بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على خاتم النبيّين وسيّد المرسلين ، والسلام على أهل بيته المعصومين ، وصحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان ، ورحمه‌الله وبركاته.

وبعد : فإن من توفيق الله لنا أن أنجزنا ما سبق من هذا التفسير المبسّط في أجزائه الأربعة السالفة ، وأن منحنا القدرة على الاستمرار في إكمال المهمة الشاقة التي لا نبتغي بها إلّا رضوان الله تبارك وتعالى ، وتيسير فهم كتابه الكريم الذي هو دستور المعاش والمعاد لسائر العباد ، آملين منه التسديد في هذا العمل ، راجين التجاوز عمّا يفرط منا من سهو أو خطأ أو هم أو نسيان ، ومبتهلين إليه سبحانه أن ينتفع به العباد ، وأن يتقبّله منّا زلفة لديه في يوم الجزاء ، بحق خاتم الأنبياء والسادة الأوصياء صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعليهم ، وهو وليّ كلّ نعمة وصاحب كلّ منّة.

المؤلف

محمد السبزواري

سورة الحج

مدنيّة إلّا الآيات ٥٢ إلى ٥٤ وآياتها ٧٥ نزلت بعد النّور.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ... افتتح الله سبحانه هذه السورة المباركة بتوجيه الخطاب للناس عامة رأفة بهم ورحمة ، فأنذرهم قائلا : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) تجنّبوا مخالفته الموصلة لعذابه (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي ما يقع من الانزعاج والأهوال والمخاوف عند قيام الساعة (شَيْءٌ) أمر

(عَظِيمٌ) مهول مفزع. وقيل إن هذا الوصف يعني أشراط الساعة التي تسبقها كطلوع الشمس من مغربها كما عن القمي ، وكغيرها من الخوارق.

٢ ـ (يَوْمَ تَرَوْنَها ـ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) ... ذلك يوم القيامة بأهواله التي (تَذْهَلُ) تغفل وتتلهّى بها (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) عن رضيعها لما تصاب به من الخوف فتضيع عنه ولا تذكره فتنساه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي كلّ امرأة ماتت وهي حبلى ، حين تفيق على هذه الأهوال تسقط جنينها من الفزع والهلع (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشاهدهم في ذلك اليوم كالسكرانين الضائعين عمّا حولهم (وَما هُمْ بِسُكارى) وليسوا بسكرانيين بالحقيقة ولكن ظهروا كذلك من الخوف الذي لا يوصف (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) والذي أحدث كلّ ذلك الذّعر بين المراضع والحوامل والناس ، هو عذاب الله القوي العجيب الذي يبدو في ذلك اليوم.

٣ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ... نزلت هذه الآية الكريمة في النّضر بن الحارث الذي كان معاندا لدعوة الإسلام مجادلا بالباطل يقول إن الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأوّلين ، وينكر البعث والحساب ، وهي تشمله وتشمل كلّ واحد من الناس يناقش في الأمور التي يجهلها بلا برهان ، فيخاصم الله جلّت قدرته (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي يقلّد ويطيع كلّ متمرّد على حرمات الله. وفي الخبر أن المريد : الخبيث. ففي الناس كثيرون يعصون الرّحمان ، ويطيعون الشيطان ، ويجادلون دون برهان. ومن حاله كذلك قال الله تعالى فيه :

٤ ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ ...) أي سجّل في اللوح المحفوظ ، أو في علمه تعالى ، أنّ من يتّخذ الشيطان وليّا ويحبّه ويطيع وسوسته (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) يغويه ويصرفه عن طريق الحقّ (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ويدلّه على الطريق الموصلة لعذاب جهنّم ونارها المحرقة.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ...) يقول سبحانه : (أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) شكّ من (الْبَعْثِ) الرجوع أحياء يوم القيامة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) فنحن أوجدناكم من التراب بالأصل. ومن قدر على أن يصيّر من التراب بشرا سويّا حيّا مفكرا في الابتداء ، فإنه يقدر على أن يحيي العظام ويعيد الأجسام ويبعث الأموات ، لأن هذا العمل أسهل من الخلق من العدم ومن التراب الذي هو أصعب وأعظم. فنحن خلقناكم من تراب (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة من الدم جامدة مكتّلة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) لحم كأنه ممضوغ معلوك (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) في القمي أن المخلّقة إذا صارت تامة ، وأن غير المخلّقة السّقط ، أي مصوّرة على خلقتها

التي جعلها الله لها ، أو سقطا تطرحه المرأة قبل تصويره حسب مشيئة الله تعالى ، نفعل ذلك (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) لنوضح ونظهر لكم بهذه التطوّرات وتلك الانتقالات والتبدّلات على سبيل التدرّج ، قدرتنا وحكمتنا ، ولتستدلّوا على آيات خلقكم وإعجازه من المبدأ إلى المعاد. وفي حذف مفعول « نبين » إيماء إلى أن أفعاله هذه تتبيّن منها قدرته وحكمته وعظمته وما لا يمكن أن يحاط به ليذكر (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) نبقي في أرحام الأمّهات ما نريد من الأجنّة فلا تخرج أسقاطا قبل تمام تطورها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى زمان معيّن هو وقت وضعه. ومعلوم عنده تعالى أن أدنى زمان الوضع ستة أشهر وقد قال مولانا أمير المؤمنين أرواحنا فداه : لا تلد المرأة لأقلّ من ستة أشهر ، وأكثر زمان الوضع وأقصى حدّه تسعة أشهر ، ولا يزيد لحظة ولو زاد ساعة لقتل أمّه قبل أن يخرج كما عن الباقر عليه‌السلام أيضا (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي نخرجكم من بطون أمّهاتكم صغارا ، وإنما وحّد (طِفْلاً) والمراد به الجمع ، لأنه بمعنى المصدر فيطلق على القليل والكثير ويبيّن الحالة التي يكونون عليها ، وذلك كقولهم رجل عدل ورجال عدل ، أو المراد : نخرج كلّ واحد منكم طفلا (ثُمَ) نربّيكم شيئا فشيئا (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) لتصلوا إلى كمال قوّتكم. والأشد جمع شدّة ، كالأنعام جمع نعمة. وهذه المرحلة تكون من ثلاثين إلى أربعين سنة ، أو قد يراد بها الحلم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) يموت قبل الوصول إلى عمر البلوغ الطبيعي (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي إلى أسوأ العمر وأهونه عند أهله ، وهي حال الهرم والخرف. وإنما عبّر بأرذل لأنّ الإنسان لا يرجو بعد ذلك صحة ولا قوّة ، وإنما يترقّب الموت والفناء. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر. وعن عليّ صلوات الله وسلامه عليه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي حينها يصاب بالخرف ويصبح كالطفل في جميع أحواله وخصوصياته كما هو معروف.

هذه جهة استدلّ بها سبحانه على قدرته على البعث بعد الموت. ثم

أخذ بعدها ببيان برهان آخر بقوله سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي ساكنة ميّتة يابسة دارسة ، من همد الثوب : بلي (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) فإذا أمطرناها بالماء تحرّكت بالنبات واخضرّت (وَرَبَتْ) نمت وانتفخت ولم تعد قاسية جافّة (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) من كل صنف من الزرع وكل نوع من النباتات والأشجار الحسنة ذات الرّونق والبهجة. فالقادر على أحياء الأرض الميّتة بالماء ، قادر على إحياء الموتى ومستطيع لإعادة الأجسام بعد فنائها.

وبعد أن ذكر هذين الدليلين ، رتّب عليهما وقال سبحانه :

٦ و ٧ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) أي ذلك المذكور من أحوال الإنسان والأرض ، كان بسبب أنه تعالى هو الثابت في ذاته الذي به تتحقّق الأشياء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) يعيدهم بقدرته الكاملة. كما في القمي عن الصادق عليه‌السلام(وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يستعصي على قدرته شيء أراده (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) هي ساعة يوم القيامة جائية (لا رَيْبَ فِيها) بدون شكّ (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) يحييهم ويعيدهم كما كانوا بدون أدنى عناء. وقيل إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

٨ و ٩ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ ...) أي ومن الخلق من يناقش

في قدرة الله جلّت قدرته (بِغَيْرِ عِلْمٍ) دون معرفة بقدرته ، وعن جهل بعظمته (وَلا هُدىً) ولا طريق هدى يسلكه في مناقشته إذ يهرف بما لا يعرف ولم يتلّق ذلك عن دليل (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : ذي نور يهتدى به : أي ليس لديه حجة سمعيّة جاءته من ناحية الوحي ، كما أنه لا دلالة عقليّة مع ذلك المجادل بدون علم عمّا يجادل فيه (ثانِيَ عِطْفِهِ) لاويا عنقه معرضا عن الحقّ متكبّرا معجبا بنفسه وبلقلقة لسانه (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ليصرف الناس عن طريق الحق التي سنّها الله تعالى لعباده. فهذا الجاهل (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) من حقّه أن يكون في الدنيا مبعدا منبوذا ملعونا (وَنُذِيقُهُ) نجعله يستطعم (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) حين يتلظّى في سقر ويذوق لفح النار في جهنم.

١٠ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ...) أي نقول له : بوءت بذلك الخزي والعذاب بما كسبت يداك أيها الكافر بنا. والكلام على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون التهديد أوقع وليكون التخويف أزيد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يجزي العبيد على قدر استحقاقهم وبحسب أعمالهم دون زيادة أو نقصان. وإيراد صيغة المبالغة « ظلام » لعلها باعتبار كثرة العبيد فإذا نسب إليهم يعدّ بعددهم ، وقيل باعتبار صفات الحق تعالى على أبلغ الكمال ، فبالالتزام كان مطلق الظلم منتفيا عنه سبحانه وتعالى.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ

مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

١١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) أي أن بعض الناس يعبدون الله عبادة من يقف على حرف جبل أو شرفة يكاد يقع عنها لأقلّ دفع ، وقد يتركها لأول أزمة يقع فيها ، وقيل يعبده بلسانه دون قلبه ، وقد قيل : الدّين حرفان : الأول اللسان ، والثاني القلب ، فعبادته تعالى على حرف يعني على غير ثبات ولا يقين ، بل على شكّ واضطراب في الدين ، حال فاعلها كحال القائم على حرف الجبل يكاد يقع ، ونقل أن يهوديّا أسلم وبعد مدة قليلة ابتلي بوجع العين بحيث صار نظره ضعيفا جدّا ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : يا محمد أقلني عن الإسلام فإني تشأمت به إذ من أول يوم أسلمت فيه صرت مبتلى بالأمراض والحوادث ، فنزلت هذه الآية الكريمة. فبين الناس من يعبد الله عبادة على شفا جرف هار (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي إذا أصابه عافية أو مال أو رزق استقرّ وثبت على الإسلام وعلى عبادة الله (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) لحق به اختبار وامتحان بمرض أو خسارة أو جدب أو نقصان مال أو عسر (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) رجع عن دينه إلى وجهه الذي أتى منه ، أي الكفر ، و (خَسِرَ الدُّنْيا) بارتداده ولم يعد له ما للمسلمين من النّصر والظّفر والخير (وَ) خسر (الْآخِرَةَ) بحرمانه السعادة وبحبوط عمله (ذلِكَ) الخسران (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) الواضح العظيم الذي لا خسران أسوأ منه ولا أقبح.

هذه واحدة من نتائج عبادة الله على حرف ، والأخرى قوله تعالى :

١٢ ـ (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ ...) أي يتّخذ معبودا من دون الله كالوثن والصنم الذي لا يضرّه إن شاء ضرره ، كما أنه يسمّي ربّا غيره سبحانه (وَ) يدعو (ما لا يَنْفَعُهُ) إذا طلب منه نفعا لأنه لا يسمع ولا يعقل ولا يقدر على شيء البتة (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ذلك الحال

الموصوف من شأنه ، هو الكفر والضياع عن الحق الذي يبعد في مداه كثيرا.

١٣ ـ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ ...) هو يدعو معبودا غير الله توجب عبادته الضرر لأنها تؤدي إلى عذاب الدارين : القتل في الدنيا بسيف الحق أو الأسر ، والعذاب في الآخرة بدخول النار ، فضرر ما يعبده أقرب له من نفعه لأنه لا يملك نفعا ولا يقدر عليه ولا شفاعة له عند الله إذا توسّل به إليه (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي ساء هذا الناصر الذي ولّاه أمره ، وقبح هذا الصاحب والمعاشر الذي اختاره لنفسه. والمراد به الوثن والصّنم وما شابههما من المعبودات من دون الله.

* * *

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

١٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) لمّا ذكر سبحانه حال ومآل المنكر والشاكّ في الدين ، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان والعمل الصالح فقال إنه تعالى يدخلهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فوجه الاتصاف به لأن نزهة البستان بجريان الماء فيه. وأما المراد بكون الأنهار تحت البساتين فإنها مجاز في الحذف ، والمراد مياه الأنهار حيث ان النهر ليس له جريان. وأما كونها تحتها الذي هو ضدّ الفوق فيمكن أن يكون باعتبار أن

بساتين الجنة لعلّها مشتملة على قصور وغرف يجري الماء تحتها ، أو المراد به هو الأسفلية فإن المياه جريانها نوعا يكون في الجداول والأنهار والصّغار وهما أسفل من سطح البستان ، وسطح البستان فوقهما. فيصدق أن المياه الجارية هي تحت البساتين بهذا الاعتبار فإن من على أعلى الجدار يصدّق أنه فوق من في أسفله وهو تحت من في أعلاه (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) يصنع ما يشاء.

١٥ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ...) الظن في كتاب الله على وجهين ظنّ يقين وظنّ شكّ ، وهذا ظنّ شك. قال من شكّ أن الله عزوجل لم ينصر رسوله في الدنيا والآخرة ، بإعلاء كلمته وإظهار دينه في الدنيا وإعلاء درجته والانتقام ممّن كذّبه في الآخرة (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي فليجذب نفسه ويصعدها بوسيلة من الوسائل إلى السّماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) المسافة إليها فيجهد في دفع نصره إذا أراد الله نصره (فَلْيَنْظُرْ) أي فليتفكر (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) أي صنعه وحيلته ، ذلك غيظه. والاستفهام إنكاريّ يعني لا يتهيّأ له الوسيلة فلا يذهب صنعه ذلك ، بغيظه لأن ذلك كان ممتنعا فكان غيظه عديم الفائدة.

١٦ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) أي كما أنزلنا تلك الآيات المذكورة أنزلنا القرآن بتمامه (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات في الأحكام والمواعظ والأخبار حتى تتمّ الحجة على الناس (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) يوفّق للهدى من يشاء.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي

السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

١٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا ...) أي أن المؤمنين بك وبالرّسل من قبلك ، والذين هادوا : صاروا يهودا (وَالصَّابِئِينَ) الذين يصبأون وينتقلون من دين إلى دين آخر من ملل الكفر أو الذين يعبدون الكواكب (وَالْمَجُوسَ) الذين يعبدون النار (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم عبدة الأصنام (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) يحكم في أمرهم ويفرّق بحكومته بإظهار المحقّ منهم والمبطل ويجزي كل واحد على عمله (يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو مراقب لهم في جميع أحوالهم وناظر إلى أفعالهم ومطلع على كل شيء وكل ما يصدر عن مخلوقاته.

١٨ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ ...) ألا تنظر إلى أن جميع مخلوقات الله في السماوات وفي الأرض تسجد له؟ والسجود يستعمل على قسمين : إمّا بمعنى الخضوع والتذلّل ، وإمّا بمعنى الانقياد لقدرته والخضوع لتدبيره والاستكانة لما سخّره الله له. وعلى هذا فكلّ الموجودات تشترك وتدخل في السجود له سبحانه ، وليس شيء إلّا يسجد له تعالى. بيانه أن كلّ ما سوى الله مفتقر ممكن لذاته ، والممكن لذاته كما أن الإمكان لازم له حال حدوثه ، فكذلك حال بقائه. وفي كلتا حالتيه هو مفتقر إلى الواجب لذاته. وهذا الافتقار الذاتي اللازم لماهية الممكن أدلّ على الذلّة والخضوع من وضع الجبهة على الأرض الذي نسمّيه نحن سجودا لأن وضع الجبهة على الأرض علامة وضعيّة للدّلالة على الذلّة والانقياد ، وقد يتطرّق إليه الكذب بخلاف الافتقاد الذاتي فيمتنع التغير وتطرّق الكذب إليه ، فجميع الممكنات من الدرّة

إلى الذرّة ساجدة وخاضعة ومبتهلة إليه تعالى بهذا المعنى فثبت عموميّة (مَنْ) لذوي العقول وغيرهم. وقوله (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) إلى قوله سبحانه (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) بيان لهذا المجمل. أي من في السّماوات ومن في الأرض. والقسم الثاني هو المعنى المتعارف والكيفية المعهودة أي وضع الجبهة على الأرض وهو خاصّ بالأصناف الثلاثة من الإنسان والملائكة والجنّ ، فلا عموميّة في كلمة (مَنْ) لغير ذوي العقول ، فذكر الشمس والقمر إلى قوله : والدّواب ، لبيان غير ذوي العقول. ورفعها إما لكونها مبتدءا وخبرها : ينقادون لأمر خالقهم ، وإما بتقدير : يسجد المقدّر بقرينة المذكور في الكلام. غاية الأمر الأول بمعنى وضع الجبهة على وجه الأرض أو ما في حكمها. والثاني بمعنى الخضوع والتذلل التكويني الذّاتي الذي أشرنا إليه آنفا (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي من الناس بكفره لإبائه الانقياد والطّاعة والسّجود (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي من يحتقره (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) لا يكرمه أحد (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) عن الصّادق عليه‌السلام عن أبيه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام : أنه قيل له إن رجلا يتكلم في المشيئة فقال عليه‌السلام : ادعه لي. قال فدعي له فقال له : يا عبد الله خلقك الله لمّا شاء أو لمّا شئت؟ قال : لمّا شاء. قال فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : إذا شاء قال فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال إذا شاء. قال فيدخل حيث يشاء أو حيث شئت؟ قال حيث يشاء. قال فقال علي عليه‌السلام لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك.

* * *

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ

وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

١٩ ـ (هذانِ خَصْمانِ ...) أي جمعان من المؤمنين والكفار من أهل الملل الخمس المذكورة يعني : اليهود والنّصارى والصّابئين والمجوس والمشركين (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي المؤمنون على حدة ، والكفار بأجمعهم على حدة ، تنازعوا وتجادلوا في ذاته تعالى وصفاته. فالمؤمنون مثبتونهما له تعالى ، والكفرة نافونهما عنه سبحانه. وهذا الاختصام والتنازع لا يزال بينهما الى يوم لقاء الله فثمّت ينقطع كما أشار اليه بقوله عزّ من قائل (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وأشارها هنا بكيفيّة التفصيل بقوله سبحانه : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصّل لهم ألبسة ناريّة من جنس النار على قدر جثثهم الخبيثة. وقال ابو سعيد الخدري : ثياب من نحاس أذيب بالنّار يلبسونها. كقوله تعالى سرابيلهم من قطران وقيل إن المراد نيران تحيط بهم وتشملهم كالثياب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ

الْحَمِيمُ) أي الماء المغلي ، قيل لو تقطّرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها عن ابن عباس.

٢٠ ـ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) : أي يذاب به أحشاؤهم وأمعاؤهم (وَالْجُلُودُ) كما يذاب به جلودهم كما في قوله تعالى في سورة محمّد : وسقوا ماء حميما فقطّع أمعاءهم. فباطنهم كظاهرهم في التّأثر به.

٢١ ـ (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) : أي السياط أو أعمدة من حديد المقمعة ما يدق به وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما نقلوها وما أقلعوها عن الأرض.

٢٢ ـ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) : أي قاربوا الخروج من جهنم (مِنْ غَمٍ) أي ألم العذاب (أُعِيدُوا فِيها) ضربا بتلك الأعمدة والسّياط (وَذُوقُوا) يقال لهم احتقارا : ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار البالغة في الإحراق غايته. وهذا العذاب الموصوف يكون لواحد من الخصمين ، وهم الكفرة بأقسامهم. أما القسم الآخر ، وهم المؤمنون ففيهم يقول سبحانه وتعالى :

٢٣ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي كما أنه سبحانه يدخل الكافرين النار ويذيقهم العذاب الأليم لكفرهم ، كذلك يدخل المؤمنين الجنة الوارفة الظّلال الجارية المياه العالية القصور ، وهم (يُحَلَّوْنَ فِيها) يلبسون في الجنّة حليّا (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وهي ما يلبس في اليد ومفردها سوار ، وقال : من ذهب ليبينّ جنس الأساور (وَ) يحلّون كذلك (لُؤْلُؤاً) من أنواع الجواهر (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) يلبسون في الجنّة الدّيباج الخالص الجيّد.

٢٤ ـ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) : أي كلمة الإخلاص والتوحيد أو قول : الحمد لله ، أو القرآن أو إلى القول الذي يلتذّونه ويشتهونه وتطيب به

نفوسهم (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي دين الله المحمود ، أو طريق المحل المحمود وهو الجنة. والحاصل أن الله تعالى أنعم على المؤمنين بأربعة أشياء أو خمسة : المسكن جنات تجري الآية ، الثاني الحلية والزينة يحلّون فيها إلخ والثالث اللّباس : لباسهم فيها حرير والرابع : الهداية الى القول الطيب ، الخامس : الهداية إلى الجنة. وهذه أنعم النعم وأحسنها اللهم ارزقنا.

٢٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ثم إنه تعالى بعد بيان حال الخصمين في القيامة أخذ في الإخبار عن صفات الكفرة الذميمة بقوله (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن طاعة الله وعطف المضارع على الماضي للدّلالة على الاستمرار ، فالمعنى أنهم مستمرّون على الصّد لم يزلوا ولا يزالون مانعين عن طريق الحق ، لا أن المراد به الحال فقط أو الاستقبال حتى لا يكون عطفه على الماضي غير مستحسن. ويحتمل كون الجملة حالا عن فاعل كفروا ، وحذف خبر (إِنَ) لدلالة آخر الآية عليه أي : معذبون. قال ابن عباس نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدّوا رسول الله وأصحابه عام الحديبيّة عن المسجد الحرام وعن أن يحجّوا أو يعتمروا وينحروا الهدي ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتالهم وكان محرما بعمرة. ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله أي عن المسجد الحرام (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) سواء بالرفع خبر مقدم (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي المقيم في مكّة والغريب مساويان في القبلة أو في الأمن من القتل والأسر. وعن ابن عباس وقتادة أن المراد بالسويّة في السّكنى والنّزول في منازل مكة ، وليس لأحد من أهل مكة أن يصدّ أو يمنع البعيد الذي خارج الحرم. نعم ليس للخارج أن يخرج من سبقه إلى مكان ومنزل ، فالسابق أحقّ به من غيره فمكة بجميعها في حكم المسجد. والمراد بالمسجد الحرام هو مكة بتمامها كما في قوله تعالى : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ

الْحَرامِ) والمراد هو مكة حيث إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسري به من بيت زوجته خديجة عليها سلام الله أو من بيت أمّ هاني ولم يكن في ليلة الإسراء في نفس المسجد. والحاصل بمقتضى الآية الحاضر والمسافر متساويان في مساكن مكة ومنازلها ويجوز للحاج والمعتمر في الموسم وغيره شرعا النّزول في كل مكان ومنزل ومسكن ولو كان سكّانها غير راضين ، نعم ليس للواردين إخراج أهل الدار عن دارهم ، والمسألة محل خلاف والبحث عنها خارج عن موضوع كتابنا هذا والقدر المتيقّن أن نفس المسجد الحرام يستوي فيه الحاضر والمسافر في العبادات والمناسك كلّها وليس لأحد منهما أن يمنع الآخر فإنه حرام قطعا نعم للسابق إلى مكان من المسجد أن يمنع اللّاحق بالنّسبة إلى ذلك المكان فقط ، ولا يجوز لأحد أن يزاحمه فيه. وفي نهج البلاغة في كتاب كتبه أمير المؤمنين إلى عامله على مكة قثم بن العباس بن عبد المطلّب : وأمر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا فإن الله سبحانه يقول : سواء العاكف فيه والباد ، والعاكف المقيم به ، والبادي الذي يحجّ إليه من غير اهله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) أي عن العدول عن القصد (بِظُلْمٍ) أي بغير حق وهما (أي بإلحاد وبظلم) حالان مترادفان والباء فيهما للملابسة ، وترك مفعول (يُرِدْ) للتّعميم ، أي : من يقصد أمرا فيه ملابسا للعدول عن القصد أي عن الحق إلى الباطل ، وملاصقا للظلم قيل هو الشرك وعبادة غير الله فيه ، وقيل كل شيء نهي عنه حتى شتم الخادم ، ودخول مكة بغير إحرام المعروف أن في غير مكة لا تكتب السيئة بمجرد قصدها ما دام لم تفعل بخلاف مكة فإن قصد السيئة خطيئة وتحسب إثما ولو لم تفعل ، وهذا لغاية شرافتها وكمال حرمتها (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) جواب (مَنْ) وقد مرّ تفسيره.

* * *

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ

بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

٢٦ ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ ...) أي اذكر حيث أحللنا إبراهيم عليه‌السلام وأنزلناه ، أو هديناه وأرشدناه إلى مكان البيت حتى يعمره ويبنيه ويرفع عليه الكعبة المقدّسة ، وجعلنا مكان البيت مسكنا له ومنزلا أسكن فيه زوجه وابنه. وبناء على هذا تكون اللام الجارّة زائدة ، ومكان : ظرفا ، ولفظ : إبراهيم : مفعولا به (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي

أوحينا إليه بأن لا يشرك بعبادتنا شيئا (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي طهّره أنت وابنك إسماعيل من أن يدنّسه الشّرك ، والجملة عطف على جملة : أن لا تشرك ، فطهّرا بيتي من عبادة الأوثان :

٢٧ ـ (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ...) أي ناد فيهم أثناء موسم الحج وأدعهم إلى الطواف ببيتي والتعبّد فيه. وروي أنه صعد جبل أبي قبيس وقال : أيّها الناس حجّوا بيت ربّكم. وقيل إنه لمّا أمره الله تعالى بذلك قال : يا ربّ لا يصل ندائي إلى الناس جميعا ، فأجابه الله تعالى : عليك الأذان وعلينا البلاغ. (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي مشاة جمع راجل كالقيام والصيام جمع قائم وصائم ، حال من فاعل يأتوك (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الضامر الناقة المهزولة في طريق الحج لبعد الطريق وإسراع السير وقلة الأكل. اي يأتوك ركبانا على نوق ضامرة مهزولة (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد ، والفج هو الطّريق الوسيع وما هو عميق قعره ، وتقديم رجال على الراكب لأفضلية المشي على الركوب. وعن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : للحاجّ الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة ، وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قيل : وما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمئة ألف ، مرويّ عن ابن عباس عنه (ص).

٢٨ ـ (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ...) اي ليحضروا ويحصّلوا فوائدهم الّتي أعدّها الله لهم في خصوص هذه المناسك وتلك العبادة ولا تحصل ولا توجد في غيرها. وتنكير المنافع إشارة إلى تعميمها للدنيوية وهي أرباح التجارة ، وللدّينيّة كالتشرّف بحضرة أئمة الهدى وأخذ مسائل دينهم واحكام الله عنهم عليهم‌السلام واستفاضتهم بعفوه تعالى ومغفرته والوصول إلى الدّرجات العالية في العقبى بفضله وعنايته (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) واختلف في هذا الذّكر ، قيل هو التلبية حين الإحرام وبعده والتكبير وغيرهما من الأذكار ، وقيل هي التسمية على ما يذبح أو ينحر لأن ذكر اسم الله على الذبائح

شعار المسلمين في مقابل المشركين وعبدة الأصنام فإن شعارهم تسمية الأصنام والأوثان وغيرها من المعبودات الباطلة. ويؤيد هذا تعلّق (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) بقوله تعالى (يَذْكُرُوا) على ما هو الظاهر والقول الأول أعني التكبير مرويّ عن الصّادقين عليهما‌السلام قالا : اسم الله هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أولها ظهر العيد بمنى وصورة التكبير مسطورة في محلها من كتب الفقه. (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قيل هي العشر الأول من ذي الحجة ، وقيل هي أيام التشريق كما عن الباقر عليه‌السلام ان الأيام المعلومات يوم النحر والثلاثة بعده أيام التشريق ، والأيام المعدودات عشر ذي الحجة. وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : المعلومات والمعدودات واحدة ، وهن أيام التشريق ، والتحقيق في التعيين موكول إلى كتب الفقه (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) الأمر بالأكل لانهدام ما هو المرسوم عند المشركين من عدم أكل الذبيحة التي كانوا يذبحونها باسم الهتهم ، فأمر الله تعالى أن يذكر على الذبائح اسمه ويأكلوا منها ويطعموا الفقراء والمساكين. والبائس أفقر من الفقير وأشدّ بؤسا ، مشتق من البؤس بمعنى شدّة الحاجة وسوء الحالة.

٢٩ ـ (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ...) التّفث الوسخ ، أي ليزيلوا وسخهم بتقليم الأظفار وقصّ الشّوارب وحلق الرأس وإزالة الأوساخ عن الأبدان وطرح الإحرام كما هو المرويّ عن الرّضا عليه‌السلام (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي ما نذروا من البرّ والطاعات (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي القديم لأنه أول بيت وضع ، أو الكريم. وروي أنه المعتق من الغرق ومن تسلّط الجبابرة. روي عن سعيد بن جبير أن التّبّع توجّه إلى مكة لتخريب البيت ولمّا وصل الى غدير ابتلى بالفلج وكلما عالجه الأطبّاء ما أفاد عملهم إلا ازديادا فجاءه جماعة من أهل التوحيد وقالوا له : أيها الملك لهذا البيت ربّ وحرمة وكلّ من قصده بسوء فربّه يبتليه ببليّة لا علاج لها فلو قصدت أن تمشي إلى مكة فاعزم بان لا تتعرّض للبيت حتى يشفيك ربّه. فعزم أن لا يتعرّض للبيت

فعافاه الله من مرضه فلما دخل مكة أمر أن يكسوا البيت بكسوة فاخرة ، وهو اوّل من كسا البيت الحرام ونحر ألف بعير وأعطى لأهل الحرم الصّلات والعطايا الكثيرة الثمينة وسمّوا الموضع الذي نزل فيه مطابخ لكثرة إطعامه.

٣٠ ـ (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ ... ذلِكَ) خبر للمبتدأ المحذوف ، أي الأمر ذلك يعني أمر الحج والمناسك تلك المذكورات كما في قوله تعالى هذا وأنّ للطاغين لشر مآب ويسمونه وأمثاله الفاصل بين الكلامين فقوله (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي أحكامه وما لا يحلّ هتكه من جميع التكاليف أو ما يتعلق بالحج (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي تعظيمها خير له ثوابا (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) كلّها أكلا (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) تحريمه في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الآية ٣ من المائدة (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) من : ، بيانيّة (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) أي الكذب أو شهادة الزور أو الغناء أو قول هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم.

٣١ ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ... حُنَفاءَ) أي موحّدين له (غَيْرَ مُشْرِكِينَ) به حالان من ضمير اجتنبوا. وعن الباقر سئل عن الحنفيّة فقال عليه‌السلام : هي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال فطرهم الله على المعرفة (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ ، فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي فقد أهلك نفسه هلاك من سقط منها لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تأخذه بسرعة كناية عن نفسه الأمّارة وأهوائه المردية حيث ذهبت بعقله وأفكاره (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي تسقطه من مكان مرتفع الى موضع بعيد عميق جدا كناية عن أن الشيطان يطرحه في الضلالة بحيث لا ينجيه أحد ، وبحيث يهوي به إلى مهاوي الضلال والكفر والخسران.

* * *

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

٣٢ ـ (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ... ذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف كما قلنا آنفا ، أي الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي أعلام دينه ومناهجه (فَإِنَّها) أي تعظيمها (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ناشئ من تقوى قلوبهم. وفي القميّ قال : تعظيم البدن وجودتها ، فالمراد على هذا بشعائر الله هو مناسك الحج كما قيل ، وقيل هي الهدايا. وهذا التفسير أنسب بقول القميّ رحمه‌الله. ويؤيّد التفسير الأخير قوله تعالى بعد ذلك :

٣٣ ـ (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...) عن الصّادق في هذه الآية قال : إن احتاج الى ظهرها ركبها من غير أن يعنف عليها وإن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها أي لا يحلب جميع ما فيها من اللبن بحيث صار سببا لهزالها وذهاب قوّتها (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي محلّ نحر الهدايا أو الاستفادة منها هو البيت أي : الكعبة يعني منتهى الاستفادة من الهدايا بالركوب والحلب هو وصولها إلى البيت فانها عنده تنحر أو تذبح والمراد ب (إِلى) عنده هو ما يقرب منه قيل هو الحرم كلّه ، وعندنا أنّه في الحج ، منى ، وفي العمرة المفردة مكة.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ...) أي لكلّ أهل دين جعلنا منسكا : بالفتح قربانا أو ما يتعبّد به ويتقرّب به إليه تعالى ، وبالكسر : مكان النّسك والفتح هو قراءة المشهور وأنسب بقوله (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي عند ذبحها وكلمة (مِنْ) بيانية يعنى لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه تعالى فيفيد اختصاص القربان بها (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) من الخبت بمعنى الاطمئنان أي المطمئنّين به تعالى والمتواضعين له والخاشعين له.

٣٥ ـ (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) أي خافت من هيبته (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي من المصائب (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها (يُنْفِقُونَ) في سبيل الخير والبرّ كلّ ذلك امتثالا لأمر ربّهم ثم استأنف الكلام بذاك الذبائح فقال سبحانه :

* * *

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

٣٦ ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ ... الْبُدْنَ) جاء مصدرا وجمعا لبدنة وهي الناقة أو البقرة المسمّنة ، سمّيت بذلك لعظم بدنهما وجثتهما ولكثرة اللّحم ونصبها بفعل مقدّر يدل عليه المذكور بعدها ومعناه : جعلنا البدن لكم من

أعلام ديننا وعلائم مناسك الحج أي سوقها إلى البيت وتقليدها عبادة الله والإضافة لاسمه تعالى للتعظيم والتشريف (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) نفع دينيّ ودنيويّ (اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي عند نحرها (صَوافَ) نصب على الحاليّة عن الضمير الفاعل أي اذكروا اسم الله على البدن حال كونها صافّات ومنظمّات وقوائمها مستويات ولعلّ الحكمة في إصفافها بهذه الكيفية ظهور كثرتها للناظرين فتتقوّى النفوس وتتشوّق ويكون التقرب بنحرها عند ذلك مزيدا للأجر وتشويقا للنّحر ، وظهورا لكثرة التكبير وإعلاء لاسم الله تعالى (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) المراد من وجوب الجنوب سقوطها على الأرض والنكتة في هذا التّعبير هو خروج تمام الروح منها من قوله وجب الحائط إذا سقط (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) القانع الذي يقنع بما يعطى ، والمعترّ الذي يعترض بسؤال أو بدونه. وعن الصّادق عليه‌السلام : أطعم أهلك ثلثا والقانع ثلثا والمعتّر ثلثا (كَذلِكَ) أي الأمر كما وصفنا لكم كيفية النحر في البدن (سَخَّرْناها لَكُمْ) مع ضخمها وقوتها فتقودونها وتحبسونها ثم تنحرونها وليس ذلك إلّا بتذليلنا إياها لكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمنا وآلاءنا عليكم.

٣٧ ـ (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها ...) أي لن تصعد إليه اللّحوم ولا الدّماء المهراقة من حيث إنّها لحوم ودماء (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يصعد إليه ما هو من لازم عملكم هذا وهو التقوى المكشوفة به الموجبة لإخلاص العمل لله وقبوله من عبيده المتقين (كَذلِكَ سَخَّرَها) تقدم ذكره ، والتكرار ليعلّل بقوله (لتكبروا الله إلخ) المراد على ما نقل هو التكبيرات المعروفة في أيّام التشريق بمنى عقيب خمس عشرة صلاة وفي الأمصار عقيب عشر (عَلى ما هَداكُمْ) أرشدكم الى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها أو لأعلام دينه ومناسك حجه ، لكنّ تفسير الأول مروي (الْمُحْسِنِينَ) اي الموحدين الذين يعملون الحسنات ومنها أنهم يحسنون إلى غيرهم.

* * *

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ...) يدفع غائلة المشركين عنهم وهذه الكريمة بيان لتبشير المجمل السابق بأنه تعالى يدفع الأذى عن المؤمنين المحسنين وينصرهم عاجلا لقوله يدافع مكان يدفع ، فإن إيراد يدافع للمبالغة في الدفع والأنسب في المقام لمعنى المبالغة هو التعجيل فيه (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) فإنه تعالى أخبرهم بعدم حبه لهم ولأعمالهم فما لا يحبّه لا بدّ أن يدفعه ويرفعه عاجلا عن قريب. وقد نقل أن كفار مكة كانوا لا يزالون يؤذون المؤمنين بأقسام الأذى كما ذكر في أحوالهم في بدو الإسلام فجاءوا الى النبي (ص) يشتكون منهم ويستأذنون بقتالهم ، فأجابهم صلوات الله عليه بأن الله لا يأذن لي بمقاتلتهم ، ويأمركم بالصبر ويبشركم بالنصر فلما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمهاجرة الى المدينة وتشرّفت المدينة

بقدومه المبارك نزلت آية الاذن للجهاد وكانت أوّل آية أنزلها الله تعالى فيه هي هذه :

٣٩ ـ (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ...) أي رخّص للمؤمنين أن يقاتلوا المشركين (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) بسبب أنّهم أصبحوا مظلومين بالضّرب والشجّ ونفي البلد والقتل وكسر الأعضاء والجوارح ، وعن الصادق عليه‌السلام : إنما هو القائم إذا خرج يطلب دم الحسين وهو يقول نحن أولياء الدّم وطلّاب التّرة ، ولا منافاة فإنها نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد صلوات الله عليهم.

٤٠ ـ (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ...) يعني ما كان موجب لإخراجهم من مكة سوى التوحيد الملازم للإقرار بالرّبوبيّة. قال الباقر عليه‌السلام نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد ، أخرجوا من ديارهم وأخيفوا (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي بنصر المؤمنين على الكفار (لَهُدِّمَتْ) بالتشديد والتخفيف (صَوامِعُ) جمع صومعة وهي معبد الرّهبان (وَبِيَعٌ) جمع بيعة وهي الكنائس معابد النّصارى (وَصَلَواتٌ) أي كنائس اليهود جمع صلوة سمّيت بذلك إما لوقوع الصلاة فيها أو هي معرّب ثلوثا كلمة عبريّة بمعنى المصلّى لا أنه جمع الصّلاة وهذا أقرب بالمقام (وَمَساجِدُ) وهي معابد المسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) صفة للأربع أو للمساجد فقط ، خصّت بها تشريفا (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على النّصر (عَزِيزٌ) لا يغلب بشيء وهو غالب على كل شيء.

٤١ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) بدل من (يَنْصُرُهُ) أو وصف للذين أخرجوا. قال الباقر عليه‌السلام : نحن هم. ومعنى التمكّن في الأرض هو إعطاء السلطان والقدرة عليها (أَقامُوا الصَّلاةَ) الآية هذه جواب الشرط وهو وجوابه صلة للذين ، والمعنى واضح (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) وهو يصرّفها كيف شاء.

* * *

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

٤٢ إلى ٤٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ ...) هذه الآيات الكريمات تسلية للنّبي (ص) بأن تكذيبك قومك في أمر الرسالة ليس بأمر بديع وشيء حديث بل الأنبياء السّابقون عليك طرّا مرميّون بتكذيب قومهم. فالله تعالى من باب المثل ذكر بعض المشاهير منهم صلوات الله عليهم أجمعين (وَكُذِّبَ مُوسى) تغيير النظم وإيراد الفعل مجهولا للإشارة بأن المكذّبين لموسى ما كانوا من قومه فان قومه هم بنو إسرائيل وأنهم كانوا من المؤمنين به والمصدّقين له وأنّ المكذّبين له هم القبطيّون ، وللإشعار بأنّ تكذيب موسى عليه‌السلام كان أشنع حيث إن معاجزه كانت أعظم وأبين فتكذيبه كتكذيب من ادّعى النهار والشمس في رابعته (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي

أمهلتهم إلى أن صرمت آجالهم المقدّرة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري عليهم بالانتقام منهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فبتغيير النعمة محنة ونقمة والحياة هلاكا والعمارة خرابا ، وأما في الآخرة فمصيرهم إلى النّار وبئس المصير. ثم انه تعالى أخذ في بيان كيفية هلاكهم وعقوباتهم بقوله عزوجل :

٤٥ ـ (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ...) اي ساقطة حيطانها على سقوفها بعد وقوعها أوّلا على وجه الأرض مأخوذ من خوى النجم إذا سقط ، وعرش البيت هو سقفه (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي متروكة بموت أهلها وفي تفسير أهل البيت في قوله : وبئر معطّلة أي : وكم من عالم لا يرجع إليه ولا ينتفع بعلمه. وعن الكاظم عليه‌السلام : البئر المعطّلة الإمام الصّامت (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) الامام الناطق. وإنما كنّى عن الإمام الصّامت بالبئر لأنه منبع العلم الذي هو سبب حياة الأرواح مع خفائه إلّا على من أتاه ، كما أن البئر منبع الماء الذي هو سبب حياة الأبدان مع خفائها إلّا على من أتاها ، وكنّى عن صمته بالتعطيل لعدم الانتفاع بعلمه ، وكنّى عن الإمام الناطق بقصر مشيد لظهوره وعلوّ منصبه وإشادة ذكره ، ورفيع منصبه.

٤٦ ـ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؟ ...) هذه حثّ لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا. وفي الخصال عن الصّادق عليه‌السلام معناه : أولم ينظروا في القرآن (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي ما يجب ان يعقل (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي ما يجب أن يسمع (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الضمير في قوله فإنها مبهم يفسره الأبصار ، وتقدير الكلام ان الأبصار لا تعمى لأنه ليس في مشاعرهم خلل ولا عيب ، ولكن تعمى القلوب عن مشاهدة العبر وقوله : التي في الصّدور ، للمبالغة والتأكيد كقوله : يطير بجناحيه ، ويقولون بأفواههم ولنفي التجوز في القلب حيث إنها تستعمل مجازا في بعض المعاني كما يقال قلب النّخل وقلب الشتاء وقلب الأسد أي شهر الأسد ، فإن المراد

بالقلب في هذه الموارد هو وسطها لا معناه الحقيقي. والحاصل فإن إدراك الأمور النظرية والمعاني هو وظيفة القلب ومشاهداتها به ولكن إذا اتّبعت قلوبهم الهوى وانهمكت في التقليد فلا تدرك شيئا ولا تعقل ما يجب أن تعقله. فنسبة العمى إلى القلب حقيقة وليس بمجاز في شيء. وعن السجاد عليه‌السلام أن للعبد أربع أعين عينين يبصر بهما أمر دينه ودنياه وعينين يبصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته ، وإذا أراد الله به غير ذلك ترك القلب بما فيه.

٤٧ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) الموعود به ، ولا يخفى أن استعجالهم كان استهزاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنهم لا يعتقدون برسالته ولا يعتقدون بقوله فكيف يحمل الاستعجال على حقيقته وهو فرع العقيدة ، ومعها لا يتصوّر إلّا من المجنون أو من في حكمه (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) واو حاليّة ، أي هؤلاء المشركون يستهزئون باستعجال العذاب والحال أنه تعالى يمتنع أن يخلف في وعده وإنجازه ، ووعده تعالى بإنزال العذاب كان يوم بدر حيث إنهم في ذلك اليوم فرّق جمعهم وشتّت شملهم وقتلوا من أولهم إلى آخرهم إلّا القليل منهم بين أسر وفكّ بضرب الجزية مع منّة عليهم. هذا بالإضافة إلى عذابهم الدنيويّ مضافا إلى فتح مكة وخذلانهم في ذلك اليوم المبارك الذي استعبدهم النبيّ صلوات الله عليه وآله ثم أطلقهم بقوله : أنتم الطّلقاء ، وهذا غاية الذل ونهاية الخذلان وأمّا الوعد بالنسبة إلى عذابهم في الاخرى فهذا ما أشار اليه تعالى بقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ) أي يوما من أيام العذاب في الآخرة (كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ممّا تحسبون في الدنيا.

٤٨ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ...) أي كم من قرية ، يعني وهذه الحال كحال أي قرية أمهلتها كما أمهلتهم الآن (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مثلكم أيها الكفار من قريش وغيرها (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب والاستئصال

(وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع فإنهم يعودون إليّ لأحاسبهم على أعمالهم الخيّرة والشرّيرة.

* * *

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

٤٩ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ...) قل يا محمد للناس بعد تذكيرهم بهذه الأمور التي يجب أن يتفكّروا بها ويعقلوها : أنا نذير لكم ومخوّف من عذاب الله في الدنيا والآخرة ، وأنا مبيّن لكم ما تصير إليه حالكم إذا أمعنتم في العناد والكفر ، وأنا نذير للمؤمنين أيضا ولسائر الناس وإليكم تفصيل حالكم جميعا أيها النّاس :

٥٠ ـ (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) أمّا المؤمنون الذين التزموا بأوامرنا ونواهينا وقاموا بالأعمال الصالحة الحسنة ، فأولئك (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أعددنا لهم عفوا عن صغار ذنوبهم (وَ) لهم منا أيضا (رِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو نعيم الجنّة ورزقها الكثير السخيّ فإنه نعيم في أكرم دار والكريم من كلّ نوع ما يجمع جميع فضائل الكرم.

٥١ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ...) أي الذين عملوا على إبطال آياتنا فردّوا القرآن واعتبروه باطلا غير منزل من السماء. والمعاجزون هم المسابقون لنا الظانّون أنهم يفوتوننا أو يخرجون من قبضتنا أو يتمّ كيدهم. وهي من : عاجزه ، إذا سابقه ، لأن المتسابقين يطلب كلّ منهم إعجاز الآخر عن اللحاق به. ف (أُولئِكَ) المعاجزون الساعون في إبطال آياتنا هم

(أَصْحابُ الْجَحِيمِ) هم أهل أسفل دركات جهنّم وأشدّها إحراقا ، فنعوذ بالله من عذاب الجحيم الشديد ...

* * *

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

٥٢ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ...) أي لم نرسل قبلك من رسول (وَلا نَبِيٍ) كائنا من كان منهم (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) تلا ما أوحينا به إليه (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أدخل في تلاوته ما يوهم أنّه من جملة الوحي (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يرفع ما يلقيه ويزيل ما يدخله في محكم قوله وفي آيات كتابه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) يثبتها ويقرّها كما نزلت من عنده لا تزيد حرفا ولا تنقص حرفا ويجعلها مقبولة عند من سبقت لهم الحسنى منه عزّ وعلا. وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ :

والنّجم إذا هوى ، فلمّا بلغ قوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، سكت. فقرأ الشيطان : « تلك الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهنّ لترجى » فوقع عند بعضهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ ذلك ، وكان الشيطان في ذلك الحين يتكلّم ويسمع كلامه الحاضرون في المسجد دون أن يروه.

ويمكن أن يكون التمنّي على ظاهره ، أي : وما من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى لأمّته الإيمان ، ألقى الشيطان في طريق أمنيّته العثرات وأقام بينه وبين مقصده العقبات ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان من الموانع والعوائق التي يبثّها في قلوب أوليائه ، ثم يحكم الله آياته بأن يجعلها ثابتة ومتقبّلة لدى المؤمنين ؛ ولعل هذا الوجه أوجه والله العالم.

ونرجع فنقول : إنما سمّيت التلاوة أمنيّة لأن القارئ إذا قرأ فانتهى إلى آخر آية رحمة تمنّى أن يرحمه‌الله تعالى ، وإذا انتهى إلى آخر آية عذاب تمنّى أن يوقاه ودعا الله أن ينجّيه منه. والحاصل أنه سبحانه ينسخ ما يلقي الشيطان أثناء التلاوة ويبطله ويزيله بعصمته وهدايته إلى ما هو الحق ، ثم يحكم آياته فيثبت دلائله الداعية إلى مخالفة الشيطان اللّعين (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عالم بما يجري غاية العلم ، حكيم فيما يقضي بأعظم الحكمة.

أمّا إلقاء الشيطان في الأمنيّات فهو :

٥٣ ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ليصير إلقاء الشيطان امتحانا واختبارا لمرضى القلوب ومزعزعي العقيدة (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المتحجّرة التي لا يلجها ذكر الله تعالى. وهذه الآية الكريمة تبيّن علّة تمكين الله تعالى للشيطان بأن يلقي في وقت تلاوة الرّسل والأنبياء ما يشبه الذي نزل من عنده ، وهو ليس من عنده ، فيقع في القلوب المتردّدة الشاكّة لدى المنافقين. وعبارة : والقاسية قلوبهم عطف على الموصول ، وهم الكفرة. فحاصل الكريمة أن علّة التمكين من الإلقاء هي لمزيد كفر الكفرة ونفاق المنافقين المعاندين لعدم تأمّلهم وتفكّرهم في الفرق

بين الحق والباطل ، أي بين ما جاء به النبيّ من عند ربّ العالمين ، وما هو من عند الشيطان الرجيم ، فظلموا أنفسهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) لفي خلاف بعيد عن الحقّ والحقيقة ، أو عن الرسول وبيعته ، لفرط عنادهم وكثرة جحودهم.

والوجه الآخر في تمكين الشيطان من الإلقاء هو :

٥٤ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ ...) أي ليعرف ويعتقد الذين منحوا العلم والمعرفة بتوحيد الله وبمنهج الحق وطريق الصواب ، أن هذا الذي يجيء من عند الله هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) يا محمد ، لا من الشيطان ، إذ وفّقهم الله أن يميزوا بين الحق والباطل (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) يصدّقوه ويعتقدوه (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) تخشع وتلين وتطمئن له ، أي للقرآن أو له تعالى (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وبالتأكيد انه سبحانه هو الذي يهدي المؤمنين به إلى طريق الحق الذي لا عوج فيه.

٥٥ (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ...) أي مع هذا البيان كلّه وهذه الدلائل كلّها بقي الكافرون في مرية : شكّ من القرآن. وقيل في شكّ من الإمام الذي هو هنا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما هو المرويّ عن القمى. فما يزالون في ريب منه (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) إلى أن يجيء يوم القيامة وساعة البعث (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أو يجيئهم عذاب يوم القيامة الذي يسمّى عقيما لأنه لا يوم بعده.

* * *

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا

فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩))

٥٦ و ٥٧ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ...) ففي يوم القيامة الملك لله تعالى وحده ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) آمنوا به وصدّقوا رسله وعملوا بما أمروهم به يكونون (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يتنعّمون بعطاياه السنيّة خالدين في جنانه وملكه الذي لا يبلى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بنا وبالرّسل (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أنكروا دلائلنا ومعجزاتنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) عذاب يهانون فيه ويحتقرون ويستخفّ بهم. وفي هذه الآية الكريمة أدخل الفاء في الخبر ، ولم يدخلها في خبر الآية الخاصة بالمؤمنين ، لعلّه للتّنبيه بأن إثابة المؤمنين بالجنّات محض تفضّل منه تعالى ، في حين أن عقاب الكفرة مسبّب عن أعمالهم.

٥٨ و ٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا ...) أي الذين هاجروا من أوطانهم ، وجاهدوا في سبيل نصرة الحق ، ثم قتلوا في المعركة (أَوْ ماتُوا) في غيرها وهم بطريق الجهاد (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ليعطينّهم عطاء جميلا بغير حساب (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) بل لا رازق سواه بالحقيقة لأنه هو مسبّب الأسباب للحصول على رزقه من كلّ أبواب الرّزق ... وهؤلاء المجاهدون المقتولون في سبيله (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) ليدخلنّهم الجنّة التي يرضونها ويحبّونها ويشتاقون إليها. وقرئ مدخلا ومدخلا (إِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) أي أنه خبير بما يفعل الناس ، رؤف بهم ، يمهل الكافر ، ويلطف بالمؤمن.

* * *

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

٦٠ ـ (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ ...) أي أمر الله وسنّته وقاعدته هكذا ، وبه جرى قضاؤه في باب المؤمن والكافر ومصير كلّ منهما (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي جازى من ظلمه بمثل ما ظلمه به ولم يزد في الاقتصاص (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي عاوده الظالم بالظلم (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) على الباغي المتعدّي ، أي المتجاوز في العقوبة والاقتصاص (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمنتصر ، روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخرجته قريش من مكة وهرب منهم الى الغار وطلبوه ليقتلوه عاقبهم الله يوم بدر وقتل عتبة وشيبة والوليد وأبا جهل وحنظلة بن أبي سفيان وغيرهم من رؤوس المشركين فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب بدمائهم فقتل الحسين عليه‌السلام وآل محمد صلوات الله عليهم بغيا وعدوانا وهو قول يزيد لعنه الله حين تمثل بهذا الشعر : ليت اشياخي ببدر شهدوا إلخ ... وقال يزيد وهو يقلّب الرّأس الشريف.

نقول والرأس مطروح نقلّبه

يا ليت أشياخنا الماضين بالحضر

حتى يقيسوا قياسا لو يقاس به

أيام بدر لكان الوزن بالقدر

فقال الله تبارك وتعالى ذلك (وَمَنْ عاقَبَ) يعني رسول الله (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) حين أرادوا أن يقتلوه فخرج من مكة خائفا (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) بغلبة يزيد وأمثاله من الأمويّين والعباسيّين على آله صلى‌الله‌عليه‌وآله (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) يعنى بالقائم من ولده صلوات الله عليهم أجمعين.

٦١ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ ...) أي المذكور من النّصر الإلهي للمظلوم على الباغي (بِأَنَّ اللهَ) أي بسبب أنه تعالى قادر على أن يغلّب بعض الأشياء على بعض وعادة الله وسنّته جرت على المداولة بين الأشياء المتعاندة لمصالح وحكم اقتضت ذلك ومن جملة ذلك أنه سبحانه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل كلّا منهما في الآخر بنقصان زمان كل واحد وزيادته على الآخر أي يزيد على الليل وينقص من النهار وكذلك العكس (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع قول الظالم والمظلوم ويرى أفعالهما.

٦٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ... ذلِكَ) أي اتّصافه بكمال القدرة والعلم وإحاطته بجميع الموجودات (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بسبب أنه تعالى هو الثابت في نفسه والواجب بذاته لذاته فالنتيجة (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) إلها (هُوَ الْباطِلُ) أي ما يعبدونه من الأصنام هو زائل وزاهق في حدّ ذاته أو في ألوهيّته (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) فهو في ذاته أعلى ممّن سواه وفي سلطانه أكبر ممّا عداه لأن منشأ وجود غيره تعالى هو وجوده سبحانه وتعالى فإن وجودات الموجودات إفاضات ورشحات من فيض وجود ربّهم الذي هو الواجب بالذات وكل ما بالعرض لا بد وان ينتهي إلى ما بالذات. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أصدق بيت قالته العرب قول لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل ...

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما

فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

٦٣ ـ ٦٧ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ ...) هذه الشريفة والآيات الثلاث بعدها جرت في بيان قدرته الكاملة وسلطته التامّة النافذة عزّ وعلا ، وأنه تعالى لطيف في أفعاله ، خبير بتدبير خلقه ، وأنه مالك لكلّ شيء. فهو جلّت قدرته (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فصارت الأرض (مُخْضَرَّةً) بالأعشاب والنباتات والأشجار ، وهو مالك (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهو (الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) المحمود في كل شأنه ، يحمد على السرّاء والضرّاء ، وهو (سَخَّرَ) لنا (ما فِي الْأَرْضِ) وأجرى الفلك في البحر ، ويمسك السماء أن (تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) فتدمّرها رأفة منه بعباده ولطفا بهم ، كما أنه تعالى هو المحيي المميت المعيد بعد الموت ، ولكنّ الإنسان (لَكَفُورٌ) بهذه النّعم التي منحه الله سبحانه إياها.

* * *

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)

 أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

٦٧ ـ (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ...) أي قرّرنا وعيّنّا لجميع أهل الأديان شريعة ودينا ومنهجا (هُمْ ناسِكُوهُ) يذهبون إليه ويدينون به وعاملون به (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) فلا يجوز لهم أن ينازعوك ويجادلوك في أمر الدّين حيث إنهم جاهلون به فليس لهم المنازعة معك ، إذ لا سبيل للجاهل البحث مع العالم في أمر لا يعرفه ولا يعلم به ، ولا للعالم أن ينازعه ولا سيما إذا كان عنودا وجحودا ، فإن البحث والمناظرة ينفع مع طالب الحق لا مع أهل المراء والعناد الذين أشربت قلوبهم جحد وإنكار الحق ، فلا تعتن بمجادلتهم ومنازعتهم (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي اشتغل بالأعمال التي أنت مأمور بها كالدّعوة إلى التوحيد والعبادة لله سبحانه سواء قبلوها أو لا (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) اي أنت على طريق الحق الثابت الذي ليس لهم أن ينازعوك فيه ، فإن شريعتك ناسخة للشّرائع المتقدّمة وعلى جميع أهل الملل والشّرائع أن يتّبعوك ويهتدوا بهداك طوعا أو كرها رغما لأنوفهم وغصبا عنهم.

٦٨ ـ (وَإِنْ جادَلُوكَ ...) أي إذا ناقشوك بعد الآيات والحجج وظهور الحق وإلزامهم ، فإن القاعدة تقتضي أن لا تجيبهم. إلّا أن عدم الجواب لمّا كان مخالفا لتأليف قلوبهم فأجبهم بكلمة واحدة (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فهو يعرف حالكم ويجازيكم بأعمالكم على طبق علمه بها ، وهذا تخويف لهم منه تعالى بلسان رسوله وفيه رفق وتحبيب وتأليف.

٦٩ ـ (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) أي هو سبحانه يحكم يوم القيامة فيما اختلفتم به من أمر الدّين.

٧٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ ...) هذه الكريمة تسلية للنبيّ لأنه يعرف أن الله

علمه محيط بعجائب العلويّات وغرائب السّفليّات وليس شيء يخفى عليه ، وكل ما كان من أمور السّماوات والأرضين هو مكتوب في كتابه المحفوظ قبل أن يوجد في عالم الإيجاد ويحدث فيه. فنحن عالمون بمجادلة كفار قريش ومنازعتهم معك فلا يتطرّق إلى قلبك من أعمالهم وأقوالهم شيء ، حيث إنّا نجازيهم وننتقم منهم (إِنَّ ذلِكَ) العلم بجميع الأشياء الثابتة في العوالم أعمّ من العلويات والسفليات وإثباتها في اللوح المحفوظ (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) علينا أمر سهل حيث إن علمه الذي هو من لوازم ذاته ومن مقتضياتها متعلّق بجميع المعلومات على السّواء وقدرته شاملة لجميع المقدورات على حدّ واحد.

* * *

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

٧١ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي يخضعون للأصنام ونحوها من غير علم ضروري بجواز عبادتهم ولا استدلاليّ عقليّ ولا نقليّ بل محض جهل وتقليد بإقرارهم واعترافهم بذلك : إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنا على آثارهم لمقتدون ، (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) اي ليس للمشركين من يدفع العذاب عنهم ، ويشفع لهم وينصرهم في محنتهم.

٧٢ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي إذا قرئت عليهم واضحات الدّلالة على دعاوى رسلنا وأنبيائنا ترى في وجوه الكافرين (الْمُنْكَرَ) مصدر ميميّ بمعنى الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام والمراد هو أثر الإنكار وهو عبوس الوجه وتقطيبه (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يبطشون ويأخذونهم بفتك وصولة وشدّة. فقل لهم : هل أعرّفكم أنا (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي من غيظكم على التّالين (النَّارُ) يحتمل أن تكون النار خبرا لمبتدإ محذوف بقرينة المقام أي هو النار ، أو هذه النار. أو تكون مبتدأ وقوله وعدها الله خبرها.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ...) أي سماع تدبّر وتفكّر حتى تتنبّهوا وتستيقظوا بأنّكم أشرف المخلوقات ، فكيف تخضعون وتعبدون أخسّها وأدناها وهو ما أنتم تنحتونه وتصنعونه فوا حسرتاه على ما فرّطتم في جنب الله .. ثم انه تعالى إتماما للحجّة يبين لهم المثل ويقول : إن الأصنام التي تعبدونها (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي ليسوا بقادرين على خلق ذباب وإيجاده مع صغر حجمه وجثته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. هذا وثانيا كفى في عجزها أنها (إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لو سلب الذباب مما على آلهتهم التي يعبدونها من الطّيب والعسل الذي كانوا يضمخونهما به لا تستطيع تلك الآلهة استرجاعه منه ـ رغم ضعفه وحقارته وكثرتها وعظم جثتها وقيل ان الأصنام التي كانوا يعبدونها ونصبوها

حوالي الكعبة كانت ثلاثمئة وستين صنما وكانوا يلطّخونها بالطّيب وهو خلوقها أي خلوق الكعبة وبالعسل. فالذباب كان يدخل عليها ويأكله فإذا جاؤوا يرون أن العسل والطّيب قد أكلا فيسرّون بذلك ويهلهلون ويصفّقون ويقولون زعما منهم إن الآلهة قد أكلتهما (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي العابد والمعبود أو الذباب والأصنام.

٧٤ ـ (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) أي ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا الأصنام شركاء له مع غاية ضعفها وكمال قدرته سبحانه ، كما أشار إليه بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) اي قادر على خلق الأشياء كلها وغالب عليها وليس شيء يغلبه. قال الشيخ ابو بكر الواسطي لا يعرف قدره الا هو فانه لا سنخيّة ولا نسبة بينه تعالى وبين ما سواه ، ما للطّين وربّ العالمين ونعم ما قيل : اعتصام الورى بمغفرتك ، عجز الواصفون عن صفتك تب علينا فإنّنا بشر ، ما عرفناك حقّ معرفتك.

وروي أنه : لا تتفكّروا في ذات الله ، وتفكّروا في آلائه. وفيه دلالة واضحة على ما قال به الشيخ.

* * *

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

٧٥ و ٧٦ ـ (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ...) فهو وحده سبحانه يختار من بين ملائكته رسلا يحملون الوحي إلى من يختارهم من بين الناس رسلا للبشر ، وهو (سَمِيعٌ) شديد السمع لما يقوله الكافرون

والمنافقون (بَصِيرٌ) شديد البصر لما يفعلونه من معاندتك ومقاتلتك من أجل كفرهم (يَعْلَمُ) يعرف بدقة متناهية (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما فعلوه سابقا وما سيفعلونه آتيا (إِلَى اللهِ تُرْجَعُ) تعود (الْأُمُورُ) كلّها فيحكم فيها ويجازي عليها الجزاء العادل.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

٧٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) خطاب منه تعالى للمؤمنين اعتناء بهم ليركعوا له ويسجدوا إجلالا لعظمته ، وليعبدوا ربّهم وخالقهم من أجل أن يكونوا من المصلحين الناجحين الفائزين بمرضاته.

٧٨ ـ (وَجاهِدُوا فِي اللهِ ...) الجهاد على أقسام ثلاثة : الأول ما هو المعروف من الجهاد مع أعداء الدّين ، وهو الظاهر من الآيات والروايات ولو أطلق على غير هذا يكون بقرينة. والثاني الجهاد مع النفس الأمّارة ، أي مخالفتها في مشتهياتها من أوامرها ونواهيها ، وهذا هو الجهاد الأكبر الذي يخاف منه وترتعد منه الفرائص وتقشعرّ منه الجلود وتندكّ منه الجبال وتكبّ عنده الرجال أعاذنا الله من النّفس الأمّارة. والثالث : هو الجهاد بمعنى

إتيان العبد وإقدامه في مقام إطاعة ربّه بجدّ النفس وخلوصها عن شوائب الرّياء والسّمعة وتمام الخشوع وكمال الخضوع بحيث كأنه يرى ربّه تعالى وإن لم يكن يراه ، فهو متيقن بأن خالقه يراه. وهذا لعلّه الذي يسمّى بجهاد الحق ، وبعض يسمّونه برتبة الإحسان أي جهاد رتبة الإحسان ، وهذا اصطلاح منه. فإن من أتى هكذا بطاعة ربّه وعبده حقّ عبادته فهو ممّن أحسن طاعة ربّه ، أي أطاعه إطاعة حسنة. فهو تعالى يجزيه جزاء الإحسان كما قال : هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟ فلا مشاحّة في اصطلاحه (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي انه تعالى لم يضيق عليكم أمر الدّين فلن يكلّفكم ما لا تطيقونه حيث إنه رخّص عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة ونحوها فلا عذر لكم في تركه (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) نصب الملّة يمكن أن يكون بتقدير أخصّ أو أعني أو بتقدير حرف جر أي بنزع الخافض ، وملّة إبراهيم دينه لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وانّما سماه أبا للجميع لان حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على أولاده ، كما قال نبيّنا صلوات الله عليه وآله : أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة ، وقال سبحانه : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، مضافا إلى أنه قيل إن العرب من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وأكثر العجم من ولد إسحاق ، وهما ابنا إبراهيم عليهم‌السلام جميعا ، فالغالب عليهم أنهم أولاده (مِنْ قَبْلُ) أي قبل نزول القرآن وذلك مذكور في الكتب السماويّة التي مضت (وَفِي هذا) ففي هذا القرآن خاصة ، أيضا بيان أن أباكم إبراهيم عليه‌السلام و (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) يوم دعا الله لنبيّكم ولكم (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) الجارّ متعلّق (بسماكم) ومعناه : ليكون محمد يوم القيامة شاهدا عليكم بأنه بلّغكم ، أو شاهدا بطاعتكم أو بعصيانكم (وَتَكُونُوا) أيّها المسلمون (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ رسلهم إليهم بما جاء من عند ربّهم ، فحافظوا على صلواتكم ، وأدّوا زكواتكم (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسّكوا بدينه فإنه خير طريق لنجاتكم (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولّي أموركم ، وهو

(فَنِعْمَ الْمَوْلى) السيد المتصرف الرؤوف بعباده (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) المعين على بلوغ الفوز في الدارين. والحمد لله وحده.

* * *

سورة المؤمنون

مكية وآياتها ١١٨ نزلت بعد الأنبياء

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) الفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا. وقد للتحقيق وتقريب الماضي من الحال لأنها

إذا دخلت على الماضي دلّت على الإثبات والدّوام ولذا فهي مقرّبة له منه. ثم إنه تعالى لما اطّلع على أن المؤمنين كانوا راجين للفوز والنجاة ، بشّرهم بذلك بتصدير تلك السّورة بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، وأخذ في بيان أوصافهم ، فبدأ بالصّلاة التي هي من أهمّ الطاعات فقال تعالى :

٢ ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ ...) فابتدأ بهذه الصفة الشريفة فقال : الذين هم في صلاتهم (خاشِعُونَ) فيستفاد أن المطلوب في الصلاة هو صفة الخضوع والخشوع ، أي التوجّه التام إلى المعبود الحقيقي ، وهذا هو الذي عبّر عنه في الروايات بروح الصّلاة وقال بعض الأكابر من المحققين : إن المصلّي لا بدّ أن يتوجه إلى معبوده بحيث لا يرى إلّا إياه حتى لا يرى نفسه ، ولذا جاء في الخبر الصحيح أنّ أمير المؤمنين في يوم أحد أصابته سهام كثيرة ومن غاية الوجع كانوا لا يقدرون على إخراجها فوصل الخبر إلى فاطمة الزهراء (ع) فقالت : إذا شرع في صلاته فاعملوا به ما شئتم. فلما دخل في الصلاة جاؤوا بجرّاح فأخرجها من بدنه الشريف ولما فرغ من صلاته رأى الدماء على مصلّاه فسأل منه فبيّنوا له الأمر ، فقال بأبي وأمّي فو الله الذي نفسي بيده ما التفتّ في أيّ زمان شرعتم وأيّ وقت فرغتم. وهذه هي حقيقة الصلاة فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وعن النبيّ صلوات الله عليه أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته ، فقال : أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فيستفاد من هذا أن الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح كلّها.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ...) اللغو كلّ كلام ساقط حقّه أن يلغى كالكذب والشتم والهزء والغناء والملاهي ، فالمؤمنون لا يقاربون اللّغو فضلا عن فعله.

٤ و ٥ و ٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ...) أي مع إيمانهم وإقامتهم للصلاة وبعدهم عن اللّغو والباطل ، هم يؤتون الزكاة لمستحقيها ، و (هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) يحفظون أنفسهم من تعاطي الزّنى والمحرّمات الجنسية

ولا يأتون سوى أزواجهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي الإماء التي يملكونها بالحلال ، وكذلك ما يملك حقّ مباشرته بالمتعة كما في القمّي (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) لا يلامون ولا يؤاخذون في ذلك لأنه قد أحلّه الله تعالى لهم.

٧ ـ (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ...) ومن قصد غير زوجته الدائمة ، أو غير أمته بملك اليمين ، أو غير الزوجة بالمتعة المحلّلة (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي المتجاوزون لما ذكره الله تعالى من وجوه الحلال في إباحة الفروج الثلاثة المذكورة. فهؤلاء يكونون من المعتدين على ما شرع الله من حدّ الشرع الذي عيّن الحلال في النكاح.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ...) أي يراعون الأمانات ويحفظونها ويصونونها كما سنّ الله سبحانه ، والأمانات ضربان : أمانات الله ، وأمانات العباد. وما بين الله وعباده هي العبادات : كالصلاة والصوم وغيرهما ، وما بين العباد هي مثل الودائع والعواري والشهادات وأمثالها ، وهي كثيرة. وأما العهد فعلى ثلاثة أضرب : أوامر الله تعالى ، ونذور الإنسان ، والعقود الجارية بين الناس ، فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بحفظ ما يتولّاه منها.

٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ...) ذكر الصلوات مرّة ثانية للاهتمام بإقامتها مع المحافظة على أوقاتها وحدودها المعيّنة ، وبأن تؤدّى في أول أوقاتها.

١٠ و ١١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ ...) أي أن الموصوفين في الآيات السابقة الذين أفلحوا في أعمالهم يفوزون بإرث الفردوس في الجنة ، والفردوس روضة من روضات الجنة وهي أعلى طبقاتها. والقمي عن الصّادق عليه‌السلام قال : ما خلق الله خلقا إلّا جعل له في الجنة منزلا وفي النار منزلا ، فإذا سكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة أشرفوا فيشرفون على أهل النار فترفع لهم منازلهم فيها ثم يقال لهم هذه

منازلكم التي في النار لو عصيتم الله لدخلتموها ، قال : فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة في ذلك اليوم فرحا لما صرف عنهم من العذاب. ثم ينادي مناد يا أهل النار ارفعوا رؤوسكم فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنة وما فيها من النعيم فيقال لهم : هذه منازلكم التي لو أطعتم ربّكم لدخلتموها ، قال فلو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار حزنا فيورث هؤلاء منازل هؤلاء وذلك قول الله عزوجل أولئك هم الوارثون إلخ.

وفي المجمع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، ثم إنه تعالى لما ذكر لأهل الايمان نعم الجنة من الفردوس والخلود بل نفس الجنة بما فيها وهو أعظم من كل نعمة أراد أن ينبّههم إلى أكبر نعمة من النعم الدنيوية وأجلّها وهو إيجادهم وإعطائهم الوجود على أحسن وجه وأجمل صورة وأكمل خلقة فقال سبحانه وتعالى :

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)

وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

١٢ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) أي هذا النوع من الحيوان أو المراد آدم (مِنْ سُلالَةٍ) أي صفوة سلّت من الكدر (مِنْ طِينٍ) حاصلة منه صفة لسلالة أو أن (مِنْ) بيانية ، أو متعلق بمذكور وهو سلالة لأنها في معنى مسلولة ، والحاصل يحتمل أن يكون المراد بالإنسان هو أبو البشر فإنه مخلوق من صفوة وخلاصة مسلولة من طين وأن يكون المراد هو الجنس لأنهم خلقوا من نطف استلّت وانتزعت موادّها من طين حيث إن النّطف محصولة من النباتات وهي صفوة الأجزاء الأرضية كما قال تعالى منها خلقناكم. وقيل إن المراد بالطين هو آدم عليه‌السلام لأنه في بدء أمره كان طينا مصوّرا ولمّا نفخ فيه الروح صار إنسانا ذا لحم ، ودم وعظام وأعصابا ، والمراد بالسلالة نسله.

١٣ ـ (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً ...) أي جعلنا الإنسان يعني جوهره أو السلالة على تأويلها بالمسلول. فتذكير الضمير بواحد من التأويلين لا بأس به ويحتمل أن يكون المضاف محذوفا أي جعلنا نسله من نطفة فنصب (نُطْفَةً) بنزع الجارّ وحذفه (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي في مستقرّ حصين وهو الرحم.

١٤ و ١٥ و ١٦ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ...) أي قطعة دم جامد ،

و (مُضْغَةً) قطعة لحم كأنّه ممضّغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) جعلناها صلبة قوية (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي من بقايا المضغة ، أو لحما جديدا فخلقنا في اللحم عروقا وأعصابا وأوتارا وعضلات. قيل ان اختلاف العواطف وليد التحوّلات في مقام الخليقة وليس ببعيد لأن تلك التحوّلات لا بد أن تكون لمصلحة ، وإلّا فهو تعالى قادر على خلق البشر بلا احتياج الى هذه الاستحالات (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) اي نفخنا فيه من روحنا فصار إنسانا كاملا ناطقا سميعا بصيرا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) وليعلم أن المخلوقين على ثلاثة أقسام : إمّا روحاني محض وهو الملك فانه نور بحت ومنزّه عن صفة الشهوة والغضب وغيرهما من الصّفات التي تلازم الجسميّة. وإمّا جسماني محض كالنّباتات والمعدنيّات. وإما مركب من الجسماني والروحاني وهو على قسمين : إما الغالب فيه هو الروحانية فهو الجنّ وإمّا العكس فهو الإنس. والحاصل أن الله تعالى بقدرته الكاملة بلّغ الإنسان بعد تكميله المراتب السبع إلى حدّ الانسانية ، وأول المراتب كونه سلالة والثاني النطفة والثالث العلقة والرابع المضغة والخامس العظام والسادس اللحم. وهذه الست مربوطة بعالم تكامل الجسد ، والسابع إيلاج الروح وفي هذه المرتبة قال سبحانه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) لأن بين عالم الرّوح والجسد بلا روح بونا بعيدا بل تباينا ، فأين التراب وربّ الأرباب وأين الثرى والثرّيا ولذا كان التركيب بين الروح والجسد من أعجب العجائب وأغرب الغرائب فإن الروح علوي نوراني ، والجسد سفليّ ظلماني. والروح أمر لطيف والجسد شيء كثيف والروح يدرك الأمور المعنوية ويتلذذ بها والجسم لا يدرك غير المحسوسات ويتلذذ بالشهوات إلخ ... فالتركيب بينهما قريب بالمجال فهو تعالى أظهر في هذا الهيكل قدرته الكاملة وحكمته الباهرة والدليل على عظم خلق الإنسان واهتمامه تعالى بشأنه أنه ما أثنى على نفسه في خلق العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والسماوات بما فيها من الكواكب والعجائب والأرضين وما فيها من مظاهر القدرة والعظمة بمثل ما مدح واثنى على ذاته المقدسة في خلق

الإنسان وخصوصا في هذه الآية الكريمة التي تشير إلى هذا كما لا يخفى على أولى النّهى ، ولمّا بيّن سبحانه وتعالى في الآيتين الكريمتين أحوال بني آدم وارتقاءهم من مرتبة إلى مرتبة وانتقالهم من مقام إلى مقام ، علم أنه ليس له لسان حتى يحمده ويثني عليه بما يستحقه وعلى ما ينبغي لمقام القدس والقدم فلذا هو جلّ وعلا نيابة عن مخلوقه ولطفا منه بهم ، أثنى على ذاته المقدّسة بثناء هو يستحقّه ويستوجبه فقال (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تقدّس ، وأحسن الخالقين صفته تعالى. وفي التوحيد ، عن الرّضا عليه‌السلام أنه سئل وغير الخالق الجليل خالق؟ فقال عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى قال فتبارك الله أحسن الخالقين ، وقد أخبر أن في عباده خالقين وغير خالقين منهم عيسى بن مريم خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، والسّامريّ خلق لهم عجلا جسدا له خوار ، فلذا جاء بصيغة التفضيل. ولو كان الخلق منحصرا به تعالى لكان مجيئه بصيغة التفضيل لغوا. وأما تأويله بغير التفضيل فخلاف الظاهر ولا سيّما أن أدلّ الأدلة على الشيء وقوعه كما مثّلناه آنفا. وأمّا العطف في الكريمة في بعض مواضعها بثمّ ، وفي الآخر بالفاء فلنكتة وهي أن العطف بثمّ في آية ١٣ لأن وصول السلالة من الطين الى حدّ النّطفة على حسب قواعد الطّبيعة يطول فالإتيان بثمّ الّتي للتّراخي للإشارة الى هذه الجهة ، وكذلك في الآية ١٤ الّتي جيء فيها بثمّ لتلك النكتة ، أي للتّنبيه على أن بلوغ النطفة إلى مستقرّ حصين من ظهر الرجل إذا كان المراد بالقرار هو الرحم وصيرورته فيه إلى مرتبة العلقة على موازين الأسباب العادية قهرا يحتاج إلى مضيّ مدّة مديدة. نعم المراتب الثلاث البعديّة أمور لا تحتاج إلى طول زمان ولذا أتى فيها بالفاء التي وضعت لإفادة التعقيب بلا مهلة. وأما قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً) آخر حيث أتى فيه بثم فلأن خلقه العلقة مضغة والمضغة عظاما وتغطية العظام لحما حتى يستأهل لولوج الرّوح فيه تحتاج إلى مدة طويلة ، وهكذا في الكريمتين المذكورتين بعد تلك الآيات الشارحة لأحوال الإنسان من بدو نشوئه وحدوثه إلى ختم خلقه وتماميّته فإن مرتبة موته بعد طيّ المراتب القبلية ربّما يطول إلى مائة

وعشرين سنة أو أكثر بمراتب كثيرة من المدّة المزبورة ومن بعد الموت والفناء من تلك الدار الفانية إلى زمان البعث ويوم الحشر وهو يوم البقاء إلى ما شاء الله فكان العطف بثمّ على ما ينبغي لأنه الموضوع لإفادة التّراخي. فمثل تلك النكت والرموز في الآيات المباركة أكثر من أن تحصى. اللهمّ نبّهنا وفهّمنا ما في كتابك من الأمور الدّقيقة اللّطيفة.

١٧ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ ...) أي سبع سماوات ، جمع طريقة ، لأنها طرق الملائكة على ما قيل. أو المراد سبع طبقات بعضها فوق بعض وتسمّى الطبقة التي فوق طبقة أخرى طريقة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) أي المخلوق جميعا لم نكن (غافِلِينَ) أي تاركين تدبيرهم.

١٨ ـ (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ...) أي بمقدار يوافق المصلحة ، أو بتقدير يعمّ نفعه ويؤمن ضرره (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي أثبتناه فيها مددا للينابيع والآبار (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي إذهابه وإفنائه بتصعيد أو تعميق بحيث يتعذّر الاستفادة منه واستخراجه واستنباطه. ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات ولفنيت النباتات ، فنبّه سبحانه بذلك على عظيم نعمته على خلقه بإنزال المطر من السّماء وإثباته في الجبال وهي منابع المياه.

١٩ ـ (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ ...) أي أوجدناها بالمطر وانّما خصّ النخيل والأعناب لأنّها ثمار الحجاز من المدينة والطّائف فذكّرهم بالنّعم الّتي عرفوها وهي النخيل والأعناب. ولكثرة منافع هذين النوعين للناس فإنهما يقومان مقام الطعام والإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ) اي في الجنات الفواكه الكثيرة من أصناف مختلفة.

٢٠ ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ ...) أي وانشأنا لكم بذلك المطر شجر الزيتون ، وخصّ بالذكر لما فيه من العبرة بأنه لا يتعاهده إنسان بالسّقى. وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدّهن الذي تعظم به المنفعة. والطّور اسم جبل ، وسيناء اسم للمكان الذي به هذا الجبل في أصحّ

الأقوال وسينا وسينين واحد ، وقيل هما اسمان للجبل وهو جبل بفلسطين وقيل بين مصر وأيلة ومنه نودي موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام. وقرئ سيناء بكسر السين ونسبة خروجها إلى جبل سيناء لأن الشجرة فيه كثيرة ومنه انتشرت في البلاد وانبسطت فيها فيمكن أن يقال أن منبتها الأصيل كان هناك وهذه منفعة من منافع تلك الأرض المقدسة والجبل المبارك (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي تنبت تلك الشجرة المباركة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج ويوقد منه وكونه صبغا أي أداما ، فإن فيه يصبغ الخبز أي يغمس فيه ويؤكل وهذا الذي جعله جامعا للوصفين ، وهو الزيت الذي يعصر من الزيتون ، وثمرة تلك الشجرة التي سماها خالقها بالشجرة المباركة في قوله جلّ وعلا : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) إلخ ... والحاصل أن هذه الأشجار المباركات لعظم منافعها وكثرتها خصّها الله عزوجل بالذكر في مقام بيان نعمه الجليلة على عباده. ومن النعم الّتي خصّها الله تعالى بالذكر للاهتمام بشأنه هي الانعام كما قال :

٢١ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ...) أي فيها دلالة تستدلون بها على قدرة الله تعالى ومن جملتها قوله تعالى (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) من ظهورها فإن عليها تركبون وتأخذون أصوافها وشعورها وأوبارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من لحومها ودسومها وشحومها وألياتها.

٢٢ ـ (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ ...) أي على بعضها من الإبل والبقر في البرّ والأكثر على أن المراد من مرجع الضمير في عليها هو الإبل لمناسبتها مع الفلك ، ولذا أطلق على الإبل سفينة البرّ كما في قول ذي الرمة ، سفينة برّ تحت خدّي زمامها (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي الإبل والفلك تحملكم في البرّ والبحر وهذه من النعم العظيمة التي لا بد من شكر منعمها وهو الله الذي خلقها. وكانوا قبل هذه النعم يحملون أثقالهم على ظهورهم الى بلاد لم يكونوا بالغيها إلّا بشقّ الأنفس. فالفلك كالإبل في الانتفاع من جهة

الحمل وبهذا الوجه جمع بين النعمتين من الإبل والفلك ، وهذا كقوله ، وحملناهم في البر والبحر أي على الإبل والفلك ولما كان البيان في ذكر شمول نعمه على الخلق أتبعه بذكر عمدة انعامه عليهم بإرسال الرّسل فقال تعالى :

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

٢٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ...) أي من المرسلين في الأمم الماضية هو نوح ، وهو آدم الثاني لأن الناس بعد الغرق ، من أولاده غالبا على ما أشرنا سابقا والحاصل أنه بعد إرساله عليه‌السلام دعا قومه إلى عبادة الله وإلى توحيده وخوّفهم بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه ويهلككم؟ فلم يسمعوا دعاءه بل نسبوه إلى الجنون كما أشار سبحانه في الآية الكريمة ٢٥.

٢٤ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) لم يسمعوا كلامه ونصحه ، بل قال الملأ : الجماعة الكافرون من قومه ما هذا ما هذا (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) هو إنسان مثلكم ولا يفرق عنكم ، بل (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يريد أن يجعل نفسه أفضل منكم مرتبة وأعلى مقاما مع أنه منكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا فعلا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) من عنده يبلّغون الناس ما يجيئون به من عند ربّهم (ما سَمِعْنا بِهذا) بمثل هذا القول الذي يحمله نوح (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) فلم يقل لنا آباؤنا شيئا يثبت أن الرسول يكون من البشر.

٢٥ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ...) نوح هذا به جنون اعتراه حتى ادّعى هذه الدعوى (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا به واصبروا (حَتَّى حِينٍ) إلى وقت ما ، ليذهب جنونه أو يموت ، أو يقضى بيننا وبينه.

٢٦ و ٢٧ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ...) بعد هذا العناد الشديد من قومه ، دعا نوح ربّه أن ينصره على قومه الذين كذّبوا قوله ورفضوا دعوته وسخروا به فدعاه أن يعينه بإهلاكهم (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أنزلنا عليه وحيا من عندنا (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) ابدأ بصناعة السفينة مقدّمة لإهلاك قومك بأعيننا : بمنظر ومرأى منا حتى نراعيك ونحفظك من أن تخطئ فيه أو يفسد عليك مفسد ، أي لا بدّ وأن يكون عملك للسفينة نصب أعيننا (فَأَوْحَيْنا) بأمرنا وتعليمنا كيف تصنع (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بنزول العذاب

(وَفارَ التَّنُّورُ) أي أن العلامة بيني وبينك بزمان نزول العذاب هو فوران الماء ونبعه من التنّور. فإذا رأيت الماء يفور منه فاركب أنت ومن آمن بك ـ ومن العجيب أن الذي يخبرك بنبع الماء من التنّور ، هي امرأتك حتى يكون سبب الغرق من موضع الحرق!. فمن كان هذه قدرته ينبغي أن يعبد ويخضع له لا ما يبول الثعلب على رأسه ولا يقدر أن يدفعه. (فَاسْلُكْ فِيها) أي فأدخل فيها (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) اي تأكيد بالدّعاء بإنجائهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) هذه الجملة علة للنهي عن الدّعاء بالإنجاء ، لأنّه قضى عليهم بالغرق كابنه كنعان وأمه واغلة.

٢٨ و ٢٩ ـ (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ ...) يعني إذا صعدت إلى (الْفُلْكِ) أي السفينة ، واستقرّيتم عليها (فَقُلِ) داعيا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) احمد ربّك واشكره لأنه خلّصكم من الذين ظلموكم وسخروا منكم واستخفّوا بكم (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي حين نزولك. وفي الفقيه قال النبي (ص) لعلي (ع) يا علي إذا نزلت منزلا فقل : ألّلهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين وقرئ بفتح الميم وكسر الزاي ، أي إنزالا مباركا أو نزولا مباركا وذلك تمام النجاة. وقيل المنزل المبارك هو السفينة لأنها سبب النجاة ، وقيل المكان المبارك بالمياه والشجر وكثرة النعم هو المراد بالمنزل المبارك الذي دعا للنزول فيه. وبناء على ضمّ الميم كان مصدرا ميميّا بمعنى الإنزال كما فسّرناه أوّلا وثانيا.

٣٠ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ...) أي في إغراق قوم نوح ونجاته وأهله إلّا من سبق عليه القول بإهلاكه من أهله ونجاة المؤمنين به (لَآياتٍ) لأهل العبرة والهداية (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) كلمة إن مخفّفة والمراد بالمبتلين أي المختبرين والممتحنين من عبادنا ليتذكروا أو المصابين قوم نوح بالبلاء العظيم والعذاب الشديد

* * *

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١))

٣١ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ ...) أي أوجدناهم بعد إهلاك قوم نوح وإفنائهم (قَرْناً آخَرِينَ) قوما غيرهم وهم عاد وثمود ، وقيل هم عاد فقط.

٣٢ ـ (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...) أي بعثنا رسولا منهم : بشرا ، هو هود عليه‌السلام يأمرهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بعبادة الله تعالى الّذي (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ليس لكم ربّ سواه (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون من عقوبته وعذابه وتتجنّبون غضبه وسخطه؟ ..

٣٣ و ٣٤ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) قال الكافرون من قومه (كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أنكروا البعث والحساب يوم القيامة (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وكنّا قد أنعمنا عليهم في حياتهم ، قالوا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) مرّ تفسيره ، فهو مثلكم (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من الطعام (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ولا يمتاز عنكم بشيء (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) إذا سمعتم كلامه حال كونه مثلكم ، وألقيتم له بالطاعة (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لا تصيبون ربحا بذلك.

٣٥ و ٣٦ ـ (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً ...) أي هذا الذي يدّعي النبوّة يقول لكم أنكم تعودون بعد أن تموتوا وتصيروا ترابا وعظاما بالية (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) تبعثون وتخرجون من قبوركم كما كنتم في دار الحياة؟ ... (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) هيهات : اسم فعل ماض موضوعة للاستبعاد ، أي : بعدا لما يقوله من المحال وهو بعث الأجساد بعد فنائها. وهيهات الثانية تأكيد للأولى واللّام لبيان المستبعد ، أي : بعيد بعيد ما وعدكم به هود من أنكم تحيون بعد ما تموتون ، وتبعثون بعد ما تدفنون ، وتحاسبون على أعمالكم فتعذّبون ، فهيهات هيهات لما يتوهّم هود بما يقوله! ...

٣٧ ـ (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) أي ما هي إلّا هذه الحياة التي نعيشها ، وليس هناك من حياة غيرها ، ففي هذه الدنيا نحيا ونموت (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ولسنا بمعادين بعد الموت.

٣٨ ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى ...) أي ليس هود سوى رجل افترى : ارتكب فرية وكذبا (عَلَى اللهِ) وليس ما جاء به من عند الله (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ولسنا بمصدّقين ما افتراه واختلقه.

٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ...) مرّ تفسيرها قريبا (قالَ) الله تعالى له مجيبا دعاءه : (عَمَّا قَلِيلٍ) بعد فترة بسيطة (لَيُصْبِحُنَ

نادِمِينَ) ليصيرنّ نادمين على تكذيبك ، وعلى عنادهم وثباتهم على الكفر وعدم إيمانهم ، وخصوصا إذا رأوا العذاب.

٤١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ...) أي حلّت بهم وأصمّتهم صيحة جبرائيل عليه‌السلام حين صاح بهم صيحة هائلة منكرة تصدّعت لها قلوبهم وتمزّقت أحشاؤهم (بِالْحَقِ) بالحكم العدل من عند الله تعالى لأنهم كانوا مستحقّين لها. وهذه الآية تدل على أن قوم صالح أهلكوا بالصيحة كما هو واضح (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) فعن الباقر عليه‌السلام : الغثاء : اليابس الهامد من نبات الأرض. وقد شبّههم سبحانه بغثاء السيل وهو ما تحمله المياه الجارية على سطحها من الحشائش والنباتات اليابسة والأوساخ (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بعدا : منصوب على المصدرية للمقدّر : أي بعدوا بعدا. ويحتمل أن تكون للإخبار أو الدعاء عليهم ، والمقدّر هو بمعنى : هلك هؤلاء ، أو أهلكهم الله ، وهذا له نظير : سحقا ، من المصادر الموضوعة موضع أفعالها كما لا يخفى على من تأمّل موارد استعمالها.

* * *

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥))

٤٢ و ٤٣ ـ (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ...) مرّ تفسيرها وهي تعني قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي

لا يسبق وقت هلاكها الأجل المعيّن له في وقته ، فإن لها أجلا محدّدا لا يتقدّم (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ولا يتأخرون عن ملاقاة هلاكهم في موعده المقرّر.

٤٤ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ...) أي بعثنا رسلنا من الأنبياء إلى مخلوقاتنا من الناس ، (تَتْرا) متتالية واحدا بعد واحد ، من الوتر الذي هو الفرد ، وكانوا (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) فلم يصدّقوا قوله (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي جعلنا إهلاك تلك الأقوام الكافرة متتاليا ، نهلك أمة بعد أمة (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) فما أبقينا منهم أثرا إلّا ما يشير إلى كونهم عبرة للخلق يتمثل بهم من بعدهم ليعلموا ان الله تعالى ينتقم من أعدائه الظالمين في الدّنيا والآخرة فيتعجّبوا منهم ويعتبروا من محو آثارهم وإفنائهم بأنواع العذاب.

٤٥ ـ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ ...) أي بعثناهما (بِآياتِنا) التسع المشهورات المذكورات في الكتاب والسنّة (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجّة واضحة ملزمة للخصم وهي العصا وتخصّها بالذكر مع أنها داخلة في الآيات لكونها اهمّ الآيات وأمّ المعجزات فإن كثيرا ما تولّد منها كشق البحر وجريان المياه من الحجر وبلع ما عمل السحرة وحراسة موسى إذا نام والاستضاءة بها في اللّيالي المظلمة كالقمر المنير والأمور الأخرى التي يحتاج إليها موسى في السّفر والحضر فلها امتيازات خاصّة بها.

* * *

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨))

٤٦ ـ (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ...) الملأ الجماعة من القوم ، وأشراف القوم الذين يملأون العيون أبّهة والصّدور هيبة ، وأصحاب التّشاور في الأمور (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الايمان والمتابعة (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) اي أرباب علوّ وقهر واستيلاء وأرباب أنفة وسلطان ولذا يرون أن التبعية لموسى والإيمان بالله خلاف مقامهم وشأنهم. ويدلّ على ما قلنا قولهم بعد ذلك :

٤٧ ـ (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ...) فقال آل فرعون مثلما قال من سبقهم : هل نؤمن لإنسانين مثلنا وليسا من الملائكة من عند الله (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي أن بني إسرائيل نحن نستعبدهم ونستخدمهم في مصالحنا.

٤٨ ـ (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ...) أي أن فرعون وقومه لم يصدقوا موسى وهارون عليهما‌السلام ، فكانوا ممّن قضينا عليهم بالغرق في بحر النيل.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢))

٤٩ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ...) أي : قد أنزلنا على موسى الكتاب الذي هو التوراة لعلّهم يسترشدون بها ويهتدون لما فيها من الحق والشرع.

٥٠ ـ (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ...) أي جعلناهما معجزة أظهرناها للنّاس بقدرتنا لأن عيسى عليه‌السلام ولد من غير أب وتكلّم في المهد صبيّا وله معاجز كثيرة ذكرناها سابقا ، ولأن أمّة سلام الله عليها حملت به من غير أن يمسّها بشر ، فكانا معجزتين عجيبتين (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أسكنّاهما في أرض مرتفعة هي بيت المقدس ، أو هي دمشق أو مصر وهي كلّها أراض مرتفعة (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي مستوية يستقرّ عليها والمراد بالمعين هو الماء الجاري الصافي الهنيء. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام قال الربوة نجف الكوفة ، والقرار مسجد الكوفة والمعين : الفرات.

٥١ ـ (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ ...) أي المستلذّات المباحات (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي الإتيان والعمل بأوامره وترك نواهيه. وتقدّم أكل الطيّب على العمل الصّالح لأن الثاني نتيجة الاول. وقال بعض أهل المعرفة إن اللقمة بذر ، وكلّما كان البذر أحسن فالزرع أحسن فالثمر أعلى وأرقى ، وأكل الحلال يظهر أثره في جميع أحوال الإنسان وبالأخصّ في الرغبة إلى طاعة الله تعالى وفي كيفيّة العبادة بحيث يصير مصداقا للآية المباركة ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، بخلاف أكل الحرام أعاذنا الله منه حيث إن الإنسان يصير خاتمة أمره وعاقبته أن يكذّب بآيات الله وأحكامه ويستهزئ وتصير أحكامه تعالى كبيرة عليه كالجبال الراسيات. اللهم إلّا أن يوفّق للتّوبة ويترك الحرام وان كان بعيدا وهيهات هيهات أين يخليه الشيطان ويتركه حتى يوفق للتوبة وفي الحديث : إن الله طيب لا يقبل إلّا الطيّب (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) هذا البيان داع للعبد الى إصلاح عمله لأن العاقل إذا عمل عملا لمن يرى ويعلم حقيقة عمله ويجري على طبق ما يعمل ويعطى الأجرة على مقدار استحقاقه بعمله فالعامل طبعا يجدّ ويجتهد بتمام بذل وسعه حتى يصلح عمله ويأتيه على وفق مقصود آمره به فهذه التنبيهات لطف منه تعالى للعباد.

٥٢ ـ (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ...) أي أن هذه الأمم التي هي أممكم وأرسلتكم إليهم واحدا بعد واحد ، لا بدّ وأن تكونوا على مذهب

واحد وشريعة واحدة ومتوحدة على التوحيد (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي ليس لكم ربّ سواي فكونوا متّحدين ومتّفقين عليّ ولا تتفرّقوا عن عبادتي (وَأَنَا رَبُّكُمْ) إلهكم وخالقكم جميعا (فَاتَّقُونِ) فخافوني في الاختلاف وشقّ العصا فيما بينكم وفي النزاع بكلمة التوحيد ، ولا تتفرّقوا في شرعكم وفي أحكامه التي جاءكم بها رسلي واسمعوا قولهم وأطيعوا أوامرهم ونواهيهم لأنهم يؤدّون عنّي.

* * *

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

٥٣ ـ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ...) أي أنهم مع تلك الوصايا والبيانات الكافية بوحدة الكلمة في أمر الدّين ، ولا سيّما في التوحيد ، فإنّهم من شدة اختلافهم جعلوا دينهم أديانا مختلفة وطوائف متنازعة ، وزبرا : أي قطعا قطعا ، استعيرت من زبر الحديد ، فصار (كُلُّ حِزْبٍ) كل فريق منهم (بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون بما اتّخذوه دينا لأنفسهم ، وتحزّبوا له وأعجبوا به ورأوا أنفسهم هم المحقّين ، وغيرهم على الباطل. وفي القمي قال : كلّ من اختار لنفسه دينا فهو فرح به كمشركي العرب وكالمجوس واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم. ثم انه تعالى قرّعهم على ذلك الاختلاف ووجّه إليهم الوعيد والتهديد فقال :

٥٤ ـ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ...) أي اتركهم ودع هؤلاء الجهلاء في جهلهم الذي شبّهه سبحانه بغمرات المياه ، أي معظمها وكثيرها المتلاطم الذي يغمر القامة ويغطّيها ، فخلّهم في نزاعهم وحقدهم وتحاسدهم إلى حين : أي إلى وقت يقتلون فيه أو يموتون ، أو إلى وقت بعثهم وزمان حشرهم.

٥٥ و ٥٦ ـ (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ ...) أي ما نعطيهم ونجعله مددا لهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) كلمة (مِنْ) بيانيّة للموصول ، أي ما نرزقهم من الأموال والأولاد ، أيظنّون أنّا بعملنا هذا (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي هؤلاء الكافرون يظنّون أن ما نعطيهم ونزيدهم من أموالهم وأولادهم إنما نعطيهم ثوابا ومجازاة لهم على أعمالهم ولرضائنا عنهم لكرامتهم علينا واستحقاقهم ، ومكافأة لأعمالهم؟ ليس الأمر كما يظنّون ، بل ذلك إملاء لهم واستدراج لهوانهم علينا. وفي الحقيقة تلك المسارعة مبادرة لنا عليهم في الشرور حيث إنها معقّبة بالعذاب وبأخذهم أخذ عزيز مقتدر فجأة (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) الشعور هو العلم بالمعلوم الدّقيق ودقيق فهمه على صاحبه. وحاصل المعنى أن هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم في المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات. وكلمة (بَلْ) استدراك لقوله أيحسبون ، أي بل هم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى يتفكّروا في ذلك أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات. وفي المجمع عن الصّادق عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تعالى يقول : يحزن عبدي المؤمن أذا قتّرت عليه شيئا من الدّنيا وذلك أقرب له منيّ. ويفرح إذا بسطت له الدّنيا وذلك أبعد له منّي ، ثم تلا هذه الآية ، ثم قال : إنّ ذلك فتنة لهم. ثم أنّه تعالى بعد بيان أحوال الكفرة والفجّار ذكر أحوال المؤمنين الأخيار الأبرار ببيان أوصافهم بقوله :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا

نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

٥٧ و ٥٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ ...) أي من خوف عذاب (رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي حذرون. فالإشفاق يتضمّن الخشية ، إلّا أن الخوف مع زيادة رقّة وضعف ، فبهذا الوجه يفرّق بينهما. وقيل ، جمع بينهما للتّأكيد فإذا هما متساويان. وقيل الخشية هو العذاب فالفرق بيّن. وقيل الشفقة هو الميل مع الخوف كالعبد يميل إلى ولاه وخائف منه أيضا فالفارق موجود. ثم إنه جلّ وعلا عدّ لهم أربعة أو خمسة أوصاف بعد أن بيّن أنهم يؤمنون بآيات ربّهم ، ثم جعل الوصف الأخير أي الجملة الأخيرة المشتملة على وصفهم بالمسارعة خبرا للموصول في الجملة الأولى فيستفاد أن إيمان المؤمن لا يكمل إلّا بمجموع هذه.

٥٩ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ...) أي يوحّدونه ولا يجعلون له شريكا ...

٦٠ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ...) أي يعطون ما أعطوه من الصّدقات أو أعمال البرّ كلّها فدخل فيه كلّ حقّ لزم ايتاؤه سواء كان ذلك الحق من حقوق الله كالزكاة والكفارة وغيرهما أو من حقوق الآدميّين كالودائع والدّيون وأمثالهما (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) لأن من يقدم على عمل من العبادات والمعاملات وهو يعلم أنه على تلك الأعمال محاسب بحساب دقيق وأنّ عالم

السرّ والخفيّات مشرف على أعماله وهو بالمرصاد ، فهو وجلّ قهرا لأنه يحتمل أن يكون مقصّرا يخلّ بوظائفه ويفرّط في أعماله. وقيل في الكلام حذف وإضمار ، أي وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم كما فسّر أبو عبد الله عليه‌السلام به فقال معناه : قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم ، وذلك لعلمهم ب (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي لأن مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يخفى عليهم. فهذه الجملة في مورد العلّة لخوف قلوبهم ومتعلقة بوجلة بحذف حرف الجرّ. والحاصل أن المؤمن لا يرى في أعماله وأقواله إلّا ربّه لخوفه منه. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : إن استطعت أن لا تعرف فافعل ، وما عليك أن لا يثني عليك الناس ، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله. ثم قال عليه‌السلام قال أبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام : لا خير في العيش إلّا لرجلين : رجل يزداد كلّ يوم خيرا ، ورجل يتدارك السّيئة بالتوبة ، فبيّن عليه‌السلام ما هو شرط في قبول توبته وسبب لأن يوفّق للتوبة ، فقال ، أي مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله تبارك وتعالى منه إلّا بولايتنا أهل البيت. ألا ومن عرف حقّنا ورجا الثواب فينا ورضي بقوته نصف مدّ في كلّ يوم وما ستر عورته وما أكنّ رأسه ، وهم والله في ذلك خائفون ووجلون إلى آخر الحديث ...

٦١ ـ (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ...) أي يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرون بها. أو المراد مطلق الأمور الخيرية دنيوية كانت أو اخروية ، لقوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدّنيا وحسن ثواب الآخرة أي الأجر الدنيويّ ، وأحسن أجر في الأخرى (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي المتّصفين بتلك الصّفات المذكورة لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنّة. وقيل إنهم للخيرات سابقون غيرهم من المؤمنين. وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات.

٦٢ ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ...) يعني أن تلك الحسنات

والخيرات المذكورة الّتي كلّفنا العباد بها ليست بأمور شاقّة خارجة عن طاقة البشر ووسعهم فان التكليف بها مذموم قبيح ونحن لا نأمر به ومنزهون عنه بل هي أمور سهلة دون الطاقة والوسع. فهذه تحريض على ما هو المتصف به الصّلحاء والأبرار وترغيب للنفوس بأن تهفو إلى إتيانها حتى يعتادوا ويتصفوا بها وقد تأبى النفوس من تحمّل التكاليف حيث إنها ثقيلة على عامّة البشر ، ومن هنا سمّي تكليفا من الكلفة (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي صحيفة الأعمال أو اللّوح المحفوظ (يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يبيّن الحق ويشهد بالصّدق فيما كتب فيه من أعمال العباد أو جميع أمورهم معادا ومعاشا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان الثواب أو بازدياد العقاب على مقدار استحقاقهم.

٦٣ ـ (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ...) كلمة (بَلْ) إضراب عمّا سبق وردّ له وابتداء الكلام. والمعنى أن قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن. وقيل في جهل وحيرة غامرة لها ومحيطة بها اي انهم في غاية الغفلة (مِنْ هذا) اي مما وصف به هؤلاء ، أو من كتاب الأعمال ، أو من القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) سيّئة خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي سوى ما هم عليه من الشّرك (هُمْ لَها عامِلُونَ) لا يتركونها فإنهم معتادون على فعلها.

٦٤ ـ (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ ...) أي إلى أن نأخذ متنعّميهم (بِالْعَذابِ) في الآخرة أو القتل ببدر أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال اللهم اشدد ووطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. أي خذهم أخذا شديدا. فابتلاهم بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحروقة والقذر والأولاد (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يصرخون بالاستغاثة والدعاء لينجّيهم.

٦٥ ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ...) أي لا تصرخوا أو لا ترفعوا أصواتكم بالاستغاثة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي قيل لهم : لا تمنعون منّا أو لا يأتيكم نصر من ناحيتنا فنحن لا ننفعكم بعد تمام الحجة والبيان.

٦٦ ـ (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ...) هذه الكريمة في بيان العلّة لعدم النّصر (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تعرضون مدبرين عن سماعها فترجعون رجوع القهقرى. فإن النكوص هو الرجوع القهقرى.

٦٧ ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ...) أي بالقرآن بتضمين الاستكبار معنى التكذيب (سامِراً) أي تتحدثون تمام الليل بالطّعن في القرآن ولا تنامون اشتغالا بتكذيبه وذكره بأنه شعر أو سحر ، بل وبسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (تَهْجُرُونَ) أي تتركون القرآن أو تشتمونه أو تهذون به.

* * *

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

٦٨ ـ (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ...) أي القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدّلالات والعبر ويعلموا أنّه الحق من ربّهم. أو المراد من القول هو أقوال النّبي (ص) حينما أرسل لتبليغ الأحكام وتبيين الأصول (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) استفهام إنكاريّ ، أي كما جاءهم الرّسل والكتاب من الأقدمين والسّلف ، كذلك أرسلناك وأنزلنا إليك الكتاب حتى تقرأ عليهم وتنذرهم

من عذاب ربّهم. فإرسالك عليهم ليس بأمر بديع حتى يستنكروه.

٦٩ ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ...) أي ألا يعرفونه بالصّدق والأمانة ومكارم الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلّم ، وبشرف النّسب وغير ذلك مما هو صفة الأنبياء (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وهذا الاستفهام كما في السّابق للإنكار أي بل عرفوا جميع ذلك فلا وجه لإنكارهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٧٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ...) أي أنه مجنون ، فلا يعتنون بقوله فيقولون إن جنونه حمله على ادّعائه الرّسالة مع أنهم عرفوه كمال المعرفة بأنه أكملهم عقلا وأصدقهم قولا وأتقنهم عملا وأعرفهم بربّه وأعلمهم بأحكامه ، على أن كتابه متضمّن ومشحون بالدلائل الواضحة على صدقه في دعواه مضافا إلى أن المجنون كيف يمكنه أن يأتي بكتاب أعجز عقلاءهم وفصحاءهم وقصّروا عن الإتيان بآية من مثله. وإنما نسبوه إلى الجنون حيث كان صلوات الله عليه وآله يأمر صناديدهم وكبراءهم بانقياده والتسليم لأمره ونهيه وهذا كان عندهم من أشق الأمور وأصعبها ، فلذا نسبوه إلى الجنون ليتخلّصوا من إطاعته ولا ينقادون له ، فأوردوا ذلك استحقارا واستخفافا بشأنه حتى لا يرغب به أحد (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي بدين الحق المستقيم وهو الإسلام أو بقول الحق يعني القرآن (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنه مرّ والشيء المرّ مكروه عندهم وعند البشر ولا سيّما البشر المعاند.

٧١ ـ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ ...) الحقّ هنا هو الله تعالى. والمعنى : لو جعل الله لنفسه شريكا كما يهوون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وهذه الشريفة تفيد ما يستفاد من قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، ووجه الفساد هو التمانع والتزاحم. والحاصل ، أنه تعالى محال أن يصير تابعا لأهوائهم في جعل الشّريك والأمور الأخر التي يلزم منها الظلم والقبح (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بكتاب فيه وعظهم ونصحهم وما فيه فخرهم وشرفهم لأنّ الرسول منهم والقرآن نزل بلغتهم ـ وقرئ بذكراهم ، لأنهم

قالوا لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنّا عباد الله المخلصين ، فإذا أتيناهم بما فيه ذكر من الأوّلين وهو القرآن الذي فيه علم الأوّلين والآخرين (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي تاركون له وراء ظهورهم ، قد كذّبوا به. وفي الحقيقة أعرضوا عن شرفهم وفخرهم وما فيه خيرهم الدنيويّ والأخرويّ وذلك هو الخسران المبين.

٧٢ ـ (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ...) أي أجرا أداء الرّسالة فكان هذا ثقلا عليهم ، فلا يتحمّلونه فينفرون عن قبول الدّين والإيمان بك. فالاستفهام للإنكار ، أي ليس الأمر كذلك فإنك لست محتاجا إلى سؤال الخرج عنهم حيث إنّ خرجك على الله (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) والتّعبير عمّا نسب إليه بالخراج لأن فيه إشعارا بكثرته ولزومه ولذا غلب استعماله فيما يضع الإمام على الأرض أو يقاطعه مع الرّعايا وهو أمر معتنى به وكثير بخلاف الخرج فانه ما يخرجه الإنسان من ربحه ويعطى للغير وهو ـ نوعا ـ قليل ولا يعتنى به كما هو المشاهد المحسوس في الأسواق وغيرها. وزيادة المباني معروفة تدل على زيادة المعاني وجهته الخيرية لسعته ودوامه وعدم المنّة فيما يعطيه الخالق سبحانه وتعالى. والمراد بخراج الربّ هو رزقه الدنيوي وثوابه الأخروي (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) هذا تقرير لخيرية خراجه كما قررناه آنفا ـ وفي هذا دلالة على أن في العباد من يرزق غيره بإذنه جلّ وعلا ولو لا ذلك لما جاز أن يقول وهو خير الرازقين أي أفضل من أعطى.

* * *

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما

يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

٧٣ ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ ...) أي وظيفتك الدعوة إلى دين الإسلام (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الحقّ والعمل به على طريق العدل والاستقامة ، فإن ما دل الدليل عليه وقامت الحجة على صحته فهو مستقيم ، عدل. وفي الرواية : إلى ولاية أمير المؤمنين.

٧٤ ـ (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ...) أي عن جادة الهدى متمايلون إلى تيه الضلالة ووادي الغواية فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه فلو لم يخف الإنسان منها بل لم يقبلها فلا داعي له لطلب الحق والحقيقة.

٧٥ ـ (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ...) أي لو منعنا عنهم القحط الذي أصابهم بمكة سبع سنين (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ) أي لداوموا وثبتوا على ضلالتهم وإفراطهم في كفرهم وعداوة الرسول وتابعيه عليهم‌السلام ولا زالوا (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ويترددون في طريق الحق. والحاصل لو رفعنا العذاب عنهم لما تابوا بل كانوا ثابتين راسخين على عنادهم ولجاجتهم وعتوّهم. وروي أنهم قحطوا حتى أكلوا (العلهز : القراد الضخم وطعام من الدّم والوبر كانوا يتخذوه في المجاعة) فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أنشدك الله والرّحم ألست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين؟ قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع. فنزلت الكريمة حتى لا يسأل النبيّ رفع العذاب عنهم لأن في الرفع خلاف المنّة والصلاح.

٧٦ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ ...) أي القتل يوم بدر (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) هذه تقرير يؤيد عدم الفائدة من رفع العذاب فلا

مورد لرفعه ولسؤال رفعه ، فكانت تسلية لقلبه الشّريف صلوات الله عليه.

٧٧ ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ ...) أي نوعا آخر من العذاب ، وهو أشد من الأول يعني الجوع فإنه أشد من القتل والأسر. أو المراد هو فتح مكة الذي صاروا فيه أذلّاء أشدّ الذلّ مضافا إلى الخوف الذي كادت قلوبهم أن تنصدع وتنشق وكان غاية أملهم أن يمنّ عليهم النبيّ الأكرم باستعبادهم ولم يقتلهم وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل بهم هكذا وقال : اذهبوا فأنتم الطّلقاء ، وما قتل منهم أحدا وكان هذا أشد ذلّا من القتل والأسر عليهم. قال أبو جعفر (ع) وهو في الرجعة عند قيام القائم. والحاصل فإنهم في هذه المرّة الثانية على اختلاف الأقوال فيها (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون أو مأيوسون ، فإن الإبلاس بمعنى اليأس من كلّ خير. ففي هذه المرّة نزلوا عن عتوّهم واستكبارهم بحيث أرسلوا كبراءهم وأشرافهم إلى النبيّ واستعطفوه واسترحموه. فهذه الكريمة على هذا التفسير يناسب أن يكون المراد بها هو قضيّة القحط أو فتح مكة أو هو بدر كما قيل ، والله أعلم بما أراد. ثم بعد ذلك ذكّرهم بعض نعمائه عليهم بقوله سبحانه :

* * *

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ

أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

٧٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ ...) من النّعم الّتي أودعها الله سبحانه في الهيكل البشريّ قوّة السمع والبصر ، وتقديم السّمع على البصر لأهميّته وأشرفيّته عليه كما عليه المحققون من الأعلام ، ولعل ذلك بمرتبة من الوضوح بحيث لا يحتاج الى التّوضيح ويفهمه الإنسان بأدنى توجّه وتفكّر (وَالْأَفْئِدَةَ) وهذه جمع فؤاد وهو القلب الذي هو من تلك النّعم المودعة المنشأة ولولاها لفسدت جميع الجوارح وانعدمت القوى كلها ، فهي سلطانها وركن أركانها كما في علم التّشريح. وحاصل تلك الكريمة أنه تعالى على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب توبيخا وتقريعا يقول : نحن الّذين أنعمنا عليكم بالسّمع والبصر والفؤاد حتى تسمعوا به ما يقرأ أنبياؤنا المرسلون عليكم من آياتنا وكتبنا النازلة إليهم ، وتنظروا إلى معاجزهم وخوارق عاداتهم ، ثم بعد ذلك تتفكّروا في آياتنا البيّنة ومعاجزنا الباهرة فتستدلّوا على وجود صانع حكيم تفرّد في وحدانيته وقدرته. فإذا استعملتم تلك الحواس فيما هو مؤدّ إلى المعرفة بما قلنا فأنتم من الشاكرين لأنعمنا بتمام الشكر وكماله ، وإلّا لم تكونوا من الشاكرين أصلا أو (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وقليلا صفة لمفعول مطلق مقدّر ، و (ما) زائدة للمبالغة في قلة الشكر أو مقحمة لنفي الشكر ، أي لا تشكرون ولو شكرا قليلا.

٧٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ ...) أي أوجدكم وأنشركم بالتّناسل في أرضه (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي إليه تبعثون في يوم الحشر وتجمعون عنده للحساب والجزاء.

٨٠ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي اختلافهما بالازدياد والانتقاص فذلك يختص به تعالى ولا يقدر على ذلك أحد ، وتقديم الجارّ الإفادة الحصر والاختصاص (أَفَلا تَعْقِلُونَ) اي لم لا تتعقلون

ولا تتأمّلون أن صدور جميع المكوّنات منّا ، وأن قدرتنا تعمّ كلّ شيء ومنه البعث والنشر ولماذا ينكره أهل مكة بلا رويّة؟

٨١ ـ (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ ...) أي قلّد كفّار مكة آباءهم السابقين في مقالتهم الفاسدة التي هي :

٨٢ ـ (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ...) قال أسلافهم من الكفرة في مقام إنكار البعث : هل إذا متنا وصرنا ترابا وفنيت أجسادنا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) سنبعث من جديد وتعود أجسادنا كما كانت؟ القائل بذلك كاذب ونحن لا نصدّق ذلك وننكره. يقولون ذلك وقد نسوا أنهم خلقوا من العدم وكانوا ترابا قبل خلقهم ، ولمزيد الإنكار قالوا :

٨٣ ـ (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا ...) أي أن مسألة الوعد بالبعث والنشور أمر سمعناه من قديم الزمان ، وسمعه آباؤنا وأجدادنا من سائر الأنبياء ونحن إلى الآن لم نر أثرا لهذا الوعد ، ولم يبعث آباؤنا وأجدادنا لنصدّقه ، وقد طال العهد بهذا الوعد (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذه أكاذيب سطّرها السابقون وكتبوها من عندهم ، وهي مما لا حقيقة له ولا واقع. و (أَساطِيرُ) جمع أسطور وهي الحديث الذي لا أصل له ، أو جمع أسطار التي هي جمع سطر بمعنى الخط ، أي الكتب. فأساطير الأولين هي ما سطّره السابقون من أعاجيب أحاديثهم وأخبارهم الخرافية.

* * *

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ

بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩))

٨٤ ـ (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ...) لا يخفى على عاقل أن إيراد هذه الآية الكريمة وما يليها استدلال على منكري إعادة الأجسام ، والردّ على عبادة الأوثان ، وذلك لأن قريش كانوا أكثرهم مقرّين بالله لكن كانوا يقولون نعبد الأصنام ليقرّبونا إلى الله. فاحتّج الله عليهم بقوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ) الآية ، أي من كان خالقا للأرض ومن فيها ، قادرا على الإحياء والإماتة ، وأنعم عليكم بتمام النعم؟ أو ليس ينبغي أن لا تعبدوا إلّا إيّاه وتكفّوا عن عبادة ما لا ينفعكم ولا يضرّكم؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) لتعلموا بطلان ما أنتم عليه من عبادة الجمادات؟ ثم زاد في الاحتجاج فقال :

٨٥ ـ إلى ٨٧ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ...) وجه الاستدلال أنه تعالى خاطب نبيّه (ص) أن اسأل يا محمد عن مدبّر السّماوات السّبع (وَرَبُّ الْعَرْشِ) وخالقهما فإنّهما أعظم من الأرض فلا بدّ لهم من الاعتراف والقول بأنّه هو الله (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فلم لا تتّقون ولا تخافونه وتعبدون غيره وتنكرون المعاد مع أن بدء الخلق ليس بأهون من إعادته بل هو أشد حيث أنّ إيجاد المعدوم وهو أشد بنظركم وعندكم من إعادة الموجود. ثم إنه تعالى ترقّى في الحجة فقال :

٨٨ و ٨٩ ـ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ...) الملكوت تاؤه للمبالغة في الملك كالجبروت ، ولذا عدّ من صيغ المبالغة ، ومعناه الملك العظيم والعزّ والسلطان الكبير وقيل معناه هنا هو الخزائن أي من بيد قدرته خزائن الدّنيا والآخرة (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يؤمّن ويحفظ من العذاب من يشاء (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي ليس لأحد أن يؤمّن ويغيث أحدا من عذابه تعالى إلا بمشيئته .. وتعدية (أجار) ب (على) لتضمينه معنى النّصر ، يعني لا يمكن لأحد أن ينصر أحدا على الله وينجّي أحدا من عذابه تعالى بلا

رخصة وإجازة منه سبحانه. والحاصل : قل يا محمد لهؤلاء القوم : من هو المتّصف بهذه الصفة وغيرها من صفات العظمة والجبروت (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تدركون ذلك المعنى السامي؟ فإذا كان عندكم علم بذلك فقولوا لي. ولن تقولوا إلّا أن الله تعالى يملك ذلك كله (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فكيف يتلبّس عليكم الأمر الواضح. وقيل باختصار : إنه سبحانه ينقذ من هرب إليه ، ولا ينقذ أحد هرب منه ، لأنه يمنع من يشاء ولا يمتنع منه أحد.

* * *

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))

٩٠ ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ ...) أي نحن جئناهم بالحقّ وبيّنا لهم الحق من التّوحيد والوعد بالنشور ونفي الولد ومع ذلك (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لأنهم أصرّوا على كذبهم في دعواهم الولد والشريك له تعالى.

٩١ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ...) في الكلام تنبيه على نفي قول الكفّار حيث إن جمعا منهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، أو كالنّصارى فإنهم يقولون بأن المسيح ابن الله ، وكذلك الكلام في مقام نفي الشريك عنه بقوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) لتقدسه عمّن يساهمه في الألوهيّة (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) هذه الجملة في موضع العلة لما تقدّم من قوله وما كان معه من إله ، ومفادها ، مفاد قوله لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا وقد تقدّم شرحها. وقوله إذا لذهب جواب وجزاء لشرط محذوف

تقديره : لو كان معه آلهة إذا لذهب. وأكد العلّة بما هو قريب منها في المعنى وهو قوله (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) كما هو شأن الملوك فهذا التدبير المحكم الدائم والنظام الأحسن الذي هو على نسق واحد يدل على صانع واحد حكيم .. ثم هو تعالى شأنه نزّه مقامه السّامي عمّا يصفه به الجهلة وينسبه إليه السّفهاء فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) من نسبة اتخاذ الولد إليه والشريك له تعالى.

٩٢ ـ (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عالم بما غاب وبما حضر وهو تعالى مختصّ بالعلم بهما ولو كان علمه بما حضر فقط فقد كان ناقصا من ناحية احتياجه إلى العلم بما غاب عنه ، والنقص والاحتياج من صفات الممكن لا الواجب بالذّات الذي هو غنيّ من جميع الجهات. والحاصل أن العلم بما كان وسيكون وبما لم يكن من مختصّات ذاته تعالى ومتفرّداته. وهذا دليل آخر على نفي الشريك لتوافقهم على تفرّده في هذا الوصف انحصاره به ، ولهذا رتّب عليه قوله (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزّه عن إشراكهم في علمه وقدرته وألوهيته ثم إنه تعالى علّم رسوله الدعاء للنّجاة من العذاب الذي قد يحيق بالكفار ورسم له نهجا معيّنا فقال تعالى :

* * *

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨))

٩٣ و ٩٤ ـ (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ ...) أي إن كان ولا بدّ من أن تريني ما تعدهم من العذاب والنقمة (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تعذبني معهم ولا تجعلني قرينا لهم لئلا يصيبني ما يصيبهم. وكلمة (إِمَّا) مركبّة من (إن) المخفّفة و (ما) الزائدة للتأكيد. وهذا الكلام إمّا للتواضع وهضم النفس واما للتعبد والإخبات وإما للتنبيه على أن نازلة العذاب قد تصيب من لا تقصير له ولا ذنب كما يشير إلى هذا قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً). وتكرير النّد أو تصدير كلّ واحد من الشرط والجزاء به كاشف عن فضل التضرع ومزيّة الاستجارة وقد روي عن الحسن أن الله تعالى أخبر رسوله (ص) بنزول العذاب على كفرة قريش ولم يخبره أن وقوعه حين حياته أو بعد موته ، فلذا أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الدّعاء حتى إذا كان في حياته لا يكون صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم.

٩٥ ـ (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ...) أي نحن (لَقادِرُونَ) على أن نريك العذاب الموعود والعقوبة التي وعدنا أن نعاقبهم بها ، لكن التأخير لمصلحة وحكمة اقتضته ، ويمكن أن يكون السبب فيه أن بعضهم أو بعض أعقابهم من يؤمن بالله ، أو ما دام النبيّ (ص) فيهم لم يعذب قومه لأنه رحمة للعالمين. والأكثر أن العذاب الموعود هو قضية واقعة بدر. وعلى هذا فالاحتمال الأخير في سبب التأخير غير محتمل إذ قيل هو فتح مكة الذي هو بعيد لأنه لم يكن عذابا عليهم وان صاروا أذلّاء أسراء وصاروا طلقاء أحرارا في حماية المسلمين إذ شملتهم رحمة النبيّ الأكرم الذي كان رحمة للعالمين فما وقع فيهم قتل ولا تبعيد ولا طال عليهم الأسر وقيل هذا الموعود وهو بعد النبي ، على ما يستفاد من الرّوايات التي وردت في ذيل الشريفة في محالها فليراجع. ثم بعد ذلك أمره سبحانه قائلا له :

٩٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) أي ادفع كيدهم بالإغضاء والصّفح

عن إساءة المسيء. وقد كان هذا في بدء الإسلام قبل الأمر بالقتال. وقيل معناه : ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه وأوضحها. وأقربها إلى الإجابة والقبول وقيل إن المراد بالأحسن هي كلمة التوحيد ، والسّيئة هي الشرك (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) اي بما يصفونك به من السحر والشعر والجنون ، أو المحذوف هو ياء المتكلّم (على قراءة : بما يصفون) أي ما يصفوننا من اتخاذنا الولد أو الشرك فلا يخصّك أمرهم ونحن نجازيهم قريبا. فالكريمة تسلية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة بحفظه منهم ، ولذا أمره بالاستعاذة منهم أي من نزعات الشياطين. ومن نخساتهم ووساوسهم وبيّن كيفية الاستعاذة بقوله سبحانه وتعالى :

٩٧ ـ و ٩٨ ـ (قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ ...) أي قل على وجه الابتهال والتضرّع فإن الدعوة على هذا الوجه مطلوبة ومرغوبة فاستعذ (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) اي من الخطرات التي تخطر بقلب الإنسان ووساوسه (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يحوموا حولي في شيء من الأحوال.

* * *

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

٩٩ و ١٠٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ...) كلمة (حَتَّى) متعلّقة ب (يَصِفُونَ) أي أن الكفّار يبقون على سوء ما هم عليه إلى أن يعاينوا ما أعدّ لهم من النكال حين يجيء إليهم الموت فيسألون الله الرجعة إلى دار الدنيا لأنها دار التكليف فيقول أحدهم (رَبِّ ارْجِعُونِ) مخاطبا الملائكة أو مستغيثا بالله سبحانه (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي عملا صالحا (فِيما تَرَكْتُ) من الطاعات وأداء الزكوات ، فيأتيه الجواب من قبل الله تعالى : (كَلَّا) كلمة ردع عن طلب الرجعة ، أي لا سبيل إلى إرجاعك. وقد روي عن النّبي (ص) أن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا له : أنرجعك إلى الدنيا؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول : ربّ ارجعوني. ويمكن أن يكون الجمع في الفعل (ارْجِعُونِ) تعظيم المخاطب على عادة العرب في تعظيم المخاطب كما قال سبحانه : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ) ، مع أن المخاطب شخص واحد. (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) لفرط تحسّره المتسلّط عليه ، وهو مجرّد لفظ لا حقيقة تترتّب عليه لأنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، فلا يجاب عليه. وقد قال الفتح بن يزيد الجرجاني : سألت الرّضا عليه‌السلام : هل لله تعالى علم بأمر معدوم لو وجد بأيّ كيفية ومن اي نوع يكون؟ قال (ع) : ويحك ، إن مسألتك لصعبة ، أما قرأت قوله عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ولعلا بعضهم على بعض؟ فقد عرف الذي لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان ويكون. وقال (ع) وهو يحكي قول الأشقياء : ربّي ارجعوني لعلّي أعمل صالحا فيما تركت ، كلّا إنها كلمة هو قائلها. وقال : ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون. فقد علم الشيء الذي لم يكن لو كان كيف يكونه وهو السميع البصير الخبير العليم (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وراء الإنسان هو خلفه ، وقد يجيء بمعنى القدّام ، فهو من الأضداد. ومعناه هنا هو القدّام ، والبرزخ الحاجز بين الشيئين ، ما بين الدّنيا والآخرة. وفي الحديث هو القبر. وفي الخصال عن السّجاد (ع) أنه تلا هذه الآية وقال : هو القبر ، وإن لهم فيها معيشة ضنكا ، والله إنّ القبر

لروضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النّار وفي الكافي عن الصّادق (ع) أنه قيل له : إني سمعتك وأنت تقول : كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان منهم؟ قال : صدقتك كلّهم والله في الجنّة قيل إن الذنوب كثيرة ، فقال (ع) أما في القيامة فكلّكم في الجنة بشفاعة النّبيّ المطاع أو وصيّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكني والله أتخوّف عليكم في البرزخ في القبر منذ حين الموت إلى يوم القيامة.

١٠١ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ...) أي لا تنفعهم الأنساب بالتّعاطف والتراحم الذي يتولّد من النسبة ويفتخرون بها. وكلّ ذلك لا ينفع في ذلك اليوم إلّا التّقوى والعمل الصّالح (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل أحد أحدا عن حاله ومجاري أموره من فرط الحيرة واستيلاء الدّهشة بحيث يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وكلّهم مشغولون بأنفسهم. وهذه لا تتناقض مع قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عند النفخة الأولى في الصور.

١٠٢ و ١٠٣ و ١٠٤ ـ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ...) أي من رجحت موزونات أعماله الحسنة المبنيّة على عقائده الصحيحة ، فهو من الفائزين (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وإنّما تخفّ موازينه لخلوّها من العمل الصالح ولرجحان السيئات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) غبنوها بابطال أوقاتهم وأعمارهم في الدنيا وتضييع استعداداتهم وطاقاتهم التي كانت تكفل كمالهم فلم ينتفعوا بها ، فهم (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) يعذّبون فيها إلى أبد الأبد (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرقها أشد حرق بلهبها ، و (كالِحُونَ) مشوّهو الوجوه بتقلّص جلودها وتقلّص شفاههم عن أسنانهم ، أو عابسون. وعن مالك بن دينار ، أن غلاما في أوّل أمره كان من الفسّاق والفجار ، ففي يوم من الأيام كان يمشي في السّوق فرأى رأس غنم أخرج من التنّور فنظر اليه فرأى أن شفتيه قد كشحتا وأسنانه ظهرت فمرّ بخاطره أن وجوه أهل النار تكون بتلك الكيفية فشهق

ووقع على الأرض إلى ثلاثة أيام ، فلما أفاق من غشوته تاب وصار من زهّاد زمانه بحيث صار مشهورا بزهده وتقواه وكان اسمه عتبة ولقبه غلام. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي (ص) في تفسير الآية الكريمة أن النار تشويهم فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرّته.

* * *

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

١٠٥ ـ (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ...) أي ألم تكن تقرأ عليكم آياتي في القرآن ، أو الحجج والبراهين الدالّة على وجود الصانع وتوحيده؟ ويقال لهم هذا تذكيرا بما قصّروا فيه بحق أنفسهم وتوبيخا لهم وتقريعا.

١٠٦ ـ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ ...) الشّقوة والشّقاوة معناهما واحد ، وهو المضرّة اللاحقة بالعاقبة. والسعادة ضدّها وهي المنفعة التي تلحق بالعاقبة. والمعنى : استعلت علينا سيئاتنا التي

أوجبت لنا الشقاوة. وقد قال الصادق عليه‌السلام : بأعمالهم شقوا ، وقد كانوا (ضالِّينَ) عن الحق والهدى فقالوا عند معاينة العذاب :

١٠٧ ـ (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ...) قيل هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار ، وبعد ذلك يسمع لهم زفير وشهيق كشهيق الحمار.

١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ و ١١١ ـ (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ...) أي اسكتوا ممقوتين خائبين مخيّبين ، وهذه مبالغة في إذلالهم وهو انهم وإظهار الغضب عليهم ، لأن منع الكلام عن المتكلّم فيه غاية مقته وإذلاله لا سيّما في خطاب فيه زجر كزجر الكلب في مقام زجره وتبعيده. فاخسأوا أيها الظالمون (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) المؤمنين بي (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) صدّقنا بكلماتك (فَاغْفِرْ لَنا) تجاوز عن ذنوبنا (وَارْحَمْنا) ارأف بنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لأنك أرحم بالعبد من نفسه ومن أبيه وأمّه (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) جعلتم هؤلاء المؤمنين (سِخْرِيًّا) هزئتم بهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) وقد نسب الإنساء إلى المؤمنين وإن لم يفعلوا لأنهم كانوا السبب في ذلك ، فمن فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم حين كانوا يقولون : (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا) نسيتم ذكري وكذّبتم بهذا اليوم. وأكّد سبحانه ذلك بقوله : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) استهزاء بهم. وهذا العذاب هو جزاء سخريتكم وضحككم وتكذيبكم بيوم القيامة ، وأمّا جزاء المؤمنين ف (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) بصبرهم على أذيّتكم لهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) وقد كرر الضمير (هُمُ) للانحصار والمبالغة في كون الفوز بالمقصود والمطلوب لهم ، أي أنهم هم الظافرون بما أرادوا والناجون في الآخرة.

* * *

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣)

قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

١١٢ و ١١٣ ـ (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ...) السائل هو (الله تعالى ، أو الملك المأمور بالسؤال للكفار في يوم البعث. وهذا سؤال توبيخ واستهزاء لمنكري البعث والحساب. ونصب (عَدَدَ) على التمييز من (كَمْ) ف (قالُوا) بفشل وخيبة : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم كانوا ينكرون الآخرة وانحصر اللّبث في الدنيا وقالوا لا إعادة بعد الموت ، فلما وقعوا في النار وأيقنوا أنها دائمة سألهم كم لبثتم في الأرض تهكّما وتوبيخا وتنبيها على أن ما ظنوه دائما فهو يسير بالنسبة إلى ما أنكروه. فحينئذ تزداد حسرتهم على ما كانوا يعتقدونه في الدّنيا : وقولهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنّهم نسوا من كثرة العذاب وشدّته ، لا أنهم كذبوا تعمّدا. وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعنون الحفظة الذين يحصون أعمال العباد ويعدّون أيام أعمارهم وساعاتها وعدد تنفّسهم.

١١٤ ـ (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً ...) هذا القول منه تعالى تصديق لهم في كون مكثهم في الدنيا يسيرا بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنم ، لكنه تصديق توبيخ على غفلتهم في دار الدّنيا على ما كانوا عليه من السرور والفرح والتوغّل في معاصي الله ونسيانهم ذكره تعالى ولعلهم لهذه الجهة قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لا من باب النسيان أو بالاضافة إلى أن الإنسان إذا كان في النعيم تجيء أيام السرور في نظره قصيرة وإن كانت طويلة (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نسبة أيام سروركم في الدنيا إلى لبثكم وخلودكم في النار ، أو الدنيا بحذافيرها في جنب الآخرة.

* * *

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ

الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

١١٥ ـ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) أي هل ظننتم أننا خلقناكم لا لغرض ولا لحكمة بل للهو واللعب وظننتم (أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) لمجازاة الأعمال؟ والاستفهام إنكاري يعني بل خلقكم للعبادة ومكافأة الأعمال ومجازاتها ولا بد من رجوعكم إلينا ، لذلك

عن الصّادق (ع) أنه قيل له خلقنا للفناء فقال : مه خلقنا للبقاء ، وكيف وجنّته لا تبيد وناره لا تخمد ، لكن نتحوّل من دار إلى دار.

١١٦ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ...) أي الذي يحق له الملك ، فإن كلّ مالك غيره هو مستعير منه (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي خالق السّرير الأعظم وصاحبه. والكريم هنا لعله صفة العرش بمعنى كثير الخير والبركات لأن كل خير وبركة ينزل من جهته ، واختصاص الرب تعالى به مع انه رب العالمين تعظيم لشأنه كقوله : رب البيت أو رب الملائكة. وقيل المراد به هو السّماوات بما فيها مع العرش.

١١٧ ـ (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ ...) لأن الباطل لا برهان له ، فإن البرهان على الباطل باطل والباطل عدم (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) حيث إن عذاب المشرك يبلغ ما لا يقدر أحد على حسابه إلّا الله تعالى ثم بعد بيان حال المؤمنين والكفار أمر نبيّه (ص) بالانقطاع إليه وطلب غفرانه ورحمته فإنهما العاصمان عن كلّ المخاوف والآفات بقوله :

١١٨ ـ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ...) وروي أن أول السورة وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أوّلها واتّعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح.

سورة النور

مدنية وآياتها ٦٤ نزلت بعد الحشر

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

١ ـ (سُورَةٌ أَنْزَلْناها ...) أي هذه سورة ، أو مبتدأ لخبر محذوف ، أي ممّا أوحينا إليك سورة (أَنْزَلْناها) من عالم القدس إليك (وَفَرَضْناها)

فرضنا أحكامها التي فيها (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات الدّلالة على وحدانيّتنا أو الحدود والأحكام من الحلال والحرام ومن جملتها قوله سبحانه :

٢ ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلخ ... مبتدأ والخبر : فاجلدوا ، أي من زنت من النّساء وزنى من الرّجال ، فيفيد العموم في الجنس (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا حكم الأعزب غير المحصن أمّا المحصن فحدّه الرجم بالحجارة ويا لها من عدالة ظاهرة وحكمة باهرة فهلمّوا وانظروا كيف اليوم ينتهك المسلم حرمة أخيه المسلم ولا يجد قانونا يردعه ، ولا تشريعا يمنعه لأن القوانين الوضعية مجمعة على ترك الزاني بلا رادع ولا وازع حتى تفشّت بسبب ذلك الأمراض الخبيثة وانتشرت الأسقام وفتكت بالأجسام وما ذاك الّا لعدم تمسّكنا بديننا الحنيف واتّباع القانون السّماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيا لهفاه على ديننا السامي الذي جعلناه وراء ظهورنا بل تحت أقدامنا فابتلينا بما ابتلينا بأيدينا. الفاء لتضمّنهما معنى الشرط (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) أي رحمة في حكمه فتعطّلون حدّه أو تتسامحون فيه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي أن الإيمان يقتضي الحدّ في طاعة الله والاجتهاد في إقامة أحكامه ، فعن الأصبغ بن نباتة أن عمر أتي بخمسة نفر أخذوا في الزّنى فأمر أن يقام على كل واحد منهم الحدّ. وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام حاضرا فقال : يا عمر ليس هذا حكمهم. قال : فأقم أنت الحدّ عليهم. فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدّم الآخر فرجمه ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره. فتحيّر عمر وتعجّب النّاس من فعله. فقال له عمر : يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم خمسة حدود وليس شيء منها يشبه الآخر؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أمّا الأول. فكان ذميّا فخرج عن ذمته ولم يكن له حدّ إلّا السّيف ، وأمّا الثاني فرجل محصن كان حدّه الرجم ، وأما الثالث فمسلم

عازب وحدّه الجلد ، وأمّا الرّابع فعبد ضربناه نصف الحدّ ، وأما الخامس فمجنون مغلوب على عقله. وفي رواية ستّة نفر ، قال : وأطلق السّادس وهو مجنون مغلوب في عقله ، والخامس فكان ذلك الفعل منه شبهة فعزّرناه وأدّبناه (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الباقر عليه‌السلام قال الطائفة الحاضرة هي الواحدة ، وقيل اثنان ، وقيل ثلاثة ، وأربعة أقلّها ، لأن أقل ما يثبت به الزنى شهادة أربعة. وقيل ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأي الإمام ، والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم إذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار.

٣ ـ (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) إلخ ... معناها أنّ الزنى لا يرغب فيه الصّلحاء غالبا وإنما يرغب الإنسان بمشاكله ومماثله ، وقدّم الزاني لأنّ الرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة ، ولذا لم يقل : والزانية لا تنكح إلّا زانيا والحال أنّ قاعدة المقابلة تقتضي ذلك (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صرفت الرغبة بالزنى عن المؤمنين. والتحريم هنا تنزيهيّ ، فقد نزّههم الله تبارك وتعالى عن إتيان الزنى لأنه يعرّض للتهمة ويطعن في النسب وقد دفعه الله عنهم.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) أي يقذفون العفائف بالزنى ، وكذلك الرجال إجماعا ، وتخصيص النساء هنا لخصوص الواقعة (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون على صحّة ما رموهنّ به من الزنى : أربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك وإلّا فاجلدوا من رمى المحصنة ثمانين جلدة (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي في شيء قبل الجلد وبعده أبدا ما لم يتب (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) بفعل هذه الكبيرة.

٥ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) أي عن القذف بأن يكذّبوا أنفسهم (وَأَصْلَحُوا) عملهم فإنّ الله يغفر لهم.

* * *

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

٦ ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ...) : أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ) بالزنى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) لمّا تقدّم حكم القذف للأجنبيّات أردفه بحكم القذف للزّوجات. ومعنى الآية أن الذين ينسبون الزنى إلى زوجاتهم ولم يكن لهم طريق إثبات بإقامة أربعة شهداء يشهدون لهم بصحة قولهم فلا بد لهم أن يشهدوا أربع مرات مرة بعد أخرى بأن يقولوا : أشهد بالله إنّي لمن الصّادقين فيما ذكرت عن هذه المرأة من الفجور ، فبهذه الشهادات بالله يدرأ عنه حدّ القاذف مع إضافة شهادة منه خامسة :

٧ ـ (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ...) أي والشهادة الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في شهادته عليها. قرئ بتخفيف أنّ ، ثم إنه يقول في المرة الخامسة لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين في الرّمي ، فيثبت على الزوجة حدّ الزّنى. ثم إنّها إن كانت تريد أن تدفع الحدّ عن نفسها قد بيّنه سبحانه بقوله :

٨ ـ (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ...) : أي يدفع عنها الرّجم (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) تقول أربع مرات مرة بعد أخرى : أشهد بالله.

٩ ـ (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها ...) : أي تشهد شهادة خامسة (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) أي عذابه عليّ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الزّنى. ثم يفرّق الحاكم بينهما ولا تحلّ له أبدا. وكان عليها العدّة من وقت لعانها.

١٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي بالنّهي عن الزنى والفواحش ، وإقامة الحدود وبالإمهال لتتوبوا وبالسّتر لئلّا تفتضحوا (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) يقبل التوبة (حَكِيمٌ) فيما يحكم. وحذف جواب لولا وهو ، لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ

اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

١١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ ...) أي بالكذب العظيم (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لا تظنّوه أي الكذب أمرا سيئا لكم (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور ما نزل من القرآن في براءة ساحتكم وتشديد الوعيد في من تكلّم بهذا الأمر (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي جزاء ما اكتسب منه بقدر ما خاض فيه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تحمّل معظمه (مِنْهُمْ) من الخائضين وهو عبد الله بن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا من جلده ووهنه وردّ شهادته في أنظار الناس وشهرته بالنفاق وغير هذه من المفاسد وفي الجوامع أنّ عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق وكانت قد خرجت لقضاء حاجة فرجعت طالبة له ، وحمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنّها في الهودج. وذلك أنّ عائشة كانت حديثة السّن خفيفة الجثّة بحيث ما كان يعرف هودجها هل هي فيه أم لا إلّا بدقة وخصوصا عند من لا يعتاد حمل هودجها فإنه لا يعرف أنها فيه أم لا. فلا يستبعد الأمر ، لكن كيف يتصوّر أن يتحرّك النبيّ (ص) ولا يستخبر حالها وأنها هل حملت مع الجيش أم لا ، فهذا مطلب آخر يمكن أن يجاب بأنه إذا أراد الله شيئا فتدابير العبد لا تردّه ، فإذا أراد سبحانه شيئا يقول له كن فيكون ، وفي قضية الإفك مصالح كثيرة. والحاصل حمل الهودج فلما عادت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا. وكان صفوان غالبا يتأخّر عن الجيش

لتفحّص المعسكر حتى لا يفقد ولا يضيّع منهم شيء ، وبعد ما يطمئنّ بعدم فقدان شيء أو غفلة شخص من العسكر كان يتحرّك ويسير. فلمّا قرب إلى ذلك الموضع رأى شبحا فجاء حتّى وصل إليه فعرفها ، فسأل عن قضّيتها وأناخ بعيره حتّى ركبته وراح يسوقه حتّى لحقا بالجيش وقد نزلوا في قائم الظهيرة من شدّة الحرّ. وقال في الجوامع كذا رواه الزهري عن عائشة. وروت العامّة أنّها نزلت في عائشة بلا شكّ عندهم. أمّا الخاصة فإنّهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما رمتها عائشة حين رأت أن النّبي حزن كثيرا لوفاة ابنه فقالت له عائشة ما الذي يحزنك عليه فما هو إلّا ابن جريح القبطي ، فبعث النبيّ عليّا إليه فرآه في البستان وقد كشف عن عورته فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنّساء ، فأخبر بذلك النبيّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الحمد لله الذي صرف عنّا السّوء أهل البيت وهذا حاصل ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ولعل النبيّ بعث عليّا ليظهر الحق ويبطل الباطل لا لقتله بمجرد قول عائشة ، ولمّا حسبوا أن بعض المؤمنين والمؤمنات ظنّوا سوءا في عائشة وصفوان وإن كانوا لم يظهروا ولم يتكلموا بشيء فالله تعالى وبّخهم على سكوتهم وعلى إنكار الإفك بقوله :

١٢ ـ (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ...) : أي هلّا حينما سمعتم بالإفك والكلام الباطل أنكرتم ذلك؟ وكان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذّبوه وأن لا يسرعوا إلى التهمة بل يشتغلون بحسن الذكر لمن عرفوا طهارته ولم يظنّوا به إلّا خيرا لأنّه كأنفسهم ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : المؤمنون كنفس واحدة وقال تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تقتلوا أنفسكم ، والمراد بهما هو أنفس الغير لأن الإنسان العاقل لا يقتل نفسه حتى ينهى. والحاصل أن المؤمنين كنفس واحدة فيما يجري عليهم من الأمور فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّما جرت على جماعتهم. وإنّما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة ومن المضمر إلى المظهر للمبالغة في التوبيخ وإشعارا بأن مقتضى الإيمان أن يظنّ المؤمنون بالمؤمنين خيرا ، وإذا ابتلي واحد منهم بسوء

أن لا يطعنوا به ، بل لا بد وأن يدفعوا الطاعنين على قدر وسعهم كما يذبّون عن أنفسهم. وحاصل معنى الشريفة أنه كان على المؤمنين حينما سمعوا هذا الكلام أن يقيموا النكير وأن لا يقبلوه بل يظنّوا بعائشة وصفوان خيرا ، ويحملوا الأمر على أحسنه ويقولوا (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) كما يقول المستيقن المطّلع :

١٣ ـ (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ...) : يعني هؤلاء الأفكة إذا كانوا صادقين في قولهم لماذا لا يجيئون على مدّعاهم ببيّنتهم ، بأربعة شهداء؟ (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا) ولن يأتوا بهم أبدا (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فلا بدّ من أن يجري عليهم حكم القذف لأنهم كاذبون.

١٤ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي لولا فضل الله عليكم في الدّنيا بأنواع النّعم التي من جملتها الإمهال للتّوبة ، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة (لَمَسَّكُمْ) بالفعل عاجلا (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) أي خضتم فيه (عَذابٌ عَظِيمٌ) دائم.

١٥ ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ...) أي يأخذه بعضكم عن بعض بالسّؤال عنه (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) بلا مساعدة من القلوب وبلا شعور منها به ، تقولون (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) تحكون الخبر وتنقلونه جهلا منكم به وبلا حجّة ومن غير برهان (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً). أي سهلا لا إثم فيه ولا تبعة له (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) من حيث ترتّب العقوبات الكثيرة عليه لأنه موجب لإلحاق العار بأهل بيت النبوّة والاستخفاف بمنصب الرسالة والتّجاسر عليه ، وهذه من أعظم الكبائر فعقوبتها أعظم وأشدّ. والحاصل أنّه يستفاد من الكريمة أنّ القائلين بالإفك ارتكبوا أمورا ثلاثة يترتب على كل واحد منها مسّ العذاب العظيم. أحدها : تلقّي الإفك بالألسنة ، والثاني : التّحدّث به من غير تحقّق ، الثالث : الاستصغار بأمر تعلّق الحكم الإلهي بعظمه وخطره.

١٦ ـ (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ...) أي هلّا قلتم حينما سمعتم قول الإفك (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) ما ينبغي ولا يصحّ لنا حكايته وذكره وإفشاء أمر ليس لنا العلم به ، حيث إن القذف حرام في الشريعة بآحاد الناس فكيف بأهل بيت الرّسالة وحريم سيّد البشر؟ (سُبْحانَكَ) هنا معناه التعجّب ممّن يقوله ، أو تنزيه له تعالى من أن تكون زوجة نبيّه (ص) فاجرة ، إذ فجور زوجته منفّر للطبائع عنه بخلاف كفرها وفسقها من غير هذه الناحية (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظم المبهوت عليه وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٧ ـ (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا ...) أي ينهاكم الله أو يحرّم عليكم العود (لِمِثْلِهِ أَبَداً) طول أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يمنع عنه. وفي هذا الكلام تقريع وتهييج على الاتّعاظ بوعظ الله والتأدّب بآدابه.

١٨ ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ...) الدّالة على الشّرائع ومحاسن الآداب كي تتّعظوا وتتأدّبوا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال عباده كلّها (حَكِيمٌ) بتدابيره.

١٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ...) أي يفشو ويظهر الزنى والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدّنيا بحدّ القذف والطرد والهتك (وَالْآخِرَةِ) بالنّار وغيرها من أنواع العذاب (وَاللهُ يَعْلَمُ) الأسرار والضّمائر ومصالح الأمور ومضارها (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ما يعلمه الله ولا علم لكم بعواقب الأمور وتواليها وتوابعها.

٢٠ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ...) تكرير الشريفة للمنّة بترك المعاجلة بالعقاب ، وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي لعاجلكم بالعقوبة أو ما زكى أحد منكم بقرينة الآية الشريفة الآتية. وجملة (أَنَّ اللهَ) عطف على جملة (فَضْلُ اللهِ).

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

٢١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...) أي لا تتبعوا آثاره ومسالكه من الإصغاء إلى البهتان والإفك والتلقّي منه وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فالنتيجة (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ) تابعيه (بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الفحشاء هو أقبح القبائح وما أفرط في قبحه ، والمنكر ما أنكره الشرع والعقل. ويؤخذ من الشريفة أن أصدقاء السّوء الذين يزيّنون المعاصي والفجور ويسهّلون عظائم الأمور هم في حكم الشيطان في وجوب اجتنابهم والابتعاد عنهم (ما زَكى مِنْكُمْ) أي ما طهر من دنس الذّنوب (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) أي يطهّر بلطفه من يعلمه أنه أهل للطفه (وَاللهُ سَمِيعٌ) سامع مقالتهم (عَلِيمٌ) عالم بنيّاتهم.

٢٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ...) من الإيلاء بمعنى الحلف ومن ألى يألو بمعنى التقصير وكلا المعنيين يناسبان المقام. وفي بعض التفاسير أن أبا بكر حلف أن لا ينفق على ابن خالته مسطح مع كونه من فقراء المهاجرين ومن أهل بدر لأنّه كان من المتكلّمين في الإفك ، فالله تعالى أنزل الشريفة ، فعلى هذا يكون من الإيلاء (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) بالحسب

والنّسب يكونون من أرباب الفضيلة والجاه (وَالسَّعَةِ) في المال والثروة (أَنْ يُؤْتُوا) قال الذين يفسرون الائتلاء بمعنى الحلف : إن كلمة (لا) هنا محذوفة أي : أن لا يؤتوا ، ويقولون إن (لا) تحذف كثيرا في اليمين ، قال الله : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرّوا ، ومعناه : أن لا تبرّوا. وقال الشاعر امرؤ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي

أي : لا أبرح قاعدا. وبالجملة إذا جعلت (لا) محذوفة فالمعنيان يقعان متقاربين في المراد من الآية حيث إن المراد في الآية الأمر بإعطاء هؤلاء المذكورين (أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجوامع قيل : نزلت في جماعة من الصّحابة حلفوا ألّا يتصدّقوا على من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أمرهم الله أن يعفوا ما صدر عن الآفكين الآثمين وليصرفوا أنفسهم عن الانتقام منهم وليغمضوا عن عملهم السّيء ، فالتفت عن الغيبة إلى الخطاب وقال تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) هذا ترغيب وتحريض على العفو والإغماض ، أي إذا فعلتم كان غفران الله ورحمته شاملين لكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه تعالى يحب أن يكون عبده شبيها به في العفو والتجاوز عن تقصير المقصّرين والإغماض عمّن أساء إليهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم يقبل عذر المتنصّل الذي تبرّأ من الجناية عند شخص كاذبا كان أو صادقا فلا يرد عليّ حوضي يوم القيامة. وقال (ص): أفضل أخلاق المسلمين العفو. وقال (ص): ينادي مناد يوم القيامة : ألا من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلّا أهل العفو : فمن عفا وأصلح فأجره على الله. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يكون العبد ذا فضل حتّى يصل من قطعه ، ويعفو عمّن ظلمه ، ويعطي من حرمه. وفي الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائز ، نعم يجوز إذا كانت داعية للخير أو

غير داعية للشر ، لا إذا كانت صادفة عنه. ثم إنّه تعالى تأكيدا للمقام وتهديدا أو تخويفا للعباد على القذف والإفك يقول :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ :) أي العفائف (الْغافِلاتِ) عن الفواحش التي نسبت إليهنّ (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذه الكريمة وعيد عامّ لكلّ قاذف ورام للعفائف بالفواحش ما لم يتب. والمراد باللّعن الدّنيوي ابتلاؤهم بعقوبة الحدّ والجلد وردّ الشهادة وكونهم مطرودين ، واللّعن الأخروي هو بعدهم عن رحمة الله وقربهم إلى غضبه وأنواع عقوباته العظيمة الكاشفة عن عظم الذنب كما أشار إليه بقوله سبحانه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٢٤ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) بإنطاق الله إيّاها ليعترفوا بما صدر عنها من الأقوال والأعمال ، ويمكن أن تكون شهادة الجوارح على الإنسان من قبيل صدور الصّوت عن بعض صنائع اليوم كالمسجّلات ومجالس

الأصوات بالنسبة إلى ما صدر عن اللسان ، وأما الأعمال والأفعال الصادرة عن الجوارح الأخر فتمكن إراءتها لشخص الإنسان ولغيره من أهل المحشر يوم تبلى السّرائر كما يرونها في تلفزيونات ، فنعوذ بالله من فضائح يوم القيامة اللهمّ لا تفضحنا فيها.

٢٥ ـ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ...) أي جزاءهم المستحق (وَيَعْلَمُونَ) علما وجدانيا لمعاينتهم في ذلك اليوم حقائق الأمور وواقعها على ما هي عليه (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي هو الثابت بذاته والظاهر بألوهيّته. وقيل التقدير : ذو الحق المبين أي ظاهرة عدالته في ذلك اليوم على جميع الخلائق ، فينتقم للمظلومين من الظالمين ، ويعطي المحسن والمسيء جزاءهما بلا زيادة أو نقيصة على مراتبهم. فمن كان هذا شأنه ينبغي أن يتّقى منه ويجتنب من زواجره ونواهيه وتتّبع أوامره. ولا يخفى أن الآيات الواردة في باب الإفك أغلظ آيات نزلت في الكتاب تهديدا وتخويفا للآفكين. ولو أن أحدا يقلّب جميع الآيات القرآنية التي نزلت في العصاة وفي تخويفهم وتهديدهم لما وجد آية أغلظ مما ورد في باب الإفك فإنّها مشحونة بوعيد شديد وعقاب بليغ وزجر عنيف واستعظام لارتكاب الإفك واستفظاع للإقدام عليه على طرق مختلفة وأساليب متفاوتة بحيث كل واحد منها يكفي في باب الزجر والوعيد ، كما أنه جعل القاذف ملعونا في الدّنيا والآخرة. واستفاد بعضهم من هذه أن القاذف أسوأ حالا من الكافر ، لأن الكافر تقبل توبته ، في حين أنّه يؤخذ من هذه الكريمة أن القاذف لا تقبل منه التوبة ، وليس هذا إلّا لعظم أمر الإفك مطلقا ، وبالأخص في مورد النزول للاهتمام بحريم سيّد البشر وخاتم الرسل. والحاصل أن الغرض من فرط المبالغة في المقام هو إظهار علوّ منزلة سيّد الأنبياء والرسل ، فمن أراد أن يطّلع على علو شأن سيد ولد آدم فليتأمّل في الآيات النازلة في باب القذف. واعلم أنّ الله تعالى برّأ ثلاثة نفر بثلاثة أشياء : برّأ يوسف عليه‌السلام بلسان شاهد (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) وبرّأ مريم عليها‌السلام

بإنطاق ولدها (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) إلخ وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام تعظيما للنّبي (ص). ثم إنّه تعالى أخذ في بيان ذمّ أهل الفسق والفجور ومدح أهل الصّلاح والتقوى فقال سبحانه وتعالى :

٢٦ ـ (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) أي الكلمات الخبيثة للخبيثين من الرجال والنساء يعني : ينبغي أن تصدر عنهم أو تنسب إليهم (وَالْخَبِيثُونَ) من الناس معدّون أن تنسب إليهم (لِلْخَبِيثاتِ) أي الكلمات السّيئة الخبيثة التي لا ينبغي للطيبين (وَالطَّيِّباتُ) من الأقوال معدّة (لِلطَّيِّبِينَ) من الناس (وَالطَّيِّبُونَ) منهم (لِلطَّيِّباتِ) منها فإن طباع كلّ من الفريقين مائلة إلى ما يناسبها. وفي المثل : كلّ أناء يترشّح بما فيه. وقيل إن المراد بالشريفة : أن النسوة الخبيثات للرّجال الخبثاء وأن النسوة الطاهرات للرجال الطاهرين وهكذا العكس وقيل : إن هذه الكريمة بمعنى قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية ، فالجنسيّة سبب للألفة ، والسنخيّة موجبة للجذب والانجذاب ، وهذا أمر قهريّ طبيعيّ غير قابل للإنكار (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) ذيل الآية دليل ظاهره على أن المعنى الثاني هو المراد من الآية أي ممّا يقال فيهم ، وقيل : إن الإشارة راجعة إلى النبيّ (ص) وصفوان وعائشة ، أو راجعة إلى أهل بيت الرسالة ، والمراد بالموصول هو الإفك (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي رزق لا نقص فيه ولا تعب لأنه كثير دائم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ

وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) : أي لا ينبغي لكم الدخول في بيوت يسكنها غيركم (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي تستأذنوا ، من الاستئناس بمعنى الاستعلام ، فإن المستأذن مستعلم للحال. وفي المجمع أن رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أستأذن على أمّي؟ قال : نعم قال : إنّها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال أتحبّ أن تراها

عريانة؟ قال لا قال : فاستأذن عليها. (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بالتحيّة الإسلاميّة كقوله السّلام عليكم. والحاصل أن من أراد أن يدخل على أحد في داره فلا بدّ له أن يستأذن أوّلا ، فإن أذن له في الدّخول يدخل ويسلّم على أهله بقوله : السّلام عليكم ، لا بالتحيّة الجاهلية كقولهم : صباح الخير ونحوه مما كانت تحيّتهم به. وفي الفقيه عنه (ع): إنّما الإذن على البيوت ، ليس على الدّار إذن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاستئذان والتّسليم خير لكم من أن تدخلوا بغتة وبتحيّة الجاهلية. وغاية الاستئذان (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون مواعظ الله لتتأدّبوا بآدابه وأوامره ونواهيه ولتتعلّموها فتعملوا على طبقها.

٢٨ ـ (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ...) يأذن لكم (فَلا تَدْخُلُوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطّلعوا عليه (حَتَّى يَأْذَنَ) ربّ البيت في ذلك. هذا إذا كان باب البيت مغلقا ، وأما إذا كان مفتوحا فالدخول بلا استئذان ولا محذور فيه لأن صاحبه بالفتح أباح النظر إلى ما فيه (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي الرجوع بلا إلحاح أطهر لكم من الوقوف على الباب وأنفع لكم في دينكم ودنياكم وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها.

٢٩ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ...) كالرّبط والحوانيت فيجوز لكم الدخول فيها بغير استئذان كما هو المتعارف (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي للاستمتاع بها كالتحفظ من الحر والبرد والإيواء للنساء والرجال ، والجلوس فيها للمعاملة أو غيرها من الاستفادات والتمتع. وعن الصّادق عليه‌السلام : هي الحمّامات والخانات والأرحية تدخلها بغير إذن ، ولعلّ التمثيل بها ليس من جهة الحصر بل من باب مجرّد المثال (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) أي هو تعالى عالم بنيّاتكم عند دخولكم مدخلا لفساد أو تطلّع على عورة أو لأمر دينيّ أو دنيوي مباح ، سواء أظهرتم أو أخفيتم. وليعلم أن مناسبة آية الاستئذان مع ما قبلها ، أنه تعالى لما بيّن

عظم إثم الزنى والقذف أكّده بالنهي عن الدّخول في بيوت الناس إلّا بعد استئذان من صاحبها حتى يكون الدّخول أبعد من التّهمة وأقرب إلى العصمة ثم أخذ في بيان حكم نظر الحلال والحرام من المؤمنين والمؤمنات ، وحكم بالغضّ لتحصيل العصمة والبراءة عن التهمة ، فقال سبحانه :

٣٠ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ...) عمّا يكون محرّما أي لا يتطلعوا إلى النساء فإن النظر بريد الزنى نعوذ بالله تعالى منه. (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) من النظر المحرّم وعن الصادق عليه‌السلام : حفظها هنا خاصة سترها (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر وأنفع لهم لما فيه من نفي التهمة والبعد عن الريبة (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي بما يصدر عن أبصارهم وفروجهم وجميع جوارحهم فاجعلوه نصب أعينكم في كل حال واحذروه في جميع الأمور فإنه يراكم هو تعالى وقبيله من الحفظة والكرام الكاتبين من حيث لا ترونه

٣١ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ...) عمّن لا يحلّ لهنّ النظر إليه (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) عمّن لا يحلّ لهنّ. والقميّ عن الصّادق عليه‌السلام : كل آية في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزنى إلّا هذه الآية فإنها من النّظر ، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر الى فرج أخيه ولا يحل للمرأة ان تنظر إلى فرج أختها. وعبادة بن صامت روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أنتم تضمنون عنّي ستّة أشياء أضمّن لكم الجنّة : الأوّل إذا حدّثتم حدّثوا صدقا ، والثاني إذا وعدتم أوفوا بعهدكم ، والثالث إذا استؤمنتم بشيء فأدّوه ، والرابع احفظوا فروجكم من الحرام ، والخامس غضّوا أبصاركم عن الحرام ، والسّادس لا تمدوا أيديكم إلى أكل الحرام ، فحينئذ أنا أضمن لكم الجنّة. قال أمير المؤمنين (ع) : قال رسول الله (ص) النظر إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس. وروي أن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى رسول الله وكان (ص) في بيت فاطمة فاستأذن رسول الله فأذن له في الدخول فخرجت فاطمة عليها‌السلام فلما ذهب ابن أم مكتوم قال (ص) لما ذا خرجت ، فإنه أعمى؟ فقالت يا أبة نعم لكني لست بعمياء وإن كان لا يراني فإني أراه.

قال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ). قال (ص) : الحمد لله الّذي أراني في أهل بيتي ما سرّني. وقضيّة الشابّ الأنصاري والنظر إلى المرأة التي أقبلت وقناعها خلف أذنها وكان صدرها ووجهها مكشوفين والشابّ لا يزال يمشي خلفها حتى وقع رأسه إلى الحائط معروفة ، فنزلت الشريفة (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحرم ومن هو في حكمه ولم يرد نفس الزينة فإنه يحلّ النظر إليها ، بل أريد مواضعها على ما قيل. وقيل إن المراد نفس الزينة لأن النظر إليها يلازم النظر إلى مواضعها أو يخطر إلى القلوب مواضعها حين يراها وهي لابسة إياها فيا له من شرع أكّد بهذه المرتبة وبالغ بتلك المبالغة في حفظ نواميس المؤمنين ونسائهم (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : الزينة الظاهرة الكحل والخاتم ، وفي رواية أخرى عن الباقر عليه‌السلام زاد السّوار وخضاب الكف ، وقيل الضمير راجع الى مواضع الزينة لا نفسها أي إلا المقدار الذي لا يمكن إخفاؤه كالوجه والكفّين وظهر القدمين فإن في اخفائها حرجا على النوع كما لا يخفى. وعن الصّادق (ع) أنه سئل ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرما ، قال : الوجه والكفّان والقدمان. وعنه عليه‌السلام : لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة (ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز) والأعراب وأهل السّواد والعلوج من كفّار العجم ، وبعض يطلقه على الكافر مطلقا لأنهم إذا نهوا لا ينتهون. قال : والمجنونة والمغلوب على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمّد ذلك ، ولعل المراد من التعمّد هو النظر بالشّهوة وإلا فإذا كان النظر عن نسيان أو سهو أو خطأ ، فإلى غيرها أيضا لا بأس. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا علي النظرة الأولى لك والثانية عليك (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) الخمر جمع خمار وهو الذي تستر المرأة به رأسها ورقبتها. والآية الشريفة يؤخذ منها أنه لا بدّ منه بل وان يكون طويلا بحيث يستر ويغطّى به الصّدر أيضا فإن قوله تعالى : (عَلى جُيُوبِهِنَ) متعلّق ب (لْيَضْرِبْنَ) الذي بمعنى ليسترن وفي التبديل

بلفظ الضرب لا تخفى المبالغة في كيفية الإلقاء وكمّية السّتر بحيث تستر وتغطي خمرهنّ إضافة على الرأس والرقبة جيوبهن ، مع أن وضع الخمر في الجاهلية كان لسترهما فقط والجيوب جمع الجيب وهو من القميص موضع الشقّ الذي فيه طول قدّام الصّدر أحد طرفيه الأعلى يصل الى المنحر والآخر إلى السّرة أو قريبا منها. وقيل هو طوق القميص ، وقيل إن الجيب هو الصّدر هنا ، والحاصل أنّه تعالى أمر النساء المؤمنات بستر الجيوب مبالغة تأكيدا بالتبديل الذي أشرنا إليه بل صرّحنا به وباللّام الداخلة على الفعل تحصيلا للعفّة وتكميلا لعصمة نساء الأمة الإسلاميّة ، ولكن ، وا أسفا وألف أسف إن كان الأسف يجدي على نسوة المسلمين الاسميّة الكاسيات العاريات المثقّفات الكاشفات اللواتي لا يعرفن العفة ولا يدركن معنى العصمة ، بل يعددنهما من الموهومات وخرافات العصور القديمة ، فعلى إسلامهن السّلام (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) كرّره مقدّمة لبيان من يحلّ له الإبداء ومن لا يحلّ ، وسابقا لبيان ما يجوز إظهاره وما لا يجوز من الزينة. ومن يحلّ هم الذين استثناهم الله تعالى بقوله (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلى قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) الآية ، والمراد بقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني المؤمنات فلا يتجرّدن للكافرات ، وفي التبيان أن غير المسلمات مطلقا في حكم الرّجال غير المحارم. وقيل إن الأمة إذا كانت مملوكة لا بأس أن تتجرّد السيّدة المالكة لها عندها ولو كانت كافرة لقوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وهذا عام يشمل الكافرة والمسلمة بل قيل يشمل العبيد أيضا (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون الناس ويدخلون معهم البيوت لفضل طعام أو ما يحتاجون إليه ، ولا حاجة لهم إلى النساء لهرم أو بله أو جنون وأمثالهم ممن لا يعرفون من أمرهن شيئا أو ينصرفون عنهنّ كالشيوخ الفانية والعجائز المزمنة لمرض أو كبر سنّ. (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) الطّفل اسم جنس ، وهو إذا وقع موضع الجمع واتّصف بالجمع يراد منه الجمع ، والمعنى في الشريفة أن الطّفل إذا كان بحيث لم يعرف العورة ولم يميّزها لقلّة سنّه وعدم بلوغه حدّ

الشهوة وعدم قدرته على الوطء فلا بأس بتجرّد النساء عنده. والطفل هو الولد من يوم يولد إلى يوم بلوغه والحنيفيّة على أن الّخصيّ والمجبوب والعنّين في حكم الرجال الأجانب لأنّهم يميلون إلى مباشرتهن ومقاربتهن إلّا أنهم غير قادرين عليها ولكنهم يتمتعون بباقي التمتّعات منهنّ وعليه الإماميّة فلا يحل لهنّ التجرد عندهم ولا بدّ من التحفظ عنهم (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) على الأرض حين المشي روي أنه قبل نزول الآية كانت عادة النّساء أن يضربن بأرجلهنّ حين مشيهنّ على الأرض لتسمع قعقعة الخلخال فيها فنهاهنّ عن ذلك. لأن المرأة التي تضرب برجلها حين المشي ليظهر خلخالها تلفت نظر الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال ويصير ذلك داعيا له زائدا على الدّاعي الطّبيعي في مشاهدتهنّ. وقد علّل سبحانه بأن قال : (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) فنبّه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن تعلم زينتهنّ من الحليّ وغيره. فاذا كان الصوت الدّالّ على الزينة منهيّا عنه ، فإظهار الزينة ومواضعها أولى بالمنع ، وإذا كانت المرأة ممنوعة أن ترفع صوت خلخالها لوقوعها في الفتنة ، فرفع صوتها بالكلام للأجانب أولى بالنهي إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة ، وإذا كان المناط والملاك في النهي في تلك الموارد هو وقوع الفتنة فالنظر إلى وجهها بالشهوة أقرب إلى الفتنة فالنهي عنه أولى وأشد (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) عن التقصير والخطر الذي لا يكاد أحدكم يخلو منه ، أو مما فعلتم في الجاهلية سيّما في الكفّ عن الشهوات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تفوزون بسعادة الدارين.

* * *

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ

فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

٣٢ ـ (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ...) أيامى جمع أيّم وهو العزب ذكرا كان أو أنثى ، بكرا أو ثيّبا. أحد مفعولي (أَنْكِحُوا) محذوف تقديره : وأنكحوا رجالكم الأيامى الذين هم بلا زوجات من نسائكم ، أو نساءكم الأيامى أي بلا أزواج من رجالكم ، وأنكحوا الصّالحين من عبادكم إماءكم الصّالحات ، أو الصّالحات من إمائكم عبادكم الصّالحين ، لأن الأيامى يشمل الرجال والنّساء ، والصّالحين يشتمل عليهما أيضا. والخطاب لأولياء العقد ، وخصّ الصّالحين لترغيبهم في الصلاح فان العبيد والإماء إذا علموا بأن الصّلاح شرط لاهتمام مواليهم في زواجهم فيهتمّون في تحصيله طبعا ، ولما يتوهّم بأن عدم القدرة على حقوق الزواج كالإنفاق والإسكان وغيرهما من المصارف مانع عن النكاح ، فرفع هذا التوهّم بقوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لا تخافوا من الفقر فتتركوا الزواج ، فإنه تعالى قادر على إغنائكم من خزائنه بكرمه وفضله ، يرزق عباده صباحا ومساء يرزقهم الواجب عليه بإيجابه على نفسه كما قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ومضافا إلى قوله (ع): اطلبوا الغناء في هذه الآية ، فإنه يؤخذ من هذا الحديث الشريف أن الزواج هو بنفسه سبب من أسباب سعة العيش ورفاهيّته فكيف يخاف الإنسان مما هو سبب رزقه ، ومضافا إلى

أحاديث أخر وآيات أخريات كقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) ، ومن الأحاديث : التمس الرزق في النكاح. وقيل إن واحدا شكا من الفقر عنده عليه‌السلام فقال : عليك بالباءة (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أفضاله كثيرة السعة لأن قدرته غير محدودة لا تتناهى فكذلك نعمه وأفضاله على العباد ، وهو يعلم ما تقتضيه حكمته فيبسط الرزق على وفق الحكمة والحاصل أنه من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنّه بالله ، نعم لا بدّ وأن يعلم الإنسان أن النكاح لا يكون علة تامّة لغناء المتزوج ، فإن مشيئة الله لها الدّخل في أمور العباد وأنه تعالى لا يرفع يده عمّا فيه صلاح عبده فيرى إن كان صلاح العبد في الغنى أغناه وإلّا فلا ، نعم إذا أراد أن يغني عبده قد يجعل سببه التزويج في بعض الموارد لأن المدار جعله سبب الغنى بمعنى أنه علّق سعة رزقه على تزويجه. ويستفاد من الآيات والروايات أن للتزويج دخلا في الرزق أكثر من سائر الأسباب والمقتضيات الأخر. ولكن ربّما يتزوج الإنسان ولا يرى له الأثر في رزقه فذلك أن المشيئة لا تقتضيه إذ ليس الغناء له بصلاح بل صلاحه في استعفافه واجتهاده في إطفاء ثائرة شهوته كما أشار بقوله :

٣٣ ـ (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ...) أي لا بدّ من الجهد في تحصيل العفة وقمع الشهوة (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) لأسبابه المؤدّية له ، من المهر والنفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من إحسانه وكرمه ، فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها ، وربما يتوهّم أن بين الآية الأولى وهذه تناقضا حيث إنه أمر فيها بالنكاح وفي هذه أمر بالتقاعد عنه والصّبر ، وأجابوا بمحامل لا تخلو كلها من الخدش ، والأولى حمل السّابقة على عموم النهي عن تركه مخافة الفقر اللّاحق كما دلّ عليه حديث مخافة العيلة الذي أشرنا إليه لا بعنوان الحديث بل في طيّ قولنا ، وحمل الأخيرة على الأمر بالاستعفاف في خصوص الفقر الحاضر المانع عن الزواج كما هو الظاهر من قوله تعالى (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي لا يجدون أسبابه بالفعل ولا يستطيعون الزواج لفقرهم العاجل ، والسابقة تنظر الى الآجل

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي يطلبون المكاتبة ، وهو قول السّيد لعبده كاتبتك على كذا من المال تؤدّيه دفعتين أو ثلاثا ، فإذا أدّيت ذلك المعلوم فأنت حر ، ويقول العبد : قبلت والمراد بالموصول هو العبد الطالب من مولاه المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم عبدا كان أو أمة (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي مالا أو عملا يكتسب به أو حرفة ، وقيل دينا ومالا كما عن الصّادق عليه‌السلام. وقيل صلاحا أو أمانة وقدرة على أداء مال الكتابة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للسّادة بإعطائهم شيئا من أموالهم ومثله حطّ شيء ممّا التزموا به حتى يتحرّروا سريعا (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي إمائكم ، البغاء هو الزّنى (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعفّفا إذ لا يتصوّر الإكراه إلّا عند إرادة التحصّن ، فلذا شرط الإكراه به ، فإن الإكراه عند عدم التحصّن محال ، لأنه من تحصيل الحاصل كما لا يخفى. فهذه فائدة الاشتراط فلا يلزم من عدم المفهوم في المقام لغوية القيد (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) علة للاكراه ، وفي القمي : كانت العرب وقريش يشترون الإماء والجواري ويضعون عليهم الضرائب الثقيلة ويقولون اذهبوا وازنوا واكتسبوا ، فنهاهم الله عن ذلك (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات لا للمكرهين لان الوزر عليهم وفي القمي : لا يؤاخذهن الله بذلك إذا أكرهن عليه. أقول : ويؤيّد هذا التفسير

قول النبيّ (ص): رفع عن أمّتي تسعة ، وعدّ منها الاستكراه على الشيء.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات في الأحكام والحدود في هذه السّورة (وَمَثَلاً) قصّة وخبرا من أخبار من كان قبلكم ، لتعتبروا بها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي منعا وزجرا وبشارة ، والتخصيص لأنهم المعتبرون بها. والحاصل أنهم هم أهل الوعظ والنصح.

* * *

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

٣٥ ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) عرّف النور بأنه الظاهر بنفسه والمظهر لغيره. فالله سبحانه ظاهر بذاته مظهر للسماوات والأرض بما فيهما. وقيل أصل الظّهور هو الوجود كما أن أصل الخفاء هو العدم. فهو تعالى موجود بذاته وموجد لما عداه. ويمكن أن يقال : إن النور هو الهادي في الظلمات المعنوية والظاهرية ، وإن الله سبحانه بما أنه الهادي لأهل السّماوات وأهل الأرض إلى طريق الحق ويهديهم لمصالحهم وخيرهم ، لذا أطلق على ذاته المقدّسة أنه نور السّماوات والأرض وفي التوحيد عن الرّضا عليه‌السلام : هاد لأهل السماوات هاد لأهل الأرض. وفي رواية البرقي

في تفسير الكريمة : هدى من في السّماوات وهدى من في الأرض ، أو منوّر السّماوات بالنجوم والكواكب وكذلك الأرض منوّرة بالشمس والقمر والنجوم ، أو مزيّن السماوات بها وبالملائكة والأرض بالأنبياء والرّسل والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أي كوّة غير نافذة يوضع عليها المصباح أو يوضع فيها (فِيها مِصْباحٌ) سراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) في قنديل زجاجيّ (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) تضيء كأنّها الزّهرة في لمعانها وتلألؤها (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) كثيرة المنافع (زَيْتُونَةٍ) بدل من الشجرة. والحاصل أن المصباح الذي لا بد له من دهن حتى يوقد ويضيء مأخوذ دهنه من شجرة زيتون (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي ليست الشجرة في مكان لا يصيبها الشمس إلّا أوّل شروقها فقط في تمام اليوم ، أو حين غروبها فقط ، بل في مكان من الأمكنة التي تصيبها الشمس في تمام النهار. ووجه التخصيص أن شجرة الزيتون إذا كانت في المكان الذي وصف فإن زيتها يصير أصفى وأدوم وأحسن من كلّ الجهات المرغوب فيها. أو المراد بقوله تعالى أنّ منبتها الشام وهي وسط العمارة لا شرقها ولا غربها ، وزيتونها أجود لأنّها ليست في مضحى الشمس دائما فتحرقها ولا في مقناة لا تصيبها أبدا أو بمقدار كاف فلا ينضج ، ثم إنه تعالى وصفه بوصف آخر ليوضح صفاءها ولطافتها فقال : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) اي قبل أن تمسّه النار لفرط صفائه وكثير لطافته (نُورٌ عَلى نُورٍ) متضاعف صفاؤه حيث انضمّ إلى نور المصباح صفاء الزيت ولمعان الزّجاجة التي وضع المصباح فيها فأحاطت به لحفظ نور المصباح عن الخمود بالأرياح والنفخ وغيرهما من الموانع فصار المجموع كأنه نور على نور. ثم أنه لا بد في التشبيه من المشبّه والمشبّه به ، فالمشبّه في الآية هو النور وقد فسرناه بتفاسير تبعا لأكثر المفسّرين ، والأحسن منها لعلّه كان ما في بعض الرّوايات من أن المراد بالنّور هو الهداية وآياته تعالى البيّنات ، وهذا التفسير قول جمهور المتكلّمين. والمعنى أن هداية الله بلغت في الجلاء والظّهور إلى أقصى الغاية بمنزلة المشكاة التي تكون فيها الزجاجة. وقلنا بأن

المشكاة هو القنديل ، والكوّة أي الخرق في الحائط الذي جعل فيه الزجاجة الصّافية ، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء والجودة في كلّ الجهات. فان قيل لم شبّه بذلك وقد علم أن ضوء الشمس أبلغ وأقوى من ذلك بكثير؟ قلنا إنّه سبحانه أراد أن يشبّه هدايته بالضوء الكامل الذي يلوح في وسط الظّلمة وهو ضوء المشكاة التي المصباح فيها والتي كأنها الكوكب الدّري. ولمّا كان الغالب على أوهام الخلق الشبهات التي هي كالظّلمات ، فهدايته تعالى فيها كالضوء الكامل في وسط الظّلمات. وهذا المعنى المقصود ما كان يحصل من التشبيه بضوء الشمس حيث أن ضوء الشمس إذا ظهر امتلأ العالم من النور فلا يبقى ظلام حتى تكون الشمس فيه تلوح ، فتكون الهداية بين ظلمات الأوهام والشكوك مثلها. فهذا المثل والتشبيه أليق بما نحن فيه (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يرشده إلى هداه ويبيّنه له حتى ينجيه من الضلالة والغواية بلطفه وعنايته ، أو يهديه الله لنوره أي إلى إيمانه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا للمعقولات إلى المحسوسات للأفهام ، وتسهيلا للمرام (عَلِيمٌ) كثير العلم فيضع الأشياء في مواضعها.

٣٦ ـ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ...) الجارّ متعلق بما قبله وهو المشكاة أي : مثل نوره تعالى وهو الهداية في قلوب أهلها كمشكاة في بيوت أذن الله ، أو يتعلق بيوقد ، أي : إيقاده في بيوت (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) بتعظيمها من تلاوة كتابه فيها ، أو ذكر أسمائه الحسنى فيها ، أو تطهيرها. وهل المراد بها المساجد أو بيوت الأنبياء ، أو أعمّ منها كبيوت الأوصياء فيها أقوال. ففي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام : هي بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن الباقر عليه‌السلام هي بيوت الأنبياء والرسل والحكماء وأئمة الهدى. وفي رواية : وبيت عليّ عليه‌السلام منها. ويؤخذ من بعض الروايات أن المقصود من البيوت هو الأئمة عليهم‌السلام بأنفسهم. في

الكافي عن الباقر عليه‌السلام (بقرينة رواية قبل هذه) أن قتادة قال له : والله لقد جلست بين يدي فقهاء وقدّامهم فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. فقال له : أتدري أين أنت؟ بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ، الآية ، فأنت ثمّة ونحن أولئك. فقال له قتادة : صدقت والله ، جعلني الله فداك ، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين ل (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) يحتمل أن يكون قوله ليسبّح بيانا لما في قوله من (يُذْكَرَ) وقال ابن عباس : كلّ تسبيح في القرآن صلاة ، فعلى هذا معناه : يصلّي له فيها (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) غدوّ مصدر ، وإطلاقه على أوقات الصّبح شائع في الكلمات ولذا قرنه بالآصال : جمع أصيل مستحسن ، مضافا إلى أنه استعمل جمع غداة ، فالاقتران أحسن والجمع بينهما على القاعدة معناه أنه يصلّى له أو يذكر فيها بالغدايا والعشايا ، أي أوائل طلوع الشمس وأواخر النهار ، أو أعم : من أوائل الطلوع وبين الفجر والطلوع وأواخر اليوم إلى العتمة.

٣٧ ـ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ...) أي يسبح له فيها رجال لا تشغلهم (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) لا شراء ولا بيع (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي إقامة الصّلاة. وجيء بالتاء عوضا عن الواو لأن أصله (إقوام) فحذف الواو وعوّض عنه بالتاء. وهنا حذف لإقامة المضاف إليه مقامه. وقيل إن كان المراد بالبيع مطلق المعاوضة فذكره بعد التجارة من باب ذكر العام بعد الخاص للمبالغة ، وإن كان المراد به معناه الحقيقي فإفراده بالذكر لكونه أهمّ القسمين من التجارة لأن الربح يتحقق بالبيع ، وبالشراء يتوقع ويترقب. ولا يخفى أن الله تعالى في توصيف الرجال وعدّ قدرة شيء من الأشياء أن يمنعهم عن ذكر الله اختصّ التجارة والبيع بالذكر. ولعل وجهه انهما أعظم الأشغال الدّنيويّة ، فإذا كانا لا يمنعانهم عن الذكر فباقي الأشغال أولى. وقال صاحب كشف الأسرار : إن ظاهر هؤلاء الرجال مع الخلق ، ولكن باطنهم في شهود الحق وصفاته وقوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) الآية إشارة

إلى هذا المقام ونعم ما قيل. ومن أوصافهم أنهم (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي تضطرب فيه القلوب والأبصار من الهول أو تتغير أحوالها فتتيقّن القلوب بعد الشك وتبصر الأبصار بعد العمى وهو يوم القيامة.

٣٨ ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ...) قيل متعلق بيسبّح ، وقيل بيخافون ، أي يعطيهم أحسن جزائهم (وَيَزِيدَهُمْ) على ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) أشياء لم يعدهم على أعمالهم ولا تخطر ببالهم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) هذا تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة وسعة الإحسان.

* * *

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ...) أي التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات كشعاع بأرض بياض مستوية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) يظنّه العطشان ماء (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) حتّى إذا انتهى إليه رأى أرضا لا ماء فيها ، وهو قوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، أي مما حسب وقدّر فكذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله من عند نفسه بلا متابعته للنبيّ (ص) نافعا وأن عليه ثوابا وليس له ثواب ولا أجر (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) عند جزائه

محاسبا إيّاه (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أعطاه جزاء عمله تماما بلا نقيصة (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يمنعه حساب بعض عن محاسبة الآخر. وسئل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام كيف يحاسبهم الله في حالة واحدة. فقال كما يرزقهم في حالة واحدة.

٤٠ ـ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) عطف على قوله : كسراب ، أي أن أعمالهم في خلوّها عن نور الحق مثل ظلمات في بحر عميق منسوب إلى اللّج وهو معظم الماء (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) من فوق الموج الثاني سحاب حجب نور الكواكب (ظُلُماتٌ) أي هذه ظلمات متراكمة (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فالواقع في تلك الظلمات المتراكمة إذا أراد أن يلاحظ يده فأخرجها إلى مقابل عينيه لم يقارب أن يراها لشدّة الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) من لم يقدّر له الهداية ولم يوفّق له أسبابها (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وهو في ظلمة الباطل دائما.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)

 يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

٤١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) أي ينزّهه عمّا لا يليق به أهل السّماوات من الرّوحانييّن وأهل الأرض من الإنس والجن بألسنتهم من الحال والمقال. و (مَنْ) لتغليب العقلاء (وَالطَّيْرُ) عطف على (مَنْ) والتخصيص لما فيها من الحجّة الواضحة على وجود الصّانع وكمال قدرته ، ولذا قيّدها بقوله : (صَافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهنّ وواقفات في الجوّ. وحيث إنّ الأجرام السّفلية بطبعها ميّالة إلى المركز ، فوقوفهنّ في الهواء وإلهامهنّ البسط والقبض عند كونهنّ مصطفّات الأجنحة في الجوّ برهان قاطع وحجّة ساطعة على كمال قدرة الصّانع ولطف تدبيره الجامع. فالطّيور تسبّح بلسان الحال وبنفس وجودها بهذه الكيفية والحالة أو المراد أنها تنطق بألسنتها بالتسبيح ؛ ولا مانع من الجمع ، كما أن من العقلاء من يسبّح بلسانه كالمؤمن ، وبدلالة وجوده وأحواله كالكافر (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) والظاهر من الكريمة أن الضمير في (عَلِمَ) لكلّ ، ومعناه أن جميع ذلك من المسبّحين ، وقد علموا صلوات أنفسهم وتسبيحهم ، وهم يؤدّونها في وقتها ، أو هو راجع إلى الله ، وهو تعالى قد علم صلاته ودعاءه إلى توحيده وتسبيحه. وقيل أنّ الصلاة للإنسان والتسبيح لكلّ شيء.

٤٢ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي على الحقيقة لا يشاركه فيه أحد (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع.

٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ...) أي يسوقه برفق إلى حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بين قطعه المتفرقة في الجوّ بضمّ بعضها إلى بعض فتصير قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما ومتراكبا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ترى المطر يخرج من فتوقه ومخارجه وفرجه ، جمع خلل كجبال جمع جبل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) أي من الغمام فإن كل ما علاك فهو سماء (مِنْ جِبالٍ) بيان من السّماء ، أي من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها وجمودها (فِيها مِنْ بَرَدٍ) من بيان للجبال والبرد هو الثلج ، والضمير راجع إلى السّماء ، وكلّ جسم شديد متحجّر عظيم يعبّر عنه بالجبل (فَيُصِيبُ بِهِ) بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من يريد (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) يدفعه عنه (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة. وهذا أقوى برهان ودليل على كمال قدرته تعالى ، لأنّه يخرج النار المضيئة من السّحاب الذي يحمل المطر ، بل أشرب فيه المطر بحيث صار كالقطن الذي غمس في الماء.

٤٤ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ...) أي يصيّرهما بذهاب واحد ومجيء آخر متعاقبين بالنقصان والزيادة أو بتغيّر أحوالهما بالحرارة والبرودة والنور والظلمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي فيما تقدّم ذكره من الأمور المذكورة اعتبار ودلالة على وجود الصّانع الحكيم القديم وعلى قدرته الكاملة ونفاذ مشيئته وتنزّهه عن كلّ حاجة لكل ذي بصيرة وعلم ومعرفة.

٤٥ ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ ...) أي كلّ حيوان يدبّ على الأرض (مِنْ ماءٍ) تنكير الماء في هذه الآية لعلّه باعتبار الجنس مطلقا ، ولكن التعريف في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ) حيّ باعتبار الإشارة إلى ماء مخصوص ، كالنّطفة من باب التغليب ، أو الماء الذي خلقه الله في بدء أمر الخلقة على ما روي عن ابن عبّاس أنّ أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار ومنها الجن

والهواء والنور ومنه خلق الملائكة ، والتراب ومنه خلق آدم وباقي الحيوانات. فأصل كل موجود هو الماء والكريمة لعلّها دالة على هذا بوسيلة أداة التعريف والله أعلم. والحاصل انّه لمّا استدلّ على التوحيد المستلزم لوجوده من الآثار العلويّة ، استدلّ في الكريمة بأنه خلق كلّ دابّة من ماء (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي) الآية من آثار العالم السفلي من الحيوانات وغيرها على وجود الصّانع وتوحيده وحكمته وقدرته التامة على ما فصّلها من قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) الى قوله : (يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ). وعن الباقرين عليهما‌السلام : ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك وتذكير الضمير ولفظ (مِنْ) فيما ذكر لتغليب العقلاء كما لا يخفى (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من حيوان وغيره على اختلاف الصّور والطبائع بمقتضى حكمته ومشيئته.

٤٦ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) أي الآيات القرآنية التي هي مبيّنات لحقائق الأشياء بأنواع الدّلائل (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق للنّظر فيها والتدبّر لمعانيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) للطّريق الموصل إلى الجنّة ، وهو الإيمان المؤدّي إلى درك الحق والحقيقة.

* * *

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ

بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

٤٧ ـ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ ...) روي أن منافقا ويهوديّا وقع بينهما تنازع في أرض ، فقال اليهودي : نذهب للحكومة عند نبيّكم محمد (ص) وجرّه المنافق الى كعب بن الأشرف ، وكان يقول إن محمدا يحيف علينا فنزل قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) بالامتناع عن قبول حكمه والاعراض عنه (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم آمنّا بالله وبالرسول (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) وفي هذه الآية دلالة على أن القول المجرّد لا يكون إيمانا إذ لو كان لما صح النفي بعد الإثبات لأن هؤلاء القائلين يدّعون الإيمان وليسوا بمؤمنين في واقع الحال.

٤٨ ـ (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي إذا انتدبوا وسئلوا العودة لحكم الله وحكم رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) في شؤونهم الدّنيوية أو الأخروية ـ كقصة اليهودي وخصمه ـ (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) تجد أن بعضهم يمتنعون عن الإجابة ويميلون عن حكم الله وحكم رسوله (ص).

٤٩ ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ...) أي إلى النبيّ (ص) منقادين خاضعين له لعلمهم بأنه (ص) يحكم لهم لا عليهم لأنّ الحقّ لهم.

٥٠ ـ (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي شك في نبوّتك أو نفاق ، وهذا استفهام يراد به التقرير لأنه أشدّ في مقام الذمّ والتوبيخ يعني : هذا أمر قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى التنبيه (أَمِ ارْتابُوا) أم رأوا منه ما أوقعهم في اضطراب وقلق فلم يبق فيهم اعتماد ووثوق بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي يخافون أن يجور الله عليهم والرّسول يظلمهم في الحكم لأنّه لا وجه في الامتناع عن المجيء إلّا أحد هذه الأوجه الثلاثة : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذا إضراب من القسمين الأخيرين لتحقّق القسم الأول وثبوته فيهم يعني الكفر ، والمعنيّ بالإضراب

أنّه ما كان عدم مجيئهم للأمرين الأخيرين أن الرسول محلّ تهمة عندهم أو أن الله ورسوله أهل للجور والعدوان على أحد بل (أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أنفسهم وغيرهم من خصومهم. ثم إنّه تعالى بعد ما بيّن حال الكفرة والمنافقين بما يدل على ذمّهم وتوبيخهم ، أخذ في أوصاف المؤمنين وشرح حالهم بما يدلّ على كمال مدحهم ورفعة مقامهم ، فقال عزوجل :

٥١ ـ (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) ليعلم أن القراءة المشهورة : إنما كان بنصب القول خبرا لكان ، وفي المجمع عن عليّ عليه‌السلام أنه قرأ : قول المؤمنين بالرّفع ، فيصير اسم كان كما هو الظاهر ، وخبره جملة : أن يقولوا. والظاهر أن الحق مع عليّ عليه‌السلام حيث أنه ، بقرينة المقام ، يراد من الكريمة أن يحصر قول المؤمنين في قولهم : سمعنا وأطعنا في كل أمر إلهيّ وفي كل أحوالهم. بيان ذلك أنه إذا أمرهم الله سبحانه بالإقرار بوجود الصانع والخالق تعالى يقولون : سمعنا من رسولك وأطعناه ، وإذا أمروا بالشهادة بالوحدانية وبالرسالة وبالولاية يقولون : سمعنا وأطعنا ، وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبالصّيام وبالجهاد إلى آخر أحكامه تعالى سواء كان أمرا أو نهيا وأعم من أن يكون لهم أو عليهم ، ففي كل ما يرد عليهم وإليهم فلا كلام لهم ولا قول إلّا قول : سمعنا وأطعنا ، بخلاف الكفرة والمنافقين فإنهم إذا دعوا إلى الله ، أي إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم ، فإذا كان الحكم عليهم إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين لعلمهم بأن الحكم لهم.

٥٢ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) حكي أن بعض الملوك طلب من علماء عصره آية من كتاب الله يكفيه العمل بها عن غيرها من الآيات ، فاتفقوا على إرسال هذه الآية لأن الفوز والفلاح لا يحصلان إلّا بهذه الأمور الثلاثة المذكورة فيها : الإطاعة لله سبحانه ، وخشيته ، وتقواه :

* * *

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

٥٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) المنافقون حلفوا بالله حلفا غليظا وشديدا. وقوله : جهد أيمانهم ، مفعول للفعل المحذوف بتقدير : يجهدون بالأيمان جهدا ، فحذف الفعل وأقيم المصدر المضاف إلى المفعول مقامه كقوله : ضرب الرّقاب وهذا المصدر في حكم الحال كأنّه قيل جاهدين بأيمانهم أي أقسموا مجدّين ومجتهدين في حلفهم بحيث يزعمون أنهم (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج عن ديارهم وأموالهم (لَيَخْرُجُنَ) هذا جواب لقوله : وأقسموا بالله (قُلْ لا تُقْسِمُوا) يا محمد قل لهؤلاء المنافقين الكافرين : لا تحلفوا على الكذب (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي : المطلوب منكم هي الإطاعة المعروفة المتداولة بين المؤمنين ، وهي الانقياد الخالص عن الشبهات لله تعالى ، أي لأوامره ونواهيه كطاعة الخلّص من عباد الله الذين طابق باطن أمرهم ظاهرهم لا اليمين على الطّاعة النفاقية المنكرة بحيث تكون القلوب خلاف الأفواه (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) هو عالم بسرائركم وأعمالكم ويدري أن قسمكم كذب محض فلا اعتماد على قولكم أبدا.

٥٤ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) أي قل لهم ذلك يا محمد (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) فإن تولّوا عن الطاعة وامتثال الأوامر والنواهي وأعرضوا عنها وراء ظهورهم (فَإِنَّما عَلَيْهِ) على الرسول (ما حُمِّلَ) من أداء الرّسالة وبيان التكاليف (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من المتابعة

والامتثال بالأعمال الصالحة (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إلى الحق وتفوزوا فوزا عظيما (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغ ، فإن قبلتم فلكم وإلّا فعليكم وحكي أن فقراء المهاجرين بعد ما كانوا عشر سنين في مكة في غاية الخوف والشدّة هاجروا من مكّة إلى المدينة ونزلوا بدوا في منازل الأنصار إلى مدّة فاتّفق على محاربتهم كفار قريش وأكثر قبائل العرب المحالفين لهم وغير المحالفين من الذين كانوا في مكة ويثرب يرسلون إليهم رسائل ورسلا ويتهدّدونهم ويخوّفونهم. فمضت عليهم أزمنة وهم مضطربون غير مستريحين ، فقالوا يوما من أيّام اجتماعهم : هل يجيء علينا زمان السّلامة والعافية والأمن والأمان قاعدين في بيوتنا على فراغ بال ، فنزلت : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ) ، الآية ...

* * *

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

٥٥ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليجعلنّهم خلفاء بعد نبيّكم متصرّفين فيها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي بني

إسرائيل بدل الجبابرة (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) أي الإسلام (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ارتدّ أو كفر بهذه النعم بعد حصولهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون إلى أقبح الكفر حيث ارتدّوا بعد وضوح الأمر وكفروا تلك النّعم العظيمة ، وفي القمي : نزلت في القائم من آل محمّد عليهم‌السلام ، وعجّل الله تعالى فرجه.

٥٦ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...) أمر لمن كان يعقل ويتدبّر باتّباع أوامر الله تعالى ونواهيه بأمل نيل رحمته.

٥٧ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : لا تظننّ أن هؤلاء الكافرين يعجزون الله تعالى ويفوت قدرته إدراكهم وإهلاكهم ، فإنّهم في قبضته وتحت سلطانه ، وسيأخذهم إليه (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فهي مقرّهم وإليها مصيرهم لأنها مسكنهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ

لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

٥٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ...) أي ليطلب الإذن في الدخول عليكم المملكون من الرجال والنساء والصبيان الذين بلغوا الحلم (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار الذين يميّزون بين العورة وغيرها وصار لهم قابلية الاحتلام والتكليف يجب أن يستأذنوا للدخول عليكم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في الأوقات الثلاثة التي بيّنها الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه ، وهي : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع وتبديل لبس الليل بلبس النهار (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي للقيلولة (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان الحين (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت تبديل لبس اليقظة بلبس النوم وحين يأوي الرّجل إلى امرأته ويخلو بها (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي الأوقات الثلاثة هي ثلاث عورات لكم ، جمع عورة ، وإنّما سمّيت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان في هذه الأوقات غالبا يضع ثيابه وجلبابه فتبدو عورته حيث أنّه يختلّ تحفظهم وتستّره فيها. والعورة القبل والدّبر وكلّ شيء ستره الإنسان أنفة أو حياء فهو عورة ، ولذا سمّيت السّوأة عورة ، والنساء عورة. ومنه الحديث : المرأة عورة جعلها نفسها عورة لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت وفي الحديث عورة المؤمن على المؤمن حرام ، ومعناه على ما ذكره الصادق (ع): أن يزل زلّة أو يتكلم بشيء يعاب عليه فيحفظه ليعيره به يوما وفي خبر آخر : هي إذاعة سرّه أو أن ذلك يكون حين يخلو مع زوجته في تلك الأوقات وهي عورة وبهذه المناسبة كنّى عن الأوقات بالعورة لأنها ظروف للعورة والله أعلم. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي بعد هذه الأوقات في ترك

الاستئذان (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) ظاهر هذه الجملة أن المماليك يطوفون على الموالي ، ولكن ، قوله سبحانه (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) يدل على أنّ الفريقين كل واحد يحتاج إلى الآخر ويطوف الموالي أيضا على العبيد لا المماليك يطوفون عليهم فقط ، فإن الخادم إذا غاب عن المخدوم وكان المخدوم محتاجا إلى خادمه فلا بدّ من أن يطلبه ويطوف عليه ، فلا يستغني كل واحد عن الآخر. وهذه الجملة استئناف لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان وهو المخالطة وكثرة المداخلة على ما يستفاد من طوافون بعض على بعض ، هؤلاء للخدمة وهؤلاء للاستخدام. فلو كلّفوا بالاستئذان في تمام الأوقات لكان حرجا على المماليك بل على الموالي.

٥٩ ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ ...) أي أطفالكم أيّها الأحرار ، فإنّ بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستئذان بالأوقات الثلاثة بخلاف بلوغ المماليك فإنّ الحكم معه باق في التخصيص للاحتياج إلى الخدمة والاستخدام (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي الذين بلغوا قبلهم من الأحرار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي نحو هذا التبيين والتوضيح الذي سبق ، يبيّن ويوضح الله لكم دلائل الحق ، وآياته : أحكام شرعه ووعده ووعيده على الإتيان بها أو الإعراض عنها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عالم بمصالح عباده وكل ما يفعله ويصنعه يكون على وجه الحكمة. وكرّر هذه الجملة للمبالغة والتأكيد في أمر الاستئذان في الأوقات الثلاثة بالنسبة إلى المماليك وأطفال الأحرار الذين لم يبلغوا الحلم لكنهم مميّزين. وأما الأحرار وأطفالهم الذين بلغوا الحلم فليس لاستئذانهم وقت خاص بل مطلقا.

٦٠ ـ (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ ...) أي المسنّات (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يرغبن في الأزواج والتناسل وغيرهما من حظوظ الجنسيّة ولا يطمعن فيها لكبرهنّ (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) أي بأس أو ذنب (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) ولعلّ المراد بعض ثيابهن كالخمار أو الجلباب الذي يكون فوقه أو هما معا. وفي المجمع عن الصّادقين يضعن من ثيابهن. والإتيان بمن للإشارة الى انه

ليس لهن ان يكشفن عورتهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهنّ ومحاسنهنّ ، والتبرّج هو كشف المرأة للرّجل بإظهار محاسنها (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي لا يضعن الثياب مطلقا (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالهنّ للرّجال (عَلِيمٌ) بمقصودهن معهم.

* * *

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ

 لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

٦١ ـ (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) كان أهل المدينة قبل إسلامهم معتزلين الأعمى والأعرج والمريض ولا يأكلون معهم في مجامعهم ومجتمعاتهم ، وكانوا يعزلون لهم طعامهم على ناحية ويرون في مؤاكلتهم جناحا وهؤلاء الأصناف هم أيضا كانوا لا يأكلون معهم ويقولون : لعلّهم يتأذّون إذا أكلنا معهم. فلمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سألوه عن ذلك فأنزل الله عزوجل : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي جناح ووزر (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت عائلتكم وأهلكم فيدخل فيها بيوت الأولاد كما في الأخبار (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) جمع مفتح وهو ما يفتح به ، أي وكّلتم بحفظه من بستان ونحوه لغيركم أو بيوت مماليككم (أَوْ صَدِيقِكُمْ) هو اسم جنس ويطلق على الواحد والكثير ولعلّ المراد هو الصّديق الحقيقي الذي ربما كان كبريتا أحمر في جميع الأزمنة ولا سيما في عصرنا هذا. روي أنّ الربيع بن خثيم كان له صديق فذهب إلى دار الربيع وهو غير موجود في الدار وكان فيها طعام فأكله وراح ، فجاء الربيع فأخبرته جاريته بذلك فانبسط بحيث قال إن كنت صادقة فأنت حرة. قال بعض أهل الحقيقة لو جاءك صديقك وقال أعطني من مالك وأنت قلت في جوابه كم تريد فلست قابلا للصّداقة لأن السؤال غلط إن كنت صديقا لله ، بل لا بد من أن تحضر جميع ما عندك حتى يأخذ بمقدار كفايته ونعم ما قال.

وروي عن الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : أيدخل أحدكم يده إلى كمّ صاحبه أو جيبه فيأخذ منه؟ قالوا : لا ، قال : فلستم بإخوان وعن ابن عبّاس أنّ الصّداقة أقوى من النسب لأنّ أهل النار يستغيثون بأصدقائهم ولا يستغيثون بآبائهم وأمّهاتهم ويقولون : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) عن الصّادق (ع) قال : بإذن وبغير إذن (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي على أهلها الذين هم منكم وعن الصّادق (ع) هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ، ثم يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم فإن فاعل السّبب فاعل للمسبّب أيضا (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) مشروعة من لدنه (مُبارَكَةً) لأنها دعاء مؤمن لمؤمن بالسلامة ويرجى بها من الله تعالى زيادة الخير (طَيِّبَةً) أي طيب الرزق وطيب النفس بالتواصل والثواب. ومنه قوله عليه‌السلام سلّم على أهل بيتك يكثر خير بيتك (كَذلِكَ) أي كما أنّ الله تعالى بيّن السّلام (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يظهر لكم وينزل آيات أحكامه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معالم دينكم ومصالحها ومنافعها التي ترجع وتعود إليكم.

٦٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي الكاملون في الإيمان بقرينة الحصر (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) من صميم القلب (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي مع الرّسول على عمل جامع يأمر بجمع الناس واجتماعهم فيه. فوصف الأمر بالجامع مجاز للمبالغة كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورات وصلاة الاستسقاء فأولئك (لَمْ يَذْهَبُوا) من عنده صلوات الله عليه وآله (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) لمهامّهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) هذا تفويض للأمر إليه صلوات الله عليه وآله (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الاستئذان فانه ولو لعذر قصور ، لأن تقديم أمر الدنيا على مهمّ الدين ليس بخال عن شوائب الخلل (غَفُورٌ) لقصور عباده وتفريطهم. ويحتمل أن يكون الاستغفار لعدم الاستئذان من بعض الناس ، والله أعلم.

٦٣ ـ (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...) أي لا تسمّوه باسمه عند ندائه كما تدعون بعضكم بعضا. قولوا : يا رسول الله ، يا نبيّ الله بتعظيم وتواضع وخفض صوت (يَتَسَلَّلُونَ) أي يخرجون عن الجماعة بخفية (لِواذاً) مصدر بمعنى الفاعل ، أي ملاوذين ، وهي حال عن ضمير يتسللون ، أي هم يلوذ أحدهم بمن يؤذن ويستر نفسه به عند الخروج عن الجماعة ومن عنده صلوات الله عليه وآله حتى لا يروه فينطلق وينصرف (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) يعصون أمره (فِتْنَةٌ) أي بلية في الدّنيا و (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

٦٤ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ...) أي اعلموا أن له تعالى ما في السماوات والأرض ملكا خاصا به (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من النفاق أو الإخلاص (بِما عَمِلُوا) من خير وشر والباقي مرّ تفسيره.

سورة الفرقان

مكيّة : إلّا الآيات : ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ...) أي تكاثر وتزايد ، أو تقدّس ، أو دامت بركاته على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) للجنّ والإنس منذرا ومخوّفا من العذاب. ولا يخفى أن إضافة الإنذار إلى القرآن بعيدة ، لأن الإنذار والمنذر

من صفة الفاعل ، وقد يوصف به القرآن مجازا ، وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن أولى ، بل قيل واجب.

٢ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ ...) أي كما زعم الوثنية والثنوية (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي فهيّأه لما يصلح له في الدّين والدّنيا ، أو قدّر له أجلا مسمّى. والقمّي عن الرّضا عليه‌السلام قال : تدري ما التقدير؟ قيل : لا ، قال : هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء.

٣ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ...) أي أنه مع قدرته هذه وملكه هذا قد جعل الكافرون لأنفسهم أربابا غيره سبحانه وتعالى ، مع أن أربابهم التي صنعوها (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأنهم عاجزون عن ذلك ، فالله تعالى وحده هو الخالق البارئ ، وهم أيضا (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فلا يجلبون لها خيرا ولا يدفعون عنها شرّا (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) فليس بيدهم شيء بل هم راضخون لمشيئة الله سبحانه وتعالى.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ ...) أي قالوا : ليس القرآن

غير كذب قد ألّفه محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) من أهل الكتاب مما في كتبهم. وهذا القول نظير قولهم : إنّما يعلّمه بشر كما مرّ في سورة النحل (فَقَدْ جاؤُ) أي فعلوا (ظُلْماً) تعدّيا وتجاوزا عن حدود الشرع (وَزُوراً) بهتانا بالنسبة إلى قوم آخرين لأنهم ما فعلوه.

٥ ـ (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ...) أي ما سطره المتقدّمون (اكْتَتَبَها) كتبها بنفسه أو استكتبها حيث إنّه صلوات الله عليه لا يعرف الكتابة والخط (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي طرفي النّهار ليحفظها. والقول قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وتابعيه من المشركين.

٦ ـ (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) : أي يعلم الغيب والحاصل أن الكتاب الذي أعجزكم عن آخركم بفصاحته ، وتضمن مصالح العباد في المعاش والمعاد واشتمل على الإخبار عن المغيّبات مستقبلة ومستدبرة وأشياء مكنونة لا يعلمها إلّا علّام الغيوب والأسرار ، كيف يجعلونه أساطير الأولين؟ (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ولذا لا يعاجلكم بالعقوبة على أقوالكم وأعمالكم بما تستحقّونه مع كمال قدرته أن يصبّ عليكم العذاب صبّا.

* * *

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

٧ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ...) أي الزاعم أنه رسول ، وفيه تهكّم (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي له ، زعموا أنّه إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا ، زعما منهم أنه يجب أن يكون الرّسول ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيّش. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) يصدقه في دعواه على مرأى منّا ومنظر. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا :

٨ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ...) أي يطرح ويقذف إليه من السّماء مال كثير يستغني به عن التردّد في الأسواق لطلب معاشه غفلة وجهلا منهم أن تردّده ومشيه في الأسواق لهداية الناس وإنذارهم. ثم نزلوا عن ذلك فقالوا : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) من محصولها ويعيش بذلك ويرتزق كالدّهاقين والمياسير (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي ما تتبعون إلّا من سحر فغلب على عقله ، وضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا.

٩ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ...) أي انظر بعين البصيرة حتّى ترى كيف قالوا فيك الأقوال النادرة وماثلوك بالمسحور ، ووصفوك بالمملى عليه والمفتري (فَضَلُّوا) عن الطّرق الموصلة إلى معرفة خواص أنبيائه وتميّزهم عمّن سواهم وعموا عن الفرق بين النبيّ والمتنبّئ (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد والهدى ، أو إلى ولاية عليّ عليه‌السلام كما عن الباقر عليه‌السلام.

١٠ ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ ...) أي تقدّس الذي إن شاء (جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) ممّا قالوا فيك (جَنَّاتٍ تَجْرِي) الآية بيان لقوله خيرا

من ذلك (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) مساكن رفيعة ومنازل عالية.

* * *

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

١١ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ...) أي أتوا بأعجب من تكذيبك وهو

تكذيبهم بالسّاعة التي هي يوم القيامة وقد هيّأنا لمن كذّب بها (سَعِيراً) نارا شديدة الاستعار قوية الاشتعال.

١٢ ـ (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) القمّي قال : من مسيرة سنة (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي صوت غليانا منها ، ومن أهلها (زَفِيراً) أي صوتا خاصا من جوفهم. وقيل انهما وصفان للنار ، أي يسمع منها غليان من فرط غيظها وصوت من جوفها كصوت الغضبان أعاذنا الله منها.

١٣ و ١٤ ـ (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً ...) أي يرمون بهم في أمكنة ضيّقة منها (مُقَرَّنِينَ) مقيّدين بالأغلال بأن قرنت أيديهم إلى أعناقهم (دَعَوْا هُنالِكَ) في ذلك المكان الضيّق (ثُبُوراً) أي هلاكا وفناء بأن يقولون : وا ثبوراه ، فيقال لهم من عند الربّ تعالى (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) لأن عذابكم أنواع كثيرة وفي كل نوع تموتون وتهلكون ثم تعودون وتحيون ولا موت أبديا لكم ولا فناء دائميّا ، بل كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب الذي لا ينتهي.

١٥ ـ (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ ...) أي المذكور من الوعيد وبيان صفة السعير (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) أضيف إليه تنبيها على الخلود فيها للمؤمنين جزاء على إيمانهم.

١٦ ـ (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) : أي كان ما يشاء المؤمنون موعودا واجبا عليه تعالى إنجازه بحيث لهم حق السؤال والمطالبة بذلك.

١٧ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ...) أي يوم القيامة نجمعهم مع معبوداتهم ونحاسبهم على ما عملوه ، ونقول لهم : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي) حيث أخلّوا بالنظر في آياتنا وأعرضوا عن أنبيائنا وهو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)؟

١٨ ـ (قالُوا سُبْحانَكَ ...) أي قال المؤمنون : أنت منزّه من ان لا تعلم واقع

الأمر فتسأل عنا حتى تعلمه وكيف الحال (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) فنحن نقر بك واتّخذناك وليّا ومعبودا لأنفسنا ، فكيف ندعوا الغير إلى عبادة من هو دونك ومن ليس أهلا لها كأنفسنا أو ما هو مثلنا أي أنه مخلوق ضعيف لا يقدر على شيء؟ فأنت تعلم بأنا برءاء من ذلك ، و (لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي لما أنعمت عليهم بأنواع النعم تركوا ذكرك أو كتابك والتدبّر فيه وبالنتيجة (كانُوا قَوْماً بُوراً) أي هالكين ، فهم بأنفسهم ضلّوا سبيل الهداية والرّشاد لا بإضلال الغير ويحتمل ان المعبودين من الأملاك والأنبياء والأصنام لو أنطقهم الله لقالوا : سبحانك تعجّبا مما قيل لهم.

١٩ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ ...) هذا التفات عن خطاب المعبودين إلى عبدتهم للاحتجاج والإلزام ، على حذف القول. والمعنى : فقد كذبكم المعبودون (بِما تَقُولُونَ) من قولكم إنهم آلهة وهؤلاء أضلّونا (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) أي كيف تقولون هؤلاء آلهتنا مع أنهم عجزة لا يقدرون دفعا للعذاب عن أنفسهم فكيف عن غيرهم (وَلا نَصْراً) أي لا يقدرون على حفظ أنفسهم وإعانتها في دفع الحوادث والعقاب ، فهم أعجز عن دفعه عن غيرهم بطريق الأولى مع أن الإله من هو على كل شيء قدير ، وعبدتم من هو مثلكم أو أدون وأضعف منكم كالأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان ، وهذا يحسب ظلما من الإنسان على نفسه (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) وهو النّار وما أدراك ما النار وما عذابها الشديد؟

* * *

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)

وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

٢٠ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ...) هذه الشريفة جواب وردّ لقولهم : ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ) ايّها الناس (لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي ابتلاء كابتلاء الشريف بالوضيع والغني بالفقير والرّسل بالمرسل إليهم. وهي في الواقع تسلية للنبيّ (ص) عن ما قالوا (أَتَصْبِرُونَ) أي ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أولا ، أو معناه : اصبروا (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر وبغيره.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) أي الآيسين من الوصول إلى رحمتنا وخيرنا لكفرهم بالبعث ، وأصل اللّقاء هو الوصول (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلّا أنزلوا فيخبرون بصدق محمد فيكونون رسلا إلينا (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيأمرنا باتّباع محمد في الأحكام وتصديقه في دعواه الرسالة (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) عدّوا أنفسهم ذات كبرياء وسيادة حيث توقّعوا نزول الملائكة عليهم أو رؤية الرب زعما منهم أنه تعالى جسم قابل للرؤية ويلاحظ أن ديدنهم التجسيم كما أن قوم موسى كانوا كذلك فقالوا لموسى أرنا الله جهرة. (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) طغوا طغيانا كبيرا بالغا الغاية ، وتجاوزوا الحدّ في الظلم لأنهم عاينوا المعجزات البيّنة القاهرة فأعرضوا عنها واقترحوا لأنفسهم الدنيئة ما سدّت دونه مطامح النفوس القدسيّة.

٢٢ ـ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ...) أي عند الموت أو في القيامة. ونصب : يوم بأذكر مضمرا (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) أي لا خبر مفرح في ذلك اليوم (لِلْمُجْرِمِينَ) للذين ارتكبوا الآثام (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي يقول المجرمون عند لقاء الملائكة هذه الكلمة استعاذة منهم كما كانوا يقولونها في الدّنيا عند لقاء عدوّ ونحوه ممّا كانوا يخافونه. فهذه الكلمة كانت عوذة لهم من المكاره بزعمهم. قال ابن جريح كانت الأشهر الحرم عند أهل الجاهلية محترمة لا يقاتلون فيها ولو يقابلون اتفاقا مع جيش يريد فيها مقاتلتهم وكانوا يقولون خوفا من القتل : حجرا محجورا يعنون بقولهم هذا أنه حرام عليكم هتك حرمتنا في هذه الأشهر واصبروا حتى تمضي فنقاتل معكم. فكان هذا الكلام أمنا لهم من شرّ أعدائهم. وكأنّهم لمّا جاء يوم القيامة ورأوا ملائكة العذاب يتوسلون بهذه الكلمة زعما منهم أنها تفيدهم كما كانت تنجيهم في الدّنيا من الشدائد عند لقاء عدوّ أو هجوم مكروه.

٢٣ ـ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا ...) أي عمدنا وقصدنا إلى أعمال الكفار في الدنيا ممّا رجوا به النفع وطلبوا به الثواب مثل صلة أرحامهم وصدقاتهم وأمثال ذلك (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) والهباء هو الغبار يدخل الكوّة من شعاع الشمس أو ما تسفيه الرياح وتذره من ناعم التراب. والحاصل تذهب أعمالهم باطلا ولا ينتفعون بها من حيث عملوها لغير الله. وقيل معناه أن أعمال الكفار وحسناتهم لا نقيم لها وزنا يوم القيامة. وفي البصائر عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل : أعمال من هذه؟ فقال : أعمال مبغضينا ومبغضي شيعتنا. ومنثورا : أي متفرّقا.

٢٤ ـ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ...) أي مكانا يستقر فيه (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) موضع الاستراحة في الظّهيرة ، أو النوم فيها ويسمّى بنوم القيلولة. وقيل : هذا نحو من التجوّز قد أورده على التشبيه إذ لا نوم في الجنّة ، اللهم إلّا ما كان من أن أهل الجنّة يتنعّمون في ظلالها الوارفة. وفي الكافي ، في حديث سؤال القبر ، روي أن أمير المؤمنينعليه‌السلام

قال : ... ثم يفتحان له بابا إلى الجنّة ثم يقولان له : ثم قرير العين نوم الشباب الناعم ، فإن الله تعالى يقول : أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ولو لم يكن في الجنّة من نوم فإن الاسترواح مع الأزواج والتمتّع بنعم الله الكثيرة فيه خير مقيل وأحسن مستقرّ

* * *

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١))

٢٥ ـ (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ ...) الظرف منصوب باذكر المقدر ، أو بيرون بقرينة المقام ، أي يرون يوم تتشقّق السّماء بسبب خروج الغمام منها الملائكة وهم يحملون بأيديهم صحائف أعمال العباد كما قال (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) من عنده سبحانه وتعالى يوم القيامة وبأيديهم الصحائف المذكورة وعند بعض : المراد بالغمام هو الذي كان ظلّة بني إسرائيل في التيه. وعن الصادق عليه‌السلام الغمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢٦ ـ (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ...) الحقّ إمّا خبر للملك فمعناه : الملك ثابت له تعالى يوم القيامة ، وإمّا صفة له وخبره (يَوْمَئِذٍ) أو

(لِلرَّحْمنِ) والملك على ثلاثة أقسام : ملك العظمة وهو مخصوص بذاته المقدّسة جلّت عظمته ، وملك الدّيانة وهو الذي يحصل بتمليكه سبحانه أو إمضائه ، وملك الجبريّة وهو الذي يتملّكه الإنسان بالقهر والغلبّة (وَكانَ يَوْماً) أي يوم القيامة (عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي شديد الأهوال بمخاوفه. وتقديم الظرف وفصله لإفادة الحصر حيث إن الشدّة على الكفرة. وأما أهل الايمان فكان أمرهم سهلا وهم في أمن من تلك الشدائد والمخاوف.

٢٧ ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ...) لعلّ عضّ الظلمة أياديهم كناية عن غاية غيظهم وفرط تحسّرهم. ويحتمل أن يكون المراد معناه الظاهري ندما وتحسّرا (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي طريقا إلى الهدى. وفي القمي : هذا مقول قول الأول. وعن الباقر عليه‌السلام : إن المراد الولاية.

٢٨ ـ (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ...) أي يا هلكتي احضري فهذا وقتك (لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) المراد بفلان هو من أضلّه. والقمي قال : يعني الثاني.

٢٩ ـ (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ...) أي القرآن أو وعظ الرّسول من الإرشاد والإنذار أو الولاية (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ) أي الخليل المضلّ أو إبليس أو كل متشيطن جنّي أو إنسيّ وفي القمي أنه الثاني (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي يسلّمه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه ويريبه بالخذلان الأبدي. ثم أنه تعالى بعد ذكر أحوال مصاحبة الأشرار وبيان سوء عاقبته في دار القرار أخذ في حكاية شكاية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قومه فقال :

٣٠ ـ (وَقالَ الرَّسُولُ) ... (هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ...) أي جعلوه متروكا وراء ظهورهم لا يسمعونه ولا يتفهّمونه ولا يتدبرون آياته وأحكامه.

٣١ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ ...) هذه الشريفة نزلت في مقام تسلية

النبيّ (ص) من حيث أذى قومه ووعده بالنصر على قومه تأسّيا بمن مضى قبله من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنهم كانوا مأمورين من الله تعالى أن يدعوا قومهم إلى الايمان به وترك ما ألفوه من ديدن آبائهم ودينهم من عبادة الأوثان والشرك بالله سبحانه ، وكانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة والأذى فأمروا بالصبر ووعدوا بالنصر. فمعنى الكريمة كما جعلنا لك أعداء من قومك كذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّا من المجرمين فصبروا على ما لقوه منهم حتى نصروا ، فكذلك لا بدّ لك من الصّبر حتى يأتيك النصر والظفر عليهم كما يشير إليه بقوله (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي هاديا إلى طريق الظفر أو إلى الاعتصام منهم ، ونصيرا لك عليهم.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

٣٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...) أي دفعة واحدة كما أنزل بعض الكتب السّماويّة من التوراة والإنجيل والزّبور. فأجابهم الله تعالى بقوله : (كَذلِكَ) أي أنزلناه كذلك متفرّقا (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لنقوّي بتفريقه قلبك على حفظه وفهمه إذ كنت أميّا بخلاف الأنبياء الثلاثة فنزلت عليهم كتبهم مكتوبة لأنهم كانوا يكتبون ويقرءون. وأيضا فإن في القرآن ناسخا ومنسوخا ، وفيه أجوبة للسّائلين ، ونزوله على حسب المواقع والموارد موجب لمزيد البصيرة والغوص في معناه ،

مضافا إلى أن كلّ نجم ينزل كان صلوات الله عليه يتحدّى به فيظهر إعجازه ويتجدّد عجزهم ، ومضافا إلى أنّ نزول جبرائيل في مختلف أوقاته كان باعثا لسرور قلبه الشريف وتسلية لنفسه المقدّسة وغير ذلك من الأمور الموجبة لإنزاله نجما بعد نجم ، والتي خفيت علينا كما اختفى كثير من أسراره (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي نزّلناه شيئا بعد شيء في نحو عشرين سنة ، أو أمرنا بترتيله أي تبيينه والتأنّي في قراءته. وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا ابن عباس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا. قال : وما الترتيل؟ قال : بيّنه تبيينا ولا تنثره نثر الرّمل. قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السّورة.

٣٣ ـ (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ...) أي لا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك وباعتراض في نبوّتك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) فأبطلناه بما هو الحق وهو القرآن (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أحسن بيانا وكشفا ممّا أتوابه من المثل.

٣٤ ـ (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ ...) أي يسحبون على وجوههم إلى النار وهم كفار مكة. وفي المجمع عن النبيّ أنه سئل كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة. وحاصل الحديث أنهم في الآخرة يمشون مقلوبين ، وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى الفوق ، ثم ذكر سبحانه حديث الأنبياء تسلية للرّسول وتبصرة لأمّته فقال :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ

آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩))

٣٥ و ٣٦ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) لما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء ، وعرّف نبيّه محمدا بما نزل عليهم من أممهم من تكذيبهم إيّاهم ، إشارة إلى أنّه لست يا محمد بأوّل من أرسلت فكذّبت ، وآتيناك الآيات فرددت ، فإن موسى قد آتيناه التوراة وقوّينا عضده بأخيه ، ومع ذلك فقد ردّه قومه وكذّبوه وجحدوا نبوّته فنصرناه وأهلكنا عدوّه فرعون (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) التدمير هو الإهلاك بأمر عجيب كإهلاك فرعون.

٣٧ ـ (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ...) أي أذكر يا محمد قصة قوم نوح حين كذّبوا الرّسل أي نوحا ومن قبله كشيث وإدريس ، أو المراد أنهم كذبوا نوحا إلّا أن تكذيب نبيّ واحد من الأنبياء كتكذيبهم جميعا لأنه مستلزم لتكذيبهم (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان وجعلنا إهلاكهم (آيَةً) أي عبرة وعظة للناس (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا لهم سوى ما حلّ بهم في الدّنيا (عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة.

٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ ...) عطف على الضمير المنفصل الذي هو مفعول الأول لجعلنا. أو على محلّ للظالمين فإنّه منصوب المحل بأعتدنا بناء على كونه بمعنى وعدناهم ، أو نصبه بفعل مقدّر بقرينة المقام أو بقرينة ذيل الآية (تَبَّرْنا تَتْبِيراً) وهو أهلكنا (وَأَصْحابَ الرَّسِ) فيه أقوال ، قيل هو بئر غير مطويّة أي غير مبنيّة كانت لعبدة الأصنام فبعث إليهم شعيب فكذّبوه فانهارت بهم لأنّهم كانوا حولها وقت نزول العذاب ولذا تسموا باسمها أو قرية باليمامة كانت فيها بقية ثمود فقتلوا نبيّهم

وأكلوا لحمه فنزل عليهم العذاب فأهلكوا ، أو ماء أو بئر بآذربايجان. وقيل أصحاب الرس كانوا يعبدون شجرة صنوبر ، وبعث إليهم نبيّ من نسل يهودا بن يعقوب النبيّ فكذّبوه وقتلوه ، وفيه أقوال أخر ليس في ذكرها كثير فائدة (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي أهلكنا أهل أعصار بين نوح وأصحاب الرس ، أو بين عاد وإيّاهم كثيرا لا يعلمها إلّا الله.

٣٩ ـ (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ...) أي بيّنّا لهم القصص العجيبة فلم يعتبروا وأصرّوا على طغيانهم وتكذيبهم للأنبياء فأهلكوا (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) دمّرناهم تدميرا.

* * *

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

٤٠ ـ (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ ...) أي أن قريش مرّوا مرارا في أسفارهم إلى الشام (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) عن الباقر عليه‌السلام :

هي سدوم قرية قوم لوط ، أمطر الله عليهم حجارة من سجّيل (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في مرورهم فيتّعظوا بما يرون فيها من آثار قدرة الله وكيف عذبهم في دار الدنيا حتى يعتبر غيرهم (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي أنهم لا يتوقعون بعثا ولا يترقّبون حسابا وعقابا فلذلك لم ينظروا إلى تلك الآثار بعين الاعتبار ولم يتّعظوا بها أبدا فكانوا يمرّون عليها كما تمر دوابهم ومواشيهم صمّا بكما عميا.

٤١ ـ (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ...) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) مهزوءا به قائلين : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) الاستفهام إنكاريّ وكانوا يقولون هذا استحقارا وتهكّما.

٤٢ ـ (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ...) أي أنّه أراد أن يصرفنا عن عبادة آلهتنا بفرط اجتهاده في الدّعوة إلى التوحيد وبذل جهده في إيراد ما يسبق إلى الذهن أنها حجج وبراهين (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) لولا ثبوتنا عليها وتمسكنا بعبادتها لأزالنا عن ذلك ، وحذف الجواب لدلالة الكلام عليه : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) والآية فيها وعيد ودلالة على أنّه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم وأخّر عذابهم وقوله سبحانه (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أي أخطأ طريقا أهم أم أنت ، وهذا على سبيل المماشاة مع الخصم.

٤٣ ـ (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...) أي أخبرنا عن الذي فعل ذلك وأطاع هواه في دينه. وقدّم المفعول الثاني عناية به (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) فلست وكيلا عليه فدعه وشأنه ولا يضرّك ضلاله.

٤٤ ـ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ...) اي سماع تفهّم (أَوْ يَعْقِلُونَ) يتدبّرون ما تأتي به من الحجج ، وخصّ الأكثر إذ فيهم من يعقل ويعرف الحق من الباطل إلّا أنه جاحد ومكابر خوفا على الرّئاسة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) ما هم إلّا مثل البهائم في عدم تفهّم وتدبّر حججك (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) لأن بعضها تعرف المحسن إليها من المسيء وتطلب المنافع وتتجنّب المضارّ بخلاف هؤلاء فإنهم لا يعرفون

إحسان ربّهم من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع لأنه باق ، ولا يتّقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ لأنه أبديّ ولأن جهالة الأنعام لا تضرّ بأحد ، وجهالتهم تؤدّي إلى هيجان الفتن وصدّ النّاس عن الحق وسوقهم إلى الضّلالة. القميّ قال : نزلت في قريش وذلك أنّه ضاق عليهم المعاش فخرجوا من مكّة وتفرقوا في البراري والقفار والبلاد ، وكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجرا حسنا أعجبه فعبده ، وكانوا ينحرون الإبل ويذبحون الأغنام ويلطّخونها بالدّم كما فعلوا بصخرة كانوا يسمّونها (سعد صخرة) فجاء رجل من العرب ورأى ثعلبا يبول على (سعد صخرة) الذي يعبدونه فأنشأ يقول :

وربّ يبول الثعلبان برأسه

لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

٤٥ و ٤٦ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ...) أي ألم تنظر إلى صنعه سبحانه كيف بسط ظلال الأشياء من الفجر إلى طلوع الشمس. قال الباقر عليه‌السلام في هذه الآية الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، قيل هو أطيب الأحوال وأعدل الأزمان حيث أن الظلمة الخالصة تنفّر الطبع منها وينقبض نور البصر ، وشعاع الشمس يسخّن الهواء ويكسف نور البصر ، ولذلك وصف به الجنّة فقال : وظلّ ممدود ، إذ لم يكن معه الشمس. قال أبو عبيدة : الظّل ما نسخته الشمس وهو بالغداة ، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد زوال الشمس. وسمّي فيئا لأنه فاء من جهة الشرق إلى جانب الغرب (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) اي ثابتا مقيما ، من السكنى ، يقال : فلان يسكن البلد الفلاني إذا أقام به دائما. وهو مثل قوله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) في المعنى. والحاصل أنّه تعالى في بيان قدرته الكاملة يذكر تلك الآيات والدلائل حتى يتأمل العباد ويتدبّروا فيها فيتطرّقوا الى وحدانيّته ويذكروا بعض نعمه حتى يؤدّوا شكرها ثم قال سبحانه : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) قال ابن عباس تدل الشمس على الظلّ بمعنى أنّه لو لا الشمس لما عرف الظل ، ولو لا النور لما عرفت الظّلمة ، وكلّ الأشياء تعرف بأضدادها. وقيل لا يعرف وجوده ولا يتفاوت طوله وقصره إلّا بطلوعها وحركتها. وقيل معناها : خلقنا الظل أوّلا بما فيه من المنافع واللذائذ ثم اطلعنا الشمس فأذهبته فصارت دليلا على وجود هذه النعمة العظيمة الّتي غفلت عنها عقول أكثر العباد ، ولو لا وقوع الشمس على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا وماهية ، والظل كيفية زائدة على الأجسام كانت مخفية على كثير من العقول. وقد ذهب إلى خلاف ما يظهر من الشريفة جماعة من الفلاسفة من أن الظل هو عدم الشمس وليس له وجود مستقل كما أن الظلمة هي عبارة عن عدم النور ، لا أنّها شيء في قبال النور (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) أي أزلنا الظل بإيقاع الشعاع موقعه .. ولمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ أي البسط فيناسبه التعبير بالقبض بمعنى الطّي من طوى الفراش أي لفّه أو كناية عن

مطلق الجمع. والحاصل أن هذا التعبير في غاية الحسن والبلاغة (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا لا دفعة واحدة بحسب ارتفاع الشمس لحفظ نظام الكون ولمصالح جمّة ، ويتحصّل به ما لا يحصى من منافع الخلق. وقيل مدّ ظل السّماء على الأرض حين خلقهما ولو شاء لجعله ثابتا على تلك الحال ، ثم خلق الشمس وجعلها دليلا مسلّطا عليه يتبعها كما يتبع السائر الدليل ، يتفاوت بحركتها ، ثم قبضه تدريجا إلى غاية نقصانه.

٤٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ...) أي ساترا بظلامه كاللّباس ، والتّشبيه من جهة الستر. (وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع الأعمال والسّبت هو القطع (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) فلمّا كان النوم بمنزلة الموت على ما يظهر من بعض الرّوايات من أن النوم أخ الموت ، فلذا عبّر بذلك ونسب النّشور إلى النهار. وهذا يعني أنه جعل النوم واليقظة كالموت والبعث ، والليل والنهار كناية عن النوم واليقظة وهما عن الموت والبعث. وفي الحديث النبويّ : كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون. والمعنى أنّه تعالى أنعم على عباده بنعمة النهار وجعله ذا نشور ينتشر فيه الناس للمعاش وغيره من حوائجهم التي لا تحصل في غير النهار إلّا بتعب كثير.

٤٨ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ...) أي مبشّرات أو ناشرات للسّحاب على قراءة نشرا بالنون (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة لطيفة أي أن الرياح مبشرات قدّام المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) السّماء لغة ما نشاهده فوقنا كقبّة زرقاء محيطة بالأرض ، وجاء بمعنى الفضاء المحيط بالأرض وبمعنى السّحاب وما هو المراد من تلك المعاني هو تعالى أعلم به. والطّهور هو المطهّر لقوله عزوجل ليطهّركم به ، أي ماء مزيلا للأحداث والأخباث. والطّهور اسم ما يتطّهر به كالوضوء والوقود اسمان لما يتوضأ به وما يوقد به ، كما قال عليه‌السلام : التراب أحد الطّهورين ، أو طهور المسلم. وقال (ص): جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا. وطهورا مبالغة في التطهير وبناء على ذلك وصف الماء به ليعلم أن الطهارة

من صفاته الذاتيّة لا العرضيّة كما زعم البعض. ومن أوصاف الماء قال تعالى :

٤٩ ـ (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ...) هو محيي البلاد به بالنباتات والنّعم الأخرى. وتذكير (مَيْتاً) بتأويل البلدة بالبلد للتّعميم (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) جمع إنسيّ أو إنسان ، وأصله أناسين قلبت النّون ياء. أي ولنسقي من ذلك الماء أنعاما جمّة وأناسا كثيرين.

٥٠ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ ...) أي فرّقنا المطر بين الناس في البلدان المختلفة والأوقات المختلفة المتفاوتة بصفات مختلفة من وابل وطلّ وغيرهما على حسب المصالح والحكم ، فلا يدوم في مكان فيفسده ، ولا ينقطع بالكليّة عن مكان فيهلكه ، لكنّه يزيد لقوم وينقص لآخرين على ما تقتضيه المصلحة كما قلنا. أو صرّفنا ما ذكر من الدّلائل في القرآن وسائر الكتب (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا كمال القدرة وسعتها وحق النعمة فيعرفوا ربّهم وتوحيده فيعبدوه عن معرفة ويشكروا مزيد شكر لنعمائه (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) امتنعوا ولم يقبلوا ، جحودا للنعمة وقالوا : أمطرنا بنوء العقرب وبنوء السّرطان أو الحوت ، وهكذا ينسبون المطر ونزوله إلى الأنواء على عقيدتهم الخبيثة لا إلى الله. وفي الحديث : ثلاث من أمر الجاهلية ، وعدّ منها الأنواء.

٥١ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ...) أي نبيّا يخوّف أهلها فيخفف عليك أعباء الرّسالة ، لكن خصصناك بعموم الدّعوة إجلالا لك وتفضيلا لك على سائر الرّسل وتعظيما لشأنك ، فكن ثابتا في الدّعوة وإظهار الحق ، واجتهد فيهما. والحاصل أننا لو شئنا لقسّمنا بينهم النّذر كما قسّمنا بينهم الأمطار ولكن نفعل ما هو الأصلح بحالهم وبأمرك في الدّعوة فبعثناك إليهم كافّة.

٥٢ ـ (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ...) فيما يدعونك اليه ويريدونه منك من المداهنة بل خالفهم. وهذا تهييج له صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما بعث من

أجله (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) حيث يجتهدون في إبطال دين الله وشريعتك فلا بدّ لك من الاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم بالقرآن ، فإن مجاهدة المتكلّمين في حلّ شبه المبطلين والجاحدين الذين هم أعداء الدّين بالحجج والبراهين أكبر من جهادهم بالسّيف ، لأنه يفحم ويقمع الحاضرين ومن يحذو حذوهم إلى يوم الدين ، بخلاف جهادهم بالسّيف الذي يفيد ويفتك بالحاضرين إذا أفاد. والحاصل أن الحجج باقية والسّيف لا يدوم ، والباقي أحسن من الفاني ولذا عبّر عن المجاهدة بالقرآن بالجهاد الكبير. ويمكن أن يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ، أو بقي علينا الجهاد الأكبر ، إشارة إلى هذا. وهذا بناء على عود الضمير في (بِهِ) إلى القرآن ، ويحتمل رجوعه إلى عدم إطاعتهم المستفادة من صدر الشريفة (فَلا تُطِعِ) الآية وهو الظاهر أو الأظهر

* * *

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥))

٥٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ...) هذا هو النوع الرابع من الدلائل الدالة على القدرة والتوحيد : مرج البحرين : أي خلّاهما وأرسلهما في مجاريهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان ، من مرج دابّته إذا خلّاها وأطلقها (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي في غاية العذوبة والهناءة (وَهذا مِلْحٌ

أُجاجٌ) شديد الملوحة بحيث تحسّ منه المرارة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا بقدرته الكاملة يفصل بينهما ويمنعهما من التمازج مع أنّهما متلاصقين ، ومقتضى كلّ عنصر مائع كالماء هو الاختلاط والامتزاج إذا كان متصلا ومتلاصقا كلّ واحد مع الآخر (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي حدّا محدودا ، عطف على (بَرْزَخاً) يعني جعلنا بين البحرين حدّا معيّنا وقرّرنا أن لا يختلط أحدهما بالآخر فيفسد طعمهما كما يشاهد في دجلة حين تدخل البحر فتشقّه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها ولا تغيّر طعم مجاورها وملاصقها مع أنه بحكم المائعيّة لا بدّ من الاختلاط كما قلنا آنفا. وقيل هذه كلمة يقولها المتعوّذ حين لقائه العدوّ ، وهي ها هنا على طريق المجاز كأنّ كلّ واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له حجرا محجورا حتّى لا يفسد كلّ واحد الآخر بالامتزاج ، وهي من أحسن الاستعارات. والقميّ يقول : حراما محرّما أن يغيّر واحد منهما طعم الآخر ، كما يقال بهذا المعنى عند لقاء العدوّ في الأشهر الحرم أو مطلقا.

٥٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ...) أي الماء الذي خمّر به طينة آدم عليه‌السلام الذي هو العنصر ، أو المراد هو النطفة (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي قسمين : ذوي نسب ذكورا ، لأن نسبة النسب تتحقّق به كما يقال فلان ابن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر إناثا يصاهر بهنّ فتوجد المصاهرة بهن. ومثلها قوله تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى.) وعن مولانا أمير المؤمنين مرويّ أنّ النّسب ما حرم النكاح به ، والصّهر ما حلّ النكاح به (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) على أيّ شيء أراد ، فانظر أيّها المتفكّر كيف خلق من مادّة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين.

٥٥ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ ... وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً ...) أي معينا للشيطان على معصية الله لأنه يتابعه بكلّ ما يأمر به ، فإن عبادة الأصنام

معاونة للشيطان لأنها حصلت بوساوسه وإغرائه وكانت مخالفة للرّحمان عزوجل.

* * *

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

٥٦ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي بعثناك بشيرا للمؤمنين ، ومنذرا للكافرين بالعقوبة الخالدة غير المتناهية.

٥٧ ـ (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ...) على تبليغ الرّسالة (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) يعني أجري هو إطاعة المطيعين وإيمان المؤمنين وتقرّبهم بأعمالهم إليه تعالى وطلبهم الزّلفى لديه فصوّر صلوات الله عليه ذلك في صورة الأجر حيث إنّه المقصود من فعله ونتيجة إتعاب نفسه

الشريفة وأعماله الصّعبة التي تحمّلها في بعثته لإعلاء كلمة الله. وهذا الاستثناء لقطع شبهة الطمع ، وإظهارا لغاية الشفقة.

٥٨ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ...) في دفع المضارّ وجلب المنافع فإنه الحقيق لأن يتوكّل عليه لا غيره حيث إنه الباقي وغيره الفاني ، والفاني إذا فني ضاع من توكلّ عليه. وهذه هي النكتة في إضافة التوكل على صفة الحياة الدائمة دون غيرها من الصفات والذّوات (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي نزّهه عن صفات النّقص حال كونه مقترنا بذكر أوصافه الكمال مثل أن تقول الحمد لله على نعمه وإحسانه ، الحمد لله عظيم المنزلة وما أشبه ذلك (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي كفى الله معرفة بذنوب عباده حال كونه عارفا بأحوالهم ومستغنيا في جزاء أعمالهم عمّن سواه من جهة المشاورة والمعاونة والمحاسبة. والحاصل أنه يستفاد من تعقيب هذه الشريفة بالأولى التي أمر فيها بالتسبيح المصاحب بالحمد الذي يدل بالملازمة على التصديق بوجود المنزّه وهو الله تعالى والإيمان به وتنزيهه عن الشرك ، أن بينهما مطابقة بدليل أن العبد إذا فرغ من أداء تلك الوظائف الثلاث ، فهو تعالى يتولّى أمره يوم الجزاء مباشرة بلا استعانة بغيره ، ذاك أن معنى الكفاية هو الاستغناء عن الغير عند القيام بأمر ما. أو إذا كان المتولّي لأمر العبد العامل بالوظيفة هو المولى الكريم والسيّد الحليم فمعاملته مع هذا العبد ليست إلا العفو عن السيئات والرفع في الدّرجات ، وهذا من أعظم نعم الله على هؤلاء العباد ، فلمثل هذا فليعمل العاملون. ثم إنه سبحانه أخذ في بيان قدرته الكاملة فقال :

٥٩ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أوجدهما من العدم مع (ما بَيْنَهُما) من المخلوقين من الملائكة والكواكب نهاريّة وليليّة وغيرهما من الموجودات التي لا يعلمها إلّا هو (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فإن قيل إن الأيام عبارة عن حركات الشمس في فلكها أي السّماء فقبل السماء لا أيام؟ فالجواب : في مدة مقدارها هذه المدّة لو كانت. ولو قيل : لم قدّر الخلق والإيجاد بهذا

التقدير مع أنه قادر أن يخلقه في لحظة واحدة؟ فالجواب : أنه سبحانه هو العالم بالأصلح ولعلّ خلقته التدريجية ترمز إلى أن التأنّي والتّدريج مطلوب في الأمور وفيه صلاح العباد ، فلا بدّ لهم أن يجعلوه شعارا لهم ويعتادوا عليه تقليدا وتبعا لربّهم في إيجاد الأشياء مع كمال قدرته (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى أمره عليه وهو أعظم المخلوقات ، وهو الجسم المحيط بالعالم ، شبّه بسرير الملك ولذا عبّر عنه بالعرش ، أو استولى على الملك (الرَّحْمنُ) خبر للذي المتقدّم في صدر الآية إذا جعل مبتدءا ، وإن جعل الذي صفة للحيّ فلمحذوف أو بدل من ضمير ، (اسْتَوى) ، (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي عمّا ذكر من الخلق والاستواء فاسأل عارفا بهما وهو الله ، أو جبرائيل يخبرك به. وفي المجمع روي أن اليهود حكوا عن ابتداء خلق الدنيا خلاف ما أخبر الله تعالى عنه فقال سبحانه : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ، والخبير هو من ذكرناه آنفا ، أو من وجده في الكتب المتقدمة السّماوية من الأحبار والرّهبان ، أو فاسأل عن الرّحمان من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا أنه مذكور في كتبهم. والباء على جميع هذه التفاسير بمعنى (عن) سواء كان مرجع الضمير هو المذكور كما فسّر به البعض ، أو بابتداء الخلق ، أو بالرّحمن ، وانشد في قيام الباء مقام (عن) قول علقمة بن عبدة :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء ، طبيب

ترون ثراء المال حين وجدته

وشرخ الثياب عندهنّ عجيب

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله

فليس له في ودّهنّ نصيب

فالباء في (بالنساء) بمعنى (عن) كما هو واضح.

٦٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ...) أي قيل للمشركين لأنهم ما كانوا يطلقونه عليه تعالى (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أيّ شيء وأيّ شخص هو ، فإنّهم ظنّوا أنه صلوات الله عليه أراد غيره تعالى. وقيل إنهم لقبّوا بهذا الاسم مسيلمة الكذّاب باليمامة. ولعلّهم ظنّوا أن الرسول صلوات الله عليه أراد هذا الشخص الذي باليمامة فسألوا عن المسمّى به وجهلوا

أنه من أسمائه تعالى ، أو عرفوه وتجاهلوا جحدا (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي للذي تأمرنا بالسّجود له ، ولو لم نعرفه ولم نعتقد به ، أول أمرك لنا فقط. والظّاهر أنّ هذا الاستفهام إنكاري أو في مقام الاستهزاء ، ولا سيما على الاحتمال الأخير الذي فسّرناه به (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي الأمر بالسجود للرحمان زاد الكفرة تباعدا عن الإيمان وهروبا من التكليف.

٦١ ـ (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ ...) أي كثير الخير والبركة ذاك الذي جعل بقدرته الكاملة (فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي الاثني عشر المعروفة وهي : الحمل ، والثور ، إلى آخرها. والبروج هي القصور الرفيعة العالية وتسميتها بالبروج لأنّها بالإضافة إلى الكواكب السيّارة بمنزلة المنازل لها. والسيارات هي : زحل ، والمرّيخ ، والمشتري ، والزهرة ، وعطارد ، والشمس ، والقمر. وإن الحمل والعقرب منزلان للمريخ ، والثور والميزان منزلان للزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتان لعطارد ، والقوس والحوت منزلان للمشتري ، والجديّ والدلو منزلان لزحل ، والسرطان منزل للقمر ، والأسد منزل للشمس ، والبرج مشتق من التبرّج وهو الظهور ، لظهورها لأهل الأرض بأسبابها كالمراصد ونحوها ، ولذا قيل : البروج هي الكواكب الكبيرة (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) أي الشمس لقوله : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً)(وَقَمَراً مُنِيراً) مضيئا بالليل ، وذكر القمر بعد (سِراجاً) أيضا قرينة على أن المراد به هو الشمس.

٦٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً ...) أي يخلف أحدهما الآخر بأن يقوم مقامه (لِمَنْ أَرادَ) أن يتفكر ويستدلّ بذلك على أنّ لهما مدبّرا ومصرّفا (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي أن يشكر نعمة ربّه عليه فيهما.

* * *

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ

 قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

٦٣ ـ (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ...) أي بالسّكينة والوقار والطاعة غير أشرين كما هو زيّ الجبابرة والمتكبرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين ، أو حلماء علماء لا يجهلون وإن جهل عليهم (قالُوا سَلاماً) إذا خاطبهم الجهلة والحمقى بما يثقل عليهم أو بما يكرهونه قالوا في جوابهم سلاما ، أي سدادا من القول فلا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش والهجو والسخرية ، أو قولا يسلمون فيه من الإثم ومن أذاهم دليله قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل هذه صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس ، وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربّهم كما قال تعالى :

٦٤ ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ...) أي في الصّلاة ، وتخصيص البيتوتة لأن العبادة بالليل أحمز وأحسن لأنها أبعد عن الرّياء.

٦٥ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ...) أي لازما دائما لا ينفكّ عن أهله ، من الغرامة وهو ما يلزم أداؤه من المال ومنه الغريم لملازمته ، وصفوا بحسن السّيرة مع الخلق والاجتهاد في طاعة الحق وهم مع ذلك ووجلون خائفون من العذاب يدعون ربّهم صرفه عنهم غير معتدّين بأعمالهم.

٦٦ ـ (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ...) أي بئس المقرّ والمقام جهنّم.

٦٧ ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ...) أي لم يجاوزوا الحدّ في النفقة ولم يضيّقوا فيها ، أو لم ينفقوا في المعاصي ولم يمنعوا الحقوق (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) فإن إنفاقهم كان بين الإقتار والإسراف (قَواماً) وسطا كما عن الصّادق عليه‌السلام ، وقال عليه‌السلام : أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، رجل فاتح فاه جالس في بيته يقول يا ربّ ارزقني فيقول له ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة يدعو عليها يقول يا ربّ أرحني منها ، فيقول ألم أجعل أمرها بيدك؟ ورجل كان له مال فأفسده فيقول يا ربّ ارزقني ، فيقول ألم آمرك بالاقتصاد؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقول ألم آمرك بالشهادة؟ فمعنى القوام في المقام هو الاقتصاد وهو الوسط الذي بين الإسراف والإقتار. وعنه عليه‌السلام أنّه تلا هذه الآية فأخذ قبضة من الحصى وقبضها بيده فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثم قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلّها ثم قال هذا الإسراف ، ثم أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال هذا القوام. فهو بأبي هو وأمّي علّم الآية للناس وفسّرها عملا بأوضح وأحسن عمل.

٦٨ ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ ... يَلْقَ أَثاماً ...) أي يرى ويلاقي جزاء إثم. وقيل إن أثاما وغيّا الذي في قوله تعالى فسوف يلقون غيّا ، بئران عميقان غاية العمق في جهنّم. وروي أن أثاما واد من أودية جهنّم من صفر مذاب هو مقام من عبد غير الله ومن قتل النفس المحرمة والزّناة.

٦٩ ـ (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ ... وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ...) أي يقيم في العذاب أبدا ، ذليلا حقيرا في غاية الحقارة والذل أعاذنا الله من ذلك.

٧٠ ـ (إِلَّا مَنْ تابَ ... يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) في العيون عن الرّضا عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزوجل لعبده المؤمن فيقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر له لا يطلع الله على ذلك ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد ، ثم يقول لسيئاته كوني حسنات. وفي رواية الأماني عن الباقر (ع) قريب من هذا المعنى وفي آخرها : هذا تأويل الآية وهي في المذنبين من شيعتنا خاصّة. والروايات بهذا المعنى كثيرة. وفي روضة الواعظين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مجلس قوم يذكرون الله إلّا نادى مناد من السّماء قوموا فقد بدّل الله سيّئاتكم حسنات.

* * *

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

٧١ ـ (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ...) التوبة هي ترك الذنوب والندم عليها ورجوع العبد بعد ذلك إليه تعالى ، ومتابا مصدر كالمرجع لفظا ومعنى ، أي يرجع إلى الله بذلك مرجعا مرضيّا دافعا للعقاب جالبا للثواب.

٧٢ ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ...) أي لا يحضرون محاضر الباطل ، أو لا يقيمون شهادة الكذب. والقمي قال : الغناء ومجالس اللهو (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أصل اللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه ، ولهذا يقال للكلمة التي لا تفيد : لغو وليس المراد به القبيح حيث إنّ فعل السّاهي والنائم لغو وليس بحسن ولا قبيح (مَرُّوا كِراماً) أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معهم ، ومن ذلك الإغضاء عن الفحشاء والصفح عن الذنوب.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ...) أي القرآن أو الوعظ (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) نفي للحال دون أصل الفعل ، اي لم يكبّوا عليها غير منتفعين بها كالصّم والعميان لا يسمعون ولا يبصرون ، بل يكبّون عليها واعين لها متبصّرين ما فيها. وعن الصادق عليه‌السلام قال : مستبصرين ليسوا بشاكّين.

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ ... قُرَّةَ أَعْيُنٍ ...) بأن نراهم موفّقين مطيعين لك ، فإن المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة الله سرّ به قلبه وقرّت بهم عينه لما يرى من مساعدتهم له في الدّين وتوقّع لحوقهم به في الجنة ونجاتهم معه من النّار (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في الجوامع عن الصّادق عليه‌السلام : إيّانا عنى. وفي رواية : هي فينا. والقميّ عن الصادق عليه‌السلام وقد قرئت عنده هذه الآية : قد سألوا الله عظيما أن يجعلهم للمتقين أئمّة. فقيل له : كيف هذا يا ابن رسول الله؟ قال : إنما أنزل الله واجعل لنا من المتقين إماما وبناء على ظاهره معناه : أي نقتدي بمن قبلنا من المتّقين بتوفيق منك فيقتدي المتّقون بنا من بعدنا.

٧٥ و ٧٦ ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ...) أي أعلى منازل أهل الجنة ومواضعها ، فإن الغرفة لغة العلّية وكلّ بناء عال فهو غرفة (بِما صَبَرُوا) أي الموصوفون بهذه الصّفات التسع التي مرّت في الآيات الكريمات السابقة ، يجزون الدرجات العالية الرفيعة بسبب صبرهم على الطاعات وقمع الشهوات وأذى الجهلة ومشاقّ الجهاد ، والفقر والمكاره في سبيله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) يلقّون بالتشديد أي يعطون في الجنة ، وبتخفيف القاف أي يرون فيها ويدركون فيها التحية والسلام من الملائكة. والتحيّة كلّ قول يسرّ به الإنسان. والسّلام بشارة لهم بعظيم الثواب ، ويكون هؤلاء المؤمنون خالدين في هذا النعيم وفي أحسن مستقر وخير مقام.

* * *

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

٧٧ ـ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي ...) أي ما يصنع بكم ، أو لا يكترث بكم ، أو ما يفعل. وسئل الباقر (ع) : كثرة القراءة أو كثرة الدعاء أيّهما أفضل؟ قال : كثرة الدعاء أفضل ، وقرأ هذه الآية. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) بما أخبرتكم به حيث خالفتموه (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي لازما لكم جزاء تكذيبكم في الآخرة.

سورة الشعراء

مكية إلّا ١٩٧ ومن ٢٢٤ إلى آخر السورة وآياتها ٢٢٧.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦))

١ ـ (طسم ...) قد مرّ معنى الحروف المقطعة التي وقعت في أوائل السّور.

٢ ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ...) قد أشار ب (تِلْكَ) إلى ما ليس بحاضر ، لكنّه متوقّع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس. والتقدير : تلك الآيات الّتي وعدتم بها هي (آياتُ الْكِتابِ) أي القرآن (الْمُبِينِ) الذي يبيّن الحق من الباطل أو البيّن إعجازه.

٣ ـ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) كلمة لعلّ هنا للإشفاق ، كأنّه قيل : أشفق على نفسك أن تقتلها. وأصل البخع إيصال السكّين إلى النخاع ، وهو عرق مستبطن في القفا. وهذا أقصى حدّ الذبح. ومعنى قوله سبحانه : (باخِعٌ نَفْسَكَ) أي قاتل ومهلك لها غمّا وحزنا (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) من أجل أن لا يكونوا مؤمنين أي من أجل أن قومك لا يؤمنون. فاللام مقدّر ، أي لئلّا يؤمنوا ، أو لامتناع إيمانهم ، أو بتقدير مضاف : خيفة أن لا يؤمنوا.

٤ ـ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ...) أي علامة ملجئة إلى الإيمان أو إن نشأ إيمانهم ننزّل عليهم برهانا وحجة تلجئهم إلى الإيمان. (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) فصارت أعناقهم لها خاشعة منقادة أو فيظلّ رؤساؤهم ومقدّموهم أو جماعاتهم لها منقادين. وقد جاء أنّ العنق بمعنى الرئيس أو الجماعة.

٥ و ٦ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ...) أي القرآن (مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) بوحيه إلى نبيّه (ص) مجدّد تنزيله. والحاصل أنّه ما من آية أو سورة من القرآن إلّا كنّا ننزلها مجدّدا واحدة بعد واحدة (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) مصرّين على كفرهم وطغيانهم ولا يكتفون بالإعراض (فَقَدْ كَذَّبُوا) بالآيات القرآنية واستهزءوا بها (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي عمّا قريب يعلمون بأيّ شيء استهزؤا إذا مسّهم العذاب يوم القيامة ، أو في الدّنيا يوم بدر وإذا أذاقهم الله جزاء تكذيبهم وسخريّتهم تنكشف لهم حقيقة الأمور الموعودة فيعرفون صدقها فلا تنفعهم الندامة والحسرة حينئذ. ثم إنه تعالى على سبيل التذكير بنعمته يقول :

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ

زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها ...) أي أولم ينظروا إلى عجائبها وغرائبها التي أودعها فيها الصانع الحكيم ، ولم يتدبّروا فيها ، ولا رآها بعين المعرفة أولئك الذين أنكروا البعث والحشر والحساب وكذّبوا بذلك بلا رويّة ولا شعور (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها) من بعد مواتها وجفافها (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) من كلّ صنف ممّا هو كثير النفع. وقد ذكر (كُلِ) للإحاطة بالأزواج التي خلقها ، وذكر (كَمْ) لكثرة تلك الأزواج.

٨ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ...) أي إن في الآيات ، أو في كل واحد من الأزواج وإنباتها بهذه الكثرة (لَآيَةً) أي برهانا وحجة كاملة على أنّ منبتها قادر على أن يحيي الموتى ، وهو تام القدرة والحكمة مسبغ النعم والرحمة ، تعالى الله عما يشركون علوّا كبيرا كبيرا. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هذه الجملة في مورد العلة لما ذكر قبلها من الإعراض والتكذيب المتضمّن للاستهزاء وعدم التدبّر في الآيات الآفاقيّة ، أي كلّ ذلك لأن أكثرهم ، لو لم يكن كلّهم ، غير مؤمنين أو غير مدركين حقيقة الإيمان لأنّ الإيمان لم يدخل في قلوبهم.

٩ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ...) أي أنه الغالب القادر على الانتقام من الفسقة الكفرة (الرَّحِيمُ) بالعباد حيث أمهلهم. ثم أنه سبحانه وتعالى بعد ذكر أحوال الكفار وتعداد نعمه أخذ في بيان أقاصيص الرّسل وما ورد عليهم من قومهم من المشاق ، تسلية لخاتم الرّسل وأشرفهم تحريضا له صلوات الله عليه وآله على الصّبر والترجي بنزول النصر ، فابتدأ بقصّة موسى (ع) وفرعون عصره الّتي هي أكبر قصّة من القصص القرآنيّة وأحسنها للاعتبار فقال عزّ وعلا :

* * *

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى ...) أي أذكر يا محمد واتل عليهم الوقت الذي نادى فيه ربّك الذي خلقك رسوله موسى فقال يا موسى (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وبالكفر وتعذيب بني إسرائيل. وكان هذا النّداء في الوقت الّذي وصل موسى ونزل عند الشجرة وراى نورا لا معا أضاء تمام الوادي فنودي منها : إنّي أنا الله ربّ العالمين. فمن هنا بعث إلى فرعون وأمر كما في الآية الشريفة بإتيان قوم فرعون. وهذا بدل (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أو عطف بيان ، أي توجّه إليهم وقل لهم : (أَلا يَتَّقُونَ) الاستفهام تقريريّ أي لا بدّ من أن يخافوا من حلول سخطه ونزول عذابه عليهم. فلمّا أمر بذلك وعلم بإفراطهم في الظلم والاجتراء عليه تعالى :

١٢ و ١٣ و ١٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ ...) أي أخاف أن يكذّبوني بالرسالة ولا يقبلوا منّي قولي (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم لي ، وضيق القلب وانقباضه يصير سببا لتغيّر كلام من في لسانه رتّة وحبسة ولذا قال (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) ترتّب عدم انطلاق اللسان على ضيق صدره كما ترتب الضيق على تكذيبه برسالته فطلب موسى (ع) منه تعالى أن يبعث معه هارون بعد أن ذكر الأمور الدّاعية إلى ذلك فقال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) ليعاونني كما يقال إذا نزلت بنا نازلة فنرسل إليك ، أي لتعيننا ، وإنّما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة ، فاستدعاء المعين عين التقبّل لا أنّه تعلّل وقال : اجعل أخي هارون نبيّا يعضدني في أمر الرّسالة فيقوى به قلبي وينوب منابي إذا اعترتني الرّتة في لساني. ثم أضاف موسى (ع)

قائلا : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) تبعة ذنب ، وهو القود. والمراد من الذنب قتل القبطي ، وتسميته بالذنب على زعمهم (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي يقتلوني قبل أداء الرسالة. فقال الله تعالى :

* * *

(قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))

١٥ ـ (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا ...) أي لا يكون كذلك ، ولن يقتلوك (فَاذْهَبا بِآياتِنا) العصا واليد البيضاء ، ولعل الجمع باعتبار تعدّد موارد استعمالهما لأنّهما في كل مرّة كانا يتشكّلان بصورة خاصة وكيفية جديدة متمايزة من الأخرى بحيث يتجلّيان في النظر كأنهما غير ما قبلهما. فهما بنفسهما كانا معجزة ، وتطوّرهما بأطوار مختلفة كان معجزة أخرى ، أو باعتبار نفس التعدد فقط لأنهما كلّما ظهرا كانا معجزة بلا شك ولو لم يكن لهما تطور أو مع ضميمة طلاقة لسانه وذهاب خوفه بعد المسألة (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وخصمهما فرعون ولذلك جاء (مَعَكُمْ) بالجمع (مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون ما يجري بينكم. والمستمع هنا بمعنى السّامع لأن الاستماع هو طلب السمع بالإصغاء إلى القول وذلك لا يجوز عليه سبحانه ، وإنّما أتى بهذه اللفظة لأنه أبلغ في الصفة وآكد.

١٦ و ١٧ ـ (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي نحن مبعوثون من عند من هو مربّيك وخالقك وخالق جميع العوالم الإمكانيّة ومربّيها وقد كلّفهما أن يقولا ذلك لفرعون حتى تأخذه الرعدة ويتزلزل قلبه لأنه كان قد قضى أربعمائة سنة يدّعي فيها الربوبية ويستعبد بني إسرائيل والقبطيين ، وكان بنو إسرائيل ثلاثمئة ألف نفر ، وما تجرّأ عليه أحد مثل ما

تجرّأ عليه موسى. وقيل إن موسى وهارون كانا على باب قصره سنة كاملة ولا يتمكّنان من الدّخول عليه ، إلى أن دخل يوما على فرعون من خواصّه شخص فأخبره بأن رجلين قضيا سنة على باب الدار ويقولان إنا رسول ربّ العالمين إلى فرعون وقومه فأذن لهما في الدخول عليه ليمزح معهما ويسخر ويستهزئ بهما. فلمّا دخلا عليه تغيّر لونه إذ عرف فرعون موسى الذي قال : إنا رسول ربّ العالمين (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) خلّهم يذهبوا معنا إلى الشام ويتوطّنوا في فلسطين التي هي مسكن آبائهم. فقال فرعون لموسى بعد ما عرفه على سبيل الامتنان :

* * *

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

١٨ و ١٩ ـ (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا ...) أي أو ما يجيء ببالك حينما كنت (وَلِيداً) طفلا قريب العهد بالولادة ونحن ربّيناك في حجر العطف والرحمة والتبنّي (وَلَبِثْتَ) بقيت (فِينا) بيننا (مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي مكثت وأقمت في بيتنا سنوات عديدة ـ قيل ثلاثين سنة وعلى رواية عن ابن عباس ثماني عشرة سنة كان موسى بينهم ويعيش معهم. وكان عمره اثنتا عشرة سنة حين قتل القبطي ، بعد مضيّ ثلاثين سنة توجّه إلى مدين وقيل بقي هناك عشرين سنة فرجع إلى مصر يدعوهم إلى طاعة ربّهم وطالت دعوته لهم ثلاثين سنة على ما في التفسير الكبير للقاشاني رحمه‌الله ، ولم ينفعهم

إنذاره بل أكمل فرعون عتابه فقال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) أي مع أنك فعلت ما فعلت من قتل القبطي وكنّا قادرين على القود فخلّينا سبيلك وما تعرّضنا لك. وهذه الجمل من فرعون لموسى كانت بالحقيقة على سبيل المنّة عليه وتليينا له (ع) وتسكينا له (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي عليك. فبعد ما عظّمه وعدّد عليه نعمه وبّخه. والقمّي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : لمّا بعث الله موسى إلى فرعون أتى بابه فاستأذن عليه فلم يأذن له ، فضرب بعصاه الباب فاصطكّت الأبواب مفتحة ، ثم دخل على فرعون فأخبره أنّي رسول ربّ العالمين وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل ، فقال له فرعون كما حكى الله سبحانه وتعالى.

٢٠ ـ (قالَ فَعَلْتُها إِذاً ...) أي فعلتها حين فعلت (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قيل أنه عليه‌السلام أجاب فرعون على سبيل التورية وأراد الضّلال عن الطريق حين مجيئه من مدين إلى مصر فضلّ عن الطريق ودخل الليل وامرأته قد أصابها الطّلق ووجع الولادة وكانت الليلة مظلمة باردة ممطرة ، فاحتاج إلى النار فرأى نارّا فمشى إليها فلمّا اقترب منها نودي : يا موسى اخلع نعليك ... فظنّ فرعون أنه أراد الجهل والضّلال عن طريق الحق اعتذارا لأن الضلال عن طرق المدن لا يكون عذرا أو لا يصلح للقتل. ويؤيّد هذا التوجيه ما في العيون عن الرّضا عليه‌السلام أنه سئل عن ذلك لأن الأنبياء معصومون. فقال عليه‌السلام : قال : وأنا من الضّالين عن الطريق بوقوعي في مدينة من مدائنك. وقيل أراد : أنا من المخطئين أي ما تعمّدت قتله وكان قصدي خلاص الإسرائيلي لا قتل القبطي. هذا والأقوال الأخر لا ترجع إلى محصّل.

٢١ ـ (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ ... فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ...) أي نبوّة يتبعها الحكمة ، وهي معرفة التوراة وفهم الأحكام والعلم بالحدود. أو المراد بالحكم هو العلم ، أو التوراة ويلزمه العلم بها وبما فيها. ويحتمل أن تكون جملة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) بيانا لما قبلها من الحكم.

٢٢ ـ (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ...) قيل إنّه إنكار للمنّة أصلا فكأنّه قال : أو هذه الهمزة همزة توبيخ تلك نعمة تمنها عليّ بأن ربّيتني في حجرك مع أنك استعبدت قومي بني إسرائيل؟ هذه ليست بنعمة مهنأة حتى تمنّ بها عليّ بل هي نقمة في مقابل تلك التعذيبات التي لاقوها منك. أو المراد أن استعبادك لبني إسرائيل وذبح أولادهم وفتق بطون نسائهم صارت سببا لقذف أمّي ايّاي في اليمّ فلفظني اليمّ إلى قصرك وأخذتني لتتبنّاني فلا يكون لهذه التربية قدر عندي حتى تمنّ بها عليّ. ثم أخذ فرعون في بيان السؤال عن حقيقة المرسل وماهيته تهكّما أو استعلاما فقال :

* * *

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨))

٢٣ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ...) أي أيّ شيء هو من حيث الحقيقة والماهيّة ، فإن موسى وهارون قالا : إنّا رسول ربّ العالمين ، فقال فرعون : من أي جنس ربّكم الذي تدعوني الى عبادته؟ أمن ذهب أو من فضّة أو غيرهما من الأجناس؟ فإن فرعون وأتباعه من القبطيّين قبل أن يتحدّاهم بالألوهيّة ويدعوهم إلى طاعته كانوا عابدين للأصنام التي هي من الأجناس المختلفة. ولما كان ذهنه مشوبا بتلك الخرافات سأل ما سأل ، فأجابه موسى عليه‌السلام قائلا :

٢٤ ـ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) عرّفه بأظهر صفاته وآثاره المتضمّنة لكمال قدرته التي يعجز عنها من سواه ، فهو ربّهما (وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق جميع ذلك ومالكه (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) إذا كنتم تصدّقون وتتحقّقون الأمر لإزاحة الشك ولحصول العلم عن نظر واجتهاد. فإن الإيقان من اليقين الذي هو إزاحة الشك وتحقيق الأمر. وجاء بمعنى العلم الحاصل عن نظر أو استدلال. والحاصل أنه إن كنتم من أهل العلم والنظر والتحقيق فهذا ربّي. ولم يعتن موسى بما سأله حيث إنه تعالى ليس بجسم ، بل أجابه بصفاته الرّبوبية الدالّة على وحدانيّته.

٢٥ ـ (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ ...) أي قال فرعون لوزرائه وأعوانه وخاطب حاشيته وأشراف قومه : ألا تسمعون مقالة موسى الذي سألته عن ماهية ربّه وحقيقته فذكر أفعاله. ومخاطبته هذه كانت في مقام التعجّب وفي مقام إفهامهم بأنه عجز عن الجواب.

٢٦ ـ (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ...) فأجاب موسى ثانيا برفق وهدوء تأكيدا للحجة مقرّرا أن الله تعالى هو ربّكم وربّ آبائكم السابقين ، فانتقل إلى ما هو الأظهر للناظر وأقرب إليه لأن كل إنسان يعتقد أن الله تعالى هو خالقه وربّه. فقال فرعون غيظا وتهكّما :

٢٧ ـ (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ...) لا يخفى أن تسمية فرعون لموسى رسولا كان من باب الاستهزاء والسخرية ، وبالخصوص مع التكرار حيث إنه لم يكن معتقدا بالإرسال ولا بالمرسل ولا بمن هو مرسل إلى الناس ، ولذلك وصفه بالجنون وأنه لا يجيب على ما يطابق السؤال. فلمّا سمع موسى منه هذه النسبة لم يعتن بقوله بل أكّد الحجة على مدّعاه فقال متمّما :

٢٨ ـ (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما ...) أي أن ربّي هو الربّ الذي يجري النيّرات من مشارقها إلى مغاربها على نظام مستقيم ووفق نسق واحد

لا يوجد فيها من يوم إيجادها مع جميع الكائنات تغيير ولا تبديل ، وبنتيجة هذا التنظيم تمّ إصلاح أمور العباد وتنظيمها على ما هو حقه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل تدبّر وتفكّر حتى تعلموا ما أقول لكم من الجواب. فلما طال الاحتجاج على فرعون ولم يقدر على ردّ واحد منها هدّد موسى بقوله :

* * *

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))

٢٩ ـ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي ...) أكّد وعيده بقوله (لَئِنِ) وبقوله (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فعدل إلى التهديد بعد الانقطاع. وهكذا يكون ديدن المعاند المحجوج ، وهذا يكشف عن غاية العجز. والألف واللّام للعهد يعني أنت تعرف حال الذين في السجون. أجعلك مثلهم. فقد كان يلقي المقصر المستحق للسجن ، بحسب عقيدتهم وقانونهم ، في هوّة عميقة فردا حتى يموت ، ولا يخرج إلّا ميّتا. فهو أبلغ من لأسجنّنك. لمّا توعّده بالسّجن قال موسى (ع) :

٣٠ ـ (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ...) أي ولو أتيتك بشيء يدلّ على صدق دعواي ، يعني المعجزة فإنّها الجامعة بين إثبات المدّعى والدّلالة على وجود الصّانع الحكيم وقدرته الكاملة.

٣١ ـ (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ...) أي هات ما أدّعيته إن كنت صادقا في دعواك.

٣٢ ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ...) أي ظهرت ثعبانيّته على فرعون وجميع جلسائه بحيث لم يشكّ أحد في أنه ثعبان لا أنّه كان شيئا شبيه الثعبان مثل الأشياء المزوّرة بالشعبذة والسحر ، فلم يبق أحد من الجلساء إلّا هرب ، ودخل على فرعون من الرّعب ما لم يملك نفسه فقال : يا موسى أنشدك بالله الذي أرسلك وبالرّضاع إلّا ما كففتها عنّي فأخذها موسى فصارت كما كانت عصا. وروي أنّ فرعون بعد مشاهدة تلك الآية قال : هل لك آية أخرى؟ قال : نعم.

٣٣ ـ (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ ...) أي أخرج يده من جيبه فأنارت الوادي من شدّة بياضها من غير برص أو علّة أخرى ولها شعاع كشعاع الشمس يذهب بالأبصار أن تعمّق الناظر في النظر (لِلنَّاظِرِينَ) وذكر هذه الكلمة يدل على كثرة النظّار إليها وذلك لأن بياضها لكثرة لمعانها وإشراقها كان مورد تعجّب وتحيّر ، فلذا خاف فرعون على مقامه ومكانته عند النّاس فلجأ إلى المكر وألقى الشبهة وقال :

* * *

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠))

٣٤ و ٣٥ ـ (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ...) أي متفوق فيه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي من مصركم (بِسِحْرِهِ) ولمّا كان الزّمان علم السحر فيه رائجا فيه كثيرا ، أثّر هذا الكلام فيهم بحيث انصرفوا عمّا كانوا يريدونه من رجوعهم إلى إله موسى وطاعته (فَما ذا تَأْمُرُونَ) هذا القول منه يدل دلالة ظاهرة على أنّ سلطان المعجزة بهره حتّى أنزله عن أوج دعوى الرّبوبيّة إلى حضيض المشاورة مع مربوبيه ومخلوقيه على زعمه الكاذب ومن مقام (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) رماه الى أدنى المراتب وهو الاستمداد من عبدته في أمر موسى ، وأظهر من نفسه أنّي متّبع لرأيكم. وبهذا الكلام جذب قلوبهم إلى نفسه وأبعدهم عن موسى وأظهر استشعاره غلبة موسى واستيلاءه على ملكه. لكنّ قومه ما أدركوا وما افتهموا من قوله (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) الآية ، هذا الاستشعار وبيان عجز إلههم واستعانته بهم واحتياجه إليهم فعند ذكر هذه الكلمات اتّفقوا على جواب واحد :

٣٦ و ٣٧ ـ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ...) أي أخّر أمرهما لوقت اجتماع السّحرة (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أرسل إلى أنحاء مملكتك جميع خدمك (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يجمعون السّحرة الحاذقين في صنعهم.

٣٨ ـ (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ...) أي لوقت معيّن ، وكان هو وقت الضّحى يوم الزّينة أي يوم عيدهم كما في سورة طه.

٣٩ ـ (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ...) أي قال للناس بعض خدمه بأمره ، ويحتمل أن يكون القائل هو فرعون مباشرة ، ولكنّه خلاف الظاهر. والحاصل أنّ القائل حثّهم على الاجتماع. ولعل الاستفهام تقريريّ معناه بادروا إليه.

٤٠ ـ (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ ...) أي نتّبعهم في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) يستشعر من الكريمة أنّ دين السّحرة كان على غير ما كان عليه فرعون وأتباعه. ومن الغريب أن من كان يدّعي الرّبوبية ، بل يعتبر نفسه

أعلى الأرباب ، نراه تارة يحتاج إلى قومه فيستشيرهم في أمر خصمه ولا يعرف تكليفه ولا كيف يتصرّف معه ، وأخرى يتديّن بدين غيره فيظهر أنه إمّا لا دين له أو انه مستقرّ على عقيدة. وهذا الربّ ، من حيث عجزه وعدم قدرته على دفع المضرّات عن نفسه مشابه للربّ الذي يقول فيه الشاعر :

وربّ يبول الثعلبان برأسه

الأذلّ من بالت عليه الثعالب

وقيل في الآية الشريفة : كأنّ المقصود الأصلي : أن لا تتّبعوا موسى ، وليس : أن لا تتّبعوا السحرة ، فساقوا الكلام مساق الكناية ، وهذا خلاف الظاهر.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))

٤١ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا ...) أي حين اجتمعوا سألوا فرعون قائلين (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) هل تعطينا أجرة على عملنا ، أو هل يكون لنا من ثواب عندك (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إن انتصرنا بسحرنا على ما جاء به موسى من آيات ربّه؟

٤٢ ـ (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) أي : نعم أمنحكم أجر كثيرا ، ومضافا الى ذلك ألتزم لك بالقربى عندي إن غلبتم ؛ وقد قال ذلك لهم تأكيدا وإغراء.

* * *

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨))

٤٣ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ...) فبعد الاجتماع واكتمال المشاورات بين فرعون والسحرة قال موسى للسحرة : هاتوا ما عندكم من سحر وأظهروا للناس غاية ما تصنعون من الشعوذة. وبتقديم سحرهم على الآيات التي يحملها من ربّه أظهر موسى عليه‌السلام ضعف ما عندهم لأنه تحدّاهم واستصغر شأن ما عندهم.

٤٤ ـ (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ...) أي رموا حبالهم التي ارتمسوها في الزئبق وبعض الأدوية المعمولة لأهل هذا الفن المعصيّ المموّهة بالسّحر المجوّفة المملؤة بالزئبق التي خلّوها في الشمس فلما طلعت عليها وأثّرت فيها الحرارة تحركت جميعها كلّ واحدة إلى ناحية فخاف الناس بأجمعهم وصاحوا من الذّعر حيث سحروا أعينهم فكانوا يرون حيّات عظيمة وأفاعي كبيرة مهولة فأظهروا كمال قدرتهم وأتوا بأقصى ما يمكن أن يؤتى في السّحر. ولفرط اعتقادهم بسحرهم أقسموا وقالوا (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أكّدوا معتقدهم بالحلف ولام التأكيد وهذا الحلف من قسم عهد الجاهلية.

٤٥ ـ (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ...) أي تتبلّع (ما يَأْفِكُونَ) أي ما يقلبونه عن وجهه الطّبيعي بتمويههم وتزويرهم أي ما كانوا (يَأْفِكُونَ).

٤٦ ـ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ...) أي خرّوا ساجدين. وإنّما عبّر عن

الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله من الالقاآت المذكورة. وأمّا وجه إيمانهم فلعلمهم بأن مثله لا يتأتّى بالسّحر لأن السحر ليس إلا إخراج الباطل في صورة الحق ، أو الخدع والتخيلات والحيل التي يفعلها الإنسان مستعينا في تحصيله بالتقرب من الشيطان ، ولا يستقل به الإنسان خلافا لما يفعله المؤمن حين يستعين في تحصيله بالرحمان فإن له واقعية وحقيقة و (التميز بيد أهله).

٤٧ و ٤٨ ـ (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ...) إمّا بدل اشتمال من (فَأُلْقِيَ) أو حال من السحرة. ومعناه إظهار إيمانهم بالله عزوجل. وكذلك قوله تعالى : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) فإنه منهم إمّا على سبيل الإبدال أو عطف بيان توضيحا ودفعا للتوهم وإشعارا بأن الموجب للإيمان هو ما جرى على يدي موسى وهارون لا غيره.

* * *

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

٤٩ ـ (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ...) أي بلا إذن مني وإجازة لكم (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي أنه رئيسكم الّذي تعلّمتم منه السحر وهو علّمكم بعض أقسامه دون بعض ولذا غلبكم ، أو أنكم تواطأتم عليه. فأراد بقوله هذا التلبيس على قومه بكون ما جاء به موسى معجزة كي لا يعتقدوا أنهم آمنوا على بصيرة وظهور حق (فَلَسَوْفَ

تَعْلَمُونَ) وبال أمركم بايمانكم فخوّفهم بهذا القول ثم أوضحه بقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الآية والمراد بالخلاف : أقطّع من كلّ شقّ طرفا ، أي اليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو بالعكس (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أعلّقكم على الأخشاب بعد قتلكم.

٥٠ ـ (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ...) أي لا يضرّنا ذلك فافعل بنا ما شئت فإنه ألم ساعة ثم إلى النعيم الدّائم الذي ليس له زوال ولا فناء ، فعذابك لنا ليس ضررا علينا بل هو موجب لمنفعة أبدية وسرور وبهجة سرمديّة (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) راجعون إلى ثوابه بعد الموت ، وهذا تعليل لنفي الضير.

٥١ ـ (إِنَّا نَطْمَعُ ... أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ...) أي لأن كنّا أوّل المؤمنين وهو تعليل ثان لنفي الضير أو لما قبله أما كونهم أوّل المؤمنين فيحتمل أن يكون المراد ، في زمانهم أو من قوم فرعون ورعاياه. ثم إن فرعون أمر بقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى وبالصّلب فتأثر موسى كثيرا بحيث بكى عليهم ولكنّ الله تعالى أراه منازل قربهم ودرجاتهم في الجنة تسلية له عليه‌السلام فمكث موسى بعد هذا مدة بينهم ، وكان يدعوهم إلى ربّه فلم ينفعهم ، بل زاد عنادهم وجحودهم حتى قرب زمان إهلاكهم ، فصدر أمر الله إليه بالخروج من مصر مع من آمن به.

* * *

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨)

كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩))

٥٢ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى ...) فبعد سنين أقامها بينهم يدعوهم بالآيات إلى الحق فلم يجيبوه أوحى الله تعالى إليه (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) هذه الجملة بيان لما أوحي أي قلنا لموسى بطريق الوحي والإلهام : اخرج من مصر أنت ومن آمن بك ليلا (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي أن فرعون وجنوده يتّبعونكم ويتعقبونكم ، لكن لا يصلون إليكم.

٥٣ ـ (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ...) أي بعث الجنود والخدم ليحشروا إليه الناس ويجمعوا الجيش ليقبضوا على موسى وقومه. ولما حضروا عنده قال للقوم :

٥٤ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ...) قليلون : جمع قليل. والشرذمة هي الطائفة القليلة وذكر (قَلِيلُونَ) للتأكيد. استقلّهم بالنسبة إلى جيشه إذ كان ألف ملك مع كل ملك ألف ، وكان قوم موسى عليه‌السلام ستمائة وسبعين ألفا ، وعن الباقر عليه‌السلام أنه كان يقول : عصبة قليلة ، وفسّر الشرذمة بالعصبة القليلة.

٥٥ ـ (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ...) أي لفاعلون ما يغيظنا إمّا بالمعاجز والآيات التي يعجز فرعون عن الإتيان بمثلها ، أو بما يقال من أن بني إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحليّ والألبسة الفاخرة بعنوان أنّ لهم عيدا فلما نزل الأمر بالإسراء ساروا من دون أن يردّوا عليهم ما استعاروا منهم.

٥٦ ـ (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ...) أي شاكون في السّلاح ومعدّون للقتال ، أو معنى حاذرون من الحذر أي الخوف أو استعمال الحزم في الأمور والتيقظ. ثم أخبر تعالى عن كيفيّة إهلاكهم بقوله :

٥٧ و ٥٨ ـ (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) أي جعلنا فيهم داعية

الخروج حتى خرجوا من بساتين مملوءة من الأشجار ذات الثمار (وَعُيُونٍ) جارية فيها (وَكُنُوزٍ) أموال من ذهب وفضّة (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي منازل حسنة ومجالس بهيّة.

٥٩ ـ (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ...) أي مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه أو أمرهم كما وصفناه (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) ذلك أنّ الله ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن والعقار والدّيار.

* * *

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

٦٠ ـ (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ...) يعني قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين أشرقت الشمس وظهر وعلا ضوؤها ، وذلك أنّهم لحقوا بهم سائرين نحو المشرق.

٦١ ـ (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ...) أي تقابلا بحيث كلّ فريق يرى الآخر ، قال قوم موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي لحق بنا قوم فرعون وكادوا يدركوننا ويصلون إلينا. أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم.

٦٢ ـ (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ...) أي قال موسى ثقة بنصر الله : (كَلَّا) هذه ردع ، أي لن يدركونا ولا يكون ما تظنّون ، فإن الله وعدكم الخلاص والنجاة منهم (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بنصره وبالحفظ من فرعون وقومه (سَيَهْدِينِ) إلى سبيل النجاة كما وعدني ، ولا خلف لوعد ربّي ، ولا يخفى على ذي البصائر وأهل التحقيق أن موسى قدّم كلمة (مَعِي) في كلامه في المقام وسيّد الرّسل نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أخّرها وقال : إنّ الله معنا. والوجه فيه أنّ الكليم نظر من خلال نفسه الى ربه ، وهذا مقام المريد في كتاب العرفان ونظر العارف وأمّا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فنظر من خلال الحق الى نفسه وهذا مقام المراد ومرتبته بالنسبة إلى المريد وهو أعلى وأنبل. ولعلّ الوجه أنّ هذه المرتبة هي عبارة عن قوس النزول بعد ما فرغ عن الصعود وأخذ الفيض من المبدأ الأعلى بخلاف المقام الأول منه.

٦٣ ـ (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ ...) أي ب (أَنِ اضْرِبْ) أو (أي اضرب) وهي بيان لما أوحي ، و (الْبَحْرَ) نهر النيل الذي هو بين أيلة ومصر (فَانْفَلَقَ) أي ضربه فانشق فبرز إثنا عشر مسلكا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كل قطعة فرقت عن أخرى كالجبل الشامخ الراسي ، فسلك كل سبط مسلكا.

٦٤ و ٦٥ و ٦٦ ـ (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ...) أي قرّبنا هناك ، في المكان الذي انشقّ من البحر (الْآخَرِينَ) هم فرعون وقومه وجنوده حتّى سلكوا جميعا مسلك بني إسرائيل وقيل أزلفنا : جمعناهم حوالي ذلك الموضع المشقوق. ثم إنّ فرعون لما وصل إلى ساحل البحر ونظر إلى انشقاق البحر إلى اثني عشر مسلكا بهذه الكيفية التي تحيّر العقول البشرية بهت الذي كفر : ولما أراد أن يدخل البحر قال له هامان وزيره مسارّة أنت تدري أن هذا من معاجز موسى وبدعائه ، فالحذر من أن تدخله فتهلك نفسك وجنودك ولكنه لما أراد أن ينصرف جاءه جبرائيل وقد ركب على برذونة من براذين الجنّة وجاز قدام فرس فرعون ، فلما استشمّ رائحة البرذونة وقد دخل

جبرائيل البحر ، فلم يتمالك فرعون من إمساك عنان الفرس وقد ذهب عنان الاختيار من يده فأدخله الفرس البحر فاتّبعه جنوده. فلما خرج موسى ومن معه من البحر ودخله فرعون وجميع جنوده غشيهم البحر فأغرقوا جميعا. وهذا معنى قوله عزّ من قائل : (وَأَنْجَيْنا مُوسى) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ).

٦٧ و ٦٨ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي أيّة آية للاعتبار لكن أسفا وألف أسف لعدم المعتبر (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) هذا معنى علة عدم أيّية الآية لهم لأنهم غير مؤمنين على الأكثر. والآية آية لأهل الإيمان فإنّهم هم المتنبهون والمعتبرون بالآية والمعجزة. ولكن ما تنبّه لها أكثر بني إسرائيل إذ بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها لأنهم رأوا بعد خروجهم من البحر جماعة على ساحله كانوا يعبدون البقر ؛ هذا أولا ، وثانيا اتخذوا العجل ، وثالثا قالوا لن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فاعترفوا وأقرّوا بعدم إيمانهم بتلك الآية العظيمة من إغراق فرعون وقومه بتلك الكيفية المحيّرة لذوي الألباب. وفي الخبر عن القمي : فلما دخل فرعون وقومه كلهم البحر ، ودخل آخر رجل من أصحابه وخرج أصحاب موسى ، أمر الله عزوجل الرّياح فضربت البحر بعضه ببعض فأقبل الماء يقع عليهم مثل الجبال ، فقال فرعون عند ذلك آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ، فأخذ جبرائيل كفا من حمأة فدسّها في فيه ثم قال : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ أي هو المنتقم من أعدائه والرّحيم بأوليائه. وهذه الكريمة تسلية لنبيّه صلواته عليه وآله ، أي يا محمد إن قومك وإن لم يؤمنوا بك مع ذلك التعب الشديد ، فليس هذا بأمر بديع وأول قارورة كسرت في الإسلام ، لأن قوم موسى مع تلك الآيات الباهرات لم يؤمنوا به ، وكذلك غيره من الرّسل. فلا تتأثّر كثير تأثر (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ) إلخ ... في الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : إن قوما ممن آمن بموسى قالوا : لو أتينا عسكر فرعون وكنا فيه ونلنا من دنياه ، فإذا كان الذي نرجوه من ظهور موسى صرنا إليه. ففعلوا ، فلما توجّه موسى ومن معه هاربين من فرعون ركبوا دوابّهم

وأسرعوا في السير ليلحقوا بموسى وعسكره فيكونوا معهم ، فبعث الله ملكا فضرب وجوه دوابّهم فردّهم إلى عسكر فرعون فكانوا في من غرق مع فرعون.

* * *

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤))

٦٩ و ٧٠ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ...) أي اقرأ يا محمد على مشركي العرب خبر إبراهيم ، فإنّه أبو الأنبياء وبه افتخار العرب ، وفيه تسلية لك وعظة لقومك : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أي لعمّه آزر ، وإطلاق الأب عليه بلحاظ التربية والإشفاق والمراد بالقوم هم أهل بابل : (ما تَعْبُدُونَ) من دون الله. والاستفهام على وجه الإنكار عليهم ، أي أن ما تعبدونه لا يستحق العبادة.

٧١ ـ (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً ...) هذا هو الجواب وكان كافيا. فإطالة الجواب لبيان ابتهاجهم وإظهار ما في نفوسهم من الافتخار بعبادتها (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي ثابتين على الصّلاة لها. وعن ابن عبّاس أن العاكفين بمعنى المصلّين ، أو معناه فنظل : فندوم ملازمين للأصنام. وعلى أيّ من المعنيين سألهم ثانيا :

٧٢ و ٧٣ ـ (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ...) أي هل يستجيبون لدعائكم إذا دعوتموهم أو يضرّون إن تركتم عبادتهم؟ وفي هذا بيان أن الدّين إنما يثبت

بالحجّة والبرهان ولو لا ذلك لم يحاجّهم إبراهيم هذا الحجاج.

٧٤ ـ (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا ...) أعرضوا عن جواب سؤاله وتمسكوا بالتقليد حيث إنهم ما كان عندهم جواب عن سؤاله عليه‌السلام بل لا جواب عليه لأحد ولا حجة ولا برهان لدينهم أبدا.

* * *

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩))

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

من ٧٥ إلى ٧٩ ـ (قالَ ... فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ...) أي ما تعبدون أنتم وآباؤكم خصم لي. وإنّما وصفها بالعداوة والخصومة التي لا تكون إلّا من العقلاء وذوي الأفهام (وعلى زعمهم سواء كانت شفعاءهم أو شركاء لله أو كانوا آلهة كما تزعم طائفة منهم) فعلى جميع المذاهب فإن عبدة الأصنام يعاملون معها معاملة ذوي الأفهام والعقول ولذا فإن الأنبياء يحاجّونهم عليها ويفحمونهم ، ومن تلك الجهة رأينا إبراهيم عليه‌السلام يقول : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وقال (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) وبهذا المضمون احتجّ سائر الأنبياء على عبدة الأصنام في كلّ عصر ، فقال إبراهيم : فإنهم ، فجمع جمع العقلاء بهذا الاعتبار ، أي بناء على زعمهم وعقائدهم الفاسدة الصادرة عن غير شعور ولا رويّة وبالجملة فلا نحتاج إلى بعض التأويلات التي هي خلاف ظاهر الشريفة. ويحتمل إرجاع الضمير إلى الآباء ، ووجه

عداوتهم له عليه‌السلام أنهم صاروا سببا لإضلال أبنائهم الذين كانوا معاصرين له عليه‌السلام وكانوا عدوّا له ، (فلما كان منشأ عبادة الأبناء للأصنام هو الآباء كما استدلوا به فهم صاروا منشأ للعداوة الناشئة عن العبادة الباطلة. وعلى التقديرين قوله عليه‌السلام (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع على احتمال الأول الذي هو الأظهر في النظر ومتصّل على الثاني ، ولعل الوجه في هذا التعبير من دون عكسه بأن يقول : فإنّي عدوّ لهم لأنّه أنفع في النصح وأدعى للقبول. ثم أنّه عليه‌السلام أخذ في بيان أوصاف ربّه إتماما للحجّة على خصمائه حيث إن تلك الأوصاف لا توجد إلّا فيه تعالى فمنها (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى المنافع الدنيوية والأخروية. وهاهنا نكتة وهو أنّ قوله (الَّذِي خَلَقَنِي) ذكره بلفظ الماضي و (يَهْدِينِ) بلفظ المستقبل ، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدّد في الدنيا فحينما توجد تبقى إلى الأجل المعلوم ، وأما هدايتها فهي تتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية الى المنافع الدنيويّة أو الدّينية وعلى ضروب الهدايات في كلّ لحظة ولمحة. ومثل ذلك (يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ... إلى أن قال :

٨٠ ـ (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ...) وإنّما غيّر أسلوب كلامه الرفيع ولم ينسب المرض إليه تعالى كما نسب الخلق والهداية والإطعام والسقاية إليه سبحانه ، بل نسبه الى نفسه عليه‌السلام لأنه في غالب الأمر انما يحدث المرض بإسراف الإنسان وتفريطه في مطاعمه ومشاربه. أو ان هذا كان لجهة حسن الأدب فإنه في مقام تعداد النعم وليس المرض منها. وأما مسألة الموت فسيجيء الجواب عنها بقوله :

٨١ ـ (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ...) عدّ الموت من النّعم ولذا أضافه إلى الله سبحانه ، لأنه لأهل الكمال وصلة إلى الحياة الباقية ، وسبب إلى نيل العطايا التي تستحقر دونها الحياة الدّنيويّة ، وواسطة للخلاص من أنواع المحن والبلايا ، فهو نعمة وإن كانت مقدمته المرض الذي هو توأم مع الآلام

والأوجاع التي هي نقمة قد لا يقاس الموت بها بالأولوية وقوله (ثُمَّ يُحْيِينِ) أي في الآخرة.

٨٢ ـ (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ...) ذكر ذلك لأن استغفار الأنبياء عليهم‌السلام تواضع منهم لربّهم وهضم لأنفسهم الشريفة وتعليم للأمّة باجتناب المعاصي وإلّا فلم تكن له خطيئة صلوات الله عليه.

* * *

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

٨٣ ـ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ...) أي كمالا في العمل والعلم حتى أستعدّ به للخلافة الحقّة والقدرة للرياسة على الخلق (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فإنه عليه‌السلام بعد أن أثنى على الله تعالى دعا لنفسه الزكيّة. وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدّعاء من المهمّات ، بل من الشرائط التي لها دخل في مقام الإجابة ولعل هنا يختلج بالبال أن إبراهيم لم لم يقتصر على الثناء لأنه مرويّ عنه علمه بحالي حسبي عن سؤالي؟ قلنا إن للأنبياء حالتين : حالة دعوة الخلق وتعليم البشر ، وهنا يكون النبيّ مشتغلا بالثناء ثم الدعاء تعليما لهم ، وحالة أخرى وهي حينما يخلو بنفسه مع الله تعالى يقتصر على قوله : حسبي عن سؤالي علمه بحالي. وإنّما قدّم قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) ، لأن قوة النظرية مقدمة على القوة العلمية ذاتا وشرفا ، والعلم صفة الروح والعمل صفة الجسم. وكما أن الروح أشرف من البدن فكذلك العلم

أشرف من العمل. وقيل إن المراد بالحكم هو النبوّة. وردّ بأنه دعا ربّه بهذا حين ما كان نبيّا ، وتحصيل الحاصل محال. بل المراد كما قلنا كمال القوة العلميّة والنظريّة ، أي زدني علما إلى علمي. كما أن المراد بقوله (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) كمال القوة العملية ليتنظم به في عداد الكاملين في الصلاح. وفي هذا الدّعاء دلالة على عظم شأن الصلاح الذي هو عبارة عن الاستقامة فيما أمر الله تعالى عباده به ، أي كون القوّة العاقلة متوسّطة بين الإفراط والتفريط. فالصلاح لا يحصل إلّا بالاعتدال. ولما كان الاعتدال الحقيقي أمرا مشكلا لا يحصل إلّا للأوحديّ من الناس حيث لا ينفكّ البشر نوعا عن الخروج عن ذلك الجدّ ، لذا أظهر إبراهيم احتياجه واستمدّ من الله سبحانه تحصيل هذه القوة بهذا القول (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي بالموفقين لتحصيل تلك القوة العمليّة ، يعني الذين حصلت لهم القوة بكمالها وأعلى مراتبها. ومن هذا البيان ظهر لك معنى : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

٨٤ ـ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ...) أي الذين يعقبونني ويوجدون بعدي إلى يوم القيامة ، يعني اللهم اجعل لي جاها وحسن صيت على وجه الدهر وإلى الأبد. ولذلك فإنّه ما من أمّة إلّا وهم محبّون له مثنون عليه. وعن الصّادق عليه‌السلام : لسان الصّدق للمرء يجعله في الناس خيرا له من المال يأكله ويورّثه. وقيل سأل ربه أن يجعل من ذرّيته في آخر الزمان من يكون يجدّد أصل دينه ويدعو الناس إلى الحقّ ، وهو محمد وعليّ والأئمة المعصومون عليهم‌السلام.

٨٥ ـ (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ...) أي ممّن يعطاها في الآخرة ، وقد مضى معنى الوراثة في سورة (المؤمنون) وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما منكم من أحد إلّا وله منزلان منزل في الجنّة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. ويستفاد من الرواية أن العكس بالعكس. وبهذا المعنى روايات كثيرة.

٨٦ ـ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ...) بالهداية والإيمان لأنه كان من

المنحرفين عن طريق الحق والغافلين عن سبيل الصّواب. ووصفه بالضال مشعرا بأن كفره كان عن جهل لا عن عناد وجحد. وأمّا وجه استغفاره لعمّه لأن عمّه وعده بالايمان به كما في قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) ، وإن كان بعد موته لظنّه بأنّه آمن وأخفى إيمانه خوفا من نمرود وأتباعه. والحاصل الأنبياء أعلم بما يفعلون.

٨٧ الى ٨٩ ـ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ...) أي لا تهنّي ولا تفضحني بأمر صدر عنّي وأنت ما كنت راضيا بصدوره عني ولو غفلة كترك شيء كان الأولى عدم تركه أو فعل شيء كان الأولى تركه. ويمكن حمله على التواضع وخصوصا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون

(إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشرك ومن حبّ الدنيا على ما في الرواية ، ويؤيّده قول النبيّ (ص): حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة. أو المراد منه هو صاحب النية الخالصة أو الصادقة كما في الرّواية.

* * *

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥))

٩٠ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ...) أي قرّبت بحيث يرونها من الموقف حين الحساب فيبتهجون بأنهم هم المحشورون إليها ، والإزلاف هو التقريب.

٩١ ـ (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ...) أي كشفت وظهرت (لِلْغاوِينَ) أي الضالّين بحيث يرونها مكشوفة فيزدادون غمّا ويتحسّرون على أنهم المسوقون إليها.

٩٢ الى ٩٥ ـ (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ...) أي الأصنام التي تزعمون أنّها شفعاؤكم (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم كما رجوتم شفاعتهم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) أي بدفعه عن أنفسهم؟ لا ، لا (فَكُبْكِبُوا فِيها) طرحوا فيها ويقصد الأصنام ، هم (وَالْغاوُونَ) أي عبدتها وحاصل المعنى ألقوا في الجحيم آلهتهم وعبدتها حال كونهم يطرح بعضهم على بعض (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) أي أتباعه وذرّيته جميعا.

(قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

٩٦ الى ٩٨ ـ (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ...) أي أن العبدة وهم في النار يخاصم ويعاند بعضهم بعضا وجملة (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) حاليّة. وكان قولهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ) القسم متعلق بقالوا وفصل بينهما بجملة حاليّة للاهتمام بها و (إِذْ) مخفّفة من الثقيلة ، يعني إنّنا كنّا في ضلال واضح (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) حيث جعلناكم مساوين في العبادة والخضوع لربّ العالمين. هذا بناء على كون الخطاب للأصنام. وقيل يقولون لمن تبعوهم : أطعناكم كما أطعنا الله فصرتم أربابا.

٩٩ ـ (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ...) في الكافي عن الباقر عليه‌السلام : يعني المشركين الذين اقتدى بهم هؤلاء فاتّبعوهم على شركهم ، وهم قوم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس فيهم من اليهود والنّصارى أحد.

١٠٠ و ١٠١ ـ (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ...) عن الصّادق عليه‌السلام

الشافعون الأئمة عليهم‌السلام (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي لا حبيب ذو شفقة ورحمة يهمّه أمرنا كما للمؤمنين والمتّقين ، فإن لهم شفعاء وأصدقاء من الملائكة والأنبياء والأوصياء والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام إن الشفاعة لمقبولة وما تقبل في ناصب ، وإن المؤمن ليشفع لجاره وماله حسنة فيقول : يا ربّ جاري كان يكفّ عنّي الأذى فيشفّع فيه فيقول الله تبارك وتعالى أنا ربّك وأنا أحق من كافى عنك فيدخله الجنّة وما له من حسنة. وإن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا ، فعند ذلك يقول أهل النار : فما لنا من شافعين. وفي المجمع عن النبي (ص) أن الرجل يقول في الجنة ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم. فيقول الله تعالى أخرجوا له صديقه إلى الجنّة فيقول من بقي في النار فما لنا من ... إلى آخر الآية الكريمة.

١٠٢ ـ (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ ...) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا ، ولفظة « لو » للتمنّي ، وجوابه فنكون.

١٠٣ و ١٠٤ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي أن في ذلك المقصوص لحجة ودلالة لمن اعتبر وأراد أن يستبصر (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أكثر قوم إبراهيم (مُؤْمِنِينَ) به عليه‌السلام (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي القادر على الانتقام معجّلا والرّحيم بالإمهال لكي يؤمنوا هم أو واحد من ذرّيتهم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠))

١٠٥ إلى ١١٠ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ...) نوح أخوهم نسبا فإنّه عليه

السلام كان منهم (رَسُولٌ أَمِينٌ) مشهود له بالأمانة فيهم. قد قال لقومه : إنّي رسول لكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) في التوحيد والطاعة لله عزوجل (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لا أطلب منكم على نصحي وتبليغ دعوتي وأداء رسالتي أجرا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ليس جزائي وثوابي إلّا على خالق الخلائق. ثم كرّر عليهم قوله (ع) : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) للتأكيد ، وتنبيها على أن كل واحدة من الرسالات تكون توأمة مع الأمانة. وقطع طمعه في أموالهم سبب لوجوب إطاعته فيما يدعوهم إليه. فكيف إذا اجتمعا؟ فلا تكرار في الواقع لاختلاف المعنى وهذا كما تقول : ألا تخاف الله وقد ربّيتك صغيرا ، ألا تخاف الله وقد أتلفت لك مالي؟

* * *

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥))

١١١ ـ (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ ...) الاستفهام إنكاري ، كي كيف نتّبعك والحال كذلك وقد اتّبعك (الْأَرْذَلُونَ) الفقراء على ما عن القمّي ، وهم الذين لا مال لهم ولا عزّ ، فجعلوا اتّباع هؤلاء لنوح مانعا عن إيمانهم. ويعنون بذلك أن أتباعه لم يؤمنوا به عن نظر وبصيرة وإنّما هو لتوقّع مال ورفعة مقام.

١١٢ ـ (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ...) أي وأيّ علم لي أنهم آمنوا إخلاصا وعن بصيرة أو طمعا في طعمة أو مال يوجب رفعة مقامهم وأنا مأمور باتّباع الظواهر والاعتبار بها.

١١٣ ـ (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي ...) أي ليس حساب بواطن الأمور علينا بل هو أمر راجع إلى ربّي فإنه المطلع على البواطن (لَوْ تَشْعُرُونَ) لو تدرون ، ولو عرفتم ذلك لما قلتم ما لا تعلمون لكنّكم تجهلون فتقولون ما يجري على ألسنتكم من دون علم ولا شعور بواقع الأمور.

١١٤ و ١١٥ ـ (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ...) في الآية كالدّلالة على أن القوم سألوه تبعيد الفقراء الذين آمنوا به لكي يؤمنوا به ويتّبعوه ، فأجابهم بأني لست مكلّفا بهذا الأمر وإنّما كلّفني ربّي بدعوة الجميع إلى الإيمان (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ولا يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء فإنّي بعثت بدعوة البشر سواء كانوا فقراء أم أغنياء ، وسواء كانوا أعزّاء أم أذلّاء ، من أصحاب الصنائع العالية أم الدانية كالحجامة والحياكة فاستر ، ذالكم إيّاهم لكونهم من أهل الصناعات الخسيسة لا دخل له في دعوتي حتى أطردهم لاتّباعكم إيّاي. ثم إن نوحا لمّا أفحمهم في مقام جوابهم لم يكن منهم إلّا التهديد فقالوا :

* * *

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

١١٦ ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ ...) عمّا تقول (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) من المضروبين بالحجارة أو من المشتومين. وروي عن أبي حمزة

الثمالي رحمه‌الله أنه قال : في كل موضع من القرآن الذي وقع فيه لفظ الرّجم فهو بمعنى القتل ، إلا في سورة مريم في قصة إبراهيم في قوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) ، فإنه هنا بمعنى الشتم.

١١٧ و ١١٨ ـ (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ...) أراد أنه إنما يدعو عليهم لتكذيبهم بالحق لا لإيذائهم له (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) من الفتاحة بالكسر والضم وهي الحكومة ، أي فاحكم بيننا (فَتْحاً) حكما وقضاء بالعذاب بقرينة قوله : (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فان طلب النجاة من شيء مكروه وبقرائن أخر تجيء تلوها كما هو ظاهر.

١١٩ ١٢٠ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ...) اي المملوء. وعن الباقر : المجهّز ، فخلّصناه بواسطة السفينة (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بعد إنجائه مع المؤمنين به (ع) (الْباقِينَ) الذين لم يركبوا السفينة معه.

١٢١ و ١٢٢ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ ... الْعَزِيزُ ...) أي القادر على الانتقام من الكفرة في الدنيا بأنواع العذاب ، وفي الآخرة كذلك. والحاصل أنه غالب على أمره وقد مرّ تفسير الآيتين.

* * *

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥))

١٢٣ ـ (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ...) أي قبيلة عاد ، وعاد أبوهم وكبير عشيرتهم. فقد أنكروا المرسلين ممّن سبقوهم بتكذيب رسولهم هود عليه‌السلام ومن قبله إلى آدم عليه‌السلام.

١٢٤ الى ١٢٧ ـ (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ...) تصدير القصص بقوله (أَلا تَتَّقُونَ) أي فاتقوا الله وأطيعون ، دلّ على أن الغرض من البعثة الدّعاء إلى التوحيد وطاعة الخالق تعالى. والأنبياء متّفقون فيه وإن اختلفوا في بعض شرائعهم ولم يطلبوا بذلك مطمعا دنيويّا. والباقي مرّ تفسيره.

١٢٨ ـ (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ...) أي بكل مكان مرتفع كرؤوس الجبال أو نحوها من المواضع العالية بناء ، علامة للمارّة على مقدار المسافة ، أو لمعرفة البلاد. والآية علامة الطّرق بعضها إلى بعض بلا احتياج إلى دليل ، فقد كانوا يبنون بكل مكان مرتفع برجا يجلسون به ويسخرون من الناس ويؤذون من يمرّ بهم من المؤمنين. ولأنّهم على ما نقل عن مقاتل بن سليمان كانوا في أسفارهم يهتدون بالسيارات والنّجوم بحيث لم يكونوا محتاجين إلى هاد آخر لأنّهم كانوا خبراء في هذا الفن وأعلاما في هذا العلم ، علم النجوم ، فعملهم لهذه الابنية يعدّ سفها ولذا استشنعه هود واستقبح بناء تلك الأبنية. والاستفهام إنكاريّ يؤوّل بالنهي ، وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ كلّ بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلّا ما لا بد منه.

١٢٩ ـ (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ ...) حياضا كبارا يجمع فيها ماء المطر ، أو المراد منها الحصون المشيّدة والقصور العالية للسّكنى كأنّهم يرون أنفسهم من المخلّدين في دار الدّنيا ، ولذا يبنونها بأشدّ إحكام (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي ترجون الخلود فتحكمونها وتجعلونها متينة متقنة.

١٣٠ ـ (وَإِذا بَطَشْتُمْ ...) أي ضربتم بسوط أو بسيف (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) مستعلين بالضرب أو القتل بلا رأفة ولا رحمة بل بظلم وغشم.

١٣١ إلى ١٣٥ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ ...) تجنّبوا غضبه وأطيعوا أمري ، فهو الذي (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) فأعطاكم سبحانه الأولاد والنّعم والأنعام والخيرات وغير ذلك ممّا جعل بلادكم كأنها جنان النعيم ، ولذلك ف (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن بقيتم على عنادكم (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا أو في الآخرة.

* * *

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥))

١٣٦ و ١٣٧ ـ (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ...) أي أن وعظك لنا أو عدمه سواء عندنا ، فلا تتعب نفسك في الدعوة (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي تجيء به من التوحيد والرسالة والكتاب والحساب والنهي عمّا كنّا عليه من عبادة الأصنام والتجبّر وعمارة الأبنية الرفيعة علما للمارة ، ليس هذا (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إلّا ممّا جرت به عادة السابقين عليك ممن كانوا يدّعون الرّسالة ويقولون مثل ما تقول لنا. وحاصل جوابهم هو إنكار ما جاء به الرّسل وتكذيبهم ، والشاهد على هذا قولهم من ما حكاه الله عنهم :

١٣٨ ـ (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ...) على ما نحن عليه حالة كوننا مقتدين بآبائنا الأقدمين في عاداتهم القديمة.

١٣٩ و ١٤٠ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ ...) فكذّبوا رسولهم هودا فيما جاء به من عند ربّ العالمين (فَأَهْلَكْناهُمْ) بريح صرصر شديدة الهبوب شديدة البرد. ثم أخذ سبحانه في بيان شرح قوم صالح (ع) وهم ثمود وكيفيّة فعل صالح وقوله معهم في الآيات ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٥ إلى أن يقول سبحانه :

* * *

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))

١٤٦ إلى ١٤٨ ـ (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا ...) أي أتطمعون أن تتركوا وتبقوا في النّعم الدنيوية (آمِنِينَ) من زوالها وأخذها منكم؟ والهمزة للإنكار ، أي لا يكون كذلك. ثم إنه تعالى فسّر هذه النعم المجملة بقوله (فِي جَنَّاتٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) أي ثمرها لطيف نضيج ليّن. وعن ابن عبّاس أنه قال : الطّلع تمر يسمّى كفري من ألطف الرّطب ، وهو مشتق من الطّلوع لأنّه يطلع من النخل ، وأفرد النخل بالذكر لفضله.

١٤٩ إلى ١٥٢ ـ (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ...) أي تنقرون في الصخر بيوتا (فارِهِينَ) حاذقين أو نشيطين بنحتها. فلا ينبغي أن تصرفوا كلّ همكم إلى الدنيا (فَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه (وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) لأنهم يتعدّون حدّ المعقول ويفرّطون بدنياهم وبآخرتهم إذ لا

يزنون الأمور بميزان العقل ، فإنهم هم (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعيثون فيها فسادا ويرتكبون المعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) ولا يدعون لإصلاح ولا لصلاح.

* * *

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

١٥٣ و ١٥٤ ـ (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ...) أي من الذين سحروا كثيرا حتّى أنهم لا يعقلون. أي أنت مجنون و (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) على فرض أنك لست بمسحور وكنت بشرا سويّا من جميع الجهات فأنت مثلنا بشر ولا مزيّة لك علينا حتى تكون أنت رسولا إلينا من عند الله كما تزعم. فإن كنت لا تدع دعواك الرّسالة (فَأْتِ بِآيَةٍ) تثبت دعواك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيها. فسألهم صالح : أيّ آية تريدون؟ فاقترحوا ناقة عشراء ، أي ذات حمل مضت عليها عشرة أشهر ، تخرج من هذا الجبل فتضع في الوقت حملها. فصار متفكرا ، فنزل عليه أمين الوحي وقال : صل ركعتين فادع الله تعالى لخروج الناقة. فلمّا فرغ فإذا الناقة قد طلعت فقال لهم :

١٥٥ ـ (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ...) بعد ما أخرجها الله من الصخرة بدعائه

كما اقترحوها على ما سبق آنفا قال : هذه الناقة (لَها شِرْبٌ) أي شراب يوم تشرب فيه ماء كم جميعا (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ولكم نصيب من الماء يوما بعد يومها. وكانت عادتها في يومها أن تشرب الماء كلّه وتصبر إلى يوم نصيبها. وهذا التقسيم كان من صالح عليه‌السلام بإذن منه تعالى. والثاني من وصاياه لهم قوله :

١٥٦ ـ (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ...) لا بضرب ولا عقر ولا منع ماء ، وإذا لم تعملوا بوصيّتي (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) توصيف اليوم بالعظمة لعظم ما يحلّ فيه. وهذا أبلغ من توصيف العذاب الذي يقع فيه. إذا لم يسمعوا وعظه ولم يعملوا بنصحه وقصدوا قتلها.

١٥٧ ـ (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ ...) أي ذبحوها بطريقة خاصة وظاهر العقر هو قطع قوائم الدوابّ وجاء بمعنى الحبس. وروي أن (مسطح) ألجأها إلى مضيق بحيث حبست ولم تقدر على الفرار ، فرماها بسهم على رجلها فسقطت فضربها (قيدار) أو (قدّار بن سالف) بالسيف فقتلها. وإسناد العقر إليهم جميعا مع أن المباشر واحد أو اثنان لرضاهم جميعا بذلك. ولذلك أخذوا بالعذاب كلّهم (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) حين معاينة العذاب.

١٥٨ و ١٥٩ ـ (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ ...) أي العذاب الموعود وهو صيحة جبرائيل (ع) التي خسفت بهم الأرض فابتلعتهم.

* * *

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ

 الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

١٦٠ إلى ١٦٥ ـ (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ...) أتأتون الذّكران ... هذه هي القصة السادسة التي شرح سبحانه فيها عمل قوم لوط (ع) وتكذيبهم الأنبياء أي جميع أنبياء الله لأن من كذب نبيّا كذّب تمام الأنبياء. فإنّ لوطا بلّغ قومه ما بلّغ الأنبياء قبله مثل نوح وهود وصالح عليهم‌السلام فلم يقبلوا منه ، فوبّخهم على الأمر القبيح والعمل الشنيع فقال : اخترتم الذّكران من الناس وتركتم أزواجكم اللاتي خلقهنّ الله لكم؟.

١٦٦ ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ...) أي متجاوزون عن حدود أحكام الله وشرائعه.

١٦٧ ـ (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ ...) أي لئن لم ترجع عمّا تقوله ، ولم تمتنع عن دعوتنا وتقبيح أعمالنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) المبعدين والمنفّيين.

١٦٨ ـ (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ...) أي المبغضين أشدّ البغض المبتعدين عنه الكارهين له.

١٦٩ إلى ١٧١ ـ (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ...) أي سلّمني من وباله

وشؤمه. فلمّا آيس من أن يؤمنوا دعا عليهم وسأل نجاته ونجاة أهله وعائلته المؤمنة ، فاستجاب الله دعاءه عليهم ونجّى لوطا وأهله (إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) أي كانت باقية في البلد مع الذين لم يؤمنوا ولم تخرج معه (ع) فأهلكت معهم بما أهلكوا لرضاها بفعلهم وإعانتها لهم لأنها كانت على رأيهم.

١٧٢ الى ١٧٥ ـ (ثُمَّ دَمَّرْنَا ...) أي أهلكنا (الْآخَرِينَ) من قوم لوط (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) كان من الحجارة لأنه مطر عذاب ، والأمطار تستعمل في العذاب غالبا كما يستعمل الخسف (فَساءَ) ذلك المطر وكأن شؤما على (الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذرهم لوط عليه‌السلام ، وفي ذلك آية من آيات الله الباهرات لمن كان عنده تبصر وتدبّر.

* * *

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

١٧٦ ـ (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ ...) هذه هي القصة السابعة التي أخبر فيها سبحانه عن أصحاب الأيكة الذين بعث إليهم شعيبا عليه‌السلام وما كانوا من قومه وكان شعيب عليه‌السلام أخا مدين ، وقد أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ، وأصل الأيكة هو الشجر الملتفّ ، وهي غيضة بجنب

مدين يسكنها قوم بعث إليهم شعيب.

١٧٧ إلى ١٨٠ ـ (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ...) أي أمرهم بأشياء أحدها قوله (أَلا تَتَّقُونَ) ومنها قوله أنه (رَسُولٌ أَمِينٌ) وأنه (لا يسأل أجرا) وأجره على الله كبقية الرّسل.

١٨١ إلى ١٨٣ ـ (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ...) أي أتمّوه ولا تكونوا من المنقصين منه في حقوق الناس بالتطفيف ، فإن عملهم كان النقص في الميزان. (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي الميزان العدل. وقيل إن القسطاس لفظ رومي بمعنى العدل وقيل إنّه عربي مأخوذ من القسط بمعنى السويّ والمعنى واحد (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) لا تنقصوا شيئا من حقوقهم. وهو تأكيد في المعنى المقصود (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) العثيّ : المبالغة في الفساد والكبر والفساد أي : لا تبالغوا في الكفر والكبرياء والفساد من القتل والأسر والضرب وقطع الطرق ونحوها في الأرض.

١٨٤ ـ (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي الذي أنعم عليكم بنعمة الوجود كما أوجد الذين من قبلكم من آبائكم الأقدمين وغيرهم من الخلائق (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الجبلّة هي الخلقة ، أي ذوي الجبلّة ، فهو خالقكم وخالق من سبقكم.

* * *

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨))

١٨٥ إلى ١٨٨ ـ (قالُوا ... وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ...) كلمة (إِنْ) مخفّفة من الثقيلة ، والتقدير وإنّنا نظنك ، فلمّا نسبوه إلى الكذب والسّحر سألوه العذاب ليكون آية على صدق دعواه ، فشكاهم إلى الله العالم بعملهم.

* * *

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦))

١٨٩ إلى ١٩١ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ ...) أي العذاب الذي اقترحوه من قولهم (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) يعني قطعا منها ، فألجأتهم الحرارة الشديدة بحيث كادوا أن يموتوا منها إلى (الظُّلَّةِ) زعموا أنها قطعة غيم باردة فمشوا إليها جميعا واستراحوا من تلك الحرارة المهلكة ، المظلّة تمطر عليهم نارا فأحرقتهم وقال القميّ : بلغنا ، والله أعلم أنّه أصابهم حرّ وهم في بيوتهم فخرجوا يلتمسون الرّوح من قبل السّحابة التي بعث الله عزوجل فيها العذاب فلما غشيتهم أخذتهم الصّيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وسمّي هذا العذاب بعذاب يوم الظّلة بهذا الاعتبار. وقيل إن يوم الظلّة ويوم عظيم ها هنا واحد ، وذلك أنّه تعالى سلط عليهم سبعة أيام حرّا شديدا بحيث كادت الحرارة أن تهلكهم ، فكان بقربهم جبل فأمره الله أن يتحرّك من مكانه ويصعد إلى

السّماء فوقف كالمظلّة وأجرى بقدرته الكاملة تحته الأنهار وأوجد فيه هواء باردا فاتّفق أن واحدا منهم طلع من بيته ورأى المظلّة وذهب إليها رجاء لتحصيل البرودة ، فلمّا وصل إليها ورأى المياه الباردة والأهوية الطيّبة شرب منها وتنفسّ ثم ذهب إلى أهله وجاء بهم إلى الظلّة فعلم بذلك أهل البلد فخرجوا جميعا إليها بحيث لم يبق في البلد واحد منهم فلما غشيهم الجبل جميعا وأحاط بهم وقع عليهم بأمر منه تعالى ، فما بقي منهم متنفس الا وقد شمله العذاب أي عذاب اليوم العظيم. وعن قتادة أن الله تعالى بعث شعيبا الى طائفتين ، أهل مدين ، وأصحاب الأيكة ، فأهل مدين أهلكوا بصيحة جبرائيل (ع) وأولئك بعذاب الظلّة.

١٩٢ و ١٩٣ ـ (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) أي القرآن المشتمل على هذه القصص وغيرها مرسل من عند الله ، وتقرير لحقيقة القصص ، وإشعار بإعجاز القرآن (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) أي نزل جبرائيل مصاحبا للقرآن ومتّصفا بكونه أمينا لأنّه أمين الله على وحيه ، وهذا الوصف يكشف عن سموّ مقامه وعلوّ مرتبته عنده تعالى ، وسمّاه روحا لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات ، وقيل لأنه جسم روحاني أو لأنه يحيا به الدين.

١٩٤ ـ (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ...) يعني لقّنه جبرائيل (ع) الكيفيّة المأمور بها بلا تغيير ولا تبديل وهو صلوات الله عليه وآله قد تلقّن القرآن منه كما نزل من الله تعالى فحفّظه صلوات الله عليه في قلبه الشريف وأثبته فيه كما نزل.

١٩٥ و ١٩٦ ـ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ...) أي بيّن المعنى وواضحه ، والقول متعلق ب (نَزَلَ) وفي العلل أن الصّادق (ع) قال : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا ولا وحيا إلّا بالعربية ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم وكان يقع في مسامع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعربيّة ، فإذا كلم قومه به كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامع قومه بلسانهم. وما من أحد كان يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ لسان خاطبه ، إلّا وقع في

مسامعه بالعربيّة فيترجم له جبرائيل كل ذلك تشريفا له من الله تعالى (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي ذكر القرآن أو معناه في كتب الأنبياء المتقدّمين.

* * *

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))

١٩٧ ـ (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً ...) أي علامة لقريش على صحة القرآن وإعجازه ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم كابن سلام وغيره. والاستفهام إنكاري ، أي علمهم ببعثه في كتبهم خبر ثابت موجود. فلقريش أن يسألوهم حتى يتبيّن لهم الحق من أن القرآن كتاب إلهيّ ناطق بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن ابن عبّاس أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا أرسلوا إلى يهود مكة (إلى علمائهم) وسألوهم عن محمد ونبوّته فأجابوهم بأنّا وجدنا في الكتب السّماوية مثل لغته واسمه ، وقرأنا أنّ وقت بعثه هذه الأزمنة. فإن الله تعالى شأنه احتج عليهم بقول علماء اليهود وشهادتهم أن محمّدا هذا هو النبيّ الموعود فقال تعالى : أو لم يكفهم شهادة علماء اليهود بنبوّتك وصحة دعواك ولم تكن هذه الآية مقنعة لهم. وقد كان السبب في إسلام الأوس والخزرج هو إخبار علماء اليهود بوجود ذكر القرآن

وأوصاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم السّماوية. ثم إنّه تعالى أخبر عن رسوخ الكفر والجحود في قلوبهم بحيث لا ينفعهم نصح ناصح ولا يؤثّر فيهم وعظ واعظ ، فقال سبحانه :

١٩٨ و ١٩٩ ـ (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ...) أي لو نزّلنا القرآن على غير العرب (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي لم يكونوا يؤمنون بهذا القرآن ولو كان غير العرب يقرأه عليهم باللغة العربيّة في غاية الفصاحة وكمال البلاغة لفرط عنادهم وأنفة الجاهلية وحميّتها. وفي تفسير أهل بيت الرسالة عن الصّادق عليه‌السلام : لو أن القرآن نزّل على لغة العجم لم يكن العرب ليؤمنوا به ، ولكنّ لمّا نزل على لغة العرب آمن به العجم. وهذا دالّ على فضل العجم. والأعجمين جمع أعجم وهو الذي في لسانه عجمة أي لكنة ، أو من ليس في كلامه إفصاح سواء كان أصله من العرب أو العجم. ومثله الأعجميّ إلّا أن فيه زيادة تأكيد لزيادة ياء النسبة. ويطلق العرب على كلّ ذي صوت لا يفتهمون كلامه حتى أن لفظة أعجم يطلقونها على البهائم والطيور فيقال الحيوانات العجماء.

٢٠٠ ـ (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ...) أي كما أنزلناه بلغة عربيّة فصيحة لإتمام الحجة وانقطاع عذرهم بعدم افتهامهم ، كذلك أدخلنا معانيه وإعجازه في قلوبهم ، أي أرسلنا إليهم نبيا من أنفسهم كان أفصح منهم لسانا وأشرف منهم بيتا فقرأه عليهم على وجه أفصح وبيان أبلغ فأفهمهم غاية الإفهام وبيّن لهم بأكمل البيان وأتمّه بحيث ما بقي لهم عذر ثم لم يؤمنوا به عنادا واستكبارا لأنهم مجرمون يمرّ بقلوبهم مرورا.

٢٠١ إلى ٢٠٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ ...) فهؤلاء المجرمون لا يصدّقون به حتى يصيروا مع العذاب الذي وعدناهم به وجها لوجه (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) تبغتهم فتبهتهم ، أي تجيئهم فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يحسّون بوقوعه ولا يلتفتون لإتيانه لأنهم ينكرونه ولا يصدقون به. والجملة حاليّة مفسّرة ل (بَغْتَةً) وعندئذ يقولون : (هَلْ نَحْنُ

مُنْظَرُونَ) أي هل لنا من نظرة : أي مهلة لنعود فنصدّق ونعمل عملا صالحا يرضي الله؟ وذلك بعد فوات الأوان ولكنهم يتحسّرون ويتأسّفون على ما فرّطوا حين كذّبوا النبيّ (ص) ورفضوا دعوته.

* * *

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

٢٠٤ ـ (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ...) هذا توبيخ لهم بتهكّم. أي كيف يستعجله من إذا أنزل به سأل النّظرة؟

٢٠٥ إلى ٢٠٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ...) أي أخبرنا عن حالهم ، لو صيّرناهم ينتفعون ويعيشون متلذّذين بدنياهم زمانا طويلا (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) أتاهم عذابنا الذي وعدناهم به (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب أو تخفيفه. وجواب الاستفهام محذوف ، وحاصل المعنى أنه هل ينفعهم تمتّعهم المتطاول ويغنيهم ويدفع عنهم العذاب؟ فالجواب أنه لا يدفع ، وما أغنى عنهم ذلك ، وهذا الاستفهام للتقرير.

٢٠٨ و ٢٠٩ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ...) أي لأهل القرية أنبياء منصوبون من قبل الله تعالى لإنذارهم إلزاما للحجة ، وبعد تكذيبهم لأنبيائهم نهلكهم بعد أن نمهلهم ، ونفعل معهم ذلك (ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي للتّذكير نرسل لهم الأنبياء ، ونحن لسنا من الظالمين. فنهلكهم غير ظالمين لهم بعد الإنذار والذكرى.

٢١٠ إلى ٢١٣ ـ (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ...) كلمة (ما) نافية ، والضّمير راجع إلى القرآن. والحاصل أن المشركين زعموا أن القرآن من قبيل ما يلقي به الشياطين على الكهنة فردّهم الله بهذه الكريمة. فما الشياطين بقادرين على ذلك (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي لا يتيسّر ولا يسهّل أن يتنزّل الشياطين بالقرآن مع حيلولة الشهب والملائكة المانعين لصعودهم إلى السماء (وَما يَسْتَطِيعُونَ) لا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه بها المبطل فإنه إذا أراد أن يدل بها على صدق الصّادق أخلصها بمثل هذه الحراسة. فالشياطين أبعد ما يكون عن ذلك ، و (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي لمطرودون عن استماع كلام الملائكة وممنوعون عن استماع القرآن من السّماء فقد حيل بينهم وبين السّمع بالملائكة المأمورين بالحيلولة وبالشّهب ، وذلك لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق ، ولمّا كانت نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة فلا سنخيّة بينهم وبين الملائكة ولا تناسب بينهما فلا يقدرون على الصّعود إلى السماء فالنتيجة أنهم محرومون وممنوعون عن السّمع. فزعم قريش أنّ القرآن من قبيل ما يلقي الشياطين إلى الكهنة والسّحرة باطل عاطل والآية الشريفة علة للجمل المنفية السّابقة عليها والتقدير : لأنّهم معزولون ثم إنّه تعالى حذّر نبيّه أن يشرك به وخاطبه ، لكن المراد به سائر المكلفين فقال (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) وإنما أفرده بالخطاب ليعلم أن العظيم الشأن إذا أوعد فكيف حال من دونه ، وإذا حذّر الكبير فغيره أولى به ، والآيات التحذيرية ـ نوعا ـ من قبيل إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

* * *

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

٢١٤ ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ...) أي رهطك الأدنين ، وإنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنه لا يداهنهم لأجل القرابة فيقطع طمع الأجانب عن المداهنة في أمر الدّين. ثم إنّه سبحانه بعد الأمر بالإنذار يأمر نبيّه بحسن المعاشرة والتواضع لأهل الإيمان فقال عزّ اسمه :

٢١٥ ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ ...) للمؤمنين : أي عاشرهم بالملاطفة وحسن السّيرة. وخفض الجناح مستعار من قولهم : خفض الطائر جناحه إذا أراد أن ينحطّ وهنا كناية عن لين القول والعريكة وحسن الخلق. وسبب هذا وعلة الأمر بخفض الجناح يبيّنه قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كلمة (مِنَ) للتّبيين ، فإنّ قوله تعالى لمن اتّبعك أعمّ من المتابعة في الدين. قال الصادق عليه‌السلام : التواضع مزرعة الخشوع والخشية والحياء وإنهنّ لا يتبين إلّا منها وفيها. ولا يسلم الشرف التامّ الحقيقيّ إلّا للمتواضع في ذات الله عزوجل.

٢١٦ ـ (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ...) فإذا امتنعوا عن طاعتك فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه من التوحيد وعدم الشّرك ـ ويعني بهم كفّار قريش الذين أمره بإنذارهم ـ إذا فعلوا ذلك فتبرأ منهم ومن عملهم.

٢١٧ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ...) وقرئ فتوكّل وهذه الشريفة في مقام تسلية النبيّ الأكرم (ص) على فرض عصيان الأمة وعدم إطاعتهم لأوامره ونواهيه. ويستفاد منها ، والله أعلم ، أنه سبحانه يقول لنبيّه (ص) :

يا محمد لا بدّ وأن يكون توكّلك عليّ وأنا العزيز : أي القادر على قهر أعدائك ، الرّحيم أي القادر على نصر أوليائك والرّحمة بهم ، ونحن نكفيك شرّ من يعصيك فلا تضرّك معصية العاصين ولا عدم إطاعة الطاغين ففوّض أمرك إليّ وأنا كافيك وحسبك ونعم الحسيب :

٢١٨ إلى ٢٢٠ ـ (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ...) هذه صفة بعد صفة ، أي توكّل على الذي يراك حين تقوم من مجلسك أو فراشك للتهجّد أو للصّلاة في أوقاتها ، ويرى (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي تصرّفك وانتقالك في المصلّين بالقيام والركوع والسّجود والقعود حين تؤمّهم أو مطلقا ولو متفرّدا (إِنَّهُ) أي ربّك (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مرّ تفسيره.

* * *

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

٢٢١ و ٢٢٢ ـ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ...) لما بيّن أن القرآن لا يصحّ أن يكون ممّا تنزّل به الشياطين أكّد ذلك ببيان من تنزّل عليه فقال سبحانه وتعالى : (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي كذاب مرتكب للذنب والمقصود منه رؤساء الكفار (منه) أي كل فاجر عامل بالمعاصي وهم الكهنة والسحرة فإن الشياطين يتنزّلون عليهم فيستمعون إلى ما يلقون إليهم.

٢٢٣ ـ (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ...) أي الأفاكون يلقون سمعهم إلى الشياطين فيتلقّون منهم ثم يضمّون إلى وسوستهم على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها لا ما يظنون ولا الواقع. كما في الحديث : الكلمة

يحفظها الجنيّ فيقرأها في أذن وليّه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة وإن الشياطين كانوا قبل الإسلام يصعدون إلى السّماء ويستمعون إلى الملأ الأعلى ويحفظون من الملائكة كلمة أو كلمتين ثم ينزلون إلى الأرض ويلقون إلى أوليائهم من الكهنة ، وكان الكهنة يزيدون عليها ما شاؤوا من تخيّلاتهم الفاسدة. لتتميم علمهم الناقص (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي الأفّاكون أكثرهم كاذبون أو أكثر الشياطين ، والظاهر هو الأوّل بقرينة قوله تنزّل على كل أفّاك أثيم ، والأفّاك هو الكذّاب وهو المتنزل عليه أي الكاهن ، والله أعلم بما قال.

* * *

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

٢٢٤ إلى ٢٢٦ ـ (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ...) ثم إنه تعالى لما أبطل زعم المشركين أنّ القرآن من قبيل ما يلقي به الشياطين على كهنتهم ، فأخذ في إبطال قولهم أنّ محمدا شاعر بأن الشعراء هم الذين يتّبعهم الضّالون المضلّون فذمّهم بمصاحيبهم ومتابعيهم ، حيث إن الإنسان يعرف بصحبه وجلسائه فلو كانوا من الشرفاء فهو يكشف عن أنه شريف وإذا كانوا من السفلة والأدنياء فهو كذلك ولعل المراد هو ابن الزبعرى وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهبيرة بن وهب المخزومي ومنافع بن عبد مناف وأمثالهم من الشعراء المشركين وكانوا سبعة وكلهم من قريش وقالوا نحن نقول مثل ما قال محمد فاجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم

ويروون عنهم فيهجون النبيّ وأصحابه بالشعر فذمّهم الله وأنزل فيهم الآية ، فالشعراء كذلك (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي أنهم في كل مذهب يذهبون غير مبالين بما نطقوا به من غلوّ في مدح من لا يستحق المدح وذمّ من لا يستحق الذّم (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) إذ يعظون الناس ولا يتّعظون وينهون عن المنكر ولا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون قيل هم الذين غصبوا حق آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ولعنة الله على غاصبي حقوقهم وقد أعفى سبحانه من هذا الذّم للشعراء واستثنى (الَّذِينَ آمَنُوا) صدّقوا بدعوة النبيّ (ص) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال ، وتعدّى عليهم الكافرون بذمّهم ف (انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) فقالوا الشعر انتصارا لأنفسهم ، وسيعلم الظالمون كيف ينتقم الله تعالى منهم حينما (يَنْقَلِبُونَ) يعودون إليه يوم الحشر والحساب.

* * *

سورة النمل

مكّية وهي ثلاث وتسعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)

١ ـ (طس ـ تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ...) في ثواب الأعمال والمجمع عن الصّادق عليه‌السلام : من قرأ سور الطّواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه ، ولم يصبه في الدّنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوّجه الله من الحور العين. وزاد في المجمع : وأسكنه الله في جنّة عدن. وقد مرّ بيان (طس) وغيرها من الحروف المقطّعات والرموز ، وقلنا بأنها تماما أسماء لنبيّنا صلوات الله عليه وآله ، وهي أسماء رمزية تأتي في كلّ مقام بمناسبة لا يعلمها إلّا الله

والراسخون في العلم على ما صرّح في بعض الأدعية المنسوبة إلى مولانا عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما ؛ ولا ينافي ما قلناه ما قيل وما روي فيها من المعاني فإن للقرآن بطونا على ما في الروايات فيمكن حملها على تلك المعاني والبطون والله أعلم (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) إشارة إلى آي السّورة (وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي مبيّن للحق من الباطل والكتاب هو اللوح أو القرآن.

٢ و ٣ ـ (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ...) هدى من الضّلالة إلى الحق ، وبشرى لهم بالثواب والجنة. وبشرى وهدى : مصدران بمعنى الفاعل ، أي هاد ومبشّر للمؤمنين. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يؤدونها في أوقاتها وبحدودها المشروعة من واجبات ومنافيات وغيرها ، والجملة صفة للمؤمنين (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) بتمامها وكمالها ، وهذه صفة بعد صفة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) صفة ثالثة ، والواو ربما احتملت فيها الحالية كما يحتمل العطف. ويلاحظ أن تغيير النظم وتكرار الضمير قد كانا إيذانا بإيقانهم وإيمانهم بيوم الحساب وبالجنّة والنار والثواب والعقاب.

٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ...) تزيين الأعمال يكون إمّا بتخلية الشيطان حتى يزيّنها لهم كما صرّح به في الآية ٣٤ من هذه السورة (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) ، إلخ ... وإمّا بجعلها مشتهاة لطبائعهم محبوبة لأنفسهم (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي متحيّرون فيها لمن ضلّ الطريق ، لا يدركون ما يتبعها. والعمه هو التحيّر في الطريق أو الأمر مطلقا ، والتردد في الضّلال. وقيل معنى قوله زيّنا لهم إلخ : حرمناهم التوفيق عقوبة على كفرهم فتزيّنت أعمالهم في أعينهم وحليت في صدورهم فهم لا يشعرون بما يفعلون ولا يدركون أنّ أعمالهم وبال عليهم وهذا غاية العمه والضلالة أعاذنا الله منهما.

٥ ـ (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ...) أي العذاب في الدنيا كالقتل والأسر والفدية عوضا عنهما كما في وقعة بدر بقرينة قوله تعالى : (وَهُمْ فِي

الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) فإنهم أشدّ الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة ولاستبدالهم النار بالجنة.

٦ ـ (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ...) أي لتلقّنه وتعطاه (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) من عند من هو ذو حكمة في أمره ولا يحتاج فيه إلى مشورة ولا إلى استخارة من غيره (عَلِيمٍ) ذي علم ؛ بمصالح خلقه .. ثم إنّه سبحانه أخذ في بيان بعض من علومه التي كانت من قسم القصص حيث إن علومه التي أودعها في القرآن ضروب منها القصص والأخبار التي وقعت للأنبياء السابقين وأممهم يذكرها فيه للاعتبار وتسلية النبيّ الأكرم بالنسبة إلى أذية قومه له حتى قال : ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت فإنّه تعالى قصّ على نبيّه الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله كيفيّة حال موسى عليه‌السلام من بعثه ومبعثه وإعطائه المعجز وإرساله إلى فرعون وملئه فقال سبحانه :

* * *

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

٧ ـ (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ ...) أي اذكر يا محمّد قصّة موسى بن عمران حين قال لامرأته ، وهي بنت شعيب عليه‌السلام ، حين ما أمر بدعوة فرعون فخرج مع أهله من عند شعيب متوجّهين إلى مصر فابتليت امرأته بالمخاض ، والقصّة قد ذكرناها قبلا فلا نعيدها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرت وأحسست نارا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي خبر عن الطريق لأنهم ضلّوا ، والنار عادة تكون علامة على وجود ناس عندها يعرفون الأخبار كطلب الاهتداء إلى الطريق وغيره ممّا يعرض للمسافر التائه عن دربه كما أصابهم في ظلمة ذلك الليل البهيم. وقد خاطب أهله بالجمع مع أنه سبحانه كنّى عنهم بالأهل ، لأن الأهل تشمل العشيرة والجماعة فتتضمّن معنى الجمع ، ولذلك صحّ أن يخاطب أهله بضمير الجمع ، وهذا يقتضيه المقام ومقام النبوّة ذلك أن الأنبياء صلوات الله عليهم مهذّبو اللّسان متأدّبون بآداب الله ومتعلمون بتعليماته سبحانه ، ومأمورون بأن يعلّموا الناس ويربّوهم على تلك التعاليم الإلهية والتربية الربوبيّة عمليا لأن التعاليم العملية أهمّ وأولى من النظرية فقط كما في الرواية : كونوا دعاة إلى الله بغير ألسنتكم ، أي بأعمالكم ، والوجه واضح لا يحتاج إلى إقامة برهان عليه مزيدا على الرواية المذكورة. فالنتيجة أن المربّين بتربية الله تعالى عادتهم وديدنهم أن يدعوا الناس ويخاطبوهم بأحسن أسمائهم وبكيفيّة يحفظون فيها احتراماتهم ولو كان المخاطب من أهاليهم ولا سيّما إذا كانوا من أولاد الأنبياء ومن أهل بيت النبوّة والرسالة كما في المقام على ما أشرنا في صدر البيان. وفي رواياتنا أيضا الآمرة بأن تكلّم الناس وتدعوهم بما يحبّون من أسمائهم وكناهم لا بما يؤذيهم (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي بما يتضوّأ به من نار ذات شعلة ، وبعبارة أوجز : بشعلة مضيئة ، فإن القبس هو النار المقبوسة الملتهبة ، وقرئ بإضافة الشهاب وهي بيانيّة ، والقراءة المشهورة بغير الإضافة فالقبس بدل (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) لكي تستدفئون بها. والحاصل أن موسى خلّى أهله وتوجّه نحو النار.

٨ ـ (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ ...) أي لما قرب منها خوطب (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) والمراد (مَنْ) هو الملائكة. و (فِي النَّارِ) في مكان النار ، وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ)(وَمَنْ حَوْلَها) أي موسى أو الملائكة أو كليهما. والتعبير بالنار لعلّه على زعم موسى في أوّل الرؤية وإلّا فهي من أنوار العظمة والجلال (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تنزيها له.

٩ ـ (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ...) ناداه الحقّ سبحانه إنّ هذه ليست نارا ولكنّ نوري تجلّى لك وأنا العزيز الذي لا يقهر ، الحكيم الذي أقواله وأفعاله طبق الحكمة التامة.

١٠ ـ (وَأَلْقِ عَصاكَ ...) نودي أن ارم عصاك وأطلقها من يدك ، فألقاها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرّك وتتراقص (كَأَنَّها جَانٌ) كالجنّ السريع الحركة (وَلَّى مُدْبِراً) كرّ راجعا ، إلى الوراء (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع بل هرب منها ، فقال له سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ) من تلك الحيّة (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) لأنني معهم أسمع وأرى.

١١ ـ (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ...) أي رجع بعد ظلم نفسه إلى التوبة والإنابة والعمل الصالح بعد العمل السيّء. ويمكن أن يكون هذا تعريضا بوكز موسى عليه‌السلام للقبطيّ الذي قتله ، أو أن الاستثناء منقطع هنا والمقصود به الناس الآخرون من المكلّفين ، والله تعالى غفور لمن تاب وأناب.

١٢ ـ (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ...) هذه آية أخرى زوّده بها الله سبحانه وتعالى ، وذلك بأن يدخل يده تحت إبطه أو في جيبه أو في شقّ قميصه الذي يلي صدره ، فإن إدخالها بهذا الشكل وإخراجها يكفيان لان تصير بيضاء (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير آفة كالبرص أو غيره بل هي كالشمس في الليل وأضوأ منها في النهار (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي مع تسع

آيات أخر أنت مرسل بها إلى فرعون وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) هذه الجملة في موضع التعليل للإرسال إلى قوم يرتكبون المعاصي والآثام.

* * *

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

١٣ ـ (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً ...) من أبصر الطريق أي استبان ووضح. فهي ظاهرة واضحة ومستبانة ، فإن باب الإفعال كما استعمل متعديا كذا استعمل لازما كما مثّلنا ، وقال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وكثر استعماله كذلك شعرا ونثرا بحيث لا يحتاج إلى مزيد بيان. فالآيات تكون واضحة وظاهرة لجميع من حضر بحيث يرون أنها أمور خارجة عن طاقة البشر وأنها كانت مما وراء الطبيعة وخارقة للعادة. ونصبها على الحالية عن الآيات. وهذا لا يحتاج إلى التأويلات والتكلّفات التي ارتكبها المفسّرون في تلك الكلمة وأتعبوا أنفسهم الشريفة في تصحيحها هذا بناء على ما هو المشهور من قراءتها بصيغة اسم الفاعل وفي المجمع روي عن السّجاد سلام الله عليه مبصرة بفتحها فيرتفع الخلاف في هذا الكلام والظرف في قوله في تسع آيات متعلق بالمقدّر أي اذهب الى فرعون في تسع آيات. ولكنهم قالوا إنها سحر.

١٤ ـ (وَجَحَدُوا بِها ...) أي أنكروها وكذّبوا بها (ظُلْماً) لأنفسهم (وَعُلُوًّا) ترفّعا عن الإيمان والانقياد (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض من الغرق في الدّنيا والحرق في الآخرة.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

١٥ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ...) عطف سبحانه على قصّة موسى قصّة داود وسليمان فقال آتيناهما علما بالقضاء بين الخلق وبكلام الطير والدوابّ (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي اختارنا من بينهم بأن جعلنا أنبياء وملوكا ، وبالمعاجز التي وهبها لنا من إلانة الحديد وتسخير الشياطين والجنّ والإنس. وفي الكريمة دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا ما دونه حتى ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت أحدا بعدهما ولا قبلهما تحريضا للعالم على أن يحمد الله على ما آتاه من فضله ، وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير لكن فضّل عليه كثير.

١٦ ـ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ...) أي ورث الملك والنبوّة بأن قام مقامه دون سائر بنيه وهم تسعة عشر. وفي الكافي عن الجواد عليه‌السلام أنه قيل له إن الناس يقولون في حداثة سنّك ، فقال : إن الله أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبيّ يرعى الغنم ، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم ، فأوحى إلى داود أن خذ عصا المتكلّمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم فإذا كان من الغد فمن كانت عصاه أورقت وأثمرت فهو الخليفة. فأخبرهم داود فقالوا قد رضينا وسلّمنا. ولما أصبح الصّباح إذا عصا سليمان قد أثمرت وأورقت هذا ما ورد عنه ولا ينافي ما ورد في الصحيح من أنه تعالى أنزل من السّماء مكتوبا مختوما على داود (ع) وفيه مسائل فقال تعالى كل واحد من ولدك أجاب عليها فهو الوارث والخليفة بعدك. فإن ولده كان عددهم تسعة عشر وكلهم كانوا حسب الظاهر أهلا للوراثة والخلافة ، أمّا المسألة الأولى فهي أقرب الأشياء أيّ شيء وأبعدها أيّ شيء. والثانية أيّ الأشياء آنس وأيّها أوحش والثالثة أيّ شيئين من الأشياء قائمان وأيهما مختلفان ، وأيّهما المتباغضان. والرابعة أي شيء آخره محمود وأي شيء آخره مذموم. فجمع داود الأحبار والأشراف وأولاده وأراهم المكتوب المختوم السّماوي فسأل المسائل واحدا بعد واحد ولدا بعد ولد فما أجابوا إلّا سليمان عليه‌السلام.

أمّا الأولى فأجاب عنها بأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو الآخرة وأبعدها ما يمضي من الدنيا. أما الثانية فآنس الأشياء إلى الإنسان الجسد مع الروح وأوحش الأشياء الجسد بلا روح. والثالثة أنّ القائمين هما الأرض والسماء والمختلفين هما الليل والنهار والمتباغضين هما الموت والحياة والرّابعة أنّ الذي آخره محمود فهو الحلم في حال الغضب والذي عاقبته مذمومة فهو الحدّة في حال الغضب. فاعترف الأحبار وأولاده جميعا بفضل سليمان وأهليته للخلافة.

(وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) القمي عن الصّادق عليه‌السلام : أعطي سليمان بن داود مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان ومعرفة

اللّغات ومنطق الطير والبهائم والسّباع. وكان إذا شاهد الحروب تكلم بالفارسيّة ، وإذا قعد لعمّاله وجنوده وأهل مملكته تكلّم بالروميّة وإذا خلا بنسائه تكلّم بالسريانية والنبطية ، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربّه تكلم بالعربية ، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية. وفي المجمع عن الصّادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلّهم من الجن والإنس والشياطين والدوابّ والطير والسباع ، وأعطي علم كل شيء ومنطق كل شيء في زمانه وصنعت في زمنه الصنائع العجيبة وذلك قوله علّمنا منطق الطير. وفي البصائر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لابن عباس : إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود عليه‌السلام ومنطق كلّ دابة في بر وبحر. وعن الصادق عليه‌السلام أن سليمان بن داود قال علّمنا منطق الطير وأوتينا من كلّ شيء وقد والله علّمنا منطق الطير وعلم كلّ شيء ، وعن الباقر سلام الله عليه أنّه وقع عنده زوج ورشان (نوع من الحمام البرّي أكدر اللون فيه بياض فوق ذنبه) وهدلا هديلهما فردّ عليهما كلامهما فمكثا ساعة ثم نهضا فلما طارا عن الحائط هدل الذكر على الأنثى ساعة ثم نهضا. فسئل ما هذا فقال كل شيء خلقه الله من طير أو بهيمة أو شيء فيه روح فهو أسمع لنا وأطوع من ابن آدم. إن هذا الورشان ظنّ بامرأته ، فحلفت له ما فعلت ، فقالت ترضي بمحمد بن عليّ فرضيا بي ، فأخبرته أنّه لها ظالم فصدّقها. وقد تعرّضنا هنا لذكر الروايات بأكثر مما هو مبنانا في هذا الكتاب من الاختصار تيمّنا بها واستعانة بهم عليهم صلوات الله لأن في ذكر رواياتهم إحياء لذكرهم ونحن مأمورون به.

١٧ ـ (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ ...) أي جمع له (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبسون ويمنعون من التفرّق حين الحركة والسّير لتحفظ عظمتهم وشوكتهم فإنهما في حفظ النظام والترتيب ، وهذا ممّا يتعلّق بتعظيم الملك وحفظ شؤونه وفيه مصالح لا يعلمها إلّا الله وأنبياؤه (ع).

١٨ ـ (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى ...) القميّ : قعد على كرسّيه وحملته الريح فمرّت به على وادي النمل ، وهو واد ينبت فيه الذهب والفضّة ، وقد وكّل به النمل. وقال الصّادق على آبائه وعليه‌السلام : وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النمل ، لو رامته البخاتي ما قدرت عليه. وادي النمل واد بالشام أو الطّائف كثير النمل ، وهو تعالى أخفاه عن الأنظار لأنه وادي الذهب والفضّة كما أخفى جنّة شدّاد وسدّ الإسكندر المعروف بذي القرنين والجبل الذي هو منام أصحاب الكهف وغيرها من عجائب الدنيا التي اقتضت حكمته الإلهيّة إخفاءها إلى يوم السّاعة .. وحين مرّ موكب سليمان عليه‌السلام على وادي النمل هذا قالت نملة لأخواتها (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) قراكم (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) يدهسكم سليمان وجنوده دون أن يحسّوا بوجودكم. وقد حكى عنهم كعقلاء لأن قولهم قول عقلاء.

١٩ ـ (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً ...) أي تجاوز حدّ التبسّم إلى حدّ الضّحك تعجّبا من حذرها وتحذيرها جنده. وكان للنملة القائلة بالتحذير سلطان عليهم على ما نقل وقد أثبت العلم الحديث أن للنّمل ملكة يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها وعن الرّضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه في وجه ضحكه : أن النّملة بعد إحضارها وسؤال سليمان عن وجه التحذير وجواب النملة بما ذكر في الرّواية قالت النملة : هل تدري لم سخّرت لك الريح من جميع الموجودات؟ قال (ع) : ما لي بهذا علم. قالت النملة : يعني عزوجل بذلك أنّه كلما أعطيتك من ملك الدّنيا هو كالرّيح في عدم استقرارها وثباتها تزول وتذهب وتفنى بسرعة فحينئذ تبسم ضاحكا من قولها. والرواية نقلتها بمعناها تقريبا لأني نقلتها من تفسير فارسي (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي ألهمني وذكّرني شكر نعمتك لأنه يزيد في النعمة. والتعبير بصيغة الاستقبال للدّوام والثبوت ، وهذه الحيثية داخلة في المسؤول ، أي شكرا دائما (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أما النعمة التي أعطاها الله تعالى له فهي نعمة النبوّة والملك وهما من أعظم النعم ولا تجتمعان إلّا في

الأوحديّ من البشر ولم تجتمعا إلى الآن إلّا في داود وبعض أولاده سلام الله عليهم فينبغي أن يشكرها. وقد كانتا أيضا في ذي القرنين بناء على كونه نبيّا. وأدرج فيه ذكر والديه أمّا الوالد فلأن النعمتين العظيمتين المذكورتين هما تراث والده فهما سببان لشكر الوالد عليهما لا غيره وأمّا الأم فلما لها عليه من فضل الحمل والتربية والتعب. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) عطف على أن أشكر (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) هذه الجملة يحتمل أن تكون علة لما قبلها من قوله (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) وقد نقل أنه يوما من الأيّام كان سليمان على بساطه والريح تسيّره كيف يشاء وأين يريد فمرّ على دهقان يزرع ، فوقع نظره على بساط سليمان مع تلك العظمة والخدم والحشم فقال : سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكا عظيما. فسمع سليمان مقالته بواسطة الرّيح المأمورة بإيصال كلّ صوت إليه ، فأمر الريح بإنزال البساط فأحضر الدهقان وقال (ع) : قد سمعت مقالتك وجئتك حتى أقول لك : لا تطلب ما لا تكون قادرا عليه. وقال بعد ذلك إنّ ثواب تسبيحة يقولها العبد المؤمن عن خلوص واعتقاد ويقبلها الله تعالى أفضل وأحسن ممّا أعطي آل داود لأنّه باق وملك سليمان فان. فقال الدهقان فرّج الله غمّك كما أذهبت غمّي.

* * *

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

٢٠ ـ (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ...) أي طلب الطير الذي لم يكن في مكانه وذلك أن سليمان (ع) كان إذا قعد على عرشه جاءت الطيور فتظلّل الكرسي والبساط بجميع من عليه من الشمس ، فغاب عنه الهدهد يوما فسقط

شعاع الشمس من موضعه في حجر سليمان أو على رأسه فرفع رأسه (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما بال الهدهد لا أراه. تقول العرب مالي لا أراك يعني مالك أو يقول مالي أراك كئيبا أي ما لك كئيبا ، وهذا من القلب الذي يوضحه المعنى. والعيّاشيّ قال : قال أبو حنيفة لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال عليه‌السلام : لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يراه في القارورة أو كما يرى أحدكم الدّهن في القارورة. فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه وضحك. قال أبو عبد الله ما يضحكك؟ قال : ظفرت بك جعلت فداك. قال : وكيف ذلك؟ قال الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ الذي يصاد به في التراب حتى يؤخذ في عنقه؟ قال (ع) : يا نعمان أما علمت أنه إذا نزل القدر عمي البصر؟ فبهت أبو حنيفة الذي أراد إفحام أعلم البشر في عصره. ولا يخفى أنّه ربّما يختلج في بعض الأذهان أن في هذه القصّة أمورا ، منها أن سليمان كان نبيّا والأنبياء معصومون من الظّلم ويمشون على جادة العدل وطريق الاستقامة ، ومن ناحية أخرى أن الطيور غير مكلّفين حتى يثبت عليهم التقصير فيستحقّون عذابا وعقابا ، فما معنى قول سليمان (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أمّا الجواب عن الناحية الأخيرة لأنّا قبلنا منكم الأولى أن الطيور غير مكلفين ، فنعم. ولكن من ناحية التكاليف الشرعية والأحكام التي نحن البشر مكلّفون بها. وأمّا بالنسبة إلى بعض الأمور الأخر فلا نسلّم عدم تكليفها به ، فإنها مأمورة ببعض الأذكار ، وبأن لا يظلم بعضها بعضا. والحاصل أن الطيور في عصر سليمان كانت موظّفة ببعض الوظائف ومكلفة بتكاليف ، فإنه في أوقات سيره كان يحضرها للاستظلال بها ، فكانت الطيور تحضر لذلك بما فيها الهدهد يحضره للاستظلال به وللدّلالة على الماء ، فاذا عصى واحد منها أمر نبيّ الله فيعدّ عاصيا ومستحقّا للعذاب والعقاب بلا شبهة ولا ارتياب بما يراه ويشاء. فالهدهد بغيبته بلا استيذان ولا إجازة نبيّ الله يعدّ في زمرة العاصين. فهذا التشديد المؤكد بالحلف يمكن أن يكون من جهة العصيان أو من ناحية

أخرى من تهديد الحاضرين من ذوي العقول وغيرهم ليعتبروا بقضية الهدهد فلا يقصّرون في مقام أداء الوظيفة. وأما الجواب عن الأسئلة الأخر ، فأولا : هذه الأمور المذكورة ليست بأمور كان صدورها محالا عقلا حتى يكذب ولا يصدّق فيمكن صدق هذه القضايا ووقوعها بمكان من الإمكان. وثانيا هذه الإشكالات من الأوهام القائمة على مباني الملاحدة ، وأما من كان يؤمن بالله ويصدّق بأنه القادر المطلق يفعل ما يشاء ويختار ما يريد وكل أفعاله تصدر عن مصالح يعلمها ولا نعلمها ، فحينئذ يمكن أن يصدر من الهدهد بإعطائه القدرة على ما لا يصدر من الطيّارات السريعة والأقمار السيّارة الجويّة الصناعيّة من السّرعة الشديدة كسرعة النّور وأن يشعر بأمور عقلائيّة لا يتفكّرها ولا يعرفها أمثال فيثاغورث وأفلاطون. ويمكن أن يخفى على سليمان أمور ظاهرة في نفس مملكته فكيف بممالك غيره؟ فتلك الإشكالات عند المعتقدين بإله العالمين القادر الكامل في قدرته موهومات سوفسطائية لا يعتنى بها.

٢١ ـ (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ...) أي بنتف ريشه وتشميسه أو حبسه مع ضدّه في قفص واحد (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ليعتبر به أبناء جنسه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بحجة تبيّن عذره أو يبين عذره بها. واللام في الموارد الثلاثة لام القسم ، لكنّه في الأخير إما لصيانة السياق أو بتقدير فعل العفو. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام : وإنما غضب عليه لأنه كان يدله على الماء. قال فهذا الطائر قد أعطي ما لم يعط سليمان. وقد كانت الريح والنّمل والجن والإنس والشياطين المردة له طائعين ، ولم يكن أحد يعرف الماء تحت الهواء وكان هذا الطائر يعرفه ، وإن الله يقول في كتابه : ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى. وقد ورثنا نحن هذا القرآن الّذي فيه ما تسير به الجبال ويقطع به البلدان ويحيى به الموتى ، ونحن نعرف الماء تحت الهواء (الحديث).

* * *

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

٢٢ ـ (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ...) هذه العبارة أدلّ على السّرعة وآكد عليها من التعبير بعبارات أخر تدلّ عليها كما لا يخفى على من هو أدرى بفصاحة القرآن (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) وتلك المخاطبة لنبيّ أو وليّ من أولياء الله وأنبيائه عن كلّ شخص صدرت ، خلاف الأدب. فكيف من أداني الحيوانات. لكنها من إلهام ربّه تعالى تنبيها لنبيّه على أن تلك العتابات والخطابات إنما صدورها من نبيّ مثل سليمان لمخلوق من مخلوقات الله ، ولا سيما أعجزهم ، غير مرضيّ عنده تعالى ، وعلى أنّ في أدنى وأعجز خلقه من أحاط علما بما لم يحط به هو عليه‌السلام ، مع سعة إحاطته وكمال علمه ، فليتحاقر إليه وليتصاغر لديه علمه (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) سبأ اسم للحيّ أو هو أبوهم : سبأ بن يشحب بن يعرب ، أي بخبر متيقّن لا ريب فيه.

٢٣ ـ (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ...) يعنى بلقيس بنت شراحيل بن

مالك بن ريّان كان ملكا في اليمن وتمام نواحيها (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) سرير أعظم من سريرك. ولعل المراد بعظمته دقة صنعه وكيفيّة ترصيعه بالجواهر ، ويمكن أن تكون عظمته من هذه الجهات ومن ناحية طوله وعرضه وحجمه على ما عن ابن عباس من أنه قال : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا ، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا. وكان مقدّمه من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر والزّمرّد الأخضر ومؤخره من فضّة مكلل بالجواهر.

٢٤ إلى ٢٦ ـ (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ...) أي رأيتهم يعبدون الشمس (مِنْ دُونِ اللهِ) ولا يعبدون الله عزوجل (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) خلّى سبحانه بين الشيطان وبينهم لأنهم نسوا ذكر الله فنسيهم : أي تخلّى عنهم فصاروا كأنهم منسيّين وأصبحوا يرون الفعل الذي يوسوس به الشيطان لهم جميلا بنظرهم وحسنا (فَصَدَّهُمْ) منعهم الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) عن طريق الحق والصواب (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى العبادة الحقيقية وإطاعة الله تبارك وتعالى لأن الشيطان أشرب في قلوبهم تقديس الشمس وحبّها وزيّن لهم عبادتها. ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الهدهد بإلهام من الله تعالى كما ألهم الطيور والحيوانات بعض الأذكار والتسبيحات ، وكما ألهمها بعض الصنائع التي تحيّر العقول وتفتن الألباب كخلايا النحل وكالأعشاش المختلفة وكخيوط العنكبوت المهندسة النسج وغيرها. فأهل سبأ لا يهتدون (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) ألّا : تحضيضية إذا دخلت على المضارع كانت للحث على الفعل ، نحو : ألّا تؤمن؟ ألّا ترجع عن ضلالتك؟ أي لا بدّ وأن تؤمن وترجع عن الضلال. وهنا فيما نحن فيه : ألّا يسجدوا : أي لا بدّ وأن يسجدوا لله سبحانه ، وهي بمعنى (هلّا) التحضيضية. ويؤيّد ما ذكرناه ما عن ابن مسعود من تبديل الألف بالهاء وقرأ : هلا يسجدوا لله ، فنحن نظنّ قويّا أن الجملة وما بعدها من كلام سليمان عليه‌السلام وحينئذ لا

تحتاج إلى التأويلات حيث إنه بعد العلم بوجود قرية بقربه يعبد أهلها غير الله مع سعة سلطانه وانتشار دعوته وكمال قدرته وإحاطته بملكه ، فتعجّب ولفظ هذه الجملة وافتتحها ب (أَلَّا) التي تفيد التحضيض وطلب الشيء بعنف. ويحتمل أن تكون من كلام الله عزوجل مع سليمان في مقام الذّم على تركهم السجود له تعالى.

والحاصل أن الجملة في محلّ نصب ، والتقدير : وزيّن لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله. ويمكن أن تكون عطف بيان أو بدلا من قوله : يسجدون للشمس. و (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يظهر ما استتر وخفي سماويّا كان أو أرضيّا لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) تسترون (وَما تُعْلِنُونَ) تشهرونه وتبدونه ، فهو (اللهُ) الخالق الرازق القادر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود سواه (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ربّ كرسيه التي وسعت كل شيء.

* * *

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

٢٧ ـ (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ...) قال سليمان (ع) للهدهد : سنتأمل لنعرف إذا كنت صادقا في قولك أم كاذبا. وهذه الآية الشريفة من ألطف وألين الخطاب ، لأن في قول الهدهد ما يحتمل وجوها من احتمالات الصدق والكذب والمبالغة في القول.

٢٨ ـ (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ...) أي احمل رسالتي هذه وألقها إلى الجماعة الذين دينهم كما ذكرت. وقد أهتمّ سلام الله عليه بأمر الدّين وذكر القوم جميعا ولم يهتمّ بأمر الملكة فقط ولا قال : فألقه إليها (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنحّ عنهم متواريا عن أنظارهم بحيث ترى وتسمع (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) فاستمع مناقشتهم ورأيهم وما يقول بعضهم لبعض. فذهب الهدهد بالكتاب ورماه في حجر الملكة ، فلما قرأته :

٢٩ ـ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ...) أي قالت لأشراف قومها الذين يمثّلون الرأي في مملكتها جاءني كتاب كريم جدير بالاحترام والعناية. وكان سليمان (ع) قد ختم الكتاب بخاتمه الشريف فلمّا فضّته أمام سراة قومها وشرفائهم عبّر عنهم سبحانه بالملإ. وفي القمي (الكتاب الكريم) أي المختوم ، وفي الجوامع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كرم الكتاب ختمه. وفي الكلام حذف وتقديره : قيل لها ممّن هو وما هو؟ فقالت إنه إلخ ...

٣٠ ـ (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ ...) أي الكتاب من سليمان (وَإِنَّهُ) أي المكتوب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لكنّهم كانوا متحيّرين أنّ الآتي والجائي بالكتاب من هو؟ ولذا جازوا عن السؤال عن عنوان الجائي به. وعن ابن عباس كلام في تفسير (الكتاب الكريم) يستفاد أنّهم علموا به ، وقال : إنّهم لشرافة صاحب المكتوب من حيث إن رسوله الهدهد وصفوا الكتاب بأنه كريم. والحاصل نحن والآيات المباركات في هذا المقام لا نستفيد منها شيئا وأهل البيت أدرى بما في البيت على فرض صحة الرواية.

٣١ ـ (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ...) قوله ألّا تعلوا في موضع رفع إما على البدليّة من الكتابة وإما على الخبريّة ، أي : هو أن لا تعلوا ، والضمير راجع إلى الكتاب. ولعلّ الأوجه أنّ كلمة « أن » تفسيريّة كما في الكريمة الأخرى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) والحاصل أن المكتوب كلام في غاية الوجازة مع كمال الدّلالة على المقصود لاشتماله على البسملة

الدّالة على صفات الصّانع بعد الدلالة على ذاته ، والنهي عن العلوّ والترفّع الذي هو أمّ الرذائل ، والأمر بالإسلام الجامع لأمّهات الفضائل. وليس الأمر فيه بالانقياد له وإطاعته كما هو شأن الملوك وزعماء السياسة وأمرائهم. وأما قوله (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) فهذا لأنهم كانوا كفرة ، وهو عليه‌السلام كان نبيّا ورئيس المؤمنين والمسلمين والإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فبهذا الاعتبار نهاهم عن الترفع عليه والاستكبار ، لا بما أنه ملك ذو قوة وحشم وخدم. فإن إلقاء الكتاب إليها وهي على تلك الحالة أي في قصرها على سرير الملك والعزّ بحيث لا يرقى إليها الطير بوسيلة ، وأمر سليمان هذا أقوى حجة وأعظم برهان على كونه نبيّا ورسولا ، فقوله عليه‌السلام ولا تعلو عليّ بعد إقامة الحجة على رسالته (ع) ونبوّته وولايته عليهم كاشف عمّا ذكرنا ومن أقوى الشواهد على ما قلناه (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فما قال : وأتوني مطيعين لي أو نحو ذلك ولو كان لهذا اللفظ أيضا بناء على إثبات نبوّته تأويل لا ينافي ما قلناه.

* * *

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

٣٢ ـ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي ...) أي استشارت مشاوريها وطلبت منهم الفتيا في أمر إسلامهم وتسليمهم لسليمان وعدمه (ما كُنْتُ

قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) لا أمضي أمرا إلّا بحضوركم ومشاورتكم واسترضاء خاطركم ، فما تقولون في هذا الأمر؟

٣٣ ـ (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ ...) أي ذوو عدد وأهل شجاعة وأدوات حربيّة (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) اي قوّة في الحرب والجرأة على الأعداء والإقدام في الشدائد (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) من الحرب أو الصّلح. فلما فكّرت رأت أن أحسن الطرق وأولاها هو الصّلح والمسالمة لأن في الحرب مفاسد شديدة كما ذكرت.

٣٤ ـ (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ ...) الظاهر من الكلام أنّها أحسّت بأنّهم يميلون إلى القتال فقالت إن في دخول الملوك البلد مفاسد كثيرة منها إفساد نفس البلدة بنهب الأموال وتخريب الديار ، ومنها إذلال الأعزة والأشراف بالإهانة والأسر والقتل ، ومنها هتك الأعراض والنواميس فقدّمت مقدمة للصلح وتمهيدا لدفع الشر بأنّا نرسل إليهم هدية حتى نعرف تكليفنا.

٣٥ ـ (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ...) ففي المرحلة الأولى ، نحن في مقام الصلح ، ولسنا من أهل الحراب فأنا باعثة إليهم بهديّة أولا (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي منتظرة حتى يجيئنا الخبر عن حاله وكيفيّة عمله وقوله مع المبعوثين فنعمل على حسب تكليفنا بعد ذلك. وفي القمّي قالت : إن كان هذا نبيّا من عند الله كما يدّعي فلا طاقة لنا به فإن الله عزوجل لا يغلب ، ولكن سأبعث إليهم بهدية فإن كان ملكا يميل إلى الدّنيا يقبلها ، وعلمت أنه لا يقدر علينا. فبعثت حقّة فيها جوهرة عظيمة ، وقالت للرسول : قل له يثقب هذه الجوهرة بلا حديد ولا نار. فأتاه الرسول بذلك فأمر سليمان بعض جنوده من الديدان فأخذ خيطا في فمه ثم ثقبها وأخذ الخيط من الجانب الآخر. وهذه لا تنافيها الروايات الأخرى الدالة على أنها أرسلت مع المبعوثين بهدايا كثيرة ثمينة كما لا يخفى على من راجعها.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

٣٦ ـ (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ...) أي أتساعدونني وتزوّدونني بمال وهذا استفهام إنكار (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) ما أعطاني ربّي من النبوّة والملك والحكمة خير مما أعطاكم من الدّنيا وأموالها (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) فلا حاجة لي بهديّتكم ولا وقع لها عندي ، نعم أنتم تفرحون بهدايا بعضكم لبعض حبّا لزيادة المال ، لقصر همّكم عليه ، لكن نحن معاشر الأنبياء لا نفرح بذلك ، إشارة إلى عدم اعتباره واعتنائه بأموال الدّنيا. ثم قال للرسول :

٣٧ ـ (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ ...) أيّها الرسول ارجع إلى بلقيس وملئها بما جئت من الهديّة (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة ولا قدرة لهم على دفعها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) نخرجهم من سبأ والملك فيها (أَذِلَّةً) بذهاب عزّهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) ذليلون بأسر وإهانة. وفي القميّ : فرجع إليها الرسول فأخبرها بجميع ما اطّلع عليه ، وبالأخص بقوة سليمان وكثرة جنوده من الجن والإنس ، فعلمت أنّه لا محيص لها إلّا التّسليم ، فخرجت وارتحلت نحو سليمان.

* * *

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ

أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

٣٨ ـ (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا ...) أخبر جبرائيل سليمان أنّها أخرجت من اليمن مقبلة إليك فقال سليمان لأماثل جنده وأشراف عسكره (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وتقييد إتيان العرش بقبل إسلامهم لأن بعده لا يجوز التصرف فيه إلّا بإذنها.

٣٩ ـ (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ ...) أي مارد قويّ (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلس حكومتك. وقيل كان من عادته (ع) أن يجلس إلى نصف النهار يحكم بين الناس في الدعاوي والخصومات ويصلح أمورهم (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي على حمله لقادر وعلى الجواهر المركوزة فيه وعلى ذهبه وفضته أمين لست بخائن.

٤٠ ـ (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ...) أي الكتاب السّماوي الذي فيه الاسم الأعظم (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) الطّرف تحريك الأجفان للنظر ، والمعروف أن القائل هو آصف بن برخيا وكان عنده اسم الله الأعظم ، وذلك غاية الإسراع ، وفي العياشي عن الهادي عليه‌السلام قال : الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف به آصف ، لكنّه عليه‌السلام أحبّ أن يعرف الجنّ والإنس أنّه الحجة من بعده ، وذلك من علم سليمان الذي أودعه آصف بأمر الله ففهّمه الله ذلك لئلّا يختلف في إمامته ودلالته ، كما فهّم

سليمان في حياة داود لتعرف إمامته ونبوّته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي حاصلا حاضرا بين يديه (قالَ) شكرا (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي تمكّني واقتداري على عرش بلقيس في هذا الزمان اليسير من مسيرة شهرين من إحسان ربّي عليّ بلا استحقاق لي (لِيَبْلُوَنِي) ليختبرني (أَأَشْكُرُ) نعمته (أَمْ أَكْفُرُ) أقصّر في أداء واجباته وفي شكر نعمه (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنه به يستجلب دوام النعمة ومزيدها (رَبِّي غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (كَرِيمٌ) بالانعام عليهم أي على الكفرة فإن عادته الإحسان إلى المسيئين وسبيله الإبقاء على المعتدين.

٤١ ـ (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها ...) أي غيّروا هيئته اختبارا لعقلها لنرى فيما إذا كانت تعرفه ، فنعرف عقلها وفطنتها وأنها تعرفه بعد التغيير أم لا.

* * *

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

٤٢ ـ (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ ...) أي عرشك مثل هذا العرش. فلما دقّقت النظر إليه (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي لم تقل هو هو لاحتمال أن يكون مثله حيث إنه كان في نظرها بعيدا عادة لبعد الطريق ولأنّها أقامت عليه حرّاسا وحفظة كثيرين بحيث لا يقدر لأحد عادة السّلطة

عليه وأخذه فضلا عن الإتيان به في هذا اليسر من الزّمان. فقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) كاشف عن كمال عقلها حيث إنها ما اختارت النفي أو الإثبات في بداية النظر ، بل ألقت كلاما يحتمل الأمرين حتى ينكشف لها واقع الأمر (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) يمكن أن يكون هذا الكلام من تتمة كلامها فإنها أحسّت أنّ السؤال لاختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت (وَأُوتِينَا) إلخ أي العلم بقدرة الله وكمالها وصحّة نبوّتك قبل إظهار تلك المعجزة والإتيان بعرشنا وإحضاره عندك فالضمير في (قَبْلِها) راجع إلى المعجزة (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) قبل مجيئنا إليك حين ما رجع إلينا رسلنا من لدنك حيث أظهرت لهم علائم النبوّة بما اختبروك من قبلنا. ويحتمل أن يكون من كلام سليمان ، يعني : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها من باب حذف المضاف لقرينة المقام.

٤٣ ـ (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ ...) أي منعها الذي تعبده غير الله عن عبادة الله تعالى (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) هذه الجملة في مورد التعليل ، أي نشوئها بين أظهر الكفار وفي بلادهم صار موجبا وسببا لأن تعبد الشمس والانصراف عن عبادة الله تعالى.

٤٤ ـ (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ...) أي القصر ، أو كل بناء عال (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء عظيما. وذلك أنّ سليمان لمّا أقبلت صاحبة سبأ كان قد سبق قدومها أن بنى الناس والشياطين قصره العظيم وكانت أرضه من زجاج ابيض يجري الماء من تحته مع حيوانات مائيّة كالضّفادع والحيتان بحيث يرى كلّ من دخل القصر صحنه ماء متراكبا في جريانه ، ثم أمر أن يوضع عرشه في صدر الدار كأنه على رأس الماء ، وأمر بدخول بلقيس في ذلك القصر ، لأنّه أراد ان يختبر عقلها ويرى تصرّفاتها وقدميها فإن الجن ، على ما قيل ، قالوا إن في عقلها خفة ، وأن قدميها كحافر الحمار أو البعير. فلمّا أدخلت القصر ظنّت أن صحن الدار لجّة (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوضه فوجدها أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء ، فأمر

الجن بعلاج الشّعر فعملوا لها النّورة والحمّام (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) أي قال سليمان إن ما تظنّيه ماء بناء مملّس من الزجاج. فلما رأت سليمان وكان مهيبا ذا جلالة (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بعبادتي في تلك المدة المديدة لغيرك عن جهل وضلالة (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كلمة (مع) اسم يستعمل مضافا وله حينئذ ثلاثة معان : الاجتماع كقوله : (الله معكم أينما كنتم) ، والمصاحبة كقوله : افعل هذا مع هذا ، وزمان الاجتماع كقوله : جئتك مع العصر. وقيل بمعنى (عند) تقول جئت مع القوم أي عند مجيئهم. وفي الشّريفة للمصاحبة أي أسلمت بمصاحبة سليمان ومرافقته وإمداده وتسبيبه لتشرّفي بالإسلام ، ولولاه لما وفّقت بهذا التوفيق. واختلف في أمرها بعد ذلك فقيل إنه عليه‌السلام تزوّجها وأقرّها على ملكها ، وقيل إنّه وكل أمرها إليها في التزويج فاختارت ملكا يقال له تبّع بعد أن يئست من تزويجه عليه‌السلام إياها ، وعلى الأوّل كان عليه‌السلام يزورها في كل شهر مرّة ويبقى عندها ثلاثة أيّام أداء لحقها. ثم عطف سبحانه على قصة سليمان قصة صالح عليه‌السلام ، فقال :

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧))

٤٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ ...) أي إلى قبيلة ثمود (أَخاهُمْ صالِحاً) أخاهم في النّسب لأنه عليه‌السلام مع القبيلة كانوا أبناء أب واحد (أَنِ

اعْبُدُوا اللهَ) بتقدير القول ، أي لأن يقول لهم : اعبدوا الله وحده ولا تشركوا معه شيئا (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي لمّا أمرهم بالتّوحيد ورفض الشّرك صاروا فرقتين : مصدق له ومكذب ، مؤمن به ومكذب له ثم تنازعوا فيما بينهم.

٤٦ ـ (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ ...) أي بالعذاب بقولكم ائتنا بما تعدنا (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل الثواب وقد تمكّنتم من التّوصل إليها بأن تؤمنوا (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) هلّا تتوبون إليه تعالى قبل نزوله بأمل أن يرحمكم الله؟.

٤٧ ـ (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ...) اي تشأّمنا بكم إذ تتابعت علينا الشدائد ووقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم. وقال القمّي : أصابهم جوع شديد فقالوا هذا من شؤمك وشؤم من كان معك (قالَ طائِرُكُمْ) سبب شؤمكم (عِنْدَ اللهِ) هو قدّره بكفركم أو عملكم المثبت عنده (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بالرّخاء والشدّة ليعلم حالكم.

* * *

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ

فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

٤٨ ـ (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ...) أي تسعة رجال من أشراف القوم وأكابرهم وكانوا من غواتهم ومن الأشرار. والرّهط هو اسم جمع من الثلاثة إلى العشرة. وكان منهم قدّار بن سالف عاقر النّاقة وهو أشدّهم فسادا وخبثا. والمراد بالمدينة هي المدينة التي كان بها صالح وتسمّى بالحجر.

٤٩ ـ (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ ...) أي فيما بينهم (تَقاسَمُوا) أي تحالفوا وهو فعل أمر بحسب الظاهر أو خبر بدل ، أو حال بتقدير قد (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلنّه وأهله بياتا أي ليلا عند ما يبيت الناس (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) لوليّ دمه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ما كنّا شاهدين وحاضرين حين قتلهم فكيف نكون مباشرين له (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي نحلف على صدقنا يعنون أنهم يورّون في حلفهم أو لا يحتاجون إلى التورية فان من يقتل النّبيّ والمؤمنين به أو يحضر قتلهم ، لا يتحاشى من القسم كذبا حتى يحتاج إلى التورية. فمعنى قولهم وإنّا لصادقون فيما نقول من القتل. والجواب لوليّ الدم ، أي عازمون على ذلك الأمر جزما وهذا معنى قولهم إنا لصادقون أو المراد : والحال إنّا لصادقون بجعل الواو للحال إذ الشاهد غير المباشر بزعمهم.

٥٠ و ٥١ ـ (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً ...) أي بهذا التّدبير والمواضعة (وَمَكَرْنا مَكْراً) بأن جعلناه سببا لإهلاكهم ومجازاتهم بإفنائهم جميعا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكرنا وأن فوق مكرهم مكرا. قال القمي : فأتوا صالحا ليلا ليقتلوه وعنده ملائكة يحرسونه فلمّا أتوه قاتلتهم الملائكة في دار صالح رجما بالحجارة فأصبحوا في داره مقتولين ، وأخذت قومه الرجفة

فأصبحوا في دارهم جاثمين ، أي : هالكين بالرعد أو صياح جبرائيل أو الزلزلة وكانت نتيجة مكرهم (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي التسعة الذين هم أشقى القوم وأقدموا على عقر الناقة (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني الباقين الذين كانوا راضين بعمل التسعة.

٥٢ و ٥٣ ـ (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً ...) أي فارغة خالية أو ساقطة على عروشها كأن لم يكن في الدّور ديّار (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي في تدمير الظّلمة وتعذيبهم وتخوية بيوتهم من أهلها علامة لأهل الإدراك والمعرفة فيتّعظون بها ويعتبرون كالمؤمنين والمصدّقين للأنبياء والمرسلين (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي يتّقون الكفر والمعاصي والشّرك فخصّوا بالنجاة لذلك.

* * *

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

٥٤ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ...) المراد بالفاحشة هنا هو إتيان الذّكران (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الواو للحال من ضمير تأتون ، أي حال

كونكم ترون قبحها وشناعتها ، ولذلك ما أقدم عليها أحد من الأمم السابقة. فعلى هذا المعنى ، المراد من الإبصار هو الرؤية المعنوية أي الإدراك ، واقتراب القبائح ممن هو عالم به أقبح وأفحش وأعظم ذنوبا. وقيل هو من الإبصار بالعين لأنهم كانوا يعلنون بهذا العمل الفضيح ويفعلونه مواجها بعضهم للآخر ومعاينة ومقابلة لغيره الذي ربما كان هو أيضا مشغولا به. فالارتكاب بهذه الكيفية أفحش من ارتكابه خفاء والاستفهام إنكاري.

٥٥ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) الاستفهام إنكاري أيضا ، وهو في مقام التعجّب والكره (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي سفهاء أو تجهلون عاقبتها الوخيمة أو قبحها وشناعتها ، فأنتم حينئذ كالأنعام حيث إنّ إتيان الذّكران بدل النساء وشناعة هذا العمل كالشمس في رابعة النهار وليست وليست تخفى على من له أدنى دراية.

٥٦ ـ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ...) لما أفحموا عن الجواب ولم يكن لهم منطق في قبال البرهان أمر أمراء القوم وأكابرهم قائلين أخرجوا آل لوط ، فأمروا بتسفير لوط ومن آمن به (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتبرّءون ويتنزّهون عن أعمالنا ويستنكرونها وهذا علّة للتّفسير. وهذا الجواب العملي ونحوه من الأمر بالقتل والحبس كاشف عن حقّانيّة الخصم وبطلان قول الجاحدين له حيث إن الحق مع البرهان وعدم البرهان مع الباطل.

٥٧ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ...) أي خلصناه قبل التسفير (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) حكمنا عليها كونها من الباقيين في العذاب فإنها كانت راضية بأعمال القوم وكانت نمّامة في بيت لوط عليه‌السلام ثم أخبر سبحانه وتعالى نبيّه عن عذاب القوم فقال :

٥٨ ـ (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ...) كان مطرا من الحجارة وكانت قطراته حجارة كانت مسوّمة أي مستوية صنعها عنده تعالى ، ومضى مثله سابقا.

٥٩ ـ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ ...) أي يا لوط قل الحمد لله على إهلاك الكفرة (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) اختارهم حججا على خلقه. وفي الجوامع عنهم عليهم‌السلام وفي القمّي قال : هم آل محمد (ص) وقول كثير من الأعلام وأكابر المفسّرين أن المأمور بالحمد هو سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الله تعالى لما أخبره وبيّن له في هذه السّورة قصصا دالة على كمال قدرته وعلى اختصاص أنبيائه ورسله بآيات عظيمة كقصة سليمان وقصّة صالح ولوط وهلاك أعدائهم ونصرة أوليائه والوقوف على هذه الأمور من النّعم العظيمة فلا بدّ من حمدها حيث إن العلم بهذه الأمور يصيّر الإنسان محيطا بعلمها عارفا بها ، مضافا إلى أنّ معرفتها والجواب عنها عند أسئلة الأحبار والأعلام من المعاندين وغيرهم يحسب من المعاجز والكرامات من الشخص الأمّي الذي لا يعرف قراءة كتب الأمم السّابقة ولا تعلّمها ولا درسها عند معلم ولا مدرّس. فإن الإخبار عن تلك القصص والآيات كاشف عن اتّصاله بمبدإ أعلى فوق المبادئ وفوق عالم الطبع والطبيعة وهو الله الذي لا إله إلّا هو ، الذي هو صلى‌الله‌عليه‌وآله يدّعيه ويدعو إليه عالم البشريّة طرّا فتلك الأخبار مصدّقة له فيما يدعيه وكانت من المعاجز والكرامات التي لا بدّ من حمدها وشكرها. فلذا أمره الله تعالى بأن يحمده على هذه النّعم المعنويّة ، أي العلوم والمعارف المكشوفة له في هذه السّورة بل وغيرها من السور الماضية. ويؤخذ من الكريمة أنّ الله تعالى أعطانا دستورا بأن كل إنسان يشرع في بيان مقصد ينبغي أن يبتدئ أوّلا بحمده تعالى وبعد ذلك أن يسلّم على محمّد وآله وعلى جميع أوليائه الذين لهم حق التقدّم كما هو ديدن أهل المنابر والخطباء وأصحاب الرسائل في أوائل رسائلهم ، وكذلك أرباب التأليف والصّحف والتّصانيف والأدباء الذين يجب أن يراعوا هذه السنّة الحسنة وهو سبحانه وتعالى راعى هذا المشروع حيث أنّه أمر بذلك وأخذ في مقصوده ففهّمنا وحثّنا قولا وعملا على ما فعله ثم قال سبحانه مخاطبا (آللهُ خَيْرٌ) لمن يعبده (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي ما يعبد أهل مكّة من الأصنام؟ وهذا إلزام لهم وتهكم عليهم إذ لا خير

فيما أشركوه أصلا وهم يعلمون بذلك إلّا أنّهم جاحدون. وفي الخبر أن رسول الله لمّا قرأ هذه الآية كان يقول : الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم. ثم أخذ في تعداد نعمه والمنافع والخيرات التي من آثار رحمته الواسعة والدالة على وحدانيّته وكمال قدرته لهداية خلقه عن حيرة الضلالة ، فقال عزّ من قائل :

* * *

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))

٦٠ ـ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) أي بل من خلق السماوات والأرض خير فإن الله تعالى بيّن أنه الذي اختصّ بخلق السماوات والأرض وبجعل السماء مخزنا للماء والأرض مقرّا للنّبات والأشجار وما يتحصّل منهما من الحدائق ذوات البهجة المونقة ولا يقدر على هذا الإنبات والإيجار إلّا الله ، فالمختصّ بهذا الخلق والإيجاد وهذا الإنعام يجب أن يختص بالعبادة دون غيره (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي هل يتصوّر أن يكون مع هذا الذي بتلك القدرة والعظمة كفء وشريك له يسمّى بالإله؟ تعالى الله عمّا يقول الظالمون ولا سيما من الأجناس الجوامد كالأصنام المنحوتة بأيديهم والأوثان المصنوعة من عند أنفسهم (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يعرضون عن الحق الظاهر وهو التوحيد ، إلى الباطل الظاهر وهو الشّرك

٦١ ـ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ...) هذه الآية بدل (أَمَّنْ خَلَقَ) وكذلك ما بعدها. بل من جعل الأرض هكذا بأن دحاها وسوّاها مستقرا للمخلوقات الذين عليها متوسطة في الصلابة والرخاوة وجعلها كثيفة غبراء ، أما كثيفة فليستقر عليها النور ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها وأما غبراء فلأنها أحسن الألوان لما كانت قرارا للنور و (جَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي الجبال لأن تثبّتها ولئلّا تميد وتتزلزل مع ما فيها من المعادن والعيون والأبخرة

التي تكون مادة للعيون والأنهار تجري من الجبال وتنحدر منها ، وغيرها من المنافع المودعة في الجبال لا يعلمها إلّا الله (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والمالح (حاجِزاً) أي برزخا لئلّا يختلطا فيفسدان بالاتّصال. وهذا من أعجب أعاجيب الدهر وخلاف الطبع والطبيعة وكمال القدرة. والحاجز بينهما شيء خفي لا نعلمه هنا إلّا بكلمة كن ، وإلّا فليس هو شيء تراه العيون وهو أعلم بما يكون. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الاستفهام للاستنكار ، أي لا يكون معه إله أبدا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحق لعدم تدبّرهم وتفكّرهم فيشركون.

٦٢ ـ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ ...) أي بل من يجيب المضطر خير ، والاضطرار هو الحالة المحوجة إلى الالتجاء ، والمضطر هو الذي أحوجه أمر أو نازلة من نوازل الدهر أو مرض أو فقر إلى التضرّع إلى الله لدفعه فإن قيل إن الآية قد عمّت المضطرين وكم من مضطرّ يدعو فلا يجاب له؟ فجوابه : أن المفرد المعرّف لا يفيد العموم وإنّما يفيد الماهية فقط ، والحكم المثبت للماهية يكفي في صدق ثبوته في فرد من أفراد الماهية على أنه تعالى وعد بالإجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) فهذا كالتفسير للاستجابة والمعنى أنّه يزيل عن عباده ما يسوؤهم (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) بتوارثكم سكناها والتصرّف فيها قرنا بعد قرن (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الذي متّعكم بهذه النّعم ، أفلا تتدبّرون فتعرفوا وليّ نعمكم التي تمتّعتم بها؟ أوليس شكر المنعم بواجب عقلا؟ وهل شرككم بالله هو شكركم له في مقابل إحسانه إليكم؟ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تتذكّرون تذكرا قليلا ، و (ما) زائدة للمبالغة ، أي تتّعظون اتّعاظا قليلا ، أو المراد أن المتّعظ قليل. وفي القمّي عن الصادق عليه‌السلام قال : نزلت في القائم من آل محمد صلّى الله عليه وعليه‌السلام هو والله المضطرّ إذا صلّى في المقام ركعتين ودعا الله عزوجل فأجابه ويكشف السّوء ويجعله خليفة في الأرض.

٦٣ ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ ...) أمّا هدايته في البراري فبعلامات

أرضيّة ، وأمّا في البحار فبالنجوم والكواكب ولعلّ المراد من ظلماتهما ظلمات اللّيل فيهما ، ويكفي في الإضافة أدنى الملابسة ، أو المراد مبهمات طرقهما ومشتبهاتها وربما يعبّر عن الأمور المبهمة بالظلمات المناسبة بينهما. (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدّام المطر وإذا كان الإخبار بذي المقدمة بشارة فبمقدّمته كذلك ، وما نحن فيه من هذا الباب (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي لا إله إلّا الله وحده لا شريك له (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)

٦٤ ـ (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) أي بل من يوجد المخلوقات من العدم وبعد الإيجاد يفنيهم ثم يعيدهم ، هل هو خير وأهل للعبادة أم الممكن العاجز الذي لا يقدر على شيء؟ (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بأسباب سماوية كالمطر وأرضية كالنبات والثمرات (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يفعل شيئا مما ذكر (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على أنّ مع الله إلها آخر (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم من أن لله شريكا.

٦٥ ـ (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي من الملائكة والثقلين لا يعلم (الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) الاستثناء منقطع ورفعه (أي المستثنى) على لغة تميم (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي ما يحسّ أهل السّموات والأرض متى يحشرون و (أَيَّانَ) مركّبة من (أيّ) و (آن) بمعنى الوقت فصار علم الساعة من علم الغيب.

٦٦ ـ (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ...) أي تتابع منهم العلم وتلاحق حتى كمل علمهم في الآخرة وبعبارة أخرى يزيد على علمهم الدنيوي في الآخرة (وهذا معنى التدارك وحقيقته) بما أخبروا به في الدنيا. واللفظ بصيغة الماضي لكن المراد به الاستقبال ، أي يتدارك علمهم في الآخرة ويتكامل. وقيل إن الآية إخبار عن ثلاث طوائف : طائفة أقرّت بالبعث ولكن لا علم لهم بوقته ، وطائفة شكّت فيه ، وطائفة من المنكرين كما أخبر عنهم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي من الآخرة ، عميان القلوب ، جهلة ، لأنّ الله تعالى ختم على قلوبهم ، فعليها غشاوة فهم لا

يبصرون الحجج والآيات الباهرات ففي تيه الضلالة والجهل هم غارقون ولذا ينكرون البعث والحشر بل الآخرة مطلقا ويقولون :

٦٧ و ٦٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) أي آباؤنا كانوا ترابا هل نحن وآباؤنا مخرجون من الأجداث أو من ضيق الفناء إلى سعة الحياة الأبديّة كما يقولون ويزعمون؟ الاستفهام إنكاريّ عنوا بذلك أنّ الأمر ليس كما زعموا (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيب السّابقين الذين كانوا قبل محمد (ص) ، ولقد وعدوا آباءنا بهذا فقول محمد (ص) ووعيده كقولهم ووعيدهم مختلقات وأباطيل.

* * *

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

٦٩ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي مرهم بالسّير الآفاقي حتّى ينظروا في مساكن أهل الشرك ودورهم كيف سقطت على عروشها ولم يكن فيها أحد كديار الحجر والأحقاف والمؤتفكات ، ويتفكروا كيف كان عاقبة المجرمين ، والكريمة تهديد لكفرة أهل مكة ومشركي قريش على تكذيبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنبيه لهم ليعتبروا فيتوبوا إلى ربّهم من جرمهم وعصيانهم.

٧٠ ـ (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...) أي على تكذيبهم وإعراضهم (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) لا تضيّق صدرك بالحرج من مكر الماكرين فإن ربّك عاصمك وحافظك من الناس ومن كيدهم. والآية الشريفة تسلية للنبي الأكرم وتقوية له ووعد بالغلبة عليهم بحوله وقوّته جلّ وعلا.

٧١ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي متى تحقّقه وثبوته وإنجازه ووقوعه إن كنت صادقا في قولك؟

٧٢ ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ ...) أي سيلحقكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) قسم ممّا تطلبون معجّلا ، وحصة منه راجعة إلى الدنّيا وهو عذاب يوم بدر أو حلول القحط والغلاء الشديد ، ومشاهدة العذاب حين نزع الروح. واللام في (لَكُمْ) زائدة للمبالغة ، أو لتضمين ردف معنى دنا ، أو قرب ونحوهما مما يتعدّى بها وذكر (عسى ولعل وسوف) في مواعيد الملوك في حكم تحقّق الأمر وإنجازه ، وذكر العذاب كناية وعدم التصريح به يعنون بذلك إظهار وقارهم وعظمتهم وأن رمزهم بمنزلة التصريح من غيرهم. فكيفية وعده ووعيده جلّ وعلا نوع يصدر على نهج كلام الملوك ، ويجري كلامه على حذوه فإنه مالك الملوك وخالقهم ومعطي السلطان والملك لهم.

٧٣ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ ...) ثم إنه سبحانه بين السبب في عدم تعجيل العذاب فقال (وَإِنَّ رَبَّكَ) أي أنه تعالى متفضّل على عباده حتى الكفرة منهم ومنه تأجير عقوبتهم لعلّهم ينتبهون فيتوبون إلى ربهم الرحيم بهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فضله وحقّ نعمته عليهم ، وهم من غاية جهلهم وحمقهم يستعجلون وقوع العذاب عليهم.

٧٤ و ٧٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ...) أي ما تخفيه من الحقد والحسد والمكر والحيل (وَما يُعْلِنُونَ) من التكذيب وإظهار العداوة فيجازيهم بهما (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فما من شيء من الأمور الخفيّة من حوادث الدهر ونوازله وغيرها إلّا

وهو مكتوب ومبيّن في اللوح. ويشتّم من الكريمة أنها لدفع شبهة مقدّرة وهي أنه تعالى كيف يعلم ما تكنّ الصّدور ومنويّات البشر مع غاية خفائها؟ فأجاب عن هذه الشبهة بأنه ما من خافية إلّا وهي مسطورة ومقومة في كتابنا ، فكلّ شيء مبيّن وظاهر عندنا قبل ظهوره وبروزه عندكم.

* * *

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

٧٦ و ٧٧ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ...) أي يبيّن لهم ما يختلفون فيه من جهلهم وعدم إدراكهم كأمر عزير وقصة مريم وعيسى وأحوال المعاد الجسماني والرّوحاني وصفات الجنّة والنار ، والقرآن بحدّ ذاته وبما فيه هدى ورحمة لمن آمن وصدّق.

٧٨ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ...) أي بين من آمن من بني إسرائيل ومن كفر منهم (بِحُكْمِهِ) بما يقتضي به عدله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يغلب (الْعَلِيمُ) بالقضاء بالحق.

٧٩ ـ (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ...) أمر نبيّه بعد ظهور نبوّته وإظهار حججه بأن يتوكّل على الله ولا يعتني بأعدائه فقال سبحانه : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ

عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي صاحب الحق والحقيقة ، حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره.

٨٠ و ٨١ ـ (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) التعبير عن الكفرة بالموتى لأنهم مثلهم لعدم انتفاعهم بما يقرأ عليهم ، ومن هذا القبيل قوله تعالى (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) إذا أعرضوا عن الاستماع وجعلوا دعوة الدّاعي وراءهم ، وصار رجاء الاستماع والانتفاع منقطعا عنهم لأن من يلتفت للدعوة يرى الرمز والاشارة ويلتفت ويفهم ما يتلى عليه بخلاف المدبر الذي لا يستمع دعوة الداعي ولا يمكن أن يفهمها رمزا وإشارة ؛ وهذا هو الوجه في التقييد (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) والعمي جمع أعمى ، ويحتمل قويّا أن يراد عمي القلوب لا العيون الظاهرية ، ويؤيّده تعلّق الضلالة بالهادي ، لأن المراد بها الجهالة والعبد عن طريق الحق وهو أمر معنوي ، فأنت لا تسمع من يؤمن (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون بالتوحيد.

* * *

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

٨٢ ـ (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ...) أي قرب وقوع المقول وهو ما وعدوه من البعث والعذاب (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) تضافرت الأخبار أنّ الدابة أمير المؤمنين ومعه عصا موسى وخاتم سليمان يسم المؤمن والكافر فيضع الخاتم على وجه كل مؤمن فيطبع فيه : هذا مؤمن ، ويضعه على وجه كلّ كافر فيكتب : هذا كافر (تُكَلِّمُهُمْ) أي فيقول لهم حاكيا لقول الله : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) بالقرآن أو بخروجها واختلف في خروج الدابة هل هو من علائم الساعة وأشراطها أو عند الرّجعة وعند قيام المهديّ عليه‌السلام.

٨٣ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ...) أي في الرجعة عند قيام الحجّة سلام الله عليه وعلى آبائه أجمعين كلمة (مِنْ) للتبعيض و (فَوْجاً) بمعنى جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا مِنْ) بيان للفوج وهم رؤساؤهم وقادتهم والمراد بآياتنا إمّا القرآن أو الأئمة عليهم‌السلام. (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ويتلاحقوا. وفسّرت في الأخبار بالرّجعة بالحشر الأكبر.

فاليوم المشار إليه في الكريمة الذي يحشر فيه قوم دون قوم ليس يحمل صفة يوم الحشر الأكبر الذي يقول فيه سبحانه ما ذكرناه آنفا من الآية. وقد تضافرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلوات الله عليهم أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه قوما ممّن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ، ويعيد قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقّونه من العقاب في القتل على أيدي شيعته وليروا الذّل والخزي بما يشاهدون من علوّ كلمته. وهذا أمر مقدور له تعالى غير مستحيل عقلا في نفسه وقد فعل الله سبحانه مثله في الأمم الخالية ونطق به القرآن في عدّة مواضع منها قصّة عزير وغيره. وقد صحّ عن النبيّ الأكرم سيكون في أمّتي كلّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو أن أحدهم دخل في جحر ضبّ

لدخلتموه. وتأوّل جماعة من الإماميّة الأخبار الواردة في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي للمهديّ عليه صلوات الله بحيث يكون هو المطاع وهو الآمر والناهي مطلقا على وجه الأرض دون رجوع للأشخاص وإحياء الأموات ، وأوّلوا جميع ما ورد في هذا الباب لشبهة حصلت لهم ، وذكرها والجواب عنها خروج عن موضوعنا الذي نحن فيه. وبالجملة فهذا المعنى الذي بيّناه بناء على أن المراد من هذا الحشر هو الرجعة المهدويّة إن شاء الله تعالى ، وأما بناء على قول من قال هو الحشر الأكبر أي يوم القيامة فإن المراد بالفوج هو الجماعة من الرؤساء والمتبوعين في الكفر يحشرون ويجمعون لإقامة الحجة عليهم.

٨٤ ـ (حَتَّى إِذا جاؤُ ...) أي إلى الموقف (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟) قال الله تعالى لهم مستهزئا ومقرّعا : هل كذّبتم بالقرآن أو بالمعاجز التي صدرت على أيدي الأنبياء والرّسل؟ هذا بناء على أن الموقف كان المراد به موقف القيامة ، وأما بناء على أن المراد منه موقف الحجّة المهدي صلوات الله عليه فالآيات هي الأئمة الهداة عليهم‌السلام (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) في حال أنهم لم يتأمّلوا فيها حتى يحصل لهم العلم بحقيقتها وتعرفوها حقيقة المعرفة فتحيطوا بها إحاطة علميّة كاملة (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أم أيّ شيء كنتم تعملونه إذا لم تكذّبوا بها؟ وهذا السؤال للتبكيت ولتسكيتهم إذ لم يعملوا سوى التكذيب.

٨٥ ـ (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ...) أي حلّ بهم العذاب الموعود وغشيهم العقاب في النار (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم بالتكذيب بآيات الله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) بعذر من الأعذار لعدمه ولشغلهم بالنّار.

٨٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ ...) أي خلقناه (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) يستريحوا فيه بالنّوم والدّعة (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) لطلب المعيشة (إِنَّ فِي ذلِكَ) في خلق الليل والنهار متعاقبين (لَآياتٍ) دلالات لهم على التّوحيد

والنبوّة والبعث والنشور ، إذ تعاقب النور والظّلمة إنما يتمّ بقدرة قادر ، ويشبّه النوم بالموت ، والانتباه بالنشور والبعث ، ولأنّ من جعل ذلك لبعض مصالحهم كيف يهمل ما هو مناط جميعها من بعث الرسول إليهم؟.

* * *

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

٨٧ ـ (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ...) الصور شيء يشبه القرن ، أو هو قرن يشبه البوق كما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل إن الصور جمع صورة ، والمراد هو : يوم ينفخ في صور الخلائق لتعود إلى الأجساد. والحقيقة أنه البوق الهائل العجيب الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام بأمر من الله تعالى ثلاث نفخات كما نصّ القرآن الكريم ، والنفخة الأولى هي نفخة الفزع (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) والثانية نفخة الصّعق يدل عليها قوله في موضع آخر (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ) الآية والثالثة نفخة (القيام لرب العالمين) تسمّى نفخة الإحياء أما الأولى فيخاف منها كل من في السّماوات خوفا شديدا وكل من في الأرض بحيث يغشى عليهم

وبعضهم يموت من شدة الفزع وإليها أشار بقوله (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) وأمّا الثانية فيموت كل من في السّماوات والأرض إلّا جبرائيل وميكائيل وإسرائيل وعزرائيل وحملة العرش وهؤلاء هم الذين استثناهم الله بقوله (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهؤلاء أيضا يموتون بإذن ربّهم فإن الله تعالى يتوفّاهم بقوله (مُوتُوا) وفي الثالثة يحيي كلّ من في السّماوات ومن في الأرض جميعا (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إشارة إلى هذه النفخة ، وداخرين : صاغرين ، يعني يأتون إلى الموقف أذلّاء منقادين بعد أن كانوا متكبّرين مطاعين متمرّدين عن إطاعة ربّ العالمين ومالك يوم الدّين.

٨٨ ـ (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ...) أي ثابتة واقفة في مقرّها (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) في السرعة ، والوجه في حسبانهم أنّها جامدة فلأنّ الأجرام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السّمت والكيفية يظنّ الناظر إليها أنّها واقفة مع أنها تمرّ مرا حثيثا. وفي مثل هذا المعنى قول النابغة الجعدي يصف جيشا كثّابا.

بأرعن مثل الطّود تحسب أنهم

وقوف لحاج والرّكاب تمهّج

أي تحسب في مرأى العين أنّهم وقوف لكثرتهم فكذلك الجبال إنك لا ترى سيرها لبعد أطرافها وسرعة سيرها كما لا ترى السحاب إذّا انبسط في قطر بحيث لا ترى أطرافه إذا عمّ تمام الفضاء فهو في حين حركته يتخيّل الرائي أنه واقف مكانه لا يسير ولا يتحرك. وقد شاهدنا هذا المعنى في الطيّارة التي ركبناها وكنا فيها من باب الاتفاق والصدفة عند نافذة فيها فكنّا ننظر إلى خارجها من وراء الزجاجة التي كانت على الكوّة فتبدو لنا الطيارة واقفة لا تتحرّك قط مع علمنا بغاية سرعة سيرها. وفي أقل قليل من الأوقات كان جناحاها يتحرّكان بحركة يسيرة دقيقة (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) من ذلك الصّنع فخلق النملة التي

في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ولو تأمّلت في مجاري أكلها وما في البطن من أمعائها وما في الرأس من عينيها لقضيت من خلقها عجبا ولقيت من وصفها تعبا وهي مع كل هذا تفكر في رزقها وتنقل الحبة إلى جحرها وتجمع في يوم رخائها لشدّتها وفي حرّها لبردها. وانظر إلى النّحل أيضا في دقة خلقته وجمال صنعه وعظم منفعته يأكل من أحسن ثمرة الأشجار وأزهار النّبات ، ويخرج لنا غذاء لذيذا وشرابا صافيا ودواء شافيا ، صنع الله العظيم جلّت قدرته .. والصنع مصدر مفعول لفعله المقدّر ، أي صنع الله تعالى ذلك صنعا وأتقن : أي أحكم صنع كلّ شيء (صَنْعَةَ) ؛ خلقه وسوّاه على ما ينبغي (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم بها وعليها. ثم أخبر سبحانه عن جزاء أعمال الفريقين فقال :

٨٩ و ٩٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ...) يحتمل أن يكون كلمة (مَنْ) الجارّة نشئيّة أي نشأ وتولّد من عمله الحسن عمل خير له في الآخرة كالثواب والأمان من العقاب ، فخير هنا اسم وليس اسم تفضيل. وقيل معناه : فله أفضل منها في عظم النفع لأنه يعطي بالحسنة عشرا ، أو لأن فعل العبد يفنى والثواب فعل الله وهو يبقى ، فيكون أفضل بدرجات لا تحصى ، أو الثواب في كثير من الموارد هو رضوان الله وهو أكبر وأعظم (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) وقرئ بالإضافة. ومن المحتمل قويّا أن هذه الجملة مفسّرة للخير كما احتملناه أوّلا في المحتملات المزبورة آنفا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا في النار على وجوههم. ويحتمل أن يكون المراد هو الإلقاء منكوسا بأن يجعل أعلى الشيء أسفله وبالعكس ، فيلقونه بهذه الكيفيّة في النار على رؤوسهم. ولعلّ الأوجه هو التفسير الأوّل بظاهر اللفظ ، وعليه عبّر بالوجوه عن ذواتهم ويقال لهم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيقال لهم : أن هذا جزاء أعمالكم التي فعلتموها وليس بظلم. وروى مسندا في المجمع عن أمير

المؤمنين عليه أفضل الصلاة أنه قال في تفسير هذه الآية : الحسنة حبّنا أهل البيت والسّيئة بغضنا

* * *

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

٩١ ـ (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ...) أي قل يا محمد : أنا مأمور من عند ربّي أن أعبده وهو (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكّة ، والإضافة تشريفيّة لشرافتها وعظمتها ، ولهذا قال (الَّذِي حَرَّمَها) من كلّ ما يستلزم هتكها كالمقاتلة فيها ، ومجيء المشركين والكفرة إلى المسجد الحرام ، وقطع شجرها وحشيشها ، وصيد الحيوانات بل تنفيرها ، فمنع ذلك كلّه ، وجعلها حرما آمنا. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أن قريشا لمّا هدموا الكعبة وجدوا في قواعدها حجرا فيه كتاب لم يحسنوا قراءته حتى دعوا رجلا قرأه فإذا فيه : أنا الله ذو بكة حرّمتها يوم خلقت السماوات والأرض ووضعتها بين هذين الجبلين ، وحففتها بسبعة أملاك حفا (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) خلقا وملكا (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من المنقادين.

٩٢ ـ (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى ...) : بإجابته لي في ذلك (فَإِنَّما) إلخ ، لعود نفعه إليه (وَمَنْ ضَلَ) بترك الإجابة (إِنَّما أَنَا مِنَ

الْمُنْذِرِينَ) أي فما عليّ إلا الإنذار والبلاغ وليس عليّ وبال العقوبة دنيوية وأخروية.

٩٣ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) على نعمة النبوّة ومنافعها العائدة إليّ من العلم النافع والعمل الصّالح (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) القاهرة في الدنيا والآخرة (فَتَعْرِفُونَها) وتصدّقونها (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يمهلكم لوقته المحدّد. وهذه الشريفة تهديد لمشركي قريش أوّلا ولسائر المخلوقين ثانيا.

* * *

سورة القصص

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

١ ـ (طسم) ... معناه كسائر الفواتح من السّور وقد تقدّم فلا نعيده.

٢ ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ...) إشارة الى الآيات. فمعناه والله أعلم يحتمل

أن يكون الآيات المذكورة في هذه السورة (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) النازلة من اللّوح المحفوظ أو آيات الكتاب الذي وعد الله بإنزاله على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون معجزة باقية له. ويقوّي الأخير في النظر أنّ السرّ في اتّصافه بالمبين هو لا بدّ أن يكون لنكتة بيان ذلك. والمبين من أبان الشيء بمعنى أوضحه فهو بمعنى الموضح ، فوصف به الكتاب في كثير من الموارد رمز لأمر مهم وإلّا فكل كتاب موضح لقصد مؤلفه ومصنفه من حيث اشتماله على الحجج والبراهين على حسب استعداد المؤلّف ومراتب علمه ومعرفته.

فوصف هذا الكتاب به ليس فيه كثير فائدة فيصبح هذا التقييد شبيها بتوضيح الواضحات. وكتاب الله منزّه عن ذلك فلا بد من بيان الفارق ، وذلك أن هذا الكتاب محتو على مقاصد مهمّة وراء مقاصد المخلوقين في تآليفهم وكتبهم ، لأن الله تعالى أنزله على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليكون بنفسه مثبتا لرسالته ومصدّقا لما يقول وليتحدّى الناس به ، من قوله أوّلا : أيّها الناس قولوا لا إله إلّا الله وغيره من الأحكام والشّرائع والإنذار والبشارة إلخ ... وكيف يكون هذا الكتاب بنفسه مثبتا لما ذكرناه لاشتماله مع قطع النظر على الفصاحة والبلاغة التي عجز فصحاء العرب أن يأتوا ولو بسورة من مثله ، ففيه أمور غريبة عجيبة كإخباره عن المغيبات التي لا يعلمها إلّا الله وكأحوال أنبياء السّلف وأممهم مع فراعنة عصورهم ، وكخلق السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما ومبدأ نشوء الإنسان وخلقه وغير ذلك من العلوم البديعة والمعارف الغريبة التي لم يكن يعرفها غيره تعالى ، إلّا من خوطب بهذا الكتاب وأنزل عليه. وتلك المقاصد الرفيعة السّامية لا بدّ أن تبقى إلى الأبد ، فالمثبت لها والموضح كذلك أبديّ كما أنه تعالى وعدنا بحفظه وإبقائه بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فأين من هذا الإيضاح ورب الأرباب؟ إيضاح سائر الكتب ، واين التراب والحاصل أنه لا بد من ذكر وصف الابانة والإيضاح في كل ما يذكر فيه الكتاب الكريم حيث إنّه أبدى مثل الموصوف. وهذا البيان بناء على أن (الْمُبِينِ) من أبان

بمعنى أوضح وأظهر ، وأما بناء على كونه من أبان بمعنى اتضح وظهر لأن أبان استعمل متعدّيا ولازما على ما هو المعروف في كثير من موارد باب الأفعال ، فالمبين معناه الواضح والظاهر والمتّضح. فعلى هذا فوصف الكتاب به في بادئ النظر مشكل ، لأن المراد بالواضح إن كان وضوحا بحسب الألفاظ فليس هذا له هذه الأهميّة حتى يكرر بهذا المقدار ويهتم به هذا الاهتمام فإن كثيرا من كتب أرباب الصّحف ورسائل أرباب المراسلات كان أوضح وأظهر من ظواهر ألفاظ القرآن بمراتب فليس هذا أمرا قابلا لأن يتصف كتاب الله به ، وإن كان لوضوح بحسب المعنى فالظاهر أنه ليس الأمر هكذا ، كيف وإن للقرآن بطونا لا يعرفها إلّا الله سبحانه ومن خوطب به ، هذا مع أن في القرآن آيات محكمات يمكن القول بوضوح معانيها إلى حدّ ظاهرا ، وأمّا آياته المتشابهة فليست معانيها ظاهرة بل هي بمقتضى الروايات لا بدّ من ردّ عملها إلى الله والرسول. وهذه أجوبة نقولها بعقولنا القاصرة وننسجها في تآليفنا وليست بأجوبة كافية شافية في كتاب إلهيّ أنزله الله من فوق سبع سماوات على نبيّه (ص) لهداية عامة البشر وليكون حجة على نبوّته وسلطانا على خصمائه ومعجزا باقيا لرسالته على دهر الدّهور. فهذا كتاب لا ترقى إليه أفكار ذوي الفكر ولا تناله عقول ذوي الألباب نحن إنّما نقول فيه من تفسيره عشرا من أعشار هذا البحر المتلاطم الزخّار من العلوم والمعارف وما نقوله ملتقطات من خزائن علمه تعالى ورشحات من فيوضاتهم عليهم الصلاة والسلام لا من عند أنفسنا وآرائنا. فالحق أن المبين في موارد توصيف الكتاب الكريم به معناه الموضح والمظهر بالبيان المتقدم من أبان بمعنى أوضح المتعدّي.

٣ ـ (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى ...) أي نبيّن لك بأمرنا جبرائيل نقل بعض قصص موسى (بِالْحَقِ) بالصّدق وبالحقيقة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) متعلّق ب (نَتْلُوا) أي لمن نعلم بأنهم يصدّقون ويعتقدون به فإنّهم الذين ينتفعون بالتلاوة حيث إنّهم أهل الفكر والتدبّر والاعتبار من القصص وأخبار السّلف.

٤ ـ (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ...) أي فرقا ، أذلّ بعضهم بالاستبعاد والاستعمال في الأعمال الشاقة كطائفة بني إسرائيل ، وأعزّ الآخرين بإعطائهم المناصب الرفيعة والمقامات العالية السامية كالقبطيّين. والتفريق شأن الملوك وزعماء السياسة والاستبداد فإنهم يفرقون بين الأمّة والشعب ويجعلونها أحزابا ويتوسّلون به إلى نيل مقاصدهم معتمدين على قاعدة : فرّق تسد ، ولذا نهى الله تعالى عن التفرقة وقال (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يعني كونوا حزبا واحدا له تعالى ويؤيّد هذا التفسير قوله تعالى : (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً) أي بني إسرائيل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) هذا بيان وتفسير للاستضعاف ، أي يقتل الأبناء لأنه أخبره الكاهن بأنّه يتولّد ولد من بني إسرائيل يزيل ملكك ويهلكك وقومك. وفي الكشاف أنه قتل تسعين ألفا من أولاد بني إسرائيل ذكورا وكان يخلّي النساء والبنات ويستخدمهنّ لحرمه ولنساء القبطيّين ، وهذا معنى الاستحياء. ونقل عن السّدي أنّ فرعون رأى في منامه أن نارا وجدت من ناحية بيت المقدس وأحرقت بيوت مصر والقبطيين وسلم منها بنو إسرائيل. فبعث إلى العلماء المعبّرين والكهنة وسألهم عن تعبير الرؤيا فقالوا سيظهر من هذا البلد رجل يكون إزالة ملكك وهلاك نفسك وقومك على يده ، فمن ذلك اليوم أخذ فيما فعل كما ذكر في الآية وأمر بتفريق نساء بني إسرائيل عن رجالهن واستخدم النسوان لنساء أهل القبط. فهو من المفسدين في الأرض.

٥ و ٦ ـ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ...) أي نتفضّل (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) بخلاصهم من بأسه في المآل. والجملة حال من (استضعف) أو حكاية حال ماضية (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقدّمين في الدّنيا والآخرة (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك فرعون وأمتعته وأمواله وأملاكه وكل شيء من الفرعونيّين (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) نقوّيهم ونشدّ أزرهم ونسلّطهم على أرض مصر ومكان سلطة فرعون وأرض الشام (وَنُرِيَ

فِرْعَوْنَ وَهامانَ) (وزيره) (وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي من بني إسرائيل ما كانوا يخافون من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. وفي تفسير الكريمة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) إلخ روايات كثيرة بأنّها جارية في آل بيت محمد صلّى الله عليه وعليهم أجمعين إلى يوم القيامة يبعث الله مهديّهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذلّ أعداءهم وفي نهج البلاغة قال عليه‌السلام لتعطفنّ علينا الدّنيا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها ، وتلا عقيب ذلك : (وَنُرِيدُ) الآية ... والفرس الشموس هي المستعصية على راكبها ، والضّروس الناقة السيئة الخلق التي تعضّ من يحلبها ولا تعطف إلّا على ولدها.

* * *

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ...) أي ألهمناها وقذفنا في قلبها ، ولم يكن بوحي نبوّة لكنها اطمأنّت إلى الإلهام (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما أمكنك إخفاء الولد وفي بعض الروايات لمّا ولد موسى وخرجت القابلة من عند أمّه قررت القابلة أن تخفيه فدخل جماعة من جواسيس فرعون بيت أم موسى غفلة

فلفّته أخته في خرقة ووضعته في التنّور وخالة موسى كانت غافلة عن هذا الأمر فأشعلت النار في التنّور لاختباز الخبز فلما دخل الجواسيس البيت وتفحّصوا ما وجدوا في البيت غير تنّور مشتعل ولما خرجوا سألت أمّ موسى أخته أين الولد؟ فقالت في التنّور فلمّا دخلت عليه وجدته قاعدا يلعب وأطرافه مشتعلة فأخرجته سالما ، وعلموا أن هذا هو الموعود. والحاصل أن الله تعالى أوحى إليها بأنه (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) بأن أحسست باشتهار أمر الولد فخفت عليه الأخذ والقتل (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي النيل (وَلا تَخافِي) ضيعته وغرقه (وَلا تَحْزَنِي) على فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) سالما عمّا قريب (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) نعطيه منصب الرّسالة ورتبة النبوّة. والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف هو الغمّ الذي يحصل للإنسان لأمر متوقّع ، والحزن هو الغم الذي يحصل للأمر الحاصل والواقع على الإنسان. وبالجملة فأرضعته ثلاثة أشهر ثم الحّ فرعون في طلب الصبيان فخافت عليه الجواسيس شديدا فوضعته في تابوت مطليّ داخله بالقار وأغلقته وألقته في البحر (أي النيل).

٨ ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...) بتابوته ، فوضع بين يديه وفتح وأخرج منه موسى عليه‌السلام (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) والالتقاط إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون جواريه ، واللام في (لِيَكُونَ) لام العاقبة ومعناه : أنهم ما التقطوه إلّا ليكون لهم قرّة عين وراحة قلب ولكن انتهى هذا الالتقاط بالحزن لهم والعداوة عليهم كقول الشاعر : لدوا للموت وابنوا للخراب ، أي عاقبة الولادة الموت وعاقبة البناء الخراب فكأنّهما علّتان للعملين ، وهكذا ما نحن فيه فإن العمل تابع للنتيجة فإذا صارت النتيجة العداوة والحزن فكأنهما علّتان للالتقاط .. أمّا قصّة تهيئة أم موسى للصندوق ومن صنعه لها فذلك أنها لمّا أدركت وشعرت بأن فرعون مجدّ في طلب أبناء بني إسرائيل ذهبت إلى نجار من أهل القبط وطلبت منه أن يصنع لها صندوقا طوله خمسة أشبار في ثلاثة عرضا ، فلما صنعه لها النجّار ألحّ عليها بأن يعرف وجه طلبها منه هذا الصّندوق فأبت أن تقول له ، فاجتهد في ذلك فأظهرت

له واقع الأمر خوفا من الكذب بأن لهما ولدا تريد أن تجعله فيه وتخفيه من فرعون. ومن المصادفات أن القبطيّ كان من أقارب فرعون وممّن اعتقد به ، فأعطاها الصّندوق وسار وراءها حتى يعرف بيتها فلما عرفه مشى إلى جواسيس فرعون ليعلمهم بالقضية ، فأمسك الله لسانه وجعل يشير بيده ، فضربوه وطردوه إذ لم يفهموا منه شيئا. فلمّا عاد الى دكانه انطلق لسانه ، فذهب مرة أخرى ليخبرهم فأخرسه الله تعالى فضربوه وطردوه حملا على السفاهة والجنون ، فعاد الى الدكان فردّ الله إليه لسانه ، فذهب مرّة ثالثة فأخذ الله بصره ولسانه فرجع إلى موضعه ودكانه بعد أن ضربه الجواسيس شديدا وطردوه فجعل بينه وبين الله عهدا إنّ ردّ عليه بصره ولسانه أن يتوب عن عمله فعلم الله منه الصّدق فردّ عليه بصره ولسانه فجاء إلى بيت أم موسى وقصّ عليها الأمر وآمن بموسى لأنه افتهم أن الأمر يدل على أن هذا هو المولود الذي وعد الكهنة بمجيئه ، وعلم أنه على الحق. وهذا الرجل هو الذي سمّي بحبيب النجار ، وهو المعروف بمؤمن آل فرعون ، ولعله كان أوّل من آمن بموسى لأنه آمن به وهو ابن ثلاثة أشهر على قول أو أقل ، وكان ثابتا في إيمانه وروي أنه كان لفرعون بنت ابتليت بالبرص ، وكان الكهنة أخبروها بأنه في يوم كذا من شهر كذا وسنة كذا يوجد حيوان في صورة إنسان صغير في النيل وزوال هذه العلّة يكون بريقه. وطابق اليوم يوم ما ألقت أمّ موسى الصّندوق في البحر والتقطه آل فرعون ، فلما أخرج موسى من التابوت ألهمت بنت فرعون أن هذا الصّبي هو الذي أخبر الكهنة به ، فعمدت إلى ريقه واستشفت به فدلكت أعضاءها به فبرئت من مرضها في الحال ، فألقيت محبّته في قلب فرعون وامرأته وجواريه وبالأخص في قلب البنت (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) قيل إنه من الخطأ لأنهم ما شعروا أنّه الذي يذهب بملكهم ويهلكهم إلى آخرهم.

٩ ـ (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ...) لمّا أراد فرعون قتله بعد أن حذّروه قالت آسية زوجته : لا تقتل

الصّبي عسى أن يكون قرة عين لي ولك أي ضياء عيننا جميعا فإنه بسببه عوفيت بنتنا من علتها فانصرف فرعون عن قتله وما شعر بأنه قاتله فكيف يخلّي الإنسان الفطن سبيل قاتله بقول امرأة هو قرة عين لي ولك؟ وعقّبت قولها هذا بقولها الآخر حتى تيقّنت انصرافه. وزوجته هذه ما آمنت بفرعون قط وكان قلبها منوّرا بنور الايمان ، فهي مؤمنة بنبيّ زمانها وقد آمنت بعد ذلك بإله موسى وصدقته بما جاء به من عند ربه وذلك سبب قولها (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) حيث إن فيه مخايل الخير واليمن ودلائل النفع والبركة من برء برص ابنتك وارتضاعته من إبهامه والنور السّاطع من بين عينيه ، فإن هذه المؤمنة شعرت بنور إيمانها أن هذا المولود هو الموعود فلذا اهتمّت غاية الاهتمام في حفظه وحراسته وأيّدت ما ذكرت من قوليها بقولها (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي نتبنّاه فإن هذا الولد أهل لذلك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يحتمل أن يكون من تتمّة قول آسية سلام الله عليها. والضّمير البارز راجع إلى الناس أو إلى الملتقطين ، أي أنّهم بعد مدّة تمضي عليه لا يعرفون أنه هو الذي التقطوه من النيل وينسونه. أو هي ابتداء كلام من الله تعالى أي : هم لا يشعرون أنّه هو الذي ذهاب ملكهم على يديه أو هم على خطأ في التقاطه.

* * *

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ

عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

١٠ ـ (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ...) أي صار قلب أمّ موسى فارغا أي خاليا من الصّبر والعقل لدهشتها حينما سمعت أن الصّندوق وصل إلى يد فرعون ، فوقعت فيما تفرّ منه (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي أوشكت أن تقر وتعترف بأنه ابنها جزعا. و (إِنْ) مخففة ، يعني أنّها كان قريبا أن تظهر الأمر (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أوثقناه وأحكمناه بالصّبر والثّبات. وجواب لو يدلّ عليه ما قبلها ، أي لتبدي (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدّقات بوعدنا من قولنا (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) إلخ وفي الإكمال عن الباقر عليه‌السلام في رواية لبيان هذه القصّة قال : فلما خافت عليه الصّوت أوحى الله تعالى إليها أن اعملي التابوت ثم اجعليه فيه ثم أخرجيه ليلا فاطرحيه في نيل مصر. فوضعته في التابوت ثم دفعته في اليمّ فجعل يرجع إليها وجعلت تدفعه في الغمر وجاءت الريح فضربته فانطلقت به ، فلما رأته قد ذهب به الماء همّت أن تصيح يا ابناه ، فربط الله على قلبها.

١١ ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ...) أي أن أمّ موسى قالت لأخته كلثم : امشي وراء الصندوق لتعرفي أثره وخبره. فاتّبعت أثره على ساحل البحر فوجدت أن آل فرعون التقطوه وأخرجوه من التابوت (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي فرأت أخاها من بعيد ، وقيل عن جانب كانت تنظر اليه كأنها لا تريده ولا تقصده (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يلتفتون أنها تقصّه وأنها جاءت وراءه لاستخبار حاله وأنّها أخته. وفي هذه الشريفة حذف واختصار ، وهذا من الإيجاز الدال على كمال البلاغة والفصاحة وعلى

الإعجاز باللفظ القليل على المعاني الكثيرة كما لا يخفى على المتأمّل الفطن. وقد كرّر سبحانه هذا القول ، وهو عدم شعورهم بالأمور ، تنبيها على أنه لو كان فرعون آلها لكان يشعر بهذه الأمور فإذ لا يشعر لا يكون إلها.

١٢ و ١٣ ـ (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ ...) أي منعناه من أن يرتضع منهنّ (مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء أمّه إلى عنده وأخذه حتى لا تتربّى أعضاؤه بلبن أهل الكفر والشّرك. وقيل إنه ما شرب ثمانية أيام لبنا حتى اضطربت آسية وقومها من ذلك ، وكان يمتصّ من إصبعه اللبن الطاهر وهم لا يشعرون بذلك. ولمّا أحسّت أخت موسى أنّ آسية في غاية الاضطراب للمرضعة تقرّبت منها وقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أي يقومون بتربيته وجميع أموره (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصّرون في أموره لأجلكم وهم مشفقون عليه؟ وروي أنها لمّا قالت (لَهُ ناصِحُونَ) قال هامان وزير فرعون للملازمين : خذوها إنّها لتعرفه وتعرف أهله. قالت إنما أردت : وهم للملك ناصحون ، فأطلقوها وأكرموها وطلبوا منها المرضعة فمشت إلى أمّ موسى وذكرت لها صورة الحال فقامتا ومشتا حتى وردتا على آسية فأعطتها الولد ، وكان موسى لا يقبل ثدي أيّة مرضعة ، فلما وقع في حجر أمّه ونظر إليها تعلّق بها وأخذ يرتضع منها ، ففرح فرعون وآسية ومن يلوذ بهما لكثرة تعلّقهم بالصبيّ. فسأل فرعون عن أمّ موسى وعن علة قبول الرضيع لثديها ، فقالت أنا امرأة حسنة الخلق ولبني في غاية الحلاوة ، وما من طفل إلّا ويقبل ثديي ويشرب لبني. فأكرمها وعظّمها لجلالتها حيث وجد من كلامها وحركاتها أنها جليلة عفيفة عقيلة. وقد فعلنا ذلك (لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) هي تعلم بأنّه حق وإلّا فالإنسان العاقل ما دام لا يعلم بأن وعد الله حق لا يلقي ولده في اليمّ ، ولكن كان علمها علم عقيدة أما بعد ردّ ولدها إليها ولا سيّما بعد وقوعه في المهلكة حصل لها علم مشاهدة وهو فوق علم العقيدة كما حقّق في محلّه.

* * *

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))

١٤ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ...) أي غاية قوّته ونشوئه ونموّه ، وهو بلوغه إلى الثلاثين ، وعن ابن عباس إلى الأربعين سنة. ويصدّقه الحديث المشهور : لم يبعث نبيّ إلّا على رأس الأربعين وفي معاني الأخبار عن الصّادق عليه‌السلام في تفسير (أَشُدَّهُ) ثماني عشرة سنة (وَاسْتَوى) تمّ في استحكامه وبلغ الأربعين تمامه أو اعتدلت قامته وعقله. وقيل أشدّه هو بلوغه ثلاثين سنة ، والاستواء هو أن يبلغ الأربعين ، وفيه يكمل العقل. فإذا تمّ العقل يصير الإنسان قابلا لإفاضة الفيض من المبدأ الأعلى اي الإفاضة الخاصّة (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) اي النبوّة وعلما بالدّين وهذان هما الإفاضة الخاصّة التي لا ينالها إلا الأوحديّ من البشر (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما فعلنا مع موسى وأمّه من اللّطف والكرم والإحسان هكذا نجزي المحسنين من كلّ من يعمل عملا حسنا مرضيّا عندنا. وفي القمي عن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال ، وكان ينكر ما يتكلم به موسى من التوحيد حتى همّ به

فخرج موسى من عنده. وعنه عليه‌السلام على ما في الإكمال قال : وكانت بنو إسرائيل تطلب وتسأل عنه ، فعمي عليهم خبره ، فبلغ فرعون أنهم يطلبونه ويسألون عنه فأرسل إليهم وزاد عليهم في العذاب وفرّق بينهم ونهاهم عن الإخبارية وعن السؤال عنه. قال : فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ لهم عنده علم فقالوا كنا نستريح إلى الأحاديث فحتى متى نحن في هذا البلاء؟ قال : والله إنكم لا تزالون فيه حتى يجيء الله بغلام من ولد لاوى بن يعقوب اسمه موسى بن عمران ، غلام طوال جعد ، فبينا هم كذلك إذ اقبل موسى يسير على بغلة حتى وقف عليهم. فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصّفة فقال له : ما اسمك؟ قال : موسى. قال : ابن من؟ قال : ابن عمران. فوثب إليه الشيخ فأخذ بيده فقبّلها وثاروا إلى رجله فقبّلوها فعرفهم وعرفوه واتّخذ شيعته فمكث بعد ذلك ما شاء الله ثم خرج.

١٥ ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ ...) أي المصر المعروف بمدينة فرعون (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) بين المغرب والعشاء ، أو يوم عيد لهم وهم مشغولون (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه ، أي القبطي. وعن الصّادق عليه‌السلام قال : ليهنئكم الاسم. قيل : وما الاسم؟ قال : الشّيعة ثم تلا هذه الآية (فَوَكَزَهُ مُوسى) ضربه بجمع كفّه أو دفعه بشدّة بحيث كان فيه إزهاق روحه ، لأنه عليه‌السلام كان قويّا ذا بطش شديد على ما في الرواية فقد قال عليه‌السلام : كان موسى قد أعطي بسطة في الجسم وشدّة في البطش ، وشاع أمره ، وذكر الناس بأن موسى قد قتل رجلا من آل فرعون. والحاصل أنه وكزه (فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) قال الرضا عليه‌السلام قضى عليه ، أي : على العدوّ بحكم الله تعالى. وقال هذا من عمل الشيطان قال عليه‌السلام : يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى من قتله.

١٦ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ...) قال الرضا عليه‌السلام : يقول وضعت نفسي في غير موضعها بدخول هذه المدينة حتى ابتليت بما ابتليت به (فَاغْفِرْ لِي) يعني استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني (فَغَفَرَ لَهُ) الآية.

١٧ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ...) من القوّة. أقول : وأيّ قوّة أقوى من أن يقتل رجلا من رجال تلك الأعصار ، وهم كانوا من الأقوياء على ما يذكر التاريخ من أحوالهم ، بوكزة واحدة؟ فينبغي أن يدعو صاحب تلك القوة أن يوفقه الله سبحانه لأن يصرفها في جهاد أعدائه لا أن يكون (ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) أي معينا لهم.

* * *

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

١٨ ـ (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ...) خائفا من أولياء الدّم من فرعون والقبطيّين ويترصّد الأخبار وما يقال فيه (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به على الآخر (إِنَّكَ لَغَوِيٌ) ضالّ عن طريق الرشد ظاهر الغواية لكثرة مخاصمتك. والمراد هو الغواية في الأخلاق لا في الدين ، فإنه كان من بني إسرائيل وممّن آمن بموسى عليه‌السلام.

١٩ ـ (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ ...) أي أن يأخذ القبطيّ ويدفعه عن الإسرائيلي بقوّة وشدة ، خاف القبطيّ وصاح من خوفه على نفسه لما سمع من قوّة موسى وقتله للقبطي بوكزة واحدة وقال (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن القائل هو الإسرائيليّ حيث ظنّ أنه أراد أن يبطش به لوصفه إيّاه بالغواية ، ولكن الظاهر هو الأول ويؤيّده أنه عقّب قوله بأن قال (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وهذا القول لا ينبغي ولا يليق أن يصدر إلّا عن كافر أو منافق ، والحال أن الاسرائيلي كان من المؤمنين بموسى ومن المصدّقين له في دعواه وبكلّ ما جاء به من عند ربّ العالمين. والجبّار هو الذي يفعل ما يريد من الضّرب والقتل وسائر أقسام الظلم ولا يريد أن يكون من المصلحين بين الناس. فانتشر حديث قتله القبطي حتى بلغ فرعون فأمر بطلبه وقتله.

* * *

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

٢٠ ـ (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ...) المراد من الرجل هو مؤمن آل فرعون ، واسمه حبيب النجار ابن عمّ فرعون ، وقد أشرنا إليه سابقا في قصّة صنع الصّندوق. وقيل كان خازن فرعون مؤمنا بموسى قد كتم إيمانه ستمائة سنة وهو الذي قال الله عزوجل فيه (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) والحاصل أنه جاء الرجل من آخر البلد ومنتهاه في غاية السّرعة حتى لحق به فأخبره (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) ظاهر الآية

يؤخذ منه أنه جاء بنفسه. وقيل إنه بعث من عنده رجلا.

٢١ ـ (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً ...) أي من مصر خائفا على نفسه ينتظر لحوق طالب ويلتفت يمنة ويسرة ، وسار نحو مدين التي لم تكن في سلطان فرعون ، وكان يدعو ربّه للنجاة من الكفرة والظّلمة.

* * *

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

٢٢ ـ (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ...) أي نحو قرية شعيب (ع) وكان بينه وبين مدين ثلاثة أيام ، وعلى قول أصحّ ثمانية أيام ، ولم يكن له علم بالطريق إلّا توكّله على ربّه وحسن ظنّه به (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق المؤدّي إلى النجاة أو الذي فيه صلاحي. فألهمه الله أن يأخذ الطريق التي تؤدّي إلى مدين. وهذا القول نظير قول جدّه إبراهيم

عليه‌السلام حيث قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) هكذا كان ديدنهم خلفا عن سلف صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنّه تعالى أدّبهم هكذا بقوله تعالى : (جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).

٢٣ ـ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ...) أي وصل إليه وهو بئر لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) أي على شفيره ، جماعة من أهل القرية يسقون مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم رأى (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تمنعان أغنامهما عن الماء فسألهما (ما خَطْبُكُما؟) أي : لم تمنعان الأغنام عن شرب الماء؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي ينصرف ويخلص جميع الرّعاة من السقي. وهو جمع راع. وكان غرضهما أننا نحن لا نسقي أغنامنا حتى يتخلى الرجال عن الماء ويذهبوا من حوله فنسقي أغنامنا من فضالة ما يبقى في المغيض أو نستسقي بأنفسنا لأغنامنا (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كثير السّن لا يستطيع أن يسقي فيرسلنا اضطرارا فرحمهما ورقّ قلبه لهما.

٢٤ ـ (فَسَقى لَهُما ...) اي فروّى غنمهما وأصدرهما رحمة بهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي رجع إلى الشجرة التي كانت قريبة من البئر فجلس في ظلّها (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) كان عليه‌السلام شديد الجوع حيث إنه من يوم خرج من مصر إلى أن وصل مدين كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله على ما في نهج البلاغة. وقال مولانا أمير المؤمنين فيها : والله ما سأل الله عزوجل إلّا خبزا يأكله. فالمراد بالخير في الكريمة هو ما يسدّ جوعه والتعبير بلفظ الماضي لأن عادة الله تعالى جرت على إنزال رزق كلّ ذي حياة ، فكأنّه عليه‌السلام طلب منه تعالى إيصاله إليه ، وأما إنزاله فكان مسلّما عنده عليه‌السلام. ثم إن بنتي شعيب رجعتا الى أبيهما في ذلك اليوم في وقت أقرب من الأيام الأخر فسألهما الوجه في ذلك ، فأخبرتاه القضيّة إلى آخرها. فقال لإحداهما : اذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا.

٢٥ ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما ...) وهي أكبرهما سنّا المسمّاة بالصّفورا (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) مستحيية وكانت تستر وجهها بكمّها ، أو المراد أنها تمشي عادلة عن الطريق ، وما اقتربت منه من الحياء فنادت وقالت (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي جزاء سقيك لنا. فقام موسى (ع) ومشى معها. وكانت تمشي قدّامه ، وكانت الريح تضرب ببعض ثيابها فتكشف عن بعض مواضع بدنها ، فقال : يا أمة الله كوني ورائي ودلّيني على الطريق إذا أنا أخطأته بكلام أو حصاة فإنّا قوم لا ينظرون إلى أدبار النساء (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي ما جري عليه من يوم ولادته إلى يوم فراره وتشرّفه بخدمة شعيب (ع) خوفا من فرعون ، علم شعيب أنّه من أهل بيت النبوّة فقال له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من فرعون وقومه حيث أنّه لا سلطان له على أرضنا ولسنا في مملكته ، فأمر بإحضار الطّعام ، فامتنع موسى عن الأكل ، فقال شعيب ولم لا تأكل؟ أولست بجائع؟ قال نعم جائع ، ولكن أخاف أن يكون عوضا عمّا فعلت من المعروف. قال شعيب عليه‌السلام : لا والله يا شابّ بل هذه عادتي وعادة آبائي أن نقري الضيف ونطعم الطعام. فشرع موسى حينئذ بتناول الطعام.

* * *

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ

ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

٢٦ ـ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ...) أي اتّخذه أجيرا لرعي أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي أحسن من تتّخذه أجيرا هو الرجل القويّ الأمين. وهذا الكلام تعريض بأنّ موسى ذو قوة وأمانة فهو أحقّ بالاستئجار. وعن ابن عباس أن شعيبا سأل البنت : من أين أحرزت أمانته وقوّته؟ فأجابته بأن حجرا كان على رأس البئر التي يستقى الماء منها وكان يرفعه عشرة أنفار وهو بمفرده رفعه. وكذلك كان للبئر دلو يحمله عشرة رجال أقوياء وهو وحده جرّه من البئر وحمله إلى الحوض وأفرغه فيه. وأمّا أمانته فذكرت له قضية المرافقة حين مجيئهما إلى البيت ، وأمره إيّاها بأن تمشي من ورائه بعد أن كانت أمامه إلخ ... فلما سمع المقالة زاد رغبة فيه عليه‌السلام ، بحيث أراد أن يزوّجه إحدى ابنتيه.

٢٧ ـ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ ...) أي واحدة من هاتين وكانت هي الكبرى (صفوراء) (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أن تكون أجيرا لي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي أنت مخيّر في الإتمام ، فإتمامه من عندك تفضّل ، ولا إلزام من عندي عليك (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي أجور وأظلم بإلزامك بالعشرة أو بالمناقشة في استيفاء الأعمال وقال في المجمع وما أريد أن أشقّ عليك في هذه الثماني ، أي بالمناقشات الواردة عن أرباب الأغنام على الرعاة في كيفيّة الرّعي وكمّيته (إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرّك (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي في حسن الصّحبة والوفاء بالعهد.

٢٨ ـ (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ...) أي الذي شارطتني عليه قد تمّ بيني وبينك لا نخرج عنه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) يجوز أن يكون بيانا لما سبق من قوله

ذلك بيني إلخ (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) بطلب الزيادة ، أو فلا أكون متعدّيا بترك الزيادة عليه. وهذا القول تقرير لأمر الخيار الذي قرّره له عليه‌السلام بين الزيادة على المدّة وعدمها (وَكِيلٌ) أي هو تعالى على ما نقول ونشارط شهيد. والوكيل هو الذي يفوّض إليه الأمر ، لكنّه لما استعمل في بعض المقامات موضع الشاهد كما فيما نحن فيه عدّي ب (على) والقرينة على ذلك حسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عمّن أتت من البنتين ، أيّهما قالت : إنّ أبي يدعوك؟ قال عليه‌السلام : التي تزوّج بها موسى. فسئل أيّ الأجلين قضى؟ قال : أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. فسئل : دخل بهما قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال : قبل أن ينقضي. قيل فالرّجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال : إن موسى علم أنّه سيتّم له شرطه. قيل كيف : قال علم أنه سيبقى حتى يفي وفي الإكمال عن النبيّ صلوات الله عليه وآله أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى (ع) عاش بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى وقالت أنا أحقّ منك بالأمر فقاتلها فقتل مقاتليها وأحسن أسرها وهذه القضيّة وقع شبهها في الإسلام بعد رحلة النبيّ الأكرم صلوات الله عليه حيث إن عائشة بنت أبي بكر هيأت جيشا وسارت به إلى البصرة وفي طليعة الجيش كان طلحة والزّبير ، ثم حاربت وصيّ رسول الله عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهما بقيادتها بنفسها. فقاتلها وقتل عليه‌السلام مقاتليها وأحسن أسرها احتراما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبجيلا له.

وفي الأثر عنه صلوات الله عليه وآله بهذا المضمون كلّ ما وقع في الأمم السّالفة يقع في أمّتي حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

* * *

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

٢٩ ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ...) أي أتمّ ما كان عليه من الإيجار ، بل قضى أوفاهما وبقي عند شعيب عشرة أخرى فمضى من عمره أربعون سنة ، توجّه إلى مصر برخصة وإجازة من شعيب عليه‌السلام لزيارة أمّه وأخيه وأخته وسائر أقاربه. وعلى رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : توجّه إلى بيت المقدس (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي بامرأته. وفي الكشاف أنه جمع عند شعيب عصيّ جميع الأنبياء ، فأمر موسى أن يدخل البيت وأن يأخذ واحدة من تلك العصيّ ، فأخذ عصا آدم التي ورثها الأنبياء واحدا بعد واحد. فلما علم شعيب عليه‌السلام أنّها عصا آدم قال له : بدّلها وخذ غيرها. فدخل البيت ووضعها وأخذ غيرها. فلما خرج قال له هذه هي

الأولى ، بدّلها. فدخل وخرج سبع مرّات ، فوقعت هي في يده من غير تعمّد والتفات. فعلم شعيب أنّه أهل لها ، فأعطاه إيّاها ولمّا علم شعيب أن موسى له شأن عظيم عنده تعالى ، وعرف حسن رعايته في أغنامه وبركته ويمنه في بيته وأغنامه ، أحبّ أن يحسن إليه فقال يا موسى كلّ ما يتولّد أبلق من أغنامي في هذه السنة فهو لك. فأوحى إليه تعالى في رؤياه يا موسى اضرب بعصاك الماء الذي تشرب منه الأغنام. ففعل ذلك ، فلم تلد الأغنام إلا أبلق ، فأعطاه الكل. والحاصل أن موسى لما توجّه إلى مصر مع امرأته ومواشيه في ليلة مظلمة باردة ، انحرف عن الطريق وضلّ ، وابتليت امرأته بوضع الحمل وتفرقت الماشية للأرياح الشديدة والبرودة الكثيرة فصار عليه‌السلام متحيّرا في أمره إذ رأى نارا (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي توقفوا هنا فإني أبصرت نارا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي بخبر عن الطّريق وكان قد ضلّ عنه (أَوْ جَذْوَةٍ) أي قطعة أو شعلة من النار (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها.

٣٠ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ ...) أي أتي النار ووصل إليها سمع موسى مناديا يناديه (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي من الجانب الأيمن لموسى أو للوادي (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متعلق بنودي أي النداء ، كان فيها ، وهي البقعة التي قال فيها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ) إلخ ... وإنّما كانت مباركة لأنها كانت مهبط الوحي والرّسالة ونزول الكتب السماويّة غالبا على حسب الظروف واقتضاء المصلحة (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل اشتمال من الشاطئ ، فانها كانت ثابتة على الشاطئ وإن الشجرة كانت محلا للكلام ومصدرا له (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) هذه الجملة تفسير للنّداء وبيان له. وذكر (رَبُّ الْعالَمِينَ) فيه إشعار لرفع توهّم الحلول في محل حيث ان مالك الممكنات وخالقها منزّه ومبرأ من ان يحلّ في شيء ، لأنّه ليس عرضا ولا جسما ، والحالّ في الشيء لا بدّ من أن يكون واحدا منهما كما برهن في محلّه.

٣١ ـ (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ...) عطف على قوله : إنّي أنا الله. وإنّما أعاد سبحانه هذه القصّة وكرّرها في السور إثباتا للحجّة على أهل الكتاب واستمالة لهم إلى الحق ، ومن أحبّ شيئا أحبّ ذكره. والقوم كانوا يدّعون محبّة موسى ، وكلّ من ادّعى اتّباع سيّده مال إلى من ذكره بخبر وتبجيل وفضل. على أن كلّ موضع من موارد التكرار لا يخلو من مزيد فائدة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) أي بعد إلقائها رآها تتحرّك بكمال السّرعة كأنّها حيّة صغيرة مع عظم جثّتها وغاية كبرها ، ولذا خاف و (وَلَّى مُدْبِراً) أي منهزما على عقبه من الفزع والدهشة (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إلى موضعه ، فنودي يا موسى (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) أي ارجع ولا تفزع (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من كلّ مخوف حيث إنّك من المرسلين ، ولا يخاف لديّ المرسلون. فلمّا سمع هذا الخطاب اطمأنّ ورجع إلى قرب الشجرة وموضعه الأوّل. وفي المقام حذف وإضمار ، أي رجع وأمر بأخذ الحيّة ، فأخذها بكمال الجرأة واطمئنان القلب فصارت عصا كما كانت. وفي انقلاب العصا حيّة دلالة على أن البنية ليست بشرط في الإيجاد وأيضا دلالة على أنّ الأجسام والجواهر متماثلة ومن جنس واحد ، لأنّه لا حال أبعد من حال الحيوان عن الخشب. فلمّا صحّ قلب الخشب إلى الحيوان وصحّ العكس ، صحّ قلب الأسود إلى الأبيض وبالعكس. وكذلك كلّ ما يجري مجرى ذلك من الجمادات والحيوانات.

٣٢ ـ (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ...) أي أدخلها فيه. والجيب من القميص طوقه ، ويطلق على ما يليه عند عامّة الناس من المشقوق (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) ذات شعاع بحيث أضاءت لها الدّنيا (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي مثل البرص أو أيّ عيب آخر (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) الجناح ما بين أسفل العضد إلى الإبط ، وإذا أدخل الإنسان يده اليمنى تحت عضده اليسرى يصدق أنّه ضمّ جناحه إليه. والمعنى والله العالم : أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى ، وكذلك العكس ، حتى يذهب بروعك وخوفك. أو

المراد منها وضع اليد على الصّدر على ما يقال ، فإن الخوف يسكن بوضع اليد على الصدر وعهدته على مدّعّيه والحاصل يمكن أن يقال انّه يؤخذ من الكريمة أمران : الأوّل ترتّب ذهاب الخوف الذي يعرض للإنسان من مخوف ، والثاني كون المراد بها هو الكناية عن عزم موسى على المأمور به وحثّه على الجد والجهد فيه حتى لا يكون خوفه مانعا عن قضائه على فرعون وعن إلقائه العصا وإخراج يده من جيبه نظير اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك حيث إن هذا كناية عن التأهّب والتهيّؤ للموت لا الشد والربط بمعناه الحقيقي.

وهل المراد من الخوف هو الذي حصل من الحية المنقلبة عن العصا؟ فالمناسب ذكر هذه الجملة قبل قوله تعالى (اسْلُكْ يَدَكَ) إلخ أو المراد هو الخوف إذا حصل عن إضاءة اليد وشعاعها العظيم الذي تضوّأت الدنيا عنه؟ فالمراد بالخوف هو هذا كما هو الظاهر من سياق الآية (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي العصا واليد حجّتان نيّرتان أنت مرسل بهما من عند ربك (إِلى فِرْعَوْنَ) الآية ، فإن فرعون وقومه قوم فاسقون.

* * *

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

٣٣ و ٣٤ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً ...) أي أنه عليه‌السلام ذكر المحذور الذي يخالج نفسه من أنه يخاف أن يقتلوه لأنه قتل منهم قبطيّا قبل أن يغادر مصر. فهذا شأني (وَأَخِي هارُونُ) الموجود في مصر (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً).

إنما قال ذلك لعقدة ولكنة كانت في لسانه ، وقد مرّ فيما مضى ذكر سببها وقد أزالها الله ، أكثرها أو جميعها ، بدعائه عليه‌السلام : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) .. إلخ ، (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي عونا لي (يُصَدِّقُنِي) يكون مصدّقا لي في بيان الحجج وتزييف الشّبه حيث إنّه منطيق (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) حيث لا يفهمون مقصدي من عقدة لساني ولقصور بياني.

٣٥ ـ (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ...) أي نجعله عونا لك ونقوّيك به كما تريد في مقام الدّعوة وإظهار نبوّتك (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي غلبة وسلطة بالحجج (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي فرعون وقومه لا يصلون إلى الإضرار بكما (بِآياتِنا) بسبب ما نعطيكما من الآيات أو متعلق بمقدّر : (اذهبا إلي فرعون بآياتنا) الباهرة (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) لفرعون وملئه ، القاهرون لهم. وهذه الغلبة غير السلطان فإن السلطان بالحجّة والغلبة بالقهر حين هلك فرعون ومتابعوه ، وملك موسى وقومه ديارهم.

* * *

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

٣٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ...) أي مختلق كسائر أنواع السحر. والحاصل أن موسى لما أمر أن يمضي إلى فرعون وقومه وأخبره أن الغلبة لكما ولا يقدر فرعون أن يضرّكما ، رجع إلى امرأته على ما روي عن أبي جعفر في حديث طويل ، فقالت : من أين جئت؟ قال : من عند ربّ تلك النار. فغدا إلى فرعون ... إلى أن يقول عليه‌السلام : فأتى على باب فرعون فقيل لفرعون إن على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين ، فقال فرعون لصاحب الأسود : حلّ سلاسلها. وكان إذا غضب على رجل خلّاها ، فخلّاها. فقرع موسى الباب الأوّل وكانت تسعة أبواب فانفتحت له الأبواب التسعة ، فلما دخل جعلت الأسود يتبصبصن تحت رجليه كأنّهنّ جراء. فقال فرعون لجلسائه أرأيتم مثل هذا السّحر قط؟ فلما أقبل إليه موسى انتبه فرعون وعرف أنه موسى فقال : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الآية إلى أن قال عزّ وعلا : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) قد حال شعاعها بينه وبين وجه فرعون ، ثم ألقى العصا فإذا هي حيّة (ثُعْبانٌ) فالتقمت الإيوان بلحييها فدعاه : أن يا موسى أمهلني إلى غد ثم كان من أمره ما كان (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي ما سمعنا أنّ هذا الذي يقوله موسى يصدّق به آباؤنا ويقبلونه ممّن ادّعاه من المرسلين السابقين الذين كانوا مدّعين للرّسالة ، وليس المعنى أنّه ما سمعنا الدّعوة إلى توحيد الله في آبائنا. وكيف يتصوّر أن لم يسمعوا بهذا الأمر وقد اشتهر في تواريخهم؟ ولو لم يكن في كتبهم السماويّة إلّا قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء الذين يدعون البشر طرّا إلى التّوحيد وطاعة بارئهم وخالقهم لكفى .. والحاصل ما سمعنا عن آبائنا تصديقهم التوحيد لا أنهم ما كانوا يتكلّمون فيه أبدا.

٣٧ ـ (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى ...) أي جاء بإراءة طريق الحق للناس (مِنْ عِنْدِهِ) بأمره فيصدّقوا بالمعجز وبالآيات الدالّة على حقّانيّة الدّعوى (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) عاقبة الدّنيا المحمودة وهي

الجنّة ، فإنها المعتدّ بها ، وأما الدنيا فإنها خلقت مجازا وممّرا للآخرة ومقدّمة لها. فاذا كانت الدّنيا ختم للإنسان فيها بالسّعادة والصّلاح فهي العاقبة المحمودة والنتيجة هي الجنّة.

* * *

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

٣٨ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ...) خاطب فرعون قومه بذلك ، ويستفاد منه ـ على ما حكاه الله تعالى ـ أنه كان شاكّا في وجوده سبحانه لأنه نفى علمه بإله غيره حين قال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فلا ربّ سواي. ولذا أمر ببناء الصّرح وقال لوزيره : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اصنع الآجرّ وأوقد النار على الطين ليشتدّ ويستحكم وابن لي صرحا عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) في السماء. ويصدّق ما ذهبنا إليه قوله لقومه : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أعتقد كذبه. وفي قوله

تلبيس على العوامّ على كل حال وإن كان الجهل والضلال قد استحوذا عليه وحرماه من أن يستضيء بنور الإيمان ويجتهد في طلب المعرفة.

٣٩ ـ (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) أي استعلى هو وجنده وأعوانه وأخذتهم الكبرياء والعجرفة (وَظَنُّوا) زعموا (أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) لا يردّون يوم القيامة وحسبوا الحياة لعبا ولهوا.

٤٠ ـ (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ ...) أي لمّا شئنا صدر أمرنا فاستدرجناهم في أثر بني إسرائيل وأغرقناهم في البحر (فَانْظُرْ) تفكّر وتدبّر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) كيف كان مصيرهم ونهاية أمرهم ، وهكذا فإن مصير كلّ ظالم إلى الدمار.

٤١ ـ (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً ...) أي اعتبرناهم وأقمناهم قدوة ضلال (يَدْعُونَ) أتباعهم (إِلَى النَّارِ) يوردونهم إياها بكفرهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أن الأئمّة في كتاب الله إمامان : قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : لا بأمر الناس يقدّمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم. وقال : وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار ، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزوجل.

٤٢ ـ (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ ...) أي ألحقنا بهم وأوصلنا لهم في الدّنيا (لَعْنَةً) إبعادا عن الرحمة. وبعبارة أخرى أردفناهم لعنة بعد لعنة وبعدا عن الرحمة والخيرات ، أو ألزمناهم اللّعنة في هذه الدنيا بأن أمرنا المؤمنين بلعنهم فلعنوهم دائما (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ممّن قبحت وجوههم ومن المشوّهين أو ممّن قبحت أعمالهم وساء حالهم.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦))

٤٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى ... بَصائِرَ لِلنَّاسِ ...) أي أنوارا لقلوبهم يستبصرون بها ، أو حججا وبراهين لهم وعبرا يعرفون بها أمور دينهم (وَرَحْمَةً) لنيل الرحمة ولئلا يبقوا من المغضوب عليهم. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ما أهلك الله قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة ، غير أهل القرية التي مسخها الله قردة. وهي أيلة الواقعة على شاطئ البحر الأحمر من غربيّ أرض فلسطين بحسب الظاهر.

٤٤ ـ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ...) أي طرف جبل الطور الغربي حيث كلّم الله فيه موسى والذي كان فيه ميقاته عليه‌السلام (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) حين أوحينا إلى موسى أمرنا. يعني أنك لم تحضر المكان الذي أوحينا إليه فيه وكلّمناه في أمر الرسالة والشريعة (وَما كُنْتَ مِنَ

الشَّاهِدِينَ) لتكليمه فتخبر قومك به عن مشاهدة وعيان ، لكنّا أخبرناكم به ليكون معجزة لك حيث لم تكن حاضرا هناك ولا مشاهدا ، ومع هذا تخبرهم بما كان من أمره.

٤٥ و ٤٦ ـ (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً ...) أي أوجدنا أمما. وهذا الاستدراك ما وجهه وكيف يرتبط بما قبله؟ ولعلّ الوجه أنه سبحانه يريد أن يخبر نبيّه بأنّا أوجدنا بعد عهد موسى الى عهدك قرونا مختلفة أمّة بعد أخرى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فمضت عليهم مدة طويلة بحيث نسيت الأخبار وتغيّرت الشرائع واندرست العلوم والمعارف وطالت فترة النبوّة ، والناس صاروا في حيرة الضلالة وتيه الجهالة فحملهم ذلك على الاغترار والتوحّش واعتداء كلّ واحد على الآخر ، فأرسلناك للناس رسولا كما أرسلنا موسى رسولا بعد ما أهلكنا القرون الأولى (السابقة عليه) وبعد فترة الرسل ، وذلك قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) إلى أن يقول (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ثم يقول سبحانه (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ) بالقرآن والإسلام. والحاصل أنه تعالى كأنه يقول له : إنّا نقصّ عليك أخبار الأنبياء وأممهم ولكنّا كنّا مرسلين إيّاك إلى أهل مكة وغيرهم وأنزلنا إليك هذه الأخبار لتتلو عليهم فيصدّقوا نبوّتك لأن الأخبار دلائل صدق على الرسالة وهذه هو وجه الاستدراك وربطه بما قبله والله اعلم ، وأما تكرار قضية موسى بقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ، بعد قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) بعد فصل بآية جاءت بينهما فيمكن أن يكون المراد بهذا النداء حين ما غرق فرعون وأنّه تعالى أعطى التوراة لموسى. والمراد بالأول حينما شرّفه بشرف النبوّة وأرسله إلى فرعون بالآيات والمعجزات. ولم نفعل ذلك من إخبارك بهذه القصص لسبب (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فعلّمناك

ذلك رحمة منّا ، وهو أن بعثك ربّك نبيّا وأنزل عليك القرآن وأعطاك دين الإسلام وأخبرك هذه الأخبار لتكون معجزة لصدق نبوّتك ، و (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لتخوّف الذين لم يأتهم رسول في زمن الفترة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يتّعظون ويعتبرون (لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ).

* * *

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠))

٤٧ ـ (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ...) تنزل بهم (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) جوابه محذوف ، أي لولا قولهم إذا أصابتهم مصيبة وعقوبة ، بسبب كفرهم ومعاصيهم ، ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلّغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدّقين م؟ أرسلناك ، وإنّما أرسلناك قطعا لعذرهم وإلزاما للحجة عليهم ، ومراده

بلولا الذي قلنا جوابه محذوف هو لولا الأوّل الذي هو امتناعي ولو لا الثاني تحضيضيّ ، والفاء في (فَيَقُولُوا) عاطفة على قوله (أَنْ تُصِيبَهُمْ) وفي قوله (فَنَتَّبِعَ) جواب لولا التحضيضية حيث إنه في حكم الأمر ، لأن (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ) في معنى قولك : أرسل إلينا رسولا فنتّبعه.

٤٨ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) ... أي جاء محمد إلى مشركي العرب من أهل مكّة وأرسلناه إليهم (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) فحينما جاء محمد بمثل ما جاء به موسى من المعجزات من اليد والعصا والكتاب جملة قالوا هذا تعنّتا واقتراحا ، فالله تعالى احتّج على المشركين بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فبيّن كفر القبطيين ومشركي عصر موسى بقولهم : (سِحْرانِ) أي اليد والعصا أو المراد به : ساحران فمن باب المبالغة عبّروا به ومرادهم موسى وهارون (تَظاهَرا) تعاونا وتعاضدا لإظهار تلك الخوارق (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) منهما (كافِرُونَ) فالقبطيّون أنكروا ما أتى به موسى قبل عصر محمد. فاذا أتى محمد بمثل ما أتى به موسى أنتم تكفرون به وتنكرونه وتحملونه على السّحر كما فعل قوم موسى لأنكم أبناء جنس واحد والكفر ملّة واحدة ، قال بعض المفسرين : وكانت هذه المقالة حين بعث كفّار مكة رهطا منهم إلى رؤساء اليهود بالمدينة في عيد لهم فسألوهم عن محمد فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بما أخبرهم به اليهود عن التّوراة ، فقالوا عند ذلك (سِحْرانِ تَظاهَرا) أي التوراة والقرآن سحران توافقا (وَقالُوا) أعني مشركي قريش (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي الكتب السماوية والأنبياء.

٤٩ و ٥٠ ـ (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ... أي من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ) وأؤمن به معكم وأعترف بما فيه وأتديّن به إن صدقتكم بقولكم ، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) لم يأتوا بكتاب أهدى ، أو حجّة أقوى

(فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي يتكلمون من عند أنفسهم إذ لو اتّبعوا حجة وبرهانا لأتوا بهما (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) أي لا أضلّ منه. والاستفهام بمعنى النفي كما فسّرناه. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام في هذه الآية قال : يعني من اتّخذ دينه رأيه (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي بغير إمام من أئمّة الهدى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين ظلموا أنفسهم بانهماكهم في اتّباع الهوى وتوغّلهم في الجحود والعتوّ فاتّبعوا تسويلاتهم النفسانيّة ومتمنيّاتهم الشيطانية مع وضوح دلائل الحق والحجج الدالة على حقيقة الإسلام.

* * *

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

٥١ ـ (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ...) أي أنزلنا القرآن متّصلا بعضه في أثر بعض ليتصل الذّكر. أو المعنى متواصلا حججا وعبرا ومواعيد ، فأتبعنا الدعوة بالحجج والمواعظ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيتدبّرون ويعتبرون فيطيعون.

٥٢ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ ...) أي أنزلنا عليهم التوراة قبل هذا القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) يعني آمنوا بالقرآن بمجرد أنهم سمعوا باسم القرآن وأوصافه لمّا رأوا ذكره في التوراة ، وغيره من الكتب المتقدمة وقيل إنّها نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل قدموا من الحبشة والشام وآمنوا بالنبي (ص).

٥٣ ـ (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ ...) أي آمنا بالقرآن لأنّه كلام إلهيّ صادق عدل نازل عن عند ربّنا و (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) لا شك فيه (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) أسلمنا به قبل نزوله وتلاوته علينا لأنّا وجدنا في كتبنا السماوية ذكره وأوصافه فكنا عارفين بحقيقته فآمنا به وصدّقناه حين ذاك.

٥٤ ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ...) أي لمّا آمنوا بالقرآن مرة قبل نزوله وأخرى بعد نزوله وتلاوته عليهم فلذا يعطون أجرين (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على الإيمان به قبل النزول وبعده ، هذا هو الذي يظهر من مجموع الآيتين ، ولكن يحتمل أن يكون المراد بصبرهم على الإيمان بالكتابين اي القرآن وكتابهم الذي نزل على نبيّهم ، أو على الإيمان وأذى الكفرة ، والله سبحانه أعلم بما أراد ، (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بطاعاتهم سيّئاتهم ومعاصيهم التي عملوها قبل الحسنات فتمحى بها منّة منه سبحانه على العباد كقوله (ص) أتبع الحسنة السيئة تمحها. أو المراد بالحسنة كلمة التوحيد والسيئة هو الشرك فهي ماحية لها ، كقوله : الإسلام يجبّ ما قبله. وقيل بالحلم والجهل كقوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً). ويحتمل أن تكون الحسنة كناية عن كل عمل حسن والسيئة تعني كل عمل سيّء قبيح ، وما ذكره أرباب التفاسير بيان للمصاديق.

٥٥ ـ (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ...) اللّغو هو الكلام السفيه ، والباطل الذي لا فائدة فيه دنيوية وأخروية يصدر لا عن رويّة معقولة

مشروعة. وقيل هو الكذب ، واللهو هو الغناء. وهذا التفسير مرويّ عن القمي وقال : وهم (الأئمّة عليهم‌السلام) يعرضون عن ذلك كله (وَقالُوا) أي قال المتصفون بالأوصاف المذكورة آنفا لاغين (لَنا أَعْمالُنا) من الحلم والصفح (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) من السفاهة واللغو ، وكلّنا نجري على أعمالنا إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل إنّ هذا سلام متاركة وتوديع يعنون به أن هذا فراق بيننا وبينكم. وقيل سلام تحيّة حلما وكرامة يعنون به أننا لا نقابل لغوكم بمثله بل بالإحسان (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي لا نريد مخالطتهم ولا نطلب مجالستهم ومعاشرتهم ونبتعد عن مصاحبتهم.

* * *

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

٥٦ ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ...) المراد بالهداية هنا هو اللطف والتوفيق الذي من عنده تعالى ، ولا يقدر عليه غيره حيث إنّه إما بفعله سبحانه كتسبيبه الأسباب من حيث لا يحتسبه الإنسان ، وإمّا بإعلامه وإلهامه ، ولا يعلم أحد ما فيه صلاح العبد إلّا هو تعالى. وأمّا الهداية فبمعنى الدّعوة إلى الله وإلى الإيمان به ، فهو فعل الرسول كما في الآية الشريفة (إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فإن المراد بها الدّعوة لا بمعنى اللطف ، وإلّا لتناقض ذلك مع قوله (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بلطفه

وتوفيقه فيريهم السّبل إليه ويعين من يستعدّ ويطلب ويجتهد فيه كما أشار إليه (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) والحاصل أن شمول هذه العناية واللطف يحتاج إلى الأهلية (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بمن له الأهلية والسعادة الذاتية للتشرف بشرف الإسلام وللتنوّر بنور الإيمان ، وأما الذين ، لفرط العناد والجحد والاستكبار ، ليسوا بحاضرين لأن يتفكّروا في الآيات الهادية والبراهين الساطعة الواضحة فهم في بادية الخذلان وتيه الضلالة باقون ولا يهتدون.

٥٧ ـ (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ ...) أي نستلب (مِنْ أَرْضِنا) يعني مكة والحرم. وقيل إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنا لنعلم أن قولك حق ، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطّفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بالعرب ، فقال سبحانه ردّا عليهم هذا القول : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أي أولم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت (يُجْبى إِلَيْهِ) أي يحمل إليه ويجمع فيه (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كلّ أوب ومكان (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام والمشركون فكيف نتخلّى عنهم ونعرّضهم للخوف وللخطف إذا كانوا موحّدين؟ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهلة جحدة لا يتفطّنون ولا يتفكّرون.

* * *

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ

الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

٥٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ ...) أي أهلكنا أهلها وكانت حالهم كحالكم في الأمن وخفض العيش حتى أنكروا وطغوا بما هم فيه من النعمة ولم يشكروا عليها فدمّرهم الله وخرّب ديارهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) إشارة إلى ما يمرّون به في أسفارهم للتّجارة ، فإن قرية عاد في الأحقاف موضع بين اليمن والشام ، وديار ثمود بوادي القرى ، وديار قوم لوط بسدوم ، وهذه المواضع يعرفونها وهم بعض الأوقات يستريحون فيها في أسفارهم يوما أو نصف يوم أو أقلّ منه ويرون أنّها (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي خالية من أهلها ليس فيها إلا المارّون في أسفارهم (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) حيث إن لله ميراث السموات والأرض.

٥٩ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً ...) أي حتى يرسل في عاصمتها وهي القرية التي تكون أعظم قراها ، رسولا. وتخصيص بعث الرسول بأمّ القرى لأنها مرجع لتوابعها ، وأهلها أفطن وأفهم من سائر القرى ولذا أمر بأن يعيش الإنسان في السواد الأعظم كقوله (ص): عليكم بالسّواد الأعظم أي العاصمة أو ما في حكم العاصمة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لإلزام الحجة وقطع العذر (وَأَهْلُها ظالِمُونَ) لأنفسهم بتكذيب الرسل والتوغّل في الجحود والكفر.

٦٠ ـ (وَما أُوتِيتُمْ ... أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ ...) فإن هذا الاستبدال للذي هو أدنى لفنائه بالذي هو خير لبقائه ، وإيثاره عليه أمر غير عقلائي.

٦١ ـ (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً ...) أي الجنة في الآخرة وعدا لا يتصوّر فيه خلاف ، إشارة إلى قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى فَهُوَ لاقِيهِ) أي أن الموعود له يجد الموعود بلا شبهة ولا خلاف ، فإن الخلف في وعده تعالى محال ، ولذا عطفه على سابقه بالفاء المعطية للسببيّة حيث إن لقاء الموعود مسبّب عن الوعد الذي هو في معنى الضّمان فيما نحن فيه (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) إمّا للحساب أو للعذاب ويستفاد من هذا الذيل أن الموعود له بالوعد الحسن جزاء لأعماله الحسنة لا يحضر يوم القيامة للحساب تشريفا وتكريما لشأنه ، فإن الإحضار في ذلك الموقف ولو لم يحاسب ، لا يناسب لمقامه السامي الذي أعطاه الله تعالى إيّاه وأنعم عليه به. نعم ، إن الحضور للشفاعة لا بأس به فإنه من أعظم منن الله على عباده الذين هم أهل للشفاعة.

* * *

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ

وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩))

٦٢ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ ...) توبيخا لهم وتهكّما ، فيخاطبهم الله سبحانه بقوله اين شركائي (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تزعمونهم شركائي وتظنون أنهم آلهة يعبدون؟

٦٣ ـ (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ...) أي وجب عليهم الوعيد بالعذاب. والمراد بالقول هو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وغيره من آيات الوعيد (رَبَّنا هؤُلاءِ) مبتدأ (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) خبره ، وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لظهوره (أَغْوَيْناهُمْ) بالوسوسة والتسويل فغووا باختيارهم غيّا (كَما غَوَيْنا) مثل غيّنا باختيارنا ولم تجبرهم على الغيّ (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم وممّا اختاروه لأنفسهم من الكفر (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) إنّما كانوا عابدين لأهوائهم الدنيئة وآرائهم الفاسدة.

٦٤ ـ (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ...) اي ويقال للأتباع ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله وزعمتم أنّهم شركاؤه سبحانه لينصروكم ويدفعوا عنكم عذاب الله. وإنّما أضاف الشركاء إليهم لأنه لا يجوز أن يكون لله شريك ، ولكنّهم كانوا يزعمون أنهم شركاء لله بعبادتهم إياهم (فَدَعَوْهُمْ) من فرط الحيرة والضلالة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم عن الإجابة والنصر (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) اي لمّا رأوا العذاب تمنوا لو كانوا مهتدين ، أو لو قدروا أن يهتدوا لوجه من الحيل فيدفعوا به العذاب عنهم

لعملوا ولكن للأسف لا يهتدون وهيهات أن يهتدوا لما يدفع عنهم العذاب. ويحتمل أن يكون (لَوْ) للتمنّي ، أي تمنّوا أنهم كانوا مهتدين إلى مدافع وناصر ينصرهم من عذاب الله.

٦٥ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ...) أي أذكر يا محمد يوم يناديهم الله فيقول (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) بأيّ شيء أجبتم الأنبياء حين دعوكم؟ وهذا سؤال تبكيت وتقريع لتكذيبهم الرّسل وتقرير بالذنب حيث إن الحجة كانت تامة عليهم فلم يقبلوها فالعذاب عذاب استحقاق وعدل.

٦٦ ـ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ ...) أي خفيت ولم يدروا بما ذا يجيبون ، فعجزوا عن الجواب ، كالأعمى الذي يعجز عن الاهتداء لطريقه المقصود ويتحيّر في الطريق ولم يدر لأيّ صوب يمشي ويذهب. ولذا عبّر بقوله (فَعَمِيَتْ) وهذا التعبير في هذا المقام أحسن تعبير يكشف عن غاية الفصاحة بلفظ موجز متضمّن المعاني الدقيقة المعبّرة عن نهاية التحيّر والعجز الذي لا يتصوّر فوقه. ومنها الكشف أنهم كانوا في الدنيا عمي القلوب فحشروا على ما كانوا ، فإن يوم القيامة يوم كشف الأستار ومنها مسألة التشبيه ، بيان ذلك أن الأعمى لو خلّي وطبعه يكون ضيّق الخلق فاقد النشاط والسّرور حيث يدري أن الناس متمتّعون بأبصارهم ينظرون إلى الدنيا وما فيها من أمتعتها وحليّها وحللها وألوانها ومختلف الخلائق فيها ، وهو محروم من جميع ذلك كلّه ، وكذلك الظّلمة فلا فرح لهم ولا سرور بل لا يزالون مهمومين مغمومين ، وكذلك الكفرة فإنهم يرون أهل الجنّة متنعمين فرحين نشطين مسرورين بما آتاهم الله جزاء بما عملوا في الدنيا ويرون أنفسهم معذّبين وفي النار خالدين ، فكيف يكونون مسرورين؟ (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لدهشتهم التي عرضت لهم في ذلك الموقف الخطير الذي يذهل الرّسل عن الجواب على مثل هذا السؤال ، فما ظنك بالضّلال والكفّار.

٦٧ ـ (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ ...) أي تاب من الشرك وآمن بالله ورسوله

(وَعَمِلَ صالِحاً) مشفعا الإيمان بالعمل ، إذ يعرف أن العمل هو الجزء الأخير من العلة للفلاح ، والعلم بلا عمل لا يفيد كالشجر بلا ثمر. وفي القمي عن الصّادق عليه‌السلام قال : إن العبد إذا دخل قبره وفزع منه يسأل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقال له : ماذا تقول في هذا الرجل الذي كان بين أظهركم فإن كان مؤمنا قال : أشهد أنّه رسول الله جاء بالحق ، فيقال له : ارقد رقدة لا حلم فيها ، ويتنحّى عنه الشيطان ويفسح له في قبره سبعة أذرع ويرى مكانه من الجنّة. وإذا كان كافرا قال : ما أدري ، فيضرب ضربة يسمعها كلّ من خلق الله إلا الإنسان ويسلّط عليه الشيطان وله عينان من نحاس أو نار تلمعان كالبرق الخاطف فيقول له أنا أخوك ، وتسلّط عليه الحيّات والعقارب ، ويظلم عليه قبره ، ثم يضغطه ضغطة تختلف لها أضلاعه عليه. فيستفاد من هذه الرواية أن النداء كان في عالم الدنيا لا في القيامة ، ثم إن المشركين قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فطعنوا وقالوا لم اختار الله محمدا للنبوّة وما اختار رجلا عظيم المنزلة والشأن من الطائف مثل عروة بن مسعود الثقفي أو من أهل مكة كالوليد بن المغيرة فينبغي أن يكون صاحب هذا المنصب العالي مثل هؤلاء الرجال لا مثل محمد يتيم أبي طالب فأجابهم الله سبحانه بقوله :

٦٨ و ٦٩ ـ (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ...) أي يوجد كلّ شيء يريده بلا مانع ولا رادع (وَيَخْتارُ) لرسالته من هو الأصلح لعباده ، فإنه الخالق لهم وهو يعرف الأصلح من غيره فليس لعباده كالوليد بن المغيرة وغيره من صناديد العرب أن يطعنوا في من اختاره الله واصطفاه للرسالة ويؤثروا على من اختاره الله غيره ممّن لا يصلح لها ولا له الأهلية لذلك (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم الاختيار. والخيرة اسم من الاختيار أقيم مقام المصدر (سُبْحانَ اللهِ) أي هو تعالى منزّه عن أن ينازعه أحد أو يزاحمه فيما اختاره (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ارتفع عن إشراكهم الحامل لهم أن يختاروا على مختاره تعالى غير المختار. وفيه ردّ على من جعل الإمامة

باختيار الخلق ، وفي الإكمال عن القائم عليه‌السلام أنه سئل عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم. قال : مصلح أم مفسد؟ قيل : مصلح. قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد. قيل : بلى. قال : فهي العلة ، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك. ثم قال عليه‌السلام : أخبرني عن الرّسل الذين اصطفاهم الله عزوجل وأنزل عليهم الكتاب وأيّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم ، مثل موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما ، إذ هما بالاختيار ، أن يقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنه مؤمن قيل : لا. قال : هذا موسى كليم الله ، مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي إليه ، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه ولاستماع كلام ربّه عزوجل سبعين رجلا ممّن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقع خيرته على المنافقين ، قال عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ، إلى قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ). فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله عزوجل للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح ، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد ، علمنا أن الاختيار لا يجوز أن يقع إلّا ممّن يعلم ما تخفي الصدور وتكنّ الضمائر وتنصرف إليه السرائر ، وأنه لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا أرادوا الصلاح.

وهكذا فإنه سبحانه يقيم الحجة على صحة اختياره بقوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ، إذ يعلم ما تضمر الصدور وما تخفي النفوس من عداوة الرسول والمؤمنين ، ويعلم (ما يُعْلِنُونَ) ما يبرزونه ويظهرونه من الطعن في نبوّة النبيّ وتكذيب القرآن. فمن يكون هذا شأنه ينبغي أن يختار الأصلح ، لا من يعلم ظواهر الأشخاص دون بواطنهم. فكيف بمن لا يميّز الأصلح ، لا من يعلم ظواهر الأشخاص دون بواطنهم. فكيف بمن لا يميّز الأصلح من الأفسد؟ والحاصل أنه سبحانه وتعالى هو المتفرّد في الخلق وفي اختيار الأصلح لقيادة عباده وهداهم ، وهو منزّه عن الشريك والمنازع في

ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله من خلق واختيار وغيره ، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

* * *

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣))

٧٠ ـ (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ...) أي أنه لا معبود بحقّ سواه ، و (لَهُ الْحَمْدُ) أي المدح والثّناء (فِي الْأُولى) أي في الدّنيا (وَلَهُ الْحُكْمُ) الأمر والنهي أو القضاء النافذ أو الحكم بالمغفرة والفضل لأهل الطاعة وبالشقاء والويل لأهل المعاصي ثم بعد ذلك يذكر التوحيد وقدرته بقوله سبحانه :

٧١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ... عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً ...) أي دائما بأن يبقي الشمس وراء الأرض ساكنة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) هل يقدر غير الله إله آخر أن يأتي بضياء لكم بإثبات الشمس قبالة الكرة الأرضيّة لتضيء الدنيا فتشتغلون بطلب المعاش (أَفَلا تَسْمَعُونَ) مواعظ الله وبيان آياته بأذن

التدبّر والتفكّر لتعتبروا؟ والاستفهام تقريريّ ، أي من هذه العلامة التي هي من علائم القدرة لا بد وأن تعترفوا بكمال قدرته ووحدانيته وتنزيهه عمّا تقولون به من الشّرك.

٧٢ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ ... النَّهارَ ...) أي أخبروني عمّا إذا جعل النهار (سَرْمَداً) دائما بحبسها فوق الأرض ومنعها عن الحركة من السرد وهو المتابعة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أيّ قادر يقدر على حركة الشمس سوى الله القادر المتعالي الذي بيده أزمّة أمور العوالم وما فيها وعليها بحذافيره وأسره؟ من (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) تستريحون فيه من نصب العمل ومشاقّه (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إمّا من البصيرة يعني : أفلا تتبصّرون؟ وإمّا من البصر بمعنى المشاهدة أي : أفلا تشاهدون ولا تنظرون تلك الآيات الظاهرة بعين التعقّل والتدبّر فتعلمون أنها من صنع مدبّر حكيم عليم؟

٧٣ ـ (وَمِنْ رَحْمَتِهِ ...) أي رحمته الواسعة (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) خلقهما لكم (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) لاستراحتكم في الليل والتذاذكم فيه من أتعاب الأشغال في النهار (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار من الرزق الذي قرّره الله تعالى لكم بفضله وكرمه لا باستحقاقكم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله تعالى أي لإرادة شكركم على نعمتيه : الليل والنهار لكثرة فوائدهما المذكورة وغيرها مما لم نذكره.

* * *

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

٧٤ ـ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ ...) إنما كرّر هذه الآية بعينها أو بمضمونها تقريعا لهم بعد تقريع ، أو أن النداء الأول في الآية الأولى السابقة لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغي ولتقرير فساد رأيهم ، والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان بحضرة الأشهاد وأنّه لم يكن لهم برهان.

٧٥ ـ (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ...) أي أخرجنا من بين أفراد كلّ أمة نبيّهم الذي أرسل إليهم يشهد عليهم بما كان منهم وبما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمم الذين لم يتّبعوا نبيّهم وكذّبوا ما جاءهم به من عند الله تعالى (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على صحة ما كنتم عليه (فَعَلِمُوا) بعد عجزهم عن الإتيان ببرهان على مدّعاهم (أَنَّ الْحَقَ) أي في الإلهيّة (لِلَّهِ) وحده (وَضَلَّ عَنْهُمْ) اي غاب وزهق (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل واللّغو.

* * *

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً

وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

٧٦ ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى ...) لا يخفى أن الله تعالى افتتح هذه السّورة الشريفة ببيان قصّة موسى وفرعون حيث قال (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فأراد أن يختتمها بقصّة قارون وموسى وبيان حال قارون وكيفيّة هلاكه حتى يكون عبرة لأهل الدّنيا وأهل الكبر والنخوة فقال سبحانه (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) فنصّ القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه‌السلام وظاهره يدل على أنه كان ممّن آمن به. ولا يبعد حمل قوميّته على القرابة ، ولذا اختلفوا في كيفيّة القرابة فقيل كان ابن خالته وهذا القول منقول عن ابن عباس ومرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أو ابن عمّه (ع) لأن قارون كان ابن

يصهر بن فاهث بن لاوى وموسى بن عمران بن فاهث بن لاوى من أولاد يعقوب (فَبَغى عَلَيْهِمْ) تكبّر وطلب الفضل والتفوّق عليهم بعد أن كان في زمان فقره واحتياجه متواضعا وخليقا ، وكان ممن آمن بموسى واختاره موسى في السبعين الذين اختارهم لميقاته فكان منهم وسمع كلامه تعالى وكان أقرأ بني إسرائيل في قراءة التوراة وأتقنهم. وقيل إنّ إيمانه كان ظاهريّا وفي الباطن كان كافرا كالسّامري ، فأراد سبحانه أن يختبره حتى يظهر كفره ونفاقه على الناس جميعا فأعطاه مالا وجاها عريضا فتطاول على بني إسرائيل وتكبّر بحيث خرج عن إطاعة موسى وأنكر ما جاء به واستطال عليهم بكثرة كنوزه كما قال جلّ اسمه (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) من الأموال المدّخرة (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) أي ما يفتح به الغلق بناء على كونها جمع مفتح بالكسر ، وأما بناء على كونها مفتح بالفتح فهو الخزانة. والأوّل هو الأنسب الأظهر ، وتذكير الضمير باعتبار بعض المستفاد من كلمة (مِنْ) والمراد مفاتيح الصناديق (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) تثقل عليهم وتعجز عن حملهم إياها وحفظهم لها. والعصبة : قيل هو العشرة كما قال تعالى في إخوة يوسف : ونحن عصبة ، وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم ، وقيل أربعون ، وقيل ستّون. ثم بيّن سبحانه أنه كان في قوم موسى عليه‌السلام من وعظ قارون بأمور ، أحدها قوله (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي لا تبطر بالنّعمة ولا يلهك المال عن الآخرة لأن من يعلم أنه سيفارق الدنيا لا يفرح بها. وثانيها قوله تعالى :

٧٧ ـ (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ ...) أي من الأموال ، فاطلب بها الآخرة بإنفاقها في سبل الخير الموصلة إليها. وثالثها : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) واعمل في الدنيا للآخرة ولا تنس أن تعمل لآخرتك ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو الذي يعمله لآخرته. أو المراد لا تنس من هذه الأموال التي أعطاك الله إياها في الدنيا حظّ نفسك ، وخذ منها مقدارا تشتري به الجنّة ، ولا تتركها كلّها للورّاث حتى ثلثها الذي جعله الله لك فيجب أن تستفيد منه في أمر آخرتك فإن نصيب المرء من الدنيا ليس غير

ما أنفقه في طاعة الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدّنيا دار إلّا الجنة أو النار ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل الموت. والرابعة (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أنفق إلى عباد الله بإزاء إحسان خالقهم إليك ، ويدخل فيه وجوه الخير والإعانات. والخامسة (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تطلبه. والمراد من الفساد الظلم والاستطالة على الناس ، والجناية ، بل مطلق المعاصي والخيانات فهي فساد في الأرض ، والعلم عند الله تعالى. وفي مصباح الشريعة قال الصادق عليه‌السلام : فساد الظاهر من فساد الباطن ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن خان الله في السرّ هتك الله سرّه في العلانية ، وأعظم الفساد أن يرضى العبد بالغفلة عن الله تعالى ... وكانت هذه الخصال الخمس من أوصاف قارون وأحواله وأصلها يرجع إلى حبّ الدنيا ، ولذا قيل : إنه رأس كل خطيئة.

٧٨ ـ (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ...) اختلف في معناه ، فقيل : أراد إنما أعطيت هذا المال بفضل وعلم عندي ليسا موجودين عندكم ، يعني أنه قدّر هذا المال ثوابا من الله تعالى له لفضيلته على سائر بني إسرائيل كما أخبر سبحانه عن عقيدة هذا الفاسق بقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وقيل معناه : لرضاء الله عنّي ومعرفته باستحقاقي أعطاني هذا المال والجاه. وقيل معناه إن المال حصل لي على علم عندي بوجوه جمع المال من المكاسب والتجارات والزراعات وغيرها. وقيل علم عندي بصنعة الذهب وهو علم الكيمياء عن الكلبي. ثم إنه تعالى توبيخا على اغتراره بقوّته وكثرة أمواله وتخويفا له يقول : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) كشداد وعاد وثمود وأصحاب الرس (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) قال القمي : أي لا يسأل من كان قبلهم عن ذنوب هؤلاء المهلكين.

٧٩ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ...) قال القمي : في الثياب المصبّغات يجرّها على الأرض ، وقيل على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيّه ، وقيل كيفيّات أخر في زينته ولا كثير فائدة في نقلها بل الأولى تركها لأنها متعارضة ولا طائل تحتها (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنّوا مثله لا عينه حذرا من الحسد.

٨٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي الخلّص من أصحاب موسى كيوشع وأصحابه (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وهذه كلمة زجر عما هو غير مرضيّ. والشريفة تدلّنا على وظيفتنا المهمة وهي النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وتدلّ على أنهما لا يختصّان بشريعة دون شريعة بل كانا واجبين في جميع الأديان والشرائع حيث نرى أن أرباب العلم وأصحاب التوحيد من أتباع موسى لمّا رأوا الناس تمنّوا مثل ما كان لقارون وعلموا أن فيه هلاكهم كما كان هلاك قارون فيه ، زجروهم عمّا تمنّوا من الدنيا الفانية المهلكة ونهوهم عن ذلك ودعوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم دنيا وآخرة وهو ثواب الله الباقي ، وأمروهم بالحقيقة بتحصيله والأخذ به (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي لا ينالها غيرهم ، أو لا يوفّق لها وللعمل بهذه الكلمة التي ألقاها العلماء ، سوى الذين صبروا على الطاعات وعن المعاصي واستغنوا بقليل الدّنيا عن كثيرها.

٨١ ـ (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ ...) أي ابتلعته وداره وما فيها من كنوز وصناديق من الذهب والفضة ومختلف الجواهر القيّمة بأمرنا لئلّا يقول الناس بعد هلاكه إن موسى أهلكه ليرث ميراثه حيث إن موسى كان ابن عمّه فلذا لم يبق على وجه الأرض شيء من أمواله (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ) أي من أعوان يدفعون عنه العذاب. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام قال : إن يونس عليه‌السلام لمّا آذاه قومه ، وساق الحديث إلى أن قال : فألقى نفسه فالتقمه الحوت فطاف به البحار السّبعة حتى صار إلى البحر المسجور ، وبه يعذّب قارون. فسمع قارون دوّيا فسأل الملك عن

ذلك فأخبره الملك أنه يونس ، وأنّ الله حبسه في بطن الحوت. فقال له قارون : أتأذن لي أن أكلّمه؟ فأذن له ، فسأله عن موسى فأخبره أنه مات ، فبكى. ثم سأله عن هارون فأخبره أنّه مات ، فبكى وجزع جزعا شديدا. وسأله عن أخته كلثم وكانت مسمّاة له ، فأخبره أنها ماتت ، فبكى وجزع جزعا شديدا. قال فأوحى الله إلى الملك الموكّل به أن ارفع عنه العذاب بقية أيام الدنيا لرقّته على قرابته.

٨٢ ـ (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ ...) أي الذين كانوا يترجّون مكانة قارون ويأملون منزلته ورفيع جاهه قبل الخسف ، وكانوا يقولون يا ليت لنا مثل ما كان لقارون من الأموال والرفعة ، فبعد الخسف رجعوا من مقالتهم وكانوا متأثرين ومتأسفين على ما ترجّوه وأمّلوه ، وأقبلوا على الصّلاح والسّداد وزجروا القائلين بالمقالة قبل الخسف بقولهم (ويك إن الله) كلمة وي تستعمل في الزّجر ، ركبّ مع كاف الخطاب نحو ذلك اي أمنعك أيّها القائل عن مقالتك غير المرضيّة لله والباعثة على هلاك نفسك حيث إن الله تعالى ، (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) أي أن سعة الرزق وضيقه بيد قدرته وحسب ما تقتضيه الحكمة وتحكم المصلحة. ويستعمل في التعجّب أي موضوعة له على ما نقل عن أهل اللغة. أي أتعجّب من تلك المقالة وأنّ الله يبسط الرزق ، الآية .. وعن القمي : هي كلمة سريانيّة ، وقيل معاني أخر ، كقول البعض : وي كلمة يستعملها النّادم لإظهار ندامته : ولعل هذا المعنى أحسن المعاني وانسبها بالمقام والله أعلم. وتأويلات فيها والله تعالى اعلم بها.

* * *

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ

 جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

٨٣ ـ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ...) أي التي سمعت خبرها وبلغك وصفها (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا) غلبة وقهرا (وَلا فَساداً) بغيا وظلما. وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه كان يمشي في الأسواق وهو وال يرشد الضالّ ويعين الضّعيف ويمرّ بالبقّال والبيّاع فيفتح عليه القرآن ويقرأ هذه الآية ، ويقول : نزلت في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس ، وعنه عليه‌السلام أنّه قال لحفص بن غياث : يا حفص ما منزلة الدنيا من نفسي إلّا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها ، وكان يتلو له تلك الدار الآخرة إلى آخرها ، وجعل يبكي ويقول : ذهبت والله الأماني عند هذه الآية ، فاز والله الأبرار. تدري من هم؟ الذين لا يؤذون الذّر كفى بخشية الله علما ، وكفى بالأغرار بالله جهلا.

٨٤ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ... إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ...) أي مثل ما كانوا يعملون لا يزاد على قدر استحقاقهم في عقابهم ، بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق فإنّه يكون تفضلا.

* * *

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

٨٥ ـ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...) أي أوجب تلاوته وتبليغه وامتثال ما فيه من الأحكام (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قيل لما نزل النبي (ص) الجحفة في سيره إلى المدينة مهاجرا ، اشتاق إلى مكة. فأتاه جبرائيل (ع) فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال : نعم. قال جبرائيل : فإنّ الله يقول : إنّ الذي فرض (الآية) فالمراد من (مَعادٍ) هو مكة ، والله تعالى يبشّر النبيّ (ص) برجوعه وعوده إليها يوم الفتح كما كان فيها. وتنكير (مَعادٍ) لعظم شأن مكة. وعند بعض الأعلام أن المعاد هو يوم البعث. وعن الباقر عليه‌السلام أنه ذكر عنده جابر فقال : رحم الله جابرا ، لقد بلغ من علمه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية ، يعني الرّجعة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي قل يا محمد إن ربّي لا يخفى عليه المهتدي وما يستوجبه (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الضالّ الذي لا شك في ضلالته وفيما يستحقّه.

٨٦ ـ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى ...) أي ما كنت يا محمّد ترجو فيما مضى أن يوحى الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ما ألقي إليك إلّا رحمة منه خصّك بها. ثم أمره بأمور أحدها (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) معينا لهم بمداراتهم والتحمّل عنهم والإجابة لطلبتهم. وهذا الخطاب وأمثاله وإن كان للنبيّ لكنّ المراد قومه. فقد روي عن ابن عباس أنّه كان يقول : القرآن كلّه إيّاك أعني واسمعي يا جارة. وعن القمي قال : المخاطبة للنبيّ (ص) والمعنى للناس. وثانيها قوله تعالى :

٨٧ ـ (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ...) أي لا يصرفك الميل إلى الكفرة عن قراءة آيات الله والعمل بها بعد نزولها إليك. ثالثها قوله سبحانه : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) إلى توحيده وعبادته. ورابعها قوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بمساعدتهم والرّضا بطريقتهم فإن من رضي بفعل قوم وعملهم فإنّه منهم. وخامسها قوله تعالى :

٨٨ ـ (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) هذه النواهي والأوامر كان من المعلوم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يفعل منها شيئا ، ويفعل ما أمر به ، فما الفائدة فيها؟ والجواب ما قاله الصادق عليه‌السلام : أنّ الله بعث نبيّه بإياك أعني واسمعي يا جارة (إِلَّا وَجْهَهُ) الوجه ما يواجه الإنسان أو كل ذي وجه به ، والله سبحانه يواجه عباده حينما يخاطبهم بواسطة نبيّ أو وصيّ أو عقل كامل ، فهم وجه الله الذي يؤتى منه ، ولا يهلك من أطاعهم وأخذ طريق الحق منهم لأنه قد أطاع الله ، ومن تمسّك بهم نجا ومن تخلّف عنهم هلك (لَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء النافذ في الخلق (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء بالحق والعدل.

* * *

سورة العنكبوت

مكية إلّا من آية ١ إلى ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

١ ـ (الم ...) أشرنا سابقا إلى تفسير الحروف المقطّعة فلا نعيده.

٢ ـ (أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أي أظنّ الناس أن يقنع منهم و (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فيهملوا ويخلّوا إذا قالوا إنّا مؤمنون فقط ، ويقتصر منهم على هذا المقدار ولا يمتحنون بما تظهر به حقيقة إيمانهم؟ هذا لا يكون. والاستفهام هنا استفهام إنكار وتوبيخ. وعن النبيّ صلّى الله

عليه وآله أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال : لا بد من فتنة تبتلى بها الأمّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب ، لأن الوحي قد انقطع وبقي السيف وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

٣ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي اختبرناهم ، فهي سنّة جارية قديمة في الأمم كلّها ولا تختص بأمّة دون أمّة (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي ليميّزنّ الله الذين صدّقوا من الذين كذّبوا بالجزاء والمكافأة. والتعبير عن التمييز والجزاء بالعلم من باب إقامة السبب مقام مسبّبه ، حيث إن علمه تعالى بصدق طائفة في قولهم آمنّا ، وكذب أخرى ، صار سببا للتميّز في الجزاء والمكافأة ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الزمر (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) فإن أكله سبب لقضاء الحاجة فكنّى بذكره عنها. وفي المجمع عن أمير المؤمنين والصادق عليهما‌السلام أنهما قرءا بضمّ الياء وكسر اللّام فيهما من الاعلام ، أي : ليعرّفنهم الناس. ولعل التعبير بالماضي في صدقوا وبالفاعل في الكاذبين ، لأن اسم الفاعل يدلّ على الثبوت والاستمرار ، والفعل لا يدل عليهما حيث إنه لا يفهم من معنى الفعل التكرار ، مثلا يقال : فلان شرب الخمر ، وفلان شارب الخمر. فالفرق بين الصيغتين واضح. ولما كانت الآية وقت نزولها حكاية عن قوم قريبي العهد في الإسلام وعن جماعة مستديمة الكفر وبعيدة العهد به مستمرين عليه فلذا إنه تعالى عبّر عن الطائفة الأولى بالفعل الماضي وعن الثانية بالفاعل والله أعلم بقوله الشريف.

٤ ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) هذا استفهام منقطع عمّا قبله وليست التي هي معادلة الهمزة. والمعنى : بل أحسب الذين يفعلون الكفر والقبائح (أَنْ يَسْبِقُونا) أن يفوتونا فوت السابق لغيره نحو ما في المخلوقين فلا نقدر على أخذهم والانتقام منهم وأن نجازيهم على مساويهم ، أو أن لا نستطيع إدراكهم ومعاقبتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا بأنهم يعجزوننا فلا نقدر عليهم يجب أن لا يتخيّلوا هذا فليس الإمهال يفضي إلى

الإهمال ، لأن التعجيل في العقوبة شغل من يخاف الفوت لا شغلنا ، فإنما نمهلهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب أليم.

* * *

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

٥ ـ (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ...) في القمي : من أحبّ لقاءه جاءه الأجل. وقيل من كان يأمل الثواب ، أي الوصول إلى ثوابه ، أو يخاف العاقبة من الموت والبعث والجزاء (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي الوقت الموقّت للقائه (لَآتٍ) أي لقادم ، فليسارع العبد الراجي إلى ما يوجب الثواب ويبعد من العقاب (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأفعالهم.

٦ ـ (وَمَنْ جاهَدَ ...) جاهد : حارب أي من جاهد الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه. ويحتمل من جاهد أعداء الدّين لإحيائه ، أو من جاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه عن اللّذات والشهوات والمعاصي (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ)

لأن نفعه يرجع إليها (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فلا حاجة به إلى طاعتهم ولا تضرّه معصيتهم وإنّما كلّفهم لمنفعتهم.

٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي ...) أي نجزيهم على أحسن عملهم بأحسن جزاء ، وبعد ذلك نجزيهم على أعمالهم الأخر التي دون العمل الأحسن طبق العمل الأحسن. مثلا : أحسن الأعمال هو التوحيد ، فجزاؤه يكون الأحسن إمّا مرتبة أو أكثر ، ثم نعطيهم مثل جزاء التوحيد على بقيّة أعمالهم التي دون التوحيد مرتبة وفضلا.

٨ و ٩ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ...) أي الإتيان لهما بالفعل الحسن أو ما هو في ذاته حسن مبالغة ، أو قلنا له : افعل بهما حسنا وإذا دعياك وألحّا عليك (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي علم بإلهيّته عبّر عن نفيها بنفي العلم إشعارا بأن ما لا تعلم صحته لا يجوز اتّباعه وإن لم يعلم بطلانه فضلا عمّا علم بطلانه (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأمر سبحانه بطاعة الوالدين في الواجبات حتما وفي المباحات ندبا ، ونهى عن طاعتهما في المحظورات. والصالحون من الناس ندخلهم يوم القيامة مع الصالحين.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

١٠ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ... فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ...) أي لدينه ، يعني لأخذه طريق الحق يؤذيه الكفرة (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) يعدّ ويحسب عذاب الناس من المشركين (كَعَذابِ اللهِ) أي عذاب الناس يصير صارفا له عن إيمانه كما أن عذاب الله صارف لأهل الإيمان عن الكفر (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) أي فتح وغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ولنا في الغنيمة مثلكم (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي يعلم الإخلاص والنفاق ويعلم الصدق والكذب.

١١ ـ (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يعرف حقيقة ما في القلب لا باللّسان فقط (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا بدّ من تميّز الفريقين في الدّنيا حتى يظهر الحق من الباطل والصّادق من الكاذب ، فلذا يبتليهم بالبلايا والمحن فإن المرء ما لم يبتل بهما لا تعرف حقيقة جوهره فالبلاء هو المحكّ لاختباره كما أن بالمحكّ يعرف ويمتحن خالص الذّهب من المغشوش ، وبعد الاختبار يجازى الفريقان. والآية الشريفة تهديد للمنافقين بأن الله سبحانه يعلم ما تخفي صدورهم ، وهو ظاهر عند من يملك الجزاء فيجازيهم على ما تخفي صدورهم وعمّا قريب تحلّ الفضيحة العظمى بهم.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

١٢ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ...) أي قال الكافرون

للمؤمنين : كونوا على طريقتنا ، وإذا كان البعث والحساب والعقاب حقّا كما يقول محمّد فنحن نتحمّل ذنوبكم فنعذّب مرّتين مرّة بذنوبنا وأخرى بذنوبكم ، وهو سبحانه ردّهم وكذّبهم وبعد ذلك قال :

١٣ ـ (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً ...) أي أنّهم تضاعف أثقالهم بحملهم أثقال من تبعهم كما قال (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأثقالا أخر عمّن تسبّبوا له بالإضلال والحمل على المعصية من غير أن ينقص من أثقال تابعيهم شيء ، وبعد ذلك نسألهم بالتأكيد (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب والأباطيل والحيل لإضلال الناس.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

١٤ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) ثم إنّه تعالى لما بيّن أقسام الناس من المؤمنين والكافرين ، وذكر أقسام الكفرة وأنّ منهم الذين كانوا مصرّين على الكفر والإلحاد بحيث لم يقنعوا بكفرهم فقط بل قالوا للمؤمنين ما حكى هو تعالى بقوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) إلخ ... فأراد أن يذكر أن هذه السنّة السّيئة ما كانت مختصة بعصر النبيّ (ص) وأمّته ، بل هي جارية في الأمم السابقة أيضا ، وذكر أن من جملة المصرّين قوم نوح وكانوا أشدّ الأمم إصرارا على الكفر والإلحاد كما حكى الله قصتهم بقوله : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يؤمنوا به وأبوا أن يجيبوه ، إلّا ثمانين أو سبعين.

وعن محمد بن كعب أنه قال : عشر نفرات خمس نسوة وخمسة رجال.

والحاصل أن نوحا عليه‌السلام أرسل إلى قومه على رأس أربعين سنة من عمره الشريف فلبث فيهم تسعمئة وخمسين عاما وهو يدعوهم إلى الله فلا يجيبونه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فاستجاب الله دعاءه (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بإصرارهم على كفرهم. والطوفان هو بيان لكل شيء أطاف وأحاط بكثرته وغلبته من الماء الكثير أو الظلام أو أمثال ذلك.

١٥ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ...) أي أنجينا نوحا ومن ركب معه فيها. وقد أشرنا آنفا إلى عدّتهم. وعاش بعد هلاك القوم ونجاة من ركب السفينة ستّين عاما (وَجَعَلْناها) أي القصة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) يعتبرون بها فيتعظون. ومن جملة الأمم المصرّين على الكفر والإلحاد قوم إبراهيم عليه‌السلام على ما ذكر قصّتهم هو تعالى في كتابه فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

١٦ ـ (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) عطف على نوح. أي : أرسلنا إبراهيم. وقيل نصبه على تقدير اذكر ، أي : اذكر يا محمد قصة إبراهيم

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الاتّقاء والطاعة والعبادة خير لكم من شرككم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير من الشرّ والنفع من الضّرر.

١٧ ـ (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي غير الله (أَوْثاناً) جمادات تسمّونها أربابا (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) تكذبون كذبا في تسميتهم آلهة (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) لا يقدرون أن يرزقوكم شيئا ممّا تحتاجون إليه ليلا ونهارا. فما فائدة تلك الجمادات التي تنحتونها وتعبدونها وأنتم أشرف وأنبل منها؟ والأشرف أولى أن يكون معبودا ، أفلا تتدبّرون؟ (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ) العبادة ينبغي أن تختص بمن هو الرزاق ذو القوة والقدرة المتين وهو الله الذي لا إله إلّا هو (وَاشْكُرُوا لَهُ). فإن الشكر قيّد للنّعمة العاجلة وصيد للنّعمة الآجلة.

١٨ ـ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ ...) يحتمل أن تكون الشريفة من جملة قصّة إبراهيم وتسلية له عليه‌السلام كما تقتضيه الآيات السابقة واللّاحقة بحكم السّياق. لكن عن القمّي أنه قال : انقطع خبر إبراهيم وخاطب الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا من المنقطع المعطوف. وأيّد هذا الكلام بقول بعض أرباب التفاسير أن ساق خبر إبراهيم لتسلية الرسول والتنفيس عنه بأن خليل الله كان مبتلى بما ابتلي به نبيّنا من شرك القوم وتكذيبهم ، وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم في قومه. ولذلك توسط مخاطبتهم بين طرفي قصته (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كذبوا رسلهم ولم يضرّهم تكذيبهم وإنما ضرّوا أنفسهم. فكذا شركهم وتكذيبهم إيّاك يلحق ضرره بهم.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ

 فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

١٩ و ٢٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ ...) قرئ بالتاء على تقدير القول ، أي : قل : أولم تروا. فالظاهر أنّ الخطاب لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته. وقرئ بالياء أيضا ويحتمل أن يكون المراد بضمير الجمع كفّار مكّة الذين أنكروا البعث وأقرّوا بأن الخالق هو الله ، فقال : أولم يتفكّروا فيعلموا كيف بدأ (اللهُ الْخَلْقَ) بعد العدم ثم يعيدهم ثانيا؟ ومن قدر على الإنشاء فهو على الإعادة أقدر (إِنَّ ذلِكَ) المذكور من الإبداء والإعادة (يَسِيرٌ) سهل على الله إذا اراده كان. ولا يخفى أن من الآية ١٨ (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) إلى الآية ٢٤ (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) احتمالين فيمكن أن تكون انشاءاته وإخباراته في إبراهيم وأمته ، ويمكن أن تكون في محمد وأمّته ، ونسأل الله أن يهدينا إلى سبيل الرشاد.

٢١ ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ... وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ...) أي تردّون فيحاسبكم ويعذّب المستحقّ للعذاب ويرحم من يستحق الرحمة.

٢٢ ـ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي لا يعجز الله عن إدراككم لو هربتم عن حكمه لو كنتم بشرا (فِي الْأَرْضِ) الواسعة أو (فِي السَّماءِ) التي هي أوسع من الأرض بمراتب كثيرة. والحاصل أن

الهرب من حكمه لا يفيدكم فإنكم إذا تحصّنتم في أعماق الأرض أو في القلاع المماسّة للسّماء لأخرجكم منها ليجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) مانع يمنعكم منه (وَلا نَصِيرٍ) ناصر يحرسكم ويدفع عنكم عذابه وبلاءه ممّا قضى به عليكم.

٢٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي بدلائله الدالة على المعرفة والتوحيد أو كتبه (وَلِقائِهِ) أي البعث (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) لإنكارهم البعث والجزاء. وقد جاء التّعبير بالماضي لتحقّقه ، ف (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع.

* * *

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

٢٤ ـ (فَما كانَ جَوابَ ... إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ ...) هذا قول بعضهم. وقال آخرون : (أَوْ حَرِّقُوهُ) ونسبة كلّ واحد من الفعلين إلى جميعهم باعتبار رضاء الباقين حين قال البعض ، فكأنّ جميعهم قالوا بمقالة البعض. والحاصل أنهم بعد الاختلاف اتّفقوا على التحريق ولعلّ ترجيح التحريق لميل حكومة الوقت لذلك حقدا عليه ، حيث إن القتل ربما كان يخفى على أهل بعض البلدان بخلاف التحريق بتلك الكيفية المشهورة فيكون إعلانا عالميّا بأن كلّ من عمل إبراهيم وخالف فهذا جزاؤه ، فاشتهر الأمر في جميع البلدان بحيث كان المخالفون لطريقتهم الدينيّة قد عرفوا تكليفهم فاحتاطوا ليأمنوا من مخالفته وبأسه بعد ذلك.

ولكنّ الله تعالى قدّر خلاف تدبيرهم فصار الأمر طبق التقدير إرغاما لهم فأنتج تدبيرهم خلاف ما أمّلوا وراموا إذ (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) بعد ما رموه فيها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنجائه (لَآياتٍ) منها منعه من حرّها ، وسرعة إخمادها مع عظمها ، وجعله مكانها روضا ، وعدم تضرّره بالرّمي مع بعد المرمى عن المرميّ إليه وهي النار (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والاختصاص بالمؤمنين فقط لأنهم أهل التفكّر والتدبّر وأصحاب الاعتبار.

٢٥ ـ (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ... مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ...) ثم إن إبراهيم عليه‌السلام بعد نجاته من النار قال لقومه : إنما اتخذتم الأوثان آلهة لتكونوا أهل دين واحدة وملّة واحدة فتتوادّون بينكم وتتواصلون فتكونون متّحدين في قبال أصحاب الحق ومذهب الصواب إذ ان الاتفاق على مذهب يكون سببا للمودّة بين المتفقين.

وهذه المودّة بينكم تبقى إلى حين الوفاة ، وبعدها تصير المودة عكس ما في الدّنيا كما حكاه الله تعالى بقوله (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) والباء إمّا زائدة إذا كان المراد بالكفر كفر جحود ، وإمّا بمعنى (من) إذا كان المراد به كفر براءة ، أي يتبرّأ بعضكم من بعض؟ وفي الكافي عن

الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية : يعني يتبرّأ بعضكم من بعض. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الكفر في هذه الآية البراءة ، يقول فيبرأ بعضكم من بعض ، إلى آخر الحديث (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يقوم التلاعن والتّعادي بينكم ، أو بينكم وبين المعبودين من الأوثان كقوله تعالى : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مالكم أعوان يخلصونكم منها.

٢٦ ـ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ...) أي صدّق لوط إبراهيم في رسالته من عند ربّه. وفي ما جاء به ، وكان لوط ابن خالته (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي قال إبراهيم للوط ولزوجته سارة التي كانت بنت عمّه وقد آمنت به. وقيل إنّ لوطا كان ابن أخته وأوّل من آمن به وقيل ابن أخيه وأمن به حينما رأى أنه خرج من النار سالما ، ولكنّ إيمانه بالله كان قبل ذلك ، ولذا قال الله تعالى : فآمن له ، وما قال فآمن لوط.

إنّي خارج من قومي الظالمين إلى حيث أمرني ربّي أي من (كوثى) وكانت نبوّته فيها وهي قرية من قرى سواد الكوفة وفيها بدأ أوّل أمره ، ثم هاجر منها إلى حرّان من أرض الشام ثم منها إلى فلسطين وكان معه في هجرته امرأته سارة (ع) ولوط (هُوَ الْعَزِيزُ) أي هو تعالى يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي. وبالجملة إنّ لإبراهيم هجرتين : الأولى من (كوثى) إلى حرّان ، والثانية من حرّان إلى الشام. ولذا قيل إنّ لكلّ نبيّ هجرة إلّا إبراهيم فإنه كان له هجرتان.

٢٧ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ...) في الكشّاف : إن إبراهيم حين الهجرة كان له من العمر خمس وسبعون سنة وفي تلك السنة وهبه الله تعالى إسماعيل من هاجر التي كانت خادمة سارة فوهبتها له عليه‌السلام ولمّا تمّ له من العمر مائة واثنتا عشرة أو عشرون سنة أعطاه الله إسحاق من سارة بنت عمه التي كانت عاقرا كما قال الله تعالى (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) أي ولدا (وَيَعْقُوبَ) أي نافلة. والمراد بها هنا ابن الابن. ولم يذكر هنا إسماعيل لأن المقصود هنا بيان أنّ النبوّة بعد

إبراهيم لأيّ شخص تنتقل ومن هو الوارث في مواريث الأنبياء ، فذكر إسحاق كان مقدّمة لتعيين النبيّ أو لتعيين الوارث في المواريث ، ولم يكن ذكر إسحاق في مقام بيان أولاد إبراهيم عليه‌السلام وشرحهم ولذا عقّب قوله : (وَوَهَبْنا) إلخ ... بقوله (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ذرّية إسحاق أو يعقوب فإن كل نبيّ بعد إبراهيم كان منهما. وقد كثر الأنبياء وكانوا كلّهم من إسرائيل وبنيه عليهم‌السلام ، وهم ذرّية إبراهيم. وقد بدّل الله عزوجل جميع أحوال إبراهيم بأضدادها فبدّل الله عذابه بالنار بالبرد والسّلام ، وانقلبت وحدته بالكثرة حيث ملأ الدّنيا من ذرّيته وعوّضه عن أقاربه الضّالين المضلّين الذين من جملتهم عمّه آذر ، بأقارب هادين مهتدين ، وهم ذرّيّته الذين جعل فيهم النبوّة والكتاب. وكان إبراهيم عليه‌السلام في أوّل أمره قليل المال ، فأعطاه الله من المال حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده حتى قيل إنّه كان له اثنا عشر ألف من الكلاب الحارسة لماشية مطوقة بأطواق ذهب خالص. أمّا الجاه والرفعة فالنبوّة واقترانه بالأنبياء في الصّلاة والسلام عليه معهم إلى يوم القيامة ، وقد توّج بتاج الخلّة وصار معروفا بشيخ الأنبياء وأولي العزم من المرسلين بعد أن كان مجهول الذكر عند قومه بحيث قال قائلهم : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. وهذا الكلام لا يقال إلّا في مجهول بين الناس. هذه جملة من مقاماته الدّنيويّة ، وأمّا الأخروية فقد قال الله تعالى في حقّه : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي أولي الدّرجات العليا مع المكمّلين في الصّلاح. وهذا الكلام أعظم مدح فيه من ربّ العزّة وقد يجمع الله لأقوام كرامة الدنيا والآخرة فهنيئا لهم ونسأله سبحانه أن يرزقنا خير الدنيا والآخرة. ثم إنّه سبحانه وتعالى لما كان في مقام شرح أحوال أنبيائه كما لاحظنا في مقامات عديدة سالفة ليكون النبيّ (ص) على بصيرة إذا سئل فيكون الجواب من معجزاته ، لذا بيّن في هذه السّورة أيضا جملا من أحوالهم مع أممهم تسلية له واعتبارا لأمّته فقال سبحانه :

* * *

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

٢٨ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ...) إمّا عطف على إبراهيم ، أي : ولقد أرسلنا لوطا أو بتقدير : اذكر مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة الشّنعاء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) لفظة (مِنْ) زائدة داخلة على الفاعل لتأكيد عدم صدور هذا العمل عن أحد قبلهم من أهل الدنيا بأسرهم وهذا الكلام يؤكّد شناعة العمل وعظم حرمته عنده تعالى بحيث اجتنب عنه جميع الخلق. ثم إنّه تعالى يبيّن الفاحشة بقوله :

٢٩ ـ (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ...) أي تفعلون معهم الفعل الشنيع. والاستفهام إنكاريّ (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) تتركون السبيل المعتاد من مباشرة النساء المشتملة على المصلحة الّتي هي بقاء النوع وترغب فيها الطّباع خلافا لمباشرة غيرهنّ. هذا بقرينة قوله : لتأتون الرّجال وقيل إن المراد بقطع السبيل هو تعرّضهم للسّابلة بالفاحشة والفضيحة حتى انقطعت الطرق. والسّابلة هي الطّريق المسلوكة للأقوام المختلفة. أو المراد قطع سبيل النّسل ، أو باعتراض المارة بالقتل وأخذ المال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ) أي المجلس ما دام أهله فيه (الْمُنْكَرَ) كالضّراط أو اللواط وكشف العورة ونحوها من المنكرات. وفي المجمع عن الرّضا عليه‌السلام : كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء. والقمي قال :

يضرط بعضهم على بعض. والحاصل لما رأى أن القوم لا يتناهون عن منكرهم بحيث يبقى ابتداع تلك الفاحشة في من بعدهم من أولادهم وذراريهم فإنّهم على دين آبائهم كما قال الجهلاء من أهل مكة : إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون. وهذا أمر طبيعيّ في البشر بل في مطلق الحيوان ، فكلّ على مسلكه الطّبيعيّ وعلى ديدن آبائه وأمّهاته يتعلم منهم ما يفعلون ، ولذلك نرى أن تربيتهم وتعليمهم لبعض التكاليف سواء كانت دينيّة أو غير دينيّة أمر صعب تركه كما نشاهد في البشر الذي هو أشرف الموجودات ، لا يخضع لتلك التكاليف الإلهية بل حتى يقتل الذي يقول بما هو خلاف طبعه ولو كان من الأنبياء والرّسل. وبالجملة هذا أمر واضح لا يحتاج في إثباته إلى برهان عند من يرجع إلى وجدانه. ولذا فإن لوطا لمّا آيس منهم أن يؤمنوا به وبما جاءهم به ، دعا عليهم فاستجاب الله دعاءه.

٣٠ ـ (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي ...) أي أعنّي (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بقبائح أعمالهم وسنّها في الناس.

* * *

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢))

٣١ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ ...) أي حين جاءته الملائكة لإنزال العذاب بقوم لوط (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية (سدوم) التي كانت بين القدس والكرك قرب جبال لبنان ، والتي كان يسكنها لوط وبعث إليها لهداية أهلها. وإنّما قالوا (هذِهِ) باسم الإشارة إلى القريب لأن

سدوم كانت قريبة إلى قرية إبراهيم عليه‌السلام وسنهلكهم لأنهم ظالمون لأنفسهم ولغيرهم بما يرتكبون من آثام وكبائر.

٣٢ ـ (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ...) أي كيف تنزلون العذاب بها وفيها لوط سلام الله عليه؟ (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) نعرف من فيها وسيكون ناجيا إلّا امرأته فإنّها (مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب مع من غبر من الكفرة الفجرة.

* * *

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

٣٣ ـ (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا ...) كلمة (أَنْ) زائدة ، زيدت للتأكيد. فلمّا جاءت الرسل لوطا (سِيءَ) أي اغتمّ بسببهم إذ جاؤا في صورة غلمان حسني المنظر أضيافا فخاف عليهم قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي صدرا كناية عن فقد الطاقة. ولمّا رأوا فيه أثر الضّجر (قالُوا لا تَخَفْ) علينا من قومك (وَلا تَحْزَنْ) لأجلنا منهم إنّا رسل ربّك و (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ).

٣٤ ـ (إِنَّا مُنْزِلُونَ ... رِجْزاً مِنَ السَّماءِ ...) أي عذابا منها. وتسمية

العذاب رجزا ورجسا لقلق المعذّب واضطرابه ، يقال ارتجز إذا ارتجس واضطراب.

٣٥ ـ (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً ...) والمراد بالآية إمّا حكايتهم الشائعة ، وإمّا آثار ديارهم الخربة ، أو الحجار السّجيليّة التي توجد بعض الأوقات فيها ، أو المياه السّوداء الباقية إلى الآن المنزلة مع الأحجار وكانت كالقطران (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) للمتدبّرين المتفكرين للإستبصار والإعتبار.

* * *

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

٣٦ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) يمكن أن يراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه‌السلام ، أو أهل مدين الذي هو بلد بناه وسماه باسمه ، وهو على طريق الشام ، وشعيب بن بويب بن مدين ، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه وهم أصحاب الأيكة. وعن قتادة أرسل شعيب مرتين ، مرة إلى مدين وأخرى إلى أصحاب الأيكة وقوله (أَخاهُمْ) لأن شعيبا كان منهم نسبا فأمرهم بعبادة الله تعالى والرجاء منه تعالى ثوابه يوم الآخرة أو الخوف منه ، فان الرجاء استعمل بمعنى الخوف (وَلا تَعْثَوْا) أي لا تسعوا بالفساد.

٣٧ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ...) أي الزلزلة أو صيحة جبرائيل

الّتى صارت سببا للزلزلة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) صرعى على وجوههم أو على ركبهم ميّتين.

* * *

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

٣٨ ـ (وَعاداً وَثَمُودَ ...) عطف على شعيبا أو على ما قبله ، أو بتقدير اذكر ، أو أهلكنا جزاء على كفرهم (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي من جهتها عند مروركم بها يا أهل مكّة ، فإنّها آية في إهلاكهم فلم لا تعتبرون ولا تستبصرون ولم لا تنتبهون؟ (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي متمكّنين من النظر ولكن لم ينظروا ولم يتدبّروا لأن الشيطان اشرب في قلوبهم حبّ أعمالهم الباطلة.

٣٩ ـ (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) : أي أهلكناهم. وقدّم قارون لشرف

نسبه (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين أمرنا ، بل أدركهم وأفناهم كلّهم

٤٠ ـ (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ...) أي عذّبنا كلّ واحد بجرحه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا عاصفا فيها حصباء كقوم لوط على قول (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه وما كان الله تعالى (لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بل كانوا (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإشراكهم وبالتّعريض للعذاب.

* * *

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

٤١ و ٤٢ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي أصناما يلجأون إليها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) أي في وهن ما اعتمدوه في دينهم شبّه الله تعالى حال الكفّار الذين اتخذوا غيره آلهة بحال العنكبوت في ما تنسجه في الوهن والضعف ، فانه لا بيت اوهن وأقلّ وقاية للحوادث والحرّ والبرد منه ، فكذا آلهة الكفرة من الأصنام والأوثان فإنها لا تقدر على دفع

شيء من الحوادث عن نفسها ، فكيف عن غيرها؟ فدينهم أوهن الأديان وأدناها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنّها مثلهم لندموا ورجعوا إلى الدّين الحق وإله الخلق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في صنعه.

٤٣ ـ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها ...) أي هذا المثل ونظائره نجيء به لتقريب ما هو بعيد عن الأفهام ولمعرفة قبح ما هم عليه من عبادة الأوثان وحسن معرفة الله وتوحيده (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) المتدبّرون في حقائق الأشياء على ما ينبغي ، فإن الأمثال والتشبيهات دلائل وطرق إلى المعاني المحتجبة لإبرازها وكشف أسرارها حيث إنّها بغير الأمثال لا تبرز ولا تظهر ولا تتصوّر من غير العالم والجهلة لا يصلون إلى فهمها ولذا كان جهلة قريش يستهزئون ويقولون إله محمّد يمثّل بالذباب وبالعنكبوت ، ويضحكون. ولذا قال تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ...) ثم إنّه تعالى أخذ في بيان ما هو دال على ألوهيّته المطلقة وأنّه سبحانه مستحق للعبادة بقوله عزوجل :

* * *

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ

وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

٤٤ ـ (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ...) أي بغرض صحيح لا بالباطل لهوا ولعبا. فإن المقصود بالذات من خلقهما هو إفاضة الخير وإنزال الرحمة على الخلق أجمعين. منها إسكانهم فيهما على اختلاف أجناسهم وأنواعهم وأصنافهم وأفرادهم ، ومنها دلالتهما مع ما فيهما على ذاته المقدّسة وعلى أوصافه الكاملة كما أشار بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنّهم المنتفعون بها حيث إنّهم الراسخون في الإيمان وأهل الاعتبار.

٤٥ ـ (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) فإنّ قراءته إحياء له وإشاعة لما فيه من الأحكام والوعد والوعيد والقصص الاعتباريّة وغيرها ممّا يحصل به التقرب إليه تعالى بتلاوته وحفظ ألفاظه عن الزيادة والنقصان واستكشاف معانيه ولمصالح أخر هو أعلم بها (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالقمّي نقل أن الإمام عليه‌السلام قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد عن الله عزوجل إلّا بعدا.

وفي رواية أخرى : فليست صلاته بشيء

وقيل : في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى) إلخ .. دلالة على أن فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والنقل ، فإذا كان أثرها أنها تنهى عن القبيح تكون توقيفيّة وإلا فقد أتى المكلّف بها من قبل نفسه. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : من أحبّ أن يعلم أن صلاته قبلت أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قبلت منه.

وروي أن فتى من الأنصار كان يصلّي الصّلوات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويرتكب الفواحش. ووصف ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إن صلاته تنهاه يوما ما. فلم يلبث أن تاب (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) في القمّي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : ذكر الله لأهل الصّلاة

أكبر من ذكرهم إيّاه. ألا ترى أنّه يقول : اذكروني أذكركم؟ وعن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم. وعن ابن عبّاس : ولذكر الله إيّاكم برحمته أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته. وهذه بناء على أنّ المراد بالذكر هو معناه المصدري أي التذكّر ويحتمل أن يكون بمعناه المصطلح أي التسبيح والتمجيد والتحميد وغيرها من الأذكار كما قد روي أن معاذ بن جبل قال : ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله. ما عمل آدميّ عملا أنجى من عذاب الله من ذكر الله حتى الجهاد ، لأنه تعالى قال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أحبّ الأعمال عنده تعالى ، قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل. فإن ظاهر تلك الروايات أن المراد بالذكر هو ما اصطلح بينهم مما ذكرنا ولا سيّما بقرينة ما في بعضها من الاستدلال بقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وفسر بالصّلاة أيضا في بعض الأقوال.

٤٦ ـ (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ...) أي لا تتناقشوا مع اليهود والنصارى من بني نجران (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلّا بالخصلة التي أحسن الخصال كمقابلة الخشونة باللّين والغضب بالحلم والمشاغبة بالنّصح. وفي هذه الآية دلالة على وجوب الدعوة إلى الله على أحسن الوجوه وألطفها واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بنبذ الذمة أو قولهم بالولد أو الابتداء بالقتال (وَقُولُوا آمَنَّا) هذه الشريفة إلى آخرها لعلّها مفسّرة لمجادلة الأحسن وبيان لها من جهة الكيفيّة. وروي عن النبيّ (ص) أنه قال : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا آمنّا بالله وبكتبه ورسله ، فإن قالوا باطلا لا تصدّقوهم وإن قالوا حقّا لا تكذّبوهم. وروي عن أبي سلمة أن اليهود كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها للمسلمين بالعربية ، فقال النبيّ (ص) لا تصدّقوا أهل الكتاب إلخ.

* * *

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

٤٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء السّابقين أنزلنا إليك القرآن مصدّقا للكتب المنزلة وموافقا لها في أصول دين الإسلام (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علم الكتاب كابن سلام وأمثاله ، أو المراد من الموصول نفس الأنبياء الذين أرسل إليهم الكتاب لا الأمّة كما هو الظاهر (يُؤْمِنُونَ بِهِ)

أي بالقرآن أو بالنبيّ لاطّلاعهم على نعوته وأوصافه (ص) في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السماوية ، ولذا أقرّوا به قبل بعثته بل قبل ولادته. وقال القميّ : هم آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي من العرب أو أهل مكّة أو ممن عاصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل الكتابين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالنبيّ أو بالقرآن (وَما يَجْحَدُ) ينكر ويكفر (بِآياتِنا) مع ظهورها وقيام الحجّة عليها (إِلَّا الْكافِرُونَ) وقال القمي وما يجحد بأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام (إِلَّا الْكافِرُونَ) أي المتوغلون في الكفر المصرّون عليه كأبي جهل وأمثاله من المشركين ، ومن اليهود نحو كعب بن الأشرف وأمثاله من المعاندين للدّين مع جزمهم بصدق القرآن والنبيّ وعلمهم بأن القرآن معجزة له (ص) كما أشار إليه بقوله :

٤٨ ـ (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ...) أي قبل ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم والمعارف على يد أمّي لا يعرف ولم يعرف قبل هذا القرآن قراءة ولا تعلّم من أحد ، وهو بين أظهرهم خارق للعادة ودالّ على كونه معجزة (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي ما كنت تعرف الخط حتى تخطّه بيمينك ولو كنت تقرأ وتخطّ (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) الذين شأنهم الرّيب والباطل وهم كفرة مكّة بقولهم لعلّه جمعه من كتب الأولين والتقطه منها وهو يقرأه علينا وينسبه إلى إله السماء. ولما جاء به مع الأميّة فلا منطق لهم لهذا الاتّهام. وكذلك أهل الكتاب لوقعوا في الشك لو كان من أهل القراءة والخط حيث إنهم وجدوا أوصافه في كتبهم أنّه أمّي لا يعرف القراءة ولا الخط.

٤٩ ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ ...) القرآن آيات ، أي : دلائل على التوحيد والرسالة ، بيّنات أي : واضحات ظاهرات (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عن الصّادق عليه‌السلام : هم الأئمّة عليهم‌السلام ، وقال : نحن ، وإيّانا عنى. والحاصل أنهم هم الذين يحفظونه عن التحريف (وَما

يَجْحَدُ بِآياتِنا) الواضحة (إِلَّا الظَّالِمُونَ) بالعناد والمكابرة ، وقيل هم مطلق الخارجين عن دائرة الحق والصّواب ، وقيل هم كفار اليهود.

٥٠ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى ونحوها (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي بيده واختياره ينزلها كما يشاء وحسب مقتضياتها ومصالح عباده والأزمنة والأمكنة ، لا بيدي واختياري (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أن وظيفتي هي الإنذار بما أعطيت من الآيات ، والتخويف بها من معصية الله وإظهار الحق من الباطل.

٥١ ـ (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) أي آية مغنية عمّا اقترحوه ، وهو القرآن الذي أنزلناه عليك (يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته عليهم فهو آية ثابتة لا تزول بمرور الدّهور وانقضاء الأيّام. بخلاف سائر الآيات (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الكتاب المعجز المستمر (لَرَحْمَةً وَذِكْرى) أي نعمة وعظة.

وروي أن أناسا من المسلمين أتوا رسول الله (ص) بكتف كتب فيه بعض ما يقوله اليهود فقال : كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاء به نبيّهم إلى ما جاء به غير نبيّهم ، فنزلت الآية الآتية ، قل كفى إلخ ...

٥٢ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ...) أي من حيث الشهادة بصدقي ، وقد صدّقني بالمعجزات أو بالقرآن الذي شهد بنبوّتي فيما قال : محمّد رسول الله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان والنيران برضا الرحمان.

* * *

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ

وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

٥٣ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) أي استهزاء ، ويقولون أمطر علينا حجارة من السّماء (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي أن لكل عذاب ولكلّ قوم وقتا معيّنا ، ولولاه لجاءهم ما يستعجلونه (بَغْتَةً) عاجلا وفجأة بحيث لا يشعرون بإتيانه.

٥٤ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ...) قوله تعالى في الأوّل هو إخبار عنهم ، وفي الثاني تعجّبّ منهم ومتضمّن للاستفهام ، أي : أيستعجلونك به والحال (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعني وإن لم يأتهم العذاب في الدنيا لمصالح كثيرة ، لكن عذاب جهنّم سيحيط بهم إحاطة لما عندهم من الكفر والإلحاد.

٥٥ ـ (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) إلخ ... أي النار تحيط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا يبقى جزء منهم خارجا عن النار (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم وأفعالكم القبيحة. وهذا من باب إقامة السّبب مقام المسبب.

* * *

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

٥٦ ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ...) نزلت هذه الشريفة في جماعة من المسلمين ، من الصعاليك والمستضعفين كانوا بمكة يؤذيهم المشركون ، فأمروا بالهجرة إلى المدينة فقالوا كيف نخرج إليها وليس لنا بها دار ولا عقار؟ ومن يطعمنا ويسقينا فبيّن الله تعالى أنه لا عذر للعباد في ترك الطاعة فإنّ تعذّرت الطاعة في بعض البلاد عليهم ، فلا بدّ لهم من المهاجرة إلى غيرها. فيستفاد من الكريمة أن الاقامة في دار لا يمكن فيها العبادة والطاعة حرام والخروج منها واجب (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي فاعبدوني في ما يمكنكم من البلاد بعد الهجرة إليها. وفي الجوامع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب بها الجنّة وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلوات الله عليهما وعلى آلهما. ثم إنّه تعالى يخوّف المهاجرين بالموت حتى يسهّل عليهم المهاجرة. يعني إن كان حبّ الأهل والأولاد والوطن أو المصاحبة يمنعكم عن المهاجرة فإنه سيأتيكم يوم لا بدّ فيه من مفارقة هؤلاء لأنه :

٥٧ و ٥٨ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) أي في كلّ مكان وفي كلّ زمان ، سواء كان الشخص في وطنه أو في غيره ، وفي يوم شبابه أو هرمه فإنه سيموت هو وجميع الناس الآخرين (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي لا محالة أن رجوعكم وعودكم إلينا توفية للجزاء فلا تقيموا بدار الشّرك وتوجّهوا إلى دار الإيمان وكعبة الأمن والأمان أي المدينة المشرّفة زادها الله شرفا ، حتى تشتغلوا بفراغ البال لعبادة الله تعالى وهكذا ففي كلّ بلد لا يمكن إظهار شعائر الدّين والإيمان يجب النقل منه إلى بلد آخر يتمكن الإنسان فيه من

العمل بوظائف دينه أي لننزلنّهم مكانا من الجنة أو لنثوينّهم من الإثواء أي الإقامة (غُرَفاً) أمكنة عالية رفيعة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تحت الغرف (خالِدِينَ فِيها) أي يكونون في الغرف إلى الأبد ، و (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي نعمت الجنة أجرا للعاملين. وحذف المخصوص بالمدح لدلالة الكلام السّابق عليه. ثم أخذه سبحانه في بيان العاملين بذكر أوصافهم فقال :

٥٩ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ...) أي صبروا على المشاقّ والمحن والأذى وينحصر توكّلهم عليه سبحانه. فلما نزلت الشريفة هذه عزموا على المهاجرة إلى المدينة ، ولمّا مشوا ووصلوا إلى أثناء الطريق عرضت لهم الوسوسة وغلبت عليهم قوّة حبّ الوطن وصعوبة الغربة وأنّا نروح إلى بلد لا يكون لنا فيها دار ولا أسباب معيشة ، فقصدوا الرجوع إلى مكة فنزلت الكريمة :

٦٠ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ...) القمّي قال : كان العرب يقتلون أولادهم مخافة الجوع. فقال الله تعالى (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم. وفي المجمع عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بعض حيطان الأنصار فأخذ يأكل تمرا وقال هذه صبح رابعة لم أذق طعاما ، ولو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ما ملك كسرى وقيصر ولكن أريد أن أكون يوما جوعانا وآخر شبعانا. فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين؟ قال ابن عمر : فو الله ما برحنا حتّى نزلت : وكأيّن من دابّة (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) من ناحية عدم القدرة والطاقة على إيجاده ، بل الله تعالى هو الرزّاق الكريم لسائر مخلوقاته. وقد روي أن من المخلوقات التي تدخّر الرزق ثلاثة ، هي : الإنسان ، والنملة ، والفأر. وقيل إنّ العقعق يدّخر رزقه ولكنه ينسى مكانه.

* * *

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

٦١ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ ...) أي إذا سألت أهل مكة عن ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) خلق السماوات (وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فيقرّون بأنه هو سبحانه الفاعل لذلك (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي إلى أين يصرفون عن توحيده تعالى مع إقرارهم بذلك بالفطرة؟

٦٢ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) يوسّعه على من يشاء (وَيَقْدِرُ) يضيّق على من يشاء لحكمة تقتضيها المصلحة. وإنّما خصّ الرزق بالذّكر بعد ذكر الهجرة ، لئلا يتخلّفوا عنها خوف العيلة والحاجة.

٦٣ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) أي احمد الله على تمام نعمته وكمال قدرته أو على حفظك ومتابعيك من الضلالة وحيرة الجهالة ، وعلى ما وفقك للاعتراف بالتوحيد ، وعلى الإخلاص في العبادة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لا يتفكّرون بسبب تناقضاتهم حيث يقرّون بأنه تعالى خالق كل شيء ثم يشركون به الأصنام ويعبدونها ولا يتعقّلون بأنهم يفعلون عملا

يكذّب قولهم حيث إنهم في مقام الجواب عن سؤال خلقة السّموات والأرض وتسخير الشمس والقمر وإنزال الماء من السّماء قالوا هو الله ، فإذا كان الخالق والمنزّل هو الله فهو أحقّ بالعبادة لا الجماد الذي هو أخسّ الأشياء وأدناها. فيعلم أنهم ليسوا من أهل التدبّر والتفكّر كالأنعام بل هم أضل.

٦٤ ـ (ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ...) الفرق بين اللهو واللّعب أن المقبل على الباطل لاعب به ، والمعرض عن الحق لاه. والمعنى أنه كما اللهو واللّعب يزولان بسرعة فالحياة أيضا تزول بسرعة ، فيستمتع الإنسان فيها مدّة قليلة ثم تنصرم وتنقطع ويبقى وبالها كما أن الصّبيان يجتمعون على ما يلهى ويلعب به ويتبهّجون ويفرحون ساعة ثم يتفرّقون متعبين كأنّه لم يكن شيء مذكور ، فكذلك الدّنيا (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي هي دار الحياة الحقيقة لأنّها الدائمة التي لا زوال لها حيث إنه لا موت فيها. وفي لفظة الحيوان من المبالغة ما ليس في لفظة الحياة لبناء فعلان على الحركة والاضطراب اللازم للحياة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يعرفون أن الدنيا دار فناء وزوال ، وأن الآخرة دار بقاء لا فناء فيها لما آثروا الحياة الفانية على البقاء الدّائم الخالد ، لكن للأسف إنّهم لم يعلموا ولا يعلمون لأنهم ليسوا من أهل التدبّر والتفكر حتى يعلموا.

* * *

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ

اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

٦٥ ـ (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ...) أي دعوه في حالة من أخلص دينه له تعالى مع ما هم عليه من الشّرك والإلحاد ، وصاروا لا يذكرون إلّا الله سبحانه ولا يتوجّهون إلّا إليه لعلمهم بأنّه لا يكشف الشدائد سواه ولا ينجي من الغرق إلّا هو ، وكلمة (الدِّينَ) مفعول لمخلصين ، والجارّ متعلّق به (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي حينما خلّصهم الله تعالى من الهلاك ونجّاهم إلى البرّ ورأوا أنفسهم مأمونين من الهلاك عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه تعالى في العبادة

٦٦ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) أي لكي يكفروا بنعمة الإنجاء (وَلِيَتَمَتَّعُوا) لكي ينتفعوا ويتلذّذوا بعكوفهم على أصنامهم. هذا بناء على أن اللّام بمعنى (كي) التعليليّة الداخلة على (أن) المصدريّة المضمرة وجوبا. وهذه يغلب استعمالها بعد اللام نحو جئتك لكي تكرمني ، ويمكن أن تكون لام أمر فيكون للتّهديد ولخذلانهم (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك العكوف على عبادة الأصنام والتّلذذ بها واجتماعهم عليها.

٦٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا ...) أي أهل مكة ألم يعلموا أنّا جعلنا مسكنهم وبلدهم (حَرَماً آمِناً) مصونا من النّهب والقتل والسّبي ومحروسا وممنوعا على ذؤبان العرب (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي يختلسون ويؤخذون من أطراف مكّة في حين أن مكّة وأهلها مع قلّتهم وكثرة الأعراب في أمن وأمان من جميع ما يبتلى به الناس من الأسر والقتل والنهب (أَفَبِالْباطِلِ) أي أفبعد هذه النعمة العظمى التي تتنعّمون بها وبغيرها مما لا يقدر عليه إلّا الله تعالى ، يتمسّكون بالباطل وهو الصّنم والشيطان

و (يُؤْمِنُونَ) به؟ وهل هذا من العدل والإنصاف (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) أبحكم الجاهليّة تجوّزون أن يستبدل شكر المنعم بالكفر به أم ببرهان العقل البشري الحصيف؟ لا هذا ولا ذاك ، بل هي طريقة الشيطان ومن يتّبعه.

٦٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ ...) أي لا أظلم منه (كَذِباً) حين ادّعى الشريك له (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي الرّسول أو الكتاب (لَمَّا جاءَهُ) حين جاءه فتلقّاه من غير تأمّل ولا توقّف ولا تروّ.

٦٩ ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) أي جاهدوا في حقّنا ما يجب جهاده من النّفس والشيطان وحزبه (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) طرق السّير إلينا أو طرق الخير بزيادة اللّطف. وفي الحديث : من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) أي بالنّصر والإعانة. وعن الباقر عليه‌السلام : إن هذه الآية لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشياعهم. وفي ثواب الأعمال عن الصّادق عليه‌السلام : من قرأ سورة العنكبوت والرّوم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة لا أستثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب الله عليّ في يميني إثما ، وإنّ لهاتين السّورتين من الله لمكانا.

سورة الرّوم

مكّية إلا الآية ١٧ فمدنية وآياتها ٦٠ نزلت بعد سورة الانشقاق.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

١ إلى ٧ ـ (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ...) وقد ذكرنا في سورة البقرة مفتتحات بعض السّور وبيانها في الجملة ، وقد قيل إن هذه الحروف لا يعلم تفسيرها إلّا من خوطب بها وليتهيّأ السامع لما بعدها حيث إن ما بعدها في الأغلب

يكون إخبارا عن أمور ستأتي وهو إخبار بالغيب أو معجزة له تعالى. وقيل إن هذه الحروف كانت مقسما بها لكونها مبادئ لأسماء عظيمة ، فقيل إن الألف إشارة لاسم الله تعالى ، واللّام لاسم جبرائيل ، والميم إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. والمعنى أقسم بهذه الأسماء والحروف أن الرّوم تغلب بفارس والمسلمين. والتعبير بالماضي مع أنّ مغلوبيّتهم كانت بعد زمان نزول الآية لكونها محقّقة الوقوع. وقد تمت الغلبة عليهم (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقرب أرض العرب من أرض الروم كبلادكم وفلسطين ، أو المراد أقرب أرض الرّوم إلى فارس نحو كسكر أو الجزيرة فإنّهما من أقرب أراضي الشام إلى فارس فإنها كانت في تلك العصر من توابع أرض الرّوم. فالألف واللّام عوض عن المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى أرض عدوّهم (وهم) أي الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) انكسارهم (سَيَغْلِبُونَ) يعودون فينتصرون (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وبضع تدل على ما بين الثلاث إلى التسع سنين أو إلى العشر ، ثم يكون (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي قبل غلبتهم وبعدها. وهذه من الآيات الدالّة على أن القرآن من عند الله عزّ وعلا لأن فيه أنباء ما سيكون في المستقبل الذي لا يعلمه غيره سبحانه وتعالى. وقرئت الأفعال على البناء للمجهول وحينئذ ينعكس التفسير والله أعلم.

والحاصل أنّه ليس شيء منهما إلّا بقضائه وقدره عزّ وعلا. وفي الخرائج عن الزكيّ عليه‌السلام أنّه سئل عنه فقال : له الأمر من قبل أن يأمر به ، وله الأمر من بعد أن يأمر به ، يقضي بما يشاء (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي يوم غلبة الروم على الفرس يسرّ أهل الإيمان بإعانة الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار صدق نبيّهم فيما أخبر به وبإرغام أنف أعدائه صلى‌الله‌عليه‌وآله من مشركي أهل مكّة ، أو يسرّوا لغلبة الروميّين على الفرس لأنهم كانوا نصارى وأهل كتاب ، والفرس كانوا مجوسا وما كانوا من أهل كتاب ولا أرسل إليهم نبيّ. فمن ناحية الاشتراك في الكتاب كانوا بغلبتهم فرحين مستبشرين كما أن المشركين صاروا حين غلبة الفرس على الرّوم فرحين بهذه المناسبة وقالوا إنّ الفرس مثلنا أميّون فهم منّا ونحن منهم

ومن باب الصدفة وافق ذلك يوم نصر المؤمنين ببدر فنزل به جبرائيل عليه‌السلام وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بغلبة الرّوم على الفرس ففرحوا بالنّصرين (بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي ينصر بمقتضى الحكمة ، هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر بخذلانه لمن يشاء (الرَّحِيمُ) العطوف بنصره من يشاء من عباده طبق حكمته وروي إن اليوم الذي يفرح فيه المؤمنون بنصر الله هو يوم غزا المسلمون فارس وافتتحوها ففرحوا بذلك. وأنّ ذلك (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) الوعد مصدر للفعل المقدّر وهو وعد ونصبه به وهو مؤكّد لنفسه حيث إن ما قبله في معنى الوعد ، وهذا نحو : له عليّ ألف درهم اعترافا. ومعناه : وعد الله ذلك ولا يخلف الله وعده حيث إن خلف الوعد عليه ممتنع لأن أله إلى الكذب والكذب محال في حقّه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحة وعده وامتناع الخلف عليه لجهلهم به تعالى. فالناس لا (يَعْلَمُونَ) إلّا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي التمتّع بزخارفها والتنعّم بملاذها ومنافعها. ولا يعرفون منها إلّا ما يشاهدون ويعاينون بأعينهم الظاهرية. (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغرض الأصلي منها (هُمْ غافِلُونَ) وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد معنى وهو أن للدّنيا ظاهرا وباطنا. أمّا الظاهر فهو الذي يعلمه الجهّال مما قد ذكرناه وأمّا الباطن فهو كونها مجازا وممرّا إلى الآخرة فيجب أن يتزوّد الإنسان منها للآخرة بالطاعات والأعمال الصالحة والتجهّز لها بتلك الأعمال ، و (هُمْ غافِلُونَ) أي لا تخطر ببالهم فيرون حاضر الدنيا ويتغافلون عن العقبى.

* * *

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي

الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

٨ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ...) أي في أمرها فإنها أقرب شيء إليهم وفيها ما في العالم الأكبر من عجائب الصّنع فلو كانوا يتفكّرون فيها لعلموا ولتحقق لهم أن قدرة مبدعها على إعادتها ، هي قدرته على إبداعها بل أسهل فلم يخلق السماوات والأرض (إِلَّا بِالْحَقِ) قيل معناه : إلّا للحق ، أي لاقامة الحق ومعناه للدلالة على الصّانع والتعريض للثواب ويحتمل أن يكون المعنى : إلّا لغرض صحيح وحكمة بليغة وهو الاستدلال بها على التوحيد بعد إثبات الصّانع بها والدلالة على قدرته الكاملة البديعة ، لا أن خلقتها باطل وعبث تعالى الله عن ذلك (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) تنتهي عنده ولا تبقى بعده. وهو عطف على (بِالْحَقِ) والمراد به هو يوم القيامة الّذي تفنى فيه السّماوات والأرض مع ما فيهما وما بينهما. وهذا نوع من التنبيه ، ونوع آخر من التّنبيه هو قوله سبحانه :

٩ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الاستفهام للتقرير ، يعني لا بدّ من السير فيها لينظروا إلى مصارع عاد وثمود وأهل الأيكة وغيرها من آثار المدمّرين قبلهم حينما يسافرون للتجارة فيروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذا بيان لنتيجة سيرهم ليعتبروا بذلك حيث إنّهم كانوا أشدّ منهم من جميع الجهات ، وقد أشار تعالى إلى أنهم كانوا أشدّ (قُوَّةً وَأَثارُوا

الْأَرْضَ) قلّبوا وجهها أي ظاهرها إلى باطنها وبالعكس للزّراعة وغرس الأشجار واستخراج المعادن واستنباط المياه. وتسمية الإثارة هنا عبّر بها عن تقليب الأرض وإثارتها (وَعَمَرُوها) ببناء الدّور وتشييد القصور وغيرها (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي المكّيون الذين يسكنون بواد غير ذي زرع مع كونهم فاقدين لأسباب العمارة. أو المعنى أن الذين قبلهم كانوا أكثر إعمارا من قريش (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكهم بلا إرسال رسل وبلا إتمام حجة بالبيّنات والبراهين وإظهار المعجزات على أياديهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم علما منهم بموجبات التدمير والاستئصال بسبب جحدهم وكفرهم مع معرفتهم بصدق الرّسل وما جاؤوا به. وفي الآية تهكّمّ بأهل مكّة حيث كانوا مغترّين بدنياهم ، فالله تعالى بيّن أنهم أضعف من المخلوقين بمراتب لأن مدار أمر الدنيا على التبسّط في البلاد والتسلّط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارات والمسيطرات. وهذه الأمور بحذافيرها مسلوبة عنهم لأنّهم كما قلنا أضعف الأمم وأقلّهم عدّة وعدّة.

١٠ ـ (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى ...) أي عملوا عملا كان نتيجته نار جهنم. وهي معنى السوأى وجاءت السّوأى مؤنّث (أسوء) الذي هو فعل تفضيل كحسنى وكبري (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ويحتمل أن يكون (عاقِبَةَ) منصوبا خبر (كان) واسمه (السوأى) في محل الرفع كما في قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكلمة (أَنْ) مفسّرة للخبر بجملته ، ويحتمل أن يكون (عاقِبَةَ) مرفوعا اسم كان و (السُّواى) في موضع النصب مفعولا ل (أَساؤُا) وجملة (أَنْ كَذَّبُوا) خبر كان. وبناء على الاحتمال الأول يمكن أن تكون جملة (أَنْ كَذَّبُوا) في مورد العلّة ، أي لأجل تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها.

* * *

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

١١ ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) يخفى أن في الآية السابعة السابقة على هذه الكريمة أمر الله تعالى بالتفكّر في الأنفس حيث إنها أقرب للمتفكّر من غيرها فيحصل للإنسان مرآة من التفكّر في النفس فيرى بها ما يتجلّى في سائر المخلوقات ليتحقّق له بذلك أن القادر على إبداع هذه المخلوقات من العدم ، قادر على إعادتها بعد إفنائها. ثم كرّر هذا المعنى في هذه الآية بقوله (اللهُ يَبْدَؤُا) إلخ من باب تذكير النعمة وتبيين القدرة حيث إن الذكرى تنفع المؤمنين ، وتأكيدا لما في السابق. والمعنى أنّه تعالى يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للجزاء أمّا العدول من الغيبة إلى الخطاب فللمبالغة في المقصود ، وقرئ يرجعون بياء الغيبة.

١٢ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ...) أي يتحيّرون في أمرهم وييأسون من رحمة ربّهم فهم محزونون منكسرون صامتون.

١٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ ...) أي ممّن أشركوهم بالله لم يكن لهم من يعينهم ويجيرهم من العذاب وشدائد يوم القيامة (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) جاحدين متبرّئين منهم.

١٤ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ...) أي يتميّزون ويقسّمون فريق في الجنة وفريق في السّعير ، أصحاب اليمين في أعلى عليّين ، وأصحاب الشمال في أسفل سافلين وهو قوله تعالى المبيّن لما قبله.

١٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ...) فهم في روضة يحبرون أي في جنة ذات أرض خضراء تتدفق فيها المياه ، يسرّون وتطفح وجوههم بالبشر والفرح. وقال القمّي : يكرمون ، والحبور أصله السرور. وفي وجه سرورهم أقوال : فعن أبي الدرداء ـ كما في مجمع البيان ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ذكر الجنة وما فيها من النّعم ، وفي آخر القوم أعرابي فقال : يا رسول الله ، هل في الجنة سماع (أي غناء) قال (ص) : نعم يا أعرابي ، إنّ في الجنّة لنهرا حافتاه أبكار من كلّ بيضاء خوصانيّة يتغنّين بأصوات لم تسمع الخلائق مثلها قط ، وذلك أفضل نعم الجنّة. وقد قيل إن هذا المشهد من أعظم المظاهر الموجبة لسرور أهل الجنّة ، بحيث تتهلّل وجوههم له وتسرّ نفوسهم وتنتعش قلوبهم. وفي ذيل هذه الرواية أن أبا الدرداء سأل عن أنّ المغنّيات في الجنّة بأيّ شيء يتغنّين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالتسبيح. وفي بعض الروايات : بالتسبيح وليس بمضمار الشيطان. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : إن في الجنّة لشجرة تؤمر أن اسمعي صوتك عبادي الذين منعوا أنفسهم عن استماع الغناء في الدنيا طلبا لرضائي ، فيسمع منها صوت تسبيح وتهليل بكيفية ما سمع الخلائق مثلها أبدا ، فيلذّذون بنغمتها كمال اللّذة. جعلنا الله تعالى ممّن يحوز رضاه ويتنعّم بما أعدّه من السرور لعباده الصالحين في أخراه بمنّه وكرمه.

١٦ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي كفروا بنا وبوحدانيّتنا ، ولم يصدّقوا دلائلنا ، وكذّبوا (بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بيوم الحشر والقيامة (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) محشورون في جهنّم لا يفارقون العذاب ولا يغيبون عنه. ولفظ (الإحضار) لعله لا يستعمل إلّا في ما يكرهه الإنسان ، إذ يقال : أحضر فلان مجلس القضاء ، إذا جيء به

مخفورا أو مطلوبا على الأقل إلى ما لا يؤثره ولا يحبه. ومنه : أحضروه إلى مجلس الحاكم ، وإلى حضرة الخليفة ، وإلى دار السلطان ، لمحاسبته على جرم ارتكبه ، أو لمحاكمته على فرية نسبت إليه.

* * *

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

١٧ و ١٨ ـ (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) سبحانه : أي تقديسا له عزّ وعلا. وقد ذكر هنا ما تدرك به النّجاة والفوز بالجنّة وما يكون سببا لنيلهما ، وهو تسبيحه تبارك وتعالى. والجملة واقعة خبرا إذ المراد : والأمر سبحان الله ... يعني : الأمر هو أن تسبّحوه وتنزّهوه عمّا لا يليق به حين تمسون : تدخلون في المساء ، وحين تصبحون : تدخلون في الصباح ، فإنّ ذكركم له بالتقديس في هذين الوقتين من أفضل العمل (وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء والمدح (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ممّن فيهما فإنه المستحق لمدح أهلهما لإنعامه عليهما ، فلا بدّ من أن يحمدوه (عَشِيًّا) حين يدخلون في العشية (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظهيرة وتقديم الظّرف أي الخبر على الحمد أي المبتدأ للحصر لأن غيره لا يستحق مدحا. وهذه الآية كسابقتها في كونها إخبارا ولكنها في معنى الأمر بالثناء عليه في خصوص هذه الأوقات لشرافتها وعظمتها عنده تعالى على غيرها من الأوقات واعلم أن ذكره تعالى حسن في كل الأحوال والأوقات ، وحمده والثناء عليه وتنزيهه عمّا لا يليق بجنابه وتمجيده وشكره واجبة كلّها في جميع الأوقات ، فالاختصاص لما ذا؟ والجواب : أن الإنسان ما دام في الدنيا لا

يمكنه أن يصرف جميع أوقاته في أمور معاده بل هو محتاج إلى صرف مقدار منها في معاشه من تحصيل المأكول والمشروب والملبس والمسكن وغير ذلك ممّا يحتاج إليه البشر الذي هو مدنيّ الطّبع ، واحتياجه أكثر من الحيوانات الأخر فأشار الله إلى أوقات إذا أتى العبد بتسبيح الله تعالى فيها أدرك الأول والآخر والأوسط ، فكأنه لم يفتر في أوقاته كلّها ليلا ونهارا وكان ملازما للتسبيح والذكر على الدّوام كالملائكة الذين لا يفترون. ويظهر ممّا ذكرنا علة أخرى لاختياره تعالى هذه الأوقات مضافا إلى شرافتها وعظمها اللتين ذكرناهما ، أن في تلك الأوقات تظهر قدرته وتتجدّد فيها نعمته. وقيل إن الآيتين جامعتان للصّلوات الخمس : تمسون : صلاة المغرب والعشاء ، وتصبحون : صلاة الفجر ، وعشيّا : صلاة العصر ، وتظهرون : صلاة الظهر. ولا يخفى ما في تقديم وقت صلاة العصر على الظّهر فتأمّل.

١٩ ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ...) في القمّي : يخرج المؤمن من الكافر ، وكالإنسان من النّطفة ، والدجاجة من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) الكافر من المؤمن ، والنطفة من الإنسان ، والبيضة من الطائر ، و (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالنّبات بعد موتها باليبس (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي مثل هذا الإخراج تخرجون من قبوركم فلم تنكرون الحشر والنشر يوم القيامة؟ وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام في قوله : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، قال : ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحييون العدل ، فتحيا الأرض لإحياء العدل ، ولإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا. ثم إنه سبحانه تنبيها للعبيد على دلائل قدرته وبراهين توحيده يقول معدّدا لتلك الدلائل :

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ

أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

٢٠ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) أي من آدم وأصله تراب. أو المراد أنكم مخلوقون من النّطفة وهي من الأغذية وهي من الأرض (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إِذا) فجائيّة. وحاصل المعنى والله أعلم ثم إنه بعد الخلقة من التربة بغتة من غير أن تشعروا كنتم بشرا متفرّقين في الأرض ومتوطّنين فيها ، كقوله : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ..) فهلّا دلّكم هذا الأمر العجيب على أنه لا يقدر على ذلك غيره تعالى وهو المستحقّ للعبادة لا غيره؟ والشريفة عطف على ما تقدم ممّا دلّ العباد ونبهّهم على شواهد التوحيد ودلائل القدرة كإخراج الحيّ من الميّت وعكسه ، وإحياء الأرض بعد الإماتة. وهذه الخلقة محيّرة للعقول لأن التراب أبعد العناصر عن درجة الحياة من حيث طبعه وطبيعته ، فإن

التراب طبعا بارد يابس ، والحياة حارّة رطبة. وكذلك من حيث لونه فإن التراب جسم كدر ، والرّوح التي هي مدار الحياة جسم نيّر ، والتراب ثقيل والرّوح خفيفة ، والتراب كثيف والرّوح لطيفة. ومن حيث السكون فإن التراب بعيد عن الحركة غاية البعد ، والحيوان متحرّك إلى جميع جهاته حسب طبيعته. فظهر أنّ التراب أبعد العناصر مادة عن قبول الحياة حيث بينهما تضادّ بخلاف الماء فإن فيه الصّفاء والرّطوبة والحركة لأنه جسم سيّال رطب طبعا. وكلّ صفاته على طبع الأرواح ملائمة لها. والنار أيضا قريبة إلى الحياة لأنها كالحركة الغريزيّة التي تولّد الحرارة الغريزيّة ، وهي منضجة جامعة مفرّقة ، وكذا الهواء أيضا ، فهو أقرب إلى الرّوح والحياة لخفّته وصفائه ولطافته. فهو جلّ وعلا خلق آدم من أبعد الأشياء عن مرتبة الحياة وجعله حيّا لإظهار كمال القدرة وغاية الحكمة وهو عليه‌السلام في أعلى المراتب من الأجسام والنبات والحيوان. وكيف لا يكون كذلك وهو المسبّح والحامد والمهلّل والمكبّر ، وقد شابه الملائكة في التسبيح والتحميد بل كان أعلى منهم مرتبة لأنه أعلم منهم. فهذه الخلقة أعلى الآيات والشواهد على ربوبيّته ووحدانيّته وقدرته وحكمته ، فاللهم عرّفنا نفسك ونبيّك ووليّك.

٢١ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ...) أي أبدع وأوجد لكم (زوجات) كانت مماثلة ومشاكلة لكم ومن جنسكم ، لأن الجنس إلى الجنس أميل وآنس ، ويمكن أن يكون المراد بكون الأزواج من أنفسكم هو حوّاء بناء على خلقها من ضلع آدم ، ثم خلقت النساء بعد ذلك من النّطف الخارجة من أصلاب الرّجال ، فهنّ مخلوقات من أنفس الرجال حدوثا وبقاء (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتستأنسوا بها وتميلوا إليها بحكم السنخية الحاصلة من اتّحاد الجنس والمماثلة ، كما أن الاختلاف في الجنس سبب للتنافر والتنازع (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أي أحدث وأوجد بواسطة الزّواج بينكم وبين أزواجكم ، بل بين عشيرتكم وعشيرة الأزواج ببركة الزواج توادّا وتحابّا حتى لو كان بين العشيرتين قبل حدوث الزواج تخاصم وتنازع،

فإنه يحصل التآلف بعد نعمة الزواج بمجرد حدوثه. والحاصل أن حصول التحابّ والتآلف بين الزوجين من غير معرفة ورحم بينهما أمر عجيب ، حيث يصير بينهما توادّ وتراحم لا نجدهما بين أيّ شخص وشخص آخر حتى بين الوالد والولد والأمّ الشفيقة وبنتها بهذه الكيفية المستمرة الدائمة. فهذه آية غريبة وهي أدلّ آية على القادر الحكيم والصانع العليم وإن قيل إن هذه المودّة تولّدت من ناحية الشهوة وهي تزول بزوالها ، فنقول : أوّلا هذه الشهوة من أين جاءت لولا أنّها وديعة أودعها الله سبحانه في أصلاب الرجال وأرحام النّساء بهذه الكيفية التي أفضت إلى المودّة والرحمة بينهما. فمن يقدر أن يخلق تلك الشهوة غيره تعالى؟ هذا ، وثانيا إنّا نرى أنّ الزوجة قد تخرج من محلّ الشهورة ومورد اللذّة بكبر أو مرض ، ثم يبقى قيام الزوج بها ناشئا عن الحب لها والرحمة بها ، وبالعكس. وليس ذلك إلّا بجعله سبحانه وإيداعهما المودّة المتبادلة. وهذا لا يتنافى مع ما يحدث من الشقاق بين الطبقة الدنيا وذوي النفوس الوضيعة مما ينشأ من ضعف في الأخلاق ونقص في التربية. الآية تشير إلى أن الواجب أن تسود بين الأزواج المودّة والحنان والرحمة والإحسان كيف لا وهم شركاء البأساء والنعماء والضراء والسراء؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي جعل الأزواج بهذه الكيفيّة المطبوعة آيات وشواهد لأهل التدبّر والتفكّر فيعلمون ما في ذلك من المصالح والحكم.

٢٢ ـ (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ ...) لمّا بينّ سبحانه الدلائل الأنفسيّة ذكر سبحانه وتعالى البراهين والشواهد الآفاقيّة ، وأظهرها خلق السّماوات والأرض وما فيهما من عجائب الصّنع وبدائع الخلقة نحو ما في السّماوات من الشمس والقمر وسائر الأنجم وجريانها في مجاريها المعيّنة على تناسق وتناظم خاصّ بكل واحد منها ، ونحو ما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان على اختلافها جنسا ونوعا وصنفا مع ما فيها من إحكامها وإتقانها ومع اختلاف ألوانها وطعمها ورائحتها وخواصّها وآثارها

المختلفة .. ووجه ما قلنا من كون السماوات والأرض أظهر الآيات لأن بعض الملاحدة كان يناقش في خلق البشر وغيره وأن البشر وأمثاله كان بسبب ما في العناصر من الكيفيّات التي تتركب منها الأشياء ، ولكن سها الملحد أنه لا يقدر أن يلقي هذه الشبهة فما بسبب امتزاج العناصر وجدت هذه الكائنات التي ليست من العناصر (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) أي من حيث اللغات فإن لكلّ صنف لغة إمّا بتعليم الله تعالى وإمّا بالهامه لهم ، من العربيّ والفارسيّ والتركيّ والزنجيّ والهنديّ والروسيّ وأمثالهم من أهل اللّغات ، وإمّا بإعطائهم القدرة على جعل اللغات ووضعها بكيفيّة تركيبها من الحروف الهجائيّة ومن حيث الأصوات وكيفية أدائها ، فإنه لا يوجد منطق يتماثل ويساوي من جميع الجهات منطقا آخر من الهمس والجهر ، والرخاوة والحدّة والفصاحة واللّكنة وكيفية النظم والأسلوب وغيرها من صفات النطق وأحوالها. وقال صاحب اللّباب بأن أصول اللغات اثنان وسبعون أصلا (وَأَلْوانِكُمْ) من الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ، أو المراد اختلاف خلق الأعضاء والهيآت والأشكال على وجه يتمايز فيعرف كلّ شخص من الآخر ولولا ذلك التمايز والتّعارف سواء حصلا من ناحية الألوان أو من اختلاف الصّور والهيآت والأشكال وكان الأوادم متوافقون متماثلون متساوون في الأشكال والصّور من جميع الخصوصيات ، لصار موجبا للتجاهل والالتباس فتتعطل مصالح كثيرة وتقع مفاسد إلى ما لا نهاية له ويختلّ النظام العام كما لا يخفى على من له أدنى دربة فتبارك الله أحسن الخالقين ، والحمد لله على تلك النعم العظيمة. ثم إنه سبحانه جعل التمايز والتعارف بأمرين : للمبصر بالألوان ، وللأعمى باختلاف الألسنة والأصوات ، ومن كان بحكم الأعمى أيضا يعرف أن المتكلم وراء جدار أو مانع آخر من المشاهدة. وهذه الآيات الثلاث المذكورة في الشريفة المزبورة أدلّ دليل على تمام القدرة وكمال الحكمة من صانع حكيم ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) فنبّه بقوله هذا بناء على قراءة فتح لام العالمين أن هذه الآية العظيمة من الآفاقيّة والأنفسيّة

تدلّ جميع أهل العوالم من ذوي العقول على الصّانع الحكيم وعلى قدرته الكاملة ولا تختصّ بصنف دون صنف ولا بطائفة دون أخرى لأظهريّتها التامة وأوضحيّتها الباهرة العالميّة بخلاف ما قبلها وما بعدها من الآيات. ولهذا اختصّها بصنف خاصّ وطائفة معيّنة (كالقوم المتفكّرين ـ ولقوم يسمعون ، ولقوم يعقلون أو يعلمون وأمثالهم من أهل التّدبّر والتّأمّل) لكونها ليست بتلك المثابة من الوضوح والتبيّن.

٢٣ ـ (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) المنام مصدر كالنّوم ، وهو غشية ثقيلة تهجم على القلب فتبطل عمل الحواسّ وتضعف عمل بعض الجوارح كالقلب ، وتبطل عمل الجوارح الأخرى كما هو المحسوس المشاهد. وعرّفه بعض الأكابر بأنّه ريح تقدم من أغشية الدماغ فإذا وصلت إلى العين فترت ، وإذا وصلت إلى القلب نام. وحدّده الفقهاء بذهاب حاسّة البصر والسّمع وغياب إدراكهما عنهما والمعنى أنّ من الآيات الدّالة على قدرته الكاملة نومكم في بعض الليل ، وفي النّهار لاستراحة القوى النفسانية والحيوانيّة والطبيعيّة ، وطلب معاشكم في البعض الآخر منهما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي لهم آذان واعية تسمع سماع تدبّر واستبصار.

٢٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ...) والبرق مصدر نور يلمع في السماء على أثر انفجار كهربائيّ في السحاب ، أي من استكاك يحصل ويحدث فيه (خَوْفاً) أي حال كونه مخوّفا ، لأنه حين حدوث البرق يحدث نوعا الرعد الذي هو صوت السّحاب حين استكاكه ، ويحدث من الرعد الشّديد نار تسقط من السماء بحيث تحرق الجبال فكيف بغيرها وهو الذي يسمّى بالصّاعقة.

فالبرق يصير مقدمة نوعا لسقوط الصّاعقة فلذا كان مخوّفا (وَطَمَعاً) أي مطمعا بحصول المطر الذي هو خير لأن فيه نفعا كثيرا. والحاصل أن البرق آية كبيرة حيث انه يحدث ويخرج من السحاب مع أنه ليس في

السحاب إلا ماء وهواء ، وخروج النور وهو البرق ، والنّار وهو الصّاعقة من السّحاب الحامل للماء والهواء ، أمر عظيم وآية كبري تدلّ على اللطيف الخبير وقدرته الكاملة (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) عطف على قوله : يريكم ، أي : ومن آياته تنزيله الماء أي الغيث من سماء الأرض أي الفضاء المرتفع فوقها المنبسط عليها المحيط بها سواء قلنا بتكوّنه المياه في الفضاء وجذب السّحاب إياه ، أو قلنا بتكوّن الماء في الأرض وحمل السّحاب إياه من البحار وتصعّده به إلى الفضاء ونزوله منه بهذه الكيفية المشهودة بقدرته الكاملة. ونتيجة هذه الأمطار إحياء الأرض بإنباتها بعد موتها بجدبها ويبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هذه الآيات السّماوية الآفاقية (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) شواهد ودلالات لرجال يستعملون عقولهم في الاجتهاد لمعرفة أسباب الحوادث وكيفية تكونها ليعرفوا كمال قدرة الصّانع وحكمته في كل حادثة.

٢٥ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ...) أي بلا دعامة تدعمهما ولا علاقة تتعلّق بهما بل بأمره سبحانه لهما بالقيام كقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ.) ومعنى القيام هو الثبات والدّوام. فيقال : الجدار قائم أي ثابت لا يزول عن مكانه. ويحتمل أن يكون المراد من قيام السّماء والأرض قيام أهلهما في عالم الكون والفساد أي في الدنيا. فإن أهل السماء والأرض لا يزالون فيها وأهل الأرض وإن تطرّق إليهم الموت لكنّهم نائمون في قبورهم وعالم القبر يحسب من الدّنيا كما برهن في محلّه بل هو أمر محسوس لا ريب فيه حتى يحتاج إلى اقامة برهان لأن القبر مكان من أمكنة الأرض والأموات نائمون فيه والأرواح في قبضة الله تعالى بمقتضى الكتاب والسّنة ، ومثل الأرواح مثل أرواح أصحاب الكهف عينا ، فهي في الأجساد إذا لم يطرأ عليها تفسّخ وتفرّق لأجزائها ، وإلّا تعلّقت بالأجسام البرزخيّة أو المثالية بناء على تجسّم الأعمال. ويؤيّد هذا الاحتمال ذيل الكريمة (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ

الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) فأهل السّماوات والأرض ثابتون فيهما ولا يخرجون إلى غيرهما ما دام لم يدعكم الدّاعي ، فإذا دعاكم إذا تخرجون من الأرض أي من أجداثكم بغتة وبلا توقّف. والمراد بالدّعوة دعوة إسرافيل بالنفخة الأخيرة للحضور في المحشر لثواب الأعمال أو عقابها. وعن ابن عباس : يأمر الله سبحانه إسرافيل فينفخ في الصّور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم أحياء. وعبّر بالدّعاء إذ هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة كن فيكون في السّرعة وامتناع الاعتذار بالبطء. ثم إن القيام في الآية إذا كان بمعنى الوقوف والثبوت أي وقوفهما واستقرارهما معلّقين بلا اعتمادهما على شيء ولا تعلّقهما بشيء من آياته الكبرى. فالآية ظاهرة على بطلان القول بالحركة الرّحويّة كما يقول بها بعض الفلاسفة من القدماء ، وإن كان بمعنى الانتصاب وارتفاعهما في الفضاء معلّقتين فإن ذلك يتلاءم مع القولين ويحتملهما. ثم إنّه تعالى بعد بيان الأدلة الدالة على التّوحيد الذي هو الأصل الأوّل ، وعلى الحشر والبعث الذي هو الأصل الآخر ، أشار بأنه المالك للعوالم الإمكانيّة بحذافيرها بقوله عزّ من قائل :

* * *

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ

الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

٢٦ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لكلّ من فيهما ولنفس السّماوات والأرض (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون له طوعا وكرها في الحياة والممات والبعثة والخلقة وإن عصاه بعضهم في العبادة. وهذه الشريفة لبيان مظهر من مظاهر قدرته الكاملة أيضا.

٢٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) أي يخلقهم ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) هم بعد إعدامهم وإفنائهم (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي الإعادة أسهل عليه من الإبداء قياسا ، على أصولكم ، وإلّا فهما سواء عليه تعالى. وهو تأكيد لما قبله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف الذي لا ينبغي أن يكون لغيره مثله من الوحدانية والألوهية والقدرة الكاملة والحكمة التامة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما فيهما يصفونه تعالى بذلك الوصف الأعلى نطقا ودلالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على كلّ مقدور الذي منه الإبداء والإعادة (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله التي تصدر منه على طبق الحكمة ومقتضى المصلحة. وفي العيون عن الرّضا عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ عليه‌السلام : وأنت المثل الأعلى. وفي الزيارة الجامعة المعروفة : السّلام على أئمة الهدى ، إلى قوله : وورثة الأنبياء والمثل الأعلى.

٢٨ ـ (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) أي منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء منكم حتى يثبت أنّه لا يكون لله تعالى شريك. ثم بينّ المثل فقال (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من مماليككم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) أي في الأموال والأرزاق والأسباب (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم وهؤلاء المماليك تتصرّفون فيها على السّويّة وبالمشاركة مع أنهم بشر مثلكم وأن الأموال معارة لكم (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي

هل تخافون من عبيدكم أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون من أحراركم وذوي قرابتكم في المال الذي يكون بينكم بالمشاركة وتخشون أن ينفردوا به؟ والاستفهام في الآية الكريمة من الظاهر والمقدّر للإنكار. قرابتكم في المال الذي يكون بينكم بالمشاركة فإذا لا تخافون من العبيد ولا ترضون بذلك فكيف ترضون بأن تشركوا بالله مماليكه في الألوهيّة؟ وكما أنّكم لا تشركون عبيدكم في أموالكم فلا بدّ من أن لا تشاركوا بالله الخالق القادر شركاء في العبادة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما فصّلناه وبيّنا لكم مسألة عدم جواز التشريك ، نفصّل الآيات والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي نبيّنها لأهل التدبّر والتعقّل ، وأمّا الجهلاء والظّلمة فهم بعداء عمّا قلناه من الآيات والأمثلة بل هم تابعون لأهوائهم وآرائهم السخيفة الباطلة بلا علم وبلا تعقل.

٢٩ ـ (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) بل حرف عطف وإضراب عمّا قبله يجعله في حكم المسكوت عنه. وحاصل الآية الشّريفة أنّه تعالى لعلّ يريد أن يقول : إنّنا نذكر الآيات ونبينّ الأمثلة للقوم المتدبّرين وأهل العلم والعقلاء ، وأمّا الجهلاء وأهل الأهواء الفاسدة فهم بعداء عن تلك الناحية كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين لا يكفيهم شيء ، فإن العالم إذا اتّبع هواه ردعه علمه (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي من يقدر على هدايته بعد ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي من ينجيهم من الضّلالة وحيرة الجهالة.

* * *

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

٣٠ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ...) أي أقبل بقصدك أو بالعمل الخالص على دين الله الذي هو دين الإسلام بالاهتمام به (حَنِيفاً) أي مسلما ، أو المراد : أقبل بقلبك على ربّك لأجل دينك ، فإن ما يحرّك الإنسان للتوجه إلى ربّه هو دينه حيث إنّ غير المتدين لا شغل له مع الله. والتّعبير عن القلب بالوجه لأن القلب إذا توجّه إلى شيء تتبعه الجوارح وفي مقدّمها الوجه كما أنّه تتبعه القوى الباطنيّة أيضا. فإن القلب في عالم البدن الذي هو عالم صغير ، له السّلطان والسّيطرة ، كما أن في العالم الكبير ملكا له الأمر والملك على جميع أهله ، وإذا توجّه إلى ناحية أو أمر بشيء يطيعونه فكذلك القلب بالنسبة إلى القوى والجوارح. والحاصل أن الوجه يمكن أن يكون كناية عن القلب ، فالله تعالى خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتوجّه إليه بكلّ وجوده لأمر دينه مع جميع أمّته ، أو المراد أمّته. والنكنة في توجّه الخطاب إليه صلوات الله عليه إمّا تعظيمه وتفخيمه ، وإما لأن الأمر له به هو الأمر به للأمة فإنّه المبعوث بكل ما أمر به إليهم ، فالأمر به موجب لأمره للأمّة ... وحنيفا لغة : أي مائلا إليه ثابتا عليه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) هذا يحتمل أن يكون بيانا للدّين الحنيف ، أي الزموا دين الله ، ودين الله هو الدين الذي شرّعه وأرسل رسوله به وهو دين الإسلام الذي يولد كلّ مولود عليه ويعبّر عنه بدين الفطرة ، لأن كلّ مولود يخلق عليه. وقيل معناه : اتّبع من الدّين ما دلّتك عليه فطرة الله وهي التوحيد. فإنّ الله خلق النّاس عليه حيث أخذ منهم العهد في ظهر آدم من الذّراري في عالم الذّر وسألهم : ألست بربّكم؟ فقالوا : بلى. وهذا البيان

قريب لما قلناه ، فإن التوحيد إمّا هو نفس الدّين أو من أصول الدين ، فإنّ غير الموحّد ليس بمتديّن (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا ينبغي أن تغيّر تلك الفطرة ولا يقدر أحد أن يغيّر (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم المستوي الذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فهم جهلة وغير متدبّرين ولذا لا يعرفونه حقّ المعرفة ولا يهتمّون بذلك الدّين القويم أيّ اهتمام.

٣١ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ ...) منيبين حال من ضمير (أقم) باعتبار أن الأمة تدخل في مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إن لم نقل بأنهم المخاطبون كما قلناه. وما نحن فيه من قبيل ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، الآية ... والمعنى : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ، أي راجعين إليه مرة بعد أخرى. ويمكن أن يكون من (ناب) إذا انقطع ، أي منقطعين إليه عن كلّ ما سواه ، ويحتمل أن يكون حالا من ناصب فطرة الله ، أي الزموا واستمرّوا على فطرة الله منيبين إليه (واتّقوه) تجنّبوا من عصيانه ومخالفته في أوامره سبحانه ونواهيه ولا تكونوا من المشركين به في الألوهية والعبادة.

٣٢ ـ (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) بيان لما قبله من قوله من المشركين. وتفريق دينهم هو اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا مختلفة كلّ منها تشايع إماما أضلّها عن دينه الذي ارتضى له خالقه ومعبوده الفطريّ الحقيقي (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فأهل كلّ ملّة بما عندهم من الدّين مسرورون راضون به حيث إنّهم يظنّون أنّهم على الحق ، وغيرهم على الباطل.

* * *

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا

بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

٣٣ ـ (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ...) أي حادثة شديدة وسوء حال (دَعَوْا رَبَّهُمْ) بتضرّع وخشوع (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه منقطعين عن غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي أعطاهم من عنده رافعا لذلك الضرّ ومانعا لتلك الشدّة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي حين نجّاهم من الضر فإنّ جماعة منهم أشركوا بربّهم مقابلة لإحسانه بالكفران وجحد النعمة.

٣٤ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ...) اللّام هنا للعاقبة كما في قوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي أشركوا فكان عاقبة شركهم كفرهم (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الأمن والعافية والصّحة (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي انتفعوا بنعيم الدنيا كيف شئتم وعمّا قريب تظهر وتنكشف عاقبة كفركم. وذيل الشريفة تهديد للمشركين ، والالتفات إلى الخطاب للمبالغة.

٣٥ ـ (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ...) هذا استفهام مستأنف ومتضمّن للإضراب ، أي : هل أرسلنا إليهم (إلى الكفرة) كتابا أو حجة يتسلّطون به على ما ذهبوا إليه (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحّة شركهم ويحتج لهم به. والحاصل أنهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ولا يمكنهم إقامة سلطان عليه حتى يكون حجة لهم عند ربّهم على ما ذهبوا إليه من الجحد والشّرك.

٣٦ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً ...) أي نعمة من صحة أو سعة أو

عافية (فَرِحُوا بِها) بطروا بسببها ولا يشكرونها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدّة ومصيبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بشآمة معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي يفاجئهم اليأس عن رحمته لا يشكرونه على النعمة ولا صبر لهم على المحنة.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

٣٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) أي يوسّع عليه (وَيَقْدِرُ) أي يقتّر عليه ويضيّق فلا بدّ لعباده أن يشكروه على كل حال في السراء والضرّاء لأن أزمة الأمور كلّها بيده ويفعل بالنسبة إلى عباده ما فيه صلاحهم طبق حكمته التامّة وقدرته الكاملة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إذاقتهم الرحمة وإصابتهم بالسيئة أو في بسط الرزق وتقتيره أو في المجموع (لَآياتٍ) دلائل عبرة للمؤمنين فإنّهم أهل الاعتبار.

٣٨ ـ (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ...) أي أعط يا محمد أقرباءك فرضهم من الخمس. وعن الصّادق عليه‌السلام : لمّا نزلت هذه الآية أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة فدكا ، وفي نسخة وسلّمه إليها (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) أي حقهما من الخمس إن كانا من بني هاشم ، وإلّا فمن الزكاة

الواجبة. والمسكين هو الذي لا يملك مؤنة سنته لا فعلا ولا بالقوّة أي تدريجا (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إيتاء الحقوق للجماعة المذكورة خير من الإمساك (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يطلبون رضاءه أو وجه التقرب إليه لا غيره من الأعواض والأغراض الأخر كقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى)(أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنّعم الباقية.

٣٩ ـ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ...) أي زيادة محرّمة في المعاملة ، أو عطيّة يتوقع بها مزيد مكافأة ، أو هبة يطلب بها أكثر منها لا أنه تقصد القربة (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) أي : لتنموا أموالهم ، ويزيد في أموالهم أكلة الرّبا (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) لا يزكو عنده بل يمحقه ولا يثيب المكافئ ويذهب عنه البركة (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي مرضاته وقربه لا غيره (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين يؤدّون الزكاة المفروضة أو الصّدقة المندوبة لوجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي ذوو المكافأة والمضاعفة من الثواب في الآجل ، والمال في العاجل ، كما يقال : موسر أي : ذو يسار. والحاصل أن هؤلاء هم الذين يضاعفون ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. والجمع بين تلك الشريفة وأمثالها مما يدل على المضاعفة في الأعمال ، كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، التي تدل على عدم الزيادة ، إن هذه من باب العدل ، والإضعاف من قسم التفضّل. ثم إنّه تعالى بعد ذكر الأمر والنّهي في باب إيتاء الأموال وبيان المقبول منها من غيره ، جرّ الكلام إلى جانب دلائل التوحيد والقدرة فقال :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ

(٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

٤٠ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) أي أوجدكم وأنشأكم بعد ما كنتم معدومين محضا (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم الحشر الجزاء الأعمال (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ ...) الآية فإنّ الله تعالى في هذه الشريفة أثبت لوازم الألوهيّة لنفسه المقدسة ونفى عمّا أشرك به الملاحدة من قريش وكفرة العرب من الأصنام والأوثان وغيرها ، ثم بالغ في إنكاره وأكّد وحدانيّته جلّ وعلا بما يدلّ عليه البرهان يشهد عليه العيان والوجدان فاستنتج تقدّسه وتنزّهه عن إشراك المشركين وإلحاد الملحدين بقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم إنّه سبحانه بيّن ما يترتّب على الشّرك وترك التوحيد من الآثار الفاسدة وأنواع المصائب والوقائع بقوله تعالى :

٤١ ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أمّا ظهور الفساد في البرّ فبمنع السماء أمطارها فيقع الجدب والقحط والغلاء والآفات في الزّرع وقلّة الثمرات وكثرة الأمراض والأوبئة وموت الفجأة وكثرة الحرق والحروب والهدم ونحوها ، وأمّا في البحر فبكثرة الطوفانات والفيضانات وثوران البحار

بحيث يترتب على ذلك الخسارات والمضار الكثيرة من غرق السفن ونحوه أو قلة المياه لذلك وهلاك أسماكها وغيرها من ذوات الأرواح وفساد سائر نعمها التي فيها. ويكون ذلك ليذوقوا الشدّة في العاجل وليحشروا في الآجل إلى جهنّم وبئس المصير (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسوء أفعالهم وأقوالهم.

وفي الكافي والقمّي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : ذاك والله حين قالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أنّه تعالى أفسد عليهم أسباب المنافع الدنيوية ليذيقهم فيقاسوا ويكابدوا بعض جزائهم في الدّنيا ويكون تمامه في الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) علّة لجزائهم العاجلة أي يرجعون عمّا هم عليه. ويحتمل أن تكون اللام للعاقبة.

٤٢ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ...) إن الله تعالى كرّر الأمر بسير الآفاقيّة تأكيدا وتذكيرا للاعتبار ، فإن في ذلك أخبار الأمم السالفة والإنسان يستبصر إذا شاهد كيف صنع بهم وبملوكهم العتاة الظالمين والقرون العاصية ، وكيف أهلكهم الله فصارت قصورهم قبورا ومحافلهم مقابرهم فإذا شوهدت تلك الأمور يتحقق ويعلم مصداق القول المذكور (لِيُذِيقَهُمْ) ، الآية ثم بيّن سبحانه أنّه فعل بهم ما فعل لسوء صنيعهم فقال : (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) فليعلم أن العذاب العاجل لم يختصّ بالمشركين فقط ، بل قد يقع على المعلن بالفسق والمخالفة والعصيان كما كان على أهل السّبت وغيرهم من الموحّدين العاصين ، ولكن الأغلب في عذاب الاستئصال يكون بسبب الشّرك.

٤٣ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ...) أي فانصب قلبك وتوجّه به إلى دينك الذي هو في غاية الاستقامة والعدل الذي ادّخرته لك. فكما أنك خاتم الأنبياء فكذا دينك وهو دين الإسلام خاتم الأديان ، حيث إنّه جامع لكل ما يحتاج إليه البشر إلى يوم يبعثون. والخطاب للنبيّ الأكرم لمحض التشريف وهو لا يختصّ بفرد دون فرد. فيا ليت كنّا متوجهين إلى فضيلة ما

أمرنا وكلّفنا به فإن هذا الدين الذي أمرنا بالأخذ به والعمل على طبقه هو الذي كلّف به أشرف الأنبياء والمرسلين. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين. لكن أسفا وألف أسف لأنّنا ما قدرناه حق قدره وحفنا عليه ولفظناه وطرحناه وراء ظهورنا فخسرنا خسرانا مبينا (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) مردّ مصدر. والجار في قوله (مِنَ اللهِ) متعلق بيأتي. أي قبل مجيء يوم من عند الله الذي لا يقدر أحد أن يردّه لتحتّم الإتيان به وهو يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يتصدّعون يعني يتفرّقون إلى الجنّة والنار.

٤٤ و ٤٥ ـ (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ...) أخذ تعالى في بيان فريق النار وفريق الجنّة بقوله (مَنْ كَفَرَ) إلخ يعني فريق النار هو الكفرة الملحدون وهم المعاقبون بكفرهم ، وأهل الجنّة من يعمل صالحا فيهيّئ ويسوّي منازل في الجنّة لنفسه. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام قال : إن العمل الصّالح ليسوق صاحبه إلى الجنة فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) هذا الذيل علّة لما يترتب على الكفر من الوبال والنار المؤبّد ، وعلى العمل الصالح من تمهيد المنازل في الجنّة العالية والمخلّد فيها. وفي الكشاف أن هذا تقرير بعد التقرير على الطّرد والعكس.

* * *

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

٤٦ ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ...) أي ومن أفعاله الدالة على معرفته وكمال قدرته هو إرسال رياح الرحمة ، فإن الرياح أربعة : الشمال والصّبا ، والجنوب ، وهذه رياح رحمة ، والدّبور وهذا ريح نقمة وعذاب. ومنه قوله عليه‌السلام والصّلاة : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ، أي اجعله نعمة ورحمة ولا تجعله عذابا أي ريح دبور ، بقرينة الجمع والإفراد. والرياح المبشّرة هي رياح الرّحمة ، وحين جريانها وتحرّكها بإذن ربّها كأنها تكون ناطقات بالبشارة بالخير ومطر الرّحمة ومنافع الزرع وإصلاح أحوال سائر الأشياء ، فإن الرياح لو لم تهب لظهرت العفونات فتتولّد الأوبئة والأمراض وغيرها ممّا يتولّد عن فساد الهواء (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي من المنافع التابعة. وهذا عطف على معنى (مُبَشِّراتٍ) أي ليبشركم وليذيقكم من رحمته التي هي الغيث المسبّب عنها ، أو الخصب التابع له ، أو الروح الحاصل بهبوبها. والتعبير بالإذاقة لأن الإذاقة تقال في القليل. ولمّا كان مطلق نعم الدّنيا وراحتها الفانية بالإضافة إلى نعم الآخرة ولذّاتها الباقية نزر قليل عبّر عنها سبحانه بالإذاقة رمزا إلى هذا (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) ولمّا أسند الفعل إلى الفلك عقّبه بأمره ، أي : الجري بأمره سبحانه وبإرادته (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في التجارات البحريّة تبتغون الخير من فضله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه النعم فتوحّدون ربّكم. ثم خاطب نبيّه (ص) تسلية له فقال :

٤٧ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً ...) لم يكن لهم شغل غير ما تعمله أنت (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا قومهم بدلائل على نبوّتهم ومن كذّبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي كفروا بآياتنا وجحدوها (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) بالحجة والبرهان ، أو في الرّجعة. ثم قال سبحانه مفسّرا لما أجمله في الكريمة المتقدّمة :

* * *

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

٤٨ و ٤٩ ـ (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً ...) أي من شواهد القدرة أنه يهيّء ويرسل الرياح من معادنها فتهجّ السحاب في الفضاء ويبسطه مسيرة يوم أو أكثر ، ثم يجريها إلى أيّة ناحية من نواحي الأرض شاء بأمره تعالى كما قال سبحانه (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرّقة كما يشاهد حسّا (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي المطر يخرج من بينه (فَإِذا أَصابَ) ، الآية أي إذا نزل الودق على طائفة من عباد الله يفرحون بذلك ويبشّر بعضهم بعضا بنزوله (وَإِنْ كانُوا) كلمة (إِنْ) مخفّفة عن الثقيلة ، يعني أنّهم قبل نزول المطر كانوا قانطين آيسين من نزوله عليهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله(مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) وتكرير من قبله للتّأكيد ، وقيل إنّ الأول (مِنْ قَبْلِ) إنزال المطر ، والثاني (مِنْ قَبْلِ) إرسال الرياح.

٥٠ ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ ...) أي أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ، كيف يحيي الأرض بما ذكر (بَعْدَ مَوْتِها) أي قبل

فقدها المذكورات بفقد الغيث (إِنَّ ذلِكَ) أي في أثر المطر من النبات والخصب (لَمُحْيِ الْمَوْتى) يعني الذي يقدر على إحياء الأرض بعد موتها هو قادر على إحياء البشر بعد إفنائهم بالموت. وإنّما عبّر بقوله (لَمُحْيِ الْمَوْتى) باللام المؤكّدة وباسم الفاعل لأن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يستفاد من قوله إنه لمعطيك ، لأن ما يفيد اسم الفاعل أنه متصف بالعطاء حين ما يقول القائل (معطيك) بخلاف قوله (يعطيك فإن المستفاد منه أنه سيتّصف به لأنه في حال الحاضر مباشر بالفعل أو كأنه مباشر من حيث العلم بتحقّق الفعل فيما يأتي من الزّمان ، كما في قوله إنّك ميّت الذي هو آكد من قوله : إنّك تموت ، والغرض تحقّق وقوع الإحياء بعد الإماتة بلا ريب.

٥١ ـ (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ...) أي الدّبور الذي هو للعذاب ، وإذا هبّ على النبات أو الزرع كان ضارّا لأن الدّبور إما باردة غاية البرودة وإما حارة حرارة شديدة ، وتسمّى بالسّموم ، وفي كلتا الحالتين تضرّ بالنباتات وجميع الخضرويات حتى الأشجار الناعمة اللّطيفة فيفسدها جميعا في نفخة واحدة ، ولذا فرّع سبحانه على إرساله وهبوبه قوله (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي يرون النبات والزرع اللّذين كانا من آثار رحمة الله أنه عرض لهما الاصفرار بعد الخضرة وهو علامة يبسهما وفسادهما. ويحتمل أن يكون مرجع الضّمير هو السّحاب الذي ذكر قبل هذه الآية فإن السّحاب إذا اصفّر لم يمطر ، والنتيجة هي النتيجة ، أي الفساد (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي لصاروا من بعد أن رأوه مصفّرا كافرين جاحدين لأنعم الله وهذا جواب سدّ مسدّ الجزاء. والحاصل أن الله تعالى ذمّهم بأنّهم إذا حبس عنهم المطر قنطوا ولم يستغفروا ، وإذا أمطروا فرحوا ولم يشكروا لعدم تدبّرهم وتفكّرهم في آياته ولسوء آرائهم ، فإن النظر السّويّ يحكم بأن يتوكّلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار عند الاضطرار ، وأن يبادروا إلى الشكر عند النعمة وأن لا يفرطوا في الاستبشار .. ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن أتمّ الحجة عليهم بأنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعدهم وأوعد ولم يزدهم

دعاؤه إلّا فرارا ونصحه إلّا كفرا وضلالا وإصرارا ، قال الله تعالى له : يا محمّد خلّهم وذرهم في ضلالتهم يخوضون فإنّك لا تقدر على هدايتهم فإن مثلهم مثل الموتى.

* * *

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

٥٢ ـ (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ...) أي لا تستطيع إسماع موتى القلوب يعني الكفرة الذين سدت مشاعرهم عن استماع المواعظ والنصائح الحقّة فإنهم في حكم الموتى (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) أي ولا تقدر على إسماع من بهم صمم فإنّ حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي حين يبتعدون عن الاستماع فإسماعهم أشدّ استحالة لأن الأصمّ المقبل وإن لم يسمع الكلام لكن بسبب حركات الشفة واليد وإشارة الرأس والعين يمكن أن يستفيد شيئا ما ، بخلاف الأصمّ المدبر فإنه من محروم هذا المقدار من الاستفادة أيضا.

٥٣ ـ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ...) أي أنّ مثل الكفّار مثل العميان في عدم الاهتداء للطريق المقصود ، يعني يا محمد أنّك لا تهدي ولا تستطيع إرشاد عميان القلوب حيث إنهم أشدّ استحالة للهداية من عمي العيون ، فإن من عميت عينه يمكن هدايته إلى الطريق باللسان أو بأخذ يده لأنه يستمع لما يقال في مقام الهداية ويعطي يده إلى قائده ويطمئنّ إليه بخلاف الإنسان الجاحد العنود الذي لا يستمع نصح الناصح ولا دعوة الدّاعي إذا دعاه فلا يقدر على هدايته أحد إلّا الله ، فلذا خاطب الله تعالى

نبيّه الأكرم (ص) بأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي الذي يستمع القول ويتلقاه ويتدبّر معناه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) مسلّمون بما تأمرهم به وتنهاهم عنه حيث إنّهم يتّبعون سبيل الهداية والإرشاد. ثم إنه سبحانه عاد إلى ذكر البراهين الدالة على كمال القدرة والتوحيد لأنّهما الأهم فكرر أدلتهما على اختلافها بمناسبتها في كلّ مورد فذكر أوّلا ما هو الأساس في بدء خلق الإنسان بمقتضى قوله سبحانه : (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فقال عزّ من قائل :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

٥٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) أي كنتم في بدء الإيجاد ضعفاء في حالة الطّفولية فإن الأطفال لا يقدرون على البطش والمشي وعلى الأخذ والإعطاء وسائر التصرّفات والأعمال حتى على تحريك اليد والرجل وفتح العين وشم الرياحين بالاختيار ، نعم يرى له بعض الحركات في بعض

الأعضاء على سبيل الاتّفاق ، لكنها حركات تقلصية غير اختيارية مثل أنّه حينما يبكى بشدّة تتحرّك رجله أو يده بواسطة الاعتصار الذي يرد على الأعضاء فيحرّكها بلا اختيار ولا إرادة. والحاصل أن المولود في ابتداء إيجاده أضعف مواليد نوع الحيوانات وهو مثال الضعف كما أشرنا آنفا. أو المراد أنّه تعالى أوجده من أصل ضعيف وهي النّطفة لقوله تعالى : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف ، فكأن الضعف صار أمرا ذاتيّا للإنسان. ثم ذكر مرتبة أخرى من مراتب ترقية الإنسان بقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) حينما يصير الإنسان شابا ذا قوة وقدرة أو حين ولوج الروح بالبدن (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فبعد ما يخلص تطوّر خلقه ويتمّ قوس الصّعود يجيء قوس النزول وهو الضعف والشّيب بعد القوة والشباب (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الضّعف والقوة والشّيب والشّيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) اي العالم بأحوال عباده ومصالحهم (الْقَدِيرُ) القادر على تغيير صفات العباد وهيآتهم من هيئة إلى هيئة ومن حالة إلى حالة على وجه تقتضيه الحكمة ويكون فيه المصلحة ، وذلك أدلّ شاهد على وجود الصّانع العالم القادر يفعل بعباده ما يشاء كيف يشاء.

٥٥ ـ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ...) أي القيامة ، ولعلّ الألف واللام للعهد ، أي آخر ساعة من أيّام الدّنيا أو أوّل ساعة من أيّام القيامة ، وهي من الأسماء الغالبة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي يحلفون أنهم ما بقوا في القبور أو في الدّنيا أو في ما بين فنائها والبعث وهو زمان انقطاع عذابهم (غَيْرَ ساعَةٍ) فيستقصرون مدّة لبثهم بالنسبة إلى مدة عذاب الآخرة ، أو ينسونها ، أو لمّا كانوا في الدّنيا متنعّمين في طيب العيش رأوا أنّ بقاء الدنيا من الأيام والشهور كان قليلا في عينهم وبنظرهم وسهلا حيث إنّ الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ولذا استقلّوها (كَذلِكَ) أي مثل صرفهم وحلفهم وقولهم كذبا في الآخرة (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصّدق ويعدلون عن قول الحق.

٥٦ و ٥٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ ...) إنّ الله تعالى أخير

عن قول أهل العلم والإيمان بعد استماعهم الحلف الكاذب من المشركين بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، إلخ ، أي الذين هداهم الله بإقامة الحجج ونصب البراهين بحيث صارت موجبة لسلمهم وباعثة لكمال معرفتهم وتصديقهم لله ولرسوله وكل ما جاء به الرّسول صلوات الله عليه ولهذا نسبه إلى نفسه. ولعل المراد بهم الأنبياء والملائكة العالمون بأكثر الأمور ، والمؤمنون من الإنس ، أو الملائكة والمؤمنون جميعا. وفي الكافي عن الرّضا عليه‌السلام في الحديث الذي يصف فيه الإمامة والإمام قال : فقلّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا عليه‌السلام بأمر الله عزوجل على رسم ما فرضه الله تعالى ، فصارت في ذرّيته الأصفياء الذين آتاهم الله تعالى العلم والإيمان بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، الآية (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ. يعني أنه ثابت فيه مقدار لبثكم ، أو في علم الله وقضائه ، أو في القرآن من قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) والحاصل أن أهل العلم والإيمان يردّون على أهل الكفر والإلحاد بهذا القول ، أي لقد لبثتم (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وبعد ذلك يقولون (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) أي اليوم الذي كنتم تنكرونه والفاء جواب للشرط المحذوف وتقديره : ان كنتم منكرين للبعث والنشور (فَهذا) إلخ فانظروا حتى يتبين لكم بطلان إنكاركم (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوعه لعدم النظر والتدبّر في ما جاء به نبيّكم (ص) فيأخذ الكفرة في الاعتذار عمّا فات ويطلبون الرجوع إلى الدّنيا لجبران ما مضى واستئناف العمل فلا يقبل منهم ، ويجيء النداء من قبل الرّب كلّا (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشّرك بعد إتمام الحجّة عليهم (مَعْذِرَتُهُمْ) اعتذارهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا يطلب منهم الإعتاب ولا ما يزيل آثار الجرم كالتوبة والرجوع إلى الدنيا للجبران أو العودة إلى الحقّ ، والحاصل أنّهم لا يستتابون فيتوبون. ويقال استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته ، فلا يؤذن لكم في الاسترضاء حتى أرضى عنهم ، ولا يطلب منهم العتبى والأخذ والرد في الكلام.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

٥٨ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ ...) أي بيّنا لهم بحيث أغنيناهم في البيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ) المنزل على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يدعوهم وينبّههم على التوحيد والإيمان بالبعث وإلى قول النبيّ (ص) (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من فرط عنادهم واسوداد قلوبهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب الأباطيل والتّزوير.

٥٩ ـ (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ ...) أي كما طبع على قلوب هؤلاء الكفرة (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي الذين لا يعلمون شيئا من الحق ويعتقدون أن ما هو عقيدتهم من الضلالة والأباطيل هو الحق. ولا ريب أن الجاهل جهلا مركّبا لا يهتدي ولا يكون قابلا للهداية ، فكأنّه ختم وطبع على قلبه فلا يدرك الحق أبدا ولذا منع من ألطاف الحقّ عزوجل فتركه الله تعالى في تيه ضلالته والجهالة. والطبع كناية عن غاية قسوة القلب. ولما كان الجاحدون مصرّين على عدم استماع الحق والاهتداء ولا زالوا يؤذون أهل الإيمان بأقسام الأذايا فأمر الله تعالى نبيّه بالصّبر وبشّره بالنّصر تسلية له فقال :

٦٠ ـ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أي اصبر على أذاهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) حين وعدك بالنصر وبإعلاء دينك فإن ذلك ثابت منجّز لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي لا يحملنّك على الخفّة والضجر ولا

تغضب من هؤلاء الذين هم أهل شكّ وضلالة ، فلا بد من أن تكون مجدّا ومجتهدا في دعوتك فإنك المنصور عليهم في نهاية الأمر كما وعدناك.

سورة لقمان

مكّيّة إلّا الآيات ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٩ فمدنية وآياتها ٣٤ نزلت بعد الصافات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

١ و ٢ ـ (الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ...) قد قلنا سابقا إن الحروف المقطّعة في مبادئ السّور أسماء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو رموز

بين النبيّ وبينه تعالى ، وعلمها عنده تعالى وعند نبيّه (ص) ، و (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه الآيات آيات القرآن (الْحَكِيمِ) المحكم آياته أو المحكم ، أو آياته ذات الحكمة (هُدىً) بيانا ودلالة. ونصبه على الحال للآيات ، وهو مصدر بمعنى الفاعل من باب : زيد عدل أي حال كون الآيات هادية (وَرَحْمَةً) أي حال كونها نعمة (لِلْمُحْسِنِينَ) المطيعين أو للموحّدين ، أو المراد للّذين يحسنون العمل. ثم وصفهم سبحانه بقوله :

٣ إلى ٥ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...) هذه الشريفة وما بعدها بيان للمحسنين ، وتكرير الضّمير تأكيد. وعن الكلبي ومقاتل أن النضر بن الحارث سافر إلى فارس للتّجارة فاشترى بعض الكتب الموضوعة للقصص والحكايات نحو ما كتب في أحوال رستم وبهرام وإسفنديار من ملوك الفرس وأمرائهم ، فكان يقرأ في مجامع قريش ومحافلهم بحيث أنّهم تركوا استماع القرآن وصاروا يجتمعون عنده لكثرة اشتياقهم لاستماع تلك القصص والحكايات الحلوة. وكان يقول النضر عنادا وإنكارا لما جاء به النبيّ من القرآن وغيره من المعجزات : إنّ محمدا جاء بقصّة عاد وثمود وملك سليمان وداوود ، وأنا أخبركم عن سعة ممالك ملوك العجم وأكاسرته وقياصرته ، فنزلت الآية الشريفة :

٦ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ...) أي النضر أو غيره من المعاندين والمشركين يشتري (لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي التغنّي أو مطلق ما يلهي عن سبيل الله وعن طاعته من الأباطيل والمزامير والملاهي والمعازف والأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها ونحوها من الملاهي (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وطريقته الحقة فيضلّ الناس عن دينه تعالى. ومن أضلّ غيره فقد ضلّ (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير بصيرة حيث يشتري الباطل بالحق والضلالة بالهدى ، والجملة حال من فاعل (أضلّ) ومتعلّق به (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي يتّخذ السّبيل المستقيم سخرية ويستهزئ بها ، ومن يفعل ذلك فله (عَذابٌ مُهِينٌ) ذو إهانة.

٧ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ... وَلَّى مُسْتَكْبِراً ...) أي أعرض عن سماع آياتنا إعراض من لا يسمعها و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي كأنّ في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات ومن كانت هذه حاله (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع. والتعبير بالبشارة مع أنّها تستعمل في الخير للتّهكّم. وفي القمي عن الباقر عليه‌السلام : هو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي وكان النضر ذا رواية لأحاديث النّاس وأشعارهم يقول الله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً).

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

٨ و ٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) هذه الشريفة بيان لحال المؤمنين إثر ذكر حال الكافرين بالآيات ، أي أن الذين آمنوا بالآيات وعملوا بها (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) البساتين والحدائق ذات النعمة. ولا يخفى أنّ توحيد العذاب والكفرة ، وجمع الجنّات للمؤمنين إشارة إلى الرحمة وأن الرحمة واسعة أكثر من الغضب ، وتعريف النعمة وتنكير العذاب يرمز إلى أن الرحيم عرّف النعمة لإيصال الرّاحة إلى قلوب المؤمنين ولم يبيّن النقمة بل نبّه عليها تنبيها لتزلزل قلوب الكفرة ولتذهب أذهانهم إلى أيّ مرتبة من

مراتب العذاب تكون النقمة من الكافرين ، في حين أن المؤمنين يكونون في الجنّة (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدهم وعدا حقّا لا خلف فيه ولا تبديل (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجازه وعده ووعيده في انتقامه من المشركين (الْحَكِيمُ) الذي يفعل طبق ما تقتضيه حكمته. ثم إنه تعالى بعد ذكر الوعد والوعيد بيّن أفعاله المحكمة المتقنة الدالة على التّوحيد والقدرة العظيمة بقوله :

١٠ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...) إذ لو كان لها عمد لرأيتموها حيث إنّها لو كانت فرضا لكانت من أجسام عظام بحيث تتحمّل ثقل السّماوات ، ولو كان كذلك لاحتاجت إلى عمد أخرى وهكذا حتى تكون كل واحدة منها معمودا لعمد أخرى وذلك موجب للتسلسل فإذا لا عمد لها ، هذا بناء على كون قوله (تَرَوْنَها) جملة مستأنفة ويحتمل كونها صفة لعمد أي بغير عمد مرئيّة ، يعني عمدها غير مرئيّة ومشاهدة لكم ، فإنّها لها عمد ممسكة لها وهي عبارة عن قدرته الكاملة وكلمته التامّة التي خلق الكون بها مع جميع كيفيّاته وكميّاته. ولعلّه يشير إلى هذا ما نقل عن الرّضا عليه‌السلام : ثم عمد ولكن لا ترونها. ومن مظاهر قدرته قوله (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي وضع وخلق عليها جبالا شوامخ ثوابت لعدم اضطراب الأرض ولاستقرارها كما يشير إلى تلك الفائدة المهمّة والنعمة المجهولة على أكثر البشر بقوله تعالى : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) لأنه تعالى كره أن تتحرّك وتضطرب بنا فإنّها لو توضع ولم تجعل عليها الجبال لزالت الأرض عن موضعها ولم تزل تتحرك بسبب المياه المتحرّكة والأرياح الجارية عليها. ومن النّعم التي منّ بها على العباد أن جعل الأرض صلبة ولو جعلها مثل الرمال لما كانت تصلح للزراعة وغرس الأشجار الكبيرة فإن الأراضي المرملة ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع ويموج كما تموج المياه ولا استقرار فيها أبدا (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي نشر وفرّق فيها من كل ما يتحرّك ويدبّ على وجه الأرض من أنواع الحيوان ، وأسكنها في

الأرض ثم أرسل عليها المطر فأنبت فيها (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي من كلّ صنف كثير المنفعة. ثم أنّه تعالى استدل بهذه الأمور على عزّته فإنها تكشف عن كمال قدرته وتدل على حكمته البالغة ، ومهّد بذلك قاعدة التوحيد وقرّره بقوله :

١١ ـ (هذا خَلْقُ اللهِ ...) أي هذا مخلوقه وموجوده الذي تشاهدونه وتعاينونه بعين اليقين (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي اين مخلوق شركاء الله ومصنوعهم. وما ذا خلقت آلهتكم التي تعبدونها؟ وبأيّ سبب صارت مستحقة للعبادة؟ فأروني وجه استحقاقها والاستفهام للتقريع ، يعني لم يخلقوا شيئا ما ، ولا يقدرون أن يخلقوا فلا يستحقّون الاعتناء بهم ، فكيف أن يعبدوا وجعلوا شركاء لخالق السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما فواها ثم واها لهؤلاء الذين قالوا بألوهية العجزة وأشركوا العاجز المطلق مع القادر المطلق والمصنوع الذي نحتوه بأيديهم مع خالق العوالم الإمكانية بأسرها ... (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضّلال بحيث لا يكون خافيا على أحد من العقلاء الناظرين قد وضع الظاهر مقام الضمير إيذانا بالعلّة ، ثم إنه تعالى لمّا ذكر أدلّة التوحيد والقدرة والحكمة عقّبها ببيان قصّة لقمان وإعطائه رشحة من رشحات حكمته العالية بتلك المناسبة فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ

 أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

١٢ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ...) أي العقل والفهم على ما في الكافي عن الكاظم عليه‌السلام ، وعن الصادق عليه‌السلام : أوتي معرفة إمام زمانه. وكان لقمان بن باعور ابن أخت أيّوب عليه‌السلام أو خالته وعمّر حتى أدرك داود عليه‌السلام (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي لأن ، أو قلنا له أشكر لله (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي لعود نفعه إليها. والله (غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (حَمِيدٌ) أي حقيق بالحمد حمد أو لم يحمد.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ...) أي اذكر يا محمّد إذ قال لقمان لابنه ، ويجوز أن يتعلّق بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) إذ قال لابنه (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يؤدّبه ويذكّره (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) وقيل كان كافرا فما زال به حتّى أسلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لأنّه تسوية بين أشرف الموجودات وأخسّ المخلوقات وهي الأوثان المنحوتة من الجمادات كالأحجار والأخشاب والأصنام المصنوعة من الذهب والفضّة والصفر والحديد .. وهذا الكلام من نصائحه الحكميّة. وروي عن النبي (ص) أن واحدا من عظماء بني إسرائيل مرّ على لقمان ورأى أن جمعا كثيرا اجتمعوا عليه يستمعون من مواعظه وكلماته الحكميّة فناداه : يا لقمان أما أنت الأسود الذي كنت ترعى أغنام فلان؟ وقال له هذا من التعجّب لا تحقيرا. فقال لقمان : نعم أنا ذاك. فسأله : بأيّ عمل نلت هذا المقام السّامي؟ أجابه : بثلاثة أمور : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعني. وقد فسّر بعض شرّاح الحديث (ما لا يعني) بترك الآمال. ولكنّ الظاهر أنه ترك الكلام

إلّا بمقدار الضرورة ورفع الحاجة فهو عليه‌السلام لا زال كذلك وكان لا يتكلّم إلّا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكان كثير الصّمت. ونقل الثعلبي في تفسيره من حكم لقمان أنّ مولاه أرسله مع بعض غلمانه إلى بستان له ليأتوه بفاكهة فأكلها الغلمان في الطريق وألقوا إلى رقبة لقمان وقالوا هو أكله. فغضب عليه مولاه ، فقال لقمان : كذبوا وهم أكلوها. فسأله المولى بأيّ كيفيّة يمكن كشف كذبهم؟ فقال : بأن تشربنا ماء فاترا وتركضنا في الصّحراء حتى تعرّضنا للقيء ، فإن خرجت الفاكهة من بطني فهم صادقون ، ولو خرجت من بطونهم فهم كاذبون. فسلك المولى بهم هذا العمل فخرجت من بطونهم الفواكه ومن بطن لقمان الماء الصافي. فاعتمد بعد ذلك على أعماله وأقواله وتعجّب من عقله وذكائه ومن قصار كلماته في الحكمة. فليس مال كالصّحة ولا نعيم كطيب النفس. ونقل أنه كان عبدا حبشيّا فأمره مولاه أن يذبح كبشا ويجيئه بأطيب أعضائه فذبحه وجاءه بقلبه ولسانه. وبعد أيّام قليلة أمره بالذبح وأن يجيئه بأخبث الأعضاء فجاءه بهما أيضا ... فسأله مولاه كيف يكون شيء واحد أطيب وأخبث؟ فأجابه : هما أطيب الأعضاء إذا طابا ، وأخبثها إذا خبثا. ومن كلماته الثّمينة الحكميّة قوله لداود عليه‌السلام : يا داود اسمع منّي وتعلّم خمس كلمات فيها علم الأوّلين والآخرين.

١ ـ اعمل لدنياك بقدر لبثك فيها.

٢ ـ واعمل لآخرتك بمقدار لبثك فيها.

٣ ـ وليكن مقصودك من مولاك عتق رقبتك من النار.

٤ ـ ولتكن جرأتك على المعصية بمقدار صبرك وطاقتك على النار.

٥ ـ إذا قصدت معصية مولاك فهيّء مكانا لا يراك فيه.

وله قصص وحكايات كثيرة وكلمات قيّمة ليس هذا المختصر مكان ذكرها. ثم إنه تعالى قدّم الأمر بالشكر على نعمه الجزيلة لأنه المنعم وعقّبه

بالتّنبيه على وجوب الشكر للوالدين لأن حقوقهم على الأولاد كثيرة فقال تعالى :

١٤ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ...) أي أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما. وإنما قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشئ وهما السبب في الإنشاء والتربية. وبعد هذا بيّن سبحانه زيادة نعمة الأم وكثرة حقّها على الولد من ناحية كثرة أتعابها به ، فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، فإن الحمل كلما يثقل ويترقّى يزيد في مضايقة الأم وضعفها فإن الحمل الثقيل كلفة ومشقّة على الحامل ، ألا ترى أنّ البطين كيف يرى الشّدة والجهد بحيث لا يقدر على المشي من الضعف لعظم بطنه وكبره (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطامه في انقضاء عامين ، وهما مدة رضاعه. والجملتان اعتراض مؤكّد للتوصية في حقّها وتنبيه على ازدياد حقها ولذلك قال سبحانه : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هذا تفسير للوصيّة ، أي وصّيناه بشكرنا وشكر والديه وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبّر والصّلة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي المرجع فأجازيكم على حسب أعمالكم ، وفيه تهديد. وفي العيون عن الرّضا عليه‌السلام في حديث : وأمرنا بالشكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله. وعنه عليه‌السلام : من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزوجل.

١٥ ـ (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ...) أي بذلا ووسعهما وجدّا لأن تشرك بي (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي الذي لا علم لك باستحقاقه وأهليّته للشرك عن بيّنة وحجة قطعيّة إلّا تقليدا لهما فقط (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك مع أن إطاعتهما وخدمتهما لازمة عليك ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق على ما روي عن الرّضا عليه‌السلام (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي مصاحبة معروفة محمودة شرعا وعرفا فأحسن إليهما بما تحسن به إلى أحبّ الخلق إليك وارفق بهما كمال الرّفق نحو ما ترفق بمن هو أحبّ

الناس إليك. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام في حديث بعد أن أوصى رجلا بأن لا تشرك بالله شيئا وإن أحرقت بالنار قال عليه‌السلام : ووالديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فإن ذلك من الإيمان (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي نهج من رجع إليّ بالطاعة والتوحيد والإخلاص ، وهو محمد نبيّي ومن يحذو حذوه من أهل بيته وأتباعهم المتّصفين بالإيمان والإخلاص (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) إلى حكمي رجوعكم (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أخبركم بأعمالكم وأقوالكم وأجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

* * *

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

١٦ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ...) ثم أخذ هو تعالى في بيان بعض آخر من قصص لقمان بقوله : يا بني ، تصغير شفقة وعطف على ابنه. والمثقال كناية عن أقل ما يوزن به الشيء من الأحجار والفلزّات التي يعيّن بها مقدار الأشياء كالكيلوات ونحوها في كلّ عصر بحسبه (مِنْ خَرْدَلٍ) بيان للحبّة وكناية عن أصغر الحبوب. والخردل نبات له حبّ

صغير جدّا أسود مقرّح. ومعنى الكريمة أن فعلة الإنسان من الخير أو الشر أو أفعاله بقرينة المقام ، ولعل تأنيث الفعل أيضا بذلك الاعتبار ، إن كانت في الصّغر مقدار خردلة (فَتَكُنْ فِي) أخفى المواضع كجوف (صَخْرَةٍ) أو في أعلاها (فِي السَّماواتِ) أو في أسفلها (فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ليحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) نافذ القدرة بحيث يصل علمه إلى كلّ خفيّ (خَبِيرٌ) عارف بكنه ذات الشيء وحقيقته. وروى العياشي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : اتقوا المحقّرات من الذّنوب فإن لها طالبا.

١٧ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ...) إن الله تعالى عقّب تلك الجملة بقوله : أقم الصّلاة حكاية عن عبده الصّالح الذي أعطاه الحكمة تنبيها على أهمّيتها وربطها بالدّين كالصّلاة التي هي عماد الدين. والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يمكن أن يقال إنهما من ناحية أهمّ منها حيث إنهما علة مبقية للدّين كما أنّ الأنبياء والرّسل كانوا علة محدثة له ولولاهما (أي الأنبياء والرّسل) ولو لا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لم يكن ولا يبقى من الدّين اسم ولا رسم كما هو المشاهد بالوجدان ولا يحتاج إلى إقامة البرهان ، والمراد بالمعروف ما هو الموافق للشرع والعقل ، والمنكر ما هو المخالف لهما أو لأحدهما (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من المصائب والشدائد والأذى في الأمر والنهي أو مطلقا ، والأول مرويّ عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثّاني عن الجبّائي ، والحق مع عليّ عليه‌السلام فإنه الظاهر من التعقيب بهما مضافا إلى أنّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أولى بالأمر بالصّبر لأن المصائب والشّدائد في هذين الفرضين أكثر من جميع الفرائض ، لأن الفرائض كلّها تسقط عند الدّماء وقتل النفس المحترمة ، بخلاف هذين فإن من مصاديقهما الجهاد ، الذي حقيقته الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو كلاهما. والوجدان يحكم بأن الجهاد وضع للفداء والتضحية في سبيل الدّعوة إلى الدّين ، وفي هذا الفرض أيسره

إهراق الدّماء ، وأشدّه وأعسره قطع الأيادي والرّؤوس ، وأيّ فرض أحرى وأجدر بالصّبر من هذين الفرضين؟ فالأولى والأنسب إرجاع الأمر بالصّبر إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللّذين هما معرّضان للتعب والأذى نوعا إن لم نقل بكونهما ملازمان لهما ولا سيّما في هذه الأزمنة من عصر آخر الزمان كما يشاهد بالعيان فقول عليّ عليه‌السلام هو الحق (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الصّبر على ما أصابك من عزائم الأمور التي عزمها الله ومقطوعاتها. فالمقام اقتضى تسمية المفعول بالمصدر فقال : عزم الأمور ، أي معزوماتها ومفروضاتها التي لا بدّ منها.

١٨ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ...) أي لا تمل بوجهك عن الناس نخوة وتكبّرا ، وأقبل بوجهك عليهم تواضعا وخشوعا (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أن لا تمرح مرحا شديدا ، لا تسر بكبرياء وعجرفة وبإظهار نشاط وفرح واعتزاز بالنّفس (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي أنه تعالى يكره المتخايل في مشيه المتكبّر الفخور بنفسه الذي يمشي قليلا قليلا ليخدع الناس بأنه ذو شخصية قدسية أو مالية ، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن يكون متّصفا بهذه الصفات ... ونلفت النظر إلى أن التصعير هو من الصّعر الذي هو علة تعرض للبعير فتسبّب له العوج في عنقه فيمشي وهو مائل الوجه عن وجهة سيره .. ثم قال سبحانه وتعالى على لسان لقمان :

١٩ ـ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ...) أي توسّط فيه بين السّرعة والبطء فإن السرعة تذهب ببهاء الرّجل والبطء علامة التبختر والتكبر وكذلك لا ينبغي للإنسان أن يمشي مصعرا خدّه أي مائلا برقبته إلى اليمين أو إلى اليسار بحيث يكشف عن عدم اعتنائه بالناس وكذا مختالا ينصب عنقه ويجعله عدلا بحيث لا يحركه إلى اليمين أو اليسار نخوة وتكبّرا فكلا الوصفين مذمومان عند الشارع لأنهما كاشفان عمّا هو مبغوض عند الشّارع ولذا نهى عنهما. (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي أقصر وإخفض صوتك فإن الرافع لصوته هو الحمار ، و (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي أقبحها

وأرفعها. وفي الكافي عن الصّادق (ع) أنّه سئل عنه عليه‌السلام فقال : العطسة القبيحة .. هذه نبذ من مواعظ لقمان حكاها الله تعالى ، فإنها وإن كان الخطاب فيها لولده لكنّها تفيد العالم ، ولذلك أوحى الله بها إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لاستفادة أمته بها ولنذكر رواية فيها من مواعظه وحكمه القيّمة ولو أن ذكرها خلاف ما هو قصدنا في الكتاب من رعاية الاختصار. ففي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام في قول الله تعالى (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) ، الآيات قال (ع) : فوعظ لقمان ابنه بآثار حتى تفطّر وانشقّ. وكان فيما وعظه به أن قال : يا بنيّ إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة. فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، ولا تجادلهم فيمنعوك. وخذ من الدنيا بلاغا ، ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضرّ بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ، ولا تصم صياما يمنعك من الصّلاة فإن الصّلاة أحبّ إلى الله من الصّيام. يا بنيّ إن الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير ، فاجعل سفينتك فيها الإيمان ، واجعل شراعها التوكّل واجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله وإن هلكت فبذنوبك. يا بنيّ إن تأدّبت صغيرا انتفعت به كبيرا ، إلى أن يقول : وأجعل في أيامك ولياليك وساعاتك لنفسك نصيبا في طلب العلم ، فإنك لن تجد له تضييعا أشدّ من تركه ، ولا تمارينّ فيه لجوجا ، ولا تجادلنّ فقيها ، ولا تعادينّ سلطانا ، إلى أن يقول : يا بنيّ خف الله عزوجل خوفا لو أتيت يوم القيامة ببرّ الثقلين خفت أن يعذبك ، وأرج الله رجاء لو وافيت يوم القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك. فقال له ابنه : يا أبه ، وكيف أطيق هذا وإنّما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان : يا بنيّ لو استخرج قلب المؤمن فشقّ لوجد فيه نوران : نور للخوف ونور للرّجاء لو وزنا ما رجح أحدهما على الآخر بمثقال ذرّة.

* * *

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))

٢٠ ـ (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ ...) بأن جعله أسبابا لمنافعكم (وَما فِي الْأَرْضِ) بأن مكّنكم من الانتفاع به كالنّيرات وكالحيوان وغيره (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) أي أوسع وأتمّ نعمه بأقسامها من الظاهريّة المحسوسة التي لا يمكن لأحد إنكارها كالخلق والإحياء والإقدار وإيجاد الشهوات في الحيوانات وضروب النّعم المأكولة والمشروبة والملبوسة والمسكونة والمركوبة وغيرها ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، والباطنيّة مما لا يدرك بالحسّ والعيان بل بالعقول ، وبعض القوى الأخر ، وبنفس المدرك أيضا من النّعم الباطنيّة قال الباقر عليه‌السلام : أمّا الظاهرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به من معرفة الله وتوحيده ، والباطنة ولا يتنا أهل البيت (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في ذات الله. وكما في عين المعاني أن يهوديّا جاء وسأل النبيّ (ص) فقال : يا محمد ، إنّ ربّك من أيّ شيء؟ فجاءت صاعقة وأحرقته ، فنزلت الآية. أو يجادل في توحيده وصفاته

وينازع فيها وينكرها (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل وعن تقليد (وَلا هُدىً) ولا هاد من نبي أو وصيّ نبيّ حتى يأخذوا منه حجة أو برهانا من الله على مدّعاهم (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ولا كتاب منزل من عند الله كان واضح الدّلالة على ما يقولون ويخاصمون النبيّ (ص) به.

٢١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ... أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ ...) استفهام على سبيل التعجّب. وأدخلت على واو العطف همزة الاستفهام على وجه الإنكار. وجواب (لَوْ) محذوف تقديره : هل لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السّعير لاتّبعوه؟ والمعنى أن الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم وترك اتّباع ما جاءت به الرّسل ، وذلك موجب لهم دخول النار ، فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار وهم يتّبعونه في ذلك من حيث لا يشعرون فيقعون فيما كانوا يفرّون منه.

٢٢ ـ (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ...) أي من فوّض وخلّى أمره إليه تعالى وتوجّه به إليه بكامل وجوده (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي كان عمله على الوجه الحسن ، وهو أن يكون موحّدا ومخلصا في عمله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي المحكمة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالمحسوس. ولعلّ المراد بالعروة الوثقى هو القرآن ، أو كلمة التوحيد ، أو ولاية العترة الطاهرة (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي آخر كلّ شيء ، أو جزاء أعمال الناس خيرا وشرّا لأنّ الكلّ صائر إليه.

٢٣ ـ (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ...) أي الباقي على الكفر أو الذي ارتدّ ورجع إلى الكفر ، فلا تحزن عليه لأن كفره لا يضرّك ولا ينفعه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) نخبرهم بأعمالهم المنسيّة وغيرها ونجازيهم بها. وهذه الشريفة تهديد للكفرة وتسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يضمره الإنسان فيجازيه عليه.

٢٤ ـ (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ...) أي نعطيهم من متاع الدنيا

ونعيمها ما يتمتّعون به مدة قليلة ، وبعد ذلك نجعلهم مكرهين في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد يثقل ويصعب عليهم.

* * *

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠))

٢٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...) أي مقرّون بأنّه خالقها لوضوح البرهان بحيث اضطرّوا إلى الإذعان. فلذا أمر النبيّ بالحمد بقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) احمده على نعمة إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بأن ذلك الإقرار يلزمهم الحجّة ويبهتهم.

٢٦ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي هو المالك لهما ملكا وخلقا (الْغَنِيُ) على الإطلاق (الْحَمِيدُ) بالاستحقاق.

٢٧ ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ ...) أي ولو ثبت أن الأرض بجميع أشجارها صارت أقلاما (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) أي البحر المحيط مع سعته بعد تماميّة مائه الذي صار مدادا يضاف إليه ويمدّه سبعة أبحر مثله ، وصار جميع الخلائق من الإنس والجنّ والملائكة كتّابا (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي ما انتهت كلماته الدالة على علمه وحكمته بكتابتها بتلك الأقلام وبذلك المداد لعدم تناهيها وغاية كثرتها ، فإن معلوماته تعالى ومقدوراته غير متناهية ، فكلماته التي تعبّر عنها كذلك. وقد أغنى عن ذكر الكتّاب بذكر القلم والمداد كما أغنى بذكر (المدد) عن ذكر المداد لأنه من مدّ الدّواة وأمدّها ، وجمع القلّة يشعر بأن ذلك لا يفي بقليلها فكيف بكثيرها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كلّ شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج عن علمه وحكمته شيء.

٢٨ ـ (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ...) أي إلّا كخلقها وبعثها في قدرته فيكفي فيها إرادته ولا يحتاج إلى تسبيب الأسباب وتهيئة الأدوات والآلات فيأمر بقوله : كن فيكون ، فيتمّ الخلق ، وكذلك البعث فإنه يأمر إسرافيل عليه‌السلام أن ينفخ نفخة واحدة لنشر الأموات وبعثها ، فإذا نفخ في الصّور إذا هم يحشرون بلا فاصل ، وذلك لأنّه أجلّ وأعلى من أن يتصدّى لإحيائهم وحشرهم مباشرة. ثم إنّه يبيّن ويوضح لهم قضيّة تسهيل أمر البعث وتيسيره على ذاته المقدسة بأمر آخر وآية واضحة محسوسة لكلّ النّاس بقوله :

٢٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ ...) أي يدخل (في النهار) بأن ينقص منه في أوقات الصيف ويزيد في النهار ، ويفعل عكس ذلك في الشتاء ، فلذا ترى أن ليالي الصيف قصيرة ونهاراته طويلة ، وفي الشتاء ترى

عكس ذلك. وليس هذا الا بتقدير قادر حكيم يفعل ما يفعل لمصالح شتّى لا يعلم أكثرها إلّا هو. وهذه الآية وإن كانت ترى في بدء النظر أمرا سهلا لكنها أصعب وأشكل من أمر البعث جدّا ، بيان ذلك أنّه قد كرّر الإيلاج تنبيها على أمر مستغرب ، وهو حصول الزيادة والنّقصان معا في كلّ من اللّيل والنهار في آن واحد وذلك بحسب اختلاف الأمكنة وبقاع الأرض ، كالشماليّة عن خط الاستواء والجنوبيّة عنه سواء كانت مسكونة أو لا ، فإن صيف الشمال شتاء الجنوب وبالعكس ، فزيادة النهار ونقصانه واقع في وقت واحد لكن في بقعتين ، وقس على النهار زيادة اللّيل ونقصانه في زمان واحد وهذه النكتة من فوائد التكرار كما لا يخفى على المتفكّر ذي الاعتبار. وقيل يولج الليل في النهار ، معناه يدخله في النهار بأن يستره به ، ويولج النهار في الليل أي يستره به وقريب من هذا المعنى ما روي من أن رجلا سأل عن الإمام عليه‌السلام : أين اللّيل في النهار؟ قال عليه‌السلام : هو فيه ، وكذلك العكس. والحاصل أن تعقيب قضيّتي الخلق والبعث بمسألة إيلاج اللّيل في النهار وكذلك العكس ، لعلّ بمناسبة أن كلّ واحد من اللّيل والنهار في كلّ يوم وليلة لهما خلق وإفناء وبعث ، أو تقول : خلق وبعث في نظر الاعتبار. فهذا في نظر المنكر للبعث يكون أشكل لأن إنكاره له يكون مساوقا لإنكار البديهيّ فإن زوال الليل ومجيء النهار وكذلك العكس أمر محسوس وجدانا غير قابل للإنكار. القميّ يقول : ما ينقص من اللّيل يدخل في النهار ، وما ينقص من النهار يدخل في الليل (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي كلّ واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه جري الماء في مجراه إلى مدّة معيّة أو إلى منتهاه المعلوم بحيث لا يقصّران عنه ولا يجاوزانه وهو (خَبِيرٌ) عالم بكنه ذلك وبما تعملون.

٣٠ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ...) إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم وكمال القدرة وعجائب الصّنع واختصاصه تعالى بها ، فالله هو الحق الثابت ، وما يدعون (مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) الزائل الفاني بسرعة و (هُوَ

الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) المرتفع على كل شيء والغالب عليه وأكبر من كلّ كبير بحيث لا يكون أكبر منه ، ومتسلّط على الأشياء بأجمعها.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

٣١ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ...) أي أن من آياته الدالة على ذاته المقدسة وقدرته الكاملة جري السّفن في البحار العظيمة الكبيرة (بِنِعْمَتِ اللهِ) بفضله ورحمته ، وفيه إشارة إلى ذكر السبب بأنّ السّفن تجري بسبب نعمته التي هي الريح حين تجري بأمر الله وتسوق السّفن إلى حيث تقصد ولو اجتمع خلق كثير ليجروا الفلك غير البخاريّة أو التي تسير بالمحرّكات على خلاف الجهة التي تجري الرياح إليها لما قدروا عليه (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) لتروا بعض أدلّته الدالة على تفرّده بالإلهية والقدرة والحكمة. ووجه الدّلالة من ذلك أن الله عزوجل يجري السّفن بالرّياح التي يرسلها في الوجوه التي يريدون المسير فيها ، وفي ذلك أعظم دلالة على أنّ المجري لها بالرياح هو القادر الذي لا يعجزه شيء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في جري السّفن بالأرياح لعلائم على شمول قدرته وكمال حكمته ووفور نعمته (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لمن صبر على البلايا والمحن وعلى مشاق التكاليف وأتعاب نفسه لينتفع بالنّظر في آياته الآفاقيّة والأنفسيّة وقيل أريد بالصبّار الشكور ، المؤمن ، لأن في الحديث : الإيمان نصفان :

نصف صبر ، ونصف شكر ، فكأنّه قال سبحانه : إن في ذلك لآيات لكلّ مؤمن (شَكُورٍ) لنعمائه. ثم إنه تعالى يخبر عن حال سكنة السّفينة بقوله تعالى :

٣٢ ـ (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ...) أي علاهم وغطّاهم موج البحر مثل الظّلل في الكبر. وهو جمع ظلّة وهي ما يستظلّ به من حرّ أو برد كالجبل والسّحاب وغيرهما من المظلّات وذوات الظّل (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) حال كونهم خالصين دينهم لله تعالى من شوائب الأوهام وأدناس الشّرك لأن خوف الغرق والهلاك أنساهم جميع من سواه وأزال ما ينازع الفطرة التي كانت داعية لهم إلى التوحيد (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي متوسّط في الكفر والإيمان فبعضهم ليس مثل غيره متوغّلا في الكفر ومصرّا على الشرك ، ولا متصلّبا في الإيمان بحيث ينسى ما سوى الله سبحانه ويعاديهم. وقيل معنى المقتصد الباقي على الإيمان. ومن هذا يستفاد أن بعض الآخرين عادوا ورجعوا إلى كفرهم ولا يفعل ذلك (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) غدّار شديد الغدر.

وقد قال القميّ : الختّار هو الخدّاع. و (كَفُورٍ) يعني شديد الكفر بنعم الله عزوجل.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ

غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

٣٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...) أي تجنّبوا ما يسخطه واعملوا بأوامره ونواهيه (وَاخْشَوْا) خافوا (يَوْماً) هو يوم القيامة والحساب ، حيث (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يؤدّي الوالد عن الولد شيئا ، ولا يتحمّل عنه تبعة ذنب مع كمال شفقته ورأفته به (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) والمولود لا يستفيد منه والده الرؤوف في ذلك اليوم شيئا. والحاصل أن كل واحد من الولد والوالد لا يقوم بأمر الآخر ولا يفيده لأن كلّ امرئ تهمّه نفسه ويشتغل بأمر نفسه ويقطع طمع كلّ ذي طمع ممّن يتوقّع منه ، ولا يغني أحد عن أحد ولا والد يغني عن ولده ولا العكس ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ...) وقد غيّر النظم بالرّجوع عن الجملة الفعلية إلى الاسميّة تأكيدا لعدم نفع المولود ، مع أن الابن من شأنه أن يكون جابرا عن والده لماله عليه من الحقوق (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده بالبعث والجزاء حقّ ثابت لا يتخلّف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لا يغرّنكم الإمهال الذي كانت الحياة كناية عنه ، ولا يلهينّكم الآمال والأموال عن الإسلام والإيمان ولا تغترّوا بطول السلامة وكثرة النعمة فإنّهما عمّا قريب إلى الزوال والفناء ، فلا يغشنّكم (بِاللهِ الْغَرُورُ) بالضم مصدر يطلق على الأباطيل ، وبالفتح ما يسبّب الانخداع ، والدنيا توصف به فيقال : الدّنيا الغرور ، والشيطان الغرور لأنّه يغرّ الإنسان بالمغفرة من الله في عمل المعصية. ونقل أن الحارث بن عمرو بن حارثة كان من أهل البادية فجاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد أخبرني عن الساعة متى تظهر ، والزرع الذي زرعته متى يسقى بماء الغيث ، وامرأتي الحامل متى تضع من أين نعرف أن الحمل ذكر أم أنثى؟ وأدري ما ذا عملت أمس لكن أحبّ أن أدري بماذا أشتغل غدا ، وبأي طريقة أعرف مولدي ، وأحبّ أن أعرف مدفني بأيّ وجه أعرف؟ بأيّ

طريق أعرف فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ) ، الآية يعني تلك الأمور الخمسة المسئول عنها علمها عندي واستأثرت به ولم أطلع عليه أحدا من خلقي. فالمقصود بهذه الكريمة نفي علم هذه الأمور الخمسة عمّن سواه. ويمكن أن يقال أن التحقيق في تعقّب الشريفة لما سبقها أنه لما قال سبحانه : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) وذكر سبحانه أنه كائن بقوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فكأنه قال قائل : متى يكون هذا اليوم كما أشرنا ، فأجاب الله بأن هذا العلم ممّا لا يحصل لغير الله تعالى ولكن هو كائن.

٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) تقديم الظرف للحصر ، فإنّه متعلّق بالعلم ، أي هو يعلم وقت قيامها ولا يدري غيره (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في زمانه المقدّر له والمحل المعيّن له (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، قبيح أو جميل ، سخيّ أو بخيل وغير ذلك من مقدّرات الحمل (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي قضى عليها بأن لا تعرف ما تكسب غدا من خير أو شرّ ولذا ربّما تعزم على شيء فتفعل خلافه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وتذكير (أيّ) لأنه أريد بالأرض المكان ويجوز أن يقال بأيّة أرض.

وروى القميّ عن الصّادق عليه‌السلام هذه الخمسة أشياء التي لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وهي من صفات الله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) فإنّه تعالى أكّد أن العلم بها مختص به بابتداء هذه الجملة واختتامه (خَبِيرٌ) عارف بكنه ذات الأشياء وبواطنها.

سورة السجدة

مكيّة إلّا من الآية ١٨ إلى ٢٠ فمدنية وآياتها ٣٠ نزلت بعد المؤمنون.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

١ ـ (الم ...) قد مرّ ما في الحروف المقطّعة من تراجمها المسطورة.

٢ ـ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ ...) أي هذا تنزيل الكتاب ، فتنزيل مرفوع محلّا خبر لمبتدأ محذوف ، ومعناه : هذه السّورة أو هذه الآيات كتاب منزّل. فتنزيل الكتاب من باب إضافة الصّفة إلى موصوفه (لا رَيْبَ فِيهِ) صفة للكتاب بعد صفة (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي كائن من عند رب العالمين أو متعلق بالتنزيل. وعلى الأوّل أيضا صفة. وعدم الريب فيه للمهتدين ، وإن كان قد ارتاب فيه المبطلون. والرّيب أقبح الشك والشكّ أعمّ منه موردا ، أو الرّيب هو الشك فيما ليس من شأنه أن يشكّ فيه لكثرة ظهوره ، كالشكّ

في وجود الصانع تعالى أو توحيده ونحوهما أو لغيرها من الجهات وقيل بالأعمّ من هذا المورد.

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي هل يقول أهل مكّة أن محمدا (ص) جاء بهذا القرآن من عند نفسه ويكذّبونه في قوله أنه من الله؟ والحاصل أنهم ينكرون كون الكتاب حقّا ومن عند رب العالمين ، فلهذا قال الله سبحانه تقريرا لحقيّته (بَلْ هُوَ الْحَقُ) يعني لم يكن الأمر كما يقولون بأن القرآن افتراء بل هو حقّ كما أنّ قول نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله صدق وصحيح ، وإن القرآن منزّل من عند الله على رسولنا محمد (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي في عصر الفترة وهو ما بين عصر عيسى عليه‌السلام وخاتم الأنبياء (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الترجّي منه تعالى بمعنى الثبوت ، أي حتّى يهتدوا أو ليهتدوا بتلك الأدلة الواضحة لو لم يسلكوا طريق الجحود والعناد. ثم إنّه تعالى أخذ في بيان صفات الكمال وذكر قدرته التامّة ليتنبه العباد ويميلوا من الضّلالة إلى سبيل الرشاد والهداية بقوله :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

٤ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أوجدهما وأنشأهما (وَما بَيْنَهُما) من الحيوانات والنّباتات والجمادات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار من الزمان يصير إذا حدّد وعيّن ستّة أيام من أيام الدنيا. فإنه قبل خلقهما لم يكن شمس ولا قمر حتى يعيّن يوم وليلة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استقرّ واستولى عليه وهو أعظم المخلوقات ، أو المراد عالم الأمر والتّدبير وقد مرّ تفسيره في سورة الأعراف فلا بدّ للعباد أن يعبدوه ولا ينحرفوا عن طريقه تعالى ، فإنّه ليس في الدنيا ولا في العقبى ناصر ولا معين إلّا هو (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) حتى ينصركم ويشفع لكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بمواعظ الله ونصائحه؟ والاستفهام للإنكار أي أنكم لا تتذكّرون ولا تتعظون ، وهذا يوجب التعجّب.

٥ إلى ٨ ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ...) أي يسبّب أمر الدنيا مدّة أيامها فينزله (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ) أي يرجع الأمر كلّه (إِلَيْهِ) من بعد وجودها إلى ما بعد فنائها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) في الدّنيا (ذلِكَ) أي الذي يدبّر الأمر على النهج المذكور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما يشاهد ويحضر ، فيدبّر أمرهما على وفق الحكمة (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره أو المنيع في ملكه (الرَّحِيمُ) بعباده في تدبير أمرهم معاشا ومعادا (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أتقن وأحكم خلق كل شيء بحيث أعطاه ووفّر له ما يليق به طبق الحكمة والمصلحة ، وهذا هو معنى أحسن الخالقين

الذي وصف الله تعالى نفسه المقدّسة به بقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) فالقمّيّ قال : هو آدم وقد مرّ تفسيره وأظنّه في سورة البقرة (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ) أي ذرّيته من خلاصة وصفوة الطعام والشراب (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ماء ضعيف وهي النطفة التي هي في غاية الحقارة والمهانة ، وسمّيت سلالة لأنّها انسلّت من الصّلب أي انفصلت وخرجت منه. وقوله من ماء مهين عطف بيان على سلالة.

٩ ـ (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ ...) أي قوّاه وأتمّ تصويره بأن جعله بشرا تامّ الخلقة غير أنّه ما كان فيه روح (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) والروح هو العنصر البسيط واللطيف القدسيّ الصادر عن عالم الرّبوبيّة والإضافة إليه تعالى تشريفيّة كإضافة البيت إليه وإظهارا بأنه خلق عجيب وأنّ له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبيّة ولعله من أجل ذلك قيل : من عرف نفسه فقد عرف ربّه. والنّصارى يقولون إنّ عيسى روح الله فهو ابن الله ولكنّهم ما عرفوا بأن كلّ أحد روحه روح الله بقوله : ونفخ. فبهذا الاعتبار لا بد وأن يكون كل أحد روح الله وابنه فالاختصاص لماذا؟ وقد قالوا بما قالوا باعتبار روحه وجميع أعضائه روح الله فهذا افتراء وقول بالباطل ولا يصدر إلّا عن الجاهل (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) عدل إلى الخطاب تنبيها على جسامة نعم الجوارح ، يعني جعل هذه الجوارح أو القوى المودعة فيها لرفع حوائجكم ولتسمعوا مواعظ الله في كتبه المنزلة ومواعظ أنبيائه ورسله لتتّعظوا بها ولتبصروا آياته الآفاقية والأنفسيّة ولتستبصروا بها وتؤمنوا بالله ورسوله عن بصيرة لا عن تقليد (وَالْأَفْئِدَةَ) لتعقلوا وتتدبّروا المسموعات والمبصرات والمعقولات. وتقديم السّمع في الذكر لتقدّمه المعنوي ، فإن فاقد السّمع فاقد لجميع الحظوظ المعنويّة بل ولكثير من الأمور الظّاهريّة المحتاجة إلى التعريف والتعليم بخلاف فاقد البصر فإنّه قابل لأن يعرف ويعلم المعنويات ، فكيف بالأمور الظاهرية نعم تعريفه لبعض الأمور الظاهرة كالألوان والمحاسن والجمال ونحوها مشكل أو ممتنع على ما قيل ، ولا سيّما في الأعمى المتولّد من أمّه أعمى. هذا بالنسبة إلى تقدّمه على الإبصار ، وأما وجه

تقدمه على الافئدة فيمكن ان يكون لأنّ احتياج القلب إليه كثير حيث إن القلب له جهة سلطان على جميع الجوارح والقوى على ما في الرّوايات ، فهو الآمر لها والمستخدم لها في آن واحد ، فهي بتحريكه متحرّكة وبأمره مؤتمرة. وحيث بيّنا أن السّمع فائدته كثيرة فاحتياجه إليها قهرا كثير وأشدّ من باقي القوى. فالمحوج إليه من هذه الحيثيّة مقدّم على المحوج. فيحتمل أن يكون تقدّمه لفظا وذكرا من هذه الجهة ويمكن أن يقال في وجه التقديم أنه بلحاظ أن طريق ادراك القلب هو القوى الظاهرية غالبا وفي رأسها السّمع والبصر فهما السّبب لإدراكه الأشياء والسبب مقدّم رتبة ، ففي مرحلة اللفظ قدّما تبعا ووفقا لمقام الرتبة والله أعلم. وأما معنى فالقلب مقدّم على جميع القوى الظاهريّة والباطنية وعلى الجوارح كلّها ، فإنّ مقامه في بدن الإنسان الذي هو عالم صغير مقام السلطان في العالم الكبير ، فكما أن العالم الكبير يختلّ نظامه بفقد السلطان وكذلك يختلّ نظام بدن الإنسان بفقد الفؤاد ، كفقد السلطان بموته أو عزله. لكنّ فقد القلب بتغطيته بناء على ما في الحديث من وقوع نقطة سوداء في القلب إذا عصى صاحبه ، وكلّما ازداد العبد إثما تزيد النقطة وتكبر إلى أن تعمّ القلب بتمامه وتغطّيه فيصير أسود مظلما فتختل القوى طرا عن وظائفها المقرّرة وعمليّتها الطبيعيّة. وقد قال تعالى مشيرا إلى هذا : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) فينزل أشرف الموجودات من ذروة مقامه السّامي ، أي الانسانيّة ، إلى حضيض مرتبة البهيميّة بل إلى الأخس منها. وأما وجه جمع الأبصار والأفئدة فلعله للإشارة إلى كثرة أفراد نوعهما ، فإن مبصرات الإنسان أكثر بمراتب من مسموعاته لأنّه نوعا عيناه مفتوحتان غير وقت نومه وهو يبصر ما يبصره وفي كثير من تلك الأوقات لا يسمع شيئا ولا سيّما في أوقات وحدته والحاصل أن المدّعى أمر وجداني لا يحتاج إلى برهان غير الرجوع إلى الوجدان. وأما القلب فوظيفته الإدراك على ما برهن في محلّه ، وكلّما يسمعه الإنسان أو يبصره فالقلب يدركه طبق عمله ولا عكس ، لأنه

كثيرا ما يدرك من الأمور المعنوية ما لا يكون من مقولة المحسوسات ، فيمكن أن يكون وجه جمعه رمزا وتنبيها على هذا ، أي كونه أكثر أفرادا من السّمع ، وهو جلّ وعلا أعلم بما قال ونسأله الإلهام بأسرار كتابه (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (ما) زائدة ، و (قليلا) صفة للمفعول ، أي : تشكرون شكرا قليلا. وفائدة زيادة (ما) هو التأكيد ، كما أن تقديم (قليلا) للتأكيد في قلة الشكر.

* * *

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ...) أي غبنا فيها بالدّفن ، فإن كلّ شيء غلب عليه غيره حتّى يغيب فيه فقد ضلّ فيه ، أو بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميّز عنه (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يجدّد

خلقنا ونبعث. والاستفهام إنكاريّ ، أي لا يكون ذلك أبدا (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) في كتاب التّوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يعني البعث ، فسمّاه الله عزوجل لقاءه وهذا من باب تسمية الشيء باسم لازمه. وقوله (بَلْ هُمْ) الآية إضراب عن قولهم بإنكار البعث إلى ما هو أبلغ في كفرهم من الجحود والإلحاد والإنكار بكلّ ما يكون مما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من البعث والثواب والعقاب والصراط والميزان والحساب وغيرها من أحوال يوم القيامة وأهوال القبر وملك الموت ، ولذا خاطبهم الله سبحانه بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) أي يقبض أرواحكم ويستوفي نفوسكم بحيث لا يبقي منها شيئا ولا يترك منكم أحدا (الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي فوّض إليه قبض أرواحكم وإحصاء آجالكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء. وإسناد رجوع العباد إلى نفسه المقدّسة للتّعظيم والتفخيم.

١٢ ـ (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ ...) أي مطأطئي رؤوسهم من الذّل خجلا وندامة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في موقف القيامة عند عرض الأعمال ، وهو تعالى يتولّى حساب العباد بعضا منهم أو جميعا بنفسه أو بالتسبيب في محضره وهو مشرف على المحاسبين. ولعلّه يشير إلى هذا (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ)(رَبَّنا أَبْصَرْنا) أي قائلين ربّنا أبصرنا ما وعدتنا (وَسَمِعْنا) منك تصديق رسلك (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) إذ لم يبق لنا بعد هذا اليوم شكّ وشبهة بما شاهدناه.

١٣ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ...) أي ما يهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح بالقسر والإلجاء أو بالتوفيق ، ولكنّه لما كان مقتضى التكليف خلاف ذلك لأن المكلّف لا بدّ من أن يختار الإيمان باختياره ولا يسلك طريق الكفر التي هي غاية أمنيّة هوى نفسه فيستحق بذلك العذاب الشديد كما أشار بقوله عزوجل (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ثبت قضائي

وحقّق وسبق وعيدي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسوء اختيارهم نسيان العاقبة وترك التفكّر فيها كما يشير إليه بقوله سبحانه :

١٤ ـ (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ ...) يعني نتيجة ترك التذكّر والتدبّر ونسيان لقاء هذا اليوم هو أن تذوقوا العذاب الأليم ، وقوله (لَأَمْلَأَنَ) جواب للقسم الذي استفيد من قوله تعالى (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) فإنّ القول من الله بمنزلة القسم منه تعالى (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم بنسيانكم أو تركناكم من رحمتنا (عَذابَ الْخُلْدِ) أي الدائم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي.

* * *

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

١٥ ـ (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ... خَرُّوا سُجَّداً ...) أي كبّوا ووقعوا على وجوههم خضوعا وخشية لله تعالى (وَسَبَّحُوا) أي نزّهوا ربّهم عمّا لا يليق به (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي متلبّسين به (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته.

١٦ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ...) أي تتنحّى وتتباعد جنوبهم عن مضاجعهم وفرش نومهم واستراحتهم للتهجّد (خَوْفاً) من عذابه

(وَطَمَعاً) في رحمته (يُنْفِقُونَ) في طريق الخير. ووجه المدح في هذه الآية أن هؤلاء المؤمنين منقطعون لاشتغالهم بالصّلاة والدّعاء عن طيب المضجع وسائر اللذائذ الدّنيوية لتوجّههم إليه تعالى بكامل وجودهم ، فآمالهم مصروفة إليه واتّكالهم في كلّ الأمور عليه. ثم ذكر سبحانه جزاءهم بقوله :

١٧ ـ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ ...) أي لا يعلم أحد لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ما أعدّ الله لهم ، وللمتهجّدين والمنفقين في سبيل الخير (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) بيان لما أخفي. أي ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من صلاة ليلهم وإنفاق أموالهم. وقيل في وجه إخفاء الجزاء على عملهم أنّ الشيء كلّما كان عظيم القدر وجليل الخطر فالوصول إلى كنه ذاته أصعب إلّا بشرح طويل ، فإبهامه أبلغ. وثانيا أن ما تقرّبه العين غير متناه ، فإحاطة العلم بتفاصيله غير ممكن للبشر.

* * *

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها

 إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

١٨ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ...) هذا استفهام يراد به التقدير ، أي لا يكون من هو مصدّق بالله على الحقيقة عارفا به وأنبيائه وعاملا بما أوجبه الله عليه وندبه إليه ، مثل من هو فاسق خارج عن طاعة الله ، مرتكب لمعاصي الله. ثم قال (لا يَسْتَوُونَ) لأنّ منزلة المؤمن هي درجات الجنان ومنزلة الفاسق دركات النيران ، ثم فسّر ذلك بقوله تعالى :

١٩ ـ (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً ...) أي جنات يأوون إليها. وقيل هي نوع خاص من الجنان. والنّزل ما يهيّأ للنازل أي الضيف من طعام وشراب وصلة ، تشريفا يعني أنّهم في حكم الأضياف (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاء لأعمالهم الصّالحة.

٢٠ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ...) في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق في صدر الكريمة هو الكافر ، فإن الفاسقين (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) وإنهم (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) والإعادة عبارة عن خلودهم فيها ، والخلود للكافرين المكذبين (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا) إهانة لهم وزيادة في غيظهم. والقميّ قال : إن جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما ، فإذا بلغوا أسفلها زفرت بهم جهنم فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد فهذه حالهم.

٢١ ـ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى ...) أي من مصائب القتل والأسر والقحط ، وروي أنه يكون في الرجعة والحاصل أن المراد من العذاب الأدنى هو الذي يصل إليهم في الدنيا الدنيّة ممّا ذكر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي قبل عذاب الآخرة وعن أبي جعفر عليه‌السلام : إن العذاب الأكبر هو خروج المهدي من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعجّل الله تعالى فرجه فإنّه الذي يستأصل الكفرة من آخرهم ويصب عليهم العذاب صبّا (لَعَلَّهُمْ

يَرْجِعُونَ) أي لعل من بقي منهم يتوبون. وقيل : فاخر الوليد بن عقبة عليّا عليه‌السلام يوم بدر فقال عليّ عليه‌السلام : اسكت إنّما أنت فاسق ، فأنزل الله تعالى تلك الآيات.

٢٢ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ ... إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ...) أي من كلّ آثم ومجرم. فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟ ثم إن قريش لمّا كذّبوا النبيّ الأكرم مع تلك الآيات الواضحة والبراهين الساطعة فقد اغتمّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك غمّا شديدا ؛ فالله تعالى تسلية للنبيّ ووعيدا لقومه نبّههم على قصّة موسى عليه‌السلام وتكذيب قومه ونسبة السّحر إليه فقال سبحانه :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

٢٣ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ ...) أي لا تشكّ بلقاء موسى ربّه يوم القيامة أو من لقائك الكتاب أي القرآن ، أو الضمير راجع ابتداء إلى القرآن نحو (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أو راجع إلى موسى أي من لقائك موسى في الحياة الدنيا أي ليلة الأسراء (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي التوراة أو المراد نفس موسى كما أن ابن عبّاس صرّح برجوع الضمير إلى موسى في (لِقائِهِ) فكذلك هنا.

٢٤ ـ (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ...) أي أنه قد اهتدى من قوم موسى جماعة وفّقناهم لأن يكونوا قادة للدّعوة وحملة لها ، وقد كانوا (يَهْدُونَ) غيرهم من الناس إلى الإيمان (بِأَمْرِنا) توفيقنا وإرادتنا (لَمَّا صَبَرُوا) على ما كانوا يلقونه من الأذى (وَ) هؤلاء الأئمة (كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لأنهم أمعنوا النظر بها فصدّقوها وآمنوا بها إيمانا راسخا.

٢٥ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) أي يميّز بين المحقّ والمبطل ويقضي بينهم فيعطي حكما فصلا يوم القيامة (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين.

* * *

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

٢٦ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ...) أي ألم يظهر لقريش ولم يتبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) كثرة من أهلكناهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يعني أهل مكة يمرّون في متاجرهم على ديارهم فهلّا يعتبرون؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي في ذلك الإهلاك عبرة لمن سمع سماع تدبّر واتّعاظ.

٢٧ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا) .. (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ...) أي الأرض الخالية من النبات. والجرز التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لعدم مجيء المطر فصارت يابسة. وقيل هي الأرض الخربة (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) كالتّبن والأوراق والحشائش (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحبوب والأثمار (أَفَلا يُبْصِرُونَ) تلك الأمور المحسوسة الواضحة فيستدلون بها على كمال قدرة خالقها.

٢٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى ... إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ...) أي في الوعد به وبإتيانه. فمتى يكون الفتح الذي تعدّون الناس به؟

٢٩ ـ (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ ...) أي يوم القيامة لا ينفعهم إيمانهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يمهلون حتى يؤمنوا فقد سوّفوا وخسروا خسرانا مبينا.

٣٠ ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ...) أي تكرّما (وَانْتَظِرْ) الغلبة عليهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الغلبة عليك. وقيل إن المراد بيوم الفتح هو زمان رجعة إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه إلى آخر الآيات في ذلك الموضوع.

* * *

سورة الأحزاب

مدنية وآياتها ٧٢ نزلت بعد آل عمران.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ...) لعلّ أمره صلوات الله عليه بالتقوى أمرا بالمداومة ، وإلّا فهو صلوات الله عليه كان متّقيا. وهذا كما يقال للجالس اجلس إلى أن أجيئك ، وللسّاكت اسكت إلى كذا من الزمان ، وليس هذا من تحصيل الحاصل كما يتوهّم أو توهّم. توضيح ذلك أنّ النبيّ في كلّ آن من آناء عمره الشريف كان يزداد علمه ويرفع مقامه فكان له في كل لحظة تقوى متجددة. فقوله (اتَّقِ اللهَ) على هذا البيان ليس أمرا بما ليس فيه ، وإلى هذا أشار (ص) من استوى يوماه فهو مغبون ، وقوله ربّ زدني علما. ولعل هذه تكشف عن نكتة استغفاره في كل يوم

سبعين مرة ليتجدّد له (ص) مقام أسمى ممّا كان فيه. والحاصل أن النبي (ص) ما دام في الدّنيا لم يأمن من احتجابه وتوقّف رفعة مقامه ، كيف لا والأمور الدّنيوية شاغلة والآدميّ في الدنيا تارة مع الله وأخرى يقبل على ما لا بدّ منه وإن كان الله معه ، وإلى هذا أشار بقوله (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) والفرق أنه يوحى إلي يعني يرفع الحجاب عنّي وقت الوحي وأرى ما أنتم محجوبون عنه ثم أعود إليكم كأنّي منكم ، واحتاج إلى ما أنتم تحتاجون إليه. فالأمر بالتّقوى يوجب استدامة الحضور والإدمان على التّقوى لمزيد الرتبة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السّلمي ، فإنّهم بعد واقعة أحد طلبوا من النبيّ (ص) الأمان وجاؤوا من مكة إلى المدينة ليتكلّموا وليتفاهموا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزلوا على رأس أهل الشقاق والنفاق عبد الله بن أبيّ وعبد الله ابن أبي سلّول فقام هؤلاء الثلاثة مع رؤساء كفرة قريش. والمراد بالشريفة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) هؤلاء الثلاثة الذين قام معهم عبد الله بن أبيّ وعبد الله بن سعد بن أبي سرج وطعمة بن أبيرق ، فهم الذين عبّر عنهم في الآية بالمنافقين ، فدخلوا على رسول الله فقالوا يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومناة وقل إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربّك. فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر بإخراجهم من المدينة فنزلت الكريمة : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح والمفاسد (حَكِيماً) يحكم بما تقتضيه الحكمة ، والنّداء نداء تعظيم وتبجيل.

٢ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) أي القرآن ـ و (خَبِيراً) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

٣ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ...) أي قائما بتدبير أمورك حافظا لك ودافعا عنك.

* * *

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

٤ ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ...) أي ما خلق أحدا وفي جوفه قلبان. وهذا ردّ لما زعمت العرب من أنّ اللبيب الأريب الحفيظ له قلبان. وكان أبو معمّر الفهري لبيبا حفّاظا يدّعي أنّ له قلبين يعقل ويشعر بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد (ص) وكانت قريش تسمّيه ذا القلبين إلى آخر قصّته. ويوم بدر هو الذي أفهمهم بأن له قلبا واحدا فهو تعالى ردّ عليه وعلى أمثاله وكذّبهم بالصّراحة. وهذا يفيد التزاما معنى آخر بأنّه لا ينتظم أمر الرجل الواحد ومعه قلبان ، فكيف ينتظم أمر هذا العالم الكبير وله آلهان معبودان مستقلّان؟ لا ، والله لا يمكن هذا ، تعالى الله عمّا يشركون علوّا كبيرا. مضافا إلى أن القلبين إن اتّحدا في الفعل فأحدهما

فضلة لا حاجة إليه ، وأن اختلفا فيه اتّصف الشخص بالضدّين في زمان واحد ، ويكون مؤمنا وكافرا مثلا (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) والظّهار قول الرجل لامرأته : (أنت عليّ كظهر أمّي) وكانت العرب في الجاهليّة تطلّق نساءها هكذا ، فجاء الإسلام ونهى عنه وأوجب الكفّارة على المظاهر (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) جمع دعيّ على الشذوذ لأن أفعلاء يجمع عليه الفاعل كالتقيّ والشقيّ لا المفعول كالدعيّ أي المدعو ابنا مجازا ، لكنه لتشبّهه بالفعيل بمعنى الفاعل جمع على أفعلاء. وقد نزلت الكريمة في زيد بن حارثة الكلبيّ إذ كانوا يسمّونه ابن محمد ، وذلك لما أسر واشتراه النبيّ (ص) وأعتقه فجاءه أبوه حارثة ليأخذه فأبى زيد أن يفارق النبيّ فقال أبوه اشهدوا يا معشر قريش أنه ليس بابني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اشهدوا أنّه ابني. فكان من ذلك اليوم يدعى زيد بن محمد. والحاصل أن نفي القلبين وأمومة المظاهرة تمهيد لذلك ، أي كما لم يجعل قلبين في جوف واحد ولا الزّوجة أمّا ، لم يجعل الدعيّ ابنا لمن تبنّاه ، والغرض رفع قالة الناس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حين تزوّج زينب بنت جحش بعد أن طلّقها زيد بن حارثة حين قالوا : إنه تزوج امرأة ابنه (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي هذه النسبة في قولكم (إنّ الدّعيّ ابن) قول أفواهيّ ليس له حقيقة ، لأن الابن الحقيقيّ من ولّدتموه ووجد من نطفكم لا من دعي أنّه ابن فلان (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) اي كل ما يقوله تعالى فهو الحق ولا بدّ من أن يتّبع (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى طريق الحق.

٥ ـ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ...) أي انسبوهم لآبائهم الذين ولّدوهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) فهو أعدل وأصدق عنده ، وإن لم تعرفوا آباءهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الإسلام (وَمَوالِيكُمْ) أولياؤكم فيه فقولوا للواحد منهم : يا أخي .. يا مولاي ولا إثم عليكم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) من نسبة البنوّة إلى المتبنين قبل النهي أو لسبق اللسان

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) اي يكون الجناح والإثم فيما قصدتموه من دعائهم ونسبتهم إلى غير آبائهم فحينئذ أنتم آثمون تؤاخذون به (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للمخطئ (رَحِيماً) بالعفو عن العامد إن تاب وإن شاء.

٦ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ ...) يحتمل أن يكون المراد بالأولويّة في الكريمة هو الأولويّة العامّة الإلهيّة على جميع البشر ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفة الله في الأرض ففوّض ما كان له تعالى من الولاية على جميع البشر إليه صلوات الله عليه. والمؤمنون خصّوا بالذكر لفضلهم وشرافتهم على غيرهم. وكذلك فهذه الولاية عامّة لجميع الأمور الدّينية والدنيويّة ، وقد انتقلت الأولوية بعد النبيّ لخلفائه المكرمين وأوصيائه المعصومين صلوات الله عليهم. والتعبير بأفعل التفضيل لما ورد من أن النبيّ (ص) قد صعد المنبر فقال : من ترك دينا أو ضياعا فعليّ وإليّ ، ومن ترك مالا فلورثته ، بعد ما قال : أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة. فصار بذلك أولى من آبائهم وأمّهاتهم وصار أولى بهم من أنفسهم ، وكذلك أمير المؤمنين بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي كأمّهاتهم في التّحريم مطلقا وفي استحقاق التعظيم ما دمن على طاعة الله ورسوله. وفي الإكمال عن القائم عليه‌السلام أنه سئل عن معنى الطّلاق الذي فوّض رسول الله حكمه إلى أمير المؤمنين (ع) قال : إن الله تقدّس اسمه عظّم شأن نساء النبيّ (ص) فخصهنّ بشرف الأمّهات فقال رسول الله يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة فأيّتهنّ عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلقها في الأزواج وأسقطها من تشرّف الأمّهات ومن شرف أمومة المؤمنين (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي ذوو القرابات بعضهم أقدم في الإرث وأولى ببعض. وهذه الشريفة نسخت التوارث بالهجرة والموالاة في الدين والتبنيّ كما كانت قبل الإسلام وقبل نزول هذه الكريمة (فِي كِتابِ اللهِ) اي في اللوح أو القرآن أو في حكمه

المكتوب. وقال القمّي : نزلت في الإمامة. وقال الباقر عليه‌السلام : نزلت في الإمرة ، وهذان المعنيان لا يلائمان الاستثناء على ما هو الظاهر إلا أن يقال إن الحمل عليهما تأويل ، وبالتعميم في الآية أيضا يرتفع الإشكال. أي أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في الإمامة والإمارة والمال أي الميراث وكلّ نفع (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي الأنصار والمهاجرين فإن المؤمنين هم الأنصار بقرينة التقابل (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) إلى محبّيكم من الأنصار والمهاجرين وصيّة بأموالكم أن تعطوهم في دبر وفاتكم. أو المراد (بالمعروف) هو إعطاؤهم في حال حياتكم. وتعدية (تَفْعَلُوا) بإلى لأنه بمعنى الإعطاء. وقيل إن الله تعالى لمّا منع التوارث بالمؤاخاة أباح الوصيّة من ثلث مال الرجل لإخوانه في الدين وفي النسبة. فالمراد بالمعروف في الشريفة هو الوصيّة بمقدار الثلث أو الأزيد لو أجاز ورثته (كانَ ذلِكَ) أي كل ما ذكر في الآيتين من أولويّة النبيّ (ص) وأولويّة ذوي الأرحام في التوارث (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) في القرآن أو في اللّوح المحفوظ ثابتا ومحفوظا.

* * *

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

٧ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ ...) أي أذكر يا محمد حين أخذنا من الأنبياء والرّسل (مِيثاقَهُمْ) وعهدهم بتبليغ الرسالة وإرشاد الناس إلى سبل الهداية (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) إنّما قدّم نبيّنا لفضله وشرفه ، وإنما خصّوا بالذّكر بعد التعميم لأنّهم أولو العزم من

الرّسل ومن مشاهير أرباب الشرائع (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي شديدا ، ولعلّ المراد كونه مؤكّدا باليمين أو مقرونا بأخذ الوفاء بالصّبر والتحمل لمشاقّ أعباء الخلافة وأثقال النبوّة.

٨ ـ (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ...) أي لأنه تعالى يسأل الصّادقين عن صدقهم في تبليغ الرسالة والعمل بوظائفهم المقرّرة كلّ بحسب مرتبته وشأنه ، و (لِيَسْئَلَ) متعلّق بأخذنا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) أي الأحزاب وهم قريش ، وغطفان وكنانة ، ويهود من قريظة والنّضير طائفتان من اليهود وكانوا جميعا عشرة آلاف نفر وذلك في غزوة الخندق (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي الدّبور وهي ريح تقابل الصّبا وتهبّ من ناحية المغرب. وأظنّ أنها ريح العذاب. وقيل إن المراد بما في الآية هو الصّبا (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي الملائكة ، وقيل كانوا عشرة آلاف (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من حفر الخندق وغيره من الاستعداد لهم.

١٠ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ...) أي من أعلى الوادي (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفلها (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت من مقرّها خوفا ودهشا

وشخوصا (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) فزعا إذ عند الشّدّة تنتفخ الرّئة فترتفع مقرّها الطّبيعي إلى الحنجرة وهي منتهى الحلقوم. ويحتمل أن يكون هذا الكلام مثلا لشدّة اضطراب القلب وإن كان القلب في موضعه الطبيعيّ (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) يعني أيّها المسلمون ظننتم بربّكم ظنونا مختلفة ، فالمخلصون الثابتون على الإيمان كانت عقيدتهم النّصر وإنجاز الوعد بالغلبة ، والمنافقون ظنّوا باستئصالهم وغلبة الكفّار. والذين ظنّوا النصر أيضا كانوا خائفين كثيرا كما أخبر سبحانه عن حالهم.

١١ ـ (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ...) أي اختبروا أو امتحنوا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) تزعزعوا من شدّة الدهشة والاضطراب.

* * *

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ

 اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

١٢ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي ضعف يقين واعتقاد يقولون : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدّين (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا يظهر فيه الغشّ.

١٣ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ ...) أي يا أهل المدينة ليس هنا موضع قيامكم (فَارْجِعُوا) إلى مدينتكم ومنازلكم ، وقد كانوا مع النبيّ خارج المدينة فخافوا (وَ) صاروا (يَقُولُونَ : إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي غير حصينة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة رفيعة السّمك أي السقف وليست مكشوفة لأحد بل هم يتعلّلون بذلك (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من القتال من شدة خوفهم.

١٤ ـ (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ...) أي لو دخل هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب على الذين يقولون إن بيوتنا عورة وهم المنافقون (مِنْ أَقْطارِها) أي من جميع نواحي المدينة أو البيوت (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) بعد الدخول ودعوا من الأحزاب والمنافقين إلى الشّرك ، وهذا هو المراد بالفتنة على ما روي عن ابن عباس (لَآتَوْها) لأجابوهم (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) وما احتبسوا ولا تعلّلوا عن إجابة الأحزاب وإعطائهم ما طلبوا منهم من الشّرك وقتال المسلمين إلّا زمانا يسيرا ، أي بمجرّد أن يطلبوا منهم الارتداد لارتدّوا واتّصلوا بهم حبّا بالشّرك وكرها بالإيمان والمؤمنين. ثم أنّه سبحانه يذكّر نبيّه (ص) : عهدهم معه بالثّبات في مواطن القتال بقوله :

١٥ ـ (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ ...) أي بنو حارثة ومن معهم لمّا قصدوا الفرار يوم أحد فندموا على فعلهم وعاهدوا الله أن لا يفرّوا بعد ذلك أبدا

(لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) بل يكونون ثابتين مستمرّين في الحروب (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به.

١٦ ـ (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ...) أي لن تمتنعوا بالفرار (مِنَ الْمَوْتِ) حتف الأنف (أَوِ الْقَتْلِ) في وقت معيّن سبق به القضاء وجرى عليه قلم التقدير ، فإذا جاء الأجل لا يؤخّر ساعة ولا يقدّم ولا يمهل ، و (إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) تمتيعا في زمان قليل بعد هذا الفرار ثم تموتون قتلا أو موتا طبيعيّا.

١٧ ـ (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ ...) أي من الذين يحميكم ويمنعكم (مِنْ دُونِ اللهِ) جلّ وعلا (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) إذا كان قد قضى بما تكرهون وبما يسوؤكم (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) والمراد بالرحمة النّصر الذي هو نعمة على المسلمين ، فإنه ما من أحد يردّ ذلك من مشيئة الله تعالى (وَ) هم (لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) يدفع عنهم الضّر والسوء.

* * *

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ

فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

١٨ ـ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ ...) أي القاعدين والمتخلّفين عن مقاتلة الأحزاب مع النبيّ (ص) أو الذين يعوّقون الناس ويمنعونهم عن عمل الخير ، وفي الآية هم الذين يمنعون عن نصرة النبيّ. وقيل في وجه نزولها أن واحدا من عساكر النبيّ يوم غزوة الخندق ذهب إلى المدينة ودخل بيت أخيه فرأى أنه هيّأ مجلس طرب له فقال : يا أخي أنت بهذه الحالة والنبيّ محاط بأعداء الله من كلّ جانب؟ فأجابه وقال له : يا أبله ويا أحمق ، اقعد هنا واشتغل بالطرب والنشاط معي فإنّ النبيّ وأصحابه أخذهم البلاء ولا ينجون منه أبدا. فرجع من عند أخيه حتى يخبر النبيّ بمقالة أخيه فسبقه جبرائيل وأخبر النبيّ بذلك قبل إخباره وجاء جبرائيل بالآية الشريفة (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) هلمّ اسم فعل بمعنى اقربوا إلينا ، ويستوي فيه المفرد والجمع وهذا من لغة حجاز (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي المنافقون لا يحضرون القتال إلّا قليلا منهم ، أو لا يقاتلون إلا مقاتلة قليلة.

١٩ ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ...) أي بخلاء عليكم بالمعاونة أو بالنفقة في سبيل الله أو بكليهما أو بالظفر والغنيمة ، وهم مع ذلك (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) حلّ بهم الفزع حين تدور الحرب (رَأَيْتَهُمْ) يا محمد وهم ينظرون إليك وإلى المعركة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) تتحرّك أحداقهم يمنة ويسرة (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) كالمغشيّ عليه في سكراته ، وذلك لغلبة الخوف والفزع (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي يؤذونكم ويزعجونكم ببذيء الكلام (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) يعني عند تقسيم الغنيمة يجادلون ويناقشون مزيد حقهم وتوفير حصّتهم ليرد الكسر على المؤمنين ويذهبوا

بحقّهم. ونصب (أَشِحَّةً) في الموضعين يحتمل أن يكون على الحاليّة أو على الذّم (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) على وجه الإخلاص باطنا ، بل كان إيمانهم صوريّا ظاهريّا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم وأخذ الغنيمة وغيرها من الأغراض الفاسدة ، وكانوا في الواقع مع المشركين ولهذا فهم لا يستحقّون الثواب على أعمالهم (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أظهر بطلانها وعدم ترتّب الثواب عليها ، أو أبطلها وجعلها هباء منثورا ، أو أبطل أعمالهم من تصنّعهم ونفاقهم ومكرهم وكيدهم مع النبيّ (ص) والمؤمنين المخلصين. أو المراد هذه وغيرها من الأعمال كصلواتهم وصيامهم وجهادهم فالله تعالى أبطلها جميعا من غير استثناء لعدم شرط القبول وهو الإخلاص في واحد منها (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي هيّنا ، وذلك إشارة إلى الإحباط.

٢٠ ـ (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا ...) أي المنافقون كانوا يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا وأنهم باقون على ما كانوا. ولقد انهزموا وانصرفوا (أي المنافقون) لجبنهم وما سألوا عن حال الأحزاب إذ كانوا قد انصرفوا إلى المدينة خوفا وبلا استئذان من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي يتمنّى هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع البدو والأعراب (يَسْئَلُونَ) كلّ قادم من طرف المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عن أخباركم وعمّا جرى عليكم من المشركين (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) في هذه الكرّة (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي لم يقاتلوا معكم الأحزاب إلّا قدرا يسيرا ، رياء وخوفا من العار ، وهم لا ينصرونكم لأنّ قلوبهم مع الأحزاب.

* * *

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ

الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

٢١ ـ (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) أي لقد كان لكم به صلى‌الله‌عليه‌وآله قدوة حميدة ، ويكفيكم تقليده بأقواله وأفعاله الشريفة وهو نعم المثل لكم في أخلاقه السامية ، وفي ثباته هنا في الحرب وصبره في الشدائد والمحن ، والمؤتسي بالرّسول (ص) يرضى باتّباعه وبالعمل مثلما يعمل. وهذه الخصلة من التأسّي به (ص) لا تكون إلا (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) يطلب رضاه (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يخاف سوء منقلبه فيه (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) فلم ينسه في حال من الأحوال وجعله نصب عينيه في الحرب وفي

السّلم وفي الراحة والتعب وفي كل وقت من حياته.

٢٢ ـ (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ ...) أي حين نظروا إليهم يوم الخندق (قالُوا) في أنفسهم : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من حرب الكفّار والنّصر عليهم (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) في كلّ ما يصدر عنهما (وَما زادَهُمْ) هذا المشهد الذي ينذر بواقعة حربيّة رهيبة (إِلَّا إِيماناً) بما هم عليه من الحق (وَتَسْلِيماً) لأمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم إنّه تعالى وصف بعض المؤمنين الذين شاركوا في تلك المعركة ببعض خصالهم الشريفة فقال :

٢٣ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) أي تجد بين المؤمنين بالله وبرسوله رجالا امتازوا عن غيرهم بصدق العهد الذي أعطوه لله تعالى على أنفسهم من نصر دينه وإعلاء كلمته والجهاد مع رسوله (ص) والثبات معه ، وقد أبلوا في هذه الوقعة بلاء حسنا وحاربوا بإخلاص (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي قتل ومات كحمزة وجعفر بن أبي طالب عليهما‌السلام وكغيرهما من الشهداء الأبرار. وإنّه لما استشهد جعفر بن أبي طالب (ع) في معركة (مؤتة) رفعه أهل الشّرك على رؤوس رماحهم وقد تألّم النبيّ (ص) لموته كثيرا وحزن عليه حزنا شديدا إذ كان الكفّار قد قطعوا يديه في القتال فأبدله الله تعالى بهما جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء مع الملائكة. و (النحب) هو النّذر ، وقد أستعير للموت لأن الموت مخطوط على جيد ابن آدم كالنّذر اللازم على رقبة صاحبه ، وإن كل ذي حياة إذا مات فكأنّه قد وفي بنذر كان عليه لأنه قضى عهدا معهودا عليه ، ولذا يقال : قضى نحبه ، كما يقال : وفي بنذره. والحاصل أن من هؤلاء المؤمنين من قد مات واستشهد وقضى ما عليه من خدمة الله والدّين (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة في سبيل الله كعليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَما بَدَّلُوا) العهد مع الله ورسله ولا غيّروه ، و (تَبْدِيلاً) تأكيد لثباتهم على ما هم عليه من الإيمان الراسخ.

٢٤ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ...) ليثيبهم على إيمانهم وتصديقهم وإخلاصهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) لنقضهم العهد (إِنْ شاءَ) أي إذا أراد وإذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا تابوا وأنابوا وندموا على ما كان منهم (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب وعمل عملا صالحا ، وهذا شأنه عزّ شأنه منذ كان فإنه متّصف بالرحمة والمغفرة.

٢٥ ـ (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) وهم الأحزاب ، وعلى رأسهم أبو سفيان وأشباهه من العتاة ، ردّهم سبحانه (بِغَيْظِهِمْ) بحنقهم وكيدهم السّيء وغضبهم ، ف (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) لم يصيبوا ظفرا ولا ذاقوا غلبة بل رجعوا خائبين خاسرين منهزمين خائفين. وقيل أريد بالخير المال والسلب الذي كانوا يأملون الحصول عليه (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) ردّ عنهم سبحانه كيد الكائدين ودفع عنهم الأذى أثناء قتال المنافقين. وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام : كفى الله المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، بقتله عمرا بن ودّ فكان ذلك سببا لهزيمة القوم. وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك اليوم مأثور مشهور حين قال : ضربة عليّ يوم الخندق توازي عمل الثقلين (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على ما أراد (عَزِيزاً) غالبا على كلّ شيء.

٢٦ ـ (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ...) ثم إنه تعالى على سبيل تعداد نعمه على رسوله وتنبيه أصحابه لتلك النعم والامتنان عليهم بها يخبر رسوله بهذا الفتح ، أي فتح بني قريظة الذين كانوا من المتعاهدين مع الرسول صلوات الله عليه وآله فخالفوه ونقضوا عهدهم معه فنزل عليه أمين الوحي بالمباركة. ومعناها أن الله تعالى أنزل الذين عاونوا الأحزاب ، وهم اليهود من بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع الرّسول لينصروا المشركين من الأحزاب ، أنزلهم وأخرجهم من حصونهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى سبحانه الخوف من رسوله ومن المؤمنين في قلوبهم ، فظفر عليهم النبيّ بلا خيل ولا ركاب وبغير محاربة ومقاتلة فقسّمهم قسمين بحكم

سعد بن معاذ رحمة الله عليه كما أخبر سبحانه بقوله (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال من بني قريظة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء.

٢٧ ـ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ...) يعني أعطاكم بعد قتلهم والانتصار عليهم مزارعهم وحصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) والنقود والأمتعة والمواشي (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) لم تذهبوا إليها ولم تأخذوها بعد ولعلها أرض خيبر أو الروم وفارس والله اعلم بما قال والأول أظهر بمناسبة المقام. قال عكرمة : إن كلّ أرض دخلت في حوزة أهل الإسلام من اليوم إلى يوم القيامة داخلة في هذه الجملة لعمومها بمقتضى تنكير الأرض (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي قادر على تسخير البلاد وفتحها جميعا.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ...) شأن نزول المباركة أنّ النبيّ الأكرم لمّا رجع من فتح خيبر بعد ما أصاب كنز آل أبي الحقيق وأموال كثيرة

وافرة بحيث توقع أزواجه شيئا من تلك الأموال وقلن أعطنا ممّا أصبت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قسّمتها بين المسلمين على ما أمر الله تعالى. فغضبن من ذلك وقلن لعلّك ترى أنك إن طلّقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا؟ فأنف الله عزوجل ذلك لرسوله وكرهه له ، فأمره أن يعتزلهنّ فاعتزلهنّ في مشربة أمّ إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن. ثم أنزل الله عزوجل هذه الآية التي تسمّى آية التخيير لأنه تعالى قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي السّعة والتنعّم فيها (وَزِينَتَها) من الحليّ والثياب الفاخرة وزخارفها (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أعطيكنّ متعة الطّلاق وقيل هي توفير المهر بتمامه أو المهر مع الزيادة حتى تتمتّعن بالزيادة التفضّليّة ، لأن ما ترغبن فيه من متاع الدّنيا ليس عندي (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أطلقكنّ طلاقا لا ضرار فيه أي بلا مشاجرة ولا مخاصمة تكونان بين الزوج والزوجة نوعا ، وهو السراح الجميل. والسّراح كناية عن الطّلاق ومعناه هو الإرسال والإخراج وجاء بمعنى الطلاق أيضا.

٢٩ ـ (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ...) فتبن عن قولهنّ واخترن الله ورسوله والدار الآخرة بدل الدنيا. وللمحسنات منكنّ أجر عظيم .. وقد تاب الله سبحانه عليهنّ فأمر النبيّ بالرجوع إليهنّ.

٣٠ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ ...) أي بخصلة قبيحة وعمل شنيع (مُبَيِّنَةٍ) ظاهرة القبح (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي مثلي عذاب غيرهنّ لأن الذنب منهنّ أقبح لزيادة النعمة ونزول الوحي في بيوتهنّ وليس العالم كغيره. وعذابكنّ على الله سهل (يَسِيراً) في حال العصيان.

٣١ ـ (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ...) أي تدوم على الطاعة (وَتَعْمَلْ صالِحاً) عملا صالحا خالصا عن شوائب الأوهام (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مثلي

أجر غيرها (وَأَعْتَدْنا لَها) هيّأنا لها (رِزْقاً كَرِيماً) زائدا على أجرها المستحقّ لعملها.

* * *

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

٣٢ ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ...) لم يقل كواحدة من النّساء لأنّ (أحد) لنفي العام وهو المطلوب في المقام ، قال ابن عبّاس معنى المباركة : ليس قدركنّ كقدر غيركنّ من الصّالحات. أنتنّ أكرم عليّ وأنا بكنّ أرحم ، وثوابكن أعظم لمكانكنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) فإن الله سبحانه شرط عليهنّ التقوى ليبينّ أن فضلهنّ بالتقوى لا باتّصالهنّ بالنبيّ فلا يغتررن بذلك (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي فلا تتكلّمن بالقول الخاضع اللينّ مع الأجانب مثل تكلّم المريبات ، فأراد سبحانه أن يعرّفهن أدنى مرتبة تكون خلاف التقوى وغير مرضيّة عنده تعالى (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي مرض الرّيبة والفجور ... (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) بعيدا عن الطّمع والرّيبة وبكيفيّة طبيعيّة متعارفة لا مثل قول المريبات وقد جاء في الحديث أنّه لما نزلت هذه المباركة صارت نساء النبيّ (ص) حينما ينادي المنادي على المناوب لم يكن في الدار أحد من الرجال يدخلن أصابعهن في أفواههنّ ويجبن بصوت منكر خشن. ثم إنّه تعالى لما أدّبهن قولا كذلك منعهنّ عن بعض كيفيّات أعمالهن وأفعالهن بقوله سبحانه :

٣٣ ـ (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ ...) أي أنّ وظيفة النّساء هو الاستقرار في حجراتهن ولا يخرجن إلّا لضرورة اقتضت سواء كانت شرعية أو عقلية ، وإذا خرجن (لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) لا تظهرن زينتكنّ للأجانب من الرجال مثل تبرّج نساء الجاهلية القديمة. وقيل هو زمان ولادة إبراهيم عليه‌السلام فإن النساء كنّ يلبسن ألبسة مزيّنة بالجواهر ويعرضن أنفسهنّ للرجال ويختلطن معهم في مجامعهم. والجاهلية الأخرى هو عصر عيسى عليه‌السلام إلى زمان خاتم الأنبياء. وقيل الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والأخرى جاهلية الفسوق بعد ظهور الإسلام وفي الإكمال عن ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : أنّ يوشع بن نون وصيّ موسى بن عمران عليهما‌السلام عاش بعد موسى

ثلاثين سنة وخرجت عليه صفراء بنت شعيب زوجة موسى فقالت أنا أحق منك بالأمر فقاتلها وقتل مقاتليها وأحسن أسرها ، وأن ابنة أبي بكر ستخرج على عليّ عليه‌السلام في كذا وكذا ألفا من أمتي فيقاتلها فيقتل مقاتليها فيحسن أسرها وفيها أنزل الله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) الآية .. إلى قوله (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) يعني صفراء بنت شعيب ، فبالقرينة تظهر الثانية (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي كما أنّكن مّأمورات من عند الله ورسوله بإقامة الصلاة وإيتاء الزّكاة كذلك لا بدّ لكنّ أن تطعن إياهما في سائر ما أمراكنّ به ونهياكنّ عنه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) المراد بالرجس هو الذنب والعصيان. وإنما أراد سبحانه بحصر الإذهاب فيهم لإفهام البشر أجمعين أنهم أشرف مخلوقاته من الأولين والآخرين وليس لأحد أن يزاحمهم في مناصبهم ويشاركهم في مناقبهم التي اختصهم الله بها ، فضلا عن أخذ حقوقهم وغصب مقامهم ومرتبتهم التي أوجبها الله لهم من فوق سماواته السّبع ، فإنهم دون الخالق وفوق المخلوق فلا يقاس أحد بهم. و (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصبه بأخصّ المقدّر ، وإذا قرئ بكسر اللام فهو عطف بيان عن الضّمير المجرور في قوله (عَنْكُمُ) والألف واللام في البيت للعهد اي بيت النبوّة والرّسالة (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من جميع المآثم. واستعارة الرجس عن الذنب والتطهير عن الترشيح أي التأهّل والتربية لتنفير الفطين وعدم تناسبهما لهم صلوات الله عليهم وقد أجمع المفسّرون على نزولها في أهل العباء ، وبه روايات مستفيضة عن الطّرفين مصرّحة بأن أهل البيت هم محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين سلام الله وصلواته عليهم أجمعين. وعن الباقر عليه‌السلام : نزلت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وفي العياشي عنه عليه‌السلام في قوله تعالى ويطهّركم تطهيرا : من ميلاد الجاهلية.

٣٤ ـ (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ ...) قيل معناه : اشكرن الله تعالى

إذ صيّركن بتوفيقه لكنّ في بيوت يتلى فيها الوحي والسنّة ، أي الآيات التي يوحى بها إلى النبيّ والحكمة أي أقوال النبيّ الأكرم وهي محض الحكمة. وقيل المراد من الموصول هو القرآن الجامع بين الأمرين. وقيل معنى الشريفة : احفظن ما يتلى عليكن من القرآن لتعمّلن به ، وهذا حثّ لهنّ على حفظ القرآن والسنّة ومذاكرتهنّ بهما. أو المراد هو الأمر بمذاكرة كتاب الله الذي يقرأ عليهنّ حتى يبقى في حفظهن ولا يضيّع ويعملن به حين احتياجهنّ ، وهذا هو الظاهر منها (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) في تدبير خلقه (خَبِيراً) بمصالحهم.

٣٥ ـ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ... وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ...) أي الدّائمين على الطّاعة (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في أقوالهم وأفعالهم (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على البلايا والقيام بالطّاعات (الْخاشِعِينَ) المتواضعين (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما فرض عليهم أو الأعمّ (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) عن الحرام (لَهُمْ مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم. وعن النبيّ (ص): المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه والمؤمن من أمن جاره بوائقه (أي غوائله وشروره ، والبائقة الدّاهية) وما آمن بي من بات شبعان وجاره طاو (من الطوى بمعنى الجوع).

* * *

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا

قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

٣٦ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وكانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله فخطبها رسول الله على مولاه زيد بن حارثة ورأت أنّه يخطبها لنفسه فلما عرف أنه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت أنا ابنة عمّتك فلم أكن لأفعل ، وكذلك قال أخوها عبد الله بن جحش فنزلت الآية المباركة لتأديب الناس وبيان عظم شأن رسوله (ص) حيث قرنه الله سبحانه بذاته العليّة في كتابه في أنّ الناس مسلوبي الاختيار في مقام أمره ونهيه ورضاه بشيء يريده ، كما أنه كذلك الأمر بالنسبة إليه تعالى. ومعنى الشريفة أنه ما صحّ لرجل مؤمن كعبد الله بن جحش ولا لامرأة مؤمنة كزينب بنت جحش (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) اي أوجب الله ورسوله (أَمْراً) أي ألزماه وحكما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي الخيرة عندهم والاختيار مسلوبان وغير مقبولين. والحاصل أنه يجب على المكلّفين أن يجعلوا اختيارهم تابعا لاختيارهما. ومعنى الخيرة ما يتخيّر فيه (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَ

ضَلالاً مُبِيناً) وبعد نزول هذه الآية قالت زينب يا رسول الله جعلت أمري واختياري بيدك فزوّجها إيّاه. وفي الآية المباركة (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) إلى آخرها ردّ على من جعل الإمامة بالاختيار.

٣٧ ـ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ...) أي أنعم الله عليه بالهداية إلى الإيمان (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق وهو زيد بن حارثة الذي كان من سبي الجاهليّة فاشتراه النبيّ (ص) قبل مبعثه وأعتقه وتبنّاه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي زينت بنت جحش (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها ومفارقتها ومضارّتها فلا تطلّقها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) عطف على تقوّل : يعني اذكر يا محمّد الّذي كنت تعرفه وتخفيه في نفسك والله تعالى مظهره وهو نكاحك لها بعد طلاقها ، أو ما أعلمك الله من أنّه سيطلّقها وتتزوّجها وأنها من أزواج (وَتَخْشَى النَّاسَ) أن يعيّروك بالتزوّج من مطلّقة رجل كنت تتبنّاه (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) والعتاب على الإخفاء مخافة الناس وإظهار ما يخالف ضميره في الظّاهر إذا كان الأولى أن يصمت أو أن يقول لزيد أنت وشأنك الاختيار بيدك حينما قال له زيد أريد أن أطلّقها لا أن يأمره بالإمساك عن طلاقها. ثم أكّده بقوله (وَاتَّقِ اللهَ) أي لا تحذر غيره سبحانه ولا تهتم بما دونه (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي حاجته منها. ولعل المراد من ووطره هو إطفاء نائرة شهوته التي يبتلي الشباب بها وهو أهمّ وطرهم. فلمّا طابت منها نفسه وسكنت وأريح بها منها طلّقها لأنّه كان نفسيّا غير مرتاح حيث إنه يخجل منها لأنه لم يكن كفؤا لها حسبا ونسبا فإنها كانت ابنة كريمة عبد المطّلب سيد قريش وشيخ البطحاء ورئيس سدنة لبيت الحرام وأمّها مضافا إلى ما قلناه كانت عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي بنفسها كانت عقيلة جليلة جميلة مكرّمة معظّمة بحيث بشّر الله سبحانه بتزويجها لرسول الله في ملكوت سماواته ، ولو لم تكن لها منقبة إلّا هذه البشارة وهذه المنقبة العظيمة لكفتها فكيف إذا اجتمعت فيها المفاخر كلّها فأين التراب ورب الأرباب؟ نعم

كان زيد بن حارثة مؤمنا تقيّا زكيّا حبيبا لرسول الله بحيث تبنّاه وصار معروفا بابن محمد. ومحبة رسول الله هذه تكشف عن سموّ مقامه وعلوّ شأنه وهو يغبطه على مقامه هذا ولرتبته السّامية عند الله ورسوله كثير من الأصحاب المقربين .. وفي الظاهر قد أقدم على هذا التزويج نبيّ الرحمة لمصالح عديدة أشير إليها في الشريفة بقوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) وقرئ زوّجتكها. قال الصّادق عليه‌السلام : ما قرأها أبي إلّا كذلك ، إلى أن قال : وما قرأ علي عليه‌السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا كذلك. وفي الجوامع أنّها قراءة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين. والحاصل أنّه تعالى أضاف تزويجها إلى ذاته المقدّسة تشريفا وتبجيلا لرسوله. وروي أنّ زينب كانت تفتخر على جميع نساء النبيّ بذلك بعد نزول تلك الكريمة وكانت تقول للنبيّ (ص) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ جدّي وجدّك واحد ، وزوّجنيك الله ، والسّفير جبرائيل. وفي الدّعاء مدلّا عليك فيما قصدت فيه إليك ، وهو من أدلّت المرأة وتدلّلت وهو جرأتها في تغنّج كأنّها مخالفة وليس بها خلاف ، والاسم الدّلال ، يقال تدلّل على غيره لم يخف منه بل يعدّ نفسه عزيزا عنده. وليعلم أنّ زيدا حينما طلّق زوجه لم يكن في قلبه كره لطلاقها بمعنى أن الطّلاق لم يقع بغير رضاه وعن عدم رغبة منه فيه ، بل عن طيب نفسه ولم يكن في قلبه أيّ ميل إليها ولا وحشة لفراقها. قال الله تعالى (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) فإنّ معنى القضاء هو الفراغ عن الشّيء على التمام والكمال بلا احتياج إليه بعد ذلك (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي في نكاح أزواج الأدعياء أي من يدعونهم أبناء (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) إذا طلّقوهن باختيارهم بعد قضاء حاجتهم منهنّ ، فهذا التبرير علّة للتزويج (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي قضاؤه وقدره لا بدّ وأن يقع في الخارج وكان مكوّنا. وهذه هي العلّة في تزويج زيد وطلاقه بلا جهة موجبة له ، ونكاح الرّسول إيّاها بعد ذلك لمصالح مستورة مخفيّة علينا منها ما ذكر في الكريمة أي رفع البأس عن تزويج أزواج الأدعياء كما كان

الحرج فيه في عصر الجاهلية إذ هكذا كانوا يعاملون أزواج الأدعياء وكما يعاملون أزواج الأبناء الحقيقيين ومن المصالح ما ذكر أيضا في الشريفة من قوله تعالى :

٣٨ ـ (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) ... أي ضيق (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي أوجبه وقسم له من التزويج بامرأة الابن المتبنّى ، بل أوجبه عليه ليبطل حكم الجاهلية (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي هذا الحكم وهذه السنّة أي نفي الحرج أو تعدد الأزواج ليست من خصائصه بل كانت سنّة جارية في الذين خلوا من قبل أي سنّها الله في السّابقين من الأنبياء والرّسل (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي حتما مقضيّا وقضاء قطعيّا ، سبق أن قضينا به وحتمناه وجعلنا سنّة للرّسل.

٣٩ ـ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) ... وصف الله تعالى الأنبياء الماضين المنوّه عنهم في الآية السابقة وأثنى عليهم فقال : هم الذين يؤدّون رسالات الله من الأصول والفروع وغيرهما مما اشتملت عليه كتبهم المنزلة إلى الأمم ولا يكتمونها (وَيَخْشَوْنَهُ) يخافونه ، أي خشية منهم له تعالى (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) فيما يتعلق بالأداء والتبليغ. ومن هذا يستفاد أن الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرّسالة وأدائها. وربّما يتوهّم أن يقال فكيف قال الله تعالى لنبيّنا (وَتَخْشَى النَّاسَ) الآية فالجواب أن خشيته لم تكن فيما يتعلق بالتّبليغ وإنما خشي المقالة السيئة القبيحة التي قد تقال فيه حين يتزوج مطلّقة رجل كان قد تبنّاه ، والعاقل كما يحترز ويتحفّظ عن الكلب العقور وسائر المضار يتحرّز عن إساءة الظنون به وعن القول البذيء (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي كافيا ومحافظا ومحاسبا لأعمال العباد ومجازيا عليها. فلا بدّ من أن يخاف منه تعالى. فلمّا تزوّج رسول الله بزينب ابتلي بما يخاف منه من مقالاتهم البذيئة وكلماتهم الدنيئة وتعييراتهم المؤذية إذ قالوا : إن محمدا تزوّج امرأة ابنه ، وهو ينهانا عن ذلك فردّهم سبحانه بالآية التالية ، قائلا :

٤٠ ـ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ... أي ليس محمد أبا حقيقيّا للرّجال الذين لم يلدهم حتى تتحقّق حرمة المصاهرة فتحرم نساؤكم عليه إذا طلّقتموهن ، فليس بأب لزيد بمحض التبنيّ حتى تحرم عليه زوجته ، فإن الحرمة ثابتة بثبوت بنوّة التسبّبية لا الادّعائية ، فمن لا نسب له مع شخص لا حرمة لامرأته عليه (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) بل الرسول أبو الأمة في وجوب تعظيمها له أو نصحه لها ، وليس بينه وبين الآخرين نسب غير النسب الحقيقي ولا تربطه بزيد صلة نسب بالولادة ، وزيد من الأمّة (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ختمت النبوّة به فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه كذلك ، وشرعه ناسخ لجميع الشرائع. وفي المناقب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا خاتم الأنبياء ، وأنت يا علي خاتم الأوصياء. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ختم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف نبيّ وإني ختمت ألف وصيّ ، وإنّي كلّفت ما لم يكلّفوا (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي يعلم من يليق أن تختم به النبوّة ومن له الأهليّة لختم الوصاية ، وكيف ينبغي أن يكون شأنهما وهذه فضيلة له ولوصيّه صلّى الله عليهما وآلهما اختصّا بها من بين سائر المرسلين والأوصياء فهنيئا لهما.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

٤١ و ٤٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ...) أي على كلّ

حال وبكلّ ما هو أهله. واختلفوا في الذكر أيّ شيء هو؟ فقيل هو التسبيحات الأربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، وقيل هو قول : لا إله إلّا الله ، وقيل غير ذلك من الأقوال ، ولكن ظاهر الآية الشريفة يأبى التخصص ، فالأحسن أن يقال إن المراد به مطلق الذكر (وَسَبِّحُوهُ) قدّسوه ونزّهوه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه ، إلى أن يقول : فإن الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ، ولذا لم يحدّه كما فرض الصلاة والصوم والحج بحدود خاصة وأوقات معنيّة فهي حدّها. وقال عليه‌السلام : تسبيح فاطمة الزهراء عليها‌السلام من الذكر الكثير ، الحديث ...

٤٣ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ...) والصلاة من الله تعالى هي الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار. فهو يرحمكم ، والملائكة يستغفرون لكم (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجهالة إلى المعرفة. وهذا علّة لصلاته سبحانه وصلوات ملائكته على المؤمنين الذين يرحمهم ويرأف بهم. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : من صلّى على محمد وآل محمد عشرا صلّى الله عليه وملائكته مائة مرة ، ومن صلّى على محمد وآل محمد مائة مرة صلّى الله عليه وملائكته ألفا. أمّا تسمع قول الله : هو الذي يصلّي عليكم وملائكته؟ ...

٤٤ ـ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ...) في التوحيد عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام : اللقاء هو البعث ، فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك البعث. والمعنى : تحيّة الله للمؤمنين عند الموت ، أو عند البعث كما في الرواية ، أو يوم القيامة وحين الدخول في الجنّة هو السلام المبشّر بالسلامة من كل المخاوف والأهوال. وهذا من باب إضافة المصدر

إلى المفعول (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) هيّأ لهم ثوابا عظيما على طاعاتهم وأعمالهم الصالحة.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

٤٥ و ٤٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ...) أي شاهدا على أمّتك بطاعتهم ومعصيتهم ، ومبشّرا للمطيع بالجنّة ونذيرا للعاصي بالنّار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى توحيده وطاعته ومعرفته (بِإِذْنِهِ) أي بأمره الصّادر عن علمه بالمصالح وعن حكمته (وَسِراجاً مُنِيراً) أي مصباحا تنجلي به ظلمات الضّلال ، ويستضاء به من حيرة الجهالة إلى طريق المعارف والهداية وإلى التوحيد وقبول الرسالة. وقيل عنى بالسّراج القرآن ، أي بعثناك ذا سراج منير يعني حال كونك صاحب سراج منير ، فحذف المضاف أي القرآن الذي تقتبس نوره من أنوار البصائر.

٤٧ ـ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً ...) أي زيادة على ما يستحقّونه من الثواب والأجر على أعمالهم ، أو فضلا على سائر الأمم.

٤٨ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ...) أي كن ثابتا على عدم الاعتناء بشأنهم. وهذا تهييج له (ص) على ما كان من مخالفتهم (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي أعرض عن إيذائهم إياك ، أو ايذائك إيّاهم بقتل أو ضرر إلى أن تؤمر به (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فهو كافيك في دفع ضررهم عنك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) في تفويض أمرك إليه في جميع الأحوال.

٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ... (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ...) أي من قبل أن تجامعوهنّ (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها ، فإنّ الله سبحانه أسقط العدّة عن المطلّقة قبل المسس لبراءة رحمها فإن شاءت تزوجت من يومها (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَ) المراد بالمتعة ها هنا ما وصلت به وأعطيت بعد الطّلاق من نحو القميص والإزار والملحفة ، وهي متعة الطّلاق. وهذا إذا لم يفرض لها مهرا إذ مع فرضه لا يجبب لها المتعة (المتعة بكسر الميم وضمّها) بل يجبب لها نصف مهرها كما بينّ في محلّه ، فسرّحوهن حينئذ (سَراحاً جَمِيلاً) أي خلّوا سبيلهن من غير إضرار ولا منع حقّهن. وفي التهذيب عن الباقر عليه‌السلام في هذه الشريفة قال : متّعوهن أي احملوهن بما قدرتم عليه من معروف ، فإنّهن يرجعن بكآبة ووحشة وهمّ عظيم وشماتة من أعدائهن ، فإن الله كريم يستحيي ويحبّ أهل الحياء ، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم. وعن الصّادق عليه‌السلام في حديث يقول فيه : ... وإن لم يكن فرض لها شيئا فليمتّعها على نحو ما يتمتّع به مثلها من النّساء.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ

وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

٥٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ ... اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ...) ثم إنّه تعالى أخذ في بيان تعيين الحلائل من النّساء فخاطب نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وقال : يا محمد (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي دفعت مهورهنّ التي جعلتها لهن. والتعبير بالأجر لأنّ المهر أجر على البضع (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي المسبيّات من الإماء كصفيّة التي هي من غنائم خيبر ، وريحانة من غنائم بني قريظة ومارية القبطية وجويرية وأمثالهنّ. والتخصيص لأفضلتهنّ على المملوكات المشتريات حيث أن بدء أمرهنّ غير ثابت وغير معلوم على المشتري سبب تملّك البائع وأنه بأيّ كيفية

تملّكها بخلاف المسبيّات فإن ملكيّتها متحققة معلومة فهنّ أحلّ وأطيب من هذه الحيثيّة ولكنّ الجميع متساويات من حيث الحليّة. وكذلك لما كان نكاح المهاجرات أفضل قيّد القرائب بهنّ وقال (وَبَناتِ عَمِّكَ) إلى أن يقول (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) وهذا قيد للأفضلية لا للحلّية فإنهنّ حلائل مطلقا. نعم قيل : يحتمل أن يكون قيدا لإحلال المذكورات في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة ، وكان من خصائصه صلوات الله عليه ولهذا القول يذكر شاهد وهو قول أمّ هاني فإنها قالت : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجبته لذلك ولكن ما عقد عليّ. فلمّا نزلت الآية قال صلوات الله عليه وآله : أنت حرام عليّ حيث لم تهاجري معي ، ولكنّ صحة الحديث غير معلومة. وقيل كان الإحلال مقيّدا بذلك لكنّه نسخ بهذه الآية (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي أحللنا لك امرأة مؤمنة إذا اتفق أنها وهبت نفسها بلا مهر. لكنّها بمجرّد هذا لا تصير زوجة له صلوات الله عليه ، ولا يجب على النبيّ قبولها. نعم لو أراد نكاحها فهي زوجته بلا عقد ولا مهر ، فإرادته (ص) بمنزلة قبوله إيّاها أي الهبة. والمراد بالاستنكاح هو طلبه ، أي الرغبة في النكاح (خالِصَةً لَكَ) هذا إيذان بأن الحكم ممّا خصّ به (ص) لنبوّته واستحقاقه هذه الكرامة لشرافة النبوّة (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) حاصل معنى الكريمة أنّنا قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في أزواجهم من حيث العدد والحصر والمهر لكنّه وضعناه عنك تخفيفا عنك وتشريفا لك وكذلك في ملك اليمين للمؤمنين بأن لا يقع الملك لهم إلّا بوجوه معلومة محصورة من الشراء والهبة والإرث ، وأبحنا لك أزيد من هذه الأسباب كالصفيّة الذي تصطفيها لنفسك من السّبي ، وانما خصّصناك به ووسعنا عليك على علم منّا بالمصلحة التي اقتضت ذلك (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي ضيق في باب النّكاح. وهذه الجملة متّصلة ب (خالِصَةً) وبينهما اعتراض لبيان أن المصلحة اقتضت مخالفة حكمه لحكمهم في ذلك ، وهي رفع الحرج بالتوسعة له صلوات الله عليه

في باب النكاح بخلاف الأمّة على ما يشير إليه قوله تعالى (لِكَيْ لا يَكُونَ) الآية (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما يشاء (رَحِيماً) بالتوسعة لعباده في مظانّ العسر والحرج.

٥١ ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ ...) أي تؤخّرها وتترك مضاجعتها. أو المراد تطلّقها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تضمّ إليك وتمسك من تشاء وتنكحها. وقد مرّ قريبا أنه لما اقترحت نساء النبيّ (ص) عليه أشياء ، وطلبن منه أشياء ، لم تكن ميسورا له فهجرهنّ واعتزل عنهنّ بأمر منه تعالى فنزلت آية التخيير بين الدنيا والآخرة ، فمن أرادت منهن الدنيا سرّحها سراحا جميلا ومن أرادت الآخرة فأمسكها. وهذه الآية من متّممات آية التخيير ، وكذلك الآية اللّاحقة بها (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) أي طلبت ، وتريد أن تؤوي وتضمّ إليك (مِمَّنْ عَزَلْتَ) من النساء اللواتي هجرتهنّ وتركتهنّ (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) في ذلك كلّه (ذلِكَ) أي التفويض إلى مشيئتك و (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) أي أقرب إلى أن تبرّر أعينهنّ ، كناية عن سرورهن لرؤية ما كنّ متشوّقات إليه ، وهو ايواؤه لهنّ صلوات الله عليه وضمّهنّ إليه بعد العزل (وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) لأن الحكم فيهنّ كلّهنّ سواء ، فإن سوّيت بينهنّ فوجدن ذلك تفضّلا منك وإن رجّحت بعضهنّ علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئنّ نفوسهنّ ويرضين بذلك الترجيح (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي من الرضا والسّخط والمليل إلى بعض النساء دون بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما في الصّدور (حَلِيماً) رؤفا لا يعجل بالعقوبة مع كمال قدرته ، فهو الحقيق بأن يتّقى.

٥٢ ـ (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ...) أي بعد النساء اللواتي أحللناهنّ لك بقولنا (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ) ، الآية وهنّ ستّة أصناف من النّساء على ما عدّهنّ الله تعالى في الكريمة السّابقة (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أي ولا يحلّ لك أن تبدّل من هؤلاء التسع بغيرهنّ بأن تطلق واحدة منهنّ وتأخذ بدلها من غيرهنّ. وقيل أن تبدّل المسلمات

بالكتابيّات لأنهنّ ما كان ينبغي أن يكنّ أمّهات للمؤمنين ، أو أنّه سبحانه منع عن فعل الجاهلية إذ كان الرّجلان منهم : يتبادلان فينزل كلّ منهما عن زوجته للآخر (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) أي حسن المحرّمات عليك ووقع في قلبك حسنهنّ مكافأة لهن على اختيارهنّ الله ورسوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي : لكن ما ملكت يمينك فيحل لك من الكتابيّات وغيرهنّ. وقيل لا يحلّ لك النساء بعد التسع وهنّ في حقه (ص) كالأربع في حق غيره صلوات الله عليه ، وكان الله (رَقِيباً) أي حفيظا وعن الصادق عليه‌السلام : إنما عنى اللاتي حرمن عليه في آية النساء ، أي حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم ، الآية. ولو كان الأمر كما يقولون لكان قد حلّ لكم ما لم يحلّ له (ص).

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ

تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ ...) أي تدعون إلى أكل الطعام (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) أي حال كونكم لا تنتظرون وقت الطعام أو بلوغه فإنّ (إناء) مصدر جاء بمعنى الوقت والبلوغ (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا ، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي بالخروج من بيت النبيّ (ص) ولا تمكثوا عنده صلوات الله عليه وآله (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل متحدّثين يحدّث بعضكم بعضا لتؤنسوه (إِنَّ ذلِكُمْ) الفعل منكم (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لضيق المنزل عليه وعلى أهله واشتغالكم بما لا يعنيه فيستحيي (مِنْكُمْ) أي من إخراجكم (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي من كلام الحق فيأمركم بالخروج بعد الطعام (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) أي ممّا يحتاج إليه وينتفع به (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي من وراء الستر وذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن وذلك أطهر لقلوبكم (وَقُلُوبِهِنَ) من الرّيب والخواطر الشيطانية وليس لكم (أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي بنكاح أزواجه أو بطول الجلوس عنده في بيته أو بالتكلم مع نسائه من غير وراء الستر ، أو الدخول عليه بلا استئذان منه صلوات الله عليه وآله. وعن أبي حمزة الثمالي رحمه‌الله : أن رجلين من الصّحابة قالا : إنّ محمدا ينكح

نسواننا ولا ننكح نساءه؟ والله لئن مات لنكحنا نساءه. وواحد منهما أراد عائشة ، والآخر أراد أمّ سلمة أعلى الله مقامها فنزلت الكريمة. فما كان لكم أيها المسلمون أن تؤذوا رسول الله (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) إلى أن يقول : (عَظِيماً) أي ذنبا عظيما لأن تعظيمه وتبجيله واجب على الأمّة حيّا وميّتا حيث إنه في الدنيا مقلّد بالنبوّة وفي العقبى بالشفاعة.

هذا مضافا إلى أنّ أزواجه صلوات الله عليه كنّ أمّهات الأمّة لقوله تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ..) وعلى قولنا إنّ الحرمة ثابتة لكلّ امرأة فارقها ولو بالطلاق أو الفسخ سواء دخل بها أو لم يدخل خلافا لبعض المذاهب في غير المدخول بها كالشافعيّة والمدرك ضعيف.

٥٤ ـ (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ...) أي تظهرونه بألسنتكم أو تخفوه في صدوركم. والمراد بالشيء لعلّه مطلق ما يؤذي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا خصوص نكاح أزواجه كما قيل فإن الله سبحانه كان بكلّ ذلك (عَلِيماً) يعلم ما تبيّنونه أو تضمرونه في صدوركم فيحاسبكم عليه ويجازيكم. وفي الشريفة تهديد بليغ يكشف عن عظمة نكاح أزواج النبيّ (ص) وأنّ مطلق أذاه ذنب.

وروي أن آية الحجاب لمّا نزلت تحجّبت النساء حتّى عن آبائهنّ وأبنائهنّ وصرن لا يتكلّمن إلّا من وراء الستور ، فجاء المحارم وتكلّموا مع النبيّ (ص) بأننا أيضا ممنوعين من التكلم إلّا من وراء الستر؟ فنزلت الكريمة التالية :

٥٥ ـ (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ ...) أي لا بأس لهؤلاء أن يسألوهنّ من دون حجاب ولا عليهنّ أن يجبن من غير ستر ولا تستّر (وَاتَّقِينَ اللهَ) في ما كلّفكنّ من الاحتجاب عن ما سواهم ، ولا تكشفن عمّا حرّم الله كشفه لغير المحارم ، وكان الله (شَهِيداً) أي لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية.

٥٦ ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) في ثواب الأعمال عن

الكاظم عليه‌السلام أنّه سئل : ما معنى صلاة الله وصلاة ملائكته وصلاة المؤمنين؟ قال عليه‌السلام : صلاة الله رحمة من الله ، وصلاة الملائكة تزكية منهم له ، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) لعلّ المراد من التسليم هو الذي يتبادر عند عرف العرب بالفهم من صيغة السّلم ، أي : السّلم عليك أيها النبيّ ، أو بزيادة : وبرحمة الله وبركاته. وقيل المراد منه هو التسليم والانقياد لأمره لكنّ الأول أنسب وأظهر لمكان حرف العطف. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية قال : قوله وسلّموا تسليما ، أي سلّموا لمن وصّاه واستخلفه عليكم وفضّله ، وما عهد به إليه تسليما.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

٥٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... لَعَنَهُمُ اللهُ ...) أي يبعدهم الله في الدّنيا والآخرة من رحمته ويحلّ بهم وبال نقمته بحرمان الهداية (فِي الدُّنْيا) والخلود في النّار في (الْآخِرَةِ) لأنه هيّأ لهم فيها عذابا (مُهِيناً) ذا إهانة وهو النّار.

٥٨ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ...) أي بلا ذنب يوجب إيذاءهم وبغير جناية وجرم استحقّوا الإيذاء بهما (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) فقد فعلوا ما هو أعظم الإثم مع البهتان وهو الكذب على الغير يواجهه به فجعل إيذاء المؤمنين والمؤمنات مثل البهتان. وقيل يعني

بذلك أذيّة اللسان فإنها يتحقّق فيها البهتان. وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين المؤذون لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم. فيقال : هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم ، ثم يؤمر بهم إلى جهنّم. وإنّما سقط لحم وجوههم لأنهم كاشفوهم وجوههم الشديدة عليهم في الدنيا من غير استحياء وعبّسوا بوجوههم حين النظر إلى المؤمنين.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

٥٩ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ) ... (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) أي يرخين على وجوههن وأبدانهن بعض ملاحفهنّ ويتلفّعن بالفاضل منها حين يخرجن من بيوتهن لقضاء حوائجهنّ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) أي تغطية الرأس والوجه أقرب إلى معرفتهن بأنّهن حرائر من ذوات العفاف والصّلاح فلا يتعرّض لهنّ الفسّاق من الشباب كما كان من عادة الجاهلية التّعرض للإماء (فَلا يُؤْذَيْنَ) اي لا يؤذيهنّ أهل الرّيبة بالتعرّض لهنّ كتعرّضهم للإماء.

٦٠ و ٦١ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ...) أي عن نفاقهم. والنّفاق هو إظهار الإيمان مع كونهم كافرين (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي فجور وفسوق من تعرّضهم للنّساء المؤمنات (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) هم أناس من المنافقين كانوا يشيعون أخبارا كاذبة سيئة عن سرايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأصله من الرّجفة وهي الزلزلة ، وسمّيت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنأمرنّك بقتالهم وإجلائهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا مجاورة قليلة لأنّهم يستأصلون في أيّام قلائل وعمّا قريب تقع بينكم وبينهم الحرب ويصبحون (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا) أي أينما وجدوا (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) فقضي عليهم.

٦٢ ـ (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية وفي منافقيهم المرجفين بالمؤمنين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) يعني هذه السنّة جارية في أمّتك يا محمد نعلا بالنعل وحذوا بالحذو ، ولا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها ، والسنّة هنا هي الطريقة في تدبير أمر على وجه المصلحة والحكمة ، وفي اللغة جاءت بمعنى الطريقة الجارية. ثم إنه مرويّ عن أصحاب التواريخ أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلوات الله عليه وآله : متى القيامة التي تخبرنا بها وتوعدنا؟ وهذا السّؤال أوردوه على سبيل الاستهزاء. وكذا اليهود جاءوه وسألوه عن وقتها حيث إنهم رأوا في التوراة أن القيامة لا يعلم وقت مجيئها إلّا الله فلذا سألوه اختبارا فنزلت الشريفة الآتية :

* * *

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ

 اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

٦٣ ـ (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ...) أعني المذكورين آنفا سألوه (عَنِ السَّاعَةِ) أي عن وقت قيامها بأن قالوا : متى تقوم استهزاء ، أي كفّار مكة ، وامتحانا أي أحبار اليهود (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) واستأثر به ولم يطلع عليها ملكا ولا نبيّا (وَما يُدْرِيكَ) أي أنت لا تعرف متى تقوم فكيف بغيرك (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي قد توجد في وقت يكون قريبا.

٦٤ و ٦٥ ـ (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ ... وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ...) أي نارا شديدة الإيقاد أو نارا تلهب هيّأها لهم ليكونوا (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي مقدار لبثهم فيها أبديّ لا يخلّصهم منها أحد.

٦٦ ـ (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ...) أي تتحوّل من هيئة إلى هيئة ومن حالة إلى حالة فيقولون (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فكانوا يتمنّون أمرا محالا كقول الشاعر : فيا ليت الشّباب يعود يوما إلى آخره. والألف في (الرَّسُولَا) ونحوه للإطلاق.

٦٧ و ٦٨ ـ (وَقالُوا رَبَّنا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ...) أي مثلي ما آتيتنا من العذاب لأنّهم ضلّوا وأضلّونا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) أشدّ وأعظم من كلّ لعن أو عدده.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

٦٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا ...) أي لا تكونوا مع نبيّكم مثل الذين آذوا نبيّهم موسى عليه‌السلام برميهم إيّاه بالبرص فأظهر الله لهم براءته واتّهامهم له بقتل هارون فبرّأه الله من مقالتهم الكاذبة. وفي المجمع عن عليّ عليه‌السلام أنّ موسى وهارون عليهما‌السلام صعدا الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته. فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على بني إسرائيل وتكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات ، وبرّأ الله موسى (ع) من ذلك ، وروي أن موسى كان حبيئا ستّيرا يغتسل وحده ، فقالوا ما يتستّر منّا إلّا لعيب بجلده كالبرص ، فذهب مرّة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى عليه‌السلام فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرّأه الله.

٧٠ و ٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ...) أي قولا

صادقا قاصدا إلى الحق ، صوابا موافقا ظاهره لباطنه. وبعبارة أخرى قولا مرضيّا لله ولرسوله (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي هو تعالى يصلح أعمالكم ويوفقكم لصدور الأعمال الصّالحة عنكم ، أو يقبل أعمالكم على ما هي عليه ويثيبكم بذلك ويعطيكم أجرا جزيلا. وهذا بيان لنتيجة القول السّديد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وهذا نتيجة إصلاحه لأعمال عباده ، فإن الأعمال إذا صارت مصلحة فالذّنوب تصير مغفورة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) فهذه الشريفة بمنزلة قاعدة كلّية حيث إنّ جميع ما ذكر في الآيات السّابقة مترتّب على الإطاعة لأن الإنسان المطيع هو الذي لا يقول إلّا قولا سديدا وهو الذي يصلح الله أمره ويغفر ذنوبه ويفوز فوزا عظيما ، ويظفر ببغيته وينجو من المكاره بحوله وقوّته تعالى وتوفيقه إيّاه. فالإطاعة هي منشأ كلّ خير ومصدر كلّ رفعة ومفاض كلّ فوز عظيم.

٧٢ ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) المراد بعرضها عليهنّ قيل إنه النظر إلى استعدادهنّ له وإبائهنّ الإباء الطبيعيّ الذي هو عدم اللّياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة والشّهويّة ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب. ويحتمل أن يكون المراد العرض على أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وعرضها عليهم تعريفها إيّاهم ، أي في تضييع الأمانة الإثم العظيم. وقد بيّن تعالى جرأة الإنسان على المعاصي وإشفاق الملائكة من ذلك. فيكون المعنى : إنّا عرضنا الأمانة على أهل السّموات والأرض والجبال والملائكة والجنّ فأبين أن يحملنها ، أي فأبى أهلها أن يحملوا تركها وعقابها والمأثم فيها ، وأشفقوا منها. والحاصل أن آباءهم لها كان إباء استصغار لا إباء استكبار مثل إباء إبليس حيث لم يؤدّها أو لم يعمل بها كما هو حقها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي مال إليها بقبولها (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) بارتكاب المعاصي (جَهُولاً) بشأن الأمانة وموضعها في استحقاق العقاب على الخيانة فيها. وأمّا الأمانة فقيل هي الطاعة ، وقيل هي الصّلاة وروي أنّ

عليّا عليه‌السلام إذا حضر وقت الصّلاة كان يتململ ويتزلزل ويتلوّن فيقال له مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول جاء وقت الصلاة ، وقت الأمانة. وقيل هي مطلق الفرائض فإنّها واجبة الأداء كالأمانة ، وقيل المراد بها الولاية ويدل عليه أخبار كثيرة.

٧٣ ـ (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ ...) هذا علّة لعرض الأمانة ، ليميّز الله الخبيث من الطيّب ، وليعذب المنافقين (وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي الخائنين للأمانة (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي المؤدّين للأمانة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) للمؤمنين المطيعين له ولرسوله صلوات الله عليه وعلى أهل بيته.

سورة سبأ

مكيّة إلّا الآية ٦ فمدنية وآياتها ٥٤ نزلت بعد لقمان.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) السّور المفتتحة بالحمد خمس ، وهي : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر. وقد منّ الله تعالى على عباده بهذه الكلمة المباركة لتعريفهم وجوب حمده على نعمه : ولتعليمهم كيفيّته على ما ينبغي لشأنه السامي جلّ وعلا ، يعني أن الثّناء والشكر الجميل مختصّان بذاته المقدّسة على جهة التعظيم والاعتراف بجميل صنعه للعباد ، فهو (الَّذِي لَهُ) لا لغيره (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من مخلوقات وكائنات ونعم وغيرها ، فإنّه المصدر لجميع النّعم والمبدع لمجموع العوالم (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) لأن النّعم ـ دنيويّة وأخرويّة ـ مختصة به

سبحانه ، ولكنّ الآخرة خصّت تفضيلا لها على الدنيا الزائلة ، ولأنها تصل إلى العباد بلا واسطة بخلاف النّعم الدنيويّة التي تتقدّم على الأخرويّة حيث إنّ الدّنيا مقدّمة على العقبى. وتقديم الصلة في الثاني لما قلناه من اختصاصه تعالى في الإيصال بخلاف الأول (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدابيره (الْخَبِيرُ) بخلقه بجميع جهاتهم وشؤونهم.

٢ ـ (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ...) أي يعرف ما يدخل فيها مثل المطر والحشرات والكنوز والأموات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من المياه والفلزّات والنباتات (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) كالأمطار والأرزاق والحوادث والكتب السماوية والصواعق والثلوج وغيرها من النوازل (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها مع الملائكة وأعمال العباد ودعواتهم وأرواحهم الطيّبة والأبخرة ونحوها (وَهُوَ الرَّحِيمُ) في إعطاء النّعم الشّفوق على العباد بإتمامها عليهم (الْغَفُورُ) للمقصّرين والمذنبين ولمن لم يؤدّوا شكر النعمة وقصّروا في الوظيفة.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

٣ و ٤ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ...) إمّا إنكارا لمجيئها ، أو استبطاء واستهزاء بالوعد بها (قُلْ بَلى وَرَبِّي) ردّا لقولهم وإثباتا لما وعدهم به (لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، عالِمِ الْغَيْبِ) لتجيئنّكم و (عالِمِ) صفة (رَبِّي) وتكرير لقوله بلى وربّي فقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) تكرير لقوله (بَلى وَرَبِّي) وأكّد إتيانهما باليمين مع أنّهم مشركون والمسألة أصوليّة راجعة إلى أصول العقائد وهي لا تثبت باليمين ، والجواب أنّه تعالى ما اقتصر على اليمين بل عقّبها بالدّليل وهو قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يكون الجزاء فيها لينتقم من الظالم للمظلوم فيكون خلاف العدل والحكمة. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يغيب عنه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي زنة وأصغر جزء ممكن (فِي السَّماواتِ) إشارة إلى علمه بالأرواح (وَلا فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى علمه بالأجسام ، والإنسان روح وبدن ولا يستبعد عن الذي في غاية القدرة والاستطاعة ، والذي هو محيط بما سواه تمام الإحاطة أن يعيد الإنسان بعد الإماتة : للجزاء كما قال تبارك وتعالى. وقوله سبحانه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، إلخ علّة لإتيان السّاعة وبيان لدليل مجيئها على ما بيّناه إجمالا قبيل ذلك (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي في الجنّة. والرزق الكريم ما يأتي من غير طلب. فلا تعب فيه ولا منّة.

٥ ـ (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا ...) أي عملوا لإبطالها (مُعاجِزِينَ) مسابقين لنا ظانّين أن يفوتونا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي من سيّء العذاب المؤلم. والرّجز هو سوء العذاب كأنّه قال عذاب مؤلم من أسوأ العذاب.

٦ ـ (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...) أي أهل العلم وهم الذين يعلمون أنّ القرآن الذي أنزل إليك (هُوَ الْحَقَ) لأنّهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه ، فيعلمون بالنظر والاستدلال أنه ليس من قبل البشر (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويعلمون كذلك أنّه يهدي ويرشد إلى دين القادر الذي لا

يغالب ، المحمود على جميع فعاله وهو الله تعالى. وفي هذه الكريمة دلالة على فضيلة العلم وشرف العلماء وعظم أقدارهم كثرّهم الله تعالى.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

ثم عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار وقال عزّ من قائل :

٧ و ٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي كفرة قريش قال بعضهم لبعض استهزاء لا على وجه الاعلام (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) عنوا بذلك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي يحدّثكم بأمر من الأعاجيب ، ويقول لكم : إذا متم وفنيت أجسامكم وتفرّقت أبدانكم وتقطّعت أوصالكم كلّ تقطيع وصرتم ترابا وعظامكم رفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يزعم أنّكم بعد ذلك تعودون وتبعثون وترجعون خلقا جديدا يوم المعاد فهو المراد بالخلق الجديد. فقالوا ذلك إنكارا واستبعادا للبعث (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) استغني بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل ، وإسنادهم كذبه على قوله إليه تعالى بناء على عقيدته صلوات الله عليه

وإلّا فإنّهم كانوا غير معتقدين به تعالى ولا برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل منكرين لكليهما غاية الإنكار. والمعنى : هل كذب على الله كذبا واخترع من عند نفسه متعمّدا حيث يزعم أنّا نبعث بعد الموت؟ وهذا استفهام تعجّب وإنكار منهم. والتّعبير بالافتراء عن الكذب لأنّه أخصّ من الكذب ، فإن الافتراء هو الكذب الخاصّ ، أي المخترع المتعمّد فيه (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون يخيّل له ذلك فيهذي به ويهجر؟ أي يتكلّم بما لا يعلم فيلقى على لسانه عبثا. وتقديم الظّرف للمبالغة والدّلالة على البعديّة. ثم ردّ عليهم سبحانه قولهم فقال ليس الأمر كما قالوا (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي المنكرون للبعث والجزاء (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) وليس الأمر كما يقولون ، فما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله بكاذب ولا به جنّة ، ولا يقول ما يقول إلّا بالحق ، بل الذين كفروا هم الكاذبون والمفترون على نبيّنا حيث يسندون إليه الافتراء على الله والجنون مع أنّه منزّه عنهما ويسيرون الآخرة وأنّهم في العذاب ، فيصدّقون ثمة قول النبيّ ويعترفون بأنهم كانوا في الضلالة وفي البعد عن الحق والحقيقة في الدّنيا ثمّ ينبّههم بقوله إلى دليل يدلّهم على صدق قوله (ص) بثبوت البعث والجزاء وهو قوله تعالى :

٩ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...) أي إلى ما أحاط بجوانبهم (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كيف أحاطت بهم ، أفلم ينظر هؤلاء الكفرة إليهما فيستدلّون بهما على كمال قدرة خالقهما ، فيعرفون أنّا قادرون على إهلاكهم كما أهلكنا القرون الأولى. ثم بيّن كيفيّة الإهلاك بقوله : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما فعلنا بأقوام قبلهم وكما خسفنا بقارون وأمواله (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعا منها فتغطّيهم فيهلكوا جميعا (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ترون من السّماء والأرض وإحاطتهما بهم ومن قدرة الخالق تعالى (لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى ربّه ويتدبّر في قدرته ويتفكّر في تدبيره وتنظيم عوالمه فيذعن إليه ويطمئنّ قلبه بوجود الصّانع تعالى وبرسوله وبما جاء به. ولمّا ذكر الله سبحانه المنيبين من عباده وصل إلى

ذكرهم فحكى سبحانه قصّة داود وسليمان اللذين كانا في كمال الإنابة فقال :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

١٠ و ١١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ...) أي أعطيناه من عندنا مضافا إلى النبوّة كتابا وهو الزّبور ، أو المراد بالفضل الصّوت الحسن ، وكان عليه‌السلام إذا قرأ الزّبور تجتمع عليه السّباع والوحوش والطيور وجميع من يسمع صوته من البشر وغيره للاستماع. وقيل إن الفضل هو إعطاء مزيّة النّعم بالنسبة إلى الأنبياء الأخر ، من تسخير الجبال كما أشار إليه سبحانه

بقوله (يا جِبالُ أَوِّبِي) أي سبّحي معه من التأويب وهو التسبيح. أي إذا سبّح داود سبّحي معه فأنطقها الله تعالى بالتسبيح حين ما يسبّح داود كما أنطق الشجرة بقولها إنّي أنا الله ، وكما أنطق الحصى في كفّ نبيّنا (ص) وأمرها بالتسبيح فسبّحت بحيث استمع أهل المسجد تسبيحها لله تعالى كما يسمع من المسبح معجزا له أو أن هذا من آب يؤب بمعنى رجع أي ارجعي معه التّسبيح على ما روي من أن الطّير والجبال كانت ترجّع التسبيح مع داود عليه‌السلام. وأمّا ما قيل في كيفيّة تسبيحها بخلق الكلام فيها تسبيحا ، أو بعبارة أخرى بإيجاده فيها كما أوجد في الشجرة ، أو بكيفية أخرى أنطقها وأنطق الشجرة والحصى ، فنحن لا ندري وليس لنا علم بذلك وكل ما قيل فهو لو كان من أهل بيت النبوّة فمقبول وإلّا فمردود. والحاصل أن نطق كل شيء بما يناسبه ، فإذا أسند إلى الإنسان كان عبارة عن التكلّم بالصّوت والحروف ، أو إذا أسند إلى الكتاب فقيل كتاب ناطق أي بيّن وواضح ، أو إلى الطّير فهو بكيفيّة أخرى يعرفها من علّمه الله منطقه ، وإذا أسند إلى الجبال والأشجار فهو إمّا بإيجاد الصوت فيها أو بما أراده الله من الكيفيّات المسموعة حينما يستنطقها الله بحيث يفهمه كلّ من أراد الله إفهامه وأعطاه الأذن الواعية. وتأويب الجبال والطير من معجزات داود عليه‌السلام أعطاه الله ذلك فضلا وإظهارا لقدرته الكاملة فيما أعطاه. فإن تسبيح الجبال والطير أو سير الجبال معه طبق مشيئة داود (ع) على ما هو أحد معاني التأويب أي السّير ، هو أمر خارق للعادة فما توهّمه البعض من أن المراد بتسبيح الجبال حينما يقرأ داود الزّبور هو ارتجاع صوته إليه وارتداده على وجهه كما يتّفق كثيرا في الأبنية الرفيعة إذا صوّت الإنسان تحتها ونادى فترتجع صوته بما يتكلّم بعينه كأن شخصا يحكي قوله مردود ، لأنه أمر يتفق لكل ذي صوت حتى عند استكاك حجر بحجر فما يكون من خصائص داود ومعجزاته يكون قابلا للذّكر في الآية الكريمة في مقام إظهار قدرته وإعطائه لنبيّه عليه‌السلام منّة عليه. فهذا كلام شعريّ لا أساس له وقد قيل من غير رويّة. هذا مضافا إلى عطفّ الطير عليه فلا بد من أن

يحمل تسبيح الطير على معنى إنطاق الله تعالى له ، ولا معنى لهذا الحمل في الطّير. ويروى عن الصّادق عليه‌السلام أن الله تعالى أوحى إلى داود : نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال ، فبكى داود أربعين يوما وسأل من الله شغلا يكفى بمؤونته : فأجابه سبحانه وألان له الحديد مثل الشمع حتّى كان يتّخذ منه ما أحبّ على ما أشار إليه بقوله سبحانه : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) هذا مقول لقوله : قلنا له كما في مقوله : يا جبال. ومحلّه النّصب ، وقيل إن التقدير : أمرناه. والمعنى أننا أمرناه بأن يعمل دروعا واسعة الأذيال وقلنا له (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي عدّل وسوّ بين الحلقات في نسجها بحيث تتناسب حلقاتها في الصّغر والكبر وفي اللّين والغلظ. وحكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ، وكان لا يدري ما أراد داود عليه‌السلام أن يصنع ، ولكن لم يسأله حتى فرغ داود منها ، ثم قام ولبسها وقال : نعم جنّة الحرب هذه. فقال لقمان عند ذلك : الصّمت حكمة وقليل فاعله (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي قلنا واعمل أنت وأهلك الصّالحات أي الطاعات فإنّها شكر لله تعالى على عظيم نعمه عليكم.

١٢ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ...) القول متعلّق بمقدّر : أي سخّرنا له الرّيح ، وقرئ بالرّفع : الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ كذلك. والقميّ قال : كانت الريح تحمل كرسيّ سليمان فتسير به بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ مسيرة شهر (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أجرينا ذلك له بعد ما أذبنا له معدن النّحاس. قال القمّي : الصّفر نبع نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمّاه عينا. وقيل كان ذلك باليمن (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي سخّرنا له منهم من يشتغل له بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال (بِإِذْنِ رَبِّهِ) كان يعملون له الأعمال الشاقّة وما يكلّفهم به مثل نحت الأحجار الثقيلة وحملها من الجبال البعيدة لبناء الأبنية المشيّدة والقصور الرفيعة العالية كما يشاهد الآن رسمها والبقايا منها في بعض البلدان والقرى

ممّا يذكّرنا بسالف التاريخ. وفي الآية دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له لمكان قوله تعالى : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي يعدل ويخرج عمّا أمرناه به من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي نعذّبه بالنار المشتعلة في الآخرة كما عليه أكثر المفسّرين ، أو في الدنيا فقد قال السدّي قدّر لذلك ملك من عند الله تعالى وكان بيده سوطا من النار وهو واقف على الجنّ الذين يعملون لسليمان بما يأمرهم ، فإذا قصّر أحدهم في العمل يضربه بالسّوط ويحرقه والجنّ لا يراه. والآية الشريفة تدلنا على أن الجنّ مكلّفون مثل بني آدم.

١٣ و ١٤ ـ (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ...) أي أبنية رفيعة وقصور منيعة ، أو المراد بها المساجد ومحاريبها و (التَّماثِيلُ) قيل هي صور الملائكة والأنبياء ليقتدى بهم. وعن الصّادق عليه‌السلام إنّها صور الشجر وشبهه (وَجِفانٍ) جمع جفنة أي صحاف جمع صحفة وهي قطعة كبيرة منبسطة تشبع الخمسة إذا ملئت طعاما وكانت من العود والأحجار (كَالْجَوابِ) جمع الجابية أي الحوض الكبير (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات لا تنزل عن أماكنها لعظمها وكانت تصنع باليمن ، ثم خاطب سبحانه آل داود وأمرهم بالشكر بقوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي من يجتهد في أداء الشكر بجنانه ولسانه وأركانه. وقيل الشّكور من يرى عجزه عن الشكر لأن التّوفيق للشّكر نعمة تستدعي شكرا آخر وهكذا ، فإنّ عمر بن الخطاب سمع رجلا يدعو ربه ويقول : اللهمّ اجعلني من القليل ، فخاطبه عمرو قال : ما هذا الدعاء؟ فأجابه : إنّي سمعت الله يقول : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأنا دعوته أن يجعلني من ذلك القليل. فقال عمر : كلّ الناس أعلم من عمر. وكان من عادة سليمان عليه‌السلام أن يروح إلى بيت المقدس في كل سنة ويبقى فيه مدّة من الزمان لعبادة ربّه والخلوة عن الناس ، ويسدّ باب معبده عليه ويمنع دخول كلّ أحد عليه ولعلّ غرضه من هذا أن يدخل نفسه في الشاكرين

القليلين الذين مدحهم الله. وفي سنة وفاته لمّا دخل بيت المقدس رأى فيه شجرا فسأله ما اسمك؟ قال : خروبة. قال : لم سمّيت خروبة؟ فأجاب لأنه بعدي يخرب بيت المقدس. فتطيّر سليمان بأنه يخبره عن موته لأنّه قال ما دمت أنا حيّا فلا يقدر أحد على خرابه. فأمر بقلعه ، ثم مات سليمان في تلك السّنة وجاء بختنصّر وملك الشامات وخرّب بيت المقدس ، ويؤيّد ما ذكرناه بما في الكافي عن الصّادق عليه‌السلام إذ قال : إن الله عزوجل أوحى إلى سليمان بن داود أن آية موتك أن شجرة تخرج من بيت المقدس يقال لها خرنوبة. قال فنظر سليمان يوما فإذا الشجرة الخرنوبة قد طلعت في بيت المقدس فقال لها ما اسمك؟ قالت : خرنوبة. قال (ع) فولى سليمان مدبرا إلى محرابه فقام فيه متّكئا على عصاه فقبض روحه من ساعته. (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ) أي حكمنا بموته ما دلّ الجنّ والشياطين على موته (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) الأرضة ، فإنّها أكلت عصاه فسقط عليه‌السلام فعلموا أنه ميّت. ولكنّهم علموا بعد سنة وذلك لأنه عليه‌السلام لمّا علم بموته وصّى أهله بأن يعموا موته على الجنّ مضافا إلى أنّه دعا ربّه لذلك وقال : اللهمّ عمّ على الجنّ عن موتي وكان منه ذلك الدّعاء بالتعمية على الجنّ لأغراض : أولا ليعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب وقد كان عقيدة الإنس أنهم يعلمون الغيب. وثانيا أنّه كان يشتغل ببناء بيت المقدس وكلّف الجن ببنائه بأشغال شاقة صعبة قد خرجت عن أيدي الإنس لعدم قدرتهم عليها وعدم علمهم بكيفيّتها. وثالثا ليعلم الجنّ والإنس أنّ الأجل إذا حضر وقته فلا يتأخّر ولو كان صاحبه مثل سليمان بتلك السّلطة والملك والقدرة ، فإنّه ما أمهله حتى يخبر أهله ليدخلوا عليه حين موته حتى يودّعهم ويودّعوه ويفرشوا له فراش موته ويوجّهوه إلى ما يوجّهون به موتاهم فبقي عليه‌السلام بعد موته على تلك الحالة سنة حتّى فرغوا من بناء بيت المقدس بالكيفية التي أمرهم سليمان عليه‌السلام وحصلت الأغراض والحكمة في كيفيّة موته على ما كان ، ولعلّ أصلها منشأة بالشين ، وقد سمّيت بها لأن المواشي ترعى بها. وعلى هذا كانت لفظا

عبريّا فترجمت إلى العربي وهي العصا فأمر الله سبحانه الأرضة فأكلت منسأته أي عصاه التي اتّكأ عليها وقبض على تلك الهيئة (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي سقط سليمان ميّتا وظهر ذلك واتّضح (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) قوله (أَنْ لَوْ كانُوا) بدل اشتمال من الجنّ كقول القائل : تبيّن زيد وجهه. فمعنى تبيّنت الجن اتّضح ذلك لهم وظهر ، من تبيّن الشيء إذا ظهر وتجلّى ، والإبانة وبينّ وتبيّن واستبان كلها جاءت بمعنى الوضوح والانكشاف أي العلم بالشيء ، فيصحّ أن نفسر التبيّن بمعنى العلم ، فقوله : تبيّنت الجن ، يعني علمت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ـ كما يزعمون ـ ما لبثوا في العذاب فإنهم لا يعلمون الغيب ولو علموه ما بقوا إلى ما بعد سنة في العمل الشاق. وقرئ تبيّنت الإنس ونسبت هذه القراءة إلى السّجاد والصّادق ، أي علمت الإنس أن الجن لو كانوا ، الآية ... فإن الإنس كانوا معتقدين ب. هم عالمون بالغيب ، فلما سقط ميّتا بعد سنة ظهر أنّ ما زعموه كان باطلا. والحاصل أنّ يوم قبض روحه كان يوما جعله لسروره وجلس فيه ليسرّ تمام ذلك اليوم وكان في قبّة من قوارير. فبينا هو قائم متكّئا على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف يعملون ويبنون المسجد وهم ينظرون إليه نظر وحشة وخوف ولا يصلون إليه لأنه منع في ذلك اليوم وفي ذلك القصر الدخول عليه ، فإذا برجل شابّ حسن الوجه معه في القبة ، فقال : من أنت ومن أدخلك؟ فقال : أنا الذي لا أقبل الرّشى ولا أهاب الملوك ، وأدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت. فقال : ربّه أحقّ به منّي فمن أنت؟ قال : أنا ملك الموت. قال : وفيما جئت؟ قال : لأقبض روحك. قال : امض لما أمرت به ، فهذا يوم سروري وأبى الله عزوجل أن يكون لي سرور دون لقائه. وفي الاحتجاج عن الصّادق عليه‌السلام أنه سئل كيف صارت الشياطين أمثال الناس في الخلقة والكثافة وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال : غلظوا لسليمان كما سخّروا له ، وهم خلق رقيق غذاؤهم التنسّم. والدليل على ذلك صعودهم إلى السّماء لاستراق

السّمع ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلّا بسلّم أو سبب آخر. وغلظهم كان معجزة لسليمان لطفا من الله وفضلا عليه. وفي الإكمال عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : عاش سليمان عليه‌السلام سبعمائة سنة واثنتي عشرة سنة. ثم إنّه تعالى بعد ذكر قصّة سليمان وأمره لآل داود بتأدية شكر نعمه الجليلة التي أعطاهم إياها بيّن قصّة سبأ بما يدلّ على حسن عاقبة الشّكور وسوء خامة الكفور فقال :

* * *

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ

مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

١٥ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ ...) أي لولده ، وهو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان ، فالمراد به هاهنا القبيلة الذين هم من الأولاد سبأ بن يشخب المذكور ، وسبأ أبو القبيلة ،سئل النبيّ (ص) أنّ سبأ رجل هو أم امرأة؟ فقال هو رجل من العرب ولد عشرة أولاد تيامن منهم ستّة وتشأّم منهم أربعة. فأمّا الذين تيامنوا فالأزد ، وكندة ، ومذحج ، والأشعرون ، والأنمار ، وحمير. وقيل ما الأنمار؟ قال الذين منهم خثعم ، وبجيلة. وأمّا الذين تشأّموا فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسّان ، وكلّهم رؤساء القبائل والعشائر في اليمن. فسبأ أبو عرب اليمن كلّها وقد سمّيت به القبيلة (فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) باليمن ، علامة دالّة على كمال قدرة الله وعظمته وسبوغ نعمه. ثم إنه سبحانه فسّر الآية بقوله (جَنَّتانِ) أي حديقتان ذاتي أشجار كثيرة عن يمين البلد وشماله متّصلة بعضها ببعض وكان من كثرة النعم أنّ المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلى بالفواكه من غير أن تمسّ بيدها شيئا. وقيل المراد بالآية هي أنّه لم يكن في قريتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حيّة. وكان من الغريب أنّ من كان من خارج بلدهم إذا دخل عليها وفي ثيابه قمّل أو دوابّ أخرى ماتت في ساعتها. والحديقتان في تقاربهما واتّصال كلّ واحدة منهما بالأخرى فكأنّهما جنّة واحدة ، وكذا قيل (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) على إرادة القول : أي أنبياؤهم يقولون لهم : كلوا من هذه النّعم وافعلوا شكرها يزدكم من نعمه (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي هذه بلدة طيّبة أي منزهة مخصبة عذبة مياهها. والحاصل لعلّه أراد الله بكونها طيّبة حكاية عن أنبيائهم لصحّة هوائها وعذوبة مائها وسلامة تربتها ، وأنّه ليس فيها حرّ يؤذي في القيظ

ولا برد يؤذي في الشتاء ولمّا سمعوا هذا الكلام عن نبيّهم :

١٦ ـ (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ...) أي فلمّا أعرضوا عن الشكر وكفروا بأنعم الله أذاقهم الله النّقم والعذاب فقال سبحانه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) والسيل هو الماء الكثير السّائل الذي ينشأ من المطر الشديد في الجبال والصّحارى ، والعرم : جمع عرمة نحو كلم جمع كلمة وهو هاهنا الجرذ الصّحرائي ، أي الفأرة الكبيرة التي أمرها الله تعالى بنقب السدّ الذي صنعوه لمنع السيّول فلما نقبته الجرذان جاءهم السيل الذي خرب البيوت وقلع الأشجار والأبنية وأهلك جميع ما مرّ عليه ووقع فيه من الأوادم والحيوانات. وإضافة السّيل إلى العرم لأن الجرذان نقبت السّكر بكسر السين وسكون الكاف : السّد ، فخرب ، فجاءهم السّيل فهي السبب لمجيئه ، فمن باب إضافة المسبّب إلى سببه وقيل معان أخر للعرم فمن أراد التفصيل فليرجع إلى المفصّلات من التفاسير أو اللغات من الكتب. وقال القمّي إنّ بحرا كان في المين وكان سليمان أمر جنوده أن يجرّوا خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند ففعلوا ذلك والخليج نهر يقتطع من النهر الأعظم إلى موضع ينتفع به فيه. وهكذا عقدوا له عقدة عظيمة من الصّخر والكلس حتى يفيض على بلادهم وجعلوا للخليج مجاري فكانوا إذا أرادوا أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال على مسيرة عشرة أيام يمرّ فيها المارّ فلا تقع عليه الشمس من التفافها فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن أمر ربّهم ، ونهاهم الصّالحون فلم ينتهوا ، بعث الله تعالى على ذلك السدّ الجرذ وهي الفأرة الكبيرة فكانت تقلع الصخرة التي لا تستقلّها الرجال وترمي بها. فلما رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد فما زال الجرذ يقلع الحجر حتى خرب السدّ فلم يشعروا حتى غشيهم السّيل وخربت بلادهم واقتلعت أشجارهم وهو قوله تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) ، إلى قوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) وقيل : العرم العظيم الشديد وقيل الماء العظيم (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) أي عوض

جنّتيهم اللتين فيهما أنواع الفواكهة العذبة الحلوة (جَنَّتَيْنِ) أخراوين وسمّاهما جنّين لازدواج الكلام كما قال : ومكروا ومكر الله ، فمن اعتدى عليكم : فاعتدوا عليه (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) : تثنية ذوات مفرد على الأصل ، والأكل : الثمر ، وما يؤكل ، والخمط : الثمر الذي في غاية المرورة ، والبشع. وقال القمّي : هو أم غيلان الشجر المعروف ومنه كثير في طريق مكّة والخمط كلّ نبت فيه مرارة ، أو الأراك (وَأَثْلٍ) وهو شجر يقال له الطرفاء لا ثمر له ، ووصف السّدر في الآية بالقلّة لأنّ ثمره وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين. والحاصل أنّ أهل سبأ لمّا كفروا بنعم الله وأعرضوا عن شكرها ولم يسمعوا قول أنبيائهم زالت عنهم النّعم وبدّلت بالنّقم.

١٧ ـ (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا ...) أي ذلك التبديل بكفرانهم النعمة ، و (ما) مصدريّة ، أو بسبب أنهم كفروا برسلنا الذين أرسلناهم إليهم وكانوا ثلاثة عشر نبيّا (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي أن أخذ النعم والجزاء بالحرمان منها منحصر بمن يكفر منهم بنعمنا ، ومن يشكرها نزد له فيها ثم إنه بعد هلاك جماعة كثيرة بالسّيل ممن كفروا بنعم الله جاء أهل سبأ الباقون إلى نبيّهم وقالوا له : يا نبيّ الله نحن عرفنا بأن النّعم جميعها كانت من الله تعالى ، ولو أعطانا بعد ذلك نشكره على نعمه شكرا ما فعلته إلى الآن أمّة من الأمم السّابقة فلما تابوا عن كفرانهم تاب الله عليهم وفتح أبواب نعمه الموفّرة عليهم كما يقول سبحانه :

١٨ ـ (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى ...) أي بين الباقين من أهل سبأ وبين القرى (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بكثرة المياه وأشجار الفواكه المختلفة والزّروع والنّباتات التي كانت موجبة لسعة الرزق. والمراد منها هو قرى الشام أي فلسطين والأردن وأريحا وأيلة (قُرىً ظاهِرَةً) أي متظاهرة متواصلة كلّ واحدة مع الأخرى بحيث كانوا يرى أهل القرية أهل القرية الأخرى. وبالجملة كان من قصّتهم أنّا جعلنا بينهم وبين الشام التي باركنا

فيها بالماء والشجر قرى متواصلة وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من وادي سبأ إلى الشام. فمعنى الظاهرة أن الثّانية كانت ترى من الأولى لقربها منها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا السّير من قرية إلى أخرى مقدارا واحدا وهو نصف يوم وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي ليلا شئتم المسير أو نهارا بلا خوف عليكم بل مأمونون من الجوع والعطش والسّباع واللّص وكلّ المخاوف والمضارّ ، وهذا يدل على تكامل النّعمة عليهم سفرا وحضرا ونقلوا أن أهل سبأ أخذوا في التجارة حتّى الفقراء منهم حيث إنهم رأوا أنه ليس في متجرهم أي تعب ولا عناء ، فكانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى في ظلّ الأشجار المثقلة بالفواكه بأقسامها فحسد الأغنياء الفقراء كما أخبر سبحانه أنّهم أخذوا في الكفران وبطروا وبغوا فحكى عنهم :

١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ...) أي أشروا وبطروا النعمة وملّوا العافية فسأل الأغنياء الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وأودية وأراضي خالية من الأشجار والزروع ليتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الأزواد. وهذا كما كان في بني إسرائيل لما ملّوا النعم فقالوا : أخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها بدلا من المنّ والسّلوى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم فاتّخذوهم مثلا : يقال تفرّقوا أيدي سبأ أو أيادي سبا ، ويتحدثون بأمرهم وشأنهم ويضربون لهم المثل (مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرّقناهم وشتّتناهم كلّ تفريق وتشتيت حتى لحق غسّان منهم بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان إلى آخرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي هذا المذكور من قصّة سبأ (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لمن يصبر على الشدائد أو عن المعاصي ويشكر كثيرا على النّعم.

٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ...) الضّمير في عليهم إمّا أنه

يعود لبني آدم أو إلى أهل سبأ بمناسبة المقام ، يعني لما ظنّ الشيطان تسلّطه وقدرته على إغوائه لبني آدم بالقوّة الشهويّة والغضبيّة التي أودعها الله فيهم فصار صادقا في ظنّه. أو لاستماعه قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ، وقوله : ولأضلّنهم ولأغوينّهم ولأحتنكنّ ذرّيته إلّا قليلا ولا تجد أكثرهم شاكرين وما قال ذلك عن علم وتحقّق بل ظنّ السّلطة عليهم في إغوائهم فصدّق ظنّه حيث رأى الناس معرضين عن متابعة الأنبياء ومقبلين ما يدعوهم إليه (فَاتَّبَعُوهُ) أي فيما دعاهم إليه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من : هنا للتّبيين يعني المؤمنين كلّهم ، وعن ابن عباس : أي علموا قبح متابعته فلم يتّبعوه واتّبعوا أمر الله سبحانه وتعالى. ويحتمل أن تكون للتّبعيض والمراد أن بعض المؤمنين ما اتّبعه ، وهم العباد المخلصون ، أي الأنبياء والأئمّة المعصومون عليهم الصلاة والسلام.

٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) أي أن تسلّط إبليس واستيلاءه على من ثبت وحقّق ظنّه في حقّهم ما كان عن قوّة فيه تجبرهم على مطاوعته في وسوسته ، ولكنه كان باختيارهم ، ولم يقع منهم (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي إلّا لتميّز المؤمن من الشاكّ فنجازي كلّا منهما جزاءه ، فالله تعالى أراد بحصول العلم حصول متعلّقه ، أي التميّز بين الفريقين ليتحقق أن الجزاء عن استحقاق كلّ واحد لما يستحقّه ، وربّك (حَفِيظٌ) أي رقيب على كلّ شيء.

* * *

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)

وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

٢٢ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ...) أي يا محمّد قل لكفّار مكّة من بني مدلج وأتباعهم من أهل الشّرك تهكّما (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنّهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي اطلبوا منهم ما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ ، فإنهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شرّ ، ويمكن أن تكون الجملة منصوبة المحلّ حالا ممّا قدّر مفعولا لزعمتم ، أي ادعوا ما زعمتم آلهة حال كونهم غير مالكين مثقال ذرّة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي في أمرهما (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي ليس لهم شركة مع خالق الكون (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) وليس له تعالى من آلهة المشركين من معين ولا ناصر على شيء لا في تدبير أمرهما ولا في تنظيم حركاتهما ولا في إيجادهما على ما هما عليه.

٢٣ ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ ...) هذا ردّ على من زعم من المشركين أن آلهتهم من الملائكة أو الأصنام أو غيرهما شفعاءهم عند الله ، أي لا تنفعهم شفاعة الشافعين على زعمهم من الأصنام والأوثان لأنها جماد ولا تعقل الشفاعة ، وأمّا الملائكة فلأنّه لا شفاعة في ذلك اليوم (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) القمّي : لا يشفع أحد من أنبياء الله وأوليائه ورسله يوم القيامة حتى يأذن الله له ، إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الله عزوجل قد أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة ، والشفاعة للأئمة عليهم‌السلام من بعده ، ثم بعد ذلك للأنبياء. وعن الباقر عليه‌السلام : ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة رسول الله (ص) يوم القيامة. ثم إن لرسول الله الشفاعة في أمته ، ولنا الشفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشفاعة

في أهاليهم. ثم قال : إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، وإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه يقول : يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ والبرد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) الجار متعلّق بما يفهم عن سياق الكلام ، وهو ترقّب الإذن وتوقّعه ، أي حتى وقوعه ممّن يرجى الشفاعة به. والتّفزيع مع كلمة (عن) بمعنى الإزالة وكشف الفزع والمعنى أن الشافع والمشفع به يوم القيامة كلاهما ينتظران الشفاعة ولا يزالان في خوف وفزع حيث أنّهما يحتملان عدم قبول الشفاعة وردّها بل عدم الإذن لها إلى أن يسلب الفزع عن قلوب أهل المحشر بالإذن لهم بالشفاعة لهم فيفرحوا ويقول بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) متسائلين عن قوله تعالى فيما يرجع إلى الشفاعة. فعامّة أهل المحشر ، حتّى الكفرة منهم ، تنكشف لهم الحقائق يوم القيامة من وجود الصانع جلّ وعلا ، إلى وحدانيّته ، إلى صحة الرسالة وصدق رسله ، وبالجملة تنكشف لهم سائر حقائق الدين بتمامها وكمالها ، حتى انهم إذا ما رأوا رحمة الله الواسعة على العباد ووفور جوده وفيضان فضله العميم عليهم ، فإنهم ، هم أيضا ، يتوقّعون شمول الرحمة وعموم الشفاعة لهم ، بل إن الشيطان اللعين ليطمع بذلك كما يستفاد من الروايات التي منها أن الله تعالى ينشر رحمته يوم القيامة حتى يمدّ إبليس لها عنقه.

والحاصل أنهم يسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربّكم بالنسبة إلى الشفاعة (قالُوا) : قال : (الْحَقَ) أي قالوا : قال ربّنا الصدق والواقع ، فإنه أذن للمؤمنين المطيعين في دار الدنيا بالشفاعة ولم يأذن للكافرين لأنه ليس عنده غير الحق ولأن وعده صدق (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي ذو العلوّ بقهره ، وذو الكبرياء بعظمته.

* * *

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ

اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

٢٤ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) هذا الكلام تقرير لقوله (لا يَمْلِكُونَ) وإلزام لهم لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ترزقنا آلهتنا التي نعبدها. فعند ذلك يتوقّفون ويتمكّثون قهرا في الجواب (قُلِ اللهُ) أي قل ذلك جوابا عن المشركين إذ لا جواب لهم سواه ، مضافا إلى أن قلوبهم مقرّة بذلك ومعترفة به. ثم إنّه تعالى يأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهم على سبيل المحاجّة وطريق المناظرة (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عطف على قوله : (اللهُ) يعني يا محمد قل للمشركين : نحن المؤمنون نقول بأن رازقنا وخالقنا واحد وإيّاه نعبد ولا نعبد سواه أمّا الذين تعبدونهم فهم في أدنى مراتب الممكنات وأخسّها ، أي الجماد الذي لا يضرّ ولا ينفع ولا يسمن ولا يشبع ولا يشعر ولا يحس. وعبارة : لعلى

هدى ، أي على طريق الهداية والاستقامة (أَوْ فِي ضَلالٍ) أي على جادّة الغبّي والضّلالة ، والإبهام إنصاف من الخصم وتلطّف به وهو أبلغ من التصرّيح فقوله : بمن هو على هدى ومن هو في ضلال مبين ، قسم من المجادلة بالأحسن.

٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا ...) أي قل أنتم غير مسئولين بجرمنا إن كان علينا جرم (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وكذلك نحن غير مسئولين عن أعمالكم. وهذا أزيد في الأنصاف وأبلغ في الإسكات لأنّه أسند الاجرام إلى أنفسهم والعمل إلى الخصم وهذا يدل على كمال الخضوع صورة ، وغاية المماشاة مع الخصم المشاغب فيكون أدخل في ترغيب المخاطب إلى مدّعى المتكلم ولو كان الواقع خلاف ما يفهم المخاطب فإن المراد بالإجرام هو الصّغائر من الزّلات التي كان المؤمن يرجو العفو عنه (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) والمراد بالعمل هو الكفر والمعاصي العظام التي لا يرجى العفو عنها. وفي الكريمة دلالة على أن أحدا لا يؤخذ بذنب أحد ولا يؤخذ الجار بجرم الجار. ولمّا لم يؤمن الكفرة مع إيضاح الحجّة عليهم وتمامها أمر الله تعالى نبيّه بالإعراض عنهم وقال :

٢٦ ـ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ...) أي يحشرنا وإيّاكم ربّنا يوم الجمع (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) وبينكم ، أي يحكم ويفصل (بِالْحَقِ) بالعدل والإنصاف بأن يدخل المؤمنين المحقّين الجنّة والمشركين المبطلين النّار (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي الحاكم في القضايا المغلقة والعالم بكيفيّة الحكم طبق الحكمة والمصلحة.

٢٧ ـ (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ...) أي عرّفوني وأعلموني الذين زعمتم أنهم شركاء الله في استحقاق العبادة. وهذا الأمر للتهكّم والتّعجيز واستفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم (كَلَّا) كلمة ردع لهم فالمشركون لا يقدرون على إثبات صفة للأصنام مشتركة بينها وبين الله عزوجل فبتلك الصّفة تكون مستحقة للعبادة

مشاركة له تعالى (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب بقدرته الحكيم في تدبيره ، والأصنام متّسمة بالذّلة ، متباينة عن قبول العلم والقدرة رأسا حيث إنها جماد والجماد قاصر بالذات عن قبول العلم والقدرة فكيف تكون شركاء لمن ذاته علم وقدرة وحكمة ، إلى آخر صفاته الثبوتيّة التي هي عين ذاته كما بيّن وحقّق في مقامه؟

ثم بيّن سبحانه تحقّق نبوّة نبيّه على سبيل العموم بقوله تعالى وتقدسّ :

٢٨ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ...) : أي إلّا لرسالة عامة على جميع البشر من الأبيض والأسود والأحمر. وعن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال أعطيت خمسا ولا أقول فخرا. بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأحلّ لي الغنم ولم يحلّ لأحد قبلي ، ونصرت بالرّعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة. وذكر القميّ عن الصّادق عليه‌السلام أنّه قال لرجل : أخبرني عن الرّسول كان عامّا للنّاس؟ أليس قد قال الله عزوجل في محكم كتابه : وما أرسلناك إلّا كافّة للنّاس لأهل المشرق والمغرب وأهل السّماء والأرض من الجنّ والإنس؟ هل بلّغ رسالته إليهم كلّهم؟ قال : لا أدري. قال : إنّ رسول الله لم يخرج من المدينة فكيف أبلغ أهل الشّرق والغرب؟ ثم قال : إنّ الله تعالى أمر جبرائيل فاقتلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت بين يديه مثل راحته في كفّه ينظر إلى أهل الشرق والغرب ويخاطب كلّ قوم بألسنتهم ويدعوهم إلى الله عزوجل وإلى نبوّته بنفسه فما بقيت قرية ولا مدينة إلّا ودعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه.

٢٩ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) أي الموعود بقوله (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) فأين هو (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، والمخاطب هو النبيّ وأهل الإيمان ، ويحتمل أن يكون الاستفهام للتهكّم.

٣٠ ـ (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ ...) أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم به وهو يوم القيامة (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي لا تتأخّرون عن ذلك ولا تتقدّمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منها.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤))

٣١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ...) أي اليهود قالوا هكذا ، وقيل هم مشركو العرب ولعلّ هذا القول هو الأصح بقرينة قولهم

(وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) حيث إن المراد بالذي بين يديه هو التوراة والأناجيل ، واليهود كانوا مؤمنين بالإنجيل ظاهرا والإنجيل دالّ على البعث فهم لا ينكرونه (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في موضع الحساب (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتحاورون ويتراجعون بالقول ويتبادلونه في مقام الجدل بعض مع بعض و (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي القادة (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فأنتم منعتمونا من الإيمان بالله وبالرّسول وصددتمونا عن الهدى.

٣٢ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى ...) أي قال المتبوعون والقادة للأتباع على طريق الإنكار : أنحن صددناكم؟ أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) الهدى (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فأنتم باختياركم كفرتم حيث أعرضتم عن الهدى وآثرتم الضلالة عليه.

٣٣ ـ (وَقالَ ...) بل مكر اللّيل والنّهار ... أي قال الأتباع للمتبوعين مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا صدّنا عن هدايتنا إلى الإيمان. وهذا إضراب عن إضرابهم. وذلك كان (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) أي أنتم كنتم قوّادنا ورؤساءنا وكنّا من رعاياكم المأمورين بأوامركم المنتهين بنواهيكم ، وقد كنتم تأمروننا بأن نكفر بالله (وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي شركاء ولو لا أنتم لكنّا مؤمنين موحّدين (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي أخفاها الفريقان خوف الفضيحة والتّعيير ، وقيل أظهروا الندامة لأن صيغة أسرّ مما يفيد الأضداد حيث إنّ الهمزة لها الصّلاحيّة للإثبات والسّلب. وقيل إن ضمير أسرّوا راجع إلى القادة المتبوعين يعني هم أخفوا من الأتباع ندامتهم على إضلالهم حينما رأوا العذاب وشاهدوه خوف التعيير (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ) ، الآية ... إيراد المستقبل بلفظ الماضي لتحقّق وقوع الفعل فإنّهم بحكم من وضع الغلّ في عنقه (هَلْ يُجْزَوْنَ) الاستفهام للإنكار أي : (لا يجزون إلا ما كانوا يعملون) ثم إنّه سبحانه تسلية للنبيّ الأكرم صلّى الله

عليه وآله قال في تكذيب قومه له (ص) :

٣٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ...) أي رسولا منذرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي رؤساؤها المتنعّمون والمتموّلون من أهل تلك القرية قالوا لنبيّهم صلّى الله عليه : (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) تخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم الأصل في العناد ، ولأنّ معظم الداعي على التكذيب هو التكبّر والتفاخر بالزخارف الدنيوية والانهماك في الشّهوات ، ولهذا أخذوا الإتراف علّة للتفوّق وعدم تعذيبهم.

* * *

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

٣٥ ـ (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً ...) أي من كان أكثر أموالا (وَأَوْلاداً) أي قوّة فهو أولى بدعوى الرّسالة والإمارة على الناس ، فنحن أولى بها (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأننا أكرم عند الله منكم في الدنيا فلا يهيننا

بالعذاب يوم القيامة. يعني أن الكفرة قاسوا أمر الآخرة بأمر الدّنيا ، فكما أنّهم في الدنيا متنعّمون ، فهم كذلك في الآخرة لأنهم زعموا أن تنعّمهم في الدنيا حصل لهم لكونهم عبادا مكرمين ومحبوبين عند الله تعالى ففي الآخرة هم كذلك. والحاصل أن المترفين أصل في العناد والإضلال والضّلالة في كل قوم وفي كلّ عنصر وزمان.

٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ ...) هذه الكريمة ردّ لحسبانهم الفاسد وزعمهم السخيف. أي قل لهؤلاء المترفين الجهلة : إن الله تعالى يوسّع الرزق ويضيّقه بحسب المصالح والحكم التي يراها وهو عالم بها ، لا لكرامة بعض وهوان آخر كما زعمه الجهلة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يدرون ولا يدركون ذلك ، ويحسبون أن كثرة الأموال والأولاد لشرف الإنسان وكرامته ، في حين أنّهما ربما كانا لهوانه ولاستدراجه وقد صرّح سبحانه بهذا المعنى بقوله :

٣٧ ـ (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ...) قربى أو : تقرّبا. وزلفى وزلفة نحو قربى وقربة في محلّ النّصب بتقرّبكم كقوله أنبتكم نباتا (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من ضمير الخطاب والتقدير : الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا منكم (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) بإنفاق ماله في سبيل الله ، وتعليم ولده الخير والصلاح وإرشادهم إلى طريق الهدى لا إلى ما فيه الضلالة والخسران كعصرنا هذا حيث نوقفهم بأيدينا في المهالك والمواقف الخطرة وبالنتيجة ننصّرهم ونهوّدهم ونمجّسهم كما في الرواية أعاذنا الله سبحانه من شرّ أنفسنا (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) أي يجازون الضّعف إلى العشر وزيادة إلى سبعمائة كما في الحديث ، وإضافة الجزاء إلى الضّعف من إضافة المصدر إلى مفعوله (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي في القصور السّامية العالية مأمونون من جميع المكاره والآلام. وفي القمّي عن الصّادق عليه‌السلام وقد ذكر رجل الأغنياء ووقع فيهم فقال له عليه‌السلام : اسكت فإنّ الغنيّ إذا كان وصولا برحمه بارّا بإخوانه

أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول وما أموالكم إلخ ...

٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا ...) أي بالإبطال والرّد والطّعن (مُعاجِزِينَ) بزعمهم أنّهم أعجزونا بذلك وظنّهم أنهم يفوتوننا ونحن لا نقدر على أخذهم والبطش بهم (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) فالذين يسعون ويهتمّون في إبطال الآيات ، أي القرآن أو الأعمّ منه ومن سائر الآيات كالمعجزات الأخر السماوية والأرضيّة فعمّا قريب يعلمون صدق ما جاء به رسلنا حينما حضورهم في مشهد القيامة عند ربّهم يوم يقوم الأشهاد.

٣٩ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) يتبادر إلى الذهن في بدء الأمر أنّ الآية تكرار لما قبلها ، ولكن ليس الأمر كذلك حيث إن هذه في شخص واحد في حالين وما سبق لشخصين. ويمكن أن يقال إنّ التكرار باعتبار اختلاف الفائدة. فإن الأولى توبيخ للكفار والخطاب معهم ، والثانية وعظ ونصح للمؤمنين. فكأنّه تعالى بيّن أنّ إعطاء النعمة للكفّار في الدّنيا لا من جهة الكرامة ولا يكشف عن سعادتهم ، بل يمكن أن يكون استدراجا لهم ، أو لمزيد عقوبتهم حيث يصرفون مال الله في غير موضعه المقرّر له ، بخلاف أغنياء المؤمنين فإن زيادة النعمة عليهم موجبة لمزيد درجاتهم وكاشف عن زيادة سعادتهم لإنفاقهم المال في سبيل الله سبحانه ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي ما بذلتم من أموالكم التي رزقكم الله في وجوه البرّ فهو يخلفه أي أنه تعالى يعطيكم عوضه عاجلا وآجلا بزيادة النعمة في الدنيا وعظيم الثواب في العقبى. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى أنه قال : عبدي ، أنفق أنفق عليك وقال (ص) : لم تطلع الشمس في كل يوم إلّا وينزل في صبح ذلك اليوم ملكان عن اليمين والشمال واحد ينادي اللهمّ أعط المنفق خلفا أي عوضا ، والآخر يقول : اللهمّ أعط كلّ ممسك تلفا. وفي رواية ثانية يقول أحدهما : هب المنفق خلفا ، ويقول الآخر : هب الممسك تلفا ويقول واحد :

ليت الناس لم يخلقوا والآخر يقول : ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا. وعن الرّضا عليه‌السلام ، قال لمولى له : هل أنفقت اليوم شيئا؟ فقال : لا والله. فقال عليه‌السلام : فمن أين يخلف الله علينا؟ فإذا حصل الضمان والوعد والخلف منه تعالى فإمساكك عن البذل والإقراض إمّا سوء ظنّ بالله ، أو من قلة العقل ، مع أن المال في يد العبد على سبيل العارية. (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه الرازق في الحقيقة وغيره واسطة ، ولأن الغير غالبا إذا أعطى شيئا فإمّا لجلب نفع أو لدفع ضرر بخلافه تعالى فإنّهما محال عليه لأنه الغنيّ بالذات ولا يتطرّق عليه الضرر والإضرار فيعطي بلا عوض ولا ترقّب شيء إلّا شكر نعمائه ، لا لاحتياجه تعالى إليه بل لمزيد النعمة على العباد.

* * *

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

٤٠ و ٤١ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ ...) أي يبعث المشركين ويقول للملائكة : هل إياكم (كانُوا يَعْبُدُونَ) هذا السؤال يكون توبيخا للمشركين وتقريعا لهم وإقناطا لهم عمّا يتوقعون من شفاعتهم. وتخصيص الملائكة يحتمل من باب أنهم أشرف شركائهم وهم الصّالحون للخطاب. فلمّا خوطبوا بذلك الخطاب (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا) أي قالت الملائكة : تنزيها لك من أن نعبد غيرك أو نتّخذ معبودا سواك ، أنت ناصرنا وأولى بنا من دون هؤلاء الكفّار ودون كلّ أحد ، وما كنّا نرضى بعبادتهم إيّانا مع علمنا بأنّك ربّنا وربّ كلّ شيء ، وأنت المعبود بالحقّ ولا معبود سواك (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي يطيعونهم فيما يأمرونهم ويدعونهم إليه من عبادة الملائكة أو الأصنام أو غيرهما. وقيل إنّ مرادهم من الجنّ هو إبليس وأعوانه كان (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي المشركون جميعا كانوا مصدّقين بالشياطين مطيعين لهم فيما يزيّنون لهم من عبادة الملائكة وغيرهم.

٤٢ ـ (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ...) أي في الآخرة لا يملك العابدون ولا المعبودون نفعا بالشفاعة ولا ضرّا بالتّعذيب إذ الأمر فيه لمالكه أي الله الواحد القهّار والخطاب للملائكة والكفرة.

٤٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) أي ظاهرات واضحات (قالُوا ما هذا) أي محمّد (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) يمنعكم فيستتبعكم في الدلالة على الهداية والدّعاء إلى اتّباعه (وَقالُوا ما هذا) يعنون به القرآن (إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي كذب مختلق (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي لله تعالى أو للنبيّ أو القرآن أو الإسلام (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ونسبة السحر إلى الله تعالى باعتبار أنه بزعمهم موجود خياليّ شبيه بالسّحر ، وإلى

النبيّ إما باعتبار بيانه ومنه إنّ من البيان لسحرا ، وإمّا باعتبار أن السّحر مصدر بمعنى السّاحر وبهذا الاعتبار أيضا كونه ساحرا بزعمهم بلحاظ غرابة كلامه ولطافته المؤثّرة في القلوب المحوّلة إيّاها من حال إلى حال كالسّحر ، ويسمّى هذا بالسّحر الكلامي ، وإلى القرآن باعتبار ألفاظه أو إعجازه. وإسناد الإفك إليه بلحاظ معانيه ، وإلى الإسلام لجهة مبانيه المتقنة وقواعده المحكمة التي يرغب فيها كلّ من تفكّر وتدبّر ، ويرغب ويميل إليها قهرا وبلا اختيار كالسّحر. وفي التصريح بكفرهم وحصرهم الحق في السّحر مبادهة وبلا تأمّل أبلغ إنكار وتعجيب من أمرهم ثم أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن برهان بل محض تقليد وعناد فقال عزّ من قائل :

٤٤ ـ (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ ...) أي ما أعطينا مشركي قريش كتبا قط يتعلّمون درسها حتّى يعلموا أن ما جئت به حق أو باطل ، سحر أو معجزة ، وإنما يقولون ما يقولون من تكذيبك وإنك ساحر أو مجنون بهوى أنفسهم لا عن علم ومعرفة فيصحّح لهم الإشراك وقول ما يقولون فيك (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي ما بعثنا قبلك من رسول ينذرهم سوء عاقبة الشّرك ويدعوهم إلى تركه لكي يصحح اشراكهم ويكون حجّة لهم ، فمن أين وقعت لهم هذه الشبهة فتمسّكوا بها وأصرّوا عليها ولم يدعهم إليها أحد؟

٤٥ ـ (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي كذّبوا الأنبياء والرّسل الذين كانوا قبلهم من الأمم كما يكذّبك هؤلاء من أمّتك (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي ما بلغ قومك عشر ما آتينا أولئك من القوّة وطول العمر والمال (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) أي الذين كانوا قبل قومك كذّبوا رسلهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي انظر إنكاري عليهم بالتّدمير والإهلاك ، فليحذر أهل مكة مثله. وليس في التكذيب تكرير فإن الأوّل مطلق والثاني مقيّد. وقيل إن

الأول للتكثير والثاني للتّكذيب.

* * *

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

٤٦ ـ (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ...) أي بخصلة واحدة أو بكلمة واحدة وهي كلمة التّوحيد وقيل بطاعة الله بدليل قوله سبحانه : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) وهذه الجملة محلّها مجرور بالبدليّة أو عطف بيان ، ويمكن أن يكون مرفوعا بتقدير هو ، أو منصوبا بأعني. والمعنى هو الاستقامة والاعتدال في أمور الدّين لنيل رضى الله تعالى والإعراض عن الاعوجاج والتقليد وذلك بأن يكون قيامكم بأمر الدين (مَثْنى وَفُرادى) أي متفرّقين اثنين اثنين حتى يتشاور كلّ واحد مع صاحبه ، أو واحدا واحدا حتى تستريحوا من تشويش الخواطر بالازدحام حين التفكّر ، فإن الحق إنّما يتبيّن للإنسان بالتفكّر في نفسه (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمري وما جئت به لتعلموا حقّيته وتعرفوا أنّ (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي ليس به جنون موجب لادّعائه الرّسالة

تزعمونه (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) يخوّفكم (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) من عذاب صعب قريب وقوعه يوم القيامة (بَيْنَ يَدَيْ) كناية عن قرب وقوع الشيء عذابا وغيره.

٤٧ ـ (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ...) يعني أنّ كلّ ما تحملت في أداء الرسالة وتبليغها من المشاقّ والتكاليف فأجره لكم ، وما أريد منكم أجر رسالتي ولا أطالبكم بشيء ، كما قال تعالى قل لا أسئلكم عليه أجرا إلّا المودّة في القربى قل لا أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن إلخ .. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فأجر رسالتي أعظم شأنا وأعلى ممّا تقدرون على أدائه وإعطائه فهو على الله لأنّه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي مطّلع وشاهد على خلوص نيّتي وصدق دعوتي بلا طمع في الأجر منكم ، فهو القادر على كلّ شيء ويعطيني كل ما أريد منه بلا كلفة ولا عناء.

٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ ...) أي يلقيه إلى أنبيائه وينزله على من يجتبيه من عباده ، أو يرمي به الباطل فيدمغه ، وهو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي عالم بجميع الأمور الغيبيّة ، ولذا يعلم ويعرف من له الأهليّة لإلقاء الحق والوحي إليه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإنّه المطّلع على السرائر وضمائر عباده فيعطيهم على مقدار استعدادهم وقابليّتهم فكلّ يعمل على شاكلته وعلى طبق خلقته التي خلقه الله عليها وطبيعته وأهليته الذاتيّة.

٤٩ ـ (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ...) أي جاء الإسلام أو التّوحيد وزهق الكفر ولم يبق له أثر لا بدءا ولا إعادة ورجوعا. وفي الأمالي عن الرّضا عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكّة وحول البيت ثلاثمئة وستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، جاء الحق وما يبدأ الباطل وما يعيد.

٥٠ ـ (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ ...) أي إن ضللت عن الحق وطريق

الهدى ويكون وبال ضلالي على نفسي (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) إلى الحقّ (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي يهدى ربّي تفضّلا ورحمة منه بي.

* * *

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ...) أي يفزع الكفرة عند الموت أو البعث أو يوم بدر ، فلو رأيتهم لرأيت أمرا فظيعا عجيبا من هولهم (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتوننا بهرب أو حصار أو حصن (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من ظهر الأرض إلى بطنها أو من الموقف إلى النار أو من المعسكر إلى الحفر المعدّة لذلك.

٥٢ ـ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ...) التناوش هو التناول ، فمن أين لهم الوصول إلى الإيمان بعد فوات الوقت ومن أين يتيسّر لهم أن يأخذوا الإيمان بسهولة (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من عالم الآخرة فإن محل التكليف بالإيمان هو الدنيا وهم في عالم الآخرة وقد ابتعدت دار التكليف.

٥٣ ـ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ...) أي كفروا بالقرآن أو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوان التكليف (وَ) هم الآن (يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) أي يرجمون بالظنّ ويتكلّمون بما غاب علمه عنهم من نفي البعث أو إنكار الصانع والرّسالة والجنّة والنّار وغيرها (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني من جهة بعيدة عن حال الرّسول وحال الآخرة.

٥٤ ـ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ...) من قبول الإيمان أو من نفع التصديق والعمل الصالح في الآخرة (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي موجب للرّيب والتحيّر ولم يؤمنوا ولم يصدقوا لضياعهم في الشكوك.

* * *

سورة فاطر

مكية وآياتها ٤٥ نزلت بعد الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) قد مرّ تفسير الحمد في أوّل سورة فاتحة الكتاب فليراجع. وأما (فاطِرِ) فمشتق من الفطر وهو الشقّ الخاص أي الشق بلا افتراق ويعبّر عنه بالصّدع أيضا إذا أسند الصّدع إلى الشيء لا إلى القوم ونحوه ، فإنه حينئذ بمعنى الافتراق. والمعنى أنّه تعالى شقّهما لنزول الأرواح من السّماء وخروج الأجساد من الأرض. وأمّا قول كثير من كبار المفسّرين في معنى الكريمة بناء على اشتقاق فاطر من الفطر بمعنى الشق ، كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه فهو خلاف ظاهر الشريفة من إسناد الفطر وإضافته إلى نفس السموات والأرض لا إلى

العدم. فهو تعالى شاقّهما لا شاقّ العدم لإخراجهما منه. ويحتمل أن يكون من فطره يفطره فطرا أي خلقه والمعنى : خالق السّموات والأرض وموجدهما ومبدعهما ومبتدئهما على غير مثال ، ويؤيد هذا الاحتمال قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ففطر الله الخلق من باب خلق أي خلقهم ، والاسم الفطرة بالكسر الخلقة. وعن ابن عباس كنت لا أدري ما فاطر السّماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها ، أي ابتدأتها واخترعتها ، فعلمت أن فطر كان معناه ابتدأ واخترع (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وأنبيائه والصالحين من عباده ، ويبلّغون إليهم رسالاته بالوحي إلى الأنبياء وبالإلهام إلى الأولياء والأوصياء وبالرؤيا الصّادقة إلى المؤمنين ، أو وسائط بين الله وخلقه في إيصال آثار صنعه إليهم وإيصال الفيوضات إليهم (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى) ، الآية ... الجملة صفة للملائكة. واختلاف الأجنحة لتفاوت مراتبهم ، وإعطاؤها لتسهيل النّزول والعروج ، وللتسريع فيما يؤمرون به. وليس ذكر هذه الأعداد للحصر بل لبيان المثل ، ويدل على عدم الخصوصية لهذه الأعداد وعدم بيان الحصر قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) وقول ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رأيت في ليلة المعراج جبرائيل كان له ستمائة جناح. ثم بيّن سبحانه إحسانه على عباده بقوله :

٢ ـ (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ...) يعني إن الله تعالى لو أراد لعباده الخير وأن يفتح لهم باب رحمته (فَلا مُمْسِكَ لَها) أي لا يقدر أحد أن يعبده ويمنع خيره ورحمته النازلة إليهم من عنده سبحانه (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي ما يحبسه ويمنعه من نعمه ورحماته كنعمة الأمن في البلاد وغيرها والصحة والعلم والنبوّة والولاية فلا يتمكّن أحد أن يرسلها ويجيء بها من عنده ومن تلقاء نفسه (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إمساك الله سبحانه ومنعه ، لأنها أمور ليست تحت قدرة البشر واختيارهم لأن إرسال الرّسل من أعظم النعم وقد وجدت في بعض كلمات أفلاطون الحكيم أن إرسال الرسل وبيان الناموس للخلق من أعظم النعم وأنه من

موجبات البقاء ولولاه لآل أمر الناس إلى الفناء والاضمحلال.

فمن يقدر غيره جلّ وعلا على الإتيان بهذه النّعمة التي لا مرسل لها إلّا هو سبحانه ، وقس على هذه غيرها (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على ما يشاء وليس لأحد أن ينازعه فيه.

و (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل ما يفعل إلّا بعلم وإتقان.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ...) أي احفظوا (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وآتوا حقّها بشكر مولاها قولا وعملا واعتقادا. والنعمة أعمّ من الظاهرية والباطنيّة التي من جملتها أنّه خلقكم وأوجدكم وأحياكم وأقدركم

وخلق لكم أنواع الملاذّ. والنّعم مع كثرتها منحصرة في قسمين : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإبقاء ، ولذا قال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) إشارة إلى نعمة الإيجاد في ابتداء الوجود ، ثم قال : (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرّزق إلى الانتهاء. وهذا استفهام تقرير لهم ، ومعناه النفي ، ليقرّوا بأنّه لا خالق إلّا الله يرزق من السّماء بالمطر ومن الأرض بالنبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فأين تتوجّهون وتنصرفون عن التّوحيد إلى إشراك غيره معه؟ ثم إنه تعالى يسلّي نبيّه عن تكذيب قومه له فيقول :

٤ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ...) أي إن نسبك أهل مكة إلى الكذب (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فتأسّ بهم في الصّبر على تكذيبهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازيك على الصبر ويجازيهم على التكذيب. ثم إنه تعالى يحذّر الناس من الغرور بحطام الدنيا الذي يستلزم الغفلة عن الآخرة ويخوّفهم من مكر الشيطان وخدعه فيقول :

٥ و ٦ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ...) أي وعده بما أرسل رسله به من البعث وما يتلوه ، فهو حقّ لا ريب فيه ولا خلف (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا تغشّنكم فيلهيكم التمتّع بها عن السعي في طلب الآخرة التي خلقتم لها بمقتضى قوله خلقتم للبقاء لا للفناء والباقي هو الآخرة والدّنيا فانية (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي لا يخدعنّكم عن طاعة الله وكرمه ومغفرته الشيطان الخدّاع بأن يمنّيكم المغفرة مع حمله إياكم على الإصرار على المعصية والجريرة نعوذ بالله منه. (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة قديمة وهو يدعوكم إلى ما فيه الهلاك والخسر ويصرفكم عن أفعال الخير ويدعوكم إلى أعمال الشر وترك القربات (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) لا تطيعوه واحذروه في عقائدكم وأفعالكم وجميع أحوالكم. وليعلم أن من حيله

التسويف في التوبة مع أن الله تعالى أكّد في تعجيلها ، ولا بدّ للعبد أن يغتنم الفرصة فإنها تمرّ مرّ السّحاب.

وقد سئل حكيم : بأيّ كيفيّة نأخذ الشيطان عدوّا؟ قال : لا تمشوا وراء أمانيكم ولا تتّبعوا الهوى وافعلوا ما يوافق الشّرع ويخالف الطّبع ، فالشيطان (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أعوانه وأنصاره ومتابعيه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) من أهل النار المسعّرة. وهذا تقرير لعداوة الشيطان وبيان لغرضه في دعوته. ثم يبيّن حال من أجاب الشيطان في دعوته ومن خالفه فيها فقال عزّ وعلا :

٧ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ...) هذا حال الفئة الأولى أي المتابعين للشيطان (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هذا وعد للفئة الثانية أي المخالفين لدعوته لعنه الله.

* * *

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)

وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ...) أي هل إنّ من يعمل عملا سيّئا ويعتقد أن عمله حسن ، هو كمن لم يزيّن له سوء عمله فينظر إلى ما عمله فيراه غير حسن وأنّ عليه أن يجدّ ويجتهد في تحرّي الأمور حتى يعرف الحقّ ويعمل بموجبه؟ ... ليس الأمر كذلك. فقد حذف الجواب الذي هو (كمن لم يزين له حسن عمله) أو (كمن اهتدى بهدى الله) فإن هذا التقدير أحسن وأنسب لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فالمراد بمن يضلّه الله هو الذي ما شمله اللّطف والعناية الرّبانيّة لفرط عناده وغاية جحوده ، ولذا كان لا يميّز الحسن من القبيح ويرى ما يفعله ويعتقده من القبائح كالشّرك والتكذيب حسنا ، وما يتركه بزعم أنه قبيح كالإيمان بالله تعالى والتصديق لنبيّه يكون في الواقع حسنا ، بخلاف المهتدي بهدايته سبحانه فإنه مشمول بألطاف الله تعالى ومراحمه ، وهو لا يزال متفحّصا عن الحق والحقيقة ويكون الحق نصب عينيه ، فبهدى الله يهتدي ، وبعنايته يوفّق للتميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح فيتّبع الحسن فالأحسن ، ويترك القبيح بجميع مراتبه. والحاصل أنّه تعالى يخذل من لا ينفعه اللّطف ، ويلطف بمن ينفعه. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام أنه سئل عن العجب الذي يفسد العمل ، فقال : للعجب درجات : منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنّه يحسن صنعا (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وذهاب النفس كناية عن هلاكها. أي لا توقع نفسك في المهلكة لأجل الحسرات عليهم وعلى غيّهم وإصرارهم على تكذيبك. والحسرة شدّة الحزن على ما

فات من الأمر (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) عارف بما يفعلون فيجازيهم عليه.

٩ ـ (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ ...) ثم عاد سبحانه إلى أدلّة التوحيد وبيانها وذكر شواهد القدرة لأن في هبوب الرّياح دليلا ظاهرا على الفاعل القادر. وبيان ذلك أن الهواء قد تسكن وقد تتحرّك وتتموّج فتهبّ شرقية أو غربية وفي تلك التحرّكات المختلفة قد تنشئ السّحاب وقد لا تنشئه وهذه الاختلافات الناشئة من طبيعة واحدة دليل واضح وبرهان ساطع على مسخّر ومدبّر لها عليم حكيم في كمال القدرة وغاية السّلطة. فريح الشمال والدّبور والجنوب قد (فَتُثِيرُ سَحاباً) وذلك بأن تهيّجه (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) التفات إلى التكلم يفيد الاختصاص ، أي إلى أرض مجدبة فيمطر على ذلك البلد (فَأَحْيَيْنا بِهِ) يعني بمائه المستكن في السّحاب (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فأنبتت بعد يبسها. وروى القمّي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سئل عن السّحاب أين يكون؟ قال يكون على شجر على كثيب على شاطئ البحر يأوي إليه ، فإذا أراد الله عزوجل أن يرسله أرسل ريحا فأثارته فوكّل به ملائكة يضربونه بالمخاريق وهو البرق فيرتفع. وزاد في الكافي : ثم قرأ هذه الآية : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) ، الآية ... (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي مثل إحياء الأرض إحياء الأرواح.

١٠ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ...) أي من أراد الشّرف والعزّ والتّعالي فليطلبها منه بطاعته ، فإنها كلّها له ومن عند دنيوية وأخرويّة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي التوحيد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) في جملة (يَرْفَعُهُ) احتمالات ثلاثة : الأوّل : أن الضمير المستتر فيها يرجع إلى العمل الصالح ، والبارز يرجع إلى الكلم الطيّب لأن التوحيد وهو قول لا إله إلّا الله بغير العمل الصالح كالسحاب بلا مطر وكالقوس بلا وتر. فالقول لا بدّ وأن يعقبه العمل حتّى يكون منتجا. وفي بعض الآيات بعد

الأمر بالإيمان بالله ورسوله أيضا أمر بالعمل الصّالح (وَاعْمَلُوا صالِحاً) والثاني : عكس الأول بمعنى أن الضّمير المستكنّ يرجع إلى الكلم الطيّب ، لأن العمل من غير الموحّد ليس بنافع ، فالتوحيد سبب لقبول الأعمال ومستلزم لإخلاص العمل. والثالث : أن المقدّر راجع إلى الله تعالى ، أي أن الله سبحانه يرفع الأعمال الصّالحة إليه ويجعلها في حيّز القبول. وعلى هذا الاحتمال الأخير يكون الكلام مستأنف غير راجع إلى ما قبله. يعني كما أن الكلم الطيّب يصعده إليه تعالى ، فكذلك العمل الصّالح يرفعه إليه ويقبله. وقيل هذه الجملة بيان لما يطلب به العزّة وهو التّوحيد والعمل الصالح. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من قال لا إله إلّا الله ، طمست ذنوبه كما يطمس الحرف الأسود من الرّق الأبيض ، فإذا قال ثانية لا إله إلّا الله مخلصا خرقت أبواب السّماء وصفون الملائكة حتى تقول الملائكة بعضها لبعض : اخشعوا لعظمة أمر الله ، فإذا قال ثالثة مخلصا لا إله إلّا الله لم تنته دون العرش ، فيقول الجليل : اسكتي فو عزّتي وجلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه. ثم تلا هذه الآية (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يعني إذا كان عمله خالصا ارتفع قوله وكلامه (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي المكرات السّيئات بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار النّدوة حيث كان يجتمع عتاة قريش وجبابرتها لتدبير المكائد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحيث تبنّوا أن يقوموا بواحدة من الأمور الثلاثة حبسه ، أو قتله ، أو إجلائه عن وطنه مكّة ، وهذا يشمل مكرات أصحاب السّقيفة فإنّ هذه مولّدة من تلك الندوة الخبيثة التي كانت ضد النبيّ (ص) وعقبتها ندوة ضد الوصي (ع) (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) جزاء مكرهم الذي (هُوَ يَبُورُ) أي يبطل ولا ينفذ ويفنى. ثم إنّه سبحانه بعد ما بيّن حال أهل الإيمان والكفر ، عاد إلى بيان دلائل التوحيد والدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور وإن كانت على قسمين : (آفاقية وأنفسية) فلمّا ذكر سبحانه شطرا من الشواهد الآفاقية من السّماوات وما يرسل منها من الملائكة والرّياح والأمطار ، والأرض وما يولج فيها من المياه

النازلة من السّماء ومن الأموات والحشرات ونحوها ، وما يخرج منها النباتات والأشجار والأنهار والمعادن والأبدان (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) وغيرها ، أخذ سبحانه بذكر الدلائل الأنفسيّة فقال :

١١ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ...) إمّا باعتبار كون البشر تولّدوا من آدم عليه‌السلام وهو مخلوق من التراب ، وإمّا باعتبار أن بني آدم وإن كانوا من النّطف إلّا أن النّطف مبادئها الأغذية التي هي في مناهيها من التراب ، فبنو آدم أولهم من التراب وهم مخلوقون منه كأبوهم. فضمير الجمع في صدر الآية لعلّ بهذا الاعتبار. وأما قوله بعد ذلك (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فهو باعتبار نسل آدم عليه‌السلام على ما هو المتعارف المعتاد (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا متنوّعة ذكرانا وإناثا كقوله (يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) ويؤيّده قوله (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ذلك معلوم له تعالى لا لغيره وهو من الغيب الذي اختصّه بذاته المقدسة حتّى أن والأمّ الحامل لا تعلم منه شيئا (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي ما يزاد في عمر من يطول عمره ، وما ينقص من عمره إلّا في ينقص من عمره ثابت ومتحقّق في كتاب علمه سبحانه لعله اللوح المحفوظ ولا يعلمه غيره تعالى ، وهو مما اختص به وحده (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي ما ذكر من الحفظ والنقص والزيادة والخلق فإنّه كله سهل عليه جلّ وعلا.

* * *

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

١٢ ـ (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ ...) العذب الهنيء شربه بخلاف المالح المر أو الشديد الملوحة. فالبحران من هذه الجهة ليسا بمتساويين. نعم من جهة استخراج المنافع والنعم كلاهما متساويان في ما فيهما من النّعم المستخرجة إذ قال سبحانه (وَمِنْ كُلٍ) من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) هو الأسماك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي اللآلئ واليواقيت والمرجان تجعل زينة وتلبس (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) على وزن فواعل يعني جواري تشقّ الماء شقّا من مخرت السّفينة تمخر مخرا ومخورا إذا جرت بشدّة فشقّت الماء بصددها مع صوت يسمع (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من فضل الله بالانتقال فيها والتجارة بها وبركوبها وقيل : البحران هما مثلان للمؤمن والكافر فإنّهما لا يستويان من جهة الإيمان والكفر ولكن في نظام عالم الوجود يستفاد من كليهما وينتفع بهما وإلّا يلزم لغويّة خلق ما لا فائدة فيه وهو محال على الخالق الحكيم والصانع العليم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله الذي خلق لكم تلك النّعم فإنكم إن تشكروها تزيد.

١٣ ـ (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ...) مرّ تفسير نصف هذه الشريفة الأول فلا نكرّره ، فصاحب هذه القدرة والعظمة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) مدبّر هذه الأمور كلّها وخالق تلك النّعم الجليلة ، وهو خالقكم وبارئكم الذي انحصر به ملك الدنيا والآخرة ، وأمّا المعبودات التي أشركتموها معه ف (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي لا يملكون القشرة الرقيقة الملتفّة على النّواة. وهذه مبالغة في القلّة ، ولكنّها ليست مبالغة في الواقع ونفس الأمر لأنهم لا يملكون خلق شيء ولا إيجاده ، فهم بحكم من لا يملك شيئا ، لأن معبوداتهم جمادات صمّاء بكماء ، وهي مملوكة لمن يملك الأشياء بحذافيرها كبيرها وصغيرها.

١٤ ـ (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ...) لأنّهم جماد (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي باشراككم حيث يبرءون من عبادتكم إيّاهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي يا محمد لا يخبرك بحقيقة الحال وواقع الأمر مثل ما يخبرك العليم بالحقائق والبصير بالأمور وهو الله تعالى. ثم أخذ سبحانه في بيان ما هو مستلزم لكونه حقيقا بالمعبودية وبطلان معبوديّة غيره لعدم استحقاقه أبدا ، وهو غناؤه المطلق الذي به أنعم على جميع الموجودات من الدّرة إلى الذّرة وفقر غيره غاية الفقر ونهاية الاحتياج بحيث لا يكون قابلا لأيّ تعظيم وتكريم فكيف للعبودية فقال تعالى :

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها

لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

١٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ...) أي أنتم المحتاجون إليه (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن عبادتكم والمستغني على الإطلاق والمنعم على الممكنات طرّا بحيث استحقّ عليهم الحمد والشكر الجزيل. وقوله (الْحَمِيدُ) إشارة إلى هذا أي جهة استحقاقه الحمد والثناء الجميل.

١٦ و ١٧ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ...) هذا بيان لعدم الحاجة إليهم ، وإظهار لكمال قدرته ، ووعيد لهم بالإهلاك إذا لم يرجعوا عمّا كانوا عليه من الطغيان (وَما ذلِكَ) التهديد بإهلاكهم والإتيان بغيرهم من العباد الصالحين (عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ليس ممتنعا عليه ولا صعبا لديه فإنه يقول للشيء كن فيكون. وبالمناسبة نذكر حكاية لطيفة لأحد الأعلام الذين عاصروا الشيخ مرتضى الأنصاري رحمهما‌الله تعالى ، ويسمّى بشريف العلماء ، ففي سنة مجدبة لم ينزل فيها مطر أبدا طلب سكان القرى المجاورة من شريف العلماء أن يخرج بهم إلى الفلاة ليصلّي بهم صلاة الاستسقاء لعلّ الله تعالى يرسل الغيث من عنده. فخرج وصلّى بهم ثم رفع يديه نحو السماء وقال : اللهم إن أردت أن تهلك هؤلاء الجماعة بمنع المطر عنهم وتأتي بخلق جديد ، فإنك قادر على ذلك ، ولكن لم يأت خلق جديد إلّا كان أسوأ من سابقه ، فارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين. فما استتم كلامه حتى هطل المطر عليهم وعمّتهم الرحمة. فسبحان من هو لطيف بعباده.

١٨ ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وأمّا قوله سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فإنه قول صدر بحقّ الضالّين المضلّين لغيرهم فإنّهم يحملون أثقال إضلالهم للآخرين مع أثقال ضلالهم ، وكلّ ذلك أوزار لأنفسهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي تطلب نفس مثقلة بالذنوب (إِلى حِمْلِها) إلى أن يتحمّل عنها الآخرون شيئا من ذلك الحمل (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المدعوّ إلى التحمّل صاحب قرابة بالنسبة إلى الدّاعي كابنه وأبيه وأخيه وأمّه رغم إشفاق هؤلاء الأقارب عليه.

وعن ابن عباس أنه قال : يوم القيامة يقول كل واحد من الأب والأم لابنه احمل عنّي وزرا واحدا فيقول الولد حسبي ما عليّ فأنت (تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي الخائفين من بطشنا وعذابنا مع أنه غائب عنهم ولم يرده ، فهم يصدّقون ربّا رأوه بعين عقولهم وآمنوا به وخافوا عذابه ، غائبين عن عذابه. وهذا كقوله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) يعني إنذارك لا ينفع إلّا الذين يخشون ربّهم في خلواتهم وغيابهم عن الخلق ، أو لا ينفع إلّا الّذين هم من أهوال القيامة خائفون مع أنهم ما رأوا الأهوال ولا العذاب لكنهم معتقدون بها (وَمَنْ تَزَكَّى) أي طهّر نفسه عن دنس المعاصي والأوزار (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي نفعه عائد إلى نفسه لا إلى غيره. وهذه الجملة معترضة مؤكّدة للخشية وإقامة الصّلاة. فإنّهما من شعب التزكية (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي هو تعالى يجازيهم على تزكيتهم فإنهم صائرون إليه.

* * *

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

١٩ إلى ٢٣ ـ (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ...) أي لا يتساوى الكافر والمؤمن أو الجاهل أو العالم أو الأعمى عن طريق الحق والذي يهتدي إليه ولا ظلمات الشرك والضّلال ونور الإيمان والهداية (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي الحق والباطل أو الجنّة والنار. وتكرير (لَا) على الشقّين لمزيد التأكيد ، والحرور من الحرّ غلب على السّموم. وقال القمّي : الظل الناس ، والحرور البهائم. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) وهذا مثال آخر للمؤمن والكافر فإن المؤمن قلبه حيّ بمعرفة التّوحيد والكافر قلبه ميت بالشّرك وبالجحد والعناد وقال بعضهم : هذا تمثيل للعالم الذي يعمل بعلمه فإن قلبه منوّر بأنوار العلوم وبأنوار المعارف ، بخلاف الجاهل فإن قلبه ميت بظلمة الجهل وعدم معرفة شيء. وهذه الجملة أبلغ من الأولى ولذا كرر الفعل فيها (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي من يريد هدايته فيوفّقه للتفكّر في آياته والاتّعاظ بعظاته ففي النتيجة

يصير موحّدا مؤمنا بجميع ما جاء به النبيّ (ص) (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي من هم مصرّون على الكفر والجحود ومعاندون للحق. وهذا ترشيح لتمثيل من هو مصرّ على الكفر بالأموات. فإنك يا محمّد لا تقدر أن تنفع الكفّار وتهديهم إلى الإيمان بإسماعك إياهم الآيات والعظات والنّصح إذ لم يقبلوا منك ، كما أنك لا تقدر أن تنفع وتهتدي الأموات بالآيات والبراهين. وتأكيدا لهذا المعنى يقول تعالى : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وما عليك إلّا الإنذار حيث أن هذا هو شغل النذير. وأمّا الاستماع وإلجاء أهل الكفر والنّفاق إلى الانتفاع بكلام أهل الحق فما هو شغلك لأنه ليس تحت قدرك واختيارك في المطبوع على قلوبهم.

٢٤ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ ... وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ ...) أي لا تكون أمة في أيّ عصر من الأعصار إلّا وقد أتممنا عليها الحجة بإرسال رسول إليها أو وصيّ رسول وقال القمّي : لكل زمان إمام

٢٥ و ٢٦ ـ (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ...) هذه الكريمة تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كذّب السابقون بالبيّنات بالزّبر ، أي الكتب السماوية كصحف إبراهيم (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) كالتوراة والإنجيل فأهلكت المكذّبين (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري بعقوبتهم وتدميرهم.

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى

اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

٢٧ ـ (أَلَمْ تَرَ ... وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ...) أي ذوات جدد ، خطط وطرائق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي ثمرات مختلفة الألوان (وَغَرابِيبُ سُودٌ) عطف على جدد أي ومنها ما هي شديدة السّواد لا خطط فيها. وهي تأكيد لمضمر يفسّره (سُودٌ) وقيل إن الغرابيب تأكيد للسّود وتقدّم على المؤكد لمزيد التأكيد لما فيه من التأكيد باعتبار الإضمار والإظهار. والتقدير : سود غرابيب. والحاصل كأنّه يقال إنّ الله تعالى أظهر قدرته في الجبال فخلقها مثل الثمرات مختلفة فمنها جبال فيها جدد أي علائم وخطط وطرق ، وهي مختلفة الألوان : بيض وحمر وسود غرابيب حالكة السّواد أي شديدة السواد. وهذا أمر مشاهد يعرفه كلّ من ارتاد الجبال ورأى مسالكها.

٢٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ...) أي كذلك ، كاختلاف الثّمار والجبال تختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام. وذكر الأنعام بعد الدّواب من ذكر الخاص بعد العام لشرافتها على مطلق الدواب واختصاص ألوانها بالذّكر من بين أوصافها مع أنها ، أي الثلاث ، مختلفة كلّ واحدة منها عن الأخرى بأوصاف أخر كما لا يخفى إذا كان الاختلاف

بحسب الأنواع الثلاثة ، وإذا كان المراد من الاختلاف هو الاختلاف بين أفراد كلّ واحد من الأنواع بمعنى أن كل فرد من أفراد الإنسان لونه غير لون الفرد الآخر ، فكذلك يختلف هذا الفرد مع الفرد الآخر في أوصاف أخر غير اللّون أيضا من حيث الأوصاف الظاهريّة. فالاختصاص لماذا؟ فيقال : يمكن أن يكون من باب أن تمييز كل صنف من الآخر يكون غالبا باللّون كتمييز الأسود من الأبيض أو من الأحمر أو الأصفر باللّون. نعم إن أفراد كل صنف تميّزها غالبا بالصّور وقد يكون باللّون وغيره.

والحاصل أنّ هذه الأشياء كما أنها في أنفسها دلائل ، فهي كذلك في اختلافها لونا ، وفي الثمرات طعما وريحا ولونا ... ثم إنّه تعالى بعد بيان قدرته على خلق الأشياء المختلفة الذّوات والألوان وغيرها قال عزّ من قائل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وجه مناسبة تعقّب هذه الجملة لما قبلها من آيات القدرة أن الخشية منه تعالى دليل معرفته ، ولذا نرى أنّ كلّ من كان أعرف بذاته المقدّسة كان أخشى له وأطوع. فنرى أن النبيّ إبراهيم وأمثاله صلوات الله عليهم إذا قام في محرابه سمع من صدره صوت كصوت القدر حينما يغلي فيها الماء ، من خشية ربّه. وإذا حضر وقت الصّلاة كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله يتغيّر لونه الشريف إلى الصّفرة والحمرة وكان مثل الذي في حال نزعات الموت من كثرة الخشية وكان أثناء صلاته وتسبيحه يسمع له أزيز كأزيز المرجل ، وكان وصيّه أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذا هيّأ نفسه القدسية لإقامة الصّلاة لا يلتفت يمينا ولا شمالا بل تنزع حينئذ من جبينه الشريف النّبال التي كانوا يرمونه بها في الحروب ولا يتأثّر بذلك لكمال توجّهه إلى ربّه وغاية توغله في ذاته ونهاية خوفه منه تعالى. وكان يغشى عليه في مناجاته ويصير أثناءها كالخشب اليابس ، وكان ولده الصادق عليه‌السلام لا يقدر على التّلبية ويقول : أخاف من ربّي أن يقال لي : لا لبيّك ولا سعديك ، ولم يزل كذلك حتى ظنّ أنه يكاد يختنق لدوران نفسه

المقدسة ، وهكذا سائر أولياء الله. فإذا كان الخوف ناشئا عن المعرفة الناشئة عن التدبّر والتفكّر في الآيات ودلائل المعرفة ، فبهذه المناسبة ذكر هذه الجملة في ذيل الآية الكريمة.

والمراد بالعلماء هم العارفون بالله والمتفكّرون في آياته ودلائل معرفته. ولذا قيل تفكّر ساعة خير من عبادة سنة ، أو أربعين سنة أو أزيد ، لأنّه كلّما زيد في معرفة الشخص زيد في إيمانه ، وكلّما زيد في إيمانه زيد في أجر أعماله ، فإن الأجر زيادته ونقصه على قدر المعرفة زيادة ونقيصة. وبالجملة شرط الخشية معرفة المخشيّ والعلم بصفاته تعالى وأفعاله! فمن كان أعلم به كان أخشى منه. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي أخشاكم لله ، أتقاكم له ، لهذه الجهة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فهو تعالى غالب في الانتقام ، ومعاقب للمصرّ على طغيانه ، وغفور للتّائب عن عصيانه ، وهذه علّة لوجوب الخشية لدلالته على ما قلناه في ترجمة الكريمة. والذيل يدلّ على ما يوجب الخوف والرجاء اللذين هما المطلوب من العبد. وفي المجمع عن الصّادق عليه‌السلام : يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله. ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم. وعن بعض الأفاضل أنه يجوز دفع اسم الجلالة ونصب العلماء أي (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) على أن تكون الخشية مستعارة للتعظيم ، وفيه بعد لبعد المعنى الذي يجب أن يتبادر إلى الذهن. وفي بعض مؤلّفات المحقّق الطوسي ما حاصله أن الخشية والخوف وإن كانا في اللغة بمعنى واحد إلّا إن الخوف والخشية منه تعالى في عرف أرباب القلوب فرقا ، وهو أنّ الخوف تألّم النفس من العقاب المتوقّع بسبب ارتكاب المنهيّات والتقصير في الطّاعات ، وهو يحصل لأكثر الخلق وأن كانت له مراتب متفاوتة جدا. والخشية حالة تحصل عند الشعور بعظمة الحق وهيبته وخوف الحجب عنه ، وهذه حالة لا تحصل إلّا لمن اطّلع على حال كبرياء عزوجل وذاق لذّة القرب. ولذا قال سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ولم يقل إنما يخاف الله. فالخشية خوف خاص ، وقد يطلقون عليه الخوف تسامحا.

٢٩ و ٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ...) أي يقرءون القرآن أو يتّبعونه بالعمل بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) يحتمل أن يكون المراد هو قراءة القرآن فيها فأثنى سبحانه عليهم بذلك. فعلى هذا (الواو) حاليّة في قوله (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) والمعنى : الذين يقرءون القرآن في صلاتهم. ويحتمل أن تكون لعطف الجملة على جملة (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) كما في قوله (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فالثناء على كلّ جملة بحيالها (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) وهي طلب الثواب وتحصيله من الله تعالى وهو الذي لن يكسد ولن يفنى بالخسران بل لا خسران فيه. فهؤلاء المؤمنون يفعلون ذلك (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي ينفقون أموالهم لوجهه تعالى لأجل أن يوفّيهم الله أجور أعمالهم فيعطيهم إياها تامّة كاملة (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليزيد على ما يقابل أعمالهم من جوده وكرمه ، فإنه ذو فضل وإحسان عظيم. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو الشفاعة لمن وجبت له النّار ممّن صنع إليه معروفا في الدّنيا (إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ) لطاعاتهم ومجازيهم عليها جزاء موفورا. وعن عبد الله بن عبيد بن عمر اللّيثي أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله وقال : يا رسول الله (ص) إنّي أكره الموت ، فما حيلتي؟ فقال له الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل لك مال؟ قال : نعم. قال : قدّم مالك ، فان قلب كل امرئ وراء ماله أو قال : مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق بماله ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه. ثم إنّه تعالى يخاطب رسوله (ص) فيقول عزوجل :

٣١ ـ (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ...) قوله (مِنَ الْكِتابِ) بيان من الموصول يعني القرآن (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الكتب السّماويّة المتقدّمة عليه (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) عالم ببواطنهم (بَصِيرٌ) بظواهرهم وبما هم عليه ، ووحينا إليك هو الحقّ دون غيره

* * *

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧))

٣٢ ـ (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ...) الألف واللام للعهد الذكري يعني القرآن أو المراد هو الجنس (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) هذا التفصيل متفرّع على قوله (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ) ضميره ظاهرا يرجع إلى العباد ، وقسّموا ثلاثة أقسام : قسم ظالم لنفسه بتحمّلهم الإثم وذلّ المعصية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا (وَمِنْهُمْ

سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) أي المصطفين الأخيار الذين اختارهم الله من الأزل فهم (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) وهم ورثة الكتاب ، أي محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين وسائر الأنبياء عليهم‌السلام. فورثة الكتاب يدخلون الجنة بغير حساب ، والمقتصدون أهل النّجاة ولو بعد مدّة ، والظالمون هم أهل النار على مراتب ظلمهم ودرجات معاصيهم على اختلافها أعاذنا الله منها ومن النار. هذا ولكن عن الرّضا عليه‌السلام كما في العيون أنه قال : أراد الله بذلك العترة الطاهرة ، ولو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية ثم جمعهم كلّهم في الجنة فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم والأقوال والروايات في المقام كثيرة. فمن أراد التفصيل فليراجعها من شاء في مظانّها. وفي روايات كثيرة فسّر الظالم لنفسه بمن لا يعرف الإمام ، والمقتصد من يعرفه ، والسّابق بالخيرات هو الإمام عليه‌السلام (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي توريث الكتاب والاصطفاء هو الإحسان الجزيل ، ولا يعادلهما إلّا قليل من المناصب الإلهية الموهوبة كالنبوّة والإمامة اللّتين بينهما ، وبين التوريث والاصطفاء ملازمة ، أي أنهما من لوازم النبوّة والولاية.

٣٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) في المعاني عن الصّادق عليه‌السلام : يعني المقتصد والسابق. وهذا التفسير يؤيّد ما قلناه في تفسير الكريمة السّابقة من حكم الأقسام الثلاثة (جَنَّاتُ عَدْنٍ) معناه بساتين الإقامة ، ويمكن أن يكون تفسيرا (الْفَضْلُ) كأنّه قيل ما ذلك الفضل الكبير؟ فقال : هذا جنّات عدن : ويجوز إن يكون بدلا من الفضل ، أي ذلك الفضل جنّات عدن أي دخولها (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ) فيها بيانيّة للتّحلية وأساور جمع سوار وهو زينة اليد وحليتها (مِنْ ذَهَبٍ) من : تبعيضيّة ، أي بعضها ذهب خالص (وَلُؤْلُؤاً) يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض عطفا على الذهب وقرئ بالخفض أيضا ومعناه بعضها لؤلؤ مصفى أو مرصّع به وهذه حلية المرأة فكيف صارت جملة

يحلّون حالا وصفة للرجال الذين يدخلون جنات عدن؟ نقول إنّ أصحاب كتاب عين المعاني نقل إن أساور الذهب المرصّعة باللآلئ والزمرّد الأخضر وغيرهما من الأحجار الكريمة كانت حلية ملوك العرب في الأعصار القديمة واختصّت بهم وامتازوا بها وقد تزيّنوا بها بل كانوا يلبسونها كثيرا كما أن التيجان تختصّ بملوك الفرس وامتازوا بها. ولذا اختصّها الله تعالى بالذكر وجعلها من ألبسة الجنّة وحليّها كما أنه تعالى ذكر من ألبستها الحرير ، فقال (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو من أحسن ألبسة الدّنيا ويعدّ من الأزمنة القديمة من أفخرها ولذا لا يلبسها إلّا الملوك وأرباب الثّروة والأموال.

٣٤ و ٣٥ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...) أي بعد ما استقرّوا في جنات عدن واطمأنّوا من العذاب حمدوا الله وأثنوا على إذهابه الحزن عنهم ، أي الحزن النّاشئ من خشية العذاب وخوف النار ، وكذلك همّ الدنيا الذين كانوا مبتلين به فيها فاستراحوا منه أيضا (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) لفرطاتنا وتقصيرنا (شَكُورٌ) لطاعاتنا مجازينا عليها بالثواب الجزيل فهو الذي (أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أي أوردنا دار الإقامة من عطائه كرامته بعد تكليفنا بما استوجبنا به ذلك ، و (نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) كلال واعياء إذ لا تكليف فيها. والفرق بين النّصب واللّغوب أن النّصب سبب واللّغوب مسبّب منه. واللّغوب عبارة عن فتور وكلال يكون هو نتيجة حاصلة من المشقّة والتعب العارض على الإنسان أثناء عمله في سبيل تحصيل أمر ، ونفي النتيجة والمسبب بعد نفي السبب للمبالغة والتّأكيد. وفي روضة الكافي ذكر الكليني رحمه‌الله بسند معتبر صحيح أن الله سبحانه وتعالى بقدرته الكاملة خلق حوارا وقصورا وأعلمهم أنّي خلقتكم للمؤمن الفلاني فعرّفه إيّاهم فيشتاقون إليه اشتياقا كثيرا بحيث ينتظرونه آنا بعد آن. فإذا دخل المؤمن الجنّة أخبروهم بقدومه فيستقبلونه مع أن المسافة بينهما سبعون سنة ، فإذا وقع نظرهم عليه يطيرون لكثرة

الفرح والسّرور فيخرج من بريق ابتسامتهم نور يضيء تلك المسافة فإذا دنا المؤمن منهم تعانقوا منهم مدة سبعين سنة ، ثم تأخذ الحور بيد المؤمن ويدخلنّه القصر المختصّ به فيتّكئ المؤمن على سريره وتقوم الحور والغلمان في خدمته. فهنا يقول المؤمن : الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن. فلمّا ذكر سبحانه الجنّة وما أعدّه لأهلها وأنواع الجزاء والثواب لهم ، عقّبه ببيان ما أعدّه للكفرة من أليم العقاب فقال عزّ وعلا :

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ...) والذين كفروا لهم نار جهنّم فهي معدّة لهم في الآخرة (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) أي لا يحكم عليهم فيموتوا بموت ثان فيستريحوا من شدائد العذاب. وقوله (فَيَمُوتُوا) نصبه (بأن) المقدّرة حيث أنه وقع جوابا للنفي (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فهم مع طول إقامتهم في النار لا ينقص شيء من عذابهم بل كلما خبت زيدوا سعيرا (كَذلِكَ) أي مثل ذلك العذاب ونظيره (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كلّ جاحد كثير الكفران مكذّب لأنبياء الله تعالى.

٣٧ ـ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها ...) أي يستغيثون بالصّراخ والصّياح قائلين : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فقد كنّا نعمل ونحسب عملنا صالحا ، وقد تحقق وثبت الآن خلافه لنا. فيقال لهم توبيخا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أوم نعطكم عمرا كنتم متمكّنين فيه من التفكّر والتذكر لو كنتم من أهل التذكّر والتدبّر. وهذا جواب من الله تعالى وتعيير لهم. وقوله (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) يتناول كل عمر يمكن فيه من التذكر والروايات والأقوال على أنه ستون وقيل إنه أربعون سنة وقيل ١٧ سنة وقيل ١٨ سنة. والمراد من الموصول هو العمر (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي الرسول أو الكتاب ، أو الشيب ، أو العقل لأنه الرسول الباطني. وهذا القول عطف على معنى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ولفظه لفظ استخبار ومعناه معنى

الإخبار ، كأنه قيل : قد عمّرناكم وجاءكم النذير أي الشيب ، ونعم ما قيل :

رأيت الشّيب مذ نذر المنايا

لصاحبه ، وحسبك من نذير

ومثله :

لشيب رأسي جرى دمعي ولا عجبا

تجري العيون لوقع الثّلج في القلل

ثم إنّه سبحانه بعد إخبارهم بأنّا قد عمّرناكم وأرسلنا إليكم رسل التّذكير والتحذير وما تذكّرتم وما تحذّرتم ، ففرّع عليه بقوله : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي ناصر : يدفع عنهم العذاب

* * *

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا

وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

٣٨ ـ (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ...) أي عارف بمضمراتها ، فغيرها أولى بأن يعلمه فلا يخفى عليه شيء من أسرار السّماوات وخفيّات الأرضين.

٣٩ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : يا معاشر الكفرة إن الله تعالى أنعم عليكم بعد نعمة الوجود بأن جعلكم خلفاء في أرضه مكان من كان قبلكم في التصرّف فيها والتسلّط عليها ، وذلك لكي تقرّوا بتوحيده وتطيعوا ولاة أمره ونهيه من الأنبياء العظام والرّسل الكرام وأوصيائهم عليهم‌السلام ، وكان هذا شكر تلك النعمة العظيمة والموهبة الجسيمة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي جزاء كفره وضرره في الدّنيا بأن ينقصها بأخذها منه عاجلا ، وفي الآخرة بنار الخلود الّتي لا يخفّف عذابها بل يزاد في سعيرها كما يشير إليه بقوله تعالى (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ) الآية ، والمقت هو أشدّ البغض ، والخسار هو الخسران في الآخرة. والأمران بيان لجملة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) والتكرير لبيان أن كلّ واحد من الأمرين له اقتضاء خاصّ لكفر ناشئ عن اقتضاء قبحه. والحاصل أن العمر كرأس المال ، فمن اشترى رضاء الله ربح ، ومن اشترى به سخطه خسر خسرانا مبينا.

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ ...) أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين أخبروني عن الأوثان التي تعبدونها من دون الله (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)

فيستحقون بذلك العبادة ، فإذا عجزوا عن الجواب فقل لهم : أخبروني (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شركة مع الله تعالى في خلقها فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة والعبودية (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي هل أرسلنا إلى الأوثان كتابا أو أرسلنا إلى عبدة الأوثان رسالة من عندنا بأن الأصنام شركاؤنا في الألوهية؟ (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي فهم حينئذ كانوا على حجّة من كتابنا إليهم بأنّا جعلناهم شركاءنا فهم يستحقّون العبادة بمقتضى كتابنا والناس الذين يعبدونهم معذورون؟ أي بتلك الشركة الجعلية وبالجملة فاسألهم يا محمّد بأيّ وجه من تلك الوجوه يعبدونها (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي ليس لهم في هذا الأمر حجّة عقلية ، لأن الأصنام مخلوقات منحوتات عاجزة وليس لعاقل أن يعبد جمادا فاقدا لكل شيء بل ليس لديهم حجة نقليّة لأننا ما آتيناهم كتابا فيه أمر بجواز عبادة الأصنام. فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية بل صرف تقليد لأسلافهم في قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فوعد بعضهم ، من الأسلاف أو الرؤساء ، بعضا من الأخلاف أو الأتباع ، في فائدة عبادتها من الشفاعة أو الأرزاق ، ليس (إِلَّا غُرُوراً) أي مكرا وخدعة لا حقيقة لهما ، وطمع فيما لا يطمع فيه. وهذا هو معنى الغرور لغة.

٤١ ـ (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أكد سبحانه بتقديم الفاعل وحقّه التّأخير ، وبتصدير الجملة بكلمة (إِنَ) التي تفيد المبالغة في مضمونها ، أكّد وحصر قضيّة امساكهما في ذاته المقدّسة ولتنبيه البشر إلى كمال قدرته حتى يتفكّروا ويتدبّروا في أنّ من هذا شأنه هو الذي له الأهليّة للألوهيّة ويستحقّ العبادة ، لا الجماد المصنوع بيد المخلوق فقد أمسكهما (أَنْ تَزُولا) أي لئلّا تزولا. أو المعنى أنه تعالى يمنعهما من الزوال ، فإنّ الإمساك هو المنع من وقوع الشيء حيث إنّ الممكن حال بقائه لا بد من ممسك وحافظ من وقوعه وزواله. ولكن السّماوات والأرض معلّقتان من

غير تعليق بشيء من فوقهما وقائمتان بلا دعامة ولا عماد من تحتهما ، بل بقدرته الكاملة أمسكهما وبكلمة كن منعهما من الزوال (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) كلمة (إِنَ) نافية بمعنى (ما) النافية و (مِنْ) في قوله (مِنْ أَحَدٍ) زائدة جيء بها تأكيدا. وقوله (مِنْ بَعْدِهِ) يرجع الضمير إلى الله سبحانه ظاهرا ، ويحتمل أن يرجع إلى الزوال والمعنى أن السّماوات والأرض لا يمسكها غير الله جلّت قدرته. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ففي الرواية لما نسب اليهود والنصارى العزيز وعيسى إليه سبحانه بأن كل واحد منهما ابن الله كاد أن تزول السّماوات والأرض وتهدّا هدّا وينزل العذاب على كافة البشر لكنه تعالى عفا عنهم وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى إسناد إلا بنيّة إليه تعالى واتّخاذ ولد له ، فكيف إذا قالوا بالألوهية بالنسبة إلى الأوثان وقاموا ويعبدونها إلّا أنه تعالى بفضله العميم وحلمه يرحم ويغفر للعباد الجهلة حيث أمسكهما رحمة على العباد ولم يهدّهما هدّا ولم يفطرهما فطرا كما قال عزوجل (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) من شركهم.

* * *

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

٤٢ و ٤٣ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) نقل أنّ قريشا قبل بعثة الرّسول الأكرم سمعوا بأنّ اليهود والنّصارى وغيرهما من الملل السابقين كذّبوا رسلهم وانحرفوا عن شرعهم الذي جاؤوا به ولم يتابعوهم ، فقالوا بئس ما فعلوا برسلهم بعد ما جاءوهم بالبيّنات ، فحلفوا بأيمان غليظة غاية وسعهم وطاقتهم لئن جاءهم رسول (نَذِيرٌ) وبشير من عند الله (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) إلى قبول قوله واتّباعه من الأمم الماضية على ما أخبر عنهم سبحانه وتعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الهدى وتنافرا عن الحق (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي تكبّرا وتجبّرا وعتوّا على الله وأنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم في الأرض يعني أنهم كانوا يرون الإيمان عارا عليهم لأنّه يلزمهم باتّباع الرسول (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) عطف على (اسْتِكْباراً) والاستكبار يحتمل أن يكون بدلا من (نُفُوراً) أو يكون مفعولا له ، أي ينفرون للاستكبار ، أو مفعول مطلق للفعل المحذوف أي يستكبرون استكبارا أو يكون حالا بمعنى مستكبرين. ومكر السيّء يحتمل أن يكون (وأن مكروا المكر السيء) فحذف الموصوف للاستغناء بوصفه وأوّل الفعل مع (أن) المصدريّة وبدّل بالمصدر فأضيف المصدر إلى السيء. ويدل على التبديل والإضافة قوله تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي لا ينزل ولا يلزم المكر السيء أي جزاؤه

(إِلَّا بِأَهْلِهِ) بفاعله وهو الماكر. قيل وقد نزل بهم يوم بدر كلّ ما قصدوا أن يفعلوه بالنبيّ الأكرم وأصحابه من القتل والجلاء والسّبي ونحوها من أنواع الإيذاء والإضرار فحلّ ذلك كلّه بقريش المتكبّرة على أيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيدي المؤمنين به.

وفي الحديث نقلا بالمعنى : من حفر بئرا لأخيه وقع فيه. ووصف المكر بالسيّء احترازا عن المكر الحسن كما في مكر المؤمنين بالكفرة حين القتال على وجه الحسن. وكلّ نهي عن المكر فالمراد به المكر السيّء ، وهو ما كان أصله كذبا وخديعة وتأسيسه كان على الفساد كما في غير موارد المستثنات. ومن المكر السّيء ما في روايات أهل التواريخ من أنّه في بعض الأزمنة كان رجلان عندهما دنانير مسكوكات من الذهب فخافا عليها من التلف فذهبا بها إلى الجبل ورأيا هناك شجرا مجوّفا فارغ الجذع فأدخلا الذهب في جوف شجرة خوفا من السرقة ورجعا. فجاء واحد منهما ليلا وأخرج الدنانير وذهب بها إلى داره وأخفاها. وبعد مدة اتّفقا أن يذهبا ليخرجاها فلمّا دنيا من الشجرة لاخراجها لم يجداها. فأخذ السارق بيد الآخر وقال : أنت جئت وأخرجتها. فحلف بأيمان غلاظ أني ما جئت من يوم فارقتك إلى هنا أبدا ، فما أفاد الحلف شيئا ، وقال : امش معي إلى القاضي فذهبا إليه وادّعى السارق على الآخر أنه أخذ المال من المكان الفلاني. فأنكر الآخر إنكارا شديدا. فطلب القاضي من المدّعي الشاهد. فقال : شاهدي هو نفس الشجرة التي أدخلنا المال في جوفها. فتعجّب القاضي من كلامه ولم ير طريقا إلّا أن يذهب إلى الشجرة ويسألها الشهادة. فلما أصبح الصّباح مشى مع جماعة من أهل البلد إلى الجبل حتى وصلوا إلى الشجرة. وقد مكر السّارق بأن ذهب ليلا مع أخيه وأدخله جوف الشجرة حتى إذا سأل القاضي الشجرة فهو يجيبه بأن المال عند المنكر وأنه جاء ليلا وأخذ المال. فسأل القاضي الشجرة : من أخذ المال من جوفك؟ فأجاب من جوف

الشجرة أن الآخذ هو المنكر ، فتعجّبوا جميعا. لكنّ القاضي قد أحسّ بأنّ الصوت صوت إنسان من ناحية ، ومن ناحية اخرى قال في نفسه : هذا الإنسان ماذا يفعل في جوف الشجرة؟ فأمر بإحراق الشجرة حيث رأى صدور أمر خارق للعادة في الشجرة وهو النطق أو لعلّ خطر بباله أنّ هذه الشجرة تصير بعد ذلك معبودا للعوامّ الذين هم كالأنعام. فلمّا وصلت النار إلى جوف الشجرة خاف الرجل من الحرق ونادى بصوت عال : أيّها الناس ادركوني قبل أن أحترق ، فأخرجوه ، فاستخبره القاضي فأجابه بما جرى بينه وبين أخيه السارق ، فافتضح الماكر بمكره السّيء ، فأمره القاضي بإحضار المال وأعطاه للآخر وأمر بقطع يد السارق فوقع في جبّ حفره لأخيه (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي هل ينتظرون؟ وهذا الاستفهام بمعنى النفي ، يعني لا ينتظرون إلّا ما جرت به عادة الله في الأمم الماضية من الإهلاك حينما كذّبوا رسلهم ، ونزول العذاب عليهم جزاء على كفرهم فهم إن كانوا ينتظرون غير ذلك (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تعويض العذاب بالثواب هو خلاف ما جرت به عادة الله وكذلك العكس (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي لن تجد نقل العذاب عن مستحقّه إلى غيره يعني من المكذّبين الماكرين إلى غيرهم حيث إن السنّة جرت على عدم التحويل ، وهذه السنة لا تتغير ولا تتبدل والفرق بين التبديل والتحويل ظاهر ومبان فإن الأول هو إعطاء الشيء وأخذ العوض عنه ، والثاني عبارة عن نقله من موضع إلى آخر. وبعبارة أخرى : الأول عبارة عن التعويض في ذات الشيء كتبديل الحنطة بالشعير والخوف بالأمن ، والثاني عبارة عن التعويض المكاني أي تغيير مكان الشيء. وإلّا فالشيء في المكان الثاني هو نفس الشيء في المكان الأوّل كتحويل زيد من دار إلى أخرى ، فلا تكرار في الجملتين. ولو فرض التكرار فللمبالغة في تهديد المسيء الماكر.

٤٤ ـ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الاستفهام للإنكار يعني لا بدّ لهم من السّير في الآفاق (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هذه

الكريمة استشهاد عليهم بما يشاهدونه في مسارهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين وديارهم العاتية مثل قوم عاد وثمود ولوط (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وكانوا أطول منهم أعمارا وما أغنى عنهم طول المدى وشدّة القوى فأهلكوا بالطواغيت والظلمة والعذاب وغيرها من الآيات النازلة عليهم ، فهذه آثارهم فانظروا فيها واعتبروا إن كنتم تعقلون (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) أي ما من شيء يعجز الله ويسبقه أو يفوته لو أراد أن يهلكه أو يعذّبه لا في السّماوات ولا في الأرض (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بالأشياء كلّها (قَدِيراً) عليها جميعها لا يفوت قدرته شيء.

٤٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ ...) أي لو يؤاخذهم بذنوبهم (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) من نسمة تدبّ عليها بشؤم معاصيهم ولكنّه (يُؤَخِّرُهُمْ) ويمهلهم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يوم الحشر الأكبر (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) فيجازي كل واحد بما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ.

* * *

الفهرس

المقدمة....................................................................... ٥

سورة الحج.................................................................... ٧

١ ـ يا ايها الناس اتقوا ربكم................................................... ٧

٢ ـ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت.................................... ٨

٣ ـ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم....................................... ٨

٤ ـ كتب عليه انه من تولاه.................................................... ٨

٥ ـ يا ايها الناس ان كنتم في ريب من البعث..................................... ٩

٦ و ٧ ـ ذلك بأن الله هو الحق.............................................. ١١

٨ و ٩ ـ ومن الناس من يجادل في الله......................................... ١١

١٠ ـ ذلك بما قدّمت يداك.................................................. ١٢

١١ ـ ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ...................................... ١٣

١٢ ـ يدعو من دون الله ما لا يضرّه........................................... ١٣

١٣ ـ يدعو ضَرّه أقرب من نفعه.............................................. ١٤

١٤ ـ ان الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات............................... ١٤

١٥ ـ من کان یظن ان لن ينصره الله.......................................... ١٥

١٦ ـ وكذلك انزلناه........................................................ ١٥

١٧ ـ ان الذين آمنوا والذين هادوا............................................ ١٦

١٨ ـ ألم تَر ان الله يسجد له................................................ ١٦

١٩ ـ هذان خصمان....................................................... ١٨

٢٠ ـ يُصهر به ما في بطونهم................................................. ١٩

٢١ ـ ولهم مقامع من حديد.................................................. ١٩

٢٢ ـ كلما ارادوا ان يخرجوا منها.............................................. ١٩

٢٣ ـ ان الله يدخل الذين آمنوا............................................... ١٩

٢٤ ـ وهدوا الى الطيب من القول............................................. ١٩

٢٥ ـ ان الذين كفروا........................................................ ٢٠

٢٦ ـ واذ بّوانا لابراهيم مكان البيت.......................................... ٢٢

٢٧ ـ واذّن في الناس بالحج................................................... ٢٣

٢٨ ـ ليشهدوا منافع لهم..................................................... ٢٣

٢٩ ـ ثم ليقضوا ثقتهم...................................................... ٢٤

٣٠ ـ ذلك ومن يعظم حرمات الله............................................ ٢٥

٣١ ـ حنفاء لله غير مشركين................................................. ٢٥

٣٢ ـ ذلك ومن يعظم شعائر الله............................................. ٢٦

٣٣ ـ لكم فيها منافع الى اجل مسمّى......................................... ٢٦

٣٤ ـ ولك امة جعلنا منسكاً................................................. ٢٧

٣٥ ـ الذين اذ ذكر الله وجلت قلوبهم......................................... ٢٧

٣٦ ـ والبدن جعلناهم لكم.................................................. ٢٧

٣٧ ـ لن ينال الله لحومها.................................................... ٢٨

٣٨ ـ ان الله يدافع عن الذين آمنوا............................................ ٢٩

٣٩ ـ أذن للذين يقاتلون.................................................... ٣٠

٤٠ ـ الذين اخرجوا من ديارهم............................................... ٣٠

٤١ ـ الذين إن مكّنّاهم في الأرض............................................ ٣٠

٤٢ الى ٤٤ ـ وان يكذبوك فقد.............................................. ٣١

٤٥ ـ فكايّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة...................................... ٣٢

٤٦ ـ أفلم يسيروا في الأرض................................................. ٣٢

٤٧ ـ ويستعجلونك بالعذاب................................................. ٣٣

٤٨ ـ وكأيّن من قرية امليت لها............................................... ٣٣

٤٩ ـ قل يا ايها الناس انما لكم نذير مبين..................................... ٣٤

٥٠ ـ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات.......................................... ٣٤

٥١ ـ والذين سعوا في آیاتنا معاجزین.......................................... ٣٤

٥٢ ـ وما ارسلنا من قبلك من رسول.......................................... ٣٥

٥٣ ـ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة........................................... ٣٥

٥٤ ـ وليعلم الذين اوتو العلم أنه الحق......................................... ٣٧

٥٥ ـ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه......................................... ٣٧

٥٦ و ٥٧ ـ الملك يومئذ لله يحكم بينهم....................................... ٣٨

٥٨ و ٥٩ ـ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا................................ ٣٨

٦٠ ـ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب........................................ ٣٩

٦١ ـ ذلك بأن الله يولج..................................................... ٤٠

٦٢ ـ ذلك بأن الله هو الحق................................................. ٤٠

٦٣ ـ ألم ترأن الله........................................................... ٤١

٦٧ ـ لكل امة جعلنا منسكاً................................................. ٤٢

٦٨ ـ وان جادلوك.......................................................... ٤٢

٦٩ ـ ان الله يحكم بينكم يوم القيامة.......................................... ٤٢

٧٠ ـ ألم تعلم أن الله....................................................... ٤٢

٧١ ـ ويعبدون من دون الله.................................................. ٤٣

٧٢ ـ واذا تتلى عليهم آیاتنا بیّنات............................................ ٤٤

٧٣ ـ يا ايها الناس ضرب مثل فاستمعوا له..................................... ٤٤

٧٤ ـ ما قدروا الله حق قدره.................................................. ٤٥

٧٥ و ٧٦ ـ الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس.......................... ٤٥

٧٧ ـ يا ايها الذين آمنوا..................................................... ٤٦

٧٨ ـ وجاهدوا في الله....................................................... ٤٦

سورة المؤمنون................................................................ ٤٩

١ ـ قد افلح المؤمنون.......................................................... ٤٩

٢ ـ الذين هم في صلاتهم...................................................... ٥٠

٣ ـ والذين هم عن اللغو معرضون.............................................. ٥٠

٤ و ٥ و ٦ ـ والذين هم للزكاة فاعلون.......................................... ٥٠

٧ ـ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.................................... ٥١

٨ ـ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون........................................ ٥١

٩ ـ والذين هم على صلواتهم يحافظون........................................... ٥١

١٠ و ١١ ـ أولئك هم الوارثون الذين.......................................... ٥١

١٢ ـ ولقد خلقنا الانسان..................................................... ٥٣

١٣ ـ ثم جعلناه نطفة......................................................... ٥٣

١٤ و ١٥ و ١٦ ـ ثم خلقنا النطفة............................................. ٥٣

١٧ ـ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق............................................ ٥٦

١٨ ـ وانزلنا من السماء ماءً بقدر............................................... ٥٦

١٩ ـ فأنشأنا لكم به جنات من نخيل........................................... ٥٦

٢٠ ـ وشجرة تخرج من طور سيناء.............................................. ٥٦

٢١ ـ وان لكم في الانعام لعبرة................................................. ٥٧

٢٢ ـ وعليها وعلى الفلك..................................................... ٥٧

٢٣ ـ ولقد ارسلنا نوحاً........................................................ ٥٩

٢٤ ـ فقال الملا الذين كفروا من قومه........................................... ٥٩

٢٥ ـ ان هو الا رجل به جنة.................................................. ٥٩

٢٦ و ٢٧ ـ قال ربَّ انصرني بما كذبون......................................... ٥٩

٢٨ و ٢٩ ـ فإذا استويت انت ومن معك....................................... ٦٠

٣٠ ـ ان في ذلك لآیات...................................................... ٦٠

٣١ ـ ثم أنشأنا من بعدهم..................................................... ٦١

٣٢ ـ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم................................................. ٦١

٣٣ و ٣٤ ـ وقال الملأ الذين كفروا........................................... ٦٢

٣٥ و ٣٦ ـ أيعدکم انکم اذا متّم وكنتم تراباً................................... ٦٢

٣٧ ـ ان هي الا حياتنا الدنيا................................................ ٦٢

٣٨ ـ ان هو الارجل افترى................................................... ٦٢

٣٩ و ٤٠ ـ قال ربّ نصرني بما كذبون........................................ ٦٢

٤١ ـ فأخذتهم الصيحة بالحق................................................ ٦٣

٤٢ و ٤٣ ـ ثم أنشأنا من بعدهم قوماً آخرین.................................. ٦٣

٤٤ ـ ثم ارسلنا رسلنا تتری................................................... ٦٤

٤٥ ـ ثم ارسلنا موسد واخاه هارون............................................ ٦٤

٤٦ ـ الی فرعون وملائه..................................................... ٦٥

٤٧ ـ فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا............................................... ٦٥

٤٨ ـ فكذّبوهما فكانوا من المهلكين........................................... ٦٥

٤٩ ـ ولقد آتینا موسى الكتاب لعلّهم يهتدون.................................. ٦٥

٥٠ ـ وجعلنا عيسى بن مريم امه آیة........................................... ٦٦

٥١ ـ يا ايها الرسل كلوا من الطيبات.......................................... ٦٦

٥٢ ـ وإن هذه أمّتكم امة واحدة............................................. ٦٦

٥٣ ـ فتقطعوا امرهم بينهم زبراً................................................ ٦٧

٥٤ ـ فذرهم في غمرتهم حتى حين............................................ ٦٧

٥٥ و ٥٦ أيحسبون انما نمدهم............................................... ٦٨

٥٧ و ٥٨ ـ إن الذين هم من خشية.......................................... ٦٩

٥٩ ـ والذين هم يريهم لا يشركون............................................ ٦٩

٦٠ ـ والذين يؤتون ما آتوا................................................... ٦٩

٦١ ـ اولئك يسارعون في الخيرات............................................. ٧٠

٦٢ ـ ولا نكلّف نفساً الا وسعها............................................. ٧٠

٦٣ ـ بل قلوبهم في غمرة منهذا............................................... ٧١

٦٤ ـ حتى اذا اخذنا مترفيهم................................................. ٧١

٦٥ ـ لا تجأروا اليوم........................................................ ٧١

٦٦ ـ قد كانت آیاتي تتلى عليكم............................................ ٧٢

٦٧ ـ مستكبرين به......................................................... ٧٢

٦٨ ـ أفلم يدبّروا القول...................................................... ٧٢

٦٩ ـ أم لم يعرفوا رسولهم فهم................................................ ٧٣

٧٠ ـ أم يقولون به جنّة..................................................... ٧٣

٧١ ـ ولو أتّبع الحق اهواءهم................................................. ٧٣

٧٢ ـ أم تسألهم خرجاً...................................................... ٧٤

٧٣ ـ وانك لتدعوهم........................................................ ٧٥

٧٤ ـ وان الذبن لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون......................... ٧٥

٧٥ ـ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرّ...................................... ٧٥

٧٦ ـ ولقد اخذناهم بالعذاب................................................ ٧٥

٧٧ ـ حتى اذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ...................................... ٧٦

٧٨ ـ وهو الذي أنشأ لكم السمع............................................ ٧٧

٧٩ ـ وهو الذي ذراكم...................................................... ٧٧

٨٠ ـ وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار.......................... ٧٧

٨١ ـ بل قالوا مثل ما قال الاولون............................................ ٧٨

٨٢ ـ قالوا أثنا متنا وكنا تراباً................................................. ٧٨

٨٣ ـ لقد وُعدنا نحن وآباؤنا هذا............................................. ٧٨

٨٤ ـ قل لمن الارض ومن فیها ان کنتم تعلمون................................. ٧٩

٨٥ ـ الى ٨٧ ـ قل من رب السموات السبع.................................... ٧٩

٨٨ ـ و ٨٩ ـ قل من بيده ملكوت كل شيء................................... ٧٩

٩٠ ـ اتيناهم بالحق......................................................... ٨٠

٩١ ـ ما اتّخذ الله من ولدٍ.................................................... ٨٠

٩٢ ـ عالم الغيب والشهادة.................................................. ٨١

٩٣ و ٩٤ ـ قل ربّ إمّا تريني ما يوعدون...................................... ٨٢

٩٥ ـ وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون.................................... ٨٢

٩٦ ـ ادفع بالتي هي احسن.................................................. ٨٢

٩٧ و ٩٨ ـ وقل ربّ اعوذ بك.............................................. ٨٣

٩٩ و ١٠٠ حتى اذا جاء احدهم الموت...................................... ٨٤

١٠١ ـ فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم................................... ٨٥

١٠٢ و ١٠٣ و ١٠٤ ـ فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون................. ٨٥

١٠٦ ـ قالوا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين............................... ٨٦

١٠٧ ـ ربّنا اخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون.................................. ٨٧

١٠٨ ـ و ١٠٩ و ١١٠ و ١١١ ـ قال اخسأوا فيها ولاتكلّمون.................. ٨٧

١١٢ و ١١٣ ـ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين............................ ٨٨

١١٤ ـ ان لبثتم إلاّ قليلاً.................................................... ٨٨

١١٥ ـ أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً........................................... ٨٩

١١٦ ـ فتعالى الله الملك الحق................................................. ٨٩

١١٧ ـ ومن يدعو مع الله إلهاً لا برهان........................................ ٨٩

١١٨ ـ وقل ربّ اغفر وارحم................................................. ٨٩

سورة النور.................................................................... ٩١

١ ـ سورة انزلناها........................................................... ٩١

٢ ـ الزانية والزاني الخ........................................................ ٩٢

٣ ـ الزاني لا ينكح إلا زانية الخ............................................... ٩٣

٤ ـ والذين يرمون المحصنات.................................................. ٩٣

٥ ـ إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك.............................................. ٩٣

٦ ـ والذين يرمون ازواجهم................................................... ٩٤

٧ ـ والخامسة ان لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين............................. ٩٤

٨ ـ ويدرأ عنها العذاب ان تشهد............................................. ٩٤

٩ ـ والخامسة غضب الله عليها............................................... ٩٥

١٠ ـ ولولا فضل الله عليكم................................................. ٩٥

١١ ـ ان الذين جاؤوا بالإِفك................................................ ٩٦

١٢ ـ لولا اذ سمعتوه.......................................................... ٩٧

١٣ ـ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء............................................. ٩٨

١٤ ـ ولولا فضل الله عليكم................................................... ٩٨

١٥ ـ اذ تلقونه بألسنتكم..................................................... ٩٨

١٦ ـ ولولا اذ سمعتموه قلتم.................................................... ٩٩

١٧ ـ بعظكم الله ان تعودا..................................................... ٩٩

١٨ ـ ويبيّن الله لكم الآیات................................................... ٩٩

١٩ ـ ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة......................................... ٩٩

٢٠ ـ ولولا فضل الله عليكم ورحمته............................................. ٩٩

٢١ ـ يا ايها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان.............................. ١٠٠

٢٢ ـ ولا يأتل أولو الفضل منكم............................................. ١٠٠

٢٣ ـ ان الذين يرمون المحصنات.............................................. ١٠٢

٢٤ ـ يوم تشهد عليهم ألسنتهم.............................................. ١٠٢

٢٥ ـ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق............................................ ١٠٣

٢٦ ـ الخبيثات للخبيثين..................................................... ١٠٤

٢٧ ـ يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم............................. ١٠٥

٢٨ ـ فأن لم تجدوا فيها احداً................................................. ١٠٦

٢٩ ـ ليس عليكم جناح ان تدخلوا بيوتاً غير مسكونة........................... ١٠٦

٣٠ و ٣١ ـ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.................................. ١٠٧

٣٢ ـ وانكحوا الايامى منكم والصالحين........................................ ١١١

٣٣ ـ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً....................................... ١١٢

٣٤ ـ ولقد انزلنا اليكم آیات بیناتِ........................................... ١١٣

٣٥ ـ الله نور السماوات والارض.............................................. ١١٤

٣٦ ـ في بيوتِ اذن الله ان ترفع............................................... ١١٦

٣٧ ـ رجال لا تلهيهم تجارة.................................................. ١١٧

٣٨ ـ ليجزيهم الله احسن ما عملوا............................................ ١١٨

٣٩ ـ والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة.................................... ١١٨

٤٠ ـ أو كظلمات في بحر لجي.............................................. ١١٩

٤١ ـ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات................................ ١٢٠

٤٢ ـ ولله ملك السماوات والأرض.......................................... ١٢٠

٤٣ ـ ألم تر أن الله يزجى سحاباً............................................ ١٢١

٤٤ ـ يقلب الله الليل والنهار............................................... ١٢١

٤٥ ـ والله خلق كل دابة................................................... ١٢١

٤٦ ـ لقد أنزلنا آیات مبيّنات............................................... ١٢٢

٤٧ ـ ويقولون امنا بالله وبالرسول........................................... ١٢٣

٤٨ ـ اذا دعوا الى الله ورسوله............................................... ١٢٣

٤٩ ـ وان يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعتين.................................... ١٢٣

٥٠ ـ أفي قلوبهم مرضّ..................................................... ١٢٣

٥١ ـ انما كان قول المؤمنين................................................. ١٢٤

٥٢ ـ ومن يطع الله ورسوله................................................. ١٢٤

٥٣ ـ واقسموا بالله جهد أيمانهم............................................. ١٢٥

٥٤ ـ قل اطيعوا الله واطيعوا الرسول.......................................... ١٢٥

٥٥ ـ وعد الله الذين آمنوا ليستخلفنهم في الأرض............................. ١٢٦

٥٦ ـ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة............................................ ١٢٧

٥٧ ـ لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض............................... ١٢٧

٥٨ ـ يا ايها الذين آمنوا لیستأذنكم......................................... ١٢٨

٥٩ ـ واذا بلغ الاطفال منكم الحلم.......................................... ١٢٩

٦٠ ـ والقواعد من النساء.................................................. ١٢٩

٦١ ـ ليس على الاعمى حرجّ.............................................. ١٣١

٦٢ ـ انما المؤمنون الذين آمنوا............................................... ١٣٢

٦٣ ـ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً...................... ١٣٣

٦٤ ـ الا ان الله ما في السموات............................................ ١٣٣

سورة الفرقان................................................................ ١٣٥

١ ـ تبارك الذي انزل الفرقان على عبده...................................... ١٣٥

٢ ـ ولم يكن له شريك..................................................... ١٣٦

٣ ـ واتخذوا من دونه آلهةً................................................... ١٣٦

٤ ـ وقال الذين كفروا ان هذا الا افك....................................... ١٣٦

٥ ـ وقالوا اساطير الاولين.................................................. ١٣٧

٦ ـ قال انزله الذي يعلم السر.............................................. ١٣٧

٧ ـ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام....................................... ١٣٨

٨ ـ أو يلقى اليه كنز...................................................... ١٣٨

٩ ـ انظر كيف ضربوا لك الامثال........................................... ١٣٨

١٠ ـ تبارك الذي ان شاء.................................................. ١٣٨

١١ ـ بل كذبوا بالساعة................................................... ١٣٨

١٢ ـ اذا رأتهم من مكان بعيد.............................................. ١٤٠

١٣ ـ و ١٤ واذا القوا منها مكاناً ضيقاً...................................... ١٤٠

١٥ ـ قل أذلك خير...................................................... ١٤٠

١٦ ـ لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعداً مسؤولاً.................. ١٤٠

١٧ ـ ويوم نحشرهم وما يعبدون............................................. ١٤٠

١٨ ـ قالوا سبحانك...................................................... ١٤١

١٩ ـ فقد كذّبوكم بما تقولون............................................... ١٤١

٢٠ ـ وما ارسلنا قبلك من رسول............................................ ١٤٢

٢١ ـ وقال الذين لا يرجون لقاءنا........................................... ١٤٢

٢٢ ـ يوم يرون الملائكة.................................................... ١٤٢

٢٣ ـ وقدمنا الى ما عملوا.................................................. ١٤٣

٢٤ ـ اصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً...................................... ١٤٣

٢٥ ـ يوم تشقق السماء بالغمام............................................ ١٤٤

٢٦ ـ الملك يومئذ الحق للرحمان............................................. ١٤٤

 ٢٧ ـ ويوم يعض الظالم على يديه.......................................... ١٤٥

٢٨ ـ يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً...................................... ١٤٥

٢٩ ـ لقد اضلني عن الذكر................................................ ١٤٥

٣٠ ـ وقال الرسول هذا القرآن مهجوراً....................................... ١٤٥

٣١ ـ وكذلك جعلنا لكلّ نبّي............................................... ١٤٥

٣٢ ـ وقال الذين كفروا لولا نزّل القرآن علیه جملة واحدة....................... ١٤٦

٣٣ ـ ولا يأتونك بمثل..................................................... ١٤٧

٣٤ ـ الذين يحشرون على وجوههم الى جهنم................................. ١٤٧

٣٥ و ٣٦ ـ ولقد آتینا موسى الكتاب....................................... ١٤٨

٣٧ ـ وقوم نوح لّما كذبوا الرسل............................................ ١٤٨

٣٨ ـ وعاداً وثمودا واصحاب الرّسّ.......................................... ١٤٨

٣٩ ـ وكلا ضربنا له الأمثال................................................ ١٤٩

٤٠ ـ ولقد اتوا على القرية................................................. ١٤٩

٤١ ـ واذا رأوك ان يتخذونك............................................... ١٥٠

٤٢ ـ ان كاد ليضلّنا عن آلهتنا.............................................. ١٥٠

٤٣ ـ أرأيت من اتّخذ عن إلهه هواه.......................................... ١٥٠

٤٤ ـ أم تحسب ان اكثرهم يسمعون أو يعقلون............................... ١٥٠

٤٥ و ٤٦ ـ ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل.................................. ١٥٢

٤٧ ـ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً...................................... ١٥٣

٤٨ ـ وهو الذي ارسل الرياح بشراً بين يدي رحمته............................. ١٥٣

٤٩ ـ لنحيي به بلدة ميتاً.................................................. ١٥٤

٥٠ ـ ولقد صرّفناه بينهم................................................... ١٥٤

٥١ ـ ولو شئنا لبعثنا في كل قريةٍ نذيراً....................................... ١٥٤

٥٢ ـ فلا تطع الكافرين.................................................... ١٥٤

٥٣ ـ وهو الذي مرج البحرين............................................... ١٥٥

٥٤ ـ وهو الذي خلق من الماء بشراً.......................................... ١٥٦

٥٥ ـ ويعبدون من........................................................ ١٥٦

٥٦ ـ وما ارسلناك الا مبشراً ونذيراً.......................................... ١٥٧

٥٧ ـ قل ما أسألكم عليه من أجرٍ.......................................... ١٥٧

٥٨ ـ وتوكل على الحيّ الذي لا يموت....................................... ١٥٨

٥٩ ـ خلق السّموات والأرض.............................................. ١٥٨

٦٠ ـ واذا قيل لهم اسجدوا للرحمان.......................................... ١٥٩

٦١ ـ تبارك الذي جعل.................................................... ١٦٠

٦٢ ـ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه.................................... ١٦٠

٦٣ ـ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً........................... ١٦١

٦٤ ـ والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً...................................... ١٦١

٦٥ ـ انها ساءت مستقراً ومقاماً............................................. ١٦٢

٦٦ ـ انها ساءت مستقراً ومقاماً............................................. ١٦٢

٦٧ ـ والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا.................................... ١٦٢

٦٨ ـ والذين لا يدعون يلق آثاماٌ............................................ ١٦٣

٦٩ ـ يضاعف له العذاب ويخلد فيها مهاناً................................... ١٦٣

٧٠ ـ الا من تاب يبدل الله سيئاتهم حسنات................................. ١٦٣

٧١ ـ ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله مثاباً.......................... ١٦٣

٧٢ ـ والذين لا يشهدون الزور............................................. ١٦٤

٧٣ ـ والذين اذا ذُكّروا بآیات ربهم.......................................... ١٦٤

٧٤ ـ والذين يقولون قرة اعين.............................................. ١٦٤

٧٥ و ٧٦ ـ أولئك يجزون الغرفة............................................ ١٦٥

٧٧ ـ قل ما يعبا لكم ربي.................................................. ١٦٥

سورة الشعراء............................................................... ١٦٧

١ ـ طسم................................................................. ١٦٧

٢ ـ تلک آیات الکتاب المبین................................................ ١٦٧

٣ ـ لعلک باخعّ نفسك الا يكونوا مؤمنين................................... ١٦٨

٤ ـ ان نشأ ننزل عليهم من السماء آية...................................... ١٦٨

٥ و ٦ ـ ومأ يأتيهم من ذكر............................................... ١٦٨

٧ ـ أو لم يروا في الأرض كم انبتنا فيها....................................... ١٦٩

٨ ـ ان في ذلك لآية...................................................... ١٦٩

٩ ـ وان ربك لهو العزيز الرحيم.............................................. ١٦٩

١٠ و ١١ ـ واذا نادى ربك موسى......................................... ١٧٠

١٢ و ١٣ و ١٤ ـ قال رب إني اخاف...................................... ١٧٠

١٥ ـ قال كلا فاذهبا...................................................... ١٧١

١٦ و ١٧ فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العالمين........................... ١٧١

١٨ و ١٩ ـ قال ألم نر بك فينا............................................ ١٧٢

٢٠ ـ قال فعلتها إذاً....................................................... ١٧٣

٢١ ـ ففررت منكم فوهب لي ربّي حكماً..................................... ١٧٣

٢٢ ـ وتلك نعمة تمنها عليّ................................................ ١٧٤

٢٣ ـ قال فرعون وما رب العالمين........................................... ١٧٤

٢٤ ـ قال ربّ السّماوات والأرض........................................... ١٧٥

٢٥ ـ قال لمن حوله ألا تسمعون............................................ ١٧٥

٢٦ ـ قال ربكم ورب آبائكم الأوّلين........................................ ١٧٥

٢٧ ـ قال ان رسولكم الذي ارسل اليكم لمجنون............................... ١٧٥

٢٨ ـ رب المشرق والمغرب وما بينهما......................................... ١٧٥

٢٩ ـ لئن اتخذت إلهاً غيري................................................ ١٧٦

٣٠ ـ قال أولو جئتك بشيء مبين.......................................... ١٧٦

٣١ ـ قال فأتِ به ان كنت من الصادقين.................................... ١٧٦

٣٢ ـ فألقى عضاه فإذا هي ثعبان مبين...................................... ١٧٧

٣٣ ـ ونزع يده فإذا هي بيضاء............................................. ١٧٧

٣٤ و ٣٥ ـ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم............................ ١٧٨

٣٦ و ٣٧ ـ قالوا ارجه واخاه............................................... ١٧٨

٣٨ ـ فجمع السحرة لميقات يوم معلوم....................................... ١٧٨

٣٩ ـ وقيل للناس هل انتم مجتمعون......................................... ١٧٨

٤٠ ـ لعلنا نتّبع السحرة.................................................... ١٧٨

٤١ ـ فلما جاء السحرة قالوا............................................... ١٧٩

٤٢ ـ قال نعم وانكم إذاً لمن المقربين......................................... ١٧٩

٤٣ ـ قال لهم موسى ألقوا ما انتم ملقون..................................... ١٨٠

٤٤ ـ فألقوا حبالهم وعصيهم............................................... ١٨٠

٤٥ ـ فالقى موسى عصاه فاذا هي تلقف.................................... ١٨٠

٤٦ ـ فألقى السحرة ساجدين.............................................. ١٨٠

٤٧ و ٤٨ ـ قالوا آمنّا برب العالمين.......................................... ١٨١

٤٩ ـ قال آمنتم له قبل ان آذن لكم........................................ ١٨١

٥٠ ـ قالوا لا ضير إنّا الى ربنا منقلبون....................................... ١٨٢

٥١ ـ إنّا نطمع أن كنا أوّل المؤمنين.......................................... ١٨٢

٥٢ ـ وأوحينا الى موسى................................................... ١٧٣

٥٣ ـ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين...................................... ١٨٣

٥٤ ـ إن هؤلاء في المدائن حاشرين.......................................... ١٨٣

٥٥ ـ وانهم لنا لغائظون.................................................... ١٨٣

٥٦ ـ وانا لجميع حاذرون.................................................. ١٨٣

٥٧ و ٥٨ ـ فأجرجناهم من جنات وعيون................................... ١٨٣

٥٩ ـ كذلك وأورثناها بني اسرائيل........................................... ١٨٤

٦٠ ـ فأتبعوهم مشرقين.................................................... ١٨٤

٦١ ـ فلما تَرَاءَ الجمعان.................................................... ١٨٤

٦٢ ـ قال كلاّ ان معي ربي سيهدين......................................... ١٨٥

٦٣ ـ فأوحينا الى موسى ان اضرب بعصاك................................... ١٨٥

٦٤ و ٦٥ و ٦٦ ـ وأزلفنا ثم الآخرین....................................... ١٨٥

٦٧ و ٦٨ ـ ان فی ذلك لآية.............................................. ١٨٦

٦٩ و ٧٠ ـ واتل عليهم نبأ إبراهيم......................................... ١٨٧

٧١ ـ قالوا نعبد أصناماً.................................................... ١٨٧

٧٢ و ٧٣ ـ قال هل يسمعونكم ان تدعون.................................. ١٨٧

٧٤ ـ قالوا بل وجدنا آیاءنا................................................. ١٨٨

٧٥ الى ٧٩ ـ قال فإنهم عدوّ لي............................................ ١٨٨

٨٠ ـ واذا مرضت فهو يشفين.............................................. ١٨٩

٨١ ـ والذي يميتني ثم يحيين................................................ ١٨٩

٨٢ ـ والذي اطمع ان يغفرلي............................................... ١٩٠

٨٣ ـ ربّ هب لي حكماً.................................................. ١٩٠

٨٤ ـ واجعل لي لسان صدق في الآخرین..................................... ١٩١

٨٥ ـ واجعلني من ورثة جنة النعيم........................................... ١٩١

٨٦ ـ واغفر لأبي انه كان من الضالين....................................... ١٩١

٨٧ الى ٨٩ ـ ولا تحزنی یوم یبعثون......................................... ١٩٢

٩٠ ـ وازلفت الجنةّ للمتقين................................................ ١٩٢

٩١ ـ وابرزت الجحيم للغاوين............................................... ١٩٢

٩٢ ـ الى ٩٥ ـ وقيل لهم اين ما كنتم تعبدون................................. ١٩٣

٩٦ ـ الى ٩٨ ـ قالوا وهم فيها يختصمون..................................... ١٩٣

١٠٠ و ١٠١ ـ فما لنا من شافعين......................................... ١٩٣

١٠٢ ـ فلو ان لنا كرّةّ فنكون............................................... ١٩٤

١٠٣ و ١٠٤ ـ ان في ذلك لآية........................................... ١٩٤

١٠٥ الى ١١٠ كذّبت قوم نوح............................................ ١٩٤

١١١ ـ قالوا انؤمن لك واتبعك............................................. ١٩٥

١١٢ ـ قال وما علمي بما كانوا يعملون...................................... ١٩٥

١١٣ ـ ان حسابهم الا على ربي............................................ ١٩٦

١١٤ و ١١٥ ـ وما انا بطارد المؤمنين....................................... ١٩٦

١١٦ ـ قالوا لئن لم تنتهِ يا نوح............................................. ١٩٦

١١٧ و ١١٨ ـ قال رب ان قومي كذّبون.................................... ١٩٧

١١٩ و ١٢٠ ـ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون.......................... ١٩٧

١٢١ ـ ١٢٢ ـ ان في ذلك العزيز........................................... ١٩٧

١٢٣ ـ كذّبت عادّ المرسلين................................................ ١٩٨

١٢٤ الى ١٢٧ ـ اذ قال لهم اخوهم هود.................................... ١٩٨

١٢٨ ـ اتبنون بكل ريع آیة................................................ ١٩٨

١٢٩ ـ وتتخذون مصانع.................................................. ١٩٨

١٣٠ ـ واذا بطشتم....................................................... ١٩٨

١٣١ الى ١٣٥ ـ فاتقوا الله................................................ ١٩٩

١٣٦ و ١٣٧ ـ قالوا سواء علينا اوعظت ام لم تكن من الواعظين............... ١٩٩

١٣٨ ـ وما نحن بمعذبين................................................... ٢٠٠

١٣٩ ـ الى ١٤٥ ـ فكذّبوه فأهلكناهم....................................... ٢٠٠

١٤٦ الى ١٤٨ أتتركون فیها ههنا.......................................... ٢٠٠

١٤٩ الى ١٥٢ ـ وتنحتون من الجبال بيوتاً................................... ٢٠٠

١٥٣ و ١٥٤ ـ قالوا انما انت من المسحرين.................................. ٢٠١

١٥٥ ـ هذه ناقة لها شرب................................................. ٢٠١

١٥٦ ـ ولا تمسّوها بسوء................................................... ٢٠٢

١٥٧ ـ فعقروها فأصبحوا نادمين............................................ ٢٠٢

١٥٨ و ١٥٩ ـ فأخذهم العذاب........................................... ٢٠٢

١٦٠ الى ١٦٥ ـ كذّبت قوم لوط أتأتون الذكران............................. ٢٠٣

١٦٦ ـ بل أنتم قومّ عادون................................................ ٢٠٣

١٦٧ ـ قالوا لئن لم تنتهِ يا لوط............................................. ٢٠٣

١٦٨ ـ قال اني لعملكم من القالين......................................... ٢٠٣

١٦٩ الى ١٧١ ـ رب نجني واهلي مما يعملون................................. ٢٠٣

١٧٢ الى ١٧٥ ـ ثم دمّرنا................................................... ٢٠

١٧٦ ـ كذب اصحاب الأيكة.............................................. ٢٠٤

١٧٧ الى ١٨٠ ـ اذ قال لهم شعيب........................................ ٢٠٥

١٨١ الى ١٨٣ ـ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين......................... ٢٠٥

١٨٤ ـ واتقوا الذي خلقكم................................................ ٢٠٥

١٨٥ الى ١٨٨ ـ قالوا وان نظنك لمن الكاذبين............................... ٢٠٦

١٨٩ الى ١٩١ ـ فكذّبوه فأخذهم عذاب................................... ٢٠٦

١٩٢ و ١٩٣ ـ وإنّه لتنزيل رب العالمين...................................... ٢٠٧

١٩٤ ـ على قلبك لتكون.................................................. ٢٠٧

١٩٥ و ١٩٦ ـ بلسان عربيَّ مبين.......................................... ٢٠٧

١٩٧ ـ أو لم يكن لهم آية................................................. ٢٠٨

١٩٨ و ١٩٩ ـ ولو نزلنا علي بعض الاعجمين.............................. ٢٠٩

٢٠٠ ـ كذلك سلكناه في قلوب المجرمين..................................... ٢٠٩

٢٠١ الى ٢٠٣ ـ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب.............................. ٢٠٩

٢٠٤ ـ أفبعذابنا يستعجلون................................................ ٢١٠

٢٠٥ الى ٢٠٧ ـ افرأيت ان متعناهم سنين.................................. ٢١٠

٢٠٨ و ٢٠٩ ـ وما اهلكنا من قرية الا لها منذرون............................ ٢١١

٢١٠ الى ٢١٣ ـ وما تنزلت به الشياطين.................................... ٢١١

٢١٤ ـ وانذر عشيرتك الاولين............................................. ٢١٢

٢١٥ ـ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين............................... ٢١٢

٢١٦ ـ فإن عصرك فقل إني برئ مما تعملون.................................. ٢١٢

٢١٧ ـ وتوكل على العزيز الرحيم........................................... ٢١٢

٢١٨ الى ٢٢٠ ـ الذي يراك حين تقوم...................................... ٢١٣

٢٢١ و ٢٢٢ ـ هل انبئكم على من تنزل الشياطين........................... ٢١٣

٢٢٣ ـ يلقون السمع واكثرهم كاذبون....................................... ٢١٣

٢٢٤ الى ٢٢٦ ـ والشعراء يتبعهم الغاوون.................................... ٢١٤

سورة النمل................................................................. ٢١٧

١ ـ طس ـ تلك آیات القرآن وکتاب مبین.................................... ٢١٧

٢ و ٣ ـ هدى وبشرى للمؤمنين............................................ ٢١٨

٤ ـ ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم اعمالهم............................... ٢١٨

٥ ـ اولئك لهم سوء العذاب................................................ ٢١٨

٦ ـ وانك لتلقى القرآن.................................................... ٢١٩

٧ ـ اذ قال موسى لأهله................................................... ٢٢٠

٨ ـ فلمّا جاءها نودي..................................................... ٢٢١

٩ ـ يا موسى انه انا الله العزيز الحكيم........................................ ٢٢١

١٠ ـ والق عصاك........................................................ ٢٢١

١١ ـ الا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوءٍ.................................... ٢٢١

١٢ ـ وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء..................................... ٢٢١

١٣ ـ فلما جاءتهم آیاتنا مبصرئ............................................ ٢٢٢

١٤ ـ وجحدوا بها......................................................... ٢٢٢

١٥ ـ ولقد آتینا داود وسليمان علماً........................................ ٢٢٣

١٦ ـ وورث سليمان داوود................................................. ٢٢٤

١٧ ـ وحُشر لسليمان..................................................... ٢٢٥

١٨ ـ حتى اذا أتوا على.................................................... ٢٢٦

١٩ ـ فتبسّم ضاحكاً...................................................... ٢٢٦

٢٠ ـ وتفقد الطير........................................................ ٢٢٧

٢١ ـ لاعذبنه عذاباً شديداً................................................ ٢٢٩

٢٢ ـ فمكث غير بعيد.................................................... ٢٣٠

٢٣ ـ اني وجدت امرأة تملكهم.............................................. ٢٣٠

٢٤ الى ٢٦ ـ وجدتها وقومها يسجدون للشمس.............................. ٢٣١

٢٧ ـ قال سنظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.............................. ٢٣٢

٢٨ ـ إذهب بكتابي هذا فالقه.............................................. ٢٣٣

٢٩ ـ قالت يا ايها الملأ اني القي اليّ كتاب كريم............................... ٢٣٣

٣٠ ـ انه من سليمان...................................................... ٢٣٣

٣١ ـ الا تعلو عليّ ووأتوني مسلمين......................................... ٢٣٣

٣٢ ـ قالت يا ايها الملأ افتوني.............................................. ٢٣٤

٣٣ ـ قالوا نحن اولو قوة.................................................... ٢٣٥

٣٤ ـ قالت ان الملوك...................................................... ٢٣٥

٣٥ ـ واني مرسلة اليهم بهدية............................................... ٢٣٥

٣٦ ـ فلما جاء سليمان قال اتمدونن بمال..................................... ٢٣٦

٣٧ ـ ارجع اليهم فتأتينهم.................................................. ٢٣٦

٣٨ ـ قال يا ايها الملأ...................................................... ٢٣٧

٣٩ ـ قال عفريت من الجن................................................. ٢٣٧

٤٠ ـ قال الذي عنده علم من الكتاب...................................... ٢٣٧

٤١ ـ قال نكروا لها عرشها................................................. ٢٣٨

٤٢ ـ فلمّا جاءت قبل اهكذا عرشك........................................ ٢٣٨

٤٣ ـ وصدها ما كانت تعبد............................................... ٢٣٩

٤٤ ـ قيل لها ادخلي الصرح................................................ ٢٣٩

٤٥ ـ ولقد ارسلنا الى ثمود.................................................. ٢٤٠

٤٦ ـ قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة...................................... ٢٤١

٤٧ ـ قالوا اطّيرنا بك وبمن معك............................................ ٢٤١

٤٨ ـ وكان في المدينة تسعة رهطٍ............................................ ٢٤٢

٤٩ ـ قالوا تقاسموا بالله..................................................... ٢٤٢

٥٠ و ٥١ ـ ومكروا مكراً ومكرنا مكراً....................................... ٢٤٢

٥٢ و ٥٣ ـ فتلك بيوتهم خاوية............................................ ٢٤٣

٥٤ ـ ولوطاً اذ قال لقوم أتاتون الفاحشة..................................... ٢٤٣

٥٥ ـ إنكم لتأتون الرجال.................................................. ٢٤٤

٥٦ ـ فما كان جواب قومه إلاّ ان قالوا...................................... ٢٤٤

٥٧ ـ فأنجيناه واهله الا امرأته............................................... ٢٤٤

٥٨ ـ وامطرنا عليهم مطراً.................................................. ٢٤٤

٥٩ ـ قل الحمد لله وسلام.................................................. ٢٤٥

٦٠ ـ أمّن خلق السماوات................................................. ٢٤٧

٦١ ـ أمّن جعل الارض قراراً................................................ ٢٤٧

٦٢ ـ أمّن يجيب المضطر................................................... ٢٤٨

٦٣ ـ أمّن يهديكم في ظلمات.............................................. ٢٤٨

٦٤ ـ أمّ يبدأً الخلق ثم يعيده................................................ ٢٤٩

٦٥ ـ قل لا يعلم من في السماوات والارض.................................. ٢٤٩

٦٦ ـ بل ادّارك علمهم في الآخرة............................................ ٢٤٩

٦٧ و ٦٨ ـ وقال الذين كفروا.............................................. ٢٥٠

٦٩ ـ قل سيروا في الارض.................................................. ٢٥٠

٧٠ ـ ولا تحزن عليهم..................................................... ٢٥١

٧١ ـ ويقولون متى هذا الوعد.............................................. ٢٥١

٧٢ ـ قل عسى أن يكون رَدِف لكم........................................ ٢٥١

٧٣ ـ وان ربك لذو فضل.................................................. ٢٥١

٧٤ و ٧٥ ـ وان ربك ليعلم ما تكن صدورهم................................ ٢٥٢

٧٦ و ٧٧ ـ ان هذا القرآن یقص على بني اسرائيل............................ ٢٥٢

٧٨ ـ ان ربك يقضي بينهم................................................ ٢٥٣

٧٩ ـ فتوكل على الله...................................................... ٢٥٣

٨٠ و ٨١ ـ انك لا تسمع الموتى........................................... ٢٥٣

٨٢ ـ واذا وقع القول عليهم................................................ ٢٥٤

٨٣ ـ ويوم نحشر من كلّ امة............................................... ٢٥٤

٨٤ ـ حتى اذا جاؤوا....................................................... ٢٥٥

٨٥ ـ وقع القول عليهم.................................................... ٢٥٦

 ٨٦ ـ ألم يروا انا جعلنا الليل............................................... ٢٥٦

٨٧ ـ يوم ينفخ في الصور.................................................. ٢٥٦

٨٨ ـ وترى الجبال تحسبها جامدة........................................... ٢٥٧

٨٩ و ٩٠ ـ ومن جاء بالحسنة فله خير منها.................................. ٢٥٨

٩١ ـ انما امرت ان اعبد................................................... ٢٥٩

٩٢ ـ وان أتلوا القرآن ممن اهتدى........................................... ٢٥٩

٩٣ ـ وقل الحمد لله....................................................... ٢٦٠

سورة القصص............................................................... ٢٦١

١ ـ طَسَمَ................................................................ ٢٦١

٢ ـ تلك آیات الکتاب.................................................... ٢٦١

٣ ـ نتلو علیک من نبأ موسى.............................................. ٢٦٣

٤ ـ ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً............................... ٢٦٤

٥ و ٦ ـ ونريد أن نمّن..................................................... ٢٦٤

٧ ـ واوحينا الى ام موسى................................................... ٢٦٥

٨ ـ فالنقطه آل فرعون..................................................... ٢٦٦

٩ ـ قالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك...................................... ٢٦٧

١٠ ـ واصبح فؤاد ام موسى فارغاً........................................... ٢٦٩

١١ ـ وقالت لاخته قُصّبه.................................................. ٢٦٩

١٢ و ١٣ ـ وحرّمنا عليه المراضع............................................ ٢٧٠

١٤ ـ ولما بلغ أشدّه....................................................... ٢٧١

١٥ ـ ودخل المدينة....................................................... ٢٧٢

١٦ ـ قال ربّ اني ظلمت نفسي............................................ ٢٧٣

١٧ ـ قال ربّ بما انعمت عليّ.............................................. ٢٧٣

١٨ ـ فأصبح في المدينة خائفاً يتوقّب........................................ ٢٧٣

١٩ ـ فلما اراد ان يبطش.................................................. ٢٧٤

٢٠ ـ وجاء رجل من اقصى المدينة........................................... ٢٧٤

٢١ ـ فخرج منها خائفاً.................................................... ٢٧٥

٢٢ ـ ولما تلقاه مدين...................................................... ٢٧٥

٢٣ ـ ولما ورد ماء مدين.................................................... ٢٧٦

٢٤ ـ فسقى لهما......................................................... ٢٧٦

٢٥ ـ فجاءته احداهما..................................................... ٢٧٧

٢٦ ـ قالت احداهما يا ابت استأجره........................................ ٢٧٨

٢٧ ـ قال اني اريد ان انكحك احدى ابنتيّ................................... ٢٧٨

٢٨ ـ قال ذلك بيني وبينك................................................ ٢٧٨

٢٩ ـ فلما قضى موسى الاجل............................................. ٢٨٠

٣٠ ـ فلما اتاها نودي..................................................... ٢٨١

٣١ ـ وان الق عصاك...................................................... ٢٨٢

٣٢ ـ اسلك يدك في جيبك................................................ ٢٨٢

٣٣ و ٣٤ ـ قال ربّ اني قتلت منهم نفساً................................... ٢٨٤

٣٥ ـ قال سنشد عضدك بأخيك........................................... ٢٨٤

٣٦ ـ فلما جاءهم موسى بآیاتنا قالوا ما هذا الا سحر مفتريّ................... ٢٨٥

٣٧ ـ وقال موسى ربّي اعلم بمن جاء بالهدى.................................. ٢٨٥

٣٨ ـ وقال فرعون يا ايها الملاً.............................................. ٢٨٦

٣٩ ـ واستكبر هو وجنوده يغبر الحق......................................... ٢٨٧

٤٠ ـ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم...................................... ٢٨٧

٤١ ـ وجعلناهم أئمة...................................................... ٢٨٧

٤٢ ـ واتبعناهم في هذه.................................................... ٢٨٧

٤٣ ـ ولقد آتینا موسد بصائر للناس......................................... ٢٨٨

٤٤ ـ وما كنت بجانب الغربّي............................................... ٢٨٨

٤٥ و ٤٦ ـ ولكنا انشأنا قروناً............................................. ٢٨٩

٤٧ ـ فلولا ان تصيبهم مصيبة.............................................. ٢٩٠

٤٨ ـ فلما جاءهم الحق من عندنا........................................... ٢٩١

٤٩ و ٥٠ ـ قل فأتوا بكتاب هو اهدى منهم................................ ٢٩١

٥١ ـ ولقد وصّلنا لهم القول................................................ ٢٩٢

٥٢ ـ الذين آتیناهم الکتاب من قبله........................................ ٢٩٣

٥٣ ـ واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به.......................................... ٢٩٣

٥٤ ـ اولئك يؤتون اجرهم مرتين............................................ ٢٩٣

٥٥ ـ واذا سمعو اللغو اعرضو عنه............................................ ٢٩٣

٥٦ ـ انك لا تهدي من أحببت............................................. ٢٩٤

٥٧ ـ وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف.................................... ٢٩٥

٥٨ ـ وكم اهلكنا من قرية بطرت............................................ ٢٩٦

٥٩ ـ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولاً..................... ٢٩٦

٦٠ ـ وما أوتيتم أفلا تعقلون............................................... ٢٩٧

٦١ ـ أفمن وعدناه وعداً حسناً............................................. ٢٩٧

٦٢ ـ ويم يناديهم فيقول اين شركائي........................................ ٢٩٨

٦٣ ـ قال الذين حق عليهم القول........................................... ٢٩٨

٦٤ ـ وقيل ادعوا شركاءكم................................................. ٢٩٨

٦٥ ـ ويوم يناديهم فيقول.................................................. ٢٩٩

٦٦ ـ فعميت عليهم الانباء................................................ ٢٩٩

٦٧ ـ فأما من تاب وآمن.................................................. ٢٩٩

٦٨ و ٦٩ ـ وربک یخلق ما یشاء ويختار..................................... ٣٠٠

٧٠ ـ وهو الله لا إله الا هو................................................ ٣٠٢

٧١ ـ قل أرأيتم أن جعل النهار............................................. ٣٠٣

٧٢ ـ قل أرايتم أن جعل النهار............................................. ٣٠٣

٧٣ ـ ومن رحمته.......................................................... ٣٠٣

٧٤ ـ ويم يناديهم فيقول اين شركائي........................................ ٣٠٤

٧٥ ـ ونزعنا من كل امة شهيداً............................................. ٣٠٤

٧٦ ـ ان قارون كان من قوم موسى.......................................... ٣٠٥

٧٧ ـ وابتغ فيما آتاک الله................................................. ٣٠٦

٧٨ ـ قال إنما اوتيته على علم عندي........................................ ٣٠٧

٧٩ ـ فخرج على قومه في زينته............................................. ٣٠٨

٨٠ ـ وقال الذين اوتوا العلم................................................ ٣٠٨

٨١ ـ فخسفنا به وبداره العلم.............................................. ٣٠٨

٨٢ ـ واصبح الذين تمنّوا مكانه يالامس...................................... ٣٠٩

٨٣ ـ تلك الدار الآخرة.................................................... ٣١٠

٨٤ ـ من جاء بالحسنة الا ما كانو يعلمون.................................... ٣١٠

٨٥ ـ ان الذي فرض عليك القرآن.......................................... ٣١١

٨٦ ـ وما کنت ترجو أن يلقى.............................................. ٣١١

٨٧ ـ ولا تَدع مع الله إلهاً آخر.............................................. ٣١٢

سورة العنكبوت............................................................. ٣١٣

١ ـ ألم.................................................................. ٣١٣

٢ ـ أحسب الناس........................................................ ٣١٣

٣ ـ ولقد فتنا الدين من قبلهم.............................................. ٣١٤

٤ ـ أم حسب الذين يعملون السيئات....................................... ٣١٤

٥ ـ من كان يرجو لقاء الله................................................. ٣١٥

٦ ـ ومن جاهد فانما يجاهد................................................. ٣١٥

٧ ـ والذين آمنوا ولنجزيهم أحسن الذي..................................... ٣١٦

٨ و ٩ ـ وَوَصينا الانسان بوالديه حسناً...................................... ٣١٦

١٠ ـ ومن الناس من يقول فاذا اوذي في الله.................................. ٣١٧

١١ ـ وليعلمن الذين آمنوا.................................................. ٣١٧

١٢ ـ وقال الذين كفروا اتبعوا سبيلنا......................................... ٣١٧

١٣ ـ وليحملن اثقالهم واثقالاً............................................... ٣١٨

١٤ ـ ولقد ارسلنا نوحاً الى قومه............................................ ٣١٨

١٥ ـ فانجيناه واصحاب السفينة............................................ ٣١٩

١٦ ـ وابراهيم اذ قال لقومه................................................ ٣١٩

١٧ ـ إنما تعبدون من دون الله.............................................. ٣٢٠

١٨ ـ وان تكذبوا فقد كذّب................................................ ٣٢٠

١٩ و ٢٠ ـ أولم يروا كيف................................................. ٣٢١

٢١ ـ يعذب من يشاء واليه تقلبون.......................................... ٣٢١

٢٢ ـ وما انتم بمعجزين في الأرض........................................... ٣٢١

٢٣ ـ والذين كفروا بآیات الله............................................... ٣٢٢

٢٤ ـ فما كان جواب الا ان قالوا اقتلوه...................................... ٣٢٣

٢٥ ـ وقال انما اتخذتم مودّة بينكم........................................... ٣٢٣

٢٦ ـ فآمن له لوط....................................................... ٣٢٤

٢٧ ـ ووهبنا له اسحاق.................................................... ٣٢٤

٢٨ ـ ولوطاً اذا قال لقومه................................................. ٢٣٦

٢٩ ـ أثنكم لتأتون الرجال................................................. ٣٢٦

٣٠ ـ قال ربّ انصرني..................................................... ٣٢٧

٣١ ـ ولما جاءت رسلنا ابراهيم.............................................. ٣٢٧

٣٢ ـ قال ان فيها لوطاً.................................................... ٣٢٨

٣٣ ـ ولما ان جاءت رسلنا.................................................. ٣٢٨

٣٤ ـ إننا منزلون رجزاً من السماء........................................... ٣٢٨

٣٥ ـ ولقد تركنا منها آیة.................................................. ٣٢٩

٣٦ ـ والى مدين آخاهم شعبیاٌ.............................................. ٣٢٩

٣٧ ـ فكذبوه فأخذتهم الرجفة.............................................. ٣٢٩

٣٨ ـ وعاداًوثمود.......................................................... ٣٣٠

٣٩ ـ وقارون وفرعون وهامان............................................... ٣٣٠

٤٠ ـ فكلا أخذنا بذنبه................................................... ٣٣١

٤١ و ٤٢ ـ مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء.............................. ٣٣١

٤٣ ـ وتلك الامثال نضربها................................................. ٣٣٢

٤٤ ـ خلق السماوات والارض بالحق........................................ ٣٣٣

٤٥ ـ اتل ما اوحي إليك من الكتاب........................................ ٣٣٣

٤٦ ـ ولا تجادلوا اهل الكتاب.............................................. ٣٣٤

٤٧ ـ وكذلك انزلنا إليك الكتاب........................................... ٣٣٥

٤٨ ـ وما كنت تتلو من قبله من كتاب...................................... ٣٣٦

٤٩ ـ بل هو آیات بیّنات.................................................. ٣٣٦

٥٠ ـ وقالوا لولا انزل عليه آیات من ربّه...................................... ٣٣٧

٥١ ـ أو لم يكفهم أنّا انزلنا عليك الكتاب................................... ٣٣٧

٥٢ ـ قل كفى بالله بيني وبينكم............................................. ٣٣٧

٥٣ ـ ويستعجلونك بالعذاب ولولا اجل..................................... ٣٣٨

٥٤ ـ يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة................................. ٣٣٨

٥٥ ـ يوم يغشاهم العذاب................................................. ٣٣٨

٥٦ ـ يا عبادي الذين آمنوا ان ارضی واسعة.................................. ٣٣٩

٥٧ و ٥٨ ـ كل نفس ذائقة الموت.......................................... ٣٣٩

٥٩ ـ الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون....................................... ٣٤٠

٦٠ ـ وكأيّن من دابةٍ...................................................... ٣٤٠

٦١ ـ ولئن سألتهم من خلق السماوات...................................... ٣٤١

٦٢ ـ الله يبسط الرزق..................................................... ٣٤١

٦٣ ـ ولئن سألتهم الحمدلله................................................ ٣٤١

٦٤ ـ ما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب...................................... ٣٤٢

٦٥ ـ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين................................... ٣٤٣

٦٦ ـ ليكفروا بما آتیناهم................................................... ٣٤٣

٦٧ ـ أولم يروا أنّا جعلنا.................................................... ٣٤٣

٦٨ ـ ومن اظلم ممن افترى على الله.......................................... ٣٤٤

٦٩ ـ والذين جاهدوا فينا.................................................. ٣٤٤

سورة الروم.................................................................. ٣٤٥

١ الى ٧ ـ الم ، غلبت الروم................................................ ٣٤٥

٨ ـ أو لم يتفكروا في أنفسهم............................................... ٣٤٨

٩ ـ أو لم يسيروا في الارض................................................. ٣٤٨

١٠ ـ ثم كان عاقبة الذين اساؤا السوأى...................................... ٣٤٩

١١ ـ الله يبدأ الخلق ثم يعيده............................................... ٣٥٠

١٢ ـ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون....................................... ٣٥٠

١٣ ـ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء....................................... ٣٥٠

١٤ ـ ويوم تقوم الساعة من شركائهم شفعاء.................................. ٣٥٠

١٥ ـ فأمّا الذين آمنوا..................................................... ٣٥١

١٦ ـ واما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا......................................... ٣٥١

١٧ و ١٨ ـ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون......................... ٣٥٢

١٩ ـ يخرج الحي من الميث................................................. ٣٥٣

٢٠ ـ ومن آیاته ان خلق لکم.............................................. ٣٥٥

٢١ ـ ومن آیاته ان خلق لکم.............................................. ٣٥٥

٢٢ ـ ومن آیاته خلق السماوات............................................ ٣٥٦

٢٣ ـ ومن آیاته منامکم باللیل والنهار....................................... ٣٥٨

٢٤ ـ ومن آیاته یریکم البرق خوفاٌ وطمعاً.................................... ٣٥٨

٢٥ ـ ومن آیاته أن تقوم السماء والارض بأمره................................ ٣٥٩

٢٦ ـ وله من في السماوات والارض......................................... ٣٦١

٢٧ ـ وهو الذي يبدأ الخلق................................................. ٣٦١

٢٨ ـ ضرب لكم مثلاً من انفسكم.......................................... ٣٦١

٢٩ ـ بل اتبع الذين ظلموا................................................. ٣٦٢

٣٠ ـ فأقم وجهك للذين حنيفاً............................................. ٣٦٣

٣١ ـ منيبين اليه واتقوه.................................................... ٣٦٤

٣٢ ـ من الذين فرقوا دينهم................................................ ٣٦٤

٣٣ ـ واذا مسّ الناس ضُر.................................................. ٣٦٥

٣٤ ـ ليكفروا بما اتيناهم................................................... ٣٦٥

٣٥ ـ أم أنزلنا عليهم سلطاناً............................................... ٣٦٥

٣٦ ـ واذا اذقنا الناس رحمة................................................. ٣٦٥

٣٧ ـ أو لم يروا ان الله يبسط الرزق لم يشاء.................................. ٣٦٦

٣٨ ـ فآت ذا القربى حقّه.................................................. ٣٦٦

٣٩ ـ وما آتیتم من رباً..................................................... ٣٦٧

٤٠ ـ الله الذي خلقكم.................................................... ٣٦٨

٤١ ـ ظهر الفساد في البر والبحر........................................... ٣٦٨

٤٢ ـ قل سيروا في الأرض فانظروا........................................... ٣٦٩

٤٣ ـ فأقم وجهك للدين القيم............................................. ٣٦٩

٤٤ و ٤٥ ـ من كفر فعليه كفره............................................ ٣٧٠

٤٦ ـ ومن آیاته ان يرسل الرياح............................................. ٣٧١

٤٧ ـ ولقد ارسلنا من قبلك رسلاً........................................... ٣٧١

٤٨ و ٤٩ ـ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً............................... ٣٧٢

٥٠ ـ فانظر الى آثار رحمة الله............................................... ٣٧٢

٥١ ـ ولئن ارسلنا ريحاً..................................................... ٣٧٣

٥٢ ـ فانك لا تسمع الموتى................................................ ٣٧٤

٥٣ ـ وما انت بهاد العمي عن ضلالتهم..................................... ٣٧٤

٥٤ ـ الله الذي خلقكم من ضعفِ.......................................... ٣٧٥

٥٥ ـ ويوم تقوم الساعة.................................................... ٣٧٦

٥٦ و ٥٧ ـ وقال الذين اوتوا العلم والإيمان.................................. ٣٧٦

٥٨ ـ ولقد ضربنا للناس................................................... ٣٧٨

٥٩ ـ كذلك يطبع الله على قلوب........................................... ٣٧٨

٦٠ ـ فاصبر ان وعد الله حق............................................... ٣٧٨

سورة لقمان................................................................. ٣٨١

١ و ٢ ـ الم ، تلك آیات الکتاب الحکیم.................................... ٣٨١

٣ الی ٥ ـ الذين يقيمون الصلاة............................................ ٣٨٢

٦ ـ ومن الناس من يشتري................................................. ٣٨٢

٧ ـ وإذا تتلى عليه آیاتنا ولى مستكبراً....................................... ٣٨٣

٨ و ٩ ـ إن الذين آمنوا................................................... ٣٨٣

١٠ ـ خلق السماوات بغیر عمد ثرونها....................................... ٣٨٤

١١ ـ هذا خَلقُ الله........................................................ ٣٨٥

١٢ ـ ولقد آتینا لقمان الحکمة............................................. ٣٨٦

١٣ ـ واذ قال لقمان لابنه................................................. ٣٨٦

١٤ ـ ووصّينا الانسان بوالديه............................................... ٣٨٨

١٥ ـ وان جاهدك على ان تشرك بي......................................... ٣٨٨

١٦ ـ يا بني انها ان تلك مثقال حبةٍ......................................... ٣٨٩

١٧ ـ يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف....................................... ٣٩٠

١٨ ـ ولا تصعّر خدّك للناس............................................... ٣٩١

١٩ ـ واقصد في مشيك.................................................... ٣٩١

٢٠ ـ الم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات.............................. ٣٩٣

٢١ ـ واذا قيل لهم أولوا كان الشيطان........................................ ٣٩٤

٢٢ ـ ومن يسلم وجهه الى الله.............................................. ٣٩٤

٢٣ ـ ومن كفر فلا يحزنك كفره............................................. ٣٩٤

٢٤ ـ نمتّعهم قليلاً ثم نضطرّهم.............................................. ٣٩٤

٢٥ ـ ولئن سألتهم عن خلق السماوات والأرض ليقولن الله..................... ٣٩٥

٢٦ ـ لله ما في السماوات والأرض........................................... ٣٩٦

٢٧ ـ ولو ان ما في الارض................................................. ٣٩٦

٢٨ ـ ما خلقكم وما بعثكم الا كنفس واحدة................................. ٣٩٦

٢٩ ـ ألم تر ان الله يولج الليل............................................... ٣٩٦

٣٠ ـ ذلك بأن الله هو الحق................................................ ٣٩٧

٣١ ـ ألم تر أن الفلك تجري في البحر....................................... ٣٩٨

٣٢ ـ واذا غشيهم موج كالظلل............................................. ٣٩٩

٣٣ ـ يا ايها الناس اتّقوا ربكم.............................................. ٤٠٠

٣٤ ـ ان الله عنده علم الساعة............................................. ٤٠١

سورة السجدة............................................................... ٤٠٣

١ ـ الم.................................................................. ٤٠٣

٢ ـ تنزيل الكتاب......................................................... ٤٠٣

٣ ـ ام يقولون افتراه....................................................... ٤٠٤

٤ ـ الله الذي خلق السماوات والارض....................................... ٤٠٥

٥ ـ الى ٨ ـ يدبر الامر من السماء الى الارض................................. ٤٠٥

٩ ـ ثم سوّاه ونفخ فيه...................................................... ٤٠٦

١٠ و ١١ ـ وقالوا اذا ضللنا في الارض...................................... ٤٠٨

١٢ ـ ولو ترى إذا المجرمون ناكسو رؤوسهم................................... ٤٠٩

١٣ ـ ولو شئنا لآتینا كلّ نفس هداها........................................ ٤٠٩

١٤ ـ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم.......................................... ٤١٠

١٥ ـ إنما يؤمن من بآیاتنا خروا سجداً....................................... ٤١٠

١٦ ـ تتجافى جنوبهم عن المضاجع.......................................... ٤١٠

١٧ ـ فلا تعلم نفس ما اخفي لهم........................................... ٤١١

١٨ ـ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً لا يستوون............................ ٤١٢

١٩ ـ أما الذين آمنوا فلهم جنّات المأوى نزلاً................................. ٤١٢

٢٠ ـ وأما الذين فسقوا.................................................... ٤١٢

٢١ ـ ولنذيقهم من العذاب الادنى.......................................... ٤١٢

٢٢ ـ ومن أظلم إنا من المجرمين منتقمون..................................... ٤١٣

٢٣ ـ ولقد آتینا موسى فلا تكن في مرية..................................... ٤١٣

٢٤ ـ وجعلنا منهم ائمة.................................................... ٤١٤

٢٥ ـ ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة................................... ٤١٤

٢٦ ـ او لم يَهد لهم....................................................... ٤١٤

٢٧ ـ أو لم يروا أنا الى الارض الجزر......................................... ٤١٥

٢٨ ـ ويقولون متى ان كنتم صادقين......................................... ٤١٥

٢٩ ـ قل يوم الفتح لا ينفع................................................ ٤١٥

٣٠ ـ فاعرض عنهم....................................................... ٤١٥

سورة الاحزاب.............................................................. ٤١٧

١ ـ يا ايها النبي اتق الله.................................................... ٤١٧

٢ ـ واتبع ما يوحى إليك................................................... ٤١٨

٣ ـ وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً......................................... ٤١٨

٤ ـ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه..................................... ٤١٩

٥ ـ ادعوهم لآبائهم....................................................... ٤٢٠

٦ ـ النبي اولى بالمؤمنين..................................................... ٤٢١

٧ ـ واذ اخذنا من النبيين................................................... ٤٢٢

٨ ـ ليسأل الصادقين عن صدقهم........................................... ٤٢٣

٩ ـ يا ايها الذين آمنوا إذا جاءتكم جنود..................................... ٤٢٣

١٠ ـ إذ جاؤوكم من فوقكم................................................ ٤٢٣

١١ ـ هنالك ابتلي المؤمنون................................................. ٤٢٤

١٢ ـ واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض............................... ٤٢٥

١٣ ـ واذ قالت طائفة منهم يا اهل يثرب لا مُقام لكم......................... ٤٢٥

١٤ ـ ولو دخلت عليهم من اقطارها......................................... ٤٢٥

١٥ ـ ولقد كانوا عاهدوا الله................................................ ٤٢٥

١٦ ـ قل لن ينفعكم الفرار................................................. ٤٢٦

١٧ ـ قل من ذا الذي يعصمكم............................................ ٤٢٦

١٨ ـ قد يعلم الله المعوَّقين.................................................. ٤٢٧

١٩ ـ اشحَّةً عليكم....................................................... ٤٢٧

٢٠ ـ يحسبون الاحزاب لم يذهبوا........................................... ٤٢٨

٢١ ـ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة................................. ٤٢٩

٢٢ ـ ولما رأى المؤمنون الاحزاب............................................ ٤٣٠

٢٣ ـ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه............................ ٤٣٠

٢٤ ـ ليجزي الله الصادقين بصدقهم........................................ ٤٣١

٢٥ ـ وردّ الله الذين كفروا.................................................. ٤٣١

٢٦ ـ وانزل الذين ظاهروهم................................................ ٤٣١

٢٧ ـ واورثكم ارضهم وديارهم.............................................. ٤٣٢

٢٨ ـ يا ايها النبي قل لأزواجك............................................. ٤٣٢

٢٩ ـ وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة................................ ٤٣٣

٣٠ ـ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشةٍ.................................. ٤٣٣

٣١ ـ ومن يقنت منكن.................................................... ٤٣٣

٣٢ ـ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء................................... ٤٣٥

٣٣ ـ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن............................................ ٤٣٥

٣٤ ـ واذكرن ما يتلى في بيوتكن............................................ ٤٣٦

٣٥ ـ ان المسلمين والقانتين والقانتات........................................ ٤٣٧

٣٦ ـ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة.............................................. ٤٣٨

٣٧ ـ واذ تقول للذي أنعم الله عليه......................................... ٤٣٩

٣٨ ـ ما كان على النبي من حرجٍ............................................ ٤٤١

٣٩ ـ الذين يبلغون رسالات الله............................................. ٤٤١

٤٠ ـ ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم..................................... ٤٤٢

٤١ و ٤٢ ـ يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً........................... ٤٤٢

٤٣ ـ هو الذي يصلي عليكم وملائكته...................................... ٤٤٣

٤٤ ـ تحيتهم يوم يلقونه.................................................... ٤٤٣

٤٥ و ٤٦ ـ يا ايها النبي إنّا ارسلناك شاهداً ومبشَّراً ونذيراً...................... ٤٤٤

٤٧ ـ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً.................................... ٤٤٤

٤٨ ـ ولا تطع الكافرين.................................................... ٤٤٥

٤٩ ـ يا ايها الذين آمنوا من قبل ان تمسوهن.................................. ٤٤٥

٥٠ ـ یا ایها النبی اللاتی آتیت اجورهن..................................... ٤٤٦

٥١ ـ ترجی من تشاء منهن................................................ ٤٤٨

٥٢ ـ لا يحل لك النساء من بعد............................................ ٤٤٨

٥٣ ـ يا ايها الذين آمنوا الا ان یؤذن لكم الى طعام............................ ٤٥٠

٥٤ ـ ان تبدوا شيئاً او تخفوه................................................ ٤٥١

٥٥ ـ لا جناح عليهن..................................................... ٤٥١

٥٦ ـ ان الله وملائكته يصلون على النبي..................................... ٤٥١

٥٧ ـ ان الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا....................... ٤٥٢

٥٩ ـ يا ايها النبي قل بدنين من جلابيبهن.................................... ٤٥٣

٦٠ و ٦١ ـ لئن لم ينته المنافقون............................................ ٤٥٤

٦٢ ـ سنة الله في الذين خلوا من قبل........................................ ٤٥٤

٦٣ ـ يسألك الناس عن الساعة............................................ ٤٥٥

٦٤ و ٦٥ ـ إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً............................. ٤٥٥

٦٦ ـ يوم تقلّب وجوههم في النار........................................... ٤٥٥

٦٧ و ٦٨ ـ وقالوا ربنا ربنا آتهم ضعفین من العذاب........................... ٤٥٥

٦٩ ـ يا ايها الذين آمنوا لا تکونوا کالذين آذوا................................ ٤٥٦

٧٠ و ٧١ ـ يا ايها الذين آمنوا قولوا قولاً سديداً.............................. ٤٥٦

٧٢ ـ انا عرضنا الأمانة.................................................... ٤٥٦

٧٣ ـ ليعذب الله المنافقين.................................................. ٤٥٨

سورة سبأ................................................................... ٤٥٩

١ ـ الحمد لله............................................................. ٤٥٩

٢ ـ يعلم ما يلج في الأرض................................................. ٤٦٠

٣ و ٤ ـ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة................................... ٤٦١

٥ ـ والذين سعوا في آیاتنا.................................................. ٤٦١

٦ ـ ویری الذين اوتو العلم................................................. ٤٦١

٧ و ٨ ـ وقال الذين كفروا................................................. ٤٦٢

٩ ـ أفلم يروا الى ما بين ايديهم............................................. ٤٦٣

١٠ و ١١ ـ ولقد آتینا داود منا فضلاً....................................... ٤٦٤

١٢ ـ ولسليمان الرَّيح..................................................... ٤٦٦

١٣ و ١٤ ـ يعلمون له ما يشاء من محاريب.................................. ٤٦٧

١٥ ـ لقد كان لسبأ....................................................... ٤٧١

١٦ ـ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم..................................... ٤٧٢

١٧ ـ ذلك جزيناهم بما كفروا............................................... ٤٧٣

١٨ ـ وجعلنا بينهم وبين القرى............................................. ٤٧٣

١٩ ـ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا........................................... ٤٧٤

٢٠ ـ ولقد صدق عليهم ابليس ظنّه......................................... ٤٧٤

٢١ ـ وما كان له عليهم من سلطان......................................... ٤٧٥

٢٢ ـ قل ادعوا الذين زعمتم............................................... ٤٧٦

٢٣ ـ ولا تنفع الشفاعة عنده............................................... ٤٧٦

٢٤ ـ قل من يرزقكم من السماوات والارض.................................. ٤٧٨

٢٥ ـ قل لا تسألون عما أجرمنا............................................ ٤٧٩

٢٦ ـ قل يجمع بيننا ربنا................................................... ٤٧٩

٢٧ ـ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء....................................... ٤٧٩

٢٨ ـ وما أرسلناك إلاّ كافة للناس........................................... ٤٨٠

٢٩ ـ ويقولون متى هذا الوعد.............................................. ٤٨٠

٣٠ ـ قل لكم ميعاد يوم................................................... ٤٨١

٣١ ـ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن.................................. ٤٨١

٣٢ ـ قال الذين استكبروا أنحن صددناكم عن الهدى.......................... ٤٨٢

٣٣ ـ وقال بل مكر الليل والنهار............................................ ٤٨٢

٣٤ ـ وما أرسلناك في قرية من نذير.......................................... ٤٨٣

٣٥ ـ وقالوا نحن أكثر أموالاً................................................ ٤٨٣

٣٦ ـ قل ان ربي يبسط الرزق.............................................. ٤٨٤

٣٧ ـ وما أموالكم ولا اولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى........................ ٤٨٤

٣٨ ـ والذين يسعون في آیاتنا............................................... ٤٨٥

٣٩ ـ قل ان ربی يبسط الرزق لمن يشاء...................................... ٤٨٥

٤٠ و ٤١ ـ ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة............................ ٤٨٧

٤٢ ـ فاليوم لا يملك بعضكم ببعض نفعاً ولا ضرا............................. ٤٨٧

٤٣ ـ وإذا تتلى عليهم آیاتنا بیناتِ.......................................... ٤٨٧

٤٤ ـ وما آتیناهم من کتب................................................ ٤٨٨

٤٥ ـ وکذّب الذين من قبلهم............................................... ٤٨٨

٤٦ ـ قل انما اعظكم بواحدة............................................... ٤٨٩

٤٧ ـ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم...................................... ٤٩٠

٤٨ ـ قل ان ربي يقذف بالحق.............................................. ٤٩٠

٤٩ ـ جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد................................... ٤٩٠

٥٠ ـ قل ان ضللت فإنّما أضل.............................................. ٤٩٠

٥١ ـ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت........................................... ٤٩١

٥٢ ـ وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش......................................... ٤٩١

٥٣ ـ وقد كفروا به من قبل................................................. ٤٩١

٥٤ ـ وحيل بينهم وبين ما يشتهون.......................................... ٤٩٢

سورة فاطر.................................................................. ٤٩٣

١ ـ الحمدلله فاطر السماوات والارض......................................... ٤٩٣

٢ ـ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها................................... ٤٩٤

٣ ـ يا ايها الناس اذكرو نعمة الله عليكم....................................... ٤٩٥

٤ ـ وان كذّبوا فقد كذبت رسل من قبلك...................................... ٤٩٦

٥ و ٦ ـ يا ايها الناس ان وعد الله حق........................................ ٤٩٦

٧ ـ الذين كفروا لهم عذاب شديد............................................. ٤٩٧

٨ ـ أفمن زّيّنَ له سوء عمله.................................................. ٤٩٨

٩ ـ والله الذي ارسل الرياح................................................... ٤٩٩

١٠ ـ ومن كان يريد العزة فالله العزة جميعاً...................................... ٤٩٩

١١ ـ والله خلقكم من تراب.................................................. ٥٠١

١٢ ـ وما يستوي البحر ان هذا عذب......................................... ٥٠٢

١٣ ـ يولج الليل في النهار.................................................... ٥٠٣

١٤ ـ ان ندعوهم لا يسمعوا دعاءكم.......................................... ٥٠٣

١٥ ـ يا ايها الناس أنتم الفقراء الى الله......................................... ٥٠٤

١٦ و ١٧ ـ ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد................................ ٥٠٤

١٨ ـ ولا تزر وازرة وزر اخرى................................................. ٥٠٥

١٩ الى ٢٣ ـ وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور................. ٥٠٦

٢٤ ـ إنّا أرسلناك وإن من أمّةٍ................................................ ٥٠٧

٢٥ و ٢٦ ـ وإن يكذبوك فقد كذّب.......................................... ٥٠٧

٢٧ ـ ألم تَرَ ومن الجبال جدد................................................ ٥٠٨

٢٨ ـ ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه................................. ٥٠٨

٢٩ و ٣٠ ـ إن الذين يتلون كتاب الله........................................ ٥١١

٣١ ـ والذي اوحينا اليك من الكتاب.......................................... ٥١١

٣٢ ـ ثم اورثنا الكتاب....................................................... ٥١٢

٣٣ ـ جنات عدن يدخلونها.................................................. ٥١٣

٣٤ و ٣٥ ـ الحمدلله الذي اذهب عنا الحَزنَ................................. ٥١٤

٣٦ ـ والذين كفروا لهم نار جهنم............................................ ٥١٥

٣٧ ـ وهم يصطرخون فيها................................................. ٥١٥

٣٨ ـ ان الله عالم غيب السماوات والارض انه عليم بذات الصدور.............. ٥١٧

٣٩ ـ هو الذي جعلكم خلائف في الارض................................... ٥١٧

٤٠ ـ قل أرايتم شركاءكم................................................... ٥١٧

٤١ ـ ان الله يمسك السماوات والارض...................................... ٥١٨

٤١ و ٤٣ ـ واقسموا بالله جهد ايمانهم....................................... ٥٢٠

٤٤ ـ أو لم يسيروا في الارض............................................... ٥٢٢

٤٥ ـ ولو يؤاخذ الله الناس................................................. ٥٢٣

الفهرس................................................................. ٥٢٤

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ٥

المؤلف: الشيخ محمّد السبزواري النجفي
الصفحات: 560
  • المقدمة 5
  • سورة الحج 7
  • 1 ـ يا ايها الناس اتقوا ربكم 7
  • 2 ـ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت 8
  • 3 ـ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم 8
  • 4 ـ كتب عليه انه من تولاه 8
  • 5 ـ يا ايها الناس ان كنتم في ريب من البعث 9
  • 6 و 7 ـ ذلك بأن الله هو الحق 11
  • 8 و 9 ـ ومن الناس من يجادل في الله 11
  • 10 ـ ذلك بما قدّمت يداك 12
  • 11 ـ ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ 13
  • 12 ـ يدعو من دون الله ما لا يضرّه 13
  • 13 ـ يدعو ضَرّه أقرب من نفعه 14
  • 14 ـ ان الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات 14
  • 15 ـ من کان یظن ان لن ينصره الله 15
  • 16 ـ وكذلك انزلناه 15
  • 17 ـ ان الذين آمنوا والذين هادوا 16
  • 18 ـ ألم تَر ان الله يسجد له 16
  • 19 ـ هذان خصمان 18
  • 20 ـ يُصهر به ما في بطونهم 19
  • 21 ـ ولهم مقامع من حديد 19
  • 22 ـ كلما ارادوا ان يخرجوا منها 19
  • 23 ـ ان الله يدخل الذين آمنوا 19
  • 24 ـ وهدوا الى الطيب من القول 19
  • 25 ـ ان الذين كفروا 20
  • 26 ـ واذ بّوانا لابراهيم مكان البيت 22
  • 27 ـ واذّن في الناس بالحج 23
  • 28 ـ ليشهدوا منافع لهم 23
  • 29 ـ ثم ليقضوا ثقتهم 24
  • 30 ـ ذلك ومن يعظم حرمات الله 25
  • 31 ـ حنفاء لله غير مشركين 25
  • 32 ـ ذلك ومن يعظم شعائر الله 26
  • 33 ـ لكم فيها منافع الى اجل مسمّى 26
  • 34 ـ ولك امة جعلنا منسكاً 27
  • 35 ـ الذين اذ ذكر الله وجلت قلوبهم 27
  • 36 ـ والبدن جعلناهم لكم 27
  • 37 ـ لن ينال الله لحومها 28
  • 38 ـ ان الله يدافع عن الذين آمنوا 29
  • 39 ـ أذن للذين يقاتلون 30
  • 40 ـ الذين اخرجوا من ديارهم 30
  • 41 ـ الذين إن مكّنّاهم في الأرض 30
  • 42 الى 44 ـ وان يكذبوك فقد 31
  • 45 ـ فكايّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة 32
  • 46 ـ أفلم يسيروا في الأرض 32
  • 47 ـ ويستعجلونك بالعذاب 33
  • 48 ـ وكأيّن من قرية امليت لها 33
  • 49 ـ قل يا ايها الناس انما لكم نذير مبين 34
  • 50 ـ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات 34
  • 51 ـ والذين سعوا في آیاتنا معاجزین 34
  • 52 ـ وما ارسلنا من قبلك من رسول 35
  • 53 ـ ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة 35
  • 54 ـ وليعلم الذين اوتو العلم أنه الحق 37
  • 55 ـ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه 37
  • 56 و 57 ـ الملك يومئذ لله يحكم بينهم 38
  • 58 و 59 ـ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا 38
  • 60 ـ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب 39
  • 61 ـ ذلك بأن الله يولج 40
  • 62 ـ ذلك بأن الله هو الحق 40
  • 63 ـ ألم ترأن الله 41
  • 67 ـ لكل امة جعلنا منسكاً 42
  • 68 ـ وان جادلوك 42
  • 69 ـ ان الله يحكم بينكم يوم القيامة 42
  • 70 ـ ألم تعلم أن الله 42
  • 71 ـ ويعبدون من دون الله 43
  • 72 ـ واذا تتلى عليهم آیاتنا بیّنات 44
  • 73 ـ يا ايها الناس ضرب مثل فاستمعوا له 44
  • 74 ـ ما قدروا الله حق قدره 45
  • 75 و 76 ـ الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس 45
  • 77 ـ يا ايها الذين آمنوا 46
  • 78 ـ وجاهدوا في الله 46
  • سورة المؤمنون 49
  • 1 ـ قد افلح المؤمنون 49
  • 2 ـ الذين هم في صلاتهم 50
  • 3 ـ والذين هم عن اللغو معرضون 50
  • 4 و 5 و 6 ـ والذين هم للزكاة فاعلون 50
  • 7 ـ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون 51
  • 8 ـ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون 51
  • 9 ـ والذين هم على صلواتهم يحافظون 51
  • 10 و 11 ـ أولئك هم الوارثون الذين 51
  • 12 ـ ولقد خلقنا الانسان 53
  • 13 ـ ثم جعلناه نطفة 53
  • 14 و 15 و 16 ـ ثم خلقنا النطفة 53
  • 17 ـ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق 56
  • 18 ـ وانزلنا من السماء ماءً بقدر 56
  • 19 ـ فأنشأنا لكم به جنات من نخيل 56
  • 20 ـ وشجرة تخرج من طور سيناء 56
  • 21 ـ وان لكم في الانعام لعبرة 57
  • 22 ـ وعليها وعلى الفلك 57
  • 23 ـ ولقد ارسلنا نوحاً 59
  • 24 ـ فقال الملا الذين كفروا من قومه 59
  • 25 ـ ان هو الا رجل به جنة 59
  • 26 و 27 ـ قال ربَّ انصرني بما كذبون 59
  • 28 و 29 ـ فإذا استويت انت ومن معك 60
  • 30 ـ ان في ذلك لآیات 60
  • 31 ـ ثم أنشأنا من بعدهم 61
  • 32 ـ فأرسلنا فيهم رسولاً منهم 61
  • 33 و 34 ـ وقال الملأ الذين كفروا 62
  • 35 و 36 ـ أيعدکم انکم اذا متّم وكنتم تراباً 62
  • 37 ـ ان هي الا حياتنا الدنيا 62
  • 38 ـ ان هو الارجل افترى 62
  • 39 و 40 ـ قال ربّ نصرني بما كذبون 62
  • 41 ـ فأخذتهم الصيحة بالحق 63
  • 42 و 43 ـ ثم أنشأنا من بعدهم قوماً آخرین 63
  • 44 ـ ثم ارسلنا رسلنا تتری 64
  • 45 ـ ثم ارسلنا موسد واخاه هارون 64
  • 46 ـ الی فرعون وملائه 65
  • 47 ـ فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا 65
  • 48 ـ فكذّبوهما فكانوا من المهلكين 65
  • 49 ـ ولقد آتینا موسى الكتاب لعلّهم يهتدون 65
  • 50 ـ وجعلنا عيسى بن مريم امه آیة 66
  • 51 ـ يا ايها الرسل كلوا من الطيبات 66
  • 52 ـ وإن هذه أمّتكم امة واحدة 66
  • 53 ـ فتقطعوا امرهم بينهم زبراً 67
  • 54 ـ فذرهم في غمرتهم حتى حين 67
  • 55 و 56 أيحسبون انما نمدهم 68
  • 57 و 58 ـ إن الذين هم من خشية 69
  • 59 ـ والذين هم يريهم لا يشركون 69
  • 60 ـ والذين يؤتون ما آتوا 69
  • 61 ـ اولئك يسارعون في الخيرات 70
  • 62 ـ ولا نكلّف نفساً الا وسعها 70
  • 63 ـ بل قلوبهم في غمرة منهذا 71
  • 64 ـ حتى اذا اخذنا مترفيهم 71
  • 65 ـ لا تجأروا اليوم 71
  • 66 ـ قد كانت آیاتي تتلى عليكم 72
  • 67 ـ مستكبرين به 72
  • 68 ـ أفلم يدبّروا القول 72
  • 69 ـ أم لم يعرفوا رسولهم فهم 73
  • 70 ـ أم يقولون به جنّة 73
  • 71 ـ ولو أتّبع الحق اهواءهم 73
  • 72 ـ أم تسألهم خرجاً 74
  • 73 ـ وانك لتدعوهم 75
  • 74 ـ وان الذبن لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون 75
  • 75 ـ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرّ 75
  • 76 ـ ولقد اخذناهم بالعذاب 75
  • 77 ـ حتى اذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ 76
  • 78 ـ وهو الذي أنشأ لكم السمع 77
  • 79 ـ وهو الذي ذراكم 77
  • 80 ـ وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار 77
  • 81 ـ بل قالوا مثل ما قال الاولون 78
  • 82 ـ قالوا أثنا متنا وكنا تراباً 78
  • 83 ـ لقد وُعدنا نحن وآباؤنا هذا 78
  • 84 ـ قل لمن الارض ومن فیها ان کنتم تعلمون 79
  • 85 ـ الى 87 ـ قل من رب السموات السبع 79
  • 88 ـ و 89 ـ قل من بيده ملكوت كل شيء 79
  • 90 ـ اتيناهم بالحق 80
  • 91 ـ ما اتّخذ الله من ولدٍ 80
  • 92 ـ عالم الغيب والشهادة 81
  • 93 و 94 ـ قل ربّ إمّا تريني ما يوعدون 82
  • 95 ـ وإنّا على أن نريك ما نعدهم لقادرون 82
  • 96 ـ ادفع بالتي هي احسن 82
  • 97 و 98 ـ وقل ربّ اعوذ بك 83
  • 99 و 100 حتى اذا جاء احدهم الموت 84
  • 101 ـ فاذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم 85
  • 102 و 103 و 104 ـ فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون 85
  • 106 ـ قالوا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين 86
  • 107 ـ ربّنا اخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون 87
  • 108 ـ و 109 و 110 و 111 ـ قال اخسأوا فيها ولاتكلّمون 87
  • 112 و 113 ـ قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين 88
  • 114 ـ ان لبثتم إلاّ قليلاً 88
  • 115 ـ أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً 89
  • 116 ـ فتعالى الله الملك الحق 89
  • 117 ـ ومن يدعو مع الله إلهاً لا برهان 89
  • 118 ـ وقل ربّ اغفر وارحم 89
  • سورة النور 91
  • 1 ـ سورة انزلناها 91
  • 2 ـ الزانية والزاني الخ 92
  • 3 ـ الزاني لا ينكح إلا زانية الخ 93
  • 4 ـ والذين يرمون المحصنات 93
  • 5 ـ إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك 93
  • 6 ـ والذين يرمون ازواجهم 94
  • 7 ـ والخامسة ان لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين 94
  • 8 ـ ويدرأ عنها العذاب ان تشهد 94
  • 9 ـ والخامسة غضب الله عليها 95
  • 10 ـ ولولا فضل الله عليكم 95
  • 11 ـ ان الذين جاؤوا بالإِفك 96
  • 12 ـ لولا اذ سمعتوه 97
  • 13 ـ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء 98
  • 14 ـ ولولا فضل الله عليكم 98
  • 15 ـ اذ تلقونه بألسنتكم 98
  • 16 ـ ولولا اذ سمعتموه قلتم 99
  • 17 ـ بعظكم الله ان تعودا 99
  • 18 ـ ويبيّن الله لكم الآیات 99
  • 19 ـ ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة 99
  • 20 ـ ولولا فضل الله عليكم ورحمته 99
  • 21 ـ يا ايها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان 100
  • 22 ـ ولا يأتل أولو الفضل منكم 100
  • 23 ـ ان الذين يرمون المحصنات 102
  • 24 ـ يوم تشهد عليهم ألسنتهم 102
  • 25 ـ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق 103
  • 26 ـ الخبيثات للخبيثين 104
  • 27 ـ يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم 105
  • 28 ـ فأن لم تجدوا فيها احداً 106
  • 29 ـ ليس عليكم جناح ان تدخلوا بيوتاً غير مسكونة 106
  • 30 و 31 ـ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم 107
  • 32 ـ وانكحوا الايامى منكم والصالحين 111
  • 33 ـ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً 112
  • 34 ـ ولقد انزلنا اليكم آیات بیناتِ 113
  • 35 ـ الله نور السماوات والارض 114
  • 36 ـ في بيوتِ اذن الله ان ترفع 116
  • 37 ـ رجال لا تلهيهم تجارة 117
  • 38 ـ ليجزيهم الله احسن ما عملوا 118
  • 39 ـ والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة 118
  • 40 ـ أو كظلمات في بحر لجي 119
  • 41 ـ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات 120
  • 42 ـ ولله ملك السماوات والأرض 120
  • 43 ـ ألم تر أن الله يزجى سحاباً 121
  • 44 ـ يقلب الله الليل والنهار 121
  • 45 ـ والله خلق كل دابة 121
  • 46 ـ لقد أنزلنا آیات مبيّنات 122
  • 47 ـ ويقولون امنا بالله وبالرسول 123
  • 48 ـ اذا دعوا الى الله ورسوله 123
  • 49 ـ وان يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعتين 123
  • 50 ـ أفي قلوبهم مرضّ 123
  • 51 ـ انما كان قول المؤمنين 124
  • 52 ـ ومن يطع الله ورسوله 124
  • 53 ـ واقسموا بالله جهد أيمانهم 125
  • 54 ـ قل اطيعوا الله واطيعوا الرسول 125
  • 55 ـ وعد الله الذين آمنوا ليستخلفنهم في الأرض 126
  • 56 ـ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة 127
  • 57 ـ لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض 127
  • 58 ـ يا ايها الذين آمنوا لیستأذنكم 128
  • 59 ـ واذا بلغ الاطفال منكم الحلم 129
  • 60 ـ والقواعد من النساء 129
  • 61 ـ ليس على الاعمى حرجّ 131
  • 62 ـ انما المؤمنون الذين آمنوا 132
  • 63 ـ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً 133
  • 64 ـ الا ان الله ما في السموات 133
  • سورة الفرقان 135
  • 1 ـ تبارك الذي انزل الفرقان على عبده 135
  • 2 ـ ولم يكن له شريك 136
  • 3 ـ واتخذوا من دونه آلهةً 136
  • 4 ـ وقال الذين كفروا ان هذا الا افك 136
  • 5 ـ وقالوا اساطير الاولين 137
  • 6 ـ قال انزله الذي يعلم السر 137
  • 7 ـ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام 138
  • 8 ـ أو يلقى اليه كنز 138
  • 9 ـ انظر كيف ضربوا لك الامثال 138
  • 10 ـ تبارك الذي ان شاء 138
  • 11 ـ بل كذبوا بالساعة 138
  • 12 ـ اذا رأتهم من مكان بعيد 140
  • 13 ـ و 14 واذا القوا منها مكاناً ضيقاً 140
  • 15 ـ قل أذلك خير 140
  • 16 ـ لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعداً مسؤولاً 140
  • 17 ـ ويوم نحشرهم وما يعبدون 140
  • 18 ـ قالوا سبحانك 141
  • 19 ـ فقد كذّبوكم بما تقولون 141
  • 20 ـ وما ارسلنا قبلك من رسول 142
  • 21 ـ وقال الذين لا يرجون لقاءنا 142
  • 22 ـ يوم يرون الملائكة 142
  • 23 ـ وقدمنا الى ما عملوا 143
  • 24 ـ اصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً 143
  • 25 ـ يوم تشقق السماء بالغمام 144
  • 26 ـ الملك يومئذ الحق للرحمان 144
  •  27 ـ ويوم يعض الظالم على يديه 145
  • 28 ـ يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً 145
  • 29 ـ لقد اضلني عن الذكر 145
  • 30 ـ وقال الرسول هذا القرآن مهجوراً 145
  • 31 ـ وكذلك جعلنا لكلّ نبّي 145
  • 32 ـ وقال الذين كفروا لولا نزّل القرآن علیه جملة واحدة 146
  • 33 ـ ولا يأتونك بمثل 147
  • 34 ـ الذين يحشرون على وجوههم الى جهنم 147
  • 35 و 36 ـ ولقد آتینا موسى الكتاب 148
  • 37 ـ وقوم نوح لّما كذبوا الرسل 148
  • 38 ـ وعاداً وثمودا واصحاب الرّسّ 148
  • 39 ـ وكلا ضربنا له الأمثال 149
  • 40 ـ ولقد اتوا على القرية 149
  • 41 ـ واذا رأوك ان يتخذونك 150
  • 42 ـ ان كاد ليضلّنا عن آلهتنا 150
  • 43 ـ أرأيت من اتّخذ عن إلهه هواه 150
  • 44 ـ أم تحسب ان اكثرهم يسمعون أو يعقلون 150
  • 45 و 46 ـ ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل 152
  • 47 ـ وهو الذي جعل لكم الليل لباساً 153
  • 48 ـ وهو الذي ارسل الرياح بشراً بين يدي رحمته 153
  • 49 ـ لنحيي به بلدة ميتاً 154
  • 50 ـ ولقد صرّفناه بينهم 154
  • 51 ـ ولو شئنا لبعثنا في كل قريةٍ نذيراً 154
  • 52 ـ فلا تطع الكافرين 154
  • 53 ـ وهو الذي مرج البحرين 155
  • 54 ـ وهو الذي خلق من الماء بشراً 156
  • 55 ـ ويعبدون من 156
  • 56 ـ وما ارسلناك الا مبشراً ونذيراً 157
  • 57 ـ قل ما أسألكم عليه من أجرٍ 157
  • 58 ـ وتوكل على الحيّ الذي لا يموت 158
  • 59 ـ خلق السّموات والأرض 158
  • 60 ـ واذا قيل لهم اسجدوا للرحمان 159
  • 61 ـ تبارك الذي جعل 160
  • 62 ـ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه 160
  • 63 ـ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً 161
  • 64 ـ والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً 161
  • 65 ـ انها ساءت مستقراً ومقاماً 162
  • 66 ـ انها ساءت مستقراً ومقاماً 162
  • 67 ـ والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا 162
  • 68 ـ والذين لا يدعون يلق آثاماٌ 163
  • 69 ـ يضاعف له العذاب ويخلد فيها مهاناً 163
  • 70 ـ الا من تاب يبدل الله سيئاتهم حسنات 163
  • 71 ـ ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله مثاباً 163
  • 72 ـ والذين لا يشهدون الزور 164
  • 73 ـ والذين اذا ذُكّروا بآیات ربهم 164
  • 74 ـ والذين يقولون قرة اعين 164
  • 75 و 76 ـ أولئك يجزون الغرفة 165
  • 77 ـ قل ما يعبا لكم ربي 165
  • سورة الشعراء 167
  • 1 ـ طسم 167
  • 2 ـ تلک آیات الکتاب المبین 167
  • 3 ـ لعلک باخعّ نفسك الا يكونوا مؤمنين 168
  • 4 ـ ان نشأ ننزل عليهم من السماء آية 168
  • 5 و 6 ـ ومأ يأتيهم من ذكر 168
  • 7 ـ أو لم يروا في الأرض كم انبتنا فيها 169
  • 8 ـ ان في ذلك لآية 169
  • 9 ـ وان ربك لهو العزيز الرحيم 169
  • 10 و 11 ـ واذا نادى ربك موسى 170
  • 12 و 13 و 14 ـ قال رب إني اخاف 170
  • 15 ـ قال كلا فاذهبا 171
  • 16 و 17 فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العالمين 171
  • 18 و 19 ـ قال ألم نر بك فينا 172
  • 20 ـ قال فعلتها إذاً 173
  • 21 ـ ففررت منكم فوهب لي ربّي حكماً 173
  • 22 ـ وتلك نعمة تمنها عليّ 174
  • 23 ـ قال فرعون وما رب العالمين 174
  • 24 ـ قال ربّ السّماوات والأرض 175
  • 25 ـ قال لمن حوله ألا تسمعون 175
  • 26 ـ قال ربكم ورب آبائكم الأوّلين 175
  • 27 ـ قال ان رسولكم الذي ارسل اليكم لمجنون 175
  • 28 ـ رب المشرق والمغرب وما بينهما 175
  • 29 ـ لئن اتخذت إلهاً غيري 176
  • 30 ـ قال أولو جئتك بشيء مبين 176
  • 31 ـ قال فأتِ به ان كنت من الصادقين 176
  • 32 ـ فألقى عضاه فإذا هي ثعبان مبين 177
  • 33 ـ ونزع يده فإذا هي بيضاء 177
  • 34 و 35 ـ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم 178
  • 36 و 37 ـ قالوا ارجه واخاه 178
  • 38 ـ فجمع السحرة لميقات يوم معلوم 178
  • 39 ـ وقيل للناس هل انتم مجتمعون 178
  • 40 ـ لعلنا نتّبع السحرة 178
  • 41 ـ فلما جاء السحرة قالوا 179
  • 42 ـ قال نعم وانكم إذاً لمن المقربين 179
  • 43 ـ قال لهم موسى ألقوا ما انتم ملقون 180
  • 44 ـ فألقوا حبالهم وعصيهم 180
  • 45 ـ فالقى موسى عصاه فاذا هي تلقف 180
  • 46 ـ فألقى السحرة ساجدين 180
  • 47 و 48 ـ قالوا آمنّا برب العالمين 181
  • 49 ـ قال آمنتم له قبل ان آذن لكم 181
  • 50 ـ قالوا لا ضير إنّا الى ربنا منقلبون 182
  • 51 ـ إنّا نطمع أن كنا أوّل المؤمنين 182
  • 52 ـ وأوحينا الى موسى 173
  • 53 ـ فأرسل فرعون في المدائن حاشرين 183
  • 54 ـ إن هؤلاء في المدائن حاشرين 183
  • 55 ـ وانهم لنا لغائظون 183
  • 56 ـ وانا لجميع حاذرون 183
  • 57 و 58 ـ فأجرجناهم من جنات وعيون 183
  • 59 ـ كذلك وأورثناها بني اسرائيل 184
  • 60 ـ فأتبعوهم مشرقين 184
  • 61 ـ فلما تَرَاءَ الجمعان 184
  • 62 ـ قال كلاّ ان معي ربي سيهدين 185
  • 63 ـ فأوحينا الى موسى ان اضرب بعصاك 185
  • 64 و 65 و 66 ـ وأزلفنا ثم الآخرین 185
  • 67 و 68 ـ ان فی ذلك لآية 186
  • 69 و 70 ـ واتل عليهم نبأ إبراهيم 187
  • 71 ـ قالوا نعبد أصناماً 187
  • 72 و 73 ـ قال هل يسمعونكم ان تدعون 187
  • 74 ـ قالوا بل وجدنا آیاءنا 188
  • 75 الى 79 ـ قال فإنهم عدوّ لي 188
  • 80 ـ واذا مرضت فهو يشفين 189
  • 81 ـ والذي يميتني ثم يحيين 189
  • 82 ـ والذي اطمع ان يغفرلي 190
  • 83 ـ ربّ هب لي حكماً 190
  • 84 ـ واجعل لي لسان صدق في الآخرین 191
  • 85 ـ واجعلني من ورثة جنة النعيم 191
  • 86 ـ واغفر لأبي انه كان من الضالين 191
  • 87 الى 89 ـ ولا تحزنی یوم یبعثون 192
  • 90 ـ وازلفت الجنةّ للمتقين 192
  • 91 ـ وابرزت الجحيم للغاوين 192
  • 92 ـ الى 95 ـ وقيل لهم اين ما كنتم تعبدون 193
  • 96 ـ الى 98 ـ قالوا وهم فيها يختصمون 193
  • 100 و 101 ـ فما لنا من شافعين 193
  • 102 ـ فلو ان لنا كرّةّ فنكون 194
  • 103 و 104 ـ ان في ذلك لآية 194
  • 105 الى 110 كذّبت قوم نوح 194
  • 111 ـ قالوا انؤمن لك واتبعك 195
  • 112 ـ قال وما علمي بما كانوا يعملون 195
  • 113 ـ ان حسابهم الا على ربي 196
  • 114 و 115 ـ وما انا بطارد المؤمنين 196
  • 116 ـ قالوا لئن لم تنتهِ يا نوح 196
  • 117 و 118 ـ قال رب ان قومي كذّبون 197
  • 119 و 120 ـ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون 197
  • 121 ـ 122 ـ ان في ذلك العزيز 197
  • 123 ـ كذّبت عادّ المرسلين 198
  • 124 الى 127 ـ اذ قال لهم اخوهم هود 198
  • 128 ـ اتبنون بكل ريع آیة 198
  • 129 ـ وتتخذون مصانع 198
  • 130 ـ واذا بطشتم 198
  • 131 الى 135 ـ فاتقوا الله 199
  • 136 و 137 ـ قالوا سواء علينا اوعظت ام لم تكن من الواعظين 199
  • 138 ـ وما نحن بمعذبين 200
  • 139 ـ الى 145 ـ فكذّبوه فأهلكناهم 200
  • 146 الى 148 أتتركون فیها ههنا 200
  • 149 الى 152 ـ وتنحتون من الجبال بيوتاً 200
  • 153 و 154 ـ قالوا انما انت من المسحرين 201
  • 155 ـ هذه ناقة لها شرب 201
  • 156 ـ ولا تمسّوها بسوء 202
  • 157 ـ فعقروها فأصبحوا نادمين 202
  • 158 و 159 ـ فأخذهم العذاب 202
  • 160 الى 165 ـ كذّبت قوم لوط أتأتون الذكران 203
  • 166 ـ بل أنتم قومّ عادون 203
  • 167 ـ قالوا لئن لم تنتهِ يا لوط 203
  • 168 ـ قال اني لعملكم من القالين 203
  • 169 الى 171 ـ رب نجني واهلي مما يعملون 203
  • 172 الى 175 ـ ثم دمّرنا 20
  • 176 ـ كذب اصحاب الأيكة 204
  • 177 الى 180 ـ اذ قال لهم شعيب 205
  • 181 الى 183 ـ أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين 205
  • 184 ـ واتقوا الذي خلقكم 205
  • 185 الى 188 ـ قالوا وان نظنك لمن الكاذبين 206
  • 189 الى 191 ـ فكذّبوه فأخذهم عذاب 206
  • 192 و 193 ـ وإنّه لتنزيل رب العالمين 207
  • 194 ـ على قلبك لتكون 207
  • 195 و 196 ـ بلسان عربيَّ مبين 207
  • 197 ـ أو لم يكن لهم آية 208
  • 198 و 199 ـ ولو نزلنا علي بعض الاعجمين 209
  • 200 ـ كذلك سلكناه في قلوب المجرمين 209
  • 201 الى 203 ـ لا يؤمنون به حتى يروا العذاب 209
  • 204 ـ أفبعذابنا يستعجلون 210
  • 205 الى 207 ـ افرأيت ان متعناهم سنين 210
  • 208 و 209 ـ وما اهلكنا من قرية الا لها منذرون 211
  • 210 الى 213 ـ وما تنزلت به الشياطين 211
  • 214 ـ وانذر عشيرتك الاولين 212
  • 215 ـ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين 212
  • 216 ـ فإن عصرك فقل إني برئ مما تعملون 212
  • 217 ـ وتوكل على العزيز الرحيم 212
  • 218 الى 220 ـ الذي يراك حين تقوم 213
  • 221 و 222 ـ هل انبئكم على من تنزل الشياطين 213
  • 223 ـ يلقون السمع واكثرهم كاذبون 213
  • 224 الى 226 ـ والشعراء يتبعهم الغاوون 214
  • سورة النمل 217
  • 1 ـ طس ـ تلك آیات القرآن وکتاب مبین 217
  • 2 و 3 ـ هدى وبشرى للمؤمنين 218
  • 4 ـ ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم اعمالهم 218
  • 5 ـ اولئك لهم سوء العذاب 218
  • 6 ـ وانك لتلقى القرآن 219
  • 7 ـ اذ قال موسى لأهله 220
  • 8 ـ فلمّا جاءها نودي 221
  • 9 ـ يا موسى انه انا الله العزيز الحكيم 221
  • 10 ـ والق عصاك 221
  • 11 ـ الا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوءٍ 221
  • 12 ـ وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء 221
  • 13 ـ فلما جاءتهم آیاتنا مبصرئ 222
  • 14 ـ وجحدوا بها 222
  • 15 ـ ولقد آتینا داود وسليمان علماً 223
  • 16 ـ وورث سليمان داوود 224
  • 17 ـ وحُشر لسليمان 225
  • 18 ـ حتى اذا أتوا على 226
  • 19 ـ فتبسّم ضاحكاً 226
  • 20 ـ وتفقد الطير 227
  • 21 ـ لاعذبنه عذاباً شديداً 229
  • 22 ـ فمكث غير بعيد 230
  • 23 ـ اني وجدت امرأة تملكهم 230
  • 24 الى 26 ـ وجدتها وقومها يسجدون للشمس 231
  • 27 ـ قال سنظر أصدقت أم كنت من الكاذبين 232
  • 28 ـ إذهب بكتابي هذا فالقه 233
  • 29 ـ قالت يا ايها الملأ اني القي اليّ كتاب كريم 233
  • 30 ـ انه من سليمان 233
  • 31 ـ الا تعلو عليّ ووأتوني مسلمين 233
  • 32 ـ قالت يا ايها الملأ افتوني 234
  • 33 ـ قالوا نحن اولو قوة 235
  • 34 ـ قالت ان الملوك 235
  • 35 ـ واني مرسلة اليهم بهدية 235
  • 36 ـ فلما جاء سليمان قال اتمدونن بمال 236
  • 37 ـ ارجع اليهم فتأتينهم 236
  • 38 ـ قال يا ايها الملأ 237
  • 39 ـ قال عفريت من الجن 237
  • 40 ـ قال الذي عنده علم من الكتاب 237
  • 41 ـ قال نكروا لها عرشها 238
  • 42 ـ فلمّا جاءت قبل اهكذا عرشك 238
  • 43 ـ وصدها ما كانت تعبد 239
  • 44 ـ قيل لها ادخلي الصرح 239
  • 45 ـ ولقد ارسلنا الى ثمود 240
  • 46 ـ قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة 241
  • 47 ـ قالوا اطّيرنا بك وبمن معك 241
  • 48 ـ وكان في المدينة تسعة رهطٍ 242
  • 49 ـ قالوا تقاسموا بالله 242
  • 50 و 51 ـ ومكروا مكراً ومكرنا مكراً 242
  • 52 و 53 ـ فتلك بيوتهم خاوية 243
  • 54 ـ ولوطاً اذ قال لقوم أتاتون الفاحشة 243
  • 55 ـ إنكم لتأتون الرجال 244
  • 56 ـ فما كان جواب قومه إلاّ ان قالوا 244
  • 57 ـ فأنجيناه واهله الا امرأته 244
  • 58 ـ وامطرنا عليهم مطراً 244
  • 59 ـ قل الحمد لله وسلام 245
  • 60 ـ أمّن خلق السماوات 247
  • 61 ـ أمّن جعل الارض قراراً 247
  • 62 ـ أمّن يجيب المضطر 248
  • 63 ـ أمّن يهديكم في ظلمات 248
  • 64 ـ أمّ يبدأً الخلق ثم يعيده 249
  • 65 ـ قل لا يعلم من في السماوات والارض 249
  • 66 ـ بل ادّارك علمهم في الآخرة 249
  • 67 و 68 ـ وقال الذين كفروا 250
  • 69 ـ قل سيروا في الارض 250
  • 70 ـ ولا تحزن عليهم 251
  • 71 ـ ويقولون متى هذا الوعد 251
  • 72 ـ قل عسى أن يكون رَدِف لكم 251
  • 73 ـ وان ربك لذو فضل 251
  • 74 و 75 ـ وان ربك ليعلم ما تكن صدورهم 252
  • 76 و 77 ـ ان هذا القرآن یقص على بني اسرائيل 252
  • 78 ـ ان ربك يقضي بينهم 253
  • 79 ـ فتوكل على الله 253
  • 80 و 81 ـ انك لا تسمع الموتى 253
  • 82 ـ واذا وقع القول عليهم 254
  • 83 ـ ويوم نحشر من كلّ امة 254
  • 84 ـ حتى اذا جاؤوا 255
  • 85 ـ وقع القول عليهم 256
  •  86 ـ ألم يروا انا جعلنا الليل 256
  • 87 ـ يوم ينفخ في الصور 256
  • 88 ـ وترى الجبال تحسبها جامدة 257
  • 89 و 90 ـ ومن جاء بالحسنة فله خير منها 258
  • 91 ـ انما امرت ان اعبد 259
  • 92 ـ وان أتلوا القرآن ممن اهتدى 259
  • 93 ـ وقل الحمد لله 260
  • سورة القصص 261
  • 1 ـ طَسَمَ 261
  • 2 ـ تلك آیات الکتاب 261
  • 3 ـ نتلو علیک من نبأ موسى 263
  • 4 ـ ان فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً 264
  • 5 و 6 ـ ونريد أن نمّن 264
  • 7 ـ واوحينا الى ام موسى 265
  • 8 ـ فالنقطه آل فرعون 266
  • 9 ـ قالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك 267
  • 10 ـ واصبح فؤاد ام موسى فارغاً 269
  • 11 ـ وقالت لاخته قُصّبه 269
  • 12 و 13 ـ وحرّمنا عليه المراضع 270
  • 14 ـ ولما بلغ أشدّه 271
  • 15 ـ ودخل المدينة 272
  • 16 ـ قال ربّ اني ظلمت نفسي 273
  • 17 ـ قال ربّ بما انعمت عليّ 273
  • 18 ـ فأصبح في المدينة خائفاً يتوقّب 273
  • 19 ـ فلما اراد ان يبطش 274
  • 20 ـ وجاء رجل من اقصى المدينة 274
  • 21 ـ فخرج منها خائفاً 275
  • 22 ـ ولما تلقاه مدين 275
  • 23 ـ ولما ورد ماء مدين 276
  • 24 ـ فسقى لهما 276
  • 25 ـ فجاءته احداهما 277
  • 26 ـ قالت احداهما يا ابت استأجره 278
  • 27 ـ قال اني اريد ان انكحك احدى ابنتيّ 278
  • 28 ـ قال ذلك بيني وبينك 278
  • 29 ـ فلما قضى موسى الاجل 280
  • 30 ـ فلما اتاها نودي 281
  • 31 ـ وان الق عصاك 282
  • 32 ـ اسلك يدك في جيبك 282
  • 33 و 34 ـ قال ربّ اني قتلت منهم نفساً 284
  • 35 ـ قال سنشد عضدك بأخيك 284
  • 36 ـ فلما جاءهم موسى بآیاتنا قالوا ما هذا الا سحر مفتريّ 285
  • 37 ـ وقال موسى ربّي اعلم بمن جاء بالهدى 285
  • 38 ـ وقال فرعون يا ايها الملاً 286
  • 39 ـ واستكبر هو وجنوده يغبر الحق 287
  • 40 ـ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم 287
  • 41 ـ وجعلناهم أئمة 287
  • 42 ـ واتبعناهم في هذه 287
  • 43 ـ ولقد آتینا موسد بصائر للناس 288
  • 44 ـ وما كنت بجانب الغربّي 288
  • 45 و 46 ـ ولكنا انشأنا قروناً 289
  • 47 ـ فلولا ان تصيبهم مصيبة 290
  • 48 ـ فلما جاءهم الحق من عندنا 291
  • 49 و 50 ـ قل فأتوا بكتاب هو اهدى منهم 291
  • 51 ـ ولقد وصّلنا لهم القول 292
  • 52 ـ الذين آتیناهم الکتاب من قبله 293
  • 53 ـ واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به 293
  • 54 ـ اولئك يؤتون اجرهم مرتين 293
  • 55 ـ واذا سمعو اللغو اعرضو عنه 293
  • 56 ـ انك لا تهدي من أحببت 294
  • 57 ـ وقالوا ان نتبع الهدى معك نتخطف 295
  • 58 ـ وكم اهلكنا من قرية بطرت 296
  • 59 ـ وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولاً 296
  • 60 ـ وما أوتيتم أفلا تعقلون 297
  • 61 ـ أفمن وعدناه وعداً حسناً 297
  • 62 ـ ويم يناديهم فيقول اين شركائي 298
  • 63 ـ قال الذين حق عليهم القول 298
  • 64 ـ وقيل ادعوا شركاءكم 298
  • 65 ـ ويوم يناديهم فيقول 299
  • 66 ـ فعميت عليهم الانباء 299
  • 67 ـ فأما من تاب وآمن 299
  • 68 و 69 ـ وربک یخلق ما یشاء ويختار 300
  • 70 ـ وهو الله لا إله الا هو 302
  • 71 ـ قل أرأيتم أن جعل النهار 303
  • 72 ـ قل أرايتم أن جعل النهار 303
  • 73 ـ ومن رحمته 303
  • 74 ـ ويم يناديهم فيقول اين شركائي 304
  • 75 ـ ونزعنا من كل امة شهيداً 304
  • 76 ـ ان قارون كان من قوم موسى 305
  • 77 ـ وابتغ فيما آتاک الله 306
  • 78 ـ قال إنما اوتيته على علم عندي 307
  • 79 ـ فخرج على قومه في زينته 308
  • 80 ـ وقال الذين اوتوا العلم 308
  • 81 ـ فخسفنا به وبداره العلم 308
  • 82 ـ واصبح الذين تمنّوا مكانه يالامس 309
  • 83 ـ تلك الدار الآخرة 310
  • 84 ـ من جاء بالحسنة الا ما كانو يعلمون 310
  • 85 ـ ان الذي فرض عليك القرآن 311
  • 86 ـ وما کنت ترجو أن يلقى 311
  • 87 ـ ولا تَدع مع الله إلهاً آخر 312
  • سورة العنكبوت 313
  • 1 ـ ألم 313
  • 2 ـ أحسب الناس 313
  • 3 ـ ولقد فتنا الدين من قبلهم 314
  • 4 ـ أم حسب الذين يعملون السيئات 314
  • 5 ـ من كان يرجو لقاء الله 315
  • 6 ـ ومن جاهد فانما يجاهد 315
  • 7 ـ والذين آمنوا ولنجزيهم أحسن الذي 316
  • 8 و 9 ـ وَوَصينا الانسان بوالديه حسناً 316
  • 10 ـ ومن الناس من يقول فاذا اوذي في الله 317
  • 11 ـ وليعلمن الذين آمنوا 317
  • 12 ـ وقال الذين كفروا اتبعوا سبيلنا 317
  • 13 ـ وليحملن اثقالهم واثقالاً 318
  • 14 ـ ولقد ارسلنا نوحاً الى قومه 318
  • 15 ـ فانجيناه واصحاب السفينة 319
  • 16 ـ وابراهيم اذ قال لقومه 319
  • 17 ـ إنما تعبدون من دون الله 320
  • 18 ـ وان تكذبوا فقد كذّب 320
  • 19 و 20 ـ أولم يروا كيف 321
  • 21 ـ يعذب من يشاء واليه تقلبون 321
  • 22 ـ وما انتم بمعجزين في الأرض 321
  • 23 ـ والذين كفروا بآیات الله 322
  • 24 ـ فما كان جواب الا ان قالوا اقتلوه 323
  • 25 ـ وقال انما اتخذتم مودّة بينكم 323
  • 26 ـ فآمن له لوط 324
  • 27 ـ ووهبنا له اسحاق 324
  • 28 ـ ولوطاً اذا قال لقومه 236
  • 29 ـ أثنكم لتأتون الرجال 326
  • 30 ـ قال ربّ انصرني 327
  • 31 ـ ولما جاءت رسلنا ابراهيم 327
  • 32 ـ قال ان فيها لوطاً 328
  • 33 ـ ولما ان جاءت رسلنا 328
  • 34 ـ إننا منزلون رجزاً من السماء 328
  • 35 ـ ولقد تركنا منها آیة 329
  • 36 ـ والى مدين آخاهم شعبیاٌ 329
  • 37 ـ فكذبوه فأخذتهم الرجفة 329
  • 38 ـ وعاداًوثمود 330
  • 39 ـ وقارون وفرعون وهامان 330
  • 40 ـ فكلا أخذنا بذنبه 331
  • 41 و 42 ـ مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء 331
  • 43 ـ وتلك الامثال نضربها 332
  • 44 ـ خلق السماوات والارض بالحق 333
  • 45 ـ اتل ما اوحي إليك من الكتاب 333
  • 46 ـ ولا تجادلوا اهل الكتاب 334
  • 47 ـ وكذلك انزلنا إليك الكتاب 335
  • 48 ـ وما كنت تتلو من قبله من كتاب 336
  • 49 ـ بل هو آیات بیّنات 336
  • 50 ـ وقالوا لولا انزل عليه آیات من ربّه 337
  • 51 ـ أو لم يكفهم أنّا انزلنا عليك الكتاب 337
  • 52 ـ قل كفى بالله بيني وبينكم 337
  • 53 ـ ويستعجلونك بالعذاب ولولا اجل 338
  • 54 ـ يستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة 338
  • 55 ـ يوم يغشاهم العذاب 338
  • 56 ـ يا عبادي الذين آمنوا ان ارضی واسعة 339
  • 57 و 58 ـ كل نفس ذائقة الموت 339
  • 59 ـ الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون 340
  • 60 ـ وكأيّن من دابةٍ 340
  • 61 ـ ولئن سألتهم من خلق السماوات 341
  • 62 ـ الله يبسط الرزق 341
  • 63 ـ ولئن سألتهم الحمدلله 341
  • 64 ـ ما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب 342
  • 65 ـ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين 343
  • 66 ـ ليكفروا بما آتیناهم 343
  • 67 ـ أولم يروا أنّا جعلنا 343
  • 68 ـ ومن اظلم ممن افترى على الله 344
  • 69 ـ والذين جاهدوا فينا 344
  • سورة الروم 345
  • 1 الى 7 ـ الم ، غلبت الروم 345
  • 8 ـ أو لم يتفكروا في أنفسهم 348
  • 9 ـ أو لم يسيروا في الارض 348
  • 10 ـ ثم كان عاقبة الذين اساؤا السوأى 349
  • 11 ـ الله يبدأ الخلق ثم يعيده 350
  • 12 ـ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون 350
  • 13 ـ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء 350
  • 14 ـ ويوم تقوم الساعة من شركائهم شفعاء 350
  • 15 ـ فأمّا الذين آمنوا 351
  • 16 ـ واما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا 351
  • 17 و 18 ـ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون 352
  • 19 ـ يخرج الحي من الميث 353
  • 20 ـ ومن آیاته ان خلق لکم 355
  • 21 ـ ومن آیاته ان خلق لکم 355
  • 22 ـ ومن آیاته خلق السماوات 356
  • 23 ـ ومن آیاته منامکم باللیل والنهار 358
  • 24 ـ ومن آیاته یریکم البرق خوفاٌ وطمعاً 358
  • 25 ـ ومن آیاته أن تقوم السماء والارض بأمره 359
  • 26 ـ وله من في السماوات والارض 361
  • 27 ـ وهو الذي يبدأ الخلق 361
  • 28 ـ ضرب لكم مثلاً من انفسكم 361
  • 29 ـ بل اتبع الذين ظلموا 362
  • 30 ـ فأقم وجهك للذين حنيفاً 363
  • 31 ـ منيبين اليه واتقوه 364
  • 32 ـ من الذين فرقوا دينهم 364
  • 33 ـ واذا مسّ الناس ضُر 365
  • 34 ـ ليكفروا بما اتيناهم 365
  • 35 ـ أم أنزلنا عليهم سلطاناً 365
  • 36 ـ واذا اذقنا الناس رحمة 365
  • 37 ـ أو لم يروا ان الله يبسط الرزق لم يشاء 366
  • 38 ـ فآت ذا القربى حقّه 366
  • 39 ـ وما آتیتم من رباً 367
  • 40 ـ الله الذي خلقكم 368
  • 41 ـ ظهر الفساد في البر والبحر 368
  • 42 ـ قل سيروا في الأرض فانظروا 369
  • 43 ـ فأقم وجهك للدين القيم 369
  • 44 و 45 ـ من كفر فعليه كفره 370
  • 46 ـ ومن آیاته ان يرسل الرياح 371
  • 47 ـ ولقد ارسلنا من قبلك رسلاً 371
  • 48 و 49 ـ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً 372
  • 50 ـ فانظر الى آثار رحمة الله 372
  • 51 ـ ولئن ارسلنا ريحاً 373
  • 52 ـ فانك لا تسمع الموتى 374
  • 53 ـ وما انت بهاد العمي عن ضلالتهم 374
  • 54 ـ الله الذي خلقكم من ضعفِ 375
  • 55 ـ ويوم تقوم الساعة 376
  • 56 و 57 ـ وقال الذين اوتوا العلم والإيمان 376
  • 58 ـ ولقد ضربنا للناس 378
  • 59 ـ كذلك يطبع الله على قلوب 378
  • 60 ـ فاصبر ان وعد الله حق 378
  • سورة لقمان 381
  • 1 و 2 ـ الم ، تلك آیات الکتاب الحکیم 381
  • 3 الی 5 ـ الذين يقيمون الصلاة 382
  • 6 ـ ومن الناس من يشتري 382
  • 7 ـ وإذا تتلى عليه آیاتنا ولى مستكبراً 383
  • 8 و 9 ـ إن الذين آمنوا 383
  • 10 ـ خلق السماوات بغیر عمد ثرونها 384
  • 11 ـ هذا خَلقُ الله 385
  • 12 ـ ولقد آتینا لقمان الحکمة 386
  • 13 ـ واذ قال لقمان لابنه 386
  • 14 ـ ووصّينا الانسان بوالديه 388
  • 15 ـ وان جاهدك على ان تشرك بي 388
  • 16 ـ يا بني انها ان تلك مثقال حبةٍ 389
  • 17 ـ يا بني أقم الصلاة وامر بالمعروف 390
  • 18 ـ ولا تصعّر خدّك للناس 391
  • 19 ـ واقصد في مشيك 391
  • 20 ـ الم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات 393
  • 21 ـ واذا قيل لهم أولوا كان الشيطان 394
  • 22 ـ ومن يسلم وجهه الى الله 394
  • 23 ـ ومن كفر فلا يحزنك كفره 394
  • 24 ـ نمتّعهم قليلاً ثم نضطرّهم 394
  • 25 ـ ولئن سألتهم عن خلق السماوات والأرض ليقولن الله 395
  • 26 ـ لله ما في السماوات والأرض 396
  • 27 ـ ولو ان ما في الارض 396
  • 28 ـ ما خلقكم وما بعثكم الا كنفس واحدة 396
  • 29 ـ ألم تر ان الله يولج الليل 396
  • 30 ـ ذلك بأن الله هو الحق 397
  • 31 ـ ألم تر أن الفلك تجري في البحر 398
  • 32 ـ واذا غشيهم موج كالظلل 399
  • 33 ـ يا ايها الناس اتّقوا ربكم 400
  • 34 ـ ان الله عنده علم الساعة 401
  • سورة السجدة 403
  • 1 ـ الم 403
  • 2 ـ تنزيل الكتاب 403
  • 3 ـ ام يقولون افتراه 404
  • 4 ـ الله الذي خلق السماوات والارض 405
  • 5 ـ الى 8 ـ يدبر الامر من السماء الى الارض 405
  • 9 ـ ثم سوّاه ونفخ فيه 406
  • 10 و 11 ـ وقالوا اذا ضللنا في الارض 408
  • 12 ـ ولو ترى إذا المجرمون ناكسو رؤوسهم 409
  • 13 ـ ولو شئنا لآتینا كلّ نفس هداها 409
  • 14 ـ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم 410
  • 15 ـ إنما يؤمن من بآیاتنا خروا سجداً 410
  • 16 ـ تتجافى جنوبهم عن المضاجع 410
  • 17 ـ فلا تعلم نفس ما اخفي لهم 411
  • 18 ـ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً لا يستوون 412
  • 19 ـ أما الذين آمنوا فلهم جنّات المأوى نزلاً 412
  • 20 ـ وأما الذين فسقوا 412
  • 21 ـ ولنذيقهم من العذاب الادنى 412
  • 22 ـ ومن أظلم إنا من المجرمين منتقمون 413
  • 23 ـ ولقد آتینا موسى فلا تكن في مرية 413
  • 24 ـ وجعلنا منهم ائمة 414
  • 25 ـ ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة 414
  • 26 ـ او لم يَهد لهم 414
  • 27 ـ أو لم يروا أنا الى الارض الجزر 415
  • 28 ـ ويقولون متى ان كنتم صادقين 415
  • 29 ـ قل يوم الفتح لا ينفع 415
  • 30 ـ فاعرض عنهم 415
  • سورة الاحزاب 417
  • 1 ـ يا ايها النبي اتق الله 417
  • 2 ـ واتبع ما يوحى إليك 418
  • 3 ـ وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً 418
  • 4 ـ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه 419
  • 5 ـ ادعوهم لآبائهم 420
  • 6 ـ النبي اولى بالمؤمنين 421
  • 7 ـ واذ اخذنا من النبيين 422
  • 8 ـ ليسأل الصادقين عن صدقهم 423
  • 9 ـ يا ايها الذين آمنوا إذا جاءتكم جنود 423
  • 10 ـ إذ جاؤوكم من فوقكم 423
  • 11 ـ هنالك ابتلي المؤمنون 424
  • 12 ـ واذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض 425
  • 13 ـ واذ قالت طائفة منهم يا اهل يثرب لا مُقام لكم 425
  • 14 ـ ولو دخلت عليهم من اقطارها 425
  • 15 ـ ولقد كانوا عاهدوا الله 425
  • 16 ـ قل لن ينفعكم الفرار 426
  • 17 ـ قل من ذا الذي يعصمكم 426
  • 18 ـ قد يعلم الله المعوَّقين 427
  • 19 ـ اشحَّةً عليكم 427
  • 20 ـ يحسبون الاحزاب لم يذهبوا 428
  • 21 ـ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة 429
  • 22 ـ ولما رأى المؤمنون الاحزاب 430
  • 23 ـ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 430
  • 24 ـ ليجزي الله الصادقين بصدقهم 431
  • 25 ـ وردّ الله الذين كفروا 431
  • 26 ـ وانزل الذين ظاهروهم 431
  • 27 ـ واورثكم ارضهم وديارهم 432
  • 28 ـ يا ايها النبي قل لأزواجك 432
  • 29 ـ وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة 433
  • 30 ـ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشةٍ 433
  • 31 ـ ومن يقنت منكن 433
  • 32 ـ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء 435
  • 33 ـ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن 435
  • 34 ـ واذكرن ما يتلى في بيوتكن 436
  • 35 ـ ان المسلمين والقانتين والقانتات 437
  • 36 ـ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة 438
  • 37 ـ واذ تقول للذي أنعم الله عليه 439
  • 38 ـ ما كان على النبي من حرجٍ 441
  • 39 ـ الذين يبلغون رسالات الله 441
  • 40 ـ ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم 442
  • 41 و 42 ـ يا ايها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً 442
  • 43 ـ هو الذي يصلي عليكم وملائكته 443
  • 44 ـ تحيتهم يوم يلقونه 443
  • 45 و 46 ـ يا ايها النبي إنّا ارسلناك شاهداً ومبشَّراً ونذيراً 444
  • 47 ـ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً 444
  • 48 ـ ولا تطع الكافرين 445
  • 49 ـ يا ايها الذين آمنوا من قبل ان تمسوهن 445
  • 50 ـ یا ایها النبی اللاتی آتیت اجورهن 446
  • 51 ـ ترجی من تشاء منهن 448
  • 52 ـ لا يحل لك النساء من بعد 448
  • 53 ـ يا ايها الذين آمنوا الا ان یؤذن لكم الى طعام 450
  • 54 ـ ان تبدوا شيئاً او تخفوه 451
  • 55 ـ لا جناح عليهن 451
  • 56 ـ ان الله وملائكته يصلون على النبي 451
  • 57 ـ ان الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا 452
  • 59 ـ يا ايها النبي قل بدنين من جلابيبهن 453
  • 60 و 61 ـ لئن لم ينته المنافقون 454
  • 62 ـ سنة الله في الذين خلوا من قبل 454
  • 63 ـ يسألك الناس عن الساعة 455
  • 64 و 65 ـ إن الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً 455
  • 66 ـ يوم تقلّب وجوههم في النار 455
  • 67 و 68 ـ وقالوا ربنا ربنا آتهم ضعفین من العذاب 455
  • 69 ـ يا ايها الذين آمنوا لا تکونوا کالذين آذوا 456
  • 70 و 71 ـ يا ايها الذين آمنوا قولوا قولاً سديداً 456
  • 72 ـ انا عرضنا الأمانة 456
  • 73 ـ ليعذب الله المنافقين 458
  • سورة سبأ 459
  • 1 ـ الحمد لله 459
  • 2 ـ يعلم ما يلج في الأرض 460
  • 3 و 4 ـ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة 461
  • 5 ـ والذين سعوا في آیاتنا 461
  • 6 ـ ویری الذين اوتو العلم 461
  • 7 و 8 ـ وقال الذين كفروا 462
  • 9 ـ أفلم يروا الى ما بين ايديهم 463
  • 10 و 11 ـ ولقد آتینا داود منا فضلاً 464
  • 12 ـ ولسليمان الرَّيح 466
  • 13 و 14 ـ يعلمون له ما يشاء من محاريب 467
  • 15 ـ لقد كان لسبأ 471
  • 16 ـ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم 472
  • 17 ـ ذلك جزيناهم بما كفروا 473
  • 18 ـ وجعلنا بينهم وبين القرى 473
  • 19 ـ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا 474
  • 20 ـ ولقد صدق عليهم ابليس ظنّه 474
  • 21 ـ وما كان له عليهم من سلطان 475
  • 22 ـ قل ادعوا الذين زعمتم 476
  • 23 ـ ولا تنفع الشفاعة عنده 476
  • 24 ـ قل من يرزقكم من السماوات والارض 478
  • 25 ـ قل لا تسألون عما أجرمنا 479
  • 26 ـ قل يجمع بيننا ربنا 479
  • 27 ـ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء 479
  • 28 ـ وما أرسلناك إلاّ كافة للناس 480
  • 29 ـ ويقولون متى هذا الوعد 480
  • 30 ـ قل لكم ميعاد يوم 481
  • 31 ـ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن 481
  • 32 ـ قال الذين استكبروا أنحن صددناكم عن الهدى 482
  • 33 ـ وقال بل مكر الليل والنهار 482
  • 34 ـ وما أرسلناك في قرية من نذير 483
  • 35 ـ وقالوا نحن أكثر أموالاً 483
  • 36 ـ قل ان ربي يبسط الرزق 484
  • 37 ـ وما أموالكم ولا اولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى 484
  • 38 ـ والذين يسعون في آیاتنا 485
  • 39 ـ قل ان ربی يبسط الرزق لمن يشاء 485
  • 40 و 41 ـ ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة 487
  • 42 ـ فاليوم لا يملك بعضكم ببعض نفعاً ولا ضرا 487
  • 43 ـ وإذا تتلى عليهم آیاتنا بیناتِ 487
  • 44 ـ وما آتیناهم من کتب 488
  • 45 ـ وکذّب الذين من قبلهم 488
  • 46 ـ قل انما اعظكم بواحدة 489
  • 47 ـ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم 490
  • 48 ـ قل ان ربي يقذف بالحق 490
  • 49 ـ جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد 490
  • 50 ـ قل ان ضللت فإنّما أضل 490
  • 51 ـ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت 491
  • 52 ـ وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش 491
  • 53 ـ وقد كفروا به من قبل 491
  • 54 ـ وحيل بينهم وبين ما يشتهون 492
  • سورة فاطر 493
  • 1 ـ الحمدلله فاطر السماوات والارض 493
  • 2 ـ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها 494
  • 3 ـ يا ايها الناس اذكرو نعمة الله عليكم 495
  • 4 ـ وان كذّبوا فقد كذبت رسل من قبلك 496
  • 5 و 6 ـ يا ايها الناس ان وعد الله حق 496
  • 7 ـ الذين كفروا لهم عذاب شديد 497
  • 8 ـ أفمن زّيّنَ له سوء عمله 498
  • 9 ـ والله الذي ارسل الرياح 499
  • 10 ـ ومن كان يريد العزة فالله العزة جميعاً 499
  • 11 ـ والله خلقكم من تراب 501
  • 12 ـ وما يستوي البحر ان هذا عذب 502
  • 13 ـ يولج الليل في النهار 503
  • 14 ـ ان ندعوهم لا يسمعوا دعاءكم 503
  • 15 ـ يا ايها الناس أنتم الفقراء الى الله 504
  • 16 و 17 ـ ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد 504
  • 18 ـ ولا تزر وازرة وزر اخرى 505
  • 19 الى 23 ـ وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور 506
  • 24 ـ إنّا أرسلناك وإن من أمّةٍ 507
  • 25 و 26 ـ وإن يكذبوك فقد كذّب 507
  • 27 ـ ألم تَرَ ومن الجبال جدد 508
  • 28 ـ ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه 508
  • 29 و 30 ـ إن الذين يتلون كتاب الله 511
  • 31 ـ والذي اوحينا اليك من الكتاب 511
  • 32 ـ ثم اورثنا الكتاب 512
  • 33 ـ جنات عدن يدخلونها 513
  • 34 و 35 ـ الحمدلله الذي اذهب عنا الحَزنَ 514
  • 36 ـ والذين كفروا لهم نار جهنم 515
  • 37 ـ وهم يصطرخون فيها 515
  • 38 ـ ان الله عالم غيب السماوات والارض انه عليم بذات الصدور 517
  • 39 ـ هو الذي جعلكم خلائف في الارض 517
  • 40 ـ قل أرايتم شركاءكم 517
  • 41 ـ ان الله يمسك السماوات والارض 518
  • 41 و 43 ـ واقسموا بالله جهد ايمانهم 520
  • 44 ـ أو لم يسيروا في الارض 522
  • 45 ـ ولو يؤاخذ الله الناس 523
  • الفهرس 524