
القادر المتعالي. ويحتمل أن يكون تسبيحها بإيجاد الصّوت وخلقه فيها كما احتمل في
الشجرة. وأمّا ما قيل من أن تسبيح الجبال كان عبارة عن رجع الصّدى ، أي ما يردّه
عليك المكان الخالي والقباب الرفيعة الواسعة الفارغة إذا نطقت بصوت عال فيها ،
وبعبارة أخرى إنّ تسبيحها هو الترجيع من
الكلام أي المردود
إلى صاحبه بعد انعكاسه في الجبال وغيرها ، فهو كلام شعريّ صدر من غير رويّة ، لأن
الله تعالى هنا في مقام بيان كرامات داود ومعجزاته التي منها تسبيح الجبال معه كما
لو كان يذكر تسبيح الحصى في كفّ خاتم الأنبياء ، لا أنه سبحانه في بيان خواصّ
الأمكنة الفارغة والجبال الرفيعة ونحوها ممّا هو من توضيح الواضحات حيث إن هذا
الترجيع من الكلام لا يختصّ بداود عليهالسلام بل بكل إنسان وبكل ذي صوت ، إذا صوّت في تلك الأماكن
المذكورة يردّ صونه إليه بلا كلام والتجربة أقوى برهان على المنكر.
أمّا اختصاص
تسبيحها بالوقتين فيحتمل أن يكون من جهة أن داود عليهالسلام كان يقرأ الزّبور فيهما أو أن أكثر قراءته كانت فيهما ،
وورد أن ذكر الله تعالى في هاتين الساعتين أفضل ، والتسبيح كان تابعا لذكره.
١٩ ـ (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ
أَوَّابٌ ...) عطف على الجبال فهي مسخّرة له عليهالسلام تدور حيثما دار وكانت تجتمع إليه من كلّ جانب حين قراءته
وكانت مأمورة بأمره ولا يمتنع أن الله تعالى قد خلق في الطيور من المعارف ما تفتهم
به أمر داود ونهيه فتطيعه فيما يريد منها وإن لم تكن كاملة العقل (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي يرجعون إليه في أوقات تسبيحه أو في أوامره أو كانت
رجّاعة إلى طاعته والتسبيح معه.
٢٠ ـ (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ ...) أي قوّينا وأحكمنا سلطانه بالجنود والهيبة والأموال. وعن
ابن عباس أنه كان يحرسه كلّ ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، وقيل أربعون ألف رجل ،
وكان أشدّ ملوك الأرض سلطانا من حيث أن الله تعالى هيّا له الأسباب وأعطاه الهيبة
العظيمة والنّصر. ومن أسباب عظمته أن الله تعالى أنزل من السّماء سلسلة على رأس
محكمته وكل واحد من الخصمين كان على الحق تصل يده إلى السّلسلة والذي كان على
الباطل لا يقدر على أخذها طويلا كان أو قصيرا.
(وَآتَيْناهُ
الْحِكْمَةَ) أي النبوّة والعلم بشرائع الله والزبور والإصابة في الأمور
والمعرفة به تعالى (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي الكلام البيّن الدّال على المقصود بلا التباس ، أو
القضاء بالبيّنة واليمين أو التمييز بين الحق والباطل في مقام قطع الخصومة بين
المتداعيين.
٢١ ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ...) الاستفهام إنكاريّ. أي لم يأتك ، وقد أتاك الآن فتنبّه له
، وفيه ترغيب في الاستماع وإشارة إلى الاهتمام بشأن القصّة. والخصم في أصل اللغة
مصدر ولهذا كان إطلاقه على الواحد والجمع جائزا بلفظ واحد ، بل على التثنية أيضا
على ما هو شأن المصدر نحو لفظ (ضيف) في قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) وذكر الجمع فيما نحن فيه في الجمل الآتية مع أن المراد به
هو الاثنان لأن مع كل واحد منهما جماعة من الملائكة كما في التبيان ، فإن جبرائيل
وميكائيل أتيا داود على صورة خصمين ومع كلّ واحد كان جمع من الملائكة وكان داود قد
قسّم الأيام بالنسبة الى أعماله فقرّر يوما للحكم بين الناس ويوما للعبادة والأنس
مع ربّه ويوما للوعظ والنصح للناس وبيان الحلال والحرام لهم ، ويوما للأشغال
الخاصة لنفسه. وجعل يوم عبادته أن يصعد إلى غرفة فوقانية خاصة للعبادة ، ثم منع
دخول أيّ أحد عليه حتى خواصّ حواريّيه ومن يلوذ به. وكان الحرس حوالي الغرفة
يمنعون ورود الواردين والوفود عليه ، فاذكر يا محمد هؤلاء (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي صعدوا سور الغرفة لا من بابها المتعارف حيث إن الحرس
كانوا واقفين عليها ومانعين للورود أشدّ منع.
٢٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ ...) أي اذكر إذ نزلوا عليه من فوق الغرفة في يوم احتجابه بلا
إذن منه والحرس على الباب وكانوا بصور عجيبة (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) أي خاف منهم خوفا شديدا لأنه زعم أنهم أرادوا قتله حيث كان
له أعداء كثيرون ، فلمّا شاهدوا منه الخوف (قالُوا لا تَخَفْ
خَصْمانِ) أي نحن فريقان متخاصمان جئنا لتقضي بيننا (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ
بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكومة ولا تجاوز الحق. وقولهم (بَغى بَعْضُنا) ، الآية على طريق الفرض وقصد التعريض وإلّا يلزم كذب
الملائكة ، وهذا مناف لعصمتهم (وَاهْدِنا إِلى
سَواءِ الصِّراطِ) أي وسطه ، والمراد طريق العدل.
٢٣ ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ...) النعجة هي الأنثى من الضّأن ، وقد يكنّى بها عن المرأة ،
ولعلّ هذا المثل تعريض بالزّوجات ، وترك التّصريح لكونه أبلغ في التوبيخ ، مضافا
إلى أن مراعاة حسن الآداب والحفاظ على احترام المكنّى عنها واستقباح ذكرها مقتض
لتلك التكنية ، والحاصل أنّ المدعي بيّن ادّعاءه هذا وأشار إلى خصمه وأطلق عليه
لفظ (أَخِي) بلحاظ الدّين أو الصداقة ، وبين له أنه شاركه في الخلطة
وله تسع وتسعون نعجة (وَلِيَ نَعْجَةٌ
واحِدَةٌ) أي لا أملك إلا هذه النّعجة المفردة (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي اجعلها في كفالتي وتحت يدي وتصرّفي والحاصل أنه (عَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني وأعجزني في القول والمخاطبة وأنا عاجز من مقاولته
والجدال معه والحجاج.
٢٤ ـ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ
نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ...) أي : إن كان الأمر على ما تدّعيه ، فقد ظلمك بضمّ نعجتك
إلى نعاجه. يعني أنّ الحق معك وليس له الحق عليك ، وبعد بيان حكم الدّعوى أخذ في
الموعظة الحسنة بترغيب الخصمين في إيثار الشريك كما هي عادة الصّلحاء وتزهيدهما
بما هو من عادة الخلطاء الطّلحاء فقال عليهالسلام : (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء الذين يخلطون أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يظلمون ويطلبون زائدا على حقّهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي أن المؤمنين المنصفين هم الأقليّة في جميع الأعصار
وقلّتهم دليل على حقانيّتهم كما لا يخفى. و (ما) مزيدة لتأكيد
قلّتهم في
الشركاء. ولما خرج الملائكة بعد استماعهم كلام داود وحكمه ، انتقل داود في تفكيره
من هذا الأمر الى التفكير بنفسه وحاله مع (أوريا) أحد قوّاده. وقصّته معه قد ذكرها
المفسّرون بعناوين مختلفة بحيث لا يليق إسناد بعضها إلى عوام المسلمين بل إلى جهلة
الفسّاق فكيف بالأنبياء العظام؟ ومن أرادها فليطلبها من التفاسير المفصّلة ونحن
أشرنا إليها للتّحذير منها والتنبيه على بطلانها وعلى أنها بتلك الكيفيّة من وضع
الزّنادقة واليهود ونحن نعرض عن حديثها في مرحلة الحكاية حتى لا نكون من المشابهين
للقصّاصين. قال مولانا أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام : من حدّثكم بحديث داود
عليهالسلام على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستّين جلدة ، وهو حدّ
الفرية على الأنبياء عليهمالسلام ... وفي المقام ورد حديث نذكره ردّا لما يرويه الزنادقة
وهو ما في العيون للرضا سلام الله عليه في حديث عصمة الأنبياء قال : لمّا رويت هذه
الرواية الكاذبة للرّضا عليهالسلام ضرب الرّضا يده على جبهته وقال : إنّا لله وإنا إليه
راجعون. لقد نسبتم نبيّا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطّير
، ثم بالفاحشة ثم بالقتل. فقيل له : يا مولاي ، فما كانت خطيئة داود فقال ويحك إن
داود عليهالسلام ظنّ أنّه ما خلق الله عزوجل خلقا أعلى منه. فأرسل الله إليه الملكين فتسوّرا المحراب
وقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض إلى نهاية القول ، فقال داود عليهالسلام : (لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) وكأنه حكم للمدّعي قبل سماع كلام المدّعى عليه ، ولم يقبل
على المدعى عليه فيسمع منه ؛ هذه كانت خطيئته ، وليس كما ذهبتم إليه. ألا تسمع قول
الله تعالى يقول (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ)؟ فقيل له : يا ابن رسول الله ما قصّته مع أوريا؟ قال
الرّضا عليهالسلام : كانت المرأة في أيّام داود إذا مات بعلها أو قتل لا
تتزوّج بعده أبدا. فأوّل من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها هو داود ، فقد
تزوّج بامرأة أوريا لما
انقضت عدّتها فذلك
هو الذي شقّ على الناس. ويؤيّد هذا الحديث الشريف الصّحيح ما رويناه قبله عن عليّ عليهالسلام (وَظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي اختبرناه بهذه الحكومة والحكم بين المتخاصمين قبل أن
يسأل المدّعي البيّنة وقبل أن يسمع الكلام من خصمه أو أن يطلب من المدعي اليمين في
حال عدم وجود البيّنة مع أنه بعث على ذلك وشرّع في شريعته في مقام فصل القضاء أن
يحكم بهذه الكيفيّة على ما قيل ، فالاستعجال في الحكم كأنّه زلّة صدرت عنه عليهالسلام لتجعله ينتبه إلى هذا المعنى ، وحتى لا يتخيّل بعد ذلك
بأنه أعلم من في الأرض والمراد بالظنّ هنا العلم. والسّبب الذي أوجب حمل لفظ الظّن
على العلم ها هنا هو أنّ داود لمّا قضى بينهما ، نظر أحدهما إلى صاحبه فتبسّم ثم
صعدا إلى السماء ، فعلم داود أنّ الله ابتلاه بذلك تنبها لما خطر على قلبه الشريف.
وإنما جاز لفظ الظنّ على العلم لأن العلم الاستدلاليّ يشبهه الظنّ مشابهة عظيمة
وهي علة لجواز المجاز. وهذا الكلام يتمّ إذا كان الخصمان ملكين وإلّا فلا يلزمنا
حمل الظن على العلم بل نبقيه على معناه المتعارف. والحاصل أنه لمّا علم الاختبار
والابتلاء انتبه (فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وقع ساجدا ورجع إلى الله بالتوبة. ولا يلزم من
الاستغفار كونه مرتكبا لذنب بل يمكن أن يحمل على أن حسنات الأبرار سيئات
المقرّبين. وروي أنه عليهالسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلواته
المكتوبة أو لما لا بدّ منه.
٢٥ ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ...) إشارة إلى ترك المندوب والأولى ، فقد كان ينبغي له أن يفعل
الأولى ، فعدّ ترك الأولى ذنبا (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي إنّ لداود عندنا لمرتبة القرب والكرامة وحسن المرجع في
الجنّة. وحقيقة استغفاره كان لانقطاعه عما سوى الله وتوجّهه إليه كما قال إبراهيم عليهالسلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)
وقوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي أثبناه عليه وقبلنا منه ما تركه من ترك المندوب.
وتسميته بالمغفرة كان على طريق المزاوجة نحو (يُخادِعُونَ اللهَ
وَهُوَ خادِعُهُمْ) أو (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) أو كما تدين تدان وغير ذلك من الموارد. وروي أن خطيئته
التي صارت باعثة لاستغفاره هي المسارعة في الحكم بقوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ) إلخ قبل أن يسأل البيّنة من المدّعي وقبل أن يقول للمدّعى
عليه : ما تقول في ما يدّعى عليك؟ ثم بعد نعمة الغفران والبشارة بالقرب وحسن
المرجع ذكر إتمام نعمه على داود بقوله :
٢٦ ـ (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً
...) أي لإقامة أمر الدّين وتدبير أمر الناس ، أو جعلناك خلف من
مضى من الأنبياء في الدّعاء إلى توحيد الله وبيان شريعته (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي ضع الأشياء في مواضعها التي أمرناك بها (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لا تحكم خلاف حكم الله طبقا لهواك. وهذا تهييج له أو من
باب إيّاك أعني (فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) أي عن الطريق الذي هو الجادة للشريعة الإسلامية ، أو يضلّك
عن الدّلائل والحجج الواضحة لإثبات الحق والحقيقة (إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ) أي ينحرفون عن طريق الحق تكون نتيجة ضلالهم الخسران في
الآخرة و (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي بسبب نسيانهم إيّاه. فيكون الظرف متعلقا بقوله (نَسُوا) ويحتمل أن يتعلّق بما يتعلق به الجار في قوله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).
* * *
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))
٢٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
...) لعل المراد بهما الجنس ، فأريد بهما صورة الخلق العامة
التي تشمل غيرهما ممّا في السّماوات والأرضين. فما خلقناهما (وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي لا لغرض أصلا ، أو بدون غرض صحيح لفاعله فيقال له
العبث. بل خلقناهما لحكمة ومصالح كثيرة ومنافع جليلة لا تخفى على أولي البصيرة (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خلقهما العبثي مظنون الكفرة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أقيم الظاهر مقام المضمر لأنه أصرح في كونهم كافرين وإشارة
إلى العلّة فويل لهم (مِنَ النَّارِ) بيان للويل الذي هددهم سبحانه به.
٢٨ ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) معناه بل أنجعل الّذين صدّقوا الله ورسوله كمن لا يعتقد
بهما بل عمله تكذيبهما خلافا لعمل الأوّلين المعقّب لإيمانهم؟ فهؤلاء لا نجعلهم
يوم القيامة كالكافرين بنا. (أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) إنكار للتّسوية. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليهالسلام : إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها : صدق الحديث ، وأداء
الأمانة ، والوفاء بالعهد ، وقلّة الفخر والتجمّل ، وصلة الأرحام ، ورحمة الضّعفاء
، وقلة المواتاة للنّساء ، وبذل المعروف ، وحسن الخلق ، وسعة الحلم ، واتّباع
العلم فيما يقرّب إلى الله تعالى. وفي رواية أخرى عنه عليهالسلام قال : الفاجر إن ائتمنته خانك ، وإن صاحبته شانك ، وإن
وثقت به لم ينصحك. وقد كرّر الإنكار باعتبار وصفين آخرين يمتنع من الحكيم التسوية
بينهما لأنه خلاف العدل والحكمة. ثم خاطب سبحانه نبيّه (ص)
لحثّ المؤمنين بل
مطلق البشر على متابعة القرآن فقال عزّ من قائل :
٢٩ ـ (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
...) أي هذا كتاب نفّاع ذو خير كثير (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) يتأمّلوها ويتفكّر الناس فيها فيتّعظوا بمواعظه وينتصحوا
بنصائحه. قالت المعتزلة : دلّت الشريفة على أنه إنّما أنزل هذا القرآن لأجل الخير
والرحمة والهداية ، فيلزم أن تكون أفعال الله معلّلة برعاية المصالح ، وأنّه تعالى
أراد الإيمان والخير والطاعة من الكلّ ، خلافا لمن قال إنه أراد الكفر من الكافر
والشكر من الشاكر والشّرك من المشرك (وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الصافية والأفهام الثاقبة. وفي القمّي عن
الصّادق عليهالسلام : ليتدبّروا آياته : هم أمير المؤمنين والأئمة عليهمالسلام فهم أولو الألباب. قال : وكان أمير المؤمنين عليهالسلام يفتخر بها ويقول ما أعطى أحد قبلي ولا بعدي مثل ما أعطيت.
* * *
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ
عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))
٣٠ ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ...) أي أعطيناه إيّاه. والتعبير بالهبة هو إعطاء المال بلا
عوض. وقد رمز إلى أنه تعالى إذا أعطى أنبياءه ورسله أولادا ذكورا وجعلهم خلفاءهم
في أرضه وسفراءه بينهم ، فلهم معه تعالى خصوصيّة وربط تام ، ومع هذا لا يريد منهم
جزاء ولا شكورا فمن غيرهم
أولى لأنه يفيض
على جميع الموجودات ما تحتاج إليه بلا نظر إلى أدنى شيء منها ، وإن طلب ذلك من
العباد وأمرهم بشيء فهو لطف منه تعالى بهم حيث إنه يكون لصلاحهم فنفعه عائد إليهم
وإلّا فهو سبحانه غنيّ عن العالمين ، وهم بأجمعهم محتاجون إليه سبحانه (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إليه سبحانه في ما يرضيه من التوبة والذكر. فيا
محمد أذكره في قصّته. ويحتمل أن يكون (نِعْمَ الْعَبْدُ) وما بعده صفة لداود عليهالسلام والله أعلم.
٣١ و ٣٢ ـ (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ ...) أي وقت العصر إلى آخر النهار ، أو المراد به بعد الظهر ،
أو أوّل الظّلام أو آخر النهار ، وقيل من المغرب إلى العتمة ، ولعل هذا هو الأظهر.
ثم إن سليمان عليهالسلام كان يحبّ الخيل حبّا شديدا بحيث يحبّ النظر إليها ولذا
يقعد ويأمر بعرضها عليه. وكان يوما من الأيام قد أمر بإخراجها وعرضها عليه واشتغل
بالنظر إليها حتى غابت الشمس ، فلمّا أفلت التفت إلى أنه فاتته وظيفة من وظائفه
اليومية ، فتغير حاله وقال في نفسه لا ينبغي أن يقتني الإنسان ما يشغله عن ذكر
ربّه ولا بدّ من أن تنحصر علاقة العبد بمولاه ، فأمر بضرب أعناقها كما حكى الله
تعالى قصّته لنبيّه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) ، إلى قوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً) ... إلخ وقوله (إِذْ عُرِضَ) متعلّق بالأمر المقدّر ، أي اذكر يا محمد قصة سليمان.
وقوله (الصَّافِناتُ) جمع الصافنة وهي صفة للفرس ، أي الذي يقوم على ثلاثة قوائم
ويرفع احدى الأربع ويقف على طرف حافرها كما يشاهد في الأفراس. والجياد جمع جواد
وهو السريع في الجري ، وقيل جمع جيّد. وقال الكلبيّ : إن هذه الأفراس ، كانت ألفا
حصلت لسليمان أثناء غزواته مع الدّمشقيين والنّصيبيين ، ولكن يقول مقاتل : إن داود
(ع) قاتل العمالقة وتغلّب عليهم وأخذ منهم ألف فرس ، فهذه تراث داود
عليهالسلام. وقال البعض ، كالحسن البصري وغيره : إن هذه كانت خيولا
مائيّة أهداها إلى سليمان جماعة من الجنّ. وقوله (إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ) أي الخيل. وإطلاق الخير على الخيل لأنّ العرب يطلقون الخير
عليه ، ولأن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة و (أَحْبَبْتُ) هنا بمعنى استحببت مثل ما في قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي يؤثرونها. و (عَنْ) في قوله (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) بمعنى (على) أي اخترت حبّ الخير على ذكر ربّي (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر الضمير بلا مرجع يذكر قبله لدلالة لفظ (بِالْعَشِيِ) عليه. والمراد بالمرجع هو الشّمس ، وتوارت معناه اختفت
واستترت وراء الأفق. أو المراد بالحجاب هو ستار اللّيل وظلامه وإيراد التّواري
بالحجاب للشمس تشبيه لها بمخدّرة اختفت وراء السّتار.
٣٣ ـ (رُدُّوها عَلَيَّ ...) أمر الملائكة الموكلّين بردّ الشمس ، فردّت فصلّى. كما ردت
ليوشع وعليّ عليهماالسلام. وإرجاع الضمير إلى الخيل خلاف ما يظهر من قوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) مضافا إلى أن الخيل كانت بمنظر منه وبمرآه على ما يظهر من
قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) فردّ الخيل تحصيل للحاصل كما لا يخفى مضافا إلى ما عن ابن
عباس عن أمير المؤمنين من أن الضمير راجع إلى الشمس والمراد من الذّكر هو صلاة
العصر. (فَطَفِقَ مَسْحاً
بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي جعل يمسح سوقها وأعناقها بالسّيف وتصدّق بلحمها كفارة
لتأخير وظيفة اليوم. أو المراد فجعل يمسح بيده سوقها وأعناقها على ما هي العادة
المشاهدة عند المعجبين بالخيل والمفتنين بها. والقائل بهذا القول طعن على قول
الأوّل وحمل عليه بأنه أيّ ذنب أتته هذه البهائم حتى تستحقّ عليه ذلك القتل والتمثيل
، فضلا عما في ذلك من تلف الأموال بلا مصلحة ولا
حكمة ، ومن نسبة
الأنبياء إلى فعل السفهاء وعمل الجهّال. فلينظر هذا القول وليتدبّره من كان له قلب
أو ألقى السمع وهو شهيد. ويمكن أن يجاب هذا الطاعن بأنه عليهالسلام إنّما فعل ذلك لأنّها كانت أعزّ أمواله فتقرّب إلى الله
تعالى بأن ذبحها ليتصدّق بلحومها ، فإنّ أكل لحومها في ذلك العصر كان أمرا شائعا
متعارفا كأكل الأغنام والبقر والجمال وغيرها ، ويشهد بصحة هذا القول قوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) إلخ.
* * *
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))
٣٤ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ...) أي اختبرناه وامتحنّاه بأن شدّدنا المحنة عليه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) يحتمل أن يكون إلقاء هذا الجسد بيانا لشدّة محنته وابتلائه
وما اختبره به ، فإنه عليهالسلام كان يحب أن يكون له أولاد كثيرون يجاهدون في سبيل الله ،
وكان عنده من النّساء ما شاء ، وكان يطوف عليهن طلبا للأولاد ولكنهنّ لم يلدن له ،
إلّا امرأة واحدة جاءت
بولد ميّت وألقته
على كرسيّه ليشاهده عليهالسلام. فلما رآه انكسر قلبه بمقتضى الطبع البشريّ ، وفزع وتأذّى
بذلك. فلما استيأس من الولد رجع منقطعا إلى ربّه وانحصرت علاقته به تعالى كما أخبر
الله سبحانه نبيّه بذلك بقوله (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى رجع إلى ربّه بعد يأسه من الولد أو بعد شهوده
الجسد رجع على وجه الانقطاع إليه تعالى وذكر في سبب ابتلائه أمور أخر كذهاب ملكه
أربعين يوما من يده وغير ذلك ومن أراد فليراجع المفصّلات من الكتب.
٣٥ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ...) طلبه الغفران يحتمل فيه أمور : الأوّل لحبّه الشديد للولد
وتعلّقه الشديد به وإن كان حبّه له لله حيث إنه يحبّ الأولاد ليجاهدوا في سبيله
تعالى ، فإن الأنبياء حبهم وعلاقتهم لا بد وأن يكونا حصرا لله تعالى وإن كان هذا
الحب محبوبا له تعالى ومأمورا به من عنده سبحانه ، إلا أنه حسنات الأبرار سيّات
المقرّبين. وثانيا أنه من باب الخضوع والخشوع. وثالثا أنه من باب الخوف والخشية
كما هو شأن المقرّبين والعارفين به سبحانه على ما هو ديدن سيّد المقرّبين والعرفاء
مولانا أمير المؤمنين أرواح العالمين له الفداء ، وكذلك هو ديدن أولاده الطّاهرين
صلوات الله وسلامه عليهم فليراجع في أحوالهم كيف كانوا يبكون ويستغفرون الله في
جميع أحوالهم ، وغير ذلك من المحتملات التي تناسب شأنه عليهالسلام. ووجه تقديم الاستغفار على طلب الملك أن من آداب طلب العبد
من المولى العظيم أن يتوب ويستغفر أوّلا لكي يصفو فتحصل له الأهلية والقابلية
لإفاضة الفيض من المبدأ الأعلى فيستفيض منه سواء كان مطلوبه من مولاه أمرا دنيويّا
أو أخرويّا وأما حصر مطلوبه بنفسه عليهالسلام فلا يكون من باب الشّح والمنافسة ، حاشاه ثم حاشاه ، بل من
باب أن لكلّ نبيّ معجزة تختصّ به ، فأحبّ أن يكون الملك بهذه الكيفيّة معجزة خاصّة
له ، مضافا إلى أنه مظهر كامل من مظاهر قدرته الباهرة
العظيمة وبرهان
قاطع على وجود خالق العالم ، وحجة على الصّانع القدير ، فلذا استجاب الله دعاءه
بأكمل ما أراد وأتمّ ما شاء. ولمّا كان إعطاء الملك بهذه الكيفية من العظمة منحصرا
به تعالى ، أكّده بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ) أي المعطي بكرم وبلا عوض.
٣٦ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ ...) من كمال قدرتنا أنّنا سخّرنا لنبيّنا الريح ، أي ذلّلناها
لطاعته إجابة لدعوته (تَجْرِي بِأَمْرِهِ
رُخاءً) بيان لتسخيره له الرّيح وتذليلها لطاعته ، أي ليّنة في وقت
، وعاصفة في آخر ، بلا تزعزع وتخوّف ، بل طيبة سريعة وفي عين تلك الحالة مطيعة
مريحة (حَيْثُ أَصابَ) أي في كلّ مكان وزمان أراد.
٣٧ ـ (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ ...) عطف على الريح ، أي سخّرنا له الشياطين الذين لهم صناعة
البناء والغوص ، فهم الذين يستفاد منهم فيبنون له في البرّ ما أراده عليهالسلام من الأبنية الرفيعة بأيّ كيفية أراد كغمدان وبيت المقدس
وغيرهما من الأبنية ويغوصون في البحر ويستخرجون منه ما شاء من اللّآلي والجواهر.
٣٨ ـ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ ...) أي مكبّلين ومشدودين في الأغلال ليكفّوا عن الشّر وقال
القمّي : هم الذين عصوا سليمان حين سلبه الله ملكه على ما ذكر في بعض كتب التفاسير
من قصّته تلك.
٣٩ ـ (هذا عَطاؤُنا ...) أي هذا الذي أعطيناك من الملك والسلطان والبسطة التي ما
أعطيناها أحدا قبلك ولا تعطى لأحد من بعدك هي منّة منّا عليك (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي أعط منه من شئت وامنع عمّن شئت ، فاختياره بيدك وأنت
مفوّض فيما شئت من الصرف (بِغَيْرِ حِسابٍ) غير محاسب عليه. هذا بالنسبة إلى الدّنيا ، وأمّا العقبى
فهو ما أخبر عنه الله تعالى بقوله :
٤٠ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى ...) أي قرب المقام والرّتبة ، ولا ينقص ملكه العظيم في الدنيا
من رفعة مقامه وقربه عندنا شيئا (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي له عندنا مرجع حسن ودرجات في جنّات النّعيم التي هي
أعظم النّعم مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. ثم إنه سبحانه لما أطلع رسوله
على قصّة سليمان وذكر له أحواله وما آل إليه أمره في دنياه وعقباه ، بيّن حكاية
أيّوب وابتلائه واختباره وصبره على قضاء الله وقدره فيه حتى يقتدي به النبيّ في
تحمّل المصائب والصّبر على المشاق وأذى قومه ومقاساة محنهم فقال :
* * *
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ
هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)
وَوَهَبْنا
لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))
٤١ ـ (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ...) شرّفه الله سبحانه بأن أضافه إليه تعالى ، وكان أيوب ممّن
خصّهم الله سبحانه بأنواع البلاء والمحن فذكر قصّته تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، وتذكيرا له بأنه لا بدّ من الصّبر والتحمّل حيث إن هذه
سنّتي مع أنبيائي ورسلي المقرّبين فاذكره (إِذْ نادى
رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قوله تعالى (أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ) الآية حكاية نداء أيّوب ، و (النّصب والنّصب). بضم النون
وفتحها مع سكون الصّاد وفتحها وضمّها هو التّعب والمشقة ، والعذاب : هو الألم
والوجع. ولذا ذكر سبحانه لفظين وقد حصل له نوعان من المكروه : أحدهما روحيّ وهو
الغمّ الشديد وكان قد أتعب روحه الشريفة بسبب زوال الخيرات وعدم التمكن من الإتيان
بعبادات ربّه على ما هي عليه من الكميّات والكيفيّات ، والثانيّ جسميّ كالآلام
والأوجاع الحاصلة من الأمراض الحادثة والحوادث الواقعة المسطورة في محلّها.
٤٢ ـ (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ
بارِدٌ وَشَرابٌ ...) حكاية لما أجيب به ، أي اضرب برجلك الأرض ، فضربها فانبعثت
عين فقيل (هذا مُغْتَسَلٌ) أي ما تغتسل به (بارِدٌ وَشَرابٌ) أي ما تشرب منه وهو بارد. فاغتسل عليهالسلام وشرب فبرئ ظاهره وباطنه فصار جسمه الشريف كالفضّة الخالصة
المصفّاة.
٤٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ ...) أي أعطيناه أهله الذين هلكوا وماتوا بأجمعهم (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن أحييناهم بعد موتهم وولد له مثلهم ، أو بأن ولد له ضعف
ما هلك. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام أنّه سئل كيف أوتي مثلهم معهم؟ قال : أحيى له من ولده
الذين كانوا ماتوا قبل ذلك الابتلاء بآجالهم ، مثل الذين هلكوا يومئذ بعد البليّة
وحينها (رَحْمَةً مِنَّا
وَذِكْرى) أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إيّاه وليتذكّر ويعتبر به من له
الأهلية (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأرباب العقول الكاملة حتّى يصبروا كما صبر عليهالسلام فإن صبره عليهالسلام عظة لهم وتذكار بأن عاقبة الصبر هو الفرج والظفر بالمقصود
والوصول إلى الفوز العظيم.
٤٤ ـ (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ...) أي قبضة حشيش يختلط فيها الرّطب باليابس والمراد هنا ملء
الكف من الشماريخ وما أشبه ذلك بعدد ما حلف
من أنه سيجلد
امرأته مائة جلدة. (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك ضربة واحدة. وكان (ع) قد حلف أن يضربها مائة جلدة
لإبطائها عليه مع غاية حاجته إليها أو لأمر أنكره عليهالسلام منها على ما في كتب المفسّرين ، ثم ندم على حلفه فحلّ الله
يمينه بذلك (وَلا تَحْنَثْ)
بترك ضربها ، وهي
رخصة باقية في الحدود في بعض مواردها كما ورد عنهم عليهمالسلام. ولقد شرع الله هذه الرخصة رحمة به وبها لحسن خدمتها له
ورضاه عنها بعد كشف عدم شيء من تقصيرها نحوه وكونها منزّهة ومبرّأة من كل شيء.
وقد روى العيّاشي
بإسناده أن عباد المكّي قال : قال لي سفيان الثّوري : إنّي أرى لك من أبي عبد الله
منزلة فاسأله عن رجل زنى وهو مريض ، فإن أقيم عليه الحد خافوا أن يموت ، ما تقول
فيه؟ قال فسألته فقال عليهالسلام لي : هذه المسألة من تلقاء نفسك أو أمرك بها إنسان؟ فقلت :
إن سفيان أمرني أن أسألك عنها. فقال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أتي برجل قد استسقى بطنه وبدت عروق فخذيه وقد زنى بامرأة
مريضة فأمر رسول الله ، فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ فضربه به ضربة وضربها به ضربة
وخلّى سبيلهما ، وذلك قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) ، (إِنَّا وَجَدْناهُ
صابِراً) على ما أصابه في النفس والأهل والمال من البلاء الذي
ابتليناه به وقد كان عظيما (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيّوب (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع منقطع إلى الله بكلّ وجوده ، شكور لنعمه تعالى
بتمام شكرها وكماله.
ثم إنه سبحانه
وتعالى عطف على ما تقدّم من حديث الأنبياء صلواته وسلامه عليهم فقال :
* * *
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
وَاذْكُرْ
إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)
هذا
ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها
يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ
لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))
٤٥ ـ (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي اذكر يا محمد لأمّتك وقومك عبادنا الصالحين هؤلاء. وقد
ذكر سبحانه ثلاثة من أعاظم الأنبياء وشرّفهم بالإضافة إليه تعالى ، وخصّهم بالذكر
لتقتدي الأمّة بحميد فعالهم وكريم خلالهم ، فتستحقّ بذلك حسن الثناء في الدنيا
وجزيل الثواب في العقبى كما استحقّوا هم ذلك بما وصفهم به ربّهم في كتابه الكريم
إذ قال : (أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصارِ) أي ذوي القوّة في الطاعة والبصيرة في الدّين. أو أولي
العلم والعمل حيث إنّ أكثر الأعمال تكون باليد ، وأقوى مبادئ المعرفة يكون بالبصر
والتبصّر. ولا يخفى أن للنفس الإنسانية قوّتين : قوة عاملة ، وقوّة عالمة. فالأولى
أشرف ما يصدر عنها طاعة الله ، وقد صدرت منهم. والثانية أشرف ما يصدر عنها معرفة
الله واليقين به ، وقد توفّر لهم ذلك. فقوله (أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصارِ) يشير إلى هاتين الحالتين ، أو أن المراد من (الْأَيْدِي) النّعم على عباد الله
بالإحسان إليهم
وإعانتهم ، فإن أكثر النّعم الظاهرية تجري على الأيادي ولذلك عبّر عنها بهذا
التعبير. ويمكن أن يراد بها النّعم المعنويّة التي هي أعمّ من ذلك كالدّعوة إلى
الدين وإلى التوحيد وسائر المعارف المفيدة والأبصار : جمع البصر وهو العقل
والبصيرة.
٤٦ ـ (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ...) أي جعلناهم خالصين لنا ومنزّهين من كل دنس وعيب بخصلة
خالصة لا شوب فيها وهي (ذِكْرَى الدَّارِ) أي تذكّرهم للآخرة دائما وهي مبني الخلوص في الطّاعة حيث
إن مطمح نظر الأنبياء والمخلصين ليس إلّا جوار الله والفوز في دار العقبى وإطلاق
الدار يشعر بأن الآخرة هي الدار الحقيقيّة والدنيا معبر لها.
٤٧ ـ (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ ...) أي المختارين بنعمة النبوّة وتحمّل أعباء الخلافة والرسالة
وقرب مقام القدس الرّبوبي الشامخ الذي لا يتيسّر لأحد غيرهم عليهمالسلام (الْأَخْيارِ) جمع خيّر أو خير مخفّفة كأموات جمع ميّت أو ميت وهو الذي
يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة واحتج العلماء بهذه الآية لإثبات العصمة للأنبياء ،
بيان ذلك أنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق ، وهو يعمّ حصول الخيرية
في جميع الأفعال والصّفات ، ولا نعني ولا ندري معنى للعصمة إلّا هذا كما بيّن في
محلّه.
٤٨ ـ (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ ...) أي اذكر لأمّتك هؤلاء الكرام من المذكورين أيضا ليقتدوا
بهم ويسلكوا سبيلهم ، وهم قوم آخرون من الأنبياء العظام تحمّلوا المشاق والشدائد
في طريق الدعوة إلى التوحيد والهداية إلى دين الله. وفصل ذكر إسماعيل عن ذكر أبيه
وأخيه للإشعار بعراقته في الصّبر. ولعلّ وجه عدم اقترانه بأخيه رمز إلى تقدّمه
وعلوّ رتبته من حيث إنّ أخاه ابن حرّة وإسماعيل ابن أمة والله أعلم. واليسع قيل هو
ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم تخلّع بخلعة النبوّة وتشرف بالتلبّس
بلباس الرّسالة وأمّا ذو الكفل فهو ابن عم اليسع وكان قد
تكفّل مائة نبيّ
فرّوا من القتل وآواهم. وقيل هو ابن أيّوب النبيّ وكان اسمه البشر ، وبعد والده
بعث إلى أهل الشام. وقيل هو يوشع بن نون (وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيارِ) أي من الذين اختارهم الله للرّسالة والخلافة لكونهم كثيري
الخير والبركة ، فكانت لهم الأهليّة لها.
٤٩ ـ (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ ...) أي هذا ذكر لهؤلاء الشرفاء الذين يستحقّون المدح والثناء
الجميل يذكرون به في الدنيا دائما. أو هو إشارة إلى القرآن ، أي أن القرآن نوع من
الذكر لما يذكر فيه من أحوال السابقين من الأنبياء وأوصيائهم ، ويذكر فيه من قصصهم
فهو مذكّر به (وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) لمّا ذكر سبحانه عنوانهم في العاجل أخذ في بيان قسم آخر من
شأنهم الذي هو أعظم ، فقرّره بقوله تعالى (وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ). إلخ فإن الفرد الكامل من المتّقين يمثّله الأنبياء فلهم عليهمالسلام حسن المرجع يرجعون إليه في الآخرة ، وهو ثواب الله. وفسّر
حسن المآب بقوله عزّ وعلا :
٥٠ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ ...) أي جنّات إقامة وخلود ، و (مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ) لا يقفون حتى تفتح ، فإنهم حين يردونها يجدون الأبواب
مفتوحة.
٥١ ـ (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها
بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ...) أي مستندين فيها إلى المساند ، جالسين جلسة الملوك (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرابٍ) فكلّما أرادوا فاكهة يأمرون سدنتهم بها ، أو يتحكّمون في
شرابها وثمارها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم ، بل يحصل لهم بمجرّد الإرادة
حاضرا على ما شاؤوا. وذكر الفاكهة دون غيرها من المأكولات يمكن أن يكون للإشارة
إلى أن مطاعمهم فيها هي لمحض التلذذ ، وأمّا التغذّي وإن كان فيهم تلذذ أيضا إلّا
أن المهمّ فيه هو التحلل ولا تحلّل
ثمّة ، ولذا كانت
المواد الغذائية قليلة بالإضافة إلى مواد التفكهة على ما يستفاد من نفس الشريفة
حيث وصف الفاكهة بالكثرة.
٥٢ ـ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ
أَتْرابٌ ...) جمع قاصرة ، من قصر الشيء على كذا أي لم يتجاوز به الى
غيره فالمراد به هو وصفهنّ بعدم تجاوز نظرهن إلى غير أزواجهنّ الخاصّة بهنّ ، وهذه
الصّفة من أحسن محسّنات النّساء. والطرف بالسكون هو العين (أَتْرابٌ) جمع ترب بكسر التاء وسكون الرّاء وهو من ولد مع غيره ،
وأكثر ما يستعمل في المؤنث ، فيقال هذه ترب فلانة إذا كانت على سنّها وولدت معها ،
ومعناه : أقران وعلى سنّ واحد ليس فيهنّ عجوز ولا طفلة ، أو متساويات في الحسن
ومقدار الشباب لا فضل لواحدة على أخرى. وقيل أتراب : أي على مقدار سنّ الأزواج كل
واحدة منهنّ ترب زوجها ولا تكون أكبر منه ، فهنّ قرينات لهم في السّن.
٥٣ ـ (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ
...) أي أن المذكور من المنكوحات المتّصفات بما وصف ، هو الذي
كنتم توعدون به بواسطة الأنبياء والرّسل المبعوثين إليكم (لِيَوْمِ الْحِسابِ) يوم جزاء الأعمال أن خيرا فخير وان شرّا فشرّ ... ثم أخبر
سبحانه أهل الجنّة بدوام ما وعدهم بهم إلى أبد الآبدين فقال :
٥٤ ـ (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ
نَفادٍ ...) أي هذه النعم الجزيلة التي أنعم بها علينا بلطفه المحض ومحض
لطفه وتفضّله هي رزقنا الذي لا يزال ثابتا غير منقطع. ويحتمل أن يكون هذا من كلامه
تعالى لا أنه حكاية عمّا يقوله أهل الجنّة فهو ليخبر سبحانه بأنّ ما أعطيناه
لعبادنا في الجنّة هو رزقنا الذي ليس له انقطاع ، بل هو باق ببقاء الله ودائم
بدوامه تعالى ... ثم لمّا بينّ سبحانه أحوال أهل الجنة وما أعدّ لهم من النّعم
الثابتة ، عقّبه ببيان
أحوال أهل النّار
وما لهم من أليم العذاب ، فقال تبارك وتعالى :
* * *
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ
(٥٥)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا
رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١))
٥٥ ـ (هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ
مَآبٍ ...) أي ما ذكرناه من أمر المساكن والمآكل والمشارب والمناكح في
الجنّة جزاء أعمال المتّقين. أمّا جزاء الطّاغين المتجاوزين حدود العبوديّة
بالطغيان على الله تعالى وتكذيب الرّسل فإن لهم (لَشَرَّ مَآبٍ) وقد فسّر ذلك الشرّ بقوله سبحانه :
٥٦ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمِهادُ ...) أي يدخلونها حال كونهم ملازمين النّار (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئس المسكن المفروش الذي هيّء للرّاحة فإن الكون في
النار يعني أن مهاده ذو عذاب شديد ، لأن المراد بالمهاد هو الفراش الممهّد للراحة
والنوم الهنيء.
٥٧ ـ (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
... هذا) يمكن أن يكون إشارة إلى جزاء الطّاغين المذكور آنفا يعني
هذا العذاب لا بدّ أن يذوقوه ، وهو حميم ، والحميم هو الماء الحارّ الشّديد
الحرارة. والغسّاق هو القيح الذي يخرج من القروح والدماميل ، ويعبّر عنه بالصّديد.
٥٨ ـ (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ...) أي : ولهم مع ذلك العذاب عذاب آخر هو في الشّدة مثل الأوّل
، وهو أصناف كثيرة.
٥٩ و ٦٠ ـ (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ...) ها هنا حذف ، أي يقال لهم : هذا فوج ، وهم قادة الضّلالة
إذا دخلوا النّار ، ثم يدخل الاتباع فيقول الخزنة للقادة : هذا فوج ، أي طائفة من
الناس ، وهم الأتباع ، مقتحم معكم في النار ، داخلون فيها كما دخلتم. والاقتحام هو
الدّخول في الشيء بشدّة وعنف. وفي القمّي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّ النّار تضيق عليهم كضيق الزجّ بالرّمح (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من المتبوعين على أتباعهم. وهذه كلمة دعاء للشخص على
ما هو الموضوع له ، ولمّا دخلها (لا) صارت دعاء عليه ، وهو مشتق من الرحب بمعنى
الفرح والسّعة. فالمعنى في المقام : لا سعة عليهم ولا فرح بهم (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي داخلوها مثلنا. (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ
لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي الأتباع قالوا للقادة والرّؤساء : بل أنتم أحقّ بما
قلتم لضلالكم وإضلالكم إيّانا (أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي هذا العذاب صيّرتموه لنا بحملكم إيّانا على العمل الذي
هذا جزاؤه (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي أن جهنّم بئس المقرّ لنا ولكم.
٦١ ـ (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا
...) أي أن الأتباع اشتكوا من المتبوعين أيضا ودعوا عليهم
بقولهم (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ
لَنا هذا) الموجب للعذاب (فَزِدْهُ عَذاباً
ضِعْفاً) هذا نظير قوله تعالى (رَبَّنا هؤُلاءِ
أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً) أي مكرّرا ومضاعفا وهو عذاب الضلال والإضلال. هذا شرح عذاب
الكفار وبيان أحوالهم مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا ، وأما شرح أحوالهم مع
الذين كانوا أعداء معهم فيها فهو قوله تعالى :
* * *
(وَقالُوا ما لَنا لا
نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))
٦٢ ـ (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً ...) في هذه الشريفة يحكي سبحانه أحوال أهل النار ومقالاتهم حين
ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم في الدنيا دينا ومسلكا فيقولون (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا
نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) ، في الدّنيا ، وهم شيعة عليّ عليهالسلام. وروى العياشي عن جابر عن الباقر عليهالسلام أنّه قال لأصحابه : إن الكفرة أرادوا (برجال) في هذه الآية
(إياكم) وأقسم بالله لا يرون أحدا منكم في النار ، وعن الصّادق عليهالسلام : يعنونكم معشر الشيعة لا يرون والله واحدا منكم في النار.
ثم إنهم أرادوا بقولهم (مِنَ الْأَشْرارِ) أي الأراذل الذين لا خير ولا جدوى فيهم ، أو لأنهم بزعمهم
على خلاف الدّين ومن أهل البدع. هذا ويحتمل أنهم يرون أمير المؤمنين صلوات الله
عليه من الأشرار لكثرة قتلاه في الحروب والغزوات فيعدّون شيعته ومتابعيه منهم ،
والله أعلم بما قال.
٦٣ ـ (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ
عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ...) أي كنّا نتعامل معهم معاملة من يكلّفه الإنسان بعمل بلا
أجرة أو نسخر بهم وهذا لا يكون نوعا إلّا بالنسبة إلى أدنياء الناس أو من به خبل.
والسّخريّ من السخرية أي من سخر به : هزئ به ، أو من سخّره جعله يعمل بلا أجرة
وحاصل معنى الآية والله أعلم أن الكفّار بعد الفحص الكثير في النار عن شيعة علي (ع)
وعدم رؤيتهم فيها وزعمهم بأنّهم في الجنّة قالوا تعييرا
وتوبيخا لأنفسهم
هذا الكلام. أي : هل حسبتموهم من أدنياء الناس ومن أهل الخبل والمجانين مع كونهم
من أشراف الناس وأعاظمهم الذين كانوا من أهل الجنّة ونحن من أصحاب النار
فالاستفهام إنكاري (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصارُ) أي مالت وكلّت أعيننا عن رؤيتهم. ويمكن أن تكون (أَمْ) عدل قولهم (أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا) ومتّصلة. فيصير المعنى : هل كنّا نسخر منهم ونهزأ بهم ، أم
نصرف نظرنا عنهم تحقيرا وازدراء؟ وهذا القول منهم في مقام التوبيخ لأنفسهم بأنه
لماذا كنّا نحقّرهم ولا ننظر إليهم. ويمكن أن تكون (أَمْ) منقطعة ، فمعناه : أنستهزئ بهم وقد كان إعراضنا عنهم
لاسترذالهم واستحقارهم فتنحرف أعيننا عنهم؟ وقيل (أَمْ) معادلة لقولهم (لا نَرى) فمعناه : أليس هؤلاء المخالفون لنا في الدّنيا في النار؟
أو يكونون معنا في النّار لكن عدلت أبصارنا عنهم فلا نبصرهم؟ ثم إنه سبحانه وتعالى
لتحقّق وقوع هذه الحكاية أكّدها بقوله :
٦٤ ـ (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ ...) أي المقالات المحكيّة عن الكفرة في النار من التابعين
والمتبوعين صدق ومحقّق وقوعها بلا ريب. ثم بيّن أن هذه المقالات (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي جدالهم ونزاعهم. وهذا الكلام بدل لقوله (لَحَقٌ) أو خبر لمبتدأ محذوف على ما أشرنا إليه. وسمّي تخاصما لأن
قول الرؤساء (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة ومجادلة بعضهم بعضا. وهذا من باب تسمية
الكلّ باسم جزئه. وفي القمي عن الصّادق عليهالسلام : إنكم لفي الجنّة تحبرون وفي النار تطلبون وزاد في
البصائر : فلا توجدون. والحبور هو السّرور أي تسرّون وتكرمون.
* * *
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ
عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ
يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))
٦٥ و ٦٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ ...) أي يا محمد قل للمشركين إنّي أنذركم عذاب الله وأهوال يوم
القيامة (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) الذي لا شريك له ولا يتبعّض (الْقَهَّارُ) لكلّ شيء المتعالي بسعة مقدوراته فلا يقدر أحد على الخلاص
من عقوباته وعذابه الذي أعدّه للعصاة المخالفين لرسله ، وهو (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مالكهما ومصلحهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الجن والإنس وكلّ خلق وموجود فيهما (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم وعدم العفو عنهم. وحاصل
المعنى أنه : أبلغ يا محمد عقاب من أنكر التوحيد والنبوّة والمعاد ، وثواب من أقرّ
بذلك كلّه.
٦٧ و ٦٨ ـ (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ
عَنْهُ مُعْرِضُونَ ...) أي ما أنبأتكم به
من أحوال يوم القيامة وأهوالها وأحوال العاصين والمطيعين ، أو من أمر التوحيد
والنبوّة والبعث ، أو القرآن الذي هو جامع لأخبار الأنبياء والمرسلين والتوحيد
والبعث والحشر ، وهو المعجزة الباقية لخاتم النبيّين صلوات الله عليه وآله على
اختلاف الأقوال في مرجع الضمير ، فذلك نبأ عظيم (أَنْتُمْ عَنْهُ
مُعْرِضُونَ) لا تنظرون في حججه وبراهينه لجهلكم وغفلتكم عنه ، ولذا
تعرضون وتتولّون عنه وتجعلونه وراء ظهوركم. وفي البصائر عن الباقر
عليه صلوات الله :
هو والله أمير المؤمنين عليهالسلام. وعن الصّادق عليهالسلام : النبأ الإمامة.
٦٩ ـ (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى ...) أي الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي يتخاصمون ويتجادلون فأنبأني بأن جدالهم لا يكون إلّا عن
وحي وعبّر بالتّخاصم لأنه سؤال وجواب فهو شبيه به. وقيل إن المراد بالملإ الأعلى
هو الملائكة وآدم وإبليس الذين كانوا سكّان السّماوات في ابتداء الأمر ، والمراد
بتخاصمهم هو مقاولاتهم من قول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ) وقول آدم لبيان أفضليّته (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وقول إبليس حين امتنع عن السّجدة (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)
وحاصل الشريفة
أنّه صلوات الله عليه وآله في مقام إثبات نبوّته ورسالته لأمّته يريد أن يقول لهم
إنّ أقوى دليل وأظهر شاهد على نبوّتي هو إخباري عن قصّة الملأ الأعلى وتقاولهم على
ما هو مذكور في كتب السّلف من الأنبياء والمرسلين ، مع أنّي أمّيّ لم أطالع كتبهم
ولا تعلّمت عن أحدهم ولا رأيتهم ولم أدرس عند أحد كما شاهدتموني من أوّل استرشادي
لأمري فانّي كنت بين أظهركم من بدء حداثتي. ولو كنت متعلّما ودارسا عند أحد
لرأيتموني وشاهدتمونى فإنبائى عن الملأ الأعلى ، وإخباري عن مقاولاتهم تكشف عن وحي
وإلهام سماويّ وعن عالم القدس بنزول الملك عليّ ففكّروا وتدبّروا ...
٧٠ ـ (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) أي لأنّما أنا نذير على قراءة فتح الألف في أنّما ، ومعناه
: لا يوحى إليّ إلّا لأنّي نبيّ منذر للنّاس إنذارا غير خفيّ لأنّ الإخفاء علامة
الخوف فلا يؤثّر ، ونتيجة هذا الإنذار هي النّجاة من ظلمة الضّلالة إلى أنوار
الهداية ومن تيه الجهالة والغفلة إلى حدود المعرفة : وليعلم أنّ تقاول الملأ
الأعلى قد ذكر في سورة البقرة والمقصد الأصلي في هذا المقام هو إنذار المشركين على
استكبارهم وترفعهم الذي كان بمثابة ترفّع إبليس وأنفته عن السّجود لآدم. فلذا هو
سبحانه
بعد ذكره الاختصام
إجمالا اقتصر على مخاصمة إبليس تفصيلا واستكباره عن السّجود فقال جلّ وعلا :
* * *
(إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)
فَإِذا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))
٧١ و ٧٢ ـ (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) أي أذكر يا محمد قول ربّك حين أراد أن يسجد لآدم : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) والمقصود هو آدم أبو البشر سلام الله عليه (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أكملت وتمّمت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) أي أفضت عليه الحياة. وأسند التّسوية وإفاضة الرّوح إلى
نفسه تشريفا وتبجيلا له عليهالسلام ، وتنبيها على أنه هو الفاعل بمباشرته بنفسه تعالى وتقدّس
بلا استعانة من أحد وبلا دخالة أحد من المخلوقات وفي هذا أيضا اشارة إلى تعظيمه عليهالسلام وخصيصة تخصّه من بين الأنبياء والمرسلين كما أشرنا إليه
سابقا. وأما كيفية نفخ الروح وحقيقتها فهي أمر لا يعلم إلّا من قبله ، وليست إلّا
من العالم بالأمر وليس لنا طريق إلى معرفتها. نعم معلوم لنا في الجملة أنّ مسألة
الأرواح عبارة عن أجسام نورانيّة علويّة العنصر قدسيّة الجوهر تسري في الأبدان
سريان الضّوء في الهواء والنار في الفحم والحرارة والبرودة في الأجسام القابلة
لهما. هذا ولكنّ الحق والإنصاف أن الأرواح بحقيقتها وكيفيّة سريانها في الأجسام
وكيفيّة نفخها بتمامها مجهولة لنا وغير معروفة ،
وجميع ذلك عند
عالم الأمر فلا يعلمها إلّا الله كما أشار إليه سبحانه في الشريفة (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي بجميع جهاتها. ويستفاد من هذه الآية أنّ مسألة الرّوح
بجميع شؤونها وعلمها مختصّة بذاته المقدّسة وليس للبشر حق مداخلة وتصرف في أيّ جهة
من الجهات الرّاجعة إليها لأن كلّ معنى من المعاني نتصوّره ونميّزه لها فهو مصداق
من مصاديق قول مولانا رئيس العارفين في باب معرفة الله تعالى : كلّ ما ميّزتموه
بأوهامكم فهو مخلوق لكم مردود إليكم. فنحن كل ما نتصوره من المعاني للروح وشؤونها
فهو مخترع لنا مردود إلينا (فَقَعُوا لَهُ
ساجِدِينَ) أي خرّوا ساجدين سجدة تكرمة وتعظيم له عليهالسلام ، لا سجدة عبودية له فإنها خصيصة له تعالى وتقدّس ولا تجوز
لغيره. وقد مرّ الكلام فيه في سورة البقرة بأبسط مما قلنا هنا ثم إنّ الملائكة
كانوا منتظرين لهذه الدّعوة إلى أن تمّت الخلقة من حيث الأعضاء والجوارح وتعلّق
الروح فتوجّه أمر الله بالسّجود له عليهم. وأمّا إنّ المأمور بذلك السّجود هو
ملائكة السّماوات جميعا أو دخل فيه ملائكة الأرض ففيه بحث عميق لا يسعه هذا
المختصر.
٧٣ و ٧٤ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ ...) تأكيدان يدلّان أنّ الملائكة لم يبق منهم أحد إلّا وقد سجد
كما أمروا ، تكرمة لآدم وطاعة لله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ) أي ترفّع وتعاظم (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) أي في علمه تعالى لأنه كان ذا تكبّر وتفخّم طبعا ، وكان
مخاصما له تعالى في كبريائه وعظمته ، فكان في علمه جلّ وعلا مردودا فلما أمره
سبحانه بالسّجود لآدم أظهر كفره ونخوته باستكباره وامتناعه عن السّجود مع أن مثل
جبرائيل وإسرافيل وسائر المقرّبين من الملائكة بتمامهم سجدوا في مرآه ومشهده
وكانوا أعلى منه مقاما ودرجة فكان هذا الأمر إجلالا للبعض من الملأ الأعلى
وامتحانا واختبارا للآخرين.
* * *
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢)
إِلاَّ
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))
٧٥ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ؟ ...) أي مع علمه تعالى بحقيقة أمره وكفره ، سأله حتى يظهر أمره
وباطنه على ملائكته الذين يعظّمونه ويبجّلونه فقال (يا إِبْلِيسُ ما
مَنَعَكَ) من السّجود؟ ولماذا عصيت أمري بالخضوع لمخلوق خلقته بنفسي
وأنا كنت مباشرا لخلقه؟ ولم يكن هذا شخصا عاديّا كسائر المخلوقات وموجودا كسائر
الموجودات (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟) هذا سؤال توبيخ. يعني أنّك هل كنت من الذين يتكبّرون
ويترفّعون من غير استحقاق ، ويحسبون أنفسهم فوق ما كانوا من القدر والرفعة؟ أم من
الذين يستحقون الترفع والتفوّق؟
٧٦ ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ...) هذا القول أوّلا تجاسر وتطاول على ربّه لأنه ليس للمخلوق
أن يظهر الأنانيّة في مقابل خالقه ، ويقول بجرأة (أَنَا) وثانيا كاشف عن الغاية في عدم معرفة خالقه ، فإن توصيف
الشخص
وتعريفه نفسه قبيح
، وعند خالقه الذي يعرفه كمال المعرفة أقبح ، حيث إنّه خلقه وهو عالم بكامل وجوده
وجميع خصوصياته ، ففي مقابل من هو أعرف بنفس الإنسان أو غير الإنسان من الموجودات
يكون التعريف للنفس أقبح ، وما أدرك إبليس هذا المطلب مع ظهوره ووضوحه. فهو عليه
لعائن الله عليه أجهل من كلّ جاهل. وثالثا بيّن وجه الأفضليّة وأنه خير من آدم
بأنه مخلوق (مِنْ نارٍ) وآدم (مِنْ طِينٍ) والنار أفضل وأشرف من الطين فهو أشرف من آدم. وقد أشبعنا
المقام من الكلام فيه في سورة البقرة أو آل عمران أو الأعراف فليراجع. وبيان جهله
أن التراب خير من النار وأفضل منها بمراتب كثيرة ، وأنّ التراب كفؤ للماء الذي
أناط الخالق المتعالي حياة كلّ ذي حياة به ، فأين النار من التراب؟ ويكفي في شرافة
التراب وأفضليته منها أنّه تعالى قدّمه في مقام خلقه لخليفته في الأرض وحجّته خلقا
باشره هو بنفسه واهتمّ غاية الاهتمام بإيجاده وقدّم ذكره على جميع العناصر ، فمن
هذا نستكشف كشفا واقعيّا بطلان قول إبليس وعلته التي علّل الأفضلية بها ، وأنّه
بهذا المدّعى أظهر جهله للملائكة ولجميع الإنس والجن.
٧٧ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ
رَجِيمٌ ...) أي اخرج من الملأ الأعلى أو الجنّة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود. وإنك لست بقابل لأن تكون في الملأ الأعلى عند أصحاب
الكرامة والشرافة. ولما سمع الربّ سبحانه جوابه السخيف ورأى أنّه غير قابل للتوجّه
والاعتناء بجوابه أمر بخروجه وطرده كما يرجم ويطرد الكلب العقور فعليه لعنة الله
إلى يوم ينفخ في الصور. وإنّه لمّا رأى غضب الربّ جلّ وعلا عليه أيس من رحمته
وعفوه ولا سيّما بعد قوله تعالى :
٧٨ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ
الدِّينِ ...) أثبت تعالى وأنجز الخزي الدائم والإبعاد الممتدّ إلى الأبد
والعذاب الأليم الذي يخلّد فيه. ويراد به
التأبيد عرفا ، أو
أنّه يعذّب بعده مع هذه اللعنة التي تلازمه إلى يوم البعث.
٧٩ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ ...) أي أخّرني إلى يوم القيامة حين يبعث العباد. وقد استنظره
إلى وقت لا موت فيه ولا فيما بعده ، لئلّا يموت ولا يذوق عذاب نزع الرّوح ، ولم
يجبه سبحانه بل قال له :
٨٠ و ٨١ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) فأجابه إلى ما هو مطلوبه بأصل الإنظار لا بالكيفيّة التي
طلبها ورغب فيها ، إذ أنظره (إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي إلى يوم هو معلوم عندي ، يمكن أن يكون المراد إلى
النفخة الأولى أو إلى وقت أجلك المسمّى ، ويحتمل أن يكون المراد وقت كون البشر في
عالم الوجود حيث إن إنظار إبليس لامتحان البشر ، فوجوده يدور مدار كون البشر فإذا
لم يكونوا فما فائدة وجوده؟
٨٢ و ٨٣ ـ (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ ...) أي أقسم بسلطانك وقهرك الّذي تقهر به جميع المخلوقين سأدعو
بني آدم إلى الغيّ والشّقاق والضّلالة وأزيّن لهم القبائح حتى يعملوها ولا يجيبوك
في أوامرك ونواهيك ... ولن ينجو منّي (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لطاعتك إذا قرئ بفتح اللام ، وإذا قرئ
بالكسر معناه الذين أخلصوا دينهم وعباداتهم لك فهؤلاء ليس لي عليهم سلطان ولا
سبيل. والمراد بالاوّلين هم المعصومون الذين عصمهم الله من الزلل والضّلال وأذهب
عنهم الرجس وطهرهم.
٨٤ و ٨٥ ـ (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ...) أي فأنا الحقّ وأقوله. أو فالحقّ قسمي والحقّ أقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) من جنسك وهم الشّياطين (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ) من النّاس (أَجْمَعِينَ) تأكيد للجنسين.
* * *
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))
٨٦ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ...) أي على تبليغ الوحي والقرآن بما فيه من الدعوة إلى الله
وإلى التوحيد وغيرهما (وَما أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ) أي من المتصنّعين الذين أظهروا شيئا ليس فيهم ، فأنا لست
في نسبة النبوّة وإنزال القرآن منتحلا ذلك إلى نفسي ولا متقوّلا ، فإنّكم تدرون
بأني ما كنت متصنّعا في أقوالي ، فاعلموا صدق مقالتي حين أقول لكم.
٨٧ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
...) أي عظة وتذكير لمن يكون قابلا للتّذكر وأهلا للموعظة.
٨٨ ـ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
...) أي ستعرفون بالتأكيد صدق خبره من الوعد والوعيد بعد الموت
أو يوم القيامة. وفي الكافي عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : عند خروج القائم عجل الله تعالى فرجه.
سورة الزمر
مكية إلّا الآيات
٥٢ و ٥٣ و ٥٤ وآياتها ٧٥ نزلت بعد سبأ.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))
١ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...) أي على محمّد. والمضاف والمضاف إليه مبتدأ خبره هو الظّرف
أي هذا القرآن تنزيل على نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله ، من الله (الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في تدبيره وجميع أفعاله ، ويفعل ما يفعل لداعية الحكمة لا
لداعية الشهوة وإلّا لم يكن حكيما. وذكر هذين الوصفين لتحذير العباد من مخالفة
القرآن وإعلامهم بأنه سبحانه هو الحافظ له من التغيير والتحريف ، ولذلك جلّ وعلا
عظّم أمر القرآن وحثّ المكلّفين على القيام بما فيه واتّباع أوامره ونواهيه.
٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
...) أكّد سبحانه إنزاله للقرآن على نبيّه
صلواته عليه ،
وصرّح بأنه تعالى هو المنزل حيث أضافه إليه جلّ وعلا ، لأنّ قريشا يقولون وينشرون
في الناس في الموسم وغيره بأن هذا القرآن ليس كتابا سماويّا بل هو من عند غيره
سبحانه ، وكان غرضهم إبطال تحدّيه بأني رسول الله إليكم ومعجزتي كتابي الذي أنزله عليّ
ربّي عزوجل ، فيريد الله سبحانه أن يردّهم ويبطل دعواهم ، فإذا كان من
عنده تعالى فيكون حقّا كما صرّح بذلك هو سبحانه بقوله : (بِالْحَقِ) أي متلبّسا به (فَاعْبُدِ اللهَ
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) حال كونك مخلصا له عبادتك من الشّرك والأغراض الدنيويّة.
وظاهر الخطاب متوجّه إليه صلوات الله عليه وآله ، لكنه معلوم أن المراد أمّته
الذين كانوا عكّفا على الأصنام عبّادا لها لا يرون إلها غيرها تبعا لآبائهم حيث
وجدوهم كذلك.
* * *
(أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ
إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما
هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))
٣ ـ (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ...) أي اعلموا أنّ الدّين الخالص من شوائب الأوهام هو منحصر
بدين الإسلام ، وهو دين الله لأنّه المتفرّد بصفات الألوهيّة متوحّد في مقام
الربوبيّة والاطّلاع على الأسرار والضّمائر فينبغي أن تكون عبادته خالصة من شوب
الرياء ولوث الشّرك. وقيل المراد من الدّين الخالص هو كلمة التوحيد ، وقيل هو
الاعتقاد بالأمور الواجبة
من التوحيد والعدل
والنبوّة والإمامة والمعاد. ثم أخذ سبحانه في تهديد أهل الشّرك والنّفاق فقال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) كعيسى والأرواح السماوية والأحجار والأشجار والأصنام
والنجوم قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي قربى (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي من أمر الدّين فيثيب المحقّ ويعاقب المبطل. والضّمير
للكفرة وأضدادهم من أهل الدّين. وجملة (إِنَّ اللهَ) ، الآية خبر لقوله (وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي لا يوفّق للاهتداء إلى الحق من يكذب على الله بنسبة
الشّريك والولد إليه تعالى ، ويكفر بما أنعم الله عليه بأعظم نعمائه من إرسال
الرّسل وإعطاء العقل الذي هو الرسول الباطن ، وبسائر نعمه الظاهريّة والباطنية
التي لا تعدّ ولا تحصى. قال سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) فالكاذب والكفّار فاقدو البصيرة بعبادتهم غير الله ونسبة
الولد إليه سبحانه ، وهو تعالى يردّ قول الكاذبين والكفرة ودعواهم كدعوى بني مليح
والنصارى واليهود بقوله سبحانه :
* * *
(لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ
الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً
مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٧))
٤ ـ (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً ...) أي كما زعموا ونسبوا إليه شركاء من الملائكة كبني مليح
الذين قالوا إن الملائكة بنات الله ، وكالنّصارى الذين قالوا إن المسيح ابن الله ،
وكاليهود فإنّهم قالوا عزيز ابن الله ، أي فقد كذبوا فيما زعموه لأنه لو شاء (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لاختار من خلقه هو سبحانه وفق رأيه ومشيئته لا أنه
يخلّي أمر الاصطفاء بيد غيره حتى يختاروا له هم حسب مشيئتهم فيما يختارون (سُبْحانَهُ) أي منزّه عمّا يقول الظّالمون من اتّخاذه الولد والشّريك
والصّاحبة (هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) فإن الألوهيّة التي تخصّه مستلزمة للوحدة الذاتيّة وهي
تنافي المماثلة والمشابهة بما سواه لأنّ كلّ واحد من المثلين مركّب من حقيقة
مشتركة بينهما ، والتركيب ينافي الوحدة الذاتيّة كما برهن في محلّة عند أهله. وإذا
كانت الوحدة تنافي المماثلة والمشابهة فهي تنافي التوالد والتّناسل بلا شبهة ولا
ريب والحاصل ليس له في الأشياء مثل ولا شبيه وهو تعالى (الْقَهَّارُ) غالب على الأشياء بجميع مراتبها ومستغن عن كلّ شيء ،
والأشياء بجميع
شؤونها مقهورة له ومحتاجة إليه.
٥ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) وهو يعلم بأن في خلقهما مقدار من آثار القدرة وأطوار
الحكمة المندرجة التي تجعل المتفكّرين يتدبّرون فيها ويعرفون منها الصّانع
ويعترفون بوحدانيته وكمال قدرته (بِالْحَقِ) أي خلقهما للغرض الحكمي لا أنّ خلقهما كان لا لغرض وبلا
حكمة حتى يكون باطلا ولغوا (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ) أي يدخله عليه ويغشّيه به كأنّما الليل ستار يطرح على
النهار وكذلك العكس (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) بأن أجراهما على وتيرة واحدة لا يتخلّفان عنها (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هو منتهى دوره أو يوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي الغالب على كل شيء ولم يعاجل بالعقوبة ، وفي هذه
الكريمة نبّه جلّ وعلا عباده على تمام قدرته وكمال صنعه وعلى وجود صانع عليم حكيم
مدبّر قدير خبير وحيد في ذاته فوق الطّبع والطّبيعة. بيان ذلك أنّه سبحانه ذكر في
هذه الآية ثلاثة أمور من آياته التكوينيّة : خلق السّماوات والأرض ، وتكوير اللّيل
والنّهار ، وتسخير الشمس والقمر. وجميع تلك الآيات من آياته الكبرى. أمّا الأولى
فقد أشرنا آنفا إلى أنه سبحانه كم من غرائب الأمور وعجائب الخلقة قد أودعها فيهما
، وقد اقتضت الحكمة في نشر بعضها وانطواء بعض آخر وهما العمادان في نظام عالم
التكوين بل والتشريع من حيث استدلّ بخلقهما على كمال قدرته وغاية تدبيره وحكمته
وحسن تقديره وأمّا الثّاني فإن النور والظلمة آيتان عجيبتان وأمرهما أعجب حيث
إنّهما في كلّ يوم يغلب هذا تارة وذاك أخرى وبقيا هكذا منذ كانا ولا يزالان منذ
يوم حدوثهما كذلك إلى يوم الانقضاء وظلّا على وتيرة واحدة بلا اختلاف عن خلقهما
الأوّل ، ففي تعاقبهما واختلافهما المتتابع دلالة على أن كلّ واحد منهما مغلوب ومقهور
بغالب وقاهر يكونان تحت حكمه وتدبيره الأحسن فتبارك الله أحسن الخالقين
والمدبّرين. وأمّا الثالث من الآيات العجيبة
الكبرى ، فإن
الشمس كوكب نهاريّ حاكم على كلّ كوكب نهاري وعلى جميع النّجوم والكواكب التي في
فلكها ومدارها ، وكلّها تحت شعاعها ومندكّة فيها. والقمر سلطان اللّيل والحاكم فيه
على الكواكب الليليّة. وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما ولهما آثار وخواصّ في
موجوداته كنمّو الأجسام من الحيوانيّة والنباتيّة بل الجمادية على ما ينقل عن
علماء علم معرفة الأشياء أو المتخصصين في علم الأرض من أنّ للجبال تنمية وتغذية ،
أو بالنسبة إلى حركتها الجوهريّة ونضج الأثمار وإيجاد الخواص والآثار فيها وحلوها
وحموضتها ومرّها وغير ذلك من الكيفيات المربوطة والمتعلقة بموجودات عالم التكوين.
وقد قدّر سبحانه حركتهما وسيرهما من مطلع كل واحد منهما إلى مغربه بطور مخصوص إلى
أجل مسمّى أي إلى منتهى دورهما أو يوم القيامة الكبرى كما شرحنا الأجل المسمّى
قبيل ذلك ، فهما مسخّران بحيث لا يتخطّيان ما قدّر لهما من الزّمان في مدارهما
وكيفيّة حركتهما من السرعة والبطء. فهذا التنظيم والتسخير يدلّان على أنّهما
مغلوبان ومقهوران بغالب ومنظّم ومسخّران كائنان تحت حكمه وتنظيمه وتدبيره ، وهو من
وراء العالم الطبيعيّ والكونيّ سبحانه وتعالى عن وصف الواصفين ومدح المادحين.
٦ ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) ثم إنّه سبحانه بعد أن استدلّ على إثبات وجوده وكمال قدرته
بخلق الآفاق وآياته التكوينيّة ، استدلّ في هذه المباركة بخلق الأنفس وبآياته
الأنفسيّة ، أي خلقة آدم وذرّيته ، وذلك لإظهار كمال قدرته بحسن خلقته حيث بيّن في
هذه الآية أنّ جميع البشر من شخص واحد وهو آدم لأنّ حوّاء منه كما صرّح به سبحانه
بقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها
زَوْجَها) أي من فضل طينته أو من ضلع من أضلاعه ، وهو آية ثانية.
وكلمة (ثُمَ) تقتضي التّراخي بين الآيتين في الموجود لتفاوت ما بينهما
من الفضل من جهات عديدة. الأوّل أن لآدم فضل الذّكورة ،
والثاني فضل
النبوّة ، والثالث فضل الأصالة لأنّ حواء خلق منه ، فهي من فروعه ، والرابع أن
الله تعالى أضاف خلقة آدم إلى نفسه المقدّسة مباشرة وخصّه بتلك الفضيلة من بين
جميع الموجودات من الذّرة إلى الدّرة.
وقيل إن الإتيان
بكلمة (ثُمَ) التي تفيد الإمهال والتأخّر للإشارة إلى التأخّر في
الإيجاد لا في الوجود فقط فإنه تعالى بعد خلق آدم خلق ذرّيته في ظهره ، وبعد ذلك
خلق حواء منه عليهماالسلام. ولا يخفى أن الفرق بين القولين اعتباريّ كما أنّ الفرق
بين الإيجاد والوجود اعتباريّ محض ، وإلّا فكلّ واحد ملازم للآخر ولا فرق بينهما
إلّا بالاضافة. نعم هناك فرق هو أن الأوّل يقول بتأخّرها عنه بمرتبة واحدة ،
والثاني يقول بأنّ الإمهال بمرتبتين ، ولعلّ مرادهما هو هذا ، فالفرق ليس محض
اعتبار ولمّا كان إبداع الأبدان وإفاضة الرّوح فيها من أعظم النّعم ، قدّمه على
غيره ، وبعده أخذ في ذكر النعم الأخر فقال جلّ وعلا : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي من الإبل والبقر والضّأن والمعز ، من كلّ واحد من
الأصناف الأربعة ذكرا وأنثى فتمّت الثمانية. وإيثار الإنزال على الإبداع والخلق
تنبيه على أنّ نشوء الأنعام بالنّبات وتنمية النّبات وأثمارها بالمطر الذي هو سبب
له ، فالتسمية من باب تسمية المسبّب باسم سببه. ونظيره قوله سبحانه (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) فإن إنزال المطر سبب لحصول القطن الذي هو مأخوذ للباس نوع
البشر ولا سيما في عصر نزول القرآن. واللباس المأخوذ من غير القطن من الصّوف وغيره
مأخوذه أيضا يؤول إلى ما يحتاج إلى ماء المطر كالحيوان الذي أشرنا آنفا باحتياجه
إليه. وبعضهم يقول إن وجه الإيثار هو إن الله سبحانه أرسل الأصناف الثمانية من
الجنّة إلى الأرض ، فالإنزال كان بمعناه الحقيقي. ثم أخذ تعالى في تفصيل خلق
الإنسان وسائر الحيوان كالأنعام وأشباهه فقال : (يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي بدء تكوّنكم فيها (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ) أي نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ثم
كسوتها لحما ثم
حيوانا سويّا (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، والرّحم ، والمشيمة. هكذا فسّر الإمام الباقر
عليهالسلام الظلمات الثلاث. وعن الصادق عليهالسلام مثله وزاد : حيث لا حيلة له في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا
استجلاب منفعة ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو
الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتّى إذا أكمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه
على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضّياء هاج الطّلق (أي وجع الولادة) بأمّه
فأزعجه أشدّ إزعاج فأعنفه حتّى يولد (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ) أي الفاعل لهذه الأمور العجيبة والأطوار البديعة الغريبة
هو الله الذي هو مالككم وسيّدكم ومصلح أموركم (لَهُ الْمُلْكُ) يعني أنه هو المالك للأشياء طرّا على الحقيقة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ) أي فكيف تعدلون وتنصرفون عن توحيده إلى الإشراك به. ويتراءى
في أول النظر من قوله جلّ وعزّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أنه تعالى يشتاق ويحتاج إلى عبادة الأنام اشتياق الفقير
إلى ما عند الغنيّ ، فيدفع هذا التوهّم بقوله :
٧ ـ (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنْكُمْ ...) الخطاب إلى أهل مكة ، وقد أظهر سبحانه كمال اقتداره وغناه
عن عبادتهم وتوحيدهم أو شكرهم لنعمه ، فإن آمنوا فلا ينفعه سبحانه إيمانهم ، وإن
كفروا فلا يضرّه كفرهم ، بل نفع الإيمان وضرّ الكفر يرجعان إليهم لأنه تعالى غنيّ
عن العالمين. نعم هو سبحانه (لا يَرْضى لِعِبادِهِ
الْكُفْرَ) رحمة بهم وشفقة عليهم ، لأنه عالم بضرره لهم ، فهو كالوالد
الشفيق على الولد الجاهل العاصي لأوامر والده الذي لا ينتهي لنواهيه ، ومع ذلك
فإنه لو حدث له حادث يسوؤه ، نرى أن الوالد يتأذّى بأذاه ويتألّم بألمه رحمة به.
فالله سبحانه كذلك بالنسبة إلى عباده الجهلة الغفلة لا يرضى بضررهم (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لكنّه إذا شكروه على نعمة الإيمان وسائر نعمه فهو
يرضى شكرهم لهم لا
له ، لأنه سبب لمزيد نعمهم الدنيويّة وموجب لزيادة الدرجة الأخرويّة ، فمآل شكرهم
يرجع إليهم لا إليه سبحانه لأنه غنيّ على الإطلاق. وطلبه الطاعة منهم وكراهته
العصيان منهم لصلاحهم بالطاعة وضررهم بالعصيان فلا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضرّه
معصية العاصين. ثم إنّه تعالى يذكر عدله يوم الجزاء بقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى. وحاصله : لا يؤاخذ بالذنب إلّا
من ارتكبه وفعله. فهذا الكلام تنبيه وتخويف للعباد حتى تدري كلّ نفس تكليفها وما
عملت ، وتتوجّه إلى ما ترتكبه ، وكذا جملة ما بعده : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمحاسبة والمجازاة (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) لا يخفى عليه سرّ ولا علانية ولا الكثير ولا مثقال الذرّة.
* * *
(وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
(٩))
٨ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا
رَبَّهُ ...) أي ما يعتريه من مرض وشدّة وقحط وغيرها من أنواع الضرّ ،
يدعو الله تعالى لكشفه (مُنِيباً إِلَيْهِ) أي راجعا إليه سبحانه وحده لا يرجو سواه ، فيكون الإنسان
في حال الشّدة موحّدا. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً) أي أعطاه مطلوبه وكشف ضرّه (نَسِيَ ما كانَ
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي ينسى ضرّه وابتلاءه الذي كاد أن ينتحر فيه ويختنق به
قبيل نيل هذه النعمة التي وجدها بالفعل فنسيه ونسي ربه الذي كان منيبا إليه صباحا
ومساء لدفع الضّر ورفعه ، ورجع إلى معاصيه وعبادته الأصنام عاكفا على شركه ناسيا
لتوحيده (وَجَعَلَ لِلَّهِ
أَنْداداً) أي شركاء (لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ ، قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) هذا أمر في معنى الخبر ، معناه أن مدة تمتّعك قليلة وعمّا
قريب زائلة (إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ) وهذه الجملة تهديد وتوعيد بالنار بعد قليل في الآخرة.
٩ ـ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ...) أي هذا الّذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة. ففي
الكلام حذف وتقدير. حذف لدلالة المقام عليه أي ليس من هو قانت كغيره من المتكبّرين
عن العبادة والقنوت معلوم ، وقيل إنه يدل على قراءة القرآن وقيام اللّيل (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته (ساجِداً وَقائِماً) يسجد تارة ويقوم أخرى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي جعل الآخرة في جميع حالاته نصب عينيه خوفا ولا يتوقع في
أفعاله إلّا رحمة ربّه الرحيم فهو متقلّب بين الخوف والرّجاء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ) أن الصّانع العالم موجود وأن محمدا رسوله صلىاللهعليهوآله (وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) بذلك (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي بالمواعظ والتفكر في الآيات التكوينيّة والأنفسيّة.
فليعلم أنّ ما ذكر في تفسير الكريمة (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ) الآية هذا بعض تأويلها : فعن الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : (آناءَ اللَّيْلِ
ساجِداً وَقائِماً) قال : يعني صلاة
اللّيل ، وعنه (ع):
نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولو الألباب. وعن الصّادق
قريب من هذا الذي ذكرناه.
* * *
(قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي
أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١)
وَأُمِرْتُ
لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))
١٠ ـ (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...) بطاعته ، أو بعبارة أخرى بتحصيل مراضيه واجتناب معاصيه.
وأوّل مرتبة التقوى هو الإتيان بالواجبات واجتناب المحرّمات. وأمّا الإتيان بالمستحبات
وترك المكروهات فموجبان لمزيد الدرجات (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) قوله (فِي هذِهِ الدُّنْيا) يمكن أن يقال إنه متعلق (أَحْسَنُوا) كما هو الظاهر أو
(حَسَنَةٌ) فعلى الأول الحسنة أعمّ من حسنة الدنيا والآخرة. وعلى
الثاني اختصاصها ظاهرا بالدنيويّة. والحسنة الدنيويّة كالصحة والعافية والذكر
الجميل ، والأخرويّة كالخلود في الجنة والنعم التي لا زوال لها ولا نقصان. وتنكير
الحسنة للتكبّر أو للتّعظيم (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) أي فمن تعسّر عليه العمل بوظائفه المقرّرة في دينه من
تحصيل التقوى أو الإحسان الدنيويّ والأخرويّ وغيرهما من التكاليف فليهاجر من وطنه
سواء كان مكة أو غيرها إلى البلاد التي يكون فيها سعة للعمل بالوظيفة والفرار ممّا
لا يطاق من سنن الأنبياء (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الذين يفارقون أوطانهم وأرحامهم وعشيرتهم وأصدقاءهم
ويصبرون على مشاق الأمور التي يواجهونها في بلاد الغربة وكل ذلك للمحافظة على
دينهم ، فإن الله تعالى يعطيهم أجرا كثيرا في الآخرة. لا يحصيه أحد ولا يعدّه
العادّون ، أي أجرا لا يهتدي إليه حساب الحاسبين. وفي العيّاشي عن الصّادق عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إذا نشرت الدّواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء
ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان ، ثم تلا هذه الآية. وفي الكافي عنه عليهالسلام : إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس فيأتون باب
الجنّة فيضربونه ، فيقال لهم : من أنتم فيقولون نحن أهل الصّبر ، فيقال لهم على ما
صبرتم؟ فيقولون كنّا نصبر على طاعة الله ، ونصبر عن معاصي الله فيقول الله عزوجل : صدقوا أدخلوهم الجنّة ، وهو قول الله عزوجل : (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ) ، الآية وفي الأثر : إنه يوم القيامة يؤمر الغزاة بدخول
الجنّة ، فإذا وصلوا إلى باب الجنّة يرون جماعة جالسين في أعلى غرف الجنّة فينادون
: ربّنا نحن أيتمنا أولادنا ، وأرملنا نساءنا ؛ وفدينا أنفسنا في سبيل دينك وطاعة
نبيّك وأوصيائه عليهمالسلام ، لم أدخلت هؤلاء قبلنا جنّتك وأعطيتهم أعلى درجاتها.
فيجيبهم بأن هؤلاء قراء أمّة محمد صلىاللهعليهوآله ومبتلوها الذين صبروا في البأساء والضّراء والبلايا
والحوادث التي توجّهت إليهم في
سبيل دينهم وحفظ
إيمانهم. أنتم في مدّة حياتكم شربتم شربة الشهادة مرة واحدة ، لكنّهم كانوا يقتلون
بسهام البلايا وسيوف الحوادث والمحن في سبيل ربّهم كلّ يوم مرات عديدة ويصبرون ولا
يشتكون. فأنتم لستم في درجاتهم ورتبهم العالية ... فهنيئا لهم ثم هنيئا. ونقل أن
كفّار مكة قالوا للنبيّ : لم جئت بدين غير ديننا ، فاقتد بأشراف قومك وآبائنا
الأوّلين وكن على طريقتهم وخلّ البدعة ودينك الجديد حتّى تستريح من تلك الغصص
والشّدائد والآلام فنزلت الآية الكريمة التالية :
١١ و ١٢ ـ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللهَ ...) قل يا محمد لهؤلاء الجهلة والمشركين من أهل مكة : إنّ الذي
جئت به من الدّين ليس من عند نفسي بل هو دين الله وأنا مأمور منه بتبليغه إلى
الناس جميعا وأنا أوّل العابدين والمطيعين له تعالى (مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ) أي أعبده ولا أعبد معه سواه ، عبادة خالصة لا يشوبها شيء
موحّدا له الدّين الحق. (وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي أقدمهم في الدنيا والآخرة. أو المراد من الشريفة أن الله
تعالى أمرني لأن أسلم أوّلا فيما أدعو الناس إليه حتى أكون في جميع الأفعال
والأقوال مقتدى بي. ويؤيد هذا المعنى قوله (وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) ثم قال صلىاللهعليهوآله خوطبت من عنده تعالى بقوله عزّ من قائل :
١٣ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ...) أي بترك الأوامر والإخلاص في العبادة وأخشى عذاب يوم عظيم.
ثم أمره تعالى بأن يخبر المشركين بانقياده لأوامره ربّه واشتغاله بالإخلاص الكامل
في عبادة الله تعالى ، كي يقطع رجاء المشركين وطمع المعاندين عن رغبة النبيّ (ص)
في دينهم ويتيقّنوا إعراضه عن مذاهبهم الباطلة فقال سبحانه :
١٤ و ١٥ ـ (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ
دِينِي ...) أي أخضع لربّي في حال أنني أنزّه ديني وأطهّره عن شوب
الشّرك ولوث الرّياء ، ولا أعبد سواه. ثم
بعد ذلك هدّد
المشركين وخوّفهم من تركهم الإخلاص وبقائهم على شركهم ونبّههم على حرمانهم وخزيهم
بقوله عزوجل (فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هذا القول صريح في التخويف والخذلان والغنى عنهم والسّلطة
عليهم. ثم أكّد هذا المعنى بقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ) أي العائدين بالخسران في الحقيقة هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإدخالها النار والعذاب (وَ) الخاسرين (أَهْلِيهِمْ) لعدم انتفاعهم بهم سواء كانوا معهم أو في الجنّة ... وقيل
إنّ أهلهم هم الحور العين التي كانت معدّة لهم في الجنة لو آمنوا ودخلوها (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يوم الجزاء والمكافاة (أَلا ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) بيان لتفظيع لحالهم وتقطيع لرجائهم.
١٦ ـ (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ ...) جمع ظلّة ، وهي هاهنا الغطاء والسّتار ، ولعله كناية عن
النّيران التي أحاطت بهم كالسرادقات والخيام والتشبيه بلحاظ الإحاطة من تمام
الجهات والظلمة الحاصلة ، حيث إنّ نار الجحيم ليست كنار الدنيا لأنها في ذاتها
مظلمة نعوذ بالله منها (وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ) أي أطباق. قيل وهي ظلل لآخرين ممن تحتهم. وقيل إن المراد (ظُلَلٌ) الثانية هو الفرش والمهد منها (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي ذلك العذاب لتخويف الله سبحانه العباد ليجتنبوا ما
يوجبه (يا عِبادِ
فَاتَّقُونِ) أي لا تتعرّضوا لما يوجب سخطي فقد أنذرتكم وألزمتكم الحجة.
ونقل أنه في عصر الجاهلية لما أسلم زيد بن عمر بن النفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر
الغفاري وقالوا لا إله إلّا الله واشتهر إيمانهم بالله وبوحدانيّته نزل فيهم قوله
الآتي :
* * *
(وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى
اللهِ
لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧)
الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ
(٢٠)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي
الْأَلْبابِ (٢١))
١٧ و ١٨ ـ (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ...) أي الأوثان والشياطين (أَنْ يَعْبُدُوها
وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي رجعوا إليه سبحانه وأقبلوا بكامل وجودهم إليه وأعرضوا
عمّا سواه (لَهُمُ الْبُشْرى) أي السّرور والبشارة بالثواب إمّا حين الحياة بواسطة
السّفراء المقرّبين والرّسل المكرّمين وإمّا وقت الوفاة بقول الملائكة ، أو بعد
الممات بالخطاب الإلهي بدخول الجنان ومغفرة الآثام. وعن الصّادق عليهالسلام ، قال : أنتم هم ، ومن أطاع جبّارا فقد عبده (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) الظاهر أنّ المراد بالموصول هم الذين اجتنبوا وأنابوا
وأمثالهم ، أي هم الذين ضمّوا هذه الخصلة إلى تلك لا أن يراد بهم الأعم ، فان وضع
الظاهر مقام الضمير يقتضي الخصوصيّة ، ولا سيّما إذا أضيف الظاهر إلى ضمير يدلّ
على الاختصاص كما فيما نحن فيه ، حيث إن إضافة العباد إلى ياء المتكلم يدلنا على
أن المراد بهم عباد مخصوصون ، وليسوا في المقام إلّا الذين اجتنبوا الطاغوت
وأنابوا إلى ربّهم.
وحذف الياء لدلالة
الكسرة عليها في هذه الآية وما قبلها. ونتيجة الكلام إن قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أريد به الخاص لا العام بقرائن متعدّدة منها ما ذكر ومنها
الآيات التالية كما لا تخفى دلالتها والمراد (بالقول) هو الذي يكون أقرب إلى الحق
والصّواب ، لا المطلق ، بقرينة قوله (فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ) فلا بد أن يكون المراد هو القول الحق الذي يتصوّر فيه
الحسن والأحسن. وأما في غيره ممّا لا يكون فيه حسن فكيف يتصوّر فيه الأحسن؟ اللهمّ
إلّا أن نقول بانسلاخ الأحسن عن معناه المصطلح ونقول إن معناه الحسن ، وحينئذ يمكن
حمل القول على الأعم وهو خلاف الظاهر والذهاب إليه بلا قرينة خلاف ، ولا سيّما إذا
كانت القرينة على ما هو الظاهر. والحاصل أن المعنى هو اتّباع الأحسن كما أن القصاص
حسن لأنه حق ولكنّ العفو أفضل كما قال سبحانه (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) و (إن الصدقة فيها
فضل لكن المخفي منها أفضل من علانيتها) قال تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وبذوي الأرحام أحسن ، والإحسان حسن ، وبالوالدين أحسن.
وهكذا فالخالص من العباد هم الذين أحسن الأقوال ، وأشار سبحانه إليهم بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) إلى طريق الصواب التي توجب وصولهم الى حسن المآب (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول السّليمة من شوائب الأوهام الفاسدة
والتخيّلات الباطلة. ثم أنه تعالى على سبيل التّهديد يقول :
١٩ ـ (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ ...) أي هل الذي وجب عليه كلمة العذاب وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ
مَنْ فِي النَّارِ) هذا إنكار واستبعاد لانقاذه وهذا جواب الشرط وكررت الهمزة
لتكرير الإنكار لانقاذ من حقّ عليه العذاب ، وحقّ من ثبت ولزم عليه العذاب بالسّعي
في دعائه إلى الإيمان. وفيها دلالة على أنّ من حكم عليه بالعذاب
فهذا كالواقع فيه
لامتناع الخلف فيه.
٢٠ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...) أي عملوا بالواجبات وتجنّبوا المحرّمات وتركوها قربة إلى
ربّهم ولأجله تعالى (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ
فَوْقِها غُرَفٌ) أي أرفع من الأولى ، والتّنكير للتعظيم (مَبْنِيَّةٌ) أي بكيفيّة (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لأن النظر من الغرف والقصور إلى الخضرة والجنان والمياه
موجب لالتذاذ النفس وأشهى للقلب ، وقد بنيت هكذا. (وَعْدَ اللهِ) أي وعدوا وعد الله ، يعني من قبله (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) بل يفي بوعده وبما وعده مما ذكر من الغرف المزبورة في
كتابه بكيفيّتها المذكورة. ثم أنه تعالى لمّا قدم الدعوة إلى التوحيد في الآيات
السّابقة عقّبها بذكر الدّلائل على الخالق وقدرته فقال تعالى :
٢١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً ...) الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله لكن المراد هو جميع المكلّفين. والاستفهام للتقرير ، يعني
ترون بلا شكّ ولا ريب أنه هو تعالى الذي أنزل المطر من السّحاب (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي فأدخله عيونا وقنوات ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً
أَلْوانُهُ) والمراد هل هو ألوان نفس الزرع من خضرة وحمرة وصفرة وبياض
، أو ألوان ثمره بما ذكر؟ والظاهر الأول هو المراد. ويحتمل أن المراد بالألوان هو
الأصناف لأن اللون يطلق على الصّنف ، والأصناف مختلفات في اللّون كما نشاهدها في
الحبوب والثمرات من الفواكه وغيرها ، وربّما في نوع واحد في أرض واحدة (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) والشمس واحدة والقمر كذلك وجميع المؤثّرات والأسباب في ذلك
النوع الواحد سواء ، ومع هذا يشاهد أفراد هذا النوع على اختلاف في اللّون ، فكيف
بأصنافه وأجناسه. سبحان القادر الخبير الحكيم يخلق الأشياء بقدرته طبق حكمته.
ويكشف إنزاله الماء من السّحاب الذي يرى كالدّخان أو الهواء المبلّل من كمال قدرته
إذا فكّر
الإنسان في تكون
هذا الماء في السّحاب وفي حمل السّحاب الماء مع أنه جسم ثقيل والهواء جسم خفيف ،
وكيف ينزل الماء من السّحاب مرّة بشدّة وأخرى بلين وخفّة بحيث لا يدرك إلّا بالنظر
الحادّ ، ومن أين جاء هذا السّحاب وما هي حقيقته ، وكيف وجد الماء في السّحاب ،
ومن الموجد للماء فيه فهل يتصور هذا إلّا بقدرة قادر حكيم كان وراء عالم الطبع
والطّبيعة؟ ... فسبحان من هو الإله الواحد الأحد الذي لم يكن له كفوا أحد (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي ييبس لأنه بعد خضرته ونضارته وإثماره وانتهاء كمال رشده
بنضج ثمره جاز أن ينفصل عن منابته ، وإن لم تتفرّق اجزاؤه فحينئذ يصير مصفرّا
وأجزاؤه وإن لم تتفرق كأنّها تتهيّأ لأن تتفرّق ، ثم يصير حطاما أي مكسّرا فتاتا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي لتذكير بآياته لأنّ من شاهد هذه الأحوال في النباتات
علم أنّ أحوال الإنسان وسائر الحيوانات كذلك ، وأنّه وإن طال عمره فلا بدّ له من
الانتهاء إلى أن يصير منحطم الأجزاء ، ومشاهدة تلك الأحوال لا بد أن تجرّ تأثرا
وتحسّرا شديدا فتوجب النّفرة من الدنيا الفانية والرغبة بالدار الآخرة الباقية ،
فهذا بلا شكّ من نعم الله سبحانه على عباده وأكثرهم غافلون كأنّهم لا يرون ولا
يتذكّرون لأنه لا يتذكر (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ولا تكون تلك الآيات ذكرى إلّا لأرباب العقول الصّحيحة
السّليمة.
* * *
(أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
اللهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (٢٦))
٢٢ ـ (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ ...) أي الذي له الأهليّة والاستعداد لإفاضة الألطاف إليه
واستفاضته من المفيض المطلق على وجه ينشرح صدره لقبول الإسلام والإيمان ، هل هذا
كمن ليس له القابليّة لأن يفاض عليه من المواهب التي تنوّر القلوب وتنشرح الصّدور لقبول
الإيمان ، وفي النتيجة يقع في مضيق الكفر وفي وادي الجحد ويكون مصيره إلى جهنّم
وبئس المصير. أمّا انشراح الصّدر فيتصوّر أن يكون بأمور ثلاثة : الأول : بقوة
الأدلّة التي نصبها الله تعالى ، وهذا يختصّ به العلماء. والثاني : بالالطاف التي
تتجدّد له حالا بعد حال كما قال سبحانه (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) والثالث بتوكيد الأدلّة وحلّ الشّبهة وإلقاء الخواطر. وقد
قال القمي : نزلت في أمير المؤمنين عليهالسلام. وقال العامة نزلت في عليّ والحمزة (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على يقين وهداية والخبر محذوف أي كمن طبع على قلبه ،
وما بعدها في أبي لهب وولده (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي من ترك ذكره سبحانه أو من أجل ذكره تعالى ، وهي كلمة
التوحيد. أي كلّما ذكرت عندهم هذه الكلمة ضاقت قلوبهم
وزادت القساوة
فيها كقوله تعالى (فَزادَتْهُمْ رِجْساً
إِلَى رِجْسِهِمْ) فلم يتّعظوا بالترغيبات ولم ينزجروا بالترهيبات (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) على وجه لا يستر ولا يخفى ضلالهم وعدولهم عن الحق على أحد.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : اطلبوا حوائجكم ممّن رقّ ولان قلبه من أمّتي لأن
الله تعالى وضع الرحمة في قلوبهم ، ولا تطلبوها من ذوي القلوب القاسية لأنه جلّ
وعلا جعل الغضب والخشونة في قلوبهم.
٢٣ ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ...) أي القرآن في ابتدائه تعالى باسمه العظيم ، وإسناد الجملة
الفعلية إليه تأكيد في استناد القرآن إليه سبحانه ، وتعظيم وتفخيم لشأن القرآن ،
واستشهاد على أنّ أسلوب القرآن أحسن الأساليب ، وأنه من حيث البلاغة أحسن البلغاء
وفيها تنبيه على أنّ القرآن نزل من عنده لا كما توهّمه البعض. وفيها أيضا إشعار
على أنّه وحي إلهيّ ومعجزة باقية لخاتم الأنبياء واشتماله على جميع ما يحتاج إليه
البشر في أدوار حياتهم ، وعلى إثبات صانع العالم وأدلّة التوحيد وحججه ، كما أنه
جامع لجميع الأحكام الشرعية وغيرها من المواعظ والأخلاقيات والترغيبات والترهيبات
... وهذه المذكورات التي هي رشحة من رشحاته التي لا يحصيها العدّ موجبة لأن يعبّر
عنه (بأحسن الحديث) وكم وكم من أسرار موجبة لأحسنيته وكانت مخفيّة علينا ومستورة
عنّا (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز وفي جميع ما ذكرناه آنفا في
وجه الأحسنيّة أو في بعضها. فالمراد بالتّشابه هو التشابه في هذه الأمور (مَثانِيَ) هذه صفة أخرى للكتاب أي يثنّى فيه القول ويتكرّر والفائدة
في التكرار والتثنية لأنّ النفوس تنفر عن النّصح والوعظ ما لم يكرّر عليها عودا
بعد بدء ولم يرسّخ فيها ولم تتعوّد ، ألا ترى قوله تعالى (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فتكثير الأمثلة وتكرير القصص وتوجيه
الناس إلى التوحيد
تكرر لأن في ذلك فوائد كثيرة ومنافع عديدة للعباد منها تنبيه الخلق وتعويدهم إلى
ما فيه الخير (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي ترتعد خوفا من وعيده ، وهو مثل في شدّة الخوف. وفي
المجمع عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال : إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تتحات عنه ذنوبه
كما يتحاتّ عن الشّجر اليابسة ورقها (ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي بعد الارتعاش وارتعاد القلوب حين قراءة آيات الوعيد
عليهم أو قراءتهم بأنفسهم تلك الآيات ، تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر الله إذا استمعوا
آيات الرحمة والمغفرة فتلين بعد الخوف الشديد الذي سبب اضطرابها بتلك الأذكار
والآيات وكذلك الأبدان ، فإذا اطمأنّ القلب يطمئنّ البدن بعد التزلزل والقشعريرة.
وأمّا وجه الاستناد إلى الجلود دون الأبدان مع أن الظاهر أن المراد هو الأبدان ،
فلعلّها لما كانت الجلود هي المرئية في بدء النظر فمن هذا الوجه آثرها عليها. (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي الكتاب المنزل هاد إلى الله تعالى بما فيه من نصب أدلّة
التوحيد والبراهين الواضحة والحجج السّاطعة لإثبات الصّانع للعالم وهدايته.
والرّسل وسائر الهداة منوط أمرهم ومنحصر بمشيئة الله وإرادته تعالى أي بمن يشاء من
عباده. ويحتمل أن يكون المقصود من كون الكتاب هدى الله أي بواسطة دعاته وهداته كما
يقال فلان من دعاة فلان. ولو كانت النتيجة واحدة إلّا أن ظاهر اللفظ يساعد على هذا
المعنى الأخير ولا سيّما بقرينة قوله تعالى (يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي أن الكتاب من وسائل هداية الله لعباده كما أن الأنبياء
والرّسل كذلك (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي الذي يخلّى بينه وبين نفسه ويترك أمره إليه وباختياره
ويخذله (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجه من ضلالته.
٢٤ ـ (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ ...) أي بأن تغلّ يداه إلى عنقه فلا يتّقي عن نفسه إلّا بوجهه (سُوءَ الْعَذابِ) شدّته (يَوْمَ الْقِيامَةِ)
يوم الحشر الأكبر
، ليس كمن أمن من العذاب (وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من أعمالكم السّيئة وأقوالكم الموجبة للكفر فذوقوا وبالها
أو نفسها بناء على تجسّم الأعمال.
٢٥ و ٢٦ ـ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي قبل كفرة مكة ومشركي قريش (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني من جهة لا تخطر ببالهم (فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ) أي الذّل كالمسخ والقتل والخسف والإجلاء عن أوطانهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كان هذا جزاؤهم فيها (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم وأدوم (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لو كانوا من أهل النظر والمعرفة والاعتبار حتى يجتنبوا عنه
بإسلامهم.
* * *
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(٢٧)
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))
٢٧ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ...) أي ما يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ، بل ذكر فيه ما
يحتاج إليه الناظر في أمر دنياه (لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتذكّروا ويتدبّروا فيعتبروا.
٢٨ ـ (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
...) قرآنا حال مؤكّدة لهذا من قبيل : جاءني زيد رجلا صالحا أو
إنسانا عاقلا و (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ليس فيه اختلاف وانحراف عن الحقّ ، بل هو طريق موصل إلى
الحق والحقيقة (لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) لكون هذا القرآن على صفة الاستقامة والموصليّة إلى الحق
بلا اعوجاج فيه ولا ميل عن الحق إلى الباطل لأن يجتنبوا الكفر والطغيان ويأتوا بما
فيه إرضاء الله تعالى وطاعته. ثم يأتي سبحانه بمثل لعبدة الأصنام وأهل التوحيد
فيقول عزّ من قائل :
٢٩ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ
شُرَكاءُ ...) هذا مثل جاء به سبحانه للمشركين الذين يعبدون الآلهة
المتعدّدة ، فحالهم كحال رجل قد اشترك فيه (شُرَكاءُ
مُتَشاكِسُونَ) أي موال كثيرون وهم شركاء في ملكيّته وبينهم تنازع واختلاف
كثير يتجاذبونه ويتداولونه في مهامّهم المختلفة ، فهذا المولى يأمره والآخر ينهاه
والرجل متحيّر في أمره ، وإذا احتاج العبد لأمر من أموره فكلّ واحد يردّه إلى
الآخر فهو لا يعرف أيّهم أولى بأن يطلب رضاه ، وأيّهم أولى بأن يقوم بحوائجه حتى
يأتي إليه ويطلبها منه ، فهو لهذا السّبب في عذاب دائم ما دامت حياته ، وفي تعب
شديد. والشكس سوء الخلق والتّباغض. وكذلك المشرك متحيّر في الآلهة فأيّهم أولى بأن
يعتكف بخدمته ويقيم بعبادته وطاعته وأيّهم أولى بأن يعتمد بربوبيته ويعتقد بآلهيته
ومن أيّهم يطلب إنجاح طلبته وقضاء حاجته ولأيّ منهم يتوجه ، فلا يرى أثرا من نجح
طلبه فيتصوّر أنه قصّر في الخدمة ولذا لا يعتنى به فلا زال متحيّرا في أمر رزقه
ومعاده ومعاشه ، بخلاف الموحّد (وَرَجُلاً سَلَماً
لِرَجُلٍ) أي خالصا له ويخدمه على سبيل الإخلاص ، وذلك المخدوم يعينه
على مهمّاته الدنيويّة والأخروية بلا أيّ مسامحة في أموره ، فالعبد يخدم مولاه
ودائما يكون في طاعته وهذا مثل للموحّد. أمّا هذا المثل فضربه الله في قبح الشّرك
وحسن التوحيد. ثم قال سبحانه : (هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً) أي لا
يستويان.
والاستفهام للإنكار ، إذ رضا الواحد ممكن ورضا الجماعة المختلفة ممتنع عادة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) المستحق للحمد والثناء ، وهو الله حيث إنه ضرب المثل الذي
ألزم العباد الحجّة وليس له شريك في ذاته ، وهو المنعم الحقيقي. وقيل : الخبر
بمعنى الأمر ، أي احمدوا الله على نعمه التي لا تحصى. ومنها تلك الأمثال في كتابه
فإنه بها يهتدي المهتدون وتتم الحجّة على المشركين والجاحدين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة نعمة التوحيد ، ولفرط الجهالة يشركون به ويجعلون له
شركاء من الملائكة والبشر والجماد. ونقل بأن كفار مكة كانوا يقولون نتربّص ريب
المنون أي نترقب وننتظر موت محمد حتى نستريح منه ومن همّه فنزلت الكريمة : (إِنَّكَ مَيِّتٌ).
٣٠ و ٣١ ـ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
...) أي كلكم في صراط الموت والفناء وترقّب الفاني لموت فان
مثله ، وشماتته به لا معنى لها ، حيث إنّ الراجي لموت غيره يحتمل أن يموت قبله
بزمان طويل ومدّة مديدة (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي تحتجّ عليهم بأنك قد بلّغت رسالات ربّك وأنّهم كذّبوا ،
ويعتذرون بما لا يجدي نحو قولهم (إِنَّا أَطَعْنا
سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) وقولهم (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) وهل هذه الخصومة تكون بين المسلمين والكفّار أو أعم من كل
محق ومبطل وظالم ومظلوم؟ قال أبو العالية هذه الخصومة بين أهل القبلة ، وقال أبو
سعيد الخدري في هذه الآية كنا نقول ربّنا واحد ونبيّنا واحد وديننا واحد فما هذه
الخصومة؟ فلما كان يوم صفّين وشدّ بعضنا على بعض بالسّيوف قلنا نعم هو هذا. وقال
ابن عباس : الاختصام بين المهتدين والضّالين والصّادقين والكاذبين. وقال القمّي
يعني أمير المؤمنين عليهالسلام ومن غصبه حقّه.
* * *
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))
٣٢ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ ...) هذه الكريمة يحتمل أن تكون مؤيّدة للقول بأن الاختصام في
الآية التي قبلها بين الصّادقين والكاذبين فإن الآيات الشريفة يفسّر بعضها بعضا.
وعلى كلّ حال إنّه تعالى يبيّن في هذه الكريمة نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين
وهو أنهم أثبتوا له تعالى ولدا وشركاء. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا أحد أظلم ممّن
كذّب (عَلَى اللهِ) بنسبة الولد والشريك إليه (وَكَذَّبَ
بِالصِّدْقِ) أي القرآن (إِذْ جاءَهُ) حين أتاه فأنكره بلا تروّ فيه ، يعني بما جاء به رسول الله
من الحق وولاية أمير المؤمنين عليهالسلام فالله تعالى أردف تكذيبهم بالوعيد والتهديد بقوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرِينَ) أي مقاما ومستقّرا لهم في جهنّم وبئس المصير والمأوى.
٣٣ ـ (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ ...) أي أتى بالقرآن فإن القرآن كلام إلهيّ نزل على محمد ، صلىاللهعليهوآله وتمامه صدق وحقّ جاء النبيّ به (وَصَدَّقَ بِهِ) أي خاتم الأنبياء ومن تبعه. وعن ابن عباس ومجاهد وأبي نعيم
: إن المراد (بصدق به) علي بن أبي طالب. وفي حديث ذكره المخالف والمؤالف أن النبيّ
صلىاللهعليهوآله قال : الصّديقون ثلاثة : حزبيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب
النّجار صدّيق آل يس ، وعلي بن أبي طالب صدّيق آل محمد صلوات الله عليهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي المصدّقون هم المتقون العاملون بما أمروا به والتاركون
لما نهوا عنه. ثم إنه تعالى منّ عليهم بما أعدّ لهم من النّعم فقال :
٣٤ و ٣٥ ـ (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) من النّعم في الجنّة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي ما ينالون من جهة لطفه (ذلِكَ جَزاءُ
الْمُحْسِنِينَ) ما ذكر من حصول ما يشاءونه بإزاء إحسانهم الذي فعلوه في
الدّنيا وأعمالهم الصالحة أعطاهم الله ذلك كله من فضله (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا) اللّام من صلة قوله سبحانه (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقيل هو لام القسم ، والتقدير : والله ليكفّرنّ ، فحذفت
النّون وكسرت اللّام ، أي أسقط الله عنهم عقاب الشّرك والمعاصي التي فعلوها قبل
ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله سبحانه والإتيان بفعل التفضيل ليدلّ على
أنّه إذا كفّر السّيّء فغيره أولى به فهو يكفّر الأسوأ بمنّه وكرمه ورحمته (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يعادل حسناتهم بأحسنها فيضاعف أجرها. ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما ذكر معايب آلهتهم الباطلة كانوا يخوّفونه بأنّ آلهتنا
قد يضرّونك بضرر لا يجبره شيء ولا يكفيك أحد إذ قالوا نخاف أن تخبّلك آلهتنا لسبّك
إيّاها ، فنزلت الآية الكريمة التالية :
٣٦ و ٣٧ ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ...) أي : نعم فإنه سبحانه
كاف لعباده ولا
يحتاج العباد إلى غيره تعالى. فالاستفهام إنكاريّ والنتيجة هو الإثبات لأن نفي
إثبات وإن شئت قلت إنّ الاستفهام تقريريّ. ويمكن أن يراد من العبد خصوص الرّسول صلىاللهعليهوآله ، ويمكن أن يراد الجنس كما هو الظاهر (وَيُخَوِّفُونَكَ) أي عبدة الأصنام يهدّدونك (بِالَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) بآلهتهم ، والتعبير (بِالَّذِينَ) مع أنّه لذوي العقول يحتمل أن يكون باعتبار الغلبة لأن بعض
معبوديهم من ذوق العقول كعيسى وعزيز والملائكة ، فبلحاظ هؤلاء لشرافتهم عبّر بالذي
هو مستعمل في ذوي العقول وإمّا لأن «الذين» استعماله غالبا في ذوي العقول لا أنّه
منحصر فيها ، والحاصل أن تخويف أهل مكة للرّسول بالأصنام كاشف عن غاية غوايتهم
ونهاية جهالتهم وضلالتهم (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يخلّيه الله وضلاله فلا يقدر أحد أن يهديه إلى سبيل
الرّشاد ، بيان ذلك أن الله تعالى لما خلق الخلق بمقتضى حكمته وكلّفهم بتكاليف
فيها صلاح لهم على ما اقتضت الحكمة والمصلحة للنفس الأمريّة أي الواقعية فأرسل
رسلا مبشّرين ومنذرين لهدايتهم وإراءتهم طريق الغيّ والرشد لطفا منه على عباده حيث
إن العباد ليست لهم الأهلية لأن يتفاهموا ويتشافهوا معه تعالى بلا واسطة ، ولبيان
هذا الأمر مقام آخر في الكتب الكلامية ولسنا في مقام تفصيله في كتابنا هذا.
والحاصل أن الرّسل وسفراء الله صلوات الله عليهم ما قصّروا في إبلاغ رسالاتهم وما
أمرهم الله بإبلاغه إلى الناس ، والله تعالى ما اضطرّهم ولا أجبرهم على قبول
أوامره ونواهيه بل جعلهم مختارين في القبول والردّ أيضا للحكمة ، ثم أتمّ الحجّة
عليهم بواسطة الرّسل ، فإذا اختاروا سبيل الغيّ والضلال بسوء اختيارهم حسدا وجحودا
بحيث قال بعضهم : (اللهمّ إن كان هذا فأرسل علينا حجارة من السّماء أو أمتنا بعذاب
أليم) من عندك فهو سبحانه استجاب دعاءه وجعله عبرة للآخرين ، ومع ذلك ما رجعوا
عمّا كانوا عليه من الكفر والجحود والشرك فلم يظلمهم سبحانه إذ يعذّبهم. ومعنى
إسناد
الضّلالة إليه
تعالى بهذا الاعتبار يعني أنه يخلّيهم وضلالتهم وهدايتهم فمن شاء فليكفر ومن شاء
فليشكر بقبول قوله تعالى على لسان سفرائه ، فإنّهم لا ينطقون عن الهوى إن هو إلّا
وحي يوحى. (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي يهديه ويلطف به لكونه أهلا للّطف والرحمة ، لأنّه بعد
إرسال الرّسل وإتمام الحجة عليه يؤمن بالله والرسل ويترك سبيل الجحد والعناد
والغيّ والنفاق ، فلا يقدر أحد أن يضلّه عمّا هو عليه إذ لا رادّ لتوفيق الله
وفعله (أَلَيْسَ اللهُ
بِعَزِيزٍ) غالب قادر لا يقدر أحد على مغالبته (ذِي انْتِقامٍ) صاحب قوّة قاهرة قادر بها على الانتقام من أعداء دينه
والمنكرين له ولرسوله. وهذا الاستفهام تقريريّ وفي هذه الآية وعيد لكفار مكة ومن
يحذو حذوهم من المشركين ، بأنه سبحانه عمّا قريب ينتقم منهم. كما أن فيها وعد
للمؤمنين بالنّصر ثم أنه تعالى لإيضاح البرهان على تفرّده في الألوهية ووحدته في
الخالقية يقول :
* * *
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠))
٣٨ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي الخالق
للسّماوات والأرض
هل يعقل أن يكون غيره تعالى (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي لأجابوا بلا تردّد : الله تعالى هو الخالق ولا يقدرون
أن ينكروا مع كمال جحدهم وعنادهم لوضوح البرهان على تفرّده في الخالقيّة وليس له
تعالى شريك في هذا الأمر بحيث لا ينكر أحد. وإذا أخذت الاعتراف من أهل الشّرك
والنّفاق بتفردي بالخالقيّة اسألهم شيئا آخر (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام وغيرها من الآلهة (إِنْ أَرادَنِيَ
اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) يعني اسألهم هل يدرون بأن آلهتهم يقدرون بأن يدفعوا عنّي
ضررا توجّه إليّ من قبل الله إن أرادني بضرّ ، أو هل لهم القدرة والاستطاعة أن
يمنعوا عنّي رحمة الله إذا أرادني بها كالصّحة والغنى والأولاد وغيرها فلا بدّ أن
يكون الإقرار منهم بعدم قدرتهم على ذلك وعجزهم. فتركهم عبادة القادر المطلق وخالق
العالم وعبادة الجماد الذي هو عاجز مطلق ، كاشف عن غاية السّفاهة وكمال الجهالة.
ولا يخفى أن (الكاشفات) و (الممسكات) اللتين هما من صيغ التأنيث بعد قوله تعالى قبلهما
(وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) تنبيه على نهاية ضعف الآلهة الباطلة وكمال عجزها عن كشف
الضرّ وإمساك الرّحمة. بيان ذلك أن الأنوثة من باب اللين والرّخاوة كما أن الذكورة
من باب الشدّة والصّلابة ، وبالمقابل فإن الرّسول صلىاللهعليهوآله لما سألهم عن ذلك عجزوا عن الجواب ولم يستطيعوا جوابا ،
فلمّا أفحمهم قال الله سبحانه (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) كاشفا للضّر ومصيبا بالرّحمة (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) أي به يثق الواثقون لعلمهم بأن الكل منه. ولمّا أورد الله
عليهم الحجّة الواضحة قال على سبيل التهديد الشّديد :
٣٩ و ٤٠ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ ...) أي على قدر تمكّنكم وجهدكم وطاقتكم في إهلاكي وتضعيف أمري (إِنِّي عامِلٌ) مقدار وسعي واستطاعتي في تقدّم مرامي ومقصدي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ
يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) فعمّا قريب تدرون من المغلوب في الدارين. وقد أخزاهم الله
يوم بدر ، فإنّ خزي أعدائه دليل غلبته (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ
عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم وهو عذاب النار وهي أشدّ العذاب. ولمّا عظم على
النبيّ صلىاللهعليهوآله إصرار الكفرة على جحدهم وإنكارهم لله ولرسوله والكتاب الذي
أنزل عليه صلىاللهعليهوآله سلّى قلبه فقال تعالى :
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (٤٤))
٤١ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ...) أي لمصالحهم ومعاشهم ومعادهم لأنه متضمّن لها جميعا ،
متلبسا بالحق ومقرونا به لأنّه مناط لمصالح المعاش والمعاد (فَمَنِ اهْتَدى) بالقرآن بأن وفّق للعمل بأوامره ونواهيه بعد أن وفّق
للتفكّر في براهينه وحججه ودلائله الواضحة
(فَلِنَفْسِهِ) أي يعود نفعه إليها (وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لأنّ ضرره لا يتعداها ووباله عليها (ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) من قبل الله حتى تجبرهم على الهدى وإنما عليك البلاغ
المبين ، على أنّ مبني التكليف على الاختيار لا على الإجبار. ثم إنّه تعالى تنبيها
للمشركين على قدرته الكاملة على البعث والنشور الذي كانوا يستنكرونه تمام
الاستنكار وكان من عقيدتهم السّخيفة أنّهم قالوا : نحن نحيا ونموت وما كنّا
بمبعوثين قال سبحانه وتعالى :
٤٢ ـ (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها ...) أي أن الذي يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها هو الله سبحانه
وهو العالم بأوقات الانقضاء حيث إنه الجاعل والمقدر وعلمه مختصّ بذاته المقدّسة لا
تعلم نفس متى تموت وبأيّ أرض تموت وتدفن إلّا من ألهمه الله حين موته وعرّفه أرضه
التي يموت فيها (وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ فِي مَنامِها) أي النفس التي تنام ولا يخفى أن للنّفس إطلاقين تارة تطلق
ويراد بها مجموع الرّوح والبدن ، وأخرى تطلق ويراد بها الروح فقط. والمراد بها في
الشريفة (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ) إلخ هو الأولى بقرينة جمعها على الأنفس. وأمّا الثانية
فتجمع على النفوس وقد تطلق ويراد بها ما يقابل الرّوح والبدن أي ما يعقل بها.
ويميّز بينها وبين الرّوح نسبة العموم والخصوص المطلق بمعنى أن زوال الرّوح عن
البدن مستلزم لزوال النفس الناطقة منه ولا عكس ، فإن النائم روحه موجود فيه ولكنّ
نفسهم زالت ولذا لا يعقل ولا يميّز شيئا وهذه تسمّى بالنفس الناطقة. هذا ويقالى
إنّ النفوس قسمان قسم يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلّقها عنها وتصرّفها فيها
ظاهرا لا باطنا ، فيرسلها (أي النائمة) إلى بدنها عند اليقظة. وهي التي لم تمت في
منامها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي الوقت المضروب لموته. والقسم الآخر هي النفس التي
يقبضها ويقطع تعلّقها عن الأبدان وتصرّفها فيها ظاهرا وباطنا ، وهي التي يقول سبحانه
عنها
(فَيُمْسِكُ الَّتِي
قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي لا يردّها إلى البدن ولا يرسلها إليه فقدّر موتها في
نومها. والحاصل أنّ المقصود من الآية المباركة إتيان الحجة وإتمامها على المشركين
ببيان قدرته حتى يعرّفهم بأنه المستحق للعبادة دون آلهتهم العجزة الّتي لا تسمن
ولا تغني شيئا ولا تنفع ولا تضرّ. وفيها إشعار في تشبيه الهداية والإيمان بالحياة
واليقظة ، والكفر والضّلال بالموت والنوم. فقال سبحانه إنّه تعالى بقدرته الكاملة
يتوفّى الأنفس حين موتها وعند نومها. قال ابن عباس في بني آدم نفس وروح بينهما مثل
شعاع الشمس ، فالنفس بها التعقّل والتميّز ، والروح بها التنفس والحركة. فإذا نام
الإنسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات الإنسان قبض الله روحه أيضا.
ويؤيّده ما رواه العيّاشي عن الباقر عليهالسلام قال : ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السّماء وبقيت
روحه في بدنه وصار بينهما سبب. ولعل مراده (ع) : علاقة كشعاع الشمس فإن أذن الله
في قبض الروح وقضى عليه بالموت أجابت الروح النفس ، وإن لم يأذن أجابت النفس
الرّوح ، وهو قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الآية فما رأت في ملكوت السّماوات فهو ممّا له تأويل ، وما
رأت فيما بين السّماء والأرض فهو مما يخيّله الشيطان ولا تأويل له. ونسبة التوفّي
إلى الملك في بعض الآيات باعتبار المباشرة وإلّا فالمتوفّي هو الله عزوجل. والنفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحانيّ ، أي من سنخ
عالم الرّوحانيّات لا العناصر. إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو
الحياة. ففي وقت الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وعن باطنه. وأمّا في وقت النّوم
فإنه ينقطع ضوؤه عن الحواس وظاهر البدن من بعض الجهات ، ولا ينقطع عن الباطن.
فالموت والنوم متشابهان ولذا يقال : النوم أخو الموت. إلّا من بعض الجهات كما
أشرنا فإنّ الموت هو انقطاع تام والنوم هو الانقطاع الناقص فيشتركان في كون كلّ
واحد منهما توفّيا للنّفس. وهذا التّدبير العجيب الذي تحيّرت العقول دونه لا يمكن
صدوره
إلّا عن قادر مطلق
وحكيم كامل في حكمته وهذا هو المراد من قوله سبحانه (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي الإحياء ، والإماتة ، والنوم ، واليقظة ، آيات على أن
البعث والنشور أمر هيّن في غاية السّهولة لأهل التفكّر والتدبّر.
٤٣ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ ...) أي بل اتّخذوا من دون الله شفعاء تشفع لهم عند الله. ولمّا
اعتذر المشركون بأنّا لا نعبد هؤلاء الأصنام باعتقاد أنها آلهة وإنما نعبدها لأجل
أنّها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقرّبين لأجل الشفاعة. فأجابهم الله
بقولهم (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أي هل تتوقّعون الشفاعة من الأصنام والأوثان والجمادات (قُلْ) يا محمد لهم : هل يشفعون (أَوَلَوْ كانُوا لا
يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي كما ترونهم جمادات لا تقدر ولا تعقل ولا تعرف عبدتها
ولا تميّز شيئا ، فلا يعقل أن يشفع بشيء من هذه صفته كما تشاهدونهم.
٤٤ ـ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ...) أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، ولا يملك أحد الشفاعة إلّا
بتمليكه (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والّذي على هذه الصفة لا يقدر أحد أن يتكلم في أمره دون
إذنه ورضاه ، فإن أزمّة الأمور كلّها بيده (ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) في القيامة فلا ملك حينئذ إلّا له.
* * *
(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
قُلِ
اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨))
٤٥ ـ (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ...) قال ابن عباس : كان المشركون إذا سمعوا قول (لا إله إلا
الله وحده لا شريك له) نفروا من هذا القول حيث إنهم كانوا يقولون بالشريك فيشمئزون
أي تقشعرّ قلوبهم وتنقبض وجوههم من استماع القول بالتّوحيد لاعتصار قلوبهم بخلاف
ذكر آلهتهم كما أخبر سبحانه عنهم (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) لذكر آلهتهم أي لفرط افتتانهم وحبّهم بها. وفي الكافي عن
الصّادق عليهالسلام أنّه سئل عنها فقال : إذا ذكر الله وحده بطاعة من أمر الله
بطاعته من آل محمد صلوات الله عليهم اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا
ذكر الذين لم يأمر الله بطاعتهم إذا هم يستبشرون. فالآية الشريفة وكلام الإمام عليهالسلام مشعران بغاية عناد المشركين ونهاية جحودهم لقبول التوحيد. ولا
شبهة في أن أعداء الله كما يشمئزون بذكره تعالى وتوحيده ، هكذا يشمئزون بذكر
أوليائه كالنبيّ وآله الأطهار. ولمّا كان الكفرة لم يتأثروا من ذكر أدلّة التوحيد
والمواعظ بل أضافوا على عنادهم عنادا ، تحيّر النبيّ صلوات الله عليه وآله في
أمرهم وشأنهم فأمره الله تعالى بأن يتوجّه اليه ويدعوه بما علّمه :
٤٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) فلما كان أحسن
الأدعية وأقربها
إلى الاستجابة الدّعاء الذي كان مفتتحا بذكر الله تعالى وبأوصافه الحسنة وثنائه
الجميل وحمده الكثير فلذا علّمه الله تعالى بذلك الأمر وبهذه الكيفيّة فقال (قُلِ اللهُمَ) أي يا محمد قل وادع ربك قائلا (اللهُمَ) أي يا الله يا خالق السّماوات والأرض ومنشأهما ويا (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) أي عالم بما غاب علمه عن الخلائق جميعا وبما شهدوه وعلموه
، أحكم بين العباد في القيامة (فِي ما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) أي في أمر الدّين والدّنيا حيث يقضى بينهم بالحق في الحقوق
والمظالم فاحكم بيني وبين قومي بالحق. وفي هذا كان بشارة للمؤمنين بالظفر والنصر
لأنه سبحانه انّما أمره به للإجابة لا محالة. وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال :
لأعرف موضع آية من كتاب الله لم يقرأها أحد قطّ فسأل الله شيئا إلّا أعطاه ، قوله (قُلِ اللهُمَ) الآية والفاطر هو الموجد لشيء كان مسبوقا بالعدم الأزلي
بخلاف الجاعل والخالق. ولعلّ وجه إيثار هذه اللفظة عليهما هو هذا والله العالم. ثم
إنه تعالى لازدياد المبالغة في تهديد المشركين يقول :
٤٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ ...) أي زيادة عليه ، يعني ما في الدّنيا وضعف ما فيها ، لو كان
لهم وملكوه لجاؤوا به و (لَافْتَدَوْا بِهِ) ليخلّصوا أنفسهم (مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) أي شدّته. وجملة (لَافْتَدَوْا) جزاء الشرط (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يوم بعثهم وحشرهم الذي ينكرونه أشدّ الإنكار فهذا متضمّن
لوعيد شديد وإقناط كلّي لهم من الخلاص (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا
ينتظرونه حيث إن مثل هذا العذاب ما كان يخلج ببالهم. قال السّدي ظنّوا أعمالهم
حسنات فبدت لهم سيئات وشرورا وبدت قبائح ، وكما أنه صلىاللهعليهوآله قال في صفة المكافأة : فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر ، فكذلك
حصل لهم مثله في
العذاب.
٤٨ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ...) أي يوم القيامة وظهور السيّئات بناء على تجسّم الأعمال
ظاهرا وبناء على عدمه أيضا يبدو لهم في صحائفهم أو يبدو جزاء أعمالهم التي فعلوها
في الدنيا (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من كل جانب (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي ما كانوا يقبلونه لأنّهم ينكرون البعث
والنّشر وكلّ ما جاء به النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم. والفرق بين (حاقَ) وأحاط أن حاق هو الإحاطة من جميع الجوانب السّت بخلاف
أحاط. ثم أخبر سبحانه عن شدّة تقلّب الإنسان من حال إلى حال وعن عقائده الفاسدة
فقال عزوجل :
* * *
(فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ
ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))
٤٩ ـ (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ...) هذه المناقضة والمعاكسة التي أضافها
الله تعالى إلى
الإنسان في هذه الكريمة يلفت النظر إلى أن المراد هو الإنسان النّوعي الذي يشمل
أهل مكة وغيرهم ، ولكن يظهر من بعض المفسّرين إن المراد به هو خصوص أهل مكّة. بيان
ذلك أن هذه الشريفة عطف على سابقتها وهي قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ) وإيثار (الفاء) على الواو العاطفة لمسبّبيه هذه الآية
المعطوفة عن المعطوف عليها معنى ، وما بينهما جملات معترضات لتأكيد إنكارهم ،
ولغيره من الجهات. وحاصل المعنى أن كفار مكة لما اشمأزّوا من كلمة التوحيد وكانوا
يفرحون إذا ذكرت آلهتهم ، ومع ذلك كلّه لمّا أصابتهم مصيبة لجأوا إليه سبحانه على
ما أخبر الله تعالى من تعاكس أحوالهم وتقلّبهم. والمراد (بالضّر) هو الفقر والفاقة
والقحط والغلاء والمرض ونحوها من الشدائد التي لا يقدر على دفعها ورفعها إلّا الله
سبحانه. فإذا مسّهم الضرّ ، أو مسّ الإنسان النوعيّ (دَعانا) أي فزعوا إلينا لكشف ضرّهم (ثُمَّ إِذا
خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي أعطيناهم سعة في المال أو العافية في البدن تفضّلا منّا
لا على وجه الاستحقاق (قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي أخذته من الله باستحقاقي له ، أو بعلم منّي بكيفيّة
جلبه وكسبه وبسبب جدّي وجهدي ، فإن كان مالا قال إنّما حصل بكسبي ، وإن كان صحّة
قال إنما حصل بسبب العلاج الذي علمته. وهذا تناقض واضح فإنه كان في حال العجز
والحاجة يطلب من الله كشفه وأسنده إليه ، وبعد كشف الضرّ ورفع الشدائد من جانبه
تعالى أضافه إليه (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) يقول تعالى ردّا عليه : ليس الأمر كما يقول ويزعم ، بل هو
اختبار وامتحان ابتلاه الله بهما ليعلم أيشكر أم يكفر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن النعمة امتحان للعباد بالشكر وعدمه كما إن البلاء كذلك.
٥٠ و ٥١ ـ (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
...) أي تلك المقالة (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ) وهو قارون حيث قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ
عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فالتفوّه
بهذه الكلمة ليس
أمرا بديعا جديدا بل تفوّهوا بها قديما كما تفوّهوا بها حديثا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي لم ينفعهم ما كانوا يجمعونه من متاع الدنيا ومن الأموال
بل صارت وبالا عليهم لأنهم قالوا مثل قول هؤلاء الكفرة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفّار أنه أصابهم جزاء أعمالهم
السيئة. وإنّما سمّى جزاء السيئة سيئات لازدواج الكلام كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفّار قومك بعتوّهم وجحدهم (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) كما أصاب أولئك. وقد أصابهم القحط سبع سنين والقتل والأسر
في بدر (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ) أي بفائتين تعذيبنا إيّاهم وما كان لهم قدرة تعجزنا عن
عذابهم.
٥٢ ـ (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيق على من يشاء بحسب ما يرى
من المصلحة وتقتضي حكمته. بيان ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في السعة والضّيق ولا
بدّ لذلك من سبب. وليس عقل الرّجل ولا جهله السبب في ذلك لأنّا نرى العاقل في أشدّ
الضيق والجاهل في غاية السعة وكذلك العكس فالعاقل مع ذلك يعيش في كمال العسر
والرجل الأبله يعيش في غاية الرّفاهية واليسار. وليس ذلك أيضا لأجل الطّبائع
والأنجم والأفلاك كما يزعم بعضهم لأنّا نرى في السّاعة التي ولد فيها ملك كبير
وسلطان قاهر قد ولد في تلك الساعة كثير من الناس ، بل في تلك البلدة التي ولد فيها
الملك أو الوزير أو الفيلسوف ، نشاهد وقوع تلك الحوادث فيها وفي نفس السّاعة قران
ولادتهم مع مواليد كثيرة مع كونهم مختلفين في السّعادة والشقاوة وفي الرفعة والضعة
وغير ذلك من الأوصاف والعوارض. ومن هنا أنّ المؤثّر الوحيد هو الله لا الطّبيعة
كما يزعم الطبيعيّون ولا الطّالع والأنجم والأفلاك على ما زعم المنجّمون ، لأنّ
الطبيعة والأفلاك ونحوهما إن كانت تقتضي السّعد مثلا للملك فلا بدّ أن
تقتضي لقرينه في
الولادة كالصعلوك اقتضاء واحدا وليس كذلك وجدانا. فعدم هذا الاقتضاء الواحد دليل
على عدم كونها مؤثّرة وعلة ، ولا مؤثّر في الوجود إلّا هو تعالى. ونعم ما قال
الشّاعر :
فلا السّعد يقضي
به المشتري
|
|
ولا النّحس يقضي
علينا زحل
|
ولكنه حكم ربّ
السّماء وقاضي القضاة تعالى وجلّ (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي في بسط الرزق وقبضه دلالات واضحات وبراهين ساطعات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون بالتوحيد وبأنه الباسط والقابض لأنّهم المنتفعون
هم وحدهم بهذه الآيات دون غيرهم ، وروي أنّ جماعة من مشركي مكّة الذين صدر منهم
القتل والنهب والزّنى والسّرقة وأنواع المعاصي والملاهي جاءوا إلى النبيّ وقالوا :
يا رسول الله نحن فعلنا كذا وكذا من المعاصي ، واعترفوا بمآثمهم وخطاياهم الكثيرة
، ونحن نؤمن بما جئتنا بشرط أن الله يغفر ما تقدّم من ذنوبنا ، فنزلت الكريمة
التالية :
* * *
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ
آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))
٥٣ ـ (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ ...) أي أفرطوا في الجناية عليها بإقرارهم (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) لا تيأسوا من المغفرة والعفو (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذه أرجى آية في كتاب الله سبحانه من جهات : الأولى أنه
في مقام التخاطب قال (يا عِبادِيَ) وهذه الكلمة تضمّنت لطف الخطاب وما قال (يا أيها العصاة)
التي تشعر بالقهر والغضب والثانية آثر كلمة (أَسْرَفُوا) على (أخطئوا) حيث إن الأولى تحتوي الرّفق والمداراة دون
الثانية ، والثالثة النهي عن القنوط ، وهو صريح في حرمة اليأس من المغفرة ،
وحرمتها تستلزم تأكيد رجاء مغفرته سبحانه ، والرابع استيعاب المغفرة بقوله (جَمِيعاً) وما اختصّها ببعض الذنوب دون بعض. نعم استثنى من الكبائر
التي لا يغفرها الشّرك ، والخامس تأكيد المغفرة بقوله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وتحتوي هذه الجملة على أربعة تأكيدات ، ورابعها هو صيغة
فعيل الدّالة بالملازمة على كثرة المغفرة كما لا يخفى على أهله ،
والسّادس تقديم
المغفرة على الرّحمة فإنه كاشف عن كثرة عنايته بها وشدتها أكثر من عطفه على
الرّحمة ، فهذه وغيرها من الأسرار التي تستفاد من الآية تؤكّد ما قلناه. وعن
النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال : ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما فيها بهذه الآية والرّوايات
الكثيرة وردت بأن الشريفة واردة في شيعة آل محمد. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام : لقد ذكركم الله في كتابه إذ يقول (يا عِبادِيَ) ، الآية ...
٥٤ و ٥٥ ـ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ ...) أي ارجعوا إلى الله توبة عمّا سلف وتسليما لما خلف حتّى
يغفر لكم جميع ما سلف. وقد حثّ سبحانه بهذه الكريمة على التوبة لكي لا يرتكب
الإنسان المعصية ويدع التوبة اتّكالا على الآية المتقدّمة فتكون المتقدمة باعثة
لجرأة الناس على المعاصي (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) حيث إن التوبة بعد وقوع العذاب لا تفيد ولا تمنع منه.
فتوبوا أيها العباد إلى ربّكم (وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) والمراد بما أنزل هو القرآن وأحسنه حلاله وحرامه ، واجباته
ومحرّماته أوامره ونواهيه ، دون المباحات أو دون المستحبّات والمكروهات. أو المراد
بالأحسن هو العزائم دون الرّخص (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تلتفتون حين إتيانه ومجيئه حتى تتداركوه.
٥٦ ـ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى ...) أي (لأن) أو كراهة أن يقول الإنسان يا ندمي أين أنت منّي ،
ويا حسرتي احضريني (عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللهِ) أي قصّرت في حقّه تعالى أو في طاعته أو في تحصيل قربه (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) كلمة (أَنْ) مخفّفة أي إنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن والرّسول
والمؤمنين.
٥٧ ـ (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي
...) أي أرشدني إلى دينه (لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين لمعاصيه ولم أبتل بالشّرك وعبادة غيره.
٥٨ ـ (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ ...) أي حين معاينته للعذاب ورؤيته بعينيه (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) أي رجعة إلى الدّنيا فأومن وأعمل عملا صالحا. ثم أنكر الله
قوله فقال :
٥٩ ـ (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ...) لتهتدي بها (فَكَذَّبْتَ بِها
وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ردّ الله عليه ما تضمّنه قوله (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من معنى النفي ، فقال (بَلى قَدْ جاءَتْكَ
آياتِي) أي ليس كما تقول ، بل أرسلت إليكم الرّسول مع الحجج
والبراهين الظاهرة فأنفت من اتّباعها وقبولها فكفرت. وقال القمّي : يعني بالآيات
الأئمةعليهمالسلام.
* * *
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٦١))
٦٠ ـ (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللهِ ...) أي زعموا أن له شريكا أو ولدا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)
في القمّي عن
الصّادق (ع) في هذه الآية قال : من ادّعى أنّه إمام وليس بإمام. قيل وإن كان
علويّا فاطميّا؟ قال عليهالسلام : وإن كان علويّا فاطميّا (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي مقاما ومأوى للآنفين المترفّعين بلا جهة ، المترفّعين
عن الإيمان والطّاعة. وفي القمي عنه عليهالسلام قال : إن في جهنّم لواديا
للمتكبّرين يقال
له سقر ، شكا إلى الله شدّة حرّه وسأله أن يتنفّس ، فأذن له فتنفّس فأحرق جهنّم ،
نعوذ بالله من حرّه وحرّ جهنم. ولعلّ المراد من إحراقه لها هو الاشتداد في الحرارة
لأنّ الشيء الحارّ إذا مسّ شيئا أو وقع فيه فإن لم يكن في الممسوس حرارة حدثت فيه
، وإن كان فقهرا تزاد فيه الحرارة وأمّا حرق جهنّم فليس كحرق قطن أو عود كما هو
ظاهر الرّواية ، بل ذلك بعيد أن يكون المراد من الرّواية على فرض صحّتها ، فلا بدّ
من ردّها على أهلها. ولمّا أخبر سبحانه في الآية السّابقة عن حال الكّفار ، عقّبه
بذكر حال الأتقياء الأبرار :
٦١ ـ (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
...) أي تجنّبوا الشّرك وغيره من المعاصي (بِمَفازَتِهِمْ) بالعمل الصّالح الذي هو سبب الفلاح والفوز وتسمية العمل
الصّالح (بمفازة) من قبيل تسمية السبب باسم المسبب (لا يَمَسُّهُمُ
السُّوءُ) يحتمل أن يكون هذا الكلام بيانا لفوزهم ، يعني فوزهم بأن
لا يصل إليهم سوء ولا حزن من فقدان نعمة أو لذّة. وبعد ذكر الوعد والوعيد يبيّن
عموم قدرته بقوله تعالى :
* * *
(اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))
٦٢ و ٦٣ ـ (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) أي موجده من العدم إلى الوجود (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم على حفظ المخلوقات ومتصرف فيهم ، أو المفوّض إليه
أمر العباد ، المدبر أمرهم ومديرهم. وقال بعض أهل اللّغة متى وصف به الله تعالى
كما في المقام يكون بمعنى الرّزاق الكافي. وأيضا إظهارا للقدرة التامّة يقول
سبحانه (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جمع مقلاد بمعنى الخزينة أو الخزانة وجاء بمعنى المفتاح
وفسّر : له مفاتيح خزائن السّماوات والأرض. والحاصل أن هذا الكلام كناية عن قدرته
على حفظ السّماوات والأرض ومزيد اختصاصه بهما لأن الدّخل في الخزائن لا يتصوّر
إلّا لمن تكون المفاتيح بيده وقيل إن المراد بقوله له مقاليد إلخ .. أي ملكهما
وذلك كقولهم فلان تولى مقاليد الملك. وبالجملة يستفاد من الكريمة إنّ الله سبحانه
هو المالك لجميع الأمور العلويّات والسّفليات وبيده أزمّة الأمور ، فله أن يفتح
أبواب الأرزاق لمن يشاء ويغلقها على من يريد ، وينزل الرحمة على من يريد ويسدّها
على من يشاء ، وكذلك الأمور الأخر. ولا بد لنا هنا من ذكر شيء عمّا تعرّض له
سبحانه من الأمور الآفاقية ، فقد ذكر سبحانه في كتابه السّماء بلفظ الجمع بخلاف
الأرض ، ولعلّه على ما ببالي لم يذكر لفظ الجمع في الأرض إلّا في غاية القلّة!
والقدر المتيقّن أنّه تعالى يأتي بها مفردا نوعا. ولعل وجهه لإفهام نكتة وكشف سرّ
من الأسرار المطويّة في كتابه الكريم. بيان ذلك أن أكابر علماء أهل فنّ معرفة
السماء والأرض كالفلكيّين وأهل النجوم اختلفوا في كيفية طبقات السماوات والأرضين
على ما ذكر في محله ولسنا في مقام ذكرها لأنه خارج عمّا نحن فيه ، ونحن الآن في
مقام وجه الفرق بينهما بإتيان واحد منهما نوعا بلفظ
الجمع والآخر بلفظ
الفرد ، فنقول : لعلّ الوجه بيان أن السّماوات طبقاتها منحازة كلّ واحدة عن الأخرى
، وبين كلّ طبقة وطبقة أخرى فاصل كبير بحيث قدّر في بعض الأخبار بخمسمئة سنة يمشي
فيها الماشي السير المتعارف أو مع المركوب المتعارف ، بخلاف طبقات الأرض حيث إنّ
كلّ طبقة منها موضوعة على الأخرى وملتصقة بها التصاق كلّ طبقة من العمارة الّتي
تكون ذات طبقات فكأنّ الأرضين بواسطة اتّصال الطبقات بالكيفيّة المذكورة أرض واحدة
بخلاف السّماوات فإن كلّ طبقة منها منفصلة عن الأخرى بفاصل كبير ، ولهذه النكتة
أتى سبحانه بلفظ الجمع في السّماء وبالمفرد في الأرض والله تعالى أعلم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي بدلائل قدرته واستبداده في أمور السّماوات والأرض أو ما
يدل على توحيده وتمجيده وتنزيهه عن الشرك وعمّا يقول الكافرون (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم آثروا الحياة الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية
وباعوا نعمة الجنان بعقوبات النّيران ، فأيّ خسران أزيد وأعظم من هذا ، فوا سوأتاه
عليهم وعلى أمثالهم.
٦٤ ـ (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ...) أي هل ينبغي أن يصدر منكم أمر لي بأن أعبد تلك الجمادات
العجزة من المخلوقين ، مع أنكم تحسبون أنكم من العقلاء؟ وهل من حكم العقل أن يعبد
العاقل من هو أدنى منه واحطّ ، ويترك عبادة خالق السماوات والأرض وواهب العقل
والقوى جميعا؟ والاستفهام إنكاري ، أي لا يتعقّل عاقل بأن يعبد غير الله فضلا عن
أن يأمر غيره بذلك ، ولذا خاطبهم بقوله سبحانه (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي بعواقب أموركم وبعجز آلهتكم عن إيصال نفع أو رفع ضرر
حتى عن أنفسهم ، فكيف عن غيرهم؟ فعبادة هذه الأصنام يدلّ على غاية الجهل والغواية
والمصير إلى الهاوية. وفي الجوامع روى أنّهم قالوا : استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك
فنزلت.
٦٥ ـ (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ...) قال ابن عباس : هذه الشريفة (يعني من أوّلها إلى آخرها)
أدب من الله لنبيّه (ص) وتهديد لغيره ، لأنّ الله عصمه من الشّرك ، وهو كلام وارد
على طريق الفرض والشرط ، وإفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. واللام الأولى موطّئة
لقسم والأخريان للجواب. فإن قيل : كيف صحّ هذا الكلام مع علمه سبحانه أنّ رسله لا
يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ فالجواب أن الكلام قضيّة شرطية والقضيّة الشرطية لا يلزم
من صدقها صدق جزأيها. ألا ترى أنّ قولك لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة
بمتساويين ، قضيّة صادقة مع إن طرفيها غير صادقين؟ قال الله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) هذه قضية صادقة ولم يلزم من صدقها صدق القول بأن فيهما
آلهة غيره ... وبأنهما قد فسدتا. ويمكن أن يقال إن الخطاب ظاهرا إلى الرّسل لكن
بحسب الواقع والحقيقة هو متوجّه وراجع إلى أفراد الأمّة (وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وهذا من باب عطف المسبّب على السبب ، والمراد بحبط العمل
صيرورته سديّ ، أي باطلا وفاسدا ، وفي النتيجة عدم قبوله ثم إنه تعالى لمّا ذكر
هذه بيّن ما هو المقصود فقال سبحانه :
٦٦ ـ (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ ...) ردّ لما اقترحوه عليه صلوات الله عليه وآله من استلام ببعض
آلهتهم فقال سبحانه : بئس ما أمروك به ولكن كن على طريق الحقّ وكن (مِنَ الشَّاكِرِينَ) نعمه عليك من الهداية والنبوّة والتوحيد والإخلاص في
العبادة وغيرها. وقال القمي : هذه مخاطبة للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، والمعنى لأمته ، وهو ما قاله الصّادق عليهالسلام : إن الله بعث نبيّه صلىاللهعليهوآله بإيّاك أعني واسمعي يا جارة ، والدّليل على ذلك قوله تعالى
(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وقد علم أنّ نبيّه (ص) يعبده ويشكره ولكن استعبد نبيّه
بالدّعاء إليه تأديبا لأمّته. وعن الباقر عليهالسلام أنه سئل عن هذه ، أي آية (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ)
فقال عليهالسلام تفسيرها : لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية عليّ من بعدك
ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين.
* * *
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))
٦٧ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته ، إذ لو عرفوه ما عرفوا غيره وما
أمروا نبيّه صلىاللهعليهوآله بعبادة غيره. هذا بالنسبة إلى المشركين. وأمّا المؤمنون
أيضا فما عرفوه ، ولو عرفوه لما عصوه فيما أمرهم ونهاهم وقيل : معناه ما وصفوا
الله حق صفته إذ جحدوا البعث ، فوصفوه بأنه خلق الخلق عبثا وأنه عاجز عن الإعادة
والبعث ، وأنه جسم يقعد على السرير ويركب الحمار وأمثال ذلك من الأساطير
والخرافات (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) لفظ جميعا منصوب على الحال ، والقبضة في اللغة ما قبضت
عليه بجميع كفّك. وقد أخبر سبحانه عن كمال قدرته وسطوته فذكر أن الأرض كلّها مع
عظمها في مقدوره كالشيء الصغير الذي يقبض عليه القابض بكفّه ويطويه بيمينه فيكون
في قبضته كالكرة الصغيرة وهذا تفهيم لنا على عادة التخاطب فيما بيننا لأننا نقول
هذا في قبضة فلان أو في يده إذا هان عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه وكذا قوله (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشيء المقدور له
طيّه بيمينه. وذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار ، واليمين كناية عن القوّة ها هنا
، ولأن أكثر الأشياء تصدر عن اليمين وهي اليد الفعّالة من اليدين فلذا يجاء بها
للمبالغة في الاقتدار ويكنّى بها عن القوّة؟
وعبّر سبحانه في
مقام إظهاره عن كمال قدرته في ناحية الأرض بأن الأرض جميعا في قبضته ، كما أن
السّماوات مطويّات بيمينه ، ووجه الاختلاف في التعبير هو تعالى أعلم به وبما قال
ويمكن أن يكون لكشف سرّ من أسرار الخلقة وصنعها وهو كرويّة الأرض وانبساط السّماء
بيان ذلك أن الإحاطة في الأمور المكوّرة أشدّ منها في صورة المربّعات وغيرها ،
فالإحاطة بتلك النسبة أعظم وأشد بخلاف ما إذا كان الشيء منبسطا فإن الاحاطة به
أصعب. هكذا نرى في أمورنا الظاهريّة عرفا وعقلا ، والقرآن نزل على المتفاهمات
العرفيّة والعاديّة ، فتغيير أسلوب اللفظ ليس في القرآن بلا جهة ولا نقتصر في
الجهة على التفنّن في اللفظ فإنه ليس من شأن الربّ تعالى ولا من شؤون كتابه الكريم
، بل الجهة لا بدّ من كونها سرّا من أسراره ورمزا مهمّا من رموزه. والحاصل أن
الإتيان بلفظ الجمع كما قلناه ، واتصاف السّماء بالطيّ يدلّنا على ما قلناه من
كرويّة الأرض بجميع طبقاتها السّبع وانبساط السّماء بجميع طبقاتها. والمراد بالأرض
ها هنا هو الأرضون
بقرينة (جَمِيعاً) فإنّ هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلّا على الجمع فإنّ
الأوصاف إذا كانت جمعا تدل على أن الموصوف جمع فيستفاد من الكريمة الشريفة كون
الأرض جملة أرضين منفصلة بعضها عن بعض ، وربما كانت كلها مسكونة أو غير مسكونة
فعلم ذلك عند الله تعالى. وقول علماء الأرض بالنسبة لطبقاتها الملتّفة بعضها فوق
بعض يعني أرضنا وحدها ، ولا تصدق على ما خلق سبحانه من أرضين سبع ، (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزّه تعالى شأنه نفسه المنزّهة عن شركهم وعمّا يضيفونه
إليه من نسبة الشّبه والمثل والجسم ولوازمه ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل
الاستعجاب أي كيف يتفوّهون بالإشراك مع عظم قدره تعالى عنه وعلوّ ذاته من إضافة
الشبه والمثل إليه ... وبعد إظهار القدرة بالإضافة إلى جميع مقدوراته من البعث
والنشر اللّذين أنكروهما أشدّ إنكار ، يخبر سبحانه عن إيقاعه القيامة وبيان أحوال
النشأة الأخرى فيقول عزّ من قائل :
٦٨ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ ...) يعني النفخة الأولى. والصّور قرن ينفخ فيه إسرافيل عليهالسلام. ولعل وجه الحكمة في ذلك أنه علامة جعلها الله تعالى ،
ليعلم النّاس آخر أمرهم في دار التكليف ، ثم بعد ظهور هذه العلامة يتجدّد الخلق.
فشبّه ذلك بما هو المتعارف في الجيوش من بوق الرّحيل والنّزول. فكأنّه نفخ في
الصور للخلق أوّلا لأن يموتوا ، وثانيا لأن يبعثوا ويحشروا (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ) أي يموت كلّ ذي روح في السّماوات وفي الأرض من شدّة تلك
الصّيحة. ويقال صعق فلان إذا مات بحالة هائلة (إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) أي شاء أن لا يموت بأن تأخّر موته كحملة العرش أو غيرهم
كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهمالسلام على ما قال به ابن عبّاس وهو المروي. والآخر من الأقوال
أنهم هم الشهداء ، وهناك أقوال أخر في المستثنى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى) أي مرة أخرى (فَإِذا هُمْ قِيامٌ
يَنْظُرُونَ)
أي يقلّبون
أبصارهم في الجوانب كالذي بهت لا يدري أين يذهب ولماذا أخرج من مرقده. وفي القمّي
عن السّجاد عليهالسلام أنه سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال : ما شاء الله.
٦٩ ـ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها
...) أي بعدله المزيّن لها والمظهر للحقوق فيها كما أن بالنّور
تزيّن الأمكنة المظلمة. وفي القمي عن الصّادق عليهالسلام في هذه الآية ، قال : ربّ الأرض إمام الأرض. قيل : فإذا
خرج يكون ماذا؟ قال : إذا يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ، يجتزءون بنور
الإمام عليهالسلام. وفي رواية أخرى في ذيل حديث بهذا المضمون : وذهبت الظلمة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) للحساب. والمراد جنس الكتاب ، أي صحائف الأعمال في أيادي
أهلها. وقيل إن المراد بالكتاب هو اللّوح المحفوظ الذي يوضع يوم الحشر في أرض
المحشر حتى يحكم على الناس بما فيه (وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ) لدعوى إبلاغ الأحكام وكلّ ما أمروا به الأمّة ، أو لإلزام
الحجة عليهم (وَالشُّهَداءِ) أي الملائكة الموكّلين بالمكلّفين ليشهدوا على صحّة دعوى
الأنبياء وتكذيب الأمّة لهم عليهمالسلام ، أو الشهداء في سبيل الحق لمزيد شرافتهم ورفعة مراتبهم
صاروا قرناء النبيّين. وقال القمي : الشهداء الأئمة عليهمالسلام ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الحج (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ) وتكونوا أي أنتم يا معشر الأئمة ، شهداء على الناس (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي يفصل بينهم ويوصّل إلى كلّ ذي حق حقه من غير نقيصة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا بنقص ثواب ولا بزيادة عقاب ، بل المثوبة تعطى بأضعاف
الطّاعة والعقوبة بمقدار المعصية وهذا أعلى مرتبة العدل ، ويسمّى بالتفضّل والجود.
٧٠ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
...) أي تستوفي كلّ نسمة جزاء عملها إن خيرا فخير وإن شرّا فشر
ولا يبعد أن يكون قوله (وَوُفِّيَتْ
إلخ بيان لقوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ) من الخير والشرّ. وقوله تعالى (أَعْلَمُ) أي حتى من أنفسهم ، لأن بعض الأوقات يشتبه الأمر على
الإنسان فإنه يعمل عملا يحسبه حسنة مع أنه سيّئة ، أو صحيحا مع أنّه فاسد بالرّياء
والسمعة ونحوهما من مفاسد الأعمال. لكنه عزوجل لا يفوته شيء بحيث لا يحتاج إلى شاهد.
* * *
(وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ
لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
قِيلَ
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
(٧٢))
٧١ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً ...) أي يدفعونهم بعنف وشدّة كما هو المراد من الإتيان بالسّوق
إلى النار أفواجا متفرقّة أي لا واحدا بعد واحد بل فوجا بعد فوج. ولعل التقدّم
والتأخّر يكونان بحسب مراتب الضّلالة والمفاسد وكثرة العصيان وقلّتها أو كبرها
وصغرها أو شدة العذاب وخفّته (حَتَّى إِذا جاؤُها
فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي تفتح أبواب جهنّم عند وصول هؤلاء الكفرة إليها. فامّا
أن تفتح بطبعها لأن دار الآخرة دار حيوان كما يستفاد من الآيات الكريمة كقوله
تعالى (وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ) ففي كلّ شيء منها حياة أبديّة حتى جماداتها فلها قوّة
حسّاسة ، فعلى هذا بمجرّد وصول أهلها إلى بابها تشعر الباب وتحسّ بذلك فتفتح بلا
احتياج إلى فاتح كما هو الظاهر من الكريمة ، ويحتمل أن يفتح لهم الموكّلون بها.
والحاصل أنه إذا وصلوا بابها (قالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي يقول لهم الخزنة ذلك تقريعا وتوبيخا لأن الملائكة
يكرهون لقاءهم أشدّ الكراهة حيث إنّهم أعداء الله جحدوا وأنكروا البعث والنّشر
وكذّبوا الرّسل والآيات جميعا ولذا يسألون : ألم يأتكم الرّسل الذين بعثهم الله
إليكم لطفا منه بالعباد لهدايتكم وكانوا من أهاليكم وعشيرتكم وأهل بلادكم ولسانكم
لتتمّ الحجّة عليكم و (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ
آياتِ رَبِّكُمْ) أي حججه وما يدّلكم على معرفته وتوحيده ووجوب عبادته (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا) ، (قالُوا بَلى وَلكِنْ
حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي نعم قد جاءتنا الآيات والرّسل وخوّفونا ذلك اليوم وهذه
النار لكنّها تحققت ووجبت علينا كلمة العذاب أي قوله جلّ وعزّ (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وكنّا ممّن تبعه ـ أي إبليس ـ وتركنا الرّسل وما جاءوا به.
٧٢ ـ (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) أي أنّها مفتوحة لدخولكم. وظاهر الشريفة أنهم مجازون من
أيّ باب يريدون يدخلون. ولعل هذا البيان يدل أنها كانت مفتوحة إلى طبقة واحدة ،
وهؤلاء كانوا مشتركين في العذاب وكان عذابهم من نوع وسنخ واحد ، وإلّا فإن طبقاتها
مختلفة من حيث شدة عذابها وخفته بحسب اختلاف معاصي العصاة شدّة وضعفا وكثرة وقلّة.
ويمكن أن يدخلوهم أوّلا ، وبعد الدّخول يعيّن ويميّز مستقرّهم ومثواهم (خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) أي لا يزالون فيها ، وهي بئس موضع لأرباب الأنفة والترفع
عن الحق والحقيقة. ولا يخفى أنّ إسناد البؤسيّة إلى الجحيم مع ثبوت حقّانيتها
لتنفّر الطّباع من مشاهدتها ، بل من
استماع ذكرها
ووصفها ، وهذا أمر وجدانيّ لا يحتاج إلى إقامة برهان عليه. ولمّا كان المقصد
الأصليّ في هذا المقام وعيد الكفار والمشركين فلذا أخّر وعد المؤمنين وقدّم وعيدهم
، هكذا قيل ولكن أقول في وجه التأخير والله تعالى أعلم : اظنّ أن يكون الوجه من
باب تعريف الأشياء بأضدادها فإن قدر الشيء من جميع جهاته يعرف إذا ابتلى الإنسان
بضدّه. فمثلا قدر الصّحة ولذتها بتمام اللذة وكمالها يكون بعد ما ابتلي الإنسان
بالمرض ، فالصّحة التي حصلت بعد مرضه ألذّ بمراتب من التي تكون غير مسبوقة بالمرض
، واستشمام الرائحة الطيبة وإن كان لذيذا لكنه بعد استشمام الرائحة الكريهة ألذّ ،
وكذلك باب رؤية الأشياء الحسنة لرؤية حسن جميل بعد رؤية شخص كريه المنظر ألذ منها
قبل ابتلاء الإنسان بمشاهدة هذا الكريه ، وكذلك استماع أمور يتلذّذ ويسرّ الإنسان
بها تكون ألذ إذا استمع أوّلا ضدّها! فإذا ذكر أحوال أهل الجحيم وأهوال الجحيم
نفسها وكيفيات عذاب المعذّبين ثم بعد ذلك ذكر الجنة ونعيمها وتنعّم أهلها بها كان
ذلك أوقع في النفس وأشوق للإنسان إلى الجنة ، وهذا أمر وجداني لا برهاني ، ولذا
يحتمل أن يكون وجه تأخير الوعد من الوعيد هذا والله تعالى أعلم.
* * *
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ
نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))
٧٣ ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ ...) أي حثّوهم على المسير إلى مقرّهم الأبدي الذي هيّئ لهم.
وقيل في وجه إتيان كلمة (سِيقَ) هنا كما في قضيّة الكفّار ورواحهم إلى الجحيم وجوه ، حيث
إن هذه الكلمة تستعمل في سوق الشيء بعنف وشدّة ، وهذا المعنى في المتّقين يشكل ،
ولذا ذكروا وجوها لا وجه لها لأن السّوق ليس في معناه العنف والإزعاج وإنّما
أشربوا هذا المعنى فيه بقرينة المورد وإلّا فمعناه بحسب اللّغة حثّ الحيوان على
السّير ، يقال (ساق) الغنم أي حثّه على السّير من خلفه بخلاف (قاده) وهو معنى يصحّ
في المقامين بلا حاجة إلى التكلّفات التي لا فائدة فيها إلّا تضييع العمر أعاذنا
الله منها. نعم فرق بين الحثّ في الموردين ، فإن الحثّ في الكفار توبيخيّ وتوهينيّ
، بخلاف الحثّ في المتّقين فإنه حثّ تشويق وتكريم إلى جنّات النعيم (زُمَراً) أي جماعة كثيرة تعقبهم جماعة أخرى كذلك بلا فاصل (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها) الكلام في فتحها مرّ آنفا في الآية السّابقة على هذه
الشريفة (وَقالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها) أي بوّابوها من الملائكة الذين تسرّ الناظر إليهم رؤيتهم
بحيث لو لم تكن نعمة غيرها لكفاهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) بشارة بالسّلامة من المكاره وطبتم نفسا أو طاب لكم المقام
أو طهّرتم من الذّنوب وجواب الشرط مقدّر ، أي كان ما كان من الكرامات لهم.
٧٤ ـ (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنا وَعْدَهُ ...) أي وعده بالبعث والثواب ، أو الذي وعدنا على ألسنة الرّسل
في قوله (أَلَّا تَخافُوا وَلا
تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، (وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ) أي أرض الجنّة ، وعبّر عنه بالإرث لأن الجنة كانت في بدء
الأمر لآدم فلمّا عادت إلى أولاده كان ذلك سببا لتسميتها بالإرث ، أو لأن الوارث
يتصرّف فيما يرثه كيف شاء من غير منازع ولا مدافع ، فكذلك هؤلاء يتصرّفون في الجنة
كما يشاءون ، والمشابهة علّة لحسن المجاز (نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ننزل من الجنة كلّ مكان نريده ونسكن فيها. وهذا إشارة
إلى كثرة قصورهم وسعة نعمهم ، والأجر هو الجنة.
٧٥ ـ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ ...) أي محدقين (مِنْ حَوْلِ
الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ذاكرين له بوصف جلاله وإكرامه تلذّذا به ... وفيه إشعار
بأن منتهى درجات العلّيين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بين الخلق به (وَقِيلَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والقائل هو الملائكة أو المؤمنون على ما قضي بينهم بالحق ،
والظاهر هم المؤمنون.
سورة المؤمن
مكية إلّا الآيتين
٥٦ و ٥٧ وآياتها ٨٥ نزلت بعد الروم.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)
غافِرِ
الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥)
وَكَذلِكَ
حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))
١ ـ (حم ...) قد سبق تأويله بعنوان الحروف المبتدأة في أوائل السور فلا
نعيدها لأنه تكرار بلا فائدة.
٢ و ٣ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ...) أي العزيز في سلطانه ، والعليم بكلّ شيء (غافِرِ الذَّنْبِ) أي للمؤمنين ، وهو للدّوام ، فالإضافة حقيقيّة فصحّ وصف
المعرفة به وكذا (قابِلِ التَّوْبِ) مصدر التّوبة (شَدِيدِ الْعِقابِ
ذِي الطَّوْلِ) أي الفضل والإنعام أو الغنى. وقد وصف سبحانه نفسه بما هو
جامع للوعد والوعيد والترهيب والترغيب (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع للجزاء. ولمّا علم أن تنزيل هذا القرآن من عند
الله المتّصف بهذه الصّفات فيلزم اتّباعه والانقياد له ولا ينبغي الجحد وإنكاره ،
فلذا يقول سبحانه ما قال في كتابه :
٤ ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي ما يطعن في القرآن إلّا الذين كفروا وأنكروا نعم ربّهم
وجحدوها. والمراد بهذه المجادلة هو الجدال بالباطل ، أي دفع الحجج والبراهين
القرآنيّة وإدحاض الحق وإطفاء نوره كما قال تعالى (وَجادَلُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) لا الجدال بمعنى البحث لحلّ مشاكل القرآن وبيان متشابهاته
واستنباط حقائقه وقطع شك أهل الزيغ والنّفاق به والجدّ في فهم غوامضه ، فإنّ هذا
من أعظم الطاعات ، ولما كان أهل الجدل والعناد مع وفور نعمهم واستغراقهم فيها
مصرّين على كفرهم ونفاقهم ، هدّدهم بقوله (فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي لا يخدعنّك أسفارهم في بلاد اليمن والشام للتّجارات
المربحة واستفادات المنافع الكثيرة ، فإن إمهالي لهم ليس لإهمال عقوبتهم بل
لازديادها ، فإنّي لبالمرصاد لهم ، وإنهم بعد أن صاروا مغمورين ومرفّهين بالنّعم فإنى
آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما عملنا بمن كان قبلهم من الأمم.
٥ ـ (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) أي كذّبت قوم نوح نوحا (وَالْأَحْزابُ مِنْ
بَعْدِهِمْ) أي الطوائف الأخر بعد قوم نوح كذّبوا رسلهم كقوم عاد وثمود
وأصحاب الأيكة (وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) أي قصدوا
قتله ومحاربته (لِيَأْخُذُوهُ) أي يؤذوه ويقتلوه فكأن الرسول عليهالسلام يفرّ منهم ، وربما يتعقّبونه ويؤخذ فيقتل (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) يعني بما لا حقيقة له مثل قولهم (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ،
وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) ونحو ذلك من الأباطيل (لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَ) أي ليزيلوا الحق عن مقرّه ويحقّوا الباطل في مقرّه (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فانظر يا محمد (ص) حتى تعرف كيفيّة عقابي إيّاهم. وإن
أصرّ قومك على الجدال والكفر بآيات الله فأفعل بقومك ما فعلت بهم بل أزيد عليهم
لأنك أشرف المرسلين ، وأذى الأشرف عقابه أزيد وأشدّ. ثم قال سبحانه :
٦ ـ (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي كما وجبت العقوبة على الأمم السّابقة لتكذيبهم أنبياءهم
، وحقّت : يعني وجبت كلمة ربّك أي حكمه الحتمي بالعقاب والعذاب (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك بذاك الملاك من كفرهم وتكذيبهم إيّاك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) هذا بدل الكلّ من الكلّ عن (كَلِمَةُ رَبِّكَ) يعني كذلك حكم ربّك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ
النَّارِ) وقريش هم المكذّبون لك.
* * *
(الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ
(٧)
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ
مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))
٧ ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ ...) كأنّ هذه الشريفة في مقام دفع دخل مقدّر ، بيانه أن قريش
لعلهم كانوا يزعمون أنهم إذا لم يؤمنوا فلا يطاع الرّسول ولا يعبد الله. وهذا يصير
نقصا في ناحية الله تعالى ، ونبذا لدينه. فأراد سبحانه أن يفهمهم اني لا أحتاج إلى
عبادة أحد ولا إلى عمل عامل ، وكلّ من أطاعني فيرجع نفعه إليه مضافا إلى أن مطيعيّ
وعابديّ ومسبّحيّ وحامديّ متجاوزون حدّ الإحصاء والعدّ ، منهم (الَّذِينَ) ، الآية والحاملون لعرش العظمة هم ثمانية من الملائكة
المقرّبين (وَمَنْ حَوْلَهُ) من الكروبيّين (يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي يذكرون الله بمجامع الثناء من صفات الجلال والإكرام.
وكلمة (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) حال من ضمير (يُسَبِّحُونَ) أي متلبّسين بحمد ربّهم (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون ويعترفون بربوبيّته ووحدانيّته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فإذا كان حملة العرش والكروبيّون يسبّحون الله ويقدّسونه
ويؤمنون به مع عظمتهم وكثرتهم ، فجدال أهل الشّرك وعدم إيمانهم وترك عبادتهم مع
كونهم أخسّ المخلوقات وأرذلها وأدناها لا يبالي به ولا يقام له وزن ولا قيمة (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) هذه الجملة حال من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَ) أي قائلين (ربنا) إلخ فمحلّها نصب. وقدّمت الرحمة لأنها
الغرض الأصلي هنا. وحاصل المعنى : أنّه لمّا كانت رحمتك واسعة بحيث تشمل الأشياء
طرّا ، وعلمك محيطا بكلّ شيء ، فلازمهما والتفريع عليهما أن يدعو الملائكة بقولهم (فَاغْفِرْ) .. وهذا مقتضى سعة الرّحمة (لِلَّذِينَ تابُوا) أي إذا علمت منهم التوبة لأنها أمر باطنيّ لا يعلمها إلا
علّام الغيوب ،
فطلبهم التوبة متفرّع على إحاطة علمه سبحانه (وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ) أي مشوا على الجادة المستقيمة والدين الحق. ولعلّ هذه
الجملة إشارة إلى أن التوبة لا بدّ وأن يتعقّبها العمل الصالح ، وإلّا فلا يفيد
مجرّد التوبة فإن التوبة من لوازم الإيمان ،! والإيمان لا يقبل إلا مع العمل
الصّالح. ولذا نوعا قيّد قبوله به كما في الآيات الشريفة (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) هذا تأكيد لما سبق ، ويفيدنا أن إسقاط العقاب عند التّوبة
تفضّل من الله إذ لو كان واجبا من باب استحقاق التائب فلا حاجة الى مسألتهم منه
تعالى بل كان يفعله الله لا محالة.
٨ ـ (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
...) أي مع توبتهم وقبولها ووقايتهم النّار فحينئذ أدخلهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، إلى قوله : (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) وقد سألوه سبحانه دخول هؤلاء مع دخول التائبين ليتمّ
سرورهم ولتعظيم التائبين وإعظام شأنهم ، ولتشويق الناس إلى التوبة والاستغفار (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يمتنع عليه مقدور (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ومن ذلك الوفاء بالوعد.
٩ ـ (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ...) أي عقوباتها ، وتسميتها بالسيّئات على المزاوجة كما قال (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ويحتمل أن يكون الكلام على تقدير المضاف ، أي الأعمال
السيئة ، وهذا الكلام يصير من باب ذكر العام بعد الخاص لأن قوله تعالى قبل ذلك (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) يتناول عذاب جهنم فقط ، وعذاب السيئات يشمل ذلك وعذاب
الموقف والقبر ومواقف يوم القيامة ، أي وجنّب جميع أهل الإيمان الأعمال السّيئة
وجزاءها يوم القيامة (وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصونه من عقوبات أعماله وجزاء سيّئاته يوم الجزاء
فقد رحمته ، لأنّ من انصرف عنه شرّ معاصيه فقد أنعم الله تعالى عليه بأحسن النّعم
وأعلاها (وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
في الكافي مرفوعا
: إن اللهعزوجل
أعطى التائبين
ثلاث خصال لو أعطي خصلة منها جميع أهل السّماوات والأرض لنجوا بها ، ثم تلا هذه
الآية. وها هنا نكتة نستفيدها من المقام ومن غيره وهي أن الأحسن في الدعاء أن يكون
مبتدأ بقول : ربّنا وربّ. بيان ذلك أنّنا نرى المقرّبين من الأنبياء. والملائكة
هكذا يدعون ، قالت الملائكة (رَبَّنا وَسِعْتَ) الآية وقال آدم عليهالسلام (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) وقال نوح عليهالسلام (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) وقال أيضا (رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) وقال أيضا (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَ) وقال إبراهيم عليهالسلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى) وقال أيضا (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ، الآية وقال أيضا (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) وقال موسى عليهالسلام (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) وقال سليمان عليهالسلام (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) ، الآية وقال عيسى عليهالسلام (رَبَّنا أَنْزِلْ
عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) حتى أنه تعالى أمر نبيّه محمدا صلىاللهعليهوآله أن يدعوه هكذا (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) والمؤمنون قالوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً) وكرّروا هذه اللفظة في الآية خمس مرّات. فيظهر أنه تعالى
يحبّ أن يدعوه العباد هكذا لأن الدعاء يكون أقرب إلى الإجابة ، وأنسب للداعي ، ولو
لا ذلك لما أمر نبيّه ان يدعوه حينما يدعوه بهذه اللفظة. ووجه الأنسبيّة يمكن أن
يكون أنّه تعالى لطفا بالعباد ومنّة عليهم خلقهم من كتم العدم المحض والنفي الصّرف
إلى عالم الوجود ، وبعد ذلك فالذي هو العمدة والمهم ، بل أهم الأشياء إلى
المخلوقين هو تربيته سبحانه لهم ، وإلّا فإن مجرد إيجادهم بلا تربيتهم أمر عبث ،
بيان ذلك أن مجرّد إيجاد النّطفة مثلا لو لم يربّها حتى تصير علقة والعلقة لم
يربّها إلى كونها مضغة أو المضغة لو يخلّيها في تلك المرحلة ولم يربّها إلى أن
تترقّى بحيث يوجد فيها عظام ، أو لو لم يكس العظام لحما أو لم ينفخ فيها الرّوح
إلى أن تكمل الخلقة وتترقّى مرتبة مرتبة حتى صارت قابلة لأن يثني جلّ وعزّ
على نفسه بقوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فلو لم تكن التربية في كل واحدة من تلك العوامل وكذا في
العوالم الأخر بعد هذه العوالم لرجع الخلق إلى الفناء والعدم الأوّل. هذا في
الإنسان ، وهكذا الأمر في كلّ موجود حتى الجمادات. والنتيجة أنه بعد أمر الخلقة
يصير أحوج الأمور عند الموجود وأشدّها دخلا فيه ، مسألة التربّب أو التربية فعلى
هذا حينما يدعو العبد المحتاج إلى ربّه الغنيّ المطلق لرفع احتياجه ، يكون لسان
حاله (إن لم يكن مقاله) أنّه يقول : كنت في كتم العدم فأخرجتني إلى الوجود ، وبعده
ربّيتني في جميع مراحل الوجود التي كنت في غاية الحاجة إليها ، فأنا أجعل ترببك
وتربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخلّيني طرفة عين عن تربّبك وإحسانك القديم إليّ.
فهذا وجه الأنسبيّة في لفظة (الرب) في مقام الدّعاء ، وهو تعالى أعلم. ولما انجرّ
كلامنا إلى مسألة الدعاء ، والمشهور أن الكلام يجرّ الكلام ، فنقول : إن الداعي
كما يحسن له أن ينادي الله بلفظة «يا رب» في مقام الدعوة فكذلك يحسن له الثناء
عليه سبحانه بعد ندائه. وبعد ذلك يذكر حاجته منه تعالى ويطلب قضاءها ، لأن ذكره
تعالى بالثناء والتعظيم له أثر عجيب في الإجابة كما أشرنا بذلك في ندائه بلفظة «رب»
وهناك مطلب آخر يدلّ على اهتمامه سبحانه بها وعلى شرافة تلك اللفظة غاية الشرافة ،
وهو أنه تعالى أمر نبيّه الخاتم صلوات الله عليه وآله أن يذكره في مقام تسبيحه
وتنزيه ذاته ذاته المقدّسة في أهمّ عباداته وهي الصّلاة وفي أشرف مواقعها وهي حالة
الرّكوع أو السّجود بتلك اللفظة وذلك بأن يقول : سبحان ربّي العظيم وبحمده في حالة
الركوع وسبحان ربّي الأعلى وبحمده في حالة السجود ، ولا بدّ أن يتّبعه في هذا
الأمر جميع الأمة الاسلامية.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ
إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ
إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ
لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ ...) أي أن الملائكة ينادونهم يوم القيامة وهم في النار ، والمراد
خزنة جهنّم : إنّ عداوة الله أكبر (مِنْ مَقْتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ) والمقت أشدّ العداوة والبعض. ومعنى الشريفة أنّ الكفرة
لمّا رأوا أعمالهم ونظروا في كتابهم وأدخلوا النّار مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء
، وأصابهم المقت لسوء صنيعهم فنودوا لمقت الله إيّاكم في الدنيا (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ
فَتَكْفُرُونَ) أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم وبغضكم لها. وفي القمّي : إنّ
الذين كفروا : يعني بني أميّة دعوا إلى الإيمان يعني إلى ولاية عليّ عليهالسلام والصّلاة.
١١ ـ (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
...) الأولى في الدّنيا بعد الحياة فيها ، والثانية في القبر
بعد الإحياء فيه للسّؤال فهاتان حياتان وموتتان. وقالوا فيهما أقوالا أخر لسنا في
مقام بيانها ومن أراد فليراجع الكتب المبسوطة في المقام (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) بيّنّاهما آنفا فلا نعيدهما (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي بإنكارنا البعث وما يتبعه. ولمّا شاهدوا الأحياء
والإماتة مرّتين والبعث ، وتوابعه ، اعترفوا بما أنكروا وقالوا : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي
إلى الخروج من
النّار ، أيوجد طريق نسلكه حتى نخرج ونتخلّص من هذا العذاب الشديد والجواب مقدّر
أي : لا سبيل لكم. يقولون هذا من فرط التحيّر والعماهة والقنوط ، ولذا أجيبوا بما
أجيبوا به ودلّ عليه قوله سبحانه :
١٢ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ
وَحْدَهُ ...) أي ذلكم العذاب الذي حلّ بكم بسبب أنّه كان إذا تفوّه
المسلمون بكلمة التوحيد أي لا إله إلّا الله (كَفَرْتُمْ بِهِ) يعني بتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ
تُؤْمِنُوا) أي تؤمنوا وتسلّموا بالإشراك به (فَالْحُكْمُ) في تعذيبكم والفصل بين المحق والمبطل (لِلَّهِ الْعَلِيِ) شأنه (الكبير) العظيم في كبريائه.
* * *
(هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ
إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
رَفِيعُ
الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ
عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥)
يَوْمَ
هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))
١٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ...) أي الدالة على التوحيد والقدرة بل على ذاته المقدّسة في
المرتبة المتقدّمة وبقية ما يجب أن يعلم (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ
مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ولمّا كان أهمّ المهمات رعاية مصالح أديان العباد فراعى
تلك الناحية بإظهار الدّلائل والبيّنات كما دلّ عليه صدر الشريفة وراعى مصالح
أبدانهم أيضا بإنزال الرزق عليهم من السّماء كما يدل عليه ذيل الآية. فموقع الآيات
من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان ، والآيات لحياة الأديان كالارزاق لحياة
الأبدان وقوامها (وَما يَتَذَكَّرُ
إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي ما يتّعظ ولا يتفكر في الأمور المذكورة إلّا من يرجع عن
الشرك إليه تعالى ، ويقبل طاعته ويعمل عملا صالحا. ثم أمر المؤمنين بقوله :
١٤ ـ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ ...) أي وجّهوا عبادتكم إليه وحده ونزّهوها عن الشرك (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي ولو مقتوا إخلاصكم وشقّ عليهم.
١٥ ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ...) أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة أو أنه سبحانه
عالي الصّفات (ذُو الْعَرْشِ) يعني مالكه وخالقه وربّه المستولي عليه. وقيل العرش الملك
، فهو تعالى ذو الملك (يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ) أي القرآن من عالم الأمر وكل كتاب أنزله الله على أنبيائه.
وقيل الروح هو الوحي أي يلقي الوحي على قلب من يشاء من عباده الذين يخصّهم
بالرّسالة ويجدهم أهلا وذوي قابلية لها. وقال القمّي : الرّوح هو روح القدس وهو
خاصّ برسول الله صلىاللهعليهوآله والأئمة عليهمالسلام (لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ) أي يوم القيامة ، ليخوّف منه.
١٦ ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ...) أي خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ، أو بارزة سرائرهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي من أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ)
حكاية لما يسأل
عنه ولما يجاب به بما دلّ عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط.
وأمّا حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.
١٧ ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ ...) إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) فإن المحاسب فيه هو الله وهو عدل العادلين ، ولذا جيء بلام
نفي الجنس (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) فلا يمكن أن يقع اشتباه حيث إن سرعة الحساب كناية عن كمال
المهارة والحذاقة فيه ولا سيّما من لا يشغله ولن يشغله شأن عن شأن
* * *
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)
يَعْلَمُ
خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))
١٨ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ...) كناية عن يوم القيامة ، وسمّيت آزفة لاقترابها ودنوّها ،
من أزف بمعنى قرب ، إذ كلّ آت قريب فخوّفهم من ذلك (إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَناجِرِ) أي أنّها من فزع ذلك اليوم ترتفع عن أماكنها فتلتصق
بحلوقهم ، فلا تعود إلى محلّها الأوّل فيتروّحوا ، ولا تخرج عن أفواههم فيستريحوا (كاظِمِينَ) أي ممتلئين غمّا وكآبة. وقال القمّي : مغمومين ومكروبين (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي قريب مشفق عليهم
(وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي شفيع تقبل شفاعته وتجاب.
١٩ ـ (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ...) أي خيانتها بنظرها إلى ما لا يجوز النظر إليه وفي المعاني
عن الصّادق عليهالسلام ، أنه سئل عن معناها فقال : ألم تر إلى الرّجل ينظر إلى
الشّيء وكأنّه لا ينظر إليه فذلك خائنة الأعين (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي ما تضمره الصّدور يعلمه تعالى وهو محيط به حيث إنه يعلم
السّرائر والضّمائر. ثم إنه سبحانه بعد بيان أحوال أهل المحشر وأهواله ، وبيان
عدله في ذلك اليوم وعلمه المحيط بالظواهر والضّمائر يتهكّم على أهل الشّرك بقوله عزوجل :
٢٠ ـ (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ...) أي لا يتعدّى على أحد ولا يحكم ظلما بنقص ثواب أو مزيد
عقاب ، حيث إنّه مستغن عن الظلم والعدوان (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي المشركون الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأوثان (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي لا يحكمون بأمر من الأمور لأنّها جمادات لا يتصوّر ولا
يعقل أن يصدر عنها الحكم. وهذا الكلام تهكّم منه تعالى عليهم ، وتوبيخ للمشركين
عبّاد الأصنام.
(إِنَّ اللهَ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) هذه الجملة تقرير لعلمه بخائنة الأعين وقضائه بالحق ،
ووعيد لعبّاد الأوثان على أقوالهم وأفعالهم ، وتعريض بحال المعبودين غيره تعالى.
* * *
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ
اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ
وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))
٢١ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) هذه الشريفة في معنى الأمر يعني : سيروا في الأرض وانظروا.
ثم أنه سبحانه كثيرا ما أمر في الآيات الشريفة العباد بالسّير في الآفاق لأخذ
العبر ممّن كان قبلهم فإنّ العاقل من اعتبر بغيره من الأمم الذين خالفوا أوامر
ربّهم ونواهيه وقتلوا النبيّين بغير حق فأهلكوا بالدواهي السّماويّة والأرضيّة
كعاد وثمود (كانُوا هُمْ أَشَدَّ
مِنْهُمْ قُوَّةً) أي قدرة وتمكنّا في أنفسهم. وقرئ منكم (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) مثل القلاع العالية والحصون المرتفعة والبلاد العظيمة التي
هي في تلك الحدود وتلك الديار في مسيرهم وممرّهم حينما يسافرون إلى الشّامات من
الحجاز (فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بإنكارهم الصانع أو بشركهم وسائر معاصيهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي بمنع العذاب عنهم ولا دافع يدفعه.
٢٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ ...) أي ذلك الأخذ والعذاب لأنهم كانت تأتيهم رسل ربّهم بالحجج
البيّنة والمعجزات الباهرة فجحدوا (فَكَفَرُوا) بالله وكذّبوا الرّسل (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أهلكهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على كلّ شيء (شَدِيدُ الْعِقابِ) إذا عاقب. ولمّا لم يعتبروا بتلك المقولة فلمزيّة تنبيههم
وتتميم الحجّة عليهم بيّن تعالى قصة موسى وفرعون لعلّهم من هذه يعتبرون فقال :
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ
(٢٤) فَلَمَّا
جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسابِ (٢٧))
٢٣ و ٢٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بالمعجزات الواضحة (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي برهان بيّن. وإنما عطف السلطان على الآيات لاختلاف
اللفظين تأكيدا. فقد أرسلناه (إِلى فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَقارُونَ) فكان موسى رسولا إلى كافّتهم ، إلّا أنّه خصّ فرعون لأنّه
كان رئيسهم ، وكان هامان وزيره ، وقارون صاحب جنوده أو كنوزه ، والباقون من
القبطيّين تبع له وسواد عسكره. (فَقالُوا ساحِرٌ
كَذَّابٌ) يعنون موسى عليهالسلام وفي الآية تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوآله. ولما كانت براهين موسى (ع) صورة مشابهة للسّحر فقد ألقوا
هذه الكلمة حتّى يشتبه الأمر على الناس لئلّا يميلوا إلى الحقّ كلّ الميل ويذروا
فرعون وحده ، أو مع قليل من توابعه. فهذه الكلمة أوقفت الناس عن الميل إلى موسى عليهالسلام.
وأما وجه أنّ
معجزاته ودلائل صدقه كان من سنخ ما يشبه السحر ، فهو إن سنّة الله جرت على أن تكون
معجزات الأنبياء في كلّ عصر من سنخ ما يشتهر بين الناس وكانوا به يفتخرون
ويتفاخرون الواحد على الآخر إذا كان هو أشهر من غيره فيما هو المشهور من الصنعة أو
العلم بشيء خاص يفتقده الآخر ، مثل ما كان مشهورا في زمان عيسى من علم الطبّ ، وفي
زمان موسى من صنعة السّحر ، وفي عصر خاتم الأنبياء من البلاغة والفصاحة ، ولذا
قرّر أن تكون معجزة عيسى شفاء الأبرص والأعمى الذي عجز عن إبرائه الأطباء ، وإبراء
الأكمه أي من زال عقله أو تولّد أعمى ، وكان في بعض الأوقات يحيي الموتى. ثم كانت
معجزة موسى عليهالسلام اليد البيضاء وتصيير العصا حيّة تسعى وكان الرائج في زمانه
هو السّحر ، ولذا كان للسحرة مقام منيع في جميع البلدان. وفي زمان نبيّنا الخاتم
كانت الفصاحة رائجة شائعة وكان للشعراء وجاهة عظيمة عند الناس ، فأنزل الله القرآن
على النبيّ عليه الصّلاة والسّلام وتحدّى به جميع الفصحاء والبلغاء بأن يأتوا
بمثله فلم يقدروا أن يأتوا به. وهكذا في كل عصر كانت المعجزات من سنخ ما اشتهر حتى
يكون عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به نبيّ ذلك الزمان معجزة لنبيّهم ، فإذا لم
يؤمنوا مع تماميّة الحجّة يأخذهم الله بعذاب فيهلكوا جميعا.
٢٥ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ
عِنْدِنا ...) أي أتاهم بالدّين الحق الذي كان من عندنا ، وأمرهم
بالتوحيد (قالُوا اقْتُلُوا
أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أعيدوا على بني إسرائيل القتل الذي كان عليهم أوّلا قبل
ولادة موسى حين قال المنجّمون لفرعون إنّه سيولد في بني إسرائيل ولد يكون زوال
ملكك بيده ، فحكم بأن يقتلوا كلّ مولود ذكر يولد في بني إسرائيل (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي خلّوهنّ حتى يخدمن القبطيّين. ووجه هذا القتل لكي
يصدّوا. ويمنعوا ظهور موسى (ع) ويقلّ عدد جنوده وسواد
عسكره ، أو
يشتغلوا بذلك عن معاونة موسى عليهالسلام. (وَما كَيْدُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ضياع. ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى
فهو باطل ضائع لأنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل
له من بعده. ثم أخبر سبحانه عن نوع آخر من أنواع القبائح التي يرتكبها فرعون وهو
أنّه قال :
٢٦ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى ...) يستفاد من الآية أنه في خواصّ فرعون كان شخص مانعا له من
قتله وإلّا لم يتعلّل عدم القتل بعدم الإجازة مع كونه سفّاكا في أهون شيء. وفي
العلا عن الصادق عليهالسلام أنّه سئل عن هذه الآية : ما كان يمنعه؟ قال : منعته له
رشدته أي صحة نسبه ، ولا يقتل الأنبياء ولا أولاد الأنبياء إلّا أولاد الزّنى (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) أي إن لم أقتله أخاف تغييره لدينكم الذي أنتم عليه من عبادة
الأصنام وعبادتي ، فإذا قتلته نستريح جميعا منه (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي فليستجر بالله وليشك إلى ربّه حتى يمنعني عن قتله. وقد
قالها تجلّدا ولعدم مبالاته بدعائه ربّه إذ إنه لا يعتقد بربّ موسى عليهالسلام (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ
فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي ما يفسد دينكم وعقيدتكم أو ما يفسد دنياكم كالإعلان
للحرب وتهييج الناس مثلا. ولمّا انتشر في الناس أنّ فرعون عزم على قتل موسى (ع)
فرح القبطيّون ووقع بنو إسرائيل في حيص وبيص وأصبحوا في همّ وغمّ.
٢٧ ـ (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي) ... أي قال لقومه لما سمع بعزم فرعون على قتله (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) تسلية لهم ، يعني لنا ملاذ وملجأ هو ربّنا وخالقنا وحافظنا
من شرّ (كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا
يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) يعمّ ذكر هذا الوصف فرعون وغيره وما صرّح باسمه رعاية
لحقّه القديم حيث ربّاه في بيته حتى بلغ الرّشد والكمال. وإيثار التكبّر على
الاستكبار لأنه أكثر دلالة على فرط الطّغيان والظّلم ، فإنه لا يقصد قتل
النبيّ إلّا من
أفرط في الطّغيان والاجتراء على الله. والحاصل أنه لمّا اهتمّ فرعون وهيّأ للقتل
وشاع الخبر اضطرب المؤمنون ، ومنهم مؤمن آل فرعون الذي وقف وقال أمام فرعون وسائر
رجال القبط :
* * *
(وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ
إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ
سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي
آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ
(٣٠)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا
اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ
مِمَّا
جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ
رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))
٢٨ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ...) كان ابن خال فرعون أو ابن عمّه. وقال القمّي : بقي يكتم
إيمانه ستّمائة سنة. وفي المجمع عن الصادق عليهالسلام : التقيّة ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقيّة له. والتقية
ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل. وفي المجالس عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله : الصدّيقون ثلاثة ، وعدّ منهم حزقيل مؤمن آل فرعون رضوان
الله عليه وقد كان يكتم إيمانه تقيّه من فرعون ، وكان فرعون يعظّمه ويحترمه لأنه
كان رجلا محنّكا عاقلا فطنا ذكيّا ذا بصيرة ومعرفة ، ولذا جاء وخاطبهم ولم يخف
أحدا ، وسمع كلامه فرعون ورتّب الأثر عليه وانصرف عن القتل واتعظ بمواعظه المفيدة
الكافية الوافية إذ قال : (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) أي لأنه يقول ذلك؟ (وَقَدْ جاءَكُمْ
بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحات (مِنْ رَبِّكُمْ
وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتعدّاه ضرره إلى أحد بل إليه يرجع لو كان فيه ضرر فلا
حاجة إلى قتله. هذا الاحتجاج من باب الاحتياط وإلّا فإنه حينما قال (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ
رَبِّكُمْ) وأضاف الربّ إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم
واستدراجا لهم إلى الاعتراف به ، فقد أتمّ الحجة عليهم (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي لا أقل من أن يصيبكم بعضه وفيه هلاككم أو عذاب الدّنيا
فإنه بعض ما يعدكم. وفيه
مبالغة في التحذير
وإظهار للإنصاف وعدم التعصّب ، ولذلك قدّم كونه كاذبا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذا يمكن أن يكون احتجاجا ثالثا ذا وجهين : أحدهما لو كان
مسرفا كذّابا لما هداه الله الى البيّنات ولما أجرى تلك البيّنات على يديه لأن فيه
إغراء الناس بمن ليس بأهل. والثاني : إن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة بكم إلى
قتله. ولعلّه أراد به المعنى الأوّل ، وخيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم وعرّض به
بفرعون أنّه مسرف كذّاب لا يهديه الله سبيل الصّواب.
٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
...) لمّا بيّن على وجه التلطّف أنّه لا يجوز الإقدام على قتل
موسى عليهالسلام ولا يجوز التكذيب على الله تعالى بادّعاء الإلهية الكاذبة
، خوّفهم عذاب الله وبأسه فقال : أنتم اليوم قد علوتم الناس وأنتم أهل سلطان مصر
وما والاه ، فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرّضوا لبأس الله وعذاب الله فابقوا (ظاهِرِينَ) أي غالبين عالين (فِي الْأَرْضِ) أي مصر وتوابعها (فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) إنما أدرج نفسه فيهم في الحوادث ليريهم أنه معهم ومساهمهم
فيما ينصح لهم. وهذا البيان وهذه المواعظ بهذه الكيفية تكشف عن غاية فطانته وكمال
معرفته وقدرته على الخطابة والنّصح المؤثّر بحيث أقنع فرعون وأتباعه الذين كانوا
معه في العقيدة ، فانصرفوا عن قتل موسى و (قالَ فِرْعَوْنُ ما
أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم وما أدلّكم إلّا على الطريق التي أراها
صوابا لي ولكم ، وأنا الصّلاح في قتل موسى (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.) أى ما أدلكم إلا على ما فيه رشدكم وصلاحكم. ولا ريب أن
فرعون كان كاذبا في قومه لأنه كان مستيقنا بنبوة موسى وصحة آياته ولذا كان خائفا
منه باطنا خوفا عظيما ، إلّا أنّه يظهر في الناس خلاف ما في باطنه ويتجلّد حتى لا
يطّلع على باطن أمره أحد من خواصّه ، والدليل على ذلك انه مع كونه سفاكا قتّالا في
أهون شيء بلا مشاورة أحد إلّا في أقل
القليل من الأمور
، لكنّه شاورهم في قتل موسى الذي يعرف انه هو الذي في صدد زوال ملكه وهدم سلطانه
وانكسار جبروته وإخماد طنطنة ملوكيّته الواسعة في ذلك العصر. والحاصل أن حزقيل
لمّا سمع هذا الكلام من فرعون عرف أنّه ما انصرف عن القتل كاملا بل عقيدته أنّ في
القتل صلاحا ولذا خاطبهم ثانيا :
٣٠ و ٣١ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ...) أي قال حزقيل (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ) أي في تكذيبه والتعرّض له (مِثْلَ يَوْمِ
الْأَحْزابِ) أي مثل أيام الأمم الماضية المتعرّضة للرّسل بالأذى والقتل
بأنواعه (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ
نُوحٍ) أي جزاء عادتهم على إيذاء نوح وتكذيبه فأهلكهم الله
بالطّوفان والغرق (وَعادٍ وَثَمُودَ) أي مثل سنّة الله تعالى فيهم حين استأصلهم وأهلكهم جزاء
بما كانوا يفعلون من الكفر وقتل الرّسل وإيذائهم (وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) كقوم لوط وأهل المؤتفكة الذين صارت بلادهم مقلوبة عاليها
سافلها وبالعكس (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) يعني تدمير هؤلاء كان على وجه العدالة وصدر منه تعالى ووقع
في محلّه والظّلم وقوع الشيء في غير محله فهو تعالى لا يريد ظلما فضلا أن يظلمهم
بل يريد أن يتعامل معهم بالعدل لا بالفضل.
٣٢ ـ (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ التَّنادِ) ... أي يوم القيامة ، وسمّي بذلك لنداء بعضهم بعضا بالويل
والثبور ، أو لتنادي أهل الجنة وأهل النّار وبالعكس ، أو لأنه ينادى كلّ أناس
بإمامهم ليستشفعوا به ويستعينوا به ، أو لأنه ينادى في أهل الجنّة : يا أهل الجنّة
خلود ولا موت ، ويا أهل النّار خلود ولا موت.
٣٣ ـ (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ...) أي منصرفين عن الموقف إلى النّار ، أو فارّين عنها ولا
يفيدهم الفرار حيث إنّهم يرجعون ولا يمكن الفرار من حكومته عزوجل (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ عاصِمٍ) أي من عذابه ما لكم من مانع ولا دافع وهذا التهديد الذي
نقله المؤمن إليهم ألهمه الله تعالى إياه
لأنه لا عاصم من
غضب الله (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) أي يخلّيه وما اختاره من الضلالة بعد تماميّة الحجة عليه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) عن الضّلالة يردّه إلى الهدى.
٣٤ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
...) أي جاء آباؤكم على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد ، أو على
أن فرعون موسى فرعونه ، أو المراد بيوسف يوسف بن أفرائيم بن يوسف (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى عليهالسلام. ويمكن أن تكون هذه الشريفة من بقيّة كلام المؤمن ويجوز أن
تكون ابتداء كلام من الله سبحانه. لكن الظاهر بقرينة السّياق كونها من كلام المؤمن
إلى قوله تعالى (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ) ، الآية وهذه
الكلمات من مواهب الله سبحانه جرت على لسان مؤمن آل فرعون وهي تكشف عن كمال إيمانه
، فإن فيها النّصح والعظة وإثبات الصانع وتوحيده والبعث والحشر والعذاب إلى جانب
تهديدهم بهلكات الدّنيا والآخرة ، وفرض وجود الخالق تعالى أمرا مفروغا منه ، ورتّب
عليه آثاره وآثار توحيده كما هو ظاهر كلماته لمن له أدنى دربة وحذاقة بصناعة
الكلام. وفرعون أدرك وعرف هذا المعنى من مقالاته ولذا بعد إتمام الخطاب (قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ) ، الآية وهذا كلام من أيقن بوجود الخالق لكنّه يتجلّد
ويتكلّم بما يقول حتى يشتبه الأمر على غيره لخبثه وسوء سريرته وكمال شيطنته
وشقاوته. ومن ألطاف الرّب تعالى على المؤمن انصراف فرعون عن قتله مع مخاطبة فرعون
ورجال ملكه بتلك الخطابات التي هي عين الدّعوة إلى إله موسى وتعريفه تعالى وبيان
كمال قدرته ضمن الدّعوة ببيان تدميره سبحانه للأحزاب والأمم السّالفة وبقوله (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) وغيرهما ممّا يدل على قدرته تعالى (بِالْبَيِّناتِ) أي المعجزات (فَما زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من دعوى الرّسالة والدّين وأحكامه (حَتَّى إِذا هَلَكَ) يوسف ومات (قُلْتُمْ لَنْ
يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي لمّا
أنكرتم رسالة يوسف
وما سمعتم قوله فيما جاءكم من عند ربّكم وزعمتم أنه لا يجيء بعده نبيّ آخر من عند
الله سبحانه يدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فقلتم لن يبعث الله من بعد يوسف رسولا إلينا
خوفا من أن ننكره كما أنكرنا يوسف ، فثبتّم على كفركم وجحودكم وظننتم أن الله لا
يجدّد لكم إيجاب الحجة ولا يبعث إليكم رسولا جهلا منكم بأن الله ليس بتابع لظنكم
ولا يحتاج إلى عبادتكم ولا يعتني بكفركم وجحودكم ، بل خلق العالم وما فيه وجعل له
أنظمة ، ومنها أن لا تخلو أرضه من حجّة أطاعه الناس أم لا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضّلال الفظيع (يُضِلُّ اللهُ) عن طريق الحق والصّواب (مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
مُرْتابٌ) أي من جاوز حدوده المقرّرة له في شرعه وشكّ في دينه الذي
تشهد به البراهين الواضحة وأثبتته الرّسل بالمعجزات الباهرة. وهذا الكلام من باب
إيّاك أعني واسمعي يا جارة بالنظر إلى فرعون فهو المصداق المتيقّن من المسرف
والمرتاب.
٣٥ ـ (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ
...) أي الذين يتخاصمون خصومة شديدة مع الرّسل في ما أتاهم من
عند الله من المعجزات لإثبات دعواهم أثناء تحدّيهم للرّسالة (بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) بلا حجّة وبيّنة تأتيهم ، بل يجادلون تقليدا ، أو بكلمات
لا طائل تحتها مثل الشبهات الداحضة (كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ) مقتا تمييز ، أي هذا العمل يبغضه الله بغضا شديدا وهو كبير
عنده من حيث الفظاعة والشناعة (وَعِنْدَ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي عندهم أيضا عظيم من حيث إنه عمل شنيع ومبغوض عندهم بغضا
شديدا. وقرنهم بنفسه تعظيما لشأنهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع الذي فعله على قلوب تلك الجماعة هكذا ختم
على قلب كل متكبّر جبّار (يَطْبَعُ اللهُ عَلى
كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) عرّض بكلامه بفرعون ، ومقصوده الأول منه هو وإن ساقه بحيث
يعمّ غيره. ولما أتمّ المؤمن الوعظ والنّصح بأكمل وجه وأحسن بيان وأجمعه خاف فرعون
من أن تؤثّر هذه
المقالات في أهل
مجلسه فلذا موّه على الجلساء وأراد أن يشغلهم فقال لوزيره هامان :
* * *
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧))
٣٦ و ٣٧ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي
صَرْحاً ...) أي بناية عالية مكشوفة ، وقيل مشيدة بالآجرّ والجصّ (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ثم فسّر تلك الأسباب فقال : (أَسْبابَ السَّماواتِ) أي طرق الصّعود إليها من سماء إلى سماء ، أو أسباب الطّرق
إليها. والسّبب كلّ ما يتوصّل به إلى شيء يبعد عنك (فَأَطَّلِعَ إِلى
إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) في ادّعائه. قاله إيهاما أو تمويها لقومه ، أو لجهله اعتقد
أن الله لو كان لكان في السماء وأنه يقدر على بلوغها (وَكَذلِكَ) أي مثل ما زيّن لهؤلاء الكفار سوء أعمالهم (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) ظهر له ممكنا (وَصُدَّ عَنِ
السَّبِيلِ) أي طريق الهداية ، يعنى إبليس منعه عنه بناء على قراءة
الآية مجهولة. وقرئت وصدّ معلوما ، أي على أنّ فرعون مسخ الناس عن الهدى بأمثال
هذه التمويهات والشّبهات الواهية (وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي
مكائده في إبطال آيات
موسى بحملها على السّحر ، أو بناء الصّرح ، أو تكذيب موسى بأن له إلها غير فرعون ،
وتلبيس المطالب على النّاس بتلك التمويهات ، فجميع هذه المكائد الفرعونيّة لا
تفيده ولا تنجيه إلّا أنها موجبة لهلاكه وخسارته الدّنيوية والأخرويّة. ثم إن
حزقيل في جميع مناسبات فرعون وحفلاته ودخول موسى عليه أو خروجه من عنده أو غير ذلك
، كان حاضرا لأنه ظاهريا كان منهم ومن رجال التشاور لأنّه من أقرباء فرعون ومن
القبطيّين وكان عريفا ، ولذا كان مسموع القول فيهم. والحاصل أنه إذا أحسّ بتوجّه
أدنى ضرر على موسى أقدم على دفعه بكيفيّة عقلانيّة بحيث لا يلتفت القوم أنّه معه ،
فلمّا رأى أنّ فرعون في مقام تمويه الأمر وتسويل المطلب على القوم قام وأخذ في
تنبيههم بالموعظة الحسنة والنصائح الشافية الكافية كما حكى الله تعالى مقالاته في
ما يلي :
* * *
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما
هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها
بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١)
تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ
(٤٣)
فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ
بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))
٣٨ ـ (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ
اتَّبِعُونِ ...) أي سيروا معي وفي أثري ولا تخالفوني (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) طريق الرشد من الغيّ والهداية من الضّلالة. ثم شرع على
سبيل الشرح والتّفصيل يبيّن حال حقارة الدّنيا وحال عظم الآخرة :
٣٩ ـ (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا مَتاعٌ ...) أي تمتّع أيام قلائل لسرعة زوالها وقلة بقائها (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي دار الخلود والحياة الأبديّة والباقي خير من الفاني.
قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهبا فانيا والآخرة خزفا باقيا لكانت الآخرة
الباقية خير من الدنيا الفانية ، فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق؟ فالعاقل
لا يؤثر الفاني على الباقي.
٤٠ ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها ...) عدلا من الله (وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني جزاء السيّئة مقصور على المثل ، لكنّ جزاء الحسنة غير
مقصور على المثل بل هو خارج عن حدّ العدّ والحساب ، أي بغير تقدير وموازنة بالعمل
بل أضعافا مضاعفة.
٤١ ـ (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ ...) ثم إن المؤمن كشف عن تقيّته ستارها وكشط عنها غطاءها وأظهر
لوازم كلامه التي هي أشدّ من التصريح أنّه مؤمن بإله موسى وكافر بربوبيّة فرعون ،
فنادى فيهم في مجلس رآه خاليا من فرعون فقال (ما لِي أَدْعُوكُمْ) أي ما لكم؟ وهذا كما يقول الرجل (ما لي أراك حزينا) أي
مالك تبدو حزينا؟ ومعناه : أخبروني عنكم ، كيف حالكم هذه؟ أنا أدعوكم إلى الإيمان
الذي يوجب النّجاة من العذاب ، وأنتم تدعونني إلى الشّرك الذي عاقبته النار؟ ومن
دعا إلى سبب الشيء فقد دعا إليه. ثم فسّر الدّعوتين بقوله :
٤٢ ـ (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ
وَأُشْرِكَ بِهِ ...) أي أنتم تدعونني لربوبيّة من ليس على ربوبيته دليل ، وليس
لديه حجّة فهو باطل الربوبية ومدّعاكم بلا دليل ، وهو لا يسمع حيث لا يحصل للإنسان
علم بتلك الدّعوى. وهذا هو المراد بقوله (ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ) فأنتم هكذا (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ
إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) الغالب على كلّ شيء والغفّار لمن تاب عن الشّرك.
٤٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ ...) أي حقّا إن آلهتكم لا تدعو إلى أنفسها لأنها جمادات لا
تقدر على النّطق ولا تشعر بشيء فكيف بالدّعوة فليس لآلهتكم دعوة (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي مرجعنا إليه سبحانه فيجازي كلّا بعمله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) بالشّرك وسفك الدّماء (هُمْ أَصْحابُ
النَّارِ) ملازموها يوم القيامة. وهذا تعريض بفرعون بهذا الذّيل حيث
إنه كان سفّاكا كافرا ومشركا يأمر الناس بأن يعبدوه وهو كان يعبد
الصنم.
٤٤ ـ (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ...) أي عمّا قريب تفتهمون قولي عند معاينة العذاب والوقوع في
العقاب (ما أَقُولُ لَكُمْ) من النّصح والعظة. وقد قال ذلك لهم على وجه التخويف
والتهديد لعلّهم من هذه الناحية يتأثّرون ويتوبون مما هم فيه (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي أسلّم أمري إليه وأعتمد على لطفه ليعصمني من كلّ سوء (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يعلم أفعالهم وأقوالهم من الطاعة والمعصية والخير والشرّ
فيحرس المطيع ويخلّي العاصي ونفسه ، وهذه المقالة جواب لتوعّدهم إيّاه الذي يستفاد
من قوله جلّ وعلا :
٤٥ ـ (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا
...) أي صرف الله عنه سوء مكرهم فنجا مع موسى حتى عبر البحر
معه. وقيل إنهم بعد تلك النصائح والكنايات التي هي أظهر من التصريح همّوا بقتله
فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلّي وحوله الوحوش صفوفا
فخافا ورجعا خائفين هاربين. وفي الاحتجاج عن الصّادق عليهالسلام في حديث له قال : كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوّة
موسى وتفضيل محمّد صلىاللهعليهوآله على جميع رسل الله وخلقه وتفضيل علي بن أبي طالب والخيار
من الأئمة عليهمالسلام على سائر أوصياء النبيّين وإلى البراءة من ربوبيّة فرعون ،
فوشى به الواشون إلى فرعون وقالوا إن حزقيل يدعو إلى مخالفتك ويعين أعداءك على
مضارّتك ، فقال لهم فرعون : ابن عمّي وخليفتي على ملكي وولّي عهدي إن فعل ما قلتم
فقد استحقّ العذاب على كفره بنعمتي ، وإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ
العذاب لإيثاركم الدخول في مساءته فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا أنت تجحد
ربوبيّة فرعون الملك وتكفر بنعماه؟ فقال حزقيل : أيّها الملك هل جرّبت عليّ كذبا
قطّ؟ قال : لا. قال : فاسألهم من ربّهم؟ قالوا فرعون هذا.
قال : ومن خالقكم؟
قالوا فرعون هذا. قال ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا
فرعون هذا. قال حزقيل : أيّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك أن ربّهم هو ربّي ،
وخالقهم هو خالقي ، ورازقهم هو رازقي ، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي ، لا ربّ لي
ولا رازق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم. وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربّ ورازق وخالق سوى
ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريء منه ومن ربوبيّته وكافر بإلهيّته. يقول حزقيل هذا
وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي. ولم يقل إنّ الذي قالوا إنّه ربّهم هو ربّي.
وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّم وتوهّموا أنّه يقول فرعون ربّي وخالقي
ورازقي. فقال لهم فرعون يا رجال السّوء يا طلّاب الفساد في ملكي ، ومريدي الفتنة
بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي ، أنتم المستحقون لعذابي لإرادتكم فساد أمري وإهلاك
ابن عمّي والفتّ في عضدي. ثم أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتدا وفي
صدره وتدا ، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم فذلك ما قال
الله تعالى (فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي بالمؤمن لمّا وشوا به إلى فرعون ليهلكوه (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ
الْعَذابِ) أي أحاط بقوم فرعون ومن معه عذاب السوء ، أي الغرق أو
النار أو كلاهما في الدّنيا وفي الآخرة. والظاهر أنّ المراد بسوء العذاب هو النار
بقرينة آية بعد هذه الآية ، والآيات يفسّر بعضها بعضا أو هم الذين وشوا بحزقيل
إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط وهذه الوقاية كانت
بنتيجة قوله (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللهِ).
٤٦ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
...) القمّي قال : عنى ذلك في الدّنيا قبل يوم القيامة ، وذلك
لأنه في القيامة لا يكون غدوّ وعشيّ ، لأن الغداوة والعشيّة ، إنما يكون في الشمس
والقمر وليس في جنان الخلد ونيرانها شمس ولا قمر. وعن الباقر عليهالسلام : إن لله تعالى نارا في المشرق
خلقها لتسكنها
أرواح الكفار فيأكلون من زقّومها ويشربون من حميمها ليلهم ، فاذا طلع الفجر هاجت
إلى واد باليمن يقال له البرهوت أشدّ حرّا من نار الدّنيا كانوا فيه يتلاقون
ويتعارفون. فإذا كان المساء عادوا إلى النّار. فهم كذلك إلى يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) يقال لهم (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) هذا أمر للملائكة بإدخالهم في أشد العذاب وهو عذاب جهنّم.
* * *
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ
فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً
مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ
تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ
(٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))
٤٧ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ ...) معناه واذكر يا محمد لأمّتك الوقت الذي يتخاصم فيه أهل
النار فيها ، فالله سبحانه يفسّر مخاصمتهم وجدالهم بقوله (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع تابع كخدم جمع خادم. (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي هل تدفعون عنّا أو تخفّفون عنّا قسطا من النّار والعذاب
الذي نحن فيه بتبعيّتنا لكم؟ ومن شأن الرؤساء أن يدفعوا عن المرؤوسين والأتباع ما
يتوجّه إليهم من الحوادث والرّزايا.
٤٨ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ...)
قال أمير المؤمنين
(ع) في خطبة له : الاستكبار هو ترك لمن أمروا بطاعته ، والترفّع على من ندبوا إلى
متابعته (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي لو كنّا قادرين على ذلك لكنّا ندفع عن أنفسنا ، وحيث
لسنا قادرين على ذلك فكيف ندفع العذاب عنكم؟ (إِنَّ اللهَ قَدْ
حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بذلك ، وبأن لا يتحمّل أحد عن أحد ، وإنّه يعاقب من أشرك
به لا محالة ولا معقّب لحكمه فيجازي كلّا بما يستحقّه. ثم عند هذا الجواب حصل
اليأس للأتباع من المتبوعين. فرجعوا جميعا إلى خزنة جهنّم كما أخبر سبحانه عن
حالهم ومقالهم :
٤٩ ـ (قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ
جَهَنَّمَ ...) أي أخذوا يستغيثون بخزنتها ويطلبون الدعاء منهم ويتوسّلون
بهم بقولهم (ادْعُوا رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ).
٥٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) قالوا هذا توبيخا وإلزاما (بِالْبَيِّناتِ) بالحجج والبراهين (قالُوا بَلى ، قالُوا
فَادْعُوا) أي نحن لا نقدر أن ندعوا ربكم ونشفع لكم عنده بعد أن أتمّ
عليكم الحجة بإرسال الرّسل وإنزال الكتب وإجراء المعجزات على أياديهم ، فأنتم
ادعوه. فهذا جواب يأس لهم ، ومع ذلك فهم يضجّون ويفزعون وينادون
ربّهم لكنه (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي
ضَلالٍ) أي في ضياع وعدم التفات. وجواب هذه الجملة إمّا مقول قول
خزنة جهنّم ، أو كلام الربّ تعالى. ثم إنه سبحانه يخبر عن نصرته لرسله والمؤمنين
بقوله :
٥١ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي ننصرهم بوجوه النصر الذي قد يكون بالحجة وقد يكون أيضا
بالغلبة في الحرب ، وذلك بحسب ما تقتضيه المصلحة والحكمة الالهيّة ، وقد يكون
بالألطاف والتأييد وتقوية القلب ، وقد يكون بإهلاك العدوّ. وكل هذا قد يكون
للأنبياء والمؤمنين من قبل الله ، وقد يكون النصر بالانتقام من أعدائهم كما نصر
يحيى بن زكريّا لمّا قتل ، فقد قتل به سبعون ألفا ، فهم لا محالة منصورون بأحد هذه
الوجوه (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي في يوم القيامة ، جمع شاهد وهم الملائكة والأنبياء
والمؤمنون يشهدون للرّسل بالتبليغ وعلى الكفّار بالتكذيب. وعن الصّادق عليهالسلام : ذلك والله في الرجعة. أما علمت أنّ أنبياء كثيرين لم
ينصروا في الدّنيا وقتلوا ، والأئمة عليهمالسلام من بعدهم قتلوا ولم ينصروا وذلك في الرّجعة.
٥٢ ـ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ ...) أي عذرهم لو اعتذروا لأنه باطل ، فهو غير مقنع والعذر غير
المقنع لا يقبل (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) البعد عن الرّحمة (وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) جهنّم. ثم إنه تعالى بعد ذكر النّصرة إجمالا بيّن نصرته
لموسى عليهالسلام وقومه فقال :
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً
وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (٥٦))
٥٣ و ٥٤ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ...) ما يهتدى به في الدّين من المعجزات والتوراة والهداية إلى
الدّين ، وفيها الشّرائع التي يحتاجون إليها كلّها والنبوّة الّتي هي أعظم المناصب
الإلهية (وَأَوْرَثْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي أورثنا من بعد موسى لبني إسرائيل الكتاب ، أي التّوراة
وفيها هداية ودلالة يعرفون بها معالم دينهم ، وهي (هُدىً وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأنهم الذين يتمكّنون من الانتفاع بها وبغيرها من الدّلائل
والبراهين فهي هادية ومذكّرة ، أو هي للهدى والتّذكير لذوي العقول الواعية.
٥٥ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) خاطب سبحانه نبيّه بالصبر والسلوى وبشّره بما وعده من
النصر فقال اصبر على أذى قومك فإن وعدنا لك بالنصرة والظفر على المشركين حقّ ثابت
لا ريب فيه ، فاعتبر بقصّة موسى وهي كافيتك للعبرة (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) وإن لم تكن مذنبا ، بل انقطاعا إلى الله سبحانه ، ولتستنّ
بك الأمّة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي سبّح متلبّسا بالثناء الجميل على ربّك دائما ، أو كناية
عن الصلوات الخمس ، فإن العشيّ هو المغرب والعشاء ، والإبكار هو الصّبح والظهران ،
أي صلّ تلك الصّلوات المفروضة الخمس. وهذا القول نقل
عن ابن عباس.
٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ
اللهِ ...) فلمّا ذكر سبحانه في أوّل السّورة حال المجادلين
والمكذّبين بآيات الله ووصل البعض بالبعض في النسق ، نبّه سبحانه في هذه الآية الى
الداعية التي حملتهم على المجادلة فقال : الذين يخاصمونك في أمر البعث والنبوّة
والقرآن بلا حجة ولا سلطان ، إنّما يحملهم على هذا الجدال الباطل الكبر الذي في
صدورهم. ومنشأ هذا الكبر هو التخيّلات الفاسدة التي تخطر ببالهم من أنّهم لو
سلّموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت أوامرك ونواهيك. وكبرهم الباطني وحسدهم
يمنعانهم عن ذلك ، ولذا يجحدون بآيات الله (بِغَيْرِ سُلْطانٍ
أَتاهُمْ) عامّ في كلّ مجادل مبطل وإن نزلت في مشركي مكة أو اليهود
على ما قيل ، وعلى تفصيل في المقام بالنسبة إليهم (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ) أي عظمة وتكبّر عن الحق والحقيقة (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) فهم ليسوا بالغي مرادهم ومقصدهم (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرورهم ومكائدهم (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) السامع لأقوالهم والناظر لأحوالهم وأفعالهم وما يخطر
ببالهم.
* * *
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا
الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ(٥٨)
إِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))
٥٧ ـ (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ...) ولمّا كان جدل المجادلين في آيات الله مشتملا على إنكار
البعث ، بل كان هذا أصل المجادلة ومدار المخاصمة مع أنهم كانوا مقرّين ومعترفين
بأن الله هو خالق السماوات والأرض ، ولذلك يردّ سبحانه عليهم ويجادلهم بالذي هو
أحسن وأقوى ويقول خلفهما للّذين يعترفون بأن الله خلقهما ، أكبر من خلق النّاس ،
لأن خلقهما ابتداء كان من غير أصل ومادّة ، وإعادة الإنسان تكون من أصل ومادّة
فالذي يقدر خلق شيء بلا مادّة هو على خلق ما له مادّة قادر بالأولى. وهذا برهان
جليّ على إفادة المطلوب ، لأنّ الاستدلال بالشيء على غيره على أقسام ثلاثة ، أحدها
: إنه قد يقال لمّا قدر على الأضعف فيقدر على الأقوى وهذا فاسد. وثانيها : أن يقال
لمّا قدر على الشيء قدر على مثله فهذا صحيح لما ثبت في المعقول من أنّ حكم الشيء
حكم مثله. وثالثها : أن يقال لمّا قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأضعف
الأنقص كان أولى. وهذا الاستدلال أتمّ وأكمل الأقسام الثلاثة. وبهذا استدل سبحانه
فيما نحن فيه في المقام. ومع هذا البرهان الجليّ الكامل قال الله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) أي مغمورون في الجهل والغيّ بحيث لا يتوجّهون إلى الأمور
الواضحة كالشمس في رابعة النهار من ناحية ذاتها والدّلائل عليها ولفرط غفلتهم
واتّباع أهوائهم أعرضوا عن التفكّر والتدبّر وإلّا فالأمور أهون من ذلك.
٥٨ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
...) ثم إنه تعالى بعد الجواب على مجادلتهم بالجدال المقرون
بالبرهان يبيّن أحوال المؤمنين والمشركين بضرب مثل فيقول : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى) ، الآية يعني الكافر الجاهل الغافل عن دلائل التوحيد لعدم
التدبّر فيها ، فهو لا يستوي مع المؤمن العاقل
العارف بالتوحيد
عن أدلتها والحجج الدالة عليها. فهما ليسا مساويين والفرق بينهما كالفرق بين
الأعمى والبصير لا يحتاج إلى بيان (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي لا يكون المحسن العامل بالأعمال الصّالحة مساويا للمسيء
(قَلِيلاً ما
تَتَذَكَّرُونَ) لفظة قليلا منصوبة بناء على أنها صفة لمفعول مطلق ، أي :
تتذكّرون تذكّرا قليلا. و (ما) زائدة للتّأكيد لجهة القلّة.
٥٩ ـ (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها ...) وبما أن الدنيا دار تكليف لا جزاء ، فلا بدّ من عالم آخر
حتّى يجزى المحسن بثواب عمله ، والمسيء يعاقب بأعماله السيّئة على مقتضى عدله جلّ
وعلا ، ولذا يقول سبحانه (إِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ) ، الآية أي تأتي بلا شكّ ولا شبهة لدلالة العقل والنقل على
وقوعها وإجماع جميع الرّسل على الوعد بها ، ومع وضوح مجيئها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدّقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به
وحصره في تقليد آبائهم وتقيّدهم بعدم النظر في الدلائل والبراهين وهذا هو المانع
الأقوى لعدم تصديقهم بأقوال رسلهم وكتبهم السماوية. ثم إنّه تعالى لترغيب العباد
في قبول الإيمان ولحضّهم على اتّباع الرسل قال فيما يلي :
* * *
(وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ
لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))
٦٠ ـ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ ...) أي ادعوني في جميع مقاصدكم وعند دفع البلايا والمحن وكشف
الأضرار حتّى أستجيب لكم لو كان في الاجابة مصلحة مقتضية لها ، وإلّا فلا تستجاب
الدعوة. بل ربما تكون فيها المفسدة والداعي لا يعرفها. ويمكن أن يحمل الدّعاء هنا
على العبادة والتوحيد ، يعني اعبدوني ووحّدوني أجزيكم ثواب أعمالكم ويؤيّد هذا
الاحتمال ظاهر قوله تعالى في ذيل الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي لا يعبدونني استكبارا وأنفة (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) يعني مهانين أذلّاء. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام في هذه الآية قال : هو الدّعاء ، وأفضل العبادة الدّعاء. وعنه
عليهالسلام ، أنّه سئل : أيّ العبادة أفضل؟ فقال : ما من شيء أفضل عند
الله عزوجل من أن يسأل ويطلب ما عنده ، وما من أحد أبغض إلى الله عزوجل ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده. ويستفاد من
الرّوايات أنّه يطلق على الدعاء عبادة كما هو صريح ما في الصّحيفة السّجاديّة بعد
ذكر هذه الشريفة (فسمّيت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعّدت على تركه دخول جهنّم
داخرين) وفي الاحتجاج عن الصّادق عليهالسلام أنّه سئل : أليس يقول الله أدعوني استجب لكم؟ وقد نرى
المضطر يدعوه ولا يجاب له والمظلوم يستنصر على عدوّه فلا ينصره. قال ويحك ما يدعوه
أحد إلّا استجاب له. أمّا الظالم فدعاؤه مردود إلى أن يتوب. وأمّا المحق فإذا دعاه
استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه ، أو ادّخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته
إليه وإن لم يكن
الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه ، أمسك عنه. والمؤمن العارف بالله ربّما
عزّ عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ.
٦١ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) أي لاستراحتكم فيه بأن خلقه باردا مظلما لتأديته إلى ضعف
المحركات أو هدوء الحواسّ (وَالنَّهارَ
مُبْصِراً) يبصر فيه ، وإسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة. ووجه
مناسبة هذه الآية مع ما سبق أنه تعالى بعد أمر العباد بالعبادة والدّعاء شرع في
بيان توحيده وتعداد نعمه لترغيب العباد في العبادة ورفع الحاجة إليه سبحانه لأنه
القادر على كلّ شيء وذو الجود والكرم على الخلائق أجمعين. ومن جملة نعمه وفضله
عليهم خلق اللّيل والنهار وجعل واحد منها محلّ راحة للأعضاء التّعبة من أشغال
اليوم حتى بالنسبة إلى القوى الظاهريّة والباطنيّة ، فإنها أيضا تبعا للأعضاء
مشتغلة بأشغالها المقرّرة لها ، فقهرا تكون تعبانة وكسلانة ، فإذا غشيها الليل
تصير مرتاحة وناشطة للاشتغال في يومها الآتي ، وجعل واحدا آخر سببا لإبصار الناس
للاشتغال بأمور معاشهم ومعادهم وذلك تقدير العزيز الحكيم فلتنبه العباد لهاتين
النعمتين العظيمتين يقول سبحانه (اللهُ الَّذِي) ، الآية ، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ) أي فضل عظيم لا يوازنه فضل (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فيا ليت كانوا لا يشكرون فقط بل يكفرون بآياته الدالة على
ذاته المقدّسة وعلى أحديّته ويجحدون نعمه جحدا يكشف عن غاية شقاوتهم وكمال خباثتهم
لأن عقل كل عاقل يحكم بأن جزاء الإحسان هو الإحسان بل ذوو الشعور يدركون هذا
المعنى كما يشاهد في الكلب العقور إذا يعطى لقمة خبز أو قطعة لحم فلا يؤذي الإنسان!
وهؤلاء المشركون أخبث وأنجس وأشقى من كلّ شقيّ وأدنى من كلّ دني. فإن قيل إن
الموافق لرعاية السياق أن يقال في صدر الآية (لتبصروا) كما قال (لِتَسْكُنُوا)؟
وأيضا : فما
الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أن النهار أشرف من الليل؟ فيقال إن الليل والنوم في
الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود كما أن الظلمة طبيعة عدميّة والنور
طبيعة وجوديّة والعدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وأما الجواب عن الإتيان بالاسم دون الفعل فقال بعض الأفاضل
: من فنّ علم النحو في كتاب دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من
دلالة الفعل عليه ، فهذا هو السبب في هذا المقام. ولمّا ذكر سبحانه بأن القيامة حق
وصدق ولا ينتفع العباد فيها إلّا بالطاعة لله تعالى فلذا أمر بالدّعاء لأنه أشرف
أنواع الطاعات عقلا ونقلا وكتابا وسنّة ، ولا بدّ أن يكون الداعي ذا معرفة بدلائل
معرفة الآيات الآفاقيّة والفلكيّة مثل وجود اللّيل والنهار اللّذين يدلّان على
ذاته ووجود الصّانع تعالى وتعاقبهما الذي يدلّ أيضا على الصّانع العليم القدير
وكمال تدبيره وحكمته. ولما بيّن سبحانه الدلائل المذكورة على وجوده وقدرته وسائر
أوصافه الكماليّة قال تعالى :
٦٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ ...) قال صاحب الكشّاف (ذلِكُمُ) أي المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة التي لا يشاركه فيها
أحد ، هو الله ربّكم خالق الأشياء جميعا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه جمل خبريّة مترادفة دالّة على أنّه الجامع لهذه
الأوصاف من الإلهيّة والرّبوبيّة والخالقيّة والوحدانيّة الأحديّة. وهذا تعريف لا
يتصوّر فوقه تعريف لذاته المقدّسة ولذا يقول (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تنصرفون وتعرضون عنه وعن عبادته مع وضوح الدّلائل
على ذاته وتوحيده واستحقاقه للعبادة دون غيره؟ والحاصل أن الحجّة تامّة على جميع
الخلق وليس لأحد عذر.
٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا ...) أي كما أنكم انصرفتم وأعرضتم عن دين الإسلام ، هكذا ينصرف
ويعرض كلّ من يجحد وينكر آيات الله ، أي أن رؤساءهم يصرفونهم عن الآيات ويردّونهم
إلى غير دين الحق. ثم
إنّه سبحانه بعد
ذلك يستدل بأمور خاصّة لذاته القدسيّة على ربوبيّته وألوهيّته وقدرته الكاملة
ويقول :
* * *
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ
(٦٦)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))
٦٤ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
قَراراً ...) أي مسكنا ومستقرّا
تسكنون فيها وهي
منزلكم أحياء وأمواتا إلى يوم لقاء الله (وَالسَّماءَ بِناءً) أي كالقبّة المضروبة على الأرض قائمة ثابتة. ومن مننه على
العباد أنه جعل السماء مرتفعة ولو جعلها رتقا مع الأرض لما كان يمكن الانتفاع في
ما بينهما ، بل لما كان للخلق أن يعيشوا على وجه الأرض (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لأنّ صورة بني آدم طبق صورة أبيهم وهي أحسن صورة الحيوانات
: قال ابن عباس خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده ويتناول بها ، وغيره يأكل بفيه
بادي البشرة ولذلك سمّي بشرا منتصب القامة متناسب الأعضاء متهيّئا لاكتساب
الصّنايع والكمالات. ولكون هذه الصّورة من بدائع عالم الكون وأعاجيبه قال تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وما قال ولن يقول في شيء من بدائع الخلقة مثل هذا التبريك
لذاته المقدّسة. ومن هذا نستكشف كشفا تامّا أن تلك الصّنعة أعظم وأعجب صنائعه
وأكمل مخلوقاته السماويّة والأرضيّة ، وقد شبعنا الكلام في هذا الإبداع سابقا ولا
نعيده (رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني تعيّن وتميّز أرزاقكم ممّا جعل للحيوانات الأخر ،
فرزقكم أنواع الفواكه اللذيذة ومن النباتات الطيّبة من حيث الطعم والريح ، ومن
الحبوب ذوات الخواصّ والآثار المفيدة (ذلِكُمُ) أي الخالق لهذه الأشياء والمنعوت بهذه النعوت الخاصّة (اللهُ رَبُّكُمْ) أي الجامع لصفات
الجلال والجمال والمتّصف بصفة الرّبوبيّة بالإضافة إليكم خاصّة ، ولا ربّ لكم سواه
وبالنسبة إلى جميع العوالم (فَتَبارَكَ اللهُ
رَبُّ الْعالَمِينَ) إنّه تعالى يقدّس نفسه بربوبيّته لجميع العوالم كما أنه
بارك وقدّس ذاته بخليقته البديعة بأجمعها.
٦٥ ـ (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي المتفرّد بحياته الذاتيّة لا إله إلّا هو بمعنى لا أحد
يساويه في ذاته وفي ألوهيّته (فَادْعُوهُ) يعني تفرّع على صفاته الخاصّة به المذكورة الّتي لا تليق
بغيره أن العبادة منحصرة به فلذا أمر عباده أن يدعوه (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) أي بشرط كونها خالصة من
الشّرك والرّياء
وهذا شرط قبولها وإذا وفّقوا لذلك فحينئذ يقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ولما كانت قريش بل الكفّار مطلقا بكلمة واحدة كثيرا ما
يرغبّون الرسول الأكرم في أن يدخل في ديدنهم ودينهم قال الله سبحانه وتعالى :
٦٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ...) أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين : أنا منهيّ عن عبادة
آلهتكم التي تعبدونها حال كونهم غير الله الذي هو خالق كلّ شيء. فأدّب المشركين
بألين بيان ليصرفهم عن عبادة الأوثان وبيّن أنّ وجه النّهي ما جاءه من البيّنات
كما قاله سبحانه (أَنْ أَعْبُدَ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي بعد مجيء البراهين الواضحة والدلائل السّاطعة على
حقّانيّة معبودي وديني من صفات القدرة والخلق والرزق ، والعقل يحكم بأن العبادة لا
تليق إلّا لمن كان موصوفا بهذه الصّفات ، ويستنكر كمال الاستنكار ويستقبح غاية
القبح أن يعبد أشرف المخلوقات أدنى المخلوقات وهي الجمادات ويجعله شريكا لمن هو
الواجد للصّفات المذكورة ، فأين التراب وربّ الأرباب؟ (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) أي أخلص له وانقاد لأمره الذي يملك تدبير الخلائق والعوالم
بحذافيرها. ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر ما سبق من الأدلة الدالة على التوحيد
وإبطال الشّرك ، بل أعاد ذكر الأدلة الأخر مبالغة وتأكيدا لما سبق وإتماما للحجّة
على الكفرة المتمرّدين على الحق والجحدة لنعمه فقال سبحانه :
٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي خلق أباكم آدم من تراب وأنتم سلالته وإليه تنتمون. هذا
وما بعده من المراتب والدرجات حجج ملازمة لذات البشر بحسب العادة النوعيّة ، وكل
عاقل ومتدبّر إذا تدبّر في خلقته بهذه الكيفيّة يعترف ويقرّ إذا لم يكن من أهل
الجحد والعناد بأن له خالقا قادرا يستحق العبادة ، وغيره ليس بشيء (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي أنشأ
من الأصل الذي كان
مخلوقا من التراب النطفة ، وهي الماء القليل من الرجل والمرأة يختلط في رحمها (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي قطعة من الدم شبيهة بالعلقة يتشكّل المنيّ بعد مضيّ
أربعين يوما بها (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ
طِفْلاً) ترك ذكر المراتب الأخر إلى أن ينفصل من بطن أمّه لأنه
تعالى ذكرها في الآيات الأخر ، أي أطفالا. والطفل يطلق على الواحد والجماعة ، قال
تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ
الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) أي كمال قوتكم. والجارّ متعلّق بمقدّر ، أي يبقيكم
لتبلغوا. وبلوغ الأشدّ هو منتهى سنّ الشّباب من الثلاثين إلى الأربعين ، وعلى هذا
القياس قوله تعالى (ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخاً) يعني من سنّ الشّباب يبقيكم إلى أن تصيروا شيوخا والشيخ
أحد معانيه الذي هو محلّ حاجتنا في المقام من استبان فيه الشيب وهو بياض الشّعر (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي قبل وصول الإنسان للمراتب الثلاث المذكورة بعد ولوج
الرّوح على سبيل مانعة الخلّو (وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُسَمًّى) متعلّق بفعل مقدّر أي يفعل ذلك ، أو يبقيكم لبلوغكم آجالكم
المعلومات عند بارئكم جلّ وعلا (وَلَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) أي تتعقلون تلك العوالم الماضية وهذه الانتقالات من عالم
إلى آخر ، وبتلك الحجج والعبر تستبصرون وتستبين لكم معرفة إلهكم وخالقكم.
٦٨ ـ (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ...) أي الذي أحياكم وخلقكم من تراب بالكيفيّة المزبورة هو الذي
يميتكم ويرجعكم إلى أصلكم ، فأوّلكم من تراب وآخركم إلى التراب ، كما قال تعالى (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها
نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) ، (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي فإذا أراده وحكم عليه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي يفعل ذلك بلا تجشم كلفة وبلا صوت وبلا احتياج إلى كلام
ونطق حتى بحرف ، ومن غير عدّة فهو بمنزلة أن يقال له كن فيكون فبابه من باب
التنزيل لا أنه بحسب الواقع لفظ يكون أو
كلام في البين
لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم في عالم الأمر بالتكوّن والمخاطبة في ذاك العالم لا
تكون بلفظ بل خطابه قصده ومقارنا لتلك الإرادة. والمراد أن الموجود يكون بلا فصل
زماني ، بل الإرادة والمراد مقترنان في الوجود تمام المقارنة. والتعبير بالفاء
التي تدلّ على التقدّم والتأخّر الزمانيّ من باب التفهيم والتفاهم لعامّة الناس
وتقريب المقصود إلى أفهامهم والمطالب الدّقيقة إلى أذهانهم ، وإلّا فلم يكن بين
إرادة الله ومراده في الإيجاد تقدّم ولا تأخر زماني. نعم التقدم والتأخّر الرّتبي
لا بدّ وأن نقول به حيث إنه ما لم يكن قصد لم يكن مقصود ، وبالجملة فاستدل سبحانه
بهذه الصفات على كمال القدرة ، وعبّر عن الإيجاد والإعدام ، وإن شئت قلت عن
الإحياء والإماتة بقوله : كن فيكون ، أي الانتقال من كونه ترابا إلى النطفة وإلى
كونه علقة ، وإلى العظام. وفي هذه الانتقالات على مقتضى الحكمة حصول تدريجي. وأمّا
تعلّق جوهر الرّوح به فذلك يحدث دفعة واحدة. ولا يخفى أن تلك المراتب من عالم
الخلق ولكن قضية تعلق الزمان من عالم الأمر فلعلّه لذلك عبر بقوله كن فيكون.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ
فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما
كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ
قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ
يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤)
ذلِكُمْ
بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))
٦٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُجادِلُونَ ...) ثم أن الكفّار مع كثرة الدلائل والبراهين الواضحة لمّا
كانوا في مقام المنازعة والمخاصمة ولم يتوقفوا عنها لذلك قام في صدد تهديدهم يقول
على سبيل التعجّب مخاطبا لرسوله صلىاللهعليهوآله : ألا ترى إلى هؤلاء المشركين المعاندين المخاصمين في
آياتنا بلا حجة ولا سلطان (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف يصرفون عن التّصديق بها مع كثرتها ووضوحها.
٧٠ إلى ٧٢ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ ...) أي بالقرآن أو المراد جنس الكتاب فيشمل جميع كتبه
السّماوية (وَبِما أَرْسَلْنا
بِهِ رُسُلَنا) إذا كان الكتاب هو القرآن فالمراد بالموصول هو الكتب
السّماوية الأخر ، وإن كان المراد هو الجنس فهو الوحي والشريعة ، يعني أن الكفّار
ما صدّقوا بالكتب والشرائع (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة عدم تصديقهم وسوء خاتمة أمرهم ووبال تكذيبهم قريبا
فيعرفون حينئذ أن ما دعوتهم إليه حق وما ذهبوا إليه وارتكبوه كان ضلالا وفسادا ،
فسيرون سوء مصيرهم (إِذِ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) كلمة (إِذِ) ظرف زمان يستفاد منها التسويف وبيان زمان كشف معلومهم
والمعلوم هو كون الأغلال في أعناقهم وسحبهم بالسّلاسل وهذا غاية الذّل والهوان
وإيراد الكلام بصورة الجملة الاسميّة الدالة على
ثبوت كون الأغلال
في الأعناق في الأزمنة الثلاثة لتيقّنه ، لأن الأمور المستقبلة المتيقّنة في قوّة
الماضي والحال كقوله سبحانه (وَالسَّلاسِلُ
يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي يجرّون في الماء الحار الذي قد انتهت حرارته في الشدّة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) من سجر التنّور إذا ملأه من الوقود. ويستفاد من هذا الكلام
أنّ بطونهم تملأ نارا في تلك الحالة إذ يحرقون في النار ويحتمل أن يكون المعنى أن
بطونهم تملأ من الوقود ثم يحترق الوقود بحيث تحترق جميع أعضائهم في الجحيم من شدة
الحرارة المكانيّة والجوفيّة.
٧٣ و ٧٤ ـ (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ ...) أي يسأل خزنة جهنّم أو غيرهم من الملائكة أهل الشّرك
والعناد : أين الذين كنتم تعبدونهم من دونه تعالى؟ وهذا سؤال توبيخ وتوهين فيجيبون
بما حكى الله تعالى (قالُوا ضَلُّوا
عَنَّا) أي غابوا عنّا بحيث لم نجدهم وكنا نزعم أنهم ينفعوننا
ويدفعون عنّا الضّرر ، واليوم ضاعوا عنّا وهلكوا ثم يستدركون بقولهم : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ
شَيْئاً) ويفهم أن هذا الاستدراك للاسترحام والاستعطاف. والحاصل من
الكريمة بعد سؤال المشركين عن آلهتهم والجواب عنهم أن الآلهة ضلّوا عنّا فلم نجد
ما كنّا نتوقع منهم ، وقالوا ثانيا : بل لم نكن نعبد في الدنيا شيئا نستفيد وننتفع
اليوم بعبادته كما كنّا في الدنيا غير مستفيدين ولا منتفعين بهم وبعبادتهم. بل ليس
ببعيد أن يكون استدراكهم اعترافا بأنّا في الدنيا كنا عالمين بأن عبادتنا للأصنام
كانت لا تنفعنا لأنّها جمادات وليست بشيء يعتنى به ، لكن العصبيّة الجاهلية دعتنا
إلى هذا فأعرضنا عن عبادة ربّنا وخالقنا إلى عبادة ما ليس بشيء قطّ. وفي القمّي عن
الباقر عليهالسلام في قوله تعالى (أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين إمامكم الذي اتّخذتموه دون الإمام الذي جعله الله
للناس إماما؟ وفي البصائر عنه عليهالسلام ، قال : كنت خلف أبي وهو على بغلته ، فنفرت بغلته ، فإذا
هو بشيخ في عنقه سلسلة ورجل
يتبعه ، فقال : يا
علىّ بن الحسين اسقني. فقال الرّجل لا تسقه لا سقاه الله. وكان الشيخ معاوية أسكنه
الله الهاوية (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ الْكافِرِينَ) أي كما أنه سبحانه أبطل ما كان مطمع نظر كفرة مكة من
انتفاعهم بعبادتهم لأصنامهم كذلك يفعل بجميع أصناف الكفار الذين يترقّبون النفع
بأعمالهم من العبادة للأصنام وغيرها ممّا هو دونه تعالى.
٧٥ ـ (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ ...) أي هذا العذاب في هذا اليوم جازاكم الله تعالى به بسبب
أنكم كنتم تفرحون (فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِ) يعني بفرحكم في الدّنيا بأمر لم يكن حقّا ، من عبادتكم
للأوثان ، الى تكذيبكم بالرّسل وبما جاءكم من الحجج والبيّنات والكتب السماويّة
المحتوية للأحكام الإلهية وغيرها مما كنتم تحتاجون إليه. وهذا الخطاب من الملائكة
للكفرة على سبيل التوبيخ والتّوهين لهم (وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ) عطف على جملة (بِما كُنْتُمْ
تَفْرَحُونَ) أي هذا العقاب لنشاطكم حينما تقع المكاره والآلام على
الأنبياء والرّسل عليهمالسلام فكنتم تبطرون من غير حق. والفرق بين الفرح والمرح ان الفرح
قد يكون بحقّ فيمدح عليه ، لكن المرح لا يكون إلّا باطلا ، أي في الأمور الباطلة
وفي اللهو.
٧٦ ـ (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ...) وهي سبعة أبواب ، فادخلوها لتستقرّوا (خالِدِينَ فِيها) فهي مقدّرة للخلود والتأبيد فيها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق ، وبئس مقامهم جهنّم. وإنما جعل لها أبواب كما جعل
لها دركات تشبيها لها بالدنيا وطبقات بنائها ، فإن في خلق الطبقات أهوالا تكون
أعظم في الزّجر كما في اختلاف درجات السّجون كذلك. وانّما أطلق عليه اسم الفعل «بئس»
مع أنه بالنسبة إلى أهله كان حسنا لأنّ الطبع يتنفّر عنه كما يتنفّر العقل عن
القبيح ، فمن هذه الحيثيّة يحسن إطلاق اسم بئس عليه.
* * *
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)
وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ (٧٨))
٧٧ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله بالصّبر على أذى قومه والثبات على الحق وبشّره بقوله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده بإهلاك الكفار وتعذيبهم وأنه ثابت لا محالة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) لفظ (ما) زائدة لتأكيد معنى الشرط. يعني : فإننا نريك بعض
عذابهم الموعود في حياتك من القتل والأسر. وجواب الشرط محذوف أي : فذاك جزاؤهم
العاجل. وإنما قال (بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) لأن المعجّل من عذابهم هو بعض ما يستحقّون كما أن القتل
والأسر وقع في بدر الكبرى في حياته صلىاللهعليهوآله (أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا
يُرْجَعُونَ) فنجازيهم على أعمالهم بما يستحقونه ثمّة.
٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ ...) نقل أن كفّار قريش كانوا ، جدالا وعنادا ، يقترحون على
النبيّ صلىاللهعليهوآله آيات كثيرة كإجراء العيون ، وإيجاد البساتين مع أنواع
الفواكه فيها ، والصعود إلى السماء في حضورهم ، وكلها بمشهدهم كما سبق ذكرها في
سورة بني إسرائيل ، فأنزل الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) ، الآية وهذه الشريفة نزلت لتسلية النبيّ (ص) واجمالها أن
الرّسل الذين أرسلناهم قبلك منهم من تلونا عليك ذكره ومنهم
من لم نتل عليك
ذكره كما قال سبحانه (مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) واختلفت الأخبار في عدد الأنبياء ، ففي الخصال عنهم عليهمالسلام أنّ عددهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وفي بعض الروايات
أن عددهم ثمانية آلاف نبيّ ، أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من غيرهم ،
والمذكورة قصصهم أفراد قليلون ، والمشهور من عددهم عليهمالسلام هو ما في الخصال (وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المعجزات مواهب وعطايا قسّمها الله بينهم على ما اقتضت
الحكمة والمصلحة بحسب الأزمان والأعصار ، وعلى مقتضى شؤون الرّسل ومراتبهم كما
قلنا سابقا من أن كلّ عصر يقتضي نبيّا ومعجزة مناسبة لذلك الزّمان ولذاك النبيّ ،
ولا اختيار للرّسل في اختيار معجزة دون أخرى ولا حق لهم في إيثار بعض على الآخر ،
أو الإتيان بالمقترح بها. فلا جرم ليس للناس دخل في إيثار شخص للنبوّة دون شخص ولا
في اختيار معجزة واقتراحها على النبيّ ثم قال (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ) بالعذاب عاجلا أو آجلا (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي حكم بالعدل بين المحق والمبطل بإنجاء الأوّل وتعذيب
الثاني. وهذا وعيد وردّ عقيب اقتراحهم الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها ، ولذا يقول
سبحانه (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ) أي المعاندون باقتراح الآيات. ثم إنّه تعالى لإلزام قريش
وإتمام السلطان عليهم شرع في تعداد نعمه العظيمة عليهم ، فإن المنعم بنعمة يعدّ
محسنا ، وجزاء إحسان المنعم هو شكر نعمه من حيث وصف منعميّته ، ومن حيث وصف
محسنيّته هو الإحسان إليه ، ولا بدّ من أن يكون الإحسان إلى كلّ محسن له بحسب ما
يليق بشأنه فالإحسان إلى الملك لا بدّ أن يكون مناسبا لمقام الملوكيّة كجوهرة
عديمة النظير ، وفي غاية النّدرة مثلا ، وإلى الوزير كتقديم قرية أو قصر جميل في
غاية النضارة والحسن ، إلى أن ينتهي الأمر إلى التاجر والكاسب وهذا من مخلوق محتاج
إلى مثله محتاج آخر ، وأمّا منه إلى الخالق الغنيّ المطلق الذي لا يتعقّل في ساحته
وصقع ذاته احتياج أبدا فالإحسان
إليه هو الخضوع له
والامتثال لأوامره ونواهيه ، والتعبّد بتوحيده جلّ وعلا. وبهذا البيان ذكر النعم
موجب لإتمام الحجة وإلزام الخصم الجاحد المعاند الكافر لنعمه تعالى ومن نعمه
سبحانه ما ذكر في الشريفة التالية :
* * *
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))
٧٩ ـ (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَنْعامَ ...) جمع النّعم أي الإبل ، ويطلق على البقر والغنم والخيل
والبغال لأن المراد بها هنا مطلق ذوات القوائم الأربع بقرينة المقام حيث إنه سبحانه
في مقام بيان نعمه من هذا الجنس من دون فرق بين فرد وفرد ، لأن الأفراد جميعها من
نعمه سبحانه ، فقد خلق لكم هذه الحيوانات المباركة (لِتَرْكَبُوا مِنْها
وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإن منها ما يؤكل كالغنم ، وإنّ منها ما يركب كالخيل
والبغال والحمير ، وإنّ منها ما يركب ويؤكل كالإبل والبقر.
٨٠ ـ (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ...) أي منافع أخرى غير الأكل والركوب كالألبان والجلود
والأوبار والشعور (وَلِتَبْلُغُوا
عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) كالتجارة في البلاد المتقاربة والمتباعدة والزيارة وحج بيت
الله وغير ذلك من
الأمور الدنيويّة
والدينية (وَعَلَيْها) أي على ذوات القوائم كالإبل التي يعبّر عنها بالسّفن
البريّة (وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) أي السّفن البحريّة تركبون مع ما كان معكم من الأحمال
والأثقال. فالأنعام من أعظم النعم الإلهيّة ومن أحوج الأشياء كانت ، ولا سيما في الأزمنة
القديمة ، حيث إن الناس كانوا يحملون أثقالهم على ظهورها إلى البلاد البعيدة التي
لم يكونوا بالغيها إلّا بشقّ الأنفس.
٨١ ـ (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ
اللهِ تُنْكِرُونَ ...) أي هو سبحانه يعرّفكم آياته ودلائل قدرته وتوحيده ورحمته ،
فأيّ آيات الله تنكرون بعد وضوحها بحيث لا ينكرها ذو ادراك ولا ذو شعور ، ولمّا
كان المذكّر والمؤنّث فرقهما في أسماء الأجناس في الاستعمال قليل ، فما أتى بلفظة (أية)
مكان «أي». ثم إنّه تعالى يهدّد أهل العناد والإلحاد والشرك والنفاق بقوله :
* * *
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي
قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))
٨٢ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي أفلم يسيروا في الأرض حتى ينظروا إلى بلاد عاد وثمود
حين تجارتهم إلى اليمن والشام فيعتبروا منهم كيف فعلنا بهم وبمساكنهم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية التي أهلكناها ، وهم قد (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا وعدّة (وَأَشَدَّ قُوَّةً
وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) من قصور مشيّدة ومصانع عالية وحصون مرتفعة. وقيل إن المراد
بأشدّيّة آثارهم علائم أقدامهم في الأرض حيث تدلنا على كبر أجرام أجسامهم ومع ذلك
كلّه لمّا كذّبوا الرّسل وقتلوهم بغير حق وأنكروا الآيات استأصلهم الله تعالى
بالعذاب المهلك وأفناهم دون آثار مساكنهم ومنازلهم ، فقد بقيت للاعتبار وما أفنيت (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ) من جمع الأموال والجنود والأبنية فإنها جميعا صارت معرضا
للهلاك والفناء.
٨٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ ...) بيّن سبحانه أن أولئك الكفّار لما جاءتهم رسلهم الذين
أرسلهم الله تعالى إليهم ، ونسبة الرّسل وإضافتهم إليهم يعني أنهم منهم كما في
قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) أي من جنسهم عربيّا أمّيا لأن العرب نوعا كانوا لا يقرءون
ولا يكتبون. والأميّون هم الأعراب. فالرّسل المبعوثون إليهم كانوا مثلهم في
الأميّة ومن أهل بلادهم أو من عشيرتهم أو أقاربهم ، فبهذا الاعتبار أضيفوا إليهم.
والحاصل أنهم حين مجيء الرّسل (فَرِحُوا بِما
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي بما زعموه علما من شبههم الباطلة في نفي البعث وإنكار
الصّانع وتكذيب الرّسل والكتب السماويّة ، وفرحوا بالشّرك الذي كانوا عليه تقليدا
لآبائهم الذين كانوا من قبلهم في ضلال مبين بإشراكهم ، وأعجبوا بما عندهم وظنّوا
أنه علم وكان جهلا محضا مركّبا. والمراد بالفرح
شدّة الإعجاب بما
كان في أنفسهم فكانوا يدفعون بجهلهم المركّب علوم الأنبياء ويزاحمونهم في
تبليغاتهم من قبل الله سبحانه. ويحتمل أن المراد بعلومهم علوم الفلاسفة في تلك
الأعصار ، فإن تلك العلوم كانت رائجة وكان الفلاسفة إذا سمعوا بوحي من الله عن أحد
أنبيائه صغّروه. وعن سقراط المعروف أنه لمّا سمع بمجيء بعض الأنبياء قيل له ، ولعل
القائل بعض تلامذته ، لو هاجرت إليه ، فقال نحن قوم مهديّون مستغنون عنه وهم
مبعوثون إلى ضعفاء العقول والأديان. وفي رواية أنّ النبيّ المبعوث إلى أهل زمان
سقراط كان موسى عليهالسلام. وبالجملة كانوا يستحقرون علم الأنبياء ويستهزئون به (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم وأحاط بهم العذاب جزاء لاستهزائهم وسخريتهم
بالرّسل وعلومهم.
٨٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا ...) أي لمّا شاهدوا شدّة عذابنا قالوا صدّقنا (بِاللهِ وَحْدَهُ) وآمنّا بأنه لا إله إلّا هو (وَكَفَرْنا بِما
كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي مشركين بالله بعبادتنا للأصنام.
٨٥ ـ (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ
...) لأن الإيمان الاضطراريّ والإلجائيّ لا يقبل وايمانهم حدث
وأعلنوه حين صاروا ملجئين إليه كما قال تعالى : إنهم آمنوا (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي ما دام لم يروا العذاب ما آمنوا ، ولا كانوا يؤمنون إذا
لم يشاهدوا العذاب الشديد (سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي سنّ الله ذلك سنّة جارية ماضية في الأمم ، فلن يبدّل
عادته المطّردة في كلّ الأمم بأن الإيمان عند البأس لا يقبل (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) كلمة (هُنالِكَ) اسم مكان وقد أستعير للزمان أي وقت رؤيتهم العذاب. وفي
العيون عن الرّضا عليهالسلام أنّه سئل : لأيّ علّة أغرق الله تعالى فرعون وقد آمن به
وأقرّ بتوحيده؟ قال لأنّه آمن عند رؤية البأس ، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول
، ذلك حكم الله
تعالى ذكره في
السّلف والخلف. قال الله عزوجل (لَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا) إلخ ... وفي الكافي قدم إلى المتوكّل رجل نصرانيّ فجر
بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم. فقيل : قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقيل
: يضرب ثلاثة حدود ، وقيل غير ذلك. فأرسل المتوكّل إلى الهاديعليهالسلام وسأله عن ذلك ، فكتب عليهالسلام : يضرب حتى يموت. فأنكروا ذلك وقالوا هذا شيء لم ينطق به
كتاب ولم تجيء به سنّة ، فسألوه ثانيا البيان ، فكتب هاتين الآيتين بعد البسملة ،
فأمر به المتوكل فضرب حتى مات.
* * *
سورة فصّلت أو السجدة
مكية وآياتها ٥٤
نزلت بعد غافر.
* * *
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(٣)
بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ
بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥)
قُلْ
إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧))
١ ـ (حم ...) قد قلنا ما هو المختار في معنى هذا وأمثاله فلا نعيده. وإن
كان مبتدأ فخبره : تنزيل من الرّحمان الرّحيم ، وإن كان عدد حروف كما
قيل في تفسيره ،
فتنزيل مبتدأ خبره كتاب. وعلى الأول هو بدل منه أو خبر بعد خبر.
٢ ـ (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
...) خبر مبتدأ محذوف أي : هذا تنزيل ، الآية. ولعلّ هذا
الاحتمال مقدّم على ما ذكر آنفا. وكتاب أبدل منه.
٣ و ٤ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ...) أي ميّزت وبينت أحكاما وقصصا ومواعظ. وقال القمي : أي بيّن
حلالها وحرامها وأحكامها وسننها (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي حال كونه قرآنا ، فنصبه على كونه حالا من الكتاب أو
منصوب على المدح ، أي على تقدير : أمدح قرآنا ، وعربيّا صفة للقرآن. وسمّي قرآنا
لأنه قد جمع فيه علوم الأوّلين والآخرين ، وقرن فيه ما يدل على ذاته تعالى وتوحيده
وسائر صفاته ، وفيه أحوال البشر من آدم ومن دونه إلى انقراضه وأحوال سائر
الحيوانات وأحوال النباتات والجمادات ، وبالجملة فيه أحوال جميع المكوّنات من
الدّرة إلى الذّرة وأسرارها ، وقد نزل بأحسن اللغات من جهات ولو وفّقنا الله
لذكرنا بعضها بحوله تعالى في محلّه (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي من العرب أو المراد منهم هم العلماء وقد أنزلناه (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشّرا للمطيعين بالثواب ومنذرا للعاصين بالعقاب واطلاق
اسم الفاعل على القرآن مع أنه فيه البشارة والإنذار لا أنه المبشر والمنذر بل
المبشر والمنذر هو المنزّل عليه صلىاللهعليهوآله ، هو ظرف للوصفين ، كما أن فيه غيرهما من القصص والأخبار
والمواعظ ونحوها ، لكن لا يطلق عليه أنه واعظ أو مخبر أو قاص ، إلّا بالعناية
والمجاز لفائدة كما فيما نحن فيه حيث إنّه أطلق عليه الاسم للتّنبيه على أنه كامل
في صفة البشارة والإنذار كما يقال شعر شاعر وكلام قائل (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن التدبّر فيه والتفكّر في كشف أسراره ورموزه وإمعان
النظر في معانيه (فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) أي لا يستمعون إليه حينما قرأ القرآن عليهم بل كانوا يضعون
أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا كلامه صلوات الله عليه وآله
وإذا سمعوه بغتة
ما كانوا يتأمّلون ولا يفكرون فيه.
٥ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ...) أي في أغشية وأستار كأنّ القلوب ملفوفة بها فلا يؤثر فيها
القرآن ولا كلمات النبيّ صلوات الله عليه وآله وقلوبنا مغشاة لا تعي شيئا (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) هذا اعتراف منهم بأنهم لا يتأثّرون بالقرآن ولا يستفيدون
منه ولا من غيره من الآيات ودلائل التوحيد (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم ، وأصله الثقل (وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ستار ومانع يمنعنا عن التواصل والتقارن. وقال القمّي :
أي تدعونا الى ما لا نفهمه ولا نعقله. قيل هذه العناوين كنايات وإشارات عن امتناع
مواصلتنا وموافقتنا معك (فَاعْمَلْ) على دينك (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا ولا نتّبعك أبدا فلا تتّبعنا كذلك.
٦ و ٧ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
...) أي من ولد آدم ، وإنّما خصّني الله تعالى بنبوّته وميّزني
عنكم بأن (يُوحى إِلَيَّ
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ولو لا الوحي ما دعوتكم إلى شيء ولا أقدر على أن أحملكم
على الإيمان قهرا ، فإن شرّفكم الله تعالى بالتوفيق والهداية لقبول التّوحيد
والرسالة تنالكم السّعادة في الدارين وإن رددتموه وما قبلتم التوحيد ونبوّتي
يلحقكم الخسران والخذلان (فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي كونوا على الجادّة المستقيمة المعتدلة متوجّهين إليه
بالتوحيد والإخلاص في عبادتكم إيّاه غير معرضين عن الحقّ والحقيقة بالإشراك أو
الإنكار مطلقا عتوّا واستكبارا ، بل استغفروه من الشّرك والجحود والعناد ومما أنتم
عليه الآن وكنتم عليه في سوابقكم (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ) تهديد لهم بالويل وبنار جهنّم. وقد خسر (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطون المفروضة. وفيه دلالة على أن الكفّار مكلّفون
بالفروع ومخاطبون بالشّرائع ، وهذا هو الظاهر من الروايات وحكم العقل. أما
الرّوايات فلا بدّ من الرجوع إليها ، وأما حكم العقل فقد فصّل في محلّة أي في علم
الكلام ومن أراد التفصيل فليراجعه ولو وفّقنا
في مورد آخر نتعرض
إجمالا لذلك التفصيل إن شاء الله تعالى. ولمّا كان الإتيان بالوظائف الشرعيّة
المقرّرة الراجعة إلى الماديّات تكليفا شاقّا على نفوس نوع البشر ولا سيّما على
غير المؤمنين منهم ، فلذا اختصّ سبحانه عدم إتيانهم الزكاة بالذكر ، وإلّا كانت
الصّلاة من حيث الوظائف المقرّرة الشرعيّة أهمّها وأعظمها عنده سبحانه ، والدليل
على ما قلناه في وجه التخصيص أنّنا نرى من المؤمنين من يصلّي ويصوم ويحجّ ، لكنّه
في المقرّرات الشرعيّة الرّاجعة إلى الأمور الماديّة غير عامل بشيء منها أو يعمل
ببعض دون بعض ، فكيف بمن لا يؤمن بالله ولا برسوله ولا بالشريعة؟ ويمكن أن يكون
وجه الاختصاص بالزكاة دون الصلاة والصّوم وسائر العبادات لأن منعهم للزكاة يكشف عن
صفة الشّح والحرص ، والله تعالى يريد أن يعرّفهم بأنّهم من المتّصفين بتلك الصفة
الدنيئة الخسيسة الرذيلة ، فلذا وصفهم بهذه الصفة أي منعهم للزكاة الذي يكشف عن
بخلهم وعدم إشفاقهم على بني نوعهم مضافا إلى أنّ ذمّهم بذلك موجب لرغبة المؤمنين
في ألّا يشاركوا المشركين كيلا يشتركوا معهم في الذم ويحسبوا من المانعين للزكاة وفي
الرواية : البخيل بعيد من الله وبعيد عن الناس وبعيد عن الجنّة ، والجواد قريب من
الله وقريب الى النّاس وقريب إلى الجنة. وقد قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : الزكاة قنطرة الإسلام ، من عبرها نجا. وفي بعض الرّوايات
: إنّ ليوم القيامة مواقف أشدّها بعد موقف الصلاة هو موقف الزكاة ، ولذا جعلت
الزكاة قرينة الصلاة في كتابه العزيز عزّ وعلا. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ
هُمْ كافِرُونَ) تكرار الضّمير لتأكيد كفر المشركين بالخصوص بعالم البعث
والحساب. وظاهر الشريفة يدل على أنّ الكفّار مكلّفون فروعا وأصولا خلافا للبعض من
الأعاظم وتبعا لظاهر بعض الرّوايات. ثم إنه سبحانه وتعالى بعد وعيد الكفّار ذكر
وعد المؤمنين في الآيات التالية :
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ
(٩)
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)
فَقَضاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(١٢))
٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي الذين صدّقوا بالله وبرسوله وبالبعث والنشور والثواب
والعقاب ، وفعلوا الأعمال المرضية لله ولرسوله من الطّاعات والعبادات المفروضة
والمقرّرة من الأمور الراجعة إلى الماليّات وغيرها (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ، بل متّصل دائما ، من مننت الجبل أي قطعته.
أو معناه لا أذى فيه بأن يمنّ فيه عليهم من المنّ الذي يكدّر الصّنيعة. ثم إنه
تعالى في مقام توبيخهم يقول على وجه الإنكار لهم والتعجّب منهم.
٩ ـ (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ ...) أي كيف تجحدون وتكفرون بنعمة من (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فهو الذي بهذه القدرة الكاملة وهل يعقل أن تكون الأحجار
المنحوتة أو الأخشاب المصوّرة التي لا شعور لها ولا إدراك آلهة؟ وكيف تدّعون
البشريّة (وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً)
أي شركاء وأشباها
من تلك الأحجار والأخشاب التي تنحتونها وتصنعونها صورا وتماثيل فتعبدونها في قبال
خالقكم وخالق السماوات والأرضين؟ فإن هذا العمل خارج عن رتبة الإنسانية ومقام
البشرية وشؤونها حيث كرّمكم الله تعالى وشرّفكم بقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) فإن الإنسان المكرّم لا يعرض عن عبادة ربّه إلى عبادة
الجماد الذي هو أخسّ المخلوقات وأدناها ، وهذا عمل لا يعمل به ذو شعور فكيف بذي
عقل وإدراك يميّز بين الحسن والقبح والحق والباطل؟ اللهم إلّا أن تشمله ضلالة الله
ومن يضلل الله فلا هادي له حتّى يخرجه عن تيه الضلالة إلى ساحة الهداية. والمراد
باليومين اللّذين في قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ) هو حدّهما الزّماني من أيّام الدنيا وهذا التحديد للتّنبيه
على كمال قدرته حيث إن إيجاد هذا الخلق العظيم وهذه الأرض الوسيعة في تلك المدّة
القليلة من أعجب العجاب ، ويدلّنا على قدرة لا نتصورها لكمال عظمتها فهي خارجة عن
صقع فكرنا وإدراكنا. فمن هذه قدرته وعظمته هو الذي يستحق العبادة وينبغي أن يعبد
لا أدنى المخلوقات وأخسّها وأين التراب من ربّ الأرباب؟ فيا أيّها الإنسان لم لا
تنتبه من نومتك ولا تتفكّر في أمرك فعمّا قريب ترد على ربّك شئت أم ما شئت (ذلِكَ) أي الذي بهذه القدرة والقوّة (رَبُّ الْعالَمِينَ) هو خالق الكائنات ومالك التصرّف فيها فينبغي أن يعبد وحده
حيث لا شريك له في الإلهيّة ولا ندّ له في الرّبوبيّة. وإن قيل من استدلّ على شيء
لإثبات شيء فلا بدّ أن يكون المستدل به مسلما ثبوته عند الخصم حتى يصحّ الاستدلال
به ، وفيما نحن فيه كونه تعالى خالقا للأرض في يومين وهو المستدل به أمر غير ثابت
لأن إثباته بالعقل المحض لا يمكن لأنه أمر ليس للعقل طريق إليه وإنّما طريقه
السّمع ووحي الأنبياء وهم كانوا منازعين لهم في الوحي والنبوّة ، فكيف يستدل بكونه
خالقا للأرض في يومين على إثبات وجوده تعالى فضلا عن كونه رب العالمين؟؟ والجواب
أنّ كفّار مكّة كانوا معتقدين بأهل الكتاب في كونهم أصحاب العلوم
والحقائق ، وكانوا
قد سمعوا منهم هذه المعاني ولذا اعتقدوا أن ما أخبر النبيّ به حقّ ثابت وهم لا
يشكّون فيه. فهذا الاستدلال حسن والإشكال غير وارد. ولعلّه لهذا استدل الله به
تعالى على لسان نبيّه صلىاللهعليهوآله لأنهم مستقرّ في أذهانهم وهم لا يناقشون فيه.
١٠ ـ (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
...) أي خلق في الأرض جبالا ثابتات راسخات ، من الرّسوّ وهو
الرّسوخ. ومنه رسخ الوتد في الأرض والحبر في القرطاس. فالتّعبير عن الجبال
بالرّواسي للتّنبيه على تلك النكتة الدّقيقة ، أي كما أن الأوتاد لها رسوخ وتمكّن
في الأرض فكذلك الجبال لها عروق تحت الأرض وهي أصولها وفروعها فوق الأرض. ولذا
يقال إن الجبال أوتاد الأرض خلقها الله عليها لسكونها ، ولو لا الجبال لما استقرّت
الأرض ولما كان الناس مرتاحين فيها وعليها. وجعلها فوق الأرض لتكون بادية للناس
ليعتبروا بها ويتوصّلوا إلى منافعها ولو لم تكن فوق الأرض أي ظاهرة فيها لما ترتّب
عليها ما ذكر وغيره من المصالح والحكم المترتبة على الظهور و (بارَكَ فِيها) أي أكثر خيرها بالمياه والمعادن والزرع والضّرع (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي النّاشئة منها للناس والبهائم. هل الضّمير الذي في (بارَكَ فِيها) وفي (قَدَّرَ فِيها) وفي (أَقْواتَها) هذه الضّمائر الثلاثة راجعة إلى الرّواسي أو إلى الأرض؟
والظاهر هو الأخير ويحتمل التّبعيض بمناسبة كلّ واحد منهما ، وتقدير الأقوات هو
إيجادها بإنزال المطر وإخراج الحبوب والثمار والخضار من الأرض ، أو تقسيمها
وتعيينها بحسب البلاد أو الأنواع أو الأفراد ، فإن كل فرد إذا خلص قوته ورزقه
المعيّن له يموت ، وكلّ من الأمور المذكورة يحتمل بطور مانعة الخلوّ (في أربعة
أيّام) أي غير الأوّلين أو معهما ، ويظهر من بعض الرّوايات أن الأربعة غير
الأوّلين. ونذكر الرواية تبّركا بها ونجعلك أيّها القارئ حاكما. قال القمّي : معنى
يومين أي وقتين : ابتداء الخلق وانقضائه قال وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها أي لا
تزول ، وتبقى في
أربعة أيّام سواء ، يعني في أربعة أوقات ، وهي التي يخرج الله عزوجل فيها أقوات العالم من الناس والبهائم والطير وحشرات الأرض
وما في البرّ والبحر من الخلق ، من الثمار والنّبات والشجر وما يكون فيها معاش الحيوان
كلّه وهو الرّبيع ، والصّيف ، والخريف ، والشتاء ، ففي الشتاء يرسل الله الرياح
والأمطار والأنداء والطّلول من السّماء فيلقّح الأرض والشجر وهو وقت بارد. ثم يجيء
بعد الربيع وهو وقت معتدل حارّ وبارد ، فيخرج الثمر من الشجر وتعطي الأرض نباتها
فيكون أخضر ضعيفا ثم يجيء وقت الصّيف وهو حار فتنضج الثّمار وتصلب الحبوب التي هي
أقوات العالم وجميع الحيوان. ثم يجيء بعد وقت الخريف فيطيّبه ويبرّده ولو كان
الوقت كلّه شيئا واحدا لم يخرج النبات من الأرض لأنّه لو كان الوقت كلّه ربيعا لم
تنضج الثّمار ولم تبلغ ، ولو كان كلّه صيفا لاحترق كلّ شيء في الأرض ولم يكن
للحيوان معاش ولا قوت ولو كان الوقت كلّه خريفا ولم يتقدمه شيء من هذه الأوقات لم
يكن شيء يتقوّته العالم فجعل الله هذه الأقوات في أربعة أوقات في الشتاء والخريف
والربيع والصيف ، وقام به العالم واستوى وبقي. وسمّى الله هذه الأوقات أيّاما
للسّائلين يعني المحتاجين ، لأنّ كلّ محتاج سائل. وفي العالم من خلق الله من لا
يسأل ولا يقدر عليه من الحيوان كثير فهم سائلون يعني بلسان الحال وان لم يسألوا
بلسان مقالتهم (سَواءً) أي الأربعة متساوية ليس لواحد على الآخر زيادة ولا منه
نقيصة. ونصبه على الحال من أربعة أيام ، و (لِلسَّائِلِينَ) هذا الحصر جواب لجماعة يسألونك عن ان خلق الأرض وتقدير ما
فيه في أيّ مقدار من الزمان؟ ويحتمل أن يتعلّق الجارّ ومجروره (وَقَدَّرَ) أي تقديره الأقوات للذين يسألون أرزاقهم. وروى عكرمة عن
ابن عباس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : إنّ الله سبحانه خلق الأرض يوم الأحد والاثنين
، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق الأشجار والمياه يوم الأربعاء ، فتلك الأيام
الأربعة. وخلق
السّماوات في يوم
الخميس ، والشمس والقمر والنّجوم والملائكة وآدم في يوم الجمعة. واختلف في وجه
إيجاد الأشياء تدريجا مع قدرته تعالى أن يوجدها آنا ما قيل وجه ذلك أنّه لتعليم
البشر ألّا يستعجلوا في الأمور ، ويؤيده قولهم (التأنّي من الرّحمان ، والعجلة من
الشيطان) أو ليعلم أن صدور هذه الأمور كان عن فاعل مختار عالم بالمصالح والحكم حيث
إن الصّدور لو كان عن فاعل موجب لكان دفعيّا لا تدريجيّا. هذا ويمكن أن يقال إن
الخلق التدريجي أقرب إلى سمع القبول لنوع النشر لأنّ معارف الخلق قاصرة وعقولهم
ناقصة والقرآن نزل على مقتضى (كلم الناس على قدر عقولهم) فالله سبحانه لتلك الحكمة
اختار الخلق التدريجيّ على الدفعيّ لأن الدفعيّ يثقل على عقولهم قبوله فلا يتحملون
أن يقال لهم أنه تعالى خلق الأرض وما عليها وما فيها في أقل من طرفة عين ، فإن هذا
يقرع أسماعهم لقصور معرفتهم فلا يقبلونه لكمال قدرته بخلاف الأمور التدريجيّة.
وهذا أمر وجداني لعامّة البشر بلا تخصيص في عصر دون عصر وأمّة دون أمّة.
١١ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ...) أي قصد وتوجّه إلى أن يخلق السّماء قصدا جازما لا رجعة عنه
، وهذا بعد خلق الأرض لا بعد دحوها. و (ثُمَ) لتفاوت ما بين الخلقتين رتبة لا للتراخي في المدّة إذ لا
مدّة قبل خلق السّماء ، فقد استوى لها (وَهِيَ دُخانٌ) أي أجزاء دخانيّة أو بخارات متصاعدة من المياه ترى من
البعيد كأنّها دخان كما عن ابن عباس من أنّ الله تعالى خلق السّماء من أبخرة الأرض
يعني أبخرة مياه الأرض. ولمّا فرغ من خلقهما لإظهار قوّته وكمال قدرته أمرهما
سبحانه : (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي بما خلقت فيكما من النّيرات والكائنات سواء كنتما
طائعتين أو مكرهتين ، أي لا بدّ من إتيانكما طائعتين (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) وهذا السّؤال والجواب ليسا على الحقيقة بل هذا القسم يعدّ
من المجاز
التمثيليّ.
فالمراد بإتيانهما امتثالهما التكوينيّ الذاتيّ ، كما أن المراد بإطاعتهما هي
التكونيّة الذاتيّة. وعند البعض أنّه تعالى أقدرهما وأمكنهما من التكلّم وبعد ذلك
خاطبهما. فعلى هذا إن السؤال والجواب حقيقيّان. وفي القمّي : سئل الرّضا عليهالسلام عمّن تكلم الله معه لا من الجنّ ولا من الإنس؟ فقال :
السّماوات والأرض في قوله (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).
١٢ ـ (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) أي صنعهنّ بإحكام وإتقان حال كونهنّ سبع سماوات. ف (سَبْعَ) منصوب على الحال من مفعول (قضى) أي خلقهنّ خلقا إبداعيّا (فِي يَوْمَيْنِ) قال القمّي : يعني وقتين بدءا وانقضاء وقيل هما الخميس
والجمعة وهما مع تلك الأربعة ستّة كما في آيات أخر. ثم إنّه سبحانه آثر (قضى) على (خَلَقَ) و (جَعَلَ) ونحوهما مما يناسب المقام ، لنكتة وهي أن (قضى) من معانيه
التي تناسب المقام هو صنع كما فسّرناه به ، لكن مع إحكام وإتقان لا مطلق الصّنع
وإلّا لآثره. وأصل الصّنع هو إيجاد الشيء وإبداعه مباشرة أي بيده ، فالصّانع من
يعمل بيديه على ما في اللّغة. فإيثار القضاء في المقام لكشف سرّين من اسرار خلقه
للعوالم العلويّة أحدهما الإحكام والإتقان بكيفيّة تخصّها ، فإنّها لم تزل ولن
تزال ثابتات غير متغيرات ولا متبدّلات من يوم الخلقة إلى وقت البعثة ، والثاني
اختصاص خلقتها بذاته المقدّسة وبمباشرته الخاصّة حيث لم يكن حينئذ زمان ولا زماني
وهذا هو الفارق بين خلق العلويّات والسّفليّات حيث عبّر في الأولى بقوله (قضى) وفي
الثانية بقوله (خَلَقَ) وهذا الاختلاف في التعبير في كتاب الله لم يكن بلا وجه
وحكمة مسلّما. والحمل على التفنن في التعبير لا ينبغي الله ولا لكتابه فإنه تعالى
أعظم شأنا من التفنن وكتابه أجلّ مقاما ورتبة. نعم فالوجه الثاني من الوجهين يحتمل
أن يتأتّى في العالم السّفلي ، لكن نحتمل احتمالا قويّا
إن كيفيّة
المباشرة في العلويّات لها خصوصية ليس في السّفليّات فمع تلك الخصيصة يتمّ الحصر
المستفاد من الآية (وَأَوْحى فِي كُلِّ
سَماءٍ أَمْرَها) أي ما بها يتعلّق أو لا يتعلّق بأهلها من الطاعات
والعبادات. وهذا الوحي وحي تقدير وتدبير. ويحتمل أن يكون الوحي وحي تكليف بناء على
كون البيان من الأمر هو الأمر لأهلها من حيث العبادة والطاعة فإنه يفهم من
الرّوايات أن أهل السماوات مكلّفون بتكاليف خاصّة ، بعضهم بالقيام وبعض بالرّكوع ،
وبعض بالسجود فقط. قال السدّي ولله في كل سماء بيت يحج ويطوف به الملائكة محاذ للكعبة
، بحيث لو وقعت منه حصاة ما وقعت إلّا على الكعبة عينها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ) أي النّيرات التي تضيء كالمصابيح أي السّرج (وَحِفْظاً) أي حفظناهن حفظا عن المسترقة أي عن صعود الشياطين الذي
يدّعون استماع كلمات الملائكة واستراقها (ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي أن كلّ ما ذكر من بدائع الصّنايع هو خلقه صانع العالم
وموجده من العدم الغالب على كلّ شيء ، والواجد لكمال العلم وتمامه. وفي الإكمال عن
النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : النّجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النّجوم ذهب أهل السماء.
وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض. ويؤيّد ذيل هذا
الحديث قوله صلىاللهعليهوآله : لو لا الحجة لخسفت الأرض بأهلها أو لساخت الأرض ثم إنه
تعالى بعد تعداده للآيات العظيمة الدالّة على ربوبيّته سبحانه وألوهيّته المطلقة
الوحيدة توعّد أهل الشّرك والنّفاق والجحود والعناد بقوله خطابا لنبيّه صلىاللهعليهوآله :
* * *
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ
الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))
١٣ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ ...) أي إذا أعرضوا عن الإيمان بعد إتمامنا الحجة عليهم على
الوحدة والقدرة والعلم والحكمة وغير ذلك من الأمور الراجعة إلى إلهيّتنا
وربوبيّتنا الوحيدة (فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي يا محمد قل للمشركين إن ربّي هكذا يقول : كما أهلكنا
عادا بريح صرصر عاتية وثمود بصيحة جبرائيل المدهشة المهلكة كذلك هؤلاء الكفرة
نهلكهم بأشدّ عذابنا وأيسر ما يكون عذابهم وإهلاكهم علينا.
١٤ ـ (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ...) أي من جميع جوانبهم وكلّ جهاتهم جاءوهم بالإنذار والحجج أو
حذّروهم بما مضى من هلاك الكفرة وما يأتي من عذاب الآخرة. والحاصل أن الرّسل كانوا
مأمورين بإبلاغ التوحيد والرسالة إلى الناس طرّا ولذا كانوا يقولون لهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فأجابوهم و (قالُوا لَوْ شاءَ
رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي لو أراد الله أن يرسل إلينا رسولا فلا بدّ أن يبعث
إلينا من غير نوعنا بل من نوع الرّوحانيّين فإنّهم يناسبون للرسالة من عنده سبحانه
لا أنتم فإنكم بشر مثلنا ولا فضل ولا ترجيح لكم علينا (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم (كافِرُونَ) حيث نظنّكم كاذبين فيما ادّعيتم به.
١٥ ـ (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ ...) هذا تفصيل قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) أي قوم عاد استكبروا أي رأوا أنفسهم ذوات كبرياء وتجبّر
بالإضافة إلى أهل بلادهم بغير استحقاق وجهة كانت موجبة لاستكبارهم وعتوّهم على
غيرهم فكان تعظّمهم على ما لا ينبغي والمراد بالأرض هو أرض الأحقاف اسم قصبة من
اليمن وعاد كانوا ساكنين في تلك البلاد (وَقالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فاغترّوا بقوتهم الظاهريّة وسطوتهم. وقيل كانت قوّتهم
بمثابة أن الرّجل منهم يقلع الصّخرة العظيمة بيده بلا آلة من الجبال ، وربّما
يرميها إلى مكان بعيد (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي الذي كان أعطاهم تلك القوّة والقدرة هو يقدر أن يسلبها
منهم ويهلكهم في أقل من لحظة (وَكانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ) أي يعرفونها أنها حقّ وينكرونها.
١٦ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً ...) أي عاصفا شديد الصّوت من الصّرّة وهي الصّيحة وقيل ريحا
باردة من الصّر الذي هو البرد قال الفرّاء : هي الباردة تحرق كما تحرق النّار. قال
الباقر عليهالسلام : الصّرصر : البارد (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي مشؤومة عليهم وهي الأيّام التي تجري الرياح
المتصعصعات عليهم
بحيث صاروا من الرّيح مستأصلين لأن الريح كانت تحركهم من مكانهم ومواقفهم يمينا
وشمالا وترميهم على الجدران والأشجار والصّخور والجبال فتهلكهم ، وكان جريان
الأرياح إلى سبع ليال وثمانية أيام. ونقل أنّه قبل هبوب الأرياح المدهشة المهلكة
انقطع عنهم الأمطار سبع سنوات وحدث فيهم قحط شديد بحيث ما بقي فيهم حيوان إلّا وقد
أكلوه بل صاروا يعيشون بأكل أوراق الأشجار وحشرات البراري وسباع الجبال يصطادونها
ويأكلونها وكثير منهم ماتوا بذلك القحط والغلاء الشّديد وبعد ذلك جاءتهم الرّيح
الصّرصر العاصف وذهبت بهم إلى دركات الهاوية. ويحتمل أن يكون المراد بالأيام
النحسات هي أيام القحط التي كانت مصاحبة للأرياح لكنها غير صرصريّة أو كانت منحوسة
وأيام عذاب باعتبار شدّة برودتها لأن العرب يسمّون البرد نحسا. وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : الرّياح ثمان ، أربع منها عذاب : العاصف ،
والصّرصر ، والعقيم ، والسّموم. وأربع منها رحمة : النّاشرات ، والمبشّرات ،
والمرسلات ، والذاريات. (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي عذاب الهوان والذّل ، وهو الذي يجزون به في مقابل
استكبارهم في الدّنيا (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَخْزى) أي أفضح وأذل من ذلك بمراتب كثيرة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ليس لهم ناصر ولا معين حتى يدفع عنهم العذاب فهم
معذّبون أبدا. قال ابن عباس : ما أرسل الله من الرّيح عليهم إلّا قدر خاتمي. وقيل
إرسال العذاب عليهم في الأيام النّحسات كان آخر شوّال من الأربعاء إلى الأربعاء.
وما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء ثم إنه حصل اختلاف بين المنجّمين والمتكلّمين ،
فالأوّلون قالوا بأنّ الأيام بعضها نحس ذاتا ويستدلون بهذه الآية ويقولون بأن
الآية صريحة في ذلك ، وأجاب المتكلّمون بأن النّحاسات هي الأيام التي تكون ذوات
غبار وتراب ونحوستها بهذا الاعتبار لا باعتبار ذاتها ، بل عرضيّة لا ذاتية وأيضا
كون هذه الأيام نحسات لأن الله أهلكهم فيها فلذا تشاءمّوا
بها وسمّوها
نحسات. وأجاب المنجمون بأن النحس في وضع اللّغة هو المشؤوم لأنّ النحس يقابله
السعد والكدر يقابله الصّافي فالقول بأن النحوسة باعتبار كونها ذات غبار وتراب لا
يساعده التعبير بالنحسات بل المناسب هو التعبير بالكدرات هذا وثانيا أن الله تعالى
أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات فلا بدّ وأن يكون قبل العذاب نحوسة
مغايرة لذلك العذاب كما لا يخفى على أولي الألباب.
١٧ ـ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ ...) أي فدلّلناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرّسل وإظهار
البراهين والمعجزات على ألسنتهم وأيديهم (فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي آثروا على الهداية الضلالة أي ضلالة الكفر والطّغيان (فَأَخَذَتْهُمْ) أي شملتهم وتناولتهم (صاعِقَةُ الْعَذابِ
الْهُونِ) أي عذاب الذلّ والحقارة. وإضافة الصّاعقة إلى العذاب
بيانيّة (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي بسبب شركهم وتكذيبهم نبيّهم صالحا وعقرهم الناقة ثم إن
الرّازي بعد ما عثر على استدلال المعتزلة بالآية في الردّ على الجبريّة فقد نهض في
الرّد عليهم واستدل على صحّة مذهب الجبريّة بدليل أضعف من بيت العنكبوت وهو أنّه
قال إنّ أحدا لا يحبّ العمى والجهل مع العلم بكونه جهلا ، ومقصوده من هذا البيان
أنّ جهله بإجبار الله إيّاه يجعل الآية من أدلّة مذهبه. والعجب من الرّازي أنّه
كيف صار جبريّا وأدلّته على مدّعاه من هذا السنخ وكلماته ما أقربها إلى الشعوذة
لأنه بهذه التقريرات قد أراد أن يثبت أن الكفر والإيمان يحصلان من الله جبرا لا من
العبد ، ومراده أنّ أحدا لا يختار العمى والضّلالة مع العلم بأنها ضلالة فحينئذ
يلزم أنّ جميع المعاصي الصّادرة من العباد غير مأخوذ بها لأنهم لا يعتقدون أنها
جهل وعماية وكلّ حزب بما لديهم فرحون. فإن قيل كيف أنذر قومه بمثل صاعقة عاد وثمود
مع العلم بعدم تعذيب أمته به وقد صرّح الله بذلك إذ قال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ) وفي
الأحاديث الصّحيحة
أن الله رفع عن هذه الأمّة هذه الأنواع من العذاب؟ وقد أجيب أن قومه لمّا شاركوا
وساووا قوم عاد وثمود بسبب إنكارهم التوحيد والنبوّة فاستحقّوا مثل تلك الصّاعقة
وتخويفهم بالعذاب مثل أولئك ، وجاز حدوث ما يكون من جنس ذلك. وفي هذا الجواب ما لا
يخفى حيث أن إشكال الخصم أنّه بمقتضى الآية والروايات أنّ مثل عذاب الأمم السّابقة
مرفوع عن هذه الأمّة المرحومة بأيّ ذنب ارتكبوا ما دام النبيّ صلىاللهعليهوآله فيهم تعظيما لشأنه وتكريما لعلوّ مقامه (ص) بين الأنبياء
والمرسلين بمقتضى وعده تعالى ، وهذا كيف يناسب قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) مع العلم بعدمه؟ والمجيب يقبل تعذيبهم ويجيب عن سبب
تعذيبهم وأنه إنكارهم التوحيد والنبوّة وأنّهم لذلك استحقّوا سنخ عذاب عاد وثمود
فأين هذا عن جواب الخصم المدعي لرفع العذاب الدنيوي عن الأمة المرحومة سواء
استحقوا أم لم يستحقّوا؟ فالجواب المقنع للخصم الحاسم الرافع لإشكاله يمكن أن يكون
من وجوه : الأوّل أن يقال بأن الله تعالى أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله بإنذارهم وتخويفهم بما فعل بالعتاة والعصاة من الأمم
الماضية مع كونهم أقوى وأشدّ من هؤلاء العصاة والمردة من أهل مكة فكما أهلكهم كذلك
بتلك السطوة وذلك القهر ، يمكنه أن يهلك هؤلاء المشركين ؛ وهذه مرحلة الإنذار
والتهديد. والإنذار لا يلازم نزول العذاب كما أنّ الوالد الرّؤوف ينذر ابنه بقوله
يا بنيّ لا تفعل كذا وكذا وإلّا أضربك أو يخوّفه بالحبس أو يهدّده بالقتل إذا كان
المنهيّ عنه أمرا ذا أهميّته ، مع أنه يعلم أنّه إذا فعل الابن الأمر المنهيّ عنه
لا يضربه فضلا عن الحبس والقتل. والحاصل أن تلك التهديدات والتخويفات في مقام
التأديب والإرشاد والهداية أمر عقلانيّ متعارف بين الناس من الموالي إلى العبيد
ومن الآباء إلى الأولاد ، وكذلك من الرّسل إلى
الأمة ، وليس بين
الإنذار ونزول ما يخاف منه أي ملازمة ، بل الإنذار والبشارة في ذاتهما مرحلة من
مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فمقام الإنذار غير مقام نزول العذاب. هذا
، وثانيا أن الآية أي (ما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) والرّوايات التي تدلّ على هذا المعنى ظاهرة في أن النبيّ (ص)
ما دام فيهم لا يعاقبون مثل ما عوقبت الأمم السّالفة لا أنهم لا يعاقبون مطلقا ،
فبعد وفاته يمكن أن يعاقبوا بمثل عقاب الأمم الماضية ولا منافاة بين الآيتين حيث
إن آية (فَإِنْ أَعْرَضُوا) لا تدل على عقابهم في زمن حياة النبيّ (ص) بل من هذه الجهة
كانت مطلقة ، فهي قابلة للتقييد بما بعد وفاته بمقتضى الآية الشريفة (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) ولو أغمضنا عن هذا الجواب أيضا فنجيب ثالثا بأنّه تعالى
بشّر نبيّه برفع العذاب عن أمّته وتابعيه في الدنيا إذا عصوا وعملوا عملا بتسويل
الشّيطان والنفس الأمّارة يستحقّون به عقاب الأمم الماضية تبجيلا له صلىاللهعليهوآله وتكريما لمقامه العالي. وأمّا هؤلاء الكفرة والجاحدون
فليسوا من أمته صلوات الله عليه وآله فأيضا لا تنافي بين الشريفتين فإن الأمّة هي
الجماعة والجيل فإذا أضيفت إلى نبيّ أو رسول فأريد منهم الذين يقصدونه ويميلون
إليه ويتابعونه. فالذين يعرضون عنه لا يكونون من الأمّة ولا يحسبون منها حيث إن
المراد بالأمة ليس مطلق البشر الذين يحسبون من معاصري النبيّ صلوات الله عليه وآله
وسلّم.
١٨ ـ (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) ... أي نجّينا المؤمنين بصالح وبما جاء قومه من الصاعقة (وَكانُوا يَتَّقُونَ) من الشّرك ومن مخالفة نبيّهم صالح عليهالسلام. ثم أخبر سبحانه عن حال الكفرة يوم القيامة بعد بيان حالهم
في الدنيا :
* * *
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما
جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا
جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا
تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣))
١٩ و ٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ) ... أي يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي إذا اجتمعوا ووقفوا قبالتها. وقد زيدت (ما) تأكيدا لمفاجأة الشهادة لحضورهم (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إذا جاءوا النار التي وعدوها وحشروا إليها ، سئلوا عن
أعمالهم فأوّل ما يجيب ويشهد عليهم بإنطاق الله له هو السّمع ، وبعد ذلك الأبصار ،
وبعدها الجلود كلّ بإنطاق الله له بما صدر عنهم من الأعمال القبيحة والأقوال
السيّئة. ووجه تقديم بعض الجوارح على بعض في الآية هو أشرفيّته ، ويحتمل أن يكون
سرّ التقدّم الاهتمام بشأنه لأنّ أكثر المعاصي تصدر منه إمّا مباشرة أو تسبيبا ،
فإن السمع اجتمع فيه العنوانان. أمّا
هذه الأعضاء فإنها
قد تتصدّى إمّا بالمباشرة كالغيبة استماعا وكالأغاني والأباطيل من الكلمات
واللهويّات والكذب والبهتان والافتراء ونحوها ممّا لا يجوز استماعه ، وإمّا
بمنشئيّة صدور الحرام عن بعض الجوارح كاستماعها إن المرأة الفلانيّة صاحبة جمال
مثلا فإذا استمع تميل نفسه إليها بحيث يمشي إليها فيقع فيما لا يرضى الله تعالى
بصدوره عن عباده. فنوع الجوارح يقع في معصية الله والمنشأ هو السّمع ، وكذلك البصر
فقد ينظر إلى ما لا يرضى الله النظر إليه ، فالأبصار تعصي وتصير باعثة لأن تميل
النفس الأمّارة بالسوء ، فتجرّ الجوارح قهرا إلى صدور بعض القبائح عنها وفي
الرواية أنّ النظرة سهم من سهام الشيطان ، ومعناها هذا. ففي مثل هذه النظرة يضاعف
العقاب لمضاعفة الإثم. وأمّا الجلود فكناية عن سائر الأعضاء التي لها القابلية لأن
تصدر منها المعاصي. وقال ابن عباس : المراد بالجلود هو الفروج على طريق الكناية
كما قال سبحانه وتعالى : (لا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا) وأراد النكاح. وقال (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) وأراد قضاء الحاجة.
٢١ ـ (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا) ... أي يقول الكفرة لجوارحهم على سبيل التّوبيخ أو التعجّب
لأنهم ما كانوا مترقّبين من أعضائهم الشهادة عليهم ، فيقولون : لم شهدتم علينا مع
أنّ لنا الحق عليكم حيث كنتم في دار الدّنيا في حفظنا وحراستنا ، واليوم نحن في
صدر نجاتكم من النّار (قالُوا أَنْطَقَنَا
اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي الله تعالى أعطانا قوّة النطق وعلّمنا البيان وألهمنا
الشهادة والاعتراف بما عملناه وفعلناه. وقال القمّي : نزلت في يوم تعرض عليهم
أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا شيئا فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم
أعمالهم. وقال الصّادق عليهالسلام : فيقولون لله : يا ربّ هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ، ثم
يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله عزوجل (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً
فَيَحْلِفُونَ
لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ)
وهم الذين غصبوا
أمير المؤمنين عليهالسلام ، فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد
السمع بما سمع ممّا حرّم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرّم الله عزوجل ، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرّم الله ، وتشهد اليدان بما
أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرّم الله عزوجل ، ثم أنطق الله عزوجل ألسنتهم فيقولون هم لجلودهم لم شهدتم علينا ، الآية (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعني أنّ القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال
كونكم في الدّنيا هو أنطقكم وبعثكم في المرّة الثانية فهو الذي أنطقنا اليوم
للشهادة عليكم. وهذا التفسير بناء على أنّ هذا الذيل من تتمّة كلام الجلود أو
استئناف يقرّر ما قبله.
٢٢ ـ (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ... أي عند ارتكابكم القبائح كنتم تستخفون بها لكنّه لم
يتهيّأ لكم ولم تتمكنوا من أن تستتروا بأعمالكم عن أعضائكم التي أنتم بها تفعلون
ما كنتم تعملون ، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة. ولا يخفى أن مفاد تلك
الآيات ونظائرها من الرّوايات الدالة على شهادة الأمكنة التي يصلّي عليها الإنسان
أو في باب الأذان واستحباب رفع الصّوت ، معلّلة بأن كل شيء يسمع يستغفر لصاحبه.
وهذه في الأعصار السالفة بالنسبة إلى أن أكثر البشر كانوا يسبّحون الله عند سماعه
وعند ما تقرع الأسماع هذه النغمات المقدسة ، لأنها عند المؤمنين صرف تعبد ، وأمّا
غيرهم فينكرونها ويستهزئون بها. لكن اليوم في العصر الحاضر مع هذه الصنائع البديعة
والمخترعات الحديثة كالتلفزيونات التي ترتسم فيها صور الأشخاص وتحفظ فيها الأصوات
والمسجّلات التي تضبط فيها الأصوات على ما هي عليها فالأمر صار سهلا بحيث تتصوّر
شهادة الجلود ونحوها من أعضاء الإنسان ويكون ملازما لتصديقها. فلو قيل إن جلد بدن
الإنسان بمنزلة شريط المسجّلات التي
تضبط فيه الأصوات
أي الأقوال التي تصدر من الإنسان ، وأن هيكل الإنسان بمنزلة آلة المصوّرين في أخذ
الصّور وانتقاشها وارتسامها فيها فكلّ عمل يصدر من الإنسان ينتقش في بدن الإنسان
على جلده ، وفي يوم القيامة تجيء بتلك الصور المنقوشة فينفخ فيها فيتجسّم الصوت
ولا غرو فيه ، بل قد تظهر الصورة بقدرة الله ، وإن كانت قد أثبتت في صحيفة الأعمال
، ولعلّ هذا هو معنى تجسّم الأعمال. فلو قيل به فليس ببعيد أن يقرع السّمع به
فينكره كما كان ينكر قبل عصرنا هذا. بل لو ادّعى مدّع بأن العالم بحذافيره بمنزلة
محفظة وتلفزيون كبير لارتسام صور البشر جميعا وانتقاشها فيه حال كونهم مشتغلين
بأعمالهم إن خيرا وإن شرا ، ولضبط أصواتهم وأقوالهم ، فالفضاء تحفظ فيه الأصوات
وغيرها من أجسامه العنصرية الكثيفة وترتسم فيها الصّور أو ترتسم في العلويّات صور
الأشخاص ، حال اشتغالهم بالأعمال دلالة على هذا فليس بمنكر من القول (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) لأنكم لم تستتروا مخافة شهادة السمع عليكم (وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) يعني لم يكن استتاركم عند ارتكابكم للأعمال القبيحة خوفا
من شهادة الأعضاء عليكم وإن يعلمه الله ، بل لأجل أنكم (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ
كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) خفاء ، ولهذه الجهة كنتم تخفون قبائح أعمالكم. وأمّا مسألة
شهادة الجوارح فما كنتم تعقلونها ولا تقبلونها في دار الدّنيا لانكاركم البعث فكيف
بلوازمها؟
٢٣ ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ
بِرَبِّكُمْ) ... أي ذلك الظن بربّكم (أَرْداكُمْ) أي أهلككم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ
الْخاسِرِينَ) باستبدالكم بالجنة النار ، وبإيثاركم النار على الجنة ...
والظن جاء بمعنى العلم والاستيقان ومنه (ظَنُّوا أَنْ لا
مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي (أيقنوا) وتأتي أيضا للدّلالة على الاعتقاد الراجح مع
احتمال النقيض نحو (ظننت زيدا صاحبك) وهذا هو معناه الرّائج الذي تحمل عليه بلا
احتياج إلى القرينة
بخلاف المعاني
الآخر وتستعمل في الشك والوهم والاتّهام. وقيل إن الظنّ هنا بمعنى اليقين. والظاهر
أنه بمناسبة الحكم والموضوع بمعنى الوهم والتخيّل لأن الخطاب مع المشركين ، وهم ما
كانوا من أهل اليقين بالله تعالى بل لم يكونوا من أهل الظنّ به سبحانه بمعناه
المتعارف الرائج. نعم يحتملون ويتخيّلون أن يكون للعالم صانع غير ما هم عليه ، ولو
تلفّظوا باسم الله أو الرّب أو غيرهما من أسمائه سبحانه إمّا أن يكون حكاية لقول
المسلمين أو على زعمهم يتفاهمون ويتكلّمون بتلك الأسماء الشريفة التي ينطق بها
المسلمون لأنهم يعتقدون بالمسمّى بها ، فكيف في مقام التسمية يمكن أن يقال إنهم
يريدون معانيها الواقعية ومفاهيمها الثابتة الحقيقيّة ، وتكرار الظن للتأكيد في أن
الموجب لهلاككم هو ظنّكم السّوء بربكم. وفي الآية تنبيه على أنّ العبد المؤمن في
أوقات خلواته ينبغي أن لا يكون خوفه من ربّه أقلّ في ارتكابه المعاصي في جلواته ،
بل كماله في أن يكون خوفه السّري أكثر من علنيّه حتى لا يدخل في سلك هؤلاء
المشركين بل العبد المؤمن لا يكون له سرّ وعلن بالنسبة إلى ربّه فإنه يرى نفسه في
جميع أحواله بين يدي ربّه والربّ مشرف عليه في كلّ أوقاته وحالاته وآناته. فأيّ
وقت يكون هو غائب عن ربّه حتى يتحقّق له سرّ وخفاء بالنسبة إلى ربّه؟؟ وعن الصّادق
عليهالسلام أن العبد المؤمن ينبغي أن يخاف الله خوفا كأنّه يشرف على
النار ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة ، إنّ الله يقول (ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي) ، الآية ثم قال عليهالسلام : إن الله عند ظنّ عبده إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.
ثم أخبر سبحانه عن
حالهم في النّار فقال عزوجل :
* * *
(فَإِنْ يَصْبِرُوا
فَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ
وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))
٢٤ ـ (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) ... أي فإن يصبروا على النار وآلامها وأمسكوا عن شكواهم أم
لم يصبروا فالنّار مثوى لهم ومستقرّهم ولا ينفعهم صبرهم على عقوبات النيران فإنهم
سيبقون مخلدين في جهنّم والنيران ملازمة لهم ، كما أنّ الجملة الاسميّة فيها دلالة
صريحة على ذلك (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي لو طلبوا العتبى أي الرضى وقبول العذر فليسوا ممّن يرضى
عنهم ويقبل عذرهم بعد ذلك ، فقد جفّ القلم بما هو كائن وثابت عليهم ، يعني أن
جزعهم واستغاثتهم وشكواهم لا تفيدهم أبدا كما قال تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ
عَلَيْكُمْ) والمعتب من يقبل عذره ويجاب إلى ما سأل. هذا بناء على كونه
اسم مفعول وأمّا بصيغة الفاعل فهو المنصرف عمّن يغضب عليه لأجل ما كان عليه أو
التّارك له أو المزيل عتبه لأجل ما كان عليه.
٢٥ ـ (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) ... أي قدّرنا لهم أخدانا من الشياطين ، وهو مجاز عن منعهم
اللطف لكفرهم حتى استولت عليهم الشياطين. وقال القمّي : يعني الشياطين من الجنّ
والإنس (فَزَيَّنُوا لَهُمْ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمور الدّنيا ومتاع الحياة وحظوظها ولذائذها وشهواتّها
لأنهم يقولون إن الدنيا قديمة وإنه لا فاعل لها ولا صانع إلّا الطّبائع والأفلاك (وَما خَلْفَهُمْ) اي أمر الآخرة بأن القرناء يقولون لهم لا بعث ولا نار ولا
جنّة ولا سؤال فينكرونها من أصلها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ) أي الوعيد بالعذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي في جملة الأمم الماضية.
والجملة حال من
ضمير عليهم. وحاصل المعنى وجب عليهم الوعيد حال كونهم كائنين في جملة أمم من
المتقدّمين المكذّبين لرسلهم بما جاءهم من الأديان الإلهية فكانوا من الذين
استحقوا العذاب (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأنهم عملوا مثل أعمالهم (إِنَّهُمْ كانُوا
خاسِرِينَ) أي كما كان أولئك من الخاسرين قبلهم ، فالناس مجزيون
بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، سنّة الله التي جرت في عباده لا تختصّ بعصر
دون عصر ولا زمان دون زمان.
* * *
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))
٢٦ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) ... أي قال رؤساء الضّلالة وكبراء الكفر والخباثة لأتباعهم
لا تسمعوا لهذا القرآن (وَالْغَوْا فِيهِ) فلا تصغوا إلى كتاب محمد الذي يقرأه عليكم وانسبوه إلى
التكلم باللّغو وخطئوه في قوله ، أو الغوا فيه يعني ارفعوا أصواتكم حينما يقرأ
بالشّعر والأباطيل من الكلام لتخلطوا عليه قراءته وتغلّطوا في كلامه. وقال
القمي : وصيّروه
سخريّة ولغوا (لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) بأن عجّزتموه عن مقاومتكم فلا يعارضكم بعد ذلك بقراءة
قرآنه. وقيل معنى والغوا فيه أي قولوا بين ما هو يقرأ كلاما لغوا ولهوا فتخلّطوا
أباطيلكم في قراءته. وحاصل جميع هذه التفاسير يرجع إلى أنه افعلوا عملا يمنع
النبيّ (ص) عن القراءة ويتركها.
٢٧ ـ (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَذاباً) ... إن الله تعالى يهدّد أعداءه تهديدا شديدا في هذه
الشريفة بأن القائلين بهذا القول لا بدّ وأن نعذّبهم بأشد العذاب كمّا وكيفا (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجزيهم بأقبح جزاء على قبح عصيانهم وهو الشّرك والكفر.
قال ابن عباس : إن المراد بالعذاب الشديد هو يوم بدر حيث إن المشركين ابتلوا
بالأسر والقتل ، وأسوأ العذاب هو يوم القيامة.
٢٨ ـ (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) ... اسم الإشارة إلى أسوأ الجزاء المتوعّد به وهو مبتدأ
خبره (جَزاءُ أَعْداءِ) ، الآية وقوله (النَّارُ) عطف بيان للجزاء أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف أي :
وهو النار (لَهُمْ فِيها دارُ
الْخُلْدِ) أي مسكن إقامتهم الدائميّ هو الجحيم لا غيره (جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ) وضع موضع يلغون إقامة السبب مقام المسبب.
٢٩ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا
أَرِنَا) ... أي أن رؤوس الكفر والضّلال يسألون حين يصيرون في النار
من الله تعالى أن يريهم من أضلّهم في الدنيا ويقولون (رَبَّنا أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي شيطاني الجنسين الداعيين لنا إلى الضّلالة والعناد (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) أي نسحقهما وندوسهما انتقاما منهما وتبريدا لقلوبنا (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي في الدرك الأسفل من النار فنطؤهما بأقدامنا إذلالا لهما
فيكون عذابهما أشدّ من عذابنا. ولمّا ذكر سبحانه وعيد الكفرة عقّبه بذكر الوعد
للمؤمنين
الأبرار فقال في
الآيات الكريمة التالية :
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ
غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))
٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا) ... أي وحّدوه وصدّقوا رسله بما أدّعوا من الرّسالة
والنبوّة والدّيانة ، ثم استمرّوا على هذا الأمر ولم يشكّوا فيه أبدا. وعن الرّضا عليهالسلام : هي والله ما أنتم عليه. قال
سفيان بن عبد الله
الثقفي : سألت النبيّ صلىاللهعليهوآله وقلت : أخبرني بخصلة حتّى أتمسّك بها. قالصلىاللهعليهوآله : قل ربّي الله فاستقم. ثم قلت أخوف ما لا بدّ من الاحتراز
منه أيّ شيء يكون؟ فأخذ بلسانه الشريف وقال : حفظ اللّسان (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ)
في المجمع عن
الصّادق عليهالسلام والقميّ قال : عند الموت أو عنده وفي القبر والقيامة ، أي
عند الشّدائد (أَلَّا تَخافُوا) أي يبشّرونهم بأن لا تخافوا ممّا أمامكم من العقبات
والمواقف (وَلا تَحْزَنُوا) على ما أخلفتم من ولد وأهل وأموال جمعتموها بكدّ يمين وعرق
جبين (وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هذه بشائر متعاقبة من الربّ الرحيم لعباده.
٣١ ـ (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) ... أي نتولّى أموركم من حفظكم وإلهامكم الخير وغير ذلك
مما تحتاجون إليه بإذن من الله في الحياة الدّنيا (وَفِي الْآخِرَةِ) بأن نشفع لكم ولا نفارقكم حتى ندخلكم الجنّة بأنواع
الإكرام (وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من أنواع النّعم واللّذائذ ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر في الدّنيا (وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ) أي ما تتمنّون وتطلبون. وهي من الدّعاء بمعنى الطلب.
٣٢ ـ (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ... أي جميع ذلك نزل أي عطاء وفضل ذو بركة من ربّ كثير
المغفرة والرّحمة. والمناسب للنّزل أن يتعاقبه بقوله (من جواد كريم) ولكنّه لما
كان غفران ذنوب العاصين من أعظم أنواع الجود وكذلك الرحمة الرحيميّة من أحوج
الأمور للعباد يوم المعاد فلذا أتى سبحانه وتعالى بهذين الوصفين إشارة إلى هذا
المعنى الدقيق اللّطيف.
٣٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا
إِلَى اللهِ) ... صورته استفهام لكن المراد به النفي ، وتقديره : وليس
أحد أحسن قولا ممّن دعا إلى توحيد الله وطاعته وأضاف إلى ذلك (وَعَمِلَ صالِحاً) ليقتدى به فيه. ويستفاد من الشريفة أن الإنسان في مقام
العبودية لا بدّ له من أمور ثلاثة حتى يكمل
إيمانه وعبوديّته
: الأوّل الدّعوة إلى الله تعالى بقوله. والثاني العمل فإن القول بلا عمل ليس له
كثير فائدة لأن الناس يرون أعمال القائلين والدعاة وفي الرّواية كونوا دعاة الى
الله بغير ألسنتكم ، إشارة إلى هذا المعنى ، يعني بأعمالكم. والثالث أن العمل
ينبغي أن يكون خالصا من كلّ ما يفسده فيكون صالحا قابلا للقبول. فإذا تمت الثلاثة
كمل إيمان العبد وصحّ أن يطلق عليه العبد الصالح أي الكامل الإيمان (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأضاف إلى الدّعوة القوليّة والعمليّة الخالصة إظهار
إسلامه ، فإنّه من إشاعة الحسنى ، وحكمته أنه يصير موجبا وسببا لرغبة الناس إلى
الإسلام فيدخلون فيه ، وانكسارا للكفر وشوكته فيخرجون منه ولا سيما إذا كان هذا
الشخص المظهر من العظماء والشخصيّات المعروفة والأكابر والأجلّاء الواجدين للأوصاف
الثلاثة المذكورة. فلإظهاره الإسلام دخالة مهمّة لتأييده وتقويته ، لأن في هذا
الإظهار قسما من الدّعوة القوليّة. نعم قد يوجد مورد يكون فيه الإخفاء مصلحة مهمّة
تقتضي إخفاءه كاخفاء أبي طالب عليهالسلام إسلامه لحفظ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ؛ وفي العيّاشي أن الآية في عليّ عليهالسلام ، وعن مقاتل وكثير من المفسّرين أن المراد منها الأئمة
الداعون الخلق إلى المناهج الإسلاميّة الحقة والطريقة المستقيمة النبويّة.
٣٤ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ) ... هذه الشريفة لترغيب العباد بقبول الإيمان ، وزيادة (لا) الثانية وإن لم يكن هذا مرادا فبلاغة الكلام تقتضي إلقاء
لفظة (لا) الثانية على ما هو الظاهر. والمعنى الظاهري أن المراد
بالحسنة أفرادها ، وكذلك السيّئة ذات أفراد. وليست أفراد الحسنة متساوية كما أن
أفراد السيّئة كذلك. وأفراد الحسنة بعضها أرجح من بعض في الحسن كما أن أفراد
السيّئة بعضها أقبح من بعض وأسوأ. وعلى هذا لا نحتاج إلى القول بزيادة لفظة (لا) الثانية والحمل على المبالغة في
النفي حتى لا يلزم
اللّغوية في كلام الله سبحانه ، فنقول : إنّ (لا) على معناها الحقيقي من النفي بلا أدنى احتياج إلى هذه
التكلّفات. وهذا الصّدر من الآية توطئة لما في الذّيل من قوله (ادْفَعْ بِالَّتِي) ، الآية وقيل معناها لا تستوي الملّة الحسنة أي الإسلام ،
والملة السيّئة وهي الكفر. وفسّرت الحسنة بالأعمال الحسنة ، والسيّئة بالأعمال
القبيحة. وأيضا فسّرت بالخصلة الحسنة والسيئة ، أي لا يستوي الصبر والغضب ، والحلم
والجهل ، والمداراة والغلظة ، والعفو والاساءة ، وقيل لا يستويان في الجزاء
والمكافاة ، فإن الأول موجب لرفع الدرجات ، والثاني سبب للهبوط إلى الدّركات (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم إن النبيّ الأكرم لما كان مبعوثا من عنده تعالى فعليه
سبحانه أن يعلّمه أحسن الطّرق وأقربها إلى نفوس البشر لكي يميلوا إلى الإسلام ،
وأقرب الطّرق وأحسنها هو هذا المنهج الراقي والصراط السّامي الذي يبيّنه تعالى له صلىاللهعليهوآله ، أي ما يلزمك في مقام دعوتك الناس إلى دين الإسلام هو أن
تقابلهم وتدفع عنك سيئاتهم حيث اعترضتك بالّتي أحسن من أفراد الحسنة ، كما أنه إذا
أساء إليك مسيء أو آذاك مؤذ فإذا عفوت عنه فالعفو أمر حسن ، لكن الأحسن أن تحسن
إليه بما يناسبه من الأموال أو الهدايا ، وإذا كان مليّا ولا يحتاج إلى الأموال
فوضع الأحسن في موضع الحسن لكونه أقرب الطرق لإمالة النفوس إلى الإيمان وأبلغها في
دفع السيّئة بالحسنة ، فإن من اعتاد أن تدفع السيئة بأحسن منها فما دونه أهون
عليه. وعلى أيّ تقدير إنه تعالى يقول لنبيّه (ص) : إذا فعلت ومشيت على ما عملتك في
طريق الدّعوة (فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) أي عداوة دينيّة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ) أي يصير العدوّ بسبب إحسانك إليه في مقابل إساءته كالصّديق
المحبّ القريب. ولمّا كانت مقابلة الإساءة بالإحسان مستلزمة لتحمّل المشاقّ
والمواجهة مع المكاره عن الأعداء وأمرا صعبا على النفوس الأبيّة ، فلذا يقول تعالى
:
٣٥ ـ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا) ... أي لا يعطى هذه الخصلة الحميدة ، وهي مقابلة الإساءة
بالإحسان ، إلّا أهل الصّبر ، حيث إن فيها منع النفس عن الانتقام مع القدرة عليه ،
وكظم الغيظ ، وهما أمران تحمّلهما شاقّ وكلفة على النفس (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ) أي الذين لهم حظّ ونصيب وافر من العقل وكمال الإيمان أو
خير الدنيا والآخرة ، وهما أعظم الحظوظ مجتمعة.
٣٦ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ) ... (إِمَّا) مركّب من (إن) الشرطية و (ما) الزائدة أدغمت في (ما)
الزائدة للتّأكيد. أي وإن أغراك الشيطان ووسوس لك وسوسة صارفة عمّا أمرت به من
الدفع بالّتي هي أحسن بل ألجأك أن تقابل السيّئة بأسوأ منها (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فالجأ إلى الله تعالى واطلب منه تعالى إنجاءك من مكره
وكيده ، فلربّ شرارة أذكت نارا ضاع فيها كثير من النفوس مع أنها كلمة بسيطة كان
علاجها بعضا من الحلم وقليلا من الكظم ، وليس ذلك إلّا من عمل الشيطان الغويّ
المضل. ولا يخفى على صاحب القريحة الموهوبة من الله وعلى من أعطاه الله سبحانه
حظّا وافيا من علوم القرآن أنّه سبحانه كيف علّم نبيّه إقامة الدّعوة وآداب
المناظرة ، وجمع في الآية طريق السلوك مع النفوس القاصرة في إثبات الدّعوة والجدل
لإثبات الحجج الحقة ، وكيف أدّب نبيّه بمكارم الأخلاق بحيث عجزت نفوس البشر وقصّرت
عن أن تدرك وتعرف هذه الكيفيات وهذا القسم من الجدال العملي الذي هو أحسن من القولي
ولا سيما لأرباب النفوس القاصرة والهمج من الناس. وهو سبحانه أيضا نبّه رسوله في
مقام المخاصمة مع عدوّه القويّ على أن يستعين به عزوجل فإنه خير معين وأحسن ناصر والاستعانة بغيره سبحانه لا تغني
من الشيطان شيئا. وهذه الآيات تنبيه وتعليم للعباد مطلقا وبالأخص لأهل العلم ، فإن
كتاب الله العزيز وارد في مورد وجار في نظيره مع قطع النظر عن أن
تعليمات القرآن
وآدابه ومواعظه تكون نوعا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لاستعاذتك (الْعَلِيمُ) بنيّتك. وقال القمّي : المخاطبة لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، والمعنى للناس. ثم إنه سبحانه أخذ في بيان أدلة توحيده
والبراهين التكونيّة والآثار الدالة على قدرته فقال عزّ من قائل :
* * *
(وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ
يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠))
٣٧ ـ (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) ... أي من آثار توحيده وعلائم قدرته
التي أظهرها على
جميع خلقه هي الليل الذي يحصل بذهاب الشمس عن بسيط الأرض والنهار الذي يوجد
بطلوعها على وجهها والأول للاستراحة والثاني لكسب المعيشة. وهذان أظهر آثارهما
وإلا فلهما آثار وخصائص لا يعدّهما العادّون ولا يحصيهما العارفون ، وقدّرهما
تقديرا مستقرّا ودبّرهما على نظام مستمر. ومن آثار قدرته أن خلقهما (وَ) خلق (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) بما لهما ممّا اختصّا به من النور وغيره من الآثار التي لا
نهاية لها ، وما ظهر فيهما من التدبير في التيسير والتقرير في العمل وتقديرهما فيه
بحيث لا يزيدان ولا ينقصان في مرور الدهور ومضيّ العصور ، ومع هذه العظمة في هاتين
الآيتين (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) لأنّهما مخلوقان مأموران مثلكم ليس لهما مزيّة رتبة
المعبوديّة عليكم بل لكم المزيّة عليهما بمراتب كثيرة (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) إنّما قال خلقهنّ وأورد الضمير جمعا مؤنّثا لوجهين :
أحدهما أنّ حكم جماعة غير ما يعقل حكم جماعة الأنثى ، بل قيل حكم ما لا يعقل مطلقا
حكم الأنثى. والثاني أن الضّمير يرجع إلى الآيات والآيات باعتبار لفظها مؤنث ،
وكذا باعتبار معناها : أي الشمس واللّيل والقمر والنهار بالنظر إلى التغليب. وهذا
الجواب جواب عن كون الضمير جمعا مؤنّثا لا عن كونه جمعا لما يعقل والآيات ممّا لا
يعقل فلا يناسبها ضمير جمع المؤنث العاقل. فالجواب عن هذه الناحية هو الجواب
الأوّل. وأما موضع السّجدة عند المشهور فعند قوله (تَعْبُدُونَ) وقيل عند قوله وهم (لا يَسْأَمُونَ) وحاصل معنى الشريفة أنه لو أردتم السجود لشيء فاسجدوا لله
الذي خلق الأشياء بقدرته وأخرجها من كتم العدم إلى صفحة الوجود ، فهو أهل لذلك لا
غيره (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) اي لو أردتم بعبادتكم أن تعبدوا الله ، فالله هو خالق
الشمس والقمر وليسا أهلا للعبادة ، فإيّاه فاعبدوا ، لا المخلوق المحتاج الذي هو
مثلكم.
٣٨ ـ (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ) ... فإن استكبروا عن السّجود
وعبادته تعالى وعن
امتثال سائر أوامره ونواهيه (فَالَّذِينَ عِنْدَ
رَبِّكَ) من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي لا يزالون مشغولين بالامتثال لأوامره (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملّون من العبادة بأيّ كيفيّة كانت ، فلا يحتاج الربّ
المتعالي إلى عبادة بني آدم وتقديسهم ، بل هو غير محتاج إلى عبادة أحد ، حيث إنه
غنيّ على الإطلاق ، وعبادات المخلوقين يرجع نفعها إليهم لأنها سبب لرفع درجاتهم
وتقرّبهم إليه جلّ وعلا. وقيل إن الملائكة أكثر من الجنّ بكثير وهؤلاء أكثر من
الإنس بكثير.
٣٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ
خاشِعَةً) ... أي متذلّلة متهيّئة لما يرد وينزل عليها منه تعالى من
اليبس والجفاف لعدم نزول المطر عليها (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي تحركت بما نبت عليها وانتفخت بالنّبات كما أن العجين
ينتفخ ويتورّم حينما تخبط به المادّة المرسومة المعروفة عند الخبّازين باسم
الخميرة ، فإنه علامة للوقت الذي يخبز فيه ، فكذلك الأرض اليابسة إذا نزل عليها
الماء تنشّطت وتحرّكت بنباتها واخضرارها ، وفي الحقيقة تحرّكت بحركة حياتها
الطبيعيّة بعد موتها بعدم الخضرة والنّبات فيها (إِنَّ الَّذِي
أَحْياها) أي الذي هو قادر على إحياء الأرض بالنبات بعد إماتتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي هو قادر على إحياء البشر بعد الموت (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذه الجملة في موضع العلّة لإحيائه تعالى الأشياء بعد
الإماتة ، أي لأنّه سبحانه قادر على جميع الأشياء ومنها الإحياء بعد الإماتة لأنّ
قدرته تعالى متساوية بالنسبة إلى المقدورات كلّها لاشتراك في الممكنات كلّها وهي
الإمكانيّة. ثم إنّه سبحانه بعد ذكر الآيات يهدّد الملاحدة والمشركين بقوله عزوجل :
٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) ... أي يميلون عن الدّين ويطعنون (فِي آياتِنا) ويحرّفونها ويؤوّلونها بالأباطيل وبآرائهم السخيفة (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي ميلهم عن الحق وتمايلهم إلى الباطل وما يفعلون بآياتنا.
وهذا كلام فيه
تهديد شديد وكفى
به وعيدا على مجازاتهم على إلحادهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام تقرير وتوبيخ وتهجين ، معناه أن الملحد الذي يلقى
في النار كأبي جهل وأبي لهب ونظرائهما خير أم من يأتي يوم القيامة مأمونا كسلمان
وأبي ذرّ وعمار وأمثالهم من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فكلّ عاقل يدري ويعرف أنهما ليسا بمتساويين حينئذ. وقد
قال أمير المؤمنين عليه آلاف الصلاة والسّلام : فليختر كلّ واحد منكم لنفسه ما شاء
من الأمرين ، فإن العاقل لا يختار الإلقاء في النار ، فإذا لم يختر ذلك فلا بدّ أن
يؤمن بالآيات. ثم خوّفهم بقوله (اعْمَلُوا) مختارين من الطريقتين (ما شِئْتُمْ) أي ما أردتم فلكم الخيار. واللفظ أمر لكن معناه التهديد
الشديد والوعيد المخوّف (إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي كل شيء يصدر منكم فإن الله يعلمه ولا يخفى عليه شيء من
أعمالكم خفية أو علانية فيجازيكم بها.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُولئِكَ
يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))
٤١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جاءَهُمْ) ... أي بالقرآن ، وخبر إنّ محذوف أي ننتقم منهم ونجازيهم
وقيل خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ) الذي يجيء بعد ثلاث آيات بعد هذه الآية (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي غالب بقوّة حججه أو معناه ، عديم النظير. وهذا أيضا
معنى من معاني العزيز ، أي كفران الكفرة وتكذيبهم ذكرنا وكتابنا لا ينقص من رفيع
مقامه شيء ولا يطفأ نوره بأفواههم وتكذيبهم ، فإنه من قوّة براهينه وحججه يتمّ
نوره ويتضوّأ ويستنير بنوره العالم ، أو لأنه لا مثيل له في عدم قدرة قادر على
غلبته وإطفاء نوره ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
ثم إنه سبحانه
يعرّف كتابه بعد تعريفه بأنّه كتاب عزيز بالبيان الذي مرّ ذكره قبيل هذا بان كتابي
هذا :
٤٢ ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ) ... أي من ناحية التوراة ولا من قبل الإنجيل والزّبور (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله أو يتقدّم عليه بحيث
ينسخه. والمراد أنه لا يجيئه من أيّ ناحية من النواحي ولا من جهة من الجهات باطل (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) لأنه نزل من عند ربّ حكيم ، أي عالم بجميع وجوه المصالح
والحكم للعباد. وحميد : أي هو مستحق للحمد من كل مخلوق بما ظهر عليه من نعمه
وآلائه ، ومن أعظم نعمه هو هذا القرآن الذي فيه علوم الأولين والآخرين وفيه ما
يحتاج اليه البشر إلى يوم الجزاء. فمثل هذا الكتاب لا بد أن يكون كما وصفه منزله
تبارك وتعالى عن وصف غيره من الواصفين والحامدين وله الشكر والحمد لله رب العالمين
ثم إنه جلّ جلاله بعد وصف كتابه في الجملة بما يليق به أخذ في تسلية نبيّه فيما
يرد عليه من قومه في سبيل دعوته بقوله :
٤٣ ـ (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) ... أي أن الذي يقوله هؤلاء الكفرة من قومك لك ، ليس أمرا
بعزيز ما له من نظير ، بل هذا هو الذي قد قيل للرّسل والأنبياء قبلك من تكذيب
أقوامهم والجحد لنبوّتهم وإنكار فضائلهم وكتبهم من عندي ثم يزيد سبحانه في تسليته صلىاللهعليهوآله بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) أي لأنبيائه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لأعدائهم. وقيل إن الآية عامة وإخبار عن جهة الوعد لمن آمن
والوعيد لمن كفر ، فمن اللّازم أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته.
٤٤ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً
أَعْجَمِيًّا) ... أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن
يقولوا كيف أرسل بالكلام العجمي إلى من لا يعرفه من القوم العرب ، فحينئذ يكونون
لهم في مقام الفرار من دين الإسلام والمعذرة عن القبول ، ولهم فرضا أن يقولوا (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) لأننا لا نفهمه لأنّه ليس بلغتنا. وقيل إن قريش قالوا
لرسول الله : هلّا نزل القرآن بغير العربية. إذا كان دينك وكتابك عامّا وأرسلت إلى
العرب والعجم ، ولماذا لم يكن بلغة العجم؟ فنزلت الآية جوابا لهم (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي بيّنت بلغتنا حتى نفهمها ونعمل بها (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي لقالوا هل كتاب وكلام أعجميّ والمخاطب عربيّ والنبيّ
عربيّ؟ هذا ما يصير. فأمر سبحانه نبيّه (ص) : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً) من الضّلالة (وَشِفاءٌ) للقلوب المريضة بأمراض الشّك والرّيب تشفى به تلك الأمراض
وتدفع به هذه الشبهات ، بل هو شفاء لكلّ الأمراض والأسقام كثيرا ما أذهب الآلام
وأزال الأسقام ، وقد ورد أن الصّحابة كانوا يرقون بأم الكتاب اللّديغ فيبرأ لوقته
ويقوم لساعته ، فأنعم به من هدى وأكرم به من شفاء ... (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي لمّا لم ينتفعوا به فكأنّهم في آذانهم ثقل وصمم إذ ليس
لهم قابليّة الهداية ، وإلّا فالقرآن كتاب ليس فيه أقل قصور وأدنى نقص في الهداية
وفي
نوعيّة إرشاده
لأنّه جامع لجميع الحجج والبراهين الظاهرة لمن أراد أن يهتدي به ، فالتقصير من
ناحية الناس لا من ساحة القرآن فإنه منزّه عن ذلك (وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى) أي لتعاميهم وعدم استفادتهم من القرآن فكأنّهم عمي لا
يبصرون آياته ودلائله الواضحة المرشدة إلى طريق الحقّ والحقيقة (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ) أي مثلهم مثل من كان في مسافة بعيدة بحيث كلّما يصاح به
فلا يسمع النّداء ، وهؤلاء مع قربهم من النبيّ (ص) وقرآنه فإنهم لا ينتفعون بهما
ولا يستفيدون منهما فكأنهم بعيدون عنهما بحيث لا يسمعون إذا قريء عليهم القرآن ،
فإذا لا يهتدون. ثم إنه تعالى تسلية لنبيّه (ص) أخذ في بيان قضيّة موسى واختلاف
قومه في كتابه فقال عزّ من قائل :
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))
٤٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أي كتاب التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) لأنه آمن به قوم وصدّقوه في رسالته وكتابه ، وكذّبه آخرون
كما اختلف في القرآن. فلا تحزن لهذا الاختلاف فإنه في شأن الكتب السّماويّة عادة
قديمة وسنّة جارية في الأمم الماضية لا يختصّ بقومك دون غيرهم.
وفي الكافي عن
الباقر عليهالسلام أنه قال ناظرا إلى هذه الآية : اختلفوا كما اختلفت هذه
الأمّة في الكتاب ، وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم عليهالسلام الذي يأتيهم به ، حتى ينكره ناس كثير فيقدّمهم فيضرب
أعناقهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي الوعد بالإمهال لأمّة محمد صلوات الله عليه وآله (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لحكم بين الجاحدين والمشركين والمكذّبين باستئصالهم
وإهلاكهم كالأمم السّابقة ، لكن سبقت الكلمة وتأخّر القضاء والعذاب عنهم إلى يوم
لقاء الله كما في قوله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ) وقوله (وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقوله سبحانه (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وهذا القول الأخير خاصّ بزمانه صلىاللهعليهوآله (وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي إن قومك شاكّون بالقرآن أنّه كتاب من عندنا نزل عليك ،
شكّا أوقعهم في الرّيب. والرّيب هو أفظع من الشكّ فإن الرّيب هو مرتبة من الشك
فيها القلق واضطراب النفس ، والبعض يعبّر عن الريب بالظن الغالب ، فمن المفسّرين
من قال : إنّ ظنّ الغالب منهم أن القرآن كذب وغير منزل من السّماء وهذا هو معنى (مُرِيبٍ) قال هذا المقول ، وجرّ (مُرِيبٍ) لأنه صفة للشّك.
٤٦ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) ... أي ثواب عمله راجع إليه لا إلى غيره (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من الفسوق والعصيان فضرره وعقابه ووباله على نفسه لا
على غيرها (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ليس يفعل بهم ما ليس له أن يفعل ، فمثلا ينقص من أجر
المطيع ، أو يزيد في عقاب العاصي ، أو يعطي أجر المطيع للعاصي ويعاقب المطيع بدل
العاصي. ولا يخفى
أنّ ظلّام في هذا المقام مبالغة في النفي لا المنفي حتى يستلزم بقاء أصل الظلم.
قال الطبرسي رضوان الله عليه إيثار (ظلّام) على (ظالم) للإشعار بأن صدور الظلم وإن
قلّ من شخص ، فهو غنيّ مطلق وعالم بقبح الظلم ، وهو عظيم في غاية العظمة. فكيف
بصدور الظلم العظيم منه وكذلك فهو تنبيه على أنّ مؤاخذة شخص بعصيان غيره وإثابة
الغير بطاعة الآخر من الظلم العظيم. والحاصل أنه تعالى منزّه عن أن يفعل شيئا من
ذلك وإلّا لكان ظلّاما لعظمة صدور هذه الأمور منه جلّ وعلا فلو صدر على فرض المحال
واحد من الأمور المذكورة منه سبحانه فكأنّما صدر منه وقوع قبيح عظيم لأنه لا يجوز
عليه الظّلم ، فيصير ظلّاما مع أن الأمر الصّادر جزئي في نفسه.
٤٧ و ٤٨ ـ (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) ... نقل أنّ عبدة الأصنام ومشركي قريش قالوا للنبيّ (ص) :
لو أنك نبيّ وصادق في وعيدك لنا بالعذاب في الآخرة ، فقل لنا متى تجيء القيامة؟
فأجاب صلىاللهعليهوآله بما أمره الله تعالى به ، وهو : إلى الله يردّ علمها. أي
هذا ممّا خصّ سبحانه ذاته المقدسة به فلا يعلمه غيره وكان أهل الحجاز ، وبالأخص
عبدة الأصنام من أهل مكة ، متعبّدين بأقوال الرّهبان والأحبار وبالأخصّ الكهنة
منهم إذ إنّهم كانوا من أهل العلم في ذلك العصر وكانوا عارفين بالكتب السّماويّة
وغيرها من أخبار ترد عليهم من بني الجان. وكان العرب في ذلك الزمان أمّيين لا
يعرفون من المعارف شيئا وكانوا جهلة بالعلم فلذا كانوا يرجعون إلى هؤلاء فيما يرد
عليهم من عجائب الأمور وغرائبها ويسألونهم عن المغيبات ويتعلّمون منهم ما كان محل
حاجتهم فلا يزالون يسألونهم عمّا يخبرهم به النبيّ صلوات الله عليه وآله ، ومنها
إخبارهم عن السّاعة ويوم البعث ، فرجعوا إلى الرهبان والأحبار في ذلك وقالوا إن
محمدا يخبرنا بأن لله يوما يجزى فيه الناس بأعمالهم التي عملوها
في الدنيا إن خيرا
فخير وإن شرّا فشرّ ، فهل هو صادق في هذا أم لا؟ فقال الأحبار اسألوه عن الساعة
متى تأتي؟ فإن عيّن وقتها بزمان خاص وساعة معيّنة فهو كاذب في دعواه ، وإلا فهو
صادق. فلمّا أتوه وسألوه عن وقتها الذي تجيء فيه ، أجابهم بأنه ليس لي به علم
وإنّما علمه عند ربّي لا غير ، فعلموا أنّه صادق. ولعل شأن نزول الشريفة كان في
هذا المورد (وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) جمع كمّ أي أوعيتها قبل أن تنشقّ عن الثمرة (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي كلّ ذلك مقرون بعلمه سبحانه واقعا حسب تعلّقه به ، فكما
أن علم قيام السّاعة خاصّ بذاته المقدّسة ولا يعلمه إلّا هو سبحانه ، فكذلك علم
الثمار والنتائج مخصوص به سبحانه. أمّا الثمار فمن حيث كيفيّة الأنواع وكبرها
وصغرها وطعومها وروائحها وألوانها ونضجها ، وأمّا النتائج من حيث شأنيّة النّطف
فبالنظر إلى مبدأ نشؤ النوع لكونها مبدأ نشوء الآدميّ وكيفيّة انتقال النطفة في
الأرحام من حالة ومرتبة إلى حالة أخرى ومرتبة غير الأولى وتربيتها فيها وتغذيتها
وانتقال الأجنة في الأرحام وكونها ذكورا وإناثا وتامة من حيث الخلقة أو ناقصة
وحسنة أو قبيحة ، أو من حيث عدد أيّام الحمل وساعاتها وغيرها ممّا لا يعلمه إلّا
الله. ثم إن قريشا بعد ما علموا أن السّاعة آتية لا ريب فيها وأن الله يجزيهم بما
عملوا ، ومع ذلك ما تركوا عبادتهم لأصنامهم عنادا وجحودا وأنكروا نبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآله وكتابه ، فالله سبحانه أخذ يهدّدهم ويخبرهم عاقبة أمرهم
ومآل فعلهم القبيح ، أي عبادتهم لجماد لا يضرّ ولا ينفع ولا يبصر ولا يسمع بقوله
سبحانه (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
أَيْنَ شُرَكائِي) بزعمهم والسؤال للتّوبيخ ومتضمّن للتخويف (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك وأسمعناك! ولعلّ إعلامهم الله كان بلسان حالهم
أو بقولهم (ما مِنَّا مِنْ
شَهِيدٍ) فهذا بيان لقولهم آذنّاك ، وهذا أظهر من احتمال الأول أي
ما منّا أحد اليوم يشهد بأن لك شريكا بعد أن عاينّا ما عاينّا.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي غاب عنهم معبودهم الذي كانوا يعبدونه في الدّنيا من
الأصنام والأوثان (وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) أي أيقن المشركون أنه ليس لهم مهرب من عذاب ربّهم ، ولا
بدّ من أن يذوقوا عذاب الحريق في ذلك اليوم ولا يمكن الفرار من حكومته سبحانه.
* * *
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو
دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))
٤٩ ـ (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ) ... قال القمّي أي لا يملّ ولا يعيا من أن يدعو لنفسه
بالخير في الدّنيا من النّعم والصّحة والسّرور وفراغ البال ورفاهيّة الحال (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) بزعمه كالفقر والمرض والهموم والأحزان من العوارض الدنيويّة
وحوادثها (فَيَؤُسٌ) أي آيس كثيرا من رحمة ربّه أو من إجابة الدّعاء ، ولا مانع
من القول بكلا الأمرين فإنّ اللّفظ عامّ (قَنُوطٌ) أي يظنّ به تعالى ظنّ سوء وهذا من شيم الكفرة وديدنهم
ولذا عبّر عن
الإنسان في هذه الكريمة بالكافر ، ولا بعد لأن الإنسان مع قطع النظر عن كفره
الأصليّ إن ييأس من رحمة الله فهو كفر ويصير كافرا. ولعلّ التفسير بهذه الجهة يحمل
على الكافر ، قال تعالى (لا يَيْأَسُ مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) وإن كان الظاهر من هذه الشريفة أنّ اليأس كاشف عن كفره
الأصلي لا أنّه موجب لكفره ، لكن المشهور أن اليأس والقنوط موجبان للكفر.
٥٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) ... أي لئن رزقناه خيرا وعافية وغنى (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذه الرحمة حقّي وأنا أستحقّها بعملي. وقوله (لَيَقُولَنَ) جواب قسم مقدّر ، وقوله (لَئِنْ أَذَقْناهُ) فعله ولام (لَئِنْ) توطئة للقسم والتقدير : والله ، أو بذاتي ، أو بحقّي على
عبادي وغيرها ممّا يناسب المقام لو رزقت الكافر نعمة من نعمائي بعد تفريج الضّراء
عنه ليقولنّ ، (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً) أي لست على يقين من قيام السّاعة والبعث ، ومعناه الإنكار (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) أي على فرض صحة ما يزعمه المسلمون وكان بعث وحشر وأنا بعثت
وحشرت ولقيت ربّي على قول المسلمين بأن لنا ربا (إِنَّ لِي عِنْدَهُ
لَلْحُسْنى) أي لي عند الله الحالة الحسنة من الكرامة والنّعمة كما
أكرمني وأنعم عليّ في الدّنيا ، فإنّ حسن حالي في الدنيا مقياس حالي في الأخرى ،
وذلك لاعتقاد الكافر أن ما أصابه من نعم الدنيا فهو لاستحقاق لا ينفك عنه. ونقل
الثعلبي عن إمامنا الحسن المجتبى سلام الله عليه أن للكافر تمنّيين عجيبين : واحد
منهما في الدّنيا يقول إن نعم الجنّة في الآخرة لي لاستحقاقي إيّاها ، والآخر في
العقبي حيث يقول يا ليتني كنت ترابا ، ولا يحصل له واحد منهما. والحاصل أن الله
سبحانه يقول في جواب هذا القائل الذي يظنّ بنفسه ظنا حسنا بلا أي سبب : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِما عَمِلُوا) فلنخبرنهم بما عملوا من قبائح الأعمال ومساوئ الأقوال التي
كانت موجبة
لعقابهم ونكالهم خلاف ما ظنّوا لأنفسهم لفساد ظنّهم وعقيدتهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي عذاب في غاية الكثرة بحيث كأنّما صار متراكما ومتراكبا
بعض العذاب فوق بعض بكيفيّة لا يمكن التخلّص منها ولا التقصّي عنها ، وهذا تهديد
مهيب. ثم إنّه سبحانه يخبر عن نوع آخر من طغيان الكفار وكفرهم بقوله :
٥١ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) ... أي لمّا فتحنا أبواب نعمتنا من الصّحة والثروة على
الكافر بتلك النّعمة (أَعْرَضَ) أدبر عن شكر النّعمة وانصرف بوجهه ولم يعتن بالشكر تكبّرا
وتبخترا ونسي المنعم الحقيقيّ (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي انحرف بجنبه كناية عن الإعراض بنفسه تأكيدا ومبالغة في
الإضراب عن نعم الله تعالى وتجبّرا وأنفة (وَإِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ) أي الفقر والفاقة والمرض والعاهة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) لم لم يقل سبحانه دعاء طويل مع أنّ المناسب هو هذا؟ ذلك
لأن العريض أبلغ حيث إن العرض يدل على الطول ولا عكس ، إذ قد يصحّ طويل ولا عرض له
ولكن لا يصحّ العريض بلا طول له ، فإن العرض هو الانبساط في خلاف جهة الطول والطول
هو الامتداد في أيّة جهة كان. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب الجبر والقائلين بأن
الله سبحانه لا ينعم على الكافر فإنه تعالى أخبر في هذه الكريمة بأنه منعم على
الكافر كما أنه ينعم على غيره من الخلق ، وأنه يعرض عن الشكر ويبعد عن المنعم.
وتدل الشريفة على أن الكافر يسأل ربه بالتضرّع والدّعاء ليكشف ما به من الضّر
والبلاء ويعرض عن الدّعاء في الرّخاء ، فالله تعالى يوبّخه على ذلك. والحاصل أن
معنى الشريفة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي دعاء كثير مستمرّ وقيل في وجه إيثار العريض على الطّويل
لأن العريض امتداده في جهتين والطّويل في جهة واحدة فيدلّ على الأبلغيّة في كثرة
الدّعاء واستمراره.
٥٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) ... أي قل يا محمد لهؤلاء
المشركين أخبروني
وقولوا لي إن كان هذا القرآن في نفس الأمر من عند الله كما أقول (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) عنادا وبلا تأمّل وتفكّر في آياته ودلائله المتقنة ، وبلا
نظر واتباع دليل وبرهان مجوّز لكم على أن تكفروا به (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف عن الحقّ والصواب ، وبعيد عن الصلاح؟ يعني أنتم
أضلّ الناس لأنكم تعاندون الحق وتكذّبون بالقرآن وتنكرون نبوّة النبيّ استكبارا
وجهالة.
* * *
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))
٥٣ ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) ... أي عمّا قريب نريهم العلائم والآثار الآفاقيّة ممّا
يظهر من نواحي الفلك ويمسّ الأرض. هذا بيان للآيات التي تأتي من الآفاق ، وأمّا
العلائم الآفاقية كالنّيرات وآيات الليل والنهار والأضواء والظّلال والظّلمة
والعناصر الأربعة وانشقاق القمر والصواعق والأمطار والرعد والبرق والسّحاب والنجوم
المذنبّة إلى غير ذلك ممّا لا نهاية لعدّه من الآيات الآفاقيّة العلويّة ، فإنها
أعمّ من آفاق السماء والأرض ، وكذلك الآيات الأرضية كالزلازل والخسف في الأرض
والجبال والبحار ونحوها ممّا لا يحدّه حصر. وقال ابن عباس : (فِي الْآفاقِ) أي منازل الأمم الخالية وآثارهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) يوم بدر ، أو من الآيات الأنفسيّة
والخلق كتحويل
النّطفة في مراحلها الخمس. ومثل هذه الآيات قد أطلعهم عليها في أنفسهم وفي الأمم
الخالية ممّا نزل بها من الإهلاك بالآيات ، ولكنّهم لم يتفكّروا ولم يتدبّروا ولا
تنبّهوا ولا نفعتهم الذّكرى ، ولذلك فانّنا سنريهم آيات آفاقيّة ننتقم منهم بها
عمّا قريب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ولو قيل إن قوله (سَنُرِيهِمْ) قد يكشف عن أنه سبحانه ما أطلعهم على شيء من مثل ذلك
الآيات؟ فالجواب أنهم قد اطّلعوا على كثير ممّا حلّ منها بالأمم الماضية ، ولكنه
تعالى سيريهم ذلك في أنفسهم في المستقبل ، وستحلّ الآيات في ساحتهم ويصيبهم وبالها
، وحينئذ سيظهر لهم الحقّ جليّا بأن نبوّة محمد صلىاللهعليهوآله حقّ ، فليكونوا على علم بذلك لأننا قد قضينا بذلك وحتمناه (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ولعل المراد بالشريفة بعد حمل الاستفهام على أنه تقريري هو
أنّ الكفار وإن أنكروا نبوّتك لكنّه سبحانه كاف لك في كونه شاهدا لنبوّتك ، وبأنه
يظهر دلائل واضحة وبراهين ساطعة على صدق دعواك وإثبات نبوّتك وهو قادر على كلّ شيء
، فلا تحزن على تكذيبك وعدم قبولهم نبوّتك وكتابك وفي الآخرة هم مغلوبون وأنت
الغالب لهم قبلوا أم جحدوك عنادا فلا يضرّونك أبدا. وجملة (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) بدل من قوله (بِرَبِّكَ) والباء الزائدة لتأكيد كفايته سبحانه له صلىاللهعليهوآله.
٥٤ ـ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
لِقاءِ رَبِّهِمْ) ... كلمة (أَلا) للتّنبيه والتّأكيد بأن الكفار بعد في شكّ من وجود الصّانع
تعالى ومن يوم البعث ومجازاتهم وجميع ما نريهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فلا
تنفعهم ولا تفيدهم وهم يشكّون في كونها انتقاما منّا لرسلنا ، فدعهم وأرح نفسك
فإننا على علم بما يقولون وما يفعلون (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطٌ) تأكيد بعد تأكيد بأن ربّك عالم ومحيط بكل شيء ، ولتنبيه
العباد وتذكيرهم بوجود الصانع وأوصافه التي تدل على التوحيد كالقدرة التامّة
والإحاطة الكاملة
المنحصرة بذاته
المقدّسة والتي لا تحصل لغيره تعالى فلا يفوته شيء في ثواب الأعمال. وفي المجمع عن
الصّادق عليهالسلام : من قرأ حم السّجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره ،
وسرورا ، وعاش في الدّنيا محمودا مغبوطا.
* * *
سورة الشورى
مكية إلّا الآيات
٢٣ إلى ٢٧ وآياتها ٥٣ نزلت بعد فصّلت.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١)
عسق
(٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))
١ و ٢ ـ (حم عسق) ... عن الباقر عليهالسلام : عسق عدد سني القائم عليهالسلام ، وق جبل محيط بالدّنيا من زمرّدة خضراء فخضرة السماء من
ذلك الجبل ، وعلم كلّ شيء في عسق. وهذه الرواية ونظائرها
من متشابهات
الرّوايات التي يردّ علمها إليهم عليهمالسلام ولعل فهم تلك الأخبار ممّا اختصّ بعصر القائم وزمان ظهوره
عجّل الله تعالى فرجه الشريف ان شاء الله تعالى ، تشريفا لنفسه الزكيّة وترفيعا
لمقامه السّامي وقد قلنا إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء للنبيّ محمد صلىاللهعليهوآله ، وكلّ واحد منها بمناسبة ويرمز إلى سرّ من الأسرار لا
يعلمه إلا الله ومن خوطب به والرّاسخون في العلم وها هنا جاء حديث في المعاني عن
الصّادق عليهالسلام أنه قال معناه : الحكيم ، المثيب ، العالم ، السّميع ،
القادر ، القويّ. ولا منافاة بين الحديث الشريف وما قلناه فان للقرآن بطونا ومعاني
تحت السّتار ولا يقدر أن يكشفها إلّا أهل بيت الوحي الّذين أذهب الله عنهم الرّجس
وطهّرهم تطهيرا. وقيل هذه الحروف رموز الى الفتن الحادثة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وإشارة إلى الحوادث الواقعة في قرب عصر الظهور وزمان نزول
عيسى عليهالسلام من السماء كالخسف والمسخ والقذف وخروج الدّجال على ما ورد
في الآثار عن الأئمة الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه ، وأخبر بها النبيّ حين نزول
هذه الشريفة على ما روي.
٣ ـ (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) ... أي مثل الذي في هذه السّورة من المعاني يوحي الله
تعالى إليك (وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرّسل (اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) الربّ الذي هو غالب على الأشياء طرّا بحيث لا يقدر أحد أن
يصرفه عن إنزال الوحي ، وهو عالم بمن له الأهليّة للإنزال عليه فيؤثره على أبناء
نوعه. وذكر الإيحاء بلفظ المضارع مع أنه حكاية عن حال الماضي للدّلالة على
الاستمرار أي إدامة الوحي ، وللإشعار بأنّ مثل هذا الوحي ممّا تتضمّنه هذه السّورة
من التوحيد والتصديق بالبعث والحشر ممّا جرت به عادة الله أن يلهمه لجميع الأنبياء
والرّسل. ونقل عطاء عن ابن عبّاس أنه قال : ما من نبيّ الّا اندرج في كتابه مضامين
هذه السورة بلسان
قومه.
٤ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) أي هو مالكهما من العلويّات والسفليّات فإنه خالقهما
والمنشئ لهما ولما فيهما من كتم العدم إلى ساحة الوجود ، وهو مدبّرهما بكمال
التدبير والحكمة ، فلذا اختصّتا به سبحانه نوع اختصاص كما اختص كلّ مالك بما له من
ملك. وتقديم الجارّ ومجروره لإفادة حصر المالكية ، أي ليس لأحد أن يتصرّف فيهما
ولا بما فيهما إلّا بإذن من الله ورسوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) الذي كان علوّ شأنه وارتفاع مقامه بحيث لا يصل عقل ذوي
الألباب إلى كنه معرفته جلّت عظمته ، وهو صاحب الكبرياء والجبروت بحيث يقصر فهم
ذوي الأفهام عن إدراك حقيقة ذاته.
٥ ـ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ
فَوْقِهِنَ) ... أي قرب أن تتشقّق السّماوات من عظم أن دعوا للرّحمان
ولدا أو لنسبة الشريك له أو القول بالتثليث أو غيرها من الأشياء التي يرتكبونها
وهي غير مرضية له تعالى ، و (مِنْ فَوْقِهِنَ) يعني أن التفطّر يبتدئ من جهة الفوق ، وتخصيصه بكونه من
أعلاهنّ للدّلالة على انفطار أسفلهن بالأولويّة ولزيادة التهويل.
ووجه الأولويّة أن
هذه النسبة الشنعاء الصّادرة من أهل الأرض إن أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثّر في
الجهة السفلى أولى. ثم إنّ الله سبحانه يقول (وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزّهون الله عمّا لا يليق به حال كونهم يشتغلون بذكر
ثنائه الجميل بما يليق به تعالى. ويستشعر من هذه الجملة أنه تعالى يريد أن يوبّخ
وينبّه بني آدم ويؤدّبهم ويفهمهم بأن كلّ ما أنعمت عليهم بعد نعمة الإيجاد بنعم
جزيلة كثيرة بحيث لا تحصى ولا تعد ، فهم لا يشكرون بل يكفرون بها عنادا أو ينسبون
إليّ ما لا يجوز نسبته إليّ. أمّا الملائكة فهم المخلوقون مثلهم لكنّهم عباد
يشكرون النّعم وينزّهون المنعم عمّا لا يليق به ويشتغلون بحمده ويستغفرون لبني آدم
بأمر
الله تعالى ، لأنّ
ما يصدر عنهم كان لجهلهم بخالقهم والمنعم عليهم ، يفعلون ذلك بإغواء الشيطان. وفي
القمّي قال : للمؤمنين من الشيعة التّوابين ، ولفظ الموصول في الآية عامّ لكنّ
المعنى خاصّ. وفي الجوامع عن الصّادق عليهالسلام : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين. والحاصل إن الله
سبحانه يقول (أَلا إِنَّ اللهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الدالّ على وفور نعمه ورحمته على المذنبين والعاصين ،
وكثير الغفران للتّوابين ، وهو أمره عزوجل للملائكة بالاستغفار لبني آدم الذين لا يستحقّون منه
سبحانه إلّا العذاب الأليم. والإتيان بالضمير الفاصل بين الموصوف وصفته هو
المبالغة في غفرانه وكثرة رحمته على خلقه.
٦ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) ... أي اتّخذوا آلهة عبدوها من الأصنام وغيرها ممّا لم يكن
بآلهة ف (اللهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ) أي محص ومراقب لأحوالهم وجميع شؤونهم فلا يفوته شيء منها
وهو مجازيهم بها. وهذا منه سبحانه إنذار وتهديد شديد (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بمفوّض إليك أمرهم حتى تطالب بايمانهم وتدخلهم في
الايمان قهرا ، إن عليك الا البلاغ والدعوة إلى الله مبيّنا سبيل الرّشد. فلا
يضيقنّ صدرك بتكذيبك وعدم إيمانهم بك ، وفيه تسلية للنبيّ (ص).
* * *
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ
(٨))
٧ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ... أي مثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب
التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم ، أوحينا إليك قرآنا بلغة العرب لتفقّههم فيما فيه
(وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى) أي أهل مكّة. وتسمية مكّة بأمّ القرى لانبساط الأرض طرّا
من تحتها يوم دحو الأرض ، فهي أمّ البلدان وأصل جميع نواحي العالم وأقاصيها (وَمَنْ حَوْلَها) أي أطرافها. والحاصل أنك مبعوث من عندنا إلى جميع العالم
لتنذرهم وتدعوهم إلى دين الإسلام (وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ) أي تنذرهم يوم يجمع فيه الخلائق ، أي يوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ في يوم الجمع. وهذه الجملة معترضة لا محل لها من
الاعراب ، أقحمها سبحانه لأن يوم الجمع مقطوع بوقوعه (فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي في ذلك اليوم يكون الناس على قسمين ليس لهم ثالث : قسم
في الجنة ، وآخر في النار. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوآله الناس ، ثم رفع يده اليمنى قابضا على كفّه ثم قال (ص) : أتدرون
أيّها الناس ما في كفيّ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : فيها أسماء أهل الجنّة
، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة. ثم رفع يده اليسرى فقال : أيّها الناس
أتدرون ما في كفّي؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال : أسماء أهل النار وأسماء
آبائهم إلى يوم القيامة ، ثم قال : حكم الله وعدل ، حكم الله وعدل ، فريق في
الجنّة ، وفريق في السّعير.
فإن قيل : إن ظاهر
صدر الآية يقتضي أن الله إنّما أوحى إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة ،
وهذا يقتضي أن يكون مبعوثا إليهم فقط ، فلا يكون رسولا إلى ما سواهما من أهل
العالم مع أنّه بنصّ الآيات والرّوايات رسول إلى كافّة الجنّ والإنس؟ فالجواب :
إنّ التخصيص بالذّكر
لا يدل على نفي
الحكم عمّا سوى المذكور. نعم سلّمنا أن الآية تدلّ بظاهرها على كونه رسولا إلى هذه
الطوائف خاصّة ، لكن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) يدلّ بالصّراحة على كونه مبعوثا ورسولا إلى جميع الخلق ،
والظاهر لا يقاوم الصّراحة كما بيّن في محلّه. هذا مضافا إلى أنه لمّا ثبت كونه
رسولا ولو إلى واحد (فكيف بثبوت كونه رسولا إلى طوائف) يثبت كونه صادقا لأنه لا
بدّ من ملازمة بين الرّسالة والصدق. ولمّا ثبت بالتواتر أنه كان يدّعي الرسالة إلى
العالمين فوجب تصديقه للملازمة المتقدّمة وهذه تثبت المدّعى قهرا.
٨ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) ... أي لو أراد الله لحملهم وقسرهم على دين واحد وهو
الإسلام ، لكنّه لم يفعل لأنه مناف لأمر التكليف ويؤدّي إلى إبطاله ، لأن التّكليف
إنّما يتحقق مع الاختيار. وقال القمّي : لو شاء أن يجعلهم كلّهم معصومين مثل
الملائكة بلا طباع ، لقدر عليه (وَلكِنْ يُدْخِلُ
مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي بالهداية لقبولهم الإيمان والطاعة. أو المراد بالرّحمة
هي الجنّة. والحاصل أنّ مشيئته وحكمته تقتضيان أن يكون الناس طرّا مكلّفين مختارين
حتى يعلم المطيع والمنقاد ويمتاز عن العاصي المعاند ، فالمطيع يستحق الثواب
والعقاب على التكليف مع الاختيار (وَالظَّالِمُونَ ما
لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي أهل الكفر والضّلالة لا وليّ لهم حتى يعفيهم ويحفظهم من
العذاب ، ولا ناصر لهم فيعينهم ويدفع عنهم الشّدائد من العقاب.
* * *
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى
وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))
٩ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ... كلمة أم للإضراب. والمعنى أنّ الكفرة لا أنّهم لا
يؤمنون فقط ، بل مضافا إلى ذلك اتّخذوا غير الله أولياء من الأصنام والأوثان مع
أنه لا يتأتّى من قبلها لهم نفع ولا ضرّ ، فإن أرادوا من أخذهم الوليّ أن ينتفعوا
ويستفيدوا منه (فَاللهُ هُوَ
الْوَلِيُ) الذي له الأهليّة لأن يستفاد منه وينتفع به كلّ النّفع ،
فلا بدّ من أخذه وليّا لأنّ قدرته فوق قدرة كلّ قادر وقوّته فوق القوى كما بيّن
ذلك بقوله (وَهُوَ يُحْيِ
الْمَوْتى) فالذي بتلك المرتبة من القدرة بأن يعطي الأموات الحياة ،
فهو ـ وحده سبحانه وتعالى ـ يليق بأن يؤخذ وليّا. أمّا الجماد الذي يكسر ويحرق
ويرمى برماده إلى أيّ مكان ولا يشعر بذلك ، ولا قدرة له أن يدفع عن نفسه الضرّ فهو
أخسّ من أن يؤخذ وليّا ، فالله هو الوليّ (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي لا ينبغي أن يترك هذا الذي بهذه الصّفة ويؤخذ ذاك الذي
هو أعجز من كلّ عاجز وأضعف من كلّ ضعيف ، فالذي هو قدير على الأشياء طرّا وأزمّة
أمورها بيده هو أحقّ بالولاية على الأشياء كلّها على ما يحكم به عقل كلّ عاقل وفهم
كلّ فهيم لا غيره ، كالأحجار المنقورة والأخشاب المصنوعة.
١٠ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) ... أي من أمور دينكم أو دنياكم (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي مفوّض إليه يفصل بينكم بإثابة المحق ومعاقبة المبطل (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) فالذي يتّصف بصفة الحكومة الحقّة ولا يجور في حكمه أبدا هو
الله وهو ربّي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي اعتمدت عليه ووثقت به في أموري جميعا دنيويّة كانت أم
أخرويّة (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع إليه حيث إنّه مرجع العباد طرّا لا الغير.
١١ ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... يمكن أن يكون رفعه باعتبار كونه خبر (ذلِكُمُ) بعد الخبر ويحتمل كونه مبتدأ وخبره جملة (جَعَلَ لَكُمْ) أي الذي خلق السّماوات والأرض (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً) من جنسكم نساء ، أو المراد بالأزواج هو الذكور والإناث
والتعبير (بجعل) لعلّه للتّنبيه على أن حكمة خلقهنّ لجعلهنّ أنيسات للرّجال
ولتحصيل الرجال منهنّ الأولاد والأتباع والله أعلم ، (وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى لازديادها وكثرة الانتفاع بها (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ينشركم ويكثّركم في الجعل المدلول عليه بقوله تعالى (جَعَلَ لَكُمْ) أو الضّمير راجع إلى النّسل الذي يحصل من الذكور والإناث
كما فسّره القمّي ، وهذا أقرب بالنظر إلى (يَذْرَؤُكُمْ) وأنسب كما لا يخفى
على أهل النظر. و (يَذْرَؤُكُمْ) من الذّرء بمعنى الخلق والتكثير في الشيء ، وضمير الخطاب
عامّ يشمل العباد والأنعام على سبيل تغليب ذوي العقول على غيرهم ، والمناسب هو
التعبير بباء السببيّة ، لكنّه لمّا كان هذا التّدبير ، أي خلق الأزواج الذي هو
منشأ التزاوج والتناسل بمنزلة المنبع والمعدن اللّذين يخرج منهما المياه والفلزات
وتخرج الأشياء بعناوينها المختلفة فلذا عبّر بقوله (فِيهِ) نظير قوله سبحانه (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) فيحمل الظرف على معناه الحقيقي. ولمّا لم يكن إيجاد
السّماوات والأرضين وتكثير الخلائق بالتّزاوج مقدورا لأحد سواه تعالى فلهذا يقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قيل
بزيادة حرف الجر
والإتيان به لتأكيد النفي. وقيل إن المراد بلفظ المثل هو المثل الفرضيّ ، يعني لو
كان له مثل فرضا لم يكن كمثله شيء وقيل أريد بمثله ذاته كقولهم مثلك لا يبخل أي
أنت لا تبخل. والحاصل من قوله ليس كمثله شيء أنه متفرّد في صفاته وفي ذاته
القدسيّة (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) يسمع المقولات ويبصر المبصرات فكل من يريد أن يقول منكرا
من القول أو يفعل قبيحا من العمل فليقل وليفعل ، فإن الربّ لبالمرصاد ، وهذا تهديد
منه سبحانه للعباد.
١٢ ـ (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي مفاتيح خزائنهما ، وقيل مفاتيح الأرزاق وأسبابها
فتمطر السّماء بأمره وتنبت الأرض بإذنه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسّعه (وَيَقْدِرُ) أي يقتّر ويضيّق ، كلّ ذلك على طبق مشيئته (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي منه مصالح البسط والتقتير فيفعله على ما ينبغي.
* * *
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣))
١٣ ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً) ... أي سنّ لكم
شريعة ونهج منهاجا
وأوضحه لكم وأظهره ، وهو ما وصّى به نوحا ، فهو بيان عن دين نوح وشريعته. والخطاب
إلى أمّة محمد صلىاللهعليهوآله أي يا أصحاب محمد إنّ الله سبحانه اختار لكم من ناحية
الدّين دين نوح ودين محمد وإبراهيم وموسى وعيسى. وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذّكر
لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشّرائع العظيمة والأتباع الكثيرين. والمراد من
الدّين ها هنا هو أصول الدّين المشتركة بين هؤلاء الخمسة ، بل المتّفق عليها بين
الكلّ من التوحيد والمعاد والإلهيّات ، غير التكاليف والأحكام لأنّها مختلفة
متفاوته كما قال سبحانه (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) فلا بد أن يكون
المراد من الدّين الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع والأزمان (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما
وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الجملة في محل النصب بناء على أنها بدل عن مفعول شرع ، أي
شرع لكم أن أقيموا الدّين أي أصوله. أي تمسكوا به جميعا وخذوا به ولا تختلفوا فيه
فتتشتّتوا وتتفرّقوا فيسلّط الله عليكم من لا يرحمكم (كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم عليهم وصعب ما تدعوهم إليه من التوحيد والنبوّة
والمعاد وترك الأصنام ورفض دين آبائهم الأوّلين (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ) أي يختار إلى دينه (مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يوفّق إلى دينه من يقبل إليه ويقبله ويستقبله بقلبه ، ولا
يوفّق إليه المعاند والجاحد. وقال القمّي : المراد بمن (يَجْتَبِي) و (مَنْ يَشاءُ) و (مَنْ يُنِيبُ) هم الأئمة الذين اختارهم واجتباهم. وعن الصّادق عليهالسلام (أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ) قال : الإمام عليهالسلام : ولا تتفرقوا فيه : كناية عن أمير المؤمنين ، ما تدعوهم
إليه : من ولاية عليّ عليهالسلام ، من يشاء : كناية عنه.
* * *
(وَما تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))
١٤ ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ... لقائل أن يقول : إن الله تعالى أمر (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا) فما السبب في أن نجد الأمم متفرّقين؟ فيجيب سبحانه عن
السؤال المقدّر بقوله : (وَما تَفَرَّقُوا) ، الآية أي تفرّق أهل الكتاب أو أهل الأوثان والأديان بعد
العلم والعرفان بصدق الأنبياء وحقانيّة ما جاؤوا به (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا بين الرّسل وبينهم ، أو بين بعضهم مع البعض
الآخر طلبا للرئاسة ، فحملتهم الحميّة النفسانيّة والعصبيّة الشهوانيّة على أن لا
يسمعوا دعوة داعي الله وعلى أن يخالفوا أوامره ونواهيه ، فذهبت كلّ طائفة إلى مذهب
، ومشى كلّ قوم إلى سنّة سيّئة جعليّة ، فحصل الاختلاف. فجملة (بَغْياً
بَيْنَهُمْ) علّة للاختلاف ، ونصب (بَغْياً) بلام التعليل المقدّر ، أي اختلفوا بعلة الحسد والعدوان
بعد علمهم بصدق الأنبياء وحقّانيّة كتبهم ، أو اختلفوا للبغي ولأجله. ثم أخبر
سبحانه أنّهم استحقّوا العذاب بسبب هذا العمل الشنيع والفعل القبيح الصادر عنهم ،
إلّا أنّه جلّ وعلا أخّر عذابهم وأمهلهم لمصلحة اقتضت ، ولأنّ لكلّ عذاب أجلا
مسمّى وزمانا خاصّا ، ولذا قال سبحانه (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والمراد بالكلمة هو الوعد بالإمهال وتأخير عذاب الأمّة
المرحومة أو مطلق الأمم لأن الآية عامّة. والأجل المسمّى قد يكون في الدنيا وقد
يكون في القيامة وهو الأجل المعهود والمراد بالقضاء عليه بينهم هو إهلاك المبطلين
والحاسدين المعاندين الجاحدين الملقين للخلاف بين الأمّة. وفي القمّي : لو لا أنّ
الله قد قدّر ذلك أن يكون في التقدير الأوّل ، لقضي بينهم إذا اختلفوا ولأهلكهم
ولم ينظرهم ، ولكن أخّرهم إلى الأجل المسمّى المقدّر (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي اليهود والنّصارى الذين أورثوا الكتاب أي التوراة
والإنجيل ، من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ومن بعد أحبارهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي من القرآن أو من محمّد (ص) ومريب صفة ظاهرة للشّك ،
ومعناه لفي شكّ مؤدّ إلى الرّيبة أي الظنّ فإنها مرتبة من مراتبه يعني ظنهم غالبا
أنّ القرآن أو الإسلام أو محمّدا صلىاللهعليهوآله على غير الحق. والقمّي قال : كناية عن الذين نقضوا أمر
رسول الله وعهده.
١٥ ـ (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) ... أي لأجل الاختلاف الذي صار سببا للتفرّق موجبا لتشكيل
المذاهب المختلفة التي عمّ شؤمها للإسلام والّتي أخبر بها النبيّ صلىاللهعليهوآله إذ قال (ص): ستفترق بعدي أمّتي سبعين فرقة ، واحدة ناجية
والباقي في النار ، أو مع تفاوت يسير في اللفظ (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ
كَما أُمِرْتَ) قال بعض أعلام علم النحو كالفرّاء والزجّاج
جاء : دعوت لفلان
وإلى فلان أي استعمل اللّام بمعنى إلى ، فلذا قيل إنّ حرف الجرّ في قوله (فَلِذلِكَ فَادْعُ) بمعنى إلى ، ومعناه فإلى الدّين الذي شرعه الله تعالى
ووصّى به أنبياءه فادع الخلق يا محمد. وقيل أن اللام للتعليل كما فسّرناه والإشارة
إلى الشك الذي حصل لهم أي فلأجل الشك الذي هم عليه فادعهم إلى الحق حتى تزيل
شكّهم. وعن الصّادق عليهالسلام : يعني إلى ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام
(وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) أي امض كما أمرت وصمّم على أمرك ولا تصغ إلى كلام أحد فيما
أمرت به من دعوتك الناس إلى التوحيد وتبليغ الرّسالة والنبوّة ، ولا تخف من أحد فإن
الله ناصرك ومعينك. والحاصل ان قوله تعالى فاستقم أي كن ثابت القدم في أمر مولاك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا توافقهم فيما يميلون إليه ولا تسر على أثرهم أبدا
قال في التبيان : إن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله صلىاللهعليهوآله : ارجع عن دينك ودعوتك حتى أهبك نصف مالي ، وكان مليّا.
وقال شيبة بن عتبة : إن رجعت عن دعوتك أزوّجك ابنتي ، فنزلت الآية (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ
مِنْ كِتابٍ) المراد لعلّه الجنس ، أي قل لهم : إني آمنت بجميع الكتب
السماوية التي نزلت عليّ وعلى سائر الأنبياء الذين كانوا قبلي وصدّقتها وإنها حقة
محقّة ، فكيف أتّبعكم فيما دعوتموني إليه من أديانكم الباطلة وأهوائكم السخيفة ،
فدين الله أحقّ أن يتّبع (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي بأن أعدل بينكم بأن أدعوكم إلى التوحيد والوحدة وتقولوا
جميعا لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، من الأشراف والوضعاء والأعالي والأداني
، فهذا أمر سويّ وطريق مستو بينكم في تبليغ الحكم. وقل للكفرة إنكم معترفون بأن (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لكلّ عمل جزاؤه (لا حُجَّةَ) أي لا محاجّة ولا خصومة (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) لظهور الحقّ فلا وجه لها بعده (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) وبينكم يوم فصل القضاء (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي المرجع.
١٦ ـ (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) ... أي يخاصمون في دين الله وهم اليهود والنّصارى قالوا
كتابنا قبل كتابكم ونبيّنا قبل نبيّكم ونحن خير منكم وأولى بالحقّ. وإنما قصدوا
بما قالوا دفع ما أتى به محمد صلىاللهعليهوآله (مِنْ بَعْدِ ما
اسْتُجِيبَ لَهُ) أي لرسوله من بعد ما دخل الناس في الإسلام وأجابوه إلى ما
دعاهم إليه أو بعد إجابة اليهود والنصارى لدين الله وقبولهم له يوم الميثاق أو في
الدّنيا قبل أن يبعث محمدا صلىاللهعليهوآله لأنهم استمعوا نعوته في التوراة وآمنوا به ولمّا بعث (ص)
أنكروه بغيا وعدوانا وطلبا للرئاسة ، (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي باطلة ، فإنّهم زعموا إن دينهم أفضل من الإسلام وذلك أن
اليهود قالوا للمسلمين ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى مما ليس كذلك ،
فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتفاق بيننا وبينكم ، ونبوّة محمد وكتابه
مختلف فيهما فيجب أن يؤخذ بدين موسى وباليهوديّة. فبيّن سبحانه أنّ هذه الحجّة
فاسدة سفسطائيّة لأنها بعد ظهور الحق بالحجج والبراهين الواضحة بحيث قال تعالى (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ) تمّت الحجة عليهم ولا تسمع منهم هذه السفسطات والأساطير
أبدا (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) من ربّهم (وَلَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) بمعاندتهم ومجادلتهم في إدحاض الحق وإحياء الباطل وتغيير السّنة
الحقّة وتبديلها بالباطلة.
* * *
(اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها
وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠))
١٧ ـ (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِ) ... أي جنس الكتاب أو القرآن ، بالحق أي متلبسا بالغرض
الصّحيح (وَالْمِيزانَ) كناية عن منهج الشرع المعتدل المستوي ، أو المراد به ما هو
المتعارف بين الناس الذي توزن به الأشياء ، وعطفه على الكتاب لجامع بينهما وهو
اشتراكهما في تسوية الأشياء ، والتميّز بين الحق والباطل. والمراد بإنزاله هو
تعليمه سبحانه للخلق كيفيّة وزن الأشياء به حتى لا يقع حيف على البائع والمشتري ،
وكيفيّة التعليم إما بالوحي والإلهام أو بواسطة أنبيائه الذين هم وسائط بين الخالق
والمخلوقات فيما يحتاجون اليه. والقمّي قال : الميزان أمير المؤمنين عليهالسلام ، ولمّا ذكر سبحانه إنزاله الكتب السماويّة التي هي موازين
الحقّ والباطل في أعمال الخلق وأقوالهم وجميع أمورهم في الدنيا حيث إنها دار عمل
وليس فيها حساب ، وأمّا الآخرة فهي دار حساب ولا عمل فيها ، نبّههم وذكّرهم بأن
القيامة يمكن أن تكون قريبة حتى لا يتسامحوا في تحصيل ما يفيدهم في الآخرة بقوله :
(وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي قادمة ولكنها غير موقتة بوقت تعرفونها لأن علم الساعة
خاصّ بذاته المقدّسة وما عرفها أحد من خلقه ، فلا بد للخلق أن يعلموا بحيث يحسبون
كأنّهم يموتون غدا أو بعد غد أو قبل غد.
١٨ ـ (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ) ... لمّا كان الرّسول يهدّدهم بمجيء يوم القيامة وأكثر
القول في ذلك ، وأنّهم ما رأوا منه أثرا لذلك ، لذا قالوا سخرية : متى تقوم
القيامة؟ فقال تعالى (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) ، الآية أي استهزاء (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون ووجلون منها لعلمهم بأنه يوم جزاء الأعمال وباب
التوبة مسدود في ذلك اليوم ولا ناصر ولا مغيث فيه إلّا العمل الصّالح والقلب
السّليم (وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُ) أي الواقع الثابت بلا ريب (أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي اعلموا أن المشركين الذين ينازعون ويجادلون في القيامة
إنكارا لها لفي الضلالة البعيدة عن الصواب كمال البعد.
١٩ ـ (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) ... أي يعمّهم ببرّه بحيث إنهم لا يدركونه ، ولم يعاجل
مسيئهم بالعقوبة لعلّه يتوب ويستغفره فيغفر له ، وهذا غاية اللطف منه عزوجل بعباده العاصين وغيرهم (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) على مقتضى حكمته الغامضة ومصلحته الخفية ، فيختصّ كلّ صنف
وفرد بنوع من النّعم ، ويعطى الواحد الولد والآخر المال وهكذا طبق ما يرى الخالق
فيه وحسب ما تقتضي المصلحة الذاتية التي خلق عليها ولا يعلمها إلّا الخالق
والمدبّر الذي جعل نظام عوالم الكون على المصالح حتى لا يلزم اللّغويّة في خلقها
وتدبيرها على هذا النسق الخاص والترتيب المنظّم ، فتبارك الله أحسن الخالقين
والرازقين ليس أحد من المخلوقين إلّا وهو متنعّم على سفرة نعمه ومرزوق من خوان
إحسانه (وَهُوَ الْقَوِيُ) أي صاحب القوّة الغالبة على الأقوياء في اللطف والرّحمة (الْعَزِيزُ) الغالب في الإرادة على وجه الحكمة والمصلحة بحيث لا يغلب
أبدا.
٢٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ) ... أي الذي كان في الدنيا طالبا لثواب الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي نضاعف له الواحد بعشرة. ووجه الشّبه بالزّرع لأنّ
الفائدة تحصل بعمل الدّنيا ، ويؤيّده قوله : الدّنيا
مزرعة الآخرة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها) أي ما قسمنا له وقدّرناه في دنياه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) إذ الأعمال بالنيّات. وفي القمّي عن الصّادق عليهالسلام : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ،
وقد يجمعهما الله لأقوام. وفي الكافي عنه عليهالسلام : من أراد الحرث لمنفعة الدّنيا لم يكن له في الآخرة من
نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدّنيا والآخرة. وكلمة (مَنْ) في الآية للتبعيض تدلّ على من أراد نفع الدنيا بكسبه أو
بعلمه لا يعطى إلّا الشيء القليل. والتعبير عن منافع الدنيا وثواب الآخرة ب «الحرث»
تنبيه لنا بأن تحصيل كلّ واحد منهما لا يتأتّى إلّا بتحمّل المشاقّ لأن الحرث
يحتاج إلى البذر وشق الأرض وإثارتها وتقليبها ، ثم إلى السقي بعد إصلاح الأرض برفع
موانع البذر ودفع الحوادث مهما أمكن ثم التنمية بتهيئة أسبابها ومقدّماتها التي
تحت قدرة الحارث والزارع ، ثم الحصد ، ثم التنقية. فلمّا سمّى الله كلا القسمين
حرثا علمنا أنّ كلّ واحد منهما لا يحصل إلا بالمتاعب والمشاقّ.
* * *
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ
لَهُمْ
ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)
ذلِكَ
الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ
لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))
٢١ ـ (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ الدِّينِ) ... لمّا بيّن سبحانه القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في
أعمال الدّنيا والآخرة أردفه في هذه الآية بما هو الأصل في باب الشقاوة والضّلالة
فقال (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) فالاستفهام للتقريع والتقرير أي : بل لهم شركاء من
الشياطين شرعوا لهم بالتسويل دينا (لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
اللهُ) لم يسمح ولم يرض به كالشّرك وإنكار الصّانع من بعض وإنكار
البعث ، والشركاء هم شياطينهم الذين زيّنوا لهم الشّرك والعمل للدّنيا (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ) أي لو لا الوعد بتأخير الجزاء والفصل بين المؤمنين والكفرة
يوم القيامة لفرقنا وفصلنا بينهم في الدنيا ، لكن اقتضت المصلحة التأخير. وهذا
نظير قوله تعالى سابقا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ) ، الآية وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام في هذه الآية قال : لو لا ما تقدّم فيهم من الله عزّ ذكره
ما أبقى القائم منهم أحدا. أقول يعني القائم في كلّ عصر فإن لكل عصر قائما ولو لاه
لخسفت الأرض بأهلها (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أعدّ لهم العذاب الشديد يوم الفصل ويوم الفرق.
٢٢ ـ (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
كَسَبُوا) ... أي خائفين يوم القيامة حين كشف الغطاء ومعاينة العذاب
الأليم ممّا ارتكبوا وعملوا من القبائح والمنكرات (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي والحال أنّ ما يخافون منه واقع وقد حلّ
بهم العقاب الذي
يستحقّونه ، والخوف في ذلك اليوم لا ينفعهم. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر أحوال أهل
العقاب من العاصين ، بيّن أحوال المطيعين وأهل الثواب فقال (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي أن الشرط في قبول إيمان المؤمن أمران : التّصديق
باللسان ، والعمل بالأركان فاذا اجتمعا فهم (فِي رَوْضاتِ
الْجَنَّاتِ) أي في حدائق الجنان متنعّمون بأكمل النّعم وأتّمها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي حال كونهم عند ربهم فإن لهم ما يرون من النعيم. ويحتمل
أن يكون الظرف مرفوع المحلّ بناء على الخبرية للمبتدأ المحذوف ، أي هم عند ربّهم.
والمراد هو القرب الرّتبي لا المسافتي أي المكاني (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ) أي ما ذكر من كرم الله وتفضّلاته على عباده الصالحين هو
إحسان جليل عظيم لا يعادله إحسان غيره.
٢٣ ـ (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) ... الإشارة إلى الفضل الكبير وهو مبتدأ خبره جملة الموصول
مع صلته (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان للعباد المبشّرين بالنّعم المذكورة آنفا أي بشرهم
الله به وقد حذف الجارّ والعائد (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً) قال الثعلبي عن قتادة : إن جماعة من المشركين كانوا
مجتمعين في مجلس فقال بعضهم : هل تدرون أن محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت
الآية أي قل لهم يا محمد : لا أطلب منكم على ما أنا عليه من التّبليغ نفعا وأجرة (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي أهل بيتي. فعن الصادق عليهالسلام : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله قام رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : إن الله تعالى قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم
مؤدّوه؟ قال فلم يجبه أحد منهم ، فانصرف. فلمّا كان من الغد قام فقال مثل ذلك فلم
يجبه أحد ، وكذلك في الثالث فلم يتكلم أحد ، فقال : أيّها النّاس ليس من ذهب ولا
من فضّة ولا مطعم ولا مشرب ، قالوا فألقه إذا. قال : إن الله تبارك وتعالى أنزل
عليّ (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقالوا أمّا هذه فنعم. قال
الصّادق عليهالسلام : فو الله ما وفى بها أحد إلا سبعة نفر : سلمان ، وأبو ذر
، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمّار ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، ومولى لرسول
الله ، وزيد بن أرقم. فإن قيل إنّ طلب الأجرة على تبليغ الرسالة لا يجوز لأنه كان
واجبا عليه وطلب الأجرة على الأمر الواجب غير جائز كما قال نوح (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) على أنّ طلب الأجرة يوجب التّهمة ، وذلك لأن طلب الأجرة
يدلّ على أنّه طالب للدّنيا ولا يقصد بعمله الخلوص وهذا المقام مناف للنبوّة
والرّسالة الإلهيّة ، فأجيب : أوّلا بأن الاستثناء منقطع فحينئذ كلمة (إِلَّا) بمعنى بل. والثاني أنّه على فرض اتّصاله لكنّه لمّا كانت
المودّة في القربى أمرا واجبا في الإسلام فلا تكون أجرا لتبليغه الرسالة وهو من
باب قول النّابغة :
ولا عيب فيهم
غير أنّ سيوفهم
|
|
بها من قراع
الدّار عين فلول
|
فيصير المعنى في
الشريفة : أنا لا أطلب منكم على تبليغي للفرائض والسّنن إلّا فريضة أخرى أوجب الله
عليّ تبليغها إليكم وهي فرض عليكم ، هي المودّة الكائنة في القربى. والثالث من
الأجوبة أنّ الأحكام الشرعيّة أمور تعبديّة سنّها الله تعالى على عباده وبيده
سبحانه خيار جعلها وعدمه ورفعها ومحوها وإثباتها ، فله أن يجعل لنبيّه صلىاللهعليهوآله أجرة على واجب من واجباته التي أتى بها ويجعل هذا من
خصائصه صلىاللهعليهوآله ، وهذا ليس أمرا مستنكرا بحيث يكون مخالفا للعقل أو للشرع
حتى يستوحش الفقيه من القول به. ولذلك نظير في الشريعة كما في باب الجهاد فإنه
واجب على النبيّ فإذا ظفروا وكان في الغنيمة خصائص للملك أو للأمير أو للزعيم كانت
تلك الأشياء مختصّة بالقائد الأعظم من نبيّ أو وصي نبيّ أو إمام لقائديّته مع أنه
واجب عليه بعد إفراز تلك الخصائص له أن يقسّم الغنيمة على الأفراد على ما فرضه
الله. هذا مضافا إلى أننا
نقول : هناك فرق
بين الأجر والأجرة لغة ، فإن الأجر هو الثواب على الأعمال العباديّة تفضّلا كما هو
الحق في قبال القول بالاستحقاق ، وهذه وظيفة جعلها الله على ذاته المقدّسة كرامة
وفضلا على عباده ولا ربط لها بالمخلوق. ويؤيّد هذا قول نوح عليهالسلام (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فقد حصر عليهالسلام أجره بربّه ونفاه عن المخلوقين لأنه منفيّ عن ساحتهم ، حيث
إن أمر الثواب والعقاب منحصر بذاته المقدّسة. وامّا الأجرة فهو الكراء والعوض ،
ومثله الاجارة وما يأخذه الخادم بعوض عمله وشغله وخدمته المقرّرة ، وهو واجب على
المؤجّر أن يقدمه كواجبه الآخر. وهذا هو السرّ في تعابيرهم وإيثارهم الأجر على
الأجرة عليهم صلوات الله.
والحاصل أن آية
المودّة قال في بيانها صاحب الكشّاف : روي عن النبيّ أنه قيل له : يا رسول الله من
قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال صلىاللهعليهوآله : عليّ وفاطمة وابناهما ، فثبت بهذا أنّ هؤلاء الأربعة
أقارب النبيّ وهم مخصوصون بمزيد التعظيم. وقال صلىاللهعليهوآله : فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها. وثبت بالنّقل
المتواتر عن النبيّ أنه كان يحبّ عليّا وفاطمة والحسن والحسين ، فوجب على الأمّة
كلّها مثله لقوله (وَاتَّبِعُوهُ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ونعم ما قال الشّاعر :
لو أن عبدا أتى
بالصّالحات غدا
|
|
وودّ كلّ نبيّ
مرسل ووليّ
|
وصام ما صام
صوّام بلا ملل
|
|
وقام ما قام
قوّام بلا كسل
|
ما كان في الحشر
يوم البعث منتفعا
|
|
إلّا بحبّ أمير
المؤمنين عليّ
|
وفي تفسير منهج
الصّادقين ، عن أبي حمزة الثمالي عن عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن
رسول الله صلىاللهعليهوآله حينما قدم المدينة جاءه أكابر الصحابة وقالوا : يا رسول
الله أنت ملاذنا ومقتدانا
وهادينا ، ونحن
نرى أن مصارفك كثيرة لأنّ الوفود ترد عليك وليس عندك ما يكفيهم حيث إنّ دخلك قليل
فأذن لنا أن نقدّم إليك أموالنا ونخلّيها تحت اختيارك فتصرّف فيها كما تشاء ،
فنزلت آية المودّة وأنه ليس لي طمع في أموالكم غير أني أحبّ أن تحبّوا اقاربي في
حياتي وبعد مماتي (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي يكتسب مودّة آل الرّسول كما ورد عن الحسن المجتبى أنه
قال عليهالسلام في خطبة : أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على
كلّ مسلم فقال (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) ... إلى قوله (حُسْناً) قال : فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت. وعن الباقر عليهالسلام : الاقتراف التسليم لنا والصّدق علينا وأن لا يكذب علينا. وقيل
إن اقتراف الحسنة هو اكتساب مطلق الطّاعة (نَزِدْ لَهُ فِيها
حُسْناً) أي بتضعيف الثواب في الحسنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للسيّئات (شَكُورٌ) للحسنات. واطلاق الشكور على ذاته القدسيّة نوع مجاز لأن الشاكر
الحقيقي هو الذي يصل إليه نفع من المشكور له ، والله تعالى في غنى عن ذلك. فالمعنى
أنه يتعامل مع عباده معاملة الشاكر في توفية الحق كأنه ممّن وصل إليه النفع فشكره
شكرا كثيرا.
* * *
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ
اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))
٢٤ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ) ... أي بل يقولون افترى وكذب محمد على الله كذبا بأن يقول
إن القرآن من عند الله أو بادّعائه الرّسالة من عنده سبحانه ، والافتراء هو التهمة
بالباطل (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي لو حدّثت نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبع الله على
قلبك ولأنساك القرآن ، فكيف تقدر بأن تفتري على الله ، وهذا كقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ) أي هذا على سبيل الفرض والتشبيه من هذه الجهة. أو المعنى :
أو يربط على قلبك بالصّبر على أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ) أي يزيله ويرفعه بإقامة الدّلائل على بطلانه (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يثبته بالكلمات النّازلة في قرآنه من الحجج والدلائل
والبراهين ، وقيل بوحيه (إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائر القلوب وما يخطر فيها من الخير والشر ، فيثاب
صاحب الخير ويعاقب صاحب الشر. قال عبد الله بن العباس : لمّا نزلت هذه الآية ندم
أهل الافتراء وجاؤوا إلى النبيّ نادمين من قولهم وقالوا نشهد إنك رسول الله وصادق
فيما جئتنا وما قلت لنا ونحن تبنا مما نظنّ بك ونجدّد إيماننا فنزلت الشريفة (هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ).
٢٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ) ... هذه الآية الكريمة أرجى آية في كتاب الله حيث إنها
مطلقة من ناحية قبول التوبة عن العصيان وإن جلّت وعظمت المعصية ، وإن بلغت ما بلغت
في العظمة فإنه سبحانه وتعالى يقبل التوبة عنها والإقلاع عن العودة إلى مثلها لأنه
يقبل التوبة النّصوح (وَيَعْفُوا عَنِ
السَّيِّئاتِ) بالغا ما بلغت السيئات فإنه تبارك وتعالى يتجاوز عنها. ثم
إن قبول التوبة يستلزم العفو عن السيّئة كما هو واضح ، فذكر العفو بعد القبول
للتصريح بالعفو بالدلالة المطابقية ، ولو لم
يكن مستلزما كما
هو مذهب البعض ، فذكره بعده لترجّي العباد وتأميلهم لفضله وإحسانه عليهم ، وذكر
العلم بأفعال عباده للتّنبيه على عدم اغترارهم وأمنهم. وبالجملة لا بدّ من أن يكون
العبد بين الخوف والرجاء في كلّ الأحوال. وأمّا ما قلناه من أن هذه الشريفة هي
أرجى آية في القرآن الكريم ، فقد استفدناه من شأن نزولها ، فإنها قد نزلت في أهل
الافتراء ونسبة الكذب إلى النبيّ الأعظم صلوات الله عليه وآله كما ذكرنا قبل قليل.
وهذه النّسبة من أعظم الذنوب وأكبر السيئات ، ومع ذلك فإن المفترين بعد ندامتهم
وتوبتهم واعترافهم للنبيّ (ص) بذنبهم نزلت في مقام توبتهم والعفو عنهم مطلقا
وخصوصا بعد مثولهم في حضرته المقدّسة وإعلان اعترافهم بذنبهم مع البكاء والنّحيب
والندم على ما في رواية العيون عن الحسين الشهيد عليه صلوات الله وسلامه ... هذا
وقد أتى بالجملة الاسميّة التي تدلّ دلالة واضحة على الإدامة والاستمرار بالنسبة
إلى كلّ تائب وعن أيّة سيّئة من السيّئات وفي كل وقت (وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ) أي من خير وشرّ فيجازيكم على ذلك.
٢٦ ـ (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي يجيبهم إلى ما يسألونه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قلنا إن الإيمان بلا عمل لا يقبل لأنه يكشف عن أنّ الإيمان
لساني لأنّ الإيمان الحقيقيّ لا ينفكّ عن العمل الخارجيّ وكذلك العكس (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي على ما فعلوا واستحقّوا بالطّاعة أو بالاستجابة. وقد
سئل إبراهيم الأدهم : ما لنا ندعوه فلا نجاب؟ قال : لأنّه دعاكم فلم تجيبوه ، فقرأ
هذه الآية (وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا) ، إلخ وقيل إن الاستجابة بمعنى قبول الطاعة والإنابة ،
والزّيادة باعتبار الثواب (وَالْكافِرُونَ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) استحقّوه بكفرهم ومعاداتهم لمحمد وأهل بيته صلىاللهعليهوآله.
* * *
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨))
٢٧ ـ (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ) ... أي وسّعه عليهم (لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ) أي لبطروا وأفسدوا في الأرض ظلما وعدوانا وتغلّب بعضهم على
بعض ولعلا بعضهم على بعض وخرجوا عن الطاعة. قال ابن عباس : بغيهم في الأرض طلبهم
منزلة بعد منزلة ، أو دابّة بعد دابّة ، وملبسا بعد ملبس. وفي القمّي عن الصادق عليهالسلام : لو فعل لفعلوا ، ولكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض ،
واستعبدهم بذلك. ولو جعلهم كلّهم أغنياء لبغوا (وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي بمقدار أنه يصلحهم في دينهم ودنياهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي يعلم ويرى ما يناسبهم في أوضاعهم وأحوالهم على حسب
مصالحهم نظرا منه تعالى إليهم بالرأفة والرحمة ، ويؤيّده الحديث القدسيّ عن النبيّ
عن جبرائيل عن الله تعالى : إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السّقم ولو صحّحته
لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصّحة ولو أسقمته لأفسده ، وإن من عبادي
من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر
ولو أغنيته لأفسده ، وذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم ، الحديث بطوله ...
٢٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) ... الغيث هو المطر الّذي يكون نافعا في وقته ، لأنّ المطر
يكون نافعا تارة وضارّا أخرى ، فالذّي يكون نافعا يعبّر عنه بالغيث كالمطر الذي
يغيثهم من الجدب (مِنْ بَعْدِ ما
قَنَطُوا) أي بعد يأسهم. والوجه في إنزاله بعد القنوط أنّه أدعى إلى
الشكر وأوقع لتعظيم الآتي به ، ولمعرفة الآلاء والنّعم من منزلها لأنه لا يقدر على
إنزال الغيث
وإعطاء سائر النعم
غيره سبحانه ، فهو الذي ينبغي أن يطاع ويعبد ويشكر (وَ) هو الذي (يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي في كلّ ما يحتاج إليها (وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ) الذي يتولّى أمر عباده بإحسانه ونشر رحمته ويستحقّ الحمد
والثناء.
* * *
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (٣١))
٢٩ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ... أي من الدّلائل الدّالة على التوحيد والقدرة التي ليس
فوقها قدرة ولا يتعقل أن تكون ، لأنه لا يقدر على خلقهما غيره قادر ، لما فيهما من
عجائب الصّنع وغرائب الخلقة ، والمواد التي لا يقدر عليها قادر ، والأجناس التي لا
يعرفها صانع من البشر ولا غيرهم (وَما بَثَّ فِيهِما
مِنْ دابَّةٍ) أي فرّق فيهما ونشر ، من بث الشيء إذا فرّقه (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ
قَدِيرٌ) أي أنه تعالى على حشرهم وبعثهم إلى الموقف بعد إماتتهم
قادر متمكّن بأيسر وأسهل ما يكون في أيّ وقت شاء ، ولا يتعذر عليه ذلك أبدا.
٣٠ ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) ... ثم إنه تعالى بعد تعداد نعمه العظيمة وإنعامه بها على
عباده يبيّن بأن ما يصيبهم من بليّة أو آفة ماليّة أو
بدنيّة (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بشؤم معاصيكم التي صدرت منكم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) من تلك العاصي بإزاء هذه الآفات والبلايا الواردة على
العاصي بأن يجعلها كفّارة لكثير من ذنوبه رحمة ولطفا منه تعالى على العباد ويؤخّر
بعض الذنوب ليوم الحساب لأنها ذنوب لا يطهّر العبد منها إلّا بالنار بمصالح لا
يعلمها إلّا الله عزوجل ، ولذا قيّد العفو (بكثير) ولم يطلقه. نعم لا يعاقب على ما
عفا عنه ثانيا. وفي المجمع عن عليّ عليهالسلام أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي ، خير آية في كتاب الله هذه الآية ، ما من خدش
عود ولا نكبة قدم إلّا بذنب ، وما عفا الله عنه في الدّنيا فهو أكرم من أن يعود
فيه ، وما عاقب عليه في الدّنيا فهو أعدل من أن يثنّي على عبده. وقال بعض أهل
التحقيق : الآية مخصوصة بالمجرمين وإن خرجت مخرج العموم لأن الأطفال والمجانين ومن
لا ذنب له من المؤمنين قد يصابون بمصائب شديدة مع أنه لا ذنب لهم ، وإن الأنبياء
والأئمة يمتحنون بالمصائب وليس ذلك لأجل الذنوب بل لأسباب أخر منها التعريض للثواب
العظيم والدّرجات العالية. أقول : هذا السبب ، أي التعريض ، بالنسبة إلى المكلّفين
لا بأس به وأمّا بالنسبة إلى غيرهم كالأطفال والمجانين المصابين بأنواع المصائب
فلا يقوم به هذا الجواب. نعم يمكن أن يقال إن مصائبهم لرفع درجات والديهم
وأوليائهم من أجدادهم ومن يحذو حذوهم في غير الأحرار.
٣١ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) ... أي يا مشركي العرب لستم بقادرين أن تعجزوني ولو كان
بعضكم لبعض ظهيرا ولا أن تسبقوني هربا في الأرض وفي هذا ترهيب لهم وتوعيد بإنجاز
ما قضى به عليهم إن لم يؤمنوا بالتوحيد والرّسالة (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي لا يكون من يقدر أن يتولّى أمر حراستكم وحفظكم غير الله
سبحانه (وَلا نَصِيرٍ) أي ولا معين يغيثكم في دفع الشدائد عنكم.
* * *
(وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢)
إِنْ
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤)
وَيَعْلَمَ
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))
٣٢ و ٣٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) ... أي من حججه الدالة على اختصاصه سبحانه وتعالى بصفات لا
يشركه فيها أحد هي السّفن الجارية في البحر (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال لأن المراد من الأعلام الجبال. قالت الخنساء
ترثي أخاها :
وان صخرا لتأتم
الهداة به
|
|
كأنّه علم في
رأسه نار
|
والحاصل أنّ هذه
السّفن التي كالجبال تجري على وجه الماء عند هبوب الأرياح الموافقة جريا سريعا
بأسرع ما يكون هي التي تدل على التوحيد الصّفاتي بل والّذاتيّ ، ومرادنا من
التوحيد الصّفاتي هو الذي قلناه سابقا من انحصار بعض الصّفات واختصاصها به سبحانه
بحيث لا يشاركه فيها أحد (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي لو أراد الله وتعلّقت مشيئته بأن يسكن الرّيح فيوقفها
عن جريانها وهبوبها فتصير السّفن رواكد أي ثوابت متوقّفة على سطح الماء. فمحرّك
الرياح ومسكنها هو الله ، إذ انه لا يقدر أحد على التحريك والتسكين غيره سبحانه ،
وذلك يدل على وجود الصانع القادر الحكيم (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيما ذكر من آياته تسخير الرّياح وإجراء السّفن
وتسكينها دلالات واضحات على وجود الصّانع وتوحيده للصّابرين الذين حبسوا أنفاسهم
على النظر في آيات الله تعالى ، والشاكرين كثيرا على
آلائه ونعمائه.
وهذان الوصفان من أوصاف المؤمن الكامل في إيمانه على ما ورد في الحديث من أن
الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر.
٣٤ ـ (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) ... عطف على جملة (يُسْكِنِ الرِّيحَ) أو (إن يشأ يوبقهن) اي يهلكهنّ بأهلهنّ بهبوب الأرياح
الشديدة بحيث تغرق السفن بما فيها عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها بإنجائهم تفضّلا منه سبحانه وتعالى عليهم.
٣٥ ـ (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) ... عطف على العلّة المقدّرة. وتقدير الكلام أنه تعالى
يوبق أهل السفن ويغرقهم لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون أي يخاصمون نبيّنا صلىاللهعليهوآله (فِي آياتِنا) في دلائل قدرتنا وتوحيدنا (ما لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ) أي لا يمكن الفرار من حكومتنا عند نزول عذابنا ووقوع
العقاب. وهذا تهديد وتخويف شديد بالهلاك والعذاب ، والعطف على العلة ليس بعزيز في
القرآن الكريم.
* * *
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ
إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))
٣٦ ـ (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) ... أي ما أعطيكم ممّا
يتعلق بدنياكم من
الأموال والأولاد وكلّ شيء ترغبون وتتنافسون فيه فهو ممّا ينتفع به من عروض
الدّنيا وأنتم تمتّعون به زمن حياتكم ولكنه غير باق ، بل ينقضي عن قريب (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة ونعيم الجنّة (خَيْرٌ وَأَبْقى) إذ لا ينقص ولا ينقطع ، وهذا وجه كونه أبقى. وأما وجه كونه
خيرا فلأنّه متاع دار البقاء واحتياج الإنسان فيها أزيد من دار الفناء ، فمتاع تلك
الدار خير من متاع هذه الدار الفانية بمراتب كثيرة لأنه باق وهذا فان ، والباقي لو
كان خزفا أحسن من الفاني وإن كان ذهبا ولذا اختصّ سبحانه ما عنده بالمؤمنين كما
يقول سبحانه (لِلَّذِينَ آمَنُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والتوكّل على الله هو تفويض الأمور إليه باعتقاد أنها
جارية من قبله على أحسن التدبير ، مع الفزع إليه بالدّعاء من كل ما ينوب.
٣٧ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ) ... عطف على الموصول وصلته ، فالمعطوف محلّه النّصب
والتقدير : إن ما عند الله للّذين يجتنبون الكبائر : والكبائر فيها أقوال ،
والمشهور أنّها ما ذكر في القرآن وأوعد عليه النّار. وعن ابن عباس : كبير الإثم هو
الشّرك ، وقيل المراد بالكبائر ما يتعلّق بالبدع واستخراج الشّبهات ، (وَالْفَواحِشَ) ما يتعلّق بالقوة الشّهويّة وفواحش جمع فاحشة ، وهي أقبح
القبائح كالشّرك أو إنكار الصانع تعالى أو الزنى ، ولها مراتب على تفاوت مراتب
القبائح. وقوله (وَإِذا ما غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ) هو ما يتعلّق بالقوّة الغضبيّة ، ففي القمّي عن الباقر عليهالسلام قال : من كظم غيظا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنا
وإيمانا يوم القيامة. قال : ومن ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا غضب حرّم الله
جسده على النّار.
٣٨ ـ (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ... أيضا عطف على
ما قبله ، ومعناه : الّذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من الإيمان به وبنبيّه (ص)
وبما جاء به. والقمّي قال في إقامة الإمام (وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي
ذو تشاور ولا
يقدمون عليه حتى يتشاوروا فيه ويجتمعوا عليه وذلك من فرط تيقّظهم في الأمور
ويختاروا بعد جمع الآراء أقربها للصواب وأقومها وأوفقها للمقصود حتى لا يصبحوا
نادمين في عملهم. ووصف المؤمنين بأنّهم في أمورهم يتشاورون ليدل على أنّ الاستبداد
في الحكم ليس من نظام الدّين ولا من شأن المؤمنين. والمشاورة في الأمور هذه من دساتير
الله سبحانه لعباده في أمورهم ولعلّ عقل البشر كان قاصرا عن إدراك فوائد المشورة
لو لا تنبيه الله تعالى عليها وأمره بها. وفي المجمع عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرّشد ويستفاد من
الحديث أن الله سبحانه يلقي في قلب المستشار ما هو الصّواب والواقع حتى يقوله له
فيهدى المشاور إلى ما فيه خيره. وعن النبيّ (ص): ما شقي عبد قطّ بمشورة ولا سعد
باستبداد. (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يبذلونه في طاعة الله وفيما هو مرض للخالق تعالى ، وروي
: ما خاب من استخار وما ندم من استشار.
٣٩ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ
هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ... أي إذا أصابهم من الكفار ظلم وتعدّ فيتكاتفون عليهم
حتى يأخذوا منهم بحقّهم ، و (يَنْتَصِرُونَ) أي ينتقمون من المشركين لأنهم إذا لم ينتقموا منهم ، يروا
إن الصّبر والعفو ذلّ وهوان عليهم فلا يخضعون لهم ، مع أن الخضوع والعفو من شيمة
المؤمن وعادته ومن أوصافه ، لكن في موارد خاصّة لا في مورد يصير سببا لجرأة الكفرة
ومزيد بغيهم عليهم ، ويحمل على الخوف من المشركين مع أنه تعالى وصفهم بالشجاعة بعد
وصفهم بسائر أمّهات الفضائل. وهو لا ينافي وصفهم بالغفران لأن الغفران ينبئ عن عجز
المغفور له ، والانتصار ينبئ عن مقاومة الخصم ، والحلم عن العاجز ممدوح وعن
المتغلّب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي والعدوان كما أشرنا آنفا. ألا ترى أن
العفو عن المصرّ يكون كالإغراء له فيصير العفو في غير محلّه ولا
يكون ممدوحا بل هذا
العفو مذموم.
* * *
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))
٤٠ ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ... هذه الكريمة تبيّن واجب المنتصر بأنه لا يجوز التعدّي
في مقام الانتصار عما جعله الله له ، أي (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أيضا نظير ما نحن فيه قوله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ)(فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي عفا وتجاوز عن حقّه ، وأصلح بينه وبين خصمه إذا كان من
أهل الايمان وبشرط القربة لله ، فيقع أجره على الله وهو خير له من الانتصار. وفي
التبيان عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على
الله فليدخل فيقوم عنق من الناس فيسأل الملائكة عنهم بأنّه أيّ أجر لكم على الله؟
فيقولون : نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا من المؤمنين ، فيقال لهم ادخلوا الجنّة بغير
محاسبة عن أعمالكم. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) في هذه الجملة إشعار بأن الانتقام من المنتصر ليس بمأمون
من
التجاوز والاعتداء
فيقع المنتصر في مهلكة الظلم والعدوان ، خصوصا في حال الغضب والتهاب العصبيّة
والحميّة ، لأن المجازي ربّما يصير مسلوب الشعور بكثرة الغضب وفوران الدّم ، ونعوذ
بالله من تلك الحالة. ولذا فضّل الله العفو على الانتقام بقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) خوفا من صدور التجاوز عن المثليّة المشروعة ، فيحسب
المنتقم في من لا يحبّهم الله من الظالمين.
٤١ ـ (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) ... أي بعد ما ظلم وتعدّي عليه فانتصر لنفسه وانتصف من
ظالمة في أخذ حقه (فَأُولئِكَ) أي فالمنتصرون (ما عَلَيْهِمْ مِنْ
سَبِيلٍ) أي من إثم وعقوبة وذمّ. وفي الخصال عن السّجّاد عليهالسلام : وحقّ من أساءك أن تعفو عنه ، وإن علمت أنّ العفو يضرّ
انتصرت! قال الله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ) ، الآية. وعن الصّادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك : السفلة ، والزوجة ،
والمملوك. وفي الحديث : إيّاك ومخالطة السّفلة فإن مخالطتهم لا تؤول إلى خير.
٤٢ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ) ... أي سبيل المؤاخذة والمعاتبة والمعاقبة على الذين
يظلمون الناس ويبتدءونهم بالإضرار ويطلبون منهم ما لا يستحقّون تجبّرا عليهم (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أي يتكبّرون ويفسدون فيها ويظلمون الآخرين بغيا وجورا وبلا
حجة وبرهان وبلا مجوّز دينيّ ولا عقلي ، بل نخوة وفسادا. ولذا أوعدهم الله بقوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) على ظلمهم وبغيهم كونهم مفسدين في أرض الله.
٤٣ ـ (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) ... أي صبر على الأذى وتحمّل المشاقّ وغفر أي صفح ولم
ينتصر ولم ينهض للانتقام مع قدرته على ذلك (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر والصّفح من الأمور الثابتة التي يحبّها الله
وأمر بها
ولم ينسخها ،
ويقال : معزومات الأمور. مهمّاتها وواجباتها التي أهتمّ بها.
* * *
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥)
وَما
كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))
٤٤ ـ (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
وَلِيٍ) ... أي يخلّيه وضلاله ، فليس له ناصر يتولّى أمره من بعد
خذلان الله له سواء خذله في الدنيا أو في الآخرة (وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين يرونه معاينة (يَقُولُونَ هَلْ إِلى
مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) أي إلى رجعة إلى الدّنيا ، ولعلّ هذا القول لسان حالهم وإن
كان لا يبعد أن يكون بلسان مقالهم.
٤٥ ـ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) ... أي يا محمد ترى الظالمين يوم حشرهم يعرضون على النّار
، أي يظهرونهم في معرض إيقاعهم فيها ، أي في النّار المعلومة العذاب حيث إنهم قبل
دخولهم إليها يعذّبون بأليم العذاب
الدالّ على أنهم
من أهل النار (خاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِ) أي متواضعين تواضع ذلّة وحقارة (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي يتطلّعون نحو النّار من طرف أعينهم لا بتمامها بحيث لا
يحسّ نظرهم إلّا من تحريك أجفانهم كالمصبور ـ أي المقتول صبرا والمحكوم عليه
بالإعدام ـ ينظر إلى سيف الجلّاد خوفا من النار وهوانا في نفوسهم (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي بالتعريض للعذاب المخلّد. فأمّا أنفسهم فبعبادة الأوثان
، وأمّا أهاليهم فلإضلالهم إيّاهم ومنعهم عن الإيمان بالله والرّسول (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ
مُقِيمٍ) أي فليعلم أن المشركين في عذاب دائم لا ينقطع أبدا ، اما
من كلامهم ، أو تصديق من الله تعالى لهم فهو قول الله عزوجل. قال الرازي : إن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص
بالكافر ، قال تعالى (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ولكن لا يخفى إنّ هذا الاستدلال لا يثبت مدّعاه وهو دلالته
على حصر الظالم بالكافر إذا أطلق ، بل يدل على أن الكافر ظالم ، وأمّا كلّ ظالم
إذا أطلق فالمراد به الكافر فلا ، بل هو أعمّ منه ومن الفاسق كما هو مقتضى وضعه
الأول وكما يستدلّ بهذه الآية الكريمة (أَلا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) التي يستفاد منها العموم. وقال القاضي عبد الجبّار بأنها
تدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما.
٤٦ ـ (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) ... أي ليس للظّالمين غير الله تعالى أنصار يدفعون عنهم
عقاب الله ونكاله ويعملون لنجاتهم من النار. و (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي كلّ من يخلّيه الله مع ضلالته لجحوده وعناده فليس له
طريق إلى الهداية والرشاد والنجاة.
* * *
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا
إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))
٤٧ ـ (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ) ... أي أجيبوا داعي ربّكم وأطيعوه ، يعني نبيّ الله محمدا (ص)
فيما دعاكم إليه من المصير إلى طاعته والانقياد لأمره (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا رجوع للدّنيا بعده ولا يردّه الله بعد إتيانه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي من معقل وملاذ ومفرّ (وَما لَكُمْ مِنْ
نَكِيرٍ) أي إنكار لتغيير العذاب لما اقترفتموه ، فهو مثبت في صحائف
أعمالكم وتشهد عليه جوارحكم فمن يقدر على إنكاره وعلى فرض إنكاره ، أو يغيّر
العذاب المثبت؟ فإن الإنكار الكاذب لا يسمع ولا يترتّب عليه الأثر.
٤٨ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ... أي فإن تولّوا وأدبروا ولم يسمعوا حين أمرتهم بأن
يجيبوا داعي ربّهم ، ولم يقبلوا هذا الأمر (فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي حافظا وحارسا لهم من كفرهم إجبارا وإكراها وسوقهم إلى
دائرة الإيمان ، فلا تحزن على إعراضهم عن الإجابة (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) أي تبليغ الأحكام وإيصالها إلى أفهامهم وبيان ما فيه رشدهم
وهدايتهم وقد بلّغت وفعلت ما كان عليك (وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أي بطر وسرّ برحمة ربّه. والمراد بالإنسان هو الجنس بقرينة
قوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ
كَفُورٌ) أي كثير الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البليّة ويستعظمها
ولا يتأمّل في سببها حتى يتعقّل أن السيئة هو بنفسه مسبّب لها ، والرّحمة هي من
عند الله وبفضله وكرمه. وقد وضع الظاهر مقام الضمير للدّلالة على إن هذا الجنس
موسوم بكفران النّعمة ومعروف بذلك إلا إذا أدبه الله ووفّقه لشكران نعمه سبحانه.
* * *
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))
٤٩ و ٥٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي له أن يقسم النّعمة والبليّة كيف يشاء فليس للإنسان
أن يغترّ بملكه من المال والجاه لأنه إذا علم أن الكلّ ملك له تعالى وما عنده هو
تعالى أعطاه وأنعم به عليه ، يصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة والإقبال على
العبادة ، بخلاف ما إذا اعتقد أن ما هو واجد له من النعم إنما هو بسبب عقله وجدّه
فيصير مغترّا بنفسه معرضا عن طاعة ربّه ، وبالنتيجة يقع في حفر الضّلالة وتيه
الغواية فلا يتنوّر بنور الهداية. ثم انه سبحانه ذكر بعض أقسام تصرّفه في ملكه
بقوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ.
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) هذه الجملة بدل من يخلق ، بدل بعض من الكلّ (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أي فقط (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً) تفسير هذه الجمل هو ما روى القمّي عن الباقر
عليهالسلام : يهب لمن يشاء إناثا يعني ليس معهنّ ذكر ، ويهب لمن يشاء
الذكور يعني ليس معهم أنثى ، أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا أي يهب لمن يشاء ذكرانا
وإناثا جميعا يجمع له البنين والبنات ، أي يهبهم جميعا لواحد.
أما تقديم الإناث
على الذكور مع تقدّم الذكور على الإناث ذاتا ، فقد ذكروا فيه وجوها أكثرها غير
مقنع. والوجه الوجيه أن يقال إن أعراب الجاهلية كانوا لا يرون للإناث اعتبارا ، وكانوا
يعاملون الإناث معاملة البهائم غير المحترمة النّفس ، ولذا كانت المرأة إذا ولدت
أنثى فكأنّما ولدت بهيمة ليست بذات حرمة أو أنها ليست من جنس الإنسان ، من أجل ذلك
كان أبوها يتغيّر حاله ويسودّ وجهه كما قال سبحانه وتعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما
بُشِّرَ بِهِ) وكان ذلك المولود عارا عليه وتقبيحا لحظّه. فالله سبحانه
إرغاما لأنوف جاهليّتهم الرّعناء ، وتأديبا لهم ، قدّم ذكر الإناث أولا ، ثم أخّره
ثانيا ، وعرّف الذكور ونكّر الإناث للدلالة على أن الواقع هو ما تتعلّق به مشيئة
الله لا مشيئة الناس ، ولكي يفهمهم أن البنات في نظام الخلقة أكفاء للبنين ،
وليعلّمهم آداب الدّين الإسلامي وأنّ في شرع سيّد المرسلين شأنا خاصّا للبنات
وحرمة كحرمة البنين. ولمّا أخرّ الذكور تدارك تأخيرهم بالتعريف ، لأن التعريف
تنويه وتكرمة ، ثم نكّر الإناث لأن التنكير تحقير نوعا ، ثم أعطى كلّا من الجنسين
حقّه من التقديم والتأخير ليعلم أن تقديمهنّ لم يكن لتقدّمهنّ ، ولكن لغرض آخر
ولحكمة اقتضت ذلك ، والله أعلم بما قال (وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشاءُ عَقِيماً) أي من الرجال والنساء وهو الذي لا يلد ولا يولد له (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي عارف بمصالح الأمور وبما في الأرحام ، وقادر على ما يهب
ويعطي تمام القدرة.
* * *
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ
الْأُمُورُ (٥٣))
٥١ ـ (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً) ... أي ليس لأحد من البشر أن يكلّمه الله سبحانه على وجه
أن يراه البشر كما يرون غيره حينما يكلّمهم ، وهذا محال عقلا ونقلا لأنه يلازمه
التجسّم وهو محال حيث إن التجسّم والتركيب مباينان لمعنى الألوهيّة على ما برهن في
محلّه ، فلا يمكن أن يحمل التكلّم على معناه الظاهري ولا بدّ من أن يكون المراد
إمّا أن يوحى إليه وحي إلهام كما في قضية داود عليهالسلام الذي ألهم في صدره فزبر الزّبور ، فليس لأحد أن يكلّمه
الله جلّت قدرته (إِلَّا وَحْياً) ووحيا منصوب بناء على أنه مفعول للفعل المقدّر وهو «يوحي»
والوحي هو الكلام الخفيّ الذي يدرك بسرعة ، ومصاديقه إمّا بأن يلهم الإنسان ما هو
المقصود ، أو بطريق المنام كما أوحى الله إلى أمّ موسى أي ألهمها بإلقاء ولدها في
البحر ، وإبراهيم حينما رأى في المنام ذبح ولده ، وإمّا من وراء حجاب كما قال
تعالى (أَوْ مِنْ وَراءِ
حِجابٍ) كتكليم موسى عليهالسلام الذي كان سماعا بدون رؤية والمقصود بالحجاب حجب السّامع لا
المتكلّم ، فالله تعالى عن أن يحجب منه حجاب أو يستر ساتر ، وإمّا
بإرسال الرّسل قال
تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) والرسول هو جبرائيل عليهالسلام لأنه رسول الله إلى أنبيائه وهم رسل الله إلى سائر خلقه (بِإِذْنِهِ) أي بامره تعالى (ما يَشاءُ) الله (إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ) أي أعلى شأنا من أن يكون على صفات المخلوقين من وقوع
الرؤية عليه أو أن يتكلّم مع خلقه مشافهة كما يتكالمون هم كلّ واحد مع الآخر ،
كذلك أو يأكل ويشرب ويمشي في الشوارع والأسواق كما قال بعض المتصوّفة الجهلة بهذه
الأباطيل والخرافات (حَكِيمٌ) يفعل ما تقتضيه حكمته البالغة والمصلحة العامّة أو الخاصّة
في موارد خاصّة.
٥٢ و ٥٣ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ... أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك هكذا نوحي إليك
ونرسل (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)
في الكافي عن
الصّادق عليهالسلام في هذه الشريفة ولعلّه سئل عن الروح كما يستفاد من قوله (ع)
فقال : خلق من خلق الله عزوجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة عليهمالسلام من بعده. وفي رواية منذ أنزل الله ذلك الروح على محمد صلىاللهعليهوآله ما صعد إلى السماء وإنه لفينا (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) أي ما كنت تعرف القرآن ولا الشرائع ومعالم الدّين قبل
الوحي أو قبل نزول القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً) أي القرآن أو الرّوح. وقيل المراد من الرّوح هو القرآن ،
وتسميته روحا لأنه حياة قلوب المؤمنين كما أنه بالأرواح تحيا الأبدان ، فعلى هذا
لا فرق في رجوع الضمير إلى القرآن أو إلى الرّوح (نَهْدِي بِهِ مَنْ
نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي بالقرآن نرشد العباد من حيرة الضّلالة والغواية إلى
سبيل الهداية وطريق النجاة ، لأن القرآن إذا كان نورا فإنه كما يهتدي الإنسان
بالنور الذي هو ظاهر بنفسه ومظهر لغيره ، يهتدي الإنسان بالقرآن بتوفيقه سبحانه
ويهتدي سائر العباد. فإطلاق النور على القرآن حقيقة لا أنّه مجاز. وفي الكافي عن
الصّادق عليهالسلام أنه
سئل عن العلم أهو
شيء يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال أم في الكتاب عندكم تقرأونه فتعلمونه؟ قال عليهالسلام : الأمر أعظم من ذلك وأعجب ، أمّا سمعت قول الله عزوجل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً) ، الآية؟ قال عليهالسلام : أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية أيقرءون أنه كان في
حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت : لا أدري جعلت فداك ما يقولون. فقال :
بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان حتى بعث الله عزوجل الرّوح التي ذكر في الكتاب ، فلمّا أوحاها إليه علم به
العلم والفهم ، وهي الرّوح التي يعطيها الله عزوجل من شاء ، فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي إنك بعد وحينا إليك وتعلّمك الكتاب والإيمان لتدعو
الناس إلى صراط عدل لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام والإيمان. وفي بعض الروايات :
وعليّ هو الصراط المستقيم (صِراطِ اللهِ الَّذِي
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذه الشريفة بدل من قوله (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) ومعناها أن الصّراط المستقيم هو الطريق إلى الحق وإلى
الدّين والشرع المقدس ، لا أمر شرقيّ ولا غربيّ ، فلله ما في السماوات وما في
الأرض خلقا وملكا يختصّ به (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي اعلموا أن أمور الخلائق مصيرها يوم الحشر إليه تعالى
ولا يشاركه فيها أحد. وفي الشريفة وعيد للكفرة ووعد للمؤمنين.
* * *
سورة الزخرف
مكيّة إلّا الآية
٥٨ فمدنيّة وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا
أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))
١ إلى ٣ ـ (حم ، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ... أي أقسم بالقرآن المظهر للحلال والحرام والمبيّن لما
يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه قرآنا بلسان العرب حتى يكون سهل التّناول
والتفاهم ، فلا يبقى لهم عذر إن لم يعملوا به معتذرين بانا لا نفهمه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
أي تتدبّرون لكي
تفهموا معانيه وتعملوا به من حيث إن الحجة تمّت عليكم.
٤ ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) ... أي أن القرآن مثبت في اللّوح المحفوظ الذي عندنا (لَعَلِيٌ) أي لرفيع شأنه. وإنّما يقال للّوح أم الكتاب لأن الأم هي
بمعنى أصل الشيء ، وحيث إن جميع الكتب السماوية تستنسخ منه فهو أصل الكتب ، وإنما
يتّصف اللّوح بالحفظ لأنه محفوظ من التغيير والتّبديل. وقيل إنّ قوله (لَعَلِيٌ) لأن القرآن يعلو على سائر الكتب السّماوية المنزلة على
المرسلين ، ولما اختصّ به من كونه ناسخا للكتب السماويّة ويجب العمل به وبما
تضمّنه من الفوائد لكونه معجزة باقية لمحمد صلىاللهعليهوآله وغيره (حَكِيمٌ) أي محكم عن تطرّق النقص وطروء النّسخ أو الزيادة ، أو
معناه : ذو حكمة بالغة وهو مظهر للحق والصّواب. ثم إنه تعالى على سبيل الإنكار
يخاطب أهل الجحود والشّرك بقوله :
٥ ـ (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ
صَفْحاً) ... قال صاحب الكشاف : الفاء في قوله (أَفَنَضْرِبُ) للعطف على محذوف تقديره : (أنهملكم فنضرب عنكم الذكر) أي
فنصرف عنكم القرآن صرفا ونمسك عن إنزال الوحي فلا نعرّفكم ما يجب عليكم لتتمّ
الحجة عليكم من أجل سرفكم في كفركم وعنادكم؟ وبعبارة أخرى أفنمسك عنكم نزول القرآن
إمساكا لأنكم قوم مسرفون في الكفر وارتكاب المعاصي؟ والاستفهام إنكاريّ ، أي لا
يصير كذلك. والتعبير في الآية بالضرب لأنّ الدابّة إذا أرادوا أن يصرفوا وجهها عن
طريق إلى طريق يضرب وجهها بسوط أو خيزران أو بأمثالهما ، فبهذه المناسبة وضع الضرب
موضع الصرف والعدول. وضمنا تستفاد نكتة وهي أنه تعالى أنزل المشركين منزلة البهائم
فاستعملها وساق الكلام مساق ما يستعمل مع الدوابّ ، ويدل على ما ذكرنا من التنزيل
قوله سبحانه
(أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) ، (أَنْ كُنْتُمْ
قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لكونكم أهل الإسراف في التّجاوز عن حدود الشرع والغور
في وادي الضّلالة والغواية. ثم إنه تعالى تسلية لنبيّه عن أذى قومه باستهزائهم
وسخريتهم به يقول :
٦ ـ (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ) ... أي كثيرا من الأنبياء بعثناهم في الأزمنة الماضية
لأممهم الذين كانوا متّسمين بسمة الإسراف والإشراك وبفرط الغواية ومتّصفين بالكفر
والإلحاد ، ومع هذا ما خلّيناهم بل أرسلنا إليهم رسلنا متعاقبين وأنزلنا كتبنا
متوالية لإلزام الحجة وإتمامها عليهم.
٧ و ٨ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ... أي كما استهزأ قومك بك ، فلم نضرب عنهم صفحا لأجل
استهزائهم بالرّسل بل كرّرنا الحجج وأعدنا الرّسل وكذا نفعل بقومك فنكرّر عليهم
الحجج والبراهين حتى تتمّ الحجة ونفحمهم في الخصومة (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ
مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أن من القوم المسرفين السابقين الذين كانوا أقوى من
قومك المسرفين من لم تمنعنا قوّتهم وشوكتهم من تعذيبهم ، فكيف بالمسرفين من قومك ،
فتعذيبهم أيسر وأسهل شيء علينا (وَمَضى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ) أي سلفت في مواضع عديدة في القرآن قصّتهم وأخبارهم العجيبة
وأنّهم كيف عملوا مع أنبيائهم وأيّ طريق سلكوا معهم ، ونحن كيف فعلنا بهم من
التعذيب والإهلاك والإفناء. وفيه وعد للرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله بالنّصر ، ووعيد للمشركين بمثل ما جرى على الأوّلين
المسرفين فليحذروا وليتهيّأوا للعذاب الشديد والنكال الذي يكون عبرة لغيرهم. ثم
إنّه سبحانه على سبيل إلزام الحجّة على أهل مكة يقول :
* * *
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ
تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ
(١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))
٩ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... أي يا محمد لو سألت قومك من المبدع لخلق السماوات
والخالق للأرض لأقرّوا واعترفوا بأنه هو الله (لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي الغالب على جميع الأشياء والعالم بمصالح الخلق
والمكوّنات جميعا ، وهذه الشريفة تدل على غاية جهالتهم وحماقتهم حيث إنهم مع
إقرارهم الكاشف عن علمهم بأن خالق الأشياء طرّا هو الله ، مع ذلك تركوا عبادة من
هو المستحقّ للعبادة ويعبدون الجماد الذي هو العاجز المطلق وأدنى الأشياء كالأصنام
والأوثان. ثم إنه عزوجل لمزيد إثبات الحجة عليهم يقول في وصف ذاته المقدّسة ما في
آية الذليل :
١٠ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً) ... أي موضعا ومستقرّا مبسوطا لكونكم مرتاحين فيه ،
ومتهيّئا لتعيّشكم وإصلاحكم لأموركم. وهذه نعمة
ونعمة أخرى هي : (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا وفجاجا (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم ، أو المراد من
الاهتداء هو الهداية إلى حكمة الصّانع وإلى قدرته الكاملة بالنظر في هذه الأمور.
١١ ـ (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ) ... أي بمقدار نافع لا يضرّ ، يعني بمقدار حوائج الموجودات
بلا زيادة ولا نقيصة ، فإن الزيادة تفسد والنقصان يضرّ ، وفي ذلك دلالة على أن هذا
التنزيل من حكيم قادر مختار قد قدّره على مقتضى حكمة اقتضته لعلمه الكامل بذلك (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي فأحيينا بذلك الماء المنزل (بَلْدَةً مَيْتاً) أي يابسة جافة ، وإحياؤها باخضرارها بالنبات والأشجار
والثّمار على اختلاف أنواعها وأصنافها (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي كما كنّا قادرين على إحياء الأرض الميتة بأن نخرج
نباتها وأشجارها بأسبابها العاديّة حيث إن الدنيا دار أسباب وعلل ، كذلك نحن
قادرون على إخراجكم من مراقدكم يوم البعث والنشر أحياء ، لأن قدرتنا على السّواء
بالنسبة إلى جميع شؤون المكوّنات وذواتها. وهذه ، أي تنزيل الماء من السماء وإحياء
البلاد وإحضار الناس يوم البعث من النعم الجسيمة.
١٢ ـ (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) ... أي أصناف المخلوقات كلّها ، أو المراد أزواج الحيوان
من ذكر وأنثى ، لكن الظاهر بقرينة السّياق هو الأول. ويحتمل أن التعبير بالأزواج
يكون للإشارة إلى أن أصناف الكائنات كلّها أزواج من ذكر وأنثى ، غاية الأمر أن
زوجيّة كلّ شيء بحسبه وما يناسبه ، فزوجية الحيوان بكيفيّة مركّبة من ذكر وأنثى
حقيقيّة ، والأشجار بكيفيّات أخرى كما في النخل كيفيّة تلقيحه المعروفة ولو لا
التلقيح لما أثمر الشجر ، ففي أيام الربيع تجري الرّياح الملقّحة عليه ومنه على
الآخر من الأشجار. وهذه القضية يعرفها الفلاحون وأصحاب البساتين وجميع من
عنده معرفة بعلم
النبات. وبالجملة فإن كون الأشياء بحذافيرها مزوّجة مطلب مبرهن عليه في كتب علم
الأشياء ، وأيضا يستفاد من بعض الآيات الشريفة أن الموجودات كذلك بتمامها وكمالها
والله سبحانه أعلم بما خلق. ثم إنه تعالى يذكر نعمة أخرى من نعمه العظيمة بقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) فهو تعالى يشير إلى حكمة وهي أنه خلق الأنعام للركوب ،
وجعل لنا الفلك من أجل الاستواء على ظهورها كما يقول سبحانه :
١٣ و ١٤ ـ (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ ...) أي لتستقرّوا عليها في البحر والبرّ في الحضر والسفر
ولتستقيموا على ظهورها ، والضّمير يعود إلى الموصول وهو لفظ (ما) وذكر الاستواء بعد قوله (ما تَرْكَبُونَ) من ذكر الخاصّ بعد العامّ فإن الاستواء على ظهره هو
الاستقرار والاعتدال على ظهر الدابّة ، والركوب أعمّ من تلك الحالة (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي إذا اعتدلتم واستقررتم عليها بأن استرحتم فلا بدّ من
ذكر هذه النعمة التي منّ الله تعالى بها عليكم حيث نجّاكم وخلّصكم بها من وعثاء
السفر وكآبة حمل أثقالكم من بلد إلى بلد (لَمْ تَكُونُوا
بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فالإنسان إذا تذكّر حالته قبل خلق هذه النّعم ، يشكر الله
على حالته بعد وجدانها واستفادته منها لأنها تسهّل تنقّلاته وينبغي شكرها بل العبد
المنصف المطيع له تعالى يلتذّ ويشتهي شكر نعمة ربّه وبالأخصّ هذه النّعم الجسيمة.
ولعل المراد (بذكر النعمة) هو التذكر بالقلوب والاعتراف بها حامدين عليها بالألسن
وذلك ان يذكروها بقلوبهم معترفين بها حامدين عليها وبألسنتهم على ما علّمهم الله
تعالى في كتابه (وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي جعله مطيعا ومنقادا لنا (وَما كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ) أي مقاومين له وقرناء معه في القوّة ، فلا طاقة لنا به لو
لا أن الله سخّره لنا (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ولمّا كان الركوب على
المراكب لا يخلو من
نخوة وتفاخر ولا سيّما الركوب على بعض الأفراس وبعض أفراد البواخر المعدّة للرّكوب
والسّفن البحريّة العصريّة والطيارات الجويّة السريعة غاية السرعة والسّيارات التي
يجد الراكب عليها في نفسه من التبختر والتكبّر ما لا يجد الراكب على غيرها والماشي
على رجليه كما هو المشاهد بالوجدان ، ينبّه عباده لطفا منه سبحانه عليهم في جميع
حالاتهم بأنّ آخر مراكبكم من مراكب الدنيا هي الجنازة التي تنقلكم من عالم الفناء
إلى عالم البقاء وهي النقلة العظمى لا النقلات اللواتي تحصل بالمراكب الدنيويّة من
بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن يفتخر ويتكبّر بركوب
شيء عمّا قريب يفنى ويزول وتعقبه الجنازة ، ولهذا اتّصل بكلامه السابق وعقّبه
بقوله : (إِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ) أي إنّا إليه راجعون. وبعض أرباب التفاسير ذكروا وجوها
لاتصال هذه الجملة بما قبلها ومن أراد فليراجعها ، ولعلّ ما ذكرناه كان أحسن
الوجوه وأوجهها والله أعلم. ولنختم الآية الشريفة برواية مباركة وردت في مقام ذكر
خواصّها وهي ما في الكافي عن الرّضا عن أبيه صلوات الله وسلامه عليهما : إن خرجت
برّا فقل الذي قال الله عزوجل (سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا) ، الآية فإنّه ليس من عبد يقولها عند ركوبه فيقع من بعير
أو دابّة فيصيبه شيء بإذن الله.
* * *
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ
مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧)
أَوَمَنْ
يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ
فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (٢٠))
١٥ ـ (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) ... أي بقولهم مع اعترافهم بأنه خالق الأشياء كلّها :
الملائكة بنات الله ، أو عيسى بن الله ، لأن الولد جزء من أبيه. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : فاطمة بضعة منّي يؤذيني من يؤذيها ومن يؤذيني فقد آذى
الله (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي جاحد لنعم الله مظهر لكفره بنسبة الولد إليه. قال ابن
عباس : إن قريشا زعموا أن الملائكة بنات الله.
١٦ و ١٧ ـ (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) ... أنكر سبحانه ذلك عليهم ، لأن الاستفهام للإنكار. فيكون
بمعنى (بل) وترجمة الآية أنه قال تعالى على سبيل التوبيخ والتعجب : بل اتّخذ مما
يخلق البنات اللواتي هنّ بزعمهم في غاية الدّناءة وهنّ أخسّ وأنقص الأولاد (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي وآثر البنين لكم وهم أشرف الأولاد. فأيّ عاقل يقبل
ويعتقد بأن يكون أولاد المخلوق أشرف من أولاد الخالق عزوجل لكنها أنقص وأخس بل كانت أبغض الأولاد بل أبغض الأشياء
عندهم كما أخبر سبحانه وتعالى (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) كناية عن البنات ، يعني إذا بشّر بأنه وضع لك بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) بما يلحقه من الهمّ والحزن ولما يعتريه من الكآبة (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء من الغيظ والكرب. والمراد بقوله (بِما ضَرَبَ) أي بالجنس الذي جعله شبها لأن الولد من جنس الوالد وشبهه
ومماثله.
١٨ ـ (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) ... يوبخهم سبحانه بنسبة البنات إليه بقوله هذا. أي أينسبون
إليّ من نشأ ونما في الزينة ويتربّى في النعمة ، يعني البنات اللّواتي همّهنّ زينة
الحياة الدنيا (وَهُوَ فِي الْخِصامِ
غَيْرُ مُبِينٍ) أي والحال أنه في مقام إثبات الحجة على خصمه عاجز ولا يقدر
على الإتيان ببرهان ليتمّ الحجّة على الخصم وهذا ليس إلّا لنقصان عقلها وضعف فكرها
ورأيها. ونقل عن قتادة أنّه قال قلّما تكلّمت المرأة فأرادت أن تتكلّم بحجّتها
إلّا تكلمت بالحجة عليها لا لها. فهل الذي كان بهذه الحالة قابل لأن يتّخذه الله عزوجل ولدا؟ وإذا أراد نعوذ بالله اتّخاذ الولد فيتّخذ أحسنه
فكرا وأصوبه رأيا أي البنين. والاستفهام إنكاريّ كما لا يخفى ، أي لا يكون ذلك
أبدا. والعجب كلّ العجب من الحكومات العصرية التي تعتقد أنها ترقّت في آرائها
وأفكارها أكمل الرقيّ ، اتخذت في إداراتها ومختلف شؤونها النساء وهي تؤثرهنّ على
الرجال في تفويض الأمور إليهن. والحاصل أن الكفرة نسبوا إلى الله سبحانه الولد
ونسبوا إليه اخسّ النوعين وهو البنات ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وتذكير الضمير
باعتبار لفظ (مَنْ).
١٩ ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) ... هذه الجملة تشنيع وتوبيخ آخر منه تعالى لهؤلاء الجهلة
الجحدة حيث قالوا إن الملائكة الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على ربّهم (إِناثاً) فجعلوهم أنقصهم رأيا وأخصّهم صنفا. ولذا ردّا لقولهم
السّخيف وإنكارا له وتوبيخا للقائلين يقول سبحانه : (أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ) أي هل كانوا حاضرين مشاهدين حين خلقهم؟ لأن العلم بالأنوثة
لا يتصوّر بلا مشاهدتها. وهذه الجملة تجهيل وتهكّم وسخرية بهم. ثم إنّه سبحانه
هدّدهم وتوعّدهم بقوله عزوجل : (سَتُكْتَبُ
شَهادَتُهُمْ) الكاذبة بأنهم إناث (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم يقوم الأشهاد. ثم يذكر تعالى نوعا آخر من كفرهم
وشبهاتهم وهو أنهم نسبوا
عبادتهم للملائكة
إلى إرادة الله على ما حكى الله عنهم :
٢٠ ـ (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ) ... ومن الآية يستفاد أنهم كانوا قائلين بمذهب الجبر وهو
سبحانه يردّ قولهم فيما قال (ما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ) أي لا يعلمون صحّة ما يقولونه لأنه دعوى بلا دليل فتكون
هذه المقالة في الاصطلاح مجادلة ، وإذا كانت مع الدليل فحجة ومن ذلك يظهر فساد قول
المجبرة أنّ كفر الكافر يقع بإرادة الله فأبطل سبحانه قولهم وزيّف هذا الاعتقاد
بقوله : (ما لَهُمْ) إلى قوله (إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلّا يكذبون. وتدلّ الآية على أن الجبر والشّرك
بمثابة توأمين فالمجبرة تحسب مشركة. ولما كان إثبات الدّعوى إمّا بدليل عقليّ أو
نقليّ ، وكان مدّعى بني مليح خاليا عن كليهما وعاريا عن الاثنين فلهذا نراه سبحانه
، بعد ذكر عدم الدّليل العقليّ على مدّعاهم ، يذكر عدم البرهان النقلي أيضا عليه.
ويقول سبحانه ما يلي :
* * *
(أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
قالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ
قالُوا
إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))
٢١ و ٢٢ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) ... هذا استفهام بمعنى التقرير لهم على خطئهم ، والتقدير أهذا
الذي ذكروه شيء تخرّصوه وافتعلوه ، أم آتيناهم كتابا من قبل القرآن ينطق بصحة ما
قالوه (فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ) أي محتجّون به لإثبات دعواهم؟ وقد تقرّر أن كتابا مشتملا
على هذه الدعوى ما نزل على أحد من الماضين فلا حجة نقلية أيضا لهم ، نعم تمام
دليلهم على مدّعاهم هو قولهم : (بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة ودين وملّة كانت مقبولة عندهم (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي نحن نعتقد ونعتمد أنهم كانوا على الحق فنتّبع إثرهم في
هذه الدعوى ونقتدي بهم ونحذو حذوهم ، ونعلم بأنّا على الهدى لا الضلالة. ونستفيد
من المباركة أنّ بني مليح كانوا جامعين لصفات الشّرك والجبر والتقليد. ثم إنه
سبحانه تسلية للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله يقول :
٢٣ ـ (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) ... أي كما أنّ هؤلاء من شرفاء قومك لا مستند لهم في الكفر
إلا التقليد فإننا ما أرسلنا في الأمم السابقة في القرى والبلدان نذيرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي أرباب الأموال وأهل الشرف منهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فما كان للسابقين من الأمم جواب إلّا التقليد لآبائهم. وفي
تخصيص المترفين إشعار بأنّ حبّ المال ونخوة الرّئاسة وحبّها أوردهم وادي الضلالة
والتقليد ، وصرفهم عن استماع دعوة الرّسل وأعرضوا عن قبولها وكانت عاقبة أمرهم
نارا ، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة ولمّا استمع النبيّ (ص) هذا الكلام منهم ، أمره
سبحانه أن يقول :
٢٤ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى) ... أي أتتّبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين
آبائكم. وإيراد لفظ (بِأَهْدى) من باب حسن التلطّف في الدعوة ومع ذلك (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كافِرُونَ) قالوا هذا في مقام الجواب إقناطا للسّائل كيلا ينظر أو
يتفكر في أمرهم بعد ذلك. فلمّا جحدوا وأجابوا جواب يأس وإقناط هدّدهم الله تعالى
تهديدا شديدا بقوله :
٢٥ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ... أي بإهلاكهم والتعجيل في عقوبتهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) للأنبياء والرّسل وما جاؤا به من عند ربّهم ، فلا تكترث
ولا تحزن لتكذيبهم. ولمّا ذمّ سبحانه التقليد في أمر الدّين ، أي في أصوله ، وأمر
باتّباع الحجة والدّليل ، فلذا عقّبه بقصّة إبراهيم عليهالسلام الذي كان تابعا للدّليل والحجة في دعواه ، وقال :
* * *
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦)
إِلاَّ
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))
٢٦ و ٢٧ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ) ... أي واذكر يا محمد الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه
وقومه (إِنَّنِي بَراءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ) براء مصدر وصف به عليهالسلام. وقيل إن المراد بأبيه هو عمّه آزر وكان
قومه يعبدون
الأوثان والكواكب ، فلمّا خرج إليهم ورآهم يعبدون غير الله أفضى إليهم أنني رسول
الله إليكم وأنا بريء من هذه الأشياء التي تعبدونها وأنها الآلهة بزعمكم ولا إله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ
سَيَهْدِينِ) أي لا إله إلّا الذي خلقني ، فإنه هو الذي يهديني إلى
الدّين الحق وطريقته المستقيمة وهو أهل لأن يعبد لا الأخشاب المنحوتة والأحجار
المنقورة أو الكواكب المخلوقة العاجزة المسخّرة.
٢٨ ـ (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي
عَقِبِهِ) ... جعل الله ، أو إبراهيم ، الكلمة الّتي قالها (أي القول
بأنه لا إله إلّا الّذي فطرني) وهي كلمة التّوحيد وأرادها أن تبقى (كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي في ذريّته ليكون فيهم دائما من يوحّد الله تعالى ويدعو
إلى توحيده ، ويكون إماما وحجة على الخلائق (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) أي يتوبون ويرجعون عمّا هم عليه من الشّرك إلى أبيهم
إبراهيم بالاقتداء به في توحيد الله كما اقتدى الكفار بآبائهم في الشّرك ، أو
يرجعون إلى عبادة الله تعالى. ثم إنه سبحانه بعد ذكر قصّة إبراهيم يذكر نعمه على
قريش ويقول لم أعجّل ، بسبب كفرهم وإشراكهم ، في عقوبتهم وإهلاكهم كما كنت أفعل
بالأمم السالفة الجحدة للرّسل بل أمهلتهم لإتمام الحجة عليهم :
٢٩ ـ (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) ... أي أمهلتهم متنعّمين في عصر النبيّ الأكرم وآباءهم
بالمدّ في أعمارهم والإكثار في نعمهم ، فاغترّوا بذلك وانهمكوا في الشّهوات (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ) أي القرآن المشتمل على الآيات الدالّة على الصّدق أو
الدالّة على كلمة التوحيد أو على كليهما كما هو الظاهر. والمراد بالرّسول المبين
هو نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله الذي هو ظاهر ومبان بمعجزاته ، أو مبيّن للآيات الدالّة
على التوحيد والنبوّة.
٣٠ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا
سِحْرٌ) ... أي القرآن المميّز بين
الحق والباطل أو
الرسول الذي لا يقول إلّا الحق ، أو الكلمة الحقة : وهي كلمة لا إله إلّا الله.
والحاصل أنه لما جاءهم الحقّ لتنبيههم من غفلتهم وجهالتهم ما أذعنوا له وما عملوا
بوظائف شكر المنعم بل جحدوا وزادوا في جحودهم وإنكارهم بحيث (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي القرآن الذي جاء به محمد سحر (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي منكرون ، وزادوا على ذلك قولهم :
* * *
(وَقالُوا لَوْ لا
نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ
كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))
٣١ ـ (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ) ... أي إذا كان هذا القرآن من عند الله العظيم فلا مناص من
أن ينزل على الأشراف والأعاظم ، أي (عَلى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) والمراد بالقريتين مكة والطّائف.
ومرادهم بالرجل
العظيم الذي له مال كثير وجاه عريض وشهرة عند الناس. لكنهم أخطئوا وفاتهم أن
العظيم هو الذي يكون عند الله عظيما ، وهم يعتبرون مقياس العظمة الجاه والمال وهذا
رأي الجهلة الغفلة في كل زمان ومكان. وأمّا مقياس العظمة الحقيقية فهو عند الله
تعالى وعند العقلاء هو عظمة النفس وسموّ الروح ، ومن أعظم نفسا وأسمى روحا من رسول
الله صلىاللهعليهوآله حتى يتركه الله تعالى ويأخذ غيره لرسالته وأمره؟ لا والله
، إنه لا يوجد في جميع عوالم الكون بعد مرتبة الرّبوبيّة مرتبة أو مقام أعلى وأسمى
من مقام الرسول الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم فهنيئا لأمّته وتابعيه. وبسبب خطأ أولئك المعاندين في
تشخيص من له الأهليّة للرّسالة ومنصب النبوّة ، أنكر سبحانه قولهم وردّ مقالتهم في
تشخيصهم وقال :
٣٢ ـ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) ... أي هل القرشيون المعاندون أخذوا بأزمّة أمور العالم
بيدهم وصاروا مقسّمين لرحمة ربّك في النبوّة فيضعونها حيث شاؤوا ، ويعطونها لمن
أرادوا ، فصارت مفاتيح الرسالة في قبضة اختيارهم واقتدارهم؟ وهذا الاستفهام إنكاريّ
، فيه تجهيل وتعجيب من تحكّمهم (نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن نقسم الأرزاق في المعيشة على حسب ما علمناه من
مصالح عبادنا ، وهم عاجزون عن تدبيرها لعدم علمهم بالمصالح وعدم قدرتهم على
إيجادها. فإذا كانوا عاجزين عن تدبير قسمة أرزاقهم التي ترجع الى مصالح دنياهم
فكيف يتدخلون في امر الرسالة التي هي من أعلى وأسمى شؤون الإنسانيّة والرّوحانيّة
، وتعيينها من وظائف عالم الرّبوبيّة ، وليس لأحد أن يتحكّم في شيء من ذلك ويتدخّل
فيه. ونحن كما فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرّسالة من نشاء ،
ولذلك أكّد سبحانه وتعالى القول المذكور بقوله : (وَرَفَعْنا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ) أي في الرزق ، فواحد مبسوط له الرزق يعيش مرفّه الحال ،
وآخر مقبوض عليه رزقه وهو في ضنك من العيش ، وثالث بحريّته مشغوف ورابع في قيد
العبوديّة راسف ، وهذا في كمال القوة ، وذاك في غاية الضعف ، والناس بين القبض
والبسط والرفع والخفض ، وليس ذلك إلّا لمصلحة مهمّة يترتب عليها نظام العالم كما
أشار إليه سبحانه بقوله (لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي مسخّرا من التّسخير لا من السّخرية ، فيستخدمه في
حوائجه فينتفع كلّ بالآخر فينتظم بذلك أمر عالم الملك. وهذه الدرجات المختلفة وما
يترتب عليها ممّا ذكرنا من أعظم المصالح وأهمّها (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لأن ما يجمع من أموال الدنيا وزخارفها يفنى وإن بلغ ما بلغ
بخلاف نعمة النبوّة فإنها من حيث آثارها وتوابعها كلها باقية إلى الأبد والباقيات
الصالحات خير من الفانيات المهلكات. ثم إنه تعالى يخبر عن هوان الدنيا وقلّة قدرها
عنده سبحانه بقوله :
٣٣ إلى ٣٥ ـ (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) ... أي لو لا كراهة اجتماع الناس على الكفر لحبّهم الدنيا
طبعا فيكونون كلهم كفارا على دين واحد ويحرصون عليها حرصا شديدا (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) أي كنّا نجعلهم قادرين ونوسّع عليهم بحيث يبنون سقف بيوتهم
(وَمَعارِجَ عَلَيْها) أي مصاعدها وأدراجها من الفضّة كما يقول سبحانه (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) أي يصعدون (وَ) كذلك نجعل (لِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً) أي جعلناهم أثرياء قادرين بحيث يجعلون أبواب البيوت
التخّوت التي عليها يجلسون والسّرر التي (يَتَّكِؤُنَ) عليها كلّها من فضّة وبالملازمة العاديّة. فيكون المراد
أنّنا نمكّنهم أن يبنوا البيوت ولوازمها من الفضّة ، مشيرا سبحانه إلى تفاهة
الزائل ، ومريدا أن يبيّن لنا حقارة الدنيا عنده عزوجل ، إذ لو كان للدنيا عنده قدر بمقدار جناح
بعوضة لما شرب
الكافر منها قطرة ماء أبدا على ما يستفاد المعنى من الأحاديث المشهورة. والوجه في
كراهته سبحانه كون البشر على دين واحد ، أي ملّة واحدة هي ملة الكفر ، أنّ ذلك
يكون خلاف المصالح الكثيرة والحكم العديدة. هذا إجماله والتفصيل موكول إلى محلّه
وأهله (وَزُخْرُفاً) عطف على محل (مِنْ فِضَّةٍ) أي وجعلنا بيوتهم مزخرفة مزّينة موشاة بالذهب من قولهم :
زخرف البيت أي زيّنة بالزخرف. وهو الذهب أو المراد به مطلق الزّينة. وحاصل المعنى
أننا كنّا نمكّنهم من الذهب كما مكّناهم من الفضّة ليعيشوا في غاية الرّفاهية وفي
رغد العيش ، لكن المصلحة غير مقتضية لذلك ولم نخلق الدنيا دار دوام ولا دار مقام ،
وليست بذات قيمة عندنا إلّا بمقدار ما يتمّ فيها امتحان الصالح والطالح. ونحن في
المقام نذكر بعض الرّوايات التي أشير فيها إلى بعض تلك المصالح التي أشرنا إليها
إجمالا. ففي القمّي عن الصّادق عليهالسلام : لو فعل الله ذلك بهم لما آمن أحد ، ولكنّه جعل في
المؤمنين أغنياء وفي الكافرين فقراء ، وجعل في المؤمنين فقراء وفي الكافرين أغنياء
ثم امتحنهم بالأمر والنهي ، والصّبر والرّضاء. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام قال : ما كان من ولد آدم عليهالسلام مؤمن إلّا فقيرا ولا كافر إلّا غنيّا حتّى جاء إبراهيم عليهالسلام فقال ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فصيّر الله في
هؤلاء أموالا وحاجة وفي هؤلاء أموالا وحاجة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ
لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إِنْ) نافية وكلمة (لَمَّا) بمعنى (إلا) إذا قرئت مشدّدة ، أي ليس كلّ ما ذكر غير متاع
يتمتّع في الدّنيا به ما دام الإنسان حيّا ، وبعد موته يفنى المتاع جميعا وعلى
قراءة التخفيف (لَمَّا) قال الواحدي (ما) زائدة والتقدير : لمتاع الحياة الدنيا (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُتَّقِينَ) أي الجنّة الباقية عنده تعالى خاصّة بهم ومعدّة لهم.
* * *
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))
٣٦ ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) ... العشو أصله النظر ببصر ضعيف ، يقال عشا يعشو عشوا إذا
ضعف بصره وأظلمت عينه كأنّ عليها غشاوة. أي من يعرض ويتعامى عن القرآن أو الآيات
والحجج بناء على إنّ المراد بالذّكر هو هذه شبّههم بالأعشى ، حيث لم يبصروا الحقّ
والقرآن. فمن يكن كذلك (نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي نسلّط عليه شيطانا فهو يصاحبه ويغويه ويدعوه إلى
الضّلالة فيصير هو قرينه بدلا عن ذكر الله والدّعوة إلى الهداية. وروي أن الكافر
إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيّرهما الله إلى
النّار. والظاهر إن هذا هو شيطانه الذي كان في الدنيا قرينه ويغويه ويدعوه الى
الضلال. وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليهالسلام : من تصدّى بالإثم أعشي عن ذكر الله تعالى ، ومن ترك الأخذ
عمّن أمره الله بطاعته قيّض له شيطان فهو له قرين.
٣٧ ـ (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ) ... أي أن الشياطين ليصرفون أهل العشوّ عن طريق الحقّ
والحقيقة وعن دين الله القويم ويمنعونهم عن صراطه المستقيم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي العاشون يحسبون أنّهم على الحق. ولمّا كان العاشي
والشيطان في المقام اسم جنس فلذا يجوز في
الضمير الرّاجع
إليهما أن يؤتى به بصورة الإفراد أو الجمع ، كما أنّه سبحانه تارة أتى به مفردا في
المقام ، وأخرى جمعا. ويحتمل أن يرجع الضمير في انهم ومهتدون إلى الشياطين.
والمعنى أن العاشين يحسبون أن الشياطين من أهل الهداية ، ولهذا الظن الفاسد لا
يزالون يتبعون قرناء السّوء.
٣٨ ـ (حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ... أي إذا جاءنا العاشي وقرئ جاءانا أي العاشي وقرينه بموقف
الجزاء وساحة الحساب يقول العاشي لقرينه يا ليت (بَيْنِي وَبَيْنَكَ
بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) أي بعد ما بين المشرق والمغرب ، وقد غلّب المشرق فثني ،
وقيل أراد مشرق الشتاء ومشرق الصّيف. وقال الرّازي في وجه المشرقين : إن الحسّ يدل
على أن الحركة اليوميّة التي تشكّل اليوم ، إنّما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى
المغرب. وأمّا القمر فإنه يظهر في أوّل الشهر في جانب المغرب من الشمس ، ثم لا
يزال يتقدّم إلى جنب المشرق من الشمس. وبالأخير يغرب فيه ، وبعد ليلتي المحاق يطلع
من مغرب الشمس. وذلك يدلّنا على إن مشرق حركة القمر هو مغرب حركة الشمس ، ومغربه
هو مشرقها ، وبهذا التقدير يصحّ تسمية المغرب والمشرق مشرقين. وهذا مبالغة كاملة
في بعد المسافّة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي كنت لي في الدّنيا. حيث أضللتني رفيقا سيّئا ، وفي هذا
اليوم أوردتني النار. فإنهما يكونان يوم الحشر مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة
وغمّ كما عن ابن عباس ثم يقول الله سبحانه في ذلك اليوم للكفّار :
٣٩ ـ (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ) ... أي ما كنتم تتمنّونه اليوم لن يفيدكم ، ولن يجيركم من
النار ولا من غضب الجبّار أحد ، ولا يريحكم من العذاب اشتراككم فيه ولا شماتة كلّ
واحد منكم بصاحبه. ونقل عن واحد من الزّهاد أنه قال : كان لي صديق مؤمن من بني
الجانّ وكنّا جالسين في مسجد فسألني الجنيّ وقال : كيف ترى هؤلاء الجماعة من
الناس القاعدين في
هذا المسجد؟ قلت أرى بعضهم نائمين وبعضا غير نائمين. قال ما ترى على رؤوسهم؟ قلت :
لا أرى شيئا. فمسّ بيده على عينيّ فرأيت على رأس كلّ واحد منهم شيئا. فلمّا تعمّقت
في النظر رأيت على رأس كل واحد غرابا. فعلى بعض منهم وضع جناحه على عينيه بحيث لا
يرى شيئا ، وعلى بعض آخر كان الغراب يضع جناحه ويرفعه يفعل بهم هكذا دائما. فسألت
ما هذه؟ قال : هذه الغربان شياطين سلّطها الله عليهم فإنه بمجرّد غفلتهم عن ذكر
الله يستولون عليهم ويضلّونهم ويغوونهم ثم قرأ الآية (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ) فهؤلاء هم قرناء السوء. فلا ينفعكم (إِذْ ظَلَمْتُمْ) أي ظلمتم أنفسكم بكفركم في الدنيا. وقيل هي بدل من اليوم (أَنَّكُمْ) مع قرنائكم (فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ)
روى القمّي عن
الباقر عليهالسلام : نزلت هاتان الآيتان هكذا : حتى إذا جاءانا ، يعني فلان
وفلان ، يقول أحدهما لصاحبه حين يراه : (يا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) فقال الله لنبيّه صلىاللهعليهوآله قل لفلان وفلان وأتباعهما : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) آل محمد صلوات الله عليهم حقّهم (أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).
* * *
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ
وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ (٤٥))
٤٠ ـ (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ
تَهْدِي الْعُمْيَ) ... شبّهوا بهم لعدم انتفاعهم بالسمع والبصر بعد تمرّنهم
على الكفر وتوغّلهم في الضلالة (وَمَنْ كانَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بيّن فإنك لا تقدر على جبرهم على الإيمان فلا تحزن على
كفرهم وضلالتهم. وهذه الآيات تسلية للنبيّ الأكرم صلوات الله عليه وآله. وقوله (وَمَنْ كانَ) عطف على (الْعُمْيَ) باعتبار تغاير الوصفين.
٤١ و ٤٢ ـ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) ... أي نتوفينّك قبل تعذيبهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ) بعدك إمّا في الدنيا أو في الآخرة (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) أي وعدناهم به من العذاب في الدّنيا ، فلا تحزن ولا تغتمّ
لعدم إيمان قومك فانّ ولعهم بالضلالة مانع لهم عن الهداية (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي لا يعجزوننا بضلالتهم وعدم إيمانهم عن الانتقام منهم. والحاصل
أننا ننتقم منهم إمّا في حياتك أو بعد مماتك ، ولسنا عن الانتقام منهم بعاجزين
إمّا بك أو بعدك بعليّ بن أبي طالب. فاستشعر صلوات الله عليه وآله من هذه الآية
الشريفة بأنها بعده ستقع فتن عظيمة وملاحم شديدة وتتراكم على أهل بيته ولا سيما
على عليّ عليهالسلام مصائب كثيرة فظهرت آثار الحزن والملال على جبهته الشريفة ،
وبعد ذلك ما شوهد منه ما دام حيّا طلاقة وجه ولا أثر ضحك. وبعد نزول هذه الآيات
المذكورة التي كانت وعيدا وتهديدا للمعاندين والمشركين زاد جحودهم ونفاقهم ولم
يتنبّهوا أبدا فالتفت النبيّ (ص) إلى ما قضاه الله من أمر المعاندين فتأثّر كثيرا
صلوات الله عليه وآله فنزلت :
٤٣ ـ (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ
إِلَيْكَ) ... هذه تسلية له صلىاللهعليهوآله أو أمره بالتوسل والتمسّك بالقرآن وبأن يتلوه حقّ تلاوته
ويتتبّع أوامره وينتهي عمّا نهى فيه عنه قائلا له : (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي على دين حقّ وصواب وهو دين الإسلام ، أي الدّين القّيم.
وفي القمّي عن الباقر عليهالسلام : إنك على ولاية عليّ عليهالسلام ، وعليّ هو الصّراط المستقيم.
٤٤ ـ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ... أي إنّ القرآن لشرف أو لصيت لك ولقومك المؤمنين أو
لمطلق القرشيين (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن أداء شكر هذه النّعمة التي جعلها الله لكم شرفا ، أو عن
القرآن وعمّا يلزمكم من القيام بحقّه. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام : نحن قومه ، ونحن المسؤولون. وعن الصّادق عليهالسلام : إيّانا عنى ، ونحن أهل الذّكر ونحن المسؤولون. والرّوايات
كثيرة بهذا المعنى.
٤٥ ـ (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا) ... قوله (مِنْ رُسُلِنا) بيان لقوله سبحانه (مِنْ قَبْلِكَ) أو بدل الكلّ من الكلّ. وقيل المراد من قوله (مِنْ قَبْلِكَ) هو الأمم ، وهذا خلاف الظاهر بقرينة (مِنْ رُسُلِنا) فإنهم ليسوا بمرسلين بل إنهم مرسل إليهم. والحاصل أن
الأنبياء قد جمعوا له ليلة الإسراء والأمر بالسؤال قبل تلك الليلة ، أو في نفس تلك
الليلة على قول البعض. ويؤيّده ما في الكافي والقمّي عن الباقر عليهالسلام أنه سئل عن هذه الآية. من ذا الذي سأله محمّد صلىاللهعليهوآله وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة؟ ... فتلا هذه الآية : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ...) إلى قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا)
قال : فكان من
الآيات التي أراها الله محمدا صلىاللهعليهوآله حين أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله له الأوّلين
والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثم أمر جبرائيل فأذّن شفعا ، وأقام شفعا ثم قال
في إقامته حيّ على خير العمل ، ثم تقدّم محمد
(ص) فصلّى بالقوم
فأنزل عليه : (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا) ، الآية فقال لهم رسول الله (ص) على ما تشهدون ، وما كنتم
تعبدون؟ فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّك لرسول الله
أخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا. والمسؤول عنه هذا (أَجَعَلْنا مِنْ
دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي هل حكمنا بعبادة غير الله في مللهم؟ والغرض أنّ بيان
التوحيد دين أطبق عليه الرّسل ولم يبتدعه رسولنا الكريم ، فكيف يكذّب ويعادى
لأجله. والظاهر أن إعادة ذكر قصّة موسى (ع) ها هنا تكرارا كان بمناسبة ذكر حكاية
حال نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله مع قومه وتكذيبهم له ، فتسلية له وتطييبا لقلبه الشريف
بيّن سبحانه قصة موسى عليهالسلام وتكذيب قومه له واستهزاءهم به وضحكهم فقال تعالى :
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا
السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))
٤٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ... أي الحجج الظاهرة على صحة دعواه النبوّة بحيث لا يشك
فيها عاقل (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ) أي إليه وإلى
أشراف قومه ،
وتخصيص الأشراف بالذّكر لتبعيّة ما عداهم لهم (فَقالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي مبعوث منه سبحانه إليكم.
٤٧ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ
مِنْها يَضْحَكُونَ) ... أي لمّا أظهر المعجزات التي هي اليد والعصا ، أو
المراد آيات العذاب كالطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع وغيرها ، أو الأعم (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء بها.
٤٨ ـ (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ... أي من الآية التي قبلها أو مثلها ، فكل آية كانت بعد
أخرى كانت أكبر ممّا قبلها في الآيتيّة ، وكانت الآيات مترادفة متتابعة (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي بتلك الآيات المنذرة لهم بالعذاب (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بأمل أن يعودوا عن عنادهم وكفرهم.
٤٩ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) ... فلما اشتدت عليهم أنواع العذاب المتعاقبة وخافوا منها
على أنفسهم نادوه بذلك ، ويعنون بهذا النداء (يا أيّها العالم) حيث إن الساحر كان
عندهم عظيما ، فلذا تعظيما له راحوا يسمّونه عالما. ولم يكن السّاحر صفة ذمّ في
ذلك العصر. وقيل قالوا له ذلك ونادوه بهذا النداء استهزاء به عليهالسلام. وعن القمي : أي يا أيّها العالم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ
عِنْدَكَ) أي اطلب من ربّك بما لك عنده من الكرامة ليكشف العذاب عمّن
آمن و (إِنَّنا
لَمُهْتَدُونَ) لو كشف عنّا العذاب فإنّنا حينئذ نؤمن بربّك يا موسى.
٥٠ ـ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) ... أي أذهبناه بدعاء موسى ، وقد رفع الله العذاب عنهم
ولكنّهم لمّا ارتفع عنهم العذاب نقضوا عهدهم وقولهم بالاهتداء ورجعوا إلى ما كانوا
عليه.
* * *
(وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ
(٥٤)
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))
٥١ ـ (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) ... أي أذاع في ناديهم ، وفيما بينهم بعد كشف العذاب
والأمن عنه ، مخافة أن يؤمن بعضهم بإله موسى (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ) خداعا لهم بافتخاره بأمرين أحدهما كونه ملك مصر وسلطانها ،
وثانيا جري الأنهار الأربعة من تحت قصوره بكيفيّة خاصّة بها (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي) وكانت الأنهار التي تجري من تحت القصور أربعة كما قلنا
آنفا. ولمّا كانت القصور مبنيّة عليها فقهرا تقع الأنهار تحتها وبهذه الجهة عبّر
بجريها تحتها ، وكانت منشعبة ومنشقّة من النّيل ، وكانت الأنهار المنشقة منه كثيرة
قيل إنها كانت تبلغ ثلاثمئة وستين شعبة. وهذه الأنهار الأربعة كانت معظمها وكانت
تسمّى بالطّولون ونهري الملك ونهر دمياط ونهر تنيس. ولما احتجّ بقوّة جاهه وسطوته
قال (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تعترفون بما قلت؟ وكان نظره أن يأخذ منهم الإقرار
والتصديق حتى يترتّب عليه النتيجة بأنه أحق أن يكون
رسولا على زعم
موسى بأنّ للخلائق إلها غير فرعون كما يصرح بذلك كما حكى الله تعالى قوله :
٥٢ ـ (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ) ... تقدير الكلام أم تبصرون بأني خير؟ فعلى هذا (أم)
متّصلة بما قبله ، أي أفلا تبصرون؟ ويحتمل أن (أم) منقطعة كما قال به أبو عبيدة
ومعناه على هذا : بل أنا خير من هذا إلخ. والكلام السابق تمّ عند قوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) وقوله (أَمْ أَنَا) كلام مستأنف ، وبناء على الاتصال أقيم المسبب وهو (أَنَا خَيْرٌ) مقام سببه وهو (أم تبصرون) وبناء على الانقطاع (فالهمزة)
لتقرير فضله الذي ذكر أسبابه (مِنْ هذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ) أي ليس عنده مال ضعيف حقير (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي يظهر كلامه وهذا لأثر بقي في لسانه من العقدة التي
أصابته في الطفولة كما ذكرنا سابقا ، ولكن تلك الرتّة زالت عن لسانه حين أرسله
الله كما أخبر الله تعالى في دعائه حين بعثه إلى فرعون (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ثم أجابه سبحانه. (قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى) ويمكن أنه عيّره اللعين بما كان في لسانه قبل ذلك.
٥٣ ـ (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ) ... أي هلّا طرح عليه أسورة الذهب إن كان صادقا في نبوّته
، وألقي إليه مقاليد الملك؟ وهذا لأنهم كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه بسوار من ذهب
وطوّقوه بطوق منه ، ويعطونه المال والملك قدر شأنه. قال أمير المؤمنين سلام الله
عليه في نهج البلاغة : ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون على فرعون وعليهما
مدارع الصّوف ، وبأيديهما العصا فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه. فقال : ألا تعجبون من
هذين يشترطان لي دوام الملك وهما بما ترون ، فهلّا ألقي عليهما أسورة وطوّقا بطوق
من ذهب؟ (أَوْ جاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي متتابعين يعينونه على أمره ويعضدونه فيه ويصدّقونه بصحة
دعواه في نبوته. ثم قال سبحانه :
٥٤ ـ (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) ... أي فوجدهم خفيفي العقل والرأي حيث أحسّ منهم القبول
لما قال من المقدّمات الواهية لأنه احتج عليهم بما ليس بدليل كقوله (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) إلخ ولو كانوا عقلاء لردّوا عليه قوله ولرفضوا هذه
التسويلات الفاسدة والتخيّلات الرّكيكة فدعاهم إلى أطاعته في جميع أوامره ونواهيه (فَأَطاعُوهُ) أي قبلوه وأجابوه بانقيادهم له (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي أن القبطيين كانوا جماعة خارجين عن دائرة عبوديّة ربّ
العالمين حيث آثروا فرعون على موسى وفضّلوا الدّنيا الفانية على الآخرة الباقية
وعتوا على نبيّ الله ولم يقبلوا دعوته وخرجوا عن طاعته إلى حربه ومعاركته.
٥٥ ـ (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ... أي آسفوا رسلنا ، على حذف المضاف لأن الأسف بمعنى
الحزن وهو لا يجوز عليه سبحانه. وقوله (انْتَقَمْنا) أي اقتصصنا منهم ثأرا لأوليائنا ، لأنّ الانتقام من العدوّ
لتشفّي القلب. وهذا المعنى لا يتطرق ولا يتعقّل فيه عزوجل فلا بدّ أن نحمله على ما فسّرناه في الموردين بقرينة
المقام. والمشهور من المفسرين فسّروا الإيساف بالإغضاب أي أغضبونا (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) في اليمّ. وفي الكافي والتوحيد عن الصادق عليهالسلام أنه قال في هذه الآية : إنّ الله تبارك وتعالى لا يأسف
كأسفنا ، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم
رضى نفسه وسخطهم سخط نفسه ، وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه ، فلذلك
صاروا كذلك. وللرواية تتمّة ونحن نقتصر منها على مقدار ما يؤيّد ما فسّرنا الشريفة
به.
٥٦ ـ (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً
لِلْآخِرِينَ) ... أي قدوة لمن يوجد بعدهم من الكفرة والجحدة حتى لا
يقتدوا بهم في الاستحقاق لمثل عقابهم (وَمَثَلاً
لِلْآخِرِينَ) أي عبرة وعظة لهم ليعرفوا أن حالهم حال هؤلاء إذا أقاموا
على العصيان. وقيل
فجعلناهم (سَلَفاً) معناه متقدّمين إلى النار ، و (مَثَلاً) للآخرين مثلا سائرا وجاريا على الألسن حتى يعتبر الناس من
التذكّر لقصّتهم العجيبة من شقّ اليمّ وعبور النبيّ موسى (ع) وإغراق فرعون ومن معه
من القبطيّين بأجمعهم ، وقذف البحر لجسد فرعون وجده بعد إهلاكه للاعتبار وإظهارا
لقدرته عزوجل حتى يعرفوا بذلك خالقهم ويصدّقوا نبوّة موسى سلام الله
عليه عن يقين.
* * *
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))
٥٧ ـ (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) ... اختلف في المراد به على وجوه ، وكذلك في وجه مناسبة
ذكره هاهنا بأية مناسبة ذكر. أمّا مناسبة ذكره فيمكن أن تكون لذكر آيات قبيل هذه
راجعة إلى موسى عليهالسلام ،
منها قوله سبحانه
: (فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) ومنها قوله : (فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) وهذه الآية (لَمَّا ضُرِبَ) مع ما بعدها أي مع ذيلها (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ) كانت مشتملة على ما اشتملتا عليه من المثل السّاري ، وضحك
الأمّة على نبيّها عليهالسلام استهزاء واستخفافا به. وبهذه المناسبة كانت هذه الآيات
تتعقّب آيات قصّة موسى (ع). وأمّا المراد منها فإن معناها يتّضح بنقل رواية في
الكافي عن أبي بصير قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوآله جالس ذات يوم إذ أقبل أمير المؤمنين عليهالسلام فقال له رسول الله (ص) : إنّ فيك شبها من عيسى بن مريم ،
ولو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك
قولا لا تمرّ بملإ من الناس إلّا أخذوا التّراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة.
قال فغضب الأعرابيّان والمغيرة بن شعبة وعدّة من قريش معهم فقالوا ما رضي أن يضرب
لابن عمّه مثلا إلّا عيسى بن مريم؟ فأنزل الله على نبيّه (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً)
أي لمّا جعل
النبيّ الأكرم عليّا (ع) شبيها بعيسى في جهات لم يقلها خوفا من الأمّة فقهرا يصير
عيسى شبيها ومثلا لعليّ عليهالسلام (إِذا قَوْمُكَ) أي قريش وأمثال قريش (مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يضحكون على ما في المعاني عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من أنه قال في هذه الآية : الصدود في العربيّة الضّحك وكان
ضحكهم ضحك تمسخر واستهزاء على الظاهر. وقيل يصدّون أي يعرضون عن الحق ، وقيل
يضجّون ويصيحون ، ولعل صياحهم من باب التّمسخر أو سرورا ونوحا لظنّهم أنّ الرسول
صار ملزما ومفحما به. بيان ذلك أن النبيّ صلىاللهعليهوآله بعد مقالته في عليّ (ع) كما في الرّواية استشاط القوم حسدا
ونفاقا وتغامزوا وضحكوا في المجلس وقالوا : ما رضي أن يضرب .. إلى آخر ما في
الرّواية ، وزعموا أن الرّسول ملزم بذلك ثم قالوا : حيث إن عليّا (ع) إذا كان
شبيها بعيسى ، فآلهتنا خير من عيسى. وإذا كان عيسى
معبودا فآلهتنا
أولى بذلك ، فحكى قولهم سبحانه (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ) أي من هذا المثل (يَصِدُّونَ) ونزلت أيضا :
٥٨ ـ (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) ... أي أم عيسى. فالضّمير راجع إلى عيسى عليهالسلام وكان نظر القوم في هذه المجادلة والمخاصمة بقصد تحقير عليّ
عليهالسلام لأن معنى قولهم (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ) أم عيسى هو أن عيسى الذي كان عليّ شبيها به ومماثلا له ،
فآلهتنا من الأصنام خير منه. وما قالوا هذا الكلام إلّا جدلا وعنادا لعليّ (ع)
وللرسول (ص) أيضا. وبعد كلامهم هذا (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ
...) سكت النبيّ وما أجابهم انتظارا للوحي فظنّوا أن النبيّ صار
ملزما ولذا ضحكوا سرورا زعما منهم بأن النبيّ أمضى كونهم على حقّ في عبادة الأصنام
لأنها خير من عيسى ، فإذا كان هو معبودا للنصارى فالأصنام أولى بالعبادة. وفي
المقام روايات كثيرة ونحن نذكر رواية أخرى منها تأييدا للمراد من الآية. ففي
القمّي عن سلمان الفارسي رضوان الله تعالى عليه قال : بينما رسول الله صلىاللهعليهوآله جالس في أصحابه إذ قال : إنه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى
بن مريم (ع) فخرج بعض من كان جالسا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ليكون هو الدّاخل ، فدخل عليّ بن أبي طالب عليهالسلام فقال الرّجل لبعض أصحابه : أما رضي محمد أن فضّل عليّا
علينا حتّى يشبهه بعيسى بن مريم؟ والله لآلهتنا التي كنّا نعبدها في الجاهلية أفضل
منه أي من علي ، فأنزل الله في ذلك المجلس (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ)
يضجون فحرّفوها (يَصِدُّونَ) وقالوا (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ
أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي شديد والخصومة حريصون على اللّجاج و (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما بيّنوا هذا العنوان والمثل إلّا ليخاصموك حيث يحبّون
الخصام والجدال لا لتميز الحق عن الباطل ولا بحثا عن الحق. وعلى هذا التفسير
فالضمائر الآتية راجعة
إلى عليّ عليهالسلام لكننا جعلناها لعيسى على ما هو الظاهر.
٥٩ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا
عَلَيْهِ) ... أي ما عيسى إلّا عبد متّعناه بنعمة النبوّة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ) كما في الغرابة من خلقه ومولده من غير أب. وقد أشار سبحانه
في هذه الشريفة إلى أن عيسى مخلوق مثلكم لا أنّه معبود ، ونحن خلقناه خلقة غريبة
من غير أب بحيث صار مثلا لأولاد يعقوب حتى شرّفناه بمنصب الرسالة وجعلناه آية
للنّاس يعرفون بها قدرة الله ويشبّهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله. وهذا معنى
قوله تعالى (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً
لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقيل في تفسيرها وجه آخر وهو أن المشركين ضربوا بابن مريم
مثلا. بيان ذلك أنّه لمّا نزل (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فقال المشركون أو ابن الزبعرى : إن النّصارى يعبدون عيسى
وقد رضينا أن تكون آلهتنا معه. وإذا جاز أن يعبد عيسى فالملائكة أولى بذلك لأنه
بشر والملائكة أشرف وهم أولى بذلك من البشر. ثم إنه سبحانه تنبيها على قدرته
الكاملة وترهيبا للبشر قال :
٦٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) ... أي لو اقتضت الحكمة والمصلحة لأهلكناكم لنجعل بدلا
منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم ، يعني يقومون مقامكم. والحاصل أنّ خلق عيسى (ع)
ولو كان عجيبا عندكم لكنّنا نقدر على أعجب من هذا من إهلاك جميع البشر وإفنائهم عن
وجه الأرض وإبدال الملائكة منكم ، إمّا بإنزالهم من السّماء أو بإيلادهم منكم ، أو
بابدالكم بهم ، أو بإيجادهم في الأرض خلق السّاعة ، وكلّها عند قدرتنا على السّواء
، والأمر سهل علينا لأننا إذا أردنا أن نقول لشيء كن فيكون قبل أن يرتدّ إليكم
طرفكم ، أي بمجرّد إرادة الإيجاد. وبعبارة أخرى بمحض الإرادة يكون المراد موجودا
في عالم الخارج ، والتقدّم بين الإرادة والمراد رتبيّ لا زمانيّ ، فلا فصل بينهما
أبدا ، وهذه قدرة لا
يتعقّل فوقها قدرة
مطلقا.
٦١ ـ (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) ... أي نزول عيسى عليهالسلام من السّماء من أشراط السّاعة وقرب يوم القيامة وبنزوله
يعلم قربها (فَلا تَمْتَرُنَّ
بِها) أي لا تشكّنّ فيها (وَاتَّبِعُونِ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي اتّبعوا ما آمركم به فإنّ هذا دين قيّم وطريق للاهتداء
، وقال القمي : يعني أمير المؤمنين هذا هو الصراط المستقيم ، وإنه لعلم للسّاعة
فلا تمترنّ بها.
٦٢ ـ (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) ... القمّي قال : لا يمنعنّكم عن أمير المؤمنين مانع من
الناس (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي عدوّ متظاهر في عداوته لكم. ومعنى يصدّنّكم : يجعلكم
معرضين عن الحق إلى الباطل.
* * *
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى
بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣)
إِنَّ
اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧))
٦٣ و ٦٤ ـ (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) ... أي الآيات البيّنة نحو شفاء الأبرص والأكمه وإحياء
الموتى وغيرها من الآيات الكثيرة الواضحة (قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ) أي بالرّسالة أو بالعلم وبالتوحيد والعدل والشرائع ، أو
بكتاب فيه الحكم وما تحتاجون إليه وهو الإنجيل (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من أمر الدّين والدنيا ، وقد جئت لأبينّ لكم الحقّ
ولأرفع ما تختلفون فيه وأزيله عنكم. وبعبارة اخرى جئت لإصلاح ذات بينكم حتى تكونوا
أمة واحدة فلا تتحزّبوا بعدي (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فاتّقوا الله أي اجتنبوا معصيته في أوامره ونواهيه
وأطيعوني فيما أدعوكم إليه واعلموا أنه لا ربّ لكم إلّا الله الذي تحقّ له العبادة
فاعبدوه عبادة خالصة له ، ولا تشركوا به (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) أي أن تقوى الله وإطاعتي هو الدّين القيّم والطريق الموصل
إلى الحقّ والحقيقة ، وخلافه هو الضّلالة لأنه يفضي بكم إلى النّار.
٦٥ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ... أي بعد تلك المقالات التي ألقاها عيسى عليهالسلام من قوله قد جئتكم بالحكمة ولأبيّن لكم بعض الذي تختلفون
فيه من بعدي ، وبيّنه بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ) إلى قوله (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) يفضي بكم إلى الجنّة وغيره يوصلكم إلى النار ، ومع ذلك
كلّه تحزّبوا إلى فرق مختلفة : اليهوديّة والنصرانيّة ، والنصارى صاروا فرقا فرقة
قالوا بأن عيسى هو الله ، وأخرى قالوا بأنّه ابن الله ، وطائفة قالوا بأقانيم
ثلاثة ، وهو ثالث ثلاثة ، وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف الأحبار والرهبان وهم
الرؤساء الآمرون (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا) أي المتحزّبين (مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ) أي القيامة. والأليم وصف ليوم باعتبار متعلّقه. وفي قوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع مظهر في موضع مضمر للتّصريح بمنشإ العذاب وعلّته
ومبالغة في وعيد الأحزاب. ثم إنه سبحانه لوعيدهم زيادة على السابق وللمبالغة في
التهديد يقول :
٦٦ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) ... أي ما ينتظر كفّار مكة غير الساعة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) يعني لا يلتفتون إليها لغفلتهم عنها. ثم إنّه جلّ وعلا يصف
بعض أحوال أهل المحشر بقوله :
٦٧ ـ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ... أي المتحابّون في الدنيا أصبحوا أعداء في الآخرة. وفي
القمي : قال الصّادق عليهالسلام : ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله عزوجل فإنها تصير عداوة يوم القيامة (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) فإن خلّتهم لمّا كانت في الله فتبقى نافعة أبد الآباد. وفي
مصباح الشريعة عن الصّادق عليهالسلام : واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض وإن أفنيت
عمرك في طلبهم ، فإن الله عزوجل لم يخلق أفضل منهم على وجه الأرض من بعد النبيّين ، وما
أنعم الله تعالى على عبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم. قال الله تعالى :
الأخلّاء.
* * *
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)
الَّذِينَ
آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ
(٧٠) يُطافُ
عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها
فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))
٦٨ إلى ٧٠ ـ (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ) ... أي ينادى به
المتّقون. والله
تعالى يحكي لنبيّه (ص) تلك المناداة التي فيها غاية التلذّذ والسّرور لأهلها (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أيّها المتحابّون في الله في الدّنيا من (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا
مُسْلِمِينَ) الموصول في محلّ النّصب على البدل من (عِبادِ) لأنه منادى مضاف. أو هو صفة له. ثم بيّن ما يقال لهم بقوله
سبحانه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) أي نساؤكم المؤمنات (تُحْبَرُونَ) أي تسرّون سرورا يبدو في وجوهكم حبوره وأثره. وفي القمّي :
تحبرون أي تكرمون.
٧١ ـ (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) ... جمع صحفة ، أي القصعة (وَأَكْوابٍ) جمع كوب. كوز لا عروة له. أي أن الحور العين والغلمان لا
يزالون يدورون على الأصدقاء في الله وبأيديهم صواع الذّهب والأكواب المملوءة من
ماء الكوثر يسقون بها المتحابين والأصدقاء في الله وأيضا يحملون معهم قصاعا من
الذهب فيها ألوان من الأطعمة واكتفى سبحانه بذكر القصاع والكيزان عن ذكر الطعام
والشراب. (وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي ما تميل النفوس إليها من أنواع النّعم من المأكول
والمشروب والملبوس والمشموم وما تلتذّ الأعين بالنظر إليه والتذاذ الأعين هو
التذاذ الإنسان حيث إن التذاذها سبب لالتذاذه. ولا يخفى أنّه سبحانه تظهر فصاحة
التعبير عن نعم الجنّة في كتابه الكريم غاية الفصاحة في مقام وصف الجنة من حيث
جامعيّتها لأنواع النعم بحيث لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل ما انتظمه
هاتان الصّفتان لم يقدروا على الإتيان بمثله (وَأَنْتُمْ فِيها
خالِدُونَ) وهذه صفة أخرى من أوصافها المهمّة ، ولذا فإنّه تعالى بشّر
أهل الجنة بها ، ثم لمّا كان كلّ نعيم زائلا وموجبا لكلفة الحفظ وخوف الزّوال
ومستعقبا للتحسّر في ثاني الحال ، فلا قيمة لمثل هذه النعمة الدّنيويّة ، بخلاف
النّعم الدائمة الأخرويّة فإنها مبرّأة من ذلك كلّه ونذكر رواية تيّمنا في المقام
عن الحجة سلام الله تعالى عليه وعلى آبائه
الطاهرين. ففي
الاحتجاج عن القائم عجّل الله تعالى فرجه أنّه سئل عن أهل الجنّة هل يتوالدون إذا
دخلوها؟ فأجاب عليهالسلام : إن الجنة لا حمل فيها للنّساء ولا ولادة ولا طمث ولا
نفاس ولا شقاء بالطّفوليّة ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين كما قال الله
تعالى. فإذا اشتهى المؤمن ولدا خلقه الله بغير حمل ولا ولادة على الصّورة التي
يريدها كما خلق آدم عبرة.
وروى القمّي أن
الصّادق عليهالسلام قال : إن الرّجل في الجنة يبقى على مائدته أيام الدّنيا
ويأكل في أكلة واحدة بمقدار أكله في الدّنيا.
٧٢ و ٧٣ ـ (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ... يحتمل أن يكون
اسم الاشارة مبتدأ والجنّة خبره ، والموصول وصلته صفة للجنّة. ويحتمل كون الجنّة
صفة لاسم الإشارة والموصول وصلته خبر للمبتدأ ، ويحتمل كون الموصول صفة للجنّة مع
عدم كونها صفة للمبتدأ والخبر قوله (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) وبناء على هذا الاحتمال الأخير فالجارّ متعلق بحاصل
المقدّر أو بحصل. والمعنى على الاحتمال الأول : إن تلك الجنة الموعودة هذه التي
أورثتموها اليوم. وبناء على الاحتمال الثاني : إن هذه الجنة التي أورثتم من قبل ،
أي من إخوانكم الذين كانوا في الدنيا وما أجابوا دعوة الدّعاة إلى الله واختاروا
الضلالة على الهداية ونوضح معنى الاحتمال الأخير أيضا حتى يكون من لا خبرة له
بالعربية على بصيرة من تفسيرنا إن شاء الله ، وحاصله أنّ هذه الجنة التي أعطيتم
على طريق التوارث حصلت ووصلت إليكم بسبب أعمالكم التي صدرت عنكم في الدنيا من
أنواع الطاعات والخيرات والمبرّات ، وقد ورثتم المنازل التي كانت للكفّار لو أنهم
آمنوا وعملوا صالحا. وعن ابن عباس قال : الكافر يرث نار المؤمن ، والمؤمن يرث جنّة
الكافر لقوله أولئك هم الوارثون. والمعنى على الثالث واضح. ومعنى الشريفة ضمنا صار
معلوما على جميع الاحتمالات. وإيثار الإيراث على الإعطاء لتشبيه
الجنّة في البقاء
على أهلها بميراث يتوارثه المستحقون ويبقى لهم أبدا (لَكُمْ فِيها
فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) جمع سبحانه بين الطعام والشراب والفواكه وبين دوام ذلك
فهذه غاية الأمنية. ثم أخبر عن أحوال أهل النار فقال سبحانه وتعالى :
* * *
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)
لا
يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)
وَما
ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧)
لَقَدْ
جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ (٨٠))
٧٤ و ٧٥ ـ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ
جَهَنَّمَ) ... قال القمّي : هم أعداء آل محمّد صلوات الله عليهم
أجمعين وهذا تأويله. وأمّا تنزيله فإن أرباب الخطايا والذنوب وكلّ من كان معذبا في
جهنم ، و (خالِدُونَ) خبر (إِنَ) والجارّ مع ما يتعلّق به متعلّق به ، وقدّم عليه مبالغة
بعذابهم كما أن الآية الآتية بعد هذه مؤكّدة لعذابهم تخويفا لهم ولرجاء رجوعهم عن
كفرهم إلى الإيمان. فالمجرمون خالدون في العذاب وهو (لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفّف عنهم ، وهم في العذاب محزونون آيسون من
الرّحمة ساكتون في حيرة.
٧٦ ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ) ... أي نحن عذّبناهم بما
كسبت أيديهم
وبجرائمهم الموجبة له فكانوا هم الظّالمين لأنفسهم والجالبين لها العذاب.
٧٧ ـ (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا
رَبُّكَ) ... أي يدعون خازن جهنّم ، فيقولون : يا مالك ليحكم علينا
ربّك ، أي ليمتنا. وهو من «قضى عليه» أي (أماته) قال مالك بعد مائة عام أو ألف : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي أنتم باقون مخلدون في العذاب بلا موت ولا تخفيف.
٧٨ ـ (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) ... المراد من الحقّ هو القرآن ، أو دين الحق وهو الإسلام.
يعني لقد جاءكم رسلنا بالحق من عندنا. وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره. ويحتمل أن
يكون القائل هو مالك خازن النار ، وإنما قال جئناكم لأنه من الملائكة وهم من جنس
الرّسل. وقال القمّي : هو قول الله عزوجل ثم قال يعني جئناكم بولاية أمير المؤمنين (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ) قال يعني لولاية أمير المؤمنين كنتم كارهين لأن الحق خلاف
مشتهياتكم والباطل موافق لما تميل إليه طباعكم ولذا تميلون إليه وتعرضون عن الحق
فإن فيه كلفة التكاليف ، وفي الباطل راحة الحريّة. فأنتم بالطّبع تؤثرون هذه على
تلك.
٧٩ و ٨٠ ـ (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ) ... (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) والكلام مبتدأ ناع على المشركين لأنهم
لم يقتصروا على كراهة الحق فقط بل أتقنوا النفاق واتّفقوا على أمر وهو تكذيب الحقّ
وإبطاله وتصديق الباطل وإثباته ، أو على كيد محمّد والمكر به صلىاللهعليهوآله. وعلى كلّ حال هدّدهم الله وأخبر نبيّه بذلك ، والتفت عن
الخطاب إلى الغيبة لمزيد التهديد فقال (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي محكمون ومتقنون أمرا في مجازاتهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر
(أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أي حديث أنفسهم (وَنَجْواهُمْ) أي مسارّتهم.
وكانوا في دار النّدوة يتشاورون سرّا في كيفية إهلاك النبيّ صلىاللهعليهوآله والمكر به كما
أخبره عزوجل بذلك في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم قال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ) ، الآية أي هل يظنّون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم؟ (بَلى) نحن نسمع ذلك وندركه مضافا بأن (رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي الحفظة عندهم لا يزالون يكتبون ما يقولون ويفعلون. وقال
القمّي : يعني ما تعاهدوا عليه في الكعبة أن لا يردّوا الأمر في أهل بيت رسول الله
(ص) ولا يتنافى ما فسّرنا النجوى به مع ما قال به القمّي رضوان الله عليه ، لأنّهم
في دار النّدوة ربّما كانوا يتشاورون في كلا الأمرين بل وفي أمور أخر كما أنّ
ديدنهم كان على أن يقعدوا فيها ويتكلموا في مهامّ أمورهم. وعن الصّادق عليهالسلام أن هذه الآية نزلت فيهم.
* * *
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)
سُبْحانَ
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣))
٨١ ـ (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) ... أي فرضا إذا كان له ولد فأنا أولى بعبادة الولد لأنّ
تعظيمه تعظيم الوالد والنبيّ مقدّم في كلّ حكم على أمّته.
٨٢ ـ (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... ثم إنه سبحانه نزّه نفسه المقدّسة عن صفات البشريّة
التي يصفونه بها. وكونه ذا ولد يستلزم أن تكون ذاته قابلة للتجزّؤ والتبعيض ، وإذا
كان ذلك محالا في حقّ إله العالم
ذاتا بالأدلة
العقلية والنقلية ، فامتنع إثبات الولد له. فقوله عزوجل (سُبْحانَ رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) إشارة إجمالية إلى ما ذكرناه إجمالا. وبتوضيح آخر فإن هذه
المبدعات منزهة عن توليد المثل فما ظنّك بمبدعها وخالقها؟ تعالى الله عن ذلك علوّا
كبيرا. ولمّا بيّن سبحانه هذا البرهان التنزيهيّ هدّد المشركين والقائلين بالولد
له وقال :
٨٣ ـ (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) ... أي دعهم منغمسين في باطلهم ومتلهّين في دنياهم التي
تمرّ عليهم بأيّام قلائل (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ويوم القيامة حيث نجازيهم على خوضهم في الباطل واللّعب في
أمور دنياهم.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
(٨٤) وَتَبارَكَ
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
وَقِيلِهِ
يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))
٨٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) ... أي هو المعبود في السّماء للملائكة
كلّهم والعبادة
منحصرة به تعالى لا معبود فيها سواه (وَفِي الْأَرْضِ
إِلهٌ) اي المستحق للعبادة في الأرض للإنس والجن هو سبحانه لا
غيره ، حيث إن الألوهيّة والربوبية في العوالم العلويّة والسّفليّة لا تنبغي إلّا
له عزوجل باعتراف جميع البشر الإلهيّين في قبال الطبيعيّين كما يجيء
اعترافهم بذلك في ما بعد قريبا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه وتدبيره لأمور عباده (الْعَلِيمُ) بمصالح خلقه بل بكلّ شيء تعاظم.
٨٥ ـ (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ) ... أي تعاظم وتكبّر من له السّلطة على السّماوات وله
التصرّف كيف يشاء فيها (وَ) في (الْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي الرّجعة أو علم يوم القيامة (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي عاقبة أمرنا هي الرجوع إليه فيجازي كلّا بعمله. وقرئ
بالتّاء وبناء على قراءة التّاء يكون الانتقال إلى الخطاب للتّهديد.
٨٦ ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ) ... أي الذين يعبدهم المشركون بدلا عن الله سبحانه لا ترجى
الشفاعة منهم وليس لهم أن يشفعوا لعبدتهم لأن أمر الشفاعة بيده تعالى ولا يأذن
للشفاعة (إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) والمراد (مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِ) هم عيسى وعزيز والملائكة استثناهم سبحانه ممّن عبد من دون
الله فإن لهم منزلة الشفاعة ولكنّهم لا يشفعون إلّا لأهل التوحيد. والمراد (بِالْحَقِ) هو التوحيد و (هُمْ يَعْلَمُونَ) أي ما شهدوا به. والحاصل إن هؤلاء الثلاثة لمّا كانوا من
أهل التوحيد فلا يشفعون إلّا لأهل التّوحيد.
٨٧ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ) ... أي إذ سألت المشركين من خالقهم (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي يعترفون بأن الله هو خالقهم لوضوحه بحيث لا يقدرون على
الإنكار ، وهم مقرّون بأن آلهتهم لا تقدر على الخلق والإيجاد لتعذّر المكابرة فيه
من فرط الظهور ، فإذا كان الأمر هكذا فقل لهم : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي فكيف يصرفون ويعرضون عن عبادته إلى
عبادة غيره؟
٨٨ ـ (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) ... مصدر من (قال) يقول قولا وقيلا والضمير راجع إلى
النبيّ ، أي : قول النبيّ (يا رَبِّ إِنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وهو عطف على السّاعة ، أي (عنده علم قول النّبيّ يا رب إلخ)
فإنه صلوات الله عليه وآله لمّا ضجر من قومه وعرف إصرارهم على الكفر دعا ربّه
عليهم وهذا القول قريب من قول نوح عليهالسلام حيث قال : (رَبِّ إِنَّهُمْ
عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) ثم إنه تعالى قال لنبيّه صلىاللهعليهوآله :
٨٩ ـ (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ... أي فأعرض عن دعوتهم وقل سلام. وقيل هذا سلام هجر
ومتاركة لا سلام تحيّة وكرامة. ويحتمل أن المراد به يعني إذا خاطبوك بما يؤذيك فقل
سلام ، على ما في قوله تعالى في وصف المؤمنين (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) وكقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا
نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وقيل معناه قل يا محمد : سلام ، تسلم من شرّهم. وهذا ممّا
علّمه الله من مكارم الأخلاق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هدّدهم بيوم القيامة ، وممّا يعاينون من العذاب الذي يحلّ
بهم.
* * *
سورة الدّخان
مكيّة وآياتها ٥٩
نزلت بعد الزخرف.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ
عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨))
١ ـ (حم) ... قد قلنا سابقا إن هذه الحروف المقطّعة في أوائل السور
أسماء للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله وكلّ واحد منها في كلّ سورة مبدوءة به يكون قد جاء لمناسبة
من المناسبات ولجهة من الجهات التي لا يعلمها إلّا هو سبحانه ومن خوطب بها صلىاللهعليهوآله. فهذه أسرار وأسماء رمزيّة فعلى هذا تكون هذه الأسماء
مناديات ، والتقدير : يا حم.
٢ ـ (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ... الواو للقسم أي أقسم بالكتاب المبين المظهر لأحكام
الحلال والحرام والمبين للحق من الباطل.
٣ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبارَكَةٍ) ... هذه الجملة جواب للقسم. لكن الطبرسي رحمهالله أنكر كونها جوابا وقال : إن جواب القسم قوله سبحانه (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) وقال لا يصحّ كون الجواب (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه ، فإن المنزل هو الكتاب.
والمراد باللّيلة المباركة هي ليلة القدر ، ومن بركاتها نزول الكتاب الكريم الذي
هو واسطة للمنافع الدنيوية والدينيّة ، في هذه اللّيلة من اللّوح المحفوظ إلى
السّماء الدّنيا ومنها إلى النبيّ نجوما وقت وقوع الحاجة والمناسبة التي تقتضي
ذلك. فبوركت لهذا ولنزول الرحمة ولتقسيم النّعم وإجابة الدعاء فيها وغيرها. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة والإنذار :
الاعلام بمواضع الخوف ليتّقى ، وبموضع الأمن ليجتبى ، فالله عزّ اسمه قد أنذر
عباده بأتمّ الإنذار من طريق السمع والعقل. ونسبة الإنذار إلى ذاته المقدّسة
باعتبار أنّ إنذار الرّسل بأمره ، إنذاره.
٤ ـ (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ... أي في ليلة القدر يفصل ويفرز ، ومنه فصل الخصومات. و (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي كلّ أمر من الحق والباطل أو يقدّر الله في تلك الليلة
من أمور السّنة ما يحدث في تلك السّنة وله تعالى فيها البداء والمشيئة ، يقدّم ما
يشاء ويؤخّر من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيه ما يشاء
وينقص ، ويلقيه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وإلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهو إلى الأئمة ، حتى ينتهي إلى صاحب الزمان عليهمالسلام ويشترط له فيه البداء والمشيئة والتقديم والتأخير. والمراد
بالحكم المحكم ليس بشيئين إنما هو شيء واحد. أو المراد به أمر ذو حكمة. وقد قال
الإمام الكاظم عليهالسلام : حم : محمد صلىاللهعليهوآله ، والكتاب المبين : أمير المؤمنين
عليهالسلام. والليلة المباركة : فاطمة عليهاالسلام فيها يفرق كلّ أمر حكيم : يخرج منها خير كثير ورجل حكيم
ورجل حكيم ورجل حكيم ، إلخ ... الحديث.
٥ ـ (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) ... منصوب حالا من (أَمْراً) أو من الضّمير في (حَكِيمٍ) يرجع إليه (إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ) أي من شأننا إرسال الرّسل وإنزال الكتب بمقتضى حكمتنا
واقتضاء مصالح العباد ذلك.
٦ ـ (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ... هذا بيان لسبب إرسال الرّسل والكتب ، أي رأفة منّا
بخلقنا ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرّسل. ووضع الظاهر مقام الضمير إشعار بأن
الربوبيّة اقتضت ذلك فإنه أعظم أنواع التربية (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ) للأقوال كلّها (الْعَلِيمُ) العالم بأحوال العباد ومصالحهم.
٧ ـ (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي مالكهما ومصلحهما ومديرهما ومدبّرهما (وَ) مدبّر (ما بَيْنَهُما) قرئ بالجرّ عطفا على ما قبله. ثم إنّه سبحانه كرّر هذه
الجملة في مواضع عديدة من كتابه تنبيها للعباد بأن من له هذه القدرة وهو بهذه
السّلطة على جميع العوالم العلويّة والسّفليّة وما بينهما من عجائب مخلوقاته مع أن
خلقه تلك العوالم أعجب من خلقه ما فيهما وما بينهما ، فهذا أحقّ بالعبادة أم مخلوق
هذا الخالق القادر القاهر الحكيم العليم؟ ولا سيما مخلوقه الجماديّ كالأصنام ...
عجبا لحلم الله مع مداراته لهؤلاء الجهلة الجحدة الكفرة كيف أعرضوا عن عبادة خالقهم
إلى عبادة أدنى المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) أي عالمين أن الأمر كما وصفناه.
٨ ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... رَبُّكُمْ) ... هذه شهادة منه سبحانه على توحيده ، وهي أقوى وأدلّ
دليل على التوحيد لأنه عزوجل أعرف بمخلوقاته وأعلم بهم من أنفسهم ، فإذا قال ليس في
جميع العوالم إله غيري مع أنه أصدق القائلين فلا بد أن يقبل قوله ويطاع أمره مع
أنه كم من براهين عقليّة ونقليّة أقيمت
عليه ، فلا ينبغي
أن يخطر على قلب عاقل إله غير الله سبحانه فضلا عن أن يعبد غيره عزوجل (يُحْيِي وَيُمِيتُ) صفتان مختصّتان بذاته تعالى أي يحيي الناس بعد موتهم ،
ويميتهم بعد إحيائهم. أو المراد من الإحياء هو الإيجاد بعد العدم ، والإماتة بعد
هذه الحياة كما تشاهدون (رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) لمّا كان الكفّار معترفين بربوبيّته لكنّهم ، بعلمه بجميع
الأشياء وبإرساله جميع الرّسل وإنزاله جميع الكتب ، لم يقرّوا ، وذلك كان مستلزما
لعدم تيقّنهم لربوبيّته فلهذه الجهة نفى يقينهم وقال سبحانه فيما يلي :
* * *
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ
هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
أَنَّى
لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)
ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا
الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))
٩ ـ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) ... قوله (فِي شَكٍ) ردّ لكونهم موقنين بما أخبر الله تعالى نبيّه وقوله (يَلْعَبُونَ) يحتمل أن يكون المراد أنهم يلعبون في قولهم وإقرارهم بأن
الله هو ربّنا وربّ آبائنا وإن علوا. ومن ناحية أخرى هم منكرون علمه بجميع الأشياء
وإرساله لجميع الرّسل
والكتب. وهذا
الإنكار يستلزم الشكّ في ربوبيّتنا. أو المراد بقوله يلعبون يعني أنّهم يستهزئون
بما أخبرناك به ، فإقرارهم ليس إقرارا حقيقيّا وعن علم ويقين بل مخلوط بهزل وهزء.
أو (يَلْعَبُونَ) يعني يشتغلون بالدّنيا بحيث لا يتوجّهون إلى المواعظ
والدّلائل والحجج حتّى يهتدوا بأنه سبحانه ربّهم وربّ كل شيء ويعتقدون بذلك عن علم
ويقين. والاشتغال بالدنيا بهذه الكيفيّة لعب ولهو ثم إنه تعالى خاطب نبيّه تهديدا
لهم فقال سبحانه :
١٠ و ١١ ـ (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ
بِدُخانٍ مُبِينٍ) ... أي فانتظر لهم اليوم الذي تأتي السماء بدخان ظاهر بحيث
لا يشكّ أحد في أنّه دخان. واختلف في هذا الدّخان ومنشئه أنّه من أين يكون؟ فعن
عليّ عليهالسلام وبه أخذ جماعة : إنّه دخان يأتي من السّماء قبل يوم
القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون الواحد منهم كالرأس الحنيذ (والحنيذ
المشويّ) ويعتري المؤمن منه كهيئة حال المزكوم وتأخذه الزّكمة (بفتح الزّاء وسكون
الكاف) وتصير الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص (والخصاص الفرجة) وعن رسول
الله : أوّل الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى
المحشر. قال حذيفة : يا رسول الله وما الدّخان؟ فتلا رسول الله صلىاللهعليهوآله الآية ، وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب ، يمكث أربعين
يوما وليلة ، أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فهو كالسّكران يخرج من
منخريه وأذنيه ودبره (يَغْشَى النَّاسَ هذا
عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يغطّيهم ، أو يحيط بهم. فإذا شاهدوه بتلك الشدّة يقولون
(هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي كثير الألم ويخافون منه شديدا وهذا من أشراط السّاعة
على ما في الرواية من أنّ اوّل الآيات الدخان إلى أن يقول : ونار تخرج من قعر عدن
تسوق الناس إلى المحشر. والقمّي قال : ذلك إذا خرجوا في الرّجعة من القبر وكان
الرجل يحدّث رجلا فلا المحدّث
يرى المخاطب ولا
هو يرى المتكلّم من شدّة غلظته وتراكمه.
١٢ ـ (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ
إِنَّا مُؤْمِنُونَ) ... أي مؤمنون بالقرآن ومصدّقون بنبوّة النبيّ محمد صلىاللهعليهوآله ، وهذا وعد بالإيمان لو كشف العذاب عنهم. لكنه سبحانه أخبر
عن حالهم الذي دل على كذب مقالتهم فقال عزوجل :
١٣ ـ (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) ... أي من أين لهم التذكّر بذلك (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي أبان لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الاذّكار من الآيات
ومن المعجزات ومع ذلك ما تذكروا.
١٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ... أي أعرضوا عن رسولنا وما اكتفوا بذلك وقالوا يعلّمه
بشر ، اي غلام أعجميّ لبعض ثقيف ، فهذا الكتاب ليس من عند الله كما يزعم محمد. وما
اكتفوا بهذا بل قالوا إنّه (مَجْنُونٌ) وقال القمّي : قالوا ذلك لأنّه لمّا كان ينزل عليه الوحي
كانت تأخذه الغشية ، وإن بعضهم لمّا رأوه في تلك الحالة نسبوا إليه الجنون.
١٥ ـ (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) ... عدل سبحانه عن الغيبة إلى الخطاب في مقام جوابهم عن
وعدهم وردّهم بأنكم لا تفون بوعدكم ولو أنّنا كشفنا العذاب عنكم ، لأن الخطاب أبلغ
في الرّد والتوبيخ والحاصل يقول سبحانه نحن نكشف عنكم العذاب عمّا قريب أي بعد
أربعين يوما اختبارا لكم لكننا نعلم (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي ترجعون إلى كفركم بعد الكشف عاجلا. وقال القمّي : يعني
إلى القيامة باقون على الكفر ولو كان قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي
السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) في القيامة كما هو ظاهر بعض الرّوايات ، لم يقل (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) لأنّه ليس بعد الآخرة والقيامة حالة
يعودون إليها.
١٦ ـ (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى
إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ... أي نأخذهم أخذة كبيرة عظيمة شديدة بعذاب النار.
والمراد يوم القيامة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي ننتقم منهم بما يستحقون من العذاب. ولمّا أصرّ كفّار
مكّة على كفرهم وجحودهم ووجدوا أن ذلك يحزن قلب النبيّ ويؤذيه ، أخذوا يزيدون في
عنادهم وعداوتهم معه صلىاللهعليهوآله فكرّر الله سبحانه وتعالى تسليته بتكرار قضايا موسى (ع)
وأذاه من قومه ومن فرعون عصره ومتابعيه ويذكّره بها لتسهيل الخطوب الواردة عليه من
أمّته وعصاة قومه صلوات الله عليه وآله فلذا يقول جلّ وعلا كما في الآيات التالية
:
* * *
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))
١٧ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ) ... أي اختبرناهم وامتحنّاهم قبل قريش (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي موسى عليهالسلام فإنه كان له شأن
عظيم عند الله
تعالى فلذا جعله كليما له وهذا من خصائصه عليهالسلام فقد كان عزيزا ومرضيّا عند قومه بني إسرائيل ، وكان أجودهم
عطاء وأحسنهم خلقا وخلقا ولذا وصفه سبحانه بوصف جامع لما ذكرناه. وكان من الأنبياء
الذين آذتهم أمّتهم كثيرا ، ولذا فإنه تعالى يسلّي نبيّه صلىاللهعليهوآله به عليهالسلام وكانت أمّته لجوجة عنودة جهولة شبيهة بقريش ، فمن هذه
النّاحية أيضا كان بين نبيّنا وبين موسى تناسب. والحاصل جاءهم موسى وقال لفرعون
وحشمه لا بدّ أن تؤدّوا إليّ بني إسرائيل.
١٨ ـ (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) ... أي أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتّسخير فإنهم
أحرار فلا. تعاملوهم معاملة العبيد. وكان بنو إسرائيل حين طلوع موسى على فرعون
محبوسين وكان حبس فرعون مهولا مخوفا بالعذابات الشديدة التي أوقعوها على المحبوسين
فيها ولذا أوّل ما طلبه موسى من فرعون كان إطلاق بني إسرائيل الذين كانوا ممّن
يعبد الله ، في قبال القبطيين فإنهم كانوا عبدة فرعون. ولذا عبّر عنهم كليم الله
بعباد الله (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) أي غير متّهم بكذب في القول على ما أدّعيه من الرّسالة ولا
بخيانة في أموالكم التي أودعتموها عندي. ويستشعر من الشريفة أن موسى عليهالسلام كان عند النّاس معروفا بالأمانة حتى عند القبطيّين. وقوله
: (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) من باب التذكير وإلّا كانت هذه دعوى بلا بيّنة وبرهان فلا
تقبل. وبالجملة كان من هذه الجهة مماثلا لنبيّنا صلىاللهعليهوآله فانّ نبيّنا من بدء أمره كان معروفا بمحمد الأمين حتى
أعاديه كانوا لا ينكرون أمانته وأذعنوا لها.
١٩ ـ (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ... أي لا تتكبّروا ولا تتجبّروا عليه بترك طاعته وكفران
نعمه وافتراء الكذب عليه (إِنِّي آتِيكُمْ
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة واضحة يظهر الحق معها ، أو بمعجز ظاهر تبين به
صحّة نبوّتي وصدق مقالتي فلما قال ذلك توعّدوه بالقتل والرّجم فقال :
٢٠ ـ (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) ... أي التجأت إليه سبحانه (أَنْ تَرْجُمُونِ) من أن تؤذوني بقذفي بالحجارة ، أو بغيره من الأذى.
٢١ ـ (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ) ... أي فاتركوني وتنحّوا عنّي فلكم دينكم ولي ديني. ثم
تألّم منهم كثيرا وحزن قلبه الشريف من هؤلاء القوم فدعا عليهم كما ترى :
* * *
(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
فَأَسْرِ
بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)
وَاتْرُكِ
الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤))
٢٢ ـ (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ
مُجْرِمُونَ) ... أي لمّا يئس من إيمانهم دعا الله سبحانه عليهم (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مذنبون يرتكبون المعاصي لأنهم مشركون ولا يؤمنون أبدا
فأوحي إلى موسى :
٢٣ ـ (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) ... أي أخرج مع من آمن بك من بني إسرائيل عن هذه البلدة في
الليل ، والسّرى هو السير ليلا (إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) أي يتبعكم فرعون وقومه إذا علموا بخروجكم.
٢٤ ـ (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ... أي خلّ البحر على حاله منفرجا. والرّهو هو الفرجة
الواسعة فافرجه بعصاك واخرج أنت من طرفه الآخر بعد ما تدخله. وتجوزه حتى يدخله
فرعون وجنوده والأمر بترك البحر على هيئته التي دخله موسى بها لأنه أراد أن يضربه
ثانيا لينطبق خوفا أن يدركهم القبط فأمر بتركه كما هو
ليدخلوه فلا تخافوا
منهم (إِنَّهُمْ جُنْدٌ
مُغْرَقُونَ) فدخلوا البحر فأغرقوا جميعا ، ثم نبذ البحر جسد فرعون
ليكون عبرة للناس.
* * *
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))
٢٥ إلى ٢٧ ـ (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ... إن الله تعالى يخبر حبيبه عن تركتهم من البساتين
والعيون الكثيرة الجارية وما سواها من النّعم التي كانت تغمرهم. (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) والمراد بالمقام الكريم ، المحافل المزيّنة والمنازل
الحسنة والقصور المشيّدة. فقد خلّفوها وراءهم حين لحقوا ببني إسرائيل (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) النّعمة بفتح النون رغد العيش ونضارته ، وبكسرها ما أنعم
به على الإنسان من الرزق والمال الكثير والولد الصّالح وأمثالها والحالة التي
يستلذّ بها الإنسان وجاء بمعنى المسرّة ، وبالضمّ المسرّة والرفاهة ، ونعمة العين
قرّتها و (فاكِهِينَ) أي متنعمّين متمتّعين بطيب العيش وقال القمّي : النّعمة في
الأبدان ، وفاكهين أي مفاكهين للنّساء ومتمتّعين بهنّ.
٢٨ ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً
آخَرِينَ) ... أي هكذا نفعل بالمجرمين ، نهلكهم ونورث هذه المعدودات
لمن بعدهم ، أي لبني إسرائيل لأنهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون ومتابعيه. وإيراث
النّعمة تصييرها إلى الثاني
بعد الأوّل بلا
مشقّة كما يصير الميراث إلى أهله هكذا. فلمّا كانت نعمة فرعون وقومه وصلت إلى بني
إسرائيل بعد إهلاكهم كان ذلك إيراثا من الله لهم.
٢٩ ـ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ) ... هذه الجملة يمكن أن تكون في مقام بيان تصغير قدرهم ،
فإن العرب جرت عادتهم بأن يخبروا عن عظم المصيبة بالهالك بأنه بكته السّماء والأرض
، أو تقول : أظلم لفقده الشمس والقمر ، وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز :
الشمس طالعة
ليست بكاسفة
|
|
تبكي عليك نجوم
الليل والقمر
|
وقالت الخارجيّة :
أيا شجر الخابور
ما لك مورقا
|
|
كأنك لم تجزع
على ابن طريف
|
وذلك على سبيل
الاستعارة التخييليّة مبالغة في وجوه الجزع والبكاء. وسئل ابن عباس عن هذه الآية
وقيل هل يبكيان على أحد؟ قال : نعم ، مصلّى المؤمن في الأرض ، ومصعد عمله في
السّماء. وروى زرارة بن أعين عن الصّادق عليهالسلام أنه قال : بكت السّماء على يحيى بن زكريّا وعلى الحسين بن
عليّ بن أبي طالب عليهمالسلام أربعين صباحا ، ولم تبك إلّا عليهما. قلت وما بكاؤها؟ قال
: كانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمراء. وفي رواية أخرى عنه عليهالسلام : بكت السّماء على الحسين بن عليّ عليهماالسلام أربعين يوما بالدّم. وبالجملة فالمراد من قوله (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ) التهكّم واستصغار القدر. والوجه الثاني في الشريفة أن يقال
إن المراد : لم يبك عليهم أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم بحذف المضاف
كقوله تعالى (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) وقيل وجوه أخر نحن بصدد بيانها (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي ممهلين إلى وقت آخر.
* * *
(وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢)
وَآتَيْناهُمْ
مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))
٣٠ و ٣١ ـ (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... يعني خلّصناهم (مِنَ الْعَذابِ
الْمُهِينِ) ذي الإهانة والاحتقار كقتل الأبناء واستخدام النساء
والاستعباد والتكاليف الشاقّة الأخر. وكلّ هذه من فرعون وقومه الطّغاة كما أخبر
سبحانه : (مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متكبرا متجبّرا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين الحدّ في الطغيان ، وقد وصفه تعالى بأنّه عال
وإن جاز أن يكون مدحا ، إلّا أنّه قيّده بأنّه عال في الإسراف ، والممدوح هو
العالي في الإحسان ، والعالي في الإساءة مذموم.
٣٢ و ٣٣ ـ (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) ... أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل وفضّلناهم بالتوراة
وكثرة الأنبياء منهم (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منّا باستحقاقهم ذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم. وقال القمّي : فلفظه عامّ ولكنّ المعنى
خاص فقد اخترناهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ
الْآياتِ) كانشقاق البحر بضرب العصا ، وإجراء الماء من الصّخرة
الصمّاء أيضا بضرب العصا عليها في التيه التي كانت في البيداء ، وإنزال المنّ
والسّلوى ، وإظهار اليد البيضاء ، وتصيير العصا أفعى وغيرها من المعجزات والآيات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر وامتحان باهر.
* * *
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ
مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ
(٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا
مُجْرِمِينَ (٣٧))
٣٤ إلى ٣٦ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ) ... هذا رجوع إلى أحوال كفّار قريش مع رسول الله (ص) فإن
قصّة فرعون مع موسى عليهالسلام كانت معترضة لبيان جهة أشرنا إليها سابقا. والمراد من اسم الإشارة
هؤلاء هو كفّار قريش (لَيَقُولُونَ إِنْ
هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي المزيلة للحياة الدنيويّة (وَما نَحْنُ
بِمُنْشَرِينَ) أي بعد الموتة الأولى لا حياة أبدا ، لا حياة القبر ولا
حياة البعث ، وما نحن بمبعوثين. وإن لم يكن كذلك (فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرّسول والمؤمنين أي إن كان
الأمر كما تزعمون فأحيوا لنا واحدا من آبائنا كقصيّ بن كلاب حتى نشاوره ونسأله عن
صحة نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآله وعن صحّة البعث فإن اعترف وأقرّ بهما فنحن نقبل أيضا
ونصدقكم في وعدكم. وقيل إن المتكلّم بهذا هو أبو جهل ووجه اختيار قصيّ لأنه كان
معروفا بالصّدق بين أهل عصره وكان شريفا.
٣٧ ـ (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ... على وزن سكّر واحد التّبابعة من ملوك حمير ، سميّ
تبّعا لكثرة أتباعه ، أو سمّوا بالتبابعة لأن الأخير يتبع الأوّل في الملك ، وهم
سبعون تبّعا ملكوا جميع الأرض ومن فيها من العرب والعجم. وكان تبّع الأوسط مؤمنا
بنبيّنا قبل ظهوره بسبعمئة عام وهو الذي نهى النبيّ صلىاللهعليهوآله وعن سبّه لإيمانه ، وهو تبّع الكامل وكان من أعظم التبابعة
وأفصح شعراء العرب. ويقال إنه نبيّ مرسل إلى نفسه لما تمكّن من ملك الأرض. والدليل
على ذلك أن الله تعالى ذكره عند ذكر الأنبياء فقال (وَقَوْمُ تُبَّعٍ
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) وأسند
تكذيب الرّسل إلى
قومه حيث إنهم كانوا كفرة ولذا ذمّهم دونه لأنه كان مؤمنا ولم يعلم أنه أرسل إلى
قوم تبّع رسول غير تبّع وتبّع أوّل من كسا البيت بالأنطاع (جمع نطع وهو بساط من
جلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بالقتل) بعد آدم عليهالسلام حيث كساه الشعر وقيل إبراهيم أول من كساه الخصف ، وأوّل من
كساه الثياب سليمان عليهالسلام ، فعن الصّادق عليهالسلام أنّ تبّعا قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا
النبيّ أمّا أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه. ويحتمل أن يكون مراده بهذا النبيّ
أي الذي أخبر به الأحبار والرّهبان والكهنة في ذلك العصر. ومعنى الشريفة أن مشركي
قريش أظهر نعمة وأكثر أموالا وأعزّ قوّة وقدرة أم قوم تبّع الحميريّ الذي سار
بالجيوش حتى حيّز الحيرة ثم سار وأتى سمرقند فهدمها ثم بناها على أصول أرادها.
وتبّع كان لقب كلّ ملك من ملوك اليمن كما يقال خاقان لملك التّرك وقيصر لملك
الرّوم. والحاصل فإنهم ليسوا بأفضل وأقوى منهم وقد أهلكناهم بكفرهم ، وهؤلاء مثلهم
بل أيسر منهم فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ
إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) كما أن كفار مكة مجرمون. وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا) ، الآية هذا في مقام بيان علّة الإهلاك وهذا السبب موجود
في كفرة قريش.
* * *
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى
عَنْ
مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ
اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))
٣٨ و ٣٩ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... ثم إنه سبحانه بعد تهديد كفرة قريش باستئصال قوم تبّع
لعتوّهم وعنادهم وإنكارهم للبعث والمعاد ، يبيّن صحّة وقوع الحشر والجزاء بقوله : (خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما) ليس على وجه اللهو واللّعب ولا عبثا ، بل خلقناهما على وجه
المصلحة والحكمة. فإذا كان إيجاد جميع المخلوقات من العدم لمصلحة وحكمة فكيف بعد
ذلك نهملهم ونتركهم ضياعا بلا يوم حساب وثواب وعقاب؟ والذي تزعمونه من أن خلقهما
كان على وجه العبث ، هو خلاف الفرض ، فلا بدّ من يوم حساب وجزاء ليلقى الإنسان
جزاء عمله إن خيرا وإن شرّا ؛ وهذا تفسير قوله (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ) ، إلى قوله سبحانه (لاعِبِينَ) أي لاهين وبلا مصلحة. وفيها تنبيه على ثبوت الحشر ليثاب
المؤمن بعمله الصالح والكافر بعمله الطالح. فنحن (ما خَلَقْناهُما
إِلَّا بِالْحَقِ) أي لغرض صحيح ومصلحة عامة هي الدّاعية لخلقهما (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة نظرهم وقصره على الدنيا ، أو لتركهم النظر والتفكّر
في خلقتهما وأنهما لماذا خلقا.
٤٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ) ... أي فصل الحق عن الباطل ، أو المحق عن المبطل ، و (مِيقاتُهُمْ) موعدهم (أَجْمَعِينَ) أي جميع الخلق.
٤١ و ٤٢ ـ (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى) ... هذه الجملة بدل عن قوله (يَوْمَ الْفَصْلِ) يعني يوم الفصل يوم لا يدفع مولى بقرابة وغيرها عن مولى
شيئا أي شيئا من الإغناء أو شيئا من العذاب (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) أي لا يمنعون منه ، ولا يعاونهم أحد من مواليهم وأصدقائهم
في دفع
العذاب. ولمّا كان
المولى اسم جنس فلذا جمع الضمير الراجع إليه. فلا يدفع عذاب عن أحد (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي بالعفو عنه والإذن للشّفعاء بالشفاعة له. ويستفاد من
الاستثناء أن المراد به هو المؤمن المذنب ، وإلّا فإن هذه الرّحمة إذا كانت من
ناحية الشفاعة فلا تشمل أحدا من أصناف الكفرة وما لهم في الآخرة من نصيب (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) القويّ في الانتقام من أعدائه ، أعداء الدّين لأنه الغالب
فيما يشاء ولا يغلب فيما أراد (الرَّحِيمُ) اللطيف بأوليائه وأهل طاعته. ولمّا كان سياق الكلام لتهديد
الكفار فلذا في مقام الفصل بين الفريقين قدّمهم في شرح أحوالهم وقال فيما يلي :
* * *
(إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا
فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))
٤٣ إلى ٤٦ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) ... الزّقوم شجرة مرّة كريهة الطّعم والرائحة يكره أهل
النار على تناولها. وإنها شجّرة تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنّه رؤوس الشياطين
على ما في الآية الشريفة وقد مرّ شرحها وهذه الشجرة (طَعامُ الْأَثِيمِ) قوت من له الإثم الكثير أي باعتبار أوراقها وأثمارها. فهو
من باب المجاز في الحذف وقد قال القمّي : نزلت
في أبي جهل. وعلى
هذا فالمورد خاصّ لكن المعنى عامّ لا يختصّ به دون غيره من العصاة العتاة. وثمرها (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من نحاس ونحوه أو هو درديّ الزّيت. وقال القمّي
: المهل الصّفر المذاب (يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) قال القمّي : وهو الذي قد حمي وبلغ المنتهى. وقيل الحميم
الماء الشديد الحرارة.
٤٧ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ) ... أي يقال للزّبانيّة خذوا الأثيم وجرّوه بعنف وشدّة
وغلظة ، والعتل هو الأخذ بمجامع الشيء والجرّ بقهر إلى (سَواءِ الْجَحِيمِ) أي إلى وسطه. وقال القمي : أي فاضغطوه من كلّ جانب ثم
انزلوا به إلى سواء الجحيم.
٤٨ و ٤٩ ـ (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ
عَذابِ الْحَمِيمِ) ... إضافة العذاب بيانيّة. أي عذاب هو الحميم يصبّ عليه من
فوق رأسه ثم يقول له الخزنة تقريعا وتهكّما (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي صاحب الكرامة بزعمك. وكان يقول أبو جهل لعنه الله لرسول
الله صلىاللهعليهوآله : ليس بين جبلي مكة أعزّ وأكرم مني فوالله ما تستطيع أنت
ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا ، وأنا اعزّ أهل الوادي. فيقول له الملك الموكّل بعذابه
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) استهزاء به وذلك لأن أبا جهل كان يقول أنا العزيز الكريم
فيعيّره بذلك في النار.
٥٠ ـ (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ... أي هذا العذاب هو ما كنتم به تشكّون وتمارون فيه. ثم
إنه سبحانه بعد شرح أحوال أهل الكفر والنفاق شرع في بيان ما أعدّ للمتّقين بقوله :
* * *
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ
(٥١) فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ
سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)
كَذلِكَ
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ
فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ
رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧))
٥١ و ٥٢ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) ... أي في موضع إقامة دائميّة يأمن صاحبه من الحوادث
والآفات والمكاره ومن الغير والفناء. والمقام بالفتح أقوى ومعناه هو موضع القيام
ومكانه وبالضمّ مقام موضع السّكون والإقامة. فالمتّقون آمنون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي في بساتين وعيون المياه العذبة الصّافية النابعة فيها
الجارية بين حدائقها وقصورها.
٥٣ ـ (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) ... أي من الدّيباج الرّقيق (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو الغليظ منه (مُتَقابِلِينَ) أي متواجهين في مجالسهم ومحافلهم ليستأنس بعضهم ببعض.
٥٤ ـ (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) ... أي هكذا كما وصفناه حال أهل الجنّة ، ونضيف عليها
أنّنا (زَوَّجْناهُمْ) أي قرنّاهم (بِحُورٍ عِينٍ) جمع حوارء بمعنى البيضاء و (عِينٍ) جمع عيناء أي بيض واسعات العيون. وقد ذكر بعض المفسّرين في
اوصافهن ما تعافه العقول وتمجّه الأسماع من أنهن من ياقوت ومرجان ، أو يرى مخّ
سوقهن إلى غير ذلك من الأوصاف السمجة التي هي في الواقع حطّ من قدرهنّ وتنقيص من
شأنهنّ. نعم لا بد أن يقال إنهن كأحسن ما يكون من النساء صفاء وجمالا وطهارة وليس
فوق هذا مطمع لطامع ولا زيادة لمستزيد. وهذا يكفي في
مقام الترغيب
والتحريض وليس معنى هذا أنهنّ كسائر نساء الدنيا بل المراد أنهن من نوعهن مع
الفارق فوق ما يتصوّر ويتعقّل من الصفاء والبهاء والرشاقة والحسن. والنعومة
والأنوثة لأن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي
الكافي عن الباقر عليهالسلام قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعث ربّ
العزّة عليّا عليهالسلام فأنزلهم منازلهم من الجنة فزوّجهم ، فعليّ والله الذي
يزوّج أهل الجنة في الجنة وما ذاك إلى أحد غيره كرامة من الله وفضلا فضّله الله
ومنّ به عليه عليهالسلام.
٥٥ ـ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ
آمِنِينَ) ... أي يطلبون ويرغبون بكلّ نوع من أنواع الفواكه التي
يشتهون في كلّ وقت ومكان ، ولا يتخصّص شيء منها بمكان ولا زمان (آمِنِينَ) من ضررها وسقمها ووجعها ، كلّها شفاء ورحمة للمؤمنين.
٥٦ ـ (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) ... أي يبقون أحياء في الجنة لأنّه لا موت فيها. فالسّالبة
منتفية لانتفاء موضوعها (إِلَّا الْمَوْتَةَ
الْأُولى) نعم ذاقوا مرارة الموت الأول ولكنّه كان في الدّنيا.
فالاستثناء منقطع (وَوَقاهُمْ) أي جنّبهم ربّهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) تفضّلا منه وكرما جزاء بما كانوا يعملون. كما أشار إليه
سبحانه بقوله :
٥٧ ـ (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) ... لأنه سبحانه خلقهم وأنعم عليهم وركّب فيهم العقل
وكلّفهم وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيته وحسن طاعته فاستحقّوا به
النّعم العظيمة. ثم جزاهم الحسنة عشر أمثالها فكان ذلك تفضّلا منه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنّه خلاص من المكاره ونجاة من الحوادث وفوز بالمطالب
والمقاصد.
* * *
(فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))
٥٨ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) ... حيث أنزلنا القرآن بلسانك وبلغة قومك ليفهموه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) اي يتّعظون بما فيه ويعملون بما أمر. وهذه فذلكة للسّورة.
٥٩ ـ (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ... أي فانتظر ما يحلّ بهم من العذاب (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك من الدّوائر ولكن عليهم دائرة السّوء. وفي
الكافي عن الباقر عليهالسلام أنه سئل : كيف أعرف أن ليلة القدر تكون في كلّ سنة؟ قال
إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدّخان في كلّ ليلة مائة مرّة ، فإذا أتت ليلة ثلاث
وعشرين فإنّك ناظر إلى تصديق الذي سألت عنه.
سورة الجاثية
مكيّة إلا الآية
١٤ فمدنيّة وآياتها ٣٧ نزلت بعد الأحقاف.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
إِنَّ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)
وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))
١ ـ (حم) ... قد مرّ قولنا فيه مكرّرا سابقا تفسيره فلا نعيده.
٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) ... أي أن إنزال القرآن كان من عند الله (الْعَزِيزِ) الغالب على جميع الكائنات (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة والتدبير في
موجوداته وتنزيل
الكتاب مبتدأ ، والظرف خبره كما فسّرناه على هذا التركيب ، وقيل بتراكيب أخر.
٣ و ٤ ـ (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ... الظاهر أنّ السّماوات والأرض أخذا بعنوان الظرفيّة (لَآياتٍ) والمراد بالآيات السّماوية هي النجوم السّيارة والكواكب
الثّابتة المرئيّة. وأمّا ما فيها من الأمور غير المرئيّة فآيتيّتها ثابتة لمن
يعلم بها من أي طريق وبأيّ سبب كان. وأمّا الارضيّة فهي عبارة عن الجبال الراسية
والأشجار الثابتة والحيوانات الماشية وغير الماشية ، والبحار الراكدة والمياه
الجارية والعيون النابعة والنّباتات القائمة على ساقها والمفروشة المبسوطة على وجه
الأرض وغيرها من الأمور الدالّة على قدرة قاهرة من مقتدر مطلق نافذ في كلّ شيء.
ويحتمل أن يكون المراد من الشريفة أنّ نفس السماوات والأرض (لَآياتٍ) أي لهما في حدّ ذاتهما آيتيّة على التوحيد لبداعة خلقهما
وغرابة صنعهما. وبعبارة أخرى : في خلق السّماوات والأرض ، فالكلام على تقدير
المضاف. ويؤيّد هذا التقدير قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ) في الآية الآتية و (لَآياتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فيهما لعلائم ودلائل تدلّ على الصّانع المقتدر
الحكيم. وتلك الآيات دلائل على الخالق وعلى توحيده (لِلْمُؤْمِنِينَ) الّذين يصدّقون بالله وبالرّسل ، وهم المنتفعون منها لأنهم
أهل النظر والتفكّر ، نظر اعتبار وتدبّر. وكذلك بالنسبة إلى خلق أنفسهم وتنقّلها
من حال إلى حال ومن هيئة إلى هيئة ، فمن عروض هذه العوارض غير الاختياريّة ينتقلون
إلى من بيده الأمر والاختيار والقدرة والتصرّف كيف يشاء وهذا وجه اختصاصهم بالذكر.
(وَ) كذلك (فِي خَلْقِكُمْ وَما
يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصّنعة وعجائب
الخلقة وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبدأ خلقكم في بطون الأمّهات إلى انقضاء
الآجال ، (وَ) في خلق (ما يَبُثُ) أي يفرّق وينشر على
وجه الأرض (مِنْ دابَّةٍ) من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها مع ما
فيها من المنافع والخواصّ والمقاصد المطلوبة منها (آياتٌ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ) أي في جميع ما ذكر دلالات واضحات لقوم يطلبون علم اليقين
بالتفكّر والتدبّر فيها.
٥ ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ... أي في ذهاب اللّيل والنّهار وتعاقبهما ، ومجيئهما
ونقصهما وزيادتهما على وتيرة واحدة. أو المراد باختلافهما في أنّ أحدهما نور
والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ
مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) لعل المراد بالرزق سببه وهو الغيث ، من باب ذكر المسبب
وإرادة السبب مبالغة للملازمة والترتّب بينهما (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها. وتفريع هذه الجملة على ما قبلها من قوله (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) يدل على ما قلناه (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) أي على اختلاف كيفياتها من تصريفها من جهة دون جهة وكونها
في وقت حارة وفي زمان باردة ، ومنها ما يثير السّحاب ومنها ما يلقّح بعض الأشجار ،
ومنها نافع للأبدان ومنها ما هو ضارّ لها بل وللنّباتات وللأثمار. والحاصل أنّ في
جميع هذه الأمور واختلاف أحوالها وكيفيّاتها (آياتٌ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) ولعلّ اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدّقة
والظّهور حيث إن الآيات الثلاث وإن كانت جميعها دقيقة إلّا أنّ الطائفة الأولى
أسهل تناولا في مرحلة أخذ النتيجة من الأخيرتين ، والطائفة الثانية أدقّ منها
نظرا. فان النظر في خلق الأنفس والتفكّر فيها وأخذ النتيجة مشكل قال مولانا أمير
المؤمنين :
أتزعم أنّك جرم
صغير
|
|
وفيك انطوى
العالم الأكبر
|
وقال عليهالسلام : من عرف نفسه فقد عرف ربّه. وكذلك التدبّر في الدوابّ على
اختلاف أنواعها وأصنافها وآثارها وخواصّها برّيّها وبحريّها وما يعيش تحت الأرض
وفوقها إلى آخر ما يتصوّر منها ويتعقّل ، والتفكّر فيها لا
يحصل لكلّ من
المؤمنين بل لقوم يطلبون مقام علم اليقين ، وأمّا الطائفة الثالثة من الآيات فهي
أدق من الأولين حيث إن النظر والتدبّر في اختلاف اللّيل والنّهار وإنزال الأمطار
المختلفة الآثار مع كيفيّاتها المختلفة مع السّحاب المختلف الكمّ والكيف ، وحملها
إيّاها وسوقها من بلد إلى بلد مع ما فيها من الرّعد والصّواعق والبروق التي تلمع
في السماء على أثر انفجار كهربائيّ في السحاب وتصريف الرّياح المسخّر بين السّماء
والأرض من مهابّها المختلفة ، وكلّ هذه الآيات أمور يتحيّر فيها فكر المتفكّرين ،
وخارجة عن صقع أفكار المفكّرين نوعا ، إلّا عن أولي البصائر والألباب الّذين أنعم
الله عليهم بالعقول الكاملة والدّرجات العالية في البصيرة ، فبنور عقولهم ينظرون
في ملكوت عجائب الصّنع وغرائب الخلقة فيرون الصّانع بعيون قلوبهم المسلّحة بمناظر
الآيات ، ويصدّقون توحيده بما شرح الله صدورهم ، إذ ما خلق الله خلقا أعظم شأنا من
العقل وأعزّ منه ، وأوّل ما خلق هو العقل ، وما بعث نبيّ إلا بعد كمال عقله ، وما
آمن مؤمن إلّا بدليل عقله ، فالإيمان لا يحصل إلّا به. والحاصل أن تخصيص الطائفة
الأخيرة بالعقلاء لأنهم أهل لتدبرها والتفكّر فيها بما بيّناه إجمالا بعونه سبحانه
حيث إنّها أدقّ من الأوليين.
٦ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) ... أي هذه الآيات المذكورة دلائل لمعرفة الله وتوحيده (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي نبيّنها لك حتى تقرأها على قومك مقرونة بالحقّ دون
الباطل (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) يعني بأيّ كلام بعد كلام الله ، وهو القرآن وآياته الدالّة
عليه وعلى توحيده ، تؤمنون : أي تصدّقون. وعلى هذا البيان تفسير الآية مبتن على
حذف مضاف والفرق بين (الحديث) وهو القرآن و «الآيات» أن الحديث قصص يستخرج منها
عبر مبيّنة للحق من الباطل و (الآيات) أدلّة فاصلة بين الصّحيح والباطل سواء كانت
من جنس الكلام أم لا كالآيات
التكوينيّة. وقيل
إن (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) يعني (بعد آيات الله) فقدّم لفظ الله للمبالغة والتّعظيم ،
كقوله (أعجبني زيد وكرمه) أي : أعجبني كرم زيد ، لكنّه خلاف الظاهر. وأمّا الحذف
في الكلام فبابه واسع بحيث يعدّ من محاسنه ، وذكر ما من شأنه أن يحذف يحسب غير
مقبول ، وربما يخرج الكلام عن الفصاحة ويحتمل أن يكون المراد أن (بعد ذاته جل
وعلا) الذي هو في غاية الظهور و (بَعْدَ اللهِ
وَآياتِهِ) الدالة على توحيده مع كثرتها من الآفاقيّة والأنفسيّة فبأي
حديث تؤمنون ، وبأيّ سناد تستندون؟ وهذا توبيخ منه تعالى لهم. وبعد ذلك يعقّبه
بالتّهديد بقوله تعالى فيما يلي :
* * *
(وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ
اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(٨)
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا
يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠)
هذا
هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))
٧ و ٨ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ... الويل كلمة وعيد يهدد بها الكفّار ، أو واد سائل فيه
من صديد جهنّم ، أو بئر في قعر جهنّم مملوء من صديدها. والأفّاك يطلق على من عظم
إثمه ، أي كذبه أو كثر. وها هنا المراد هو المعنى الأول والأثيم مبالغة في كثرة
إثمه كمسيلمة الذي ادّعى
النبوّة وقال أنا
نبيّ إفكا وافتراء. فويل لمن (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) أي الأثيم تقرأ آيات الله بمرأى ومسمع منه وهو يسمع ويرى
وبعد استماعه يصرّ أي يقيم ويثبت على كفره وعناده (مُسْتَكْبِراً) أي ذا كبرياء بحيث يزعم أنّ الإيمان خلاف شأنه ومقامه
فيأنف منه ويستدبر عن الآيات (كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْها) ولم تقرأ عليه آيات ربّه (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) أي يا محمد بشّره بعذاب مؤلم ، والبشارة في مقام الإنذار
والتخويف رمز للتهكّم والسخرية منه.
٩ ـ (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً
اتَّخَذَها هُزُواً) ... أي إذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنّه منها وقال القمّي
: إذا رأى فوضع العلم مكان الرّؤية ، اتّخذها هزوا (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة.
١٠ ـ (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) ... أي من وراء ما هم فيه من التعزّز بالمال والدّنيا
جهنّم ومعناه : قدّامهم ومن بين أيديهم كقوله (وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ) و (وراء) اسم مكان
يقع على القدّام والخلف ، فما توارى عنك فهو (وراءك) سواء كان خلفك أو أمامك (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا
شَيْئاً) أي لا يغني ما كسبوا من الأموال والأولاد والشّؤون ونحوها
شيئا من رفع العذاب أو تخفيفه (وَلا مَا اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي لا يغنيهم ما اتّخذوا أولياء لأنفسهم من الأوثان
والأصنام ، ولا ينفعهم شيئا من عذاب الله دفعا ورفعا وتخفيفا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بحيث لا يتحمّلونه لشدّته.
١١ ـ (هذا هُدىً) ... أي القرآن الذي تلوناه عليك وأنزلناه إليك هاد من
الضلال ، وشفاء لما في الصّدور من الجهالة والشّقاوة والعناد والعداوة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ
لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) كلمة (مِنْ) تبيينيّة لما قبلها. و (الرجز) بالكسر بمعنى العذاب و (أَلِيمٌ) صفة له
أي الكفرة لهم
عذاب من قسم الرّجز وهو عذاب شديد للغاية.
* * *
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)
قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ
قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
(١٤) مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ (١٥))
١٢ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) ... بأن خلقه بكيفيّة خاصة من استواء السطح والميوعة في
مائه حتى لا يمنع من الغوص فيه ومن الخرق والالتئام ، ثم جعله أملس لتسهيل سير ما
يطوف على سطحه من الأجسام كالأخشاب وغيرها ، وبحالة هادئة في وسطه (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) تسير السّفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره سبحانه لذلك وأنتم راكبوها ومحمّلوها أثقالكم
وهي تجري بكم في لججه مع غاية الاطمئنان وكمال السكينة ، ومن دون حركة عنيفة تغرق
أو تهلك الجسم الطائف على سطحه. وهذه الشريفة من أدلة التوحيد إذ تبرهن على وجود
الصّانع الحكيم المدبّر وتنبّه إلى أعظم نعمه حتى يشكر عليها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا التّجارة والغوص والصّيد والرّزق (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون هذه النّعم الجزيلة الصادرة من ناحية المنعم
الحقيقي بفضله عليكم.
١٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) ... أي خلقها لانتفاعكم ممّا في السّماء كالشّمس والقمر
والنّجوم والأمطار والثّلوج والأرياح وغيرها من الأمور العلويّة ، وممّا في الأرض
من الدّواب والأشجار والنّباتات والأثمار والأنهار وغيرها من الأشياء السّفليّة أي
العالم السّفليّ (جَمِيعاً) طرّا وكلّا مسخّرات لكم أيّها الناس بأمر ربّكم ، أي بأمره
التكويني ، فتكون هذه المسخّرات منه عزوجل لا من غيره لأنّها مخلوقة له وهي تحت قدرته فلا يقدر أحد
من المخلوقين أن يتصرف فيها بالتسخير وغيره لأنهم عجزة عن مثلها. فهذه الآية من
دلائل التوحيد أيضا. وقرئ (مِنْهُ) منصوبة فكأنّه قال (منّ عليكم منّة) وقرئ (مِنْهُ) بالرّفع والفتح والشّدّة في الوسطانيّ من الحروف خبر مبتدإ
محذوف أي (ذلك منه) أو (هو منه) (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) أي علامات للمتفكّرين في صنائعه ممّا ذكر. ويستدلون بها
على الصّانع القادر الحكيم المتفرّد في الذات والصّفات. نقل أنّه في بداية الإسلام
أخذ بعض المؤمنين في وعظ الكفرة ونصحهم وهدايتهم إلى الإسلام ، ولمّا لم يتنبّهوا شرعوا
يحاجّونهم بالبراهين العقليّة والنقليّة ، ولكنّهم من فرط الجهالة والعناد ما
التفتوا إلى احتجاجاتهم واستدلالاتهم فما اكتفوا بذلك فسلكوا مع المؤمنين سلوك
السبّ والإيذاء ، فتجهّز المؤمنون لينتقموا منهم فنزلت الآية :
١٤ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) ... يا محمّد قل لهم اغفروا يغفروا أي يصفحوا ويعفوا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) اي لا يترقّبون ولا يخافون أيّام عذابه ونكاله ، يعني
للمجرمين انتقاما منهم للمؤمنين. والعرب يعبّرون عن أيّام الوقائع المهلكة وأيام
الحروب بأيّام فلان وفلانة إذا كانت لهما وقائع مهمّة كما أن يوم بعاث ويوم عماس
معروفان بينهم ، ويوم ذي قار ويوم حليم ويوم عماس بالفتح بمعنى المظلم والمظنون أن
المراد بيوم
عماس هو يوم حرب
كان في الجاهلية وكان وجه التسمية بيوم عماس لانتشار الغبار الكثير في الجوّ من
حركة الخيول فصار الجوّ مظلما فمن باب الكناية عن شدّة الحرب يعبّرون عنه بيوم
عماس أمّا بعاث فيوم حرب في الجاهلية بين الأوس والخزرج كان الظفر للأوس واستمرّت
مائة وعشرين سنة إلى أن جاء الإسلام وألّف بينهم. وهو اسم حصن للأوس أيضا. والحاصل
أنّ المراد بأيّام الله هي أيام وقائع الله التي تقع فيها الآيات والأمور المهمّة
من عنده سبحانه وتعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزي الله الصابر بصبره وتحمّله المشاقّ ، والكافر
بعناده وجحوده وإساءته.
١٥ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) ... أي من أتى بفعل طاعة لخالقه أو إحسان لإخوانه المؤمنين
فثوابه يرجع إلى نفسه (وَمَنْ أَساءَ
فَعَلَيْها) ومن أتى بعمل قبيح أو ظلم لإخوانه المؤمنين فعقابه عليه لا
على غيره (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ) فيجازيكم كلّا بعمله إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. وهو مرجع
العباد يوم المعاد.
* * *
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ
عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))
١٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... ثم إنه سبحانه لمّا ذكر نعمه ومواهبه على الخلائق طرّا
، وذكر كفر الطّغاة في مقابلها وبإزائها ، تقابل الضدّ فعقّب بقصّة بني إسرائيل
لأنهم من هذه الجهة شبيهون بكفّار قريش. فإنه تعالى كم من نعماء أنعم بها عليهم
وهم بدل شكرها كان يزيد كفرانهم وطغيانهم ومخالفتهم لنبيّ الله موسى عليهالسلام فقال سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل (الْكِتابَ) فهو يعدّ سبحانه نعمه على أولاد يعقوب عليهالسلام ويذكر منها التوراة وهو كتاب موسى عليهالسلام. وقيل نزلت عليه في ستّ مضين من شهر رمضان والإنجيل في
اثنتي عشرة منه والزّبور في ثماني عشرة منه ، والقرآن في ليلة القدر منه. وموسى
معروف بلقيط آل فرعون من البحر قيل سمّي به لأنه التقط من بين الماء والشجر.
والماء بلغة القبط (مو) والشجر (سا) فركّبا وجعلا اسما لموسى عليهالسلام. وموسى مات في التّيه وعمره مائتان وأربعون سنة على قول ،
وقيل مائة وعشرون سنة.
وفتح المدينة
الموعودة بالفتح لبني إسرائيل يوشع بعده وكان ابن أخته ووصيّه والنّبيّ في قومه من
بعده وفيها (الْحُكْمَ) من المحتمل أن يكون المراد هو العلم بفصل الخصومات ، أو
المعرفة بأحكام الله والظاهر أنه مصدر حكم يحكم حكما وحكومة بمعنى القضاء بين
الناس والحكومة لهم. وهو منصب من المناصب الرفيعة لا يتصدّى له إلّا نبيّ أو وصيّ
نبيّ أو من نصب من قبلهما بعنوان خاصّ أو بنيابة عامّة مع شرائطها التي ذكرها أهل
بيت الوحي
والرّسالة صلوات
الله عليهم أجمعين وهي مذكورة في محالّها من كتب الأحاديث والآثار. ويحتمل أن يكون
المراد من الحكم هو الحكمة النّظريّة والعمليّة فيشمل فصل الخصومات وسائر الأمور
الدينيّة ، ولعلّ هذا الحمل أنسب بالمقام وأحسن بالكلام. ومنها (النُّبُوَّةَ) فإن هذه النعمة السامية قد كثرت فيهم ولم تكثر في غيرهم من
أرباب الملل والنّحل والطّوائف والأحزاب. ومنها ما بيّنه بقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ المباحة وذلك لأنه تعالى أهلك فرعون وقومه
فأورثهم أرضهم أي أرض مصر ونواحيها التي كانت تحت سيطرته وسلطانه مع سعتها نسبة ،
وديارهم وأموالهم الكثيرة من الخزائن والكنوز والمتاحف والبساتين التي تجري تحتها
الأنهار كما وصفها لقومه في مقام ترفّعه على موسى على ما ذكر سابقا ، ثم أنزل
عليهم المنّ والسّلوى. والحاصل أنه سبحانه أعطى بني إسرائيل نصيبا وافرا وحظّا
جزيلا من الدنيا بحيث ما أعطاها أمة أحد من النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين.
ومنها وهو أعظم من كثير من النّعم المعدودة وهو ما قاله الله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال بعض المفسّرين أراد بالعالمين عالمي زمانهم ، لكن
الظاهر لا داعي لهذا التخصيص لأن بني إسرائيل فضّلوا على العالمين بمعناه العام من
جهات : الأولى من جهة كثرة الرّسل منهم دون سائر الأمم ، والثانية قضيّة نزول
المنّ والسّلوى الذي يشبهه نزول المائدة من السّماء في الأزمنة المتمادية
والثّالثة ظهور اثني عشر عينا من الماء العذب من صخرة واحدة لم يوجد مثله في
العذوبة في مياه الدّنيا ولا سيما في ذلك العصر. فهذه وغيرها أمور اختصّت بهم ولم
تكن لواحدة من الأمم من الأولين والآخرين حتى لأمّة خاتم النبيّين. فيصحّ أن يقال
إنه تعالى فضّلهم على العالمين جميعا بهذه الخصائص. فلا كلام في فضيلتهم على الكلّ
وإنما الكلام في أنهم بأيّ موجب صاروا مستأهلين لهذه النّعم وبأيّ سبب استوجبوا
لمقام الرسالة الشامخ وأن يكونوا آباء الرّسل والأنبياء العظام مع أن المشهور بين
أهل الحق والحقيقة أن الرسل
لا بد وأن يكونوا
معصومين من بدء تكليفهم والحال أنّ سوابقهم تقتضي خلاف ذلك حيث إنه لو لم تكن جهة
مانعة لهم من هذه الأمور المذكورة التي صارت سببا لتفضيلهم من هذه الحيثيّة على
العالمين إلّا قضيّة أولاد يعقوب معه (ع) ومع أخيهم يوسف عليهالسلام لكفت في المنع لأنهم ما قصّروا في الخيانة والجناية والكذب
والتهمة والأذيّة لأبيهم ولأخيهم ومع هذا فإن هؤلاء صار بعضهم نبيّا أو أبا
للأنبياء ، فان بني إسرائيل منشأهم ومصدرهم أولاد يعقوب الذين كانوا أولاده عليهالسلام بلا واسطة وقد اختارهم الله واجتباهم وفضّلهم على جميع
الأمم. هذا ولكنّ الحقّ في المقام هو أن نجتاز هذا الكلام ونقول : نحن لسنا
بعالمين بأفعال الله بالنسبة للمصالح والحكم ، ونعترف بأن الله أعلم حيث يجعل
رسالته.
١٧ ـ (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) ... أي قرّرنا لهم دلائل وعلائم من أمر النبيّ الخاتم
ونعوته في التوراة والإنجيل وعن ابن عباس يعني بيّن لهم من أمر النبي أنه يهاجر من
تهامة إلى يثرب ويكون أنصاره أهل يثرب ... وكلّ هذه العلائم موجودة في التوراة
والإنجيل ، والمشركون يقرءونها وينكرونها عنادا. أو المراد بيّنات من أمر دين الحق
وهو الإسلام أو أمر التوحيد ويندرج فيها المعجزات (فَمَا اخْتَلَفُوا) في هذا الأمر (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) والحاصل أن بني إسرائيل بعد إتيان البيّنات والبراهين
السّاطعات في كتبهم عن مجيء النبيّ الخاتم (ص) كانوا متّفقين بأن يقبلوا نبوّته
وكتابه ويصدّقوه فيما جاء به ، فما اختلفوا في هذا الأمر ، ولكنّهم بعد العلم
بحقيقة الحال وأنّه مخالف لهم في دينهم ، ودينه ناسخ للأديان طرّا ورأوا أن
الرئاسة قد تؤخذ منهم فاختلفوا (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي عداوة وحسدا للنبيّ صلىاللهعليهوآله. وهذا من أعجب العجب لأنّ حصول العلم موجب لارتفاع النّزاع
والاختلاف ، وهاهنا صار سببا لحصول الخلاف ولكنّ جهته معلومة وذلك لأنهم لم يكن
مقصودهم من العلم الهداية وإنما
المقصود منه
التقدّم في الرّئاسة. ولأجل هذا المقصود بغوا وعاندوا وأظهروا النفاق ، فقال
سبحانه وتعالى (إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اي في خلافاتهم فيجازيهم ويؤاخذهم عليها بما يستحقون بها.
١٨ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) ... أي على منهج وعلى طريقة مستقيمة إلى دين الإسلام أو
التوحيد و (مِنَ) بيانيّة. والمراد (بالأمر) يحتمل أن يكون ما ذكرناه من
الإسلام والتوحيد ويحتمل أن يكون (الألف واللام) في (الْأَمْرِ) للعهد الذكري ، أي للإشارة إلى الأمر في الآية السّابقة
على هذه الآية. وقد قلنا آنفا إن المراد به هو أمر النبيّ الخاتم (ص) من بدء
ولادته ونبوّته وبعثته وهجرته إلى يثرب ونصرة أهلها له ، وكلّها مذكورة في التوراة
والإنجيل وكان اليهود والنّصارى معتقدين به صلوات الله عليه وآله ، لكنّهم بعد
ظهور بعثته وهجرته ونصرة أهل المدينة له (ص) عرفوه بعينه وعيانه وعلموا به ،
فاختلفوا فيه. والحاصل أنّنا جعلناك نبيّا وبعثناك إلى العالمين بشريعة سمحة سهلة.
ولكن الاحتمالين الأوّلين أقرب إلى الذّهن وإلى الواقع وأظهر في النظر والله أعلم
بما أراد (فَاتَّبِعْها وَلا
تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي اجعل قدوتك وطريقتك ما شرعناه لك من دين الإسلام واعمل
به لأنه أقوى الأديان وأتقنها من حيث قوانينها أصولا وفروعا ولذا ادّخرناه لك
وجعلناه دينا أبديّا لمرور الدّهور وإلى يوم ينفخ في الصّور ، وجعلناك خاتم
النبيّين لعدم احتياج البشر إلى دين حتى نبعث نبيّا آخر إليهم ولا تذهب مذهب من
اتّبع هواه وجعل إلهه ما لا يسمنه ولا يغنيه من شيء كعبدة الأصنام ، ولا تتّبع
آراء الجهلة وهم رؤساء قريش فإنّهم لا يزالون تابعين لشهواتهم الفاسدة ولاهوائهم
الباطلة. أو المراد بالذين نهى الله نبيّه عن متابعتهم هم اليهود حيث غيّروا
التوراة اتّباعا لهواهم وحبّا للرّئاسة واستتباعا لعوامّ الناس.
١٩ ـ (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ) ... أي لو اتّبعتهم فرضا ونزل عليك عذاب من ربّك فلن
يقدروا أن يرفعوه عنك ويدفعوا (مِنَ اللهِ شَيْئاً) ممّا أراده الله بك من العذاب جزاء لعملك ، ولا يردّون عنك
شيئا من النوازل (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) حيث إنّ السّنخيّة كالجنسيّة علة للانضمام. يعني أنّ
الكفار بأجمعهم متّفقون على معاداتك وبعضهم أنصار بعض عليك فاستقم على شريعتك
واثبت عليها (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ) أي الله يحبّك فيتولّى أمورك وينصرك ويحفظ تابعيك حيث إنّك
رأس المتّقين ورئيسهم ، وقال القمي هذا تأديب لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، والمعنيّ به هو الأمّة. قال الكلبي : ان رؤساء ، قريش
اجتمعوا وقالوا للنبيّ صلىاللهعليهوآله : إرجع إلى مكة فإن فيها أقوامك الذين كانوا أفضل وأقدم
منك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : (إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ ...).
٢٠ ـ (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ...) أي القرآن أو الإسلام أو الشريعة معالم تبصّرهم محجّة
النّجاة ووجه الفلاح أو عبر ومواعظ ونصائح موجبة للهدى من الضّلال والبصائر جمع
بصيرة وهي أن يبصر بالقلب. ولمّا كان القرآن وسيلة لإبصار الهدى والرشاد وكان
القلب محلّا للإبصار الحقيقي سمّاه تعالى بصائر كما سمّاه روحا. (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي دلالة واضحة ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين بوعد الله ووعيده وثوابه وعقابه ، لأنهم
المنتفعون به والمستفيدون منه.
* * *
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))
٢١ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ) ... (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) والاستفهام إنكاريّ والهمزة تدلّ على
دوام الإنكار. و (الاجتراح) هو الاكتساب ومنه الجارحة بمعنى اليد ، لأن الاكتساب
يصدر ويحصل منها غالبا. قال سبحانه (وَيَعْلَمُ ما
جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) والحاصل بل الذين اكتسبوا أعمالا سيّئة من الشّرك والمعاصي
الأخر زعموا (أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) بدل عن (كَالَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ هذا متضمّن لمعنى المماثلة. أي زعموا أن موتهم
وحياتهم كحياة المؤمنين وموتهم. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما حكموا على الله حيث إنّه بمقتضى عدله لا يسوّي
بينهم بل ينصر المؤمنين في حياتهم ويخذل الكفار فيها ، وكذلك بعد الموت فإنّ
المؤمنين يساقون إلى الجنّة ، والكفرة إلى النار. وقيل إن المراد أن الكفار يحسبون
أن حياتهم ومماتهم على السّواء فكما أنهم في حياتهم كانوا متلذّذين كذلك في العقبى
بعد مماتهم ، فحياتهم ومماتهم بزعمهم سواء مثل المؤمنين حيث إن حياتهم ومماتهم
متساويان وهذا الزّعم أيضا بالنسبة إلى الكفار والمؤمنين ليس صحيحا فإن الدنيا حال
حياة الكفرة جنّة لهم وللمؤمن سجن ، وفي الآخرة فإن المؤمنين مخلدون في الجنة
والكفرة مخلّدون في النار.
٢٢ ـ (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِ) ... أي هما مخلوقان عظيمان له سبحانه يدلّان على قدرة
كاملة لا يتصوّر فوقها قدرة أعظم منها أو مثلها و (بِالْحَقِ) أي لا باطلا وعاطلا بل خلقهما لمصالح وحكم منها ما بيّن
بقوله سبحانه : (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي خلقهما وخلق ما فيهما لجعلهما مورد اختبار وامتحان
لتجزى كل نفس بما كسبت. فلو لا خلق السّماوات والأرض لم يكن هناك مخلوق ، فينتفي
موضوع الاختبار وموضوع الجزاء. وقوله (وَلِتُجْزى) عطف على (بِالْحَقِ) لكونه في مورد التعليل ولذا عطف عليه. وقيل عطف على مقدّر
، أي خلقهما للدلالة على وجوده وقدرته ولتجزى ... (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي في الجزاء بنقص ثواب وتضعيف عقاب على ما يستحقّه. وقيل
معنى قوله (بِالْحَقِ) أي بالعدل ، فمقتضاه أن لا يساوى الكافر بالمؤمن ، ونقل عن
سعيد بن جبير أن قريش كانوا يعبدون العزّى وهي حجر أبيض ، وكانت عادتهم إذا وجدوا
شيئا آخر يصير طبعهم أرغب إليه ، فيعرضون عن الأوّل ويتركونه ويعبدون الثاني.
فالله سبحانه يقول لنبيّه صلواته عليه وعلى آله تعجّبا :
٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) ... أي أخبرني ، أو : أو ما ترى من اتّخذ إلهه هواه؟
والقميّ قال : نزلت في قريش كلّما هووا إلى شيء عبدوه. قال : وجرت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله في أصحابه الذين أغضبوا أمير المؤمنين عليهالسلام واتّخذوا إماما بأهوائهم. والحاصل أن من اتّخذ إلها طبق
هوى نفسه فإلهه هو نفسه لأنّه مطيع لها ومنقاد لأوامرها ونواهيها فليس له إله إلّا
هي ، فهو مشتبه في كونه يعبد صنما أو وثنا أو إنسانا أو ملكا وأمثال ذلك بل هو
عابد لنفسه في جميع تلك المراتب وهذه مصاديق عبادته لنفسه لأنها بأمرها تتحقّق.
فكلّ ما تأمره به نفسه فهو خاضع لها. وظاهر الشريفة يحكم بذلك لأنّ هوى
الإنسان هو عبارة
عن ميل نفسه ، ولذا قيل : كان أحدهم (من قريش) يستحسن حجرا فتميل نفسه إليه فيعبده
، فإذا رأى أحسن وأجمل منه رفضه وعبد الثاني ، وهكذا (وَأَضَلَّهُ اللهُ
عَلى عِلْمٍ) أي خذله بأن يتركه وشهواته ويخلّي بينه وبينها لأنه سبحانه
يعلم بخبث جوهر ذاته بحيث لو بقي في الدّنيا مخلّدا لما آمن به تعالى ولما صدّق
رسوله ، وهذا من علل تخليده في النّار ، فالشقيّ شقيّ في بطن أمّه (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) أي طبع الله عليهما بحيث لا يؤثّر فيهما وعظ ولا نصح أصمّه
الله عن سماع الوعظ وجعل قلبه لا يقبل الحق لما علم سبحانه من إصراره على الكفر
لأنّه لا يؤمن أبدا. وعن عليّ صلوات الله عليه وعلى أولاده الطّاهرين :
سبق في علمه أنهم
لا يؤمنون فختم على قلوبهم وسمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم. ألا تسمع إلى
قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ)؟ (وَجَعَلَ عَلى
بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وضع على بصره غطاء حتى لا يرى آياته تعالى ودلائل
توحيده وقدرته فكأنّه أعمى (لَهُمْ أَعْيُنٌ لا
يُبْصِرُونَ بِها) كما أن (لَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها) فجحدهم وعنادهم للحقّ والحقيقة مانع عن استماع المواعظ وعن
النظر في آياته سبحانه والتفكّر فيها ، فهم في حكم الأعمى بعدم النظر ، وفي حكم
الأصم بعدم الاستماع ، إلّا أن الأعمى والأصم غير مقصّرين وهم مقصّرون (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي بعد أن خلّاه وضلاله ، أو من بعد هداية الله له بآياته
الباهرة وعدم اهتدائه بها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتّعظون بهذه المواعظ ولا تتنّبهون بهذه المنبّهات؟
يعني تذكّروا وتنبّهوا فإن الرحيل قريب ثم إنّه سبحانه أخبر عن حال منكري البعث
فقال :
* * *
(وَقالُوا ما هِيَ
إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما
يُهْلِكُنا
إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا
بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))
٢٤ ـ (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا ...) أي التي نحن فيها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نموت نحن ويحيا آخرون فعادة الطبيعة جرت على هذا أو
عادة الله جارية على ذلك على قول من ليس بطبيعيّ ولكنّه منكر للبعث والحشر. وهذا
اشدّ أنواع الكفر بعد إنكار الصانع وقد وجد في هذا العصر من يدين بهذا الدّين
ويدعو لهذا المذهب فلهم الويل يوم يقال لهم : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم
هذا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين. والحاصل أن الآية نزلت في الدهريّة لا في
المنكرين للبعث فقط بقرينة بيانه سبحانه لمقالتهم (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرور الزّمان فضمّوا إلى إنكار المعاد إنكار المبدأ. أو
بعبارة أخرى : المقصود من قولهم (وَقالُوا ما هِيَ) ، إلى قولهم : (إِلَّا الدَّهْرُ) أنّ تولّد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة
لامتزاجات الطبائع ، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاصّ وتولّدت الحرارة حصلت
الحياة ، وإذا حصلت على وجه آخر ضدّ ذلك الوجه حصل الممات ، فالحياة والموت ليسا
إلّا بتأثيرات الطبائع ، وهذا هو المراد بقولهم : (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) فقال سبحانه في مقام ردّ مقالتهم : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا علم لهم بمقالتهم حيث لا دليل لهم ولا برهان وإن هم
إلّا يخرصون وهذا قول بلا برهان فقال سبحانه (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فإنّ حجتهم لا يحصل منها على ما بينّا إلّا الظن ، والظنّ
لا يغني من الحق شيئا. وقال القمّي : فهذا ظنّ
شكّ ونزلت هذه
الآية في الدهرية وجرت في الذين فعلوا ما فعلوا بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله بأمير المؤمنين وبأهل بيته عليهم صلوات الله وسلامه ، وكان
إيمانهم إقرارا بلا تصديق خوفا من السّيف ورغبة في المال والدنيا.
٢٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت آياتنا المتّصفة بالوضوح عليهم المخالفة
لمعتقداتهم (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) أي لم تكن لهم حجة تقابل حججنا ويثبت بها مدّعاهم ، فمن
باب ضيق الخناق أتوا بكلام غير مربوط بإثبات دعواهم على ما أخبر عن مقالتهم هو
سبحانه بقوله (إِلَّا أَنْ قالُوا
ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهذا القول إقرار واعتراف منهم بعجزهم عن إثبات دعواهم
بحجة وبرهان. فلما عجزوا أرادوا أن يعجّزوا النبيّ (ص) وتابعيه فقالوا : لو كنتم
صادقين فيما تدّعونه فادعوا ربّكم واسألوه أن يحيي آباءنا حتى يصدّقوكم في دعواكم
فنؤمن لكم ونصدّقكم فيما أتيتنا به. وهذا سمّي حجة على زعمهم ، ولكنّه على فرض عدم
إحياء النبيّ صلىاللهعليهوآله لآبائهم حالا ، فلا تثبت بذلك صحة دعواهم لأنّ عدم كون شيء
في الحال لا يدل على عدم تحققه في المآل لأنه لا ملازمة بينهما. هذا أوّلا ،
وثانيا لا يدل على بطلان قول النبيّ (ص) ودعواه الرّسالة ، فإن عدم حصول شيء حالا
لا يستلزم امتناعه مطلقا. هذا مضافا إلى ما خاطب به الله نبيّه في مقام ردّه لهم وجوابه
لمقالتهم.
٢٦ ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ ...) ثم إن الكفار كانوا يقبلون الحياة الأولى أي بعد الولادة ،
والممات الأول أي الذي بعد تلك الحياة الأولى لأنهما مشهودان لكلّ أحد بحيث
يعدّونهما من الواضحات التي يحسب منكرهما من المجانين ولكنّهم ينكرون الإعادة
فالله تعالى يردّ مقالتهم
السخيفة ويثبت
عليهم البعث والنشر ، بيان ذلك أنه تعالى بعد قبولهم لقدرته على الإحياء والإماتة
، ولو في المرة الأولى ، يريد أن يقول لهم : فكما أنكم تقبلون مرّة فيلزمكم
الاعتراف والتّصديق بأنه قادر على الإعادة لأن من كان قادرا على هذه الحياة
والإماتة فهو قادر على الإعادة بالأولى وإنّ الإعادة أهون عليه من الإبداء حيث إنّ
الإبداء هو الإحياء والإيجاد من العدم المحض ومحض العدم ، بخلاف الإعادة فإنّها
إيجاد المادّة الموجودة في الأرض ... فهو يجمعكم (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي يجمعكم أحياء ويسوقكم الى يوم الحشر الذي لا شك في
تحققه ووقوعه فإنه ثابت بالحجة والبرهان ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لقلّة تفكّرهم وقصور نظرهم في ما يحسّونه ويشعرون. ثم إنه
تعالى على سبيل تعميم القدرة بعد تخصيصها يقول :
* * *
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٩))
٢٧ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ ...) أي هو الذي يملك السّماوات (وَالْأَرْضِ) وذكر السّماوات والأرض كناية عن بيان سلطانه على جميع
المكوّنات العلويّة والسفليّة. فمن كان بهذا الاقتدار والسلطان فهو قادر على أمور
فوق ما يتصوّر ، فكيف على الإعادة التي هي أسهل شيء عنده مع
تلك العظمة
والاقتدار (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العامل للنّصب في (يَوْمَ) فعل (يَخْسَرُ) المبطلون و (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَ) تقوم إلخ ... ولا يخفى أنّ الحياة والعقل والصّحة رأس مال
الإنسان في تحصيل السعادة الدنيويّة والأخروية ، كما أن رأس مال التاجر سبب لتحصيل
الرّبح ومزيد أمواله. والمبطلون أسرفوا فرأس مالهم في الكفر والشقاوة فما حصّلوا
إلّا الخذلان والضلالة وذلك غاية الخسران والغواية.
٢٨ ـ (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ...) أي يا محمّد ترى يوم القيامة أمّة كلّ نبيّ يحشرون مجتمعين
، أو جالسين على ركبهم أو على أطراف أصابعهم كهيئة التابع للإمام في تشهّده في
صلاة الجماعة. وهذه الكيفيّة من القعود تكون من هيبة ذلك اليوم والخوف العارض
للنّاس ، لأنهم ينتظرون إحضارهم للمحاسبة ، اللهم أعذنا من شرّ ذلك اليوم (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحيفة أعمالها فيقول الآتي بكتاب العمل : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي هذا اليوم يوم أجر الأعمال الماضية التي فعلتموها في
الدنيا ، وهذا اليوم هو اليوم الذي كنتم تصرّون على إنكاره أيّها المنكرون. وهذه
من الجمل المطويّة في الآية الشريفة.
٢٩ ـ (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ ...) أضاف سبحانه كتب أعمال العباد إلى نفسه لأنّها مدونة
بأمره. يعني هذا الكتاب كتبه الحفظة بأمرنا وهو يتكلّم ويشهد عليكم بالحقّ أي
بالصّدق والصّحة بما عملتم بلا زيادة ولا نقيصة (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بأن أمرنا الملائكة بكتابة أعمالكم اليوميّة واللّيليّة.
* * *
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما
لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ
لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))
٣٠ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) الإيمان هو التسليم بالجنان والعمل بالأركان من الجوارح ،
فله ركنان. ولذا يتعقّب غالبا بالعمل الصّالح إن لم يكن دائما فالمؤمنون يرضى الله
تعالى عنهم ويرضيهم (فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ومنها حصول الفوز بالجنّة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) أي الفلاح الظاهر لخلوصه عن الشوائب. ثم إنه عزوجل لمّا بيّن حال أهل الايمان إجمالا شرع في شرح حال
المعاندين الكفرة كذلك :
٣١ و ٣٢ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) أي يقال لهم : ألم يأتكم رسلي ليتلوا عليكم حججي ودلائل
توحيدي؟ وقد عاندتموهم (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عن قبولها بعد التّلاوة والبيان (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي معتادين على الذّنب والخطأ (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ)
أي بالوعيد والبعث
(وَالسَّاعَةُ) أي القيامة (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شكّ فيها. وهذه الشريفة في مقام تهديد كفرة مكة (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) في مقام الإنكار ، وإلّا فإن تفصيل الساعة قرئ عليهم
مكرّرا فكانوا يقولون : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا) يعنون بذلك فرارهم من الجواب (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) هذه الجملة بدل عن قولهم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا) أي ليس لنا يقين بيوم حساب وكتاب وبعث وحشر ، إن هي إلّا
حياتنا الدنيا ، وزائدا على ذلك لا يقين لنا به.
٣٣ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) أي تظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم وأقوالهم ويعرفون
وخامة عاقبتهم ويعاينون جزاء أفعالهم السيئة (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل وحلّ بهم جزاء تكذيبهم وسخريتهم من العذاب الشّديد.
٣٤ ـ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ...) أي نخلّيكم في العذاب ترك ما ينسى (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي هذا اليوم الموعود وتركتم التأهّب للقاء ربّكم في هذا
الملتقى ولم تبالوا به (وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي من معين يعينكم ، وناصر ينصركم في نجاتكم من النّار.
٣٥ ـ (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللهِ هُزُواً ...) أي ذلك الذي فعلنا بكم لأجل استهزائكم بأنبيائنا ورسلنا
وكتبنا المنزلة إليكم لأن تقرأ عليكم وفيها حلالكم وحرامكم وواجباتكم ومحرّماتكم
وفيها المنبّهات والتذكيرات والتبشيرات والتخويفات والقصص والحكايات (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فأنستكم الحياة الآخرة فحسبتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا تطلب منهم العتبى ، أو معناه أنهم لا يعاتبون لأن
العتاب علامة الرضا وهم فعلوا كلّ موجبات الغضب والسخط فلا خطاب ولا عتاب أي لا
يعتنى بهم بل لهم جحيم وعذاب. فلا يطلب منهم أن يرضوا ربّهم بالتّوبة إذ لا تقبل
التوبة حينئذ
فلا تنفعهم التوبة
حين معاينة العذاب لأن التكليف قد زال والتوبة والاعتذار متوقّفة عليه على ما قرّر
في محلّه ، ولذا ما قبلت توبة فرعون حينما قال (آمنت برب موسى وهارون) وتوبة قارون
حينما ابتلعته الأرض واستغاث بإله موسى ، فما أمر موسى بأن ينجّيه من الهلكة مع أن
أنبياء الله كلّهم مظاهر رحمة الله ورأفته على عباده. وقال القمّي في قوله (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : ولا يجاوبون ولا يقبلهم الله.
* * *
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦)
وَلَهُ
الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))
٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ
وَرَبِّ الْأَرْضِ ...) أي خالقهما ومالكهما ومدبّر أمورهما و (رَبِّ الْعالَمِينَ) ومالك جميع العوالم. وذكر العالمين بعد السّماوات والأرض
إمّا من باب ذكر العامّ بعد الخاصّ ، أو المراد به غير ذلك بقرينة المقابلة. ووجه
الحمد على ذلك لأنّ كلّ نعمة منه لا يوازيها نعمة فينبغي ان نحمده ونشكره حمدا
وشكرا كثيرا لا يحصيه أحد غيره تعالى.
٣٧ ـ (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي له العظمة والتجبّر في الملكوت الأعلى والأرضين السّفلى
إذ ظهرت فيهما آثار قدرته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه وفي حكمه على الأشياء كلها (الْحَكِيمُ) في تدبيره.
سورة الأحقاف
مكيّة إلّا الآيات
١٠ و ١٥ و ٣٥ وآياتها ٣٥.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١)
تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
ما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ
مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ
لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))
١ و ٢ ـ (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ...) قد قلنا في أوّل الجاثية ما ينبغي قوله فهو جار بعينه ها
هنا معنى وتركيبا فلا نعيده.
٣ ـ (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
...) أي ما خلقناهما (وَ) لا (ما
بَيْنَهُما
إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا عبثا ولا باطلا ، وإنّما خلقناهما وما بينهما وفيهما
من أنواع المخلوقات والمكوّنات بأصنافها لنتعبّد سكّانهما بالأمر والنّهي ونعرّضهم
للثواب وجزيل النّعم. والخلق عبارة عن إظهار القدرة. وآثار القدرة في السّماوات
والأرضين أظهر من غيرهما ولذا خصّهما بالذّكر لأنهما أدلّ على التوحيد ووجود
الصّانع عند المتفكّرين وأرباب المعارف. وقالت المعتزلة هذه الشّريفة تدلّ على أنّ
كلّ ما يقع في الكون من القبائح فهو ليس من خلقه كما ينسبونها إليه تعالى ، بل هو
من أفعال عباده وإلّا لزم أن يكون خالقا لكلّ باطل ، وذلك ينافي قوله (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي مدة تنتهي يوم القيامة المعلومة عنده سبحانه وأخفى علمه
عن العباد لمصالح عديدة. أو المراد (أَجَلٍ مُسَمًّى) لكلّ واحد وهو آخر مدّة بقائه المقدّر له في الدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا
مُعْرِضُونَ) أي منصرفون عمّا أنذروا به من يوم البعث والنشر والحساب
والكتاب ، ولم يصدّقوا وهم عادلون عن قبوله والتفكّر فيه.
٤ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ...) قل يا محمّد لكفرة قريش وعابدي الأصنام : أخبروني عن
الأصنام التي تعبدونها و (أَرُونِي) وهذا للتأكيد ، أي قولوا لي (ما ذا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ) أي ما الذي أبدعوه وأوجدوه من العدم وأين الذي اخترعوه من
المخترعات الأرضيّة وصنائعها (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ
فِي السَّماواتِ) أي شراكة ، فهل شاركوا في خلقها وتركيبها؟ ثم قال سبحانه
قل لهم : (ائْتُونِي بِكِتابٍ
مِنْ قَبْلِ هذا) أي أعطوني كتابا سماويّا قبل هذا القرآن يدل على صحّة ما
ادّعيتم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) أي بقايا من العلوم التي تستند إلى الأولين موجبة لليقين
بما تقولون ، كعلامة أو كمكتوب من أعلام السلف تعلمون به أن الأصنام شركاء الله ،
أو خبر من الرّسل السّابقين يقولون بهذا الأمر وأمثال ذلك ، فأتوا به إن كنتم
صادقين في دعايتكم فهل من حجة تدلّ على قولكم من
استحقاق هذه
الأصنام للعبادة من دون خالقها وخالق الكون جميعا؟ والحاصل أن الله سبحانه يقول
لنبيّه صلىاللهعليهوآله : حاججهم بهذا الحجاج ببنوده الثلاثة ، أو بواحد منها ،
وهي التي مرّت وأوّلها الدليل العقلي من جهة خلقه سبحانه لكل شيء وعدم شراكة أحد
في ذلك ، والثاني الكتاب ، والثالث العلامة المتواترة الموجبة لليقين كشيء من بقية
علمهم أو علم الأوّلين من الأنبياء وأممهم ، فهاتوه (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في دعواكم بأنها شركاء لله في إيجاد المكوّنات. وهذه إلزام
لعدم وجود ما يدلّ على استحقاق الأوثان لمقام الألوهيّة من الأدلة النقليّة بعد
إلزامهم بعدم المقتضي لألوهيّتهم من الحجج العقليّة ، فإن جميع البراهين العقلية
متفقة على التوحيد وبطلان الشّرك وفساده. وبالجملة إنه تعالى أثبت بطلان دعواهم
بتلك الحجج وعلّمها لنبيّه حتى يحتجّ عليهم ويبطل مدّعاهم.
٥ ـ (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ...) الاستفهام في مقام الإنكار أي أنه لا يكون أحد أضلّ من
المشركين وأبعد عن طريق العقل والرّشد منهم (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ
لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يعني أن المشرك لو بقي في الدنيا إلى أن تقوم القيامة وهو
يدعو في جميع تلك المدّة لمعبوده من الأصنام لما أجابته ولا تغيثه إذا استغاث بها
، ولا تقدر أن تقضي حاجة من حوائجه (وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي أن الأوثان عن دعوة دعاتهم غافلون جاهلون ، لعدم شعورهم
وإحساسهم بالدّعاة حيث إنّها جماد فلا حسّ له ولا يترقّب منه الإحساس والإدراك ،
ومثله يكون العابد له ، والفرق أن عابد الصنم فيه حياة وليس للصنم حياة ، وكلاهما
فاقدان للشعور والإدراك ولهم قلوب لا يفقهون بها كمن لا قلب له ، لأن صاحب القلب
الذي لا يفقه شيئا هو كالجماد. وإنما كنّى عن الأصنام بالواو والنّون لمّا أضاف
إليها ما يكون من العقلاء لأن المعبودين دونه تعالى كثيرون من الكواكب والأشجار
والإنسان والملائكة ، فمن باب الغلبة جيء بالواو
والنّون.
* * *
(وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ
أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))
٦ ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ
أَعْداءً ...) أي إذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا هم أعداء للأصنام
وأصبحوا أعداء لمعبوداتهم أو بالعكس إذ في ذلك اليوم يستكشف لهم أن عبادتهم للأصنام
مضافا إلى أنها لا تنفعهم كانت تضرّهم ، ولذا قال سبحانه (وَكانُوا) أي العبدة بعبادتهم للأصنام جاحدين ومنكرين في ذلك اليوم
يقولون نحن (ما عَبَدْناهُمْ) كما قال تعالى حكاية عنهم (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) هذا ولكنّ الضميرين ذو وجهين وكما احتملهما أكثر
المفسّرين.
٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ ...) أي حينما تقرأ حججنا حال كونها واضحات ظاهرات على المشركين
في مقام الإعجاز (قالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لكلام الحق وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ ،
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) حينما جاءهم هذا الكلام المعجز الذي عجزوا عن الإتيان
بمثله ، ولو بسورة صغيرة ، قالوا هذا القرآن سحر مبين أي ظاهرة سحريّته بحيث لا
ريب في ذلك.
٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) هذه الجملة في مقام التعجب والإضراب عن ذكر تسميتهم له
سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وأنكى ، ف (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ) أي إن ادّعيته فرضا على زعمكم (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ
شَيْئاً) أي فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله وعقابه الذي
يمكن أن ينزل عليّ لافترائي على الله بأن أضيف إلى القرآن شيئا ليس منه. فما فائدة
هذه النسبة وهذا الافتراء لي فكيف أعرّض نفسي لعقابه العظيم وعذابه الأليم؟ ثم قال
سبحانه : (هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو تعالى أعلم بما تقولون في القرآن من القدح في آياته
بالتّكذيب به وأنه سحر ونحو ذلك (كَفى بِهِ شَهِيداً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي يكفيني أنّه تعالى شاهد بيننا بصدق كلامي وتبليغ
الأحكام ، وشاهدا عليكم بالمعاندة والإنكار. وهو وعيد بحذاء إفاضتهم وتلفيقهم (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعد بالمغفرة والرحمة للتّائبين والمؤمنين.
٩ ـ (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
...) أي لست أوّل رسول بعت فدعا الى ما لم يدع إليه غيره من
الرّسل ، بل جاء قبلي من الرّسل كثيرون وقالوا مثلما قلت من التوحيد والبعث (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ) أي لا أعرف أموت أم أقتل؟ ولا أدري أيها المكذبون أترمون
بالحجارة من السّماء كما فعل ببعض الأمم السّابقة ، أم تخسف بكم الأرض كما فعل
بالآخرين منهم ، أم ليس يفعل بكم شيء مما فعل بالأمم السّالفة؟ هذا
بالنّسبة إلى
الدنيا ، وفي الآخرة فإنه قد علم أنه في الجنّة وهم في النّار. وقيل في تفسيرها
معان أخر ولا بعد بشمولها لها (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) وما أعلم زائدا على هذا ولا أتجاوزه (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) أي مخوّف من عذاب الله وعقابه بالآيات والبيّنات (مُبِينٌ) أي أبيّن وأظهر الإنذار بالعواقب بالشواهد والمعجزات
الصادقة.
١٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ ...) أي أخبروني إن كان القرآن نازلا من السماء (وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ) الواو حالية ويحتمل أن يكون المراد شاهدا معينا مثل موسى (ع)
وشهادة موسى هي ما في التوراة من علائم النبيّ وأوصافه المذكورة فيها فإنها كتابه عليهالسلام. أو هو عبد الله بن سلام وروي أن عبد الله بن سلام وكان من
أحبار بني إسرائيل وقد جاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال يا رسول الله : سل اليهود عنّي فإنهم يقولون هو
أعلمنا ، فإذا قالوا ذلك قلت لهم إنّ التوراة دالّة على نبوّتك ، وإنّ صفاتك فيها
واضحة. فلمّا سألهم قالوا ذلك ، فحينئذ أظهر ابن سلام إيمانه فكذّبوه. هذا ويحتمل
أن يكون المراد مطلق بني إسرائيل ممّن يعتمدون على قوله كما هو الظاهر فقد شهد
منهم واحد (عَلى مِثْلِهِ
فَآمَنَ) يعني لو كان القرآن من الكتب النازلة من عند الله ، والحال
أنكم كفرتم به ويشهد شاهد من أحبار أولاد يعقوب على مثل ما في القرآن ممّا في
التّوراة من المعاني المصدّقة لما في القرآن المطابقة له من الوعد والوعيد
والتوحيد والرسالة والبعث والحساب ، فآمن الشاهد به حينما رأى أنّ ما في القرآن
عين ما في التوراة ومن جنس الوحي ، ومطابقا للحق (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي عن الايمان به (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هذه الجملة مشعرة بجواب الشرط المحذوف بقرينتها. أي ألستم
ظالمين مع هذه الدّلائل البيّنة؟ والهمزة للاستفهام التقريري ، أي : نعم أنتم من
الظالمين ، والله لا يهديكم لفرط عنادكم وجحدكم بالله تعالى وبالرّسول
وبكتابه مع ما
فيه.
* * *
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))
١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا ...) أي قال رؤساء الضلال من الكفرة والمشركين لأهل الإيمان : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا
إِلَيْهِ) أي أن الايمان بما جاء به محمد صلىاللهعليهوآله ، لو كان خيرا لنا فما كان ليسبقنا إليه ولا ليتقدّم علينا
أراذل القبائل وسفلة العشائر كجهينة وغيرها من القبائل. وقد قالوا ذلك زورا (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لمّا لم يجدوا سبيلا لقبول القرآن ولم يستفيدوا منه
طريق الهداية من الضلالة ولم تنعم قلوبهم القاسية بأنواره ، قالوا هذا القرآن كذب
قديم. وهذه النسبة كقولهم (أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) والقديم في اللغة ما تقادم وجوده ، وفي عرف المتكلّمين هو
الموجود الذي لا أول لوجوده. ثم قال سبحانه :
١٢ ـ (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً
وَرَحْمَةً ...) أي قدوة يؤتمّ به في دين الله وشرائعه الظرف خبر مقدم و (كِتابُ مُوسى) مبتدأ مؤخر و (إِماماً وَرَحْمَةً) حال عاملهما الظرف ، أي كتاب موسى كان قبل
القرآن ، وهو
التوراة وكان كتابا مقدّسا لبني إسرائيل يقتدى به ويعمل على طبقه كما يقتدى بالإمام
في أعماله ويعمل على طبق أقواله. ولذا سمّي إماما (وَرَحْمَةً) من الله على المؤمنين به قبل القرآن (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) أي هذا القرآن كتاب يصدّق التوراة في أنّه كتاب سماويّ ،
وفي صحة ما يحتويه جميعا. (لِساناً عَرَبِيًّا
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي أن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين حتى تعرفوا ما فيه
وتتمّ الحجة على المشركين والملحدين من أهل مكّة ونواحيها ، وليخوّف الذين ظلموا
أنفسهم وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات ويبشّر الّذين أحسنوا بالحسنى. فالقرآن بشير
ونذير للمحسنين وللظّالمين ، بأحسن اللّسان.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))
١٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
...) وهم الذين وحّدوا الله تعالى (ثُمَّ اسْتَقامُوا) بيان صفة الموحّدين أي استقاموا على طاعة الله والصّبر على
أذى أعدائه. وسئل الرّضا عليهالسلام عن الاستقامة فقال : هي والله ما أنتم عليه. والشريفة تدل
على تراخي مرتبة العمل عن التوحيد وذلك لمكان (ثُمَ) الذي يدلّ على التراخي لوضعه له (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه أو مخوف آخر (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) من فوت شيء محبوب لهم. وهذا بيان صفة أخرى من أوصافهم.
١٤ ـ (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ ...) أي ملازمون لها (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) من فضائل العمل والطاعات الصّادرة عن معرفة الخالق والمنعم
الحقيقي وعن التوحيد الذاتي والصّفاتي.
* * *
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي
أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))
١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ
...) ثم إنه سبحانه لما ذمّ المستكبرين عن قبول ما جاء به محمّد
صلىاللهعليهوآله مع شهادة حبر من أحبار بني إسرائيل على صحّة دعواه للنبوّة
وعلى أن كتابه من عند الله وما يحتويه الكتاب حق ثابت لا ريب فيه ، ثم ذمّهم على
قولهم للمؤمنين لو كان فيما جاء به محمد خير لما سبقنا الفقراء إليه ، وذمّهم على
قولهم (هذا إِفْكٌ) ـ أجل ، فإنّه بعد ذلك أخذ في نعت المؤمنين بأصنافهم من
المحسنين ، ومن الموحّدين ، والذين صنعوا إلى والديهم حسنا وفاء لما وصّاهم به
الله وإطاعة لأمره تعالى ، وطلبا لمراضيه سبحانه ، فقال
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ) ، الآية أي أمرناه أن يحسن لهما بما يمكنه من مصاديق
الإحسان وهو ضدّ الإساءة. والمراد بالإنسان هذا الجنس وقرئ حسنا بالضم وسكون السين
مصدر من باب حسن يحسن أي كان جميلا ومعناه على هذا : وصّيناه أن يفعل بهما فعلا
حسنا من باب المبالغة كما يقال هذا الرجل علم. وفي المجمع عن عليّ عليهالسلام حسنا بفتحتين (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) يجوز فيه الفتح والضّم (كرها وكرها) وهما لغتان فيه مثل
الضّعف والضّعف ، وهو في موضع الحال. فالأحسن الفتح مثل قوله تعالى (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) وما كان اسما كان الضم وأحسن كقوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ) ومعناه وضعته وهي ذات كره أي مشقّة شديدة بحيث لا يتحمّلها
غير الأم في أمر ولدها. وهذا لطف من الله حيث يلقي تلك الرأفة والرّحمة في قلب
الأمّ حتّى تتحمّل المشاقّ من أوّل انعقاد النّطفة إلى حين وضعها ، ومنه إلى تمام
الحولين ، بل ما دامت حيّة ساعدها الله وجزاها خير الجزاء (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً) أي مدّة حمله وفطامه هذا المقدار. وهذا كلّه بيان لما
تكابده الأمّ في حراسة الولد وتربيته ، وهو مبالغة في التوصية بها. وفي الآية دلالة
على أنّ مدّة أقلّ الحمل ستّة أشهر لأنّه لما كان مجموع مدة الحمل والرضا (ع)
ثلاثون شهرا وقال سبحانه (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإذا أسقط الحولان وهما أربعة وعشرون شهرا من الثلاثين
يبقى زمان الحمل ستّة أشهر. قال الرازي روي أن عمر بن الخطّاب رفعت إليه امرأة
وكانت قد ولدت لستّة أشهر فأمر عمر برجمها. فقال عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام لا رجم عليها وذكر الآية. وعن عثمان أنه همّ أيضا بذلك
فقرأ عليه ابن عباس ذلك فامتنع عن الرجم. ويستفاد من الآية أن حقّ الأمّ أزيد من
الأب على الولد لأنه تعالى بعد ذكرهما معا خصّ الأمّ بالذكر فقال (حملته أمّه ،
الآية) فإنّ حمل المشاقّ لمّا كان بعهدتها فحقّها أعظم. والأخبار ناطقة بذلك مع
كثرتها. والحاصل أن ابن
آدم بعد وضعه إلى
حين فطامه المقدّر شرعا تربيته في عهدة أمّه ، وأجره الرضا (ع) على أبيه (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي استحكمت قوّته واستتمّ عقله ، وعن ابن عباس إنه ثلاث
وثلاثون سنة ، وقيل بلوغ الحلم ، وقيل وقت قيام الحجة عليه ، وقيل أربعون سنة وذلك
وقت إنزال الوحي على الأنبياء. ولذلك فسّر به فقال (وَبَلَغَ) فيكون هذا بيانا لزمان الأشدّ ، وأراد بذلك أنه يكمل بذلك
رأيه ويجتمع له عقله عند أربعين سنة. وما بعث نبيّ في أقل من أربعين سنة. وبناء
على القول الأخير يكون قوله تعالى : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً) يحتمل كونه عطف تفسير لجملة (إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ) وعلى الأقوال الأخر فائدة الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه
هو بيان أوّل القوة وغايتها. وإذا بلغ الإنسان نهاية رشده وهو مقام كمال عقله فله
الأهلية والاستعداد لأن يتوجّه إلى ربّه ويطلب منه الحاجة كما يحكي عنه : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) من الإسلام والحياة والقوّة والقدرة والإدراك والرزق
والعقل. وشكر الولد على النعمة التي أعطاها الله عزوجل لأبويه واجب ، لأنّ نعمهما تناهت إليه ، وهو قد استفاد هذا
الذي يتنعّم به بفضل الله وفضلهما ولا سيّما نعمة حياته التي كانت بواسطتهما وبينهما
مضافا إلى أن الوالدين إذا كانا موفقين بتحصيل الطاعة وترك العصيان ومتنعّمين
بنعمة الإسلام والتّوحيد ومرفّهين بالنّعم الدنيويّة التي أفاضاها عليه وأحاطاه
بها ، فلا بدّ للولد العاقل الموحّد من شكر وجودهما وشكر ما ربّياه عليه من النّعم
التي من عنده جلّ وعلا (وَأَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ) عطف على جملة (أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ) ؛ (أَنْ أَعْمَلَ
صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذرّيّتي صالحين. وقيل إن هذا دعاء لذرّيته
بإصلاحهم لبّرهم به وطاعته. وقيل معناه اجعلهم لي خلف صدق وصلاح واجعلهم لك عبيد
حق حتى يكونوا لي فخرا وتذكارا خيرا. حيث إن ذرّية الصالح تحسب من الباقيات
الصّالحات. والحاصل أنه يستفاد من المباركة أن من المستحب دعاء الوالد
لأولاده بالخير
والصلاح والتوفيق (إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ) أي رجعت إليك عن كل شيء لا ترضى بصدوره من عبادك ، بل عما
تكره وعمّا يشغلني عنك ، وندمت عليه (وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لأمرك ونهيك بلا اعتراض لي عليك. وفي هذا
الدّعاء نحو تصريح بأن القوّة النفسانيّة العقليّة تستكمل في هذا الزّمان من العمر
أي الأربعين.
١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ ...) أي أهل هذا القول الذي بيّناه في الآيات السابقة يثابون
على طاعتهم ، ونتقبّل إيجاب الثواب ل (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) وهو ما يستحقّ العبد به الثواب من الواجبات والمندوبات ،
فالأحسن في مقابل المباح فإن المباح من قبيل الحسن لكنه لا يوصف بما في قوله (يتقبل
ويتجاوز) لأن الوصفين لما فيه مزيّة الحسن لا لمطلق ما فيه الحسن. ولذا لا يترتّب
على المباح ثواب ولا جزاء آخر وقرئ بالنون وبالياء فيهما (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يعفو ويصفح عن السيّئات التي اقترفوها ، ويجعلهم (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي حال كونهم يعدّون من مع الذين يتجاوز عن سيئاتهم
ويحسبون في عداد أهل الجنّة والظرف في موضع النّصب على الحال (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله في الدنيا بلسان أنبيائه وعدا صدقا غير
مكذوب ، والوعد الذي وعدهم الله هو قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)
* * *
(وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ
مِنْ قَبْلِي وَهُما
يَسْتَغِيثانِ
اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
وَلِكُلٍّ
دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ (٢٠))
١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ
لَكُما ...) ثم إنّه سبحانه بعد وصف الإنسان المؤمن أخذ في وصف الإنسان
الكافر يبيّن أنه لمّا رغّب الوالدان المؤمنان ولدهما الكافر بالإيمان وحرّضاه
عليه وعلى قبول الحشر والبعث قال في جوابهما : (أُفٍّ لَكُما) وقد نزلت في العاق لوالديه الكافر المكذّب بالبعث والحشر
والحساب والجزاء وهذه الكلمة تصدر عن المرء عند تضجّره. واللام لبيان المؤفّف له ،
والكاف ضمير الخطاب كما في (هَيْتَ لَكَ) وبيان أنّ هذا التأفيف لكما خاصّة. والصّحيح أنّ (أُفٍّ لَكُما) مبتدأ وخبر وتقديره : هذه الكلمة التي تقال عند الأمور
المكروهة كائنة لكما. وقيل معناه بعدا لكما (أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ) أي أتقولان لي إنّي بعد مماتي أخرج من القبر وأحيا وأبعث؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) اي مضت أجيال وقرون كثيرة فلم يرجع أحد منهم ولا أعيد ،
فكيف أرجع أنا وأخرج؟ (وَهُما يَسْتَغِيثانِ
اللهَ) أي والداه يطلبان من الله تعالى إعانته ونصره ويسألانه
التوفيق له للإيمان بما جاء به الرّسل من عنده جلّ وعزّ ، ويقولان له يا بنيّ (وَيْلَكَ آمِنْ) ويلك كلمة تصدر عن الإنسان عند
تضجّره من الآخرة
وتنفّره منه ، وهي مركّبة من (ويل) و (كاف الخطاب) والويل : حلول الشّر والهلاك ،
ويدعى به لمن وقع في هلكة أو بليّة يستحقّها. وهو ينصب إذا أضيف على إضمار الفعل ،
ويرفع في حال غير الإضافة على الابتداء. وأمّا في حال الإضافة فاذا رفعته لم يكن
له خبر ، ولذا فلا يجوز عند الإضافة الّا النّصب. والحاصل أن (ويلك) دعاء على
المخاطب ، و (ويلي) دعاء على نفس المتكلّم و (ويله) على مرجع الضّمير ، والتقدير (أدعو)
أو (أطلب) أو أسأل الويل لك أو لي أو له. وقد قلنا إن معناه الشرّ والهلاك ، وجاء
بمعنى البليّة والعذاب ، ويستعمل أيضا في مقام التعجب والاستحسان من قبيل قولك (قاتله
الله) أو (لا أب لك) وفي ما نحن فيه أبويه يقولان له (ويلك آمن) تعجّبا من قوله (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) ، الآية لا أنهما دعوا عليه بالهلاك. وقولهما له (آمِنْ) يعني بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) أي بالبعث والنشور والثواب لأهل الطّاعة والعقاب للعاصين (فَيَقُولُ) في جوابهما (ما هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أباطيلهم سطّروها وليس لها حقيقة. والقمّي قال : نزلت
في عبد الرحمن بن أبي بكر.
١٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ ...) أي الذين هم عاقّون لوالديهم وعاصون لقولهم ، ومخالفون
لرأيهم ، والذين وجبت عليهم كلمة العذاب أي قوله لإبليس (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله (فِي أُمَمٍ) أي مع أمم ، أو كائنين في أمم أو محسوبين في عداد أجيال من
الكفرة قد مضت قبلهم من الجنّ والإنس كما قال تعالى (قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ويمكن أن يكون هذا الكلام ردّا على من لم يجوّز الموت على
الجنّ. ثم إنه تعالى بعد الحكم بوجوب عقوبة المنكرين للبعث والحشر يعلّل لحكم
المذكور ب (إِنَّهُمْ كانُوا
خاسِرِينَ) أي الأمم
السالفة وأتباعهم
من قريش وأمثالهم يكونون في القيامة من الضالّين أو في الدّنيا من المهلكين
لأنفسهم بالمعاصي ، أو في كليهما خاسرين بالهلكة والضّلالة.
١٩ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي لكل واحد من الجنسين المذكورين : المؤمنين البررة ،
والكافرين الفجرة ، مراتب متصاعدة في الجنّة ومنازل في النار. ودرجات أهل الجنّة
أيضا مختلفة بعضها أعلى من بعض ، كما أن دركات أهل النار مختلفة. والتعبير
بالدركات والدرجات من باب التغليب. واختلاف هذه وتلك ناشئ عن اختلاف الأعمال
ومراتبها في كل واحد من الحسن والقبح والخير والشر فإنّ كلّا يعمل على شاكلته وعلى
ما اقتضت طبيعته وذاته (وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمالَهُمْ) اي جزاءها (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) في الجزاء بالنقص والزيادة.
٢٠ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ، فقلبت مبالغة كقولهم (عرضت الناقة
على الحوض) مع أن الأمر بالعكس. ومعنى الشريفة أنهم يعذّبون بها شديدا ويقال لهم
بلسان الحال : (أَذْهَبْتُمْ
طَيِّباتِكُمْ) أي لذّاتكم قد استنفدتموها كاملة واستقصيتموها (فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي فاستوفيتموها باشتغالكم بها وصرف حياتكم فيها كأنكم
خلقتم لها وهي لكم (فَالْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي فيه الهوان والذّل والخزي (بِما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ) يعني باستكباركم عن الانقياد للحق (فِي الْأَرْضِ) أي في الدّنيا (بِغَيْرِ الْحَقِ) من دون حقّ لكم في الترفّع والإنكار (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي بخروجكم عن الجادّة المستقيمة الشرعيّة وعن طاعة ربكم. ولمّا
بيّن سبحانه أنواع الدّلائل في التوحيد والنبوّة وكان المشركون بسبب استغراقهم في
لذات الدّنيا واشتغالهم بطلبها لم يلتفتوا إلى الدّلائل ، أمر نبيّه صلىاللهعليهوآله أن يذكّر المعاندين لرسالته بالقصة التالية ليعتبروا
وليقبلوا على طلب
الآخرة بقبولهم الدّين الذي جاء به النبيّ الأكرم (ص) لأن من أراد أن يقبّح أمرا
عند قوم كان الطّريق فيه ضرب الأمثال ، ليعلموا ضرره فيتركوا ما فيه ، والقصّة هي
هذه التي تلي :
* * *
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣))
٢١ ـ (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ...) والمراد بأخي عاد هو هود عليهالسلام ، ومن انتسب إلى طائفة يقال له (أخو فلان) مثل أن يقال (أخو
همدان) أو (أخو سليم) أو (أخو قيس) ونحو هذه. وقد أنذر قومه (بِالْأَحْقافِ) التي هي واد باليمن ، أو اسم واد بين عمان وحضرموت ، وهو
ذو رمل كثير مشرف على ساحل البحر الموجود هناك والمعروف ببحر عمان. وهو جمع (حقف)
بمعنى الرمل ، وهو رمل مستطيل مرتفع دون الجبل. وكان قوم هود يسكنون في ذلك الوادي
فبعث الله هودا إليهم لينذرهم ، فأنذرهم وقال : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي مضت الرّسل قبل هود وبعده ، وما كان هود أوّل نبيّ أرسل
إليهم. فلمّا جاءهم أخذ في دعوتهم إلى الايمان فنادى فيهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) فإنه الحقيق بالعبادة لا غيره (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ
يَوْمٍ
عَظِيمٍ) إن عبدتم غيره. وهذا بيان إنذار هود للعاديّين فقال
العاديّون له :
٢٢ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ
آلِهَتِنا.) يعني : هل بعثت إلينا لتصرفنا وتجعلنا نعرض عن أربابنا
الذين نعبدهم خلفا عن سلف وتحذّرنا وتخوّفنا بذلك (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا) من العذاب على
الشّرك (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في وعيدك من نزول العذاب علينا إذا لم نؤمن بإلهك. ولا
يخفى أن استعجالهم للعذاب كان تكذيبا لهود عليهالسلام فقال هودعليهالسلام :
٢٣ ـ (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ
...) أي يأتيكم به هو تعالى في الوقت المقدّر له وليس الأمر
بيدي ولا أنا أعلم وقته ، وإنما أنا مأمور بأن (أُبَلِّغُكُمْ ما
أُرْسِلْتُ بِهِ) أي ما عليّ إلّا البلاغ إتماما للحجّة عليكم وانسدادا لباب
الاعتذار (وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث إنكم لا تعلمون أنّ شغل الرّسل هو الإبلاغ والإنذار لا
التعذيب والاقتراح على الله. ويحتمل أن تكون نسبة الجهل إليهم لاستعجالهم العذاب
لأن تأخير العذاب رحمة لأنّ فيه رجاء العفو لتوبة تائب ودعائه لرفعه ، أو لدعاء
وليّ من أوليائه تعالى أو دعاء نبيّهم رحمة بالرّضّع والعجائز والضّعفاء والمساكين
والبهائم ، بخلاف التعجيل فهو نقمة فوق نقمة العذاب. ولذا أخّر عذاب أمّة النبيّ
الأكرم الخاتم إجلالا له صلىاللهعليهوآله ، وفخرا لأمّته على سائر الأمم السالفة.
* * *
(فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ
بِهِ
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا
نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))
٢٤ ـ (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ ...) أي نظروا إلى
السّماء فرأوا شيئا مبهما يفسّره (عارِضاً) أي سحابا عرض في أفق السماء يتشكل بشكل السحاب متوجّها نحو
أوديتهم فاستبشروا وفرحوا واطمأنّوا و (قالُوا هذا عارِضٌ
مُمْطِرُنا) أي غيم يمطرنا ويرغد حياتنا. فقال هود : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب الموعود
(رِيحٌ فِيها عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي شديد مؤلم.
٢٥ ـ (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها ...) أي الرّيح لشدّتها تمرّ عليهم فيكون فيها هلاكهم وذلك أنها
كانت تقتلع الرجل القويّ من مكانه وترفعه إلى الجوّ وتضرب به الأرض بحيث تتكسر
جميع عظامه فيكون فيه زهوق روحه ، وتقلع الأشجار العظيمة والأبنية الرفيعة مع ما
فيها وتصعد بها إلى السّماء وتقلبها وترميها إلى الأرض فلا يبقى منها أثر إلّا
كومة تراب أو أخشاب فعاد
قد هلكوا جميعا
بأشدّ العذاب وأفظعه بأمر الرّب تعالى وتقدّس (فَأَصْبَحُوا لا يُرى
إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي لا يرى أحد في تلك البوادي التي كانوا يسكنونها إلّا
آثار منازلهم ، أو المنازل المهدّمة الخالية من الساكنين. والآثار بالنسبة إلى
بعضها للاعتبار وإظهار القدرة للمارّين بها ، و (كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جزيناهم نجزي من هم أمثالهم. وكلّ هذه الأخبار عن
هلاك الأمم السالفة ، وكلّ واحد منها بكيفيّة خاصّة ، تخويف وتحذير لأمته محمّد صلىاللهعليهوآله. قد روي أن عادا كانوا تحت هبوب الرّيح سبع ليال وثمانية
أيّام ثم كشفت عنهم واحتملتهم وقذفتهم في البحر.
٢٦ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ...) أي أعطيناهم من المكنة والقدرة ما لم نعطكم مثلها من القوة
في الأبدان والبسطة في الأجسام وكثرة الأموال ، والطّول في الأعمار. ولفظة (إن)
نافية جاءت مكان (ما) النّافية. وإيثارها عليها احتراز من التكرار في اللّفظ ،
ولهذا بدّل في (مهما) الألف هاء والأصل (ماما) واحتمال كون (إِنْ) شرطيّة خلاف الظاهر مضافا إلى أن فيه كلفة الحاجة إلى
تقدير جواب الشرط والأصل عدمه وعلى الفرض كان المقدر (كان بغيكم أكثر). (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً
وَأَفْئِدَةً) أي خلقنا لهم السمع ليشتغلوا به ويستعملوه في استماع
المواعظ ونصح الأنبياء والرّسل فلم يستعملوه فيما خلق له ، وأعطيناهم نعمة البصر
حتى ينظروا إلى آيات ربّهم ومظاهر قدرته فلم يستعملوه فيما خلق له. وأنعمنا عليهم
بنعمة الأفئدة ليتفكّروا في الآيات والحجج لكنّهم لم يستعملوها فيما خلقت له فلم
يستمعوا لكلام حق ولا شاهدوا آثار قدرة الله ودلائل التوحيد ، ولا تدبّروا في
المظاهر التي تدل على وجود صانعها ووحدانيته لأن له في كل شيء آية وعلامة تدل عليه
وعلى وحدانيّته. ولكنّ جحدهم وعنادهم المفرط حملهم على ذلك ، ولذا يقول سبحانه (فَما أَغْنى
عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي شيء من عذاب الله ، لأنهم لم يعتبروا ولا استفادوا ممّا
أنعم الله به عليهم من القوى والجوارح (إِذْ كانُوا
يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي ينكرونها مع كونها في غاية الظهور في الدّلالة على
التوحيد كنوع معجزات الرّسل (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل عليهم من العذاب والعقاب الأليم لاستهزائهم
بالأنبياء والرّسل وبما جاءوا به من الكتب المحتوية على التوحيد والشرائع والسّنن.
والحاصل أنّ الناس من غير المؤمنين على قسمين : طائفة لا يقبلون دعوة دعاة الله
ولكنّهم لا يستهزئون بهم ولا يؤذونهم ولا يؤذون من آمن بهم واتّبعهم ، وطائفة أخرى
مضافا إلى أنهم لا يؤمنون ، يسخرون ويهزأون بهم ويؤذونهم ويؤذون المؤمنين ، فهؤلاء
أشدّ كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله.
٢٧ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ ...) توعيد وتنبيه ، والخطاب لأهل مكّة. أي أهلكنا من هم
حواليكم (مِنَ الْقُرى) يعني أهلها كعاد وثمود وقوم لوط وسدوم وأصحاب الحجر (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي كرّرناها تارة في الاعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وأخرى
في التّذكير وطورا في وصف الأبرار ليقتدى بهم ، ومرّة في ذمّ الفجّار ليجتنب عنهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي يعودون عن كفرهم ونفاقهم.
٢٨ ـ (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي فهلّا نصرهم ، يعني منعهم من العذاب آلهتهم الذين
أخذوهم معبودين لهم غير الله تعالى (قُرْباناً) أي متقرّبا بهم إلى الله (آلِهَةً) بدل من قربانا أو مفعول ثان (بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ) أي غابوا عنهم عند حلول العذاب ونزول العقاب (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي كذبهم واتّخاذهم الأصنام آلهة (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وافتراؤهم على الله الذي كانوا يفترونه.
* * *
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))
٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ ...) أي أرجعنا إليك طائفة من الجن وحوّلناها نحوك. والنفر
جماعة دون العشرة. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليهالسلام : إنهم كانوا تسعة ، واحد من أهل نصيبين أي نينوى أو بلدة
بقربها ، وثمانية من بني عمر بن عامر ، وذكر عليهالسلام أسماءهم (يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ) يحتمل أن تكون جملة يستمعون في التقدير مجرور بلام التعليل
المقدّرة ، أي لاستماع القرآن الذي هو علّة للصّرف ، ويحتمل كونها في موضع الحال
منصوبة : أي مستمعين للقرآن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا) أي بعضهم قال لبعض (أَنْصِتُوا) أي اسكتوا لاستماعه (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبيّ صلىاللهعليهوآله من تلاوته (وَلَّوْا إِلى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رجعوا إلى قبيلتهم وعشيرتهم لإنذارهم بما استمعوا عن
رسول الله صلىاللهعليهوآله.
٣٠ ـ (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا
كِتاباً ...) يعني قالوا يا أيّها الجماعة إنّنا استمعنا عن النبيّ محمد
صلىاللهعليهوآله كتابا يدّعي أنّه بعث به إلينا
وإلى الإنس كافة ،
وذلك الكتاب الذي قرأه علينا أنزله الله عليه (مِنْ بَعْدِ مُوسى) عليهالسلام (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مصدّقا لما في التّوراة ، ولم يذكروا عيسى عليهالسلام ولا الإنجيل مع أنّ عيسى عليهالسلام وكتابه كانا أقرب إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله وإلى كتابه فكانا أنسب بالذكر ، لأنهم كانوا باقين على
اليهوديّة. وعن ابن عباس أنّ الجنّ ما سمعت أمر عيسى ، فلذلك قالوا من بعد موسى.
ويمكن أن يكون وجه قولهم أنّهم سمعوا أمر عيسى ولكنّهم لم يعتبروه كما أن كثيرا من
بني إسرائيل كانوا إلى الآن كذلك. والمراد بتصديقه أنّ ما كانت التوراة تحتويه ،
كان القرآن أيضا مشتملا عليه من وجود الصّانع تعالى وتوحيده وكثير من أحكامه
وأمثال ذلك. ومقصودهم من هذا الكلام بيان شاهد الصّدق كما أن وصفهم للقرآن بوصفين
آخرين كذلك ، أي قولهم لجماعتهم على ما يحكيه سبحانه وتعالى (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى ما هو ثابت وصحيح من العقائد الحقّة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إلى شرائعه الموصلة إلى المطلوب. ثم إنّ الجنّ لمّا
وصفوا القرآن بأوصاف موصلة إلى تصديقه ومرغّبة في قبوله ، أخذوا في هداية القوم
وإنذارهم فقالوا :
٣١ ـ (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ
وَآمِنُوا بِهِ ...) يعنون محمدا صلىاللهعليهوآله إذ دعاهم إلى خلع الأنداد والتّصديق بتوحيد الله والإيمان
به وبرسوله وبما جاء به من عنده عزوجل ، فأجيبوا داعيه تعالى (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) أي بعض ذنوبكم لأن بعض الذنوب لا تغفر بالإيمان كالمظالم
والغيبة والبهتان ونحوها من حقوق الناس ، فإن غفرانها برضاء الناس عن المذنب ، نعم
ما يكون من خالص حقّ الله فالإيمان يجبّه ويمحوه (وَيُجِرْكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) أي عذاب معدّ للكفّار. واختلف في أن الجنّ هل لهم ثواب
جزاء لأعمالهم؟ فقيل نعم ، فانّهم مكلّفون كالإنس ، فيثابون إن أطاعوا الله
ويعاقبون إن عصوه. وقيل لا ثواب لهم إلّا النّجاة من النار
لقوله ويجركم من
عذاب أليم. والحق هو القول الأوّل وأنّهم في حكم بني آدم بلا فرق بينهم من هذه
الجهة لما رواه علي بن إبراهيم من أنّهم جاؤوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله يطلبون شرائع الإسلام فأنزل الله على رسوله (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، إلى تمام السورة فآمنوا برسوله. ويدلّ هذا على أنّه صلىاللهعليهوآله كان مبعوثا إلى الجنّ كما كان مبعوثا إلى الإنس ، ولم يبعث
الله قبله رسولا إلى الإنس والجنّ.
٣٢ ـ (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ ...) المراد يمكن أن يكون خصوص خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ، ويحتمل أن يكون العموم مرادا على طريق الجملة الحقيقيّة
، أي كلّما وجد داعي الله عزوجل فيجب إجابته ، ومن لا يجب داعي الله (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله
بالهرب منه إذ لا يفوته هارب (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءُ) أى ليس له من غير الله أحبّاء يمنعونه منه (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الذين ما أجابوا داعي الله كانوا في ضلالة وغواية واضحة
لكلّ أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه. وقال القمّي : هذا كلّه حكاية كلمات
الجنّ. وذكر في سبب نزول هذه الآية مسطورا في التفاسير المبسوطة فليراجعها من
أراده وسئل العالم عليهالسلام عن مؤمني الجن أيدخلون الجنّة؟ فقال عليهالسلام : لا ، ولكن لله حظائر بين الجنّة والنار يكون فيها مؤمنو
الجنّ وفسّاق الشيعة. وهذه الرّواية تلائم بين القولين السّابقين وتجمع بينهما
فتدبر.
* * *
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا
بِالْحَقِّ
قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))
٣٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ ...) قال سبحانه منبّها على قدرته على البعث والإعادة : أو لم
يروا؟ أي : أولم يعلموا أنّه تعالى (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يتعب ولم يعجز من خلقهنّ ، فمن كان هذا شأنه أليس (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (الباء) زائدة
لتأكيد النفي ، وموضعه رفع لأنّه خبر (أَنَ بَلى إِنَّهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي نعم هو قادر على إحياء الموتى : فإن خلق السّماوات
والأرض أعجب وأعظم منه. ثم عقّبه بذكر الوعيد لمنكري البعث والعود للحساب :
٣٤ ـ (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ ...) أي تعرض النّار عليهم ويقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) هذا السؤال في مورد التهكّم والتّوبيخ ، يعني أن الذي
جزيتم به أليس بواقع وحق؟ أفتنكرونه كما أنكرتم في الدّنيا؟ (قالُوا بَلى) أي يعترفونه ويؤكدون اعترافهم بالحلف : (وَرَبِّنا) أي نقسم بربّنا أنّ الّذي جاء به الرسل كان حقّا ونحن
جحدناه عنادا. وكان التأكيد بالحلف استعطافا واسترحاما ، ظنّا منهم أنّ هذا يفيدهم
ويجبر به ما سبق منهم في الدنيا عندئذ (قالَ) بعد إقرارهم المؤكد خازن النّار : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) أي جزاء لكفركم وعنادكم للرّسل. وهذا كمال الإهانة والهزء.
ثم إنّه تعالى عقّب الكريمة بتسلية نبيّه صلىاللهعليهوآله فقال :
٣٥ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) أي اصبر يا محمد على أذى قومك وعلى تركهم إجابتك في دعوتك
فإن الصّبر من شيم الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلك ، وبالأخصّ صبر أولي العزم
منهم ، وهم على المشهور والمنقول عن الإمامين الباقر والصادق عليهما الصّلاة
والسلام : خمسة. ففي الكافي عن الصادق عليهالسلام في هذه الآية قال : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
عليه وآله وعليهمالسلام. قيل كيف صاروا أولي العزم؟ قال : لأن نوحا بعث بكتاب
وشريعة ، وكل من جاء بعد نوح (ع) أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه حتى جاء إبراهيم
بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفرا به ، فكلّ نبيّ جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعة
إبراهيم عليهالسلام ومنهاجه وبالصّحف حتى جاء موسى عليهالسلام بالتوراة وبشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصّحف ، فكلّ نبيّ
جاء بعد موسى (ع) أخذ بالتوراة وبشريعته ومنهاجه حتى جاء عيسى المسيح عليهالسلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكلّ من جاء
بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتّى جاء محمد صلىاللهعليهوآله فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه فحلال محمد حلال إلى يوم
القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فهؤلاء أولو العزم من الرسل. ويقال لهم
سادة النبيّين وهذا الاسم مرويّ عن الصّادق عليهالسلام قال : سادة النبيّين خمسة وهم أولو العزم من الرّسل ،
وعليهم دارت الرّحى : نوح (ع) وإبراهيم (ع) وموسى (ع) وعيسى (ع) ومحمّد صلوات الله
عليه وآله (وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ) أي لا تتسرّع ولا تطلب لقومك العذاب فإنه مصيبهم لا محالة.
فأستبطئ في طلب العقاب لهم لأنّك نبيّ الرّحمة ، ولكنّهم عمّا قريب يرون العذاب.
وبعد مشاهدة أهوال يوم المعاد ولعروض الخوف عليهم يحسبون كأنهم في الدنيا (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ
نَهارٍ) مع انهم ربّما عمروا في الدّنيا أزيد من مائة سنة (بَلاغٌ) أي ما ذكر أو ما قيل في تلك السورة أو في هذا القرآن من
المواعظ والنّصايح تبليغ من الله عزّ
وجلّ إلى كافّة
البشر (فَهَلْ يُهْلَكُ
إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن حدوده تعالى وطريقته المستقيمة في ثواب
الأعمال. وفي المجمع : من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه الله
تعالى بروعة في الحياة الدّنيا وآمنه من فزع يوم القيامة.
* * *
سورة محمّد صلىاللهعليهوآله
مكيّة إلّا الآية
١٣ فنزلت في طريق الهجرة ، وآياتها ٣٨ نزلت بعد الحديد.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢)
ذلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ (٣))
١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ ...) أي أن الكافرين الذين يمنعون الآخرين عن اتّباع طريق الحق
الموصلة الى الهداية لتوحيد الله سبحانه قد (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبط أعمالهم التي كانوا قد فعلوها وفي زعمهم أنّها
كانت قربة وانها تنفعهم كالعتق والصدّقة وقرى الضيف. ومعنى إحباط العمل إفساده
وإذهابه كأن
لم يكن ولن يعود
بفائدة أبدا. وقال القمّي : نزلت في أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله الذين ارتدّوا بعده (ص) وغصبوا أهل بيته حقّهم وصدّوا عن
أمير المؤمنين وعن ولاية الائمة عليهمالسلام. وأضلّ أعمالهم أي أبطل ما كان تقدّم منهم مع رسول الله صلىاللهعليهوآله من الجهاد والنّصرة. وعن الباقر عليهالسلام قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله في المسجد والناس مجتمعون بصوت عال. الذين كفروا وصدّوا عن
سبيل الله أضلّ أعمالهم. فقال ابن عباس يا أبا الحسن لم قلت ما قلت؟ قال قرأت شيئا
من القرآن قال : لقد قلته لأمر. قال : نعم ، إن الله يقول في كتابه (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فتشهد على رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه استخلف أبا بكر؟ قال : ما سمعت رسول الله أوصى إلّا
إليك. قال : فهلّا بايعتني؟ قال : اجتمع الناس على أبي بكر فكنت منهم. فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : كما اجتمع أهل العجل على العجل ، هاهنا فتنتم و (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ).
٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) ... أي آمنوا بالله وبمحمد سواء كانوا من قريش أو من
الأنصار أو من أهل الكتابين ، وعملوا الصّالحات طبق إيمانهم من الهجرة والنّصرة
وإطعام الطعام وصلة الأرحام مع خلوص النيّة وقصد القربة (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هذا تخصيص بعد التعميم تأكيدا وتعظيما لشأن القرآن وإيماء
لعدم تماميّة الإيمان بدون الإيمان به. وروى القمّي عن الصّادق عليهالسلام أنه قال بما نزّل على محمد صلىاللهعليهوآله في علي عليهالسلام، هكذا نزلت (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) جملة معترضة مؤكّدة لشأن القرآن وعظمته. أي أن القرآن هو
الحق الثابت من الله تعالى لأنه الناسخ لما قبله من الكتب والأديان ، والناسخ هو
الحقّ
(كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) هذه الجملة في موضع الرفع خبرا عن الموصول المتقدّم في صدر
الآية (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم في أمور دينهم ودنياهم. ثم إنه سبحانه يفسّر قوله
المذكور قبلا وذلك بقوله :
٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
اتَّبَعُوا الْباطِلَ) ... أي أن إضلال عمل الكفرة كان بسبب أن الكفرة أخذوا
الباطل واتّبعوا سبيل الغيّ بجهلهم (وَأَنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) أي سبيل الرّشد وسلكوا مسلك الحق فنجوا من الضّلالة
والجهالة ذلك أنهم أخذوا بالقرآن الذي نزل من ناحية الرب فهو حق لا ريب فيه (كَذلِكَ) أي على هذه
الطريقة (يَضْرِبُ اللهُ
لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبيّن لهم أحوالهم ليعتبروا بهم أي ليعتبر أهل الحق
بأهل الباطل وأهل الباطل بأهل الحق. ثم إنه سبحانه بعد هذه الآية يأمر المؤمنين
بقتال الكفرة فيقول جلّ شأنه :
* * *
(فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))
٤ إلى ٦ ـ (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقابِ) ... أي في القتال (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا الرقاب ضربا ، حذف الفعل وأضيف
المصدر الدالّ
عليه إلى المفعول ، وهذا يعدّ من محاسن الكلام لأنه موجب لتخفيف الكلام مع أداء
المرام (حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم قتلهم وبالغتم في إفنائهم بحيث ثخن وجه الأرض من
دمائهم أي غلظ (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي أحكموا وثاقهم في الأسر أي فأسروهم وأوثقوهم بالحبال
التي تشدونهم بها. والحكمة في شدّ الوثاق إمّا لعدم فرارهم وإما لتشديد الأمر
وتعذيبهم حتى يؤمنوا والله العالم (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يعني مخيّر أنت يا محمد بين المنّ عليهم وإطلاقهم ، وبين
أخذ الفداء منهم (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي هذا التخيير باق لك ما دامت الحرب قائمة ، وبعد تمام
الحرب وانتهاء مشقّاتها وأتعابها ومشاكلها واستئصال الكفرة وهلاكهم أو إسلامهم أو
مسالمتهم فهذا الحكم ينتفي بانتفاء موضوعه. نعم إذا كان بعد تمام الحرب بقي في
أيديهم الأسير وحاله كالأسير حال الحرب يجيء فيه التخيير المذكور (ذلِكَ) أي الأمر هكذا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بأهلاكهم بلا قتال (وَلكِنْ) أمركم به (لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليختبر الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيدي المؤمنين
ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن كفرهم وعنادهم فيؤمنوا بالله ورسوله فيظهر المطيع
من العاصي فيثاب الأول ويعاقب الثاني (وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جاهدوا ، وقريء قتلوا أي استشهدوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي فلن يضيّع الله ما عملوا (سَيَهْدِيهِمْ) إلى الجنّة (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي حالهم في الدارين (وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) جملة (عَرَّفَها) في موضع النصب بناء على الحالية أي في حال هو تعالى عرّف
لهم الجنّة في الدّنيا على ألسنة أوليائه وأنبيائه ورسله لهم. وقال القمّي أي
وعدها إياهم وادّخرها لهم.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠))
٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي صدّقوا النبيّ فيما جاء به (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ونبيّه بجهاد أعدائهما (يَنْصُرْكُمْ) الله بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ
أَقْدامَكُمْ) في مقام الخوف ومواقف الحرب والقيام بأمر الدّين. ولعل
المراد بتثبيت القدم هو تقوية القلب في المواطن المزبورة.
٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) ... فتعسا منصوب بناء على كونه مفعولا للفعل المقدّر أي
فتعسوا تعسا. وهو دعاء بالعثور والتردي في جهنّم (وَأَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ) أي ما أوردها في معرض القبول أصلا ولا رتّب عليها أجرا
وثوابا لأنها كانت عارية عن الخلوص وخالية عن محض القربة.
٩ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ
اللهُ) ... أي التعس والإضلال لكراهتهم ما أنزل الله على رسوله من
القرآن والأحكام ، أو ما أنزل في حقّ عليّ عليهالسلام كما عن الباقر عليهالسلام قال : نزل جبرائيل على محمد صلىاللهعليهوآله بهذه الآية هكذا (ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله في حقّ
عليّ عليهالسلام) إلّا أنه كشط الاسم والكشط هو الرفع والإزالة والكشف عن
الشيء. (فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ) تقريع الإحباط على الكراهة مشعر بأن قبول الأعمال وترتّب
الأجر عليها فرع إيمان العامل بل فرع إكمال دينه بقبول ولاية ولاة الأمر علي بن
أبي طالب وأولاده المعصومين
عليهم صلوات الله
وسلامه أجمعين ، حيث أن قوام الشهادة بالتّوحيد والرّسالة وإخلاص العبادة بالتصديق
بالولاية لعلي عليهالسلام ولأولاده وبكونهم خلفاء الرّسول صلىاللهعليهوآله وأوصياءه.
١٠ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ... المراد بالاستفهام هو الأمر التحريضيّ على السّفر
الآفاقي بالنسبة إلى هؤلاء المعاندين الجحدة الكفرة حتى يشاهدوا مساكن عاد وبلاد
ثمود ويروا كيف فعلنا بهم وجعلناهم عبرة لأولي البصيرة والاعتبار ليعتبروا
وينتبهوا من غفلتهم التي أوقعتهم في تيه الضّلالة وبوادي الغواية وظلمات الجهالة (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مع كونهم أشدّ منهم قوّة وأكثر منهم عددا وأموالا (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلكهم وأهلهم وأموالهم هلاك استئصال. وقد وضع الظّاهر
موضع الضمير إيذانا بالعلّة. وقال القمّي : أي أولم ينظروا في أخبار الأمم الماضية
أهلكهم وعذّبهم (وَلِلْكافِرِينَ
أَمْثالُها) قال يعني الذين كفروا وكرهوا ما أنزل الله في عليّ عليهالسلام لهم مثل ما كان للأمم الماضية من الهلاك والعذاب والتدمير
يعني لو لم يعتبروا ولم يتنبّهوا فلم يتوبوا حتى يموتوا فعلى هؤلاء مثل ما كان
عليهم من التدمير وهذا الذيل تهديد وتوعيد باهلاكهم لو لم يرجعوا عمّا كانوا عليه.
* * *
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ
الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))
١١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا) ... أي ناصر المؤمنين وقاهر الكافرين (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) حتى يدفع العذاب عنهم ويعينهم في رفع غائلة الهلاك
والنقمة. والمولى جاء لمعان متعدّدة. المالك ، والسيّد ، والعبد ، والمعتق بكسر
عين الفعل والفتح ، والمنعم بكسرها وفتحها ، والصّاحب ، والناصر ، والحليف ،
والجار ، والنزيل ، والشريك ، والابن ، وابن العم ، وابن الأخت ، والعم ، والصّهر
القريب مطلقا ، والوليّ ، والتابع. وجمعه موالي ، والتمييز بينهما موكول إلى
القرائن في كلّ مورد ، وكذلك الوليّ استعمل في معان كثيرة : المحبّ ، والصّديق ،
والنّصير ، والجار ، والحليف ، والتّابع ، والصّهر ، وكلّ من ولي أمر أحد ، والحافظ.
يقال (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي حافظهم. والمطيع فيقال (المؤمن ولي الله) أي مطيع له ،
ووليّ العهد أي وريثه في ملكه وسلطانه والتعيين في عهدة المقامات.
١٢ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي يأذن لهم في الدّخول ، ويوفّقهم للأعمال الصالحة
ليكونوا في (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الأشجار تجري الأنهار الصافية والمياه العذبة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) أي ينتفعون بالأمتعة الدنيويّة (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ
الْأَنْعامُ) أي ينهمكون في شهواتهم غافلين عن عواقب أمرهم حريصين على
الأكل كالبهائم في معالفها ومسارحها لا تعرف غير الأكل شيئا ، غير حاسبة لما تؤول
إليه عاقبة أمرها من النّحر والذّبح. وقد أخبرهم الله بما يرجع إليه أمرهم بقوله
سبحانه (وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) أي منزل ومقام لهم. ثم إنه جلّ شأنه بعد بيان أحوال
الفريقين يهدّد ويخوّف أهل الكفر والنفاق بقوله فيما يلي :
* * *
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))
١٣ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ
قُوَّةً) ... أي وكم من قرية. وفي الكلام مضاف محذوف اتّكاء على
القرينة المقاميّة ، فإجراء الأحكام على المضاف إليه مجاز. أي وكم من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) أي جسما وسطوة وبسطة وعدّة (مِنْ قَرْيَتِكَ
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) إسناد الإخراج إلى القرية باعتبار أنّ المضاف مقدّر ، أي
الأهل أخرجوك ، ومع تلك القوّة فنحن (أَهْلَكْناهُمْ) بأيسر ما يكون بأنواع العذاب (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي لا معين يدفع عنهم العذاب والتدمير ويساعدهم في
شدائدهم.
١٤ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ) ... أي على حجّة واضحة وبرهان ساطع. وقال القمّي : يعني
أمير المؤمنين عليهالسلام (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) يعني الذين غصبوه. وعن الباقر عليهالسلام : هم المنافقون لا المشركون.
١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ) ... المثل مبتداء وخبره محذوف لقرينة المقام كما يجيء
قريبا ، والموصول صفته. أي صفة أهل الجنّة
الموصوفة بأنّها
موعودة للمتّقين هذه. فلفظة (هذه) خبره وإشارة إلى ما سيجيء من الأوصاف المتعقّبة
لها ، ومنها قوله جلّ وعلا (فِيها أَنْهارٌ مِنْ
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغيّر الطعم والرّيح واللّون لعارض كمياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بالحموضة والقراصة لطول الزمان أو حرارة الهواء أو خلطه
بما يخرجه عن طعمه الطبيعيّ (وَأَنْهارٌ مِنْ
خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) إمّا تأنيث لذّ بمعنى اللّذيذ ، أو مصدر بمعنى الفاعل.
وذكره بهيئة المصدر إيماء إلى المعنى السامي العالي أي كون الجنّة مجسّمة اللّذة
وعين الالتذاذ. والحاصل أنّ خمور الجنّة مطربة وملذّذة ومفرّحة للشاربين ومنزّهة
عن كراهة الريح وغائلة السّكر وشناعة الخمر ورداءة الطعم ومرارته بخلاف الخمور
الدنيوية التي هي جامعة لهذه الأوصاف الرّديئة المنفّرة الكريهة. ومن الأنهار
الأربعة التي في الجنّة (وَأَنْهارٌ مِنْ
عَسَلٍ مُصَفًّى) أي من جميع الكدورات كالشمع ومدفوعات النحل وما يتصوّر
فيه. والحاصل أنه ليس فيه شيء من المنفّرات في أصل خلقته. ومن نعم الجنّة غير ما
ذكر أن (لَهُمْ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من جميع ما يتصوّر وما لا يتصّور كمّا وكيفا من أصناف
الفواكه وأقسامها خالية من جميع العيوب والآفات ومن النّعم التي هي أهمّها وأعظم
من الكلّ وفوقها بحيث لا يتصوّر فوقها نعمة من أمثال النّعم التي ذكرناها آنفا هو
ما ذكره سبحانه بقوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) أي مضافا إلى ما ذكر أنه تعالى يكرم أهل الجنّة بستر
الذّنوب وتغطيتها بحيث لا يعلم أحد ذنب أحد من المؤمنين الذين في الجنّة حتى يخجل
ويضجر من صاحبه فيؤذى فينغّص عيشه فيها. وفي بعض التفاسير نقل أنه تعالى بفضله
ومنّه ينسي أهل الجنّة جميع آثامهم وخطاياهم حتّى لا يتذكروها في الجنّة فتوجب
تكدّر عيشهم وانتقاصه. فهل هذا المتنعّم في الجنّة بأنواع نعمها خالدا فيها (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ)؟ عند بعض المفسّرين هذه الجملة خبر لقوله سبحانه (مَثَلُ الْجَنَّةِ) في أوّل الآية وليس ببعيد وإن عدّ
بعيدا. ولذا قيل
بأن الخبر مقدّر وهو (مما تلوناه عليك وقلنا انه هذه) على تقدير البعد والله تعالى
أعلم. ففي المقام استفهام إنكاري عن الاستواء بين الفريقين : أي المتنعّم في
الجنّة خالد فيها ، والمعاقب في النار خالد فيها. وبناء على هذا التقدير تعرية
الكلام عن حرف الإنكار لزيادة تصوير مكابرة من يحكم بالتسوية فيما بين من يتمسّك
بالبيّنة ومن يتّبع هواه ، وهذه التسوية عينا هي مثل من يقول باستواء الجنّة
الموصوفة بالأنهار الأربعة الجارية فيها وخلود أهلها فيها ، والنار المخلّد أهلها
فيها ويقال لأهلها (وَسُقُوا ماءً
حَمِيماً) أي ماء في غاية الحرارة وشدّتها مكان تلك الأشربة الهنيئة
لو كان في الجنّة ، سقوه (فَقَطَّعَ
أَمْعاءَهُمْ) بمجرّد الشرب من فرط الحرارة أعاذنا الله منها. تتقطّع
أمعاؤهم أي تتلاشى وتسيل نظير بعض السموم التي أثرها الطبيعيّ أنه بمحض تماسّها
ووصولها إلى المعدة تقطّعها وتصيبها بالاهتراء والتلاشي لشدة حرارتها. والقميّ قال
: ليس من هو في هذه الجنّة الموصوفة بما وصفه الباري تعالى كمن هو في هذه النار ،
كما أنّ ليس عدو الله كوليّه. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في حديث قال : وليس من مؤمن في الجنّة إلّا وله جنان كثيرة
معروشات وغير معروشات ، وأنهار من خمر وأنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من عسل
... وتقديم الخمر على غيره لعلّه لكون طباع الناس إليه أرغب من حيث إنهم ممنوعون
عنها في الدنيا والناس حريصون على ما منعوا عنه. وفي الكشّاف وغيره ذكر أنّ النبيّ
صلىاللهعليهوآله حينما كان يخطب في المسجد وغيره في الأوقات المخصوصة
كالجمعة وسائر الأوقات الأخر كان يذمّ المنافقين فكان يخرج بعضهم من المسجد ويسأل
بعض أعلام الصّحابة مستهزئا ما قال هذا الرجل؟ يعني النبيّ (ص) ولذلك فإن الله
تعالى يخبر رسوله بمقالتهم وبأحوالهم بقوله :
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))
١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ... قال القمّي : نزلت في المنافقين من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ومن كان إذا سمع شيئا لم يكن يؤمن به ولم يعه ، فإذا خرج
قال للمؤمنين ماذا قال محمد آنفا؟ وبهذا المضمون في المجمع عن أمير المؤمنين عليهالسلام في روايتين تؤيّدان ما هو المذكور في الكشاف (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي خلّاهم واختارهم فتمكّن الكفر في قلوبهم فكانوا يعملون
طبق ما تشتهيه أنفسهم كالبهائم بل هم أضلّ سبيلا. وفي القمّي عن الباقر عليهالسلام أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يدعو أصحابه فمن أراد الله به خيرا سمع وعرف ما يدعوه
إليه ومن أراد الله به شرّا طبع على قلبه فلا يسمع ولا يعقل ، وهو قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ).
١٧ ـ (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ... أي أن الله (هُدىً) المؤمنين باللّطف والتوفيق (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعطاهم جزاء التقوى ، أو وفّقهم للتقوى أو بيّن لهم ما
يتّقون : وهو ترك المنهيّ والأخذ
بالعزائم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون إلّا السّاعة يعني القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (فَقَدْ جاءَ
أَشْراطُها) أي ظهرت علاماتها وهي كثير على ما يعدّون كمبعث النبيّ
الأكرم (ص) وانشقاق القمر ، وحدوث الدّخان ، ونزول كتاب تختم به الكتب السماويّة
وهو القرآن. وفي رواية انّه صلىاللهعليهوآله أشار بأصبعيه وقال : أنا والقيامة كهاتين الإصبعين يعني في
القرب والاتّصال وإذا جاءت الساعة فلا تفيد التوبة والإنابة (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ
ذِكْراهُمْ) أي لا ينفعهم تذكّرهم وتنبّههم وندمهم حينما تجيء السّاعة
فقد انسدّت أبواب التوبة والندامة.
١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) ... تفريع على ما مضى ، أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة
الكفرة والمشركين فاعلم أنّه لا يبقى في العالم ذو حياة إلّا الله الذي هو موصوف
بالحياة الدّائمة وبالواحديّة والوحدانيّة. وهذه كناية عن قرب موته صلىاللهعليهوآله ، كما أنّ قوله سبحانه (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) إخبار به. وقيل إن أمره بالاستغفار لتكميل النفس بإصلاح
أحواله وأفعاله والتوجّه إليه تعالى دائما وهضم النفس بالاستغفار فإن الإنسان
الموحّد العارف به تعالى من كماله أن يرى نفسه مقصّرا عند ربّه في تمام أحواله حتى
لا يغترّ باهتمامه بالعبادة وكثرتها فلا بدّ له من الاستغفار. وقد صحّ الحديث
بالإسناد إلى حذيفة بن اليمان قال : كنت رجلا ذرب اللّسان على أهلي أي حادّ
اللّسان فقلت يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني في النار. فقال رسول الله (ص)
: فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة. ضو هذه الرواية
مؤيّدة للقول. وفي الآية أقوال أخر ومن أراد فليراجع المطولات من كتب التفاسير (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أمر سبحانه نبيّه الأكرم بالاستغفار لهم لأنه أبو الأمّة
الشفيق ولا بدّ للوالد الرؤوف أن يكون لولده كما يكون لنفسه ، فإذا دعا لنفسه
بالمغفرة لا يرضى بأن لا يدعو لهم ، فأمر الله تعالى رسوله
بالاستغفار لنفسه
وللأمّة إمّا من باب التذكير أو من باب التعليم وبيان الآداب ، أي بما انك أب كريم
رؤف للأمّة فاستغفر لهم بعد ما تستغفر لنفسك. وأمره سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوآله بالاستغفار لأمّته بشارة لهم بأن النبيّ صلىاللهعليهوآله قد أطاع أمر الله واستغفر لهم ، والله تعالى أجلّ وأعلى من
أن يأمر نبيّه بشيء فإذا طلب النبيّ منه الشيء المأمور به لا يعطيه. والحاصل أنّ
النبيّ (ص) قد طلب واستغفر للأمّة يقينا ، وقد أجابه الله سبحانه مسلّما بلا ريب. وروى
السكونيّ عن الصّادق عليهالسلام أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله خير الدّعاء الاستغفار. وقال عليهالسلام : قال رسول الله (ص) إنّ للقلوب صدأ كصدأ النّحاس فاجلوها
بالاستغفار. وقال صلىاللهعليهوآله : من أكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ومن كلّ
ضيق مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وعن الرّضا عليهالسلام : المستغفر من الذنب وهو يفعله كالمستهزئ بربّه. ثم إنه
سبحانه يحذّر العباد وينبّههم إلى أنه مترصّدكم ومراقبكم في جميع أحوالكم فلا
تغفلوا ولا تنسوه فيقول تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي منتشركم بالنّهار ومستقركم بالليل أو منصرفكم وأمكنة
ذهابكم وإيابكم في الدنيا لتحصيل معاشكم وما تصلح به أموركم ، ومثواكم في الآخرة
من الجنّة والنّار. أي هو عالم ومحيط بجميع أحوالكم وشؤونكم في الدّنيا والآخرة.
* * *
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))
٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا
نُزِّلَتْ سُورَةٌ) ... أي لماذا لم تنزل سورة في الجهاد مع هؤلاء المعاندين
وهؤلاء المشركين (فَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي غير متشابهة مبيّنة ظاهرة في أمر الجهاد ، وقد صرّح
فيها به مع المشركين والكفرة وقيل كلّ سورة نزلت فيها القتال فهي محكمة لم ينسخ
منها شيء لأنّ القتال ناسخ للصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) أي النفاق أو ضعف الايمان (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كمن عرضت له الغشية تراه مبهوتا متحيّرا خوفا وجبنا من
الموت في عرصة الجهاد (فَأَوْلى لَهُمْ) أولى في هذه الموارد كلمة تهديد ووعيد ومعناها قد قاربهم
الشرّ فليحذروا ، أو فويل لهم بمعنى اللعن والعذاب كما في قوله سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي لعن وعذّب فهي كلمة زجر وتخويف.
٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) ... أي إطاعة أوامر الله والقول بأنّا نجاهد في الله
بأموالنا وأنفسنا خير وأحسن قيلا لهم من إظهار الكراهية والاشمئزاز عند نزول آية
الجهاد أو قوله (طاعَةٌ) خبر للمحذوف ، أي الجهاد في سبيل الدّين وترويجه طاعة ،
وكذلك (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وتقديره : والقول بالقتال قول معروف في الشرائع السابقة
وليس أمرا بديعا مختصّا بهذه الشريعة. وهذه الجملة مستأنفة ومحذوفة الخبر ، أي خير
لهم. ولا بأس بالابتداء بالنكرة لأنّها تفيد فائدة المعرفة مضافا إلى أن التقدير (طاعة
الله) وحذف لدلالة
المقام عليه (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) أي جاء وقت العمل وتوطين النفس على الفعل (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي لو عملوا بما كانوا يطلبونه معجّلا من نزول الأمر
بالجهاد وأظهروا التشوّق للقتال (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) أن يصدقوا الله ، والصدق من الأمور التي تصدر عنهم
كالصّدقات وإنفاق الأموال في سبيل الله وغيره ، أو لكان خيرا لهم امتثال أمر الله
في باب الجهاد وكان أحسن لهم من النّفاق وإظهار الاشمئزاز من الجهاد والقتال.
٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) ... أي أترجون بأنّكم لو ملّكتم أمر النّاس وتسلّطتم على
رقابهم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) بأخذ الرّشى وأخذ أموال الناس بغير الحق وقتل النّفس
المحترمة وهتك أعراض الناس ونواميسهم (وَتُقَطِّعُوا
أَرْحامَكُمْ) بأن لا تزوروهم ولا تسألوا عن أحوالهم ولا تساعدوهم فيما
يحتاجون إليه ونحو ذلك والحاصل تريدون أن ترجعوا إلى الجاهليّة الغاشمة والحريّة
الرعناء. فإن كانت هذه عقيدتكم فأنتم ممّن قال تعالى في شأنهم :
٢٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) ... أي أبعدهم من رحمته فلا يشملهم فضله وإحسانه وجوده.
ولذا تفرّع على كونهم ملعونين قوله (فَأَصَمَّهُمْ
وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي خلّاهم وتركهم على ما هم عليه من الأخلاق الرذيلة
والعقائد السّخيفة ، وهذا غاية الخذلان ونهاية الخسران. والاستفهام تقريريّ ، يعني
إن وصلتم إلى هذه الدّرجة من الرّفعة والرقيّ والسّلطة فلا يبعد منكم أن تتصدّوا
لما ذكر من القبائح بل تفعلونها بلا ريب.
* * *
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها
(٢٤)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ
وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا
تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))
٢٤ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ... أي أفلا يتفكّرون بالقرآن حتى يقرّوا ويعترفوا بما
عليهم من تحصيل الطريقة الحقّة والدّين الحق؟ والاستفهام للتقرير ، أي : نعم لا
يتدبّرون ولا يتفكرون حتى يعتبروا بما نزل بالأمم السّابقة من التدمير والصيحة
والصاعقة ونحوها. وفي النتيجة قد خسروا خسرانا مبينا (أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها) أم حرف عطف تكون للمعادلة وتقع بعد همزة الاستفهام بمعنى (بل)
وقيل معنى أم على قلوب أقفالها أي أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى ولا يصل إليها
ذكر ؛ يعني أنهم لا يفقهون شيئا لأن الله طبع على قلوبهم فلا يصل إليهم أيّ أثر
للمواعظ والنصائح. والمراد (بأقفالها) كفرهم وعنادهم وجحودهم المانع عن قبولهم
الحق ووصول المواعظ إليهم وتأثيرها فيها. وإضافة الأقفال إلى القلوب للدّلالة على
أن المراد بالأقفال هي الأقفال المناسبة لها المختصّة بها ، لا الأقفال المعهودة
غير المتجانسة معها. وفي المحاسن عن الصّادق عليه
السّلام : إن لك
قلبا ومسامع ، وإن الله إذا أراد أن يهدي عبدا فتح مسامع قلبه ، وإذا أراد به غير
ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبدا ، وهو قول الله عزوجل (أَمْ عَلى قُلُوبٍ
أَقْفالُها).
٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِهِمْ) ... أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدَى) بالحجج الواضحة ، وظهر لهم الطّريق الحقّ والصّراط
المستقيم الموصل إلى نبوّة خاتم الرّسل صلوات الله عليه وآله وإلى صحّة دعوته
بالتّوحيد (الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي زيّن لهم اتّباع أهوائهم في آمالهم ، أو مدّ أملهم ، أو
أملى لهم يعني أنه تعالى أمهلهم وأجلّ عقوبتهم حتى يزيدوا في العصيان فيزداد لهم
الله في العقوبة.
٢٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا) ... أي التّسويل والإمهال كان منه سبحانه ، لأنّ المشركين
والمنافقين منهم الذين أظهروا الإيمان وأخفوا شركهم ، قالوا للذين كانوا باقين على
كفرهم ولم يؤمنوا وكانوا كارهين لما أنزل الله من القرآن وما فيه من الأحكام من
الأوامر والنّواهي وغيرهما ، قالوا لهم : (سَنُطِيعُكُمْ) ... وفي المجمع عنهما عليهماالسلام أنّهم بنو أميّة كرهوا ما أنزل الله في ولاية عليّ عليهالسلام فقال لهم المنافقون (سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ) كالتّظاهر على عداوة محمد صلىاللهعليهوآله والقعود عن الجهاد. أو المراد ببعض الأمر هو إنكار ولاية
أمير المؤمنين عليهالسلام وما أنزل في شأنه وفي شأن أهل البيت عليهمالسلام وهذا أظهر من الأوّل ، والعلم عنده تعالى. وفي الكافي عن
الصّادق عليهالسلام في هذه الآية قال : فلان وفلان ارتدّا عن الإيمان في ترك
ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام ، ثم قال : والله نزلت فيهما وفي أتباعهما ، إلخ (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي يظهرها للنّاس ليفضحها ويكشف سوء سرائرهم.
٢٧ ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلائِكَةُ) ... أي كيف يعملون هكذا ويحتالون ، وكيف تكون حالهم إذا
توفتهم الملائكة وكانوا (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) التي كانوا يتّقون أن تصيبها آفة في القتال فيفرّون
ويتجنّبون أذاها. ثمّ إنّه تعالى يذكر سبب الضرب على هذه الكيفيّة فيقول سبحانه :
٢٨ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما
أَسْخَطَ اللهَ) ... أي اتّبعوا ما أغضبه من المعاصي الكبار التي يكرهها
ويعاقب عليها (وَكَرِهُوا
رِضْوانَهُ) أي ما يرضيه من الإيمان وطاعة الرّسول وحبّ أهل بيته عليهمالسلام (فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ) أي أبطل ما عملوا من الخيرات لذلك.
* * *
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ
(٣٢))
٢٩ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) ... أي مرض النّفاق والعناد
فهل ظنّ المرضى به
(أَنْ لَنْ يُخْرِجَ
اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي لن يبرز الله لرسوله والمؤمنين أحقادهم؟ نعم يبرز لهم
جميع ما في صدورهم.
٣٠ ـ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) ... أي لعرّفناكهم بدلائل فتعرفهم بأعيانهم وأشخاصهم (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم وهيئتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أى تصيير القول وتبديله عن الصّواب ، وهو عبارة عن التعريض
والتورية ، أو المراد بلحن القول تأويله وإمالته إلى نحو تعريض للمؤمنين للانحراف
والشكوك وفي رواية هو كناية عن إظهار بغضهم لعلي بن أبي طالب عليهالسلام. وعن أبي سعيد الخدري كنّا نعرف المنافقين في عهد رسول
الله (أو على عهد رسول الله) ببغضهم علي بن أبي طالب. ونظير هذه الرّواية ما عن
جابر بن عبد الله الأنصاري وعن عبادة بن الصامت كنّا نبوّر أولادنا بحبّ علي بن
أبي طالب عليهالسلام فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة (والرّشدة
وبفتح الراء أيضا ضدّ الزّنية) والتبوير جاء هنا بمعنى الاختبار والامتحان لمعرفة
حقيقة إيمانهم ومبلغ نفاقهم ، وإلّا فإن التبوير خاصّ بالأرض يقال ترك الأرض بورا
وبوّرها أي لم يفلحها فبقيت بائرة ، وقال أنس ما خفي منافق على عهد رسول الله (ص)
بعد هذه الآية باعتبار ذيلها اي (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ويستفاد من الرّوايات أنّ عند الصّحابة تفسير لحن القول
ببغض أمير المؤمنين كان أمرا مسلّما ومعهودا ويصدّق الأخبار المذكورة عن الصحابة
من اختبار أولادهم ورشدتهم وزنيتهم بحبّ عليّ عليهالسلام ما عن النبيّ صلىاللهعليهوآله من قوله : يا علي لا يحبّك إلّا مؤمن تقيّ ، ولا يبغضك
إلّا منافق شقيّ. (وَاللهُ يَعْلَمُ
أَعْمالَكُمْ) من حيث كونها بإخلاص أو نفاق فيجازيكم على حسب نيّاتكم.
٣١ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ) ... أي لنختبرنّكم بالجهاد وسائر الأعمال الشاقّة وغيرها
حتى (نَعْلَمَ) نميّز (الْمُجاهِدِينَ)
والمطيعين من
جملتكم (وَالصَّابِرِينَ) على التّكاليف الشاقّة (وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) عن إيمانكم وموالاتكم المؤمنين في صدقها وكذبها. وأضاف
سبحانه البلاء والعلم إلى نفسه تعظيما لهم وتشريفا كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي يؤذون أولياء الله.
٣٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) ... أي كفروا ولم يؤمنوا ومنعوا قومهم وعشيرتهم وأهل
بلادهم عن طريق الحق وسبيل الهدى بالقهر أو بالإغواء (وَشَاقُّوا
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى)
روى القمّي عن
أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : قطعوه في أهل بيته بعد أخذه الميثاق عليهم له. ولعلّ
المراد هو خصوص بني النّضير وقريظة أو مطلق رؤساء يوم بدر وقريش. وعلى أيّ حال
يقول سبحانه إظهارا للقدرة وتسلية للرّسول وتحقيرا للكفرة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بمنعهم ومخالفتهم للنبيّ الأكرم ونقض عهدهم وميثاقهم
وإنّما ضرّوا أنفسهم (وَسَيُحْبِطُ
أَعْمالَهُمْ) بكفرهم وصدّهم عن سبيل الحق. وأيّ خسارة وضرر أعظم من ذلك؟
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))
٣٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ) ... أي في أوامره ونواهيه وكلّ ما
يحتويه كتابه (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما جاء به من عند ربّه فإن ما يقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) طبق إرادة الله ومشيئته سبحانه ولا يكون من عند نفسه.
وتكرار الجملة الفعليّة جاء إعزازا وإعظاما لنبيّه (ص) وتأكيدا للطاعة (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بما ينافي الإخلاص من كفر وعجب ورياء ومنّ وأذى وغيرها. وفي
ثواب الأعمال عن الباقر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن
قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال لا إله إلّا الله غرس الله
له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة. فقال
رجل من قريش : يا رسول الله إن شجرنا في الجنّة لكثير. قال : نعم ، ولكن إيّاكم أن
ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها. ذلك أنّ الله تعالى يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ) ، إلى قوله (وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ).
٣٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) ... أي الذين منعوا وصرفوا الناس عن جادّة الهدى وطريق
الحق (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ) أي لم يهتدوا وما آمنوا إلى أن ماتوا على الكفر والعناد (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي لن يفتح باب الرحمة الواسعة لهم أبدا ويكونون في العذاب
الأبديّ جزاء لإصرارهم على الكفر ولو عاشوا مخلّدين في الدّنيا إلى فنائها.
والإتيان بكلمة (فَلَنْ) لتأكيد النفي أي كونه أبديّا بحيث لا يؤذن للشفعاء
بالشفاعة لهم أعاذنا الله من غضبه وحلول سخطه. وقد نزلت الآية في أهل القليب وتعمّ
غيرهم.
٣٥ ـ (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ) ... أي لا تضعفوا وتدعوهم إلى الصّلح لأن الدعوة إلى
الصّلح رمز إلى ضعفكم ووهنكم عن القتال والحرب (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ) والحال أنكم الغالبون ، وهو إخبار عنه تعالى بغلبة
المؤمنين في عاقبة الأمر ، وإن غلبوا في بعض الأحوال (وَاللهُ
مَعَكُمْ) أي ناصركم ومعينكم. وهذه بشرى للمؤمنين بالغلبة والنصر
والإعانة (وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجرها. والآية ناسخة للشّريفة (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها).
* * *
(إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ
يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))
٣٦ و ٣٧ ـ (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ) ... الظّاهر أنّه تعالى يريد أن يشبّه الحياة الدّنيويّة
وبقاءها من حيث سرعة انقضائها وزوالها بلعب الأطفال وأفعالهم التي لا ثبات لها ولا
دوام لأنّ أمدها قصير ودوامها ملازم وقرين للفناء كذلك لأنهم يقضونها في التنزّهات
المؤقتة والتفريحات الآنيّة التي تزول وتفنى بسرعة ولا يترتب عليها كثير فائدة أو
هي فعلا فاقدة للفوائد العقلائية سريعة الزوال عديمة المآل. وبعيد أن يكون المراد
بالآية الشريفة هو الإسناد الحقيقي بمعنى أن الدّنيا ليست إلّا اللّعب واللهو كما
هو
ظاهر الحمل ،
فيلزم على هذا أن الله تعالى خلق خلقا عبثا ، وتعالى الله عنه علوّا كبيرا ، فهذا
المعنى ليس بمراد قطعا وبلا ريب. فالحمل حمل تنظير وتشبيه من حيث قصر المدة وسرعة
المضيّ (وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) من ثواب إيمانكم وأجر تقواكم. فالفائدة ترجع إليكم وتعود
عليكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ
أَمْوالَكُمْ) أي جميع الأموال بل يقتصر على يسير منها كالعشر ونصف العشر
، والإتيان بالجمع في قوله أموالكم دليل ما فسّرنا الآية به ، لأنه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) أي أنه سبحانه إن يسألكم جميع أموالكم ويجتهد في طلبها (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يدري بأنكم لا تجيبوه وتبخلون في مسئوله مع أن جميع ما
بيدكم منه تعالى وهو مالكه وله ملك السّماوات والأرض. والبخل بالمال هو أعلى مراتب
البخل ومن يبخل به فإنه أبخل الناس وهكذا يحسب ويعدّ مضافا بأنه (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) قال القمّي يظهر العداوة التي في صدوركم. يعني يخرج البخل
أو طلب جميع الأموال أحقادكم التي أشربت في قلوبكم من سابق الأيام.
٣٨ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ) ... القمّي معناه أنتم يا هؤلاء (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ) كلمة (ها) لتنبيه المخاطبين وتوجّههم إلى ما يخاطبون به.
والحاصل أنه سبحانه يتوجّه خطابه العام إلى أصحاب النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بأنكم لو دعيتم لإنفاق مقدار من أموالكم في نفقة الجهاد
ومصارف الفقراء وما يحتاج إليه حفظ بيضة الإسلام (فَمِنْكُمْ مَنْ
يَبْخَلُ) أي من جملتكم من يبخل بماله ولا يرضى الإنفاق. وهذا إخبار
عنه تعالى عمّا في ضمير بعض عباده. وبعد ذلك يبيّن نتيجة بخله بقوله سبحانه (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ) أي من أمسك عمّا فرضه الله عليه ويمنع نفسه عن الإنفاق في
سبيل الله فهو في الحقيقة ونفس الأمر يمنع عن نفسه لأنّ نفع الإنفاق يعود إليه
وضرر البخل والإمساك عائد عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) لا يحتاج إلى إنفاقكم وأموالكم التي هو يعطيها لكم
في الدنيا لإصلاح
أموركم الدنيويّة ، وأمركم بإنفاق بعضها لرفع درجاتكم وقربكم في الآخرة فإن
امتثلتم أوامره فلكم وإن توليتم فعليكم (وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) في الدّنيا والآخرة كما هو أمر مبيّن لكم (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ) عطف على (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) قال القمّي : وإن تتولّوا يعني عن ولاية أمير المؤمنين عليهالسلام. والمراد بالقوم الذين ذكرهم تعالى هم كما عن الصّادق عليهالسلام : أبناء الموالي المعتقين. وفي المجمع عن الباقر عليهالسلام قال : إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني
الموالي. وعن الصّادق عليهالسلام قال : قد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي. والموالي في
لسان الأخبار هم الأعاجم أي الإيرانيّون. وفي المجمع عن الصّادق عليهالسلام أنّ أناسا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه وكان
سلمان إلى جنب رسول الله (ص) فضرب يده على فخذ سلمان فقال : هذا وقومه والذي نفسي
بيده لو كان الإيمان منوطا بالثّريّا لتناوله رجال من فارس (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي في معاداتكم وخلافكم وظلمكم لآل محمد صلوات الله عليهم
أجمعين.
سورة الفتح
مدنية نزلت عند
الانصراف من الحديبية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الجمعة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ
نَصْراً عَزِيزاً (٣))
١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ... إنّه سبحانه وعد نبيّه (ص) بفتح مكّة ، والتّعبير
بالماضي لتحقّقه. وقيل هو صلح الحديبيّة سمّي فتحا لكونه مقدّمة للفتح. وعلى أيّ
حال في المجمع عن النبيّ صلىاللهعليهوآله قال لمّا نزلت هذه الآية : لقد نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ
من الدّنيا وما فيها. وقيل : لفتح الحكم أي حكمنا لك بفتحها من قابل.
٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ) ... أي المتقدّم من تركك المندوب يعني ما قبل النبوّة ،
والمتأخّر من تركه بعدها والدّليل على ذلك أن من الواضح
بحيث لا يشكّ فيه
أنه صلىاللهعليهوآله ممّن لا يخالف أوامر ربّه ونواهيه الواجبة ، فجاز أن يسمّى
ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا لعلوّ قدره ورفيع شأنه (ص) وقد قلنا في
سورة محمد في نظير المقام مقالة لا يبعد أن تكون أحسن ما قيل فيه فلا نكررها
فلتراجع. أو أن الكلام محمول على ما عن الصّادق (ع) حين سئل عن هذه الآية فقال :
ما كان له ذنب ولا همّ بذنب ، ولكنّ الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له. أو محمول
على تركه الأولى وهذا يرجع الى ما ذكرناه أولا من تركه المندوب والله أعلم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإعلاء أمرك وإظهار دينك وضميمة الملك إلى النبوّة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي إلى دين الإسلام ، أو يهديك في تبليغ الرّسالة وإقامة
مراسم الرّئاسة ، أو طريقا عدلا لا اعوجاج فيه وهو التوحيد ويتبعه جميع ما يرتبط
بالنبوّة والرّسالة.
٣ ـ (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) ... أي ينصرك نصرا فيه منعة ولا ذلّ معه رغما لأنوف
أعدائك. والوجه في التصريح بذكر الفاعل في المغفرة والنّصرة وفي غيرهما ولم يختصر
على الضّمير هو الاهتمام بشأنهما فإن مغفرة الذنوب والنّصر على أعداء الدين هو
المقصد الأصلي والمأمل العالي عند أصحاب الإيمان وأرباب الدّين لصريح دلالتها على
عزّ الدارين وتضمّنهما لتماميّة النّعمة والهداية ، ولذا ترى إيراد النّعمة
والهداية بين الآيتين المباركتين للاشعار بأن الغفران والنّصر محيطان بهما وشاملان
لهما. وعن موسى بن عقبة أنه لمّا رجع النبيّ صلىاللهعليهوآله من الحديبيّة قال بعض الأصحاب اعتراضا على النبيّ (ص)
للبعض الآخر منهم : كيف كان هذا الفتح الموعود مع صدّنا عن البيت الحرام؟ فوصل هذا
الخبر إلى النبيّ الخاتم صلىاللهعليهوآله فقال : بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح لأن المشركين
تنزلوا عن مقام شوكتهم وتكبّرهم ونخوتهم واستدعوا عنكم الأمان وطلبوا منكم الإمهال
، وهذا عن كمال عجزهم وغاية ذلّهم ولذا
يقول سبحانه :
* * *
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ
بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))
٤ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) ... هي القوّة الملكوتيّة أو الأدلّة والبراهين السّاطعة
التي تستلزم بصيرتهم في الغزوات والفتوحات فتكون موجبة لتسكين قلوبهم وتوجب قرارا
في القلب وسكونا عن الاضطراب الذي يعرض على القلب ناشئا عن العوارض الخارجيّة
والوقائع الحادثة الباعثة للخوف والخشية كعواصف القتال وشدائد الدواهي الأخر. وفي
الكافي عنهما عليهماالسلام : هو الإيمان. ولا بدّ أن يحمل على الكامل منه فإنه الذي
يحصل به الاطمئنان والثبات عند عروض الحوادث ووقوع الإنسان في المهالك حيث يكون
المؤمن الكامل إيمانه كالجبال الراسخة لا تحرّكه
الصواعق والعواصف.
فهو سبحانه الذي ينزل السكينة (فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ) الذين قال عنهم القمّي : هم الذين لم يخالفوا النبيّ
الأكرم ولم ينكروا عليه الصّلح (لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي إيمانا بالشرائع كلّها التي تنزل على الرسول ، مع
إيمانهم بالله تعالى. وعلى هذا التفسير ، أي كون السّكينة بمعنى الإيمان مع قطع
النظر عن تقيّده بما قلنا ، منضمّا إلى تفسير الإيمان الأول في الشريفة يكون (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) هو بما فسّر من الإيمان الأول بالشرائع ، والثاني هو
الإيمان بالله. أي فإنهم كانوا مؤمنين بالله ، فإنزال الإيمان بالله في قلوبهم
تحصيل للحاصل إلّا بمعناه الذي أوّلناه. ويؤيّد ما قلناه قوله سبحانه (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنّ ظاهر الشريفة يستفاد منه أنّ إضافة القلوب إلى
المؤمنين كانت قبل صيرورته ظرفا للسّكينة ، فعلى هذا لا بدّ من تأويل الإيمان الذي
هو معنى السكينة بما أوّلناه ، وإلّا فكون السكينة بمعنى الإيمان المطلق لا يناسب
المقام. وإن قيل إن المراد بالإيمان الذي هو معنى السكينة إن كان هو الإيمان بالله
تعالى نقبل ما أوردتم ، لكنّه ليس الأمر كذلك فإن الإيمان الذي هو معنى السكينة هو
الإيمان بالنبيّ وبشريعته لا الإيمان بالله تعالى ، فيقال أيضا يرد عليكم ما
أوردناه سابقا بناء على ما ذكره القمّي في تفسير المؤمنين في قوله تعالى (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) حيث فسّر بأنهم الذين لم يخالفوا النبيّ صلىاللهعليهوآله ولم ينكروا عليه الصّلح ، وليس معنى هذا الكلام إلّا أنهم
المؤمنون بالنبيّ وبشرائعه التي نزلت عليه فإذا كانت السكينة بمعنى الإيمان
بالشرائع والإيمان الذي كان مضافا إليه للظرف أيضا كان بهذا المعنى على قول القمي
، فيحصل تحصيل الحاصل في ناحية الظرف ومتعلّقة ، فالإشكال وارد على أيّ حال فلا
يخفى على المتأمّل فلا بدّ إمّا من تفسير السكينة بالقوّة أو تقييد الإيمان
بالكامل منه (وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما يتجنّد منه من الملائكة والثقلين وغيرهم من ذوات
الأرواح مطلقا حتى الحشرات والهوام وغير ذوات الأرواح من الجمادات
كالأرياح والأمطار
ومطلق المياه كالبحار والصّواعق والزّلازل ونظائرها من الممكنات ، فإنها جميعا لها
القابليّة لأن تكون جنوده تعالى ويهلك بها أعداءه سبحانه كما أهلكهم بها مرارا.
وفيه تهديد للمشركين بأنه لو أراد أن يهلكهم فهو أيسر شيء عليه ، لكنّه عالم بهم
وبما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لذلك ولمصالح وحكم أخرى ، لا أنه لم يأمر بقتالهم
لعجز أو حاجة في إفنائهم (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) أي عالما بمصالح عباده وحكيما في تدبيرهم على ما ينبغي
وتقدير ما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم.
٥ ـ (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
جَنَّاتٍ) ... ولا يخفى أنّ قضيّة دخول المؤمنين والمؤمنات في
الجنّات المتّصفة بجري المياه من بينها ومن تحت قصورها كثيرا ما ذكرت في الكتاب
الكريم ، ووجه تكرارها معلوم. بيان ذلك أنّ النّاس على حسب طباعهم الأوّليّة
مجبولون على كثير ميلهم إلى تلك النّعم الجزيلة التي لم يخلق مثلها في الدّنيا
كميّة وكيفيّة ، فإذا أمروا بمقرّرات ووظائف وجعل جزاء من أطاعها وأتى بها تلك
النّعم ، وأجر من خالفها وتركها العذاب الشديد ، فهم بطبعهم الأوليّ يميلون إلى
الإطاعة ويعرضون عن المخالفة. فالله تعالى لرأفته وفضله العميم على العباد يكرّر
تلك الآيات ويذكّرهم نعمه الجسمية حتى لا ينسوها فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ففي
هذا التكرار مضافا إلى أنه ليس فيه قبح كثير فائدة ومصلحة (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يمحوها عنهم. وفي متعلّق حرف الجرّ من قوله سبحانه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) خلاف بين أرباب التفاسير ، ولعل الحق هو ما ذهب إليه
الأكثر من أنه يتعلّق بقوله سبحانه (إِنَّا فَتَحْنا) كما أنه يتعلّق به الجارّ من قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) والتقدير : (إنّا فتحنا لك ، ليغفر الله لك ، وإنّا فتحنا
لك ، ليدخل المؤمنين) والغفران هنا لعلّه على ما يناسب المقام جاء في اللّغة بمعنى
الإصلاح والله سبحانه وتعالى إكراما لنبيّه ولطفا منه به بشّره بأمرين : بفتح مكّة
، وبإصلاح أمره الذي هو كناية عن إعلاء
أمره وإظهار دينه
، وعن النّصر والظّفر على جميع العرب حيث إن العرب في ذلك العصر كانت مكة محطّ
أنظارهم ونصب أعينهم وكانوا تابعين لأهلها ، فإذا فتحت كأنه قد فتحت بلادهم جميعا.
ولذا حينما بشر النبيّ صلىاللهعليهوآله بفتح مكة قال : هذه الآية عندي أحبّ إليّ من كلّ ما في
الدّنيا أو قال : من جميع ما في الدّنيا. لأنّ فتح مكة يستلزم فتح البلاد العربيّة
كلّها ، وفتح بلاد العرب يستلزم فتح جميع البلاد بشرط حياته صلىاللهعليهوآله مدة أو بشرط كون وصيّه الحقيقي (ع) مبسوط اليد. وقال قتادة
: إن أنس روى أنّ رسول الله لمّا رجع من الحديبيّة لصدّه عن دخول مكة غمّ شديدا.
ولمّا نزلت آية (إِنَّا فَتَحْنا) سرّ شديدا ، وقال
ما ذكرناه آنفا عنه صلىاللهعليهوآله. ولما نزلت (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ) زاد سروره فقال أصحابه : يا رسول الله هذا نصيبك فما ذا
نصيبنا؟ فنزلت الشريفة (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلخ ولم يفصل بالواو العاطفة بين الجملتين ليستفاد منه
كمال تقارنهما واتّصالهما في ترتّبهما على الفتح ولغيره من الأسرار والله أعلم.
ولمّا كان الفتح سببه الظاهري هو صلىاللهعليهوآله وأصحابه ، صار جزاؤهم الغفران ودخول الجنّة وإن كان بحسب
الواقع هو تعالى الفاتح ولذا نسبه إليه حيث إن النّصر والظفر كانا من عنده عزوجل (وَكانَ ذلِكَ) أي الإدخال والتكفير (فَوْزاً عَظِيماً) لأنّهما منتهى غاية الطالبين.
٦ ـ (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ) ... وهم أهل المدينة ، وأطلق عليهم صفة النّفاق لأنهم
كانوا يظهرون الإيمان ويخفون الشّرك فالنّفاق هو إبطان الشّرك أو الكفر وإظهار
الإيمان ، من نافقاء اليربوع وهو ثقبه الذي له بابان أحدهما ظاهر والآخر مخفيّ ،
فإذا أتى عدوّ إليه من الظاهر خرج من الآخر (وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكاتِ) وهم أهل مكّة (الظَّانِّينَ بِاللهِ
ظَنَّ السَّوْءِ) أي يظنّون بالله أنّه يخالف ما وعده لرسوله وأنّه لا ينصر
رسوله والمؤمنين بل
يكلهم إلى أنفسهم
حتّى يغلبوا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ) أي يدور عليهم سوء ظنهم وهو منقلب عليهم ، ويعود إليهم ضرّ
ظنّهم حيث إنّه سبحانه وتعالى صيّرهم مغلوبين ومنكوبين وأذلّاء صاغرين ببركة رسوله
والمسلمين بحيث صاروا طلقاء لهم بعد كونهم عبيدا للرسول وللمؤمنين والحمد لله رب
العالمين. وقال القمّي : وهم الذين أنكروا الصّلح واتّهموا رسول الله (ص) (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته ومواهبه (وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي مرجعا. وكانت القاعدة أن تعطف الجملة الثانية والثالثة
بالفاء حيث إنّ اللّعن متفرّع على الغضب واعداد جهنّم لهم إلّا أنّه لما أراد
سبحانه أن يبيّن أنّ كل واحدة منها مستقلّة في السببيّة للوعيد عطف بالواو التي
دلّت على الاستقلال. ثم إنّه تعالى لزيادة تخويفهم يقول :
٧ ـ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ... كرّرت هذه الجملة في الآية الرابعة وها هنا لأنها في
الأولى كانت قرينة لذكر المؤمنين وكانت بشارة لهم بالنّصر والظّفر ، وهي هنا تتّصل
بذكر المنافقين والمشركين لتوعيدهم وتخويفهم. والمستفاد من الكريمة أنّ ما سواه
سبحانه كلّه تحت أمره وقدرته ومسخّر بين يديه كتسخير العساكر وانقيادهم لرأسهم
ولمن له السّلطة عليهم. فالإنسان إذا توجّه إلى نفسه يرى جميع أعضائه منقادة له
سبحانه بحيث إذا أمرها بإيلام الإنسان وإيجاعه فالإنسان يتألم ويتأثّر كمال التأثر
من ألم السّمع أو البصر أو السّن أو غيرها من الأعضاء بحيث تزول راحته بل قد يموت
من بعض الأوجاع والآلام فيدرك الإنسان ويحسّ وجدانا أن أعضاءه بأجمعها جنود له
تعالى ، فكيف بالأمور الخارجيّة والحوادث السماويّة والأرضيّة أعاذنا الله منها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا عند القهر والانتقام ، وعارفا بتنظيم أمور عباده
، بل جميع مخلوقاته حيث إن جميع أفعاله معلّلة بالأغراض والمصالح.
* * *
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)
لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٩))
٨ و ٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ... أي على أمّتك أو على الأمم بأجمعهم أو على جميع البشر
على ما تقتضيه أرفعيّة مقامه السّامي وامتيازه عن كلّ إنسان من الأوّلين والآخرين
، فهو صلوات الله وسلامه عليه شاهد عليهم بما عملوه من الطّاعة والعصيان والرّد
والقبول ، كما أنّه الشافع المشفّع لهم أجمعين يوم الدّين ، حيث أن جميع الخلائق
يكونون حيارى كالسّكارى في ذلك اليوم ويرون أنفسهم مقصّرين عند ربّهم فكلّهم يرجون
شفاعته وعنايته بهم ولهم (وَمُبَشِّراً) للمطيعين بالنّعم الأبدية وللعاصين بالنّقم الدائمة (وَنَذِيراً) أي مخوّفا لمن قلنا ، وبما قلناه (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الجارّ متعلّق بقوله (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) والتخاطب مع الحاضرين من أمّته صلوات الله عليه وآله. وقرئ
بالياء مع ما بعده من الجمل الثلاث ، وهي قوله (وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ) أي تقوّوه وتنصروه بنصر دينه ورسوله ، وتبجّلوه وتعظّموه
بتبجيل رسوله أو تعظيم دينه (وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي صباحا ومساء. ولعلّ المراد هو الدّوام في الذكر أو فيه
وفيما قبله. والظاهر أن (الهاء) في الجمل الثلاث راجعة إليه تعالى بقرينة الأخيرة.
أو نقول إنّ تعزيره الرّسول وتوقيره هو تعزيره سبحانه وتوقيره كما أن مبايعته
والمعاهدة معه (ص) هي معاهدة الله على ما في الآية التّالية :
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ
بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً
وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً
بُوراً (١٢))
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) ... أي يعاهدونك على العمل بما أمرتهم به ونهيتهم عنه.
والمراد بالبيعة هنا بيعة الحديبيّة وتسمّى بيعة الرّضوان لأنها كانت مرضيّة منه
تعالى على ما يستفاد من قوله سبحانه (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) حيث إنّ الصّحابة بايعوا الرّسول حينما منعهم أهل مكة من
دخولهم الحرم على الموت فجعلهم الرسول تحت الشجرة التي كانت في ذلك المكان الذي
يسمّى بالحديبيّة وكان قريبا من مكة ، فأمرهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بتجديد البيعة وتسمّى ببيعة الشجرة لما ذكرنا من كون
اجتماعهم وبيعتهم تحتها (إِنَّما يُبايِعُونَ
اللهَ) فإن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان مظهرا كاملا من مظاهر أوصافه سبحانه ومرآة لها فلو فرض
له تعالى يد تعالى الله عن ذلك ، لكانت كيد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فيد رسوله بمنزلة يده سبحانه. ولمّا كانت يده تعالى فوق
أيدي العباد على الإطلاق ففي مقام المبايعة لا بدّ وأن تكون
فوق أيدي
المبايعين ، فيده صلوات الله عليه وآله حيث كانت يد الله فلذا تكون فوق الأيدي في
مقام البيعة وأخذ الميثاق منهم. ولهذا كانوا يبسطون أيديهم حين المعاهدة فيضع يده
صلوات الله عليه وآله على أياديهم بحيث كانت يده دائما فوق أيديهم على ما في
الرواية. وقيل كانت المبايعة بكيفيّة أخرى ف (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) تمثيل يؤكّد ما قلناه (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ
عَلى نَفْسِهِ) يعني أن ضرر نقض عهده يرجع عليه فلا يعود ضرّه على الله
ولا على رسوله كما أنّه إذا أوفى يعود نفعه إلى نفسه (وَمَنْ أَوْفى بِما
عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي الجنّة فإنّها أعظم الأجور ولا يساويها أجر ويستفاد من
قوله سبحانه (فَسَيُؤْتِيهِ) ، إلخ أن عصره صلىاللهعليهوآله كان بالقيامة قريبا جدّا. أو المراد أنّ الموفين بما
عاهدوا عمّا قريب يصلون إلى الدرجة العالية من الشهادة فيفوزون بها فوزا عظيما.
١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) ... أي الذين خلّفهم ضعف اليقين بالله ورسوله أو عدمه على
ما يقول سبحانه (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) وأيضا خلّفهم الخوف من قريش حيث إنّهم كانوا يظنّون أنّه
صلوات الله عليه وآله يهلك على يد قريش مع أصحابه ولا يعودون إلى المدينة فلمّا
رجع مظفّرا بالصّلح مع أهل مكة في الحديبيّة جاؤوا واعتلّوا بعلل واهية ، وهم (مِنَ الْأَعْرابِ) أي أسلم وجهينة وغفار وغيرهم على ما قيل ، فقالوا (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك لأنّه لم يكن أحد يقوم مقامنا في شؤونهم
وقضاء حوائجهم وهم يعنون أنّ تخلّفنا كان عن اعتذار لا على وجه الاختيار (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله عن التخلّف عنك (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه يكذّبهم فيما يقولون في مقام الاعتذار
ويخبر رسوله عما في ضميرهم في هذه الآية وفيما سيجيء في الآية التالية ، فاعتذارهم
واستغفارهم جميعا مكر وحيل (قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ
لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي من يقدر على دفع الضرر عنكم لو شاء الله أن يتوجّه
إليكم بقتل أو هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ
نَفْعاً) أي من الذي يمنع الخير الذي جرت المشيئة على أن يصل إليكم (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) أي يعلم وجه تخلّفكم وعلّة اعتذاركم واستغفاركم ولا يخفى
عليه شيء من ذلك. ثم إنّه تعالى أخذ في بيان وجه التخلّف فقال عزوجل :
١٢ ـ (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ... أي ما كان تخلّفكم لما قلتم ، بل كان سببه زعمكم بأن
النبيّ (ص) لا يعود ولا يرجع إلى المدينة أبدا لأنه يهلك مع صحبه على أيدي أهل مكة
ولن يرجعوا (إِلى أَهْلِيهِمْ
أَبَداً) لاستئصال قريش لهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي
قُلُوبِكُمْ) أي أشرب هذا المعنى وتمكّن فيها بحيث صارت مزيّنة به (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ
وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) جمع بائر أي هالكين والمراد بظنّهم السّوء هو ظنّهم في
هلاك النبيّ والمؤمنين. وهذه الأخبار كلّها من الأمور التي لا يعلمها إلّا من
يطّلع ويدري خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ، ولا يكون غيره سبحانه ، ولذا تكون
معجزة لنبيّنا صلىاللهعليهوآله. ثم إنّه تعالى توعيدا وتهديدا لهؤلاء الكفرة بعد تهديدهم
بكونهم من أهل البوار والهلاك يقول فيما يلي :
* * *
(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))
١٣ ـ (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) ... أي من لم يصدّقهما قلبا ولم يتّبعهما عملا صالحا (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
سَعِيراً) أي نارا ملتهبة مشتعلة ، وتنكيرها للتّهويل أو لكونها علما
لهم ومخصوصة أو لطبقة معلومة. وذكر الظاهر مكان المضمر في الكافرين تسجيلا عليهم
بالكفر وتصريحا به ، ثم يسجّل ويؤكد توعيداته وتهويلاته بقوله تعالى :
١٤ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) ... أي هو مالك لعالم الملك والملكوت وبيده تدبير جميع
العوالم العلويّة والسّفلية (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) هذا متفّرع على كون جميع الأشياء في قبضة اقتداره وسطوته
وفعاليّته لما يشاء ومختاريّته لما يريد بيده الخير وهو على كل شيء قدير (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) وكان المناسب أن يقول سبحانه (معذبا) مكان (رَحِيماً) لتناسب الذيل مع المصدر إلّا أنّ إيثاره على العذاب لسبق
رحمته غضبه ولأوسعيّة رحمته وأشمليّتها منه ووجه أسبقيّة الرّحمة على غضبه ، أو من
حيث إن الرحمة كانت دأبه ومن لوازم ذاته المقدّسة ، ولكنّ الغضب والتعذيب كانا
داخلين تحت قضائه بالعرض ، فقهرا هي أسبق منه على ما قال به بعض الأجلّاء من
الفلاسفة الإلهيّين ، وورد في الحديث القدسي : سبقت رحمتي غضبي ، وفي الدعاء عن
الأئمة الهداة : يا من سبقت رحمتك غضبك ، فيستفاد من هذه الأحاديث والدعوات أن هذا
من الصّفات الخاصّة له سبحانه.
* * *
(سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا
كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ
تَحْسُدُونَنا
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ
أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))
١٥ ـ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ) ... المراد بهم الأعراب المتخلّفون في قضيّة الحديبيّة فإن
رسول الله صلىاللهعليهوآله لمّا رجع من الحديبيّة عزم على غزو خيبر بمن شهد الحديبيّة
فاستأذنه المخلّفون أن يخرجوا معه ، فقال الله تعالى لنبيّه صلىاللهعليهوآله إعلاما له : سيقول لك المخلّفون إذا انطلقتم (إِلى مَغانِمَ) أي لو ذهبتم إلى غنائم خيبر بعد الغزو والفتح لتأخذوها (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي في المجيء إلى خيبر والغزو معكم حتى ننتفع بغنائمها (يُرِيدُونَ) بكلامهم هذا (أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلامَ اللهِ) ذاك أنه سبحانه هو وعده بغنائم خيبر لأهل الحديبيّة خاصّة
عوضا عن مغانم مكة ، ولذا يقول تعالى لرسوله (قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا) أي لا تتّبعونا أبدا فإن ربّي لا يجيزني حتى أرضى بذلك (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يعني قبل رجوعنا من الحديبيّة ، هكذا أوصاني ربّي (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي المخلّفون عن الحديبيّة يقولون ردا لذلك : بل تحسدوننا
أي ما حكم الله تعالى بذلك ، بل أنتم تحكمون به علينا حسدا ، فيقول سبحانه ردّا
عليهم وإثباتا لجهلهم وأن قولهم هذا
رجم بالغيب (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا
قَلِيلاً) من الأمور الدنيويّة التي تدور أمور معاشهم عليها.
١٦ ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) ... إن الله سبحانه كرّر ذكرهم بهذا العنوان لنبيّه بشناعة
التخلّف وإشعارا بذمّهم : (سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) والمراد أن النّبيّ صلىاللهعليهوآله عمّا قريب يدعوهم إلى قتال أقوام ذوي نجدة وشدة مثل أهل
حنين والطائف ومؤتة وتبوك وهوازن وغيرهم من المشركين (فَإِنْ تُطِيعُوا) أوامره ونواهيه (يُؤْتِكُمُ اللهُ
أَجْراً حَسَناً) ولعلّ المراد به هو الغنيمة في الدّنيا والثواب والأمن من
عقابه في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي انصرفتم عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً) أي في الآخرة لتضاعف جرمكم حيث إن الإعراض عن القتال من
الكبائر العظام.
١٧ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) ... لمّا أوعد الله المتخلفين ظنّ العجزة إن الوعيد شملهم
فنزلت الآية الشريفة لتسكين خواطرهم وأنهم معذورون فلا بأس عليهم إذا تخلّفوا ولا
إثم عليهم في ترك الجهاد. ثم إن دين الله وشرعه الذي كان أمره مفوّضا إلى أشرف
بريّته من الأولين والآخرين ، ولمّا كان مبنيّا على السّماح والتساهل ، فلذا نرى
في كثير من الموارد رفع تكليفه عن عباده تفضّلا منه ورحمة بهم ، ومن ذلك أمر
الجهاد في حال أنه من أعظم أحكامه سبحانه في استقامة دينه ونظام شريعته ، فرفع قلم
التكليف عن المذكورين في الكريمة مع أنه يرفع المجاهدين إلى الدرجات العليا في
الآخرة ، ومع أن التحريض عليه والحرص على تكثير سواد الجيش يقتضي أن لا يعفى منه
أحد حتى النساء فانها تحمل اليه للمساعدة في تهيئة الطعام وإسعاف الجرحى وتضميد
جراحاتهم ، ومع ذلك فإنه سبحانه وتعالى مع وضع قلم التكليف بالجهاد على جميع الناس
، رفع عنهم ذلك امتنانا وتسهيلا كما
رفعه أيضا عن
النساء مع أنه يترتب عليهنّ ما يترتب على الأصناف الثلاثة في الآية الكريمة من
الفوائد المزبورة وأكثر منها. ووجه الرفع يحتمل أن يكون أنّه تعالى أراد منهن
العفاف والتستر ، والذّهاب إلى الجهاد مناف لهما ، فلذا رفع التكليف بالنسبة إلى
الجهاد عنهنّ. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذه الجملة وإن كرّرت في الآيات الشريفة إلّا أنّ تكرارها
تكرار في مورده لأنّها في كلّ مورد ذكرت كان ذكرها بمناسبة موضوع من المواضيع
الشرعيّة. وحين ذكرت الصّلاة مثلا مدح الله تعالى المقيمين لها وذمّ التاركين ثم
ذكر عاقبة أمر كلّ واحد منهما : فالمطيع في الجنّات ، والعاصي في النار ، وكذا
فيما نحن فيه وهو موضوع الجهاد فالمجاهدون يدخلون الجنّات المذكورة والمتخلفون
عاقبة أمرهم ما يقوله سبحانه : (وَمَنْ يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً).
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ
كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ
عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣))
١٨ و ١٩ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ) ... قد سبق تفصيله وقلنا إن وجه تسمية هذه المعاهدة ببيعة
الرّضوان لهذه الآية ، فقد رضي عنهم (إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص (فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي السكون والاطمئنان بحيث زال عنهم خفقان قلوبهم الذي عرض
عليهم من الخوف والخشية (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً
قَرِيباً) أي جازاهم فتحا قريبا بالوقوع وهو فتح خيبر بعد رجوعهم من
الحديبيّة ، فأثابهم الفتح (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً
يَأْخُذُونَها) هي أموال أهل خيبر أي يجمّعونها ويملكونها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي غالبا في تدبيره مراعيا لمقتضى حكمته في جميع الأمور.
٢٠ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) ... أي لا تنحصر في مغانم خيبر بل وعدكم إيّاها وغيرها من
مغانم أخرى من الفتوح إلى الأبد (فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ) أي غنائم خيبر التي وصلت إليك معجلا من غير ترقّب (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) من أهل خيبر وحلفائهم ، وذلك أن النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا قصد خيبر وحاصر أهلها همّت قبائل من أسد وغطفان
وهوازن أن يهجموا على اموال المسلمين وعيالاتهم بالمدينة فكفّ الله أيديهم عنهم
بالرّعب والخوف في قلوبهم من النبيّ وعسكره لعل هذا هو المراد بقوله في الآية
التالية (وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها) ، (وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم من حاصل قوله سبحانه (فَعَجَّلَ) في إيصال الغنائم إليكم لإظهاره وعده ولتكون إمارة دالّة
على صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله في وعده للمؤمنين بأخذهم الغنائم واستفادتهم الكثيرة منها
ما داموا على ما كانوا عليه ثابتين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر قولا
وعملا وإن حدث
فيهم فتور بعد حدّتهم وضعفهم بعد شدّة قوتهم وشوكتهم في هذه الأيام فقد ذهبت ريحهم
وتسلّط الكفار على الأخيار كما وعد الله ورسوله ، وصدق الرسول الكريم فيما وعد به
ونحن على ذلك من الشاهدين (وَيَهْدِيَكُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتكم على طريق الحق بفضله وإحسانه.
٢١ ـ (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) ... أي وعدكم مغانم أخرى (لَمْ تَقْدِرُوا
عَلَيْها) ولعلّ المراد بها غنائم فارس أو الروم أو هوازن ، أو هي ما
أشرنا إليه آنفا من حلفاء خيبر (قَدْ أَحاطَ اللهُ
بِها) علما بأنها ستصير إليكم (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادرا على فتح البلاد وإيصال الغنائم وغير ذلك من
الأمور التي لا يقدر عليها أحد إلّا بمشيئته وإرادته. ثم إنه تعالى يخبر رسوله
بنبإ من أخباره الغيبيّة وهو قوله سبحانه : يا رسول الله اعلم ان كل من قاتلك فهو
مغلوب ومنهزم.
٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) ... أي يا رسول الله اعلم أنه لو قاتلك الكفرة فهم
المغلوبون المنهزمون سواء كانوا من قريش أو غيرهم. وهذه بشارة سارّة موجبة لترغيب
عسكره في الجهاد والحرب وتوليتهم الأدبار تعني أنهم ينهزمون ويرجعون إلى الوراء من
الخوف والرعب الذي يتعقّبه الموت (ثُمَّ لا يَجِدُونَ
وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي محبّا يتودّد إليهم ويحرسهم ويدفع عنهم الحوادث
والأضرار ولا ناصرا ينصرهم ويقيهم في الحوادث من الهلاك.
٢٣ ـ (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ) ... أي عادة الله وديدنه ، قد جرت من قديم الأيّام وعصر
كلّ نبيّ على تغليب أوليائه على أعدائهم وخذلان معانديهم. ونصب السّنة بناء على
كونه مفعولا مطلقا للفعل المقدّر ، أي سنّ الله سنّة (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تغييرا لا هو سبحانه يغيّرها ولا غيره بقدر على
تبديلها.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ
يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))
٢٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) ... عن أنس بن مالك أنه حينما نزل رسول الله مع أصحابه
الحديبيّة وبلغ خبرهم أهل مكّة ، خرج ثمانون نفرا من كفرتها منها شاكي السلاح ،
ووصلوا وقت صلاة الصّبح إلى جبل التنعيم ، وهجموا على النبيّ (ص) وأصحابه حتى
يقتلوهم ، فوقعت الحرب بينهم وغلبهم النبيّ (ص) وأصحابه فأخذوهم بأجمعهم ، لكنّه
صلوات الله عليه أطلقهم حتى لا يقع في الحرم قتل فنزلت الشريفة مقارنة لتلك
الحالة. فالمراد من كفّ الأيدي هو أيدي هؤلاء المشركين ، كما أن المراد بقوله (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ) هو إطلاقه إيّاهم لئلّا يهتك الحرم. والمراد ببطن مكة هو
الحديبيّة فإنه يحسب من داخل مكة
(مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي جعلكم تغلبونهم. والمراد من المغلوبين هم الثمانون
المذكورون آنفا (وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من جدالكم معهم أوّلا واطلاقكم إيّاهم تعظيما وتجليلا
للبيت الحرام ثانيا وقرئ بالياء (يعملون). ويحتمل أن يكون المراد من المظفر عليهم هم
أهل خيبر وحلفاؤهم الذين ذكروا قبلا. وهذا الحمل خلاف ظواهر الآيات السّابقة
واللّاحقة.
٢٥ ـ (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ) ... الضمير راجع إلى كفّار مكّة الذين منعوا الرّسول
والصّحابة من دخولهم الحرم ومن نحر الإبل في محلّها وهو مكّة كما منعوا ذبح الأغنام
في محلها وهو منى على ما هو المرسوم في عصره صلوات الله عليه وآله حيث أنهّ منحر
الهدي في العمرة كان مكّة ، كما أن النّحر في الحج كان منى ، وفي الصّدّ ينحر حيث
يصدّ كما فعل هو صلىاللهعليهوآله ، وكان معه صلىاللهعليهوآله من الهدي إلى المحلّ الذي يحلّ ونحرها بأجمعها في
الحديبيّة وهي مكان الصّد. وقوله (مَعْكُوفاً) حال من (الْهَدْيَ) ومعناه ممنوعا ومحبوسا عن وصول الهدي إلى المحلّ الذي يحلّ
فيه نحره. ثم إنه سبحانه بعد تعيين الصادّين أخذ في بيان سبب المنع عن دخول
المسلمين في تلك السنة إلى المسجد الحرام مع أنّ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله لو قاتلهم في تلك السنة لغلبهم لأنّ الله تعالى وعده النصر
فقال سبحانه (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) في القمّي : يعني بمكّة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أي أنتم لا تعرفونهم وغيركم أيضا ليس لهم علم بإيمانهم حيث
إنهم يعملون بالتقيّة ويكتمون إيمانهم ويختلطون بالكفّار وكانوا بينهم كأحدهم فلا
يعرفون بأعيانهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي أن تهلكوا حين المقاتلة لو أذن لكم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي بعد علمكم بقتلهم تلزمكم من جهتهم تبعة من دية لقتلهم
خطأ أو إثم بترك الفحص عنهم والتأثر والتأسّف عليهم وغير ذلك مما يترتب على قتل
المؤمنين والمؤمنات
بغير علم بهم
بعينهم وقوله (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بدل اشتمال عن الضّمير في (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) أو عن (رِجالٌ) كما أنّ قوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منصوب محلا بناء على الحاليّة من فاعل (لم تطأوهم) وجواب
الشرط محذوف والتقدير (لولا أن تطأوهم غير عالمين بهم لما كفّ أيديكم عنهم) ، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي فكفّ عن القتال وصولحوا ليدخل الله المؤمنين ومن أسلم
بعد الصّلح من الكفرة (لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تفرّقوا بحيث تميّزوا عن المشركين وعرفوا بأشخاصهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باهلاك الكفرة وسبي عيالاتهم وذراريهم ونهب أموالهم أو
إحراق بيوتهم عليهم فإن العذاب الأليم كلّما يطلق في عذابات القيامة يراد منه نوع
الإحراق بالنّار ولعله يراد به المرتبة الشديدة منه ، لأن نفس هذا اللفظ يدل
بمقتضى وضعه على ما يشقّ على الإنسان ، واتّصافه بهذه اللّفظة التي تدل على الألم
والتوجّع الشديد يؤكده ، والعذاب بالنّار أشدّ العذابات في الدّنيا والآخرة على ما
يستفاد من قول أمير المؤمنين في حدّ من تجاوز بغلام واعترف ثلاث مرات بإيقابه له
فاختاره المولى بين أمور ثلاثة : الرّمي من الشهاهق ، والرّجم ، والإحراق ، فسئل
أمير المؤمنين عن أشدّها فقال سلام الله عليه : النّار ، فاختار النار.
٢٦ ـ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... كلمة (إِذْ) ظرف لعذّبنا ومتعلّق به الذين كفروا أي حينما جعل الذين (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ) يعني نخوة الجاهليّة وأنفتها التي أشربت في قلوبهم بحيث لا
تخرج إلّا بصمصام أمير المؤمنين سلام الله عليه وما دامت هي باقية فهم لا يذعنون
للحق والحقيقة (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ولما كانت الحميّة التي في قلوبهم مانعة لإذعانهم وتصديقهم
بالألوهيّة والتوحيد والرّسالة ، فلذا كان هو صلوات الله عليه وآله دائما في قلق
وانزعاج
وتضجّر قلب فالله
تعالى لطفا منه به ورحمة لنبيّه صلواته عليه وآله أنزل السكينة على نبيّه لتسكين
قلبه وثباته وليتحمّل حميّة القوم وأذاهم. وهذا ما يستفاد ممّا أخبر سبحانه به من
قوله عزوجل (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى)
أي قول لا إله
إلّا الله كما عن عليّ في جواب من سأله عن كلمة التقوى ، أو المراد بها هو الشهادة
بالولاية كما عن النبيّ صلوات الله عليه وآله الذي قال : إن عليّا هو الكلمة التي
ألزمها التّقوى أو المتّقين. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال في خطبة : أنا عروة الله الوثقى ، وكلمة التقوى. وفي
الإكمال عن الرّضا عليهالسلام في حديث له : نحن كلمة التقوى والعروة الوثقى. والآية تدل
بظاهرها على أن المراد هي الشهادة بالولاية مع قطع النظر عن الرّويات الكثيرة.
بيان ذلك أن الشهادة بالوحدانية وإن كانت في بدء الإسلام أمرا صعبا على النفوس ،
لكنّه بعد برهة قصيرة من الزّمان صارت أمرا متعارفا معتادا بحيث صارت شعارا للدخول
في الدين الإسلامي لحقن دمائهم وأعراضهم ونواميسهم وللاستفادات الأخر كالشركة في
الغنائم والتجارات وسائر الأمور الماديّة فكانوا لهذه الجهات ونحوها يدخلون في
الإسلام أفواجا بخلاف الشهادة بالولاية فإنّها كانت صعبة ثقيلة كبيرة إلّا على
الخاشعين من بداية الإسلام إلى نهايته بل في بداية الأمر كان لا يتكلّم بها النبيّ
صريحا مع أنها شعار الإيمان ولذا كانوا يحتاجون إلى الإلزام والإثبات كما قال
تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) مرجع الضمير إلى أهل الإيمان فقط أي ثبّتهم عليها (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) يحتمل أن تكون الجملة في معرض التعليل لانحصار إرجاع
الضمير إليهم ، أي لكونهم أحقّ بها وأهلا لها وغيرهم ليسوا كذلك (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من كان أهلا لكلمة الشهادة بالولاية وحقيقا بها.
* * *
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))
٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) ... فقد رأى رسول الله (ص) هذه الرّؤيا قبل خروجه إلى
الحديبيّة وصدقه الله رؤياه إذ رأى أنه وأصحابه دخلوا مكة (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ) وذلك بأن وفّقهم في السنة التالية لسنة الرّؤيا لفتح مكة
والإتيان بفريضتهم بتمامها وكمالها على ما أخبر بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِ) أي صدقا متلبسا بالحق وبغرض صحيح وحكمة بليغة. هذا بناء
على كونه حالا من (صَدَقَ) ويمكن أن يكون حالا من (الرُّؤْيا) أي الرؤيا كانت متلبسة بالصّحة والحقيقة بلا شائبة ولم تكن
أضغاث أحلام بل كانت عارية من جميع الأوهام وبناء على هذين الاحتمالين قوله (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جواب لقسم مقدّر أي (والله لتدخلن المسجد الحرام) ويحتمل
أن يكون قوله (بِالْحَقِ) (الباء) باء القسم
(والحق) اسم من أسمائه تعالى ، أو المراد به ما هو مقابل الباطل فالأمر أوضح لكون
قوله (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) جوابا للقسم (إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ) علّق سبحانه دخولهم على مشيئته لتعليم العباد وتأديبهم
بآدابه وسننه على ما هو المنقول عن ابن عباس من أنه تعالى علّق ما هو عالم به حتى
يعلّق عباده ما لا يعلمون على مشيئته. وإمّا أن التعليق لأنه كان يعلم بموت بعض أو
مرض آخر أو غيابه
فلذا اقترن دخولهم
جميعا بالمشيئة حتى لا يلزم خلف وعده سبحانه. وقوله تعالى (آمِنِينَ) حال من فاعل (لَتَدْخُلُنَ) أي تدخلون في حال الأمن والأمان من شرّ كل ذي شر (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي في حال تحلقون جميع رأسكم ، وهذا حال بعد حال (وَمُقَصِّرِينَ) بحلق بعض رأسكم أو تقليم ظفر من أظفاركم أو قصّ شواربكم (لا تَخافُونَ) حال مؤكّدة لقوله (آمِنِينَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي جعل وقرّر من قبل ذلك الفتح فتح خيبر وكان مقرونا بالوقوع
وقوله فعلم ما لم تعلموا أو المراد بالموصول هو الصلاح والحكمة في تأخير دخول مكّة
، منها تحصيل الغنائم الكثيرة من قلاع خيبر التي صارت باعثة لتحصيل شوكتهم وشدّة
قوّتهم الحربيّة ، وفي النتيجة وقع الرّعب كثيرا في قلوب أهل مكّة بحيث صاروا
خائفين متواضعين للنبيّ (ص) وأصحابه حين دخولهم عليهم في مكة.
٢٨ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدى) ... ثم إنّه سبحانه وتعالى تأكيدا لوعد فتح البلدان
وتوطينا لنفوس أهل الإيمان وبشارة لغلبتهم على جميع أقاليم المشركين في مختلف
الأوطان ، يقول (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ) أي ليعلوا دين الإسلام وهو الحق لا غيره في عصره (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على الأديان كلّها بالحجة والبراهين الواضحة. وعنهم عليهمالسلام : يكون ذلك عند خروج المهدي عجّل الله تعالى فرجه ، كما أن
الكريمة الأخرى شاهدة على ذلك وذلك قوله تعالى (وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) على ما وعده المؤمنين من القهر والغلبة على المشركين.
* * *
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ
رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))
٢٩ ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ... جملة مؤكّدة لما في الآية السّابقة من قوله (أَرْسَلَ رَسُولَهُ) والظاهر أن قوله (أَشِدَّاءُ) خبر لقوله (مُحَمَّدٌ) ، وهو مبتدأ موصوف (برسول الله) و (الَّذِينَ مَعَهُ) عطف على المبتدأ ، والمراد بهم أصحابه الخلّص. ومعنى
الأشدّاء : الغلاظ الشّداد لا يعصون الرّسول ما أمرهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي متعاطفون ومتلاطفون فيما بينهم (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) كناية عن كثرة صلاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي لا يبتغون من غيره شيئا حيث إنّهم يجدون غيره مثلهم
محتاجين ، والله هو الغنّي المطلق ذاتا. فلذا يسألون منه تعالى زيادة ثوابه ورضاه
منهم (سِيماهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامة إيمانهم ظاهرة في وجوههم. وقوله (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يمكن أن يكون بيانا للسّيما فإن هذا الأثر كاشف عن كثرة
الصلاة وطول السّجود ، وهذان من أوصاف المؤمنين المكملين في الإيمان أو المراد من
السّيما هو البهجة والحسن أي حسن الإيمان وبهجته ظاهران في وجوههم ، ومنشأ الظهور
هو الأثر الذي أوجده السجود (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي هذه الأوصاف العجيبة الحسنة هي صفتهم في كتاب موسى
وصفتهم في كتاب عيسى ، يعني إن لم تقبلوا فاسألوا أحبار اليهود ورهبان النصارى فهم
يخبرونكم بأن هذه الصّفات
كلّها صفات محمد (ص)
وأصحابه الخلّص وهي مسطورة في التوراة والإنجيل. ثم إنّه سبحانه استأنف ببيان مطلب
آخر وصفة أخرى من أوصاف المؤمنين من أصحابه فقال (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ) أي ورقه الذي هو في غاية الدقّة والضّعف (فَآزَرَهُ) أي فقوّاه تدريجا من المؤازرة بمعنى الإعانة والتقوية (فَاسْتَغْلَظَ) أي تدرّج ونما حتى صار من الدّقة إلى الغلظة ، ومن الضّعف
إلى القوّة بحيث (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي وصل إلى مرتبة من القوّة والاستعداد حتى استقرّ واعتدل
على أصوله بدرجة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي لغلظه واستوائه في تلك المدّة القليلة. ووجه الشّبه إنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآله خرج وحده ، ثم كثروا وقووا على أحسن حال ، وظفروا وتغلّبوا
على الكفرة والمعاندين بحيث أعجب الناس (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) بيان لوجه تشبيه النبيّ والصّحابة بالزرع في نمائه تدريجا
واستحكامه بعد مدة قليلة ، فالله سبحانه وعد نبيّه بالنصر ووفى بوعده وظفّره على
أعدائه وكثّر أنصاره بعد قلّتهم وأعانه بعد وحدته وأوقع في قلوب أهل عصره الرّعب
والخشية بحيث صاروا يدخلون في دينه وشرعه أفواجا بلا حرب ولا جدال لأن الكفرة لّما
شاهدوا تلك الحالة في الناس والتهافت السريع للإسلام صاروا يعضّون أناملهم من
الغيظ فخوطبوا بقوله سبحانه بواسطة نبيّه (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي الجنّة بمراتبها على درجات إيمان المؤمنين وأعمالهم في
الكثرة والقلّة ، فإنها الفوز العظيم والأجر الجزيل الذي لا يتصوّر فوقه شيء. وفي
ثواب الأعمال والمجمع عن الصّادق عليهالسلام حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة (إِنَّا فَتَحْنا) فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة
حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين ، ألحقوه بالصّالحين من عبادي ، وأسكنوه
جنات النعيم ، واسقوه من الرّحيق المختوم بمزاج الكافور.
* * *
سورة الحجرات
مدنيّة وآياتها ١٨
نزلت بعد المجادلة.
* * *
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))
١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي لا تعملوا عملا إلّا بإذنهما ، ولا تفعلوا فعلا قبل
أن يحكما به. وقيل إن المراد بالتقدّم هو التقدّم في المشي ولعله يؤيّد هذا المعنى
قوله تعالى ظاهرا (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي أمامهما لأن بين يدي الإنسان أمامه ، وإن كان يخالف هذا
الظاهر ذكره سبحانه حيث إنه تعالى ليس له أمام ولا غيره من
الجهات السّت.
فالمراد هو المعنى الذي ذكرناه أوّلا. نعم يمكن أنّ ذكره تعالى كان تعظيما للرّسول
(وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي اتقوه تعالى في أوامره ونواهيه ، وفي التقدم عليه وعلى
رسوله في جميع شؤونكم لأنّه يسمع أقوالكم ويعلم أفعالكم وآراءكم وما يخطر ببالكم ،
فلا بدّ أن تكون أعمالكم صادرة إمّا عن وحي منزل أو عن أسوة برسول الله صلىاللهعليهوآله فالآية الشريفة في مقام تأديب الناس وعدم إقدامهم على أمر
إلّا بإذن من الله ورسوله ، فإذا سئل الرّسول في مجلسه عن مسألة فليس لأحد أن يجيب
إلّا بإذن منه ، فإذا أجاب عن السؤال قبل جوابه (ص) وبلا رخصة منه فإنه سوء أدب
وتجاسر على ساحته الشريفة.
٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ... هذه الشريفة في بيان مصداق من مصاديق التجاسر عليه
وخلاف الأدب بساحته ، ولذا فهو سبحانه قد منعهم ونهى عن رفعهم أصواتهم فوق صوت
النبيّ فإنهم ما كانوا ليفقهوا أن رفع الصّوت كان تجاسرا فنبّههم بأن هذا تجاسر
عليه وسوء أدب بالنسبة إليه (ص) (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي فيما خاطبتموه فإنه ليس كأحدكم حيث إنّ له شأنا شامخا
ليس لأحد من البشر من آدم ومن دونه. والحاصل أنه ليس بعد مقام القدس الرّبوبي
مرتبة أرفع وأجل من مرتبة نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، ولذا بيّن سبحانه أن رفع الصوت بين يديه تجاسر عليه
محرّم لأن من كان هذا شأنه لا يجوز أن يخاطب كما يخاطب أعراب الجاهليّة ، على أن
هذه الأمور تكون هتكا لمقام الأكابر والزعماء ، فكيف بالرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم وهم قد كانوا يجلسون بخدمته بحسب هواهم أو ينامون في حضرته
الرّفيعة ويقولون بجرأة : حدّثنا يا محمد حتى ننام يعنون بذلك حديث النّوم وقصّته
، ونقل أنهم كانوا يضعون رؤوسهم على فخذه الشريفة ويقولون حدّثنا أي كما يقول
الأطفال لأمّهاتهم أو جدّاتهم وبالجملة
فإن الآية
المباركة نزلت تأديبا لهم وتعظيما له صلوات الله عليه (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ) علّة للنّهيين لمخافة حبوط أعمالكم بلا شعور منكم بالحبط
وعلّته.
٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ
أَصْواتَهُمْ) ... أي يخفضون أصواتهم ولا يرفعونها عالية (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) سواء كان ذلك عند ندائه أو أثناء مخاطبته عنده ، بل لو
كانوا يتكلّمون بعضهم مع بعض لوجب أن يخفضوا له صلوات الله عليه أو لغيره أصواتهم
: بالقول إجلالا وتكريما للنبيّ وتعظيما لحضرته السّامية (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي الذين يغضّون أصواتهم في محضر نبيّنا الأكرم هم الذين
يتأدّبون بآدابنا وقد وجدناهم أهلا لأن نختارهم ونجعلهم من عبادنا المتّقين لأنّ
قلوبهم لها ظرفيّة التقوى وأهليّتها ، وليس كلّ قلب له هذه القابليّة ، بل لكثير
من النّاس قلوب لا يفقهون بها كقلوب البهائم التي لا تتّصف بصفة التقوى ولا تتحلّى
بحليته. ونعم ما قال الشاعر الفارسي ما مضمونه : فالتّقوى جوهرة لا تقع في كلّ
قلب. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي مغفرة لذنوبهم وأجر لطاعتهم ثم أخذ سبحانه ببيان بعض
مثالبهم الأخر ومعايبهم التي لا يدركون أنّها عيب وشين فقال :
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
وَلَوْ
أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ
وَراءِ الْحُجُراتِ) ... من خارجها أو خلفها : يا محمد أخرج إلينا فإنّ لنا
حاجة إليك. والمقصود حجرات نسائه (ص) أو المراد مطلق الحجرات التي يكون صلوات الله
عليه فيها في المدينة أو في خارج المدينة. فالنّهي شامل وعامّ وهو الظاهر بقرينة
علّة شأن نزولها التي ذكرت في المفصّلات من التفاسير فإن المنادين لك على هذا
النحو (أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) لأنّ العقل يحكم بمراعاة الحشمة والتبجيل للزّعماء ،
وبالأخصّ لمن كان منصّبا بمنصب السّفارة والرّسالة من عند أعظم العظماء وأجلّ
الزّعماء وأكبر السّلاطين ، فلا بدّ من توقيره بغاية ما يمكن ونهاية المقدور من
حسن الآداب وسلوك المعاشرة.
٥ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) ... أي حتى يخرج إليهم بطبعه واختياره ، لكان الصبر أدبا
وتعظيما لشأنه صلوات الله عليه وآله فيثابون لذلك ويؤجرون. وهذه هي حقيقة الخير
الذي هو مفيد لهم في دنياهم لأنّهم يوصفون فيها بالعقل والأدب ، وفي آخرتهم بنيل
الثواب الجزيل. والحاصل أنّ الاستعجال والنّداء بأصوات جهوريّة تشعر بسوء الأدب
وتخالف تعظيم مركز النبوّة ، أمور هامة ، ولذلك ذكّرهم سبحانه ونبّههم إلى ما فيه
خيرهم وصلاحهم ، بالآية الشّريفة (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) لمن تاب منهم.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
(٦)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))
٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... أي لو أخبركم من لا يتجنّب الكذب وغيره من المناهي
والمنكرات فاستوضحوا أخباره واستظهروه حتى يتبيّن لكم الرّشد من الغيّ والصّدق من
الكذب ولا تصدّقوه أوّل مرّة ولا تعملوا بقوله بدوا بلا رويّة. فإن جاءكم بخبر (فَتَبَيَّنُوا) تحقّقوا منه حذرا من (أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ) مخافة أن توقعوا جماعة من المؤمنين في مصيبة وبلاء ومكروه
جاهلين بحالهم (فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي فتصيروا على عملكم مغتمّين ومتمنّين قائلين يا ليت أنّه
لم يقع إذ لا تفيدكم النّدامة ، لأنّه لا يتدارك ما وقع ومضى. وقيل نزلت الكريمة
في الوليد بن عقبة حينما أرسله النبيّ (ص) إلى بني المصطلق لأخذ الزكاة وكان بينه
وبينهم دم من عصر الجاهليّة فلمّا سمعوا به استقبلوه وتجاوزوا عن دمهم تعظيما
للإسلام وتكريما للنبيّ صلىاللهعليهوآله فظنّ أنهم مقاتلوه ، فرجع خوفا وقال لرسول الله (ص) قد
ارتدّوا ومنعوا الزكاة ، فهمّ صلوات الله عليه وآله بقتالهم فنزلت الآية.
٧ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللهِ) ... الآية الشريفة تنبيه للمؤمنين على أن كل ما تفعلون من
عمل أو تقولون من قول فالرسول يدري به ويعرفه من عند ربّه لأنّ الله سبحانه يخبره
بذلك فلا تفعلوا عملا يفتضح ، ولا تقولوا قولا يظهر كذبه فيذهب ريحكم عنده صلوات
الله عليه وآله وعند المؤمنين كما أخبره الله تعالى به من كذب الوليد بن عقبة.
وهذه إحدى معجزاته صلوات الله عليه وآله ، فإنّه (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ) أي لا يترقّب أحد منكم أن يطيعه النبيّ (ص) في أكثر أموره
، بل حتى في بعضها ، لأنه لو كان كذلك لوقعتم في الهلاك أو المشقة الشديدة التي لا
تطاق فلا بدّ لكم من أن تطيعوه في جميع أموركم فيرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم
لأنّه مؤيّد من ربّه ، فخلّوا زمام أموركم بيده فإنه الهادي إلى ما سواء السّبيل (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي جلاه وحسّنه في قلوبكم بحيث صار محبوبا ومطلوبا عندكم
والظاهر أن هذه الآية المباركة في مقام ردّ جماعة وتعييرهم على ما كانوا عليه من
العقائد الفاسدة النّاشئة عن عدم كمال إيمانهم ونقصانه. غاية الأمر أنها جاءت
بلسان أدب واحترام لأنهم كانوا مؤمنين والمؤمن محترم في أيّة مرتبة من مراتب
الإيمان كان. بيان ذلك أن المستفاد من الآية السّابقة على هذه الكريمة هو أن جماعة
من المؤمنين كانوا يترقّبون ويتوقّعون من النبيّ الأكرم (ص) أن يطيعهم في بعض
أمورهم ويوافقهم على آرائهم وعقائدهم مثل أنهم كانوا متوقعين منه صلىاللهعليهوآله ان لا يكذّب الفاسق الوليد بن عقبة وأن لا يقرأ الآية على
الناس بحيث يظهر فسقه فيفتضح بين الناس مع أن الله نزّلها وأمره بأن يقرأها على
الناس لأنّهم هم أيضا يجب أن لا يعتمدوا في أمورهم على أخبار الفسقة ، فإن الآية
المباركة وإن كان موردها خاصّا لكنها لا تختصّ بموردها بل هي عامة تشمله وتشمل
غيره. والحاصل أن توقعهم هذا من النبيّ (ص) كاشف عن النقصان في الإيمان فإن المؤمن
الكامل يسلّم ويرضى بما يأمر النبيّ به وينهى عنه. والآية الثانية جاءت في مقام
نصحهم بأن هذه العقيدة خلاف ما أنتم عليه من الإيمان به تعالى وبرسوله (ص) حيث إن
مقتضاه أن تطيعوه دون العكس ، لأنه العارف بما فيه صلاحكم وما فيه الفساد بإلهام
منه تعالى إليه ، وأنتم لستم ممّن تدرون عواقب الأمور وصلاحها وفسادها بل الله
سبحانه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ) وزيّن قلوبكم به ليكون إيمانا كاملا يمنعكم عن هذه العقائد
الفاسدة ويحملكم على أن تخلّوا زمام أموركم بيد نبيّكم
الكريم (ص) وأن
تكونوا منقادين له صلوات الله عليه وآله. هذا ما يستفاد من الآيتين الشريفتين
والله أعلم بما أراد (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) الكفر على أقسام أربعة الأوّل كفر الجهل بحيث لا يعرف
الإنسان الإله الحقّ تعالى حتى يعترف به ، والثاني كفر الإنكار وهو الذي يعرفه
بقلبه وينكره بلسانه بوسوسة من الشيطان اللّعين. والثالث كفر النّفاق وهو الذي
يقبله باللسان ، ويردّه بالقلب مع أنّه يعرفه ، كما أنّ السياسيين يعملون هكذا
لمصالحهم. والرابع كفر العناد والجحود ، وهو شأن الذين لا يستمعون الحق ولا يجيبون
داعيه بل لا يدورون حوله ولا يقربونه حتى يعرفوه ويستمعوا كلامه. بل إذا هو دعاهم
يدخلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا ما يقوله أحقّ هو ما دعا إليه أم هو باطل
فيقرّوا به أو يردّوه. وهذا أشدّ أقسامه. وهذا نحو ما كان عليه أهل مكة وبالأخصّ
عشيرة النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآله. والظاهر أن المراد بالكفر في الآية هو معناه العام فيكون
حاصل معنى الشريفة هو أنه تعالى جعل الإيمان محبوبا لكم وجعل الإسلام أحبّ الأديان
لديكم بقيام الأدلة الواضحة والبراهين السّاطعة عليه ، مضافا إلى ما وعد عليه من
الثواب والأجر الجزيل ، وزيّنه في القلوب أي جعله زينا وحسنا عندكم بالألطاف
الداعية إليه ، وجعل الكفر بتمام أقسامه وأخويه كريهة ومبغوضة لديكم بما وصف من
العقاب عليها وبما وعد عليها من جهنّم وشديد العذاب فيها. وفي المجمع عن الباقر عليهالسلام : الفسوق الكذب ، وفي اللغة هو مصدر معناه الخروج عن طريق
الحق والفاسق هو الذي لا يبالي بما يقول وبما يقال فيه ، والعصيان مصدر معناه ترك
الطاعة والانقياد له تعالى. وعن الصّادق عليهالسلام حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم يعني أمير المؤمنين
وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان يعني أعداءه الذين لم يلتزموا بالدّين وما جاء
به محمد (ص) عن ربّ العالمين. وعنه عليهالسلام : الدّين هو الحبّ ، والحبّ هو الدّين (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي الذين
اتّصفوا بالصّفات
المذكورة هم المهتدون إلى كلّ خير وسعادة.
٨ ـ (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ... علّة لقوله (حَبَّبَ) و (كَرَّهَ) وما بينهما اعتراض (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بصدق كلّ أحد وكذبه أو بأحوالهم (حَكِيمٌ) بتدبير أمور عباده وتنظيمها على طبق المصلحة والحكمة.
* * *
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))
٩ ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ...) الإتيان بالتّثنية من باب أنّها أقلّ مراتب التعارك ومن
باب التمثيل بأكثر مواردها والّا فالحكم عامّ (اقْتَتَلُوا) جمع باعتبار المعنى حيث إن كلّ طائفة جمع من الأفراد (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بما فيه رضا الله ورسوله (فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) أي تعدّت وعدلت عن الحق بالإضافة والنسبة إلى الأخرى
وتجاوزت عن حدود الشرع (فَقاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى ما أمر الله به وإلى حكمه (فَإِنْ فاءَتْ) أي
تحوّلت عمّا كانت
عليه من البغي والعداوة (فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي بلا مفاضلة بينهما في مقام الإصلاح وإلّا لم ينتج
الإصلاح ، ولذا قيّد به الإصلاح الواقع بعد القتال لأنه مظنّة الجور والعدوان. وفي
الكشّاف أنّ تقييد الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول لأنّ المفروض أنّهما في الأوّل
كلتاهما باغيتان فما يجب على المسلمين في هذه الصّورة هو الإصلاح بينهما بالمواعظ
الشافية وإراءة طريق الحق والباطل حتى يسكن هيجانهما الموجب للطّغيان وبغي كلّ
واحدة منهما على الأخرى وهذا هو المطلوب ولا يجوز مقاتلتهما لكنّه بخلاف الصورة
الثانية فإنّ واحدة منهما باغية على الأخرى بخلاف الأخرى فيجب قتال الفئة الطاغية
حتى ترجع إلى أمره تعالى فإذا رجعت فلا بدّ من الصّلح بينهما بالسويّة وبلا حيف
على واحدة دون الأخرى ، فالمقام كان فيه مظنّة الحيف على الطائفة الباغية لذا
قيّده بالعدل ، وهذا تمام مقالة الكشّاف. ولمّا كانت رعاية العدل في جميع الأمور
مهمّة لازمة لان نظام مدار الأمور الدّينيّة والدّنيوية عليه ، فلذا هو سبحانه
أشار بتعميمه فقال (وَأَقْسِطُوا) ، الآية أي اعدلوا في الأمور جميعا لأن قوامها به (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العدلة لأن الله عادل فيحبّ العادلين ويرضى بأفعالهم
ويجزيهم الجزاء الأوفى. والإقساط من القسط وهو الجور والعوج والانحراف ، فلمّا
دخلت عليه همزة باب الأفعال وهي قد تجيء للسّلب والإزالة فأزيل عنه معناه (الاعوجاج)
وسلب الاعوجاج هو عبارة أخرى عن (العدل والاستقامة).
١٠ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ... إنّ الله سبحانه حصر الأخوّة الدينيّة في المؤمنين
للمشاركة في الطّينة لقول الباقر عليهالسلام : المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه ، لأن الله خلق المؤمنين
من طينة الجنّة ، وأجرى في صورهم من ريح الجنّة. فلذلك هم إخوة لأب وأمّ أو
للمشاركة في الصّفات أو في الانتساب إلى النّبي والوصيّ صلوات الله عليهما وعلى
آلهما فقد ورد أنه
صلىاللهعليهوآله قال : أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمّة فالمؤمنون إذن إخوة
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ) أي إذا تشاجرا وتنازعا ، والتثنية باعتبار الأغلب. وفي
الكافي عن الصّادق عليهالسلام : صدقة يحبّها الله : إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب
بينهم إذا تباعدوا. وعنه عليهالسلام أنه قال للمفضّل : إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة
فافتدها من مالي ، أي اصرف من مالي حتى تصلحها وترفعها (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) أي خافوا الله واحذروا عقابه وعتابه وشدائد عذابه ولعلّها
تشملكم رحمته باتّقائكم إيّاه جلّ وعلا ، فإنها موجبة للرّحمة حيث إنها محبوبة لله
تعالى ويعطي بإزائها الأجر الجزيل والثواب الجميل.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا
تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ
خَبِيرٌ (١٣))
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ... أي لا يهزأ رجال من رجال. وخصّ القوم هنا بالرجال
لأنهم هم القوّامون في الحياة. وقال الخليل النحوي : القوم يقع على الرّجال دون
النساء لقيام بعضهم مع بعض في الأمور. وظاهر كلامه الإطلاق. ولكنّه لا تساعده
الآيات الشريفة كقوله ((يا قَوْمِ اعْبُدُوا
اللهَ) ، إلخ.
وأما قول الشاعر :
وما أدري ولست
إخال
|
|
أقوم آل حصن أم
نساء
|
فهذا الاختصاص
بقرينة المقابلة وقرينة المقام حيث يريد الشاعر استهجانهم وذمّهم وأن يقول لهم
أنتم لستم برجال بل أنتم في حكم النساء وأشباه الرجال ، وهذا خارج عمّا نحن فيه من
إثبات الاختصاص أو الإطلاق ، مع قطع النظر عن القرائن. والمعنى لا يستهزئ رجال
برجال (عَسى أَنْ يَكُونُوا
خَيْراً مِنْهُمْ) أي لعل المسخور منه أكرم وأحسن عند الله من السّاخر. وقال
القمي : نزلت في صفيّة بنت حيّ بن أخطب وكانت زوجة رسول الله صلىاللهعليهوآله وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها
يا بنت اليهوديّة فشكت ذلك إلى رسول الله (ص) فقال لها ألا تجيبينهما؟ فقالت بما
ذا يا رسول الله؟ قال : قولي إنّ أبي هارون نبيّ الله ، وعمّي موسى كليم الله
وزوجي محمد رسول الله صلىاللهعليهوآله فما تنكران منّي فقالت لهما. فقالتا هذا علّمك إياه رسول
الله ، فأنزل الله في ذلك (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ)
(وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) ولا يعيب بعضكم بعضا. والتعبير عن البعض بأنفس لأن
المؤمنين كنفس واحدة فكأنه إذا عاب أخاه عاب نفسه ، أو إذا قتله قتل نفسه ، ولذا
قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) وكلّها من باب
واحد. واللّمز
العيب حضورا والهمز العيب غيابا. وفرّق بعض بأن اللّمز يكون باللّسان والعين
والإشارة ، والهمز لا يكون إلّا باللّسان (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ) أي لا تلقّبوا بعضكم بعضا بالألقاب الدّنيئة المشعرة
بالذّم والتعيير كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة يعني لا تدعوا بذلك من كان
يهوديّا أو نصرانيّا فآمن : يا يهوديّ أو يا نصرانيّ أو يا مجوسي ، والنّبز شائع
في الألقاب القبيحة. ومن المرويّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : من حقّ المؤمن على أخيه أن يسمّيه بأحبّ أسمائه
إليه. وقيل معناه لا تلعنوا بعضكم بعضا ولا تتلاعنوا (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي لا تسمّوا المؤمنين بالأسماء التي تدل على فسقهم قبل
إيمانهم كاليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أو يا خمّار ويا لمّاز ويا عيّار
ونحوها من الألقاب القبيحة المشعرة بالذم والتعيير ، فلا تدعوهم بتلك الألقاب ولا
تنادوهم بها فإن نداءهم بها إيذاء وهتك لهم ولا يجوز إيذاؤهم وهتكهم لأنهم مؤمنون
مثلكم محترمون. وهذه الآية واردة مورد التعليل للنّهي عن التّنابز بالألقاب
القبيحة بعد الإيمان لأنّ التسمية بهذه الأسماء المشعرة بفسق المسمّى قبل إيمانه
غير مشروعة بعد الإيمان. فهذه الجملة كلام مستأنف ومتضمّن للأمر بالاجتناب عن
التنابز وبيان لعلّة الموجبة للنّهي عن التّنابز كما قلنا آنفا. ويحتمل أن يكون
المراد بالفسوق هو فسق المسمّى بصيغة اسم الفاعل ، بيان ذلك أنه إذا نادى شخص مؤمن
مؤمنا جديد الإيمان بالاسم القبيح المشعر بالذّم فهذه التسمية موجبة لأذيّة جديد
الإيمان. والمراد بالألقاب أعمّ من اللقب الاصطلاحي فتشمل الأسماء ، ولذا عبّر بعد
قوله تعالى (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ) بقوله (بِئْسَ الِاسْمُ) والمراد بهذا الاسم هو المنهيّ عنه سابقا المعبّر عنه
باللقب بصيغة الجمع. وكذلك الاسم عامّ يطلق على اللّقب والكنية (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) يكونون ظالمين بالنظر للعصيان وتعريض نفوسهم للعذاب
الدائم.
١٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا) ... أي اتّقوا (كَثِيراً مِنَ
الظَّنِ) تجنّبوا عن كثير من الظنّ ، وقيّد بالكثرة لأن منه ما يحسن
كحسن الظنّ بالله وبأهل الخير والصّلاح لكنّه في مقابل الظّنون السيئة قليل من
كثير. والمعنى : دعوا كثيرا من أفراد الظن واتركوها واعملوا بالقليل من أفراده بعد
إقامة البراهين والإمارات الظاهرة على أنها من القسم المباح حيث إنّ الظنّ على
أقسام أربعة : الأوّل واجب وهو الظنّ بالله ورسوله والصّالحين من عباده فإنه مأمور
به ويعبّر عنه بحسن الظن بالله ورسوله والمؤمنين وقد جاء في الكتاب الكريم : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) وفي السنّة (إنّ حسن الظنّ من الإيمان). والثاني حرام وهو
ظنّ السّوء بالله ورسوله والمؤمنين. والثالث مندوب إليه وهو الظنّ الغالب في
الأمور الاجتهاديّة وهو المتّبع عند الأكابر العظام. والرابع المباح وهو الظنّ في
الأمور الدّينية ومهمّاتها. وظنّ السّوء فيها أي حمل الظنّ على ظن السوء أو عدم
العمل به فيها ، موجب للسّلامة من العقاب وباعث لانتظام الأمور الدّنيويّة ، ولذا
أمرنا بالتوقف في أخبار الفاسق ولو حصل لنا الظنّ ، والتبيّن حتى يظهر لنا العلم
بالواقع صدقا وكذبا ، فلا يعتنى بحصول الظنّ وعدمه. ويحتمل أن يكون (كَثِيراً) صفة للمقدّر وتقديره هكذا (اجتنبوا اجتنابا كثيرا من الظن)
أي من جميع أقسامه إلّا ما خرج بالدّليل. وبناء على هذا (مِنَ) بيانيّة محضة وليس للتّبعيض. ووجه إبهام (كَثِيراً) وتنكيره بناء على الأوّل لأنه يفيد بعضيّة غير معيّنة
يستلزم صدقها على كل واحد من أفراد الظنّ ، فلا بدّ من الاحتراز عن جميع الظّنون
إلّا أن يظهر مطابقته للواقع. فإذا علم ذلك فيعمل على طبق معلومه. فرعاية الاحتياط
بعدم الاعتماد على الظن طريق النّجاة. وفي رواية نبويّة شريفة : إيّاكم والظنّ فإن
الظّن أكذب الحديث. ضو الله هو الهادي إلى الصواب (إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ) أي يستحقّ العقوبة عليه. فعلى هذا لا بدّ وأن يتأمّل فيما
ظنّ به حتى ينكشف له المظنون فيعلم أنه
من أيّ قسم من
أقسامه ، فإنه إذا عمل على طبق ظنّه بلا رويّة فربّما يرتكب إثما فيندم فلا تفيده
النّدامة وفي الكافي عن الصّادق عن أمير المؤمنين عليهماالسلام قال : ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه ، ولا
تظنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ، وفي نهج البلاغة :
إذا استولى الصّلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظنّ برجل لم يظهر منه خزيه فقد
ظلم ، وإذا استولى الفساد على الزّمان وأهله ثم أحسن الرّجل الظن برجل فقد غرّر ،
أي غرّر بنفسه وعرّضها للهلكة. (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تتّبعوا عورات المؤمنين ولا تتفحّصوا عنهم وعن مجاري
أمورهم لكي تطّلعوا على سرائرهم وعلى سوآتهم فإن الله تعالى موصوف بصفة ستّار
العيوب ، ويحبّ أن يكون عبده كذلك. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا تطلبوا عثرات المؤمنين فإنه من يتتبّع عثرات أخيه
يتتبّع الله عثرته ويفضحه ولو في جوف بيته (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً)
سئل النبيّ صلىاللهعليهوآله عن الغيبة فقال صلىاللهعليهوآله : أن تذكر أخاك بما يكرهه ، فإن كان فيه فقد اغتبته وإلّا
فقد بهتّه. وفي الكافي عن الصّادق عليهالسلام أنه سئل عن الغيبة فقال : أن تقول لأخيك في دينه ما لم
يفعل وتبثّ عليه أمرا قد ستره الله عليه ما لم يقم عليه فيه حدّ. وفي رواية ،
وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا. وعن الكاظم عليهالسلام : من ذكر رجلا من خلقه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم
يغتبه ، ومن ذكره من خلقه بما هو فيه ممّا لا يعرفه النّاس اغتابه ، ومن ذكره بما
ليس فيه فقد بهته. وفي العيون عن الرّضا عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم
فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروّته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته ، وحرمت غيبته. وفي
كتاب جعفر بن محمد الدّوريستي بإسناده إلى أبي ذرّ رضوان الله عليه عن النّبي صلىاللهعليهوآله أنه
قال : يا أبا ذر
إياك والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزّنى. قلت يا رسول الله ولم ذاك فداك أبي وأمّي؟
قال لأن الرجل يزني فيتوب فيقبل الله توبته ، والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها. وفي
جامع الجوامع روي أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ليأتى لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد وكان خازن رسول
الله على رحله فقال : ما عندي شيء. فعاد إليهما فقالا : بخل أسامة ، ولو بعثناه
إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا إلى رسول الله فقال ما لي أرى حمرة اللّحم في
أفواهكما؟ قالا : يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما قال : ظللتم تأكلون لحم
سلمان وأسامة (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ)
في هذا الكلام
تمثيل الاغتياب بأفضح مثال وأشدّه من حيث اشمئزاز الطبع ونفرته ، وفيه مبالغات :
تقرير الاستفهام ، محبّة المكروه ، وإسناد الفعل إلى «أحد» إشعارا بأن لا أحد
يحبّه ، تمثيل الاغتياب بأكل لحم للإنسان ، عدم الاقتصار بهذا وضمّ الموت بذلك
وكونه أخا ، الأمر بالاتّقاء بعد هذه كلّها. وهذه الأمور بأجمعها تدل على حرمة
الغيبة بأشد ما تكون. وفي قوله تعالى (فَكَرِهْتُمُوهُ) جملة متضمّنة للشرط ، أي لو عرض عليكم ذلك لكرهتموه بحكم
العقل والطبع ، فاكرهوا ما هو نظيره فإن نظيره وإن كان الطبع يميل إليه لأنه لا
يدرك إلّا الكراهة المحسوسة ، والأمور المكروهة الحسيّة في نظر الشرع والعقل أشدّ
من كراهة أكل لحم الإنسان الميّت ، لأن المفاسد الّتي تترتب على النّظير لا تترتّب
على المشبّه به أبدا كما لا يخفى على أهل العلم والبصيرة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي بترك الغيبة بل وسائر المعاصي (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) تقديم التّواب على الرّحيم لأنّه بمقتضى طبع المقام أنه
سبحانه أولا يغفر للعبد معاصيه ، وبعدها يتفضّل عليه برحمته الخاصّة وأما كونه
توّابا فلكثرة العاصين التائبين إليه تعالى أو لكثرة ذنوب المذنبين أو إشارة إلى
قلع ذنوبهم جميعا بحيث كأنه ما صدرت عنهم خطيئة أو اثم والله أعلم.
١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْناكُمْ) ... نقل أرباب التفاسير في شأن نزول الآية الشريفة وجهين :
أحدهما أنهم رووا عن زيد بن منجزة أنه قال إنه في يوم من الأيام مضى رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى سوق المدينة فرأى غلاما وهو في معرض البيع والغلام
ينادي أن من أراد شرائي فهو مشروط بأن لا يمنعني عن صلاتي في أوّل أوقاتها مع رسول
الله صلىاللهعليهوآله. فاشتراه رجل بهذا الشرط فكان يراه الرّسول في أوّل أوقات
الفرائض وهو يقتدي به صلىاللهعليهوآله. فمضت أيام على الغلام وهو بهذه الحالة. وبعد ذلك خلت أيام
أخر وهو صلىاللهعليهوآله لا يرى الغلام ، فسأل مولاه فقال : هو مريض يا رسول الله.
فعاده الرّسول ، وبعد أيام أخر سأله (ص) عن الغلام فأجاب بأنه مات. فقام رسول الله
(ص) ومعه الأصحاب في تشييعه وغسّله وكفّنه بنفسه النفيسة وصلّى عليه ودفنه. فتعجّب
المهاجرون والأنصار فالله سبحانه وتعالى أنزل هذه الكريمة وبيّن فيها بأنّ النسب
بما هو ليس فيه أثر ، وإنما المقرّب إليه تعالى ليس إلّا التقوى التي بها تحصل
الفضيلة والكرامة والشرف وبمضمون تلك الآية المباركة أشار سيّد العابدين وزينهم
الإمام علي بن الحسين أرواح العالمين لهما الفداء بقوله : إنما خلقت النّار لمن
عصى الله ولو كان سيّدا قرشيّا ، والجنّة لمن أطاع الله ولو كان عبدا حبشيّا. والثّاني
من الوجهين هو ما نقلوه عن عبد الله بن العبّاس أنه قال : نزلت الشريفة في ثابت بن
قيس حينما عرّض بقرين له وقال أنت ابن فلانة تعريضا وتعييرا. فالتفت النبيّ وقال صلىاللهعليهوآله : من القائل باسم فلانة؟ فقام ثابت وقال : أنا يا رسول
الله فقال عليهالسلام : فانظر في وجوه هؤلاء الناس فما ترى فيها فقل لي فلما نظر
قال ما أرى إلّا ألوانا مختلفة بعضها سواد وبعضها بياض ، وبعضها أحمر والآخر أصفر.
فقال (ص) فأنت لا تفضلّهم إلّا بالتقوى والدّين ، فنزلت الآية تأييدا لقول النبيّ
الأكرم صلىاللهعليهوآله. وقال مولانا أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام : الشرف
بالفضل والأدب لا
بالأصل والنّسب. ضو
هذا الكلام المبارك يشير إلى قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) والحاصل أن هذين الوجهين ذكروهما في وجه نزول الآية. وأما
معنى الآية فالمراد بقوله سبحانه (إِنَّا خَلَقْناكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أنكم متساوون في الأب والأم حيث إنكم ترجعون في النسب إلى
آدم وحوّاء ، فلا فضل لأحدكم على الآخر من ناحية النّسب ، نعم إنما التقدّم
والتفاخر ليس إلّا بالتّقوى وفي بعض كتب التفاسير منقول أنّ شخصا سأل عيسى عليهالسلام بأن أيّ إنسان أفضل وأشرف في بني آدم؟ فأخذ قبضتين من
التراب وقال : ليس لأحدهما فضيلة على الآخر بل هما متساويان في الفضل والشرف.
فالبشر مخلوقون من التراب ومتساوون في أصل الخلقة ليس لأحد رجحان على أحد ،
فأكرمهم وأفضلهم أتقاهم فنفتهم أنّ مدار الفضيلة والتقدّم هو التّقوى. وقال (ص):
من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق الله. والأدلّة على ما ذكر كثيرة ، وما ذكرناه
من باب النّموذج (وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ) جمع شعب وهو أعمّ طبقات النّسب (وَقَبائِلَ) هي دون الشعوب ، فمثلا (حزيمة) شعب مشتمل على (قبائل)
عديدة منها قبيلة كنانة وهي محتوية على العمائر التي منها قريش فهي عمارة من
كنانة. والعمائر تنطوي على البطون منها كقصيّ وهو بطن من قريش ، والبطون دونها
الأفخاذ كهاشم وهو فخذ من قصيّ ، والأفخاذ دونها العشائر كالعباس وهو عشيرة من
هاشم ، وبعدها الفضيلة وهو أدون طبقات النّسب. والمراد بها أهل البيت نحو بني
العباس. والقول بأن المراد بالشعوب هو الموالي أي الأعاجم والمراد بالقبائل هو
الأعراب ، فهو من الأقوال التي تحقيقها ليس فيه كثير فائدة. وعلى كلّ تقدير
فالمقصود من وضع طبقات النسب ليس التفاخر بالآباء والشعوب والقبائل ، بل مدار
التفاخر والتفاضل ما جعله الله تعالى مميّزا للشرافة والفضيلة وهو التقوى فقط ،
فجعل الطبقات المتعدّدة لا جدوى منه إلّا أننا جعلناكم كذلك (لِتَعارَفُوا) أي لأن يعرف كلّ واحد منكم الآخر عند
اشتراك الاسم أو
نحوه مما هو سبب للشّبهة. فرفع الاشتباه ووضع المميّز له عن غيره هو أنّه (زيد
تميمي) والآخر (زيد هاشمي) وهكذا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) عند الله فالتقوى تكمل النفس ويتفاضل الأشخاص ، فمن أراد
شرفا فليلتمس منها. وفي الفقيه عن الصّادق عليهالسلام عن أبيه عن جدّه عليهمالسلام أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أتقى الناس من قال الحقّ فيما له وعليه. وفي
الاعتقادات عن الصّادق عليهالسلام أنه سئل عن قول الله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللهِ أَتْقاكُمْ) قال : أعملكم بالتقيّة. وعن الرّضا عليهالسلام مثله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) أي عليم بأحوالكم خبير بسرائركم.
* * *
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ
يَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))
١٤ ـ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا) ... نزلت الكريمة على ما يروى عن ابن عباس في نفر من بني
أسد قدموا المدينة في سنة مجدبة فأظهروا الشهادة وأغلوا أسعار المدينة وكانوا
يقولون لرسول الله (ص) أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال
والذراري ، يريدون الصّدقة ويمنّون عليه ، فنزلت هذه الآية الشريفة وفرّقت بين
الإسلام والإيمان ، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) نعم فرق بينهما وهو أن الإسلام هو الشهادة بهاتين الكلمتين
بشرط أن لا تكون لقلقة باللسان وخدعة للمسلمين. فقوله (ص): من قال لا إله إلّا
الله محمد رسول الله فهو مسلم رواه الشّيعة والسّنة ، وهو من جملة مصادر الفرق
بينهما ومعلوم أن الاكتفاء بتينك الكلمتين لورودهما في صدر الإسلام لتسهيل الأمر
على المسلمين ولتكثيرهم ، وهذا المختصر رمز لما أشرنا إليه ، ولا مانع من أن يكون
الملاك أمرا آخر. وأمّا الإيمان فهو مضافا إلى هاتين الكلمتين المباركتين لا بدّ
للإنسان فيه من أن يكون معتقدا بجميع الأمور الدينيّة المذكورة في محلها ككتب
الصّدوق رحمهالله في العقائد ونهج المسترشدين في هذه العقائد للحلّي رحمهالله ، ونحوهما من أعلام الملّة الإسلامية (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قوله تعالى (لا يَلِتْكُمْ مِنْ
أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) من ألت يألت ، بالألف في المضارع ينقلب ياء للتّخفيف.
والألت هو النّقصان ، أي نقص ينقص. فمعنى الشريفة هو أنه إن تطيعوا الله ورسوله لا
ينقص من أجر عملكم شيئا. وألت يعمل عمل لعلّ أي ينصب الاسم ويرفع الخبر (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كلمة (غَفُورٌ) صيغة مبالغة وهي هنا بمعناها الواقعي ، ولعلّ
وجه تقدّمها على (رَحِيمٌ) مع أنّها أيضا صيغة مبالغة هو ما أشرنا إليه سابقا من أن
الغفوريّة أكثر أفرادا من الرحمانيّة كما عليه جماعة من أعاظم فقهاء الإسلام عليهم
الرّحمة.
١٥ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ... أي المؤمنون الّذين آمنوا بالله ورسوله (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي لم يشكّوا ولا كذبوا في ادّعائهم الإيمان أو في
متابعتهم لعليّ عليهالسلام ، ولا يخفى أنّ الإيمان الحقيقي يلازم المتابعة له دون شكّ
في ولايته وبالعكس.
١٦ ـ (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) ... أي هل تخبرونه به بقولكم آمنّا بك وبما جاء به محمد (ص)
من عندك (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي أنّه سبحانه وتعالى أعلم بما يقع في السّماوات وما يحدث
في الأرض قبل أن يقع وبعده من كلّ من يعلمه فكيف بمن لا يعلمه؟ والحاصل أنه سبحانه
لا يحتاج إلى تفسير أيّ من الأمور الظاهريّة والخفيّة ولا تخفى عليه خافية. وهذا
توبيخ لهم لقولهم (آمَنَّا) وهذه في واقع الأمر منّة على النبيّ صلىاللهعليهوآله والدليل قوله سبحانه :
١٧ ـ (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) ... أي يحسبون أنّك تستفيد بإسلامهم ولذا يعدّونه منّة
عليك (قُلْ لا تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) لا تحمّلوني جميلا به ولا منّة (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) وله سبحانه الفضل والمنّة على هدايتكم لهذا الدين الشريف الذي
دعا إليه الأنبياء فإنهم سلام الله عليهم من ابتداء بعثتهم إلى آخر أعمارهم كانوا
مأمورين بهداية الناس فما آمن بهم إلّا القليل منهم ، وهم من هداهم الله ولم
يهتدوا من تلقاء أنفسهم. وهذا أوضح وأهمّ دليل على عدم الملازمة بين الهداية
والاهتداء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في ادّعاء الايمان مضافا إلى الإسلام ويفهم من قوله
تعالى :
(إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) تعليق الحكم على الوصف بأنهم ليسوا بصادقين فيما ادّعوا ،
إلّا في حال كونهم مؤمنين إيمانا حقيقيّا لا منّة فيه وقد نالوه بتوفيق الله
والهدى إليه.
١٨ ـ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي يعرف كل شيء ممّا هو مستور ومخفيّ فيهما عنّا وعن
سكّان السماوات (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) أي أنه يرى ، وهو شديد الرؤية ، لما تفعلونه في العلانية
وفي الخفاء حتى ولو كان الأمر يجول بفكركم أو يمرّ بقلبكم فإنه يعلم كلّ ذلك ويطلع
على وساوس الصدور ، فإن كان خيرا جزاكم خيرا ، وإن كان شرّا فالجزاء مثله ... وعن
الصادق عليهالسلام : من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم كان من
زوّار محمّد صلىاللهعليهوآله.
* * *
الفهرس
سورة
يس
١
ـ يس......................................................................... ٥
٢ ـ والقرآن الحکیم............................................................... ٦
٣ و ٤ ـ انک لمن
المرسلین......................................................... ٦
٥ ـ تنزيل
العزيز الرحيم............................................................ ٦
٦ ـ لتنذر قوماً................................................................... ٦
٧ ـ لقد حق القول............................................................... ٧
٨ ـ إنا جعلنا في اعناقهم أغلالاً.................................................... ٧
٩ ـ وجعلنا من بين ايديهم سداً..................................................... ٨
١٠ و ١١ ـ وسواء عليهم أأنذرتهم................................................. ٨
١٢ ـ إنا نحن نحيي الموتى.......................................................... ٨
١٣ و ١٤ ـ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية....................................... ١٠
١٥ ـ قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا.................................................. ١١
١٦ ـ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم مرسلون............................................. ١١
١٧ ـ وما علينا إلا البلاغ المبين................................................... ١١
١٨ ـ قالوا إنا تطيرنا بكم........................................................ ١١
١٩ ـ قالوا طائركم معكم......................................................... ١٢
٢٠ ـ وجاء من أقصى المدينة..................................................... ١٣
٢١ ـ اتبعوا من لا يسألكم أجراً.................................................. ١٣
٢٢ ـ ومالي لا اعبد الذي فطرني.................................................. ١٤
٢٣ ـ أأتخذ من دونة آلهة........................................................ ١٤
٢٤ و ٢٥ ـ إني إذاً لفي ضلال مبين.............................................. ١٥
٢٦ و ٢٧ ـ قيل ادخل الجنة..................................................... ١٥
٢٨ ـ وما أنزلنا على قومه من بعده................................................ ١٦
٢٩ ـ إن كانت إلا صيحة واحدة................................................. ١٦
٣٠ ـ يا حسرة على العباد....................................................... ١٧
٣١ ـ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم................................................... ١٧
٣٢ ـ وان كل لما جميع لدينا محضرون.............................................. ١٧
٣٣ ـ وآية لهم الأرض الميتة....................................................... ١٨
٣٤ ـ وجعلنا فيها جنات......................................................... ١٨
٣٥ ـ ليأكلوا من ثمرة............................................................ ١٨
٣٦ ـ سبحان الذي خلق الأزواج.................................................. ١٩
٣٧ ـ وآية لهم الليل............................................................. ١٩
٣٨ ـ والشمس تجري لمستقر لها................................................... ٢٠
٣٩ ـ والقمر قدرناه منازل........................................................ ٢٠
٤٠ ـ لا الشمس ينبغي لها....................................................... ٢١
٤١ ـ وآية لهم أنا حملنا
ذريّتهم.................................................... ٢٤
٤٢ ـ وخلقنا لهم من مثله........................................................ ٢٤
٤٣ و ٤٤ ـ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم........................................ ٢٥
٤٥ ـ وإذا قيل لهم اتقوا.......................................................... ٢٥
٤٦ ـ وما تأتيهم من آية......................................................... ٢٥
٤٧ ـ وإذا قيل لهم انفقوا......................................................... ٢٥
٤٨ ـ الى ٥٠ ـ ويقولون متى هذا الوعد............................................ ٢٦
٥١ ـ ونفخ في الصور........................................................... ٢٨
٥٢ ـ قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا............................................. ٢٨
٥٣ ـ إن كانت إلا صيحة واحدة................................................. ٢٨
٥٤ ـ فاليوم لا تظلم نفس شيئاً................................................... ٢٩
٥٥ ـ إن اصحاب الجنة.......................................................... ٢٩
٥٦ ـ هم وأزواجهم في ظلال..................................................... ٢٩
٥٧ ـ لهم فيها فاكهة............................................................ ٢٩
٥٨ ـ سلام قولاً من رب رحيم.................................................... ٣٠
٥٩ ـ وامتازوا اليوم ايها المجرمون................................................... ٣١
٦٠ و ٦١ ـ ألم أعهد اليكم يا بني آدم............................................ ٣٢
٦٢ ـ ولقد أضل منكم جبلاً..................................................... ٣٢
٦٣ و ٦٤ ـ هذه جهنم التي كنتم توعدون......................................... ٣٣
٦٥ ـ اليوم نختم على أفواهم..................................................... ٣٣
٦٦ ـ ولو نشاء لطمسنا على أعينهم.............................................. ٣٤
٦٧ ـ ولو نشاء لمسخناهم....................................................... ٣٤
٦٨ ـ ومن نعمره ننكسه......................................................... ٣٥
٦٩ و ٧٠ ـ وما علمناه الشعر................................................... ٣٥
٧١ ـ أو لم يروا أنا خلقنا لهم..................................................... ٣٧
٧٢ ـ وذللناها لهم.............................................................. ٣٨
٧٣ ـ ولهم فيها منافع ومشارب................................................... ٣٨
٧٤ ـ واتخذوا من دون الله آلهة.................................................... ٣٨
٧٥ ـ لا يستطيعون نصرهم...................................................... ٣٩
٧٦ ـ فلا يحزنك قولهم........................................................... ٣٩
٧٧ ـ أو لم ير الانسان انا خلقناه................................................. ٤٠
٧٨ ـ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه................................................ ٤٠
٧٩ ـ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة............................................. ٤١
٨٠ ـ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر
ناراً..................................... ٤١
٨١ ـ أو ليس الذي خلق السماوات............................................... ٤٢
٨٢ ـ إنما امره إذا اراد شيئاً....................................................... ٤٢
٨٣ ـ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء....................................... ٤٣
سورة الصَّافات
١ الى ٥ ـ والصّافات صفاً....................................................... ٤٥
٦ ـ إنا زينا السماء الدنيا......................................................... ٤٧
٧ ـ الى ١٠ ـ وحفظاً من كل شيطان............................................... ٤٧
١١ ـ فاستفتهم أهم أشد خلقاً................................................... ٥٠
١٢ ـ بل عجبت ويسخرون...................................................... ٥٠
١٣ ـ وإذا ذكروا لا يذكرون...................................................... ٥١
١٤ الى ١٩ ـ وإذا رأوا آية یستسخرون............................................ ٥١
٢٠ ـ قالوا
یا ویلنا هذا يوم الدين................................................. ٥٢
٢١ ـ هذا يوم الفصل........................................................... ٥٢
٢٢ و ٢٣ ـ احشروا الذين ظلموا................................................. ٥٢
٢٤ ـ وقفوهم انهم مسؤولون...................................................... ٥٣
٢٥ ـ ما لكم لا تناصرون........................................................ ٥٣
٢٦ ـ بل هم اليوم مستسلمون.................................................... ٥٣
٢٧ و ٢٨ ـ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.................................... ٥٤
٢٩ ـ قالوا بل لم تكونوا مؤمنين................................................... ٥٥
٣٠ و ٣١ ـ وما كان لنا عليكم من سلطان........................................ ٥٥
٣٢ ـ فأغويناكم إنا كنا غاوين.................................................... ٥٥
٣٣ ـ فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون............................................ ٥٦
٣٤ ـ إنا كذلك نفعل بالمجرمين.................................................... ٥٦
٣٥ و ٣٦ ـ انهم كانوا إذ قيل لهم لا إله
إلا الله..................................... ٥٦
٣٧ ـ بل جاء بالحق............................................................. ٥٦
٣٨ ـ انكم لذائقو العذاب....................................................... ٥٧
٣٩ ـ وما تجزون إلا ما كنتم تعلمون............................................... ٥٧
٤٠ ـ إلا عباد الله المخلصين..................................................... ٥٨
٤١ ـ أولئك لهم رزق معلوم...................................................... ٥٨
٤٢ ـ فواكه وهم مكرمون........................................................ ٥٨
٤٣ و ٤٤ ـ في جنات النعيم..................................................... ٥٩
٤٥ ـ يطاف عليهم بكأس من معين............................................... ٥٩
٤٦ و ٤٧ ـ بيضاء لذة للشاربين................................................. ٥٩
٤٨ ـ وعندهم قاصرات الطرف................................................... ٦٠
٤٩ ـ كأنهن بيض مكنون........................................................ ٦٠
٥٠ ـ فأقبل بعض على بعض يتسأءلون........................................... ٦١
٥١ ـ قال قائل منهم............................................................ ٦١
٥٢ ـ يقول أثنك لمن المصدقين................................................... ٦١
٥٣ ـ إإذا كنا تراباً وعظاماً....................................................... ٦١
٥٤ ـ قال هل أنتم مطلعون...................................................... ٦٢
٥٥ ـ فاطلع فرآه في سواء الجحيم................................................. ٦٢
٥٦ ـ قال تالله إن كدت......................................................... ٦٢
٥٧ ـ ولولا نعمة ربي............................................................ ٦٢
٥٨ و ٥٩ ـ أفما نحن بميتين..................................................... ٦٢
٦٠ ـ إن هذا لهو الفوز العظيم.................................................... ٦٣
٦١ ـ لمثل هذا فليعمل العاملون................................................... ٦٣
٦٢ ـ أذلك خير نزلاً............................................................ ٦٤
٦٣ ـ إنا جعلناها فتنة للظالمين.................................................... ٦٥
٦٤ ـ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم............................................. ٦٥
٦٥ ـ طلعها كأنه روؤس الشياطين................................................ ٦٥
٦٦ ـ فإنهم لآکلون منها......................................................... ٦٥
٦٧ ـ ثم ان
لهم عليها لشوياً من حميم.............................................. ٦٦
٦٨ ـ ثم ان مرجعهم لإلى جهنم................................................... ٦٦
٦٩ ـ انهم الغوا اباءهم ضالين.................................................... ٦٦
٧٠ ـ فهم على اثارهم يهرعون.................................................... ٦٦
٧١ ـ ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين............................................... ٦٦
٧٢ ـ ولقد ارسلنا فيهم منذوين................................................... ٦٦
٧٣ ـ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين.............................................. ٦٧
٧٤ ـ إلا عباد الله المخلصين..................................................... ٦٧
٧٥ ـ ولقد نادانا نوح........................................................... ٦٧
٧٦ ـ ونجيناه وأهله.............................................................. ٦٧
٧٧ ـ وجعلنا ذريته هم الباقين.................................................... ٦٨
٧٨ ـ وتركنا عليه في الآخرين..................................................... ٦٨
٧٩ ـ سلام على نوح............................................................ ٦٩
٨٠ ـ انا كذلك نجزي المحسنين.................................................... ٦٩
٨١ ـ انه من عبادنا المؤمنين...................................................... ٦٩
٨٢ ـ ثم اغرقنا الآخرین.......................................................... ٦٩
٨٣ ـ وان من شيعته............................................................. ٦٩
٨٤ ـ إذ جاء ربه بقلب سليم..................................................... ٧٠
٨٥ ـ إذ قال لأبيه وقومه........................................................ ٧١
٨٦ ـ إإفكأ آلهة دون الله تريدون.................................................. ٧١
٨٧ ـ فما ظنكم برب العالمين..................................................... ٧١
٨٨ إلى ٩٠ ـ فنظر نظرة في النجوم............................................... ٧٢
٩١ و ٩٢ ـ فراغ الى الهتهم...................................................... ٧٢
٩٣ ـ فراغ عليهم ضرباً باليمين................................................... ٧٢
٩٤ ـ فأقبلوا إليه يزفون.......................................................... ٧٣
٩٥ ـ قال اتعبدون ما تنحتون.................................................... ٧٣
٩٦ ـ والله خلقكم وما تعملون.................................................... ٧٣
٩٧ ـ قالوا ابنوا له بنياناً.......................................................... ٧٤
٩٨ ـ فارادوا به كيداً............................................................ ٧٤
٩٩ ـ وقال اني ذاهب الى ربي.................................................... ٧٥
١٠٠ ـ رب هب لي من الصالحين................................................. ٧٥
١٠١ ـ فبشرناه بغلام حليم...................................................... ٧٦
١٠٢ ـ فلما بلغ معه السعي...................................................... ٧٦
١٠٣ ـ فلما اسلما وتله الجبين.................................................... ٧٦
١٠٤ و ١٠٥ ـ وناديناه أن يا ابراهيم............................................. ٧٧
١٠٦ ـ إن هذا لهو البلاء المبين................................................... ٧٨
١٠٧ ـ وفديناه بذبح عظيم...................................................... ٧٩
١٠٨ إلى ١١١ ـ وتركنا عليه في الآخرین.......................................... ٧٩
١١٢ ـ وبشرناه باسحق......................................................... ٧٩
١١٣ ـ وباركنا عليه وعلى اسحاق................................................ ٧٩
١١٤ ـ ولقد مننا على موسى وهارون............................................. ٨١
١١٥ ـ ونجيناهما وقومهما........................................................ ٨١
١١٦ ـ ونصرناهم.............................................................. ٨١
١١٧ ـ واتيناهم الكتاب المستبين................................................. ٨١
١١٨ الى ١٢٢ ـ وهديناهما الصراط
المستقيم....................................... ٨١
١٢٣ ـ وان إلياس لمن المرسلين.................................................... ٨٢
١٢٤ إلى ١٢٦ ـ إذ قال لقومه ألا تتقون.......................................... ٨٢
١٢٧ إلى ١٣٢ ـ فكذبوه فإنهم لمحضرون........................................... ٨٣
١٣٣ الى ١٣٥ ـ وان لوطاً لمن المرسلين............................................ ٨٥
١٣٦ ـ ثم دمرنا الآخرین......................................................... ٨٥
١٣٧ ـ وإنكم
لتمرون عليهم..................................................... ٨٥
١٣٨ ـ وبالليل افلا تعقلون...................................................... ٨٥
١٣٩ إلى ١٤١ ـ وإن يونس لمن المرسلين.......................................... ٨٦
١٤٢ ـ فالتقمة الحوت وهو مليم.................................................. ٨٧
١٤٣ و ١٤٤ ـ فلولا انه كان من المسيحين........................................ ٨٧
١٤٥ ـ فنبذناه بالعراء........................................................... ٨٨
١٤٦ ـ وانبتنا عليه شجرة........................................................ ٨٨
١٤٧ و ١٤٨ ـ وأرسلناه إلى مئة الف............................................. ٨٨
١٤٩ و ١٥٠ ـ فاستفتهم ألربك البنات........................................... ٨٩
١٥١ و ١٥٢ ـ ألا إنهم من افكهم ليقولون
ولد الله................................. ٩٠
١٥٣ ـ أصطفى البنات على البنين................................................ ٩٠
١٥٤ ـ ما لكم كيف تحكمون.................................................... ٩٠
١٥٥ ـ أفلا تذكرون............................................................ ٩٠
١٥٦ و ١٥٧ ـ أم لكم سلطان مبين............................................. ٩٠
١٥٨ ـ وجعلوا بينه وبين الجنة سبباً................................................ ٩١
١٥٩ و ١٦٠ ـ سبحان الله عما يصفون.......................................... ٩١
١٦١ إلى ١٦٣ ـ فإنكم وما تعبدون.............................................. ٩١
١٦٤ إلى ١٦٦ ـ وما منا إلا له مقام.............................................. ٩٢
١٦٧ إلى ١٦٩ ـ وإن كانوا ليقولون............................................... ٩٣
١٧٠ ـ فكفروا به فسوف يعلمون................................................. ٩٤
١٧١ ـ إلى ١٧٣ ـ ولقد سبقت كلمتنا............................................ ٩٥
١٧٤ و ١٧٥ ـ فتول عنهم حتى حين............................................. ٩٥
١٧٦ و ١٧٧ ـ أفبعذابنا يستعجلون.............................................. ٩٥
١٧٨ و ١٧٩ ـ وتول عنهم حتى حين............................................. ٩٦
١٨٠ إلى ١٨٢ ـ سبحان ربك العزة.............................................. ٩٦
سورة ص
١ ـ والقرآن ذي الذكر........................................................... ٩٧
٢ ـ بل الذين كفروا............................................................. ٩٨
٣ ـ كم اهكلنا من قبلهم......................................................... ٩٨
٤ ـ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم................................................ ٩٨
٥ ـ أجعل الالهة إلهاً واحداً....................................................... ٩٩
٦ ـ وانطلق الملأ ان امشوا واصبروا................................................. ٩٩
٧ ـ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة................................................. ١٠٠
٨ ـ أأنزل
عليه الذكر من بيننا................................................... ١٠٠
٩ و ١٠ ـ ام عندهم خزائن رحمة ربك........................................... ١٠١
١١ ـ جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب......................................... ١٠٢
١٢ ـ كذبت قبلهم قوم نوح.................................................... ١٠٢
١٣ ـ وثمود وقوم لوط......................................................... ١٠٣
١٤ ـ إن كل إلاّ كذب الرسل................................................... ١٠٣
١٥ ـ وما ينظر هؤلاء.......................................................... ١٠٤
١٦ ـ وقالوا ربنا عجل لنا قطنا.................................................. ١٠٥
١٧ ـ واصبر على ما يقولون.................................................... ١٠٥
١٨ ـ إنا سخرنا الجبال معه..................................................... ١٠٦
١٩ ـ والطير محشورة كل له اواب................................................ ١٠٧
٢٠ ـ وشددنا ملكه........................................................... ١٠٧
٢١ ـ وهل أتاك نبأ الخصم..................................................... ١٠٨
٢٢ ـ إذ دخلوا على داود...................................................... ١٠٨
٢٣ ـ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة........................................ ١٠٩
٢٤ ـ قال لقد ظلمك بسؤال................................................... ١٠٩
٢٥ ـ فغفرنا له ذلك........................................................... ١١١
٢٦ ـ يا داود إنا جعلناك خليفة................................................. ١١٢
٢٧ ـ وما خلقنا السماء والأرض................................................ ١١٣
٢٨ ـ ام نجعل الذين آمنوا...................................................... ١١٣
٢٩ ـ کتاب
انزلناه إليك مبارك.................................................. ١١٤
٣٠ ـ ووهبنا لداود سليمان..................................................... ١١٤
٣١ و ٣٢ ـ إذ عرض عليه بالعشي............................................. ١١٥
٣٣ ـ ردوها عليّ.............................................................. ١١٦
٣٤ ـ ولقد فتنا سليمان........................................................ ١١٧
٣٥ ـ قال رب اغفرلي.......................................................... ١١٨
٣٦ ـ فسخرنا له الريح......................................................... ١١٩
٣٧ ـ والشياطين كل بناء وغواص............................................... ١١٩
٣٨ ـ وآخرین مقرنين في الاصفاد................................................ ١١٩
٣٩ ـ هذا عطاؤنا............................................................. ١١٩
٤٠ ـ وإن له عندنا لزلفى...................................................... ١٢٠
٤١ ـ واذكر عبدنا أيوب....................................................... ١٢٠
٤٢ ـ اركض برجلك هذا مغتسل................................................ ١٢١
٤٣ ـ ووهبنا له أهله........................................................... ١٢١
٤٤ ـ وخذ بيدك ضغثاً......................................................... ١٢١
٤٥ ـ وإذكر عبادنا ابراهيم واسحاق............................................. ١٢٣
٤٦ ـ إنا أخلصناهم بخالصة.................................................... ١٢٤
٤٧ ـ وإنهم عندنا لمن المصطفين................................................. ١٢٤
٤٨ ـ وإذكر اسماعيل واليسع.................................................... ١٢٤
٤٩ ـ هذا ذكر وان للمتقين لحسن مآب......................................... ١٢٥
٥٠ ـ جنات عدن............................................................. ١٢٥
٥١ ـ متكثين فيها............................................................. ١٢٥
٥٢ ـ وعندهم قاصرات الطرف................................................. ١٢٦
٥٣ ـ هذا ما توعدون ليوم الحساب.............................................. ١٢٦
٥٤ ـ إن هذا لرزقنا ما له من نفاد............................................... ١٢٦
٥٥ ـ هذا وإن للطاغين لشر مآب.............................................. ١٢٧
٥٦ ـ جهنم يصلونها فبئس المهاد................................................ ١٢٧
٥٧ ـ هذا فليذوقوا حميم وغساق................................................ ١٢٧
٥٨ ـ وآخر من شکله ازواج.................................................... ١٢٨
٥٩ و ٦٠ ـ هذا فوج مقتحم معكم............................................. ١٢٨
٦١ ـ قالوا ربنا من قدم لنا هذا.................................................. ١٢٨
٦٢ ـ وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً................................................. ١٢٩
٦٣ ـ اتخذناهم سخرياً......................................................... ١٢٩
٦٤ ـ إن ذلك لحق مخاصم أهل النار............................................ ١٣٠
٦٥ و ٦٦ ـ قل إنما انا منذر................................................... ١٣١
٦٧ و ٦٨ ـ قل هو نبأ عظيم أنتم عنه
معرضون.................................. ١٣١
٦٩ ـ ما كان لي من علم بالملإ الاعلى........................................... ١٣٢
٧٠ ـ إن يوحى إلىّ............................................................ ١٣٢
٧١ و ٧٢ ـ إذ قال ربك للملائكة.............................................. ١٣٣
٧٣ و ٧٤ ـ فسجد الملائكة كلهم أجمعون....................................... ١٣٤
٧٥ ـ قال يا إبليس ما منعك أن تسجد.......................................... ١٣٥
٧٦ ـ قال انا خير منه.......................................................... ١٣٥
٧٧ ـ قال فاخرج منها فإنك رجيم............................................... ١٣٦
٧٨ ـ وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين............................................. ١٣٦
٧٩ ـ قال رب فانظرني في...................................................... ١٣٧
٨٠ و ٨١ ـ قال فإنك من المنظرين.............................................. ١٣٧
٨٢ و ٨٣ ـ قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين........................................ ١٣٧
٨٤ و ٨٥ ـ قال فالحق والحق أقول.............................................. ١٣٧
٨٦ ـ قل ما اسألكم عليه من أجر.............................................. ١٣٨
٨٧ ـ إن هو إلا ذكر للعالمين................................................... ١٣٨
٨٨ ـ ولتعلمن نبأه بعد حين.................................................... ١٣٨
سورة الزمر
١ ـ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.......................................... ١٣٩
٢ ـ إنا انزلنا إليك الكتاب..................................................... ١٣٩
٣ ـ ألا لله الدين الخالص....................................................... ١٤٠
٤ ـ لو اراد الله أن يتخذ ولداً................................................... ١٤٢
٥ ـ خلق السماوات والأرض.................................................... ١٤٣
٦ ـ خلقكم من نفس واحدة.................................................... ١٤٤
٧ ـ إن تكفروا فإن الله غني عنكم............................................... ١٤٦
٨ ـ وإذا مس الانسان ضر دعا ربه.............................................. ١٤٨
٩ ـ أمن هو قانت آنله الليل.................................................... ١٤٨
١٠ ـ قل يا عبادي الدين آمنوا.................................................. ١٤٩
١١ و ١٢ ـ قل إني
أمرت أن أعبد الله........................................... ١٥١
١٣ ـ قل إني اخاف
إن عصيت ربي............................................. ١٥١
١٤ و ١٥ ـ قل الله
أعبد مخلصاً له ديني......................................... ١٥١
١٦ ـ لهم من فوقهم
ظلل من النار............................................... ١٥٢
١٧ و ١٨ ـ والذين
اجتنبوا الطاغوت............................................ ١٥٣
١٩ ـ أفمن حق عليه
كلمة العذاب.............................................. ١٥٤
٢٠ ـ لكن الذين
اتقوا ربهم..................................................... ١٥٥
٢١ ـ ألم تر أن
الله انزل من السماء ماء.......................................... ١٥٥
٢٢ ـ أفمن شرح الله صدره للإسلام............................................. ١٥٧
٢٣ ـ الله نزل احسن الحديث................................................... ١٥٨
٢٤ ـ أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب............................................ ١٥٩
٢٥ و ٢٦ ـ كذب الذين من قبلهم.............................................. ١٦٠
٢٧ ـ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من کل مثل................................ ١٦٠
٢٨ ـ قراناً
عربياً............................................................... ١٦١
٢٩ ـ ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء............................................ ١٦١
٣٠ و ٣١ ـ انك ميت وانهم ميتون.............................................. ١٦٢
٣٢ ـ فمن أظلم ممن كذب..................................................... ١٦٣
٣٣ ـ والذي جاء بالصدق..................................................... ١٦٤
٣٤ و ٣٥ ـ لهم ما يشاوؤن عند ربهم............................................ ١٦٤
٣٦ و ٣٧ ـ أليس الله بكاف عبده.............................................. ١٦٤
٣٨ ـ ولئن سألتهم من خلق السماوات.......................................... ١٦٦
٣٩ و ٤٠ ـ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم...................................... ١٦٧
٤١ ـ إنا انزلنا عليك الكتاب................................................... ١٦٨
٤٢ ـ الله يتوفّى الانفس حين موتها............................................... ١٦٩
٤٣ ـ ام اتخذوا من دون الله شفعاء............................................... ١٧١
٤٤ ـ قل الله الشفاعة جميعاً.................................................... ١٧١
٤٥ ـ وإذا ذكر الله وحده أشمأزت قلوب.......................................... ١٧٢
٤٦ ـ قل اللهم فاطر السماوات والأرض......................................... ١٧٢
٤٧ ـ ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض.......................................... ١٧٣
٤٨ ـ وبدا لهم سيئات ما كسبوا................................................. ١٧٤
٤٩ ـ فإذا مس الإنسان ضر.................................................... ١٧٤
٥٠ و ٥١ ـ قد قالها الذين من قبلهم............................................ ١٧٥
٥٢ ـ أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق........................................... ١٧٦
٥٣ ـ قل يا عبادي الذين أسرفوا................................................ ١٧٨
٥٤ و ٥٥ ـ وأنيبوا إلى ربكم................................................... ١٧٩
٥٦ ـ أن نقول نفس يا حسرتي.................................................. ١٧٩
٥٧ ـ أو تقول لو أن الله هداني................................................. ١٧٩
٥٨ ـ أو تقول حين ترى العذاب................................................ ١٨٠
٥٩ ـ بل قد جاءتك آیاتي...................................................... ١٨٠
٦٠ ـ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على
الله...................................... ١٨٠
٦١ ـ وينجي الله الذين اتقوا.................................................... ١٨١
٦٢ و ٦٣ ـ الله خالق كل شيء................................................ ١٨٢
٦٤ ـ قل أفغير الله تأمروني أعبد................................................. ١٨٣
٦٥ ـ ولقد أوحي إليك........................................................ ١٨٤
٦٦ ـ بل الله فاعبد وكن من الشاكرين........................................... ١٨٤
٦٧ ـ وما قدروا الله حق قدره................................................... ١٨٥
٦٨ ـ ونفخ في الصور.......................................................... ١٨٧
٦٩ ـ وأشرقت الارض بنور ربها................................................. ١٨٨
٧٠ ـ ووفيت كل نفس ما عملت............................................... ١٨٨
٧١ ـ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً........................................... ١٨٩
٧٢ ـ قيل ادخلوا ابواب جهنم.................................................. ١٩٠
٧٣ ـ وسيق الدين اتقوا ربهم إلى الجنة............................................ ١٩٢
٧٤ ـ وقالوا الحمد لله الذي صدّقنا.............................................. ١٩٢
٧٥ ـ وترى الملائكة حافّين..................................................... ١٩٣
سورة المؤمن
١ ـ حم...................................................................... ١٩٥
٢ و ٣ ـ تنزيل الكتاب من الله.................................................. ١٩٦
٤ ـ ما يجادل في آیات الله...................................................... ١٩٦
٥ ـ کذبت
قبلهم قوم نوح...................................................... ١٩٦
٧ ـ وكذلك حقّت كلمة ربك................................................... ١٩٧
٧ ـ الذين يحملون العرش ومن حوله............................................. ١٩٨
٨ ـ ربنا وأدخلهم جنات عدن.................................................. ١٩٩
٩ ـ وقهم السيئات............................................................ ١٩٩
١٠ ـ إن الذين كفروا ينادون لمقت الله
أكبر...................................... ٢٠٢
١١ ـ قالوا ربنا أمتنا اثنتين...................................................... ٢٠٢
١٢ ـ ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده............................................. ٢٠٣
١٣ ـ هو الذي يريكم آیاته..................................................... ٢٠٤
١٤ ـ فادعوا
الله مخلصين له الدين............................................... ٢٠٤
١٥ ـ رفيع الدرجات ذو العرش.................................................. ٢٠٤
١٦ ـ يوم هم بارزون.......................................................... ٢٠٤
١٧ ـ اليوم تجزي كل نفس..................................................... ٢٠٥
١٨ ـ وأنذرهم يوم الآزفة....................................................... ٢٠٥
١٩ ـ يعلم خائنة الأعين....................................................... ٢٠٦
٢٠ ـ والله يقضي بالحق........................................................ ٢٠٦
٢١ ـ أو لم يسيروا في الأرض................................................... ٢٠٧
٢٢ ـ ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم........................................... ٢٠٧
٢٣ و ٢٤ ـ ولقد أرسلنا موسى
بآیاتنا........................................... ٢٠٨
٢٥ ـ فلما جاءهم بالحق من عندنا.............................................. ٢٠٩
٢٦ ـ وقال فرعون ذروني أقتل موسى............................................ ٢١٠
٢٧ ـ وقال موسى : إني عدت بربي.............................................. ٢١٠
٢٨ ـ وقال رجل مؤمن من آل فرعون............................................ ٢١٢
٢٩ ـ يا قوم لكم الملك اليوم.................................................... ٢١٣
٣٠ و ٣١ ـ وقال الذي آمن یا قوم............................................. ٢١٤
٣٢ ـ ویا
قوم إني اخاف عليكم................................................. ٢١٤
٣٣ ـ يوم تولون إني أخاف عليكم.............................................. ٢١٤
٣٤ ـ ولقد جاءكم يوسف من قبل.............................................. ٢١٥
٣٥ ـ الذين يجادلون في آیات الله................................................ ٢١٦
٣٦ و ٣٧
ـ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً.................................. ٢١٧
٣٨ ـ وقال الذي آمن یا قوم اتبعون............................................. ٢١٩
٣٩ ـ یا قوم
انما هذه الدنيا متاع................................................. ٢١٩
٤٠ ـ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها.......................................... ٢٢٠
٤١ ـ ويا قوم ما لي أدعوكم.................................................... ٢٢٠
٤٢ ـ تدعوني لأكفر بالله...................................................... ٢٢٠
٤٣ ـ لا جرم أن ما تدعونني إليه................................................ ٢٢٠
٤٤ ـ فستذكرون ما اقول لكم.................................................. ٢٢١
٤٥ ـ فوقاه الله سيئات ما مكروا................................................. ٢٢١
٤٦ ـ النار يعرضون عليها غدواً................................................. ٢٢٢
٤٧ ـ وإذ يتحاجون في النار.................................................... ٢٢٤
٤٨ ـ قال الذين استكبروا...................................................... ٢٢٤
٤٩ ـ قال الذين في النار لخزنة جهنم............................................. ٢٢٤
٥٠ ـ قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم
بالبينات..................................... ٢٢٤
٥١ ـ إنا لننصر رسلنا.......................................................... ٢٢٥
٥٢ ـ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم.............................................. ٢٢٥
٥٣ و ٥٤ ـ ولقد آتینا موسى الهدى............................................ ٢٢٦
٥٥ ـ فاصبر إن وعد الله حق................................................... ٢٢٦
٥٦ ـ إن الذين يجادلون في آیات الله............................................. ٢٢٧
٥٧ ـ لخلق
السماوات والأرض.................................................. ٢٢٨
٥٨ ـ وما يستوي الأعمى والبصير............................................... ٢٢٨
٥٩ ـ إن الساعة آتية لا ريب فيها............................................... ٢٢٩
٦٠ ـ وقال ربكم ادعوني استجب لكم........................................... ٢٣٠
٦١ ـ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا
فيه...................................... ٢٣١
٦٢ ـ ذلكم الله ربكم خالق كل شيء............................................ ٢٣٢
٦٣ ـ كذلك يؤفك الذين كانوا.................................................. ٢٣٢
٦٤ ـ الله الذي جعل لكم الارض قراراً........................................... ٢٣٣
٦٥ ـ هو الحي لا إله إلا هو.................................................... ٢٣٤
٦٦ ـ قل إلي نهيت أن أعبد.................................................... ٢٣٥
٦٧ ـ هو الذي خلقكم من تراب................................................ ٢٣٥
٦٨ ـ هو الذي يحيي ويميت.................................................... ٢٣٦
٦٩ ـ ألم تر إلى الذين يجادلون.................................................. ٢٣٨
٧٠ إلى ٧٢ ـ الذين كذبوا بالكتاب............................................. ٢٣٨
٧٣ و ٧٤ ـ ثم قيل لهم اين ما كنتم
تشركون...................................... ٢٣٩
٧٥ ـ ذلكم بما كنتم تفرحون................................................... ٢٤٠
٧٦ ـ ادخلوا ابواب جهنم...................................................... ٢٤٠
٧٧ ـ فاصبر إن وعد الله حق................................................... ٢٤١
٧٨ ـ ولقد ارسلنا رسلاً من قبلك................................................ ٢٤١
٧٩ ـ الله الذي جعل لكم الانعام............................................... ٢٤٣
٨٠ ـ ولكم فيها منافع......................................................... ٢٤٣
٨١ ـ ويريكم آیاته فأي آیات الله تنکرون........................................ ٢٤٤
٨٢ ـ أفلم
يسيروا في الارض.................................................... ٢٤٥
٨٣ ـ فلما جاءتهم رسلهم بالبينات.............................................. ٢٤٥
٨٤ ـ فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا.................................................. ٢٤٦
٨٥ ـ فلم یک
ینفعهم إيمانهم................................................... ٢٤٦
سورة فصلت
١ ـ حم...................................................................... ٢٤٩
٢ ـ تنزيل من الرحمن الرحيم..................................................... ٢٥٠
٣ و ٤ ـ كتاب فصلت آیاته.................................................... ٢٥٠
٥ ـ وقالوا قلوبنا
فی أكنة....................................................... ٢٥١
٦ و ٧ ـ قل إنما
انا بشر مثلكم................................................. ٢٥١
٨ ـ إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات............................................ ٢٥٣
٩ ـ قل أثنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض....................................... ٢٥٣
١٠ ـ وجعل فيها رواسي....................................................... ٢٥٥
١١ ـ ثم استوى إلى السماء..................................................... ٢٥٧
١٢ ـ فقضاهن سبع سماوات.................................................... ٢٥٨
١٣ ـ فإن اعرضوا فقل انذرتكم................................................. ٢٦٠
١٤ ـ إذ جاء الرسل من بين ايديهم.............................................. ٢٦١
١٥ ـ فأما عاد فاستكبروا في الأرض............................................. ٢٦١
١٦ ـ فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً................................................ ٢٦١
١٧ ـ وأما ثمود فهديناهم....................................................... ٢٦٣
١٨ ـ ونجينا الذين آمنوا........................................................ ٢٦٥
١٩ و ٢٠ ـ ویوم
یحشر اعداء الله............................................... ٢٦٦
٢١ ـ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا............................................. ٢٦٧
٢٢ ـ وما كنتم تستترون........................................................ ٢٦٨
٢٣ ـ وذلكم ظنكم........................................................... ٢٦٩
٢٤ ـ فإن يصبروا فالنار مثوى لكم.............................................. ٢٧١
٢٥ ـ وقبضنا لهم قرناء......................................................... ٢٧١
٢٦ ـ وقال الذين كفروا........................................................ ٢٧٢
٢٧ ـ فلنذيقن الذين كفروا...................................................... ٢٧٣
٢٨ ـ ذلك جزاء اعداء الله..................................................... ٢٧٣
٢٩ ـ وقال الذين كفروا ربنا أرنا................................................. ٢٧٣
٣٠ ـ إن الذين قالوا ربنا الله.................................................... ٢٧٤
٣١ ـ نحن أوليائكم في الحياة الدنيا.............................................. ٢٧٥
٣٢ ـ نزلاً من غفور رحيم...................................................... ٢٧٥
٣٣ ـ ومن احسن قولاً......................................................... ٢٧٥
٣٤ ـ ولا تستوى الحسنة ولا السيئة.............................................. ٢٧٦
٣٥ ـ وما يلقاها إلا الذين صبروا................................................ ٢٧٨
٣٦ ـ واما ينزغنك من الشيطان................................................. ٢٧٨
٣٧ ـ ومن آیاته اللیل والنهار................................................... ٢٧٩
٣٨ ـ فإن
استكبروا فالذين عند ربك............................................. ٢٨٠
٣٩ ـ ومن آیاته انک ترى
الأرض خاشعة........................................ ٢٨١
٤٠ ـ إن الذين يلحدون....................................................... ٢٨١
٤١ ـ إن الذين كفروا بالذكر لما جاء هم.......................................... ٢٨٣
٤٢ ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه............................................... ٢٨٣
٤٣ ـ ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل.......................................... ٢٨٤
٤٤ ـ ولو جعلناه قراناً أعجمياً.................................................. ٢٨٤
٤٥ ـ ولقد آتینا موسى
الكتاب................................................. ٢٨٦
٤٦ ـ من عمل صالحاً فلنفسه................................................... ٢٨٦
٤٧ و ٤٨ ـ إليه يرد علم الساعة............................................... ٢٨٧
٤٩ ـ لا يسأم الإنسان من دعاء الخير........................................... ٢٨٩
٥٠ ـ ولئن اذقناه رحمة منا...................................................... ٢٩٠
٥١ ـ وإذا أنعمنا على الانسان.................................................. ٢٩١
٥٢ ـ قل أرايتم إن كان من عند الله............................................. ٢٩١
٥٣ ـ سنريهم آیاتنا فی الآفاق.................................................. ٢٩٢
٥٤ ـ ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم.............................................. ٢٩٣
سورة الشورى
١ و ٢ ـ حم عسق............................................................ ٢٩٥
٣ ـ كذلك يوحي إليك........................................................ ٢٩٦
٤ ـ له ما في السماوات وما في الأرض........................................... ٢٩٧
٥ ـ تكاد السماوات يتفطرون من فوقهن......................................... ٢٩٧
٦ ـ والذين اتخذوا من دونه أولياء................................................ ٢٩٨
٧ ـ وكذلك أوحينا إليك....................................................... ٢٩٩
٨ ـ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة.............................................. ٣٠٠
٩ ـ ام اتخذوا من دونه أولياء.................................................... ٣٠١
١٠ ـ وما اختلفتم فيه من شيء................................................. ٣٠٢
١١ ـ فاطر السماوات والأرض.................................................. ٣٠٢
١٢ ـ له مقاليد السماوات والأرض.............................................. ٣٠٣
١٣ ـ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً....................................... ٣٠٣
١٤ ـ وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم
العلم...................................... ٣٠٥
١٥ ـ فلذلك فادع واستقم كما امرت............................................ ٣٠٦
١٦ ـ والذين يحاجون في الله.................................................... ٣٠٨
١٧ ـ الله الذي انزل الكتاب بالحق.............................................. ٣٠٩
١٨ ـ يستعجل بها الذين لا يؤمنون.............................................. ٣١٠
١٩ ـ الله لطيف بعباده......................................................... ٣١٠
٢٠ ـ من كان يريد حرث الآخرة................................................ ٣١٠
٢١ ـ أم لهم شركاء............................................................ ٣١٢
٢٢ ـ ترى الظالمين مشفقين..................................................... ٣١٢
٢٣ ـ ذلك الذي يبشر الله عباده................................................ ٣١٣
٢٤ ـ ام يقولون افترى على الله.................................................. ٣١٧
٢٥ ـ وهوالذي يقبل التوبة على عبادة........................................... ٣١٧
٢٦ ـ ويستجيب الذين آمنوا.................................................... ٣١٨
٢٧ ـ ولو بسط
الله الرزق...................................................... ٣١٩
٢٨ ـ وهو الذي ينزل الغيث.................................................... ٣١٩
٢٩ ـ ومن آیاته خلق السماوات والأرض......................................... ٣٢٠
٣٠ ـ وما أصابكم من مصيبة................................................... ٣٢٠
٣١ ـ وما أنتم بمجزين في الأرض................................................ ٣٢١
٣٢ و ٣٣ ـ ومن آیاته الجوار في البحر........................................... ٣٢٢
٣٤ ـ أو يربقهن بما كسبوا...................................................... ٣٢٣
٣٥ ـ ويعلم الذين يجادلون..................................................... ٣٢٣
٣٦ ـ فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة
الدنيا...................................... ٣٢٣
٣٧ ـ والذين يجتنبون كبائر الإثم................................................. ٣٢٤
٣٨ ـ والذين استجابوا لربهم.................................................... ٣٢٤
٣٩ ـ والذين إذا أصابهم البغي.................................................. ٣٢٥
٤٠ ـ وجزاء سيئة سيئة مثلها.................................................... ٣٢٦
٤١ ـ ولمن انتصر بعد ظلمها.................................................... ٣٢٧
٤٢ ـ إنما السبيل على الذين يظلمون
الناس....................................... ٣٢٧
٤٣ ـ ولمن صبر وغفر.......................................................... ٣٢٧
٤٤ ـ ومن يضلل الله فما له من ولي............................................. ٣٢٨
٤٥ ـ وتراهم يعرضون عليها.................................................... ٣٢٨
٤٦ ـ ما كان لهم من أولياء..................................................... ٣٢٩
٤٧ ـ استجيبوا لربكم من قبل................................................... ٣٣٠
٤٨ ـ فإن أعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيظاً...................................... ٣٣٠
٤٩ و ٥٠ ـ لله ملك السماوات والأرض......................................... ٣٣١
٥١ ـ وما كان لبشر أن يكلمه الله
إلاوحياً........................................ ٣٣٣
٥٢ و ٥٣ ـ وكذلك أوحينا إليك............................................... ٣٣٤
سورة الزخرف
١ إلى ٣ ـ حم والكتاب المبين................................................... ٣٣٧
٤ ـ وإنه في ام الكتاب......................................................... ٣٣٨
٥ ـ أفنضرب عنكم الذكر ضفحاً............................................... ٣٣٨
٦ ـ وكم ارسلنا من نبي في الاولين............................................... ٣٣٩
٧ و ٨ ـ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به
مستهزئين................................. ٣٣٩
٩ ـ ولئن سألتهم من خلق السماوات............................................ ٣٤٠
١٠ ـ الذي جعل لكم الارض مهادا............................................. ٣٤٠
١١ ـ والذي نزل من السماء ماء بقدر........................................... ٣٤١
١٢ ـ والذي خلق الأزواج كلها.................................................. ٣٤١
١٣ و ١٤ ـ لتستووا على ظهوره................................................ ٣٤٢
١٥ ـ وجعلوا له من عباده جزءا................................................. ٣٤٤
١٦ و ١٧ ـ ام اتخذ مما يخلق بنات.............................................. ٣٤٤
١٨ ـ أو من ينشؤ في الحلية..................................................... ٣٤٥
١٩ ـ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد
الرحمن...................................... ٣٤٥
٢٠ ـ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم........................................... ٣٤٦
٢١ و ٢٢ ـ ام آتیناهم کتاباً.................................................... ٣٤٧
٢٣ ـ وکذلک
ما ارسلنا من قبلك............................................... ٣٤٧
٢٤ ـ قل او لو جئتكم بأهدى.................................................. ٣٤٨
٢٥ ـ فانتقمنا منهم........................................................... ٣٤٨
٢٦ و ٢٧ ـ وإذ قال ابراهيم لأبيه............................................... ٣٤٨
٢٨ ـ وجعلنا كلمة باقية في عقبه................................................ ٣٤٩
٢٩ ـ بل متعت هؤلاء......................................................... ٣٤٩
٣٠ ـ ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر........................................... ٣٤٩
٣١ ـ وقالوا لولا نزل هذا القرآن................................................. ٣٥٠
٣٢ ـ أهم
يقسمون رحمة ربك.................................................. ٣٥١
٣٣ إلى ٣٥ ـ ولولا ان يكون الناس أمة
واحدة.................................... ٣٥٢
٣٦ ـ ومن يعش عن ذكر الرحمن................................................ ٣٥٤
٣٧ ـ وانهم ليصدونهم عن السبيل............................................... ٣٥٤
٣٨ ـ حتى إذا جاءنا........................................................... ٣٥٥
٣٩ ـ ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم.............................................. ٣٥٥
٤٠ ـ أفأنت تسمع الصم...................................................... ٣٥٧
٤١ و ٤٢ ـ فإما تذهبن بك................................................... ٤٥٧
٤٣ ـ فاستمسك بالذي أوحي اليك............................................. ٣٥٨
٤٤ ـ وإنه لذكر لك........................................................... ٣٥٨
٤٥ ـ واسأل من ارسلنا......................................................... ٣٥٨
٤٦ ـ ولقد ارسلنا موسى بآیاتنا................................................. ٣٥٩
٤٧ ـ فلما
جاءهم بآياتنا....................................................... ٣٦٠
٤٨ ـ وما نريهم من آية........................................................ ٣٦٠
٤٩ ـ وقالوا
یا أيها الساحر..................................................... ٣٦٠
٥٠ ـ فلما كشفنا عنهم العذاب................................................. ٣٦٠
٥١ ـ ونادى فرعون في قومه.................................................... ٣٦١
٥٢ ـ ام أنا خير من هذا....................................................... ٣٦٢
٥٣ ـ فلولا ألقي عليه اسورة.................................................... ٣٦٢
٥٤ ـ فاستخف قومه فأطاعوه.................................................. ٣٦٣
٥٥ ـ فلما اسفونا انتقمنا منهم.................................................. ٣٦٣
٥٦ ـ فجعلناهم سلفاً ومثلاً.................................................... ٣٦٣
٥٧ ـ ولما ضرب ابن مريم مثلاً................................................... ٣٦٤
٥٨ ـ وقالوا أألهتنا خير أم هو................................................... ٣٦٦
٥٩ ـ إن هو إلا عبد أنعمنا عليه................................................ ٣٦٧
٦٠ ـ ولو نشاء لجعنا منكم ملائكة.............................................. ٣٦٧
٦١ ـ وانه لعلم للساعة........................................................ ٢٦٨
٦٢ ـ ولا يصدنكم الشيطان.................................................... ٣٦٨
٦٣ و ٦٤ ـ ولما جاء عيسى بالبينات............................................ ٣٦٩
٦٥ ـ فاختلف الاحزاب من بينهم............................................... ٣٦٩
٦٦ ـ هل ينظرون إلا الساعة................................................... ٣٧٠
٦٧ ـ الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض............................................. ٣٧٠
٦٨ ـ إلى ٧٠ ـ يا عباد لا خوف عليكم......................................... ٣٧٠
٧١ ـ يطاف عليهم بصحاف................................................... ٣٧١
٧٢ و ٧٣ ـ وتلك الجنة التي أورثتموها........................................... ٣٧٢
٧٤ و ٧٥ ـ إن المجرمين في عذاب جهنم......................................... ٣٧٣
٧٦ ـ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم
الظالمين....................................... ٣٧٣
٧٧ ـ ونادوا يا مالك.......................................................... ٣٧٤
٧٨ ـ لقد جئناكم بالحق....................................................... ٣٧٤
٧٩ و ٨٠ ـ أم أبرموا أمرأ...................................................... ٣٧٤
٨١ ـ قل إن كان للرحمن ولد................................................... ٣٧٥
٨٢ ـ سبحان رب السماوات والأرض............................................ ٣٧٥
٨٣ ـ فذرهم يخوضوا ويلعبوا.................................................... ٣٧٦
٨٤ ـ وهو الذي في السماء إله.................................................. ٣٧٦
٨٥ ـ وتبارك الذي له ملك السماوات........................................... ٣٧٧
٨٦ ـ ولا يملك الذين يدعون من دونه
الشفاعة................................... ٣٧٧
٨٧ ـ ولئن سألتهم من خلقهم.................................................. ٣٧٧
٨٨ ـ وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا
يؤمنون....................................... ٣٧٨
٨٩ ـ فاصفح عنهم وقل سلام.................................................. ٣٧٨
سورة الدخان
١ ـ حم...................................................................... ٣٧٩
٢ ـ والكتاب المبين............................................................ ٣٨٠
٣ ـ إنا أنزلنا في ليلة مباركة..................................................... ٣٨٠
٤ ـ فيها يفرق كل أمر حكيم................................................... ٣٨٠
٥ ـ امرأ من عندنا............................................................. ٣٨١
٦ ـ رحمة من ربك............................................................. ٣٨١
٧ ـ رب السماوات والأرض..................................................... ٣٨١
٨ ـ لا إله إلا هو............................................................. ٣٨١
٩ ـ بل هم في شك يلعبون..................................................... ٣٨٢
١٠ و ١١ ـ فارتقب يوم تأتي السماء............................................ ٣٨٣
١٢ ـ ربنا اكشف عنا العذاب.................................................. ٣٨٤
١٣ ـ أنى لهم الذكرى.......................................................... ٣٨٤
١٤ ـ ثم تولوا عنه............................................................. ٣٨٤
١٥ ـ إنا كاشفوا العذاب قليلاً.................................................. ٣٨٤
١٦ ـ يوم نبطش البطشة الكبرى................................................ ٣٨٥
١٧ ـ ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون................................................ ٣٨٥
١٨ ـ أن أدوا إلىّ عباد الله...................................................... ٣٨٦
١٩ ـ وأن لا تعلوا على الله..................................................... ٣٨٦
٢٠ ـ فقال واني عدت بربي وربكم............................................... ٣٨٧
٢١ ـ وإن لم تؤمنوا لي......................................................... ٣٨٧
٢٢ ـ فدعا ربه................................................................ ٣٨٧
٢٣ ـ فأسر بعبادي ليلاً....................................................... ٣٨٧
٢٤ ـ واترك البحر رهواً......................................................... ٣٨٧
٢٥ إلى ٢٧ ـ كم تركوا من جنات وعيون......................................... ٣٨٨
٢٨ ـ كذلك وأورثناها قوماً آخرین............................................... ٣٨٨
٢٩ ـ فما
یکت علیهم السماء.................................................. ٣٨٩
٣٠ و ٣١ ـ ولقد نجينا بني اسرائيل.............................................. ٣٩٠
٣٢ و ٣٣ ـ ولقد اخترناهم على علم............................................ ٣٩٠
٣٤ إلى ٣٦ ـ إن هؤلاء يقولون................................................. ٣٩١
٣٧ ـ أهم خير ام قوم تبّع...................................................... ٣٩١
٣٨ و ٣٩ ـ وما خلقنا السماوات والأرض........................................ ٣٩٣
٤٠ ـ إن يوم الفصل ميقاتهم.................................................... ٣٩٣
٤١ و ٤٢ ـ يوملا يغني مولى عن مولى........................................... ٣٩٣
٤٣ إلى ٤٦ ـ إن شجرة الزقوم.................................................. ٣٩٤
٤٧ ـ خذوه فاعتلوه............................................................ ٣٩٥
٤٨ و ٤٩ ـ ثم صبوا فوق رأسه................................................. ٣٩٥
٥٠ ـ إن هذا ما كنتم به تمترون................................................. ٣٩٥
٥١ و ٥٢ ـ إن المتقين في مقام أمين............................................. ٣٩٦
٥٣ ـ يلبسون من سندس....................................................... ٣٩٦
٥٤ ـ وكذلك زوجناهم........................................................ ٣٩٦
٥٥ ـ يدعون فيها بكل فاكهة.................................................. ٣٩٧
٥٦ ـ لا يذوقون فيها الموت.................................................... ٣٩٧
٥٧ ـ فضلاً من ربك.......................................................... ٣٩٧
٥٨ ـ فإنما يسرناه بلسانك...................................................... ٣٩٨
٥٩ ـ فارتقب انهم مرتقبون..................................................... ٣٩٨
سورة الجاثية
١ ـ حم...................................................................... ٣٩٩
٢ ـ تنزيل الكتاب من الله....................................................... ٣٩٩
٣ و ٤ ـ إن في السماوات والأرض لآیات........................................ ٤٠٠
٥ ـ واختلاف الليل والنهار..................................................... ٤٠١
٦ ـ تلك آیات الله............................................................ ٤٠٢
٧ و ٨ ـ ویل
لکل افاک أثيم................................................... ٤٠٣
٩ ـ إذا علم من آیاتنا شیئاً..................................................... ٤٠٤
١٠ ـ من ورائهم جهنم......................................................... ٤٠٤
١١ ـ هذا هدى.............................................................. ٤٠٤
١٢ ـ الله الذي سخر لكم البحر................................................ ٤٠٥
١٣ ـ وسخر لكم ما في السماوات.............................................. ٤٠٦
١٤ ـ قل للذين آمنوا یغفروا..................................................... ٤٠٦
١٥ ـ
من عمل صالحاً فلنفسه................................................... ٤٠٧
١٦ ـ ولقد اتينا بني اسرائيل..................................................... ٤٠٨
١٧ ـ وآتیناهم
ببينات......................................................... ٤١٠
١٨ ـ ثم جعلناك على شريعة.................................................... ٤١١
١٩ ـ أنهم لن يغنوا عنك....................................................... ٤١٢
٢٠ ـ هذه بصائر للناس........................................................ ٤١٢
٢١ ـ أم حسب الذين اجترحوا.................................................. ٤١٣
٢٢ ـ وخلق الله السماوات والأرض بالحق......................................... ٤١٤
٢٣ ـ أفرأيت من اتخذ إلهة هواه................................................. ٤١٤
٢٤ ـ وقالوا ما هي إلا حياتنا................................................... ٤١٦
٢٥ ـ واذا تتلى عليهم آیاتنا بینات............................................... ٤١٧
٢٦ ـ قل الله
یحییکم ثم یمیتکم.................................................. ٤١٧
٢٧ ـ ولله ملک
السماوات..................................................... ٤١٨
٢٨ ـ وتری
کل امة جاثية...................................................... ٤١٩
٢٩ ـ هذا كتابنا ينطق عليكم................................................... ٤١٩
٣٠ ـ فاما الذين آمنوا وعملوا الصالحات.......................................... ٤٢٠
٣١ و ٣٢ ـ واما الذين كفروا افلم تكن آیاتی
تتلى عليكم.......................... ٤٢٠
٣٣ ـ وبدا لهم سيئات ما عملوا................................................. ٤٢١
٣٤ ـ وقيل اليوم ننساكم....................................................... ٤٢١
٣٥ ـ ذلكم بأنكم اتخذت ايات الله هزوا......................................... ٤٢١
٣٦ ـ فلله الحمد رب السماوات................................................. ٤٢٢
٣٧ ـ وله الكبرياء في السماوات................................................. ٤٢٢
سورة الاحقاف
١ و ٢ ـ حم ، تنزيل الكتاب من الله
العزيز....................................... ٤٢٣
٣ ـ ما خلقنا السماوات والارض................................................ ٤٢٣
٤ ـ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله............................................. ٤٢٤
٥ ـ ومن أضل ممن يدعو من دون الله............................................ ٤٢٥
٦ ـ وإذا حشر الناس كانوا لهم اعداء............................................. ٤٢٦
٧ ـ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات................................................ ٤٢٧
٨ ـ أم يقولون افتراه........................................................... ٤٢٧
٩ ـ قل ما كنت بدعاً من الرسل................................................. ٤٢٧
١٠ ـ قل أرأيتم إن كان من عند الله............................................. ٤٢٨
١١ ـ وقال الذين كفروا للذين آمنوا.............................................. ٤٢٩
١٢ ـ ومن قبله
کتاب موسد اماما............................................... ٤٢٩
١٣ ـ إن
الذين قالوا ربنا الله.................................................... ٤٣٠
١٤ ـ أولئك اصحاب الجنة..................................................... ٤٣١
١٥ ـ ووصينا الإنسان بوالديه................................................... ٤٣١
١٦ ـ أولئك الذين نتقبل عنهم................................................. ٤٣٤
١٧ ـ والذي قال لوالديه أفٍ لكما.............................................. ٤٣٥
١٨ ـ ولكلَّ درجات مما عملوا................................................... ٤٣٧
٢٠ ـ ويوم يعرض الذين كفروا على النار......................................... ٤٣٧
٢١ ـ واذكر اخا عاد.......................................................... ٤٣٨
٢٢ ـ قالوا أجئتنا لتأفكنا....................................................... ٤٣٩
٢٣ ـ قال إنما العلم عند الله.................................................... ٤٣٩
٢٤ ـ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم.......................................... ٤٤٠
٢٥ ـ تدمر كل شيء بأمر ربها.................................................. ٤٤٠
٢٦ ـ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه......................................... ٤٤١
٢٧ ـ ولقد اهلكنا ما حولكم................................................... ٤٤٢
٢٨ ـ فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون
الله...................................... ٤٤٢
٢٩ ـ وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن............................................. ٤٤٣
٣٠ ـ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً................................................ ٤٤٣
٣١ ـ يا قومنا اجيبوا داعي الله.................................................. ٤٤٤
٣٢ ـ ومن لا يجب داعي الله................................................... ٤٤٥
٣٣ ـ أو لم يروا أن الله الذي خلق............................................... ٤٤٦
٣٤ ـ ويوم يعرض الذين كفروا على النار......................................... ٤٤٦
٣٥ ـ فاصبر كما صبر أولو العزم................................................ ٤٤٧
سورة محمد
١ ـ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله............................................ ٤٤٩
٢ ـ والذين آمنوا وعملوا الصالحات.............................................. ٤٥٠
٣ ـ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل........................................... ٤٥١
٤ إلى ٦ ـ فاذا لقيتم الذين كفروا................................................ ٤٥١
٧ ـ يا ايها الذين آمنوا......................................................... ٤٥٣
٨ ـ والذين
كفروا فتعساً لهم..................................................... ٤٥٣
٩ ـ ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله................................................ ٤٥٣
١٠ ـ أفلم يسيروا في الأرض.................................................... ٤٥٤
١١ ـ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا............................................. ٤٥٥
١٢ ـ إن
الله يدخل الذين آمنوا................................................. ٤٥٥
١٣ ـ وكأين من قرية هي أشد قوة............................................... ٤٥١
١٤ ـ أفمن كان علي بينة من ربه................................................ ٤٥٦
١٥ ـ مثل الجنة التي وعد المتقون................................................ ٤٥٦
١٦ ـ ومنهم من يستمع إليك................................................... ٤٥٩
١٧ ـ والذين اهتدوا زادهم هدى................................................ ٤٥٩
١٩ ـ فاعلم انه لا إله إلا الله................................................... ٤٦٠
٢٠ ـ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة......................................... ٤٦٢
٢١ ـ طاعة وقول معروف...................................................... ٤٦٢
٢٢ ـ فهل عسيتم إن توليتم.................................................... ٤٦٣
٢٣ ـ أولئك الذين لعنهم الله................................................... ٤٦٣
٢٤ ـ أفلا يتدبرون القرآن...................................................... ٤٦٤
٢٥ ـ إن
الذين ارتدوا على أدبارهم.............................................. ٤٦٥
٢٦ ـ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا.............................................. ٤٦٥
٢٧ ـ فكيف إذا توفتهم الملائكة................................................ ٤٦٦
٢٨ ـ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله............................................ ٤٦٦
٢٩ ـ ام حسب الذين في قلوبهم مرض........................................... ٤٦٦
٣٠ ـ ولو نشاء لأريناكهم...................................................... ٤٦٧
٣١ ـ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين............................................. ٤٦٧
٣٢ ـ إن الذين كفروا وصدوا.................................................... ٤٦٨
٣٣ ـ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله.............................................. ٤٦٨
٣٤ ـ إن الذين كفروا وصدوا.................................................... ٤٦٩
٣٥ ـ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم................................................ ٤٦٩
٣٦ و ٣٧ ـ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو........................................... ٤٧٠
٣٨ ـ ها أنتم هؤلاء تدعون.................................................... ٤٧١
سورة الفتح
١ ـ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً.................................................... ٤٧٣
٢ ـ ليغفر لك الله ما تقدم...................................................... ٤٧٣
٣ ـ وينصرك الله نصراً عزيزاً..................................................... ٤٧٤
٤ ـ هو الذي انزل السكينة..................................................... ٤٧٥
٥ ـ ليدخل المؤمنين والمؤمنات الجنة.............................................. ٤٧٧
٦ ـ ويعذب المنافقين والمنافقات.................................................. ٤٧٨
٧ ـ ولله جنود السماوات والأرض................................................ ٤٧٩
٨ و ٩ ـ إنا ارسلناك شاهداً ومبشراً.............................................. ٤٨٠
١٠ ـ إن الذين يبايعونك....................................................... ٤٨١
١١ ـ سيقول لكم المخلفون.................................................... ٤٨٢
١٢ ـ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول............................................ ٤٨٣
١٣ ـ من لم يؤمن بالله وبرسوله.................................................. ٤٨٤
١٤ ـ ولله ملك السماوات والأرض.............................................. ٤٨٤
١٥ ـ سيقول المخلفون......................................................... ٤٨٥
١٦ ـ قل للمخلفين من الأعراب................................................ ٤٨٦
١٧ ـ ليس على الأعمى حرج................................................... ٤٨٦
١٨ و ١٩ ـ لقد رضي الله عن المؤمنين........................................... ٤٨٨
٢٠ ـ وعدكم الله مغانم كثيرة.................................................... ٤٨٨
٢١ ـ واخرى لم تقدروا عليها.................................................... ٤٨٩
٢٢ ـ ولو قاتلكم الذين كفروا................................................... ٤٨٩
٢٣ ـ سنة الله التي قد خلت.................................................... ٤٨٩
٢٤ ـ وهو الذي كف ايديهم عنكم............................................. ٤٩٠
٢٥ ـ هم الذين كفروا وصدوكم................................................. ٤٩١
٢٦ ـ إذ جعل الذين كفروا..................................................... ٤٩٢
٢٧ ـ لقد صدق الله رسوله..................................................... ٤٩٤
٢٨ ـ هو الذي ارسل رسوله بالهدى............................................. ٤٩٥
٢٩ ـ محمد رسول الله.......................................................... ٤٩٦
سورة الحجرات
١ ـ يا ايها الذين آمنوا......................................................... ٤٩٩
٢ ـ يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم......................................... ٥٠٠
٣ ـ إن الذين يغضون أصواتهم.................................................. ٥٠١
٤ ـ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات......................................... ٥٠٢
٥ ـ ولو أنهم صيروا............................................................ ٥٠٢
٦ ـ يا ايها الذين آمنوا إن جاءکم فاسق بنبأ...................................... ٥٠٣
٧ ـ واعلموا أن فيكم رسول الله................................................. ٥٠٣
٨ ـ فضلاً من الله ونعمة....................................................... ٥٠٦
٩ ـ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا.............................................. ٥٠٦
١٠ ـ إنما المؤمنون إخوة........................................................ ٥٠٧
١١ ـ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم.................................... ٥٠٩
١٢ ـ يا ايها الذين آمنوا اجتنبوا................................................. ٥١١
١٣ ـ یا أيها
الناس إنا خلقناكم................................................. ٥١٤
١٤ ـ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا........................................... ٥١٧
١٥ ـ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله........................................ ٥١٨
١٦ ـ قل اتعلمون الله بدينكم................................................... ٥١٨
١٧ ـ يمنون عليك ان أسلموا................................................... ٥١٨
١٨ ـ إن الله يعلم غيب السماوات.............................................. ٥١٩
|