بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

وهذا هو الجزء الرابع من كتابنا «الجديد في تفسير القرآن المجيد» نضعه بين أيدي القراء الأفاضل راجين من الله سبحانه وتعالى أن يقبل ما مضى منه وأن يوفّق لما بقي ، وأن لا يؤاخذنا بما أخطأنا أو نسينا فإن كتابه الكريم معجزة الدهر التي تبقى إلى يوم الحشر تتحدّى القرائح والعبقريّات ، إذ يبدو لمجيل الفكر فيها كلّ يوم شيء جديد ، وينكشف له في كلّ مرة عجب عجيب ، ولا غرور فالقرآن لا تنقضي عجائبه ، ولا يعلم تفسيره ولا تأويله إلا الله تعالى والراسخون في العلم كنبيّنا وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

أما نحن ، فنحاول كما حاول غيرنا ، راجين الفائدة وتعميم النّفع ، ولم نأت ببدع ما سبقنا إليه أحد ، ولكننا بذلنا الطاقة وغاية المجهود بقصد تقريب فهمّ ما استعصى من آياته الكريمات ، وجلاء شيء من المبهمات التي لا تحيط بها العقول القاصرة ، وقد اعتمدنا السهولة في الأسلوب ، والتبسيط في التعبير ، وتقسيم الآيات بحسب مواضيعها ، ليبقى القارئ مع كل موضوع في جوّه ، ومع كل قصة في مسارها ، وليتمكّن من الإلمام

بالمعاني إلماما مفيدا رشيدا ، وليحصل على الفائدة التي يتوخّاها من قراءة التفسير.

العصمة لله وحده سبحانه ، ونحن نعتذر عن كل زلل أو سهو ، ونسأل الله من فضله أن يتقبّل هذا العمل بقبول حسن ، وأن يتجاوز عن التقصير الذي ينشأ من القصور حين الوقوف أمام آياته البيّنات ، ومنه عزّ وعلا نستمد العون والتوفيق.

المؤلف

سورة يوسف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ : الر : قد سبق تفسيرها في أول سورة البقرة ، واخترنا هنا ما قيل من أن هذه الحروف المقطّعة في أوائل السّور ، أسماء للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ما نصّ عليه في بعض الأدعية الواردة عن مولانا الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام. والحق أن جميع ما ذكر في هذا الصّدد لا يرتاح إليه الضمير ، والله تعالى أعلم بما يريد ، وما يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم .. (تِلْكَ) إشارة إلى الآيات التي سيأتي ذكرها فيما بعد ، أو إشارة إلى سورة يوسف ، أو هي (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي آيات القرآن الظاهر أمره في الإعجاز مع ظهور معانيه للمتأمّل والمتدبّر.

٢ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : الهاء : في أنزلناه ، ضمير عائد للكتاب الذي هو القرآن. وقد احتجّوا بحدوث الكلام بهذه الآية بوجوه :

الأول : قوله : إنّا أنزلناه ، فذلك يدل على الحدوث ، حيث إن القديم لا يجوز إنزاله وتحويله من حال إلى حال.

الثاني : وصفه بكونه عربيّا ، والقديم لا يكون عربيّا ولا عجميّا.

الثالث : وصف القرآن بكونه عربيّا يدل على أنه قادر على أن ينزله غير عربيّ ، وذلك يدل على حدوثه.

الرابع : أن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يدل على أنه مركّب من الآيات والكلمات. وكل ما كان مركّبا كان محدثا على ما قرّر في الكلام.

وعلى كل حال فقد أنزله سبحانه وتعالى قرآنا عربيّا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أيها الناس عامة ، وأيها العرب خاصة. أي من أجل أن تعقلوا معانيه وتتفهّموا منها أمور الدّين ، وتعلموا أنه من عند ربّ العالمين إذ هو عربي وقد عجزتم عن الإتيان بمثله. وكلمة : لعلّ ، هنا يجب أن تحمل على معنى الجزم ، يعني أنه أنزله بلسانكم لتعقلوه ولكي لا تتماروا في معانيه وأوامره ونواهيه.

* * *

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ

رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ... إمّا أن يكون المراد بأحسن القصص جميع القصص التي في القرآن لأنه بما فيه قد بلغ النهاية في الفصاحة وحسن المعاني وعذوبة اللفظ وجمال العرض مع التلازم المنافي للتنافر ، ولكونه محتويا على ما يحتاج إليه البشر إلى يوم القيامة بأفصح نظم وأوضح بيان وأصرح معنى ، وإمّا أن يكون المراد به سورة يوسف وحدها لأنه سبحانه وتعالى قد قصّ ما قصّ فيها بأبدع الأساليب وأحسن وجوه العرض المبتكرة ، لأنها تشتمل على العجائب والمفاجآت والعقد القصصية والأزمات والحلول الحكيمة إلى جانب ما فيها من حكم وعبر ومواعظ ونتائج يتجلى فيها لطف الله تعالى بعباده الصالحين. وقيل إن قصة يوسف عليه‌السلام لأهميّتها قد ذكرت في التوراة إلى جانب قصص أخرى ، وقد روى أبو سعيد الخدري أن بعض الصحابة قد التمسوا من سلمان الفارسي رضوان الله عليه أن يحدّثهم عمّا في التوراة من قصص عجيبة وحكايات غريبة فنزلت هذه السورة تقص حكاية يوسف (ع) وإخوته وسائر أطوار حياته بأسلوب تتوفّر فيه جميع شروط القصة التي ذكرناها وأكثر ممّا يحيط به علمنا فقال تعالى إن هذه القصة تحمل أحسن القصص. وفي كتاب الروضة عن الشيخ ركن الدين مسعود بن محمد المشهور بإمام زاده أنه بعد ذكر الوجوه والأقوال في سبب تسمية هذه السورة بأحسن القصص قال : إن وجه نزول هذه السورة ، وتسميتها بأحسن القصص ، هو التسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن عرف ما يصيب سبطيه وولديه الحسن والحسين عليهما‌السلام من لسان جبرائيل عليه‌السلام نقلا عن الربّ الجليل ، ذلك أنه (ص) كان يوما جالسا والحسن والحسين (ع) على ركبتيه وهو يقبّل هذا مرة وهذا مرة مغتبطا بهما مستأنسا بوجودهما إذ نزل جبرائيل (ع) من عند ربّه فأخبره بما يصيبهما من الأمّة ، فبكى صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته بكاء شديدا ، فصعد جبرائيل (ع) وهبط

بأحسن القصص من عنده تبارك وتعالى وقرأ : نحن نقص عليك أحسن القصص ، أي قصة اخوة يوسف معه (ع) تسلية له ، لأن قصة الأمة مع أهل البيت لها نظير ، لأن إخوة يوسف أبناء أنبياء وسلالة طيبّين أبرار ومع ذلك فعلوا معه ما فعلوه بدون خطيئة ارتكبها مع أحد منهم ، وبرغم توصية أبيهم يعقوب (ع) لهم به ، إلى جانب معرفتهم به وبمرتبته ومقامه العالي. فقد تجاهلوا حقه كما تتجاهل أمة محمد (ص) حق أهل بيته (ع) لأنهم لم يكونوا أهل دين ولا أهل عقل ولا شرف ، بل كان الدّين لعقا على ألسنتهم وهم حمقى جهلاء.

والحاصل أنه سبحانه قال لنبيّه الكريم (ص) : نحن نقص عليك أحسن القصص (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بإيحائنا. وإنما دخلت الباء لبيان القصص. وما : مصدرية (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن (لَمِنَ الْغافِلِينَ) يعني غافلا عن قصة يوسف (ع) وما فيها من تفصيلات وحكم ، إذ لا يخطر ببالك ولا يقرع سمعك قطّ ما دار فيها من حوادث وأحداث ورعاية ربّانية ودروس وعبر.

٤ ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ) ... أي : اذكر يا محمّد قول يوسف (ع) لأبيه يا أبت : أصله : يا أبي ، أو أصله : يا أبتا ، فحذفت الياء أو الألف ، ولكثرة استعمال هذه الكلمة عند العرب ألزموها الحذف والقلب ولذا قرئت بفتح التاء وكسرها. وقال بعض الأعلام من أهل الأدب : يوسف ، مشتقّ من الأسف بمعنى الحزن الذي هو أشدّ الهمّ. ولما كان يوسف قرين أسف وجليس حزن سمّي بذلك. ويعقوب أبوه قيل باشتقاقه من عقب ، لأنه تولّد عقب أخيه إسحاق (ع) قال تعالى : (ومن بعد إسحاق يعقوب) ، ويضعّفه منعه من الصّرف لعلميّته وعجمته ، والاشتقاق لا يلائم العجمة.

وعلى كل حال كان ليعقوب عليه‌السلام أثناء عشر ولدا ذكورا ، وكان يوسف أحبّهم إليه لأنه كان محلّى بحلية الكمال والجمال ـ وقد ضرب المثل بحسنه وكما له ـ فحال صورته ينبئ عن كمال معرفته ومعنويته ، ويجلو

جمال معنويته مرآة صورته ، ولذا صار محسودا عند إخوته.

ويروى أنه كانت في صحن دار يعقوب (ع) شجرة يطلع منها غصن كلما ولد ليعقوب ولد ثم لا يزال ينمو بنموّ الولد ، فإذا وصل نموّه إلى حدّ معيّن كان يقطعه ويعطيه لصاحبه وقرينه من أولاده ليكون له عصا وقرينا في الرشد ثم يقول (ع) له : يا ولدي خذ عصاك. فلما ولد يوسف (ع) لم يطلع له غصن خاصّ به ولا نبت من الشجرة فرع حتى إذا صار في السابعة من عمره الشريف قال لأبيه : يا أبة ، أعطيت كلّ واحد من إخوتي عصا فأين عصاي؟ .. فدعا يعقوب (ع) ربّه بأمر وحي من الله سبحانه وسأله أن يعطيه عصا ليوسف. فنزل عليه‌السلام بعصا من أغصان شجر الجنّة وقال : أعطها ليوسف ، فأعطاه إياها.

وفي ليلة من الليالي رأى يوسف في منامه أنه قد أولج عصاه في أرض وتبعه في هذا العمل إخوته فاخضرّت ونبتت وأورقت ونمت نموّا عاليا ، ومدّت أغصانها إلى عنان السماء حتى دخلتها ، وبقيت عصيّ إخوته على ما كانت عليه جافة يابسة. وبعد ذلك جاءت ريح عاصفة اقتلعت عصيّهم وألقتها في البحر وبقيت عصا يوسف (ع) في مكانها وعلى ما هي عليه من النّضارة والخضرة. فانتبه يوسف من نومه مذعورا خائفا وجاء أباه فقصّ عليه رؤياه ، فسرّ أبوه من هذه الرؤيا وبشّره بعلوّ مقامه ورقيّه في مدارج الرفعة والكمال والسعادة. ولمّا اطّلع إخوته على رؤياه عرفوا تعبيرها فتضاعف حسدهم له وجرّهم إلى تدبير مكيدة ليوسف بوحي من النفوس الأمّارة بالسوء.

ثم ما عتّم أن رأى الرؤيا الأخرى التي حكاها الله سبحانه بقوله عزّ من قائل : (إِنِّي رَأَيْتُ) أي في منامي ، واللفظة من الرؤيا لا من الرؤية بقرينة قول أبيه (ع) : لا تقصص رؤياك ، وقوله هو (ع) : هذا تأويل رؤياي من قبل. والفرق بينهما أن الرؤيا تكون في المنام ، والرؤية تكون في اليقظة. والأولى على قسمين : صادقة وكاذبة ، والصادقة تكون باتّصال

النفس بالملكوت الأعلى ، وبحديث الملك للنفس وحديث الملك صادق ، أما الكاذبة فتكون من حديث الشيطان والشيطان كاذب. فقد قال : رأيت في منامي (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) وعن الإمام الباقر عليه‌السلام في تأويل هذه الآية أن هذه الرؤيا تدل على أنه يملك مصر ويدخل عليه أبواه وإخوته ، والشمس هي أمّه راحيل ، والقمر يرمز لأبيه يعقوب (ع) ، والأحد عشر كوكبا هم إخوته ، فإنهم جميعهم لما دخلوا عليه وهو على خزائن مصر ، سجدوا الله شكرا حين نظروا إليه ، وقوله : لي ساجدين ، أي لأجلي ولأجل ما رأوا من عناية الله وتوفيقه كان سجودهم لله تعالى ، وما ينبغي السجود لغيره.

٥ ـ (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) ... أي قال له أبوه : لا تحك هذا الذي رأيته في منامك لإخوتك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) يعني مخافة أن يدبّروا لك مكيدة بالتأكيد لأنهم حاسدون لك وقد يحتالون عليك لإهلاكك ، ولا مانع أن يغريهم الشيطان بذلك ف ـ (إِنَّ الشَّيْطانَ) الوسواس (لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) واضح العداوة يرميه بالعظائم.

٦ ـ (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) ... أي وبموجب هذه الرؤيا التي رأيتها في منامك ، فسيجتبيك : أي يختارك ربّك ويستخلصك (وَيُعَلِّمُكَ) يفهّمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) التعبير عن الرؤيا بشكل صادق جازم يكشف لك فيه وجه الحق (وَ) بذلك (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ) يكمل فضله (عَلَيْكَ) أنت بالنبوّة والسّلطة على خزائن مصر وما تبعها من البلاد ، وبغير ذلك من الأمور العظام كالتعبير عن الرؤيا ، وكتأويل الأحاديث ، فعن قتادة أنه في زمن يوسف عليه‌السلام كان تعبير الرؤيا أمرا متعارفا شائعا وكان مدار الفضل والكمال منوطا به ، ولذا جعل الله سبحانه يوسف (ع) وحيد عصره بالتعبير والتأويل ، أي بتفسير الرؤيا الصادقة والتعبير عنها بوجهها المرتقب الصحيح ، وبتأويل الرؤيا الكاذبة التي تأتي من نفث الشيطان اللعين .. فقد قال له أبوه (ع) : إن الله سيتولّى اختيارك ويكمل عليك فضله (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أهل بيته الأقربين بأن يجعل منهم أنبياء وملوكا (كَما أَتَمَّها

عَلى أَبَوَيْكَ) أي جدّيك إذ يقال للجدّ أبا ، وهما (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) فعلى إبراهيم عليه‌السلام أنعم الله سبحانه بالخلّة والرسالة والنجاة من نار النمرود ، وعلى إسحاق عليه‌السلام منّ بالنبوّة وبإخراج الأسباط من صلبه (إِنَّ رَبَّكَ) عزوجل (عَلِيمٌ) بما يفعله وبكل شيء (حَكِيمٌ) بتقديره وفعله طبق المصلحة والحكمة البالغة.

* * *

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

٧ ـ (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) : أي كان في قصة يوسف مع إخوته دلائل على قدرة الله وجميل صنعه وعبر عجيبة لمن يسأل من الناس عن خبرهم ويستفسر عمّا جرى بينهم. وقد روي أن اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا : لم انتقل آل يعقوب من بلاد الشام إلى مصر ، وما قصة يوسف؟. فالسائلون هم هؤلاء ، وقد أخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصة من غير سماع من لسان ولا قراءة في كتاب ، فكانت روايته لها من أعلام نبوّته (ص).

٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) ... فقد قال إخوة يوسف فيما بينهم : إن يوسف وأخوه لأبويه ـ وهو بنيامين أخوه من أمه وأبيه ـ مقرّبان من أبينا أكثر منّا ، فهو يؤثرهما علينا (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي ،

والحال : نحن جماعة متكاتفون أقوياء ، ونحن أحقّ بالمحبة من ذينك الصغيرين اللّذين لا كفاءة فيهما ، ف ـ (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنه غاب عنه كوننا أنفع له وأحرى بالتفضيل ، وهو يقدّم المفضول على الفاضل فيما بيننا ولا يعدل في المحبة.

٩ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ... أي اقتلوه وأعدموه الحياة ، أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن العمران ، بدليل تنكير لفظة أرض وخلوّها من الوصف. ويقال إن الذي اقترح قتله أو تضييعه هو أخوه المدعو : شمعون ، وعلّل ذلك بقوله : اقتلوه أو أضيعوه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يخلص لكم رضاه وحبّه ولا يشغله حبّ يوسف وتفضيله وإيثاره (وَتَكُونُوا) تصيروا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد القضاء على حياة يوسف أو وجوده : قتلا أو إبعادا ، تصبحوا (قَوْماً صالِحِينَ) بالتوبة عمّا فعلتم ، وعن الإمام السجاد عليه‌السلام : أي تتوبون.

١٠ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) ... قيل إن يهودا ـ أو يهوذا في بعض النسخ ـ هو الذي قال ، وكان أحسنهم رأيا. وعن الإمام الهادي عليه‌السلام ، هو : لاوى. وقيل : بل هو : روبين. فهذا أو ذاك قال : (أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي ارموه في قعر البئر الذي يغيّبه عن الأنظار وبحيث (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يعني يجده بعض المسافرين ويأخذونه ولا نكون قد ارتكبنا جريمة قتل ، فخذوا برأيي (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إذا كنتم عازمين على التفرقة بينه وبين أبيه .. فاتفقوا على هذا الرأي وألقوه في بئر.

أما البئر ففيه اختلاف إذ قيل : هو بئر بيت المقدس ، وقيل : هو في أرض الأردنّ ، وقيل : هو بين مدين ومصر ، وقيل : إنه على رأس ثلاثة فراسخ من بيت يعقوب عليه‌السلام. وروى أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنه كانت عادة يعقوب عليه‌السلام في كل يوم أن يذبح غنما ويتصدّق بلحمه ويأكل هو وعائلته منه. فاتّفق ـ ليلة جمعة ـ أن جاء سائل وقف على باب بيته وكان مؤمنا صوّاما فنادى أهل البيت

وسأل طعاما فما أجابه من أهل البيت أحد مع أنهم سمعوا نداءه ولم يعتنوا به. فلما يئس هذا السائل استرجع وبكى من الجوع وحمد الله عليه وصبر على ما به من جوع وذهب لسبيله وصام اليوم التالي فقضاه جوعا على جوع مع زيادة الطعام في بيت نبيّ الله يعقوب عليه‌السلام ، فابتلاه الله لذلك بمفارقة ابنه العزيز يوسف ، وأوحى إليه أن استعدّ لبلائي وارض بقضائي واصبر على ما قدّر لك من المصائب ، فرأى يوسف عليه‌السلام رؤياه في تلك الليلة. وقد اقتصرنا على هذه الخلاصة من هذا الحديث الطويل وذكرنا زبدة معناه.

* * *

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

١١ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) ... أي أن أبناء يعقوب عليه‌السلام جاؤوا أباهم وقالوا : لماذا تخاف خيانتنا ولا تثق بأمانتنا على أخينا يوسف ، ولا تعتمد علينا في أمر من أموره (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) نمنحه النّصح ولا نغشّه ونخلص له ونعطف عليه ونحب له الخير. ويؤخذ من الآية الكريمة أنه (ع) كان يأبى أن يرافقهم في رحلاتهم ويحول بينه وبين أن يخلوا به. فطلبوا منه أن يستأمنهم عليه ويسمح له بمرافقتهم في الخروج إلى البرّية فقالوا :

١٢ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) ... أي ابعثه معنا صباح غد ـ في اليوم التالي ـ يرتع : يذهب ويجيء هانئا في لهوه وتحركاته ، يذهب يمنة

ويسرة ، ويلعب : لعبا مباحا. فإن كل لعب ولهو حرام إلّا ثلاثة ، هي : لعب الرجل بقوسه ـ سلاحه ـ وفرسه ، وزوجته. فقد راودوه عن يوسف (وَ) قالوا : (إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) حارسون ، نحوطه بالعناية لئلا يصله مكروه.

١٣ ـ (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) ... أي أن أباه قال لإخوته إنه ليهمّني ويورث لي الحزن إذا أخذتموه معكم (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي أخشى أن يفترسه ذئب ضار (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي على حين غرّة وغفلة منكم. وقيل إن يعقوب (ع) ـ في الليلة التي سبقت هذا الحوار ـ رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب يدافع عنه ويحميه ، ورأى كأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف ولم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيام. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تلقّنوا أولادكم الكذب فيكذبوا. فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقّنهم أبوهم .. وهذا يدل على أن الخصم لا ينبغي أن يلقّن حجة ، ولكن علينا أن ندرك أن يعقوب عليه‌السلام قد قال ذلك لأولاده حفظا لابنه يوسف ، فإنه حين خوّفهم من أن يأكله الذئب ، فتح أمامهم باب تفكير جديد ينجي يوسف من القتل ، وفتّح أذهان أولاده لابتكار حيلة في إبعاد يوسف عن أبيه بغير القتل والموت. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام ـ وما أعظم ما قال ـ : قرّب يعقوب لهم العلّة فاعتلّوا بها في يوسف. وعن الصادق عليه‌السلام أيضا : إنّما ابتلى يعقوب بيوسف إذ ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه محتاج ـ صائم ـ لم يجد ما يفطر عليه ، فأغفله ولم يطعمه فابتلى بيوسف. وكان بعد ذلك ـ كلّ صباح ـ ينادي مناديه : من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب عليه‌السلام. فإذا كان المساء نادى مناديه : من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب عليه‌السلام. وقد ألمحنا إلى هذا الموضوع منذ قليل وذكرنا ما قاله الإمام السجّاد عليه‌السلام.

١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : فردّوا على

أبيهم بأنه لا يتأتّى للذّئب أن يأكله من بينهم وهم جماعة كثيرون ، وإن فعلها الذّئب فهم إذا ضعفاء خاسرون للمعركة مع الذّئب الضعيف عن التغلّب عليهم مع كثرتهم ، وما أبعد أن يكون ذلك بوجودنا ووفرة عددنا واعتدادنا بأنفسنا وشدة محافظتنا على أخينا .. ولا يخفى أن قولهم هذا من باب تهدئة خاطر أبيه إذ لا يعقل أن يصل إليه الذئب من بينهم.

* * *

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

١٥ ـ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ... أي فلمّا أخذوه معهم وقرّروا ما قرّروا بشأن التخلص منه ، واتّفقوا جميعا على إلقائه في البئر. وجواب : لمّا ، محذوف هنا ، أي : لمّا أخذوه فعلوا ما فعلوا به من الأذى (وَ) حينئذ (أَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي ألهمناه وأفهمناه وحيا قائلين (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) تخبرنّهم يقينا (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بما فعلوه بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) دون أن يحسّوا كيف يتمّ ذلك من فضيحة أمرهم.

وعن الإمام السجّاد عليه‌السلام : لما خرجوا من منزلهم لحقهم أبوهم مسرعا فانتزعه من بين أيديهم فضمّه إليه واعتنقه وبكى ، ودفعه إليهم.

فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم. فلمّا أيقنوا به أتوا به غيضة أشجار أي أجمة فيها أشجار ملتفّة في مغيض ماء فقالوا نذبحه ونلقيه تحت هذه الأشجار فيأكله الذئب الليلة. فقال كبيرهم : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يأخذه بعض السيّارة ، فانطلقوا به إلى الجبّ وألقوه فيه.

وفي بعض التفاسير أنهم لما عزموا جميعا أن يجعلوه في قعر البئر ـ قبل خروجهم ـ أخرجوه من البلد مكرّما ، فلما أصحروا ـ صاروا في الصحراء ـ أظهروا له العداوة وجعلوا يضربونه وهو يستغيث بهم واحدا بعد واحد فلا يغيثه أحد ، وكان يقول يا أبتاه فهمّوا بقتله فمنعهم يهودا ، وقيل بل منعهم لاوى ، فانطلقوا به إلى الجب ـ وكان يومئذ ابن سبع سنين ـ وجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلّق بشفيره ، ثم نزعوا قميصه ليلطّخوه بدم ويذهبوا به إلى أبيهم حتى يكون دليلا على صدق دعواهم الكاذبة. ثم ما زال يستغيث ويستنجد ويقول : لا تفعلوا بي ذلك ، ردّوا عليّ قميصي لأتوارى به ، فكانوا يعيّرونه قائلين : أدع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لإعانتك ومؤانستك ، وأدلوه في البئر ـ أي شدوا حبلا على وسطه وألقوه في البئر كالدلو ـ ثم لمّا وصل إلى نصف البئر قطعوا الحبل فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة في جانبه فقام عليها. وقيل إن يهودا كان يأتيه بالطعام ، وقيل وكّل الله به ملكا يحرسه ويطعمه ، وقيل إن جبرائيل عليه‌السلام كان يؤنسه إذ مكث في البئر ثلاثة أيام.

وقد روى المفضّل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن إبراهيم عليه‌السلام لمّا ألقي في النار جرّد عريانا ، فأتاه جبرائيل (ع) بقميص من حرير الجنّة فألبسه إياه ، فكان ذلك الثوب عند إبراهيم عليه‌السلام فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شبّ يوسف جعل ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنق يوسف فكان لا يفارقه. فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبرائيل (ع) وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج منه القميص وألبسه إياه ، وهو القميص الذي وجد يعقوب ريحه لمّا فصلت

العير من مصر وكان يعقوب في فلسطين فقال : إني لأجد ريح يوسف (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي أوحى الله سبحانه إلى يوسف حين جعلوه في البئر وهو ابن سبع سنين كما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولا عجب في ذلك فقد أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما‌السلام في الصغر ؛ أجل أوحى إليه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ) أي لتخبرنّهم وتحدّثنّهم بما فعلوا بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) يعني من حيث لا يحسّون ولا يعرفون أنك يوسف أخوهم بسبب طول العهد وعلوّ شأنك. وهذا الكلام منه تعالى فيه إشارة إلى نجاته وبشارة بما قاله في مصر لإخوته : أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إلخ ...

١٦ ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : أي رجعوا آخر النهار وجاؤوا متباكين أمام أبيهم ليلتبس الأمر عليه ويظنّهم صادقين. ومن هنا يفهم أنه لا يوجب كلّ بكاء صدق دعوى الباكي ، إذ قد يكون البكاء لتمويه الأمر على الغير كما فيما نحن فيه.

١٧ ـ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ... يعني أنهم قالوا : رحنا نتسابق ونعدو لننظر أيّنا أسرع في العدو وأسبق في الركض. وقيل : المراد المسابقة بالنّصل والرّمي ، قد اعتذروا بأن قالوا لأبيهم ذهبنا نستبق (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي أبقيناه عند ما حملناه معنا في سفرنا وألهانا التسابق (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي : عدا عليه وافترسه فقتله وأكله (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي لست بمصدّق قولنا لسوء ظنّك بنا وفرط محبّتك ليوسف. فسوء ظنّهم بعاطفة أبيهم جعلهم يزعمون عدم تصديقهم بدليل قولهم له : في آخر الآية : ولو كنّا صادقين .. فيفهم من كلامهم هذا : فكيف بنا ونحن كاذبون؟ فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إظهار أمر أجرى على لسان القائل كلاما يكشفه من حيث لا ينتبه قائله ، ويظهره في حركاته وسكناته وعمله. فقد جاء هؤلاء أباهم بقولهم هذا ، وبقميص يوسف ملطّخا بدم سخلة وقيل بدم ظبي ، ولكنهم ذهلوا عن أن يمزّقوا القميص ولم يخطر في بالهم أن الذئب إذا افترس إنسانا يمزّق ثيابه وجميع ملابسه ، ذلك أن الله تعالى أراد

إظهار كذبهم على نبيّه عليه‌السلام ، وشاء أن يفضحهم عنده .. فمكروا ، ومكر الله ، والله خير الماكرين ، لا يدع مثل هذا العمل الشنيع الذي أدّى للفتك بالرّحم وبأذيّة الأب والابن ، فكيف وهما نبيّان كريمان؟

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا أتي بقميص يوسف إلى يعقوب (ع) قال : اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشقّ القميص! .. وفي بعض التفاسير ذكر أنه عليه‌السلام قال : والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا!! أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!.

وعلى كل حال أدرك يعقوب (ع) أنهم قد فعلوا بيوسف ما فعلوا من إخفائه وصرّح بعدم تصديقهم كما ترى في الآية الكريمة التالية.

١٨ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ... أي أنهم افتضحوا أمام أبيهم الذي عرف كذب روايتهم وأن الدم الذي على القميص ليس دم يوسف بل هو مزوّر مكذوب ، ف ـ (قالَ) لبنيه ساعتئذ وهم وقوف بين يديه : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت وهوّنت عندكم أمرا عظيما فصنعتموه وهو ـ يقينا ـ غير ما قلتم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن أمري ، أو صبري ، هو صبر لا شكوى فيه إلّا إلى ربّي ، أتلقّاه راضيا بحكمه وقضائه غير كاره لمشيئته (وَاللهُ) هو وحده (الْمُسْتَعانُ) الذي يعينني (عَلى) تحمّل (ما تَصِفُونَ) من التزوير وتضييع الأثر.

* * *

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ

مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

١٩ ـ (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) ... أي : بعد حصول ما كان من أمر وضعه في البئر ، بثلاثة أيام حسب الظاهر ، جاء رفقة سائرون في سفر فنزلوا قريبا من البئر وأحسّوا بالحاجة إلى الماء (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) يعني بعثوا واحدا يرد الماء ويستقي لهم. والوارد في القافلة هو من كان مكلّفا بسقاية العير ومتعهّدا بالرّي دون غيره. فذهب واردهم إلى البئر (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أنزل الدّلو ـ وأرسل السّطل ـ الذي يغترف به الماء من البئر ، فتعلّق به يوسف عليه‌السلام فعرف المستقي من البئر فتهلّل وجهه فرحا و (قالَ يا بُشْرى) أي يا قوم البشارة البشارة (هذا غُلامٌ) يعني ولد دون العاشرة. ويحتمل أن يكون قد بشّر نفسه بذلك ، أو أن يكون قد لفظ هذا الكلام تحيّرا وتعجبا لأن خروج غلام حيّ من بئر فيه ماء أمر نادر غريب. فكيف بمثل هذا الغلام الرائع الحسن الفاتن الجمال! .. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعطي يوسف شطر الحسن ، والنّصف الآخر لسائر الناس.

وسواء كانت البشرى للوارد أم لسائر أفراد السيّارة ، فقد أنقذوا يوسف (ع) من البئر (وَأَسَرُّوهُ) أي أخفوه ولم يعلنوا الحادثة لأنهم التقطوه دون كلفة وعناء ، وبلا ثمن ولا مصروف (١) ، وصمّموا أن يجعلوه (بِضاعَةً)

__________________

(١) وفي رواية عن الإمام السجاد عليه‌السلام ـ كما عن ابن عباس ـ : أن إخوة يوسف لما طرحوه في الجب ورجعوا ، قالوا بعد ثلاثة أيام : انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف ، أمات أم هو حيّ فلمّا انتهوا ـ

يعني متاعا في جملة تجارتهم معدّا للبيع (وَاللهُ عَلِيمٌ) عارف خبير (بِما يَعْمَلُونَ) من العثور عليه ، إلى إنقاذه ، إلى إخفائه عن الآخرين ، فإلى الاتفاق على بيعه في مصر.

٢٠ ـ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ... أي اشتروه بثمن قليل بدليل قوله تعالى : دراهم معدودة ، وهو أيضا ثمن بخس : قيل في معناه : ناقص البركة ، وقيل : البخس الحرام لأن ثمن الحرّ حرام. ولم يذكر سبحانه مقدار الثمن لكونه غير معتدّ به لعظيم قلّته (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي أن البائعين زهدوا به واستخفّوا بقدره ، سواء كان البائعون له أخوته أم الرفاق الذين التقطوه من الجب لأنهم وجدوا فيه علامة الأحرار وسيماء العظمة والسيادة وأخلاق أهل البرّ ، فلم يرغبوا فيه (ع) فزهدوا به مخافة تبعة جعله رقّا وحذرا من استعباده.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) ... قصة يوسف عليه‌السلام لا تقتضي أزيد من وقوع بيع وشراء واحد ، وهو بيع السيارة له من عزيز مصر الذي كان على خزائنها وكان اسمه قطفير ، وكان من طرف الملك الرّيان بن الوليد العمليقي الذي آمن بيوسف (ع) ومات في حياته. والأخبار الواردة في هذا الموضوع تتحدث عن وقوع بيعين : واحد حين انتشاله من الجب ، وواحد من عزيز مصر. ونحن نرى أنه وقع

__________________

 ـ إلى الجب وجدوا بحضرته سيارة وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه ، فلما جذب دلوه فإذا هو بغلام متعلّق فيه فقال لأصحابه : يا بشرى ، هذا غلام. فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب وجئنا اليوم لنخرجه ، فانتزعوه من أيديهم وتنحوّا به ناحية فقالوا : إمّا أن تقرّ لنا أنك عبدنا فنبيعك ، أو أننا نقتلك. فقال لهم يوسف : لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم.

فأقبلوا إلى السيّارة فقالوا : من منكم يشتري منّا هذا الغلام؟ فاشتراه منهم رجل بعشرين درهما وكان إخوته فيه من الزاهدين. وفي بعض الروايات : باعوه بثمانية عشر درهما. بل في ثمنه أقوال كثيرة.

وفي الأخبار أن يوسف عليه‌السلام نظر يوما في المرآة فتعجّب ممّا أعطاه الله تعالى من الحسن وجمال الصورة ، فخطر بباله أني لو كنت عبدا لكان ثمني يتجاوز العدّ والحصر فابتلي بما أراه الله تعالى من الثمن البخس.

بيع واحد من السيارة لعزيز مصر ، أرادوا أن يتخلصوا من التّبعة لأنهم لم يروا فيه إلّا سيماء السادة.

وعلى كل حال ، فإن عزيز مصر الذي ابتاعه من السيارة ـ بثمن ما يساويه في الوزن من المسك والحرير والورق ـ أي الفضة المسكوكة ـ ثم قال لزوجه : أكرمي مثواه : أي اجعليه عندك كريم المقام محفوظ المنزلة وأحسني تربيته وتعهّده ، وعلّل قوله هذا لها بما رآه من وسامته ورفيع تهذيبه وجماله خلقا وخلقا ، ثم بقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي يقوم بمهماتنا وإصلاح أمورنا ، فيفيدنا في أملاكنا وضياعنا وعقارنا ، لأن علائم الرّشد بادية على جبينه الأزهر. ثم زاد في التعليل قائلا : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) يعني نتبنّاه. لأن عزيز مصر المذكور كان عقيما ولم يرزق ولدا. وفي القمي : لم يكن للذي اشتراه ولد ، فأكرموه وربّوه فلما بلغ أشدّه هويته امرأة العزيز ، بل كانت لا تنظر إلى يوسف امرأة إلّا هويته ، ولا رجل إلّا أحبه ، إذ كان وجهه كالبدر الطالع وأخلاقه وشمائله لا يوفّيها وصف (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أي أنعمنا عليه بأن أنجيناه من المهالك ، ومنحناه عنايتنا وتأييدنا فجعلناه سلطانا وأعطيناه قدرة وسطوة في (الْأَرْضِ) أي أرض مصر ليقيم العدل فيها ، وثبّتنا قدمه لنرفع من قدره (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي نلقّنه تعبير المنامات وتفسير الأحلام ، التي من عمدتها ـ وعلى رأسها ـ رؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك. وقد أدّى علمه في التعبير إلى الرئاسة العظمى وجعله على خزائن مصر. ويحتمل أن يكون المراد تعليمه الأحكام وإرساله إلى الخلق فيتحقّق بتبليغها أمر نبوّته (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يمنع من مشيئته شيء ، والأمور تجري على ما شاء وما قدّر في سابق علمه ، لا على ما دبّر من لدن أخوة يوسف إذ أرادوا به السوء فأراد الله تعالى له كل خير وكان ما أراد الله تعالى (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون تقديره وتدبيره إذ الأمور كلها بيده عزّ اسمه.

٢٢ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ... أي حين بلغ يوسف (ع) والبلوغ يكون ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة من العمر أو إلى

أربعين كما قيل ، فحين وصل إلى أول هذه السن وبلغ أشدّه ، والأشدّ في اللغة بضمّ الهمزة وفتحها : إمّا جمع لا واحد له ، أو واحد جاء على بناء الجمع ، ومعناه : منتهى القوّة والإدراك ، أجل حين صار في أول السنّ التي يكمل فيه الإدراك (آتَيْناهُ) أعطيناه ومنحناه (حُكْماً) يحكم به بين الناس ، أو حكمة يتمتع بها ويمتاز على من عداه (وَعِلْماً) بوجوه المصالح وبفقه الدّين وتعبير الرؤيا وغيرها. فإن الناس إذا تحاكموا إلى العزيز كان يرجع إلى يوسف (ع) ليفتي في الأمور ويصدر الأحكام ، لما رأى من عقله وحكمته وإصابة رأيه (وَكَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الإنعام (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نكافئهم. وفي هذا تنبيه إلى أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وجميع تصرفاته في عنفوان شبابه ، أي في السنّ التي يمكن أن يسيطر فيها الشباب على أحكام العقل ، في حين أن يوسف (ع) أحسن عملا بصبره على الشدائد وبتفويض أمره إلى الله والتمسّك بحبله والرجوع إليه في كل أزمة من أزمات حياته ، فجزاه سبحانه من عنده أحسن جزاء.

* * *

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ

أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

٢٣ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) ... راود من : راد يرود يعني ذهب وآب ، وراح ورجع لطلب شيء. وهذا يعني أن المرأة التي هو في بيتها ، حاولت معه ، وطلبت منه بحيل عديدة ورغبت إليه أن يبذل لها نفسه ويواقعها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي أقفلتها. وروي أنها كانت سبع حجر ـ غرف ـ بين كل منها أبواب تفتحها على بعضها ، فأغلقتها كلها (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هيت : اسم فعل معناه هلمّ أو أقبل. وقرئت : هيّئت لك. ونسبت قراءتها إلى عليّ عليه‌السلام، ومعناه : قد أعددت نفسي لك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أنه يعوذ بالله ويلجأ إليه ليعصمه من أن يجيبها إلى رغبتها ، ولذا أظهر الإباء والرّفض الشديد قائلا : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) والضمير في : إنه ، يحتمل فيه وجهان : إرجاعه إلى الله تعالى ، أو إرجاعه إلى عزيز مصر. ويؤيّد إرجاعه إلى العزيز ما علّلوه من امتناعه من القبيح بالتربية والإحسان في المثوى أي الإقامة وحسن المعاملة. والمربّي الظاهريّ هو العزيز لأن يوسف كان يوم شرائه له ابن سبع سنوات ، فبقي في منزله وتحت تربيته حتى بلغ أشدّه. والإحسان في المثوى هو إشارة إلى ما أوصى العزيز به زوجه حين اشتراه من إكرام مثواه وحسن تعهّده مدة إقامته معهما بأمل اتّخاذه ولدا ربما نفعهما. أمّا إذا أرجع إلى الله سبحانه فيكون إرجاعا له إلى ما يقرب منه فإن قوله : إنه ربّي ، مسبوق بقوله : معاذ الله ، وهذا من المحسّنات عند الأعلام من أهل الأدب. هذا مضافا إلى أن الله تعالى هو

المربّي بالحقيقة وهو المحسن في واقع الأمر .. والحاصل أنه رفض طلبها ولم يستجب للعاطفة وبدأ الرفض بالاستعاذة بالله ، وبأن مربّيه أو ربّه فعلا أحسن مثواه وإقامته بعد إبعاده عن بيته الأبوي ، وب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح ولا يصيب الرّشد والخير من تعدّى على الحرمات وظلم نفسه وغيره.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ... التفسير اللفظي يعني أنها مالت إليه وقصدته باهتمام ، ومال إليها وقصدها بمثل ذلك ولكن ميله معلّق على قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يمكن أن يكون منه ذلك لو لا رؤية برهان ربّه جلّ وعلا. وحيث لم يحصل المعلّق عليه ، لم يحصل المعلّق أيضا. فالنتيجة أنه ما حصل له عليه‌السلام ميل ولا قصد سوء معها ، إذ كان مكثه معها ومكثها معه في بيت واحد كمكث ذوات المحارم مع ذوي أرحامهن ، يعني كالأمّ مع ابنها باعتبار أن زليخا كانت معه كأمه أو كأخته الحسناء التي يجالسها ابنها أو أخوها ، بل يحبّها حبّا بريئا لا حبّ شهوة تتولّد عن النفس الأمّارة بالسوء ، وكذا تكون الأجنبيّات عند الرّسل والأنبياء والأولياء والمعصومين ببركة العصمة وبفعلها وتأثيرها على شهوات النفس عند من أعطيت لهم.

لكن هذا التفسير قد يكون خلاف ظاهر الآية الكريمة لأن العصمة أمر معنويّ ، وهي من الملكات التي ليست قابلة لأن تتعلق برؤية البرهان ، وحملها على الرؤية المعنوية ـ أي بعين القلب ـ حمل عرفاني خلاف الظاهر أيضا. فالحقّ في المقام أن نحمل البرهان على ما في رواية الإمام علي بن الحسين (ع) الآتية ، من رؤية زليخا في حالة الجذب والاجتذاب لصنمها الذي ألقت عليه ثوبا يغطيه. فهذا الالتفات في تلك الحالة التي هيجّت نفسها وشهوتها ، ما كان إلا من عند الله تعالى ، لتنبيه يوسف (ع) وتوجيهه إليه وإراءته عظمته .. هذا هو البرهان الذي أراه الله إياه لطفا به. ولذا فسّر البرهان بالعصمة منه عزّ وعلا.

وقيل إنّ المراد بهمّه (ع) بها ، هو ميل الطبع ومنازعة الشهوة ، لا القصد الاختياريّ. وهذا الهمّ ممّا يصحّ أن يكتب له عليه حسنة لا أن يحسب له سيّئة ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله حكاية عن ربّه : إذا همّ عبدي بسيّئة فلم يعملها كتبت له حسنة. وهذه الرواية وإن كان إطلاقها ، على فرض الصّحة ، يشمل ما إذا كان القصد اختياريّا ، إلّا أن الأنبياء وأهل العصمة خارجون عن موضوع قصد الاختيار لأن العصمة مانعة عن ذلك بلا إشكال. وقد خبط كثير من المفسّرين في تأويل هذه المسألة وذكروا ما يتنافى مع عصمة الأنبياء عليهم‌السلام. ففي رواية الإمام السجّاد عليه‌السلام التي أشرنا إليها بالنسبة للبرهان ، قال : قامت امرأة العزيز إلى الصّنم فألقت عليه ثوبا ، فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : أستحي من الصّنم أن يرانا. فقال لها يوسف : أتستحين ممّن لا يبصر ولا يفقه ولا أستحي ممّن خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، ويبصر الغيب والعيان؟ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : البرهان النبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والحكمة الصارفة عن القبائح .. وتابع سبحانه السّرد : (كَذلِكَ) أي مثل هذا كان الحال وكانت النتيجة (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي من أجل أن نذهب عنه (وَ) نجنّبه (الْفَحْشاءَ) والفسوق والزّنى. ففي رواية أن زليخا همّت بالمعصية ، ويوسف همّ بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله ، فصرف الله تعالى عنه قتلها والفاحشة. وقيل إن الفرق بين السوء والفحشاء ، هو أن السوء خيانة اليد ، والفحشاء هي الزّنى ، والسوء من مقدّمات الفاحشة كالنظر واللمس والقبلة وغير ذلك. فقد قال سبحانه : صرفنا عنه ذلك (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الّذين أخلصهم الله لطاعته واختارهم وطهّرهم من الدنس.

٢٥ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ ، وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) ... أي تسابقا نحو الباب الذي يفضي إلى الخارج وتبادرا إليه لأن يوسف (ع) كان يراها مصرّة على رغبتها فيه فأراد الفرار والنجاة فركض نحو الباب للخروج ، وزليخا أسرعت وراءه لتمنعه من الفرار فكان أسرع منها فتناولت ثوبه لتمسكه به

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبته بقميصه فشقّته طولا ـ لأن القدّ يكون شقّا بالطول ، والقطّ يكون قصّا بالعرض ، وإن كان القدّ يستعمل للشقّ مطلقا ـ فقد أمسكته بقميصه وشقّته من دبر أي من خلف وهو هارب أمامها (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها يبدو فجأة عند الباب إذ صادف دخوله غير المنتظر إلى الحجرة. والتعبير عن زوجها بلفظ سيّدها إشارة إلى أنه مالك لأمرها. ولدي هذه المفاجأة بادرت إلى قلب حقيقة ما جرى بينهما و (قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) أي كيف يكون عقاب من اعتدى على زوجتك ـ وأهل الرجل زوجه وعياله ـ ثم عيّنت الجراء وقرّرته بشأن من يريد ذلك بقولها : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أن يحبس جزاء فعله الشّنيع أو أن ينال الإيذاء والتعذيب الشديد أي الضرب الموجع بالسّياط مثلا ، محاولة بذلك تبرئة ساحتها ومقترحة نوع القصاص قبل المحاكمة وكأن أمر براءتها مفروغ منه.

٢٦ ـ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ... أي : قال يوسف (ع) : هي حاولت هذا الأمر وطلبت مني السوء ورغبت فيّ فامتنعت. وإنما قال ذلك تنزيها لنفسه وتنويها بصدقه ودفعا لتهمتها لا على سبيل رميها بالبهتان ، ولذا صار الأمر مبهما على الملك حيث ادّعى كلّ منهما على الآخر. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أي أدّى أحد أقربائها شهادة معقولة بقوله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي إذا كان ثوبه قد انشقّ من قبل أي من أمام وقدّام فان الدلالة تقوم على أنه قصدها فدفعته عن نفسها. أما الشاهد من أهلها فكان رجلا مع الملك حين دخوله ، قيل هو ابن عمها ، وقيل إنه ابن خالها وكان زائرا لها في ذلك اليوم ، وقيل إنه صبيّ في المهد كان ابن ثلاثة أشهر. فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : ألهم الله عزوجل يوسف أن قال للملك : سل هذا الصبيّ في المهد.

فإذا كان الشاهد رجلا فقد وفّقه الله فأفتى بحكمته وعقله بما حكاه الله سبحانه عنه ونعم ما أفتى به حين نظر إلى القميص وقدّر الموقف ، وإذا كان ذلك الشاهد صبيّا ابن ثلاثة أشهر فإن في ذلك معجزة أظهرها الله على يد

يوسف ليبرّئه أمام الملك. وقد كانت الشهادة معقولة إذ تحكي عن واقع معقول لأن الشاهد أتمّها بقوله :

٢٧ ـ (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ... أي إذا كان ثوبه مشقوقا من الخلف (فَكَذَبَتْ) في ادّعائها عليه (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله. إذ من الواضح أنّ شقّه من قدّام يعني أنه قصدها فدفعته عن نفسها ، وشقّه من وراء يعني أنه فرّ منها فجذبته بثوبه فانشقّ لمّا تعلّقت به.

٢٨ ـ (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) ... أي فلمّا نظر الشاهد ورأى أن القميص مشقوق من جهة القفا (قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من عملكنّ وحيلتكنّ يقصد نوع النّسوة فإنهن معروفات بذلك وقد نقل عن بعض الأعلام أنه قال : إني أخاف من النّسوان أكثر مما أخاف من الشيطان لأن الله تعالى وصف كيد الشيطان بالضّعف فقال : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقال في كيد النساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيدهنّ يعلق بالنّفس ويؤثّر على القلب. وربما كان القائل عزيز مصر ، أو الرجل الذي كان معه ، أو الصبيّ الذي في المهد. وفي الأثر : أن يوسف لما صار نبيّا واستقرّت له السلطة ، كان جبرائيل عليه‌السلام معه مرة فجاءه شابّ من خدمه يلبس ثوبا دسما وسخا وبيده آلة من آلات المطبخ ، فصار معلوما لدى جبرائيل (ع) أنه من خدمة المطبخ فقال : يا يوسف هل تعرف هذا الشاب؟ قال : لا. قال جبرائيل : هذا هو الصبيّ الذي شهد لك في مهده ونزّهك من الفحشاء. قال : فله عليّ حقّ عظيم. فأمر بأن ينزع منه ثوبه وأن يخلع عليه ثوب فاخر. وبعدئذ استوزره يوسف وكان له نعم العشير والوزير.

ويحتمل أن يكون القائل عزيز مصر أي الزّوج باعتبار هذه الصراحة المعلنة مع زليخا التي هي من هي في نساء زمانها ، وباعتبار إصدار الأمر الثاني لها وليوسف فيما قاله الله سبحانه وتعالى في الآية التالية إذ قال :

٢٩ ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ... أي أن العزيز قال : يا يوسف : انصرف بكلّيتك عن هذا الحادث واكتمه ولا تذكره عند أحد حتى لا يفشو في البلد وتلوكه الألسن ، وقد ظهرت براءتك ثم التفت إلى زوجه وقال : (وَ) أنت يا زليخا : (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي توبي منه وأقلعي تماما (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي مرتكبي الأخطاء والذنوب ، وقد ذكّر لفظ : الخاطئين باعتبار الغلبة أي من القوم الخاطئين : المذنبين .. وقيل إن العزيز لم يكن غيورا ، قد سلبه الله تعالى الغيرة لطفا منه بيوسف عليه‌السلام حتى كفاه الله شرّه ، ولذا اكتفى بالقول ليوسف : أعرض عن هذا ، والقول لزوجه : استغفري لذنبك .. واقتصر على هذا القدر ، وتسامح وأغضى عن زوجه ممّا يدل على عدم مبالاته الشديدة بما حصل ، ويدل أيضا على أنها مع ظهور خيانتها وتغاضي زوجها كانت مختارة لنفسها لا سلطة حقيقية له عليها إمّا من جهة جمالها الفتّان وإمّا من جهة عننه وضعفه الجنسي وعقمه والكفرة على كلّ حال لا غيرة عندهم فإن زليخا وزوجها من عبدة الأصنام.

ويدل على ما قلناه من عدم اعتناء زليخا بثبوت الخيانة عليها أمام زوجها ، وبكونها فعّالة لما تريد ولا تعبأ بما قيل وما يقال ، أنها هيّأت مجلس سمر جمعت فيه نساء العلية من قومها اللواتي بدأن بتعييرها في مراودة فتاها ، وباحت أمامهنّ بقصدها وتصميمها على ملاحقته بوقاحة حتى يفعل أو ينال العذاب الأليم ، وسنرى تفصيل ذلك وأنها لم تخش ما يقلنه لأزواجهنّ الذين هم من وزراء العزيز وأصحابه ومواضع سرّه ومن الذين ينقلون إليه أقوالها وتصاريحها.

* * *

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ

قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢))

٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) ... أي تحدّثت النساء في مصر في مجالسهنّ بقصة زليخا مع يوسف (ع) قائلات : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي أنها تحاول منه أن يفجر بها وأنّه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) يعني أن حبّها له قد استقرّ في نفسها وأصاب شغاف قلبها ودخل فؤادها ، وبمعنى آخر قد استولى حبّها له عليها وأشربه قلبها. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : قد حجبها حبّه عن النّاس فلا تعقل غيره.

وقد روي أن حبّها له شاع بمصر فجعلت النسوة يعذلنها ويلمنها على ذلك ويذكرنها بالعيب عليها ويقلن : (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منحرفة عن طريق الحق ، تائهة عن الرّشد.

أما تذكير الفعل في قوله تعالى : وقال نسوة ، فقد حذفت منه علامة التأنيث ولم يقل: وقالت نسوة ، لأنّ في إسناد الفعل إلى الجمع يجوز فيه الوجهان سواء كان الجمع للتذكير أم للتأنيث ، فيقال : جاء الرجال ، وجاءت الرجال ، كما أنه يقال ، جاءت النسوة ، وجاء النّسوة. والقاعدة مستفادة من الآيات والأخبار المقدّسة وهي كثيرة الوقوع في القرآن والأحاديث.

٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) ... أي حين نقل لها ما تقوله نساء المدينة عنها وعرفت مكرهنّ ، يعني قولهنّ المغاير للصواب الذي أخفين وراءه رأيهنّ الصريح ، تأكّدت من تعييرهنّ لها بفتاها يوسف ف ـ (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي دعتهنّ إلى مجلس عامّ في بيتها (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي هيأت لهنّ ما يجلسن عليه ويتّكئن عليه لأخذ الراحة التامة إذ كان من عادتهنّ أن يتكئن أثناء الطعام والشراب وفي مجالسهنّ ترفا وكبرياء. ورويت قراءته : متكا ، بإسكان التّاء وحذف الهمزة ، وفسّروه بالأترجّة ، ولعلّه أنسب للمقام .. وبعد أن جمعتهن (وَ) حضرن (آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي أعطت كل امرأة سكّينا لتقشر الفاكهة التي أعّدتها لهنّ. (وَ) في تلك اللحظة (قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) يعني أمرته بالظهور أمامهنّ.

وقيل إن النّسوة اللّواتي عيّرنها كنّ خمسا : امرأة الساقي ، وامرأة الخبّاز ، وامرأة صاحب الدوابّ ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب. وكلّ رجالهنّ من أصحاب العزيز. أما النّسوة اللائي دعتهنّ لمجلسها فكنّ أربعين امرأة ، مات منهنّ تسع نسوة حينما خرج يوسف عليهنّ ..

وقد روى القمي أنها بعثت إلى كل امرأة رئيس فجمعتهنّ في بيتها بعد أنّ هيأت لهن مجلسا ، ودفعت إلى كلّ امرأة أترجّة (نوع من البرتقال) وسكّينا وقالت لهنّ : اقطعن الأترجّ وقشّرنه ، ونادته ليظهر أمامهنّ وهنّ على هذه الحال ، فخرج (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي عظّمنه وبهتن من جماله الذي أخذ بمجامع قلوبهن ففقدن الوعي (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) للدهشة والحيرة بهذا الحسن العجيب ، جرحن أيديهن وهنّ ذاهلات مشدوهات (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ) أي حاشاه سبحانه ، يعني أنه تعالى منزّه عن العجز أن يخلق مثل يوسف وعلى هذه الصورة من الحسن والجمال ... وأصل الفعل : حاشا ، وقد حذف الألف تخفيفا. وهو هنا يفيد التنزيه. ويمكن أن يكون لام : لله ، للاختصاص ، وقيل إنه للبيان .. ولن يفوتنا التنبيه إلى ما قاله الأزهري من أن الهاء في : أكبرنه ، للسّكت ، وأن : أكبرن ، بمعنى : حضن لأنه يقال : أكبرت

المرأة إذا حاضت ، هو قول بخلاف الظاهر ، لأن الهاء هذه ضمير عائد ليوسف (ع) بقرينة ما قبله من قوله تعالى : رأينه ، وبقرينة ما بعده من قوله سبحانه : ما هذا ، إشارة إلى يوسف (ع) نفسه ، وقوله عزوجل : إن هذا .. والحاصل أن النسوة لمّا رأينه تعجّبن من فتنته التي لم تخطر ببالهنّ وقلن : (ما هذا بَشَراً) أي ليس يوسف من سنخ النّاس المعروفين في الخلق ولم يعهد في البشر هذا الحسن وهذه العفة. وقد تركّز في الذّهن أنه ليس في المخلوقات أجمل من الملك ولا أقبح من الشيطان ، فإذا (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي ملك يزيد على الملائكة بأنه كريم الطبع فكأنهنّ بالغن في وصفه بالحسن كالملك وزدن على ذلك بأنه كريم لأنه لم يلتفت إليهنّ مع أنهنّ كنّ من أجمل نساء عصرهنّ ، وكنّ في أجمل زينتهن وأكملها ، بحيث لا يمكن لبشر أن يغضّ طرفه ويصرف نظره عنهنّ وهن بهذه الفتنة. لذا عرفن بعقيدتهن أنه بريء من القبائح والشهوة النفسية والهوى المضل ، فنزّهنه عمّا يلوّث البشرية ويؤثّر في الإنسانية ، ونسبنه إلى الملائكية صونا له عن الخطأ فجزمن بكونه فوق ما تصوّرن وفوق ما خطر لهنّ قبل رؤيته ، وجمدن في مجلسهنّ كأنهنّ عذرن زليخا بمراودته عن نفسه ، فاستظهرت عليهن حينئذ وصارحتهن برأيها.

٣٢ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ... أي أنها حين رأتهنّ مبهورات من حسنه وجماله ورونق فتوّته قالت لهنّ : هذا هو الذي تعذلنني على مراودته عن نفسه والتصدّي له. (وَ) أنا أعترف لكنّ أنني (لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وطلبت منه مجامعتي (فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع وعاذ بالعصمة عن هذه الزلة. (وَ) لكنني أقول أمامكن (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) يعمل (ما آمُرُهُ) به من مضاجعتي ، مقسمة (لَيُسْجَنَنَ) أي يحبس مؤكّدا (وَلَيَكُوناً) يعني : ليكونن ، وقد وضعت ألف التنوين مكان النون الثانية الساكنة لمشابهتها في اللفظ ، أي ليصيرنّ (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء الذين يحلّ بهم الصّغار والاحتقار.

وقيل إن النسوة اللائي حضرن في ذلك المجلس قد راودت كلّ واحدة

منهن يوسف عن نفسه بعد أن فارقن المجلس ، واستعملن معه وسائط وعناوين كثيرة وبذلن محاولات عديدة فاستعصم وامتنع أشد امتناع وضجر من الوضع الذي عاشه أثناء تلك الفترة في ذلك البيت. فلما يئسن منه عليه‌السلام جئن إلى زليخا مفتنات وقلن لها : إن كنت تريدين أن تصلي الى غايتك منه وأن يفعل بك ما أردت منه فلا بد من سجنه أياما قلائل ليحس بالضيق ويتأذّى فيذعن لأمرك ولا يخالف رغبتك. فقبلت وعزمت على حبسه وجاءت إلى العزيز ـ زوجها ـ وقالت : قد اشمئزت نفسي من هذا الغلام العبري وقد افتضحنا في المجتمع وأصبحنا نذكر في المحافل بالسوء ، فإن أمر الملك بحبسه فقد يرفع عنا القيل والقال وقد ينحصر الظنّ به وأرتاح من ملازمته لي وأخلص من ملامة الناس. فقبل العزيز كلامها وأمر بحبسه.

ولا يخفى أن زليخا تمكّنت بهذا المسعى من تبرير موقفها أمام النسوة من جهة ، ومن جعل الأمر يلتبس على العزيز بعد إظهار اشمئزازها من يوسف (ع) وملالتها من وجوده في بيتها من جهة ثانية ، وخصوصا حين أظهرت ضجرها منه وطلبت حبسه وإبعاده عن وجهها رياء إذ قيل إنما اقترحت له الحبس لأن المحتبس كان قريبا منها ، فأرادت أن يبقى بقربها حتى تراه .. ولا عجب في أن يتمّ حبسه بمجرّد طلب زليخا ، رغم أن العزيز كان ينبغي أن يسجنها هي بعد ما اطّلع على الأمر وفهم الملابسات ورأى بعينه وسمع الشهادة بأذنه ، فهي التي تستحق السّجن لا يوسف الصدّيق سلام الله عليه المنزّه عن الفحشاء بالدلائل التي أوضحت براءته كما أظهرت كذبها عليه. ولكننا قلنا سابقا إن العزيز كان طوع يمين زوجته زليخا لما ابتلي به من عنن وضعف في الرجولة ، ولذا لم يجادلها بأمر حبسه مع كونه منزّها بنظر العزيز نفسه.

* * *

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ

وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

٣٣ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام ضجر في ذلك البيت مما قاسى من مضايقات زليخا وغيرها من النسوة بحسب الظاهر ، وبدليل قوله : يدعونني ، بالجمع ، مصداقا لما قلناه سابقا من أن جميع من رأينه وأكبرنه رغبن فيه وراودنه عن نفسه بمختلف الوسائل وشتّى الإغراءات ، ففرّج الله تعالى عنه باقتراح حبسه فقال يا رب إن السجن أحبّ إليّ من دعوة هؤلاء النسوة إليّ الفحشاء ، فأنا أفضّل الحبس على أن أمارس المعاصي والفجور إذ أخلو وأتفرّغ لعبادتك (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) إلّا : جاءت بدل : إن ، ولم الشرطية. أي : إن لم تصرف عني وتحوّل مكرهنّ واحتيالهن عنّي (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) يعني إن لم تجنّبني ذلك أمل إليهن ، وأستجب لرغباتهنّ بمقتضى شهوتي وبما جعلته من رجوليّة في من هو في مثل سنّي (وَ) حينئذ (أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي غير العارفين بأوامرك ونواهيك. ويستفاد من قول يوسف هذا ، أنه يبتعد عن الأمور التي تثير الشهوة الطبيعية وتهيّج النفس البشرية ولو بغير اختياره ، فليس من المعقول أن يميل إلى الفحشاء والمنكر برغبة منه واختيار.

٣٤ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام دعا ربّه فاستجاب له دعاءه ـ وهو سميع الدّعاء ، وهو السّميع المجيب ـ فصرف : حوّل عنه مكرهنّ وحيلهنّ (إِنَّهُ) سبحانه وتعالى (هُوَ السَّمِيعُ) للدعاء ولكل شيء (الْعَلِيمُ) بأحوال الجميع وبما يصلح شأنهم ، فلا بد للإنسان من اللّجأ اليه عزّ اسمه في كل حال تعتريه ـ ولو كان معصوما ـ وليس عليه أن يعتمد على ملكاته وقوّة إرادته لأنّ النفس أمّارة

بالسوء عصمنا الله من شرّها ، فما على العبد إلّا أن يفوّض أمره إلى ربه جلّ وعلا في كل الأحوال.

٣٥ ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) ... أي : رأوا أخيرا بعد الشواهد الدالة على براءته ، وهي الآيات المعجزات التي ظهرت لتبرئته ، فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : الآيات : شهادة الصبيّ ، والقميص المخرّق من دبر ، واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب. فلمّا عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. بعد كل هذا رأوا وقرّروا (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي لا بد من حبسه إلى أمد معدود وظرف مناسب بحيث ينسى حديث المرأة معه وينقطع الخوض فيه والتعليق عليه ، وبحيث يبدو لأعين الناس أنه هو المأخوذ بالذنب .. وفي رواية أنه (ع) شكا أمره إلى الله وهو في السجن وقال : بم استحققت السجن؟ فأوحى الله إليه : أنت اخترته حين قلت : السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه. هلّا قلت : العافية أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : البكّاؤون خمسة .. إلى أن قال : وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذّى به أهل السجن فقالوا له : إمّا أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل ، فصالحهم على واحد منهما .. وعن الصادق عليه‌السلام أيضا : جاء جبرائيل إلى يوسف عليهما‌السلام وهو في السجن فقال له : يا يوسف قل في دبر كلّ صلاة : اللهم اجعل لي ـ من أمري ـ فرجا ومخرجا وارزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب.

* * *

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

٣٦ ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) ... انتقل سبحانه إلى ما بعد دخوله السجن لأن تقرير سجنه عرف وعلم من واقع الحال ، وقال عزّ اسمه قد سجن مع يوسف (ع) اثنان في ريعان الشباب هما عبدان من عبيد الملك الرّيان ولذلك عبّر عنهما بفتيين كانا في خدمة ملك ذلك العصر وكان العزيز أميرا من قبله وأمينا على خزائن الدولة. والسجينان أحدهما ساقي الملك الذي يشرف على شرابه وسمرة ، وثانيهما طبّاخه ، وقد اتّهما أنهما كانا بصدد دسّ السمّ للملك فأمر بحبسهما واتفق أن كان ذلك مقارنا لحبس يوسف عليه‌السلام ، وقد أنسا بيوسف هما وجميع أهل الحبس واستفادوا من نصائحه ومواعظه لهم بالصبر على البلاء وبالتسليم لقضاء الله تعالى ، مضافا إلى أنه كان يعبّر لهم عن رؤياهم ويفسّر أحلامهم. ولذلك (قالَ أَحَدُهُما) أي واحد من الفتيين (إِنِّي أَرانِي) أي رأيت نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني يعصر عنبا وقد سمّاه خمرا لأنه يؤول إلى خمر بعد تعليله بطريقة خاصة ، وهذه التسمية معتادة في لسان العرب فقد حكى الأصمعيّ أنه لقي أعرابيّا معه عنب فقال له : ما معك؟ قال : خمر (وَقالَ الْآخَرُ) أي الفتى الثاني (إِنِّي أَرانِي) رأيت نفسي في المنام (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يعني كأنّ فوق رأسه طبقا فيه خبز تأكل منه الطيور. ثم قالا له : (نَبِّئْنا) أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) أي عبّر لنا عما قصصناه عليك ، وبيّن لنا التأويل يعني ما يؤول ويرجع إليه المعنى كما أن التعليم هو

تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قالا له ذلك لأنه كان جميل المعاملة مع المساجين حسن المعاشرة لهم فإنه إذا ضاق بأحدهم المكان وسّع عليه ، وإذا احتاج الى شيء يقرضه ، وإذا مرض قام على العناية به ، وهو يعين المظلوم وينصر الضعيف ويواسي جميع البؤساء والمتعبين. فيوسف عليه‌السلام ، وإن كان سجينا ، كان مبسوط اليد موسّعا وكان حبسه سياسيّا وقد أحبّه كلّ من رآه. فعن الإمام الرضا عليه‌السلام : قال السجّان ليوسف : إنّي لأحبّك. فقال يوسف : ما أصابني ما أصابني إلّا من الحب!. إن كانت خالتي أحبّتني سرّقتني ، وإن كان أبي أحبّني حسدني إخوتي ، وإن كانت امرأة العزيز أحبّتني حبستني. وفي رواية : ذكر عمّته مكان خالته. وبيان ذلك أن خالة يوسف ـ أو عمّته أحبّته حبّا شديدا بحيث كان أملها الوحيد أن يبقى يوسف عندها دائما ، ثم احتالت بحيلة لإبقائه معها في قصة حزام كانت تحتفظ به من إبراهيم عليه‌السلام ـ وقيل من إسحاق (ع) ـ يتوارثه الأنبياء والأكابر ، فشدّته على وسط يوسف عند استغراقه في النوم ، ثم اتّهمته بسرقته بعد أن استيقظ. وكان من شريعة يعقوب عليه‌السلام أن المسروق له يأخذ السارق ويستخدمه مدة سنة كاملة. وبهذه الحيلة أخذت يوسف من عند أبيه يعقوب عليهما‌السلام وكانت تؤنسه وتستأنس به أثناء المدة المحدّدة للسارق.

هذا ، وقيل إنّ زليخا بعثت إلى السجّان أن يحبسه في مكان شديد الظّلمة وأن يضيّق عليه في المأكل والمشرب ، فلم يرتّب السجّان أثرا على قولها.

ولمّا كان في تعبير الرؤيا أن واحدا من الفتيين سيهلك لا محالة ، فإن يوسف (ع) لم يسرع في تفسير ما رأياه في المنام ، بل شرع في إرشادهما إلى توحيد الله عزوجل ووجود صانع لهذا الكون العظيم ، لينزع من عقيدتهما فكرة الشريك له سبحانه من الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ليموت من يموت منهما على دين الحق ويمضي على الطريق المستقيم. ومهّد لحديثه هذا معهما بما يشهد على صدق دعوته ، وبما هو معجزة مدهشة تدلّ على صحة جميع ما

يقوله فقال إنه يستطيع أن يخبرهما عن أمر غيبيّ كما هو شأن الأنبياء والرّسل في دعواتهم للناس من أجل اتّباع الحق وترك الكفر ، ولذا أعرض عن التعبير فترد استثمرها في دعوتهما إلى التوحيد ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيا من حيّ عن بيّنة فقال لهما :

٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) ... أي قال لرفيقي السجن : لا يجيئكما طعام يقرّر لكما إلّا أخبرتكما عن نوعه ولونه وكم هو وكيف هو فذكر لهما معجزة ليست بالأمر العاديّ تجري مجرى معجزة عيسى عليه‌السلام حين قال : وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون ـ أي تخبّئون ـ في بيوتكم ـ كل ذلك من أجل تهيئة ذهنيهما لتقبّل دعوته إلى الله عزوجل. فقد أكّد لهما أنه يخبرهما عن صفات كل طعام يأتيهما بقوله : أفعل ذلك (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قبل رؤيته ووصوله إليكما. ثم فاجأهما قائلا : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي أن هذه الموهبة على الإخبار بالغيب هي من الإلهام والوحي الذي منحني إيّاه خالقي العظيم ، وليس هو من طرق الكهانة والتّنجيم ، ولذلك (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي تخلّيت عن مذهب الكافرين الذين لا يصدّقون بوجود الله (وَ) الذين (هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي عبدة الأصنام والأوثان. وقد كرّر الضمير : هم ، للدلالة على اختصاصهم ولتأكيد كفرهم بالآخرة. فقد عرّفهما أولا أنه عليه‌السلام ليس على دين الكفرة فقد كانا لا يعلمان ذلك عنه إذ لم يعلنه ولم يظهر إيمانه خوفا من المساجين وتقية من الكافرين وهو بين ظهرانيهم يعتبرونه مملوكا لهم قد شروه بالدراهم كما يتوهمون في ظاهر الحال مع أنه من أهل بيت النبوّة والوحي وحاشاه أن يكون عبدا مملوكا. ولعل قوله هذا كان أول تصريح منه بظهور نبوّته وبدء لمعان نجمه ، عرّفهم فيه بنفسه إذ متى عرفوه عظّموه ووقّروه وسمعوا كلامه وقبلوا بيانه وآمنوا بدعوته. ثم عقّب بقوله :

٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ... أي : لحقت وسرت مسار آبائي الذين هم أنبياء الله ورسله للناس ، وأنا على نهجهم

القويم نعبد الله وحده و (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) فنعبد معه غيره من الأصنام ولا (مِنْ شَيْءٍ) مخلوق مفتقر إلى غيره كالأحجار والنار والكواكب والطبيعة. وبذلك أعلن عن نفسه وعن عقيدته ورد على عقائد جميع المشركين وأشار ب ـ (ذلِكَ) أي ما أشرت إليه من التوحيد والتوفيق لنا معاشر الأنبياء و (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) ونعمه التي أنعمها علينا (وَعَلَى النَّاسِ) أي المؤمنين بعدم الشرك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من الكافرين بنعم ربهم والمشركين معه غيره (لا يَشْكُرُونَ) ربهم أي لا يحمدونه ولا يعترفون بفضله ونعمته.

* * *

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

٣٩ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) ... نبّه يوسف (ع) صاحبيه بهذا النداء ليستقطب كامل وعيهما قائلا : (أَأَرْبابٌ) أي آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) مختلفون كثيرون ، هم (خَيْرٌ) أصلح للعبادة مع افتقارهم

لعلة إيجادهم (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي الرب الفرد الصّمد الذي أمره نافذ في كل شيء لأنه قهّار متسلّط على الكائنات؟ فقد تدرّج في دعوتهما لإلزامهما الحجة فبيّن لهما أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة ، ثم برهن على أن ما يسمّيه الناس آلهة ويعبدونها لا تستحق الألوهية ولا العبادة والتقديس ، ثم نصّ على ما هو الحقّ القويم والدّين المستقيم الذي لا يقبل العقل الحكيم والذوق السليم غيره ، ولا يرتضي العلم سواه بقوله :

٤٠ ـ (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) ... أي أن الآلهة التي تحصرون عبادتكم بها ليست سوى أسماء ـ يعني المسمّيات منها ، من أحجار وكواكب وغيرها ـ دعوتموها آلهة (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) واخترعتم لها الألوهية ضلالا وكفرا إذ (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لم يأمر سبحانه بعبادتها ولا هي ذات قيمة وأثر لتستحق العبادة لأنها لا تسمع ولا تعقل ولا تملك ضرّا ولا نفعا (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقد (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر بعبادته وحده ونهى عن الشّرك به. وفي هذا بيان للحكم الذي حصر الله تعالى فيه العبادة به دون غيره (ذلِكَ) أي ما أشار إليه ، هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي طريقة العبادة ذات القيمة العظيمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بل يجهلون هذه الحقيقة ويضلّون عنها. ثم تابع حديثه معهما وانتقل إلى تعبير رؤياهما :

٤١ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) ... أي يا رفيقي الحبس (أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقي الملك وصاحب شرابه «ف» إنه سينجو من السّجن (فَيَسْقِي رَبَّهُ) أي يقدّم لسيّده (خَمْراً) بعد نجاته والربّ هو السيد إذ يقال : ربّ الدار وربّ العائلة وربّ البلد. وهذه إشارة له بعودته إلى عمله وبظهور براءته (وَأَمَّا الْآخَرُ) أي الثاني (فَيُصْلَبُ) أي يحكم بالإعدام صلبا على الخشبة (فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ) تتغذّى الطيور الجارحة من لحمه و (مِنْ رَأْسِهِ) أثناء بقائه مصلوبا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي انتهى تعبير رؤياكما وما سألتما عنه من تفسير لما رأيتماه في منامكما وقد أفتيتكما به.

فإنه (ع) لما أقام الحجة عليهما في التوحيد وأبطل دينهما وأثبت دين

الحق وأتمّ البيان ، عبّر عن رؤياهما بأخصر عبارة ووعد الساقي بالإفراج عنه بعد ثلاثة أيام فيخرج بأمر الملك ويعود إلى ما كان عليه وترتفع منزلته عنده ، ثم أخبر الطبّاخ بالبقاء في السجن ثلاثة أيام أيضا ولكن الملك يأمر بعدها بصلبه فيبقى مصلوبا إلى أن تأكل الطيور الجوارح من مخّه ولحم جسده.

وقيل إن صاحبي السّجن ما رأيا في النوم ولا راودهما حلم ، وإنّما اخترعا ذلك وقالاه بقصد امتحان يوسف (ع) لأنهما رأياه عليما بتعبير الرؤيا ، ثم لما فسّره لهما قالا له : إنما كنّا نتسلّى ونمازحك في الرؤيا فلذلك ردّ عليهما قائلا : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ، أي أن الأمر نازل بكما لا محالة ، لأن قوله عليه‌السلام لهما جاء من جهة الوحي والإلهام.

٤٢ ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ... ظنّ : هنا بمعنى : علم واعتقد ، فقد قال للذي تأكد نجاته : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي ائت على ذكري وأنني حبست ظلما لكي يخلّصني من الحبس (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) اختلفوا في عودة الضمير الذي من آخر الفعل : أنساه. فقالوا : يرجع إلى يوسف ، أي أنساه الشيطان ذكر الله في تلك الحال حتى استغاث بمخلوق فالتمس من الساقي أن يذكره عند سيّده وكان من حقّه أن يستغيث بالله الذي أنجاه من المهالك والكرب العظام ويتوكّل عليه وحده «ف» لذلك (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) أي بقي سبع سنين بعد خمس سنين سبقتها وذلك هو المرويّ عن الإمامين السجّاد والصادق عليهما‌السلام. وقالوا : بل الضمير في : أنساه ، يرجع إلى الساقي الذي سها عن ذكر يوسف ونسيه سبع سنين.

واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة سببا لا أصالة بشرط أن لا يغفل الإنسان عن ذكر مسبّب الأسباب بالكلّية. ولمّا كانت حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، فإنه لا يجوز على مثل يوسف (ع) أن يستعين بغيره تعالى لا جرم صار يوسف مؤاخذا بترك ما هو أولى في

حقه. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رحم الله يوسف لو لا الكلمة التي قالها لما لبث في السّجن هذه المدة الطويلة. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : جاء جبرائيل (ع) وقال : يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال ربّي. قال : فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال : ربّي. قال : فمن ساق إليك السيّارة؟ قال : ربّي. قال : فمن صرف عنك ـ القتل ـ؟ قال : ربّي. قال : فمن أنقذك من الجب؟ قال ربّي. قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربّي. قال : فإن ربّك يقول : ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بما قلت بضع سنين ـ وفي رواية : بضع سنين أخرى ـ فبكى يوسف عند ذلك بكاء أبكى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت فيه أسوأ حالا. وقال الطبرسي رحمه‌الله : فلو صحّت هذه الرواية عوتب ـ عوقب ـ يوسف في ترك عادته الجميلة من الصّبر والتوكل على الله تعالى.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا انقضت المدة وأذن الله له في دعاء الفرج وضع خدّه على الأرض ثم قال : اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ففرّج عنه. فقيل للإمام عليه‌السلام : أندعو نحن بهذا الدعاء؟ قال : ادعوا بمثله : اللهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك ، فإني أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمةعليهم‌السلام.

وهكذا أجاب الله ليوسف دعاءه وقرّب فرجه وهيّأ له أسبابه ، وإذا أراد الله بعبد خيرا هيّأ له الأسباب ، وذلك هو ما أشار به الله تعالى من قوله عزّ من قائل : وقال الملك إني أرى إلخ ... فيما يلي :

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤))

٤٣ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) ... أي قال «الريان» ملك مصر : إني رأيت فيما يرى النائم أن سبع بقرات سمان : يعني متمتّعات بكامل صحتها ونشاطها والسّمن ظاهر عليها وقد رأيت أن هذه السّمان (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي سبع بقرات (عِجافٌ) أي هزيلات ضعيفات. والعجاف جمع عجفاء ، مؤنّث أعجف ، وهو من الشواذّ لأن أفعل وفعلاء لا يجمعان على وزن : فعال كما لا يخفى. (وَ) رأيت أيضا (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي هذه كانت جافّة ، وتلك كانت خضراء يانعة.

فالملك قد رأى في المنام سبع بقرات في غاية السّمن خرجت من جدول يابس ، حملت عليها سبع بقرات هزيلات للغاية فأكلتها ولم يظهر أنه قد زاد في حجم بطونها شيء. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات جافّات ، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها وجعلتها تحتها وسترتها وأخفتها. وقد استغنى عن بيان حال السنابل بذكر حال البقر ... عندئذ أفاق مرعوبا وجمع الحكماء والكهنة والمعبّرين من أهل مملكته وكان تعبير الرؤيا شائعا في زمانه وذكر لهم ما رآه في نومه وقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي يا أيها العلية من الناس ـ وقيل سمّوا بذلك لملاءتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي ولأنهم يملأون العيون والقلوب بما يملكون من معرفة ومواهب. قال لهم : (أَفْتُونِي) يعني أعطوني الفتيا

والقول الصواب (فِي) تعبير (رُءْيايَ) ما رأيته في منامي (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم عالمين بتفسيرها وتأويلها.

ففكّروا في هذه الرؤيا العجيبة ، وعجزوا عن تفسيرها وجمدت قرائحهم عن الخوض في تأويلها ، عندئذ :

٤٤ ـ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ... أي مجموعة منامات مختلطة لا يتميّز بعضها من بعض. والضّغث : قبضة الحشيش المختلطة رطبا ويابسا ، أو القبضة من القضبان الصغار التي يضرب بها. والأحلام جمع حلم ، وهو ما يراه النائم في نومه وقد شبّهوا أحلام الملك بالأضغاث لاختلاطها وتعسّر تمييزها ، ولأنها بادئ ذي بدء لا تتميّز فيما بينها ولا يعرف بعضها من بعض ، فقرّروا أنها خواطر كاذبة قد أضيفت بعضها إلى بعض واختلطت لتؤلّف مجموعة من الرؤيا الكاذبة ، فلا محصّل لها حتى يكون لها تعبير وتأويل (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هي على هذا الشكل المختلط (بِعالِمِينَ) ولسنا بمعبّرين للأباطيل أيها الملك.

لكنّ الملك لم يقتنع بقولهم ولا اطمأنّ إلى تقريرهم ، بل اعتقد جازما أن لرؤياه تعبيرا مهمّا لم يتوصّلوا إلى معرفته ، فاغتمّ واهتم .. فلما رآه الساقي مهتمّا مضطربا من رؤياه ، غير مستريح إلى قول كهنته وحكمائه الذين ظهر عجزهم تذكّر يوسف عليه‌السلام وتعبيره الصادق للرؤيا ، وفطن لما حدث معه ، فقال :

* * *

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً

فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

٤٥ ـ (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ... أي قال للناس ، ذلك الساقي الذي نجا من السجن وخلص من الموت ، من ذينك السّجينين ، وادّكر : أي : تذكّر قول يوسف (ع) له : اذكرني عند ربّك. وادّكر أصله : اذتكر ، فأبدلت التاء دالا فصارت : اذدكر ، ثم أدغمت الذال بالدال فصارت : ادّكر ، أي تذكّر. ففطن لذلك بعد أمّة : يعني حين ومدة طويلة ، وقال : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي ابعثوني إلى من يعلم تأويل الرؤيا .. وقوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ، جملة معترضة ، وفي الكلام حذف يدل المذكور عليه ، أي أن الساقي سمع قوله وأجيب طلبه وأرسل إلى السجن فأتى يوسف وقال : يا :

٤٦ ـ (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) ... والساقي الذي تذكّر ما أوصاه به يوسف بعد مدة طويلة ، بحيث نسي الوصية ، فإنه بحسب القاعدة العرفية وحسن الأدب قد اعتذر ليوسف (ع) عن إهمال وصيّته بعد أن أنساه إياها الشيطان اللعين ، ثم لمّا آنس منه الصّفح قال بأدب : أيّها الصدّيق : أي كثير الصدق فيما يخبر به : والساقي عالم بذلك ، مجرّب لصدقه (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي دلّني على تفسير ذلك (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني : عسى أن أعود إلى الناس فأخبرهم بما أعلمتني من التأويل الحقيقي لذلك الحلم العجيب ، فإن الملك ومن بحضرته من الكهنة والحكماء والمعبرّين قد عجزوا عن تأويله ف ـ (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون تأويله الحقيقي ، ويعرفون فضلك ومكانتك ومكانك من السجن. فذكر له يوسف

(ع) تعبير رؤيا الملك ، إذ :

٤٧ ـ (قالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) ... أي أنكم تزرعون كدأبكم وعادتكم المستمرة ، سبع سنين يصادفها الخصب والنّماء (فَما حَصَدْتُمْ) أي جنيتم من تلك الزّروع (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) اتركوه في قشّه كما تحصدونه ، ولا تفصلوا الحب عن القشّ والتّبن لئلا يفسد الحبّ فإن الفساد أسرع إلى الحبّ المعزول عن قشّه ، وبخلاف ذلك إذا بقي فيه. فدعوا حصادكم كما جمعتموه من الحقول واحفظوه على هذا الشّكل في المستودعات (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي ما يلزمكم للأكل في كل سنة فدوسوه واستخرجوا حبّة من قشه .. هذا تعبير للبقرات السّبع السّمان والسنبلات الخضر ، لأن السنة فسّرها بالبقرة ، والخصب فسّره بالسنبلة الخضراء.

٤٨ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ... أي أنه يجيئكم بعد السنوات السبع المخصبة ، سبع سنوات شداد : مجدبة لا زرع فيها ولا ضرع ، وهي تفسير للبقرات العجاف والسنبلات اليابسات. وهذه السنوات القواحط (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي تأكلون فيهن ما ادّخرتم لهن وخبأتموه من المواسم الماضية. وقد أضاف الأكل للسنين لأنه يقع فيها ، قال الشاعر :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم ، والرّدى لك لازم

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي تحفظونه للبذر والزراعة. وقد قال زيد بن أسلم : كان يوسف يصنع كل يوم طعام اثنين ، فيقرّ به إلى الرجل فيأكل نصفه ، حتى كان ذات يوم قرّب فيه الطعام إلى الرجل فأكله كلّه فقال يوسف : هذا أول يوم من السّبع الشّداد.

٤٩ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) ... أي بعد ذلك الجدب الذي يستمرّ سبع سنين ، يجيء عام بركة وخصب يغاث : أي يمطر الناس. لأن الغيث هو المطر إذ ينقذ الناس من القحط والجوع ، وإنقاذهم بالمطر هو من الغوث الذي ينعم به سبحانه به على عباده. ففي ذلك العام يأتي الناس غوث ربّهم سبحانه (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يستخرجون الخير مما

يعصر كالزيتون والعنب والتمر ، فيحصلون على الزيت والدّبس والخلّ والخمر وغيره كالسمسم الذي يؤخذ زيته وكالذّرة وبزر الكتان وسواه. وقد روي عن الإمامين عليّ والصادق عليهما‌السلام قراءتهما بالبناء للمجهول : يعصرون : أي يمطرون بعد المجاعة. والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً). وبناء على بناء للمجهول يصير هذا الذيل قرينة على أن قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) ، من الغوث لا من الغيث كما لا يخفى على المتأمل. لكن إذا نوقش سند الرواية فالحق أن يقال بكون يغاث من الغيث ، أي يمطر الناس فيترتّب على المطر نبت الزرع والأشجار وحصول الثمر ، ومن ثم يعصر الناس ما شاؤوا من شراب وزيوت. فالقراءة منحصرة على البناء للمعلوم ، والآية الكريمة تكنّي عن كثرة النّعم. وهذه الآية لا علاقة لها بتعبير الرؤيا ، ولكنها ممّا أطلع الله سبحانه يوسف عليه من علم الغيب لتكون دليلا على نبوّته حين حصولها بعد أن ينقضي الوقت الذي حدّد به تفسير الحلم ، ولتكون بشارة بعدم هلاك الناس في سنيّ القحط كما هو المترقّب عادة. لذا رجع الساقي إلى الملك وذكر له ما قاله يوسف في تأويل الرؤيا بحضور الحاشية وأكابر القوم وسائر المعبرّين والكهنة ، فاطمأنّ قلب الملك وارتاحت نفسه وذهبت دهشته وزال خوفه من زوال ملكه ، فأرجع الساقي حالا إلى السّجن وأمر بإخراج يوسف وإطلاق سراحه وإحضاره إليه ليستمع إلى التفسير والبيان من فمه.

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ

امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

٥٠ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) ... أي جيئوني به حتى أسمع منه. وهنا يوجد حذف يدل عليه ما ذكر من الكلام في الآية الشريفة ، وهو أنهم أرسلوا بطلبه ووصل رسول الملك إليه وأبلغه أمره بالإفراج عنه وإحضاره اليه ف ـ (قالَ) يوسف للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي إلى سيّدك (فَسْئَلْهُ) واستفهم منه (ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما حال تلك النساء (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) وجرحنها بالسكاكين حين خرج عليهن يوسف بأمر من امرأة العزيز. فقد كلّفه أن يلتمس الملك بتفحّص أحوال نساء المقرّبين من قصره ويستجلي قصة تقطيع أيديهن ليعلم براءتي وأن حبسي كان ظلما وعدوانا. ولم يفرد امرأة العزيز بالذكر مع أنها كانت سبب الأمر بحبسه مراعاة للأدب ولكونها زوجة الملك أو زوجة خلفه من جهة ، ولكون سائر أولئك النسوة طمعن فيه وراودنه عن نفسه من جهة ثانية ، ولتجيء شهادة جميعهن أحسن وأقوى عند الملك وقد شاء سلام الله عليه تقديم سؤال النسوة لفحص حالهن وسماع شهادتهن وتبرئته من التهمة قبل خروجه من السجن. وقد قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز حالة تجعله يخطر في باله كلما رآه يقول : هذا الذي راود امرأتي وكان عاشقها فينظر إليه بعين الشك والريبة ويضمر له التهمة. فأحبّ يوسف أن يراه بعد أن يزول من قلبه ما كان فيه وبعد صفاء نفسه. لهذا كلّف رسول الملك بسؤال النسوة وقال : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي أن الله مطّلع على حيل أولئك النسوة ومحاولاتهن ...

٥١ ـ (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) ... هذا يعني أن الرسول أبلغ الملك قول يوسف ، فجمع الملك النساء وسألهنّ : ما خطبكنّ : أي شأنكنّ وحالكنّ إذ : يعني حين راودتنّ يوسف عن نفسه ورغبتنّ أنتنّ فيه وكيف حدث هذا الأمر؟ (قُلْنَ) للملك : (حاشَ لِلَّهِ) أي حاشا عظمة الله تعالى وتنزيها له عن أن يعجز عن خلق من هو مثل يوسف خلقا وخلقا وعفّة. والكلمة تعني : معاذ الله ممّا نسب إليه و (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي ما عرفنا له ذنبا ولا خيانة. وعند ما أدّت النساء هذه الشهادة ببراءته وتنزيهه أحسّت زليخا بإثم الكتمان الذي يبقي فكرة التهمة ، ف ـ (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) زليخا نفسها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر وثبت وانجلت الحقيقة (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وأعترف بذلك (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله السابق للعزيز هي راودتني عن نفسي .. فأرسل الملك إلى يوسف من يخبره أن النسوة اعترفن بذنبهنّ وبرّأنك واعترفن بأنك صادق مصدّق ، فاحضر إلى القصر حتى يتمّ عقابهن بحضرتك. فقال يوسف للرسول : ما كان غرضي من سؤال الملك أن يعاقبهنّ ، بل :

٥٢ ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ... أي ذلك الذي فعلته كان ليعرف أنني أحفظ ، غيبته ، وأني أمين في الغيب والحضور (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يهديهم بكيدهم ولا يجعله نافذا ولا يسدّدهم فيه. وفي هذا القول تعريض بامرأة العزيز وتأكيد لأمانته ، وأنه يعتقد بالله الذي لا يحب الخيانة ولا الفحشاء ولا الخائنين ، وهو عاصمه وحافظه في جميع أحواله إذ لو لا رحمته على العباد لكانوا مغلوبين لأهواء نفوسهم الأمّارة بالسوء. ثم التفت إلى أنه يظهر نعم الله عليه ولا يأخذه العجب بما هو فيه فيستدرك قائلا :

٥٣ ـ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ... أي لا أنزّهها ولا أزكّيها على سبيل العجب بالنفس (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الميل إلى الشهوات بطبعها (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) يستثني النفوس التي تنالها رحمة الله تعالى وعنايته

فلا تأمر بالسوء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن الذنوب بعد التوبة ويرحم العباد.

وقيل إن الآيتين السابقتين (٥٢ و ٥٣) من كلام زليخا ، وأنهما من تمام كلامها ، فبعد أن برّأت يوسف ، قالت لن أخونه بشهادة زور في غيبته ، ولا أبرّئ نفسي ، وخصوصا بعد قولها : الآن حصحص الحق. وهذا الرأي قد أخذ به القمي وعقّب أنها تقول : لا أكذب عليه في غيابه كما كذبت عليه في حضوره. والله أعلم بما أراد.

* * *

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

٥٤ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) ... أي أحضروه إليّ أجعله خالصا لنفسي أستقلّ به دون الآخرين. ويستفاد من قوله هذا أنه اعتبر يوسف بريئا حتى من النظر بشهوة ، وأن امرأته رمته بهذا البهتان وبرّأته منه أخيرا كما برّأته سائر النسوة اللّواتي راودنه عن نفسه صلوات الله عليه فحصل له الاطمئنان التام إليه وأعجب بهذا الفهم الحاذق وهذا الكلام الذي لا يصدر عن رجل عادي لا يزال في ريعان شبابه ، فاشتاق إلى رؤيته ومحادثته فأرسل بطلبه على الفور فحضر بعد أن علم مقصود الملك الحقيقي (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي كلّم يوسف الملك أو العكس (قالَ)

له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي نؤكّد لك أنك منذ اليوم صرت عندنا ذا مكانة وشأن وقد مكّنتك في حكمي وجعلت سلطانك فيه كسلطاني ، وأنت عندي (أَمِينٌ) مؤتمن على كل شيء ، ذلك أنه رأى فيه الشاب الرشيد الذي يتمتع بامانة نادرة ، وبعقل رصين وتفكير حصيف ، ثم عرض عليه ما يريد من المناصب في مملكته ليكفّر عمّا سلف وليكافئ مواهبه ويستفيد ممّا منحه الله إياه من ملكات قادرة. عند ذلك :

٥٥ ـ (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) ... أي قال يوسف للملك : ولّني خزائن أرض مصر أي ما تنتجه وما يستهلكه الناس وما يباع في الحوانيت ويشترى ويخزن في المستودعات ، وعلى الداخل والخارج ، أو بعبارة أخرى : ولّني وزارة المال والاقتصاد ف ـ (إِنِّي حَفِيظٌ) شديد الحفظ والمحافظة عليها ، حريص على أن لا تقع فيها خيانة (عَلِيمٌ) بكيفية التصرّف فيها ، وبوجوه المصالح كلّها ومصالح الملك ـ وقيل عليم بكل لسان ولغة على ما في الرواية عن الإمام الرضا عليه آلاف التحية والسلام. ـ وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : رحم الله أخي يوسف ، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لولّاه من ساعته ، ولكنّه أخّر ذلك سنة.

وقد قال بعض المتبحرّين : استدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه أنه متمكّن من العدل كحال يوسف مع ملك مصر. ثم قال : والذي يظهر لي أن نبيّ الله أجلّ قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم ، وإنما طلب إيصال الحق إلى مستحقه لأنه من وظائفه وتكاليفه.

وعن الإمام الرضا عليه‌السلام : فلمّا مضت السنون المخصبة وأقبلت السنون المجدبة ، أقبل يوسف عليه‌السلام على بيع الطعام ـ أي الحبوب ـ فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثانية بالحلى والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جوهر إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الثالثة بالدوابّ والمواشي حتى لم يبق بمصر

وما حولها دابة ولا ماشية إلّا صارت في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا أمة إلّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلّا صار في ملكية يوسف ، وفي السنة السادسة باعهم بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة حتى صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ حتى صار عبد يوسف. فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس : ما رأينا وسمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا. ثم قال يوسف للملك : أيّها الملك ، في ما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها ، أشر علينا برأيك. فإنّي لم أصلحهم لأفسد ، ولم أنجهم لأكون وبالا عليهم ، ولكنّ الله نجّاهم على يدي. قال له الملك : الرأي رأيك. قال يوسف : إني أشهد الله وأشهدك أيّها الملك قد أعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلّا بسيرتي ولا تحكم إلّا بحكمي. قال الملك : إنّ ذلك لشرفي وفخري ألّا أسير إلّا بسيرتك ولا أحكم إلّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له. ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله. فأقم على ما ولّيتك فإنك لدينا مكين أمين.

٥٦ ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) ... أي وبهذا الشكل الجليل الجميل ثبّتنا مكانة يوسف وأرسينا منزلته في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي يتّخذ منها منزلا يقيم فيه أينما يريد ، ويتصرّف على ما يهوى بلا مانع ولا زاجر بعد استيلائه على خزائنها وخيراتها بتمامها ، وبعد تفويض الأمر إليه من ناحية الملك. ولذا قال سبحانه وتعالى : كذلك (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نشمل من نريد برأفتنا ورفقنا وتوفيقنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأننا نحفظ لهم إحسانهم ونثيبهم عليه في الدنيا والآخرة كرما منّا وتفضّلا :

٥٧ ـ (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) .... يعني أنه تعالى مع جزيل عطائه في دار الدنيا ، يؤكّد أن الأجر في الآخرة أكبر وأكثر (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي الذين صدّقوا به وعملوا صالحا وتجنّبوا ما نهى عنه وما يغضبه.

وفي الأثر أن يوسف عليه‌السلام ، في تمام السنوات السبع المجدبة وكاملها ، وما شبع من الأطعمة. فقيل له : لماذا تجوع وفي يدك خزائن مصر؟ قال : حتى لا أنسى الجوعانين .. ولمّا حلّ القحط بأرض كنعان ـ فلسطين ـ ضاق الأمر بأولاد يعقوب فقالوا : يا أبانا إن في مصر ملك يبيع الطعام ويوفي الكيل ويكرم الفقراء وأهل الفاقة والحاجة ، فنحن نستأذنك أن نروح إليه ونأتي بطعام لأهلنا ، فأذن لهم من دون بنيامين الذي هو أخو يوسف من أبيه وأمه ، وكان أبوه يسلّي قلبه به عن فراق أخيه وقد استخلصه لنفسه دون إخوته العشرة الباقين. وهكذا بعث الإخوة العشرة من أبنائه ببضاعة يسيرة إلى مصر ، مع رفقة وجماعة خرجت إليها لتمتار القمح ، وذلك قوله عزّ من قائل :

* * *

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

٥٨ ـ (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) ... جاؤا إلى مصر وهم من سكان فلسطين وحين صار الجدب ، حضروا لأخذ الميرة أي الطعام الذي يمتاره الإنسان ويجلبه من بلد إلى بلد. ودخلوا على يوسف (ع) (فَعَرَفَهُمْ) مع طول العهد (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه. وقيل كان بين أن قذفوه في الجب وبين أن دخلوا عليه أربعين سنة فلذلك أنكروه إذ رأوه على سرير الملك بثياب الملوك ولم يخطر ببالهم أنه وصل الى مثل هذه المرتبة ، ثم لم يتأملوا صورته مليّا إذ عليه حلية الملوك وهيبة السلطان مضافا إلى حسنه الفتّان الذي يبهر النظر ، ثم إنهم لم يروا في حياتهم ملكا ولا سرير ملك ولا شاهدوا مثل تلك الأبّهة والجلال بين تلك التشكيلات الملوكية من حول يوسف الذي زاده الله بسطة في العلم ومزيدا من الحسن وأدبا وحكمة ووقار نبوّة فتبارك الله أحسن الخالقين ... أجل ، فبمجرّد دخولهم عليه بهتوا ولم ينظروا فيه حق النّظر ولا تأمّلوه مليّا إذ لم يدر في خلد أحد منهم أنه يوسف ، ولذا فإنهم لما تردّدوا على بلاطه وألفوا النظر إليه عرفوه في المرة الثالثة كما سترى قريبا ، أما هو فقد عرفهم للحال لأن اهتمامه كان منصبّا نحوهم حين دخولهم فعرفهم من زيّهم وبعض ملامحهم.

وكان بين يوسف وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوما لأن يعقوب عليه‌السلام كان يسكن أرض كنعان وكان المقل (١) موجودا في تلك البلاد فأخذ أبناؤه من ذلك المقل ليمتاروا به الطعام. وقد أخفى الله سبحانه يوسف ولم يطلع أباه على مكانه وسائر أموره لأن يوسف نفسه كان مأمورا بستر نفسه وكتمان أمره من عند ربه تعالى.

٥٩ ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ) ... أي حينما أعد لهم الميرة المطلوبة وهيأ لهم ما يحتاجون إليه من لوازم سفرهم من زاد يلزمهم في الطريق بعد حسن ضيافة وعناية قال لهم جيئوني بأخ لكم (مِنْ

__________________

(١) المقل هو الكندر الذي يتدخن به اليهود وهو نافع للسعال والبواسير وتنقية الرحم وطرد الهوام وغيرها.

أَبِيكُمْ) أي ليس من أمّكم بل من أم ثانية ، فأنا أحب أن تجيئوا به معكم إذا جئتم تمتارون وإنني سأكرمكم وأكرمه أيضا (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أعطيه كاملا زائدا ولا أنقصه (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي خير مستقبل للضيوف ومعتن براحتهم وضيافتهم ، يعني خير المضيفين.

٦٠ ـ (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) ... أي إذا لم تحضروه لي معكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) فلا أعطيكم طعاما للسنة التالية ولا تدخلوا مملكتي (وَلا تَقْرَبُونِ) ولا تقربوا دياري. وفي هذا تأكيد عليهم لإحضار أخيه ، ويمكن أن يكون نفيا عطف على الجزاء : فلا كيل ، أي فلا كيل لكم عندي ولا قرب ولا منزلة لكم لديّ.

٦١ ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) : أي أنهم أجابوا بأنهم سيحاولون ذلك مع أبيهم ويحاورونه بشأنه ، وأكّدوا له ذلك بقولهم : وإنّا لفاعلون.

٦٢ ـ (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) : ... فتياته أي : غلمانه المتصدّين للكيل وتسليم الحبوب ، والبضاعة هنا هي ثمن طعامهم وقد جاؤا به وقيل إنه كان نعالا وقيل أدما وقيل مقلا كما أشرنا إليه آنفا ، والرحال : جمع رحل وهو ما يحمله الإنسان في سفره وتر حاله. وهذا يعني أنه قال لغلمانه : ضعوا بضاعة إخوتي التي جاؤوا بها داخل أسباب سفرهم لتبقى لهم إمّا تفضلا عليهم ورحمة بهم ولئلا يأخذ الثمن منهم وهم في ضيق وعسر ، وإمّا خوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به ، وإما أنه استقبح أن يأخذ الثمن من آل يعقوب المؤمنين وخزائن مصر تحت يده يفعل بها ما يشاء وأهله في شدة يعانون القحط المهلك وهذا هو أحسن الوجوه والمختار عندي فلا بد أن ينكشف عند أبيه وإخوته أن صاحب الطعام كان من أهلهم وكان ينبغي أن لا يأخذ منهم ثمنا ويعاملهم معاملة الأجانب ، ومع ذلك كان يعتبرهم ضيوفا نزلوا عليه بعد انقطاع أربعين سنة فيما بينهم فلا يليق بالكريم أن يعامل إخوته الواردين عليه في سنة قحط

وحاجة ، معاملة الغرباء ، وحاشا نبيّ الله من ذلك. ولذلك أمر بردّ البضاعة إليهم خفية عنهم وبحيث لا يرونها إلى بعد منقلبهم إلى أهلهم وبعد فتح الأحمال التي جاؤا بها من مصر ، وقد تعمّد ذلك معهم كيلا يخجلوا أو يتأثروا من ردها علنا أمام الملك وأعوانه من زعماء المملكة الذين كانوا في محضره. وهذا عمل بلغ غاية الحسن ووقع في محلّه ومن أهله بلا شك ، وهو بالتالي يصير سببا لإرضاء أبيه ولإدخال السرور عليه ولقبوله بإرسال أخيه الأصغر ـ بنيامين ـ مع إخوته في الرحلة الثانية ، إذ من المتوقع أن لا يسخو يعقوب عليه‌السلام بإرساله مع هؤلاء الإخوة بالنظر لسوء ما سبق عنده منهم في أبنه يوسف عليه‌السلام.

والحاصل أنه قال للعمّال : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي عسى أن يعرفوها حين يعودون إلى أهلهم ووطنهم. والأصوب عندي أن «لعلّهم» هنا بمعنى : كي ، أو للتحقيق ، فإنهم سيعرفونها. وفي قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ما يقوّي معنى : كي ، هنا كما هو الظاهر بعد التأمل. وفي تعليق المعرفة بحين انقلابهم ورجوعهم إلى أهلهم رمز إلى ما قلناه من أنه عليه‌السلام قيّد الكيّالين بردّ البضاعة بشكل خفيّ وبحيث لا يعلمون ولا يقفون موقف خجل ولا يرفضون ذلك أمام الملك وأعوانه لأنهم من أبناء النبيّين المحترمين المعروفين بالعزّة والأنفة في هذه الأمور ، مضافا إلى أن الردّ العلنيّ يكشف عن فقرهم أمام رجالات الدّولة ويوسف (ع) يعلم بأنه سيظهر أمرهم وسينكشف أنهم إخوته وهو لا يرضى بمثل هذا العار وأن إخوته جاؤوا من عند ذي فاقة وهو نبيّ الله يعقوب ـ أبوه ـ عليهما‌السلام. وهذا وغيره مما تراه من تصرفات يوسف لم تكن إلّا من أعمال الأنبياء وأفعالهم التي لا تكون إلّا بوحي إلهيّ لا بشهوة نفس. فمعنى : لعلّهم يرجعون أي ليكون ردّ البضاعة سببا لرجوعهم ومعهم أخوهم فإن في هذا أيضا سرّا آخر إذ حصلوا على الميرة بلا ثمن مما يحدوهم بإحضار أخيهم ليربحوا زيادة في الميرة كما سترى بعد قليل من الآيات الكريمة.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

٦٣ ـ (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا) ... أي حين عادوا إلى وطنهم واجتمعوا بأبيهم قالوا له : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أخبروه أن الامتيار الآتي ممنوع عليهم بعد هذه المرة ، وأبلغوه قول يوسف أن لا كيل لهم إلّا إذا أحضروا أخاهم الصغير معهم وقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) لنفي بالوعد ، وحينئذ (نَكْتَلْ) أي نحصل على كيل ما نريده من الطعام ، والفعل مجزوم بجواب الطلب (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) نحرس أخانا من المكاره ونحافظ عليه تمام المحافظة.

٦٤ ـ (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ؟) ... الاستفهام للإنكار ، أي لا آمنكم عليه ولا أعتمد على ضمانكم ولا أثق بقولكم. وهل أثق بكم وأستأمنكم على بنيامين (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) حين ضمنتم سلامته ووددتم راحته ثم لم تفوا بعهدكم وأضعتموه وفعلتم به ما فعلتم.

وحاصل جوابه : أنكم أهل مكر وغدر ولا يحصل عندي وثوق بضمانكم لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين. وعلى افتراض أنني رضيت وأرسلته معكم فإنما أتوكل في أمره على الله سبحانه وحده لا عليكم (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وإليه أفوّض أمري فإنه يرحمني ويرأف بضعفي وشيبتي وكبر سنّي فيحفظه ويردّه سالما ولا يجمع عليّ مصيبتين ... وفي الخبر أن الله عزوجل أوحى إليه : فبعزّتي لأردّنّهما إليك بعد ما توكلت عليّ. ويستأنس من هذا الخبر أن يعقوب (ع) حين اعتمد في أمر يوسف على قول إخوته كأنه لم يفوّض أمر ردّه إليه سبحانه وتعالى فابتلى بما ابتلى به فيه. فنعم التأديب الذي يعقبه التكميل فإنه (ع) حين التفكير بأمر بنيامين كان متوجها بكلّيته إلى الله جلّ وعلا.

وبعد ذلك الحوار الخاطف الذي جرى بينه وبين أولاده حين وصولهم من السفر ، وحصول اليأس ـ تقريبا ـ من إرسال أخيهم معهم ، ذهبوا إلى إفراغ متاعهم وطعامهم وتخلية الجواليق من الطعام ليضعوا كل شيء في مكانه :

٦٥ ـ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) ... أي حين فتحوا أكياسهم وجواليقهم التي حملوها من مصر ، رأوا أن بضاعتهم التي حملوها معهم إلى مصر ثمنا للحبوب التي اشتروها قد ردّت : أعيدت إليهم ، ففوجئوا بذلك وسرّوا سرورا عظيما و (قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد؟ وهل نريد أحسن من ذلك؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فهل نطلب أكثر من هذا الإحسان من الملك الذي أوفى لنا الكيل وردّ الثمن وأحسن مثوانا وأكرمنا غاية الإكرام ، فهل من مزيد على ذلك؟ إنك إذا أذنت لنا في الرجوع مع أخينا نربح (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب الطعام لعيالنا وأولادنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) نحرسه حتى نردّه إليك (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي نربح زيادة حمل جمل آخر هو جمل أخينا ، و (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي سهل إعطاؤه على الملك ، وهو يمنحنا اليسر والسّعة في أمورنا في هذا الضّيق الذي يعانيه الناس. وهكذا بدوا في مقام إقامة البراهين

لوالدهم على أن أخذ أخيهم مفيد لهم في كل حال ، فهم يحاولون إرضاءه بتعداد المحسّنات : كإيفاء الكيل ، وردّ الثّمن ، وحسن المثوى ، وزيادة كيل بعير لأخيهم. فلا يجوز ـ يا أبانا الكريم ـ أن نقابل إحسان هذا الملك العظيم بردّ طلبه الذي لا نجد له عذرا نعتذر به ..

فلما اختتموا كلامهم واستمع أبوهم إلى مقالتهم ، تدبّرها ورأى أنه لا مندوحة له عن إرسال أخيهم معهم رغم أنه عزيز عليه كيوسف ، باعتبار أن له عائلة كثيرة وأسرة جليلة وليس عنده ما يعولهم ويموّنهم أثناء هذا القحط الشديد ، وباعتبار أن لطف الله تعالى جعل قلب ملك مصر يهوي إليه وإلى أولاده فيوفي لهم الكيل ويرجع الثمن ويحسن ضيافتهم ، فلا بد من أن يقابل هذا الإحسان بأحسن منه ، وحيث أنه لا يتمكن الآن من تقديم الأحسن فلا أقلّ من إجابة سؤله وقضاء مأموله وتنفيذ طلبه الذي يتلخّص بإرسال ولده العزيز بنيامين ليمتري مع إخوته ، فلذا أرضى نفسه بالقبول بإرساله مشروطا بما يلي :

٦٦ ـ (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً) ... أي أنني لما رأيت منكم من الغدر بيوسف ، فأنا لن أرسل أخاه معكم إلّا بعد أن تعطوني موثقا : عهدا وثيقا بإشهاد الله سبحانه وتعالى وبالحلف عليه حتى اعتبره موثقا مشهودا (مِنَ اللهِ) عزوجل (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لترجعنّه سالما ولا تغدرون به كغدركم بأخيه (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلّا في حال أن يحدق بكم أعداء من جميع جوانبكم ، ويتغلّبون عليكم بما لا تطيقون دفعه كالموت ونحوه مما لا يقدر الإنسان على مقاومته فحينئذ يسقط التكليف (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) يعني أبرموا له عهدهم وحلفهم. والموثق مصدر على وزن مفعل وهو ما يوثق به ويطمأنّ إليه من العهد والحلف والضمان (قالَ) يعقوب عليه‌السلام : (اللهِ) تعالى شاهد على ذلك ، وهو (عَلى ما نَقُولُ) فيما بيننا (وَكِيلٌ) أي مفوّض ومعتمد وكاف أفوّض إليه أمري لا إلى غيره. فإن أنتم وفيتم بعهدكم كافأكم على وفائكم ، وإن خنتم وغدرتم عاقبكم وجازاكم بما تستحقون .. قال هذا ، وأرسل بنيامين معهم. ثم لمّا تجهّزوا

للمسير تحرّكت عنده الرحمة والشفقة ، وحنّ عرق الأبوّة العطوفة ، فخاف عليهم من العين لأنهم أحد عشر رجلا ، شباب وكهول ذوو جمال وجاه وهيبة ورشد ، يبدو عليهم أثر النجابة ساطع البرهان ، ممّا خوّفه من الحسد حين يراهم الناس وحواشي الملك قادمين بهذا الحسن وتلك الكثرة والهيبة فلجأ الى توصيتهم بما يلي :

* * *

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

٦٧ ـ (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) ... أي قال يعقوب (ع) لبنيه : إذا وصلتم إلى مصر وأردتم الدخول إليها فلا تدخلوا جميعكم من باب واحد من أبواب مصر المشرعة لدخول الوافدين عليها ، إذ قيل إنه كان لمصر أربعة أبواب كبيرة للواردين عليها والخارجين منها. وقد اشتهر أمر أبناء يعقوب (ع) هناك أنهم من ذوي القربة والتكرمة من الملك وخاصّته وقد كان لهم ما لم يكن لغيرهم فخاف عليهم الإصابة بالعين كما قلنا وأوصاهم بالدخول من أكثر من بابين قائلا (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) منبّها إياهم أن تحذيره لهم من باب الحيطة عليهم ولكن التحذير لا

يغني عن التقدير من الله العزيز القدير والحذر لا يمنع القدر كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فهو القاضي المقدّر الفعّال لما يشاء والحاكم بما يريد ، والأمور تجري بحسب ما شاء وقدّر لا على ما دبّر الإنسان بعقله القاصر ف ـ (عَلَيْهِ) وحده (تَوَكَّلْتُ) أي فوّضت أمري فيكم (وَعَلَيْهِ) سبحانه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) من المؤمنين به عزّ وعلا.

٦٨ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) ... أي حين دخولهم إلى مصر بحسب ما رأى لهم يعقوب عليه‌السلام وطبق ما وصّاهم به من قضاء الله تعالى وقدره (ما كانَ) أي يعقوب (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يكن ليدفع عنهم من شيء قدّره الله تعالى لهم بوصيته لأنه سبق وقال لهم : إن الحكم إلّا لله ، بل لم يكن ذلك منه (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) يعني أن في نفسه شيئا أخفاه عنهم وقد كان يقصد من وراء ذلك الإشفاق عليهم والرحمة بهم لما أصابه من قلق واضطراب حين مغادرتهم البلد فبإظهارها قضى حاجة له في نفسه وسكن هيجان عاطفته وهدأ قلقه فاستراح بعد إيصائهم بالدخول من أبواب متفرّقة. والاستثناء ـ بإلّا ـ هنا منقطع كما لا يخفى و (إِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) معرفة تامة ويقين (لِما عَلَّمْناهُ) وفهّمناه بتعليمنا إياه بطريق الوحي ونصب الحجج والبراهين ، ولذا قال بعد التحذير : وما أغني عنكم من الله من شيء بتوصيتي وتحذيري إن أراد الله تعالى خلاف ذلك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون مثل هذه الأسرار والحكم التي نعلّمها رسلنا.

٦٩ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ... أي حين استأذنوا على يوسف ودخلوا عليه ، أدخل أخاه بنيامين إلى قربه ، وقرّبه في مجلسه ثم (قالَ) يوسف لأخيه : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي يذكره أبوك كثيرا وتتحدّثون عنه مليّا (فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن ولا تخف بؤس شيء ولا

تهتمّ (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما كان يفعله إخوتك سالفا معنا.

وفي العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن يوسف كان قد هيّأ لهم طعاما ، فلمّا دخلوا عليه قال : ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة. قال : فجلسوا وبقي بنيامين قائما ، فقال له يوسف : ما لك لا تجلس؟ قال له : إنك قلت : ليجلس كلّ بني أمّ على مائدة ، وليس لي فيهم ابن أمّ فقال : أما كان لك ابن أمّ؟ قال بنيامين : بلى. قال يوسف : فما فعل؟ قال : زعم هؤلاء أن الذئب قد أكله. قال : فما بلغ من حزنك عليه؟ قال : ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتققت له اسما من اسمه. فقال له يوسف : أراك قد عانقت النساء وشممت الولد من بعده! قال بنيامين : إن لي أبا صالحا وإنّه قال : تزوّج لعلّ الله أن يخرج منك ذرّية تثقل الأرض بالتسبيح. فقال له : تعال فاجلس معي على مائدتي. فقال إخوة يوسف : فضّل الله أخا يوسف حتى أن الملك قد أجلسه على مائدته! وحينئذ قال له : إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.

وفي القمّي : ... فخرجوا ، وخرج معهم بنيامين ، وكان لا يؤاكلهم ، ولا يجالسهم ، ولا يكلّمهم. فلما وافوا مصر دخلوا على يوسف وسلّموا عليه فنظر يوسف إلى أخيه فعرفه وقد جلس بعيدا عنهم. فقال يوسف أنت أخوهم؟ قال : نعم. قال : فلم لا تجلس معهم؟ قال : لأنهم أخرجوا أخي من أمّي وأبي ثم رجعوا ولم يردّوه وزعموا أن الذئب أكله ، فآليت على نفسي أن لا أجتمع معهم على أمر ما دمت حيّا. قال : فهل تزوّجت؟ قال : بلى. قال : كم ولد لك؟ قال : ثلاثة بنين. قال : فما سمّيتهم؟ قال سمّيت واحدا منهم الذئب ، وواحدا القميص ، وواحدا الدم. قال وكيف اخترت هذه الأسماء؟ قال : لئلّا أنسى أخي ، كلّما دعوت واحدا من ولدي ذكرت أخي. قال لهم يوسف : أخرجوا وحبس بنيامين. فلمّا خرجوا من عنده قال يوسف : إني أنا أخوك إلخ ...

ويلاحظ أن يوسف عليه‌السلام قد أكّد كلامه بأنا بعد : إنّي حتى يقبل

منه بنيامين قوله ، فإن العهد بينه وبين يوسف بعيد تمام البعد. هذا أولا ، وثانيا : أيّة مناسبة بين يوسف المفقود من زمن طويل ، والمظنون قتله ، وبين عرش الملك والسلطنة الكبيرة التي لم تر عين ولا سمعت أذن ولا خطر على بال أحد في ذلك العصر؟ ولذا ، فأيّ فرح ذاك الذي حصل لبنيامين ، وأي سرور؟ الله وحده يعلم.

هذا وقد قال له : أنا أحب أن تبقى معي وتكون عندي. فقال : إن إخوتي لا يدعوني فإن أبي قد أخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن يردّوني إليه. قال : أنا أدبّر الأمر ، فلا تنكر شيئا تراه ، ولا تخبر إخوتك. فقال : لا.

* * *

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥))

٧٠ ـ (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) ... أي لمّا هيّأ لهم ميرتهم ومتاعهم ، يعني كال لكل واحد حمل بعير ـ والجهاز هو حمل التاجر ـ (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي وضع الماعون ـ الوعاء ـ الذي يكال به في حمل بعير أخيه بنيامين. وكان المكيال من ذهب مرصعا بالجواهر الثمينة ، وقيل إنه قبل استعماله للكيل كان يشرب به ولذا أطلق عليه اسم : السّقاية بهذا الاعتبار. وبعد أن تمّ ذلك حمّلوا جمالهم وانطلقوا في سفرهم وعودتهم

وساروا قليلا (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد من خدم الملك الذي لم يعلم بواقع الأمر ، وقال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي يا أصحاب الإبل : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وهذا التأكيد لكونهم سارقين بإنّ وباللّام علّله الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : ما سرقوا ، وما كذب يوسف. فإنما عنى سرقة يوسف من أبيه (ع) .. وقد كان هذا العمل من يوسف بأمر من الله تعالى فإنه شاء أن يفرّج عن نبيّه يعقوب وأن تنتهي محنته بعد أن وصل الأمر إلى غايته وبلغ أمده ، وقد كان من تفضّله سبحانه على العباد وأن يمدّهم بالفرج بعد الشّدة وأن ينعم عليهم باليسر بعد العسر.

٧١ ـ (قالُوا ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ، ما ذا تَفْقِدُونَ؟) عند سماع النداء ، وقف إخوة يوسف وقالوا للمنادي ولمن تبعه عند سماع ندائه : ماذا افتقدتم ، وأي شيء ضاع منكم حتى اتّهمتمونا بالسّرقة؟ وجملة : وقد أقبلوا عليهم ، جملة معترضة ، تبيّن شدة اهتمام إخوة يوسف وخوفهم من هذه التهمة بالسرقة بعد ما رأوا من إكرام يوسف (ع) وحاشيته.

٧٢ ـ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) ... أي أجاب ذووا النداء : قد افتقدنا صواع الملك : يعني صاعه الذي نكتال به والذي عبّر عنه سابقا بالسقاية. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : صواع الملك الطاس الذي يشرب منه.

فإذا قيل : لم قالوا نفقد صواع الملك في هذه الآية ولم يقولوا : سرقتم صواع الملك ، مع أنه في الآية السابقة قال المنادي : إنكم لسارقون ، فنسبهم إلى السرقة؟ فالجواب أنه في الآية الأولى نسبهم للسرقة وعنى سرقة يوسف من أبيه. أما هنا فإنهم لم يسرقوا الصواع فعلا ، ولكنه جعل في رحل أحدهم بأمر الملك ومن حيث لا يعلم المؤذّن ولا من حوله ، فهو بعرفهم مفقود ولا يعلم أنهم هم الذين أخذوه .. وقيل أيضا : إن جملة : إنكم لسارقون ، استفهام محذوف ما يستفهم به من الحروف ، يعني : هل إنكم سارقون لما فقدناه؟ وهو وجيه أيضا.

والحاصل أنه حصل النداء ، وقال المنادي من باب الإغراء والتطميع (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) مكافأة له على إرجاعه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل للوفاء وإعطاء المكافأة.

٧٣ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) ... أي قال إخوة يوسف للمؤذّن ومن معه من عمّال الملك ـ مستشهدين بهم على براءتهم ممّا علموه عنهم في سفرتهم الأولى وفي سفرتهم هذه. وممّا لمسوه من أمانتهم وحسن سيرتهم معهم ـ قالوا لهم : نحلف لكم بالله أننا ما جئنا لنرتكب مثل هذا الجرم الشائن ولا لنرتكب فسادا في هذه البقعة من الأرض (وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ولسنا بسارقين لما افتقدتم.

٧٤ ـ (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟) أي أن جماعة الملك سألوا إخوة يوسف : ماذا تقترحون من الجزاء للسارق إذا تبيّن كذبكم. والضمير في لفظة : جزاؤه ، يعود للسارق حين يعلم كما لا يخفى.

٧٥ ـ (قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) ... أجاب إخوة يوسف أن جزاء السارق في شرعة يعقوب النبيّ عليه‌السلام هو نفس السارق بحيث يحلّ استرقاقه. ولذا فإن من تجدون الصواع في حمل بعيره (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تأخذونه عبدا رقيقا ونحن في شرعنا (كَذلِكَ نَجْزِي) نعاقب (الظَّالِمِينَ) المتعدّين على حقوق غيرهم.

أما جملة : فهو جزاؤه ، فهي جواب للشرط المقدّر ، أو هي مؤكّدة لجملة ما قبلها ..

* * *

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ

دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

٧٦ ـ (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) ... أي أن يوسف عليه‌السلام بدأ تفتيش أوعية إخوته ـ يعني متاعهم وأحمالهم ـ قبل أن يفتش عن الصواع في أمتعة أخيه بنيامين ، تضليلا لإخوته عن أن يظنّوا أن الأمر مفتعل فيما لو فتش رحل أخيه أولا ووجده فيه ـ فتّش أمتعتهم فلم يجد شيئا (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي وجد الصواع في الأكياس المحمّلة على بعيره. وقد أنّث الضمير في : استخرجها ، ليشير به الى السقاية المؤنثة لفظا ولو كان سبحانه قد سمّاها مرة سقاية ومرة صواعا .. وقيل إنه لمّا وجدها مع بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت مع بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : وضع هذا الصاع في رحلي ، الذي وضع الدراهم في رحالكم ، وما أنا بسارق (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي على هذا الشكل دبّرنا مكيدة لطيفة لعبدنا يوسف ، ونحن علّمناه إياها ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ فإن هذا العمل منه كان بإذن الله تعالى وبوحي منه لتبدأ مرحلة التفريج عن يعقوب (ع) ومثلها كان جواب إخوة يوسف حينما ألهموا أن يقولوا أن السارق يؤخذ في شرعنا ، ليتسنّى ليوسف أخذ أخيه بقولهم وحكمهم ، ولئلا يقولوا : إن الملك ظلمنا بأخذ أخينا أو بحبسه على الأقل. أما في دين الملك فكان أن يضرب السارق بالسوط ثم يغرّمه ضعف ما

سرقه لا أن يستعبده ويسترقّه (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي أنه لم يكن ليحقّ ليوسف أن يأخذ أخاه إليه ويستبقيه عنده في شرع ملك مصر والحال كما ذكرنا من قصاصه وتغريمه فقط (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا في حال أنّ الله تعالى يريد القضاء في هذه الواقعة بشكل يخوّل يوسف أخذ أخيه لمصلحة اقتضت ذلك في المقام. وعليه صدر حكم ملك مصر وجرى على غير شرعه وتمّ الظاهر الذي يبتغيه يوسف عليه‌السلام لأنه على شرع أبيه يعقوب عليه‌السلام وهو الذي أجراه في واقع الأمر.

أما لفظ الكيد فمعناه المكر والحيلة والخدعة ، وهي كلّها محال في حقه سبحانه وتعالى لأنها من الأوصاف المذمومة. ولكنها في بعض الموارد تنسب إليه وتعني حسن التدبير للمخرج من المآزق المستعصية ، وتحمل على غايات وأغراض مفيدة ولا تحمل على بداياتها. والمراد بالكيد هنا فضلا عمّا قلنا هو إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في مكروه عنده ولا سبيل له في دفعه : وذلك من أجل تحقيق مصالح تكمن وراء إيقاعه في ذلك المكروه.

وهكذا شاء الله سبحانه أن يكشف ليوسف طريقا لأخذ أخيه بفتوى بقية إخوته وعقّب جلّ وعلا على هذه النعمة بقوله الكريم : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) نرفع من نريد بالعلم والحكمة والتأييد كما رفعناه بالمرتبة والمقام والأحكام وبتأويل الرؤيا وبالنجاة من جميع المهالك والنصر في سائر المسالك (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي أن إخوة يوسف هم علماء فعلا وفضلاء ؛ إلّا أن يوسف كان أعلم منهم وأعرف ، والله وحده هو الذي ليس فوقه عليم .. وفي الآية الكريمة دلالة على أنه تعالى عالم بالذات بجميع معلوماته ، لا أنه عالم بعلم قديم زائد على ذاته المقدّسة قائم بها قيام الصفة بموصوفها ، فإنه لو كان كذا ، ليمكن أن نتصوّر فوقه عالما. والتخصيص بعلم المخلوق خلاف ظاهر الكريمة.

والحاصل أنه عند استخراج الصواع من وعاء بنيامين ، اضطربت حال إخوته لهذه الفجأة المخجلة بعد ما رأوا من الإكرام والاحترام ما لا يوصف

فأقبلوا على يوسف ليعتذروا ..

٧٧ ـ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) ... الذين قالوا ذلك هم إخوة يوسف ، يعنون بقولهم هذا يوسف (ع) وقصة السرقة التي أشرنا إليها في الآية السادسة والثلاثين ، ويقصدون أن بنيامين إذا كان قد سرق ، فقد سرق أخ له (مِنْ قَبْلُ) وهو ما ذكرناه. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي سمع مقالتهم واحتفظ بتأثيرها في نفسه ولم يظهر لهم شيئا و (قالَ) في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي أسوأ منزلة فيما فعلتم بأخيكم في سرقتكم له من أبيه ، وفي صنيعكم الشنيع به (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي أنه تعالى أعلم منكم بأن يوسف لم يسرق وكذا أخوه ، وليس الأمر كما فنّدتم.

٧٨ ـ (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) ... إنهم رقّوا في قولهم فخاطبوا الملك باستعطاف وقالوا : إن أبا بنيامين شيخ طاعن في السن ، وهو يتأذى لأخذه (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي خذ من شئت منّا عوضا عنه وأشفق على أبيه وارحمه على سنّه وجلال قدره فهو ثاكل قد فقد أخا له من قبل وهو يستأنس به عنه ، و (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إن فعلت وأخذت البديل عنه من بيننا.

٧٩ ـ (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا) ... أجاب يوسف (ع) : التجئ إلى الله سبحانه أن يعصمني من أخذ البريء مكان المذنب ، ولن نأخذ إلّا الذي وجدنا الصاع عنده ، وإن فعلنا غير ذلك (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) حتى في شرعكم وحكمكم نكون ظالمين للبريء. وقد قال (ع) : إلّا من وجدنا متاعنا عنده ، ولم يقل : إلّا من سرق ، لأن أخاه لم يكن سارقا بالفعل.

* * *

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

٨٠ ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) ... أي حينما يئسوا وأيأس بعضهم بعضا من إجابة يوسف لطلبهم وأخذ البديل عن بنيامين ، خلصوا نجيّا : يعني تسلّلوا وانفردوا جانبا يتناجون فيما بينهم ، يعني يتهامسون ويتشاورون. وهذا من تعابير القرآن الكريم التي تبلغ الغاية القصوى من الفصاحة ، لأنه ، مع غاية إيجازه ، يفيد معاني كثيرة لا تخفى على المتأمّل. فقد سمعوا قول يوسف ، وصمتوا ، وغادروا المكان ، واعتزلوا الناس ، وتناجوا فيما بينهم في مؤتمر فأوجز ذلك كله بكلمتين اثنتين ، ثم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام : يهودا. وقيل : إن القائل هو : لاوى ، وقيل روبين ، قال : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) هل نسيتم عهد الله الذي قطعتموه لأبيكم؟ (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ثم ألم تذكروا أنكم. قد تهاونتم قبل ذلك بأمر يوسف وأضعتموه هدرا؟ أفلا تذكرون ما كان منكم بشأنه؟ (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق وأغادر هذه الأرض التي نحن فيها ـ أرض مصر ـ (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) إلّا بعد أن يسمح لي أبي ويحلّني من ذلك

العهد الذي واثقناه عليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي الله سبحانه لي بالخروج بسبب من الأسباب كخلاص أخي أو غيره ، أو كالموت أو بما يكون لنا عذرا عند أبينا أو بما شاء (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) وقضاؤه خير قضاء لأنه خير حاكم ومقدّر. ثم قال كبيرهم هذا :

٨١ ـ (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا) ... أمرهم قائلا : عودوا إلى والدكم وأخبروه بما شاهدتم من وقوع الحادثة وإخراج الصاع من متاع أخيكم ، وقولوا له : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) أي أخذ الصاع خفية (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي لم نقل إلّا ما قد رأينا ، ولم نشهد إلّا بحسب ما ظهر من واقع الأمر والله أعلم بالباطن وهو الواقف على الغيب والمطّلع على السرائر ، ونحن لا ندري كيف حصل وجود الصاع في رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ما كنّا مطّلعين على ما خفي عنّا من ملابسات الأمر.

٨٢ ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) ... وقولوا لوالدنا : يا أبانا اسأل البلدة الّتي كنّا فيها في مصر وأرسل من تثق به ليسأل أهلها عن واقعة الحال وعن هذا الذي نقوله حتى تطمئنّ لشهادتنا ، أو المراد أن يسأل بعض أهل مصر من الذين صاروا إلى الناحية التي فيها أبوهم (وَ) قولوا له : ليسأل (الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي أصحاب العير : يعني القافلة التي كنّا معها من أهالي كنعان الذين هم من جيرانه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ونحن صادقون في قولنا مؤكّدا.

وفعلا أخذوا برأي كبيرهم هذا ، ومضوا في سفرهم حتى وصلوا إلى أرض كنعان ، وجاؤا أباهم وقصّوا عليه ما قاله لهم أخوهم الكبير ، فما قبل منهم يعقوب عليه‌السلام قولا لسوء سابقتهم لديه ، ولخيانتهم بيوسف مع معاهدتهم له بحفظه وبإرجاعه سالما بعد أن يرتع ويلعب معهم في البرّية. ولذا قال لهم :

* * *

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦))

٨٣ ـ (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ... أي أن يعقوب (ع) قال : ليس الأمر كما تقولون ، بل سوّلت يعني زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه وسهّلته لكم فقرّرتموه واجتمعتم عليه لتنفذّوه في ابني بنيامين كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل ، وإلّا فمن أين يدري ملك مصر أن جزاء السارق الاسترقاق؟ (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري صبر جميل أو : عليّ صبر جميل بحذف الخبر أو المبتدأ. فكأنّما ألقي على قلبه الشريف الصبر ، وألهم بأن حصول هذه المصيبة المؤلمة الموجعة على مصيبة كانت أعظم منها وأفجع ، علامة على قرب انتهاء محنته وغاية بليّته ، فإن العادة جرت أن المصائب إذا ازدادت ووصلت غايتها يعقبها الله سبحانه بالفرج ولذا قال (ع) : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي بيوسف وأخيه ويهودا الذي تخلّف في مصر حتّى يأذن له أبوه أو يحكم الله بأمره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) الأدرى والأعلم بحالي وكيف تنقضي أيامي لفراقهم ، فهي أمرّ من الصبر والحنظل ، وهو (الْحَكِيمُ) الذي لم يقدّر لي ولأولادي إلا ما فيه المصلحة والحكمة والخير.

٨٤ ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ... أي وانصرف بوجهه

عنهم ، وأدبر وأوى إلى بيت أحزانه معرضا عنهم وغير مهتمّ بما قالوه ، وقال من قلب مضطرم بنار الوجد : يا أسفى : أي واحزني على يوسف. والألف هنا قامت مقام ياء المتكلم. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل : ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف وقد أخبره جبرائيل (ع) أنه لم يمت وأنه سيرجع إليه؟ فقال : إنه نسي ذلك .. فقد بكاه بكاء كثيرا (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي ذهب سوادهما من كثرة انهمار الدموع والبكاء (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلي بالغيظ ولكنه يكظمه : لا يظهره وإن كانت تترجم عنه عبراتا التي أتلفت عينيه.

٨٥ ـ (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) ... الّذين قالوا هم أولاده أو الناس قالوا ليعقوب : تفتأ تذكر يوسف : أي لا زلت تذكره ولا تنفكّ عن التحدّث به مع طول المدة (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي حتى تمرض وتشرف على الهلاك. والحرض من حرض يعني : فسد جسمه وعقله. فلا ينبغي لك أن تبكيه حتى تؤدي بنفسك إلى الهلاك ، وفي الخصال عن الإمام الصادق عليه‌السلام : البكّاؤون خمسة ... إلى أن قال : وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره حتى قيل له : تالله تفتأ تذكر يوسف ... وتلا الآية.

٨٦ ـ (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) ... البثّ هو الهمّ الذي لا يقدر الإنسان على الصبر عليه فيبوح به ، أي يبثّه وينشره. فهو ما أبداه الإنسان من همّه ، والحزن هو ما أخفاه وصبر عليه. فيعقوب (ع) شكا بثّه وحزنه إلى الله وقال لمن لامه : (وَ) أنا (أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أن حسن ظنّه بالله تعالى هو فوق ما يدركونه لأنه متوقّع أن يأتيه الفرج قريبا ـ كما قال ـ ومن حيث لا يحتسب. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ـ كما في الكافي ـ : أن يعقوب لمّا ذهب منه بنيامين نادى بقلب كئيب : ... يا ربّ ، أما ترحمني ، أذهبت عينيّ وأذهبت ابنيّ؟ فأوحى الله تعالى إليه : لو أمتّهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما ، ولكن تذكّر الشاة التي ذبحتها

وشويتها وأكلت وفلان وفلان صائمان إلى جانبك لم تنلهما منها شيئا.

* * *

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) ... ألهم الله سبحانه يعقوب أن ابنيه حيّان على ما يستفاد من الرواية التي ذكرناها آنفا عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، بل يستفاد من نفس الآية الكريمة أنه ألهم كونهما حيّين بدليل قوله : اذهبوا فتحسّسوا .. وبدليل قوله السابق : وأعلم

من الله ما لا تعلمون ، فهو عالم قطعا بحياتهما ، ولذا أمر أبناءه بالرجوع إلى مصر ليتحسّسوا : أي يتفحّصوا عن يوسف وأخيه قائلا لهم : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته تعالى ولا تقطعوا الأمل من فرجه. وقيل إنه لمّا أخبروه بسيرة الملك قال لعله يوسف لأن شمائله شمائل الأنبياء ، وبناء على ذلك قال اطلبوه وأخاه ، واستقصوا الأمر فإنه قد ألقي في روعي أن الذي احتبس بنيامين بمكيدة إخفاء الصاع في رحله لا بد أن يكون يوسف أو ذا علاقة به لأنه افتعل هذه القصة مع أخي يوسف من أمه دون سائر إخوته.

ولسائل أن يسأل : كيف خفي خبر يوسف طيلة هذه المدة مع قرب المسافة ، وكيف لم يعلم يوسف أباه بقصته وخبره لتسكن نفسه ويزول وجده؟. والجواب ـ كما عن الجبائي ـ أن يوسف قد وضع في البئر ، ثم نجّاه الله من الهلاك فبيع من عزيز مصر الذي ألزمه داره سنين ، ثم بعث إلى السجن بضع سنين أيضا ، فحيل بينه وبين الناس بذلك وانقطعت عنه الأخبار ، وتعسّر عليه الاتصال بأبيه إلى أن تمكّن من اصطناع هذه الطريقة وتدبّر إيصال خبره بأبيه على الوجه الذي أمكنه ، فإنه كان لا يأمن على وصول رسول يبعثه لأبيه فقد لا يمكّنه إخوته من الاتصال بأبيه لأنهم كانوا أقوياء ولا يحبون أن يفتضح أمرهم ، فهم لا يروحون إلى مصر للاتصال به ولو ماتوا جوعا ، ولا يدعون والدهم يعرف ويروح إليها ففي ذلك خزيهم وظهور مكرهم وكذبهم ، فعلّم الله سبحانه يوسف اصطناع هذه الحيلة لإيصال خبره إلى أبيه بطريقة لا يشعر بها إخوته ، وبحيث يكون مالهم جميعا إليه ليظهروا الندامة والتقصير بحقه ، وليعترفوا بكونهم خاطئين بأحسن الطرق وأبعدها عن أذهانهم.

وقد قال المرتضى قدّس الله سرّه : يجوز أن يكون ذلك ممكنا ، وهو عليه قادر ، حيث كان له عليه‌السلام السلطة التامة في ذاك اليوم ، لكن الله سبحانه أوحى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة على أبيه (ع) ورفعا لدرجته ، فهو سبحانه قد يصعّب التكليف على أوليائه وقد

يسهّله عليهم ، والأمر إليه في كل حال.

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنه سئل أن يعقوب حين قال لأولاده : اذهبوا فتحسّسوا من يوسف ، أكان علم أنه حيّ وقد فارقه منذ عشرين سنة وذهب بصره من الحزن؟ قال : نعم ، علم أنه حي. قيل : وكيف علم؟ قال : إنه دعا في السّحر أن يهبط عليه ملك الموت ، فهبط عليه تربال ، وهو ملك الموت ، فقال له تربال : ما حاجتك يا يعقوب؟ قال : أخبرني عن الأرواح التي تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال : بل متفرقة روحا روحا. قال : فمّر بك روح يوسف؟ قال : لا. فعند ذلك علم أنه حيّ فقال لولده اذهبوا فتحسّسوا إلخ ... فائتمروا بأمره عليه‌السلام وسافروا إلى مصر بعد أن ألمح لهم بقوله : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فكأنه أو شك أن يزرع في نفوسهم الأمل.

٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) ... لقد طوى سبحانه جملة أشياء ـ وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه ـ فلم يذكر أن أولاد يعقوب امتثلوا أمر أبيهم ، وسافروا ، ووصلوا إلى مصر ، بل قال تبارك وتعالى : فلمّا دخلوا على يوسف قالوا له : يا أيّها العزيز ـ وهو لقب لحاكم مصر ـ أي المنيع الجانب : قد مسّنا : أي أصابنا وأصاب أهلنا الضّر أي سوء الحال والشّدة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ) سلع للبيع (مُزْجاةٍ) أي قليلة الاعتبار ، واللفظة مشتقة من الإزجاء بمعنى السّوق والدفع ومنه قوله تعالى : تزجي سحابا. ومعناها هنا : بضاعة في غاية الرّداءة لا يقبلها أحد في حال دفعها إليه بل يردّها حالا. وعن ابن عباس أن بضاعتهم كانت دراهم مغشوشة. وعن الإمام الرضا عليه‌السلام أنها كانت من المقل وكانت بلادهم بلاد المقل. فقالوا عنها إنها بضاعة ليست بذات قيمة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) بأن تعطينا حاجة عيالنا الكثيرة ، واقبلها منّا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بإطلاق سراح أخينا رحمة بأبيه وبنا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم. فرقّ يوسف لحالهم لمّا خاطبوه بهذه اللهجة المؤثّرة ولم يتمالك من أن لا يعرّفهم بنفسه إشفاقا على ضعف موقفهم ، فقال : يا إخواني :

٨٩ ـ (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟) ... يعني هل عرفتم أهمية فعلكم مع يوسف وكيدكم له (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ!) حيث كنتم جاهلين مرتبته وقيمته!. وفي كتاب النبوّة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أن يعقوب كتب إلى يوسف :

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى عزيز مصر ، ومظهر العدل ، وموفي الكيل ، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمان صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأنجاه منها :

أخبرك أيها العزيز أنّا أهل بيت لم يزل البلاء علينا سريعا من الله ليبلونا عند السرّاء والضرّاء. وإن المصائب تتابعت عليّ سنين متطاولة. أولها : كان لي ابن سمّيته يوسف وكان سروري من بين ولدي ، وقرّة عيني ، وإن إخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع ويلعب ، فبعثته معهم بكرة فجاؤا عشاء يبكون وجاؤا على قميصه بدم كذب وزعموا أن الذئب أكله ، فاشتدّ لفقده حزني وكثر عن فراقه بكائي حتى ابيضّت عيناي من الحزن. وإنه كان له أخ ، وكنت به معجبا ، وكان لي أنيسا ، وكنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري سكن بعض وجدي. وإن إخوته ذكروا لي أنك سألتهم عنه وأمرتهم أن يأتوك به فإن لم يأتوك به منعتهم الميرة ، وبعثته معهم ليمتاروا لنا قمحا ، فرجعوا إليّ وليس هو معهم وذكروا أنه سرق مكيال الملك. ونحن أهل بيت لا نسرق ، وقد حبسته عني وقد اشتدّ لفراقه حزني حتى تقوّس ظهري ، لذلك فمنّ عليّ بتخلية سبيله وإطلاقه من حبسك ، وطيّب لنا القمح ، واسمح لنا في العسر. وأوف لنا الكيل ، وعجّل سراح آل إبراهيم.

قال عليه‌السلام : فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك وقدّموا الكتاب إلى الملك. فأخذ الملك ـ أي يوسف ـ الكتاب وقبّله ووضعه على عينيه وبكى وانتحب حتى بلّت دموعه القميص الذي كان عليه ، ثم

أقبل عليهم فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ .. إلخ.

وعن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : ... واشتدّ حزن يعقوب حتى تقوّس ظهره ، وأدبرت الدنيا عنه وعن ولده حتى احتاجوا حاجة شديدة وفنيت ميرتهم. فعند ذلك قال يعقوب لولده : اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه إلخ ... فخرج منهم نفر وبعث معهم ببضاعة يسيرة وكتب معهم كتابا إلى عزيز مصر بتعطيفه على نفسه وولده ، وأوصى ولده أن يبدءوا بدفع كتابه قبل البضاعة (وذكر صفة الكتاب كما أثبتناه إلى قوله : وعجّل سراح آل إبراهيم ، ثم قال :) فلما مضى ولد يعقوب من عنده نحو مصر بكتابه ، نزل جبرائيل على يعقوب فقال له : يا يعقوب إن ربّك يقول لك : من ابتلاك بمصائبك التي كتبت بها إلى عزيز مصر؟ قال يعقوب : أنت بلوتني بها عقوبة منك وأدبا لي. قال الله : فهل كان يقدر على صرفها عنك أحد غيري؟ قال يعقوب : اللهم لا. قال : فما استحييت مني حين شكوت مصائبك إلى غيري ولم تستغث بي وتشكوا ما بك إلي؟ فقال يعقوب : أستغفرك يا إلهي وأتوب إليك ، وأشكو بثّي وحزني إليك. فقال الله تعالى : قد بلغت بك يا يعقوب وبولدك الخاطئين الغاية في أدبي. ولو كنت يا يعقوب شكوت مصائبك إليّ عند نزولها بك ، واستغفرت وتبت إليّ من ذنبك لصرفتها عنك بعد تقديري إياها عليك ، ولكن الشيطان أنساك ذكري فصرت إلى القنوط من رحمتي ، وأنا الله الجواد الكريم أحب عبادي المستغفرين التائبين الراغبين إليّ فيما عندي. يا يعقوب : أنا رادّ إليك يوسف وأخاه ، ومعيد إليك ما ذهب من مالك ولحمك ودمك ، ورادّ إليك بصرك ، ومقوّم لك ظهرك. وطب نفسا وقرّ عينا ، وإنما الذي فعلته بك كان أدبا منّي لك ، فاقبل أدبي.

والحاصل أنه لمّا بلغت الفرقة غايتها ، وأذن الله ليوسف أن يكشف عن أمره ويعرّف نفسه لإخوته ، جاء ذلك كلّه مقدمة لحصول وصال أبيه وإزالة ضرّه عليه‌السلام فقال بدوا : إخواني ـ على قول ـ فأفهمهم أنه أخوهم أولا ، ثم لما سألهم عمّا فعلوه بيوسف وأخيه الذي نسبه إليه ثانيا ، تبسّم

فأبصروا ثناياه التي كانت كاللؤلؤ المنظوم فعرفوه من تبسّمه ، بل قيل إنه وضع تاج الملك عن رأسه فعرفوه لعلامة مميّزة في رأسه .. وعندئذ :

٩٠ ـ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟) ... وهذا استفهام تقريري. وقرئ بغير استفهام على الإيجاب مع التأكيد الذي يدل على أنهم عرفوه بلا شبهة ـ إنّك لأنت يوسف ـ وبناء على استفهامهم أو تأكيدهم قال (ع) مقرّرا قولهم ومثبتا لما اعتقدوه من معرفتهم إياه : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) كما ترون (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أنعم وتفضّل وزادنا فضلا بالاجتماع مع السلامة والكرامة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله ويتجنّب سخطه (وَيَصْبِرْ) على البلايا وعن ترك المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وفي ختام هذه الآية الكريمة تنبيه لنكتة دقيقة حيث وضع الاسم الظاهر مقام الضمير ليدل أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر .. فلما عرف الإخوة جلية الأمر أقبلوا عليه وتوجهوا نحو العرش الذي يتربع عليه بتمام الذل والخجل مع شيء من الرهبة والخوف ، ثم قالوا ما حكاه الله تعالى عن موقفهم الذليل :

٩١ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) ... أي أقسموا بالله أنه آثره ، يعني فضّله عليهم واختاره منهم بحسن الخلق والخلق وحسن السيرة والسريرة والمداراة والعدل معهم رغم أنهم عاملوه بقساوة فبادلهم باللطف وكريم الضيافة وإيفاء الكيل ، فاعترفوا بذنبهم كما اعترفوا له بالتفضل عليهم قائلين : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي آثمين بما صنعنا بك وبما فعلناه معك من القبائح بجهلنا وبسوء سريرتنا. وإن ، مخفّفة عن إنّ الثقيلة. وقسمهم ـ تالله ـ ليعرف يوسف (ع) أن قولهم هذا يكشف عن صدقهم ويطابق واقع عقيدتهم ، لا أنه مكيدة ومداهنة كما سبق لهم أن فعلوا مع أبيه حين أخذوه معهم ليرتع ويلعب ثم فرّقوا بينه وبين أبيه ، فقد تمثّل لهم كلّ ما صدر منهم في تلك اللحظات وتوجّهوا نحو عرشه ليقبّلوا ركبته فقد ألقت هيبة يوسف وعظمة الملك خوفا في قلوبهم فاعترفوا بالذنب وأقرّوا بتفضيله من الله للفور وبلا تردد ولا مشاورة فيما بينهم ، بالرغم من أنهم أبناء أنبياء

وربيبو عزّ ومجد ، فإن قول يوسف (ع) : إذ أنتم جاهلون ، أوحى إليهم بهذا الاعتراف الفوريّ الذي لم يكن منه بد ، قد لقّنهم وجه الاعتذار والمسارعة للاعتراف بالذنب والمبادرة للتسليم بفضله.

ولما أحسّ يوسف (ع) منهم الخجل والخوف لم يتركهم عرضة للوساوس وقتا ما ، بل أسرع في الصفح عنهم وقال :

٩٢ ـ (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ... أي لا توبيخ ولا تعيير ولا خوف عليكم في هذا الوقت من جرّاء ما فعلتم مع أبي ومعي ومع أخي ولو كنتم تظنون ذلك فكونوا آمنين مطمنّين. وبالفعل صدر الأمر الملكيّ بإخفاء أمر إخوته ، ولم يتكلم أحد بما جرى من أمرهم في رحلتهم السابقة التي فقد فيه الصاع. وفي هذا كمال السماحة وغاية الكرم والشهامة ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، فقد هدّأ خواطرهم وقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فلم يكتف بعفوه وتنازله عن حقه (ع) بل طلب لهم المغفرة والعفو من الله سبحانه وتعالى بلا تراخ ولا تأجيل ، فيا عجبا من حلم الأنبياء وخلقهم العظيم! فعن ابن عباس أن نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم فتح مكة أخذ بحلقة باب البيت الحرام : وكان أهل مكة قد التجأوا إلى الحرم خوفا من المسلمين ثم نادى (ص) : أيها الناس : الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ما ظنّكم بي مع ما صنعتم لي من تكذيبي وتبعيدي عن أهلي ووطني وأذيّتي؟ فقالوا : ما نظنّ بك إلّا خيرا حيث إنك كريم وصاحب خلق عظيم ، نعتمد على كرمك العميم ـ أنت أخ كريم وابن أخ كريم ـ. فقال بأبي وأمي : أنا عامل معكم ما عامل به أخي يوسف إخوته ، قال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم .. اذهبوا فأنتم الطّلقاء.

والحاصل أن يوسف (ع) لمّا فرغ من أمر إخوته وأنزلهم منزل الإعزاز والإكرام ، عرّفهم أنهم إخوة هذا الذي أمدّه الله بمجد باذخ وسلطان عظيم وهم إلى جانب ذلك أولاد أنبياء مكرمين وقد صاروا في سلطانه معزّزين

محترمين ، ثم جهّزهم تجهيزا ملوكيّا باذخا ليعودوا إلى رحاب أبيهم العظيم لتبشيره وللإتيان به إلى مصر مع جميع أهله وعياله ومن يلوذ به .. وكان يعقوب يقيم بالرملة من نواحي أرض كنعان ـ فلسطين ـ فأعطاهم قميصه المتوارث من جدّه إبراهيم عليه‌السلام وكانت فيه تعاويذ ، وهو القميص الذي ألبسه الله تعالى إبراهيم بواسطة جبرائيل عليهما‌السلام يوم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما ، ثم ألبسه جبرائيل أيضا ليوسف يوم ألقاه إخوته في الجب فصار عليه الجب سلاما .. ثم قال يوسف (ع) لإخوته :

٩٣ ـ (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) ... في بعض التفاسير أنه لمّا أمر الله أن يبشّر يعقوب بسلامة ولديه ، جاء جبرائيل وقال : يا يوسف إن هذا القميص فيه رائحة الجنّة ، وما وقع على مريض أو مبتلي إلّا شفاه الله وعافاه ، فأرسله إلى أرض كنعان حتى يلقى على عيني أبيك فيشفيهما الله تعالى ببركته. فلذا قال : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه أي ضعوه على وجه أبي (يَأْتِ بَصِيراً) أي يعود حديد النظر سليم العينين (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أحضروهم جميعا. وقيل إن هذا الكلام كان منه معجزة لأنه لم يكن يعرف هذه الخصوصية بالقميص إلّا بواسطة الوحي السماوي.

وقال يوسف (ع) إنما يذهب بقميصي هذا إلى أبي من ذهب بقميصي الملطّخ بالدم يوم فارقت أبي. فقال يهودا : أنا ذهبت به يومئذ وأخبرته بقصة الذئب. قال يوسف (ع) : اذهب بهذا وأخبره أني حيّ فأفرحه كما أحزنته أول مرة. فما أسمى هذا الخلق حين ندرك أن يوسف قصد بذلك أن يهيء إرضاء والده عن يهودا الذي أحرق قلبه بادئ الأمر وأثار سخطه وألقى في قلبه ما أقرحه ، وقد كانت المظنّة أن لا يرضى عنه أبوه مطلقا. ولكن بهذه الوسيلة يمكن أن يرق قلب يعقوب فيعفو عن ولده مقابل البشارة التي تمحو غيظ القلب وألم النفس .. وهكذا أخذ يهودا القميص وخرج من بين إخوته وسار وحده حافيا حاسرا يغذ السير حتى أتى والده عليه‌السلام وكان يفصله عنه ثمانون فرسخا ، وقد بلغ من سرعته في السير

أنه لم يستوف الخبز الذي حمله معه كزاد للطريق ، ثم ورد عليه وبشّره بحياة يوسف وذكر له ما جرى بينه وبينهم من حديث.

* * *

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

٩٤ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ) ... فصلت أي انفصلت عن مصر وفارقتها من عند يوسف عليه‌السلام ، والعير هي قافلة الإبل التي كانت تحملهم مع ميرتهم متجهة نحو أرض كنعان. وحينئذ (قالَ أَبُوهُمْ) أي يعقوب (ع) قال للحاضرين في مجلسه من أهل بلده ولمن هم في خدمته : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : وجد يعقوب ريح قميص يوسف وهو بفلسطين من مسيرة عشر ليال. وهي مسافة ثمانين فرسخا كما أسلفنا. وذكر أن ريح الصّبا استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها المولى عزوجل فأتته بها. وقيل إن كان محزون يستروح بريح الصّبا ولذا قال الشاعر :

فإن الصّبا ريح إذا ما تنسّمت

على نفس محزون تجلّت همومها

فقد تنشّق يعقوب عليه‌السلام ريح ابنه وذكر ذلك لمن كان بحضرته قائلا لهم : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي لو لا تضعيف رأيي وتسفيه قولي

وتكذيب زعمي بنظركم ، والفند الكذب ، وهنا معناه : ذلك ثابت لو لا أنكم تنسبون ذلك إلى ضعف العقل. ويظهر من كلامه أن هذا الشيخ الجليل السامي المقام كان كلما ذكر يوسف نسبوه إلى السفه ورموه بالجنون بحيث صار يأنف من ذكره بحضورهم ، ولذا لم يتورع الذين سمعوا قوله ذاك أن قالوا له على الفور :

٩٥ ـ (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ :) أي أنهم أجابوه : إنك كما كنت قبل فراق يوسف مفرطا في حبه وإيثاره ، مبتعدا عن الصواب في أمره ، فإنك اليوم كذلك تتوقّع لقاءه بسبب إكثارك من ذكره. فكيف تلقاه بعد هذه المدة الطويلة ، وكيف تجد ريحه من مسافات متطاولة لا تعرف لها حدودا؟ ... قالوا ذلك معتقدين موت يوسف منذ سنين ، ولم يريدوا بلفظة : ضلالك ، معنى الضلال عن الدين والحق ، بل أرادوا أن أمانيه وآماله بلقاء يوسف بعد موته كانت خلاف الصواب وخلاف شأن الأنبياء.

٩٦ ـ (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) ... أي لما وصل إلى عنده يهودا حامل البشارة كما عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، لأن يوسف كلّفه بهذه المهمة وشرّفه بحمل هذا الخبر السارّ لمصلحة اقتضت اختياره دون غيره من إخوته كما ذكرنا سابقا ـ فلما وصل بالقميص (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أي طرح القميص على وجه أبيه يعقوب عليه‌السلام وعلى عينيه الشريفتين (فَارْتَدَّ) أي عاد (بَصِيراً) سليم النظر صحيح العينين وعادت إليه جميع قواه كما بينّا ، ف ـ (قالَ) يعقوب للحاضرين في خدمته : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أما أخبرتكم (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف وعدم اليأس من روح الله عزّ اسمه والأمل بأن يجمع بيننا وبينه ليصدّق سبحانه رؤيا يوسف التي رآها من قبل ، وهذا كله أعرفه تماما وإن خفي عنكم واستبعدته عقولكم.

وقيل إن يعقوب قال للبشير : كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر. قال يعقوب : ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال : على الإسلام.

قال : الآن تمّت النعمة. ثم إن أولاد يعقوب وصلوا وأخذوا يعتذرون ويطلبون العفو من أبيهم والمغفرة من الله :

٩٧ ـ (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ... يعني اطلب من ربك أن يعفو عمّا فرّطنا بحقك وعمّا فرّطنا في يوسف ، وعما أذنبنا بالنسبة لمقام ربّنا حيث عصيناه وآذيناك وآذينا أخانا يوسف (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) آثمين فيما فعلناه.

٩٨ ـ (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ... قد وعدهم بالاستغفار ولم يظهر من الآية الشريفة أنه عفا عنهم واستغفر لهم حالا ، إذ روي أنه أخرّ الاستغفار إلى السّحر من ليلة الجمعة ، كما روي أنه أجّله لسحر ليلته تلك. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار وتلا هذه الآية في قول يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي ، وقال (ص): أخّرهم إلى السّحر. ويحتمل قويّا أن التأخير كان لأمر آخر ، وهو أن يرى (ع) فيما إذ كان يوسف (ع) قد استغفر لهم وعفا عن حقه ورضي عنهم بعد ظلمه. وقد كان قوله هذا لهم حين أخذ يجهّز نفسه وثقله للتحرك نحو مصر للقاء ولديه.

وروي أن يوسف أعطى إخوته مائتي راحلة مع جميع ما يحتاجون إليه في السفر ، وجهّزهم للعودة بأهلهم إلى مصر ، ولذا أخذوا يتهيئون للرجوع إلى مصر بعد وصولهم إلى الرملة من أرض فلسطين ، فإن يعقوب كان مشتاقا يحنّ إلى ملاقاة يوسف من يوم ورود البشير عليه. فتأجيل الاستغفار لهم في هذه الحال محتمل مع هذه القرائن الحالية والمقامية ، ومن القريب للواقع أن يكون ذلك ، وليس هو اجتهاد في مقابل نصّ إذ على فرض صحة الروايات التي وردت في المقام ليس ما ذكرناه من الاحتمال مانعا من جمعه معها ، لأنه ليس فيها ما يستفاد منه أن السبب الوحيد في التأخير هو كون السّحر أحسن أوقات الدعاء ، فيمكن أن يكون لتوقّفه أمر آخر أيضا له مدخلية فيه أولا. وثانيا يمكن أن يكون أصل التوقف لما ذكرناه. وأما زمان الدعاء واختيار سحر الجمعة أو مطلق السّحر فأخر الاستغفار من حيث زمانه إلى

إن يجيء ذلك السّحر لأنه خير أوقات الدعاء. وحين يبني الإنسان على الاستغفار يدعو في كل حين وأيّ حين إذا حصلت أسباب الاستغفار ومقتضياته ، فتأمّل مرادي إن كان قد قصر بياني.

وبعبارة أخرى إن للدعاء حيثيتين وجهتين ، إحداهما زمانية ، وأخرى علّية ، وكلّ واحدة غير الأخرى. ففي ما نحن فيه الروايات متكفلة للأولى ، وما ذكرناه للثانية ، فلا منافاة بينهما. وعلى فرض أن يراد منها الجهة الثانية أيضا فلا يستفاد منها الانحصار كما لا يخفى ، ويدل على ما ذكرناه من تأخير استغفاره لهم أو يشير إليه ، أنه ربما كان قد أحب أن يرى يوسف ويعرف إذا كان قد رضى وعفا عنهم ، وهل هم أهل للرضا والمغفرة أم لا.

وروي أن أبناء يعقوب قالوا لأبيهم ذلك وقد غلبهم الخوف والبكاء ، وذلك لا يغني عنهم شيئا إن لم يغفر لهم ، فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو ، ويوسف خلفه يؤمّن ، وقد قام أولاده خلفهما أذلّة خاشعين ، وبقوا على ذلك عشرين سنة حتى قلّ صبرهم فظنوا أنها الهلكة ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام وقال : إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك .. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

* * *

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ

إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

٩٩ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ... هذا الكلام جاء بعد حذف سكت عنه القرآن الكريم تقديره : لما خرج يعقوب وأهله عن أرضهم ، أتوا الأرض التي تحت سلطان يوسف وملكه من ناحية مصر ، وكان يوسف قد جاء مع أتباعه وأشياعه وبعض أهل مملكته ، فتلاقيا في مكان هيأه يوسف لاستقبالهم خارج مصر. فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه أي ضمّ إليه أباه وأمه راحيل ـ كما في الرواية التي ذكرناها في أول السورة ـ وقيل بل هي خالته التي ربّته والمربّية تدعى أمّا ، وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه ، وفي ذلك المنزل تعرّف يوسف إلى جميع أهله من جديد وأكرمهم ورحّب بهم واحدا بعد واحد مع أنه كان في ذلك المجلس مع الريّان ملك مصر وجميع وزرائه ، ومذ رآه والده في تلك الهيبة والجمال والعظمة سأل عنه من بين أشراف المملكة وقال : هل هذا فرعون مصر؟ فقال له أبناؤه : إنه ابنك يوسف ، فسجد شكرا لله وسجد مع نبيّ الله كل من كان معه.

وقد ذكر أصحاب السّير أن زليخا امرأة الريّان التي راودت يوسف سابقا قد كانت من المستقبلين وكانت قد أصبحت عمياء فقالت : سبحان من جعل العبيد ملوكا بطاعته ، وجعل الملوك عبيدا بمعصيته. وقد ذكر المؤرخون أنها كانت قد هزلت وضعفت بعد أن أسنّت ، وأنها قالت لقائدها أقعدني في طريق موكب يوسف ودلّني عليه حين يمر ، ففعل ، فقالت ما قالته فعرفها يوسف عليه‌السلام حين وقفت وقالت كلمتها فوقف احتراما لها ووقف العسكر بوقوفه ، وقال لها : يا زليخا كيف حالك؟ قالت : كما ترى. فقال أين جمالك؟ قالت : زال بفراقك. قال : أين مالك؟ قالت : أتلفته الحوادث. قال : فما أصابك في عينيك؟ قالت : أصابني فيهما ما أصابني من كثرة البكاء على فرقتك. قال : فهل بقي من محبتي مع تلك الحوادث والآلام في قلبك شيء؟ فقالت : كلّ يوم تتضاعف وتتزايد. ثم قالت تسبيحها الذي ذكرناه ، فنزل جبرائيل وقال : يا يوسف انتهى غمّها وأحزانها

فادع الله أن يردّ عينيها وجمالها ويبدّل ضعفها بالقوة ويعطيها شبابها. فسأل الله ذلك كما أمر فأجاب الله دعاءه وتزوّجها بأمر منه سبحانه وولد منها ابنين وبنتا : ميشا ، وأفرايم ، ، وحنة زوجة أيوب عليه‌السلام.

والحاصل أن يوسف حين استقبال وفد النبوّة قال لأبيه ما قاله عن رؤياه الصادقة ، ثم لما ذهب التعب والعناء من وعثاء السفر (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي في حال كونكم في أمن من خوف القحط والمشقة وجميع أصناف المكاره. وعن ابن عباس أن تعليق دخولهم مصر على المشيئة لأن الناس كانوا يخافون من دخول مصر بغير إجازة الفراعنة ، ولذا قال يوسف لأضيافه : لا تخافوا من حجب الإذن عنكم كبقية الواردين إلى مصر ، فإن إجازة الدخول بيدي ، وأنتم مأذونون فادخلوها بسلام وأمن وبلا إذن من غيري.

وقيل إنهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثا وسبعين نسمة. وأن بني : إسرائيل ـ وهم أبناء يعقوب وذراريهم ـ قد خرجوا مع موسى عليه‌السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا ، ومائتا ألف امرأة وطفل. وكان فرعون في عهد موسى من أولاد الريان فرعون مصر في أيام يوسف.

وهكذا دخل يعقوب (ع) وأهله مصر ، فأنزلهم يوسف (ع) في دار الملك وقصر السلطنة.

١٠٠ ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) ... أي فرفع يوسف أباه وخالته على سرير الملك. وذلك بعد أن دخل الجناح الخاصّ به وادّهن وتطيّب واكتحل ولبس ثياب العز بعد أن كان لا يتطيّب ولا يكتحل مدة فراق أبيه ، ثم دخل على هذه الهيئة الفتانة وقرّب إليه أبويه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجدوا شكرا لله من أجله ومن أجل ما أعطاه من نعم (وَقالَ) يوسف (ع) : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير الحلم الذي رأيته في منامي (مِنْ قَبْلُ) أي منذ زمن بعيد يوم كنت عندكم وحيث قصصت ذلك عليكم و (قَدْ جَعَلَها) أي الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) يعني صدقا.

قال علي بن إبراهيم : إن يحيى بن أكثم سأل مسائل وعرضها على أبي الحسن الهادي علي بن محمد الجواد عليهما‌السلام ، إحداها أن قال : أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء. فأجاب أبو الحسن (ع) : أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك طاعة لله منهم وتحية ليوسف كما أن السجود من الملائكة كان منهم طاعة لله وتحية لآدم عليه‌السلام. ونحن نقول : كلا السجودين كانا عبودية لله وإجلالا لعظمته ، لا عبودية لآدم ولا ليوسف عليهما‌السلام ، وذلك كسجودنا على التربة الحسينية المشرّفة وغيرها مما يصحّ السجود عليه ، فإنه لا يجعل التربة ولا غيرها معبودا ولا صنما ولا وثنا كما يرمينا به غيرنا.

وقيل إنه كان بين رؤياه وبين تأويلها أربعون سنة ، وقيل ثمانون. فقد قال : هذا تأويل تلك الرؤيا قد تحقق والحمد لله (وَقَدْ أَحْسَنَ) الله تعالى (بِي) أي لطف بي (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) بعد تلك الفرية ، وتابع تعداد نعم الله عليه منذ إلقائه في الجب إلى يومه هذا حيث منّ سبحانه عليه بالحفظ (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) لأنهم كانوا من أصحاب المواشي يرتحلون في طلب الكلأ والمراعي لمواشيهم ينتجعون مواطن الخصب ـ جاء بكم إلى هذا الملك بعد البداوة (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي بعد أن أفسد الشيطان بينهم وتحرّش بهم فأوقعهم في الحسد فارتكبوا ما ارتكبوه ، وقد أزال الله تعالى ذلك كله (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) وقد شاء بلطفه أن جمع شملنا وألّف بيننا بعد تلك الوحشة فصار إخوتي أعضاد عملي وزينة مجلسي أقوياء بقوّتي وأصحاب شهامة وشجاعة وعزة لأنهم أولاد أنبياء ومن نبلاء الناس (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلّا ما فيه عين الحكمة وتمام المصلحة لأنه عالم بعواقب الأمور ومصائر الخلق.

وعن الإمام الهادي عليه‌السلام أن يعقوب قال لابنه : أخبرني ما فعل بك إخوتك حين أخرجوك من عندي. قال : يا أبت اعفني من ذلك. قال : أخبرني ببعضه. قال : إنهم لمّا أدنوني من الجب قالوا : انزع

القميص. فقلت لهم : يا إخوتي اتّقوا الله ولا تجرّدوني. فسلّوا عليّ السكين وقالوا : لئن لم تنزع لنذبحنّك. فنزعت القميص وألقوني في الجب عريانا. قال : فشهق يعقوب شهقة وأغمي عليه. فلما أفاق قال : يا بنيّ حدّثني. قال : يا أبت أسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلّا أعفيتني ، فأعفاه .. وفي رواية : إن يوسف قال لأبيه : لا تسأل عن صنع إخوتي بي ، واسأل عن صنع الله بي.

أما لفظة : يا أبت فهي قراءة من قرأها بالإضافة إلى نفسه (يا أَبَتِ) فقد كسر التاء على الإضافة لياء المتكلم لأن ياء الإضافة تحذف في النداء. وأما إدخال تاء التأنيث في الأب (أبة) فانما تدخل في النداء خاصة وتلزم الأب عوضا عن ياء الإضافة. وقد يوقف عليها بالهاء فيقال : يا أبه ، لأن تاء التأنيث في الأسماء تبدل بالهاء حين الوقف.

أما من قرأ بالفتح : يا أبتا فإنه قد أبدل ياء الإضافة بألف.

* * *

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

١٠١ ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ... إن يوسف في ذلك المجلس الذي هيمن عليه الشكر لله والحمد له على مننه الجزيلة ، قد غمره الجوّ الإيماني الرائع ووقف حامدا خاشعا ضارعا معترفا بتتابع نعم الله عليه التي منها الملك والسياسة والتدبير بين الخلق وتعليمه وتفهيمه وتولّي أمره حيث لم يكله سبحانه إلى غيره ولم يعط أحدا كما أعطاه ـ قد خشع قلبه أكثر من أي وقت مضى وهو بين يدي ربّه وأبويه والنّعم محيطة به فتوجّه إليه تعالى معدّدا أفضاله قائلا : ربّ قد آتيتني من الملك مستعملا لفظة : من ، التي

هي للتبعيض لأنه لم يكن له الملك كلّه بل كان له شيء منه فعن الإمام الباقر عليه‌السلام : إن الله تعالى لم يبعث أنبياء ملوكا إلا أربعة ... إلى أن قال : وأما يوسف فقد ملك مصر وبراريها ولم يتجاوزها إلى غيرها .. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) فأفهمتني ما يؤدي بي إلى معرفة ما لا يعرفه غيري ، فسبحانك يا (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما من العدم إلى الوجود : (أَنْتَ وَلِيِّي) أي متولّي أمري وناصري (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك على الإيمان بك والتسليم إليك (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واجعلني مع صالحي عبادك الذين ارتضيتهم. وقد قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : لمّا جمع الله شمل يعقوب ، وأقرّ عين يوسف ، وأتمّ له رؤياه ، وّ وسّع عليه في ملك الدّنيا ونعيمها ، علم أن ذلك لا يبقى له ولا يدوم فطلب من الله نعيما لا يفنى ، واشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنّى الموت ودعا به ، ولم يتمنّ ذلك نبيّ لا قبله ولا بعده فقال : ربّ قد آتيتني إلخ .. فتوفاه الله بمصر وهو نبيّ فدفن في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاحّ الناس عليه وكان كلّ يحب أن يدفن في محلّته لما كانوا يرجون من بركته ، فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمر الماء عليهم جميعا فيستفيدون من بركاته كلهم فكان قبره في النيل في صندوق من رخام.

وعاش يعقوب (ع) مائة وسبعا وأربعين سنة ، ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة وكان بمصر سبع عشرة سنة ، ثم توفي ونقل إلى بيت المقدس في تابوت من ساج ووافق ذلك يوما مات فيه أخوه عيصو فدفنا في قبر واحد ، فمن ثم ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس.

وقد رجع يوسف (ع) من تشييعه إلى مثواه المذكور بوصية منه (ع) وعاش يوسف بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة. وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : عاش يعقوب مع يوسف عامين. وقال الراوي سألته : فمن كان الحجة لله في الأرض يعقوب أم يوسف؟ قال : كان الحجة يعقوب وكان الملك ليوسف ، وكان يوسف يعد يعقوب الحجّة ورسولا نبيّا ، أما تسمع

قول الله : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات؟.

ولمّا بعث موسى بن عمران عليه‌السلام أخرج يوسف (ع) من النيل وحمله إلى بيت المقدس ودفنه في مقابر آبائه الصالحين ، وكان بين يوسف (ع) وبين موسى أربعمائة سنة ، وكان يوسف (ع) من عظماء رجال الدّين والزهد والسياسة والتدبير. ويكفي في تدبيره أنه أبقى على نفوس أهل مصر مع براريها وبواديها وما حولها في سبع سنوات مجدبة وأبقى معهم وإلى جانبهم جميع أهل كنعان والشام ونواحيهما ، ولو لا حسن تدبيره وتقديره لهلك كلّهم أو جلّهم موتا من الجوع في هذه المدة الطويلة من الجدب والقحط ، ويكفيه أنه لعظيم لباقته ومقدرته ألجأ الريان ـ فرعون مصر إلى أن يخلع نفسه ـ وهو صاحب الجاه والسلطان في مصر وتوابعهما ـ وأن يتوّج يوسف بتاج الملك وأن يلبسه رداء الحكم مع أن فراعنة مصر كانت تهابهم سلاطين الأرض وملوك الدنيا ولا يدخل أحد مصر إلّا من بعد إذنهم وإجازتهم ، كما أن العزيز الذي كان وزير المالية من قبل الريان عزل نفسه أيضا وفوّض مفاتيح خزائن مصر إليه مع أن يوسف عليه‌السلام كان في الظاهر للناس عبده وهو مولاه قد اشتراه من تجار السيّارة التي ذكرها الله سبحانه سابقا ، كل ذلك بفضل الله عليه وبما أظهره من براعة السلوك وحسن الأخلاق والاستقامة وجميل السياسة مع أهل الملك والسلطان ومع سائر طبقات الناس على اختلاف عقائدهم وتشتّت آرائهم وأفكارهم ، فإنهم جميعا امتثلوا أوامره ونواهيه بشكل من الانقياد تتحيّر له العقول فليتأمل المفكّر وليعتبر المعتبر بما كان عليه يوسف من صفات الكمال والدّين ورسوخ العقيدة بمبدئه ومعاده ، يدلّنا على ذلك أنه عليه‌السلام قد خلع نفسه من ملكه العظيم مرتين : إحداهما بعد أن تمّت له السلطة ، واستقرّ له الأمر ، وخضع له كل أبيض وأحمر وأسود لأنه ملكهم واشتراهم نساء ورجالا في السنة السابعة من سنوات الجدب كما ذكرنا وصاروا إماء يفعل بهم فرعون مصر ما يشاء ، ثم قال للفرعون : هذا تاجك ولك سلطانك وملكك الذي فوّضت أمره إليّ فقبلته لمصلحة اقتضت قبولي ، فافعل الآن

ما شئت واحكم كما كنت سابقا ، فآمن فرعون بدين يوسف (ع) أي بدين يعقوب أبيه وقال : أنت أولى منّي بالملك وأجدر بالحكم فابق على ما أنت عليه من سياسة الدولة. وثانيتهما حين دعا ربّه قائلا : توفّني مسلما وألحقني بالصالحين ، فطلب منه سبحانه نزع ثوب الملوكية عنه ليلحق بصالحي آبائه في جنات الله ومرضاته بعد أن رأى ملك الدنيا زائلا ونعيمها باطلا وأن النعيم الدائم والملك الباقي هو في الآخرة. وقيل إنه بعد طلبه هذا لم يبق حيّا إلّا أياما قلائل ، وقد مدحه الإمام الصادق عليه‌السلام أيضا بأنه تمنّى الموت وهو في ذلك المقام السامي الرفيع ، ولم يتمنّ ذلك نبيّ قبله ولا بعده. ولعله يقصد أنه لم يتمنّ ذلك نبيّ ممّن أعطاهم الله الملك مع النبوّة ، فإن هذا التمني ـ مع الملك والطاعة المرضية والعمل المقبول ـ له أهمية عظمي. فيوسف عليه‌السلام ذو مقام سام وذو خصائص رفيعة عرفت أكثرها لم تكن لغيره من النبيّين ، ولذلك كان يذكره نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من الموارد ويشير إلى صفاته الكريمة وأخلاقه السامية وأفعاله الطيبة. وفي الإكمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه ، عن جدّه ، عن رسول الله صلوات الله عليهم جميعا ، عاش يعقوب بن إسحاق مائة وأربعين سنة ، وعاش يوسف بن يعقوب مائة وعشرين سنة. وعن الصادق (ع) أن الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران أن أخرج عظام يوسف من مصر ، فاستخرجه من شاطئ النيل وكان لا يزال في صندوق المرمر ، فحمله إلى بيت المقدس كما أشرنا.

وعن الإمام الهادي عليه‌السلام : لما مات العزيز في السنين المجدبة افتقرت امرأته زليخا ، واحتاجت حتى سألت. فقالوا لها : لو قعدت للعزيز ـ أعني ليوسف (ع) ـ ومعنى قولهم : لو اعترضتيه في الطريق فقالت : أستحيي نه. فلم يزالوا بها حتى قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه فقامت فقالت له (ما قد ذكرناه منذ قليل في حذره معها) فقال لها يوسف : أنت تيك؟ أي صاحبته في المراودة عن نفسه. فقالت : نعم. فقال لها : هل لك فيّ رغبة؟ قالت : دعني ، بعد ما كبرت؟ أتهزأ بي؟ قال : لا. قالت : نعم.

فأمر بها فحوّلت إلى منزله وكانت هرمة ، فقال لها : ألست فعلت بي كذا وكذا؟ فقالت : يا نبيّ الله لا تلمني فإني بليت بثلاثة لم يبل بها أحد. قال : وما هي؟ قالت : بليت بحبّك ولم يخلق الله لك في الدنيا نظيرا ، وبليت بأنه لم يكن في مصر امرأة أجمل منّي ولا أكثر مالا منّي نزع عنّي ، وبليت بزوج عنّين. فقال لها يوسف : فما تريدين؟ فقالت : تسأل الله أن يرد عليّ شبابي. فسأل الله فرد عليها شبابها ، فتزوّجها وهي بكر ، وكان ذلك الدعاء والتزويج بإذن من الله وبمشيئته بمقابل تلك النفس الرياضية الشريفة من يوسف (ع) فإن حفظ النفس الأمّارة بالسوء ، وإرغام الشيطان في تلك المواقف الخطيرة التي ابتلي بها مع أجمل نساء زمانه وهو في عنفوان شبابه بلا مانع ولا رادع ومع وجود المقتضيات وتمام تهيّؤ الجهات الظاهرية ـ إن ذلك كان من أتمّ الجهاد النفسي الرائع ومن أفراد ومصاديق التقوى. فإن قضية يوسف (ع) مع امرأة العزيز قضية بلاء من النوع الثقيل ، وفتنة لا يتحمّلها ولا ينجو منها أكثر أهل الإيمان العادي الذين لم يبلغوا درجة الكمال ، واختبار لا يثبت أمامه إلّا أهل الورع العظيم ، لأن سهام الشيطان لا ينجو منها في ذلك الميدان إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ومحضه إياه محضا ، لأن ذلك الموقف تكبو له الجياد وتنبو الصوارم ، وتنهزم أمامه القوى ، إلّا من عصم الله من عباده الذين اصطفى .. فلا جرم أن يكافئ الله نبيّه هذا عليه‌السلام في دار الدّنيا ويعود عليه بفضله على صبره ورضاه ، بل لا غرو أن يجازي تلك العبدة المبتلاة بما ذكرناه بعد أن رماها بالتأيم بعد العزّ وبالفقر بعد الغنى وبالذل بعد المجد الباذخ ، ثم بقيت على ما هي عليه بنتا باكرا حتى بلغت من الكبر عتيا دون أن ترخص نفسها ، فمنّ الله عليها بتحقيق رغبتها ، وألهم يوسف بالتزويج منها ، ومنّ عليها بالأولاد ذكورا وإناثا ، فسبحان من يعطي في الدنيا ما يعجز المرء عن شكره من النّعم والفضل ، ويعطي في الآخرة بغير حساب جودا منه وكرما وإحسانا.

هذا ، وبعد إتمام سرد قصة يوسف عليه‌السلام على سمع نبيّنا محمد

صلى‌الله‌عليه‌وآله ، توجّه سبحانه في خطابه إلى نبيّنا الكريم ، رسوله العظيم فقال له عزّ من قائل :

* * *

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

١٠٢ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ... أي أن بيان قصة يوسف من أولها إلى آخرها هو من الأخبار الغيبية ومن الغيب الذي كنت تجهله ونحن نوحيه إليك فننزله عليك ونلهمك إياه ، وهي الآن بين يديك مفصلة لتكون من دلائل نبوّتك وإعجازك .. وسبب نزول هذه القصة بهذا الشكل ، أن جماعة من اليهود طلبوها من رسول الله (ص) لأنها مذكورة في توراتهم. وظنّ رسول الله (ص) أنهم يؤمنون بعد سماعها منه ولكنهم ـ بعد أن بيّنها ـ بقوا على كفرهم وإصرارهم ، ولذلك قال سبحانه : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي اتفقوا على هذا الأمر (وَهُمْ يَمْكُرُونَ)

ويحتالون تخلصا من الإيمان به (ص) ولذلك نزلت الآية الشريفة التالية تسلية له.

١٠٣ ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ... الجارّ والمجرور يتعلّقان بأكثر ، والمعنى أنه مهما حرصت على توفير جوّ الإيمان للناس فإن أكثرهم لا يؤمنون. والحرص هو طلب الشيء بغاية الاجتهاد ونهاية الجد. وحرص الداعي لا يفيد إذا كان المدعوّ غير مجيب وغير متفكر بدعوة من يدعوه ، كفرا وجحودا كاليهود الذين لو كانوا عقلاء لعرفوا الحق وتقبّلوا الدعوة ولم يتمردوا على الله ورسوله. فدعهم وشأنهم لأن حسابهم علينا ، ولا تتعب نفسك بالحرص على إيمانهم ، لأنك :

١٠٤ ـ (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ... لست تطلب منهم أجرة دنيوية مادية تستفيدها في حياتك يا محمد (إِنْ هُوَ) أي هذا الذي ننزله عليك ، هو (ذِكْرٌ) تذكير لمن أراد أن يتفكّر ويتدبّر ، وتنبيه (لِلْعالَمِينَ) سائر الناس ، وما المال بغيتك حتى تظن أنه قد منعهم عن تصديقك مع أن دعوتك لا ترمي إلا إلى صلاحهم وإصلاحهم ، فهم جاحدون معاندون لا ينفع معهم إعذار ولا إنذار ...

١٠٥ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي كم من آية وحجة وبرهان (يَمُرُّونَ عَلَيْها) تعترضهم وتقع تحت أبصارهم دلالة على وحدانية الله عزوجل ، من الشمس والقمر ، والنجوم والسماوات والأرض ، وما فيها كلها من آيات باهرات ، بل من أنفسهم واختلاف ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم ، ومن غير ذلك مما يرونه (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) مائلون ومنصرفون عن التفكر والتدبر والاعتبار.

أما كأيّن ، فأصلها ك ـ كاف التشبيه ـ و : أي ، يعني كأيّ. فالكفار قد وقفوا منك يا محمد عند تلاوة قصة يوسف كوقوفهم مقابل أيّ من الآيات التي يرونها فقد دخلت كاف الجر على أي واستعملت للعدد الكثير مثل : كم ، سواء بسواء ..

١٠٦ ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) ... فالأكثر منهم لا يصدّق بالدعوة إليه سبحانه (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشّرك هنا شرك طاعة وليس شرك عبادة ، لأنهم يرتكبون المعاصي إطاعة للشيطان ، وبذلك أشركوا بطاعة الشيطان مع طاعة الرحمان. فهم يعبدون الله ويطيعون من سواه .. نعوذ بالله من ذلك.

١٠٧ ـ (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) ... يعني هل أمنوا جانب النقمة وأن تجيئهم غاشية : أي عقوبة تعمّ الجميع وتغطّي سوادهم ـ وهي من الغشاء ـ فلا تخلّي أحدا ، وتكون نوعا من عذاب الله كالخسف والرّمي بالحجارة من السماء وكالريح الصرصر وعذاب يوم الظّلة وغيرها. وعبارة : عذاب الله ، هي بيان للغاشية التي لا تكون إلّا عذابا عامّا كعذاب الاستئصال الشمولي الذي ربما كان أنسب من القوارع والصواعق والزلازل المكانية .. فالحاصل أنه هل اطمأنّ هؤلاء الكفرة أن يأتيهم عذاب من الله يعمّهم ويحيط ويحيق بهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أم أمنوا أن تقوم القيامة فجأة ومن غير ترقّب وانتظار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا يحسّون بحلولها وحدوثها؟ أي وهم غافلون عن قيام الساعة والوقوف للحساب بين يدي ربّ الأرباب. فعن ابن عباس : تهجم الصيحة بهم وهم في الأسواق والّلّقمة في فيهم والميزان بيدهم. أي غير مستعدّين لها.

١٠٨ ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ... قل يا محمد لهؤلاء الكفرة ولغيرهم : هذه طريقي الواضحة ، وأنا أدعو الناس إلى الإيمان بالله عزّ وعلا. وقوله تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) أي بمعرفة تامة ، بيان لقوله : هذه سبيلي. وفي الآية الكريمة أن الدعوة للخلق إلى دين الله لا بد وأن تكون عن عقيدة جازمة وبصيرة تامة من الداعي. وهي حرفة الأنبياء وأوصيائهم صلوات الله عليهم .. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : العلماء أمناء الرّسل على عباد الله من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه. وقال (ص) أيضا : من أراد أن ينظر إلى أهل الجنّة فلينظر إلى العلماء.

أجل ، أمر الله سبحانه نبيّه أن يصرّح لهؤلاء الكفرة أن هذه طريقتي المستقيمة التي أدعو بها الناس إلى معرفة ربّهم وخالقهم ، أدعوهم (أَنَا وَ) يدعوهم (مَنِ اتَّبَعَنِي) من المؤمنين المصدقين (وَسُبْحانَ اللهِ) تنزيها له وتقديسا (وَما أَنَا) لست (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون غيره معه أو يطيعون الشيطان مع طاعة الرحمان.

* * *

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ... أي إن كنت رجلا مرسلا من قبلنا ولم تكن ملكا كما طلب المعاندون ، فإننا لم نرسل قبلك إلّا رجالا ـ وهم جميع الأنبياء صلوات الله عليهم ـ وقد كنا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ننزل عليهم الوحي على يد رسولنا الأمين جبرائيل (ع) وهم (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل المدن لا من سكان البوادي. وقد أشار سبحانه بهذا التخصيص لاعتبار أن أهل القرى والمدن أعلم وأفهم وأعقل من أهل البوادي وأليق بالإلهام ونقل الرسالة والإفهام ، فلم يبعث الله نبيّا من أهل البوادي قط ، لأنهم أهل جفاء وقسوة ، ولا من النساء قط لنقصان عقولهن وحظوظهن ، والنبوّة مقام رفيع ومنصب إلهيّ روحانيّ شريف ، لا يمنح للأدنياء كمن لم تطب مواليدهم ولو كانوا من أهل الإيمان والعدالة ، ولا للجن لأنهم خلقوا من نار ، ولأن الجنّيّ إذا أظهر معجزة فلربما اعتبرت سحرا لأن الجنّ يعلّمون الناس السحر والشعوذة والكهانة ، فهو ومنصب الإمامة للمنتجبين من الخلق المصطفين من الناس. لأن الله تعالى يباهي

برسله وبأوصيائهم ملائكة السماء المقرّبين ، ويختارهم من صفوة العالمين ..

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المعاندون أما جالوا (فِي الْأَرْضِ) وأجالوا أنظارهم فيما جرى فيها؟ وهل لم يتأمّلوا (فَيَنْظُرُوا) ويروا بعين عقلهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف كانت نهاية من سبقهم من معاندي الرّسل ومكايديهم؟ .. فما بالهم يمضون سادرين في غيّهم مع أن التأمل في حال من سبقهم من الكفار ينبغي أن يحملهم على الاتّعاظ والإيمان (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من دار الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ما يغضب الله وتجنّبوه ، وعملوا بأوامره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها الناس وتأخذون الدرس ممّن حلّت به النقمة حين أمعن في العناد؟

* * *

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ... يعني لا تهتمّ يا محمد بمن لا يؤمن ، ودع الكافرين في غيّهم وعمهم وليس عليك من حسابهم من شيء ، ولا تتأذّ لما هم فيه ولو تأخرت نقمة الله منهم ، فإن أمر النقمة واقع لا محالة حتى إذا استيأس الرّسل وافترض يأس الأنبياء ـ والعياذ بالله ـ من جرّاء تأخر وعد الله سبحانه بالنّصر ، لأنهم يجوّزون البداء بالله تعالى في الأمور ، أو يحتملون امتداد الوقت لتمييز من يثبت على

الإيمان ممن ينقلب على عقبيه (وَ) حتى لو (ظَنُّوا) من وراء هذه العوامل التي لله وحده فيها الخيار (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) يقرأ الفعل بالتخفيف مبنيّا للمجهول ، أي أيقنوا أن أقوامهم كذبوهم وارتدوا عن إيمانهم فكأنهم كذّبوهم في دعوتهم إلى الله ... والضمير في : كذبوا ، راجع إلى الرّسل فلا يرد الإشكال بلزوم الإضمار ـ قبل الذكر حتى يحتاج إلى أن يجاب بأن ذكر الرّسل يدل على المرسل إليهم .. ففي تلك الحالة القصوى من أن الرّسل كادوا أن ييأسوا من نصر كلمة الله (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي ورد عليهم خبر صدق ما بعثناهم به حين أنذروا الناس وخوّفوهم النقمة ، فحلّت النقمة بالمكذّبين (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي خلص من الهلاك ونجا من العذاب من نريد من المؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي لا يقف في وجه بلائنا والبؤس الذي ننزله مع نقمتنا ولا يرجعه قوة ولا شيء (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) إذا أنزلناه بهم.

١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) ... في هذه الكريمة يؤكّد سبحانه أن ما أوردناه لهؤلاء الجهلة من قصص من سبقهم وحكايات حالهم ، ما فيه (عِبْرَةٌ) موعظة توجب الاعتبار (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول الكاملة لأنهم هم المنتفعون بالقصص دون غيرهم .. وهذا كاف بنظرنا ولا يهمّنا أمر من هم كالأنعام أو أضلّ سبيلا من الأنعام (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي أن القرآن ما كان قصة ولا خبرا مكذوبا مختلقا مخترعا (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل كان تصديقا وتأييدا لما سبقه من الكتب السّماويّة كالتوراة والإنجيل وما كان قبلهما من الزّبور وغيره (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكل ما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه وشؤون معاشه ومعاده (وَهُدىً) دليلا يرشد الناس ويجنّبهم الضلال (وَرَحْمَةً) لطفا يشمل ببركة تعاليمه وينقذ من العذاب ويؤدي إلى النعيم وحسن الثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدّقون بما جاء فيه. وقد خصّوا بالذّكر لأنهم هم المستفيدون منه والمنتفعون بفحوى ما جاء فيه.

* * *

سورة الرعد

مدنيّة ، وآياتها ٤٣ نزلت بعد محمد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

١ ـ (المر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ... قد سبق الكلام في تفسير : ألم ونظائره في أول سورة البقرة. وبخصوص : المر ، من حيث المعنى عن الصادق عليه‌السلام ، معناه : أنا الله المحيي المميت ، الرازق. وقيل إن الحروف المقطّعة التي في أوائل السور مختصرات تدل على صفات الله جلّت قدرته. و : المر : الألف : آلاؤه. واللام : لطفه الذي لا منتهى له. والميم : ملكه الذي لا زوال له. والراء : رأفته الكاملة و (تِلْكَ) إشارة إلى آيات الكتاب إلى ما في القرآن من الآيات الكريمة (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وحيا قدسيّا ، هو (الْحَقُ) من ربّك وهو الصدق الذي ينبغي الإيمان به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) جلّهم يكونون معاندين (لا يُؤْمِنُونَ) بآياته وبيّناته.

* * *

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ... نحن وظاهر الآية الكريمة نرى احتمالين :

الأول : أن جملة ترونها ، مستأنفة للاستشهاد برؤيتهم السماوات مرفوعة بلا عمد ، ولو كانت لرؤيت. وبعبارة أخرى : الرؤية تدل على عدم المرئيّ ، فانتفت الرؤية بانتفاء موضوعها ولو كان لبان.

والثاني : أن الجملة صفة للعمد ، فتدل على أن لها ـ أي للسماوات ـ عمدا ولكنها غير مرئيّة لكم ، وقيل إنها عدله تعالى ، وقيل قدرته التي بها قامت السماوات والأرض وارتفعت ، واستقرّت الأرضون وانبسطت. وهذه الآية تدلّ على وجوب التصديق به تعالى وبخالقيّته لأن هذه الأجرام العظيمة بقيت ثابتة في الجو الواسع الشاسع العالي (بِغَيْرِ عَمَدٍ) ويستحيل أن يكون بقاؤها بذواتها لأن الأجسام متساوية بذواتها في الماهية ، ولو وجب حصول جسم في حيّز معيّن لوجب حصول كلّ جسم في ذلك الحيّز

بقاعدة المساواة التي قلناها ولوجب حصول جسم في حيّز معيّن ووجب حصوله في جميع الأحياز ، ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة ، فحصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها المعيّنة ليس أمرا واجبا لذاته ، والخلاء لا نهاية له ، فحصول جسم معيّن بحيّز معيّن دون حيّز مع أن الأحياز متساوية والخلاء لا نهاية له ، لا بدله من مخصّص ومرجّح ، وليس إلّا الله تعالى وعزّت قدرته. ولا يجوز أن يقال إنها اختصّت وبقيت في حيّز معيّن بسلسلة فوقها إذ يعود الكلام الى السلسلة ولما تعلّقت به ويلزم الدّور أو التسلسل إلى ما لا نهاية له وهو محال ، فثبت أن هذه الخصوصيات قائمة بمدبّر غيرها وهو هو تعالى شأنه العزيز ، فهذا برهان قاطع على وجود الصانع تعالى ، فيا له من قادر حكيم خلق هذه الكائنات المدهشة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه بالتقدير والتدبير المستقيم للأجسام والأجرام التي كوّنها من جهة اقتداره ونفوذ سلطانه. ويقال استوى على سرير الملك كناية عن التملّك والاستقرار (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما لمنافع خلقه ، والمسخّر هو المهيّأ لأن يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النّار للإسخان والماء للجريان (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت مضروب معيّن يتمّ فيه أدواره بناء على أن المراد بالأجل المسمّى منازلهما التي ينتهيان إليها ولا تتجاوزانها ، فالشمس تقطع تلك المنازل والبروج في كلّ سنة ، والقمر في كلّ شهر حتى ينتهيان إلى آخر السنة ويرجعان إلى أولى المنازل بطبعهما وطبيعتهما التي جعلها الله الحكيم القدير لهما من غير احتياج إلى معين ، ذلك تقدير العزيز الحكيم. فالبروج اثنا عشر برجا ، والمنازل ثمانية وعشرون ، والقمر ينزل كلّ ليلة بواحدة من مستهلّه إلى ثمانية وعشرين من الشهر ، ثم يستر ، واستتاره محاقه ، حتى لا يرى منه شيء. فإن كان الشهر تسعة وعشرين يوما استتر ليلتي ثمان وعشرين وتسع وعشرين ، وإن كان الشهر ثلاثين يوما استتر القمر ليلتي تسع وعشرين وثلاثين. فعلى هذا يكون محاقه ليلتين. وهذه المنازل يبدو القمر منها في أربع عشرة منزلة بالليل فوق الأرض ، ويخفى منها أربع عشرة

منزلة وراءها ، وكلّما غاب منها واحدة طلع دقيقا ضعيفا. فهو سبحانه يدبّر أمور الكائنات كلّها من الإيجاد والإعدام ، والإغناء والإفقار.

وأما بناء على أنّ المراد بالأجل المسمى : الغاية المضروبة التي ينقطع دونها سيره ، فهو يوم القيامة الذي تكوّر الشمس فيه ، وتنكدر النجوم ، وينخسف القمر ، والله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمور ملكه وملكوته من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ونحوها ، وهو (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ينزلها ويبيّنها تفصيلا ، أو المراد إتيانها آية بعد آية فصلا فصلا ، مميّز بعضها عن بعض ليكون في مقام الاعتبار والتفكّر أسهل (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لتتفكّروا وتتأمّلوا فتعرفوا كمال قدرته ، وتعلموا أن من قدر على هذه الأمور العجيبة قادر على البعث والنشور.

وفي هذه الآية دلالة على وجوب النظر المؤدّي إلى معرفة الله بالاجتهاد وبطلان التقليد في أصول المعارف الحقة. ويحتمل أن يكون قوله تعالى : يفصّل الآيات ، إشارة إلى ما فصّل قبل ذلك من السورة من إنزال الكتاب ، ورفع السماوات بغير عمد ، والاستواء على العرش ، وتسخير الشمس والقمر وباقي النجوم وذكرها من باب التمثيل بأكمل الأفراد وأعظمها ، وإجرائها في منازلها ومناطقها الخاصة أو الأعم منها وفي غيرها.

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ... لما قرّر الدلائل السماويّة أردفها بتفصيل الآيات الأرضية التي تدل على وجود صانعها وموجدها من العدم. والمراد بمدّ الأرض دحوها وبسطها طولا وعرضا لمنافع خلقه ومصالحهم (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت جعل فيها بخصوصها منافع كثيرة لعباده كأنواع المعادن المهمّة المختلفة كالزاج والأملاح والقير والكبريت والفلزّات المختلفة الأثر كالذهب والفضة والحديد والأحجار الكريمة من نحو الفيروزج والعقيق والعسجد والزبرجد. وجعل فيها (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي صنفين مختلفين : أسود وأبيض ، وحلوا وحامضا ، وصيفيّا وشتويّا .. والزّوج قد يطلق على الفرد فيقال : زوج نعل وزوج باب ، وقد يطلق على اثنين

كما في الحيوان حيث إن المراد بالزوج فيه : الذكر والأنثى ، وفي الثمار هو عبارة عن لونين ، أو باعتبار الذكورة والأنوثة وإن خفي علينا نوعها. ويمكن أن يراد بالزوج في الآية : الذكر والأنثى والتثنية والإفراد ، أي عنوان التثنية في (زَوْجَيْنِ) كان تأكيدا لما يدلّ عليه لفظ الزوج من الاثنينيّة. وأما قوله تعالى (اثْنَيْنِ) فإما أن يكون بيانا للزوجين حيث قلنا إن الزوج بطبعه وعلى حسب وضعه يدل على الاثنينيّة ، والتثنية كذلك. فمعنى الزّوجين : اثنين اثنين ، وفوجئ بهذا اللفظ ليدل على انسلاخ الزوج عن الاثنينيّة ، وإن المراد ب (زَوْجَيْنِ) هو الاثنينيّة التي تدل عليها تثنيته. وإما أن يكون المراد بزوجين : صنفين ، أي أريد بالزوج : الفرد ، بمعنى الصّنف. وال (اثْنَيْنِ) كناية عن اختلافهما كما فسّرناه آنفا. وقيل إن تعقيب ال (زَوْجَيْنِ) ب (اثْنَيْنِ) للتأكيد كما هو دأب العرب في هذه الموارد (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي تغطّي ظلمة الليل ضوء النهار فيصير الجوّ مظلما بعد أن كان مضيئا ، وكذلك العكس حين يأتي ضياء النهار فيمحو ظلام الليل ، لانتفاع الحيوانات والكائنات الحية من الراحة في الليل ، وتحصيل القوت في النهار ، وذلك من أهمّ الآيات التي تدلّ على وجود مدبّر قادر للعالم عند كل إنسان متفكّر عاقل.

٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ... أي أقسام متلاصقة متقاربة وفي عين الاتّصال وقرب الجوار ، مختلفات بالرّخاوة والصّلابة ، والطّيبة والسّبخة ، والصلاح للزرع وعدمه ، وللشجر دون غيره ، أو لبعض أنواع الزرع دون بعضه ، وكلّ ذلك ـ أيضا ـ من دلائل وجود الصانع القادر الحكيم ، لأن اشتراك القطع في الطبيعة الأرضية تقتضي عدم الاختلاف لو خلّيت وطبيعتها (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) جمع صنو أو صنوة وهي النّخلات العديدة التي تخرج من أصل واحد ، أو هي التي تخرج عن أصل أمّها من بقية الأشجار في الأحراج والبساتين ، وتنبت على أصول شتّى (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) من الأنهار أو من السماء مع أن الأرض واحدة والماء واحد (نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) في الأثر والشكل واللون والطعم ، ولو كان بالطبع لما

اختلفت الأثمار. وهذا دليل واضح على وجود الصانع ووحدانيّته تعالت قدرته ، وبعبارة أخرى يريد سبحانه وتعالى أن يبيّن أنّ في الأرض قطعا متجاورة متماثلة تسقى بماء واحد وتنتج هذه الحامض ، وهذه الحلو ، وتلك الرّطب ، والأخرى اليابس إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يقع تحت حصر ولا يعوزه برهان (فِي الْأُكُلِ) أي في الثمر قدرا وطعما ورائحة وغير ذلك مما بيّناه آنفا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون ويتعقّلون ، فإن الإنسان ليتعجّب حين يرى وردة واحدة تنبت على أصل واحد هي في غاية الرّقة والنعومة ، يبدو أحد وجوهها في غاية الحمرة ، والوجه الآخر قليل الاحمرار أو قريبا من البياض المشرب بلون غير مميّز ، ولا يستطيع عندها أن يؤمن بقول من ينسب ذلك إلى الطبائع الأرضية والفلكية ، بل يعتقد أن هذا الاختلاف والتلوين في الزهرة الواحدة هو من لدن مدبّر حكيم وصانع عليم ، والعلم بافتقار الحادث إلى محدث علم ضروريّ دون ادنى ريب.

* * *

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))

٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) ... يعني يا محمد ، إن تعجب وتستغرب إنكار الكفرة البعث والنّشور لعدم تدبّرهم دلال الوحدانيّة والقدرة (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي حقيق وجدير بأن تتعجّب منه ، واستغرابك في محلّه لأن من قدر على إيجاد وإبداع ما قرأناه عليك من الآيات والدلائل المبرهنة على وجوب وجود مبدئ قادر حكيم أوجد الأشياء كلّها من العدم الصرف إلى الوجودات السامية الكاملة كخلق الفلكيّات وما فيها من جلائل المخلوقات وعجيبها ممّا أشرنا إليه من المدركات وممّا لم تصل إليه عقولنا ولم يستوعبه إدراكنا مع العلم بأن إعادة المعدوم الذي كان موجودا أسهل وأيسر ، فكيف بما ابتدعه سبحانه من العدم وأوجده بقدرته؟ والقول (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كلام مقول لقولهم العجيب الدال على إنكار البعث مع أن الموت خلع للباس الحيوانيّة ولبس للباس الترابية ، ثم عود لترميم ذلك البناء وبعث للروح فيه ، وهم لا يتعقّلون أن خلقهم الأول أعظم من بعثهم بعد الفناء ، ومن قدر على الأقوى الأصعب الأكمل ، كان أقدر على الأقلّ الأسهل الأضعف بالأولويّة. فالذين ينكرون ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وأنكروه ولم يعترفوا به وبوحدانيّته وقدرته (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ستوضع قيود سلاسل النار في رقابهم يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.

٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) ... وذلك بأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بقوله. وهذا يعني أنهم يطلبون منك تعجيل العذاب والعقوبة التي قرّرها الله سبحانه لهم وأخّرها إلى القيامة وصرفها عن هذه الأمة ببركة وجودك فيها ، وهذا التأخير خير للأمة وعافية لها ، ولذا عبّر عنه (ص) بالحسنة في الآية الكريمة لأنه تعالى أحسن إليه (ص) وإلى أمّته بذلك التأخير لاحتمال أن يوفّق العاصي للتوبة والإنابة خلال هذه المدة ، ولكن الكافرين استعجلوا العقوبة قبل حلول المدة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي مضت قبلهم عقوبات

أمثالهم من المكذّبين للرّسل كالخسف والمسخ والرجفة ، فلم لا يعتبرون ولا يخافون أن يعذّبهم الله في الدّنيا بعذاب الاستئصال قبل يوم القيامة وهم غافلون عن ذلك جاهلون لما يمكن أن يصيبهم. والمثلات : جمع مثلة ، كالمثل الذي يعني ما أصاب القرون الماضية من العذاب ، وهي عبر يعتبر بها وقد جاءت بمعنى مطلق لتنوّه بالتنكيل والعقوبة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي هو لطيف بهم متجاوز عنهم بالرغم من الحالة التي هم عليها من ظلم أنفسهم باقتراف الذنوب واكتساب الآثام. وهذه الآية الكريمة أرجي آية في كتاب الله عزوجل لأن المغفرة فيها لم تكن معلّقة على المشيئة ولا مقيّدة بها بل وقعت مطلقة ومرسلة ، ولذا قال المرتضى (قدس‌سره) : في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمؤمنين من أهل القبلة ، لأنه سبحانه دلّنا على أنه تعالى يغفر لهم مع كونهم ظالمين ، فإن قوله : على ظلمهم ، إشارة إلى الحالة التي يكونون عليها ظالمين كقولك : أنا أودّ فلانا على عيبه ونقصه .. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) فيها أن الآية الكريمة تمهّد لقاعدة الخوف والرجاء في آن واحد. ولمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ عيش أحد ، ولولا وعيده تعالى لما عمل أحد اتّكاء على عفوه ومغفرته. فلا بد من الرجاء والخوف. وأما مذهب المعتزلة فهو أن الكبائر لا تغفر ، وقد قال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد نزل القرآن بخلاف قولهم ، قال جلّ جلاله : وإن ربّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وقلنا ما فيها قيد فنأخذ بإطلاقه كما أشار ردّا على المعتزلة.

٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ... : هذه الآية الشريفة ، من باب الطفرة عن الجواب ، حيث إنّهم لم يعتنوا بالآيات المنزلة واقترحوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كعصا موسى وإحياء الموتى ونحوهما من المعاجز التي صدرت عن الأنبياء قبله صلوات الله عليهم. فالله تعالى لم يعتن بما سألوه من نزول آية معجزة عليه ، بل قال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فعصرك عصر فهم وفصاحة وخطابة وبلاغة ، ويكفيك القرآن

معجزة تتحداهم بها ، وما عليك إلّا الإتيان بما يصدّق رسالتك ويدلّ على أنك منذر : مخوّف والآيات كلّها متساوية في حصول الغرض ولو أثّرت أيّة معجزة لأثّرت معجزتك الباهرة ، لأن العصا وإحياء الموتى وغيرهما من المعجزات لم تؤثر في ذوي القلوب القاسية التي طبع عليها بالكفر والإنكار ، وإذا لم يؤثّر القرآن في قومك فلن يؤثر بهم شيء ولو حوّلت الصّفا لهم ذهبا. ولم يجبهم سبحانه إلى طلبهم ولا اعتنى بسؤالهم ولم ينزل عليهم آية لأنه لو أجاب إلى ذلك لاقترح قوم آخرون آية أخرى ، وكذلك كل كافر يطلب ما يلائم طبعه ويوافق هواه وهذا يؤدّي إلى غير نهاية ، فسدّ الله سبحانه هذا الباب وأعطاهم مما يلائم عصرهم وأنزل القرآن الذي بهر العقول وحيّر الألباب ، كما أعطى داود عليه‌السلام في عصره الصوت الحسن وترتيل المزامير الذي كانت تتجاوب معه الطيور والوديان والجبال وسائر المخلوقات ، وأعطى سليمان عليه‌السلام الملك والعزّ والجاه ولغة الطير وسائر المخلوقات وما لا ينبغي لأحد من بعده ، وأعطى موسى عليه‌السلام شيئا يبطل السحر ، وأعطى عيسى عليه‌السلام ما تفوّق به على علمهم وطبّهم وجميع قدراتهم ، ثم أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يلائم عصره : عصر البيان والبلاغة والفصاحة ، وأنزل عليه من فضله ما لم ينزل على غيره ، أي كتابه المبين الذي فيه علم الأولين والآخرين وفيه تبيان كل شيء ، ذلك الكتاب الذي تحدّى الأفهام ونادى على رؤوس الأشهاد في جزيرة العرب وفي الناس أجمعين : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) فلم يأتوا بسورة ولا بآية!. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) يهديهم ويدلّهم ، وداع يرشدهم إلى ما فيه الصلاح ، وليس إليك ـ يا محمد ـ إنزال الآيات للدلالة على نبوّتك ورسالتك. وعن ابن عباس قال : لمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا المنذر ، وعليّ الهادي من بعدي. يا عليّ بك يهتدي المهتدون. وعن الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل عن أبي بردة الأسلمي قال : دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالطّهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله بيد عليّ بعد ما تطهر

فألزمها بصدره ثم قال : إنما أنت منذر خطابا إلى نفسه ثم ردّها إلى صدر عليّ ثم قال : ولكلّ قوم هاد ، ثم قال : أنت منارة الهدى ، وغاية الأنام ، وأمير القرى ، وأشهد على ذلك أنك كذلك. وبهذا المعنى روايات كثيرة صدرت عن العامّة والخاصّة فليراجع من شاء المزيد.

* * *

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ... : أي أنه سبحانه يعلم حمل المرأة ذكرا كان أم أنثى أم سقطا لأنه يعلم ماذا خلق ، ويعلم (ما تَغِيضُ) أي تنقص (الْأَرْحامُ) فتضع المولود قبل تمام تسعة أشهر ، أو ما تسقطه قبل تمامه ويعلم (وَما تَزْدادُ) من حيث المدّة والخلقة وغيرهما (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر وحكمة وكما ينبغي أن تتوفر المصلحة وتعمّ المنفعة ، فترى أن الولد حين يولد يدرّ له الثدي لبنا خاثرا يسمى اللباء الذي يكون خلوا من المواد الغذائية أولا إلّا أنه حاو لموادّ مليّنة تساعد على تنظيف أمعائه من فضلات المواد اللّزجة المتولّدة أثناء مدة تغذيته في الرّحم من الدم الذي كان محبوسا فيه ، ثم يتطوّر لبن أمّه بعد ذلك

بتطوّر حاجات أعضاء الطفل وتقدّم سنّه وتبدّل قواه ونمو جسمه ، فتزداد الموادّ الغذائية في اللبن تبعا لحاجته من المواد الدهنيّة والسكريّة ، وتقلّ المواد الزلاليّة والملحيّة الأولى إلى أن يصبح لبن أمه طعاما كاملا يكفي لتغذيته وإنبات لحمه وشدّ عظمه بحيث يجري كل ذلك رغم أن المرضع هي هي لم تتغير ولم تتبدّل في مأكل ولا في مشرب ، وهذا هو من صنع الله سبحانه الذي أتقن كل شيء بقدرته ورتّب مثل هذه الأمور بحكمته. وإنك لترى والشجر في البراري مجدبا قاحلا أثناء فصل المطر والشتاء حيث يكثر المطر وترتفع الرطوبة فيتساقط ورقه ، ثم لمّا يقدم الربيع بحرارته اللطيفة ورطوبته الخفيفة يرى الشجر قد عاد إلى الحياة مزدهرا يانعا مكسوّا بالورق الجميل والزهر العطر بادي الخضرة زاهيا في مظهره مع أن الطبيعة تقتضي كونه كذلك حين وجود الماء والمطر والرطوبة ، كما يجب أن تقتضي يباسه حين اشتداد الحرارة وقلة الأمطار والمياه ، فسبحان المدبّر الحكيم الصانع العليم الذي هو :

٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) : الذي لا يخفى عليه ما غاب أمره عن مخلوقاته في الأرض أو في السماء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما ، يعرف ما شوهد وما خفي فلم تدركه الحواسّ ، لأنه (الْكَبِيرُ) في قدرته وعلمه (الْمُتَعالِ) في شأنه وعظمته وملكه الذي كل شيء بجنب عزّه وجلاله حقير ، وكلّ عزيز من مخلوقاته يكون بالنسبة إليه ذليلا عاجزا لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا يدفع عنها سوءا.

١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) ... أي يستوي عنده من أخفى شيئا في نفسه ومن أعلنه ، فانه لا تخفى عليه خافية وسواء عنده من هو (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي طالب للخفاء فيه يستر نفسه عن أن يراه أحد ، ومن هو (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ذاهب في سربه متّبع طريقه في سبيل عمله اليوميّ علنا وجهرا ، فإنه لا يخفى عليه سبحانه لا هذا ولا ذاك ، لا المختبئ المستتر ولا الظاهر البارز ، وعن الباقر عليه‌السلام : يعني السرّ والعلانية عنده تعالى سواء.

١١ ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ... : أي أنه سبحانه جعل للإنسان ملائكة يتعاقبون في حفظه أمامه ووراءه ومن جميع جهاته وقد ذكر جهتين إمّا من أجل المثل أو من باب الأهميّة التي تعبّر عن رقابته لمخلوقه ، وفي قراءتهم عليهم‌السلام : له معقّبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه من أمر الله. وعن الباقر عليه‌السلام (مِنْ أَمْرِ اللهِ) يقول : بأمر الله من أن يقع في ركيّ (أي بئر) أو يقع عليه حائط ، أو يصيب شيء ، حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل ، وملكان يحفظانه بالنهار ، يتعاقبانه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من عافية أو نعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة بالمعصية أو العكس. وفي الأثر أنه لمّا أكدّ تحريم الخمر كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمرّ يوما في بعض طرق المدينة فإذا شابّ أنصاريّ وعلى رأسه قربة شراب ، فلمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر لونه وخاف خوفا شديدا ولم يجد سبيلا إلى الفرار ، فناجى ربّه سرّا قائلا : اللهم إنّك إن سترت عليّ أمري فأنا أتوب إليك من عملي هذا ـ وكان شارب الخمر ـ فوصل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله النبيّ : ما على رأسك؟. فقال (خَوْفاً) : خلّ يا رسول الله. فقال رسول الله (ص) : جئنا حتى نشرب قليلا. فجاء به وهو يرتعش ، فرآه النبيّ (ص) قد تحوّل إلى خلّ خالص فشرب (ص) منه وسقى أصحابه الذين كانوا معه ، فتعجّب الشابّ وقال : يا رسول الله ، وحقّ من بعثك بالرسالة إن هذا كان خمرا خالصا. فقال (ص) : صدقت ، لكن لمّا رأيتني وتبت إلى ربّك إن ستر عليك أمرك فالله تعالى صيّر الخمر خلّا بقدرته الكاملة حتى لا تفتضح عندنا. فالله تعالى نظر إلى صدق نيّتك ، ثم تلا هذه الآية : إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا وبلاء (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا مدفع له ولا يستطيع أحد إرجاعه (وَما لَهُمْ) للناس جميعا فإنهم ليس لهم (مِنْ والٍ) مالك يقدر أن يلي أمورهم ويستطيع أن يرد السوء عنهم ويتولّى مصالحهم وجميع شؤونهم.

* * *

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ... أي خوفا من نزول الصواعق وأذاها المحرق ، أي أنه سبحانه يرسل البرق نذيرا لمن كان يريد أن يعمل أو يريد أن يسافر أو لمن يضرّه المطر ، فإن البرق يبشّر بهطول الغيث ولذلك قال تعالى : (طَمَعاً) في نزول المطر لمن كان ينتظره أو يرغب فيه لزرعه وماشيته ونفسه. وخوفا وطمعا حالان منصوبان من البرق بإضمار : ذا (وَ) هو سبحانه (يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) ... الغيوم المثقلة بالماء ، والثقال : جمع الثقيلة لأن الماء ذا وزن وثقل. والسحاب : اسم جنس بمعنى الجمع ولذا وصفها سبحانه بالثقال. والإنشاء هو الاختراع والإيجاد ، أي : أوجد السحاب في الجوّ وابتدعها في الهواء بإرادته وقدرته. وفي بعض الأخبار فسّر قوله : ينشئ ، برفعها من الأرض ، وهذا يتفق مع قول من يقول بتبخرّ المياه من الماء وغيره ممّا يحمل الرطوبات ثم ينعقد البخار غيوما فيرسل الله عليه الريح الباردة فتحوّل البخار قطرات ماء في الجو.

١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ... : روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الرعد فقال : ملك موكّل بالسحاب معه

مخاريق من نار يسوق بها السحاب. والمخاريق : جمع مخراق ، وهو بالأصل ثوب يلفّ ويضرب به الصّبيان بعضهم بعضا وهو معروف عند الناس ويسمّى بالفارسية (درنه) والمراد به هنا البرق ، يعني أن البرق آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه. وعن ابن عباس : البرق سوط من نور الله تزجر الملائكة به السحاب. واعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى ، بيان ذلك أن السحاب جسم مركّب من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائيّة وناريّة ، ولا شك أن الأجزاء الغالبة هي المائية ، والماء جسم رطب بارد ، والنار جسم حارّ يابس. وقد كوّن السحاب الضدّ مع الضدّ ، وأظهر الضدّ من الضدّ حين أظهر منه البرق ، وذلك على خلاف العقل والعادة ، فلا بد من صانع قادر مختار يظهر الضدّ من الضد. وقد أجيب عن هذه المسائل بأجوبة علميّة بعضها صحيح قطعا كحصول البرق من احتكاك الغيوم ببعضها ونشوء كهربائيتها وبعضها لا محصّل له ، وكلّها تجعلنا نعترف بعدم وصول عقولنا وأفهامنا إلى معرفة أسباب جميع الآيات الأرضية ، فكيف بالسماء وآياتها التي تصدر عن قادر حكيم وليست أمرا طبيعيّا سهلا يمكن تفسيره ، فسبحان من أنشأ السماوات والأرض وما فيهما وبينهما من العدم وجعلها آيات بيّنات لقوم يعقلون!.

وأما كيفية تسبيح الرعد ، فلو قلنا بما في الرواية التي ذكرناها سابقا من أن الرّعد ملك فإن تسبيح الملك ليس بعجيب إذ أن الملائكة خلقت للتسبيح الدائم والتعظيم بجانب ما تقدم به من وظائفها ، وإنّ التسبيح بالنسبة للملائكة هو كالغذاء بالنسبة لبني آدم. ومع قطع النظر عما في الرواية فإن الرعد هو صوت السحاب ، وصوته هو تسبيحه كما أن حفيف الشجر ودويّ الماء ـ صوتهما المسموع منها عند الحركة ـ هو تسبيحهما على ما هو مذكور في بعض أدعية الإمام عليه‌السلام. هذا ، وكون الرعد صوت السحاب يستفاد من بعض الروايات في الباب ، ففي الأمالي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رجلا من أصحابه إلى بعض جبابرة العرب يدعوه إلى الله فلم يقبل فأرجعه إليه ثانيا وثالثا ، وبينا هو يكلّمه إذ رعدت

سحابة ألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه. ويستفاد من قوله : رعدت سحابة ، أن الرعد هو صوت السحابة ، تماما كما يقول العلم الحديث الذي تكلم عن احتكاك ذرأت الغيوم وتولّد البرق والرعد. فتسبيح كل شيء بحسبه ، وهو في المقام من باب نسبة الفعل إلى من هو له ، فإن القاعدة الأوليّة تقتضي أن ينسب التسبيح إلى السحاب لا إلى صوته الذي هو نفس التسبيح ، إلّا أن هذا من حسن الكلام وبلاغته. هذا ، وقد رأينا أن الجبال قد سبّحت في عهد داود عليه‌السلام ، والشجرة قد قدّست. في زمن موسى عليه‌السلام وخرج الصوت منها : إنّي أنا الله ـ وذكر الجلالة أكبر ذكر ـ كما أن الحصى سبّح بيد نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مضافا إلى قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ من الحيوان ، والنبات ، والجماد ـ (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) تسبيحهم ، بل يعرفه المبدع الحكيم القدير الصانع المتقن لما صنعه ، مهما فسّرتم ذلك وكيفما حلّلتموه بحسب عقولكم وعلمكم ، واقتنعتم به أم لم تقتنعوا ، فهو عزوجل وحده يعرف تسبيحها الذي كلّفها به وأنطقها به (و) هو الذي (يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) والصواعق : جمع صاعقة ، وهي النّار التي تسقط من السماء أثناء الرعد الشديد والبرق الخاطف ، وكلّ عذاب مهلك يقال له الصاعقة ، وهي ما يتكوّن في الجو وينزل لعذاب البشر العصاة وإهلاكهم مع حيواناتهم وشجرهم ونباتهم ومزروعاتهم ، كالشّهب التي تتكوّن في السماء لطرد الشياطين والجنّ عن أبواب السماء ولإهلاكهم (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي هؤلاء الجهلة يحاجّون ويخاصمون في قدرة الله مع ما يشاهدونه من الآيات الدالة ، فيعترضون على أهل التوحيد ليضلوهم عن طريق الحق. والجدال لغة ، فتل الخصم عن مذهبه ولو كان حقّا ، فأمر الصاعقة ـ مع نشوئها من السحاب ـ أمر عجيب ، وإنشاؤها محرقة من الغيمة المملوءة بالماء أمر مذهل ، وكونها نارا وأنها قد تغوص في ماء البحر فتحرق الحيتان والسمك أمر أعجب وأكبر إذ لا يطفئها ماء البحر ولو غاصت في لججه لكمال قوّتها وشدّة حدّتها ، ولقد رآها من يوثق به تنزل على المسامير الحديدية فتحرقها

وتحلّلها إلى فحوم ورماد بحيث تفقد حديديّتها وصلابتها! .. أجل ، إن أمر الصاعقة التي هي نار حادّة فوق حدة النار التي نعرفها ، يدهش العقل ويحيّر الألباب لهذا الضد يخرج من ضدّه ، ويبرهن على قدرة ربّ عظيم قادر حكيم. وعلى هذا فإن قول القائلين بأن السحاب منشئ الرعد ومنشئ الصاعقة لأنهما يحدثان من اصطكاكه ببعضه ، وأنهما أمران طبيعيان وليسا من خوارق العادات ولا ممّا يخرج عن عالم الطّبع والطبيعة ، إن قول هؤلاء القائلين لا ينفي العجب من خروج تلك النار العظيمة من احتكاك ذرّات الماء الرّطبة ، ولا يضعف أهمية هذه الظاهرة المدهشة التي هي كتبريد نار إبراهيم عليه‌السلام وجعلها سلاما عليه بعد أن أعدّت لحرقه. فالصاعقة يمكن أن تتكوّن من أسباب طبيعية ، والله تعالى هو موجدها وموجد أسبابها ، ومعطيها هذه القدرة الغريبة الحارقة الماحقة التي تشق بها الأرض وتسلك بها فجاج البحر ، وهذا كلّه دليل على كمال قدرته تبارك وتعالى وتمام عظمته فيما خلق وأبدع (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قويّ الكيد ، شديد العذاب للمجادلين بالباطل ، تامّ القوة والقدرة عند غضبه وسخطه عليهم.

١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) ... : اختلفوا في معنى دعوة الحق ، وذكروا لها معاني كثيرة ، وأنسب ما يقال في المقام أن المراد بالحق كلمة الإخلاص التي هي قول : لا إله إلّا الله ، أو أن يقال : الحقّ هنا نقيض الباطل ، وهو أحسن ما قيل في تفسيره بقرينة الحصر. وقيل إن الحق هو من أسمائه ، أي أنه الموجود المحقّق الثابت وجوده ، أوله الدعوة المجابة بقرينة قوله بعد ذلك : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي المشركون معه غيره ، الداعون (مِنْ دُونِهِ) سواه (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) لا تستجيب أصنامهم لهم أدعيتهم ولا توصل إليهم شيئا يطلبونه. والآيات يفسّر بعضها بعضا فلعلّ هذه الكريمة مفسرة لما قبلها من قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) : أي الدعوة المجابة فإنه سبحانه يستجيب لمن دعاه إذا كان في المطلوب صلاحا للداعي ، أما

أصنامهم فإنهم حين يبسطون إليها أيديهم بالدعاء ليسوا (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) أي كالعطشان الذي يشير بيديه ليصعد الماء ويبلغ فمه ، فدعاؤهم لأوثانهم كذلك لا يستجاب إلّا إذا استجاب الماء وصعد إلى فم الظمآن بمجرّد الإشارة ببسط اليدين ، فالماء مادة لا تحس ولا تشعر ، والأصنام كذلك لا تسمع ولا تبصر ولا تعي ولا تقدر على شيء ، فليدعوا أمام تلك الأحجار ما شاؤوا (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لا يصادف محل إجابة ليكون في طريقه المستقيم للإجابة.

ولا يخفى أن في الآية الكريمة تعليقا على محال ، وذلك أن إجابة الأصنام لدعاء الكفار ـ افتراضا ـ هي كإجابة الماء لأن يبلغ فم العطشان لمجرّد بسط اليدين له ، فالمعلّق عليه محال والمعلّق كذلك. وقيل إن التشبيه في جهة أخرى وهي أن الكفرة الداعين للأصنام شبّه دعاؤهم بعد الأثر وعدم الفائدة من دعائهم لآلهتهم ، وبمن كان عطشانا وجاء الماء ليشرب وبسط إليه يديه وفرّج أصابعه فخرج الماء من بينها ورفع يديه إلى فيه فارغتين ولم يبلغ الماء فمه إذا لم يبق في كفّيه شيء منه ولم يستفد من طلبه للماء. والحاصل أن التشبيه كان في نفس الداعيين والطالبين لا في فعلهما الذي تجلّى بالدعاء للأصنام وبطلب الماء. والظاهر من الآية لا هذا ولا ذاك ، بل هو تشبيه الأصنام بالماء من حيث أنها لا تشعر ولا تحس ولا تعقل حتى تقدر على الإجابة عند الدعاء. ويحتمل أن يكون التشبيه حاويا لجميع هذه الجهات ، بل لأكثر من هذه الاحتمالات والجمع بين جميعها أولى. ويبعّد القول بأن التشبيه في نفس الفاعلين أحدهما بالآخر أنّ ظاهر الكريمة يقرب إلى غير هذا القول لمكان «إلى» فلو كان النّص هكذا : كباسط كفّيه في الماء ، لأمكن القول بهذا القول ، فتأمّل .. نعم نحن وظاهر الآية مع قطع النظر عن الخصوصيات ، ولا يبعد القول بأن ظاهر قوله تعالى : كباسط كفّيه ، يدلّنا على مدّعى الخصم كما لا يخفى ولا سيّما إذا أخذنا بقول بعض المفسّرين للآية من الذين قالوا : أي كمن يبسط كفّيه للماء يطلب منه أن يبلغ فاه بانتقاله من مكانه ومجيئه إلى فيه ، والماء لا يسمع ولا يعقل.

ثم أخذ سبحانه في بيان قدرته وسعة ملكه وسلطانه فقال عزّ من قائل :

* * *

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

١٥ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... : أي أن كل من في السماوات والأرض شأنه السجود لعظمته سبحانه ويجب عليه السجود. وقد عبّر تبارك وتعالى عن الوجوب بالوقوع والحصول. ويسمّى لهذا بالسجود الشأني ، وهو بهذا المعنى عامّ والمراد به عام. أو أن المراد بالسجود الخضوع والاعتراف بالعبودية ، وهو بهذا المعنى أيضا عامّ لأن كلّ من في السماوات والأرض معترفون ومقرّون بالعبودية ، والعابد خاضع لمعبوده (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي باختياره ، وقهرا ، وكذلك يكون شأن المخلوق لخالقه ، يدلّ على ذلك قوله عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟. لَيَقُولُنَّ : اللهُ) ، وقوله تقدّس اسمه : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، يعني أنهم في الواقع ونفس الأمر كذلك ، وينبغي أن يكونوا كذلك بحكم افتقارهم لموجدهم.

وأما السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض ـ أي السجود الشرعي وباصطلاح أهل الشرع ـ فليس بمراد في هذه الآية على ما هو الظاهر المستفاد منها. فإن أهل السماوات والأرض ليس سجودهم هكذا ، ولا أكثر أهل الأرض من المسلمين ، وكذلك الكفرة الذين يسجدون كرها وخوفا من السيف وطمعا في المال فإنهم ليسوا مقيّدين بأصل السجود فضلا عن المسجود له .. والأحسن في المقام أن يقال إن السجود اسم جنس وهو يطلق على جميع أقسامه ، والسجود من كل شيء يكون بحسبه ، ولعلّ المعنيّ بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، هو المعنى العام ، فلا

إشكال في المقام والله أعلم بما قال. فكل شيء يسجد له سبحانه عند رغبة ورضا وتسليم كالملائكة والمؤمنين من الإنس والجن ، وعن غير رغبة ، بل اضطرارا وجبرا كما في الكفرة والفجرة فإن السجود أصعب عليهم من جميع العبادات كالصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام ، فإنهم إن تعبّدوا لله بشيء من ذلك فإنما يتعبّدون مكرهين غير طائعين (وَ) كذلك تسجد (ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) وهم في إكراههم على السجود يشبهون حال ملازمة ظلالهم في الغدوّ والآصال. والغدوة هي البكرة أو بين طلوع الفجر وشروق الشمس ، والآصال : جمع أصيل ، وهو هنا الوقت الواقع بين العصر والمغرب. وظلالهم عطف على : من كما لا يخفى. ولا يخفى أيضا أن لكل حادث ظلّا يتبع صاحبه في السجدة أو عدمها. وقيل إن كان ظلّ يسجد لله تعالى ولو كان ذو الظلّ لا يسجد ، أو إذا سجد ، سجد لغيره تعالى. وسجدة الظّل هي حركته التبعيّة من طرف إلى آخر ومن جهة إلى أخرى. والتخصيص بوقتي الغدوّ والآصال إما لخصوصية في هذين الوقتين لأن امتداد الظلّ يكون فيهما أظهر ، أو هو كناية عن الدّوام : أي منذ الصباح إلى المساء ومدة وجود النور. وقيل : أريد بالظلّ الجسد لأنه ظلّ الروح ، وهو ظلمانيّ والرّوح نورانيّ ، وهو تابع له يتحرك بحركته النفسانية ويسكن بسكونه النفساني ، والله أعلم.

* * *

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ

خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

١٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... قد أظهر قدرته الكاملة سبحانه بقوله : يا محمد اسألهم : من ربّ السماوات والأرض وخالقهما ومتولّي أمرهما؟. فإن لم يجيبوا فأجب عنهم : هو (اللهُ) إذ لا جواب غيره ولأن هذا الجواب بيّن لا مرية فيه شاؤوا أم أبوا. ثم ألزمهم الحجة (قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ؟) الهمزة للإنكار ، أي : فكيف اتّخذتم غيره يتولّى شؤونكم مع أن الأصنام التي اتخذتموها لا تملك نفعا ولا ضرّا .. وبعد إلزام الحجة ضرب سبحانه مثلا فقال : سلهم يا محمد : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي الكفر والإيمان؟. والحاصل أنه لا يستوي من يعيش في ظلمة الكفر والشّرك ولا يبصر شيئا ، مع من هو في نور الإيمان وحقيقة اليقين والمعرفة مع الحجج والبراهين الساطعة ، يبصر ويرى ولا يخفى عليه شيء في طريقه لأنه ينظر بنور الله!. فهما ليسا متساويين كما أن الظّلمة والنور لا تتساويان ، والكفر والإيمان لا يتساويان لأنهما المميّزان بين الكافر والمؤمن وهما أولى بعدم التساوي (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الهمزة فيها للإنكار. وحاصل الآية الكريمة أنهم ما اتّخذوا لله شركاء مثله تعالى في القدرة والخلق حتى يشتبه الأمر على النّاس ، ولا كان من شبه بين الله وما أشركوه معه ، ولا بين

مخلوقين له ولشركائه ، حتى يتشابه ما خلقه وما خلقته أصنامهم ، فيحتجّون بأن أصنامهم تستحقّ العبادة لأنها تخلق وترزق ، بل الشركاء كانت غير عاقلة وغير قادرة على شيء ، فتعالى الله عما يقول الكافرون (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) المتوحّد في الرّبوبيّة ، الغالب على كل شيء القاهر لكل جبّار عنيد.

١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... أي مطرا (فَسالَتْ) منه (أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو المنخفض بين الجبلين الذي تجري فيه المياه (بِقَدَرِها) أي بقدر اتّساع المجاري وضيقها ، وبحسب مساقطها وعلى قدر استعدادها في الصغر والكبر ، أو على حسب المصلحة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أن السيل جرف معه ما استعلى على وجهه من ذلك الأبيض المنتفخ فقاقيع وأوساخا. والرّابي هو العالي الذي ربا وكثر (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) خبر مقدّم والمبتدأ (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثلما يعلو الزبد على وجه الماء حين حركته وجريانه الشديد ، يعلو على صفحته ما يوقد عليه النّار عند تذويبه كأنواع الفلزّات من حديد وذهب وفضّة ، لطلب زينة أو لأي انتفاع آخر كالأواني والآلات للزرع والصناعة وغير ذلك مما يحتاج إليه البشر. فإن الحاصل من تلك المعادن عند تذويبها يكون على سطحه زبد كزبد السيل وهو خبث المعادن وغشّها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي كذلك يشبّه الإيمان والكفر بالبصير والأعمى ، وبالنور والظّلمة ، فالحقّ والايمان شبّههما بالماء الصافي النافع للخلق المستقر في الأودية للانتفاع ، وشبّه الباطل والكفر بالزبد الذاهب الذي لا ينتفع به أبدا ، تماما كزبد الفلزّات الذي يطرح في الأرض ولا يفيد بعد أن ينفصل عن المعدن الخالص النقيّ المفيد.

أما الوجه في بيان نوعين من الزّبد ، فيحتمل أن يكون لتعميم الفائدة على البشر ، فإن عامّة المقيمين في الحواضر والمدن لا يرون السيل ولا المياه الجارفة التي تحمل الأوساخ والأتربة ومختلف المواد ، ولا رأوا زبدها الطافي على وجه المياه ولا كيف يكون في نفسه ، فأورد ذكر زبد الفلزّات والمعادن التي يمارسها سكّان المدن ويذوّبونها ويرون زبدها حين صهر الحديد وحين

صهر المعادن الثمينة للصياغة ، ويرمون زبدها التافه الذي لا فائدة منه. أما أهل القرى والبوادي الساكنون في الأرياف فهم من أهل البساتين والزرع ويرون زبد السيل الجارف ويشاهدونه كلّ سنة بأمّ أعينهم ، والله أعلم بما قال وما عنى.

١٨ ـ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) ... أي للّذين سمعوا دعوة ربّهم الحسنى وآمنوا بها وأجابوا داعيه ، لهم الحسنى (وَالَّذِينَ) ما أطاعوه ولا آمنوا به ولا أجابوا دعوته (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ثم يضاعف لهم أيضا معه (مِثْلَهُ) ثم جعلوا ذلك كلّه فدية عن أنفسهم من العذاب يوم القيامة لا يقبل منهم ، ولهم يومئذ (سُوءُ الْحِسابِ) أي أسوأه وأتعسه. وقد روي أنه لا يقبل لهم حسنة ولا يغفر لهم سيئة. وقيل يناقشون في حسابهم ، ومن نوقش في حسابه عذّب. كما أنه قيل : إنه سوء الجزاء ، ولهم أيضا (بِئْسَ الْمِهادُ) جمع مهد : وهو ما يفرش للنوم ، ومحلّ الراحة للطفل ولغيره مطلقا ، فمهادهم في الآخرة أسوأ مهاد في نار جهنم.

* * *

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

١٩ ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ ... كَمَنْ هُوَ أَعْمى) ... أي ليس من يعرف أنّ ما أنزل إليك من القرآن حقّ ، كالذي هو أعمى القلب والبصيرة. وهذه الآية الكريمة تحثّ على طلب العلم للوصول إلى المعرفة الحقّة ، لأنه إذا كان حال الجاهل كحال الأعمى ، وحال العالم كحال البصير ، وأمكن لهذا الأعمى أن يصير بصيرا فما الذي يقعده عن طلب العلم الذي يخرجه من حال العمى إلى حال الإبصار؟. فلزم أن يجتهد تمام الاجتهاد حتى يصير بصيرا وينجّي نفسه من عمى الجهل والضلال.

٢٠ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ... أي بما عقدوه على أنفسهم لله سبحانه (وَلا يَنْقُضُونَ) أي لا ينكثون ويبطلون (الْمِيثاقَ) وهو ما أوثقوا نفوسهم به فيما بينهم وبينه تعالى أو بينهم وبين العباد ، وهو تعميم بعد التخصيص لأن الميثاق أعم. والعهد هو العقد بين العبد والخالق ، أو بين المخلوق والمخلوق ، ينبغي القيام بشروطه غير متقوصة. فالذين يوفون بعهودهم ومواثيقهم.

٢١ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ... هم أيضا ـ عطفا على من سبق من المؤمنين الموفين بعهودهم ، يقومون بأوامر الله تعالى ونواهيه. وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في رحم آل محمد ، وقد تكون في قرابتك. وعنه عليه‌السلام : الرّحم معلّقة بالعرش تقول : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، وهو رحم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قول الله : والّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ورحم كلّ ذي رحم (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عن الصادق عليه‌السلام أيضا : لو لم يكن للحساب مهولة ـ أي مخافة وهولا ـ إلّا حياء العرض على الله وهتك الستر على المخفيّات لحقّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال ، ولا يأوي إلى عمران ، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام إلّا عن اضطرار متّصل بالتلف.

أجل ، فهؤلاء ومن سبقهم ، ومن يليهم ، هم :

٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) ... أي صبروا على القيام

بأوامره وتكاليفه الشاقّة ، وعلى المصائب العسرة التي يلاقونها في دار الدّنيا ، وعن معاصي الله وكافّة نواهيه ، طلبا لرضاه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالطاعة المعصية ، وبالعمل الصالح العمل القبيح ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمعاذ بن جبل : إذا عملت سيئة فاعمل حسنة بجنبها تمحها ، وكما عن الصادق عليه‌السلام إذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : ما من دار فرحة إلّا تبعتها ترحة ، وما من همّ إلّا وله فرج إلّا همّ أهل النار. إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها سريعا. وعليك بصنائع الخير إنها تدفع مصارع السوء. وإنما قال له ذلك على حدّ تأديب الناس لا لأن لأمير المؤمنين عليه‌السلام سيئات عملها. و (عُقْبَى الدَّارِ) عاقبتها الحسنة.

فالمؤمنون بعهودهم ، والواصلون ما أمر الله بوصله ، الصابرون ابتغاء وجه الله جميعهم لهم :

٢٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ... وهذه الآية إلى آخر الآية التالية وقوله : بما صبرتم ، بيان لعقبى الدار. وقد روي أنها نزلت في الائمة عليهم‌السلام وشيعتهم الّذين صبروا ، وعن الصادق عليه‌السلام : نحن صبّر ، وشيعتنا أصبر منّا ، لأنّا صبرنا بعلم ، وشيعتنا صبروا على ما لا يعلمون. ويوم القيامة يقال لهؤلاء الّذين نزلت فيهم الآيات الثلاث بعد أن يدخلوا الجنّة ويتبوّءوا دار الكرامة :

٢٤ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) ... أي يسلّمون عليهم ويحيّونهم ، والآية الكريمة تهنئة من الرّب تعالى لأوليائه حين يستقرون في غرف الجنان بإذنه تعالى ، فيبعث للمؤمن ألف ملك يهنّئونه بالجنّة ويزوّجونه بالحور العين وهو في غرفة لها ألف باب وعلى كل باب منها ملك موكّل به ، فإذا أذن لرسل ربّه بالدخول عليه فتح كلّ ملك بابه الّذي قد وكّل به ، فيدخل كل ملك من المبعوثين من باب من أبواب الغرفة فيبلّغون رسالة الجبّار ، وذلك قول الله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) يقولون

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) إلخ ...

* * *

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦))

٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ... أي يدعون ما أوثقوا به أنفسهم من الإقرار والقبول. وقد روي أنها في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث أخذ الله تعالى ميثاق ولايته عليهم في عالم الذّر ، وأخذه عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم ، فكان يوم الغدير تجديدا لعهد عالم الذّر ، وتذكارا له. وهذه الآية المباركة على طرف نقيض مع الآية السابقة. فالّذين ينقضون ذلك العهد (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بتهييج الفتن والحروب والظلم والفتن ، أولئك لهم (سُوءُ الدَّارِ) أي عذاب يوم القيامة ومصيره السيّء.

٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ... أي : يوسّع الرّزق ، و (يَقْدِرُ) ه : يضيّقه بحسب المصلحة التي تخفى علينا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي أن الدنيا في جنب الآخرة متاع زائل يتمتّع به قليلا ويبلى ويزول.

* * *

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا

 وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ... أي يطلبون معجزة كعصا موسى وناقة صالح عليهما‌السلام ، فقل لهم يا محمد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يخذله بسوء فعله ويحرمه عنايته لعدم اعتداده بالآيات المنزلة. فإن الكفرة والجاحدين لعنهم الله لا يقبلون ولا يؤمنون بكلّ آية من الآيات. وأما طلبهم الآية فهو من باب التفنّن في الجدل في رؤيتهم للآيات وإيذائهم للأنبياء والرّسل ، ولو علم الله فيهم خيرا لأنزل الآيات ولم يبخل ولا كان عاجزا بل هو منزّه عن البخل والعجز فيّاض على الإطلاق وهو على كل شيء قدير ، ولكنه لم يعتن بطلبهم ولم ينزّل عليهم غير ما نزّل على حسب اقتضاء الظروف والمصالح كما بيّنا قبلا. و (مَنْ أَنابَ) أي رجع عن الفساد وأقبل على الحقّ بالطاعة.

٢٨ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) ... هذه الشريفة بيان ، أو صفة للموصول ، أو بدل. والمراد ب «الذكر» فيها هو محمد نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عن الصادق عليه‌السلام إذ قال : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله تطمئنّ القلوب وهو ذكر الله وحجابه. وقيل : هو أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض الروايات ، فإن الّذين آمنوا هم الشيعة ، وذكر الله أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام. وقيل هو ما وعد الله به من النعيم والثواب ، فإن وعده سبحانه صادق ولا شيء تطمئنّ النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق كما هو مجرّب بين العباد ، فكيف به بين العباد والمعبود وهو

أصدق الصادقين؟. وقيل : الذكر هو المعرفة ، واعلم أن الإكسير إذا وقعت ذرة منه على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كرّ الدهور والأزمان لا يفسده شيء حتى ولو وقع تحت التراب فإنه لا يتطرّق إليه الفساد ولا يؤثر فيه التّراب. أما إكسير معرفة الله وجلاله وعظمته فإنها إذا وقعت في القلب تنقلب جوهرا صافيا باقيا نورانيّا لا يقبل التغيّر ولا الفناء ولا التبدّل ، ولذلك قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تقرّ وتهدأ.

وبعبارة أخرى : الموجودات على ثلاثة أقسام : مؤثّر لا يتأثر وهو البارئ تعالى. ومتأثّر لا يؤثّر وهو الجسم الذي ليس له إلّا القبول والانفعال. ثم الموجود الذي يؤثّر في شيء ويتأثّر عن شيء ، وهو الموجود الرّوحاني ، ذلك أن الموجودات الروحانيّة إذا توجّهت إلى جهة اللاهوتيّة وإلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله وقدرته وتكوينه وإيجاده فأوجدت وتكوّنت وتأثّرت ، وإذا توجّهت إلى عالم الناسوت والأجسام اشتاقت إلى التصرّف فيها ، ذلك أن عالم الأرواح مدبّر لعالم الأجسام. وبالنتيجة فإن القلب كلّما توجّه إلى مطالعة عالم الأجسام ، كلما حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرّف فيها. أما إذا توجّه إلى مطالعة حضرة الإله المعبود ، فإنه تحصل فيه أنوار الصمديّة الإلهية فيسكن ويطمئنّ بذكره ومعرفته ، فبذكره عزوجل والتوجّه إليه تطمئن قلوب العارفين والمؤمنين. والذكر والتوجّه إنما ينشئان من المعرفة التي لولاها لما كانا أبدا.

٢٩ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا ... طُوبى لَهُمْ) ... قيل : طوبى : مصدر من الطيب ، وقيل هو مؤنّث : أطيب. وعن الصادق عليه‌السلام : طوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلّا أتاه به ذلك الغصن. ولو أن راكبا مجدّا سار في ظلّها مائة عام ما خرج منه. ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما!. ألا ففي ذلك فارغبوا.

٣٠ ـ (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) ... أي : كما أرسلنا الرّسل قبلك (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة. فأمّتك آخر الأمم وأنت آخر الرّسل (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو القرآن الذي أنزلناه عليك لتدعوهم إلى الله ... (وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعني : إليه توبتي ومآبي ورجوعي. وروي أن جمعا من قريش كأبي جهل وعبد الله بن أميّة وأتباعهما ، كانوا جالسين حول الكعبة ، فأحضروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا له : أنت تدّعي الرسالة من عند ربّك وتقول : هذا القرآن نزل عليك من عنده. فإذا كنت تريد أن نصدّقك فيما تقول ونتابعك وندين بدينك فاقرأ هذا القرآن على جبال مكة حتى تزول من أمكنتها وتسير إلى أمكنة أخرى حتى توسّع علينا الأرض ، واقرأه على أرضنا حتى تتقطّع وتتشقّق فتجري لنا أنهارا وعيونا فنستريح من الضائقة ونشرب المياه العذبة ونزرع ما نريد ، ثم أحي قصيّ بن كلاب من أجدادك مع أجدادنا حتى ننظر ما يقولون فيما تقوله فنؤمن بك إن آمنوا بك وصدّقوك. وأنت تقول إنك مثل عيسى بن مريم ، بل أعلى منزلة منه ، وإنه كان يحيي الموتى ويشفي المرضى ، فأت أنت أيضا بمثل تلك المعاجز حتى نؤمن بك وبما جئت به من كتابك ، فنزلت هذه الكريمة.

* * *

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ

 كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) ... أي زعزعت عن مقارّها وأزيلت عن مواضعها بقراءة القرآن عليها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي تشقّقت وتصدّعت حتى تخرج منها أنهار وعيون (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بعد إحيائهم بقراءته عليهم ، فيسمعون ويجيبون. وجواب (لَوْ) محذوف ، والتقدير : لكان هذا القرآن ، أو : لما آمنوا لفرط عنادهم. وعند البعض جوابها مقدّم وهو قوله تعالى : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وما بينهما اعتراض. أمّا تذكير قوله تعالى : (كُلِّمَ) خاصة ، فلأنّ الموتى فيها مذكّر حقيقي فغلّب جانبه ، والعلم عند الله تعالى. وقيل إن معنى الآية باختصار : أنه لو كانت الجبال تتزعزع والأرض تتصدّع ، والموتى تكلّم بكتاب من الكتب السماويّة ، لكان هذا القرآن العظيم الذي جاء بغاية الإنذار والتخويف ، كما قال سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). وعن الكاظم عليه‌السلام : قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسيّر به الجبال وتقطّع به البلدان وتحيا به الموتى (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) إضراب عمّا تضمّنت كلمة (لَوْ) من معنى النفي الذي ربما يتوهمّ منه أنه تعالى لم يكن قادرا على إنزال القرآن أو أيّ كتاب آخر تترتّب عليه هذه الآثار المذكورة لدفع كلام المعاندين ، فقال : بل لله الأمر جميعا ، أي له تعالى القدرة الكاملة على كلّ شيء بما في ذلك إنزال الكتاب الذي تترتب عليه تلك الآثار ، ولكنّ المصلحة اقتضت عدم الإنزال لأنه أعلم بما يعمل (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أفلم يعلموا ، وهي لغة قوم من نخع ، أو هي من باب أن اليأس عن الشيء علم بأنه لا يكون .. أفلم يعلموا أن هؤلاء المطالبين بالآية قد تصيبهم قارعة (بِما صَنَعُوا) من الكفر وسوء الأفعال؟. والقارعة هي الداهية والحادثة التي تقرعهم ، يعني تقرع قلوبهم لشدة المخافة ، وهي من أقسام المصائب في نفوسهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة. فيفزعون من أن

يصل إليهم شررها ، كالسرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتغير حواليهم وتخطف مواشيهم وتلحق بهم الإضرار.

٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ ... فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : الإملاء أن يترك الإنسان ويمهل ملأة من الزمان في أمن ودعة حتى يطول الأمل ثم يؤخذ بغتة ، وهكذا فعلت مع الّذين كفروا (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب وأهلكتهم. وهذه الآية الكريمة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه الآية ، فهدّدهم وقال انظروا (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) للمعاندين للرّسل.

* * *

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

٣٣ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) ... أي رقيب وحفيظ يسمع قولها ويراقب فعالها. و (قُلْ سَمُّوهُمْ) : لا اسم من يستحقّون به الإلهية لأن الأصنام أحجار لا تعقل (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) تعرّفونه بشيء لا يعرفه ممّا (فِي الْأَرْضِ) من مخلوقاته (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) إذ تسمّون معبوداتكم من الأوثان شركاء له من غير حقيقة واعتبار كتسمية الزنجيّ كافورا كأنّ الله تعالى لا يعلم حقيقة المسمّى الذي تدّعونه. وقد (زُيِّنَ) لهم (مَكْرُهُمْ) كيدهم (وَصُدُّوا) ضاعوا عن (السَّبِيلِ) الطريق الحق ، ومن كان هذا

شأنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يدلّه على الصواب. فهؤلاء الكفرة :

٣٤ ـ (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ... بالقتل والسبي وأخذ الأموال ، و (لَعَذابُ الْآخِرَةِ) سيكون عليهم (أَشَقُ) أي : أشدّ لدوامه وخلودهم فيه. ويومئذ ليس لهم (مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي دافع يدفع عنهم ويقيهم سخطه وغضبه.

* * *

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ... أي صفتها ، وهي مقرّ المؤمنين ، أنها (تَجْرِي) من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) بين بساتينها الجميلة الفتّانة (أُكُلُها) ثمرها وما يؤكل منها (دائِمٌ) باق لا ينفد ولا ينتهي (وَظِلُّها) الظّليل كذلك لا تنسخه شمس ف (تِلْكَ) الجنّة (عُقْبَى) المتّقين أي مآلهم الأخير (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) التي لا يقضى عليهم فيها فيموتون ، ولا يخرجون منها ولا يخفّف عنهم عذابها.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... وهم المؤمنون بك يا محمد ، والكتاب هو القرآن ، وقيل إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، أي من

أسلم منهم (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن لموافقته لكتابهم. والمراد (مِنَ الْأَحْزابِ) بقية أهل الكتاب وسائر المشركين.

وعن الباقر عليه‌السلام : يفرحون بكتاب الله إذا يتلى عليهم ، وإذا تلوه تفيض أعينهم دمعا من الفزع والحزن (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين تحزّبوا عليك بالعداوة من المشركين وكفرة أهل الكتاب (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو ما خالف أحكامهم وشريعتهم. فقل لهؤلاء (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ولا أستطيع أن أغيّر شيئا من عندي ليعجبكم ما أدعو إليه من الدّين الحق لأني رسول من عند الله (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره (وَإِلَيْهِ مَآبِ) رجوعي ورجوع الخلق أجمعين.

٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) ... أي كما أنزلنا على الأنبياء السابقين كتبا بلسان قومهم ، أنزلنا القرآن (حُكْماً عَرَبِيًّا) أي شريعة وأحكاما بلغة العرب من قومك ، يحكم بين النّاس ويبيّن الحق من الباطل ، وجعلناه بلغتهم ليسهل عليهم حفظة وفهمه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي سلكت طريقتهم وسرت بحسب رغباتهم من دعوتهم إلى دين آبائهم ، أو مشيت بحسب رغبة اليهود من اتّباع قبلتهم التي كنت عليها من قبل العلم بنسخها فما (لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ناصر (وَلا واقٍ) دافع يردّ عنك غضبه ويحفظك من عقوبته. وهذه الآية الكريمة حسمت أطماع المشركين وثبّتت المؤمنين على ما هم عليه من الحق النازل من عند ربّهم.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ

وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً) ... فقد عيّر بعض المشركين كعبد الله بن أمية وأتباعه ، وكثيرين من اليهود ، عيّروا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه كثير الأزواج مهتمّ بالنساء ، وأنه لو كان رسولا لما اعتنى بالنساء ولا أعار المرأة أهمية ، فنزلت هذه الكريمة تبيّن أن الرسل من قبله قد كانت لهم نسوة وأزواج كثيرات كسليمان عليه‌السلام الذي روي أنه كان له مائة زوجة وسبعمائة سريّة ، وقيل ثلاثمئة زوجة مع السّريّات ، وأنه كان لداود عليه‌السلام مائة امرأة ، فلا ينبغي أن يستنكر زواج نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم إنهم كانوا قد طلبوا منه إنزال الآيات والمعاجز ليؤمنوا فأجابهم سبحانه أن قل لهم : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي معجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) برخصته وبمشيئته فإن شاء أظهرها وإن شاء منعها ، ولا اعتراض عليه سبحانه ولا على رسله. هذا وقد كانوا لا يأبهون بما يخوّفهم به من عذاب الله وسخطه ، وكانوا يطعنون بقوله حين يتأخر عليهم ذلك العذاب الموعود وينكرون نبوّته وأنه لو كان صادقا لنزل بهم ما يعدهم به فأجاب الله على قولهم بقوله سبحانه : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي أن العذاب وغيره من الأمور التي ستنزل بهم ، كلّها لها مواقيت مقدّرة معيّنة في اللوح المحفوظ وليست الآجال بأيدي الرّسل ولا هي تجري بحسب شهوات الناس ، بل كلّ عذاب ، وكلّ أمر ينزل في وقته وعلى حسب المصالح التي قدّرها الله تعالى ، وهي كآجال الموت والحياة وكقوله : (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

ثم أوردوا على أنفسهم شبهة أخرى فقالوا : لو كان صادقا في دعوى الرّسالة لما نسخ الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة نحو ما كان في التوراة والإنجيل ، فقال عزّ من قائل :

٣٩ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ... : فهو ينسخ ما يشاء ويبقي ما يريد في كلّ عصر وكلّ زمان بحسب ما تقضي مصالح العباد.

وأمّ الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يغيّر ما فيه من قضاء ولا يبدّل ، والمحو والإثبات إنّما وقعا في الكتب المنزلة بحسب المقدّر في الكتاب الأمّ المحفوظ الذي لا يقع فيه محو ولا إثبات إذ الأمور متدرّجة فيه تنزل تباعا بحسب مصالح الأمم. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هما كتابان سوى أمّ الكتاب ، يمحو الله ما يشاء ويثبت وأمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء. وعن جابر بن عبد الله ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الله يمحو من ديوان الحفظة ما لا يتعلّق به جزاء ، ويثبت ما يترتّب عليه ثواب وعقاب ، فإنّ الحفظة البررة يكتبون كلّ ما صدر عن العباد من الأفعال والأقوال والأحوال ، ويعرضون عليه تعالى فيمحو ما يشاء إلّا ستّة أشياء لا يصل إليها قلم المحو : الأول هي السعادة ، والثاني هي الشقاوة ، والثالث هو الموت ، والرابع هو الحياة ، والخامس هو الرزق ، والسادس هو الأجل ، والله تعالى أعلم.

٤٠ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ... هذا تهديد للكفّار قاتلهم الله ، وبشارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقد أخبره بأنه سيحلّ بهم وعده من القتل والإذلال إن لم يؤمنوا ، وقد نريك ذلك بعينك وأنت على قيد الحياة (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نقبضك إلينا ونوقع بهم ما وعدناهم ، فلا بدّ أن يحلّ بهم ما وعدناهم به سواء كنت بينهم أن توفيت عنهم فنصر المؤمنين عليهم حاصل ، ونقمتنا منهم كائنة لا محالة ، وقد ترى هذه النقمة تنزل بهم وقد لا تراها ولكنها أمر واقع حين تقتضي المصلحة ذلك ، و (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وظيفتك تبليغ الأحكام وجميع ما جاء في الرسالة لا أكثر ولا أقلّ (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي السؤال والمحاسبة والمجازاة والانتقام إن عاجلا أم آجلا ، فالأمر بيدنا والخيار لنا.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ

أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

٤١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) ... أي : أفلا ينظر هؤلاء الكفّار أنّا نعمد إلى الأرض فيأتيها أمرنا بنقصها من (أَطْرافِها) أي جوانبها وما حولها بالفتح على المسلمين وبأخذ أقسام منها من أيدي الكافرين والمشركين كما فتحنا لك مكّة المكرّمة وما حولها من القرى فنقصنا من أهل الكفر ، وزدنا في المسلمين. وقيل إن معناه : أولم يروا إلى ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمار ، والموت بعد الحياة ، والنقصان بعد الزيادة؟. وقيل هذا الكلام يعني اليهود الّذين أخذت بلادهم وأموالهم وطردوا من أوطانهم وأصبحت بيد المسلمين بواسطتك وواسطة جيوشك التي نصرناها عليهم. وعن ابن عباس : أن نقصان الأرض يكون بموت العلماء. وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا العلم قبل أن يذهب. قالوا : يا رسول الله : كيف يروح العلم ويذهب مع أن القرآن فينا نقرأه ونعلّمه لأولادنا؟ فغضب وقال : إن الله لا يقبض العلم من بين الناس ، ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤساء جهّالا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا (وَاللهُ يَحْكُمُ) بنقصان الأرض من الكفرة وازديادها لأهل الإسلام أو بغير ذلك ممّا شاء (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه ولا حكم بعد حكمه وقضائه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) للعباد. والفرق بين السرعة والعجلة أن الأولى فيما إذا كان فيها صلاح ، بخلاف الثانية. ولذا فإنه تعالى يوسف بالأولى دون الثانية ، فيقال : يا سريع الإجابة ، ولا يقال :

يا عجول. نعم قد تستعمل العجلة مكان السرعة من باب أنها أعمّ وضعا أو مجازا فيقال : عجّل في الأمر ، أي : أسرع فيه.

٤٢ ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... أي قد كاد الذين من قبل قومك لأنبيائهم كيدا كثيرا (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) وعليه مجازاة الماكرين ، وهو يأخذهم بسوء تصرّفهم ويخادعهم بما لا قدرة لهم على رده وهو خير الماكرين سبحانه ومكره الأخذ بسرعة وحسن تدبير لا يخطر في البال جزاء ما يمكرون ، وليس هو المكر السّيء المذموم الذي يقومون به من المكايدة والمخاتلة. فاطمئنّ يا محمد قلبا لأن الله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ولا يفوته علم شيء ولا يشغله شيء عن شيء (وَسَيَعْلَمُ) سيعرف هؤلاء (الْكُفَّارُ) المعاندون لك (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة يوم القيامة.

٤٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) ... أي أنهم ينكرون رسالتك من عند الله ونبوّتك ، ف (قُلْ) لهم : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) شاهدا عالما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يفصل في هذا الأمر وفي غيره (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ومن يملك الأحكام ويفصل في الأمور. وقد سأل رجل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن أفضل منقبة له ، فقرأ هذه الآية. وذلك أنه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية فقال : ذاك أخي عليّ بن أبي طالب. والروايات بهذا المضمون كثيرة لا نحتاج إلى استقصائها. وقد سئل الإمام عليه‌السلام عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم ، أم الّذي عنده علم الكتاب؟. فقال : ما كان الذي عنده علم من الكتاب ، عند الذي عنده علم الكتاب ، إلّا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.

* * *

سورة إبراهيم

مكّية إلّا آيتي ٢٨ و ٢٩ فمدنيّتان ، وآياتها ٥٢ نزلت بعد : نوح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

١ ـ (الر ، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) ... قد مرّ التعليق على الحروف التي تقع في مفتتح السور في أول سورة البقرة ، ونحن نرى أنها أسماء رمزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو قيل فيها ما قيل. والله سبحانه يخاطبه ويقول : هذا

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) وحيا من عندنا (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) بدعوتهم إلى ما في كتابنا من الحق ، لنخرجهم من ظلمات الكفر والضلال الذي هم فيه إلى نور الإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه وتسهيله ومشيئته ، فتهديهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي طريق الله المنيع الجانب اللائق بالحمد الذي يجازي على الحمد. وهذا بدل من قوله تعالى : إلى النور. والآية تشير إلى أن طرق الكفر والضلال متعددة ، وأن طريق الإيمان واحدة ، وذلك بسبب الجمع في (الظُّلُماتِ) والإفراد في (النُّورِ) واللام للغرض ـ كما لا يخفى ـ.

٢ ـ (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ... لفظة الجلالة (اللهِ) بدل من لفظة (رَبِّهِمْ) في الآية السابقة. وهو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ويتصرّف به كيف يشاء (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) تهديد لهم بالعذاب العظيم القويّ في يوم القيامة ، ويعدهم بالويل الذي يقال إنه واد في قعر جهنم.

٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) ... هذه بيان لسابقتها ، فالكافرون الّذين هدّدهم بالعذاب الشديد ، هم الذين يختارون المقام في هذه الدّنيا والانغماس في ملذّاتها ومغرياتها ، ويفضّلون ذلك على العمل للآخرة ، ثم (يَصُدُّونَ) يمنعون غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصلة إلى مرضاة الله عزوجل (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويريدون طريق الحق معوجّة ذات لفّ ودوران وزيغ ، فيمنعون الناس عنها وينحرفون بهم إلى غيرها ، و (أُولئِكَ) المنحرفون الذين يريدون اتّباع أهوائهم (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، وضياع عظيم عن معرفته. وقد وصف الضلال بالبعد من باب المجاز في الإسناد.

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ... في زاد المسير نقل أن قريشا قالوا : إن كلّ نبيّ نزل عليه الكتاب ، كان كتابه بلغة أعجمية ـ غير عربية ـ فلما ذا كان كتاب محمد عربيّا؟. فنزلت هذه الآية الكريمة تشير إلى

أن كل رسول نزل بكتاب بلغة قومه الذين تولّد منهم ونشأ بينهم وربي فيهم وبعث إليهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي يظهر ويفسّر ويفصّل ما أتي به فيفهموا قوله بلغتهم الدارجة بينهم لتتمّ الحجة عليهم. وفي الخصال عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : منّ عليّ ربّي وقال : يا محمد ، قد أرسلت كلّ رسول إلى أمة بلسانها ، وأرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود من خلقي. وهذا جواب يسفّه قول المعترضين من قريش ، فقد نزل القرآن بالعربية رغم أنه لسائر العالمين ، وحال كونه نزل بلغة قوم الرسول كبقية الكتب التي أنزلت بلسان أهلها ، فلا تبتئس يا محمد فإن الله (فَيُضِلُ) من يشاء (وَيَهْدِي) من يريد بتيسير الهداية لمن أرادها ، وبعدم الرّدع عن الضلال لمن أراده وأوغل فيه كيلا يكون الإيمان قسرا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القوي الذي لا ينال ، ويفعل ما يفعله بمقتضى الحكمة.

وفي هذه السورة الشريفة شرع سبحانه في بيان نعمه على العباد من أوّلها ، فبيّن أنه أرسل الرّسل وأنزل الكتب لإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية وليس من نعمة أعظم من هذه النعمة. ثم أوضح أنه أرسل كلّ رسول بلسان قومه ليسهل عليه إفهامهم ، وليكونوا من بعده تراجمة قوله للآخرين كما هو شأن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أرسل إلى كافّة الناس وسائر أهل اللغات وذلك قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ثم فصّل بقية نعمه على عباده وبدأ بقصة موسى عليه‌السلام ، وعقّب بقصص كثير من أنبيائه ورسله الكرام ، فالحمد لله على منّه وكرمه.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥)

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ... أي بعثناه بدلائلنا ومعجزاتنا وأمرناه (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فاهدهم إلى الإيمان وأنقذهم من الجهل والكفر (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي أنذرهم بوقائعه التي حلّت بالأمم التي سبقتهم من إهلاك بالحرب والقتل ، ومن آيات وقعت بالخسف والقذف ، ومن مصائب حلّت بهم بالريح السّموم وغيرها. والعرب يسمّون الوقائع أياما ، وإذا كانت النوازل من عند الله سمّوها : أيام الله ، وإذا كانت من عندهم كالحروب دعوها : أيام العرب : كيوم داحس والغبراء ويوم طمس وجديس وغيرهما. وعن الصادق عليه‌السلام : بأيّام الله ، أي : بنعم الله وآلائه. وفي القمي : أيام الله ثلاثة : يوم القيامة ، ويوم الموت ، ويوم القائم عليه‌السلام (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلائل وبراهين (لِكُلِّ صَبَّارٍ) صبور على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه عزوجل.

٦ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) ... أي اذكر إذ قال موسى ذلك لقومه فدعاهم لشكر ربّهم (إِذْ) حيث (أَنْجاكُمْ) خلّصكم الله تعالى (مِنْ) ظلم (آلِ فِرْعَوْنَ) حيث كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي يذيقونكم أتعس أنواع العذاب ويستعبدونكم ويكلّفونكم بالأعمال الشاقّة ف (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) عند ولادتهم لئلا يخرج منهم النبيّ الموعود ، و (يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقونهنّ للخدمة ، وقيل يفعلون بهنّ ما يخلّ

بالحياء (وَفِي ذلِكُمْ) العمل الشنيع الشاق (بَلاءٌ) مصيبة عظيمة عامة شاملة لكم ، هو (مِنْ رَبِّكُمْ) قدّره عليكم ليحج به أعداءكم ، وهو (عَظِيمٌ) حمله ، صعبة معاناته.

٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) ... تأذّن : أعلم ، والأذان هو الاعلام ، فقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمتي وأفضالي عليكم (لَأَزِيدَنَّكُمْ) لأعطيّنكم زيادة منها لأني أحب العبد الشّكور (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) أنكرتم نسبة نعمتي إليّ ـ وقد عبّر عن عدم الشكر بالكفر لأنّ كفران النعمة وعدم عرفان الجميل أمر منكر ، وذلك أن الكافر إنما هو منكر لله ، فهذا كفر وذاك كفر سواء بسواء ، إذ أن من لا يعرف آلاء الله وينكر فضله أشدّ كفرا ممن لا يعرفه مطلقا : جعلنا الله تعالى من عباده الشاكرين. وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير وجوه الكفر : الوجه الثالث من الكفر كفر النّعم ، واستدلّ بهذه الكريمة. وعنه عليه‌السلام : ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله ، إلّا أدّى شكرها.

٨ ـ (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ... أي قال موسى لقومه : إذا أنكرتم وجود الله ولم تعترفوا به وبربوبيّته ووحدانيته وملكه أنتم وسائر أهل الأرض (جَمِيعاً) معكم ينكرونه ولا يعترفون به (فَإِنَّ اللهَ) سبحانه (لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي مستغن عن اعترافكم ولا يضرّه جهلكم وعدم إيمانكم به لأنه مستغن بذاته عن شكركم وشكر الناس ، لأنه محمود بذاته وإن لم يحمده حامد ولم يشكره شاكر.

* * *

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ

وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

٩ ـ (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ... يعني : ألم تسمعوا بأخبار من سبقكم من الأمم التي كفرت بأنعم ربّها ولم تعبده وأشركت به كأقوام : (نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) المعروفي الحال والمآل (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قد كفروا مثلهم وأصابهم ما أصابهم من الهلاك والدمار (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي : لا يعرفهم غيره سبحانه لكثرة عددهم فإنهم جميعا (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الدّلائل الساطعة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) هو تصوير بليغ لردّ دعوات رسلهم حيث كمّوا أفواههم بعدم سماعهم لهم ، لأنهم منعوهم عن الكلام وترويج الدعوة ونشر الأحكام وإظهار معالم الدين. وقيل : عضّوا أناملهم من شدة الغيظ والحنق على رسلهم (وَقالُوا) لهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ننكر رسالاتكم (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) ريب (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ)

وتدّعون أنه من عند الله ، ونحن نتهمكم في دعواتكم ونظنّ فيها ظنّا (مريبا) مشكوكا فيه.

١٠ ـ (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) ... أي أجاب الرّسل أقوامهم متعجّبين من إنكارهم لخالقهم ورازقهم مع أنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما وموجدهما من العدم بقدرته ، وقالوا : هو (يَدْعُوكُمْ) للإيمان به (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) يتجاوز عن ذنوبكم ، (وَ) هو (يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت عيّنه سبحانه وجعله منتهى أعماركم مهما تمسّكتم بالدنيا واغتررتم بها. فقالوا لرسلهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي : ما أنتم إلّا أناس منّا (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) تمنعونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) تحوّلوننا عنه (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تبيّن صحة دعواتكم.

١١ ـ (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ... أي أجابوا أقوامهم بأننا بشر مثلكم حقّا (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ) يتفضّل وينعم (عَلى مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) الذي يرتضيهم ويختارهم عن سائر من سواهم ويختصّهم بالنبوّة ويجعل فيهم خصائص ليست في بني جنسهم (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) وليس بيدنا إتيان المعجزة والبرهان ، وما الآيات (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بمشيئته فهو الذي يختص كل رسول بآية معينة من عنده ويجعلها من جملة براهينه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي أن المؤمنين المصدّقين بالله يكلون أمورهم إلى ربّهم عزّ وعلا دون غيره ، ويفوّضون كل شيء إليه.

١٢ ـ (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) ... يعني : أي عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه سبحانه؟ ومن التوكّل الشكر عند العطاء والصبر عند البلاء والرضى في سائر الأحوال ، وهذا بلسان حال الرّسل الذين يقولون : كيف لا نتوكّل على ربّنا (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) دلّنا على طرق الخير الذي وصلنا إليه في إيماننا وحملنا الرسالة (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) فنتحمّل في سبيله تعالى كلّ أذى يصدر منكم في سبيل أداء دعواتنا ، ونتوكّل على الله في

المضيّ برسالاتنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) الذين يفوّضون أمرهم إليه تعالى تفويضا حقيقيّا.

* * *

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

١٣ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) ... أي أجابوا دعوة رسلهم إلى الإيمان بالله قائلين لهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) لنطردنّكم من بلادنا وأوطاننا (أَوْ لَتَعُودُنَ) لترجعنّ (فِي مِلَّتِنا) متّبعين ديننا وعباداتنا للأصنام التي عبدها آباؤنا مع أن الرّسل جميعا لم يكونوا قطّ على دين عبدة الأصنام ، (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أوحى سبحانه لرسله وأنبيائه واعدا إياهم : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) سنبيد الظالمين لكم وسندمّرهم ونخرب ديارهم بالتأكيد.

١٤ ـ (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ... هذا وعد وبشارة منه سبحانه بنصر رسله بأن يدمّر الكافرين ويسكن الأنبياء والمؤمنين بهم أرضهم وديارهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد إهلاكهم (ذلِكَ) هذا الوعد (لِمَنْ خافَ

مَقامِي) خاف من الوقوف بين يديّ للحساب ، وخاف (وَعِيدِ) ي بالعذاب للكافرين بي.

١٥ ـ (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) ... : أي طلب المؤمنون النصر من الله والفتح عليهم وعلى أنبيائهم ، أو أن الرّسل طلبوا الفتح منه تعالى فأعطاهم ذلك (وَخابَ) خسئ وخسر (كُلُّ جَبَّارٍ) ظالم لهم ، شديد الظّلم (عَنِيدٍ) مكابر لم يسمع كلام الله وعاند رسله.

١٦ ـ (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ... : أي أمام ذلك الجبار الذي وقف بوجه دعوة الرسول ـ ووراء هنا ضد أمام ، ولكنها بمعنى أمام ـ وسيلاقي المعاند عمّا قريب عذاب جهنّم حيث (يُسْقى) يكون شرابه فيها (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) هو الدم القذر والقيح الذي يخرج في النّار من فروج الزواني ، أو هو أعمّ منه رمّما يخرج من أبدان أهل جهنم من الأوساخ والأقذار والقيح.

١٧ ـ (يَتَجَرَّعُهُ ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ... أي يتكلّف شربه فيشربه مغصوبا به من شدّة عطشه ويأخذه جرعة جرعة لأنه غير سائغ في الفم ولا لذيذ الطعم ، فيزدرده لشؤمه وسوء حاله (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي تحلّ به موجبات الموت في كلّ لحظة يقضيها في النار وشدائدها وآلامها المميتة ، ولكنه لا يموت موتا يستريح بعده ويخلص من العذاب ، فهو لا يزال يموت ويحيا ، وينضج جلده ويتبدّل. وروي أن روحه تبقى في ترقوته فلا هي تعود إلى جسمه فيرتاح ولا هي تخرج منه فتخفّ آلامه ، بل يبقى بين الموت والحياة معذبا بحكم قوله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ،) وقوله سبحانه أيضا : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) فمن أمامه الخلود في النّار ، ومن بعد كلّ عذاب يذوقه عذاب آخر أشد منه.

* * *

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

١٨ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) ... قرّب سبحانه لأذهان السامعين ثواب عمل الكفار به ، وأنه (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) مثل الرماد الذي ينتج من حريق النار تعصف به الريح : الهواء الشديد (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) شديد الريح والهبوب. وقد نسب العصف لليوم للمبالغة ، أي أنه يوم ذو ريح عاصفة. ووجه الشّبه أن أعمالهم الحسنة : كالصدقات وصلة الأرحام والمبّرات جميعها ، كانت منهم على غير أساس من معرفة الله ولم يقصدوا بها القربة إليه ، فأشبهت الرّماد الذي تطيّره الريح الشديدة ، وهم (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) أي لا ينتفعون بأعمالهم يوم القيامة ولا بشيء حسن عملوه ، ولا يجدون ثوابا (ذلِكَ) أي هذا هو ضلالهم (الْبَعِيدُ) عن الحقّ الذي بسببه خسروا هذا الخسران المبين.

١٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ... خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر الناس بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض (بِالْحَقِ) أي الحكمة والغرض الصحيح ولم يخلق ذلك عبثا (إِنْ يَشَأْ) أي إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) يدمّركم ويهلككم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) غيركم :

٢٠ ـ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) ... : أي : ليس إذهابكم وإهلاككم وخلق غيركم بمتعذّر على الله سبحانه ولا بمتعسّر عليه لأنه لا يعجزه شيء وهو القادر على ما يشاء.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

٢١ ـ (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ... أي أحضروا بين يدي الله تعالى جميعا يوم القيامة للحساب والثواب والجزاء ، وقد أتى بلفظ الماضي وهو يقصد المستقبل كقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، مع أنه سينفخ فيه يوم القيامة ، وذلك بسبب تحقّق وقوعه وتأكيد حدوثه فكأنه شيء مضى إذ سبق فيه القضاء وصار بحكم الكائن (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم ممّن لا رأي له من ضعفاء العقول والأدنياء الذين أطاعوا الرؤساء والفقراء والمتابعين للأغنياء ، وهم الأتباع على كل حال ، قالوا (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تكبّروا عن الإيمان بالله وبرسوله وكانوا قوّادهم وأحبارهم ورهبانهم وزعماءهم ـ وفي خطبة الغدير لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أفتدرون الاستكبار ما هو؟. هو ترك الطاعة لمن أمروا بطاعته ، والترفّع عمّن ندبوا إلى متابعته ـ فقال الضعفاء للكبراء : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل أنتم دافعون عنّا بعض عذاب الله أو شيئا منه؟. (قالُوا) لهم مجيبين : (لَوْ

هَدانَا اللهُ) دلّنا إلى طريق الخلاص من العقاب بالنّار (لَهَدَيْناكُمْ) دللناكم على الهدى ، ولكن الطريق مسدود ، وشفاعتنا مردودة في هذا اليوم ذي الجزع والفزع ، إذ روي أنهم ينادون بالخلاص نداء البائس الحزين وينتظرون خمسمائة عام فلا يفتح عليهم باب من أبواب الفرج فيقولون : نصبر فلعلّ الصبر يعقبه فرج ، فيصبرون خمسمائة عام أخرى ، وهكذا .. فيقول المتبوعون للتابعين : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) فلا الجزع يفيدنا ولا الصبر ينجينا (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) فليس لنا من ملجإ ولا مفرّ ولا مهرب من العذاب.

٢٢ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) ... أي قال إبليس اللعين حين فرغ من الحساب ودخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار. وعن الباقر عليه‌السلام أن كلّ ما في القرآن : وقال الشيطان ، يريد الثاني. فالشيطان حينئذ يقول : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) بالجنّة (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) وغششتكم وأغريتكم بالكفر وبالانصراف إلى الملذّات واللهو في الدنيا (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي لم أجبركم على العمل بغشّي وكنتم تستطيعون مخالفتي ولم يكن سلطاني (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) وسوست إليكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وأطعتم وسوستي وإغرائي (فَلا تَلُومُونِي) وتحمّلوني مسئولية ضلالكم ، بل اندموا (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) واجعلوا لومكم كلّه لأنفسكم لأنكم اتّبعتم هواكم (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي لست بمغيثكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) فلا تفيدونني ولا أفيدكم في هذا اليوم (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) أي جحدت اليوم إشراككم إيّاي مع الله في الدّنيا ، وبنسبة أعمالكم إليّ (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ولا ينفعكم نسبة ظلمكم إليّ ، ولا ينجيكم الاعتذار من عذاب الله الشديد الذي أعدّه للظالمين.

* * *

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

٢٣ ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) ... أي بعد الفراغ من الحساب أدخل الله تعالى المؤمنين إلى الجنان وكتب لهم الخلود فيها (بِإِذْنِ) مشيئته وكرمه (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي سلامهم على بعضهم والتحيّة فيما بينهم قول : سلام : الدالّ على السلامة من جميع الآفات والأوصاب.

٢٤ ـ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ... أي : ألم تنظر أيها الإنسان كيف مثّل بأن (كَلِمَةً طَيِّبَةً) التي هي الدعوة إلى التوحيد أو كلّ ما دعا إلى الحق تكون (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أي النخلة كما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو هي كل شجرة مباركة طيّبة الثمر والأكل ، أو شجرة في الجنّة أو أية شجرة بهذه الصفة. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : إنّها النبيّ (ص) وفرعها عليّ (ع) وغصنها فاطمة (ع) وثمرها أولادها (ع) وورقها شيعتنا

(أَصْلُها ثابِتٌ) متين ضارب في الأرض بعروقها القوية وجذعها الصّلب (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) مرتفع في الجو.

٢٥ ـ (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ... أي أن هذه الشجرة تجود بثمارها لآكليه في كل وقت بمشيئة خالقها وبأمره (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) يبيّنها لأن في بيانها تذكيرا وتصويرا للمعاني بالمحسوسات لتقريبها من الأذهان وتيسيرها للأفهام موعظة (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيتدبرّونها ويتفكّرون فيها.

٢٦ ـ (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ... الكلمة الخبيثة هي كلّ قول باطل يدعو إلى الضلال والفساد ، وهي كالشجرة الخبيثة التي لا يقبل الطبع ثمرها لمرارته كشجرة الحنظل وغيرها مما لا يطيب أكل ثمره. وعن الباقر عليه‌السلام : إنها بنو أميّة وقد (اجْتُثَّتْ) شجرتهم واقتلعت جثتها (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) فلم يكن لها استقرار فيها (ما لَها مِنْ قَرارٍ) ليس لها فيها من ثبات.

٢٧ ـ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ... أي أنه سبحانه يسدد المؤمنين عن حجة وبرهان ويؤيدهم فيثبت إيمانهم ولا يزيله تشكيك مشكّك ولا يغيّره ريب مريب ، فيثبّتهم على إيمانهم (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الّذي هو كلمة التوحيد وما ينطقون به (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) طيلة حياتهم (وَفِي الْآخِرَةِ) يثبّتهم أيضا فترجح موازينهم ولا تزلّ أقدامهم (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) يحرمهم عنايته ويخلّي بينهم وبين أنفسهم واختيارهم (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ولا يفعل ما يشاء غيره.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها

وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

٢٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ... أي : ألم تنظر أيها الرسول الكريم وأيها الإنسان المفكّر إلى الكافرين بنعمة الله عزوجل الذين قابلوا فضله بالكفر به وبنعمته ، ثم أطغوا الآخرين (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أي أنزلوهم دار الهلاك التي كانت فيها أعمالهم كرماد تذروه الرياح وضلّ فيها ما عملوه في الدنيا من الباطل. ودار البوار هذه هي :

٢٩ ـ (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) ... : هي النّار التي يذوقون صلاء حرّها ويحترقون بلهبها ، وهي المقرّ البئيس التعيس التي ينزل فيه الكفار. وقد نزلت في قريش الّذين كذّبوا نبيّهم ونصبوا له الحرب وجحدوا وصيّه وبدّلوا نعمة الله عليهم كفرا وأحلّوا جماعتهم دار البوار التي هي جهنم وساءت مصيرا.

٣٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) ... أي جعلوا له سبحانه أمثالا وأشباها من أصنامهم ساووها به وأشركوها معه بالرّبوبيّة ابتغاء إضلال الناس عن سبيل الله والإيمان به ، ف (قُلْ) لهم يا محمد : (تَمَتَّعُوا) اقضوا حياتكم لاهين متمتّعين برغد العيش كما تتمتع الأنعام بمراعيها الخصبة (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) مرجعكم الّذين تصيرون إليه يوم القيامة (إِلَى النَّارِ) جزاء شرككم وإضلال الآخرين معكم.

* * *

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

٣١ ـ (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ... أي قل يا محمد للمؤمنين بي المصدّقين قولك أن (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) يؤدّوها ويداوموا على إقامتها (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيدفعوا زكاة أموالهم ويساعدوا الفقراء والمساكين ويواسوا البؤساء ويبذلوا في سبيل الله (سِرًّا) خفية عن الناس (وَعَلانِيَةً) على رؤوس الأشهاد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) يجيء (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي لا يبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره ، ولا يفدي نفسه فيشتريها من العذاب (وَلا خِلالٌ) ولا صداقة نافعة ولا خلّة مفيدة في ذلك اليوم. وقيل إن البيع هو إعطاء البدل للتخلّص من النّار وليس هو المبايعة المعروفة. والخلال بمعنى المصادقة والمحابّة ، أي أن الكافرين لا يقدرون في ذلك اليوم أن يتّخذوا خليلا أو صديقا يشفع لهم لأن كل صديق كان لهم في الدنيا يصير عدوّا لهم في الآخرة وذلك قوله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

وبعد أن ذكر سبحانه الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بيّن الأمور التي يستحقّ بها الألوهية فقال عزّ من قائل :

* * *

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

٣٢ ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... أي أنه سبحانه هو الذي خلق تلك الكائنات العظيمة الهائلة كلّها (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا أنزله من خزائنه بقدرته (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) من المزروعات والأشجار ، فخلق لكم ما تعيشون به ، وهو يشمل المطعوم والملبوس وغيرهما ممّا له دخل في الحياة (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) فجعلها مسخّرة لكم تمشي في البحر فتقطعون عليها المسافات التي تصلكم بالبلاد التي وراء الأنهار والبحار.

٣٣ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) ... سخّر لكم كذلك الشمس والقمر ، فهذه تنير في النهار ، وذاك يضيء في الليل ، وجعلهما (دائِبَيْنِ) أي مستمرّين مجدّين يجريان على ديدن واحد وبدأب لا يفتر لمصلحة نضج الأثمار ونبات المزروعات والاستفادة من الحرارة والبرودة ، ولما يصلح للإنسان والحيوان والنّبات وغير ذلك من الفوائد (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي جعلهما متعاقبين واحدا بعد واحد من أجل الكسب والعمل في النّهار ، ومن أجل الراحة والسكينة في اللّيل.

٣٤ ـ (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) ... أي أعطاكم من فضله كلّ ما سألتم ممّا تحتاجون إليه ، إلا ما كان فيه مفسدة في دينكم أو دنياكم ، لمجرّد أن تطلبوا ذلك. وقد أتى بلفظ (مِنْ) الدالّ على التبعيض ليبيّن كيف أنه يجيبكم على الدعاء ويستجيب من طلباتكم ما فيه المصلحة وقد لا يستجيب إذا دعوتموه بما يفسد عليكم دينكم رأفة بكم. فهو يجيب ما كان حقيقا بأن يسأل ، ويهمل بعض طلباتكم التي لا تعرفون سبب إهمالها وسرّ حجبها عنكم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : لا تطيقوا حصرها ولا تبلغوا معرفة أنواعها وأفرادها. وفي الكافي عن الإمام السجاد عليه‌السلام أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول : سبحان من لم يجعل في أحد معرفة نعمة إلّا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه ، أكثر من العلم أنه لا يدرك. فشكر تعالى معرفة العارفين بالتقصير عن

معرفة شكره ، فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا ، كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله إيمانا علما منه أنه قد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك ، فإن شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادة من لا مدى له ولا كيف ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وفي قوله صلوات الله وسلامه عليه يشير إلى قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن الراسخين في العلم هم الّذين أغناهم الله عن اقتحام الستر المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا .. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) والظلوم كثير الظّلم إمّا على نفسه بأن يظلمها ويظلم نعم ربّه فلا يشكرها ، أو يكفر بالمنعم الحقيقيّ ولا يرى له عليه حقّا ولا يصبر على البأساء والضراء ولا يحمد في النعمة والرخاء ، بل يجزع ويشتكي من ربّه إلى غيره ، وهو كفّار : شديد الكفر بترك شكر النّعم الكثيرة كنعمة الوجود والجسم القويم والحواسّ السليمة والماء والهواء والرزق والإسلام والإيمان والمال والعيال والولد وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر ويضيق بتعداده الذّرع.

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ

بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

٣٥ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ... أي اذكر يا محمد يوم قال إبراهيم الخليل عليه‌السلام داعيا ربّه ومبتهلا إليه : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) أي مكة المكرّمة وما حولها دعا لها بالأمان والأمن بعد أن فرغ من بناء الكعبة الشريفة أعزّها الله. وقد ذكر البلد هنا معرّفا في حين أنه ذكره في سورة البقرة منكرا ، لأن النكرة إذا تكررت وأعيدت صارت معرفة كما في قوله عزّ من قائل : مصباح المصباح في زجاجة ، في سورة النور ، وقد استجاب الله تعالى دعاء إبراهيم عليه‌السلام حتى أن الإنسان إذا رأى قاتل أبيه فيها لا يتعرّض له بسوء ، وكانت الوحوش تدنو فيها من الناس فلا تخاف بل تأمن جانبهم لأنهم لا يؤذونها (وَاجْنُبْنِي) أي جنّبني (وَبَنِيَ) وأولادي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ونشرك بك. وقد دعا إبراهيم عليه‌السلام بهذا الدعاء بعد أن علم أن الله تعالى عهد إليه بالإمامة ، والإمامة لا ينالها عبدة الأصنام بدليل قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : أي المشركين لأنه سبحانه سمّى الشّرك ظلما عظيما بقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

فإن قيل إن دعاء الأنبياء عليهم‌السلام ـ على مذهب العدلية ـ

مستجاب غير مردود ، والحال أن من أولاد إبراهيم عليه‌السلام كثيرين عبدوا الأصنام ومع ذلك طلب من ربّه أن يجنّب بنيه ذلك ودعاه بصرفهم عن عبادتها ، فكيف ذلك؟. والجواب من وجهين :

أولا : يمكن أن يكون المراد ببنيه أبناؤه الذين كانوا بلا واسطة كما هو الظاهر كإسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام لأن المراد هو مطلق الأولاد. وبعبارة أخرى : إن دعاء الإنسان ربّه لنفسه ولأولاده يقصد به أولاده الموجودون عادة وبالفعل ، ولا يشمل الحفدة وحفدة الحفدة كما لا يخفى على أهل العرف. ولذا فإنه حين ينذر الإنسان نذرا أو يوقف وقفا على أولاده ، يحمل النّذر أو الوقف على أولاده الموجودين حين النذر أو الوقف إلّا بقرينة قوليّة كبطن بعد بطن أو فعلية مثلا ، وهذا ظاهر.

وثانيا : يحتمل أن يكون المراد الأولاد الذين مضى في العلم الأزليّ منه تعالى أنهم يؤمنون ولا يعبدون الأصنام ، أي بعض بنيه الذين يعلمهم الله ، وهو عليه‌السلام لا يخالف علم الله جلّ جلاله ، فليس العموم مراده. والآية الكريمة الآتية تدل على مراده الذي هو الخصوص الذي احتملناه أولا ، وهي صريحة في الخصوص إذ جيء أولا ب (من) التبعيضيّة ، وثانيا : قال : أسكنت ، يريد السكن الفعليّ لا الأعم ، وثالثا : قوله عليه‌السلام : بواد غير ذي زرع لأن مكة كانت يومئذ كذلك.

ثالثا : إن قوله : ومن ذرّيتي تعني البعض من بنيه لا الكلّ ، لا يعبدون الأصنام بل يقيمون الصلاة. والآيات القرآنية يفسّر بعضها بعضا ، ولا يقال إن من كان في علم الله لا يعبد الأصنام ، وكان مؤمنا لا يحتاج إلى الدعاء فإن أثر الدعاء حاصل في حقه وهو من تحصيل الحاصل! لأننا نقول : علمه تعالى بإيمان شخص وكفره ، لا يكون علة تامة له ، فإنه تعالى يعلم أنه يؤمن باختياره أو يكفر باختياره. وهذا العلم لا دخل له في أعمال العاملين من الإيمان والكفر. وأما قول بعض الزنادقة بأن علمه تعالى بشيء لا يمكن أن يتخلّف حيث إن لازمه أن يكون علمه جهلا ، وتعالى الله عن ذلك

علوا كبيرا ، فتعلّق العلم بشيء علة لعدم تخلّف الشيء عمّا كان عليه حين تعلّق العلم به. فالجواب عنه علم إجمالا مما قلنا آنفا من عدم دخل علمه تعالى بأعمال العباد فيها بحيث كانوا بعد العلم مجبورين على العمل ولا يقدرون على التّرك وإلا لزم الجبر وقبح العقاب على أعمال العصاة ولزم انسداد باب الدعاء والتوبة. وذلك التوالي كلّه مخالف لشرعنا وديننا وظاهر كتابنا.

ويمكن أن يجاب بأن علمه تعالى على قسمين : تنجيزي ، وتعليقي.

أما الذي لا يتخلّف عن معلومه ، وكذلك العكس ، فهو القسم الأول ويسمّى بالحتمي أيضا. وهذا لا من باب أن العلم علة ، بل من باب وجود المقتضي وهي المصلحة الدائمية وعدم المانع الدائمي ، فيوجد بإرادة الله تعالى. فالعلم به لا يتخلّف عن معلومه من باب دائميّة المعلوم لأمور أخر غير علمه تعالى كما قلنا ، لا من باب تعلّق العلم به فإن تعلّقه به وعدمه سيّان من هذه الناحية.

وأما القسم الثاني فكثيرا ما يتخلّف كما في قضية عيسى عليه‌السلام المعروفة وهو أنه رأى حطّابا يمشي للبادية لتحصيل الحطب فقال (ع) للحواريين : هذا ما بقي من عمره إلّا ساعة. ومعلوم أن إخبارهم الغيبيّة لا تكون إلّا عن علمه ومن عنده تعالى فإن علم الغيب منحصر به عزّ اسمه بنصّ الآية الكريمة : (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) أو (إِلَّا هُوَ) .. وبعد ذلك بساعتين أو أزيد أو أقلّ رأوا الحطاب يحمل الحطب سالما فقالوا : يا روح الله ، هذا الحطّاب جاء سالما! .. فسأل ربّه فنزل جبرائيل عليه‌السلام وأخبره أن الأمر كما أخبرت لكن بعد ذلك تصدّق فمدّ الله في عمره ثلاثين سنة لأثر الصدقة ، يمحو الله ما يشاء ويثبت. وهذا وأمثاله من الوقائع الكثيرة يسمّى بالعلم التعليقي وبكتاب المحو والإثبات ولا يلزم منه محظور بل يدفع به المحاذير من العجز والجبر وقبح العقاب وسدّ باب التوبة والدعاء.

فالحاصل أنّ من كانوا في علم الله أنّهم لا يعبدون الأصنام يمكن أن يكون أمرهم معلّقا على دعاء إبراهيم عليه‌السلام لهم وإن لم يدع قد يعبدونها. ودعاؤه ليس من باب تحصيل ما هو حاصل حتى يكون لغوا. هذه أجوبتنا عن الشّبهة ، وعن الصادق عليه‌السلام أنه أتاه رجل فسأله ، فلم يجبه. فقال له الرجل : إن كنت ابن أبيك فإنك من أبناء عبدة الأصنام. فقال عليه‌السلام : كذبت ، إن الله أمر إبراهيم أن ينزل إسماعيل بمكة ففعل ، فقال إبراهيم : ربّ اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ، فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما ، ولكنّ العرب عبدة الأصنام ، وقالت بنو إسماعيل هؤلاء شفعاؤنا وما كفرت ولم تعبد الأصنام.

٣٦ ـ (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ... أي أن الأصنام صرن سببا لإضلال الكثيرين من الناس. وإسناد الإضلال إليها من المجاز في الإسناد ، وذلك كقولهم : أنبت الربيع البقل ، ومثل : وغرّتهم الحياة الدنيا (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي فمن كان على طريقتي واتّبع سيرتي فإنه بعضي لشدة اختصاصه بي. ونستفيد من هذه الكريمة أن التبعيّة للرّسل موجبة لانتساب التابع إليهم نسبة البعض إلى المجموع والجزء من الكل. فعلى هذا كلّما كانت التبعيّة أقوى فالانتساب يصير أشدّ وآكد ، بحيث يصير التابع ابنا للمتبوع ، وبالعكس فإن المتخلّف عن الرّسل ولو كان ابنا لهم يصير انتسابه في الضعف بحيث ينقطع بالمرّة ، ومن الأمثلة على الأول محمد بن أبي بكر فقد قال عليّ عليه‌السلام : محمد ابني ولو ولد من أبي بكر ، ومن الثاني ابن نوح النبيّ عليه‌السلام ، فإن الله تعالى نفى كونه من أهله وسلب انتسابه إليه عليه‌السلام بقوله سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). هذا ، وننظر نحن لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولصحبه لنلاحظ بإنصاف وعدل أيّا منهم كان أشد تبعيّة له وأقوى تعلّقا به ، ومن منهم كان تابعا له من أول صباوته وقدرته على التبعيّة وحافظا ودافعا عنه من صباه إلى شبابه ، ثم فداه بنفسه ليسلّمه من القتل ومن كيد أعدائه ، ثم نلاحظ نوعا آخر من

الصحابة كانوا يفرّون في الحروب ، ويخلّون بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أعدائه ، ويعتذرون عن قتال الكفّار بأعذار واهية كاذبة. فهل كان منهم ما كان من عليّ عليه‌السلام في دفاعه عن نبيّه ومحاماته عنه حتى نزل جبرائيل عليه‌السلام من لدن الحق ينادي بين السماء والأرض : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ. ثم ندع جانب الشجاعة وننظر في ناحية العبادة والالتزام لنرى أيّا من الصحابة تبع نبيّه في عبادته الشاقّة التي قال الله عنها : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى : أي لتتعب بالعبادة وقيام الليل ، سوى عليّ عليه‌السلام الذي كان تابعا له كالظّل ، دائبا على قيام اللّيل معه حتى مطلع الفجر إلى جانب أنه كان بعده يصلّي تحت خمسمائة نخلة غرسها بيده الشريفة ، يصلّى تحت كلّ نخلة ركعتين حتى أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يظهر العجز والجزع عن القيام بمثل عبادة جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا نظر في كتاب عبادته ثم يقول : من يقدر على ذلك؟ من يطيق عبادة جدّي؟ .. هذا إلى جانب أنه كان عليه‌السلام يقول من على المنبر : قد اكتفى إمامكم من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، وكان يأكل خبز الشعير ويرفعه قبل أن يشبع ، وكان دأبه أن يؤثر الناس على نفسه وأهله ، وعلمه بأبي هو وأمّي ـ ممّا بالغ به أعداؤه وجاحدوه حتى رقى مرتبة لم يصل إليها أحد ، وقد كان رفيق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المباهلة وكان أخاه وصهره ووصيّه ، ثم زحزحوه عن مقامه ونحّوه عن مقعده وقالوا فيه ما شاؤوا بل قالوا عن النبيّ : إنّه يهجر عند وفاته ، فأورثوه غصّة لا تنقضي .. فأين عليّ عليه‌السلام في تبعيّة الرسول من غيره؟ وأين العدم الذي لم يبرز منه شيء ، من الوجود الذي هو مرآة الوجود المطلق في الإفاضة لجميع الفيوضات الإمكانية الروحانية والجسمانية على الموجودات ، بل من ثاني الوجود الذي هو الواسطة بين الخالق والمخلوق في الاستفاضة عن الخالق والإفاضة على المخلوق؟ فافتح عينيك أيها القارئ الكريم وانظر بعين الإنصاف واحكم بالواقع الذي هو بيّن كالشمس في رابعة النهار ، ودلّ على الخليفة اللائق بولاية أمور المسلمين

بقطع النظر على النّص المتواتر والآيات المباركات التي نزلت بحقه سلام الله وصلواته عليه .. (وَمَنْ عَصانِي) أي لم يطعني ويتّبع ملّتي (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فما دعا الله على العصاة من أبنائه بسوء ، لأنه وأمثاله من النبيّين عليهم‌السلام لمّا كانوا مرآة لرحمته تعالى ، فإنهم لم يغضبوا فيخرجهم الغضب عن طور العطف والرحمانيّة ولم يسألوا ربّهم إهلاك الناس إلّا حيث لا يجوز إلّا الإهلاك رأفة بمن يبقى ولئلا يضلّ سائر الناس. وإن خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كلّما اشتدّ أذى قومه له يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. ولذا قال خليل الرحمان عليه‌السلام : فإنك غفور رحيم ، وبيدك أن تعفو وأن تقاصص ، ونحن راضون بحكمك لأنك أعدل الحاكمين.

٣٧ ـ (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) ... عن الباقر عليه‌السلام : نحن هم ، ونحن بقيّة تلك الذريّة ، وكانت دعوة إبراهيم لنا. ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : انا دعوة إبراهيم ، والمشهور بين المفسّرين أن معنى الإسكان هو جعل الشيء ذا مسكن ومأوى. وجاء في اللغة أيضا أن معنى الإسكان يكون : تصيير الإنسان فقيرا ومسكينا. ويحتمل أن يكون المراد هنا هذا المعنى ، أي : جعلت بعض ذريّتي ـ لأن (مِنْ) للتبعيض ـ مفتقرا إليك مسكينا يحتاج إلى رحمتك ، وجئت به ـ وهو إسماعيل عليه‌السلام وأمه هاجر ـ بأمرك فوضعتهما (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهي وادي مكة القاحلة المجدبة فلا ماء فيها ولا نبات ، وخلّيت بينهم وبينك فلا مغيث لهم سواك ولا ناصر إلّا ذاتك القدسية ، وأنا كما تراني مفتقر لعنايتك في هذا المكان الخالي ومن أحوج الناس إلى ما يقيم أود ابني وأمه اللّذين أسكنتهما (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) وإضافة البيت إليه سبحانه تشريفيّة ، وتسمية البيت مع عدم وجود بناء في ذلك اليوم إمّا لأنه كان بيتا في زمن آدم عليه‌السلام ، وإمّا أنه عليه‌السلام يدري بأنه سبق في علمه تعالى أنه لا بد من أن يبني بيت في ذلك المكان يطوف الناس من حوله ، ولفظة : المحرّم تعني الذي حرّمت التعرض له بالإهانة والهتك أثناء السلم وأثناء الحرب وفي الأعياد والحج

وكلّ وقت ، أو أنه قصد بها : المعظّم برفعه إلى السماء يوم طوفان نوح عليه‌السلام أو بمنع الطوفان من أن يصل إليه ، أو لأنه منع فيه ما أجيز في غيره كاجتياز الجنب والحائض وغير ذلك ، وكالطواف حوله بكيفيّة مخصوصة ، وكغير ذلك من المناسك التي شرّعت فيه وفيما حوله وكلّ ذلك يدل على عظمته وحرمته (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قد كرّر سلام الله عليه اسم ربّه ليكشف عن غاية حبّه له تعالى وعن كمال خلّته له فإن الإنسان إذا كان يحب شخصا يحب أن يكرّر اسمه في مقام الكلام عنه فيذكر اسمه مرّة وكنيته مرّة ولقبه أخرى أو يكرر اسمه بلا انقطاع ، بخلاف من يكرهه فإنه لا يذكر اسمه ولا يحب ذكره ، وهذا لا يخفى على كلّ ذي لبّ وإدراك والشاهد هو الوجدان. ولم نجد في القرآن الكريم ـ في مقام خطاب الأنبياء (ع) لله تعالى ـ ما نجده من قول إبراهيم عليه‌السلام : ربّنا ، ربّنا ، مما يكشف عن الحب المفرط والتعلّق الشديد ولذا لقّب بخليل الله وألبسه الله تعالى هذه الخلّة من بين أنبيائه المكرمين كما لقّب سيدنا ونبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحبيب لاقتدائه بجدّه إبراهيم في ودّه. و (اللام) في (لِيُقِيمُوا) لام الغرض ، ولذا فرّع عليه‌السلام على هذا القول الدعوة التي هي في كمال المناسبة مع المقام والتي تكشف عن الالتفات إلى أقصى أمر تحمله دعوة الرّسل إلى العالمين ألا وهو الصّلاة ـ الركن الركين في الدّين ـ التي إن قبلت قبل ما سواها لتعظيمها وحرمتها ، فدعا لإسماعيل عليه‌السلام وذرّيته ومن شارك في الصلاة في ذلك البيت ليكون ناجيا كإسماعيل (ع) وذريّته مع الشرائط التي تصح بها صلاة المصلّين ، وكلّ من صلّى صلاة صحيحة فيه كان إبراهيم عليه‌السلام شريكا له في الأجر لأنه صار موفقا لإقامتها ببركة دعوته (ع) في ذلك المكان منذ ذلك الزمان (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) من : تدلّ على أن أفئدة وقلوب بعض الناس تميل إليهم بالحبّ والولاء. وقد استجيبت دعوة إبراهيم عليه‌السلام فقد روي أنه لو قال : أفئدة النّاس ، لحجّت اليهود والنّصارى والمجوس وازدحمت فارس والروم ، لكنه (ع) قال : من الناس ، فهم المسلمون من الناس فقط.

فإن قلت : ما يمنع أن يحج هؤلاء ، فإن تشرّفهم بهذا البيت المقدّس وازدحامهم من حوله يزيد في عمارته واتّساعه وازدهار أحوال أهله؟. والجواب أن ازدياد سعته ليست بمصلحة له فلربّما أدّى ذلك إلى تخريبه إن كان للكفرة فيه يد ، مضافا إلى أن دخول الكفرة وأهل الشّرك إليه هو خلاف ما جعل الله له من الحرمة والعظمة والقداسة التي تمنع أن يكون للكفرة شيء من الولاية عليه والتدخل في شأنه ، ولذا بعث الله نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتطهير البيت منهم وتنزيهه عن شركهم ، وبمنعهم من دخوله أبدا وإلى الأبد. فدعوة إبراهيم عليه‌السلام بأن يجعل أفئدة «البعض» تهوي إليهم حفظت البيت من تدنيس المشركين والكفّار ، وأهل البيت أدرى بما يصلح البيت ، والحمد لله. وتهوي إليهم : يعني تحنّ إليهم وتسرع نحوهم مترامية عليهم محبة وشوقا. وعن الباقر عليه‌السلام : لم يعن البيت فيقول : إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم. نعم أراد البيت بالملازمة لعمارته ، ولمؤانسة ذرّيته بمن يرد إليه ويقيم حوله من الوفود للحج أو للتجارة ، فإننا نرى اليوم مكة عامرة والبيت مزدهرا بفضل تلك الدعوة الميمونة المباركة المقصودة تبعا للذريّة الشريفة المباركة (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وهو أمس واليوم يجبى إليه ثمرات كلّ شيء بإذن الله في مختلف فصول السنة ، فإنك تجد في مكة في اليوم الواحد الفاكهة الصيفيّة والشتويّة والخريفيّة والربيعيّة ، فسبحان القادر المجيب لتلك الدعوة الشريفة وسائر الدعوات الصالحة.

٣٨ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) ... هذا الكلام يرتبط بما سبقه لبيان أنه عليه‌السلام حين طلب من ربّه ما طلب ، اعتذر بأنّنا وإن نطلب منك حوائجنا فليس ذلك من باب أنك لم تكن عالما بها جملة وتفصيلا وأنّنا نريد أن نعرّفك بها ونعلمك عنها ، فحاشاك ثم حاشاك من ذلك فإنك لست عند هذه المقولة ، ولكنّنا ندعوك إظهارا لعبوديّتك وافتقارا لرحمتك الواسعة واستعجالا لنيل ما عندك ، في حين أنك تعلم ما نسرّ وما نعلن ولا تخفى عليك خافية (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا

فِي السَّماءِ). وعن الصادق عليه‌السلام : أن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه ، ولكنّه يحب أن يبثّ إليه الحوائج. فإذا دعوتم فسمّوا حاجتكم.

٣٩ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي) ... حمد الله سبحانه أن وهب له : أعطاه هبة (عَلَى الْكِبَرِ) كبر سنّه وتقدّم عمره ، أعطاه (إِسْماعِيلَ) ابنه من هاجر ، فقد ولد إسماعيل (ع) ولأبيه عليه‌السلام تسع وتسعون سنة ، ثم ولد له (إِسْحاقَ) وله مائة واثنتا عشرة سنة ، فشكره على هذه النعمة الجزيلة وقال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) لي ولسائر الداعين بإخلاص وصدق نيّة.

٤٠ ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ... دعا الله تعالى بأن يكون هو وبعض ذريّته من المرضيّين المؤمنين مقيمي الصّلاة ولم يدع لجميعهم لإعلام الله السابق بأنه سيكون فيهم كفّار (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي استجبه وارض عن عبادتي.

٤١ ـ (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) ... أي تجاوز عنّي وعنهما. وظاهر الآية الكريمة يعطي أن أبوي إبراهيم عليه‌السلام لم يكونا كافرين ، ولو كانا لما سأل لهما المغفرة لأنه يعلم أن الله لا يغفر للكافر والمشرك أبدا. فصحّ أن أباه الذي كان حيّا أثناء بعثته وأنه كان كافرا إنما هو جدّه لأمه أو عمّه على خلاف فيه ـ وهو آزر الذي ورد ذكره في القرآن ـ ولا يمكن أن يكون حال أبويه مجهولا عنده وهو في سنّ الشيخوخة ، على أنه لم يتبرّأ من آزر إلّا بعد علمه باستدامته على الشّرك. فقد دعا إبراهيم (ع) بالمغفرة له ولأبويه (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وبالتجاوز عنهم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) في يوم القيامة عند وزن الأعمال.

* * *

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا

يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))

٤٢ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ... أي : اطمئنّ بألا يا محمد ، ولا تظننّ أن الله غير منتبه لما يفعله الكافرون من أذيّتك والوقوف في وجه دعوتك ، فإنه مطّلع على ما يعملون (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخّر عذابهم والانتقام لك منهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي ليوم تتفتّح فيه العيون واسعة دون أن تطرف ، بل يبقى منتصبة شاخصة تنظر في مصيرها إذ ترى أهوال ذلك اليوم الرهيب.

٤٣ ـ (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ... أي أنك سوف تراهم مقبلين إلى دعوة الداعي إقبالا سريعا وبتمام الطاعة والانقياد ، مقنعي رؤوسهم ، رافعين رؤوسهم نحو السماء بحيث لا يرى الواحد مكان قدميه من شدّة رفع الرأس من فزع ذلك اليوم ـ نعوذ بالله تعالى منه ـ (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي أن قلوبهم خاوية وأجسامهم كأنّها بغير عقول تسيّرها فهم لا يدركون شيئا لفرط الدهشة والحيرة. والمراد أنهم يكونون حينئذ جبناء يظهر عليهم الذّل والفشل ، أو كأنهم غادرت قلوبهم أجسامهم وفارقتها عقولهم فهي خواء قد ضيّعتها الأهوال والمخاوف.

* * *

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ

ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦))

٤٤ ـ (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) ... أي : خوّفهم يوم الموت حيث يبدأ عذابهم في البرزخ ، أو يوم القيامة الذي يقفون وجها لوجه مع العذاب الذي ينتظرهم (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم وغيرهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي أمهلنا إلى وقت قصير غير بعيد (نَتَّبِعِ الرُّسُلَ) بطاعتهم وبطاعتك ونتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة دعوتك وقبول توحيدك وممارسة شريعتك ، فيأتيهم الجواب بمقتضى الحال وعلى إرادة القول أو بتقدير أن الملائكة الموكّلين يقولون لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) ألم تحلفوا في دار الدّنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أنكم مستقرّون باقون ، وأنكم إن متمّ لا تبعثون غرورا منكم وطول أمل؟ ..

٤٥ ـ (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ... أي أنذر يا محمد قومك المعاندين بأن الذين عاندوا الرّسل من قبلكم أهلكهم الله تعالى ، وأنتم قد سكنتم في مساكنهم بعد أن أهلكوا بظلمهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) من آثارهم البائدة (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من النقمة (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) لتفهموا وتتدبّروا ، فاعتبروا.

٤٦ ـ (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) ... أي قد جهدوا في كيدهم واحتيالهم وبلغوا الغاية في المكر لإبطال أمر الرّسل وتثبيت الباطل (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) مكتوب عنده تعالى محفوظ معروف ، وهو يجازيهم عليه (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قرأ بعضهم بفتح اللام الأولى ورفع الثانية (لِتَزُولَ)

ومعنى الآية أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال ، وينبغي لها أن تزول من ذلك الكيد الكبير. وليس المراد من هذا القول الإخبار عن الوقوع ، بل هو مبالغة في شدّة مكرهم وتهويل حيلهم لإبطال الحق وإشاعة الباطل. وقد تكون الجبال كناية عن الدّين القويم والبراهين الإلهية بمعنى أن مكرهم لم يكن ليبطل دينك وشريعتك التي هي أرسى من الجبال في الثبات ف (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وليس دينك أمرا خلقيّا مجعولا فرضه العرف والاصطلاح.

* * *

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١))

٤٧ ـ (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ... فلا تظنّنّ يا محمد أن الله يخلف أنبياءه ما يعدهم من نصرهم وإهلاك أعدائهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) فهو غالب منيع الجانب شديد النقمة لأوليائه من أعدائه.

٤٨ ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ... قيل في معناها قولين :

أولهما : أنها تبدّل صورة الأرض وهيئتها كما عن ابن عباس الذي روي عنه قوله : تزول آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها ، والأرض على حالتها تبقى بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة. وتبدّل

السماوات فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها وأنه أنشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

وثانيهما : أن الأرض تبدّل وتنشأ أرض غيرها ، والسماوات كذلك تستبدل بسواها.

ولفظة (وَالسَّماواتُ) تعني أن السماوات تبدّل غير السماوات ، وقد استغني بما هو مذكور. وعن السجّاد عليه‌السلام : تبدّل الأرض ، يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي ظهروا بين يديه من قبورهم للمحاسبة أمام (الْواحِدِ) الأحد القويّ (الْقَهَّارِ) الغالب الذي لا يغلب.

٤٩ ـ (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) : أي في ذلك اليوم التي تبرز فيه الأشياء كلّها لله فلا تخفى عليه خافية سترى قهره للمجرمين وقدرته على المعاندين ، وعجزهم بين يديه وذلّتهم حيث يكونون (مُقَرَّنِينَ) يخرجون من قبورهم مقيّدين بسلاسل من نار قرنت أطرافهم إلى بعضها وربطت ربطا محكما ، أو شدّت أيديهم إلى أعناقهم بأصفاد : أغلال وقيود مما يوثق به المجرم والأسير من سلاسل الحديد وأمثالها. وليس هذه حالهم فقط ، بل :

٥٠ ـ (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) : السّرابيل : جمع السّربال ، وهو القميص ، فلباسهم من القطران الذي يطلى به الجمل الأجرب ليكتوي جربه بحدّته وحرارته ، وهو سريع الالتهاب شديد الحرارة أسود اللّون منتن الرائحة ، تطلي به جلود أهل النار لتصبح سريعة الالتهاب شديدته ، وهم إلى جانب ذلك (تَغْشى) تغطّي (وُجُوهَهُمُ النَّارُ) والوجوه أعزّ الأعضاء وأشرفها في ظاهر الجسم ثم القلب الذي هو العضو النابض بالحياة من الداخل فإنه أيضا ستلفحه النار بسعيرها لأنّها (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) كما قال سبحانه وتعالى في سورة الهمزة. وقد خصّ سبحانه الوجوه بالذكر لأنّ بها يتطلع الإنسان ويتوجه إلى الله يومئذ ليطلب رحمته ومغفرته

وعفوه ، فإذ لم يتوجه به ولم يقدر على استعماله فقد حيل بينه وبين بغيته وربط على لسانه وختم على فمه واشتعلت النار في أطرافه ـ والعياذ بالله من ذلك ـ وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال جبرائيل : لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء والأرض لمات أهل الأرض من ريحه ووهجه! وقد أعدّ ذلك كلّه للكافرين

٥١ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ... أي ليعاقب كل نفس مجرمة بما اكتسبته من ذنوب وآثام (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) مرّ تفسيره.

* * *

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

٥٢ ـ (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) ... أي أن هذا القرآن ، أو هذه السورة ، أو هذا التهديد والوصف الذي قدّمناه ، هو بلاغ : إعلام نبلّغهم إياه ليعرفوه جيدا (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) وليكونوا منذرين مخوّفين به وليعرفوا بتأمل وتبصّر واتّعاظ مصير الكافرين والمعاندين (وَلِيَعْلَمُوا) يعرفوا بالدلائل والبراهين ويدركوا (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ربّ خالق فرد وتر (وَلِيَذَّكَّرَ) يتذكّر ويتدبّر (أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول والبصائر الرشيدة.

* * *

سورة الحجر

مكيّة إلّا الآية ٨٧ فمدنية ، وآياتها ٩٩ نزلت بعد يوسف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

١ ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) : أي : هذا الذي ننزله عليك هو آيات القرآن الواضح البيّن. وقيل هو المبيّن للحلال والحرام ، أو المميّز بين الحق والباطل.

* * *

٢ ـ (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) : يعني أن الكفرة إذا عاينوا حال المسلمين من النّصر والظفر في الدنيا ، أو الفوز بالجنّة ومرضاة الله في الآخرة ، يحتمل أن يتمنّوا أنهم مثلهم فيقولوا : يل ليتنا كنّا مسلمين. ولفظة (لَوْ) هاهنا حرف مصدريّ بمنزلة (أن) إلّا أنها لا تنصب ، وأكثر وقوعها يكون قبل : ودّ ، ويودّ. وقد روي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله : لا يدخل الجنّة إلّا مسلم ، فيومئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

٣ ـ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) ... أي : دعهم ـ يا محمد ـ يأكلوا كما تأكل الأنعام في الدّنيا ، مكتفين بلذة الأكل وطيبه وملء بطونهم ، مسرورين بهذه الحال يوما بعد يوم ، لاهين عابثين يسيرون مع الأمل الخادع ، منصرفين عن الدّين وإطاعة ربّ العالمين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) خسران طريقتهم حين يحلّ بواديهم البوار ويحيط بهم العذاب. وفي هذه الآية الكريمة حثّ للإنسان على التنبّه ليكون مستعدا للموت مبادرا للتوبة لا يؤخرها بالتسويف وطول الأمل الذي يصدّه عنها. وقد قال مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه : إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل. فان اتّباع الهوى يصدّ عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة. وعنه عليه‌السلام : ما أطال عبد الأمل إلّا أساء العمل. وقد قال الباقر عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا استحقّت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين ، وذهب الأمل وراء الظّهر. وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين ، وذهب الأجل وراء الظّهر.

٤ ـ (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) ... يعني أننا لم نهلك قرية وننزل عذابنا فيها (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي أجل مقدّر مكتوب لا بدّ أن تبلغه. وهو سبحانه يريد أن لا يغترّ الكفّار بطول بقائهم لأن لهم يوما مؤجلا موقّتا لا يتقدم ولا يتأخّر.

٥ ـ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) ... أي : لا يفوت أمّة أجلها ووقت هلاكها ولا هي تتخطّاه وتتعدّاه وتنجو منه ، ولا هو يتأخر عن وقت حلوله الذي قدّر له ، بل الله سبحانه يهلك كل أمة حين تستوفي مدتها. ولفظة (مِنْ) جيء بها هنا زائدة وربما للتأكيد.

٦ ـ (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ... هذا النداء كان يرد على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكفّار على سبيل الاستهزاء به. ولذا عدلوا من الخطاب إلى الغيبة ، أي أنهم كانوا يقولون : إنك يا محمد ليست لك قابلية المخاطبة معنا ، وهو الذي نزّل عليه الذّكر ـ أي القرآن ـ فقالوا له : (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) فقد انتهت الآية الكريمة بأن خاطبوه ليبلّغوا رأيهم فيه ، لأنه إذا لم يخاطبوه برأيهم لحصل خلاف مقصودهم ، مضافا إلى أن مقام الشتم كان الخطاب آكد وأشدّ في أذى المشتوم. وإن قيل لم نسبوه إلى الجنون في هذه الآية الكريمة؟ فالجواب يحتمل وجهين : الأول أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشية فزعموا أنها حالة جنون ، والثاني أنهم كانوا يستنكرون ذمّة للأصنام وأمره بترك عبادتها لأنها لا تليق بالعبادة ، فكان تسفيهه لهم ولعبادتهم ومعبوداتهم يثير حفائظهم فيرمونه بالجنون معتبرين أن من ينكر قيمة تلك الأصنام يكون مجنونا ، والله أعلم.

٧ ـ (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : لو ما ، ولو لا ، وهلّا ، بمعنى واحد وهي كلّها للتحريض ، وهي تعني أن الكفار والمشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : هلّا جئتنا بالملائكة من السماء ليشهدوا بصدق نبوّتك ودعوتك إذا كنت من الصادقين في الدعوة والنبوّة؟ فأجاب سبحانه بقوله :

٨ ـ (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) ... أي لا نرسل الملائكة من السماء إلى الأرض إلا على حسب موازين الحكمة والمصلحة ، ولا ننزلهم لمجرّد الطّلب (وَما كانُوا) يعني أن الكافرين ما كانوا (إِذاً) في واقع الحال

(مُنْظَرِينَ) أي ممهلين عند نزول ملائكة النصر أو ملائكة العذاب. فالملائكة ينزلون في وقت ننصر فيه رسلنا ، أو في وقت نعذّب فيه العصاة.

ثم انتقل سبحانه إلى بيان اهتمامه بما أنزله على رسوله ، ليكون ذلك ردّا على إنكار الكافرين واستهزائهم ، فقال عزّ من قائل

* * *

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

٩ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : أي أنّه سبحانه هو منزل القرآن على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو حافظه على مدى الأزمان من الهجر والمحاربة والتحريف والتغيير والزيادة والنقصان ، فليفعلوا ما شاؤوا فإننا نتولّى حفظه ورعايته ولا يضرّه إنكارهم.

١٠ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) : الشّيع : الفرق ، مفردها : شيعة وشايعه : تبعه ، فهو عزوجل يقول مؤكّدا : إنّه أرسل قبلك ـ يا محمّد ـ رسلا ، وقد حذف المفعول به هنا لدلالة الفعل عليه ، أرسلهم إلى جميع فرق الأمم السابقة لأمّتك ، ولم يهمل أمة قبلك ويتركها بدون هداية إلى الحق ونهي عن الباطل.

١١ ـ (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : يعني لست وحدك الرسول الذي استهزأ به قومه ، ولا أنت بالخصوص من بين سائر الأنبياء مبتلى بالإيذاء ، ولكنهم ـ جميعا ـ كانوا مبتلين مثلك بإيذاء أقوامهم وعشائرهم. والآية الكريمة تسلية للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢ ـ (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) : أي كمثل هذه الحال التي قومك عليها ، وكما سلكنا دعوة الرّسل السابقين في قلوب أممهم المخالفة لهم ، كذلك سلكنا القرآن والذكر في قلوب المجرمين من قومك. فهم :

١٣ ـ (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي لا يصدّقون بالقرآن كما لم يصدّق غيرهم بكتبهم وعلى هذا خلت : مضت سنة : طريقة الأوّلين الذين سبقوهم ، فهم على طريقتهم يحضون على سنّة الجهل المشؤومة من تكذيب الرّسل ، وجرت سنّة الله في إهلاك المكذّبين لرسله ، وهؤلاء مثلهم.

١٤ ـ (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) ... أي لو أننا فتحنا على هؤلاء المقترحين أحد أبواب السماء وقيّضنا لهم الصعود إليها (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون طيلة يومهم ليروا عجائب قدرتنا وغرائبها وبدائعها : إذا :

١٥ ـ (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ... يعني لو أصعدناهم إلى السّماء لقالوا من فرط عنادهم وتشكيكهم في الحق : إنّما سكّرت أبصارنا : أي سدّت عن الحقيقة والواقع ونحن نرى أمورا ليس لها في الخارج وجود (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمّد والذي نراه غير حقيقي. وهذا ديدنهم إذ قال تعالى عنهم : (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ويستفاد من الحصر أنهم كانوا مصرّين على أن ما يرونه موجودات وهمية لا واقع لها ولا وجود في الحقيقة والخارج.

وبعد ذلك أخذ سبحانه في بيان أدلة وجود صانع قادر حكيم متفرّد

وحيد لاحتياج أهل الشّرك والعناد والجحود إلى الإكثار من ضرب الأمثلة ، فبيّن تعالى أسرار ما في السماوات مما كان خافيا عنهم ومحجوبا ، ومما لم يكن لهم طريق إلى معرفته ولا العلم به لو لا بيانه لهم. فكشف الستار عن بعض المعلومات الملفتة للنظر حتى تتمّ الحجة عليهم بذلك فقال سبحانه :

* * *

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣))

١٦ ـ (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) ... أي خلقنا وأوجدنا فيها بروجا : منازل للشمس والقمر ، وهي اثنا عشر برجا أو منزلة ، على هيآت وصفات مختلفة كما يدل عليه الرّصد ، وكما أشير إليها في بعض الآيات والروايات من تشكيل الفصول الأربعة حيث ينتقل كلّ من الشمس والقمر أثناءها من منزلة إلى منزلة. وعن الباقر عليه‌السلام : البروج : الكواكب. والبروج

التي للربيع والصيف : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة ، وبروج الخريف والشتاء : الميزان والعقرب والقوس والجديّ والدّلو والحوت ، وهي اثنا عشر برجا. وقال بعض أهل الفضل : معنى البروج : القصور العالية ، وقد سمّيت الكواكب بها لأنها للسيارات كالمنازل لسكّانها. أمّا اشتقاقه فمن التبرّج لظهوره. وسير الشمس إنا يكون في كل برج من البروج الاثني عشر ثلاثين يوما تقريبا ، وبهذا الاعتبار تنقسم المسافة بين البرج والبرج الذي يليه إلى ثلاثين برجا ـ أو منزلة ـ فيصير للشمس ثلاثمئة وستون برجا في السنة بحسب سيرها ، وهي بين برج وبرج منها تدل باختلاف طبيعتها وخواصّها مع تساويها في الحقيقة ، تدل على وجود صانع حكم قد أتقنها ثم قال : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) أي جعلنا السماء مزيّنة مزخرفة بالكواكب التي تبدو للناظر إليها فيعتبر من له أهلية الاعتبار والتفكّر ، ويستدل بها على وجود المبدع القدير الجدير بالعبادة لتفرّده بالوحدانية ولقدرته على جعلها كواكب مختلفة بديعة. فسبحان الخالق العظيم!

١٧ ـ (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : هل الضمير في (حَفِظْناها) يرجع إلى البروج كما هو الظاهر والاستراق يكون من غيرها فلا يستشكل كيف يتمّ الاستراق لأن الله تعالى يقول : نحن حفظنا السماوات ومنعنا الشياطين من الصعود إليها والدخول إليها؟ أو أن هذا الضمير راجع إلى السماوات كما هو عليه أكثر المفسّرين وظاهر بعض الأخبار؟ وللجواب على ذلك يمكن أن يقال : الحفظ راجع إلى صيانتها من الدخول ، أما الاستراق والاختطاف فمن الخارج ، ولكن من أمكنة قريبة من الملائكة بحيث يسمع كلامهم حين يتخاطبون فيما بينهم ، فقد روي عن ابن عباس أنه كان في الجاهلية كهنة ومع كل واحد شيطان ، فكان يقعد مقاعد للسمع ، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض ، فينزل فيخبر به الكاهن فيغشيه الكاهن في الناس. فلما بعث الله تعالى عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث

من السماوات لمّا بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله منعوا من الكل وحرست السماوات بالنجوم. فالشّهاب الذي يرسل على من يحاول استراق السمع من الشياطين هو من معاجز نبيّنا (ص) لأنه لم ير قبل زمانه. فالمارد من الشياطين يصعد ليسترق خبرا فيرمى بشهاب يحرقه ولا يقتله ، ومن المردة من يخبّله. والشهاب بحقيقته كتلة نارية ساطعة اللهب تنطلق على النجم الذي استقرّ عليه الشيطان المستمع وتلحق به بسرعة البرق الخاطف المحرق .. فقد حفظت السماء من كل شيطان رجيم : لعين مبعد من رحمة الله وقد فصّل ذلك سبحانه بقوله :

١٨ ـ (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) : أي أن أبواب السماء جميعها مراقبة محروسة ، إلّا أن من حاول فاسترق سمع شيء لحق به شهاب : شعلة نارية ظاهرة للرائين. وهو النّيزك الذي سمّاه سبحانه : النجم الثاقب.

ثم إنه تعالى بعد ذكر السماء وما فيها من الآيات الدالة على وجوده وقدرته ووحدانيّته ، أخذ بالحديث عن الأرض وبيان النّعم التي فيها ليتدبّر العقلاء وليتذكّر أولو الألباب ، فقال عزوجل :

١٩ ـ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ... مددناها أي دحوناها يوم دحو الأرض ، وبسطناها صالحة للسكن وألقينا : وضعنا ، واللفظة تدل على ثقل ما ألقي فيها من (رَواسِيَ) وهي الرواسخ من الجبال الثابتة التي لا تتزلزل ولا تبرح مكانها لأنها أوتاد الأرض كما قال تعالى ، ثم قال : (وَأَنْبَتْنا فِيها) أنشأنا نباتا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدّر بميزان الحكمة متناسب في نوعيته وجميع خواصّه ، ممّا يدل على قدرتنا وعظمة ما خلقناه فيها من النبات ، فقد فعلنا ذلك في الأرض ، و :

٢٠ ـ (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) : أي صيّرنا وأوجدنا في الأرض ما يعيشون به من المطاعم والملابس والمساكن ، وخلقنا لكم ذلك وغيره ممّا جعلنا رزقه علينا ونفعه لكم ولستم بمكلّفين برزقه

كالأشجار ومختلف النباتات والحيوانات. بل والخدم والعبيد فإن رازقهم الله جل وعلا. وجملة : ومن لستم له برازقين ، يمكن أن تكون عطف بيان على (مَعايِشَ) ولفظة (مَنْ) وضعت لتغليب العقلاء أو هي تعود على (لَكُمْ) ويراد بها العيال والخدم وغيرهم ممّن نتولّى نحن رزقهم ونقدّر لهم معيشتهم وإياكم ، فلا تحسبوا أنكم تتحمّلون رزق أحد من هؤلاء ، وهذا كقوله سبحانه : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

٢١ ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ... أي : وما من شيء. والخزائن : جمع الخزانة بالكسر ، وهي كالمخزن اسم مكان يخزن فيه الشيء ، وخزانة كل شيء بحسبه. ويقال خزانة السلطان يعنون المكان المعدّ لجمع أمواله فيه كالذهب والفضة والمستندات الهامّة ، كما يقال خزائن ومخازن الحنطة والشعير وبقية الحبوب كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه‌السلام : اجعلني على خزائن الأرض ، وخزينة الصرّاف هي صندوقه الحديدي ، وخزّ ان الحمّام مجمع حياض مائه ، فالخزائن عبارة عن مجمع كل شيء يخزن فيه لحفظه ، وحاصل قوله تعالى أنه ما من شيء من الأشياء الممكنة التي أوجدها إلّا وهي في مقدوره وإيجادها رهن بإرادته الحكيمة ، ومفاتح كلّ شيء بيده لأنه المنشئ البارئ الموجد بقول : كن ، والأمور عنده مرهونة بأوقاتها فإذا حان حينها واقتضت المصلحة إيجادها وفق علمه الحكيم لا يجلّيها لوقتها إلا هو عزّ وعلا. وقد جمع لفظ (الخزائن) مع أن إفرادها كان يفيد العموم باعتبار أن مقدوراته غير متناهية ، ولو أفرد لتوهّم تناهيها ، والخزائن التي عنده فيها ـ مع جملة ما فيها ـ أرزاق العباد ومعايشهم (وَما نُنَزِّلُهُ) أي الشيء الذي حكى سبحانه عنه لا ينزله من خزائن علمه في السماء إلى الأرض (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي بمقدار ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

٢٢ ـ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ... موضوع الرّيح التي قد لا يعيرها الإنسان القاصر اهتمامه ، تمدّح سبحانه نفسه بإرسالها من خزائن علمه

وقدرته وجعلها (لَواقِحَ) جمع لاقحة ، وهي لاقحات السحاب التي تحملها وتحمل ماءها إلى المكان المقرّر له ، ولاقحة الأشجار والنباتات تحمل الريح اللّقاح من مكان إلى مكان فيتطاير معها ويلقح ما يقع عليه من الأزهار المناسبة له بعملية عجيبة غريبة تدلّ على دقة الصّنع وعظمة الصانع. فقد أرسلنا الريح لهذه الغايات كلها (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا ينحدر من السحاب (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لشربكم وشرب حيواناتكم ونباتاتكم (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى سبحانه عنهم ما أثبته لنفسه في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ). فهو خالق الماء ، وهو القادر على إنزاله ، وخزائن الماء عنده ، وهم لا يستطيعون خزن ما يكفيهم منه ، وإن هم خزنوه تحوّل إلى ماء آسن نتن غير صالح لحياتهم وحياة حيواناتهم ونباتاتهم لأن الماء مادّة حياة كل شيء.

٢٣ ـ (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) : تكرير الضمير في (إِنَّا) و (نَحْنُ) يدل على الحصر والتأكيد التام ، وكذلك اللام في (لَنَحْنُ) وبهذا حصر وأكّد بما لا يقبل الجدل والأخذ والرّد بأنه سبحانه هو المحيي المميت ولا يملك ذلك غيره. وقيل إنه يعني أيضا إحياء قلوب الأولياء بأنوار جمال قدسه وعظمة جلاله ، وإماتتها بالعمى عن رؤية آياته وفهم دلالاته. وللقرآن بطون والله أعلم بما يقول ، وقد قال : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) لأنه تعالى يرث الأرض ومن عليها ولا بقاء لمخلوق على وجهها وهو الحي الباقي بعد فناء كل شيء. ويراد بالآية السّلطة والملكية لكل ما خلق وبرأ منذ بدء الخليقة إلى أمد انتهائها ، وليس الإرث هنا انتقال مال شخص إلى آخر بعد وفاته ، إذ متى كانت السّماوات والأرض ملكا لغيره تعالى ، حتى يرثها من ذلك الغير بعد موته؟! سبحانه فهو الباعث الوارث.

* * *

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ

عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

٢٤ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) ... أي علمنا الماضين منكم وعرفنا حالهم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) أي الباقين ، أو عرفنا الأوّلين والآخرين. أو المتقدّمين في الصف الأول في الصلاة والمتأخّرين عنه ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حثّ الناس على الصلاة في الصف الأول فكان بعضهم يتقدم إليه ليدركوا فضيلته ، ولكنهم كانوا إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم إلى المرأة الحسناء تصلّي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرون يتخلّفون ويتأخرون ليكونوا في الصفوف الخلفية فينظروا إلى عجزها ، فنزلت الآية. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله وملائكته يصلّون على الصف المتقدّم ، فازدحم الناس فيه ، وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا : لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصفّ المتقدّم فنزلت هذه الآية. فعلى هذا يكون المعنى أننا نجازي الناس على نيّاتهم ، فالذي يبعد عن المسجد وكان قصده إدراك فضل الصلاة في الصف الأول ولا يدركه لبعد داره فنحن نجازيه على خطواته ، بكل خطوة نكتب له حسنة فيتساوى مع المصلّي في الصف الأول في الثواب. وفي مقام الحثّ على الصلاة في الصف الأول قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير صفوف الرجال أولها وشرّها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها. فتأخرت النساء عن الرجال وفرقن عنهم بعد أن كنّ في صدر الإسلام مختلطات بالرجال.

٢٥ ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : أي أنه سبحانه يحشر جميع الناس إليه فيجمعهم في صعيد يوم القيامة ويحاسبهم بحسب أعمالهم وبحسب علمه بهم وهو حكم في تدبيره ولا يهمل شيئا.

* * *

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١))

٢٦ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) : أي خلقنا آدم من طين يابس إذا نقر صلصل وصوّت. والحمأ : الطين المتغيّر الذي تبدو له رائحة لطول بقائه كذاك الذي يستقرّ تحت مياه الحياض والآبار من الطين ذي اللون الأسود ذي الرائحة غير المحبوبة ، و (المسنون) المصبوب المصوّر المفرغ في صورة كما يصب الذهب والفضة والمعادن المذابة. وقيل هو المتغيّر الفاسد ، من قوله تعالى : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) : أي لم يتغيّر ولم ينتن. فعلى هذا يكون الحمأ طينا متغيّرا أسود منتنا ، فتصوّر قدرة الله تعالى الذي يطوّر هذا الطين في مراتب حتى يصل إلى الصورة الترابية اللطيفة الحسنة الجميلة ، أي من الحمئيّة إلى إعطاء الصورة ، إلى التصلصل ، إلى نفخ الرّوح فإعطاء الحياة ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

٢٧ ـ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) : أي من قبل خلق آدم ، والجان قيل إنه إبليس ، وقيل هو أب الجن وسمّي جانّا لتواريه عن أعين الناس كما يسمّى الجنين جنينا لهذا السّبب. وعن الصادق عليه‌السلام الآباء ثلاثة : آدم ولد مؤمنا ، والجان ولد مؤمنا وكافرا ، وإبليس ولد كافرا وليس فيهم نتاج إنما يبيض ويفرّخ وولده ذكور وليس فيهم إناث وفي بعض الرّوايات أن الشياطين من ولد إبليس وليس فيهم مؤمن إلا واحد اسمه هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآه جسيما عظيما وامرءا مهولا فقال (ص) : من أنت قال أنا هام بن هيم

ابن لا قيس بن إبليس ، كنت يوم قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام أنهى عن الاعتصام وآمر بإفساد الطعام : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بئس لعمري الشاب المؤمّل والكهل المؤمّن. فقال : دع يا محمد عنك هذا. فقد جرت توبتي على يد نوح ، ولقد كنت معه في السفينة فعاتبته على دعائه على قومه ، ولقد كنت مع إبراهيم حيث ألقي في النّار فجعلها الله بردا وسلاما ، ولقد كنت مع موسى حين أغرق الله فرعون ونجّى بني إسرائيل ، ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته ، وكنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه ، ولقد قرأت الكتب فكلّها يبشرني بك ، والأنبياء يقرءونك السّلام ويقولون : أنت أفضل الأنبياء وأكرمهم. فعلّمني ممّا أنزل الله عليك شيئا : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : علّمه. فقال هام يا محمد ، إنا لا نطيع إلّا نبيّا ، أو وصيّ نبيّ فمن هذا؟ قال هذا أخي ووصيّي ووزيري ووارثي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : نعم ، نجد اسمه في الكتب إليّا. فعلّمه أمير المؤمنين (ع) فلما كانت ليلة الهرّير بصفين جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (من نار السموم) أي شديد الحر النافذ في المسامّ (ومسامّ الجسد ثقوبه) وسموم الإنسان وسمامه فمه ومنخراه وأذناه ، أو نار لا دخان لها. فمن قدر على ابتداء خلق الإنسان والجنّ ، أو خلق الثقلين ، من العنصرين ، وإفاضة الحياة عليهم ، قدر على إعادتهم وإحيائهم مرة أخرى بعد الموت لمحاسبتهم على أعمالهم.

٢٨ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) ... أي اذكر يا محمد ، أو اذكر أيها الإنسان ، يوم قال ربّك لملائكته : إني خالق بشرا : إنسانا ، وموجوه (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وهو الذي مرّ تفسيره. فأعلمهم بذلك ثم أمرهم قائلا :

٢٩ ـ (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ... أي إذا أتممت خلقته على أحسن صورة مستوية وأعدلها ونفخت فيه من روحي : والنفخ إجراء الريح

في جوف جسم ، وقد أضافه سبحانه إلى نفسه للتشريف. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل : كيف هذا النّفخ؟ فقال إن الروح متحرّك كالريح ، وإنما سمّي روحا لأنه اشتقّ اسمه من الريح ، وإنما أخرجت على لفظ : الرّوح ، لأن الروح مجانس للريح. وقد أضافه الله سبحانه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما أنه اختار بيتا من الأرض وسمّاه (بيتي) وكما قال عن رسول من الرّسل : خليلي ، وكأشباه ذلك. وقال الصادق عليه‌السلام : الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء ونسمة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي اسجدوا عبادة لله وتكريما لهذا المخلوق وتعظيما له وتسبيحا لله على هذه القدرة القادرة.

٣٠ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) : أي امتثلوا أمر ربّهم عزّ وعلا ، وقد مرّ تفسيره.

٣١ ـ (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : رفض السجود واستكبر عنه فاستثناه الله تعالى.

* * *

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ

الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

٣٢ ـ (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : أي قال الله تعالى ذلك القول لإبليس موبخا له غاضبا عليه لعصيانه. ولفظة : (ألّا) هي (أن) و (لا) و (لا) زائدة ولكنها مؤكّدة ، والمعنى : ما منعك أن تسجد؟

٣٣ ـ (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ) ... أي : لا يصحّ مني وأنا مخلوق روحانيّ أن أسجد لبشر : جسم ماديّ كثيف خلقته وأوجدته من التراب الذي مرّت صفته وهو من العناصر المنتنة.

٣٤ ـ (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي : اخرج ممّا أنت عليه من المنزلة الرفيعة في السماء مع زمرة الملائكة لأنك رجيم : ملعون مطرود من الكرامة. أو مرجوم ، وقيل إن الضمير في (منها) راجع إلى السماء أو إلى الجنّة.

٣٥ ـ (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : أي مع طردك من منزلتك هذه فإنك ملعون قد لحق بك غضب الله عزوجل الى يوم القيامة. ويوم الدّين : هو يوم محاسبة العباد بحسب قوانين شرائعهم وأديانهم.

٣٦ ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : أي قال إبليس اللعين : ربّ أخّرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم البعث والنشور والقيامة.

٣٧ و ٣٨ ـ (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي إنّك من المؤخّرين الممهلين إلى ما قبل يوم القيامة. وعن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عنه فقال : يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة ،

فيموت إبليس بين النفخة الأولى والثانية. وفسّر في بعض الروايات بيوم يبعث فيه القائم عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه ، قال الصادق عليه‌السلام : فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة ، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه ـ أي يجلس على ركبتيه وأطراف أصابعه ـ على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه ، فذلك يوم الوقت المعلوم. ويؤيد هذا التفسير أن إبليس استمهل الله سبحانه وتعالى إلى يوم يبعثون أي يوم القيامة الكبرى ، ولكن الله جلّ وعزّ أجابه بأنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم لا بحسب ما طلبت واسمهلت. وقيل إن المراد هو يوم يذبحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصخرة التي في بيت المقدس يعني في عهد الرجعة في بعض الروايات.

٣٩ و ٤٠ ـ (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ... أي بسبب إغوائك إياي ، والإغواء هو الإضلال ، والإضلال لا تجوز نسبته إلى الله تعالى لأنه سبحانه لا يضل عن طريق الحق. وهذا يحمل على أن إبليس اعتقد الجبر كما هو مذهب الأشاعرة وغيرهم وهو ليس منه ببعيد. وقيل إن الإغواء هنا بمعنى التخييب ، أي بما خيّبتني من رحمتك وطردتني من نعمتك (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) لأغرينّ الناس (فِي الْأَرْضِ) وأحسّننّ لهم فعل القبائح والمعاصي ، ولأضلّنّهم (أَجْمَعِينَ) جميعهم. وسأخيّبهم كما خيّبتني من رحمتك بدعوتهم إلى معصيتك بحيث أغريهم حتى يعصوك (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي ما عدا المخلصين لك في العبودية لأنك تكون أنت قد اصطفيتهم وجعلتهم أخيارا لا يعصونك. فإن لفظ (الْمُخْلَصِينَ) إذا قرئ بكسر اللام ، كان معناه أنهم أخلصوا دينهم لله تعالى ولم يجعلوا للشيطان عليهم سبيلا. وإذا قرئ بفتح اللام فمعناه الذين استخلصتهم لطاعتك وطهّرتهم من الشوائب ونزهتهم عن الشّرك والوساوس والأوهام ورجس المعاصي فهم مخلصون لا يتطرّق ريب إلى نفوسهم لا في العقيدة والإيمان ، ولا في الأقوال والأفعال ، وهم الأنبياء وأوصياؤهم وأولياء الله تعالى.

٤١ ـ (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) : أي قال الله تبارك وتعالى : إن هذا الصراط الذي أضعه صراط حقّ لا عوج فيه وهو :

٤٢ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ... أي عبادي الذين يعبدونني ولا يشركون بي شيئا من الذين اخترتهم وقبلت قولهم وعملهم ، فهؤلاء لن تكون مسلّطا عليهم ولن تقدر على إغوائهم ، ولن يصيب إغواؤك (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) وسمع لوسوستك وتزيينك (مِنَ الْغاوِينَ) الضالّين لأن الغواية هي الضلال.

٤٣ و ٤٤ ـ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) : أي أن النار تكون مكان موعدهم وملتقاهم إن هم اتّبعوك وعصوني ، وقد أعددتها للغاوين معك وجعلت (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) تستوعب كثرتهم إن كانوا كثيرين ، بحيث يدخلونها بسهولة ف (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من أتباعك (جُزْءٌ) منهم (مَقْسُومٌ) مفرز عن بقية أجزائهم يدخل من الباب المعدّ له. وفي الكريمة إشارة إلى سعة جهنّم وأنها تسعهم مهما بلغوا مصداقا لقوله تعالى ، يوم نقول لجهنّم هل امتلأت ، وتقول : هل من مزيد؟ ففي الآخرة يحشر كلّ أهل ملّة بحسب مراتبهم ، وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن جهنّم لها سبعة أبواب : أطباق بعضها فوق بعض ، ووضع إحدى يديه على الأخرى وقال : هكذا ، وإن الله وضع الجنان على العرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض .. إلى آخر الحديث.

* * *

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ

(٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

٤٥ و ٤٦ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، ادْخُلُوها) ... أي أن المتجنّبين لمحاربة الله ، العاملين وفق أوامره والمنتهين عن نواهيه سيكونون في جنان الخلد ذات العيون والأنهار من الماء والخمر واللبن والعسل وغيرها وكأن يقال لهم : (ادْخُلُوها) على إرادة القول : ادخلوا الجنة راضين مرضيّين (بِسَلامٍ آمِنِينَ) سالمين لا تخافون فيها محذورا قط.

٤٧ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) ... أي : أنزلنا من قلوبهم كلّ عداوة وكلّ حقد فعاشوا فيها ناعمين (إِخْواناً) متآخين كأنهم أبناء أب واحد يحب بعضهم بعضا ولا يتحاسدون في نعمة ولا في درجة ، بل يغبط بعضهم بعضا على مرتبته ويهنّئه بها وهم (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) يجلسون على أرائك ومقاعد بعضهم يواجه بعضا ولا يرى أحد من قفا أحد لدوران الأسرّة بهم.

٤٨ و ٤٩ و ٥٠ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) ... أي لا يصيبهم تعب وعناء (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فهم مخلّدون فيها ، والخلود من كمال النعمة وتمامها ، والكريمتان ٤٩ و ٥٠ تشيران إلى أن العباد لا بدّ وأن يكونوا بين الرّجاء والخوف ، والأخبار الكثيرة تشير إلى ذلك أيضا وهما فذلكتان لما سبق من الوعد والوعيد ومقررتان لهما.

* * *

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ

مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

٥١ ـ (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : عطف على قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي) ، والمناسبة أن قصة إبراهيم وقوم لوط تحقيق وتثبيت للوعد والوعيد لأنهما مصداقان لهما حيث إنهما مشتملان على البشارة والهلاك. كما تشير إليهما الآيات الآتية :

٥٢ ـ (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) ... أي بعث الله رسلا إلى إبراهيم عليه‌السلام يبشّرونه بإسماعيل ، فدخلوا عليه ليلا وهم في صورة الأضياف ، ولذا سمّاهم الله ضيفا ، ففزع منهم وخاف أن يكونوا سرّاقا. فلما رآه الرّسل فزعا مذعورا (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلّم عليك سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون ، والوجل هو اضطراب النّفس لتوقّع أمر مكروه.

٥٣ ـ (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ) ... أي لا تخف ولا تضطرب منّا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) أي ولد ذكر (عَلِيمٍ) من أهل العلم والمعرفة يعلم علما كثيرا ، وفيه إشارة للبشارة بأنه من الأنبياء. وعن الصادق عليه‌السلام : فمكث إبراهيم عليه‌السلام بعد البشارة ثلاث سنين ثم جاءته البشارة من الله تعالى بإسماعيل مرّة بعد أخرى وولد بعد ثلاث سنين.

٥٤ ـ (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) ... أي على حالة أصابتني فيها الشيوخة وقد استبان فيّ السنّ وظهور الشّيب وقد تعجّب عليه‌السلام من أن يولد له مع كونه في سنّ لا يولد لمثله عادة إلّا أن يرجع ويعود إلى شبابه وذلك محال عادة ، ولذا سأل : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) أي على أيّ من الحالتين يقع ويوجد التوّلد وكلاهما خلاف العادة؟ على الشّيبة أم على

الشّبيبة؟ فتعجّبه كان باعتبار العادة لا باعتبار القدرة لأن الله سبحانه لا يعجزه شيء.

٥٥ ـ (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) ... أي قال الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام : حملنا إليك هذه البشارة الصادقة التي هي أمر حقّ لا شك فيه ولا ريب (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) القانط : اليائس ، فلا تيأس من رحمة الله عزوجل.

٥٦ ـ (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) : أي أجاب إبراهيم عليه‌السلام رسل ربّه بأنه لا ييأس من رحمة الله تعالى إلّا الضائعون عن معرفته التائهون في ظلام الجهل والكفر.

* * *

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

٥٧ و ٥٨ ـ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) : أي ما هو شأنكم وطلبكم بعد هذه البشارة يا رسل ربّي (قالُوا) مجيبين : (إِنَّا أُرْسِلْنا) بعثنا من قبل ربّنا تبارك اسمه (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إلى جماعة عاصين يرتكبون الآثام والجرائم ويعملون القبائح والخبائث ، وهم قوم لوط الذين لم يصرّحوا بهم لأن شأنهم معلوم لديه من جهة ، ولأنّهم أكملوا حديثهم قائلين :

٥٩ و ٦٠ ـ (إِلَّا آلَ لُوطٍ) ... فاستثنوا آل لوط من الهلاك وقالوا : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) مخلّصوهم من الهلاك (أَجْمَعِينَ ، إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثنوا من النّجاة امرأة لوط عليه‌السلام فإنها على ديدن قومها وقد (قَدَّرْنا) أي قضينا وحتمنا ـ على إرادة القول من جانب العزّة الإلهية ـ : (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ)

أي من الهالكين الذّاهبين في الهلاك ، وقضت مشيئتنا بأنها كأنها قد مضت مع الماضين لأنها ستبقى في القرية مع قومها لينزل بها الهلاك معهم.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

٦١ و ٦٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) ... أي فلما حضر رسل الله من الملائكة إلى القرية التي فيها لوط وأهل بيته ودخلوا عليه (قالَ) لوط لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي غير معروفين من قبلي وأخاف أن تطرقوني بشرّ لأنني لم أر أشباها لكم.

٦٣ و ٦٤ ـ (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) ... فأجابوه قائلين : لا تخف منّا وإنّما أتيناك بما يسرّك وهو العذاب الذي كان قومك (يَمْتَرُونَ) فيه ، أي يشكّون؟ ويعتبرونه مراء حين توعّدتهم به : و (أَتَيْناكَ) جئناك (بِالْحَقِ) بالأمر الحق ، وهو العذاب الواقع المتيقّن الذي لا ريب فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أكّدوا صدقهم بالواو التي تفيد القسم ، وبإنّ ، وبلام التوكيد ، ثم أبلغوه أمر ربّه قائلين له :

٦٥ ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ... أسر : أي سر ليلا ، وامش

خارجا من قريتك التي أنت فيها (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي بجزء منه وطائفة ، وقيل بعد انتصافه و (اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي سر خلف عائلتك لتعلم حالهم وتعرف أنهم يمضون حسب أمرك لهم فلا يتخلّف منهم أحد بسبب علاقته بأهل أو بأصحاب في البلد ، أو بعشيرة أو أقارب ، وكن عينا عليهم تراقبهم لئلا يعمهم العذاب (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينبغي أن ينظر أحد منكم جميعا إلى ما وراءه ممّا خلّف في المدينة لئلا يروا العذاب والمعذّبين فيفزعوا (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) سيروا إلى الناحية التي نأمركم بها بأمر الله تبارك وتعالى : وقيل هي أرض الشام : وقيل : أرض مصر.

٦٦ ـ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) ... أي أوحينا إليه أمرا محتوما قد وقع القضاء به ، وهو (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) القوم ، أي ما هو وراءهم ممّا يترك في العادة من أولاد وخلفاء في أموالهم وأرزاقهم ، فهو (مَقْطُوعٌ) مستأصل مبتور من أصله (مُصْبِحِينَ) حال كونهم مدركين للصباح وطلوع الفجر.

* * *

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤))

٦٧ ـ (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي حضر أهل مدينة سدوم التي كان لوط عليه‌السلام فيها يبشّر بعضهم بعضا بالأضياف الذين نزلوا عليه

طمعا فيهم لأنهم كانوا على صورة شباب مرد حسان الوجوه والهيئة.

٦٨ و ٦٩ ـ (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) ... أي قال لوط عليه‌السلام لقومه : إن هؤلاء ضيوف نزلوا بيتي ، وهم عندي بكفالتي فلا تفضحوني بمبادرتكم السّيّئة ، ولا تجرّوا إليّ هذه السّمعة القبيحة بأن ضيوفي قد مسّت كرامتهم (وَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه وسخطه (وَلا تُخْزُونِ) لا تجعلوني مخزيّا ذليلا ولا تخجلوني بعار هذه الفاحشة. والخزي بمعنى الحياء من ركوب العار وفعل ما هو قبيح.

٧٠ ـ (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) : عن الباقر عليه‌السلام أن المراد به النهي عن ضيافة الناس وإنزالهم في ضيافته والاتصال بهم ومعاشرتهم لإرشادهم إلى الهدى والحق.

٧١ ـ (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) : المراد بناته من الصّلب ، أو أراد نساء القوم ، لأن كل نبيّ بمنزلة الأب لأمته لولايتهم المطلقة الّتي بها صاروا أولى بالمؤمنين من أنفسهم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) تريدون قضاء الوطر فتزوّجوهنّ بالحلال الذي شرعه الله تعالى.

٧٢ ـ (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) : أي وحياتك يا محمّد ، فعن ابن عبّاس قال : ما خلق الله خلقا أكرم وأعزّ من نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذا ما حلف بحياة أحد غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيل هذا الخطاب من الملائكة للوط (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في ضلالتهم وغوايتهم التي أزالت عقولهم يتحيّرون فكيف يسمعون النّصح ويقبلون الهداية؟.

٧٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) : أي فعمّتهم صيحة جبرائيل الهائلة (مُشْرِقِينَ) حين شروق الشمس وروي أن جبرائيل عليه‌السلام أدخل أجنحته تحت قراهم ورفعها إلى أن قربت من السماء بحيث يسمع أهل السماء صياح الدّيوك والكلاب فقلبها منها.

٧٤ ـ (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) : كما تشير الآية المباركة (فَجَعَلْنا عالِيَها

سافِلَها) صارت منقلبة بهم رأسا على عقب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجّر ، أو حجر سجّل باسم كل واحد من أهالي القرى. وظاهر الكريمة أن الأمطار كان بعد التقليب. فعلى هذا أيّ فائدة في الأمطار بعد الهلاك؟ يمكن أن يفرض فيه فائدتان : الأولى استحكام الأراضي والتّرب المتراكمة حتى لا تذهب أرياحهم العفنة المنتنة إلى القرى المجاورة فيتأذى بها أهلها والثانية تسوية الأراضي الخربة وجعلها قاعا صفصفا كالمسيل الواسع المفروش بالأحجار بحيث إذا يمرّ المارّون وينظرون إلى تلك القرى يرون كأن لم يكن شيئا مذكورا ولم تكن هناك عمارة فتكون عبرة لأولي البصائر والألباب مع أن قرى قوم لوط الأربع كانت عامرة بالأبنية الرفيعة العالية وبالنعم الجسيمة الكثيرة وكانت بين الشام والمدينة وأكبرها سدوم التي كان لها مركز خاص.

* * *

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

٧٥ و ٧٦ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أكّد سبحانه وتعالى أن في قصة قوم لوط وقلب مدائنهم الأربع عبرة لمن اعتبر من المتوسّمين : أي المتفرّسين الذين ينظرون إلى الأشياء بتعمّق وتدبّر حتى يدركوا حقائقها بعين العقل ونور الفكر الصائب. وقوله تعالى : (لَآياتٍ) قد يعني : الصيحة ، ورفع المدن ، وقلبها ، والإمطار بالأحجار ، فكل واحدة منها آية وعلامة لمن تبصّر واعتبر. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم. وقال الصادق عليه‌السلام : نحن المتوسّمون ، والسبيل فينا مقيم ، وهي طريق الجنّة ، والوسم العلامة (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) الضمير في (إِنَّها) عائد إلى مدائن قوم لوط ، أي أن هذه المدن بما ظهر فيها من آثار نقمة الله سبحانه من قلعها وقلبها بأهلها وما فيها ، وجعلها كأن لم تكن

مع تلك الأبنية المتينة العالية والقلاع المشيّدة ، ثم من المطر بأحجار مخصوصة من سجّيل وعلى كيفية خاصة مباينة للأحجار المعهودة الطبيعية ، وبحيث يعرف كل حجر صاحبه ، إن ذلك كله لموجود في طريق ثابت يسلكه الناس أثناء أسفارهم في سبيل حوائجهم ويرونها قبل أن تندرس آثارها وتبتلعها الأرض وفي الآية الكريمة تذكير لقريش لأن تلك القرى تقع في طريقهم بين الحجاز والشام التي هي طريق تجارتهم ، وذلك كقوله سبحانه : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) وهي كذلك للتنبيه والتفكّر بعواقب الأمور.

٧٧ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : هذه الآية الشريفة كسابقتها إلّا أن الأولى تعني أن المتوسّمين هم الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم‌السلام كما أشرنا وكما تدل الأخبار الكثيرة ، وهذه تعني المؤمنين من قبيل ذكر العام بعد الخاص ، فهي من باب التنبيه لأهل الإيمان والتصديق. وأما الذين لا يؤمنون فإنهم ليسوا محلّا لعناية الله سبحانه لأنهم يحملون الآيات السماويّة على أحداث الطبيعة ووقائع القرانات الكوكبية والتحرّكات الفلكية ، أو من حركة الغازات الجوفية في الأرض ، أو من تكاثر الأبخرة المتولّدة من المياه المخزونة تحت الأرض ، أو من عوامل أرضية جيولوجيّة ناتجة عن استكاكات خاصة بها ، وكأن ذلك كلّه أوجده واحد آخر غير خالقنا سبحانه وتعالى.

* * *

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩))

٧٨ و ٧٩ ـ (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ... أصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه‌السلام ، والأيكة ، الأشجار الملتفّة. والمراد هنا غيضة كانوا يقيمون بها تقع بقرب مدين. وهي أجمة كثيفة من الأشجار فيها مجامع ماء ، ممّا جعل بلادهم جنائن وبساتين غنّاء ، ولذلك سمّيت أيكة وسمّوا

هم بها لشهرتها ولوفرة النعيم الذي كانوا يعيشون فيه. و (إِنْ) مخفّفة ، والأصل : إنّ أهل الأيكة ـ أي قوم شعيب ـ لظالمين لأنفسهم إذ بعث الله تعالى لهم رسوله شعيبا عليه‌السلام ليهديهم إلى الدين والتوحيد فكذّبوه ، وزاد في الجهد معهم فازدادوا كفرا وعنادا وأمعنوا في التكذيب (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أحللنا بهم نقمتنا وسخطنا وعذابنا فأهلكناهم. وكان هلاكهم بالحرّ ، وهو عذاب يوم الظّلة ـ والعياذ بالله منه ـ إذ دهمهم حرّ محرق لا يطاق ، ثم بدت سحابة لجأوا إليها ليستظلّوا بها من شدّة الحرّ فأحرقتهم بصاعقة بعد أن عاقبهم بالحرّ سبعة أيام ، ثم لمّا أووا إلى ظلّ الغيمة يلتمسون روحها وبردها أرسل الله عليهم الصاعقة ، فبعدا للقوم الظالمين.

أما قوله سبحانه : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) فإن ضمير التّثنية في (إِنَّهُما) يعني سدوم والأيكة ، فهما آيتان موجودتان بإمام ، طريق ، مبين : واضح للساكنين. وقد سمّى الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع ويهتدى به كما أن الإمام كذلك. وقيل معناه أن حديث مدينتيهما ، أي مدينتي قوم لوط وشعيب مكتوب في اللوح المحفوظ نظير قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ، فأطلق الإمام على اللوح بذلك الاعتبار المذكور.

* * *

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

٨٠ ـ (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) : أي ثمود كذبوا صالحا.

والحجر واد كان يسكنها القوم بين المدينة والشام. هذه هي القصة الرابعة. فالأولى قصة إبليس وآدم ، والثانية قصة إبراهيم ولوط ، والثالثة قصة أصحاب الأيكة. وإنما سمّوا أصحاب الحجر لأنهم كانوا سكّانه كما يسمّى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصّحارى. وإنّما قال تعالى : (الْمُرْسَلِينَ) إمّا لأن في تكذيب صالح عليه‌السلام تكذيب المرسلين جميعا ، حيث إنه (ع) كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون من التوحيد والإيمان بالمرسلين. وقيل بعث الله إليهم في مرور الدهور والأزمان رسلا من جملتهم صالح فكانوا يكذبونهم كلّهم.

٨١ ـ (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) ... أي آتينا أصحاب الحجر الحجج والبراهين الدّالة على صدق المرسلين. أو آتينا الرّسل المعجزات والدلائل الدالة على صدق دعواتهم : كالناقة التي كان فيها آيات كثيرة كخروجها من الجبل المكوّن من الصخر ، وكبر خلقتها بحيث لم تخلق ناقة بتلك العظمة في الخلقة ، وكونها حبلى حين خروجها كما أرادوه ، وضع حملها في الوقت ، وكونها ذات لبن كثير بحيث يكفي أهل البلد (ثمود) وشربها لجميع مياههم يوم نوبتها. والحاصل أن كل واحد من هذه الأمور آتية ومعجزة يعجز عنها كل أحد من المخلوقات (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي لم يقبلوها وفعلوا ما نهوا عنه من عقر الناقة وقتل ولدها ولم يعتبروا بها. وكان قوم صالح أقوياء ، نقادين على ما يستفاد من قوله تعالى :

٨٢ ـ (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) : أي يحفرون في الجبال بنقرها ونحتها مساكن فيها (آمِنِينَ) مطمئنّين من خرابها وسقوطها عليهم ومن العذاب الذي أوعدهم الرّسل والأنبياء المبعوثون لفرط غفلتهم ونسيانهم ذكر ربّهم وخالقهم.

٨٣ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) : أي صيحة جبرائيل عليه‌السلام خلّت بهم (مُصْبِحِينَ) وقت الصبح حين شروق الشمس.

٨٤ ـ (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا) ... أي ما نفع ودفع عنهم ما كانوا يحصّلون من البيوت الوثيقة وازدياد الأموال وأنواع الملاذّ. وهذه القصص الأربع المذكورة المتوالية في هذه السورة ، كأنها تصبير للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على سفاهة قومه وكثرة إيذائهم إيّاه صلوات الله عليه وآله ، فإنه إذا سمع مكرّرا أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم ورسلهم بهذه المعاملات الفاسدة والأعمال السّفيهة الشاقّة ، سهل عليه نسبة تحملّ تلك المشقات والأذى منهم وعرف صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ديدن الأمم الجاهلة كان هكذا مع الرّسل من السّلف الماضين إلى الخلف الباقين ، فلا بدّ من تحمّل المشاق. غاية الأمر أنّ للأذى والتّأذّي مراتب ، وكان تأذيه من قومه أعلى مراتبه بحيث قال صلوات الله عليه : ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذي ، حتى في آخر نفس منه بأبي هو وأمّي آذوه وأحرقوا كبده الشريف بحيث انصرف عن أهمّ أمر أراد أن يمضيه ويثبّته إلى الأبد لهداية الأمّة وكشف الغمّة ، فاللهم العنهم لعنا وبيلا وعذّبهم عذابا أليما. ولما ذكر في الآيات السابقة الإهلاك والتعذيب فكأنه قيل كيف يليقان بالرّحيم الكريم الودود الذي هو أرأف بعباده من كل رؤف؟ فأجاب عنه بأنّي خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة مطيعين لأوامري منتهين عن نواهيّ ، فإذا خالفوني وتركوها وجب عليّ حسب اقتضاء الحكمة إهلاكهم واقتلاعهم عن الأرض لأنهم مادة الإفساد والفساد ، ولا يفيدهم النّصح والعظة ولا العفو والرّحمة ، فاني أعرف بعبادي من كل عارف ، وأعلم بأحوالهم من كل عليم.

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ

 هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩))

٨٥ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ) ... أي ما خلقنا خلقا عبثا بل لما اقتضته الحكمة ، خلقناهم للمعرفة والعبوديّة ، وللطاعة والاتّقاء ، وكذلك خلق السّموات والأرض للاعتبار ولا للعبور والحاصل أن خلقهما وخلق ما بينهما لا يكون (إِلَّا بِالْحَقِ) للأغراض والحكم الصّحيحة فلا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرّ ، فلذا اقتضت الحكمة إهلاك المفسدين وإزاحة فسادهم من الأرض. وهذا معنى كون خلقهما بالحق (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي ساعة الجزاء في دار الانتقام جاثية فيجازى كلّ بعمله فالمحسن يجزى والمسيء ينتقم منه (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم واعف عنهم عفوا جميلا. وقيل إنها منسوخة بآية القتال ، وقيل لا نسخ فيها بل هو فيما بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقوقه الشخصية وبينهم ، أي في أمورهم الشخصيّة والقوميّة لا فيما أمر به من جهة جهادهم الّتي هي راجعة إلى مصالح نوعيّة عامة ، فأمره بالصّفح في موضعه كقوله : وأعرض عنهم في حقوقه وعظهم. والصفح ممدوح في سائر الحالات وهو كالحلم والتواضع ، ولا منافاة بين الصفح الجميل مع لزوم الشدة في أمر الجهاد. وعن الرضا عليه‌السلام : الصفح الجميل يعني العفو من غير عتاب ، وقيل هو العفو من غير تعنيف وتوبيخ.

٨٦ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) ... أي كثير الخلق ، وخلقهم وبيده أمرك وأمرهم وهو (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم وما فيه صلاحهم ، فهو أحق بان توكّل إليه أمرك وأمرهم حتى يحكم بينك وبينهم بالحق.

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) : المثاني : جمع مثنى ، وقيل المثاني هو القرآن أو آياته على اختلاف العبارات. وقيل هي سورة الحمد. وعلى القولين عطف القرآن على السّبع من باب عطف العام على الخاص وبناء على القول الأخير ولفظة (مِنَ) بيانيّة وعلى الأوّل تبعيضيّة. ووجه تسمية سورة الحمد بالمثاني إما على القول بكون المثنى مشتقّ من ثنى يثني ثنيا أي جعل الشيء ثانيا ، فلكون الحمد كلماته مثنى مثنى أو لكون نزوله مرّتين ، وإما لكون نصفها في بيان صفات الخالق ونصف آخر في حق المخلوق. ولا مانع من أن يكون باعتبار المجموع ، وإما على اشتقاقه من أثنية إذا مدحته ومنه الثناء فوجه التسمية لكونه مشتملا على ذكر صفاته العظمى وأسمائه الحسنى بكيفية مشتملة على المدح والثناء الجميل على ما لا يخفى. وأمّا إطلاق السّبع عليه باعتبار اشتماله على الآيات السبع. وقيل إن المراد بالسبع السّبع الطّوال في أول القرآن من البقرة إلى سورة براءة مع الأنفال فإنهما سورة واحدة ، ولذا لم يفصل بينهما ببسم الله الرّحمن الرّحيم. ثم إن إفراد سورة الفاتحة بالذكر مع كون أجزائها جزءا من أجزاء القرآن بقوله : سبعا من المثاني ، يدلّ على مزية فضل وشرف في هذه السّورة. وبناء على أن يكون المراد بالسّبع هي السّور الطّوال من البقرة إلى التوبة. فتسميتها بالمثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنّيت فيها وإن أنكروا هذا القول ، وهذا المبنى لجهة ذكرت في محلّها. وعن الباقر عليه‌السلام : نحن السّبع المثاني الّتي أعطاها الله نبيّنا. وقال الصّدوق : قوله نحن المثاني : أي نحن الّذين قرننا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن وبنا ، وأخبر أمّته أنّا لا نفترق حتى نرد حوضه. وفي بعض الروايات : بيان وجه التسمية في الفاتحة بالمثاني قال عليه‌السلام : إنما سمّيت المثاني لأنها تثنّى في الركعتين ، كما أنه في الرواية المذكورة أشار عليه‌السلام إلى التسمية من ناحية أخرى ، وهذا يدل على ما ذكرنا آنفا من أنه يمكن بل زائدا على الإمكان أن يكون وجه التسمية بتمام تلك الاعتبارات

والوجوه (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تقديره : وآتيناك القرآن العظيم ، وصفه بالعظيم لأنه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدّين والدنيا بأوجز لفظ وأحسن نظم وأتمّ معنى. ثم بشأن نزول هذه الآية الشريفة في مكة المشرّفة نقل أنه يوما من الأيام ورد على مكة الشريفة سبع قوافل من قريش تحمل المطاعم الكثيرة والملابس العديدة وغير ذلك من الأمتعة ، فنقل عن طائفة من الصّحابة أنه خطر على قلب الرّسول الأكرم (ص) بأنّ المؤمنين كانوا في ضيق وشدّة والمشركين في رحب وسعة فنزلت الآية الكريمة : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) إلخ .. وقيل نزلت مرة أخرى في المدينة حينما رأى الصحابة نزول سبع قوافل من يهود بني قريظة وبني نضير وتمنّوا أن تكون الأموال من الأمتعة والجواهر الثمينة لهم حتى يتصدّقوا بها في سبيل الله ، فنزل أمين الوحي جبرائيل عليه‌السلام بهذه الكريمة من عند ربّه الجليل ـ يعني فاتحة الكتاب ـ وذكر القرآن العظيم المشتمل على صلاح البشر في الدارين ، وأن ذلك خير لك ـ يا محمّد ـ وللمؤمنين من تلك الأمتعة الدنيويّة الزائلة.

٨٨ ـ (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ... أي لا تنظر إلى ما يتمتع به هؤلاء الكفار وما يتمرّغون به من نعمة نظر طمع ورغبة في مثل حالهم إذ ترى الدنيا زاهية زاهرة لهم وقد متّعنا بذلك (أَزْواجاً مِنْهُمْ) يعني أصنافا ، والزّوج في اللغة الصّنف ، فإن ما ينعمون به هم وأهلوهم مستحقر في جانب ما آتيناك من الإسلام والقرآن (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إذا لم يؤمنوا بالله ولم يشكروا نعمه وغرّتهم الحياة الدنيا بمباهجها وفتنتها. وقيل إن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد إلى أصحابه : أي لا تحزن إذا رأيت أصحابك في ضنك وضيق عيش وفقر ، فإن ما ادّخرناه لكم من النعيم الباقي خير ممّا أعطينا الكفار من النعمة الزائلة والتراث الفاني ، فهوّن عليك (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) تواضع لمن معك من (لِلْمُؤْمِنِينَ) وارفق بهم كي يتّبعك الناس في دينك وطريقتك المثلى ويميلون إليك.

٨٩ ـ (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) : أي قل للكفّار مخوفا أنا النذير : الذي

يحذّركم سخط الله تعالى وعذابه ، المبين : المظهر لصدق دعواي بالحجج والبراهين الواضحة ، وأنا أعلن لكم أنكم إذا لم تؤمنوا فإنه ينزل بكم عذابه في الدنيا وفي الآخرة.

* * *

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦))

٩٠ و ٩١ ـ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) ... هذا عطف على ما سبقه من وجوب إنذار الكفار بنزول العذاب عليهم كما نزل على المقتسمين : وهم اليهود والنّصارى عن ابن عباس فإنهم قسّموا القرآن أقساما بحسب هواهم ، فصدّقوا بما هو موافق لهم ، وكفروا بالذي كان مخالفا لهم ، فهم (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي صيّروه أجزاء وأقساما وقالوا عن بعضه : هذا حقّ لأنه موافق لما في التوراة والإنجيل ، وقالوا عن بعضه الآخر : هذا باطل لأنه مخالف لهما ، فقسّموه إلى حقّ وباطل كما عن ابن عباس ، أما ما روي عن الصادقين عليهما‌السلام فإنهما سئلا عن هذه الآية فقالا : هم قريش ، ففي كتاب عين المعاني أن كفّار قريش كان بعضهم يقول : إن سورة البقرة لي ، وآخر يقول : سورة النّمل لي والباقي لكم ، وهكذا كان كلّ واحد منهم يختار سورة استهزاء وسخرية ويتقسّمون القرآن بهذه الكيفية فسمّاهم الله سبحانه المقتسمين ووصفهم بالّذين جعلوا القرآن عضين : أي قطعا قطعا وعضوا عضوا.

٩٢ و ٩٣ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) : هذا قسم منه سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليطمئنّ قلبه بأنه سيسأل المقتسمين ، أو جميع المكلّفين. وعن ابن مسعود أنه قال : ما من عمل عمل ابن آدم إلّا إنه تعالى يسأل عنه : يا ابن آدم ما غرّك عنّي؟ يا ابن آدم ماذا عملت؟ وماذا أجبت المرسلين؟ وعن الصادق عليه‌السلام أنه : ما من أحد يوم القيامة إلّا وقد سئل عن أمور : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله كيف اكتسبه وأين وضعه ، وعن ولايتنا أهل البيت.

٩٤ و ٩٥ ـ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ... أي اجهر بتبليغ الأوامر والنواهي وأشرع في الأمر متحملا صعوباته ومسئولياته. ففي الخبر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بعث كان يدعو الناس إلى الله عزوجل في الخفاء حتى مضى عليه ثلاث سنوات ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام بهذه الآية : أي ادع علنا (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم (إِنَّا كَفَيْناكَ) منعناك وحفظناك من (الْمُسْتَهْزِئِينَ) بإهلاكهم ، فقد كان خمسة نفر أو ستة من أشراف قريش يؤذونه فأهلك الله كلّ واحد منهم بآية كما سبق وذكرنا.

٩٦ ـ (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ... قد تكون (الَّذِينَ) عائدة للمستهزئين ، وقد تعني أن جميع المشركين الذين جعلوا مع الله إلها غيره وكفروا به سبحانه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سيعرفون بطشه حين يذوقون عذابه الشديد. وهذا تهديد لهم ولجميع الكافرين.

* * *

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

٩٧ إلى ٩٩ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) : يؤكّد سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه يعرف ما يعانيه من تكذيب قومه ، وما يحسّ به من الضيق والحرج حين يطعنون بنبوّته وبالقرآن ، ويعلم كلّ ما يصيبه من أذاهم ، فيأمره أن يتسلّى بذلك وأن يمضي في دعوته قائلا له : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) نزّهه عن كل ما يليق به واحمده فإنك بعينه وفي رعايته (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) اسجد لعظمته وفوّض أمورك إليه (وَاعْبُدْ) ه وتبتّل إليه (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي ما دمت حيّا ، فاليقين هنا الموت ، فهو حقّ كائن لا محالة.

* * *

سورة النحل

مكيّة إلا الآيات الثلاث الأخيرة وهي ١٢٨ آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

١ ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ... في هذا الكلام الكريم أقوال :

أحدها : أن معناه : قرب أمر الله بعقاب المشركين ، فإنهم قالوا للنبيّ : ائتنا بعذاب الله ، فقال سبحانه : إن أمر الله آت قريب كأنه بحكم الواقع.

ثانيها : أن أمر سبحانه يعني أحكامه وفرائضه وجميع ما أتى رسوله.

وثالثها : أن أمره تعالى هو يوم القيامة ، وقد أتى : قرب مجيبه بمعنى أنه آت لقرب تحقّقه ووقوعه (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) سواء أكان العذاب أم يوم القيامة الموعود ، فإنه لا خير لكم في ذلك أيها المشركون ولا خلاص لكم من غضب الله ولا منجى من عذابه ، وسيقع في وقته وحينه وبحسب ما تقتضي الحكمة والصلاح.

٢ ـ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) ... أي ينزّلهم بما يحيي القلوب

الميتة بالجهل (مِنْ أَمْرِهِ) بإرادته وبما ينزل من الوحي والقرآن. وقيل إن المراد بالرّوح هو جبرائيل عليه‌السلام ، وفي التبيان : ما من ملك ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا دمعه الرّوح ، ويكون رقيبا عليه كما تكون الملائكة الحفظة مع كل إنسان. فهو عزّ اسمه ينزّل (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ممّن يختصّهم بالرسالة ويأمرهم (أَنْ أَنْذِرُوا) أعلموا ، فالإنذار هنا الاعلام. والجملة بدل من «الروح» بناء على كونه بمعنى الوحي. والتقدير : ينزّل الملائكة بالإنذار. وإذا كان الروح ملكا فالمعنى أنه ينزّل الروح بأمره بالإنذار. فالله تعالى يرسل الملائكة على أنبيائه ورسله بأن أعلموا الخلق ونبّهوهم بأنه (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لا ربّ سواي ولا معبود غيري (فَاتَّقُونِ) تجنّبوا مخالفتي. والآية تدل على أن نزول الوحي يكون بواسطة الملائكة ، وحاصلها التّنبيه على التوحيد الذي هو منتهى ما تصل إليه المعرفة ، وعلى التقوى الذي هو أقصى مراتب كمال العارفين به جلّ وعلا ، كما أنها تدل على الغرض من بعثة الأنبياء الإنذار والدعاء إلى الدّين.

* * *

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧))

٣ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ... أي أوجدهما ليستدلّ بهما

على معرفته ويتوصل بالنظر فيهما إلى العلم بكمال قدرته وحكمته البالغة الحقّة (تَعالى) سما وارتفع وعزّ (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه غيره في الألوهية.

٤ ـ (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ... أي ابتدعه وأوجده من ماء ضعيف مهين سيّال ، غير قابل لأي وضع لا في شكل ولا حجم. وهي كأنها جماد محض لأنها لا تحسّ ولا تدرك ، فدبّرها وربّاها وصوّرها في أحسن صورة وجعل منها إنسانا ذا عقل وفهم وإدراك كامل (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فإذا بهذا الإنسان الضعيف الذي تعهّده صانعه وأنشأه ، مجادل له منازع فيه ، ينكر ربوبيّته ووجوده ويلحد بأسمائه وقدرته بشكل واضح سافر وبدون أدنى خجل. وفي هذه الكريمة يبيّن سبحانه أسمى مراتب الإنسان وأكملها وأرقاها ، وأحطّ درجاته وأنقصها وأدناها. ولعلّها نزلت في أبي بن خلف حين جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعظام رميمة وقال : يا رسول الله ، من يحيي هذه العظام وهي رميم؟ فنزلت الكريمة بأنه : لم لا تستدل على الموجود بدءا بالإعادة ، وبالإحداث على الإرجاع ، مع أن الإنشاء الأول أعجب من إعادة الذي كان موجودا وأصعب وأكثر إشكالا؟ وأنّ من قدر على الأول يقدر على الثاني بالأولى لأنه إيجاد موجود من موجود بخلاف الأول ، ولمّا كان كان هو تعالى في مقام إظهار قدرته بإنزال العذاب على المشركين وإرسال الملائكة على الأنبياء والمرسلين لأمور منها الاعلام بوجود الصّانع الحكيم وتوحيده ، والتخويف من مخالفته ، وخلق السّماوات والأرض والإنسان من العدم إلى الوجود ، فقد شرع في بيان إعطاء النعم لعباده فقال :

٥ ـ (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) ... أي الأصناف الثمانية (خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي ما تستدفئون به من البرد من الألبسة الصّوفية والوبريّة وهي لكم : لمنفعتكم (وَ) لكم أيضا فيها (مَنافِعُ) من نسل ودرّ وركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ما يؤكل منها نحو اللّحوم والشّحوم والألبان.

٦ ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) ... أي زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي زمان تردّونها

إلى مراحها بالعشيّ (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) في الوقت الذي ترسلونها إلى مرعاها بالغداة. والتخصيص بالوقتين لأنّهما أظهر أوقات ظهور تزيينها لأربابها ومالكيها وهي على أبوابهم حين الدخول والخروج وكذا تقديم الإراحة لأظهريّة الجمال في ذلك الحين حيث إن بطونها تكون مملوءة من العلف ومن الماء وضروعها من الألبان فتكون أجمل في الأنظار وأزين في الأعين كما لا يخفي على أهله.

٧ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ) ... أي تنقلون عليها أحمالكم من بلد إلى بلد بعيد (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) واصلين إليه (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) إلا بالتعب ولو كنتم بأنفسكم فضلا عن أثقالكم ، إلّا بكلفة وبمشقّة شديدة (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي رحيم بكم حيث أنعم بها عليكم لانتفاعكم وسهولة الأمر عليكم.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

٨ ـ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) ... هذه كلّها خلقها سبحانه ، والآية معطوفة على السابق لها ممّا خلق وأوجد ، فهذه الحيوانات أوجدها لكم ولفائدتكم و (لِتَرْكَبُوها) في أسفاركم وتنقلوا عليها أثقالكم (وَ) جعلها (زِينَةً) لكم تتباهون في اقتنائها وكثرتها وركوبها (وَيَخْلُقُ) بعدها (ما لا تَعْلَمُونَ) ما لا تعرفونه من المراكب التي تستحدث من بعدكم. وقد عنى بذلك سبحانه مراكب اليوم من المخترعات والمصنوعات العصرية البرّية والجوّية والبحريّة ومما قد يوجد فيما بعد ، عدا المراكب الفضائية العجيبة التي تقطع المسافات الشاسعة بأبسط وقت ممكن ، وهذه كلّها بإفاضته سبحانه

وبهدايته وتوفيقه وإلهامه لأرباب الصنائع. ولا يخفى ـ كما أشرنا سابقا ـ أن صدر الآية ألفاظه منصوبة إمّا عطفا على السابق ، وإمّا بفعل مقدّر هو (خلق) بمقتضى العطف على الضّمير في قوله تعالى (خَلَقَها) وزينة مفعول مطلق محذوف ، فعله تقديره لتزيّنوا بها زينة.

٩ ـ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ... أي وعليه هداية الطريق الموصل إلى الحق كقوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ، والقصد هو الاستقامة والاعتدال (وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن هذه السبيل ما هو مائل عن الاستقامة معوجّ ، وهو ممّا لا يضاف إليه سبحانه وتعالى ، وخارج عمّا أضاف إليه في قوله عز من قائل (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أرشدكم على طريق الإلجاء ، ولكنّه ينافي التكليف. وحاصل المعنى من هذه الآيات بيان فوائد نعم الله لمعايشكم كخلق الأنعام التي ترون فوائدها الكثيرة ، وكفوائد خلق ما لا تعلمون. وقد ذكره تعالى بطريق الإجمال لأن أصنافها وأنواعها خارجة عن الإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان التأليف يملأه القطر المسكون وكان القول فيها كالقطرة من البحر ، وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها.

* * *

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١))

١٠ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) ... منه شراب ومنه شجر : أي منه لشربكم ومنه للشجر ، أي لشربه وسقيه. والمراد من الشجر هو النبات (فِيهِ تُسِيمُونَ)

أي ترعون مواشيكم ، والسّوم الرعي من غير كلفة ولا التزام مؤنة بحيث تطلق الدابّة في المرعى فترعى وتعود بلا ثمن.

١١ ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) ... بعد ما ذكر سبحانه ما يتغذّى به الحيوان من النبات ذكر ما ينفع للإنسان ممّا يتغذى به ، وهو على قسمين : حيوانيّ وقد ذكر في خلق الأنعام ، ونباتىّ وهو الحبوب والفواكه ، ومن الزرع كالحنطة والشعير والأرز ونحوها والزيتون كذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) من الذين يستدلّون بها على عظمة خالقها وكمال قدرته وحكمته. فمثلا العنب قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حادّان رطبان لطيفان ، ونسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم الواحد متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والكوكبية إلى الكلّ متّحدة ومتشابهة ومع ذلك ترى أجزاء هذا الشيء الواحد مختلفة في الطبع والطعم واللّون والصّفة ، وقس على ذلك الأجسام المختلفة المتحدة في الأسباب المؤثرة المذكورة وليس ذلك إلا بتقدير وتدبير حكيم مقتدر.

* * *

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

١٢ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ... وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) ... بعض قرأ برفع : النجوم ومسخّرات مبتدءا وخبرا ، وبعض بنصبهما بناء على عطف (النُّجُومُ) على سوابقها و (مُسَخَّراتٌ) على الحاليّة من الجميع أو من النجوم فقط لئلا يلزم التّكرار المستهجن. ومعنى الكريمة أنه أعدّها لمنافعكم

حال كونها مسخّرة لحكمه وتدبيره تعالى وتقدس أمّا منافع اللّيل والنهار فكثيرة ، منها كون اللّيل للاستراحة والنهار لتحصيل أمر الإعاشة ، وأما الشمس والقمر أيضا فمنافعهما أكثر من أن تحصى ، منها إنضاج الفواكه وإدراك الزرع وإنبات النباتات ومعرفة حساب الشهور والسنين وغيرها من المنافع المدركة وغير المدركة. وأما النجوم فلمعرفة الطّرق وتشخيصها وتعيين الأوقات والجهات لأرباب السفن والملاحين وغيرهم من أهل البوادي والصحاري. ومن منافعها تزيين السماء الدّنيا لأهل الأرض وإضاءتها لهم في الليالي غير المقمرة. فهذه وغيرها ممّا لا ندركه ، خلقه (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي لأرباب العقول الذين هم أهل التدبّر والاعتبار. ففي الكريمة السابقة لهذه الآية قال تعالى : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، لأن أحوال النباتات ليست خالية عن الخفاء ولدلالتها على وجود الصانع الحكيم محتاجة إلى مزيد عناية وفكر كما لا يخفى ، بخلاف دلالة اللّيل والنهار والكواكب مطلقا فإن دلالتها ظاهرة لا ريب فيها لكل عاقل ولذا قال سبحانه : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

١٣ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) ... أي خلق ، عطف على الليل ممّا سخّر لكم وممّا خلق لانتفاعكم (فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات ومعادن ومطاعم ومشارب (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أشكاله وأصنافه فإنها تتخالف باللون غالبا. وفيها دلالات للمتدبّرين على أن المؤثر غير الطّبيعة ، لأن الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن تجعلها متشابهة ومتشاكلا بتأثيرها. فمثلا إذا وضعت شمعة في فضاء واستضاء ذراع من جوانب الشمعة وجب أن يكون الضّوء في المقدار المستضيء متساويا ولا يمكن أن يكون الضوء مختلفا في الفضاء عن الذراع بحسب النور الذي يترامى إلى كل الجهات بمعدل واحد. وهذا أمر واضح فإذا ثبت نقول : إن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع مطلقا بالنسبة إلى ورقة لطيفة من الورد نسبة واحدة ، ومتى كانت نسبة المؤثر واحدة لا بدّ وأن يكون الأثر متشابها ، ولكننا نرى وجدانا أن الأثر غير متشابه : فنصفهما في غاية السواد والنصف الآخر في غاية البياض ، فاختلاف الأثر دليل قاهر على أن الطبيعة بنفسها ليست مؤثرة بل

هي أيضا متأثرة والمؤثر غيرها وهو الله الواحد القهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) عبّر تعالى ها هنا بالإذكار وهو بمعنى الذّكر ، والذكر عبارة عن التوجّه إلى الشيء وإدراكه. ولما كان إثبات الصانع الحكيم في المقام لا يحتاج إلى مزيد عناية وتكلّف ، بل الأمر أسهل من دلالة الآيات السابقة على المدّعي ، فلعل لهذه الجهة عبّر بالاذكار وهو سبحانه أعلم بما قال. ثم عدّد نوعا آخر من النعم فقال سبحانه تعالى :

* * *

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧))

١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) ... أي أنّ الله تعالى بقدرته الكاملة ذلّل البحر وهيّأه لانتفاعكم به بالركوب فيه على البواخر والسفن البخارية والاصطياد والغوص (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) أي جديدا ذا طراوة. واتّصافه بالطراوة لأنه أرطب من كلّ لحم وأسرع إلى الفساد من كل لحم ، وفيه إشارة إلى المسارعة لأكله وإظهار قدرته وحكمته حيث أوجد اللحم الحلو الطعم من المياه المالحة وجعله فيها حتى لا يتطرّق إليه الفساد (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي لتغوصوا فيه وتخرجوا منه ما تتزيّن

به نساؤكم لكم من اللؤلؤ والمرجان. ولمّا كان تزيينها لهم فلذا نسب الحلية إلى الرّجال ويمكن أن يكون المراد تزيين الرجال بأنفسهم كما هو ظاهر الكريمة لا أن النسبة باعتبار المتعلّق. والحاصل أن الله تعالى خلق في البحار منافع كثيرة ، ولكن ذكر هنا منها ثلاثة أنواع : الأول : اللّحم الطريّ الّذي هو في غاية العذوبة أخرجه عباده من البحر الملح الزعاق بقدرته الكاملة فأخرج الضدّ من الضدّ. والثاني : ما يتزيّن به ويلبس من اللؤلؤ والمرجان وغيرهما. والثالث : هو قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي جواري تمخر الماء وتشقّه بصدرها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) تطلبوا من سعة رزقه. بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله على نعمة بعد معرفتها من تسخير البحر ، وتعليم صنعة السّفن ، ومعرفة إجرائها على الماء للانتفاع بها ـ وتخصيص هذه النعمة معقّبة بالشكر لأهمّيتها وعظمتها ، حيث إنه تعالى جعل المهالك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش وإبقاء الحياة وهذه من العجائب التي ينبغي لها الشكر كثيرا. وفي الحديث : لا تركب البحر إلّا حاجّا ومعتمرا فإن تحت البحر نارا. يريد أنه لا ينبغي للعاقل أن يلقي نفسه للمهالك إلّا لأمر دينيّ يحسن بذل النفس فيه وقوله تحت البحر نارا هو تهويل لشأن البحر لآفات متراكمة إن أخطأته مرّة جذبته مرّة أخرى .. وإنّ علماء الهيئة قالوا : ثلاثة أرباع الأرض غائصة في الماء وذلك هو المحيط وهو كليّة عنصر الماء ، وحصل في هذا الرّبع المسكون سبعة من البحار ، كما قال سبحانه : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) ، ولعل المراد بالبحر الذي سخّره الله تعالى هذه الأبحر السبعة باعتبار الجنس. وحاصل معنى التسخير جعلها بحيث يتمكن الإنسان من الانتفاع بها إما بالركوب للتجارة وغيرها من الانتفاعات ، وإما بالغوص ، وإما بالزرع في سواحلها ونواحيها كما هو المرسوم لأهل البنادر والسّواحل ، ثم عدّد نوعا آخر من النعم الأرضيّة فقال عزّ من قائل :

١٥ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ... أي خلق على الأرض جبالا رفيعة كبيرة ثابتة لئلا تتحرّك وتضطرب ، وذلك لأن الأرض كانت مخلوقة كرويّة

فهي بالطبع لا تستقرّ في الفضاء ، فجعل على وجهها الجبال الثّقال فاستقرّت الرواسي كمركز للأرض وجعلت أوتادا لها ثم جعل في الأرض (أَنْهاراً) عطف على الرواسي أي ألقى أنهارا ، وألقى جاء بمعنى خلق وجعل. والمراد بالأنهار أنهر النيل ودجلة والفرات وسيحون وجيحون وعامة أنهار الأرض من أمثالها مما لها فوائد كثيرة جليلة (وَسُبُلاً) أي جعل في الأرض طرقا عديدة من موضع إلى موضع لتسهيل تحصيل المقاصد والمنافع. وقيل يحتمل أن يكون المراد هو طرق معرفة الله عزوجل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا وإلى مقاصدكم أو إلى توحيد الله تعالى بناء على كون السّبل هي أئمة الهدى عليهم‌السلام ، كما في الجامعة : أنتم السبيل الأعظم ، إلخ ..

١٦ ـ (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) : هي معالم الطّرق وما يستدلّ به المارّة من جبل وسهل ، والأرياح أيضا. وقيل إن جماعة كانوا يشمّون التراب ويتعرّفون الطرق من أهل الفطانة والحذاقة (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) في الليالي كالمسافرين في البرّ والبحر. وقيل إن المراد به الثريا والفرقدان والجديّ وبنات نعش. قال ابن عباس سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن النجم ، فقال : الجديّ علامة قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : نحن العلامات ، والنجم رسول الله. وقال (ص): إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء وجعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض. والضمير (هُمْ) راجع إلى مطلق البشر وقيل راجع الى قريش لأنهم كانوا مشهورين برحلة الشتاء والصّيف ، وكانوا كثيري الأسفار للتجارة ومعروفين بأنهم يهتدون بالنجوم إلى الطرق وهم أعرف من كلّ أحد بها في ذلك الزمان. وإخراج الكلام من سنن الخطاب إلى الغياب وتقديم الظرف ، أي وبالنجم وإقحام الضمير بينه وبين متعلّقه ، كلّ ذلك للتخصيص ، كأنه قيل : الاهتداء بالنجوم الى الطّرق منحصر بهؤلاء وهذا المعنى يناسب عود الضمير إلى العموم لا إلى طائفة دون أخرى ، ولكن إلى نوع دون آخر لا بأس به كما هو بيّن ، فإن معرفة الطريق ميسور لنوع

المسافرين وإن كان بعضهم أعرف. وهذا لا يصير سببا للحصر كما لا يخفى ، فالاعتبار بهذه النعمة والشكر عليها ألزم وأوجب. وقد روى قتادة أن خلق النجوم لأمور ثلاثة : الأوّل لتزيين السماء الدّنيا ، والثاني لرجم الشياطين ، والثالث لكونها علامات ثم لمّا ذكر الدلائل على وجود القادر تعالى وشرح أنواع نعمه ، أتبعه بذكر إبطال عبادة غيره ممّن لا يقدر على شيء ، فقال تبارك وتعالى :

١٧ ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ... الاستفهام إنكاريّ ، يعني بعد إقامة الدّلائل المتكاثرة على وجود الصّانع وعلى كمال قدرته وتناهي حكمته وتفرّده بخلقة العالم هل هذا الخالق المقتدر كمن لا يخلق شيئا ولا يقدر على شيء وهو عاجز مطلقا؟ وسواء ذو العلم منهم كعيسى وعزير وغيرهما وكالأصنام. وبعبارة أخرى لا مشابهة بين الخالق ومخلوقه ، والقادر المطلق والعاجز المطلق ، والواجب والممكن ، فجعل العاجز شريكا للقادر بغاية العناد ونهاية الضلال ، والسّفاهة. ولا بد من تنبيه ، فقد كان من حقّ الكلام أن يقال : أفمن لا يخلق كم يخلق؟ حيث إنهم يشبّهون الأصنام أو عيسى أو العزير به تعالى ، وكانوا يقولون هؤلاء آلهتنا كإله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. لكن أوتي بالكلام معكوسا تنبيها على أنهم للإشراك جعلوا الأله من جنس المخلوق الذي هو في غاية العجز ، فعلى هذا لا فرق عندهم بين الخالق القادر المطلق ، والمخلوق العاجز المحض ، فشبّهوه تعالى بآلهتهم العجزة لكمال جهلهم وغاية ضلالتهم. والمراد بمن لا يخلق كلّ معبود سواه تعالى سواء كان ممّن يعقل كعيسى وعزير أو غيره كالأصنام على طريق التغليب ولذا جاء بمن (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي تتنبّهون وتلتفتون فتعرفوا فساد ذلك ، والمقام لدقّته كان من موارد التفكير والتوغّل فيه لذا عقّبه تعالى بقوله : أفلا تذكّرون : تتدبّرون.

* * *

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١))

١٨ ـ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ... اي لا تقدروا على ضبطها وإحصائها ولذا لا تطيقون القيام بشكرها (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها (رَحِيمٌ) إذا قصّرتم في أداء شكر النعم وكفرتم بها لا يأخذها منكم ولا ينقصها عنكم ولا يعاجل بعقوبة كفرانها ، بل يرحمكم بمزيد النعمة وتوفيرها. ولمّا بيّن وجوب عبادته على العباد بذكر النعم ، ومنها كونه غفورا رحيما بالتفسير الذي مرّ آنفا ، وأظهر قدرته ، أخذ في بيان إحاطته العلميّة بجميع أعمال العباد في كل أحوالهم وشؤونهم ، ثم ذكر بعد ذلك بطلان العبادة بالإشراك :

١٩ ـ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ... أي ما تخفون من العقائد الحقّة والباطلة ، أو المراد أعمّ منها (وَما تُعْلِنُونَ) من الأعمال الحسنة والسّيئة ، أو الأعمّ منها ومن العقائد ، وكلّهم مجزيّون بأعمالهم وعقائدهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ.

٢٠ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي الآلهة التي تعبدونها من الأصنام التي لا تقدر على خلق شيء بل هي مصنوعة منحوتة من الحجر والخشب ونحوهما من الجمادات ، وهذا من باب التنبيه والاعلام ، حيث إنهم كانوا يشعرون ويلتفتون بأنها جماد مخلوق لهم ، لكن من باب غاية العناد والجحود يعبدونها وكان بعضهم قائلين بأنها آلهتنا وبعضهم بأنها شفعاؤنا. فهي لا تخلق شيئا بل هي مخلوقة ضعيفة مفتقرة لغيرها.

٢١ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) ... أي الأصنام ، أكّد كونها أمواتا بقوله غير أحياء لنفي الحياة عنها على الإطلاق. فإنّ من الأموات من سبقت له حالة منتظرة في الحياة أوله حياة بخلاف الأصنام فانها ليس لها حياة سابقة ولا منتظرة ، فقال تعالى (أَمْواتٌ) ولم يقل (موات) مع أن المناسب في الجمادات هو الموات لأنهم صوّروا الأصنام على صور ذوي العقول وكانوا يتعاملون معها معاملتهم معه الآلهة تسمية واعتقادا ولذلك كلّمهم على قدر عقولهم وقال : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ويحتمل أن تكون وصفا للعبدة لا للأصنام تأكيدا للجهل والغواية وعدم الشعور كالجمادات ، ويؤيّد هذا لاحتمال ذيل الكريمة (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فعلى ما هو الظاهر : لا يعلم العبدة وقت بعثهم ، أو لا يعلم المعبودون وقت بعثهم وبعث عبدتهم ، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبدتهم؟ وقيل إن الله تعالى يوم الحشر يحيي الأصنام ويبعثها حتى تتبرّأ من عبدتها.

* * *

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

٢٢ ـ (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ... هذا الكلام من باب تكرار المدّعى بعد إقامة الحجج والبراهين وهذا آكد في النفوس وألقم للحجر في فم الخصم

عند الخصام ، فالكافرون قلوبهم مملوءة كفرا وهم مستكبرون عن العبادة.

٢٣ ـ (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ... أي لا بد أو لا محالة ، وجاء مصدرا من باب فعل يفعل بمعنى كسب أو اكتسب ، والجرم الكسب ، يعني لا يحتاج علم هذا الأمر إلى اكتساب العلم بل هو معلوم أنّ الله يعلم سرّهم وعلنهم. وهذا القول منه تعالى كناية عن إحاطته العلميّة بأمور العباد ، وقد مرّ هذا الكلام منه تعالى آنفا في الآية التاسعة عشرة بتفاوت ما. والسرّ في التكرار لعلّه الاهتمام بإفهام البشر مقام علمه المحيط وقدرته الكاملة ، فإنهم إذا افتهموا هذا واعتقدوه حقّ اعتقاده وعرفوه حقّ المعرفة لا يعصون الله فيما أمدهم ونهاهم لأن صدور المعاصي عن العباد لا يكون نوعا ـ بل مطلقا ـ إلا عن جهل بالمبدأ تعالى وبوحدانيّته وخالقيّته ورازقيته ومنعميّته وحافظيّته لهم في كل الأحوال وبكونه ملجأ وملاذا في جميع ما يحتاجون إليه في الدنيا والآخرة. وإذا أدركوا تلك الجهات والعناوين فلا يتصوّر وجود إنسان متّصف بهذه الصّفة ومع ذلك كلّه يعصى الله تعالى. وإن فرض إنسان ذو معرفة تامّة وهو من أهل المعاصي والشّقاء فنقول إن عصيانه وشقاوته كاشفان عن عدم كونه مصداقا لمفروض البحث ، فإنه لا يمكن الجمع بين المراتب العالية من المعرفة وبين المعصية لأن طبع البشر وسجيّته الخضوع والخشوع للمنعم عليه ولا سيما إذا كان معطي وجوده وحياته فكيف يعصيه فيما أمر به ونهى عنه ، مع أن الفرض علمه بأن في إطاعة المولى مصالح ترجع إليه ، وفي معصيته مفاسد يتضرّر بها ضررا فاحشا على اختلاف الموارد .. وإن قلت : لا يمكن الجمع بين غاية الشقاوة ونهاية المعرفة التي يمكن حصولها للمخلوق ، فما تقول في إبليس أو بلعم بن باعوراء الذي كان من أحبار اليهود ، ونحوهما من الذين كانوا من أهل العلم والمعرفة ومع ذلك خالفوا أمر الله وعصوه على ما هو المشهور من قضية الشيطان والمعروف من قصة بلعم في محلها؟ فنقول : أما الشيطان فقد كان في زمرة المقدّسين في الملأ الأعلى بعد عروجه من الأرض إلى السماء ولم يكن محسوبا

في أهل المعارف الكمّل لا في السماء ولا حين كونه في الأرض مع النسناسين وبني جانّ. ولا يبعد أن نقول كان قدسه وعبادته تقليدا للروحانيين لا عن معرفة كاملة وإن بلغ في العبادة ما بلغ ، فإنها لا تلازم كثرة العبادة المعرفة الكاملة كما صدر من عبّاد بني إسرائيل والرّهبانيين منهم ومن غيرهم مع عدم المعرفة منهم به تعالى على ما يظهر وممّا يحكى عن أحوالهم وقصصهم المسطورة في الكتب. والحاصل أن الشيطان لم تكن له المعرفة بمخلوق ضعيف وهو آدم عليه‌السلام ، فكيف بربّه؟ بل كان أكثر جهلا من كثير من الأعلام والعارفين حيث إن ما كان يعرف حقيقة التراب والفوائد والأسرار المودعة فيه وأنها أكثر ممّا كان في النار ، ولو لا ذلك لم يقس ولم يتكبّر حتى يصير مرجوما مطرودا ، وما عرف أن آدم عليه‌السلام كان مسجودا له لا معبودا ، والسجدة له ما كانت سجدة عبادة بل سجدة تعظيم وتكريم مع تقديس لله تعالى ، ولأنه كان أول مصنوع جرى على يديه وأول خلق بديع من الطين في أحسن صورة وخلقة بحيث أنه هو تعالى قدّس نفسه بقوله : تبارك الله ، ووصف نفسه المقدّسة بقوله : أحسن الخالقين. فيمكن أن نقول أنه قد كان الأمر بالسّجود لآدم عليه‌السلام ـ في الحقيقة وواقع الأمر ـ بمنزلة مهرجان سماويّ لتلك الخلقة البديعة تكريما وتفخيما لآدم واهتماما بشأنه الرفيع عند مليك السمّاوات كما جعله (ع) معلّما للملائكة حين أنبأهم بأسماء الأشياء ومسمّياتها بعد أن حقروا تلك الخلقة واعترضوا عليه تعالى وتقدّس.

وأما بلعم بن باعوراء فكان من أحبار بني إسرائيل ويكفي في شأنه أنه أعطي الاسم الأعظم فمال إلى فرعون لحطام الدنيا وذهب بأمر فرعون في طلب موسى عليه‌السلام ليدعو الله عليه فامتنعت حمارته عن السّير به ، فلم يزل يضربها حتى قتلها فانسلخ الاسم الأعظم من لسانه وقلبه وهو قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) إلخ ... أفهل يمكن أن يقال إن هذا كان من أهل معرفة الله حقّ المعرفة؟ فإن كان هكذا فلا

بدّ أن يعرف رسوله ومن يعرف رسول الله لا يقدّم عدّوه وعدوّ الله عليه ولا يقبل قول فرعون ويطيعه ويعصي خالقه الذي أنطق حمارته حتى نهته عن دعائه على نبيّ الله فلم يفهم ما فهمته حمارته! .. ومع هذه الآية لم ينته عن عقيدته وقصده المشؤوم لأنه كان أجهل من حمارته بالله تعالى وبرسوله.

أما العلم بالاسم الأعظم فهو لا يلازم العرفان الكامل ، فإن الله سبحانه يمكن أن يعطي شخصا اسمه الأعظم بعد رياضة تحمّلها لهذه الجهة ، أو اختبارا أو لمصالح لا ندريها ، وبعد ذلك ينسلخ عنه كما حصل لبلعم بن باعوراء فما كلّ شخص يدري الاسم يكون من أهل المعرفة التي ينادي صاحبها : لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقينا بل نقول : إن المعرفة الكاملة لا تجتمع مع المعصية وبعبارة اخرى كلما كان العلم والمعرفة به تعالى أقوى كلما كانت الخشية أشد كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعلمكم بالله أشدكم خشية ، ومعلوم أن الذي يخشى الله لا يعصيه. وأما الاهتمام بإفهام البشر لهذين الوصفين من بين صفاته تعالى لعلّ وجهه لكونهما ملازمين لذاته المقدسة حيث إنهما من صفات الذات فمعرفتهما ملازمة لمعرفته بل هي هي كما لا يخفى ، وهو تعالى أعلم بكلامه.

٢٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) : الخطاب لمشركي قريش والجواب منهم ، قالوا أباطيل الأولين أي هذا المنزل في زعم المسلمين هو عندنا أحاديث الأقدمين الكاذبة الخرافية. ويروى انّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر رجلا خرجوا إلى أعقاب مكة على طرق القادمين إليها على كل طريق أربعة منهم ليصدّوا النّاس عن النبيّ (ص) وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول الله قالوا : أخبار الأقدمين الكاذبة ، وخرافات الرومان.

٢٥ ـ (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً) ... اللّام للعاقبة ، والمعنى كانت عاقبة أمرهم حين فعلوا ذلك أن يحملوا أوزار كفرهم تامّة يوم القيامة مع بعض أوزار الذين يضلّونهم لأنهم شاركوهم في إثم ضلالهم إذ دعوهم إليه فاتّبعوهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين ولا عذر لهم بجهلهم إذ كان عليهم

الفحص ليميّزوا المهتدي والضّالّ (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) اعلموا أنه بئس ما يحملونه من أوزار الضّلالة ووبال إضلالهم ، فإن الضالّ والمضلّ شريكان في الإثم.

* * *

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

٢٦ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ... هذه الكريمة على سبيل التسلية لنبيّنا (ص) والوعيد لقومه ، أي قد فعل الخدع والحيل الّذين كانوا قبل مشركي قريش بأنبيائهم إيذاء لهم وإضرارا ، واهتمّوا بذلك اهتماما شديدا. وروي أنهم كانوا يقتلون من أنبيائهم أزيد من سبعين نبيّا بين الطلوعين ، ثم يذهبون إلى أسواقهم للكسب والتجارة وكأنّهم لم يفعلوا شيئا (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي فجاءهم أمر الله وعذابه فاقتلع أساس أبنيتهم المتقنة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) فسقط السقف وانهدم

عليهم البنيان وهم تحته. وعند بعض المفسّرين أن المراد من هذا البنيان هو صرح نمرود بن كنعان كما عن ابن عباس ، بنى صرحا عظيما في بابل طوله خمسة آلاف ذراع بل قيل عرضه فرسخان فبلغ من الارتفاع بمكان لا يتمكن الإنسان أن يقوم عليه من الرّياح ، ورام منه الصّعود إلى السماء حتى يطّلع على إله إبراهيم يتقاتل معه ، وبعد إتمامه أرسل الله تعالى ريحا فألقت رأس الصّرح في البحر والباقي على دور أهل القرية من قوم نمرود ، وسمع منه صيحة عظيمة بحيث تبلبلت منه ألسنة أهل القرية واختلفت كلماتهم بحيث لا يعرف أحد منهم لسان الآخر ، وهذا وجه تسمية بابل (هكذا نقل عن الثعلبي) وقال الطبري : ومن حين سقوط الصّرح حصلت اثنان وسبعون لسانا في العالم بعد أن كان لسان أهل قرية بابل ونمرود سريانيّاّ ، والعهدة عليه (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي جاءهم عذاب الاستئصال حين كونهم فارغي البال مرفّهين لا يترقّبون العذاب ولا يتوقّعونه ، وفي اللّباب أن الله تعالى ابتلى النمرود أربعمائة سنة ببعوضة دخلت في أنفه وصعدت إلى مخّه ولم تزل تؤذيه بأذى لا استراحة منه إلّا بأن يدقّ رأسه بمطرقة شديدا فيخفف عنه الأذى قليلا ، وهذا جزاء من ادّعى الألوهية في الدنيا ، وأما في الآخرة فأمره إلى الله حيث يذلّه ويفضحه ثم يعذّبه في النار. وقد قال جلّ وعلا : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، وفي النار تأتيه ألوان العذاب من كل مكان ومن حيث لا يعلم مصدر العذاب.

٢٧ ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ) ... وفي يوم القيامة يخزي الله تعالى كل من دعوا أنفسهم آلهة ويبعدهم من رحمته ويصبّ عليهم جام سخطه وغضبه ، ويقول لعبدتهم من المشركين : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟) أين هم الذين ألّهتموهم وعبدتموهم وجعلتموهم شركاء لي ، وكنتم تخاصمون المؤمنين وتعادونهم من أجلهم؟ أروني إيّاهم ودلّوني على منازلهم في هذا اليوم الذي تظهر فيه قدرة الرّبوبيّة وجبروتها؟ وكأنّهم سكتوا عن

الجواب إذ لا جواب ف (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي أجاب الأنبياء أو الأوصياء والعلماء الذين كانوا يدعون البشر إلى الدّين والحق ، قالوا : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قد باءوا بغضب الله وطردوا من رحمته وأصبحوا محلّ لعنته ولعنة عباده الصالحين.

٢٨ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ... هم الكافرون المذكورون في الآية الكريمة السابقة ، تتوفّاهم : تتلقّاهم ملائكة العذاب (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بأن عرّضوها للعذاب والخلد فيه بكفرهم ، ولفظة (ظالِمِي) منصوبة على الحالية بالياء لأنها جمع مذكّر سالم وقد حذفت النون للإضافية (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي استسلموا عند الموت بخلاف عادتهم التي كانوا عليها في الدنيا من العناد والعنف والكبرياء ، وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي اعتذروا كما يعتذر الأطفال الضعفاء بغير المعقول ، لأنهم جحدوا ما كانوا عليه من الشّرك والكفر وأنكروا عصيانهم في الدنيا ، فأجابهم الملائكة ـ وهم ذوو علم بحالهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى كنتم تعملون السوء ، ومسجّل عليكم ما عملتموه ، وهو تعالى يجازيكم على أعمالكم طبق علمه بكم ،

٢٩ ـ (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) ... أي ادخلوا من أبوابها وأوغلوا في طبقاتها ودركاتها وبحسب منازلكم فيها. وقد ذكر الأبواب لأن كل باب معدّ لصنف من المجرمين ، فلجوها (خالِدِينَ) مؤبّدين فيها (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي : لساء مقام المتكبّرين عن التوحيد والعبوديّة ، وبؤس في ذلك اليوم مثواهم.

* * *

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ

الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

٣٠ ـ (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) ... أي : ثم يسأل الذين تجنّبوا الشّرك. وقد استعمل صيغة الماضي بدلا عن المضارع الذي يستعمل للاستقبال ، لأن الأمر كائن لا محالة وأصبح كأنه مفروغ منه فاستعمل فيه الماضي ، وهذا كثير في القرآن الكريم : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَ) فأطبقوا الجواب على السؤال معترفين بالإنزال بخلاف الجاحدين الذين قالوا : أساطير الأوّلين ، وما كان القرآن من الإنزال في شيء ، فإنّ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا) عقيدة وعملا (حَسَنَةٌ) إحسان إليهم من الله سبحانه وتعالى (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) المعدّة لهم في الجنّة (خَيْرٌ) مما هم فيه في دار الدنيا (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) دارهم في الآخرة ، لأنها :

٣١ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) ... جزاء عملهم الصالح ، وقصورها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تسير بين حدائقها الغناء ، وليس هذا فقط ، بل (لَهُمْ) للمتّقين في الجنّة (ما يَشاؤُنَ) كلّ ما يريدون ويتمنّون ويرغبون (كَذلِكَ) كمثل هذا الثواب الجزيل (يَجْزِي) يثيب الله تعالى (الْمُتَّقِينَ) العاملين بأوامره ونواهيه. وهؤلاء يكونون بعكس الكفرة المنكرين الذين توفّتهم الملائكة ظالمي أنفسهم وانتزعت أرواحهم انتزاعا ووبّختهم. وهؤلاء هم :

٣٢ ـ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) ... طيّبين : حال من الضمير «هم» فهم المتوفّون طاهري النفوس من دنس الشّرك ، أنقياء القلوب من شوائب الظلم والعصيان في مقابل (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) والملائكة يقولون لهم

عند توفّيهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية لكم من عند الله تعالى ، أو من أنفسهم لأنهم يكونون ملائكة رحمة ، ثم يبشّرونهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بعد البعث والنشور ، ولكنها بشارة سابقة يتلقّونها عند موتهم.

* * *

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

٣٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا) ... أي هل ينتظر الذين لا يؤمنون بالآخرة في آخر حياتهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملائكة العذاب لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) يعني قضاؤه عليهم بالموت ، أو عذابه الذين يخبرون

به ، وقيل خروج القائم عجل الله تعالى فرجه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عمل الأولون من المشركين ، فظلموا بذلك أنفسهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) وحاشاه أن يظلم أحدا.

٣٤ ـ (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) ... أي وقع عليهم سوء عملهم والشرّ المترتّب عليه (وَحاقَ بِهِمْ) أحاط بهم جزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذي سخروا من وقوعه يوم وعدهم به رسولنا الكريم.

٣٥ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ... أي هؤلاء الذين مرّت صفة حالهم ومآلهم في الآية السابقة ، قالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ ، مِنْ شَيْءٍ) أي : لو أراد إرادة الجاه ، فنسبوا قبائح أعمالهم إليه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، لأنهم كأنهم جبريّة أو أشعريّة ، فلو أراد الله ما عبدنا غيره ، نحن (وَلا آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) بل نحرّم ما حرّم (كَذلِكَ) مثل فعلهم هذا (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المشركين (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ) من واجب (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الاعلام الواضح الذي يكشف عن الحق؟ ليس عليه سوى ذلك ، وكان عليهم أن يختاروا لأنفسهم.

٣٦ ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ... أي أرسلنا لكل جماعة من الناس نبيّا يرشدهم قائلا لهم (اعْبُدُوا اللهَ) وحده دون غيره (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) مرّ تفسيره (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) لأنهم أهل للهداية إذ استمعوا كلامه وصدّقوا رسله (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) اعتبروا ضالّين حقّا لتكذيبهم رسل ربّهم فنزل بهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، وإن لم تصدّقوا (فَسِيرُوا) امشوا (فِي الْأَرْضِ) فيما حولكم (فَانْظُرُوا) بأعينكم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) للرّسل إذ دمّرناهم ، وآثار تدميرهم باقية.

* * *

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

٣٧ ـ (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) ... أي : إن كنت مهتماّ بهم ، فلا تتعب نفسك يا محمّد في سبيل إرشادهم وهدايتهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) فحرصك وشدة اهتمامك لا يقتدان لأن الله لا يمنح الهداية لمن ليس من شأنه أن يهدى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مساعدين ينصرونهم عليك أو ينصرونهم حين الوقوع في عذابنا ، فإن خذلانهم وحرمانهم من مشيئة الله بالهدى كان لمصلحة اقتضت ذلك نحن نعلمها وبموجبها أبقوا على ضلالهم.

٣٨ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) ... هذه الآية الكريمة عطف على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، إيذانا بأنهم أنكروا التوحيد والبعث. ومعناها أنهم حلفوا وبالغوا في الأيمان واجتهدوا فيها حالفين أنه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) لا يعيد الله الأجسام بعد فنائها إلى حياة ثانية. وشأن نزول هذه الآية على ما في التبيان عن أبي العالية : أنه كان لمسلم على كافر دين فطالبه ، وفي أثناء المكالمة حلف : بالله الذي يبعثني بعد موتي. فسأله الكافر : هل ترجو الحياة بعد موتك؟ فقال : نعم. فحلف الكافر أيمانا

مغلظة شديدة باللّات والعزّى ، وبدينه ومذهبه بأن الله لا يبعث من يموت ، فنزلت الآية ، وأجيب (بَلى) يبعث الله الأموات ، وقد وعد بذلك (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا باطل فيه ولا خلف لأنه ثابت. وهو قسم أورده سبحانه مماشاة للخصم حتّى يقبل ، ويكون النّقاش بطريقته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره.

٣٩ ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ... الظرف متعلّق بمحذوف ، أي : يبعثهم ليظهر لهم ما يختلفون فيه من أمر البعث والحشر (وَلِيَعْلَمَ) يعرف معرفة يقينيّة (الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنكروا ذلك ، ليعرفوا (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في أيمانهم وفي عقيدتهم وعملهم.

٤٠ ـ (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) ... أورد سبحانه هذا القول للتقريب إلى الأذهان إذ أنه تعالى لا يحتاج إلى لفظ (كُنْ) حتى يكون ما يريد ، فلو أراد شيئا لكان لمجرّد إرادته ، والبعث والنشور لا يتوقّفان إلّا على أمره الذي إذا شاءه يريده (فَيَكُونُ) يصير حسب إرادته عزّ وعلا حالا.

* * *

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

٤١ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) ... أي الذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم فرارا بدينهم واتّباعا لنبيّهم (فِي اللهِ) في سبيله وابتغاء مرضاته ، هاربين إلى حيث يأمنوا على أنفسهم ودينهم (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بعد أن ظلمهم المشركون في مكة وعذّبوهم وبخسوهم حقّهم لإيمانهم بالله وكفرهم بالأصنام ، فهؤلاء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي لنسكننّهم فيها مساكن يعيشون فيها عيشة حسنة ، ولنبدلنّهم بأوطانهم أوطانا حسنة ، قيل هي مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنها حسنة مباركة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) الثواب والجنّة (أَكْبَرُ) أوسع وأجمل (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو عرفها هؤلاء المهاجرون لرأوا ما أعدّ الله لهم في الجنّة فازداد سرورهم وحرصهم على التمسّك بالدّين وقيل إن المباءة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، والله أعلم بالمراد.

٤٢ ـ (الَّذِينَ صَبَرُوا) ... خبر لمبتدأ محذوف تقديره (المهاجرون ، الذين إلخ) .. أي صبروا على مفارقة الأوطان وأذى الكفّار وهم يفوّضون أمرهم إلى ربّهم. ونقل أن قريش كانوا يقولون : إن الله تعالى إذا أراد أن يبعث لنا رسولا فهو أجلّ من أن يرسل من البشر ، بل ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة يدعوننا إليه ، فردّهم الله تعالى بقوله :

٤٣ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) ... أي جرت سنّتنا وعادتنا على أن نرسل من جنس البشر لا من الملائكة : وإن اعتبرتموه أمرا غريبا بحيث لا تقبلونه (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) والمراد به ـ والله أعلم ـ أحبار اليهود والنّصارى ورهبانهم الذين كانت قريش تعتقد بأقوالهم وتقبلها وتصدّقها إذا كانت من كتبهم وفي أهل الذّكر أقوال أخر لعلّها تذكر في محلها إن شاء الله تعالى وكأنّ قائلا يقول بم أرسلوا؟ فقال تعالى :

٤٤ ـ (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) ... متعلّق بأرسلنا ، أي أرسلناهم بالبراهين والمعجزات والكتب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي القرآن فيه تبيان كلّ شيء

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) من الأحكام والدّلائل والشّرائع (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي يتأمّلون فيه فيتنبّهوا إلى التوحيد والحقائق والمعارف الحقة الإلهية.

* * *

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

٤٥ ـ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) ... اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإنكار. ومعناه أيّ شيء أمن هؤلاء القوم الّذين دبّروا التدابير السّيئة في توهين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإطفاء نور الدّين وإيذاء المؤمنين من (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي بغتة كما فعل بقوم لوط.

٤٦ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ) ... (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي يحل بهم العذاب في ذهابهم ومجيئهم للتجارة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فليسوا بفائتين.

٤٧ ـ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) ... أي حال كونهم خائفين مترقّبين ومتوقّعين العذاب (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث أمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه والحاصل أن الله تعالى حذّر قريشا في كتابه الكريم بما ذكر من الأمور الأربعة التي فعلها بالظّلمة وقد قال السجاد عليه‌السلام : والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فان السعيد من وعظ بغيره.

٤٨ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : أي أولم ينظروا إلى أشياء خلقها الله لها ظلال من شجر وجبل وبناء ونحوها من الأجسام (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يتمايل ظلّه والفيء الذي يترامى منه (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) من موضع إلى موضع على حسب حركة ذي الظل أو الشمس (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي مستسلمين له منقادين مسخّرين ، صاغرين أذلّاء وبعبارة أخرى سجود الظل دورانه وإطاعته لذي الظل من جانب إلى جانب ، وإفراد بعض الألفاظ وجمع بعضها باعتبار اللفظ والمعنى ، فإن قيل إن الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنّون؟ فيقال : لمّا وصفهم بالانقياد والطاعة أشبهوا العقلاء. والسّجود على قسمين : الأول على نحو الحقيقة المتعارفة كسجود الملائكة والأوادم. والثاني : بمعنى الطاعة والانقياد والتواضع ، وكلّ شيء غيرهما على حسب اللائق به. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن لله تعالى ملائكة في السّماء السابعة سجودا منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا. فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حقّ عبادتك. وقال الزاهد في تفسيره معنى الآية الشريفة هو أن الكفرة إذا لم يسجدوا لله تعالى باختيارهم فظلالهم تسجد له تعالى بالطّبع :

٤٩ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ) ... أي ينقاد ويخضع لأمره وإرادته تعالى سواء كان الانقياد إرادّيّا حتى يكون التأثير بالطّبع أو تكليفيّا حتى

يكون بالطّوع فيكون نسبته إلى عامّة أهل السّماوات و (الْأَرْضِ) صحيحا (مِنْ دابَّةٍ) بيان للموصولين حيث إنّ الدّبّ عبارة عن الحركة الجسمانيّة سواء كانت في الأرض أم في السّماء ، على أن في السّماء خلقا يدبّون (وَالْمَلائِكَةُ) إمّا عطف الخاصّ على العامّ أو بيان لما في السّماء بناء على كون الدابّة بيانا لما في الأرض خاصّة وهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) يتواضعون له.

٥٠ ـ (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) : أي عذاب ربّهم أن يجيء وينزل عليهم من فوق رؤوسهم بغتة (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من العبادة والذّكر ، وتدابير الأمور ، وإنزال العذاب ، وإمطار المطر وغير ذلك.

* * *

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ

أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

٥١ ـ (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) : هذا تأكيد يؤذن بمنافاة الاثنينيّة للإلهية (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أيضا أكّد تنبيها على لزوم الوحدة الإلهيّة ، فإنك لو قلت إنما هو إله لخيّل أنك اثبتّ الإلهيّة دون الواحديّة. روي عن بعض الحكماء أنه قال : نهاك ربّك أن تتّخذ إلهين فأنت اتخذت إلهة عبدت نفسك وهواك ودنياك وطبعك ومرادك والخلق فأنّى تكون موحّدا؟ (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فخافوني دون غيري.

٥٢ ـ (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) : الدّين اسم لجميع ما يعبد به الله تعالى ، وجاء بمعنى الطاعة والسيرة والمذهب وغيرها مما ذكر في محلّه من المعاني. والمناسب في المقام هي المعاني المذكورة جمعا أو أفرادا وهو أعلم بما أراد. ومعنى الكريمة انحصر الدّين لله ، كما أن الألوهيّة الملازمة للوحدانيّة منحصرة به تعالى حال كونه واجبا كما عن الصادق عليه‌السلام : إذ فسّر (الواصب) وقال : واجبا. وقيل : بمعنى الواصب الدائم ، وقيل واصبا : أي خالصا (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي أتخشون غيره تعالى مع أن غيره لا يضرّ ولا ينفع والخشية منحصرة به لأن أزمّة الأمور بيد قدرته وهو على كل شيء قدير كما أشار إليه بقوله عزوجل.

٥٣ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) ... النّعم كالصّحة والعافية والسّعة ودفع المضارّ ورفع الآلام كلّها منه تعالى وهو وليّ نعمكم (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي متى لحقكم ضرّ وبلاء وسوء حال تتضرّعون إليه سبحانه بالدّعاء وترفعون أصواتكم للاستغاثة والاستعانة به تعالى ، من (جأر) الثور إذا رفع صوته من جوع وغيره.

٥٤ ـ (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) ... أي بعد أن يكشف السوء الذي

يحيق بكم استجابة لدعائكم وتضرّعكم إليه (إِذا فَرِيقٌ) جماعة كثيرة (مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) به ويعزون كشف الضرّ لغيره سبحانه ، كحسن تدبيرهم ومساعدة الغير لهم ، وينسون أن الله سبحانه هو مدبر الأمور الكاشف الضرّ الذي يستجيب لمن دعاه.

٥٥ ـ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ... أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران نعمة كشف الضرّ وإنكار كونها منه تعالى جحدا أو جهلا (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أمر تهديد ووعيد ..

٥٦ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) ... أي لأصنامهم التي لا علم لها ولا شعور لأنها جماد صرف (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الزرع والأنعام ، فإن العرب يجعلون للأصنام قسمة في زرعهم وإبلهم وأغنامهم ، فهدّدهم الله وردعهم عن عملهم بقوله تعالى (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي عن أنها آلهة وأهل لأن يتقرّب إليها ، وقد أقسم سبحانه على ذلك.

٥٧ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) ... فقريش قالت : إن الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) يمكن أن يكون هذه الكلمة في مورد التعجب أو هي تنزيه له تعالى عمّا قالوه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي البنين وما يريدون ويحبّون.

٥٨ ـ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) ... أي إذا أخبر بالأنثى صارت صورته متغيّرة إلى السواد من الحزن ومن الحياء من الناس (وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلئ غيظا وحنقا من أنه رزق بنتا ويمقت زوجته.

٥٩ ـ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) ... أي يختفي من قومه وأهل بلده مخافة العار مفكّرا ماذا يصنع به (يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي يتركه على ذلّ وهوان (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي يخفيه بدفنه في التراب كما كان ديدن بني تميم وبنى مضر على ذلك (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس حكمهم هذا جعل أولاد لربّهم المتنزّه عن الأولاد. وقيل معناه ساء ما يحكمونه من قتل البنات وعدم مساواتهن للبنين ولعل الجارية خير من الغلام. وروي عن ابن عباس : لو

أطاع إله الناس الناس لما كان الناس ، لأنه ليس أحد إلّا ويحبّ أن يولد له ذكر ، ولو كان الجميع ذكورا لما كان لهم أولاد فيفنى الناس والحاصل أن الرجل في الجاهلية كان إذا ظهرت آثار الطّلق على امرأته اختفى من القوم إلى أن يعلم ما يولد له ، فإن كان ذكرا انبسط وارتاح قلبه فأشرق وجهه وتلألأ واستنار وظهر الفرح في بشرته من تلك البشارة ، وإن كان أنثى احتبس طبعه فأغبرّ واسودّ وجهه وبشرته وكمد. وروي أن قيس بن عاصم قال : يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعتق عن كل واحدة منهن رقبة ، وقال عليه‌السلام : ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام ، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار وكانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها حيّة إلى أن تموت تحت التراب ، ومنهم من يرميها من شاهق ، ومنهم من يغرقها ، ومنهم من يذبحها .. فبئس الحكم حكمهم! ..

٦٠ ـ (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) ... أي الصفة القبيحة كسواد الوجه حين بشّر بالأنثى ، والحزن والجهل ، وقتل البنات خشية الإملاق ، والذل والاحتياج والفقر (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وهي الصّفة الحسنة من وجوب وجوده الذاتي ، والغنى المطلق ، والجود العام ، وتقدّسه عن الصّاحبة والأولاد ، وغيرها من صفات المخلوق التي هي نقص إذا نسبت إليه تعالى. ولو قيل كيف الجمع بين قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، وقوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ)؟ فالجواب : أن المراد بالأمثال الأشباه ، أي لا تشبّهوا الله بشيء. والمراد بالمثل الأعلى الوصف الأعلى ، فلا تناقض بينهما كما هو ظاهر (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على إهلاك الكفرة والظّلمة (الْحَكِيمُ) الحاكم بإهلاكهم بعد الحكم بإمهالهم إلى يوم معلوم وبحسب حكمته جلّ وعلا.

* * *

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

٦١ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) ... أي بكفرهم ومعاصيهم وتجاوزهم عن طريق الحق إلى الباطل فلو آخذهم بها (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على وجه الأرض بقرينة النّاس (مِنْ دَابَّةٍ) لأن البليّة إذا جاءت عمّت كما في قضية نوح عليه‌السلام وذلك بشؤم العصاة والطّغاة. ونقل عن ابن مسعود أنه قال : الجهل يهلك بذنب ابن آدم. وعن آخر : الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظّالم. والحاصل أن عذاب العصاة للعقوبة ، والعبرة ، وأما غير البشر من الدّواب فقد خلقها سبحانه لأجلهم فإذا أهلكوا عن آخرهم فلا ثمرة ولا فائدة في إبقائها فهي أيضا تهلك. وهذا جواب للإشكال المتوجّه في المقام كما لا يخفي.

٦٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) ... أي ما لا يحبّون لأنفسهم من البنات والشركاء في الرئاسة ورديء المال والاستخفاف بالرّسل (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ومع ذلك تقول ألسنتهم الكاذبة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي عن الله لهم المثوبة أو الجنّة. أو المرتبة السامية (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) هذا ردّ

لما كانوا يعتقدونه بزعمهم الفاسد وإثبات لضدّه (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدّمون إلى النار ، وقيل : معذّبون.

٦٣ ـ (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) : أي فأصرّوا على قبائح أعمالهم وكفروا بالمرسلين (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أي الشيطان ناصرهم ولا ناصر لهم غيره في الدنيا ومصاحبتهم في الآخرة.

٦٤ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا) ... خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أننا ما أنزلنا عليك القرآن وما فيه من بيان الأوامر والنواهي (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) لتوضح للكافرين والمشركين كلّ (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) وتجعلهم على بيّنة من الأوامر. فهو لهذه الغاية (و) هو كذلك (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) مرّ تفسير مثله مكرّرا.

* * *

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

٦٥ ـ (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ... هو سبحانه منزل المطر من السماء على الكيفية التي سبق بيانها في ما مضى من تفسير أمثال هذه الآية الكريمة (فَأَحْيا بِهِ) بالماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بعد جفافها وموت ما فيها من نباتات وقد أقيم المضاف مكان المضاف إليه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) حجة ودليلا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لمن يسمع ويعي ويعرف معنى المثل ، فمن فعل ذلك قادر على إحياء الموتى وبعثهم للحساب.

٦٦ ـ (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ... أي هي معبر يعبر بها من الجهل إلى العلم واشتقاقها من العبور لأن الإنسان ينتقل بها من أمر إلى أمر (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) تذكير الضمير هنا باعتبار اللفظ (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً مِنْ) بيانية متعلقة بقوله تعالى : (نُسْقِيكُمْ) الذي هو تفعيل للعبرة. والفرث عبارة عن ثفل ما يؤكل ويعبّر عنه بالمدفوع بعد خروجه ويقال له الرّوث من ذوي الحافر. والمراد باللّبن الخالص خلوصه من لون الدم ورائحة الرّوث مع اتّصاله واقترانه بهما لأنه بينهما على ما عنى ابن عباس ، قال : إذا استقر العلف في الكرش (وهو بمنزلة المعدة في الإنسان) صار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، وأوسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويدفع مجراه. ويتمّ ذلك وهو تعالى جعل لحم الضّرع أبيض وجعل فيه غددا بيضاء فاذا وردت المواد اللبنية إليه فبالمجاورة تصير بيضاء خالصة لا يشوبه الدم ولا الفرث. وفي تكوّن اللبن مع هذا الصفاء واللطافة في جوف الحيوان وضرعه آية لائحة وعلامة واضحة على غاية حكمته وكمال قدرته وقد جعله الله تعالى (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) قال صاحب كتاب قوت القلوب : إن تمام النعمة وكمالها في اللبن بخلوصه من وصفي الفرث والدمّ وإلّا لما كان تامّا حيث إن الطّباع لم تقبله. وكذلك عمل العبد مع مولاه لا بدّ أن يكون خالصا من شوب فرث الرّياء ودم الهوى وإلّا كان من الخلوص بعيدا ومن نظر القبول مردودا ، فإن الرياء في

العمل شرك خفيّ ، وصفاء العمل وضياؤه بسبب خلطه وشوبه بالهوى منتف.

٦٧ ـ (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ) ... متعلق بفعل محذوف ، أي نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب الذي (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وفي الكلام (ما) موصولة مضمرة تقديره : (ما تتخذون منه سكرا) كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ) (ـ ما ـ) (ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً) على ما قيل. وفي تفسير السّكر وجوه : الأول : أنه الخمر من سكر يسكر سكرا وسكرا نحو رشدا ورشدا وقال أبو عبيدة : إن المراد به هو الخلّ على لغة الحبشة ، وقيل إن المراد به ما يشرب من أنواع الأشربة مما يحلّ ، والرّزق الحسن مما يؤكل (وَرِزْقاً حَسَناً) قال ابن عباس السّكر ما حرّم من ثمرها والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها. وفي الكريمة إشارة على تحريمها حيث ميّز بينهما ، أي بين السّكر والرّزق بتوصيفه الرزق بالحسن دونه فيفهم من عدم حسنه أنه قبيح. فإذا بدلالة اقتضاء المقام هو حرام. والرزق الحسن هو التمر والزبيب والخل والدّبس.

٦٨ ـ (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ... قال أبو عبيدة : الوحي في كلام العرب على وجوه : منها وحي النبوّة كما في قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) ومنها الإلهام كما في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) والإشارة كما في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) معناه أشار إليهم ، إلى غير ذلك مما قيل في معناه. وأصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتارة والإخفاء. ومعنى قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي قذف وألقى في قلبه ، أو المراد منه وحي التعليم أي علّمها على وجه لا سبيل لأحد الوقوف عليه (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي قذف في قلوبها أو علّمها أن تأوي إلى الجبال لاتّخاذ البيوت والأوكار فيها وفي الأشجار وفي (مِمَّا يَعْرِشُونَ) أي يرفعون من السّقوف وما يصنع لوضع الكرم عليها في البساتين والبعضيّة لأنها لا تبنى بكل جبل وشجر وما يعرش ، بل فيما يوافقها من حيث طيب

الهواء وكثرة المياه والأزهار المعطّرة للتعليل ، وتسمية أبنيتها (بُيُوتاً) لشبهها ببناء الإنسان حيث إن خلّيتها متضمّنة لحسن الأوصاف ولإعمال كيفيّات دقيقة لطيفة بحيث لا يقدر على الإتيان بمثلها حذّاق المهندسين إلا بآيات دقيقة كالمسطرة والفرجار. وقد ثبت في الهندسة أن تلك البيوت التي تحتوي تلك الأضلاع المتساوية التي لا يزيد بعضها على بعض بمقدار رأس إبرة لو كانت مشكّلة بأشكال سوى المسدسات فانه كان يبقى بالضّرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة. فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية التي تحيّر العقول ليس إلا بإلهام القادر الحكيم والصّانع العليم. ثم إن خليّة النحل تكون فيها واحدة لها رئاسة وسلطة على البقية ولها جثة وهي عظيمة نافذة الحكم على الجميع وهم يخدمونها ويحملونها عند الطيران بكيفيّة فيشكّلون لها عرشا من أنفسهم وذلك من الأعاجيب ، وتسمّى (الملكة) بل أعجب منه أنها قد تنفر من وكرها فيتبعها جميع من فيه إلى موضع آخر ، فإذا أرادت العودة إلى المكان الأول يتغنّون بالألحان المطربة ومع تلك التشريفات يقدرون على العودة وللملكة بوّاب وشرطة لتنفيذ حكمها وأوامرها على ما هو المعروف والمشهور.

٦٩ ـ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ... أي ألهمناها الأكل من جميع الثمرات الطيّبة وأزهارها وأنوارها بل ومن حلوها ومرّها كما هو مقتضى عموم اللفظ. وليس كلّ مرّ غير طيّب إن أنواعا من الفواكه أولها مرّ وبعد يصير حلوا. وقيل إن المراد بالثمرات أزهارها والتخصيص لا وجه له ولبعض أكابر أهل التفسير بيان دقيق لا بأس بالإشارة إليه قال رحمه‌الله : اعلم أن الله تعالى دبّر هذا العالم على وجه لطيف كلّه ، فمثلا يحدث في الهواء أحيانا ظلّ لطيف في اللّيالي ويقع ذلك الطلّ على أوراق الأشجار وأزهارها ، وتكون تلك الأجزاء الطلّية صغيرة متفرقة على الأزهار والأوراق بحيث لا ترى وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة كالتّرنجبين والمنّ. والقسم الأول من الطلّ هو الذي ألهم الله هذا النحل

أن يلتقط منه الذرّات غير المرئيّة في الأزهار بأفواهه فيأكلها ويتغذّى بها ، فإذا شبع التقط مرّة أخرى من تلك الأجزاء وذهب بها إلى بيته ووضعها هناك مدّخرة لنفسه غذاء فإذا اجتمعت الأجزاء المدّخرة فذاك هو العسل. (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي الطّرق الّتي ألهمك الله في صنع العسل وعمله (ذُلُلاً) اي حال كون السّبل مذلّله بأمره تعالى أو حال عن فاعل (فَاسْلُكِي) أي حال كونك منقادة ومقهورة لأمر ربّك هذا ، ولكن الظاهر هو الأوّل كما لا يخفى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) هذا الكلام رجوع من الخطاب إلى الغيبة للالتفات ، لأن الغرض من هذا البيان أن يحتج المكلّف به على قدرة الله وحسن تدبيره فكأنّه عدل عن خطاب النحل بما سبق ذكره وخاطب الإنسان ، فيا أيها الإنسان اعلم بأننا ألهمنا النحل بذلك الترتيب لأن يخرج من بطونها شراب (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) والمراد بالبطون هو أفواهها لا بمعنى أن الشراب يتكوّن في أفواهها ويخرج عنها كما قيل بل بمعنى أنه بعد تكوّنه في بطونها من الموادّ المأكولة يخرج بكيفيّة اللّعاب من أفواهها لا من المخرج المعتاد المتعارف كما هو المتبادر إلى الذهن ، بل قيل به. والمراد بالشراب هو العسل والتعبير به إما لكونه من المشروبات بالطّبع كالرّوبة والحليب السخين الذين يخرج من الثّدي في أوائل الولادة ، أو لأنه نوعا يخلط مع المائعات ويشرب معها وقيل في وجه اختلاف ألوانه أن النحل بعضها حديث السن فالعسل منه أبيض ، وبعضها كبير السنّ فعسله أحمر ، ونادرا أخضر وأسود ، والبعض الآخر عمره متوسّط فالمخرج منه أصفر وقيل اختلاف الألوان بحسب الفصول وقيل بحسب الأزهار والثمر (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن يكن في شيء شفاء ففي شرطة الحجّام وفي شربة عسل. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لعق العسل شفاء من كلّ داء ، ثم تلا هذه الآية وقال هو مع قراءة القرآن ومضغ اللسان يذيب البلغم. وفي العيون عنه عليه‌السلام : ثلاثة يزدن في الحفظ ويذهبن بالبلغم، وذكر هذه الثلاثة وهو دواء مجرّب ناجح لكثير من الأدواء ، ويفسده شرب الماء عليه. وقد أثبت الطبّ الحديث أن العسل

يحوي مقدارا كبيرا من الجلوكوز ، الذي أصبح سلاحا للطّبيب في كثير من الحالات ، فهو شفاء فعّال للضّعف العامّ ، ويستعمل كثيرا في علاج التسمّم بالزرنيخ أو الزنبق ، ويكاد يكون العلاج الوحيد للتسمّم البولي وأمراض الكبد والاضطرابات المعوية والالتهاب الرّئوي والذبحة الصّدرية والتسمم في الحميّات حيث ترتفع حرارة الجسم إلى ما فوق درجتها المعتادة كالتيفوئيد وغيرها ، وفي احتقان المخّ وضعف القلب والحصبة وغير ذلك من الأمراض الخبيثة المستعصبة ، فسبحان من أودع فيه كلّ هذه الخواص ونبّهنا للانتفاع بها بقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). والعسل مع الأدوية الحارّة شفاء للبلغم وبالاختلاط معها أيضا ومع الحموضات يفيد للصّفراء ، ومع الأدهان نافع للسّوداء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي في أمر النحل وما يخرج منه دليل وحجة واضحة على وجود صانع حكيم قادر (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في اختصاص النحل بتلك العلوم الدّقيقة والصّنائع العجيبة ، فإن كل من تفكّر وتدبّر فيها وعرفها يعلم علما قطعيّا أن صدور هذه الأمور والأفعال من مثل هذا الحيوان الضعيف ليس إلّا بإلهام مقتدر حكيم أودعه فيه وجعل في شرابه شفاء ، وفي التفكّر بأحواله وتدابيره يكون شفاء المرض من الجهل الذي هو رأس كل مرض وعنه يتشعّب الجحد والكفر والزندقة كما لا يخفى. وفي الرواية : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا يعسوب المؤمنين ، واليعسوب اسم لأمير النحل والزنابير المدبّر لأمرهم والجامع لشملهم والأمر فيهم بما فيه صلاحهم والناهي لهم عمّا فيه فسادهم. وقوله عليه‌السلام : أنا يعسوب ، إشارة إلى أن مثلي فيهم مثل أمير الزنابير فيما ذكر من أوصافه ، وكما أن النحل لا يأكل مع أميره إلّا من الطيّب ، ولا يقع إلّا على الطاهر ، ولا يخرج منه إلّا ما فيه شفاء للناس وعافية لهم ، لأنه في صيدلية الحكمة الإلهية صار متّصفا بتلك الصفة ، فهو عليه‌السلام مع شيعته متصف بتلك الأوصاف ومتّسم بهذه السّمة ، لا يأكلون إلا من الحلال ، ويجتنبون الخبائث ، ولا يجلسون إلا على ما طاب وطهر ، ولا يخرج من أفواههم إلا العلوم والمعارف والحكم الإلهيّة التي هي أحلى من العسل وفيها شفاء

للقوالب والقلوب وللظواهر والبواطن وللأبدان والأرواح وفرق عظيم بين ما يخرج من بطون الزنابير وبطونهم عليهم‌السلام وتابعيهم وشيعهم.

* * *

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢))

٧٠ ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) ... ثم شرّع تعالى في بيان نعمه علينا من خلقنا وإخراجنا من العدم إلى الوجود فقال والله خلقكم أي أوجدكم وأنعم عليكم بأقسام النعم الدّنيوية والأخرويّة الظاهرية والباطنية (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بقرينة السياق يستفاد أن الموت من النعم وهو كذلك كما لا يخفى على المتأمل وكما نشير عما قريب الى وجهه في الجملة إن شاء الله تعالى وفي سورة عبس أيضا ذكر تعالى الإقبار في عداد النعم وسياقها (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أدونه وأخسّه حتى يصير إلى حال الهرم والخرف الذي يشابه الطفولية فيظهر النقصان في جوارحه وحواسّه وعقله. وروي عن عليّ عليه‌السلام : أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وروي مثل ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وعن البعض أنه تسعون سنة (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لينسى ما كان عليه حال شبابه لأجل الكبر وتختلط

معلوماته بمجهولاته. ولا تخفى دناءة هذه الحالة ولا وضاعتها ، وإذا كان العمر متعقبا بهذه الظاهرة فالموت فيما دون تلك المرحلة نعمة ، وكيف إذا زاد عن ذلك فصار نقمة بلا شبهة وبلا أدنى ريب؟ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما ينبغي وما يليق بكم من مقادير الأعمار (قَدِيرٌ) على أن يعمّركم إلى أرذل العمر أو إلى أدناه.

٧١ ـ (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ... أي أنه هو الذي زاد الملّاك والسادة والأغنياء رزقا وملكا لحكمة تخفى عليكم (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) أي فليس هؤلاء المزادين رزقا (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) بمرجعيه إلى عبيدهم ، ولا هم جاعلون رزقهم لمواليهم (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي السادة والموالي ، أو الأغنياء والفقراء ينبغي أن يعيشوا فيه سواء دون منّة من السيّد على عبده فليس واحد منهما أفضل من الثاني ، فقد قيل إن ابن عباس كان يطعم عبيده ممّا يطعم ويلبسهم ممّا يلبس ، وفي الجوامع أن أبا ذرّ رضوان الله عليه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّما هم إخوانكم ، فاكسوهم ممّا تكسون ، وأطعموهم ممّا تطعمون ، فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره من غير تفاوت.

والحاصل أنه لا يجوز أن يعتبر السادة أنهم يرزقون المماليك من عندهم بل الجميع مرزوقون من عنده تعالى أغنياء وفقراء وسادة وخدما. ولمّا ثبت أن المنعم الحقيقيّ والرازق للجميع هو الله تبارك وتعالى ، فكلّ سيد وعبد وخادم ومخدوم وغنيّ وفقير ، هم مرزوقون منه جلّ جلاله لأنه قد أجرى أرزاق هؤلاء على أيدي هؤلاء وجعلهم درجات ليخدموهم ويقوموا بشؤونهم ، فكيف تجوز عبادة غير هذا المنعم المفضل ، وكيف تجحد نعمه وهو الذي يقول : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ؟) أي يكفرون.

٧٢ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ... أي : خلق لكم من جنس أنفسكم ـ مثلكم ـ نساء تأنسون بهنّ ، ويمكن أن تكون الآية الكريمة

إشارة إلى خلق أمّنا حوّاء من آدم عليهما‌السلام كما أشير إلى ذلك في بعض الأخبار (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) أي وهبكم أبناء وبنات ، وأبناء أبناء وأبناء بنات. وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : الحفدة بنو البنت ، ونحن حفدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل إن الحفدة أبناء الأبناء ، وفي الموضوع أقوال أخر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ممّا أنعم به عليكم (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) يعني أهم مع ذلك يؤمنون بما يعتقدونه من ربوبيّة الأصنام وشفاعتها ويكفرون بالمنعم الحقيقي الذي نعمه ظاهرة للعيان؟ وهو استفهام إنكاريّ يعني آمنوا بالله ولا تجعلوا له أشباها وشركاء في الألوهيّة.

وقد قال الطبيعيّون أن المنيّ إذا انصبّ إلى الخصبة اليمنى من الذكر وانصبّ منها إلى الجانب الأيمن من الرّحم كان النسل ذكرا تامّا في الذّكورة وإن انصبّ إلى الخصية اليسرى من الذكر وانصبّ منها إلى الجانب الأيسر من الرّحم كان النسل أنثى تامّة الأنوثة. أما إذا انصبّ إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصبّ منه الى الجانب الأيسر من الرّحم كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث ، وإن انصبّ إلى الخصية اليسرى من الذكر ثم انصبّ إلى الجانب الأيمن من الرّحم كان الولد أنثى في طبيعة الرجال ، والله أعلم بصحة ما قالوه وبفساده ، فإن كلّ ذلك يتمّ بتقدير العزيز العليم وما وراء ذلك كلّه أسباب ومسببات.

* * *

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ

رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

٧٣ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي الكافرون والمشركون يتعبّدون لغيره سبحانه ويقدّسون (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس في قدرته إنزال المطر ولا إنبات الزرع والشجر وإعطاء الرزق ولا يملك (شَيْئاً) ومعبوداتهم التي لا تعقل ولا تسمع والتي أنزلوها منزلة الألوهيّة لا تقدر على شيء (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) خلقا ولا رزقا.

٧٤ ـ (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) ... فلا تجعلوا له أشباها وأندادا ولا تنصبوا خشبا وأحجارا وتسمّوها أربابا ، أو أنه سبحانه وتعالى خاطب المؤمنين قائلا : لا تتعبوا أنفسكم مع هؤلاء الكفرة المشركين لتقنعوهم بألوهية الله ووحدانيته ، ودعوهم وشأنهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) حكمة ما خلق (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

٧٥ ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) ... أي أنه تعالى ضرب مثلا لنفسه ولما يشرك به (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) عبدا عاجزا عن التصرّف. وهذا مثل للأصنام (وَمَنْ) أي وحرّا (رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) مالا وافرا (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) يتصرّف فيه كيف يشاء وهو مثله تعالى (هَلْ) هي للإنكار ، ومعناها : لا (يَسْتَوُونَ) ولعلّ معناه إذا لم يستو هذان مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية فكيف تستوي الأصنام التي هي أعجز المخلوقات ، مع الغنيّ القادر على كل شيء؟ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي لا

يستحقّه سواه (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون اختصاص الحمد به ، ثم ضرب سبحانه مثلا آخر لإبطال عبادة الأصنام ، فقال عزوجل :

٧٦ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ... الأبكم هو الذي انعقد لسانه عن الكلام ولم يسمع له صوت وصار غير قادر على شيء من الأمور حقيرا كان أو جليلا ، وصفته الثانية : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي ثقيل عليه وصفته الثالثة : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) أي بأيّ جهة يرسله مولاه لأمر من الأمور يرجع خائبا كما قال سبحانه (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) فهذا مثل الأصنام (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) للاستفهام والإنكار ، يعني لا يستوي هذا الرجل مع (مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي مع رجل فصيح آمر بالحق يدعو الى الخير والرشد (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي دين قويم لا عوج فيه ، وهو مثل لذاته المقدّسة. والحاصل أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في الفضل للناطق الكامل مع استوائهما في البشرية ، فكيف يحكم بأن الجماد يكون مساويا لربّ العالمين؟ في المعبودية مع عدم السنخية بينهما؟ وهل هذا حكم عقل أم حكم صدر عن جحود وغير شعور؟. وحيث إن كفّار قريش كانوا يستعجلون في وقوع يوم القيامة ولم يزالوا يطلبونها منه صلوات الله عليه استهزاء فنزلت الشريفة التالية :

* * *

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ

إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢))

٧٧ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي جميع المعلومات الغيبية والأسرار والمكنونات السمّاوية والأرضيّة ، ومنها القيامة الكبرى تنحصر وتختصّ به تعالى ، والإتيان بها عنده تعالى في السرعة والسهولة (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) القيامة (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) كارتداد الطّرف (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) فإن لمح البصر ذا فعلين : وضع الجفن ورفعه بخلاف إيقاع القيامة فإنه فعل واحد. أو المراد بأمر السّاعة إحياء الأموات فإنه أمر دفعيّ وما يقع دفعة واحدة بخلاف لمح البصر لأنه فعلان كما قلنا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء.

٧٨ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ... بالولادة ، وأنتم عندها (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) بل تجهلون أنفسكم (وَجَعَلَ) بعد ذلك (لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي ركّب فيكم هذه الأدوات والآلات حتى تعرفوا جزئيّات الأشياء بمشاعركم وتتعقّلوها بقلوبكم لتحصل لكم العلوم البديهيّة ولتكتسبوا العلوم النظريّة فإن تلك الأدوات والقوى من أعظم النّعم

وأشرفها على الإنسان وقد جعل القلوب سلاطين عليها ومنّ على القلوب بأن جعل مسندها وعرشها القوّة العقلية فبالتعقل تتميّز تلك المستفادات والاستفاضات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على هذه النعم الجزيلة والآلاء الوارفة ، ثم نبّه على النظر في دلائل القدرة بقوله سبحانه :

٧٩ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) ... ألا ينظر الأوادم ، وقرئ بتاء الخطاب (مُسَخَّراتٍ) أي مذلّلات خاضعات طائرات بأسباب هوائية وآلات جوّية كالأرياش والأجنحة (فِي جَوِّ السَّماءِ) ما بين الأرض والسّماء ولذا كانت محتاجة إلى الإمساك ، وليس الممسك إلّا هو تعالى وإلّا فإنّ كلّ جسم ثقيل بحسب طبعه يقتضي الميل إلى مركزه والسّقوط عليه بلا ممسك من فوقه وبلا دعامة من تحته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في طيران الطيور المسخّرات في الجو على خلاف طباعها (لَآياتٍ) علامات على ممسكها والمسخّر لها ما جعلها فوق الطبع والطبيعة. ثم بيّن نعمة أخرى من نعمه فقال سبحانه :

٨٠ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) ... السكن ما يسكنه الإنسان ويأنس فيه ويرتاح. فقد جعل لكم مساكن وبيوتا تتخذونها في الحجر والمدر والخشب والحديد وغير ذلك مما تنتقلون إليه وتقيمون فيه آوين إلى الراحة والطمأنينة (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) أي بيوتا من نوع آخر وهي قباب الأدم والخيم والمضارب المتّخذة من الجلود أو الوبر أو الصوف أو الشعر ، فهي بيوت خفيفة الحمل تنقلونها حين ظعنكم : سفركم وحين إقامتكم : مكثكم في المكان (وَ) جعل لكم (مِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أي ممّا تأخذونه من جلود الأنعام حين جزّ صوفه وقصّ شعره ، جعل لكم (أَثاثاً) فراشا وأكسية (وَمَتاعاً) أدوات تتمتعون وتنتفعون بها (إِلى حِينٍ) إلى وقت الموت أو وقت فنائها. ولأنها تفنى ولأنكم تفنون فلا ينبغي لكم أن تؤثروها على نعيم الآخرة الدائم.

٨١ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) ... أي من الشجر والبيوت وكل ما تستظلّ به مطلقا ، و (أَكْناناً) جمع كنّ وهو ما يستكنّ به ويستثر كالكهوف والغيران والبيوت المنقورة والمنحوتة في الجبال ، و (سَرابِيلَ) مفردها : سربال وهو القميص من القطن أو الكتّان أو الصوف وغيره ، و (سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي دروعا وجواشن وكلّ ما يلبس للوقاية من بأساء وضرّاء الحرب ويقف في وجه الطعن والضرب والقتل (كَذلِكَ) أي كما أنعم عليكم بهذه الأشياء وبما سبق ذكرها (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) كاملة (لَعَلَّكُمْ) تنظرون في جميع تلك النّعم و (تُسْلِمُونَ) فتؤمنون وتصدّقون بأنه المنعم ، فتنقادون إلى حكمه تبارك وتعالى.

٨٢ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : أي إذا انصرفوا عن قولك ولم يأبهوا لوعدك ووعيدك ، فلا تبتئس ولا تحزن عليهم لأنك رسول مبلّغ موضح معالم الطريق للنّاس ونحن نحاسب على الأعمال.

* * *

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى

اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨))

٨٣ ـ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) ... عن الصّادق عليه‌السلام : نحن والله نعمة الله الّتي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز ، وفي الكافي عنه عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام جميعا في هذه الآية قال : لمّا نزلت : إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الآية .. اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد المدينة فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في هذه الآية؟ فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها ، وإن آمنّا فهذا ذلّ حين يسلّط علينا ابن أبي طالب عليه‌السلام فقالوا قد علمنا أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله صادق فيما يقول ولكنّا لا نتولّاه ولا نطيع عليّا فيما أمرنا ، قال فنزلت هذه الآية يعرفون نعمة الله إلخ يعني ولاية عليّ عليه‌السلام (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) بها المنكرون لها.

٨٤ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ... اي نبيّها وإمامها القائم مقامه يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار حيث لا عذر لهم بدلالة عدم الإذن فإنه تعالى عادل ولا يظلم شيئا (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون ، يعني لا يقال لهم أرضوا ربّكم بإتيان عمل هو تعالى يحبّه فيرضى به عنكم ، فإن الآخرة ليست بدار عمل وإن هي دار جزاء الأعمال ، أو ولا يعاتبون لأن العتاب لا يكون الّا بين الأحبّاء ولذا إنّما يقع العتاب إذا كان الأمر على طريق إذا عاتبه رجع غالبا إلى الرّضا ، وعدم العتاب دليل على أنّه سبحانه راسخ في غضبه.

٨٥ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) ... أي حين يشاهدونه يوم

القيامة يثقل عليهم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) والجزاء محذوف وهو ثقل عليهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون.

٨٦ ـ (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) ... أي الذين جعلوهم شركاء الله في عبادتهم إيّاهم من الأصنام والشياطين الذين أشركوهم معه في العبادة وفي امتثال أوامرهم كامتثال أوامر الله تعالى. وقيل سمّاهم شركاء لأنّهم جعلوا لهم نصيبا من الزّرع والأنعام ، فهم على زعمهم شركاؤهم (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) الّذين أشركناهم معك في الإلهيّة والعبادة بأمرهم فأضلّونا عن دينك فحمّلهم بعض عذابنا (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي أنطق الله الأصنام فقالت الأصنام : إنكم لكاذبون فيما أسندتم إلينا من أنّا أمرناكم بأن تعبدوننا ، ولكنكم اخترتم الضّلال بسوء اختياركم لأنفسكم بأن قلتم بإلهيّتنا فعبدتمونا.

٨٧ ـ (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) ... أي استسلموا لحكمه وانقادوا يوم القيامة لأمره ، أي المشركون وما عبدوه ذلّوا بعبد الإباء والاستكبار في دار الدّنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع وبطل عنهم ما كانوا يقولونه كذبا وافتراء من أن الأصنام وسائر معبوداتهم شركاء الله في العبادة أو أنهم ينصرونهم ويشفعون لهم :

٨٨ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي منعوا عن الإسلام وحملوا النّاس على الكفر (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) أما أصل العذاب ، فلكفرهم ، وأما الزيادة فللصّدّ لأنهم مفسدون.

* * *

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً

 وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))

٨٩ ـ (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ... أي من الأئمة (عَلى هؤُلاءِ) أي على قومك وأمّتك ، وإنما أفرده بالذكر تكريما وتشريفا له ، وقيل إن الأئمة شهداء على الناس ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله شهيد على الأئمة ، والأنبياء يكونون شهداء على أممهم (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا بليغا لكلّ أمر ومشكل ممّا يحتاج الخلق إليه في أمر دينهم إمّا بالتنصيص عليه تفصيلا أو إجمالا ، وإما بالإحالة إلى ما يوجب العلم من بيان نبيّ أو من يقوم مقامه من الأوصياء ، أو إجماع الأمّة فيكون حكم الجميع مستفادا من القرآن (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي القرآن دالّ على الرّشد والنّعمة (وَبُشْرى) أي بشارة لهم بالثواب الدّائم.

٩٠ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) ... أي الإنصاف التامّ (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) لعلّ المراد به صلة الرّحم (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) أي ما جاوز حدود الله (وَالْبَغْيِ) أي التطاول على الناس بغير حق ، أو الكبر كما في المعاني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والعدل والإنصاف والإحسان : التّفضّل ، وروي أن الفحشاء والمنكر والبغي فلان وفلان وفلان ، وقيل لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنّه تبيان لكلّ شيء.

* * *

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ

بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

٩١ ـ (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) ... أي ما يجب الوفاء به أو البيعة للرّسول (بَعْدَ تَوْكِيدِها) أي بعد الحلف والتوثيق باسم الله تعالى إذ جعلتموه (عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شهيدا بالوفاء (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من النّقض أو الوفاء.

٩٢ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) ... أي كالمرأة التي أفسدت ما غزلته من بعد أن أحكمته (أَنْكاثاً) هو ما ينكث فتله أي يحلّ نسجه ، جمع : نكث بالكسر. ومعنى الشريفة تشبيه ناقض العهد بمن فعلت ذلك مطلقا وقيل عنت الآية ريطة بنت عمرو القرشيّة وكانت حمقاء خرفاء هذا شأنها ، فصار عملها من الأمثال السّائرة (دَخَلاً) أي خيانة وخديعة. والدّخل أن يكون في الباطل ، وهؤلاء المشركون والفسقة كانوا حين عهدهم يضمرون الخيانة (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) أي لأن تكون جماعة (هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي أكثر من أخرى. يعني لا تنقضوا العهد بسبب أن تكون جماعة ـ وهم كفرة قريش ـ أزيد عددا وأوفر مالا. من جماعة المؤمنين (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ) أي يختبركم بكونكم أربى لينظر وفاءكم بعهده أم تغترّون بكثرة

قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ) الآية الكريمة تهديد وتحذير من نقض العهد ومخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويستفاد من الآية أن حكم العهد واليمين واحد حيث عقّب قوله : (أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) ، بقوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها).

٩٣ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ... أي لو اقتضت الحكمة أن يجعلكم أمة إسلامية لكان قادرا ، والمراد المشيئة الإلجائيّة والقسرية (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يخذل من يشاء من الّذين رأوا الآيات والمعاجز الواضحة ومع ذلك لفرط عنادهم جحدوا واختاروا الكفر والضلالة بسوء اختيارهم وما نظروا في الآيات والبراهين حتى يتبيّن لهم الرشد من الغيّ (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بلطفه وكرمه ممّن كان من أهله فيوفّقه ويؤيّده لتحصيل الرشد وتمييز الهداية من الضلالة واختيارها عليها بلا كره ولا جبر (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سؤال مجازاة وتقريع والغلبة بالحجّة.

* * *

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

٩٤ ـ (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) ... كرّر تأكيدا. والتصريح بالنّهي مبالغة في قبح المنهيّ عنه شديدة (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن محجّة الإسلام (بَعْدَ ثُبُوتِها) استقرارها عليها والمراد بالقدم هو الأقدام ، والتوحيد والتنكير للدّلالة على أنّ زلل قدم واحد عظيم عنده تعالى فكيف بأقدام كثيرة؟ وهو مثل لمن وقع في بلاء بعد عافية (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) أي العذاب في الدّنيا (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بامتناعكم ومنعكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم عنه لكي يقتدي بسنّتكم ، (عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة. وهذا تهديد عظيم لضعفاء المسلمين الذين أرادوا الرّجوع عن عهدهم مع النبيّ لوعد قريش إيّاهم بالمنافع الوافية الكثيرة إذا رجعوا ونقضوا أيمانهم معه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٩٥ ـ (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) ... أي ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله (ثَمَناً قَلِيلاً) بعرض قليل من متاع الدّنيا تنقضونها لأجله (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على الوفاء بالعهد (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) عن عرض الدّنيا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تدركون وتفهمون.

٩٦ ـ (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) ... ما تملكونه من متاع الدّنيا ينقضي ويفنى (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والأجر (باقٍ) لا ينقطع ولا ينفد. وهذا علة لكون ما عند الله هو خير ، لأن القليل الذي يبقى خير من الكثير الذي يفنى ، فكيف بالكثير الذي يبقى في مقابلة القليل الذي يفنى؟

٩٧ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ... حياة طيّبة .. أي يعيش عيشا طيّبا. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنها القناعة والرضا بما قسم الله. فذو العمل الصالح له أجر عظيم ذكرا كان أو أنثى.

* * *

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

٩٨ ـ (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ... أي إذا أردت قراءته وهذا كما يقال : إذا أكلت فاغسل يديك ، وإذا صلّيت فكبرّ ، ومنه : إذا قمتم الى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم. والاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع ، والتذلّل ، وتأويله : استعذ (بِاللهِ) من وسوسة (الشَّيْطانِ) عند قراءتك لتسلم في التّلاوة من الزّلل ، وفي التأويل من الخطل. والاستعاذة عند التّلاوة مستحبّة بلا خلاف في الصلاة وخارجها. وكيفيتها هكذا : أعوذ بالله السّميع العليم من الشيطان الرجيم ، على ما عن سدير عن الصّادق عليه الصّلاة والسّلام وعن ابن مسعود أنه قال : قرأت على رسول الله هكذا : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرّجيم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن أم عبد قل : أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم ، هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللّوح المحفوظ. ولفظ القرآن موافق لهذا ولعلّ أصحّ من القول الأول. وعند العامة أن الاستعاذة من سنن الصلاة ، ولذا قالوا باستحبابها على المأموم ولو لم يقرأ أو كان مسبوقا. وعندنا أنها من سنن القراءة ولفظ القرآن دالّ عليه ، ولذا نقول إنّها من وظيفة القارئ بالنسبة إلى الركعة الأولى فقط ، وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام دالّة عليه. ويستحب الإخفات بها ولو كانت الصّلاة جهريّة إجماعا ـ والآيتان ٩٩ و ١٠٠ بعد هذه تدلان على فائدة الاستعاذة كما لا يخفى على من تدبّر فيهما.

٩٩ ـ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي أن الشيطان اللّعين ليس له تسلّط ولا قدرة ولا حكم على المؤمنين لأنهم لا يستمعون لوسوسته ولا يصغون للأهواء التي يرمي بها النفوس ، فهم من الذين أخلصوا النيّة وصدّقوا بعداوته وغشّه وَهم (عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوّضون أمورهم إليه ، فلا سلطان للشيطان عليهم.

١٠٠ ـ (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) ... فقد حصر سبحانه وتعالى سلطان الشيطان على الّذين اتّخذوه وليّا وقائدا ، واستجابوا لنفثه وإغرائه (وَ) هم (الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي بسببه يشركون ، أو بالله يشركون. والظاهر أن الضمير راجع إلى الشيطان بقرينة السّياق ، وقد روي أن أهل مكة وكفرتها حين ما نسخت بعض الأحكام قالوا إن محمدا (ص) سخر بقومه لأنه اليوم يأمرهم بشيء وغدا ينهاهم ، فمعلوم أن كلامه من تلقاء نفسه ، فنزلت الآية :

* * *

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ

لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

١٠١ ـ (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) ... أي أتينا بآية ناسخة بدلا عن المنسوخة لمصالح العباد حسب اقتضاء الأوقات إمّا بنسخ الحكم والتّلاوة ، وإما بنسخ الحكم فقط (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) أي بمصالح العباد حسب الأزمان لأنه من الجائز أن يكون الحكم ذا مصلحة في زمان دون زمان آخر ، وبعبارة أخرى يمكن كون الحكم ذا مصلحة موقّتة فإذا مضت الأوقات يصير الحكم بلا مصلحة فينسخ لأن بقاءه يمكن أن ينتج عنه مفسدة في غير ذلك الزمان ، فلا بد من نسخه ورفعه فيؤتى بحكم يناسب ذاك الزمان فيقولون للرسول (ص) : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) على الله فيما تقول (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فوائد النسخ وحكمة الأحكام.

١٠٢ ـ (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) ... أي جبرائيل (ع) والقدس بضم الدال أو بسكونها بمعنى الطهر وإضافة الروح إلى القدس من قبيل حاتم الجود. وقيل إن قريشا قالوا إن محمدا يتعلّم القرآن من سلمان الفارسي أو من غلام يقال له أبو فكيهة وكان بالليل يجيء إلى حضرة النبيّ (ص) ويعلّمه القرآن ، وكان الغلام من أهل الكتاب ولم يزل يقرأ الإنجيل والتوراة وكان روميّا فنزلت الكريمة ردّا عليهم والله ينزل الوحي لتثبيت المؤمنين وليهديهم ويبشّرهم.

١٠٣ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) ... أي يضيفون إليه التعليم على يد (أَعْجَمِيٌ) أي غير فصيح (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي فصيح ذو بيان. وفي القمّي : لسان الّذي يلحدون إليه هو لسان أبي فكيهة مولى ابن

الحضرمي كان أعجميّ اللّسان ، وكان قد اتّبع النبيّ (ص) وآمن به وكان من أهل الكتاب ، وقلنا إنّه كان روميّا. فقالت قريش هذا والله يعلّم محمدا علّمه بلسانه ، فردّ الله عليهم بقوله الذي يعني إذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يتأتّى لأعجميّ بمثله ، وهذا الكلام منهم عجيب غريب وكان من غير روية.

١٠٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ... يعني بهم الكفرة والمشركين الّذين لم يقتنعوا بدلائل الله وبراهينه ، فإن الله تعالى (لا يَهْدِيهِمُ) لأنهم ليسوا مستحقّين لعنايته ورحمته بسبب عنادهم الشديد (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع.

١٠٥ ـ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ... أي أنكم أيها المتّهمون رسولنا (ص) بالافتراء علينا ، أنتم أهل الافتراء والكذب لأنكم لم تصدّقوا (بِآياتِ اللهِ) وأنتم أنتم أهل الكذب والافتراء.

* * *

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

١٠٦ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) ... جزاء الشرط محذوف بقرينة سوق الكلام ، أي : فهو في معرض غضب الله وسخطه ، إلّا في حالة واحدة نزلت الآية بسببها (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي كفر معتقدا الكفر طيّبة نفسه به (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) جواب الشرط (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقد أكره جماعة على الارتداد في بدء الدعوة إلى الإسلام ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه ، فقتلوا أبويه لإصرارهما على التوحيد ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا مكرها ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا ، إنّه مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتاه عمار يبكي ، فمسح (ص) عينيه بيده الشريفة وقال : إن عادوا لك فعد لهم ، فنزلت الشريفة : إلّا من أكره وقلبه مطمئن.

١٠٧ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) ... أي آثروها (عَلَى الْآخِرَةِ) وغرّتهم زهرتها وبهجتها لكفرهم بالآخرة ، فحرمهم الله تعالى هدايته وعنايته.

١٠٨ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ... ختم عليها حتى لا يدركوا قول الحق (وَسَمْعِهِمْ) كيلا يسمعوا كلام الحق (وَأَبْصارِهِمْ) لئلا يشاهدوا الآيات الدالة على الحق فامتنعوا عن الاعتراف بالحق بتاتا وضيّعوا أعمارهم بصرفها في ما يفضي إلى العذاب الدائم بغفلتهم عن سوء المصير. أما إسناد الطبع على قلوبهم إلى الله فعلى سبيل المجاز الدالّ على منعهم من اللّطف حين أبوا قبول الحق وأعرضوا عنه وجحدوا ولم يصغوا ولم يتدبرّوا.

١٠٩ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) : مرّ تفسيرها ، وقد وجب كونهم خاسرين يوم القيامة قطعا.

* * *

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

١١٠ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) ... عطف هذه الشريفة على الكريمتين اللتين سبقتاها فقال سبحانه : وكذلك الذين هاجروا من مكة هربا من جور عتاة قريش (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي بعد أن عذّبوا واختبروا وأكرهوا على التبرئة كعمّار وغيره (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) على الآلام والمشقّات التي لاقوها من الكفار أثناء الجهاد (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد ذلك العذاب وتلك المشقّات (لَغَفُورٌ) متجاوز عما فعلوا من قبل (رَحِيمٌ) رؤف بهم. و (لَغَفُورٌ) خبر (إِنَ) الأولى والثانية جميعا ، ونظير هذا كثير ومكرر في القرآن الكريم.

١١١ ـ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ... أي تحاجّ عن ذاتها وتخاصم وتدافع عنها إذ لا يهمها غيرها لشدّة أهوال يوم القيامة ، فتسعى للخلاص وتعتذر بكل وسيلة ، (وَ) لكنّها (تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) تعطى يومئذ استحقاق (ما عَمِلَتْ) أي جزاء عملها إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ولا يظلم ربّك أحدا لأنه منزّه عن الجور.

* * *

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ

آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧))

١١٢ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً) ... أي ويعطي الله سبحانه للناس مثلا محسوسا ملموسا رأوه قد أصاب من قبلهم من الأمم ، وهو إن قرية كانت آمنة من المخاوف السماوية والأرضية ، مطمئنّة : قارّة هادئة البال تعيش في نعمة (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي واسعا هنيئا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من جميع النواحي (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بطرت ولم تشكر نعم الله ـ والأنعام جمع نعمة ـ (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فابتلاها الله بالحاجة والمجاعة وعذّبها بالقحط (بِما) بسبب ما (كانُوا) أهلها (يَصْنَعُونَ) من المعاصي والعناد والكفر بأنعم الله. وعن ابن عباس أن القرية هي مكة المكرّمة ، وقد ابتلى الله تعالى أهلها بالقحط سبع سنين وهو الجوع وابتلاهم

بالخوف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أصحابه فقد تركت قريش تجارتها مع الشام خوفا من سطوة المسلمين وهيبتهم لأنهم كانوا يغيرون على قوافلهم ويأخذون أموالهم ويأسرونهم بعد الهجرة وبعد أن دعا عليهم النبيّ (ص) بقوله : اللهم اشدد ووطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف. وقال مجاهد وقتادة بذلك أيضا ولكنه قيل غير ذلك ، وأنّ المثل يتناول ما كان قيل نبيّنا (ص) من الأمم السالفة التي طغت وبغت فأخذها الله تعالى بالآيات .. ولا يخفى أن في الآية الكريمة استعارة لطيفة هي أنه سبحانه (أذاقها لباس الجوع) فالجوع يذاق ولكنه عبّر عنه باللباس ، مكيّنا به عن أثر الجوع والهزال والشحوب وتغيّر اللون منه ومن الخوف. فكأنّ الجوع والخوف كانا يظهران على الناس كاللباس الذي يحيط بالبدن.

١١٣ ـ (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) ... يعني أهل مكة الذين بعث الله تعالى إليهم رسولا هو منهم في الصميم ، وهو من أشرفهم لا من غيرهم ، إتماما للحجة عليهم ، ومع ذلك كذّبوا بدعوته فابتليناهم ب (الْعَذابُ) وسلّطناه عليهم ونصرناه وخذلناهم (وَهُمْ ظالِمُونَ) له ولأنفسهم ، فجزيناهم بعذاب القحط والخوف والقتل في يوم بدر وغيره.

ولا يخفى أن إرسال رسول منهم أصلا وعرقا ولغة هو من منن الله سبحانه عليهم ، وكان ينبغي لهم أن يؤمنوا به وأن يشكروا الله تعالى على أنّ رسولهم لم يكن من غيرهم ولا من الملائكة ولا من الجن ، وقد بيّن سبحانه هذه المنّة عليهم في الآية ١٦٣ من آل عمران حين قال عزّ من قائل : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم .. فالحمد لله على ذلك لأن فيه منافع لا تحصى ولا يدركها إلا من كان من غيرنا ، فله الحمد مكرّرا.

١١٤ ـ (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ... أي : كلوا ذلك أكلا هنيئا مباحا لكم لأنه سبحانه جعله محلّلا لكم طيّبا : مطهّرا من الرّجس ومن كل

ما يشوب (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) احمدوه عليها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إذا اعتقدتم وحدانيّته وربوبيّته وعبدتموه دون غيره.

١١٥ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ... وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ... أي ما ذكر عند ذبحه اسم غيره تعالى عليه من الأصنام وغيرها. والحصر إضافيّ بالنسبة إلى ما حرّموه على أنفسهم (غَيْرَ باغٍ) ما لم يكن في أكل المحرّمات طالب لذّة وإنما هو يتناول ما يقيم أوده لا متعدّيا على الحكم الشرعي ولا متحدّيا لما حرّم الله تعالى (وَلا عادٍ) لا يكون متعدّيا على حدّ سدّ الرمق ومتجاوزا عنه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن فعل ذلك. ثم بعد أن بيّن المحرّمات نهى عن تحريم المحللات بأهوائهم فقال تعالى :

١١٦ ـ (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) ... أي لا تحلّلوا ولا تحرّموا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ولا برهان ولا نصّ. وقوله تعالى (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بيان لقوله تعالى : (الْكَذِبَ) الذي هو مفعول لقوله (وَلا تَقُولُوا) أي لا تحلّلوا ما حرّمه الله ولا تحرّموا ما حلّله الله ، ومن فعل ذلك لا يفلح في الآخرة.

١١٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : ما يحصّلون وينتفعون به بالافتراء هو متاع زائل عن قريب ، ثم يتعقّبه عذاب أليم باق أبدا لا ينقطع في الآخرة.

* * *

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ

بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

١١٨ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) ... أي صاروا يهودا (مِنْ قَبْلُ) قبل هذه السّورة من سورة الأنعام وهو قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ... أي أننا حرّمنا على اليهود ما قصصناه عليك سابقا من غير أن نظلمهم ، ولكنهم هم (كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما يتعدّون على حدود ما أنزلنا على رسولنا إليهم من الأحكام.

١١٩ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ... أي أنّ من يعمل سيئة عن جهل ونزوة نفس ثم يتوب إلى الله توبة نصوحا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي بعد التوبة (لَغَفُورٌ) لذلك السوء (رَحِيمٌ) بالتائب يعفو عنه من جهة ، ثم يثيبه على الإنابة والرجوع عن الذنب.

* * *

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))

١٢٠ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) ... عن الصادق عليه‌السلام : الأمّة واحد فصاعدا كما قال الله تعالى ، وتلا هذه الآية. وعن الباقر عليه‌السلام : ... وذلك أنه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره ، فكأنّه أمة واحدة. وأمّا (القانت) فالمطيع ، وأما (الحنيف) فالمسلم. وعن الكاظم

عليه‌السلام : لقد كانت الدنيا وما فيها إلّا واحد يعبد الله ، ولو كان معه غيره إذا لأضافه إليه حيث يقول : إنّ إبراهيم كان أمّة ... الآية ، فعبّر بذلك ما شاء الله ، ثم إن الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة. فإبراهيم سلام الله عليه كان وحده المسلم المطيع لله تعالى ، وكان أيضا :

١٢١ ـ (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) ... حامدا ربّه على أفضاله ، وقد (اجْتَباهُ) اختاره (وَهَداهُ) لدينه الحنيف الذي هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه.

١٢٢ ـ (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ... أي حبّبه إلى جميع الناس حتى أن سائر أرباب الملل يتولّونه ويثنون عليه ، ورزقه خيرا كثيرا وعمرا طويلا وأولادا طيّبين مطيعين لله أنبياء مرسلين. وعن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام : ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا ، وسائر الناس منها برآء.

وقد نقل أن الله أمر موسى عليه‌السلام أن يدعو بني إسرائيل إلى ترك الأعمال يوم الجمعة وأن لا يشتغلوا فيه للدّنيا بل يتفرّغوا لعبادة الله فقط ، وأن يجعلوه يوم عيدهم. فاختلفوا فيه ، بعضهم قبل وبعضهم اختاروا يوم السّبت لأن الله فرغ فيه من خلق العالم ، وبعض اختاروا يوم الأحد لأن الله بدأ فيه خلق العالم. ولهذا الاختلاف فرض الله سبحانه عليهم تعظيم يوم السّبت وتكريمه وشدد عليهم في تعظيمه وقال جلّ وعلا :

* * *

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

١٢٤ ـ (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) ... أي حصرنا عيدهم يوم السبت وضيّقناه عليهم بأن فرضنا تعظيمه وحرمته عليهم لاختلافهم فيما أمرهم به نبيّهم موسى ولم يسمعوا قوله. وقد أخذ النصارى يوم الأحد يوم عيدهم وعبادتهم ويمكن أن يقال ان الله تعالى ادّخر يوم الجمعة لشرافته لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيما وتكريما له (ص) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) يفصل (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويظهر اختلافهم وتحكّمهم في الأمور التي ليست من شأنهم ، ثم إنه تعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوة البشر إلى طريق الحقّ وإرشادهم إلى الصوّاب فقال تبارك وتعالى :

١٢٥ ـ (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي نادهم إلى الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) بالمحجة التي تثبت الحق وتزيل الشبهة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) اي المقالة والخطاب المقنع والقصص النافعة ، والدّعوة الأولى للخواص الذين هم طالبون للحقائق ، والثانية لعوامّ الأمّة (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ناظرهم بالقرآن وبأحسن ما عندك من الحجج والبراهين المزيحة للشبهة والقامعة لأقوالهم التي تصدر عن جحد وعناد لكن برفق وبلين العريكة وخفض الجناح حتى يستمع الخصم مقالة الداعي. وهذه هي المجادلة الحسنة بل أحسن حيث أن تسكين لهب عناد المعاند وانطفاء نار شغب الجاحد لا يمكن إلا بهذه الكيفية ، وقيل هو أن يجادلهم على قدر ما يتحمّلونه كما جاء في الحديث ، أمرنا معاشر الأنبياء أن نتكلم مع الناس على قدر عقولهم ، وأصل الجدل هو فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج مع التحفّظ على أن يكون اللّين مقدّمة للإرشاد والهداية ، فإن ذلك ضروريّ لكل مرشد يبتغي الوصول إلى هدف معيّن مع خصم لا يقتنع برأيه ببداهة. وقد مرّ مثل

هذا المعنى في قوله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية ١٠٨ من سورة آل عمران : فبما رحمة من الله لنت لهم. وهذه الطريقة خير تأسيس لقواعد الجدل المثمر الهادف إلى الوصول إلى الحق حين محاورة المنكرين والجاحدين.

* * *

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

١٢٦ ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ) ... أي إذا قاصصتم أحدا تعدّى عليكم ـ أيها المسلمون ـ فليكن قصاصكم له مثل تعدّيه عليكم دون أية زيادة ولا تجاوز لحدود ما رسم الله تعالى لكم في تشريع العقوبة على التعديات (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) على التعدّي وتركتم الأمر لله عزوجل (لَهُوَ) صبركم ، خير وأبقى لكم لأن لكم ثواب الصبر.

١٢٧ ـ (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) ... الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن اصبر على ما تلقاه من أذى أعدائك وعناد الكفار والمشركين ، وما صبرك إلّا بتوفيق الله تعالى وتثبيته لك (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على أصحابك وما أصابهم من القتل والمثلة ، إشارة إلى شهداء أحد وفيهم حمزة عليه‌السلام (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) انقباض صدر وحزن (مِمَّا يَمْكُرُونَ) من كيد الكفار ومناداتهم لك ولأصحابك ، ونقول لك مبشّرين :

١٢٨ ـ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) ... فهو ناصرهم على أعدائهم لأن الله يدافع عن الّذين آمنوا ، فهو حافظ المؤمنين المتّقين (الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) لأنفسهم ولغيرهم.

* * *

سورة الإسراء

مكيّة إلّا الآيات ٢٦ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٥٧ ، ومن ٧٣ إلى ٨٠ فمدنيّة ، وآياتها ١١١ نزلت بعد القصص.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

١ ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) : أي أسبّح سبحانا فهو منصوب بفعله المحذوف ومعناه : أبرّئ الله وأنزّهه من كل سوء. ويستعمل في مقام التعجّب فيقال : سبحان الله من هذا الأمر تعجّبا منه. وهو على معنى الإضافة أي : سبحان الله منه و (أَسْرى) سار به في الليل (بِعَبْدِهِ) من هذا التعبير في هذا المقام المنيع يستنتج أنّ هذه الصفة أسمى الأوصاف وأرفعها ولو كان أعلى وأفضل منها فلا بد من أن يذكر لأهمّية المورد. وهو كذلك حسب استقصاء الآيات والأخبار ، ولذا نرى أنه مهما ابتلي نبيّ من

الأنبياء ببلاء كان ذلك لنقص في عبوديته فأراد هو تعالى أن يكمله لطفا منه عليه بذلك البلاء. وعبده هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (لَيْلاً) ظرف للإسراء ، وفائدته ـ مع ان الإسراء لا يكون الا بالليل ـ هي تقليل مدّة الإسراء وأنّه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة. ويدل على التقليل ، التنكير (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عند أكثر المفسّرين انه أسري به من دار أمّ هاني أخت علي بن أبي طالب (ع) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي ، وكان نائما تلك الليلة في بيتها. والمراد بالمسجد الحرام هنا يمكن أن يكون مكة ، ومكة والحرم كلّها مسجد كما قيل. وقيل الإسراء كان من نفس المسجد على ما هو مدلول بعض الأخبار (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أي بيت المقدس. وإنما قال الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، وليس فيما وراء المسجد الأقصى مسجد (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي جعلنا البركة فيما حوله ، على جوانبه وأطرافه ، وهي أرض الشام في الدّين والدّنيا بجعله مقرّ الأنبياء ومهبط الوحي وباحتفافه بالأشجار والأنهار وبالرّفاهية والرخص في الأسعار (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) علّة للإسراء ، أي العجائب والأسرار السّماويّة والأرضيّة وما بينهما.

٢ ـ (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... هذا إخبار من الله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه ليطلعه على أنبيائه من السّلف وكيفيّة أحوالهم مع أنهم الماضين ، وشرح كتبهم واشتمالها على ما أنزل فيها ، حتى يكون صلوات الله عليه على علم بها ، ومعرفة. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) يحتمل أن يكون (أن) الذي أدغم في (لا) مفسرا لقوله تعالى : هدى ، أي : لا تتخذوا وكيلا ومعتمدا في أموركم غيري. ويمكن أن يكون زائدا و (أَلَّا تَتَّخِذُوا) خطاب من الغيبة على القول المضمر ، والتقدير : وقلنا لا تتخذوا.

٣ ـ (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) ... منصوب على كونه مفعولا ثانيا للفعل (تَتَّخِذُوا) لأنه فعل يتعدّى إلى مفعولين. وإفراد الوكيل باعتبار أنه في معنى الجمع لأن صيغة فعيل يكون لفظها مفردا لكن معناها على الجمع ،

كقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). و (مِنْ دُونِي) بناء على هذا حال من المفعول الأول ، وهو وكيلا ، ويحتمل أن تكون منصوبا نداء أو بتقدير. أخصّ. وعلى كل تقدير فإن المراد من الموصول هو سام ابن نوح ، وهو جدّ إبراهيم عليه‌السلام. وهو عليه‌السلام جدّ بني إسرائيل لأنهم من نسل يعقوب وهو من نسل إبراهيم (ع) وبناء على النداء يصير المعنى أنه يا بني إسرائيل اذكروا جدّكم الأعلى وهو نوح عليه‌السلام (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فاقتدوا به ومن يشابه أبه فما ظلم ولئن شكرتم لأزيدنّكم.

* * *

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

٤ ـ (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ... أي أخبرنا وأعلمنا ، أو أوحينا إليهم ،

وجاء قضى بمعنى خلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وبمعنى فصل الحكم كقوله تعالى (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) وبمعنى أمر (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وبمعنى الإخبار والاعلام كما في مقامنا هذا. وقال صاحب كتاب الأنوار : قضى هنا بمعنى الوحي كما أشرنا إليه لكن يظهر من نفس الآية خلاف هذا التغيير لأنّ ظاهر الظرف تعلّقه بالفعل المزبور في صدر الكريمة والإخبار يمكن أن يكون في الكتاب بذكره فيه بخلاف الوحي والإلهام فإنهما من الأمور المعنوية التي تقذف وتلقى في النفس ، والله اعلم بما له والمراد بالكتاب هو التوراة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) والمراد بالفساد هنا بقرينة التحديد هو القتل واللّام الداخلة على الفعل للتأكيد أي : حقّا لا شكّ فيه أن أخلافكم سيغدون في البلاد والأرض المقدسة هي بيت المقدس ونواحيها الّتي جعل الله فيها البركة ولعله أريد من الفساد معناه الأهم من أقسام الظلم وسفك الدماء وأخذ الأموال واستحياء النساء ، نعوذ بالله من شر النفس الأمّارة بالسّوء. (مَرَّتَيْنِ) أوّلهما قتل شعيا النبي ، وثانيهما قتل زكريا ويحيى على قول ، وعلى قول أن زكريا مات حتف أنفه والمقتول هو يحيى فقط. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) بالاستكبار عن طاعة الله وظلم النّاس ظلما عظيما. والعلوّ هو الجرأة على الله تعالى والتّعرض لسخطه.

٥ ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) ... أي عقاب المرّة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) أي سلّطنا عليكم على وجه التخلية ، وإضافة العباد إلى ذاته المقدّسة مع أن المراد منهم الظّلمة ، ليست تشريفيّة ومدحا ، بل إضافة خلق ، أي نرسل إليهم جماعة من مخلوقينا للانتقام لمن قتلوه من النبيّين والمظلومين في دار الدّنيا حسما لمادّة الفساد ، وإلّا فالانتقام الأكمل الأتم ، فهو في الآخرة. والمنتقمين المبعوثين إليهم في الأولى قيل بأنهم بخت نصّر وقيل سابور ذو الأكتاف من ملوك الفرس ، وقيل جالوت فقتله داود ، وفي الثاني بخت نصّر وهو رجل خرج من بابل ، (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شوكة وقوة ونجدة ، مثل هؤلاء الملوك والأمراء ، وخلّينا بينكم وبينهم خاذلين لكم جزاء

كفركم وعتوّكم. قال دمياطي كان هؤلاء المبعوثون مهيبين ، أصواتهم كالرعد ، وأعينهم كالبرق ، وكأنّ الله تعالى ما جعل في قلوبهم من الرحمة شيئا (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) أي طافوا وتردّدوا يطلبونكم وسط دوركم وهل بقي منكم أحد فيها ، يقتلون كباركم ويسبون صغاركم ونساءكم ويحرقون توراتكم ويخربون معابدكم. والمراد بالتخلية عدم منعهم زجرا وقسرا (وَعْداً مَفْعُولاً) أي حتما لا ريب فيه. وجاسوا مشتق من الجوس ، وهو طلب الشيء بالاستقصاء.

٦ ـ (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) ... أي الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) أي على المهاجمين والمبعوثين لكم (أَكْثَرَ نَفِيراً) أي عددا ، يعني نكثّر جماعتكم بحيث تقدرون على مقاومة مع الخصماء والغلبة عليهم إذ تكونون أكثر عشيرة واستنفارا.

٧ ـ (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ... أي وبالها لها وجيء باللّام إمّا على وجه التقابل ، أو لما روي عن الرضا عليه‌السلام : فلها ربّ يغفر. وفي المدارك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : ما أحسنت إلى أحد قط وما أسأت إلى أحد قط ، ثم قرأ الآية ، يعني : كلّ من يعمل عملا فهو يرجع إلى نفسه من خير أو شر ، فله الثواب وعليه العقاب (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي وعد عقاب المرّة الثانية من إفسادكم والفاصل بين الإفسادين مائتان وعشر سنوات والمعنى أنه إذا جاء وعد عقوبة الإفساد الثاني بعثنا على وجه التخلية جمعا من عبادنا عليكم ليجعلوا على وجوهكم آثار الإساءة ، وحذف الفعل وبعض متعلقاته لدلالة ذكره أوّلا عليه (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي بيت المقدس فيخربوه (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) أي يهلكوا كلّ شيء استولوا عليه ، وذلك بعد أن قتلوا يحيى عليه‌السلام وبقي دمه يغلي ، فسلّط الله عليهم الفرس فقتلوا منهم ألوفا وسبوا ذراريهم وخرّبوا بيت المقدس معبدهم.

٨ ـ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) ... أي بعد المرة الثانية ، إن تبتم (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الإفساد مرة أخرى (عُدْنا) مرة ثالثة إلى عقوبتكم ، وقد عادوا بتكذيب محمد صلوات الله عليه وآله ، فسلّطه تعالى عليهم بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وضرب الجزية عليهم فأخزاهم وخذلهم والحاصل أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله فصارت جهنّم لهم حصيرا اي محبسا.

* * *

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

٩ ـ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) ... تأكيد لكون القرآن متصفا بالهداية والإرشاد بحيث ما كان غيره من الكتب السماوية بهذه الكيفية (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) للطريقة التي هي أقوم الطّرق واشدّها استقامة. وعن الباقر عليه‌السلام : أنه يهدي إلى الولاية ، وعن الصادق عليه‌السلام : يهدي إلى الإمام. واستدل بهذه الآية على أن هد القرآن يهدي إلخ .. وقيل معناه : يرشد إلى الكلمة الّتي هي أعدل وأقوم الكلمات ، وهي كلمة التوحيد. وهو يبشر (الْمُؤْمِنِينَ) بالفوز العظيم ، وبالأجر الكثير.

١٠ ـ (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ... أي الكافرين بالبعث والنشور والحساب (أَعْتَدْنا) هيّأنا لهم (عَذاباً أَلِيماً) شديدا موجعا في نار جهنم.

١١ ـ (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) ... قيل في معناه أقوال.

أحدها أن الإنسان ربما يدعو في حال الزجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه ، كما يدعو لنفسه بالخير. فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه ، لكنه لا يستجيب بفضله ورحمته. وثانيها أن الإنسان قد يطلب ما فيه الشر لاستعجاله المنفعة القليلة ، كدعائه بالخير من حيث التضرّع والجد ، وربما تعقّبه الشر الكثير وهو لا يعلم به. والثالث أنه يطلب النفع العاجل وإن قلّ ، بالضرر الآجل وإن جل (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) أي أن جنسه جنس مستعجلا ، بالدعاء بالشّر دون أن ينظر في عاقبته.

* * *

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

١٢ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) ... أي علامتين دالّتين على قدرتنا وعلمنا (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي الآية التي هي الليل ، طمسنا نورها بالظّلام (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) أي الآية التي هي النهار (مُبْصِرَةً) مضيئة مفنية للظلام (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيّناه تبيينا. في الغلل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمر الله جبرائيل أن يمحو ضوء القمر فمحاه فاثّر المحو

في القمر خطوطا سوداء. ولو أن القمر ترك على حاله بمنزلة الشمس لم يمح لما عرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ، ولا عرف الصائم كم يصوم ولا عرف الناس عدد السّنين والأشهر في محاسبة بعضهم مع بعض ، وغير ذلك من الفوائد الكبيرة الكثيرة.

١٣ ـ ١٤ ـ (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ) ... الإنسان أعمّ من الذكر والأنثى ، واشتقاقه من الإنس ، فهو على فعلان. أو من النسيان حذفت الياء تخفيفا (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي أن عمله ملازم له لزوم القلادة للعنق فلا يفارقه. والمراد بالطائر عمله الذي يتطيّر به أي يتشأمّ به. ويقال للعمل الطّائر إمّا من الطّيرة لأن العرب جرت عادتهم بأن يتشاءّموا وبالأخص بالطّيور نوعا فكانوا إذا أرادوا أن يسافروا أو يفعلوا عملا آخر يطير طيّر عن يمينهم فيتفاءلون به الخير ، وإذا طار عن شمالهم يتشاءمون به الشرّ ، فهو سبحانه استعار الطائر عما هو سبب للخير كالعمل الصّالح أو سبب للشر كالأعمال السيئة ومعني (فِي عُنُقِهِ) أن عهدته في رقبته أي ما في الكتاب في الرقبة. ولعل بهذه الجهة يقال ويعبّر عمّا يتشاءّم به طيرة. ويقول العرب جرى لفلان طائره بكذا من الخير أو الشّر ، فخاطبهم الله تعالى بما يستعملونه ، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يجعلونه بالطائر يلزم أعناقهم. وإمّا لأنّه يقال ليوم القيامة ومن أسمائه يوم تطّاير الكتب حيث إن أعمال البشر مكتوبة في الصّحف وهي في ذلك اليوم تنزل من فوق رؤوس الخلائق وتقع في أيلايهم منتشرة في الجوّ كالطّيور قبل وقوعها في الأيادي ، وبعده تلازمهم ولا تفارقهم حتى يفرغوا من محاسبتهم فإمّا إلى جنّة أو الى نار أعاذنا الله منها بفضله ورحمته (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) أي عند المحاسبة يرى صحيفة مفتوحة عليه ليقرأها فيقال (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي اقرأه في نفسك حتى تعلم ما فيه من أعمالك ـ وهذا لطف منه تعالى على عباده حتى لا يطّلع على ما فيها أحد من خلقه فيفتضح وتنكشف سريرته على الخلائق وعلى رؤوس الاشهاد. يا ستار لا تفضحنا عند خلقك. و (حَسِيباً) أي محاسبا أنت نفسك. ولقد أنصف من

جعلك حسيب نفسك وما جعل غيرك حسيبا عليك. وفي ذلك اليوم يقرأ من لم يكن قارئا ويحسب من لم يكن حاسبا ، وبعد فراغه من الحساب يقول : يا ويلتا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، لأنه يرى فيه كلّ ما عمله من صغائر ذنوبه وكبائرها. ونقل أنه في يوم من الأيام قال والد لولده : يا بنيّ عليك أن تأتي في المساء وتذكر لي كلّ ما عملته ورأيته وسمعته ، فامتثل الولد وجاء مساء فسرد على مسمع والده كلّ ذلك بتمامه ولم ينقص منه شيئا. وفي مساء اليوم الثاني طلب الوالد من ولده سرد ما فعله وما قاله وما رآه وسمعه في يومه ، فامتنع الولد واعتذر بأن هذا الأمر شاقّ عليه ، ومن الصعب أن يروي كل شيء لوالده في كلّ يوم. فقال له أبوه : إنما هذا نصح منّي لك ، فإنك إن لم تستطع أن تقصّ عليّ ذلك في كلّ يوم ، فكيف يكون موقفك من ربّك يوم القيامة إذا ناقشك في كلّ ما عملت وسمعت ورأيت طيلة أيام حياتك قولا قولا وعملا عملا؟

١٥ ـ (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ... فإنه ينفعها بذلك دون غيرها من النفوس (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) إذ يكون سوء ضلاله خاصا بنفسه أيضا دون غيرها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فكلّ نفس تحمل وزر أخطائها وذنوبها ولا يحمل عنها أحد شيئا ولا يعاقب أحد بذنوب غيره. وفي هذه الآية بطلان لقول من قال : إن أطفال الكافرين يعذّبون مع آبائهم وبأوزار آبائهم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبيّن الحجج ويمهّد الشرائع ويهدي الناس فتلزمهم الحجة.

* * *

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ

 بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

١٦ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) ... أي إذا أردنا تدمير قرية بسبب معاصي أهلها وكفرهم وتماديهم في الباطل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أغنياءها المتنعّمين فيها. وعن الباقر عليه‌السلام : أمرنا أكابرها. وقرئ : أمّرنا بالتشديد وفسّر بالتكبير والتسليط. وقد خصّص المترفين لأن غيرهم تابع لهم ، ولأنهم أقدر على الفجور وأسرع إلى الحماقات والمعاصي ، أي أمرناهم بالطاعات فعصوا (فَفَسَقُوا فِيها) فجروا وارتكبوا المعاصي والذنوب (فَحَقَّ عَلَيْهَا) أي استحقّته ونزلت بها كلمة العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أهلكناها وعذّبنا أهلها وخرّبناها. ولا يخفى أن عبارة (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) تعني أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالحق فاتّبعوا الباطل بدليل عبارة : (فَفَسَقُوا فِيها).

١٧ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) ... أي كثيرا ما دمّرنا من الأمم بعد تدمير قوم نوح بالطوفان ، كما جرى لعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم صالح (وَكَفى بِرَبِّكَ) الباء زائدة ، أي : كفى ربّك سبحانه أن يكون (خَبِيراً) عالما بذنوب عباده (بَصِيراً) بما هم عليه من طاعة أو عصيان.

* * *

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ

 عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

١٨ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ) ... أي من أراد الدنيا أعطيناه جزاء عمله في الدنيا التي كان همّه مقصورا عليها. وقد علّق سبحانه ذلك بمشيئته لأنه لا يجد كلّ متمنّ ما تمنّاه ، ولا كلّ أحد جميع ما يهواه ، والأمور كلّها مرهونة بالمشيئة. والحاصل أن مريد العاجلة ليس له في الآجلة ـ الآخرة ـ من نصيب إلّا (جَهَنَّمَ) والعياذ بالله منها (يَصْلاها) يدخلها ويكابد حرّها وصلاء لهبها (مَذْمُوماً) ملوما موّبخا (مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله مهزوما أمام غضبه وسخطه.

١٩ ـ (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) ... هذه الكريمة معطوفة على سابقتها ولكنها بعكس معناها ، فإن من رغب في الدار الآخرة وعمل لها عملها الصالح بشرط أن يكون مؤمنا مصدّقا (فَأُولئِكَ) العاملون المؤمنون (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) محمودا مثابا من الله عزّ وعلا بالجنّة وحسن المآب.

٢٠ ـ (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) ... أي أنّ كل واحد من الطائفتين : طالب الدنيا وطالب الآخرة ، نعطيه ونعينه على مقتضى المصلحة وطبق الحكمة بالنّعم الظاهرة والباطنة (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) رزقه وفضله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا ومحبوسا عن الكافر لكفره ، ولا عن الفاسق لفسقه ، فكيف بالمؤمنين؟

٢١ ـ (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ... أي تأمّل كيف تفاوتت درجاتهم في دار الدنيا ، فأعطينا من الرزق والجاه والصحة حسب ما علمنا من الحكمة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) أعظم تفاوتا في المراتب فإن المسافة ما بين درجة ودرجة في الجنّة تبلغ بعد ما بين السماء والأرض ، وكذا يكون تفاوت دركات جهنّم والعياذ بالله منها (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) من درجات الدنيا

وما بينها من فروقات. وهي أكبر تفضيلا للمؤمنين الذين تتقارب درجاتهم من درجات الأنبياء والمرسلين والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين. وقد قيل للإمام الصادق عليه‌السلام : إن المؤمنين يدخلان الجنّة فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر فيشتهي أن يلقى صاحبه. قال عليه‌السلام : من كان فوقه فله أن يهبط ، ومن كان دونه لم يكن له أن يصعد ، لأنه لم يبلغ ذلك المكان. ولكنهم إذا أحبّوا ذلك واستهووه التقوا على الأسرّة. وعنه عليه‌السلام أن الثواب على قدر العقل. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنما يرتفع العباد غدا في الدرجات وينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم.

٢٢ ـ (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ... أي لا تشرك بالله وتعبد معه غيره وتنسب إليه العطاء والرزق والخلق (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أي فتكون حالك حال من يزري عليه العقلاء من الناس عقيدته وعمله ويصاب بالخذلان في الآخرة ولا ينصره من غضب الله وسخطه أحد بل يبوء بالفشل.

* * *

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

٢٣ ـ (وَقَضى رَبُّكَ) ... أي : أمر ربّك أمرا مقطوعا به جزما (أَلَّا

تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) عدم عبادة غيره وعدم الشّرك في ألوهيّته (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أردف تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين لأنه سبحانه هو الموجد لوجود الإنسان على الحقيقة ، ولكنّ الوالدين أيضا مؤثّران بحسب العرف الظاهر ومن جهة اخرى أيضا يشبهانه تعالى بأنه رحيم بعباده رؤف بهم ينعم على عبده ولو أتى بأعظم الجرائم وأكبر الآثام ، وكذلك الوالدان لا يملآن الإنعام على الولد ويكرمانه ولو كان مسيئا لهما غاية الإساءة ، فكم من جاهل ينطق طبق جهله فيقول : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والفساد ، فأيّ إنعام للوالدين على الولد؟ والبعض يفعل فعل بعض الجهلة من ضرب والده معلّلا ذلك بأنه هو الذي ادخله في عالم الكون والفساد وعرّضه للفقر والموت. وليت شعري كيف يتشدّق هؤلاء الجهلة بالدّين حيث اعتقدوا هذا الاعتقاد السخيف ، فأولا هذه اللّذة نعمة من الله سبحانه للزّوجين قد أشربهما إيّاها ، وهي نعمة أخرى من حيث إنهما ينسيان بها هموم الحياة وما يواجههما من المشاقّ والغصص والآلام الروحية والجسمية الصّعبة مضافا إلى أنها كانت الواسطة لحفظ نظام العالم وكيان البشر وحفظ النسل وإبقاء الدّين والدنيا بحذافيرهما ، فلو لم يكن عمل الزوجين لانتفى الزّوجان وترتّب على انتفائهما انتفاء البشرية وهو خلاف إرادة الله تعالى على خلقه لما رأى من المصالح الكثيرة والحكم والأسرار الغريبة العجيبة في خلق الخليقة بقدرته الكاملة السّامية على سنّة الطبيعة العاديّة والكيفية المتعارفة المستمرّة مع قطع النظر عن أنه تعالى قادر على خلق البشر بلا أب ولا أمّ فإن المصلحة كانت في هذه الكيفية المذكورة من أولها إلى آخرها ليكون هذا التعاطف وذلك التراحم بين الزوجين من جهة وبينهما وبين أولادهما من جهة ثانية ، وبين الأخوة والأرحام والأقرباء من جهة ثالثة ، فقول هؤلاء ـ إجمالا ـ من الجهلة وكلّ منهم معارض لله تعالى في أمره وتقديره ، ومنازع له في ملكه وحكمته. ولكنّ الذي يسهّل الخطب أن أقوالهم لا وزن لها في عالم الاعتبار (إِمَّا يَبْلُغَنَ) هذه اللفظة إمّا (إن) الشرطيّة التي زيدت عليها (ما) للتأكيد ،

وإما أن تكون (ما) أيضا شرطية زيدت تأكيدا للاشتراط كما جاءت شرطيّة في قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ ... (عِنْدَكَ الْكِبَرَ) أي في كنفك مبلغا من العمر بحيث يحتاج إليك (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) إذا صارا بمنزلة الطّفل الذي يحتاج الى متعهّد. وخصّ بحال الكبر وإن كانت إطاعة الوالدين والإحسان إليهما واجبين على كلّ حال ، لأن الحاجة في تلك الحالة أكثر إلى الخدمة والتعهّد (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قال الصّادق عليه‌السلام : لو علم الله لفظة أوجز في عقوق الوالدين من أف لأتى بها. وفي خبر آخر : أدنى العقوق ، ولو علم الله شيئا أيسر منه وأهون منه لنهى عنه. فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة. وقيل : معنى قوله بلغا من الكبر حيث صارا يبولان في فراشهما ولباسهما ويحدثان فلا تتقدّم منهما وأمط عنهما كما كانا يميطان عنك في صغرك فلا تنسى نصيبك منهما وحظوظك من أول ولادتك الى شبابك ولا تنكر ما استفدته منهما واعمل لهما كما عملا لك (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تزجرهما ولا تخاصمهما في شيء. وقيل لا تمنع من شيء أراداه منك (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) خاطبهما بقول جميل لطيف بعيد عن اللغو والقبح والغلظة والخشونة (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

٢٤ ـ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) ... الإضافة بيانيّة ، أي تذلّل لهما وتواضع من فرط رحمتك بهما. والخفض هو ضدّ الرفع وهو الوضع. ثم إنه بعد ما أوصى فيهما بما ذكر أمر تعالى بالدّعاء لهما وهذا يدل على غاية لطفه وتمام عنايته بهما ، لأنهما شريكان له تعالى في تربية الأولاد والمحافظة عليهم حتى يبلغوا رشدهم ويستغنوا عن المربّي والحافظ.

٢٥ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ... فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) : أي التوّابين المتعبّدين الراجعين عن ذنوبهم على ما روي عنهم عليهم‌السلام. فإنه رحيم بهؤلاء غفور لذنوبهم ومتجاوز عنهم بفضله وكرمه.

* * *

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

٢٦ ـ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ... المراد بالحق هو صلة الرّحم بالمال والنفس. وعن أهل البيت سلام الله عليهم أن المراد به ذوو قرابة الرّسول. وقيل نزلت في فاطمة عليها‌السلام ، والمراد بالحق هو فدك (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي لا تصرف المال فيما لا ينبغي ولا تنفقه على وجه الإسراف والإفراط في المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، أي المجاوزة عمّا يليق بحاله.

٢٧ ـ (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا) ... أي المجاوزين المتصرّفين في الأموال زائدا عمّا يليق بشأنهم (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأنهم من أتباعهم وعلى سنّتهم في الإسراف ، وهذا هو غاية الذّم (لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي شديد الكفر ومثله متّبعه المبذّر ، فينبغي أن لا يطاع الشيطان لأن إطاعته خسران.

٢٨ ـ (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) ... تقدير الكلام : إن تعرض ، و (ما) مزيدة للتأكيد ، وابتغاء مفعول له أو مصدر وضع موضع الحال ، أي : مبتغيا رحمة ربّك. وقيل في شأن نزول الآية أن جماعة من الفقراء كبلال وصهيب وبعض آخر من الصحابة جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطلبون من أموال الفقراء ، فلم يكن عنده شيء ، فصرف وجهه الشريف

عنهم ومشى إلى ناحية حياء من ردّهم وطلبا من فضل ربّه حتى يعطيهم ، فنزلت الشريفة. وحاصلها إن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم من الفقراء وأبناء السّبيل عند مسألتهم إياك حياء منهم لتبتغي الفضل من الله والسّعة التي تأملها من ربّك ، فلا تعرض بل قل لهم قولا ليّنا وعدهم وعدا جميلا أو أدع لهم باليسر ، مثل : يرزقنا الله وإياكم. وروى العيّاشي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لما نزلت الآية إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال : يرزقنا الله وإياكم من فضله.

٢٩ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً) ... أي لا تقبضها عن الإنفاق كل القبض ولا تكن ممّن لا يعطي شيئا ولا يهب ، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل. وهذا مبالغة في النهي عن الشح والإمساك (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي لا تعط جميع ما عندك فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء. وهذا ان النّهيان كناية عن نهي التقتير والإسراف ، فلا بدّ من الاقتصاد في الأمور كما هو المأمور به الذي هو الكرم والجود (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) فتصير ملوما بالإسراف عند الله وغيره تعالى محسورا أي عريانا أو منقطعا ليس عندك شيء تعيش في حسرة على ما فعلته. وعن الصادق عليه‌السلام أن امرأة أرسلت إلى النبيّ ابنا لها فقالت انطلق إليه فاسأله فإن قال ليس عندنا شيء فقل : أعطني قميصك. قال فأخذ قميصه وأعطاه فلم يقدر على الخروج إلى الصلاة ، فأدّبه الله تعالى على القصد فقال : ولا تجعل يدك إلى آخرها.

٣٠ ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) ... إن الله تعالى مع سعته خزائنه وعدم نفادها قد يوسّع مع هذا ويأخذ مع ذاك سنّة الاقتصاد ، وما وسّع على عباده تمام التوسعة ولاقترّ عليهم تمام التقتير لمصالح اقتضت البسط على بعض عباده والتقتير على الآخر ، بل ربما اقتضت الحكمة البسط والتقتير على فرد واحد في زمان دون زمان ، فيدبّره على ما يراه من الصّلاح. فالعباد لا بد ان يأخذوا هذه السنّة ديدنهم بطريق أولى ، وان

يتأدّبوا بما أجراه عليهم خالقهم ورازقهم ، ويقتدوا به في سنّته الشريفة المطابقة للحكمة والمصلحة الكاملة النوعيّة والشخصيّة (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) يعلم مصالحهم وما ينبغي لهم ، فقد ورد في الحديث القدسي : وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك.

* * *

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)

٣١ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ... الإملاق هو الإفلاس على ما روي عن الصادق سلام الله عليه ، يعني مخافة الفقر والجوع حيث إن العرب في عصر الجاهلية كانوا يقتلون بناتهم لذلك فلا تفعلوا ذلك أيها العباد فإننا نرزقهم وإيّاكم ، وإن قتلكم لهم كان (خِطْأً كَبِيراً) أي ذنبا عظيما حيث إنه مشتمل على قطع التّناسل وانقطاع النوع.

٣٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ... إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ... أي أن الزنى قبيحة زائدة على حدّ القبح وهو بئس الطريق لأنّه مؤدّ إلى قطع الأنساب وهيجان الفتن وإبطال المواريث والرّحم وإذهاب حقوق الآباء على الأولاد ، وكذلك العكس.

٣٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) ... نهي عن القتل الذي حرّمه الله سبحانه وتعالى وجعل عقابه النّار (إِلَّا) إذا كان القتل (بِالْحَقِ) أي بأحد المجوّزات الشرعيّة من القود والرّدة وحدّ المحصن (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) بغير حدّ شرعيّ ثابت (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) المفوّض بالمطالبة بحقّه (سُلْطاناً) سلطة وحقّا بأن يقتل قاتله به جزاء له ، فينبغي لهذا الوليّ أن لا (يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) لا يقتل غير الغريم ولا يمثّل به (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) بإعطائه حدّ القود فليقف في الحدود عند حدّه ، لأنه ذا مضر من الله سبحانه إذ سلّطه على الاقتصاص أو أخذ الدّية. وقد سئل الإمام الكاظم عليه‌السلام : ما معنى إنه كان منصورا؟ قال : وأيّ نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى وليّ المقتول فيقتله ولا تبعة تلزمه من قتله في دين ولا دنيا.

٣٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ... أي لا تمسّوه ولا تنفقوا منه شيئا إلّا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن لحفظ مال اليتيم وتثميره وتنميته (حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) أي غاية قوّته ببلوغه ورشده وقد خصّ الله تعالى اليتيم بالنهي عن إتلاف ماله لأنه أحق الناس بحفظ ماله لصغره وكمال عجزه فلا يقدر على دفع الضرر عن نفسه وماله فيعظم ضرره. فلذا خصه بالنهي عن إتلاف ماله والإضرار به. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) في الوصية بمال اليتيم وغيرها. وقيل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد وإن لم يجب ابتداء ، وإنما يجب بالعقد كالنذر والعهد واليمين (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) عن المعاهد به إذا كان ناكثا يعاقب ، أو وافيا يجزى به.

٣٥ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) ... لا تبخسوا فيه وأكملوه وأتمّوه (وَزِنُوا

بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بميزان العدل السّويّ .. (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مالا وعاقبة.

* * *

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

٣٦ ـ (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ... أي لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم. وهذا نهي عن الكذب كما هو أحد الأقوال في تفسيره. والقول الثاني ما نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور. وقال ابن عباس : لا تشهد إلّا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. إلى آخر الأقوال. واحتجّ نفاة القياس بهذه الآية حيث إنه لا يفيد إلّا الظن. وأجيب بأن الظن مطلق ليس بمنهيّ وإلّا فلا يجوز العمل بفتوى المفتي ولا بالشهادة ولا الاجتهاد في طلب القبلة وقيم المتلفات وأروش الجنايات ، فإنه لا سبيل فيها إلا بالظن ، وكون هذه الذبيحة ذبيحة المسلم وغيره ، فهذه الموارد من الموارد التي كان العمل فيها بالظن اتفاقا ، ويدل على ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : نحن نحكم بالظواهر. فهذا تصريح بأن الظن معتبر في مثل هذه الموارد. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) يحتمل أن الضّمير يرجع إلى

كل واحد من الجوارح ، ويمكن أن يكون راجعا إلى صاحبها ، فإنه المسؤول عن تلك الأعضاء فيما أبلاها أفي الأمور السائغة أم غيرها. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال له رجل : إن لي جيرانا ولهم جوار يتغنّين ويضربن بالعود فربما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّي لهنّ. فقال الصادق عليه‌السلام : لا تفعل. فقال والله ما هو شيء آتيه برجلي ، إنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال له الصّادق عليه‌السلام : أما سمعت الله يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) إلخ؟ فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربيّ ولا عجميّ. لا جرم أنّي تركتها وأنا أستغفر الله. وعن السجاد : ليس أن تتكلّم بما شئته لأن الله يقول : وقرأ الآية الشريفة.

٣٧ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) ... أي بطرا وفرحا (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تشقّها بكبرك حتى تبلغ آخرها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) بتطاولك وطول قدّك بحيث تبلغ قلل الجبال الطّوال ، فليس لك أن تختال وتتكبر فإنه محض حماقة. وقد علّم الله سبحانه عباده التواضع والوقار في كل حالاتهم.

٣٨ ـ (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) ... أي كل الخصال المذكورة من قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، إلى هنا ، فعدّوها إلى خمس وعشرين (مَكْرُوهاً) أي مبغوضا محرّما.

٣٩ ـ (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ) ... أي هذه الوصايا الكريمة هي ممّا أنزله إليك ربّك وحيا (مِنَ الْحِكْمَةِ) والصواب والرشد ، فاتّبعها (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرّر سبحانه هذه الوصيّة وشدّد على هذا الحكم للإشارة إلى أنّ أسّ الأحكام وأصلها هو التوحيد ، ولذا جعل بدء كلامه وختامه سبحانه التوحيد والنهي عن الشّرك إيذانا بأنه رأس الحكمة وملاكها ، وإن أنت فعلت ذلك تجازى (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) تلوم

نفسك ويلومك الملائكة وجميع أهل الإيمان ، وتكون (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله مطرودا منها.

* * *

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))

٤٠ ـ (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) ... يعني هل اختصّكم بالصبيان وجعلهم لكم عطاء صافيا (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) وجعل لنفسه بنات كما قالوا وافتروا بأن الملائكة بنات الله ، تعالى الله ذلك علوّا كبيرا (إِنَّكُمْ) أيها المفترون (لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) حين تقولون اتّخذ الله سبحانه إناثا من الملائكة.

٤١ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) ... أي بينّا الدلائل وفصّلنا المواعظ والعبر وأعطينا الأمثال المقنعة (لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا ويعلموا الحق ويتّعظوا فيعتبروا. وقد حذف ذكر الدلائل التي نوّه بها لدلالة الكلام عليها ولكثرتها في القرآن الكريم ، ولكنّ كلّ مثل ضربه سبحانه لم يفدهم (وَما) كان (يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي فرارا عن الحق وابتعادا عنه.

* * *

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ

لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

٤٢ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) ... أي لو كان معه سبحانه شريك والعياذ بالله (كَما يَقُولُونَ) افتراء وكذبا (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) أي أن الشركاء كانوا حينئذ يطلبون طريقا إلى الصعود إلى صاحب الملك والكرسيّ لمنازعته ومغالبته على الملك ليصفو ذلك لهم وليكونوا ذوي السلطان والأمر والنهي كما هو فعل الملوك بعضهم مع بعض ، أو أنهم يسعون للتقرب إليه وللطاعة إذا عجزوا عن مغالبته ، أو أنهم يشاركون في الحكم والسلطان.

٤٣ ـ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) : أي تنزيها له تعالى وتقديسا لذاته وقد (تَعالى) سما وارتفع وجلّ وعزّ (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) بحيث لا ينال ولو بخطرات الظّنون ، لأنه فوق ما يقول القائلون ، ولأنه تبارك وتعالى.

٤٤ ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) ... أي تقدّسه وتنزّهه هي ومن فيها بطرق التسبيح التي ألهمها سبحانه لكل كائن من الموجودات وإن كنّا لا نفقه تسبيح كل شيء ولا ندرك كيفية تنزيهه تقدّست أسماؤه عن سمات النقصان ، ولا نعرف كيفية حمده على الإنعام والإفضال ، فكل شيء يسبّحه سبحانه من الأجسام الفلكية العلوية والأجسام السّفلية وما فيهما وما بينهما من الملائكة والإنس والجن وغيرهم من أنواع الموجودات وأصناف المخلوقات بعضها بلسان القال وبعض بحسب الحال كما في الناميات والجمادات فإن تسبيحهم ربّما يكون من طريق الدلالة وهو أقوى التنزيهات لأنّه يؤدّي إلى العلم بوجود الصانع أوّلا وتنزيهه عن النقصان ثانيا ، لأنها بلوازم إمكانها وتوابع حدوثها تدلّ على وجود صانع قديم واجب بذاته

لذاته قادر عليم حكيم أزليّ أبديّ. فصرير الباب وخرير الماء وأصوات الرعد ولمعان البرق هذه تسبيحات اي تسبيح فطري من طريق الدلالة بالبيان المذكور آنفا (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) حيث لا تتفكرون فتعلموا طريق دلالتها على التوحيد بعد الدلالة على وجود الصانع الخالق للممكنات طرّا (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) يمهلكم على كفركم بلا عقوبة (غَفُوراً) لمن تاب بعد الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.

* * *

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧))

٤٥ ـ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) ... أي إذا تلوته ورتّلت آياته على الناس (جَعَلْنا) أوجدنا (بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) الكافرين بها المنصرفين عن دعوتك الى الايمان (حِجاباً مَسْتُوراً) أي سترا على أعينهم ، فهم لا يرون الحجاب وكذا لا يرون المحجوب به ـ أي النّبي الأكرم صلوات الله عليه وآله حين قراءته للقرآن ـ وإنما هو من قدرة الله تعالى حجب نبيّه (ص) بحجاب لا يرون من ورائه وقد كانوا يأتون حين قراءته ويمرّون به ولا يرونه ليؤذوه. وقيل حجابا ساترا والمفعول قد يكون بمعنى

الفاعل عن الأخفش كما يقال في الميشوم والميمون شائم ويا من.

٤٦ ـ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) ... جمع كنّ بمعنى الغطاء أي ضربنا على قلوب المشركين حجبا من قدرتنا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي كراهة أن يعلموا القرآن ويفهموه بسبب عدم قبولهم قول الحق وشدة امتناعهم عن الاعتراف بنبوّته. وإنّما نسب الله ذلك الكنّ أو الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلّاهم مع أنفسهم وما منعهم بطريق الإلجاء صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة كما أن السّيد إذا لم يراقب حال عبده لسوء أفعاله وعدم قبوله قول مولاه إذا ساءت سيرته يقول السيد : أنا الذي ألقيته في تلك الحالة بسبب أنني ما راقبت حاله. ولكن السبب الواقعيّ هو سوء سريرة العبد واختياره ، فصحّت الإضافة .. (وَقْراً) أي صمما وثقلا بحيث يمنعهم عن استماع القرآن لأنهم إذا سمعوه لا يقبلونه ولا يعملون به فاستماعهم وهن للقرآن. أما إذا ذكر الله (وَحْدَهُ) اي مصدر وحال : بمعنى واحد غير مشفوع بآلهتهم (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) جمعه نافر كالقعود والشهود أو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي يرجعون مدبرين نافرين عن استماع التّوحيد لأنهم كانوا مترقبين لأن يذكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آلهتهم مع الله تعالى. عن الصادق عليه‌السلام : كان رسول الله إذا دخل إلى منزله واجتمعت عليه قريش يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ويرفع بها صوته فتولّي قريش فرارا ، فأنزل الله تعالى في ذلك : وإذا ذكرت ربّك ، الآية .. أما (وَحْدَهُ) فهي مصدر وموقعها حال منصوبة.

٤٧ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) ... أي نحن ندري لأيّ سبب هم يستمعون القرآن ، إنما يستمعون للّغو والاستهزاء به (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) حين كونهم متناجين يتهامسون فيما بينهم (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) يمكن أن تكون هذه الجملة بيانا للنّجوى ، أي يتناجون حين خروجهم من عندك بأن يقولوا : هؤلاء الّذين آمنوا بمحمد إنما يتّبعون (رَجُلاً) مجنونا لأنه سحر فجنّ

واختلط عليه عقله. ويمكن ان تكون في محلّ النصب بمقدّر يكون الظرف متعلقا به ، أي : اذكر يا محمد إذ يقولون ...

* * *

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

٤٨ ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ... أي مثلوك بالسّاحر والشاعر والكاهن والمجنون (فَضَلُّوا) بذلك عن الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) لا يقدرون على أن يجدوا حيلة وطريقا إلى تكذيبك وإلى الطعن بدعوتك الرشيدة ، فلا يقبل قولهم لأن لم يجدوا إلا طريق البهت الصّريح والقول الوقيح بحيث يفهم كل سامع أنه عن جحد ، ومعارضة وعناد ثم أخذ تعالى في بيان إنكار المشركين للبعث والنشر وقال :

٤٩ ـ (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ... اي عظاما بالية منتثرة لحومها عنها والرّفات التراب الّذي سحق حتى صار كالغبار لنعومته يقولون : أنبعث

ونحن بهذه الحالة ونعود ونحن بهذه الكيفية (خَلْقاً جَدِيداً) كما خلقنا أول مرة. فتعجّبوا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنتم مبعوثون ليوم لا ريب فيه. والاستفهام إنكاري وعلى الاستبعاد. وعن الصادق عليه‌السلام : جاء أبيّ بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّه ودقه ، ثم قال : يا محمد ، إذا كنّا عظاما ورفاتا أإنّا لمبعوثون خلقا جديدا؟ فأنزل الله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) إلخ.

٥٠ ـ (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) ... كلمة كونوا أمر تمثيليّ يعنى لو صرتم مثلا بعنصركم الفعلي حجارة (أَوْ حَدِيداً) ذكر الحديد بعد الحجارة لأنه في نظرهم أشدّ.

٥١ ـ (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ... أي من كل شيء له وقع واهمية عندكم كالسّماء والجبال ونحوهما مما خلق وهو عظيم في نظركم فإذا قلتم : (مَنْ يُعِيدُنا) بعد الفناء ويرجعنا أحياء ، نقول لكم : يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ) خلقكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهو الله تعالى ، بقدرته الكاملة يحييكم ويبعثكم ليوم لا ريب فيه. وعن الباقر عليه‌السلام : الخلق الذي يكبر في صدوركم : الموت. والمقصود المبالغة ، أي لو صرتم بأبدانكم نفس الموت فالله تعالى يعيدها وينشرها فضلا عن التراب والرفات حيث إن المنافاة بين الحجريّة والحديديّة ولا سيما الموت ، وبين قبول الحياة أشدّ من التّنافي بين العظم والتراب المتحوّل منه ومن اللّحم والدّم ونحوهما ، وبين قبول الحياة. فإن من يقدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر ، ومن يقوى على الإيجاد من العدم كان على الإيجاد من الوجود أقوى (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي يحرّكونها متعجّبين مستهزئين. يقال أنغض رأسه : حرّكه والنغض هو تحريك الرأس ارتفاعا وانخفاضا (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) البعث والإعادة؟ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) حيث إن كلّ ما هو آت قريب والوجه واضح.

٥٢ ـ (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ) ... أي يدعوكم من قبوركم على لسان إسرافيل عليه‌السلام عند النفخة الثانية فتجيبون (بِحَمْدِهِ) حامدين له أو مطاوعين لبعثه مطاوعة الحامد له. وقال بعض المفسرين عن بعض الأعلام أن المراد بالدّعوة هنا هو البعث ، وبالاستجابة هو الانبعاث ، واستعادة لفظ الدعاء والاستجابة للبعث والانبعاث للتّنبيه على سرعة ذلك وتيسيره. فالموتى يعودون بعد الموت مشتغلين بالثناء على كمال قدرته ، وروي أنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. وعند بعض الأعلام ان الحمد هنا بمعنى الأمر كما في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ). فالمحصّل من هذا القول أن الله سبحانه يأمركم بالخروج من المراقد إلى الموقف ، وهذا هو معنى دعوته فتجيبون بأمره أو تجيبون أمره. و (باء) بحمده زائدة لتأكيد الإجابة (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي إذا رأيتم طول ذلك اليوم تعلمون أن مكثكم في الدنيا في غاية القلة ونهاية القصر بحيث لم تكن قابلة لأن تنازعوا النبيّ وتعارضوه وترمونه بالأقوال الشنيعة والكلمات الوقيحة كالسّاحر والكاهن والمجنون وتؤذونه بتلك الأفعال التي صدرت منكم من الضرب والرّمي بالحجارة حيث اشتكى منهم وقال : ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت ، مع كونه أصبر الصابرين وأحلم الحلماء. ولعل الخطاب في الآية (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) للمؤمنين فإنهم هم الذين يستجيبون لدعوة ربّهم ويحمدونه على نعمه ويرون قصر مدّة لبثّهم في البرزخ لأنهم منعمّين في قبورهم بأنواع النعيم والحظوظ. ومعلوم أن أيّام السرور مع غاية طولها تمرّ على الإنسان قليلة بخلاف أيام التعذيب والحزن فإن القصيرة منها تجيء بنظر الإنسان طويلة.

* * *

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا

مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

٥٣ ـ (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ... أي المؤمنين منهم وهذه الآية يمكن أن تؤيّد ما قلناه في الآية السابقة من أن الخطاب فيها للمؤمنين فمن ثم غيّر السّياق كما لا يخفى وتفسير العباد بالمؤمنين منهم لأن لفظ العباد مختصّ بهم في أكثر الآيات والموارد ، كقوله : فبشّر عباد الّذين يستمعون القول ، وكقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) وقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ). والإضافة تشريفية ولا تكون إلّا للمؤمنين. وهذه إمارة أخرى على ما قلناه. و (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي يقولوا للمشركين الكلمة التي هي أحسن وألين في مقام الإرشاد وإلقاء الحجة عليهم وهو أن لا يكون قولهم لهم قرين شتم وسبّ لأن الحجة لو اختلطت بهما لقابلوكم بمثله ، كما قال : ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله أي المشركين فيسبّوا الله عدوا بغير علم ، فتفشل حجتكم وتصير عقيما وتنتج عكس ما أردتم منهم فيزداد الغضب وتتكامل النفرة. ويدل على ما قلنا من أن الحجة إذا اختلطت بالبذاءة تنتج عكس المقصود قوله تعالى في ذيل الآية (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يفسد بينهم بسبب الغلظة فتشتد النفرة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ) إلخ عداوته كانت قديمة مع الإنسان. فالمخاشنة تزيد في المعاندة والمضادة.

٥٤ ـ (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) ... أي هو سبحانه أعرف بكم وأدرى بمصالحكم (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بفضله (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بعدله. فيكون

الخوف منه والرجاء إليه. والحاصل أنه أعلم بالمصالح والمفاسد للعباد وقيل هذه الآية تفسير للتي هي أحسن وما بينهما اعتراض ، أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يصرّحوا بأنهم أهل النار فإن ذلك يهيّج على الشرّ مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله عزوجل (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولا إليك أمرهم بحيث تجبرهم على الإيمان ، وما عليك إلّا البلاغ.

٥٥ ـ (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ) ... أي يخصّ كلّا منهم بما يليق به من النبوّة والولاية وغيرهما من المناصب والعناوين. وهذه الشريفة نزلت لرفع استبعاد قريش حيث إنهم كانوا يستبعدون أن يكون النبيّ شخصا يتيما فقيرا. ولذا كانوا يقولون : هل يمكن أن يكون يتيم عبد الله نبيّا؟ والاستفهام إنكاريّ فنزلت الكريمة بأنّنا أعلم وأعرف بأهل سمائنا وأرضنا ، فمن نريد نجتبيه للنبوّة والولاية (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) للجهات المعنويّة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى وعن الصّادق عليه‌السلام : سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرّسل وعليهم دارت الرّحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء. وفي العلل عن النّبي (ص) أن الله تعالى فضل أنبياءه المرسلين على الملائكة المقرّبين وفضلني على جميع النبيّين والمرسلّين ، والفضل بعدي لك يا عليّ وللأئمة من ولدك وإنّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.

* * *

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩))

٥٦ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) ... أي زعمتم أنهم آلهة (مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، كالملائكة وعزير والمسيح (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) لا يقدرون على دفع شيء كالمرض والقحط (وَلا تَحْوِيلاً) صرفا له عنكم إلى غيركم.

٥٧ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) ... أي ينادونهم آلهة وهم (يَبْتَغُونَ) يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) فهؤلاء الآلهة يطلبون إلى الله القربة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) من هو أقرب منهم إلى الله تعالى ، فغير الأقرب بطريق أولى أحوج لأن يبتغي الوسيلة والمنزلة لديه تعالى : فالمحتاج كيف يصير للمحتاجين إلها مع عجزه وعدم قدرته على شيء (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كباقي العباد فكيف تزعمونهم آلهة؟ (كانَ مَحْذُوراً) ينبغي بأن يحذر ويخاف منه ، وكان سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين كانوا يقولون : نحن نعبد بعض المقرّبين من عباد الله. فقوم عبدوا الملائكة وقوم عبدوا عزيرا وقوم عبدوا المسيح وقوم عبدوا نفرا من الجنّ فنزلت (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) إلخ إن عذاب ربّك كان محذورا ثم إن الله تعالى هدّد عباده بقوله :

٥٨ ـ (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) ... بإماتة أهلها كما عن الصّادق عليه‌السلام فإنه سئل عن هذه الآية فقال : هو الفناء بالموت.

وعن الباقر (ع) في حديث : فمن مات فقد هلك (أَوْ مُعَذِّبُوها) بقتل وقحط مرض وصواعق وغيرها (فِي الْكِتابِ) أي في اللّوح المحفوظ. فهلاك الصّالحين بالموت وهلاك الطّالحين بالعذاب الشديد اي عذاب الاستئصال. ثم إنه جاء المشركون وقالوا : يا محمد اجعل الصفا لنا ذهبا فنزلت.

٥٩ ـ (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) ... أي المقترحات من المشركين كقولهم اجعل الصّفا ذهبا ونحو ذلك فلم نؤخر الآيات التي طلبوها ونمنعها إلّا لتكذيب الأمم السّالفة ، فإنهم اقترحوها على أنبيائهم ، وأرسلنا بالآيات ولم يؤمنوا بها فعذّبناهم بعذاب الاستئصال معجلا ، فحال قومك مثل السّلف في التكذيب وعدم الايمان وقد يستحقون معاجلة العذاب ، والحكمة اقتضت إمهالهم ، ولعل الامهال تشريف للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) هذه بيان لقوله كذّب بها الأوّلون (مُبْصِرَةً) آية بيّنة جلية (فَظَلَمُوا بِها) أنفسهم بسبب عقرها. وقوله في وصف الناقة مبصرة ، من دقائق التعبير في القرآن الكريم.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

٦٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ) ... أي أوحينا إليك أن حكمته وقدرته محيطة بالنّاس ، فهم في قبضته وتحت قدرته. ولعلها نزلت لتشجيع النبيّ

الأكرم بأنهم لا يقدرون على أن يمنعوك من إنفاذ أمر الرسالة وتبليغها وإظهار ديني على الأديان كلّها كما قال في موضع آخر : والله يعصمك من الناس. وقيل معنى الشريفة أن المراد بالناس فيها أهل مكة وإحاطة الله بهم هي أنه تعالى يفتحها للمؤمنين بيد نبيّه صلّى الله عليه وعلى آله الكرام (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) أي عيانا ليلة الإسراء أو في المنام إذ رأى بني أميّة ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك واغتمّ به ولم ير بعد ذلك ضاحكا حتّى مات ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقيل إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في المنام مصارع الكفّار في وقعة بدر وكان يقول حين ورد ماء بدر : والله لكأني انظر إلى مصارع القوم ويؤمي إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وقد كان كما قال وما رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله. (إِلَّا فِتْنَةً) أي امتحانا لهم (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على الرّؤيا ، وهي بنو أميّة (طُغْياناً كَبِيراً) عتوّا عظيما متجاوزا عن الحدّ. ولا يخفى ما في قوله تعالى : (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) من اللّطف منه بالعصاة إذ لا يأخذهم بسرعة.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما

يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

٦١ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ... مرّ تفسيرها سابقا و (طِيناً) منصوب بنزع الخافض ، أي : من طين. ولا يخفى ما فيها في تحقير إبليس اللعين للإنسان والإنسان يطيعه ويتولّاه ، فتأمّل وأنظر إليه وهو ـ بين يدي الخالق عزوجل ـ يتهدّد ذريّة آدم ويقول :

٦٢ ـ (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) ... كلمة (هذَا) مفعول أول ل (رأى) والكاف للخطاب ولا محلّ لها من الإعراب وقد زيد لتأكيد الخطاب فقط (الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) المفعول الثاني مقدّر ، أي : أخبرني عن هذا ، الّذي فضّلته عليّ ، بالأمر بتعظيمه ، لم فضّلته عليّ؟ (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي لأقودنّهم من أحناكهم ـ والحنك أسفل الذقن ـ كما تقاد الدابّة إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلا تقودها به والمعنى لأقودنهم بالإغواء ولأستولين عليهم ولأضعنّ حبل مكري وحيلي في أعناقهم ، لأجرّهم إلى اطاعتي ومعصيتك كما يضع صاحب الأنعام والدّواب الحبل في أعناق دوابّه ويتمكّن منهم إلى مقصده. فادّعى اللّعين هذا الأمر فجرّب بوسوسة لآدم فلم يجد له عما فعلم استنباطا أن أولاده أضعف منه أو استنبط من قول الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها إلخ .. أو تفرّس اللّعين من خلق البشر حيث أنه علم ركوز الشهوة والغضب في طبائعهم فعرف أن السّلطة عليهم سهلة.

٦٣ ـ (قالَ اذْهَبْ) ... هذا الأمر أمر إهانة وإبعاد ، يعني طرده تعالى عن مقام قربه ورحمته على وجه التهديد والوعيد والتخلية بينه وبين عمله المبغوض للمولى بما سوّلت له نفسه. ويستفاد منه أنه تعالى أجاب دعاءه بتأجيله و (جَزاءً مَوْفُوراً) أي مكملا تامّا غير منقوص.

٦٤ ـ (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) ... أي استخفّ واستنزل أو استنهض بخفّة وسهولة (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) اي بدعوتك إيّاهم إلى الفساد. وعند بعض القرّاء صوت الشيطان هو الغناء والمزامير. لعل المراد من الصّوت هنا هو هذا المعنى فان التعبير عن الدّعوة بهذه اللّفظة دالّ على هذا المعنى كما لا يخفى على من تأمّل في أسرار التعابير ورموز ألفاظ القرآن (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) يمكن أن يكون مشتقّا من أجلب القوم أي جمعهم ، أو من جلب بمعنى ساق ، أو من أجلب على الفرس أي صاح عليه بشدة وخشونة والظاهر أن المراد هو الأخير بقرينة «على» الجارة ولأن الثاني متعدّ بنفسه. أي صح على ولد آدم بخشونة وانزعاج بفرسانك وراجليك حتى تستأصلهم (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) المكتسبة من الحرام (وَالْأَوْلادِ) المتولّدين من الزّنى (وَعِدْهُمْ) بالأمور الباطلة كنفي البعث وشفاعة الآلهة وتأخير التوبة لطول الآمال (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ، فهو يعدهم بالغش.

٦٥ ـ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) : أي المؤمنين المخلصين بقرينة الإضافة التشريفية وهي الإضافة إلى ذاته المقدسة ، ولقوله : إلّا عبادك منهم المخلصين فهؤلاء ليس لك عليهم سلطان ، أي أنك لا تقدر أن تغويهم حيث إنّهم لا يغترّون بك ولا يسمعون قولك ولا يطيعونك فلا نفاذ لك عليهم ، و (وَكِيلاً) حافظا من الشّرك لمن التجأ إليه.

* * *

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

٦٦ ـ (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ) ... أي يجريها بالأرياح التي تجري السفن بها أو انها تساعد الفلك في جريها لو كان الجري بأسباب أخر ومن خلق الماء الذي على وجهه يمكن جري السّفن ، وجعل الفلك بكيفيّة تركبون عليها وتطلبون ما فيه صلاح أمر دنياكم من التجارة وممّا يخرج من البحر من الأمتعة النفيسة بأقسامها من فضله تعالى ، ومن الأمن من الغرق (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) حيث أنعم عليكم بهذه النعم.

٦٧ ـ (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) ... أي خوف الغرق بسكون الرياح واحتباس السفن فيطول مدة وصول الركبان إلى المقصد أو باضطراب الأمواج وغيره من أهوال البحر (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) اي غاب عن خواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم وحوائجكم وتعبدونه من آلهتكم فلا تدعون حين الضرّ (إِلَّا إِيَّاهُ) إلّا الله إذ لا يكشف الضرّ سواه (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق وأوصلكم إلى خارج البحر (أَعْرَضْتُمْ) عنه تعالى ورجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والجحود والطغيان (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) هذا بمنزلة التعليل للأعراض فهو يكفر بنعمة ربه.

٦٨ ـ (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ) ... أي أن الّذي يقدر أن يغرقكم

ويهلككم في الماء إذا كنتم فيه هو القادر أن يهلككم في التراب إذا كنتم على وجه البسيطة في البرّ فلا تأمنوا من أن يخسف بكم جانب البرّ أي طرفه ، والإضافة بيانيّة (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) من الريح الشديد التي تحصب أي ترمي بالحصى (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) حافظا من ذلك.

٦٩ ـ (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) ... أي في البحر مرّة أخرى بتقوية دواعيكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر (قاصِفاً) أي كاسرا شديدا يكسر الفلك والشجر ويقلع الأشجار والأبنية و (تَبِيعاً) مطالبا يتبعنا بثأركم أو دافعا عنكم أو ناصرا لكم والحاصل ليس لأحد أن يخاصمنا في فعلنا حيث إنّا نفعل ما نشاء.

٧٠ ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ... بالعقل والنّطق واعتدال الخلق وتسخير الأشياء له وخصوصيات أخر تختص به كتدبير أمر المعاش والمعاد وتسخير جميع الحيوانات ، إلخ .. (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي على الدوابّ والسّفن بل في الجوّ على المراكب الجوّيّة بأقسامها من الحربيّة وغيرها الّتي بلغت اليوم مبلغا كبيرا من الأنواع المختلفة ولا حاجة لذكرها (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) والمراد هو التفضيل بفنون النعم الدّنيوية وأقسام الملاذّ وممّا لم يجعله لشيء من الحيوان كتسخير الكائنات لبني آدم وكالثواب على العمل فإن المراد بالتفضل هو التفضّل البدويّ والمستثنى هو جنس الملائكة فيسقط الاستدلال بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء ويلزم القول بان المراد من التفضيل هو الثواب على الأعمال والتكاليف.

* * *

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي

هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

٧١ ـ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ... قيل إن الظرف متعلّق بقوله تعالى : فضّلناهم ، وقيل بأذكر المقدّر ، وقيل بقوله تعالى : يعيدكم في الآية ٦٤ وعلى كلّ اختلف في الإمام على أقوال ، ولعل الحق هو ما روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام من أن المراد به هو من ائتمّوا به في الدّنيا من نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أو شقيّ. وعن الصادق عليه‌السلام في رواية أخرى قال : بإمامهم الذي بين أظهرهم ، وهو قائم أهل زمانه. ويكون المعنى على هذا أن ينادى يوم القيامة فيقال : تعالوا يا متّبعي إبراهيم ، هاتوا متّبعي موسى ، تعالوا يا متّبعي عيسى ، هاتوا متّبعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقوم متّبعو الحق الذين اتّبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيديهم اليمنى. ثم يقال هاتوا متّبعي الشيطان ، وتعالوا يا متّبعي رؤساء الضّلالة والغيّ فيعطوا صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى ، وهذا آية أنهم أهل النار فيساقون إلى جهنّم وبئس المصير ، والاوّلون إلى الجنة ونعم المصير (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) فيفرحون ويسرّون بقراءتهم لما في الكتاب من الأعمال الحسنة ولا ينقصون من حقّهم مقدار ما في شقّ النواة من المفتول الذي فيه كالخيط بين شحم التمرة وبزرها.

٧٢ ـ (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) ... أي أن الذي في الدّنيا أعمى البصر والبصيرة عن الآيات الدالّة على الصانع سبحانه وتعالى ، وعن الحقائق الموجودة المؤدّية به إلى الإيمان بالواحد الأحد (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) يوم القيامة يكون (أَعْمى) أكثر عمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) باعتبار أنه قد فاتته الفرصة وزال استعداده للتعويض عمّا فرّط ، وذهبت المهلة التي كان يتمتّع بها في دار الدّنيا ، ولذلك فإنه أعمى العينين وأعمى القلب لا يهتدي إلى طريق النجاة أي طريق الجنّة.

* * *

 (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

٧٣ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) ... كلمة (إِنْ) مخفّفة ، أي الشأن قاربوا أنّهم يستنزلونك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأحكام. وحاصل الشريفة أن المشركين الذين تقدّم ذكرهم في هذه السّورة همّوا وقاربوا أن يزيلوك ويوقعوك في الفتنة ويصرفوك عمّا أوحينا من القرآن وما فيه من الأحكام. واللام في (لَيَفْتِنُونَكَ) فارقة بين كون (إِنْ) مخفّفة وكونها نافية (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتخترع علينا غير ما أوحينا إليك ، وعندئذ يتّخذونك (خَلِيلاً) صاحبا.

٧٤ ـ (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) ... أي ثبتنا قلبك على الحق والرشد بالعصمة وقيل بالألطاف الخفيّة (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) تركن : تطمئنّ إلى قولهم بعض الاطمئنان.

٧٥ ـ (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ) : أي لعذّبناك عذابا مضاعفا في الحياة وكذا بعد الممات ، لأن الذنب من النبيّ الأكرم (ص) أعظم (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي دافعا عنك وناصرا ينصرك.

٧٦ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ... (إِنْ) مخفّفة ، أي قارب أهل مكة ليزعجونك ويستخفّونك بمعاداتهم (مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة ولو أخرجوك منها (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) بعدك (إِلَّا قَلِيلاً) أي زمانا يسيرا لان كثيرين منهم ، وهم رؤوس أهل مكة وقوّاد الضلالة والفتنة ، قتلوا ببدر بعد خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته إلى المدينة. وقيل كان ذلك بعد الهجرة بسنة ، وقرئ : خلفك.

٧٧ ـ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) ... أي جرت عادتنا على أن نهلك من الأمم الّذين فعلوا بأنبيائهم مثل ما فعلوا بك من الاستخفاف والإهانة والإزعاج مقدّمة للإخراج. وإضافة السنّة إلى الرّسل لا إلى المرسل مع أنها له. ويقال سنّة الله ويدل عليه ذيل الآية حيث إنه تعالى أضافها إلى نفسه المقدّسة فقال : لسنتّنا وقد جعلت الإضافة إليهم لأن تشريع هذه السنّة وجعلها كان لهم عليهم‌السلام (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي سننّا على أنه مهما كان حال الرّسل بين أممهم فالأمم مأمونون من العذاب إلى أن يشاء الله. وإذا أخرجوا الرّسل من بين أظهرهم عذّبناهم واستأصلناهم. وهذه عادتنا من قبل في الأمم ، ولا تجد لعادتنا تغييرا ولا تبديلا. ثم انه تعالى بعد إقامة البيّنات وذكر الوعد والوعيد أمر بإقامة الصّلاة وقال سبحانه :

* * *

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

٧٨ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ... أي عند زوالها أو وقت الزوال بناء على أن اللام بمعنى الوقت. وزوال الشمس هو ميلها إلى طرف الغرب وهو أول الظّهر. وأصل الدّلك هو الانتقال ومنه الدلّاك لأن يده لا تستقرّ في مكان واحد. فالإضافة بهذا الاعتبار لأنّ الشمس تنتقل وتميل عن الاستواء إلى ناحية المغرب ، أو لأن الناظر إليها لمعيّن انتصاف النهار دلك عينيه لدفع شعاع الشمس. (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي ظلامه وهو وقت العشاءين. وعنهم عليهم‌السلام دلوكها زوالها ففيما بينهما إلى غسق الليل وهو انتصافه أربع صلوات ، هذا بناء على أحد المعنيين للغسق ، أي اشتداد ظلمة اللّيل ، فينطبق على انتصافه فإنه غاية اشتدادها. وعلى معناه الآخر وهو أوّل بدء الظّلمة فالكريمة لا تشمل أزيد من ثلاث صلوات الظّهرين والمغرب ، فلا تكون في مقام بيان أوقات الصّلوات كلّها ، والحمل على الأول أقوى وأولى ، ويستفاد من قوله تعالى : أقم الصّلاة إلى قوله إلى غسق أن امتداد وقت الظّهرين من الزوال إلى الغسق ، وامتداد العشاءين إلى نصف الليل ، لأن (اللام) للتوقيت و (إِلى) لانتهاء الغاية. والغسق على الأصح هو شدة الظّلمة فوقت أربع صلوات تمتدّ من الزوال إلى انتصاف الليل. وبالإجماع ثبت أن غاية وقت الظّهرين هو الغروب الشرعي بحيث إن الغاية خارجة عن المغيّا وهو أول وقت العشاءين فثبت أن أوقات الصّلوات الأربع موسّعة بالكيفيّة المزبورة. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصّبح ، وتسميتها قرآنا لتضمّنها له ، كتسمية الشيء باسم جزئه (كانَ مَشْهُوداً) يشهده ملائكة اللّيل والنهار ويكتبان في ديوانهما ثم إنّه بعد فرض الصلوات الخمس أمر ترغيبا بصلاة الليل التي هي أفضل النّوافل.

٧٩ ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) ... الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

لكنّة يستفاد من الاخبار والإجماع أنها ليست منحصرة به. نعم اختلفوا في أنها واجبة عليه أم لا؟ ففي التهذيب عن الصّادق عليه‌السلام قال : فريضة على رسول الله. وعنه عليه‌السلام : عليكم بصلاة الليل فإنها سنّة نبيّكم ودأب الصّالحين قبلكم ، ومطردة الدّاء من أجسادكم. و (الهجود) من الأضداد يطلق على النوم والسّهر ، والمعنيّ : يا محمد ترك النوم في بعض الليل للصّلاة المشتملة على القرآن. هذا على أن المراد بالقرآن هو مرجع الضمير إلى الكتاب المنزل. ويحتمل أن يكون المراد به الصّلاة حيث قلنا إنه يطلق القرآن على الصّلاة من باب تسمية الشيء باسم جزئه فمعناه : الأمر بالتهجد أي بالسّهر والاشتغال بالقرآن بصلاة الليل يعني : اسهر بصلاة الليل التي وجبت عليك خاصة ، فهي (نافِلَةً لَكَ) أي فريضة زائدة على الفرائض بناء على وجوبها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو فضيلة لك تخصّك زائدة على فضائلك ، وأمّتك بناء على عدم الوجوب وهذا يعني عدم وجوبها على الآمّة (أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي يقيمك مقاما محمودا ، اي يوصلك درجة يمدحك بها جميع الخلائق منه ، والمراد بالمقام المحمود لعلّه هو الشفاعة أو إعطاؤه لواء الحمد الذي يحمده فيه جميع الأنبياء ويغبطه به الأوّلون والآخرون ، فعسى أن يوصلك ربّك إلى درجة يمدحك بها سائر الخلق في يوم الدّين.

٨٠ ـ (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) ... أي فيما حمّلتني من الرسالة ، أو في مكة ، أو عند البعث ، أو في جميع ما أرسلتني به و (مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني إدخالا مرضيّا (وَأَخْرِجْنِي) من أعباء الرّسالة بأدائهما ، أو من مكة ، أو عند البعث (مُخْرَجَ صِدْقٍ) إخراجا لا أرى فيه مكروها (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي قوة وعزّا تنصرني بهما على أعدائك وأقهر بها العصاة ، أو حجة أتقوّى بها على أعدائي من الجحدة والعندة والجهلة ، فاستجاب الله دعاءه ونصره بالرّعب من مسيرة شهر. وفي المحاسن عنه عليه‌السلام : إذا دخلت مدخلا تخافه فاقرأ هذه الآية : ربّ أدخلني إلخ ... وإذا عاينت الّذي تخافه فاقرأ آية الكرسي.

٨١ ـ (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) ... أي جاء الإسلام واضمحلّ الشّرك والكفر. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : دخل النبيّ (ص) مكة وحول البيت ثلاثمئة وستون صنما فجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول صلوات الله عليه وآله : جاء الحقّ وزهق الباطل ، فجعل الصنم ينكبّ لوجهه حين يقرأ (ص) هذه الآية ، وكان أهل مكة يقولون : ما رأينا رجلا أسحر من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

٨٢ ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) ... أي أنّ في آيات القرآن ومعانيه شفاء للأرواح من الأمراض الروحية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة ، وفي ألفاظه شفاء للأبدان ، وببركة قراءته وتلاوته نور للقلوب وجلاء للأبصار والبصائر. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله. وأمّا كونه رحمة للمؤمنين فلأنهم المعتقدون به فينتفعون به دون غيرهم (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أعني الظالمين الذين لم يؤمنوا به ، بل كذبوه ولم يقبلوا كونه من عند الله فلا يزيدهم إلّا خسارا في الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

٨٣ ـ (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) ... بالصّحة والسّعة في الرزق والكثرة في الولد (أَعْرَضَ) عن ذكرنا (وَنَأى) بعد أو نهض (بِجانِبِهِ) أي

بشخصه مستكبرا يرى نفسه مستغنيا عنّا فيكون مستبدّا برأيه (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر (كانَ يَؤُساً) آيسا يأسا شديدا من رحمة ربّه.

٨٤ ـ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ... أي على طبيعته وعادته الّتي يعتادها ويتخلّق بها (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أوضح طريقا وأصوب دينا. وعن الصادق عليه‌السلام : النية أفضل من العمل ، ثم تلا : قل كلّ يعمل على شاكلته يعني على نيّته ، وعنه عليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، وإنما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا ، فبالنّيات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا : قل كلّ يعمل على شاكلته. وحكي أن النضر بن الحارث وأبيّ بن أبي خلف وعتبة بن أبي معيط أرسلوا من مكة إلى المدينة حتى يسألوا يهود يثرب مجاري أمره وشرح أحواله. ولما جاؤوا واستفسروا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله تعجّب اليهود وقالوا : يا سادة العرب وصناديد قريش نحن عرفنا بأنه يقرب ظهور نبيّ ، ويظهر من كلامكم أنه هو ، فإن كنتم تريدون أن تعرفوه حق المعرفة ، وتخبرون قومكم بواقع الأمر وبحقيقته ، فلا بد وأن تلقوه وتسألوه عن أمور ثلاثة إن أجابكم بجميعها أو سكت عنها جميعا فاعلموا أنه ليس بنبيّ ، وإن أجاب عن اثنين وسكت عن واحد فهذا الذي تذكرونه هو ذاك النبيّ (ص) فالأمر الأوّل أنّه من الذي سار المشرق والمغرب وطافهما ، والثاني من هم الشباب الذين خرجوا من قريتهم وفقدوا في قديم الزمن ، والثالث ما هو الروح؟ فجاءوا إليه (ص) وسألوه عنها فاستمهلهم ، فنزلت في الأول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) إلخ وفي الثاني (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) ، وفي الثالث : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) :

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

٨٥ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أي حصل بإرادته المعبّر عنها ب (كُنْ) بلا مادّة. وهو من الأمور التي خصّ علمه به تعالى ، فأبهم في الجواب كما جعله اليهود آية لنبوّته (ص) وتفسير الروح بتفاسير أخر واستقصاؤها خلاف ما هو المقصود في الكتاب (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي فوق كلّ ذي علم عليم.

٨٦ ـ ٨٧ ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي القرآن لو ذهبنا به ومحوناه من المصاحف والصّدور (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي من يتوكّل علينا باسترداده وإرجاعه. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إلا أن يرحمك ربّك فيردّه إليك محفوظا. هذا بناء على كون الاستثناء منقطعا. وأمّا بناء على الاتصال يصير المعنى كأن رحمته تعالى تتوكل باسترداده أو رحمة ربّك أبقته عليك. ولا يبعد ان يقال على الوجهين الأخيرين أيضا هو منقطع فليتأمّل .. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) عظيما حيث اختارك للنبوّة

وخصّك بالقرآن وأبقاه. قال ابن عباس : يريد حيث جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيّين وأعطاك المقام المحمود.

٨٨ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) : أي في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وجامعيّة المعاني مع إيجاز (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) مع أن فيهم الفصحاء والبلغاء ، و (ظَهِيراً) معينا وهذا ردّ لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وفي الخرائج في أعلام الصادق (ع) أن ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر من الدهريّة اتّفقوا على أن يعارض كلّ واحد منهم ربع القرآن ، وكانوا بمكة وعاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في العام القابل. فلما حال الحول واجتمعوا عند مقام إبراهيم / موعدهم / قال أحدهم إني لمّا رأيت قوله (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ) كففت عن المعارضة ، وقال الآخر وكذا أنا لمّا وجدت قوله (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) آيست عن المعارضة. وكانوا يسترون ذلك إذ مرّ عليهم الصّادق (ع) فالتفت إليهم وقرأ عليهم : قل لئن اجتمعت الجن والإنس الآية ، فبهتوا عليهم اللعنة.

٨٩ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) ... أي كرّرنا وبيّنّا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ليعتبروا من ترهيبنا وترغيبنا فلم يقبلوا ولم يزدهم (إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا وإنكارا للحق ، ولفظ «أبى» معناه النفي مضافا بأنه سوّغ الاستثناء معنى النفي. ثم إن صناديد قريش طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمورا ستّة ، هي :

* * *

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ

 قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

٩٠ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ... أي قال المكابرون من الجبابرة لن نصدّقك (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فتجري لنا الماء في بطاح مكة فنستقي ونزرع ونستغني عن الناس.

٩١ ـ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) ... أي أن تأتي بآية من السماء فتجعل لنفسك جنّة وارفة الأشجار كثيرة الثمار (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) وتجعل المياه تتدفّق في أنحائها ونحن نرى ذلك بأم العين.

٩٢ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) ... أي توقعها علينا على ما أوعدتنا وهدّدتنا. والكسف جمع كسف كقطع جمع قطع لفظا ومعنى ، (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) كفيلا من قبل به يقبل قبالة أي كفل وضمن وجاء قبيل بمعنى الكثرة ، أي جئنا بجماعة من الملائكة يشهدون بصدقك ، أو جئنا بهما شاهدين على صدق دعواك وضامنين لك فيما ادّعيت من أنك رسول من عند الله.

٩٣ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) ... بحيث تملك قصرا فخما جميلا مزيّنا (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) تصعد إليها بمعجزة ونحن ننظر إليك ونرى صعودك. ثم إذا صعدت ونزلت ونحن ننظر (لَنْ نُؤْمِنَ) ونصدّقك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) ونطّلع عليه. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) تنزّه وتقدّس (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) يعني إظهار الآيات المقترحة ليس بإرادتي ، بل هي أمور تحت قدرته تعالى واختياره إن شاء ينزلها وإلّا فلا ، وأنا رسول إليكم وما على الرّسول إلّا البلاغ. وإنّ ربّي منزّه عما تقولون من أن أجيء به فإنه ليس بجسم كما تزعمون وتقيسون على آلهتكم ، وإنه لا

يخلو منه زمان ولا مكان إلّا أنه لا يرى بالعين الظاهرة بل تراه العقول بأعينها الباطنة وقواها الفكرية المؤدية من المعلومات الى علّتها الذاتية. وما أنا إلّا بشر مثلكم أرسلني الله تعالى لهدايتكم.

* * *

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

٩٤ ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) : أي ما صرف المشركين عن التصديق بالله ورسوله ، هو معنى الإيمان (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي الحجج الظاهرة الواضحة (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) دخلت عليهم الشبهة في أنّه لا يجوز أن يبعث الله بشرا رسولا ولا بدّ من أن يكون الرسول من الملائكة ، كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله فوجّهوها إلى الأصنام فعظّموا الله بجهلهم بما ليس فيه تعظيم ، وعبدوا بما فيه المعصية ، فنعوذ بالله من الجاهل المتنسّك. هذا ما قال به بعض أرباب التفاسير ، ولكنّ الظاهر خلاف ذلك فإن قولهم : أبعث الله بشرا رسولا ما كان من حيث دخول الشّبهة عليهم في أنه لا يجوز أن يكون الرسول من جنس البشر ، بل قولهم هذا من باب الجحد والعناد والعذر غير الموجّه ، فإنهم كانوا عالمين بأنبياء السّلف من آدم على عيسى بن مريم عليهم‌السلام. ولو لم يعرفوا لما كانوا يراجعون أحبار اليهود ورهبان النصارى فقد كانوا متعبّدين بأقوالهم. فكيف يمكن أن يقول الإنسان إنّهم لم يعرفوا أنبياء السّلف ولم يسمعوا بآدم وعيسى وموسى وأنهم عليهم‌السلام كانوا رسلا من قبل الله تعالى إلى البشر. والحاصل أن قولهم هذا وأمثاله كان من الحقد والحسد والعناد ، لأنهم كانوا مصرّحين بأنه كيف صار يتيم أبي طالب مبعوثا إلينا مع كونه فقيرا يتيما؟

٩٥ ـ (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) ... أي يا محمّد قل جوابا لهم ، وهذا الجواب من باب التنزّل والمماشاة مع الخصم. وحاصله أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة (يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) كما يمشي بنو آدم ، وقاطنين متوطّنين فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) لكان من اللّازم أن يكون رسولهم من الملائكة لأن ذلك مشروط بنوع من التّناسب والتجانس ، أي لا بدّ من تجانس الرسل والمرسل إليهم لأن الجنس إلى الجنس أميل فيمكنهم إدراكه والتلقّي منه. وأما إرسال الملك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلتمكّنه من ذلك لقوّة نفسه. فعلى هذا لو كان أهل الأرض بشرا

لكان من الواجب ان يكون رسولهم بشرا بقانون التجانس والتسانخ كما بيّناه. وفي اللّباب منقول أن كفار قريش قالوا يا محمد من يصدّقك على ما تدّعي ومن الشاهد على رسالتك؟ فنزلت الشريفة :

٩٦ ـ (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) ... أي أنا لا احتاج إلى غير ربيّ فإنه يكفيني وهو الشاهد (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ولا يخفى أن شهادة الله هو إظهار المعجزة على يد النبيّ فإنّها بلسان الحال تنطق بأنّ المتحدّي ومدعي النبوّة نبيّ لأنها تجري مجرى الشاهد بالنبوة وهذا الجواب في الحقيقة تهديد للقوم.

٩٧ ـ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) ... أي من وفّقه الله وكان أهلا للهداية (وَمَنْ يُضْلِلْ) لأنه ليس أهلا للهدى (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يتولّون الدفاع عنهم وعن مصالحهم (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) فيمشي الكفار يوم الحشر على هيئة مشي البهائم على وجوههم أي على أربع قوائم. وقد سئل النبيّ كيف يحشر الكفار على وجوههم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الذي أمشاهم على رجلين قادر على أن يمشيهم على وجوههم يوم القيامة ، عميا وبكما وصمّا لا يبصرون ما تتلذذ به أعينهم ولا يسمعون ما تتلذذ به مسامعهم ولا ينطقون بما ينفعهم ، وهذا جزاؤهم مقابلا لما عملوا في الدنيا لأنهم لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصامّوا عن استماع الحق وأبوا أن ينطقوا به. فيستفاد من الكريمة أنهم يحشرون يوم القيامة وهم كالبهائم في جميع شؤونهم لا أنهم مثلهم في المشي فقط ، بل في قواهم الظاهرية لا يتلذّذون لذة تامّة كما أن البهائم كذلك (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) اي انطفأت وذهب لهبها وخمدت نيرانها وزبانيتها (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي لهبا واشتعالا بهم بإعادتهم بعد إفنائهم وهذا كقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) إلخ ..

٩٨ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) ... أي أن إدخالهم النار وازدياد السعير كلما خبت وخمدت لكفرانهم بالآيات والبراهين الواضحة الدلالة

على وجود الصّانع الحكيم وعلى النبوّة والرّسالة ، والثاني لإنكارهم المعاد وتعجّبهم من عودة أجسامهم بعد فنائها.

٩٩ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ) ... أي أن القادر على الأعظم كخلق السّماوات والأرض قادر على الأدون كما قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)؟ وليست الإعادة أصعب عليه تعالى من الإبداء. والمراد بالمثل إما هو الإعادة مثل الأول ، أو المراد بالمثل أنفسهم. ويعبّر أهل العربيّة عن النفس بالمثل كما يقال مثلك لا ينجل أي أنت لا تبخل (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً) مدّة معيّنة لا شك فيها وهو الموت أو البعث (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي امتنعوا عن كلّ شيء ممّا نزّلناه إلّا الكفر والجحد ونسيان الحق مع وضوحه. ولمّا بيّن تعالى بعض الأوصاف المذمومة للمشركين ، نحو كفرهم بالله وتكذيب النبيّ ، وإنكار المعجزات والآيات ، والمعاد عن جحود ، ذكر بعضا آخر وهو الصفة القبيحة من الشحّ والبخل ، فإن الكفار والظلمة أكثرهم شحيح وممسك بخلاف المؤمنين فإنهم الأجواد والمؤثرون على أنفسهم غيرهم ، وأهل العواطف بخلاف الظالمين الذين لا عاطفة لهم ولا رحمة ، بل قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشدّ قسوة فقهرا كانوا ممسكين مقتّرين بخلاء خائفين من الإنفاق ، ولذلك قال سبحانه :

١٠٠ ـ (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) إلخ ... أي يا محمد قل لهؤلاء المشركين لو أن خزائن أرزاق العباد كانت تحت سلطتكم وكنتم مالكين لها (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) لبخلتم وامتنعتم من أن تنفقوا وتعطوا الناس خوفا من النفاد بالإنفاق لعدم التوكل وعدم التصديق بما أنزل ربّكم عليكم في كتابه من قوله سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ..)(وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي بخيلا طبعا. وهذا الذيل تأكيد لما في صدر الآية وتثبيت لما تشتمل عليه من كونهم ممسكين ، وبيان لعلّة الحكم بكونهم بخلاء أشحّاء.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

١٠١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ... عن الصادق عليه الصّلاة وعلى آبائه : هي الجراد والقمّل والضفادع والدم والطوفان والبحر والحجر والعصا ويده البيضاء (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) عمّا جرى بين موسى وفرعون ، أو عن الآيات ، ليظهر للمشركين صدقك فتتسلّى نفسك عن التكذيب ، لأنك إن سألتهم أخبروك بأن فرعون رمى موسى بالكذب والسحر واختلاط العقل وغير ذلك ، فإذا علمت بأن الأنبياء عليهم‌السلام قد نسب إليهم الجنون والسحر وغيرهما ، تهون عليك أذيّة قومك ويخف عليك وقع تكذيبهم. فاسألهم (إِذْ جاءَهُمْ) موسى عليه‌السلام. وهذه الجملة متعلّقة ب (آتَيْنا) وهي منصوبة محلّا بهذا الفعل على الظرفية. (فَقالَ) له فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) فقد اتّهمه بالسحر لمّا ظهرت معجزته الخارقة.

١٠٢ ـ (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) ... أي قال موسى عليه‌السلام لفرعون : لقد علمت : تيقّنت أنه ما أنزل هذه الآيات عليّ (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ، وقد أنزلهنّ (بَصائِرَ) دلائل تتبصّرون بها وتستوضحون طريق الحق عند ما تنظرونها بعين العقل حال كون الآيات

واضحة الدلالة على أنّي صادق في دعواي ولكن أنت لمّا كنت معاندا أو جاحدا لا تصدّق ولا تقبل فأظنّك (مَثْبُوراً) أي مشرفا على الهلاك أو مهلكا أو مصروفا عن الخير أو ملعونا.

١٠٣ ـ (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ... أي يستخفّ ويزعج موسى وقومه بالنفي من أرض مصر أو بالقتل فأخذناه وقومه بالإغراق على نقيض مراده. وهذا معنى قوله تعالى : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً).

١٠٤ ـ (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) ... أي الأرض التي أراد فرعون أن يبعدكم عنها أرض مصر. و (وَعْدُ الْآخِرَةِ) قيام السّاعة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي جميعا أو مختلطين أنتم وهم للحكم والجزاء.

* * *

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

١٠٥ ـ (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) ... أي ما أردنا من إنزال القرآن الّا تركيز الحق في مركزه (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) اي ما نزل إلّا بالدّعوة إلى الحقّ ، ولست (إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع بالثواب (وَنَذِيراً) للعاصي بالعقاب.

١٠٦ ـ (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) ... أي أنزلنا قرآنا. عطف على : وبالحق (فَرَقْناهُ) تشديدا وتخفيفا أي فصلناه وجعلناه قطعا متمايزة من حيث الإنزال ، نجوما في نحو نيّف وعشرين سنة أو فرقناه من حيث بيان الحقّ

والباطل فيه (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي إمهال لتنظر بمعنى آية وآية ، وسورة وسورة كي يسهل فهمه وحفظه ولتتفكّروا فيه ، وعلى حسب الحوائج ووقوع الحوادث (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) حسب المقتضيات

١٠٧ ـ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) ... أي قل يا محمّد بهؤلاء المشركين : سواء آمنتم بالقرآن أم لا ، فإن إيمانكم لا يوجب مزيّة له ، ولا عدم إيمانكم يوجب نقصا فيه. وهذا تهديد لهم حيث إنه كاشف عن عدم الاهتمام بشأنهم و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من المؤمنين (إِذا يُتْلى) يقرأ عليهم (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي يسقطون على وجوههم تذلّلا وخشوعا لله تعالى. وقد خصّ الذّقن لأن من سجد كان أقرب شيء منه إلى الأرض ذقنه. وتسمّى هذه السّجدة سجدة العلماء لاختصاصها بهم على ما يتراءى من ظاهر الكريمة فأهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبقوله (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن ، هؤلاء يسجدون لعظمة القرآن حين يسمعون تلاوته.

١٠٨ ـ (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) : أي ننزّهه تعالى عن خلف الوعد. و (إِنْ) مخفّفة (إِنْ) يعني : إنّ وعد ربّنا كان مفعولا : كائنا لا محالة.

١٠٩ ـ (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) ... ويزيدهم خشوعا : أي أنّهم يسجدون عند سماع تلاوة القرآن ويزيدهم ذلك خضوعا وتذلّلا لازدياد علمهم به ويقينهم بصدق ما جاء فيه.

* * *

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

١١٠ ـ (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ... لمّا نزلت هذه الآية الشريفة قال المشركون عند ما سمعوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتلوها : يقول : يا الله يا رحمان؟ نهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين؟ وقد سها عن بالهم أن جواب كلامهم السخيف هو منها وفيها ، إذ (أَيًّا ما تَدْعُوا) من هذين الاسمين الأقدسين تكونوا قد دعوتم الله الواحد الأحد وبأيّ اسم من أسمائه الحسنى تدعونه فهو حسن (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي اسلك طريقا وسطا في صلاتك ولا تخالف المتعارف فاقرأ بقدر ما تسمع نفسك ولا ترفع صوتك عاليا في الجهريّة ولا تجعل الاخفاتيّة دون الهمس.

١١١ ـ (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ... أي احمد الله عزّ اسمه ، ونزّهه عن الولد والشّريك ، ووحّده وعظّمه عن كل ما لا يليق بألوهيّته. وقد قال رجل عند الإمام الصادق عليه‌السلام : الله أكبر .. فقال (ع) : من أيّ شيء؟ قال : من كلّ شيء. فقال عليه‌السلام : حدّدته. فقال الرجل : كيف أقول؟ قال (ع) : قل : الله أكبر من أن يوصف .. تمّت هذه السورة المباركة والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

سورة الكهف

مكية إلّا آية ٣٨ ومن الآية ٨٣ إلى الآية ١٠١ فمدنية. وآياتها ١١٠ نزلت بعد الغاشية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) ... بدأ سبحانه هذه السورة بحمد نفسه لأنه ليس أولى منه بالحمد على إنزال هذا الكتاب العظيم ـ القرآن ـ على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد مرّ بيان

فضل العبوديّة له عزوجل وتفسير كلمة «عبد» في أول سورة الإسراء ـ وشمل الحمد أنه تعالى (لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي لم يجعل في القرآن الكريم اختلالا في ألفاظه ، ولا تناقضا في معانيه ، بل كان به اعتدال واستقامة تامّان من جميع الحيثيّات وكافّة الوجوه ، ثم جعله سبحانه :

٢ و ٣ و ٤ ـ (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) ... أي سوّاه على حد الاعتدال ، لا إفراط فيه ولا تفريط. وقد نصب : قيّما ، بفعل محذوف تقديره : جعله. وفي كتاب تأويلات الكاشي رحمه‌الله أن الضمير في (لَهُ) راجع إلى العبد ، فالعوج صفة منفيّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك (قَيِّماً) فإنها صفة له (ص) والمعنى أنه تعالى لم يجعل عبده مائلا لغيره تعالى ، بل جعله معتدلا ومستقيما في جميع أحواله (لِيُنْذِرَ) يحذّر الكافرين (بَأْساً شَدِيداً) قوة وبطشا كعذاب الاستئصال والقتل ، يأتيهم (مِنْ لَدُنْهُ) من قبله تعالى حين يقضي بإهلاكهم لعنادهم وشدة كفرهم ، ول (يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) يخبرهم الخبر السارّ بنجاتهم وفوزهم في الدنيا وب (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) ثوابا جميلا جزيلا في الآخرة (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) مقيمين في النّعيم إلى أبد الأبد و (لِيُنْذِرَ) يحذّر (الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) المشركين من اليهود والنصارى الذين قالوا بأن عزيرا والمسيح عليهما‌السلام ابنان لله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، إذ قالوا ذلك و :

٥ ـ (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) ... أي ليس لهؤلاء القائلين بهذا القول الشنيع معرفة وإدراك ، كما لم يكن لآبائهم وأسلافهم الذين مضوا قبلهم وكانوا على مثل ما هم عليه اليوم ، وانما قالوا ذلك عن جهل وتقليد ، ومن غير حجة وبرهان صحيح.

٦ ـ (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) : أي قاتل نفسك (عَلى آثارِهِمْ) اي آثار قومك الذين قالوا لن نؤمن لك تمرّدا منهم على ربّهم (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) متعلق بباخع نفسك. وهو اي الأسف الحزن المفرط والغضب الشديد كأنّهم إذ ولّوا عن الإيمان ، فارقوه فشبهه بمن فارقته أعزّته فهو

يتحسّر على آثارهم بحيث يقرب من الهلكة ، أو يهلك نفسه تلهّفا على فراقهم وبعدهم. والحديث : هو هنا القرآن الذي لم يصدّقوا به.

٧ ـ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) ... أي من زخارفها (زِينَةً لَها) أي ما يصلح لأن يكون زينة لها ولأهلها (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي لآخرته وهو من زهد فيها ولم يغترّ بها وقنع منها بالكفاف.

٨ ـ (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ... صَعِيداً جُرُزاً) : أي أرضا لا نبات فيها ، أو أرضا انقطع ماؤها أو انقطع عنها المطر ، أو أرضا يابسة.

* * *

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

٩ ـ (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ) ... أي بل ظننت أن أصحاب الكهف ، وهم فتية هربوا من ملكهم دقيانوس إلى مغارة وسيعة في الجبل الذي كان حوالي تلك القرية وكان اسم القرية أفسوس وكان الملك يعبد الأصنام. وقيل : كان مدّعيّا للألوهيّة يقتل من يخالفه وكان جبارا عاتيا (وَالرَّقِيمِ) هم النّفر الثلاثة الذين دخلوا في الغار لا فرارا بل لرفع العتب والاستراحة ، فانقطع حجر عظيم من الجبل ووقع على باب الغار فانسدّ عليهم ، وقصّتهم معروفة كقصّة أصحاب الكهف. وقيل معاني أخر للرّقيم

في كتب التفاسير والتواريخ من أرادها فليراجعها (عَجَباً) أي ما كان عجبا ، فإن خلق السّماوات والأرض وما فيهن من العجائب والأسرار أعجب.

١٠ ـ (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) ... أي التجأوا إلى الغار لما ذكر آنفا وكانوا من خواصّ دقيانوس ولكنّهم مخالفون له في دينه إذ كانوا مؤمنين بالله تعالى يسترون إيمانهم ولما استقروا في الكهف (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي الأمن من الملك وأعوانه والفرج ممّا نزل بنا من التحيّر في أمرنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أعطنا أمنا من السّلطان وسبّب لنا طريقا نهتدي به في أمر ديننا.

١١ ـ (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) ... أي ألقينا على آذانهم ستارا من النّعاس والنوم المانع عن نفوذ الأصوات إليها يمنع السماع ، لأن النّائم إنما ينتبه بسماع الصوت. وقد بيّن سبحانه بهذه العبارة أنهم لم يموتوا وكانوا نياما في أمن وراحة من جميع الجهات فاستجاب الله دعاءهم في كلا الأمرين المذكورين. وهذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق ظاهر اللفظ (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) اي ذوات عدد كثير. وتستفاد الكثرة من التّنوين ، ويحتمل الحمل على القلّة حيث إن مدة لبثهم في الغار بمنزلة بعض من اليوم عند ربّهم كقوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ). بيان ذلك أنه تلاحظ في السنين جهتان : الأولى : من حيث عددها وأنها بهذه الحيثيّة كثيرة لأنه قيل كان مدة لبثهم في الكهف إلى زمان استيقاظهم ثلاثمائة سنة ونيّفا. والثانية : من حيث الزمان ولحاظ نسبته بأزمنة الربوبيّة ، فبهذه الجهة قليلة ، كأن يوما واحدا منها أي من الأزمنة الربوبيّة كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون. فثلاثمائة سنة من الأزمنة المتعارفة عندنا إذا لاحظناها بالنسبة لأزمنة الربوبيّة تعدّ قليلا جدّا. هذا ، ويمكن أن تلاحظ مدة اللّبث بالنسبة إلى الكهفيّين أنفسهم ، فإنّ أمده عندهم كان (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فكان عدده عندهم أيضا قليلا جدّا من حيث الزمان.

١٢ ـ (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) ... أي أيقظناهم ونبّهناهم من نومتهم (لِنَعْلَمَ) لنعرف أي الحزبين : الفريقين اللّذين اختلفا في أمر أصحاب الكهف. و (أَيُ) فيه معنى الاستفهام ، ولذلك علّق فيه (لِنَعْلَمَ) فلم يعمل فيه ، وذلك كقوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها). فأيّ هنا للاستفهام فقط. والطائفتان اللتان اختلفتا فيهم كانت منهما من تنكر البعث والنشور وتكفر بهما ، ومن تؤمن به وتصدّق. فهما تكنّيان عن الفئة المؤمنة بنبيّ زمانها والفئة الكافرة به وبدعوته التي جاء بها من عند ربه.

وقيل إنه يعني ب (الْحِزْبَيْنِ) أصحاب الكهف وأنّهم لمّا استيقظوا اختلفوا في مقدار لبثهم ، وذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ، الآية. والمعنى انه لم يزل سبحانه عالما بذلك وإنما أراد بقوله (لِنَعْلَمَ) ما تعلّق به العلم الأزلي من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا بالنسبة إلى المؤمنين من القوم لو كان المراد بالحزبين الطائفتان : أعني من كانوا كافرين ومؤمنين. وكذا بالإضافة إلى أنفسهم إذا كان المراد من الحزبين وهم ، أي أصحاب الكهف على قول ، لتؤمن بالبعث والنشور الطائفة الكافرة وبعبارة أخرى قوله (لِنَعْلَمَ) أي ليقع علمنا الأزلي على المعلوم بعد وقوعه ، ويظهر لهم مقدار مكثهم فيؤمن المنكرون بالبعث والحشر (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أحصى ، فعل ماض معناه ضبط وحفظ غاية زمان مكثهم. والأمد غاية الشيء ونهايته ، ليس بأفعل التفضيل في شيء لأنه لا يبنى عن غير الثلاثي المجرّد. وحاصل المعنى : لنعلم : أي لننظر أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف عدّ وضبط مدّة لبثهم ، وعلم ذلك. وكأنّه وقع بينهم تنازع في مدّة لبثهم في الكهف بعد خروجهم من بينهم فبعثهم الله لتبيّن ذلك ويظهر فيدفع التنازع والترافع.

* * *

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

١٣ ـ (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) ... أي بما هو الواقع في نفس الأمر (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) شباب ، وفي الكافي عن الصّادق عليه‌السلام أنه قال لرجل : ما الفتى عندكم؟ فقال له : الشباب فقال عليه‌السلام : لا ، الفتى المؤمن. إنّ أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسمّاهم الله فتية بإيمانهم ، وعلى هذا الحديث قوله تعالى : (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) بيان للفتية. وقيل إن الفتوّة هي اجتناب المحارم واستعمال المكارم (زِدْناهُمْ هُدىً) بالتوفيق والتثبيت.

١٤ ـ (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ... أي قوّيناها بالألطاف فأظهروا الحق ردّا على دقيانوس ، وصبروا على المشاق ، فقوّيناها على تحمّل المكروه في نصرة الدّين (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهزّوا عرش دقيانوس (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) قولا ذا شطط أي : ذا بعد عن الحق مفرطا في الظلم إن دعونا إلها غيره تعالى.

١٥ ـ (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ... أي قالوا فيما بينهم : إن

قومنا أشركوا بالله تعالى وجعلوا غيره آلهة من الأصنام يتعبّدون لها (لَوْ لا يَأْتُونَ) ليتهم يجيئون (عَلَيْهِمْ) على آلهتهم ومعبوداتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي بحجة ظاهرة ولكنهم ليس لهم حجة على ذلك (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تعجب من افتراء قولهم الكذب على الله جلّ وعلا.

١٦ ـ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) ... هذا قول بعض أصحاب الكهف لبعض ، أي لمّا أعرضتم عنهم وعن عملهم من الشّرك حيث إنهم كانوا يعبدون الأصنام. ولذا استثنوا الله من معبوداتهم (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) اي التجأوا إليه واستقرّوا فيه (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يبسط لكم بعض نعمه وآلائه في الدنيا ، والبقية في الباقي (يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي يسهّل لكم ما تنتفعون به وتصلحون به أمركم. وكان صدور هذا القول منهم عن عقيدة راسخة ويقين ثابت لشدة وثوقهم واعتمادهم عليه تعالى وعلى فضله. والمرفق مصدر معناه المعاملة برفق ولطف.

* * *

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

١٧ ـ (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ) ... أي لو كنت عندهم وتنظر إلى

الشمس حين طلوعها لترى أنها (تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) أي تميل عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) إلى جهة يمين الكهف (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أي حين غروبها تعدل وتجاوزهم لجهة الشمال من الكهف ، فلا تدخل كهفهم ولا تصيبهم ، تمرّ بالكهف منحرفة عنهم لئلّا تؤذيهم ، وذلك لأن باب الكهف واقعة مقابلة للقطب الشمالي ومواجهة لبنات نعش ، فتطلع مائلة عن الكهف عند مقابلته بجانبه الأيمن ، وتعزب محاذية لجانبه الأيسر ، فيقع شعاعها على جنبيهم لا على أجسادهم مع تمام المحاذاة حتى لا تفسد أجسادهم وتبلى ثيابهم ، بل بمقدار تعدّل هواء الكهف وتصفيه من العفونات المتولّدة عن الأبخرة الأرضية والأنفسية والجوّية في بعض الفصول والأوقات بمقتضى الطبع والطبيعة وقيل إن الكهف واقع في الجهة الجنوبية من جبال بناقلوس أي الروم (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في فضاء متّسع من الكهف بحيث ينالهم برد النسيم وروح الهواء فلا يؤذيهم كرب الغار ولا حرّ الشمس في طلوعها وغروبها (ذلِكَ) أي المذكور (مِنْ آياتِ اللهِ) من دلائل قدرته وعظمته (مَنْ يَهْدِ اللهُ) بالتوفيق والإعانة (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) كأصحاب الكهف (وَمَنْ يُضْلِلْ) كدقيانوس وأصحابه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) أي من يلي أمره ويرشده إلى الصواب والحق.

١٨ ـ (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) ... أي لو رأيتهم لحسبتهم منتبهين وهم رقود : نائمون في الحقيقة. وقيل لأنهم مفتحة عيونهم يتنفّسون كأنهم يريدون أن يتكلّموا ولا يتكلّمون. وقيل إنهم ينقلبون كما ينقلب اليقظان. وعن الباقر عليه‌السلام : ترى أعينهم مفتوحة. وروي أن معاوية غزا الرّوم فمرّ بالكهف فقال لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم. فقال له ابن عباس : ليس لك ذلك ، قد منع الله من هو خير منك. فقال : لو اطّلعت عليهم لولّيت منهم فرارا. فلم يسمع ، فبعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم. قال ابن عباس وأكثر المفسرين : إنّهم هربوا من ملكهم ليلا فمرّوا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه فطردوه ، فقال لهم

الكلب : ما تريدون منّي فأنا أحبّ أولياء الله فدعوني حتّى أحرسكم ، فذهب معهم إلى الغار فنام في عتبة الكهف وهم ناموا في فضائه كما أخبر تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي فناء الغار من جهة الدّاخل. وقيل كان ذلك كلب صيدهم.

* * *

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

١٩ ـ (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) ... أي كما أنمناهم بقدرتنا كذلك أيقظناهم آية لقدرتنا (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن مدة لبثهم فيعرفوا صنع الله بهم فيزدادوا يقينا (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ظنّا منهم. المستفاد من النوم المعتاد إذ لا ضبط

للنّائم. فلما رأوا تغيير أحوالهم من طول أظفارهم وشعورهم صار الأمر ملتبسا عليهم (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) فأخذوا في كشف الواقع ورفع الشبهة ولم يجدوا طريقا لذلك إلّا من خارج الغار. وأيضا أحسّوا الجوع فقالوا (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) الورق جمع مفرده ورقة وهي الفضّة سواء كانت مسكوكة أو غير مسكوكة ، والمراد بها هنا دراهم عليها رسم الملك دقيانوس (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي مدينة أفسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي أيّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) أي أحلّ وأطيب. وعن ابن عباس : أحلّ ذبحه ، قال لأن أكثرهم كانوا مجوسا وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي بما تشتهون أكله وترزقون (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : وليدقّق النظر ويتحيّل حتّى لا يطّلع عليه أحد من أهل المدينة فيعرفه. وقيل وليتلطّف في الشراء فلا يماكس البائع ولا ينازعه (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي لا يخبرنّ بكم ولا بمكانكم أحدا.

٢٠ ـ (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) ... أي لو يطّلعوا عليكم يقتلوكم (بالرجم) وهو أشدّ قتلا وأخبثه. (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يرجعوكم إلى دينهم (وَلَنْ تُفْلِحُوا) لن تنجحوا أبدا.

٢١ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) ... أي كما أنمناهم بعثناهم لتزداد بصيرتهم وأطلعنا عليهم أهل مصرهم (لِيَعْلَمُوا) بعد اطّلاعهم على حالهم وبعد التفكير بعظمة الله سبحانه وبالخلق والموت والبعث ، ليعلموا (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والنشور (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ) لآتية (لا رَيْبَ فِيها) وفي الحديث : كما تنامون تستيقظون ، وكما تموتون تبعثون ، النّوم أخ الموت. وبالجملة من يقدر على توقية النفوس والتحفّظ على الأبدان لنائمين مدة ثلاثمائة وتسع سنين مفترشين بأبدانهم الأرض ، يقدر على توقية نفوس وأرواح البشر إلى أن يحشر الأبدان فيردّ الأرواح إليها .. (إِذْ يَتَنازَعُونَ) الظرف متعلّق بأعثرنا يعني أعثرنا عليهم حين كانوا يتنازعون (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أمر دينهم من بعث الأرواح فقط ، أو مع الأجساد ، أو لا

بعث ولا حشر. أو المراد أمر الفتية فقد قيل ماتوا ، وقيل ناموا وظاهر ذيل الآية أن الأمر المتنازع فيه هو الموت أي موتهم بعد بعثهم. ولذا (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) كالمقابر حتى يخفوا عن أعين الناس الكفرة. فالله تعالى قال : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي لم تقولون ما لا تعلمون؟ نحن العالمون أنّهم نائمون أم ميّتون. فهذا الذيل يدلّنا على أن المراد بالأمر المتنازع فيه هو أمر الفتية لا غير (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) قيل إن المراد أمر الفتية. والمراد بالموصول الملك المؤمن وأعوانه ، أو هم وسائر المؤمنين ، أو خصوص المؤمنين ولكن الظاهر بعد التأمّل التّام في الكريمة أن المراد من الضمير المضاف إليه هو أهل بلد الفتية لا الفتية ، والأمر أمر أهل البلد بقرينة غلبوا ، حيث إن الغالبين أي المتولين والقاهرين إمّا الملك وأعوانه ، أو أركان البلد ورؤوساؤهم ، فإنهم الغالبون على أمور الناس من أهل البلد ، لا على أمر الفتية الذين ماتوا بعد البعث أم ناموا حتى يغلبوا وأما البناء أو المسجد فهما من أعمال أهل البلد وأفعالهم لا فعل الفتية وأمرهم بحيث يصح أن يقال : إن الملك وأعوانه غلبوا على أمر الناس لبناء مسجد يصلّي فيه المسلمون ويكون ذكرى وعبرة لمنكري البعث والحشر ، لأن من صلّى في مسجد أصحاب الكهف قهرا يتذكر أمرهم ولو لم يعرف قصّتهم فلا بد وان يسأل عنها حتى يعرفها.

* * *

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي

فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

٢٢ ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) ... أي أهل المدينة وملكهم كما سبق تنازعهم في الموت والنّوم وفي البناء أو المسجد الذي يصلّى فيه ويكون ذكرى لهم ودالّا على صحة القول بالبعث والنشر بالأبدان والأرواح بل بالأكفان الفانية ، كما أن الكهفيّين بعثوا هكذا أي مع ألبستهم مضافا إلى أجسادهم وأرواحهم. أو المراد بالمتنازعين في العدد ، وهم أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كما جاء به الحديث. فكما اختلفوا في مدة لبثهم في الغار كذلك اختلفوا في عددهم ، فمن قائل هم ثلاثة ، ومن قائل هم خمسة ، إلى قائل : هم سبعة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي يقولون قولا من حيث لا علم لهم بالغيب ولا معرفة لهم بعددهم. وهذا الكلام راجع إلى القولين السّابقين في مقام تزييفهما والطعن عليهما. وهو يدلّ على صحة القول الثالث ، وإلّا لوقع بعد تمام الأقوال الثلاثة مضافا إلى روايات وردت من الخاصة والعامّة تدلّ على القول الثالث. هذا مع أنه تعالى خصّ هذا القول الأخير بزيادة حرف وهو الواو الّتي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، نحو جاءني رجل ومعه آخر. وفائدتها توكيد ثبوت الصّفة للموصوف. ففيما نحن فيه يدل على صدق القول الذي خصّ بهذه الزيادة. وهذه فائدة مهمّة ترتّبت على زيادة هذا الحرف (أي الواو) في (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا

قَلِيلٌ) وهم النبيّ وأوصياؤه ومن تعلّم منهم. قال ابن عباس : انا من ذلك القليل (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجادل في أمر الفتية وشأنهم إلّا أن تتلو عليهم ما أوحي إليك بلا تعنيف ودون أن تتعمّق فيه (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) اي لا تسأل في شأن الفتية من أهل الكتاب أحدا وحسبك ما قصصنا عليك فيهم.

٢٣ و ٢٤ ـ (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) ... أي لا تصدر إلّا عن مشيئة الله تعالى ، وإلّا متلبّسا بها ، قائلا : إن شاء الله. قال الأخفش فيه إضمار القول ، وتقديره : إلّا أن تقول إن شاء الله. والنّهي في الآية للتّنزيه لا نهي تحريم ومولويّ بل إرشاد إلى أمر مطلوب. وهو خروج قولك بهذا الاستثناء عن الكذب إذا قلت كلاما جزما وعن قطع ، فلا يلزم كذب وحنث إذا حلفت ولم تفعل لمانع (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي إذا نسيت الاستثناء والتّقييد فاستثن متى ذكرت أنّك لم تستثن ولم تقيّد كلامك ، فقل : إن شاء الله. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الاستثناء في اليمين متى ما ذكرت وإن كان بعد أربعين صباحا ، ثم تلا هذه الآية وفي بعض الرّوايات : وإن كان الذكر بعد سنة ، وقيل : أذكره إذا اعتراك نسيان شيء لتذكر المنسيّ (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) أي أرجو من ربّي أن يلهمني ويعطيني ما هو أقرب وأوضح دلالة على نبوّتي من قصة أصحاب الكهف وإخباري بها ، وقد فعل وإنه تعالى قد أخبره بحوادث نازلة في الأعصار المستقبلة إلى يوم القيامة وبأمور أخر ، منها الإخبار عن مدّة لبثهم في الغار ومقدارها الواقع حقّا بقوله تعالى :

٢٥ ـ (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) ... أي ثلاثمائة سنة و (تِسْعاً) نياما. وقوله : سنين : بدل إذا قرئت ثلاثمائة بلا إضافة ، وإلّا كان من باب وضع الجمع موضع الواحد وفصّل (وَازْدَادُوا تِسْعاً) لنكتة هي أن اللّبث من حين الدخول إلى يوم البعث كانت بالسنيّ الشمسيّة ثلاثمائة تماما وبالسنيّ القمريّة تزاد تقريبا تسع سنوات. وإنما قلنا تقريبا لأنّ التفاوت بين

الشمسيّة والقمرية في كلّ سنة أحد عشر يوما تقريبا فيصير التفاوت أزيد من ذلك ـ اي من التسع ـ بشهرين وتسعة عشر يوما على ما في التفسير الكبير.

٢٦ ـ (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ... أي أعرف من الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب ، فلا بدّ من أن يؤخذ بما أخبر به الله وأن يترك قول أهل الكتاب. وروي أنه سأل يهودي عليّا عليه‌السلام عن ذلك فأخبره بما في القرآن ، فقالّ : في كتبنا ثلاثمئة. فقال عليه‌السلام : ذلك بسنيّ الشمس ، وهذا بسنيّ القمر (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم الغيب مختصّ به تعالى (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي بالله تعالى وهي صيغة تعجّب أي ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع والهاء فاعل والباء زائدة (ما لَهُمْ) أي لأهل السّماوات والأرض (فِي حُكْمِهِ) أي في قضائه (مِنْ وَلِيٍ) يتولّى مصالحهم ويفوّضون أمرهم إليه (وَلا) الله تعالى (يُشْرِكُ) يشارك ويقاسم (فِي حُكْمِهِ) قضائه وسلطانه (أَحَداً) من مخلوقاته المفتقرة إليه.

* * *

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها

وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

٢٧ ـ (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) ... أي اقرأ على الناس ما ننزله عليك من الوحي المكتوب في القرآن أو في اللوح المحفوظ ، دون أن تتعدّى ذلك إلى غيره لأن ربّك (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا مغيّر لها ولا صارف لها عمّا نزلت به (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) وليس لك ملجأ ولا موئل غيره سبحانه وتعالى. ويقال : التحد إلى فلان ، بمعنى : مال إليه وأوى إلى حماه.

٢٨ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ... أي احبسها. و (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي رضاه وطاعته (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) لا تجاوز عينيك عن المؤمنين إلى غيرهم من أهل الدنيا (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مجالسة الأشراف وأصحاب الأموال الذين تزيّنوا بزينة الحياة الدّنيا ، طمعا في إيمانكم (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي إفراطا وتجاوزا للحدّ ومتقدّما على الحق.

٢٩ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) ... أي أنّ القرآن من عند ربّكم (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) فليقبل (فَلْيَكْفُرْ) أي فليأب ، فإن له الاختيار. وهذا تهديد ووعيد بصورة الأمر ، ولذلك عقّبه بقوله (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ) الكافرين الّذين ظلموا أنفسهم بعبادة غيره تعالى هيّأنا لهم (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي فسطاطها ، شبّه به النار المحيطة بهم ، أو دخانها ولهبها (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) ... (كَالْمُهْلِ) أي القيح المختلط بالدّم من الميّت خاصّة ، أو ما هو المذاب من المعدنيّات كالنحاس. وهذا على التشبيه (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ينضجها الحرّ إذا يدنو للشرب (بِئْسَ الشَّرابُ) أي المهل. وهذا الذّم يؤكد فرط حرارته (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي متّكأ. فان الارتفاق هو نصب المرفق تحت الخدّ ، وذكره للمقابلة والمشاكلة بقوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً). وإلّا

أين المخدّة والمتّكأ وأهل النّار؟ وبعد الوعيد لأهل النار أردفه بوعد المؤمنين فقال تعالى :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

٣٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... (أَحْسَنَ عَمَلاً) : أي لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا ، بل نجازيهم ونوفّيهم من غير بخس. والآية تدل على أن العمل شرط لحصول هذه المثوبات فان اللطف يدل على المغايرة ، والإيمان المجرّد عن العمل مقتض لا أنه علة لها ، وكذلك يدل على أن المؤمن يستوجب بحسن عمله تلك المثوبات لا أن الاستيجاب يحصل بحكم الوعد أو لذات الفعل وهو الإيمان كما عليه المعتزلة.

٣١ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ) ... الظاهر أن هذه الشريفة خبر لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) في صدر الآية الشريفة السابقة. وقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ) إلى آخرها ، جملة مستأنفة لا أنه خبر ، وإن شئت عبّر عنها بالمعترضة ولعله أحسن. والله أعلم (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي جنات إقامة لأنهم يبقون فيها ببقاء الله دائما. وقيل عدن هو بطنان الجنة أي وسطها والجمع باعتبار سعتها أو باعتبار أن كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) إمّا باعتبار أنهم على غرف في الجنّة كما قال : وهم في الغرفات آمنون ، أو لأنّ أنهار الجنة تجري في أخاديد وأقنية مرتبة في الأرض وتحت الغرف

والقصور (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يجعل لهم فيها حليّ من أساور من فضة وذهب ولؤلؤ وياقوت ، وهذه لباس الزينة ، وأمّا لباس التستّر فقوله : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) وهي أبهى الألوان (مِنْ سُنْدُسٍ) اي ما رقّ من الديباج الرقيق الناعم (وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ما غلظ منه (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السّرير في بيت زيّن للعروس (نِعْمَ الثَّوابُ) أي الجنّة ونعيمها (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي السّرر من حيث الاتّكاء عليها والارتياح بها في تلك الجنّات. ثم إنه ضرب مثلا للمطيعين من عباده وللعاصين منهم فقال تعالى :

* * *

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ

أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

٣٢ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) : أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يضرب للكفرة الذين افتخروا على المسلمين بثروتهم وأموالهم مثل الرجلين اللّذين كانا أخوين في بني إسرائيل على ما روي عن ابن عباس أنه قال : يريد الله بالرّجلين ابني ملك كان في بني إسرائيل توفّي وترك ابنين ومالا جزيلا فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرّب به إلى الله تعالى وتصدّق به ، وأخذ الآخر وهو الكافر حقه متملّك به ضياعا ، منها هاتان الجنتان اللّتان ذكرهما الله تعالى ومنها دار بني بألف دينار وتزوّج بامرأة بألف دينار ثم اشترى خدما بألف دينار ، فوصف الله سبحانه البساتين بصفات منها كونهما جنّتين بظلّ الأشجار. فان أصل معنى كلمة الجنّة : الستر والتغطية ، والصفة الثانية قوله سبحانه : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل محيطا بالجنّتين ، والثالثة كون الزرع بينهما بكيفيّة خاصّة بهما ، إلى آخر الأوصاف المذكورة.

٣٣ ـ (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ... آتت أكلها : أي أعطت ثمرها وكل ما يؤكل منها (وَلَمْ تَظْلِمْ) لم تنقص (مِنْهُ شَيْئاً) من الثمر المعهود ، بل أدّته تماما على خلاف العادة الجارية في الفواكه فإنها تأتي سنة وتنقص في

أخرى ، لكنّ ثمر الجنّتين كانت مستمرة دائما (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) لدوام شربهما ومزيد بهائهما.

٣٤ ـ (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) ... أي كان للكافر أثمار من أموال مثمرة نامية غير ثمر الكرم والنخل ، واختصاصهما بالذكر لغالبيّتهما ، والّا التّنكير للتعميم (فَقالَ لِصاحِبِهِ) اي قال الأخ الكافر لأخيه المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) من الحور وهو الرّجوع ، فالمراد هو الرجوع في الكلام ، أي يجادله ويفتخر ويتعالى عليه : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أقوى رهطا وخدما وأولادا وأعوانا.

٣٥ ـ (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ... اي أدخل أخاه المؤمن معه في البستانين يطوف به فيهما ويفاخره بهما وبغيرهما من أمواله ويعيّره على إتلاف أمواله في سبيل ربّه بحيث ما أبقى عنده ما يصلح به أمر دنياه (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) اي ضرّ لها بعجبه وكفره. وإفراد الجنّة إمّا لأنهما في حكم الواحدة لتواصلهما ، أو لإرادة الجنس ، أو لأنّه أدخله في واحدة منهما فقط دون الأخرى لأنّها كانت مختصّة به لطراوتها وبهجتها ونضارتها وسعتها وسائر الأمور المحسّنة فيها كما هو الظاهر من إضافتها إلى نفسه (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) اي ان تفنى هذه الجنة الّتي بنيت بهذه الكيفية ونمت بتلك الحيثية الجميلة الرائعة لكثرة ثمارها وحسن بهجتها وخضرتها فأعجبها فاغترّ بها فقال : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) أي لا أحسب أنها تخرب وتفنى.

٣٦ ـ (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي كائنة ، أو ما أظن أن القيامة آتية خلافا لقوله تعالى : (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها). وهذه المقالة كانت ثابتة منه تعالى في جميع الشرائع والأديان (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) بالبعث كما زعمت وتقول أيّها الأخ (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي والله لتكوننّ عاقبة أمري ومرجعي يوم القيامة خيرا من دنياي ومن تلك الجنان والنّعم ، لأنه كان معتقدا بأن استحقاقه الذاتي مقتض لكونه موردا لألطافه تعالى في الدنيا ، فإذا كانت العلّة هي هذه فهي باقية إلى يوم البعث. وحيث إن نعم

الدّنيا فانية لا محالة ونعم الآخرة باقية على زعم قائليها فهي خير منها.

٣٧ ـ (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) ... (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ) ... أي بما هو أصل مادّتك لأن النطفة خلقها الله تعالى بمجرى العادة ، وقال : (مِنْ تُرابٍ) لأن النّطفة من الغذاء الذي ينبت من تراب الأرض ويمتصّ لطائفها ، فجاز أن يقال : خلقك من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ما هو المادة القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) جعلك مستقيما عدلا إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال.

٣٨ ـ (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) ... أصله (لكن أنا) فحذف الهمز وأدغمت النّون في النون ، والكلام من تقدير القول ، يعني : أنا أقول هو الله الذي ربّاني بعد ما أوجدني وأوجد جميع العوالم الإمكانية (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) لا أعبد غيره معه.

٣٩ و ٤٠ ـ (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ) ... أي هلّا ، استفهام إنكاريّ معناه لم ما قلت حين دخلت جنّتك كلمة المشيئة ، أي ما شاء الله. وهذا تعليم للنّوع من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة. وروي عن أنس بن مالك انه قال ، قال رسول الله : كل من يرى شيئا وتعجبّ من حسنه فيقول ما شاء الله لا قوة الا بالله لا يصله عين سوء ولا تؤثر فيه. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) أي وإن كنت تراني فقيرا لا مال عندي ولا أولاد (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أي فأرجو وآمل أن يرزقني ربّي ما هو أحسن من جنّتك في الآخرة ، كما أنني أخشى أن تخرب جنّتك وتبيد (وَيُرْسِلَ) الله (عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي يبعث عليها لكفرك عذابا أو شرّا أو بلاء من السّماء كالصّاعقة ونحوها (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي أرضا ملساء لا تثبت عليها قدم. وقيل أرضا محترقة.

٤١ ـ (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) ... غائرا : أي ذاهبا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي لن تجد حيلة تردّه بها.

٤٢ ـ (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) ... أي أهلكت أمواله ومخبّاته. وثمره كناية عن

جميع أمواله ، فإن الأموال تجمع من الثمار وأمثالها. وأحيط من أحاط به العدو أي أهلكه (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) اي يحوّلهما من جانب إلى آخر ويضرب إحداهما على الأخرى كناية عن التندم والتحسّر (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أن الأبنية ساقطة عن دعائم كرومها فالكروم واقعة عن الدعائم بعد سقوطها. والضمير راجع إلى الجنة باعتبار ما قلناه. أو المراد بالعروش السقوف والضمير راجع إلى الأبنية والمعنى أن الأبنية واقعة على السقوف بعد سقوط السّقوف أوّلا. وعلى أيّ تقدير لمّا شاهد صاحب الجنّة العذاب صار يضرب يده على الأخرى ويقول (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) كأنّه تذكّر نصح أخيه ووعظه له وتنبّه إلى أن هذا العذاب من ناحية شركه.

٤٣ ـ (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) ... أي جماعة تعينه على مصيبته (وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ممتنعا بقوّته عن انتقام الله منه.

٤٤ ـ (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) ... أي يوم القيامة ، أو في تلك الحال. والولاية بفتح الواو : هي النصرة ، وبكسرها السّلطان والملك. والحقّ : بالرفع صفة للولاية ، وبالكسر صفة لله سبحانه وتعالى (خَيْرٌ عُقْباً) أي عقابة أحسن.

* * *

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

٤٥ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ... أي اجعل يا محمد لقومك

وللناس مثلا محسوسا ملموسا ، وهو هذه الحياة التي يعيشونها في الدنيا فإنها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) كالمطر الذي انحدر من السماء ونزل على الأرض. فامتصّته وشربته (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فنما وكبر ونضج واستحصد (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي يابسا وهو ما تبقّى من الأرض المحصودة من قشّ يابس ، فصارت (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تنسفه وتطيّره بهبوبها. فمثل الإنسان كمثل هذا النبات ، نهب له الحياة فينمو ويكبر ويستتمّ ، ثم يشيخ ويعجز ويموت (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا على الإنشاء والإفناء. وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما امتلأت دار حبرة ـ أي سرورا ـ إلّا امتلأت عبرة .. وسأل خالد بن الوليد بنت النّعمان بن المنذر : كيف صرتم إلى هذه المرتبة؟ قالت : طلعت الشمس علينا ولم تكن دابّة تدبّ على وجه الأرض إلّا وكانت تحت سلطاننا ، وغربت الشمس علينا فصرنا بحيث كلّ من يرانا يحترق قلبه لنا ويرحمنا.

٤٦ ـ (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ... المال والبنون ممّا يتزيّن به في الحياة فالغنى والثروة مع الأهل والأولاد من خير ما يتجمّل به الإنسان في عيشه ، وهو غاية ما يسعى إليه ويطمع فيه (وَ) لكن (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) من أعمال الخير فالصلوات وبقية الطاعات وأداء الحقوق الشرعية ، هي (خَيْرٌ) ثوابا (عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) وقيل إن الباقيات الصالحات هي الولاية ، وقيل هي التسبيحات الأربع وقيل الولد الصالح والكتاب النافع بحسب اختلاف الروايات ، فهي كلّ ما بقي من صالح عمل المؤمن على كل حال ، والله أعلم.

* * *

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى

رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

٤٧ ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) ... أي نحرّكها من مواضعها ونقلعها قلعا ونجعلها في الجوّ كالسّحاب تسير على وجه الأرض وتصير كالعهن المنفوش كما قال تعالى في آية أخرى ، ثم تعدم (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ظاهرة من تحت الجبال ليس عليها ما يسترها من جبال وغيرها ، أو مبرزة ما في بطنها (وَحَشَرْناهُمْ) جمعناهم إلى الموقف (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لم نترك أحدا إلا وقد جئنا به إلى الموقف.

٤٨ ـ (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) ... أي وقفوا للحساب بين يديه سبحانه (صَفًّا) مصفوفين ، فقلنا لهم بلسان الحال : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي أحضرناكم على الحالة التي أوجدناكم فيها حين خلقكم عراة ليس معكم من الأموال والأولاد شيء وها أنتم تعودون ترجعون إلينا في يوم الموعود وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) الخطاب خاصّ بمنكر البعث فإن كلمة (بَلْ) للإضراب عن المذكور قبلها وجعله في حكم المسكوت عنه مع كونها للعطف نحو ما ذهب زيد بل عمرو ، ففي المقام كانت الخطابات القبلية لعامة البشر فخصص الخطاب في الآية الكريمة ببعضهم وجعل ما قبلها كأن لم يكن ، فلذا جيء بكلمة (بَلْ) للإشارة إلى هذه النكتة. ومعنى الشريفة : ايها المنكرون للبعث ليس الأمر كما

تزعمون من أنّا لن نجعل لكم موعدا : وقتا للبعث والنشور والحساب. وهذا توبيخ لهم واستهزاء بهم.

٤٩ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ) ... أي جنسه من صحائف الأعمال لبني آدم في الأيمان والشمائل أو هو كناية عن الحساب فعبّر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) أي خائفين مما فيه من الذّنوب (وَيَقُولُونَ : يا وَيْلَتَنا) هذه لفظة يقولها الإنسان إذا وقع في شدّة وهمّ فيدعو على نفسه بالويل والثبور (ما لِهذَا الْكِتابِ) ما : للاستفهام في مقام التعجّب من شأن كتابه الذي (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي لا يترك الصغيرة ولا الكبيرة من السيئات والذنوب وغيرها من الأعمال ، وهذا عبارة عن الإحاطة (إِلَّا أَحْصاها) ظبطها وعدّها. وتأنيث الضمير باعتبار الجمع المستفاد من المقام ولذا أنّث الصّغيرة والكبيرة اللّتين جعلتا وصفين للذنب وقيل لمعنى الفعلة (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في صحيفة العمل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) بأن يكتب عليه ما لم يفعل أو ينقص ثواب محسن أو يزيد في عقاب مسيء ، وهذا بيان كيفيّة الظلم المنفي.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ

 يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

٥٠ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) ... ذكر هذه القصّة تقريرا للتّشنيع على أهل الكبر من المنكرين للبعث وغيرهم من العصاة بأنّ ذلك من سنن إبليس وقد سبق ذكره مع تفسيره في سورة البقرة. وقيل : كرّره تعالى في مواضع لكونه مقدّمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحالّ وهكذا كل تكرير في القرآن (أَوْلِياءَ) أي محبوبين (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) فالظالمون بئس الّذي اختاروا لأنفسهم بدلا عن الله تعالى من الشيطان وذرّيته ، والحال أنّهم عدوّ لهم.

٥١ ـ (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي الشيطان وذرّيته ما أحضرتهم حين خلق السماوات والأرض اعتضادا بهم (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي عونا فلم أنتم تتخذونهم شركائي في الطاعة والعبادة.

٥٢ ـ (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ) ... الله تعالى هو القائل : نادوا شركائي. والإضافة إليه تعالى على زعمهم توبيخا واستهزاء بهم (فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للإعانة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا) فلم يلبّوا النداء ولا ردّوا الجواب (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) اي بين الكفار وآلهتهم (مَوْبِقاً) حاجزا بين الكفار ومعبوديهم من الملائكة والمسيح وعزير ، فندخل الكفرة في النّار وهذين المعبودين في الجنة ، وفسّر الموبق بالمهلك وهو دار في الجحيم يشترك فيها العبدة وآلهتهم في العذاب.

٥٣ ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) ... أي أيقنوا الدّخول فيها (مَصْرِفاً) أي موضع فرار حيث إن النّار أحاطت بهم من كل جانب ومكان.

* * *

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

٥٤ ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) ... أي بيّنا فيه مفصّلا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شيء يحتاجون إليه من قصص الأمم الماضية للعبرة ، ومن دلائل القدرة الكاملة ازديادا للبصيرة (جَدَلاً) أي خصومة وعنادا.

٥٥ ـ (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) ... أي لم يحجزهم عن الإيمان غير طلب ما جرت العادة الإلهيّة عليه من إهلاك الظّلمة الماضين في الدّنيا ، و (الْعَذابُ) عذاب الآخرة (قُبُلاً) أي عيانا وبضمّتين جمع قبيل ، أي أنواعا.

٥٦ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) ... أي لم نبعث الأنبياء إلا ليرغّبوا الناس بالثواب والنعيم ، وليخوّفوهم من العقاب (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يخاصم الكفار أهل الحقّ دفاعا عن مذهبهم (بِالْباطِلِ) من إنكار إرسال البشر كقولهم للأنبياء : ما أنتم إلّا بشر مثلنا ، ولو شاء الله لا نزل ملائكة.

ومن اقتراحهم الآيات بعد ظهور المعجزات ، ومن نسبة السّحر والشّعر والكهانة إلى ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (لِيُدْحِضُوا بِهِ) أي ليزيلوا بالجدال (الْحَقَ) القرآن عن مقرّه أو الدّين القويم المحمّديّ. ولعل تأويل الكريمة أن غرض الكفار من جدالهم أن يستروا الحق ويظهروا الباطل ولو

لم يكونوا قادرين على ذلك (آياتِي) يعني دلائل وجودي وقدرتي ، أو المراد آيات الكتاب (وَما أُنْذِرُوا) من ذكر القيامة وعذابها ، يعني القرآن ومواعيده الأخرويّة (هُزُواً) سخرية واستهزاء.

* * *

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

٥٧ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) ... سؤال استهجان ، أي ليس أظلم من الإنسان الذي ترشده إلى الحق فيعرض عنه وينسى ويتناسى ذنوبه وقبائحه (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي أغطية وستارا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفهموا القرآن ، أو يقدّر الجارّ : أي لئلّا يفهموه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) صمما وثقلا ، كناية عن غباوة قلوبهم ومسامعهم عن قبوله ، فهم لا يهتدون أبدا.

٥٨ و ٥٩ ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) ... واضح المعنى ، وهو لا يؤاخذ الناس بذنوبهم ولا يعجّل لهم العذاب في الدّنيا (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) يوم القيامة و (مَوْئِلاً) ملجأ أو (الْقُرى) عاد وثمود وأمثالهم (لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)

أي لإهلاكهم وقتا معلوما لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون. وفي القمّي : لما سأل اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قصة أصحاب الكهف وأخبرهم بها قالوا أخبرنا عن العالم الّذي أمر الله موسى أن يتّبعه وما قصّته فأنزل الله تعالى قوله :

* * *

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥))

٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) ... أي يوشع بن نون سمّي فتى لأنه كان حديث السنّ أو لأنه كان يتبعه ويخدمه ، ولذا يسمّى العبد فتى لخدمته مولاه وملازمته له (لا أَبْرَحُ) اي لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي ملتقى بحري فارس من طرف المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما‌السلام (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أسير زمنا طويلا عن الباقر عليه‌السلام ، والحقب ثمانون سنة.

٦١ ـ (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) ... أي ملتقى البحرين ، وكان هناك صخرة عند أعين ماء فقعدا عندها ليستريحا ، فنام موسى لكثرة تعب السفر واشتغل يوشع بالتوضّؤ من تلك العين وكانت عين الحياة ، فوقع من ماء وضوئه قطرة على الحوت المشوي أو المملوح فحلّته الحياة ، وقاما ليمضيا إلى مقصدهما و (نَسِيا حُوتَهُما) أي تركاه ذهولا عنه (فَاتَّخَذَ) أي سلك الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) بارزا وقيل أمسك الله جري الماء من الحوت فلا يلتئم ، وقيل معنى (سَرَباً) دخل في الماء واستتر به.

٦٢ ـ (فَلَمَّا جاوَزا) ... (آتِنا غَداءَنا) ... أي لمّا انصرفا وقطعا مسافة قال موسى ليوشع عليهما‌السلام : أعطنا ما نتغدّى. والغداء طعام الغداة كما أن العشاء طعام العشيّ .. و (نَصَباً) عناء ، ويفهم من الإشارة أنه في غير سفره هذا لا يتعب ولا يعنى بهذه المرتبة من العناء والتعب.

٦٣ ـ (قالَ أَرَأَيْتَ) ... أي : أو تدري (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) إذ استرحنا إليها (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) عندها وقد (أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) فسهوت عنه ، وقد (اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) اي سار الحوت في البحر وكان بحيث يتعجّب منه لأنه كان ميّتا فصار حيّا ، وكان من كل مكان يسير فيه يمسكه الماء بحيث لا يلتئم كما أشرنا اليه آنفا.

٦٤ ـ (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ... أي قال موسى ليوشع (ع) (ذلِكَ) أي فقدان الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) هو الّذي نطلبه حيث إنّه علامة لمن نريده ونطلبه ، والقميّ قال : ذلك الرّجل الذي رأيناه عند الصّخرة هو الذي نريده (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) فرجعا في الطريق الذي جاءا منه على آثار أقدامهما (قَصَصاً) رجوعا من حيث جاءا. فالقصص هو مصدر بمعنى الارتداد إلى الوراء ويقال له رجوع القهقرى. ولما وصلا إلى الموضع الذي نسيا حوتهما فوجدا الخضر عليه‌السلام مستلقيا فقال له موسى (ع) : السّلام عليك ، فقال : السلام عليك يا عالم بني إسرائيل. ثم وثب فأخذ

عصاه بيده فقال له موسى : إني قد أمرت أن أتّبعك على أن تعلّمني مما علمت رشدا ..

٦٥ ـ (فَوَجَدا عَبْداً ... آتَيْناهُ رَحْمَةً) ... أي النبوّة ، أو الولاية ، أو الوحي. وهذا يدل على النبوة (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي من علم الغيب الذي لم يكتب في الألواح ، وكان موسى عليه‌السلام يظنّ أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها موجودة في تابوته ، وأن جميع العلم كتب له في الألواح. وقد روي أنه جاء طير حينئذ فوقع على ساحل البحر ، ثم أدخل منقاره في ماء البحر وأخرجه فقال : يا موسى ، ما أخذت من علم ربّك مثل ما حمل ظهر منقاري من جميع البحر. وكان عمل هذا الطير تنبيها لموسى (ع) حيث يروى أنه خطر على قلبه أنه ليس في عرصة الدنيا اليوم أعلم منه فجاءه الخطاب : يا موسى ، كثير من عبادي أعلم منك ، وأحدهم الخضر (ع) وعن ابن عباس أن موسى (ع) سأل ربّه قائلا : ربّ إنه إن كان أحد أعلم منّي فاهدني إليه. فقال تعالى : نعم عبدي الخضر أعلم منك. فقال : يا ربّ أين هو؟ فجاءه النداء : على ساحل البحر قرب الصخرة. فقال : يا ربّ ما العلامة ، وبأيّ طريق أهتدي إليه؟ فقال تعالى : بالسّمك الذي في خان طعامكم حين يحيا ويتّخذ سبيله في البحر سربا ، فاتبع طريقك تجده عند مجمع البحرين قرب الصخرة.

وهكذا فعل موسى عليه‌السلام ، فوجد صاحبه وطلب منه المصاحبة فقال له :

* * *

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ

 اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

٦٦ ـ (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) ... أي هل تسمح لي بمصاحبتك والمضيّ معك لأجل أن تعلّمني ممّا عندك من غرائب العلوم التي أجهلها وأمرت بتعلّمها منك ، وهي بعض ما منحك الله تعالى إياه و (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) ممّا أفاضه الله تعالى عليك من الهداية؟

٦٧ و ٦٨ ـ (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : أجابه الخضر عليه‌السلام قائلا : إنك يثقل عليك الصبر بمرافقتي لأنني وكّلت بأمر لا تطيقه ، ووكّلت بعلم لا أطيقه (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي كيف يتأتّى لك الصبر على أشياء قد تقع أمامك ولا تعرف وجه الحكمة فيها. وهل تسكت عمّا يحدث أمامك وأنت لا تعرف السرّ في حدوثه؟ والخبر : هو العلم ، فقد يكون لأفعالي ظاهر منكر عندك لأنك لا تعلم باطنه حتى تصبر على ظاهره. وفي قول الخضر عليه‌السلام : لن تستطيع معي صبرا ، لا يريد أن ينفي الصبر عن موسى عليه‌السلام سواء علم أم لم يعلم ، بل نفاه لأنه يخفى عليه سرّ ما يفعله الخضر عليه‌السلام ، وهكذا فإن موسى عليه‌السلام كان ينفد صبره ، ويسأل ، ثم يعود فيعتذر عن السؤال قبل أن يأخذ الجواب.

٦٩ ـ (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) ... قال موسى (ع) : سترى أنني أصبر بمشيئة الله (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وسأطيعك وأمتثل أوامرك أثناء مصاحبتي لك.

٧٠ ـ (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) ... أجابه الخضر عليه‌السلام : إذا أردت مصاحبتي ومرافقتي فلا تسأل عن شيء تراني أفعله أثناء صحبتنا (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبتدئك بتفسيره وتعليل

سبب فعلي. وعن الإمام الرضا عليه‌السلام أنه قال له : لا تسألني عن شيء أفعله ، ولا تنكره عليّ حتى أخبرك أنا بخبره. قال : نعم.

* * *

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

٧١ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) ... فمضيا معا وسارا حتى راكبا سفينة ف (خَرَقَها) الخضر عليه‌السلام ، أي ثقبها وعابها وصنع بها ما يعطّلها ويجعلها غير صالحة (قالَ) موسى (ع) : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها)

لتعرّض ركّابها للغرق في البحر؟ (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي فعلت شيئا عظيما أو منكرا ، لأن هذا العمل كان بنظره ظلما لأصحاب السفينة ظاهرا.

٧٢ و ٧٣ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ) ... قال الخضر مجيبا موسى عليهما‌السلام : ألم أقل لك سلفا : إنك لا تقدر على الصبر أثناء متابعتي لأنك لا تعرف وجه الحكمة في أفعالي؟ (قالَ) موسى (ع) : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) آمل العفو عمّا نسيته من شرط متابعتك (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تعاملني بالعسر في مرافقتك ، ولا تكلّفني ما لا أطيق في اعتراضي عليك واستباقي للحوادث.

٧٤ ـ (فَانْطَلَقا ، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) ... ثم نزلا إلى البر ومشيا فصادفا في طريقهما فتى فقتله الخضر عليه‌السلام ، ف (قالَ) موسى عليه‌السلام : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) نفسا طاهرة من الذنوب (بِغَيْرِ نَفْسٍ) بدون أن تستحق القتل ، كمن يقتل نفسا فيقتل بها (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فعلت فعلا منكرا بقتل هذا الغلام الذي لم نعرف جريرته وهو لم يقتل أحدا ، بل لمّا يزل دون الحلم.

٧٥ و ٧٦ ـ (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ) ... مرّ تفسيرها ، ف (قالَ) موسى عليه‌السلام : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) إذا استفهمت منك عن شيء تفعله من الآن وصاعدا فلا ترافقني ولا تتّخذني صاحبا (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي أنك معذور من جانبي لأنني أنا الذي لم يلتزم بشرط مصاحبتك.

٧٧ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) ... فتابعا سيرهما إلى أن دخلا قرية روي عن الصادق عليه‌السلام أنها هي الناصرة وإليها ينسب النصارى ، وكان عادتهم أن يسدّوا باب القرية عند غروب الشمس ، وبعد ذلك لا يفتحون لأحد إلى طلوعها. وموسى والخضر ويوشع عليهم‌السلام وردوا على تلك القرية بعد الغروب ، وكلّما اجتهدوا وطلبوا منهم أن يفتحوا لهم الباب لم يجيبهم أحد. وقد (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي طلبا الطعام إذا

قالا : إذا لم تؤونا فإننا جوعانون فجيئونا بطعام وشراب. لم يجبهما أحد من أهل القرية (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) فبقيا دون أكل خارج سور القرية إلى أن أصبح الصباح (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي رأيا في ضاحية القرية حائطا يكاد ينهدم وهو مشرف على الانهيار (فَأَقامَهُ) بناه الخضر وساعده موسى ويوشع عليهم‌السلام ولكنه (قالَ) له : (لَوْ شِئْتَ) أردت وطلبت (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أجرة نشتري بها طعاما نقتات به.

٧٨ ـ (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) ... أي أن قولك : لو شئت لاتّخذت عليه أجرا ، صار سببا لمفارقتك أخذا بقولك السابق إذ قلت : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، وقد ذكر الفراق ثم كرّر ذكر البين ليؤكد عدم مصاحبته بعدها (سَأُنَبِّئُكَ) سأخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي بحكمة الأشياء التي لم تقدر على السكوت عليها حتى تعرف وجه الحكمة فيها. والتأويل هو إرجاع الكلام وصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى أخفى منه ، وهو مأخوذ من آل إذا رجع. ويقال : تأوّل فلان الآية ، أي : نظر إلى ما يؤول إليه معناها.

* * *

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما

وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

٧٩ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ... أمّا السّفينة التي خرقتها فإنها ملك لبعض الفقراء من البحّارة ، وقد أحدثت فيها ثقبا (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) قصدت أن أجعل فيها عيبا لتصير غير صالحة للاستعمال الفوري رأفة بأصحابها المساكين إذ (كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ظالم مستبدّ (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) من أصحابها ليسخّرها في مصالحه الشخصيّة. وبذلك أعفيت سفينتهم من التسخير في هذه النّوبة. وقد قال بعض أرباب التفاسير : كما يطلق (الوراء) على الخلف ، يطلق على الأمام. ويحتمل أن يكون المقصود هنا الخلف ، بمعنى أن ذلك الملك كان يتعقّب البحارة ويأخذ السّفن السليمة الصالحة بعلم أصحابها أو بدون علمهم ، وقد علم الخضر عليه‌السلام بذلك ففعل ما فعله لمصلحة المساكين الذين كانوا غافلين عن إحداث عيب بسفينتهم لإعفائها من المصادرة.

٨٠ و ٨١ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ... أي الفتى الذي قتلته هو ابن لمؤمنين مرضيّين وهو مكتوب في جبينه أنه كافر ، وقد عرف ذلك الخضر عليه‌السلام بعد أن تأمّله بدقّة ، وبعد أن رأى حسنه وأدرك تعلّق أبويه به ففعل ما فعله من قتله وعلّل ذلك لموسى بقوله : (فَخَشِينا) أي خفنا (أَنْ يُرْهِقَهُما) يثقل كاهلي أبويه بما يحمّلهما إياه (طُغْياناً) عنادا وظلما و (كُفْراً) بسبب تعلقهما به وافتتانهما به ، فقتلناه و (فَأَرَدْنا) رغبنا وطلبنا (أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أن يرزقهما غيره ولدا خيرا منه طهارة وصلاحا (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أشد عطفا عليهما ورحمة بهما. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : أبدلهما الله جارية ، فولدت سبعين نبيّا. وقيل تزوّجها نبيّ فولدت سبعين نبيّا.

٨٢ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) ... وأمّا الحائط

الذي بناه في المدينة دون أجر فهو لولدين فقدا أبويهما (وَكانَ تَحْتَهُ) أي تحت الجدار (كَنْزٌ لَهُما) الكنز هو المال المدفون في الأرض من ذهب أو فضة. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذا الكنز فقال : أما إنه ما كان ذهبا ولا فضة ، وإنما كان أربع كلمات : لا إله إلّا أنا ، من أيقن لم يضحك سنّه ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله. وروي في هذا الكنز أخبار لا حاجة لسردها. (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) مؤمنا بالله مطيعا له ، فعن الصادق عليه‌السلام أيضا : إن الله ليحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة. وإن الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة ، وقيل سبعة آباء ، فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن صلاح الآباء ينفع الأبناء ويفيد الأحفاد وأبناءهم. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) شاء أن يصلا في العمر إلى الوقت الذي يعرفان فيه ما ينفعهما وما يضرهما ، أي أن يكبرا ويعقلا (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) يكشفانه (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) لطفا منه بهما (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يعني أنني ما قمت ببناء الجدار من تلقاء نفسي ، بل أمرني بذلك ربّي. وفي المجمع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : وددنا أن موسى عليه‌السلام كان صبر حتى يقصّ علينا من خبرهما. (ذلِكَ تَأْوِيلُ) تفسير (ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) هي : تستطع وقد حذفت التاء تخفيفا.

ولهذه القصة فوائد جمة ، منها أن لا يعجب المرء بنفسه وبعلمه ، وأن لا يبادر إلى إنكار ما لا يعرفه أو لا يستحسنه أو لا يدرك سرّه ، ومنها أن يداوم على التعلّم ويتذلّل للمعلّم ويراعي الأدب في المقال وتوجيه السؤال وغير ذلك من قواعد حسن السلوك.

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣)

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨))

٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) ... أي يسألك يا محمد كفار المدينة ويهودها عن الروح وأصحاب الكهف والخضر (ع) وذي القرنين كما ذكرنا سابقا ، ف (قُلْ) لهم : (سَأَتْلُوا) أقرأ (عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي خبرا وبيانا عن حاله. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن ذا القرنين كان غلاما من أهل الروم ، ثم ملك وأتى مطلع الشمس ومغربها وبنى السدّ في المشرق. وعن عليّ عليه‌السلام : كان ذو القرنين عبدا صالحا أحبّ الله فأحبّه ، فأمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه فغاب. ثم رجع فدعاهم فضربوه على قرنه الآخر ، فبذلك سمّي ذا القرنين ، وقيل لأنه ملك فارس والروم ، أو المشرق والمغرب وهما طرفا الكرة الأرضية ، والقرن جاء بمعنى الطرف ، وذكر وجوه أخر في سبب التسمية لا فائدة من سردها.

٨٤ ـ (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ... أي جعلنا له فيها سلطانا وقدرة كاملة حتى استولى عليها وقام بمصالحها. فقد روي عن عليّ عليه‌السلام أنه قال : سخّر الله له السحاب فحمله عليها ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء ، فهذا هو من معاني تمكينه في الأرض مضافا إلى تسهيل المسير فيها وتذليل طرقها وحزونها. فقد يسّرنا له ذلك كلّه (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) أي أعطيناه من كل شيء في الأرض سببا

وطريقة توصله إلى ما يريد وتبلغه ما يقصده.

٨٥ و ٨٦ ـ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) : أي فاتّخذ طريقا وسلكه نحو الغرب (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض. ومعناه أنه انتهى إلى آخر أمكنة العمران من جهة المغرب (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الحمأ أي الطّين الأسود المنتن ، وقرئ : (في عين حامية) أي حارّة. فقد وجد الشمس تغرب هناك وإن كانت بالحقيقة لا تغرب في مرمى بصر ولكن ظلّها في الماء خيّل له ذلك لأن الشمس في واقع الأمر لا تزايل الفلك ولا تدخل في عين ماء يعيش قربها قوم ويقيمون آمنين من الاحتراق بحرارتها ، بل هي لا تبارح مجاريها في النظام الكونيّ ، وإنما ذكر القرآن الكريم ما يتراءى للعالمين من شروق الشمس وغروبها بهذا الوصف الدقيق المعجز الرائع .. والحاصل أن ذا القرنين لمّا بلغ ذلك الموضع رأى كأنّ الشمس تغيب في تلك العين ، التي هي في الواقع ساحل المحيط الأطلسي ، حيث وصل إلى هناك (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا كفرة فجرة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) موحين له وملهمين : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) هؤلاء القوم بقتلهم والفتك بهم لكفرهم (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) أو أن تسلك فيهم طريقة الإحسان إليهم بهدايتهم إلى الإيمان والهدى.

٨٧ و ٨٨ ـ (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) ... أي قال ذو القرنين في نفسه : إنني سأدعوهم إلى الإيمان فإن أصرّوا على الكفر فقد ظلموا أنفسهم ، فنعذّب المصرّ بالقتل أو بالأسر في دار الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) بعد الموت (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي منكرا تبلغ شدته بحيث لا يكون معهودا مثله. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) صدّق واعتقد بالله تعالى وبالدّين (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) حسنا مرضيّا (فَلَهُ) منّا ومن ربّه عزوجل (جَزاءً

الْحُسْنى) حيث يكافأ بأحسن ممّا يأمل (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي سنأمره بما يسهل عليه القيام به من التكاليف.

* * *

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))

٨٩ و ٩٠ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : أي أخذ طريقا أو دليلا يوصله إلى المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي وصل إلى الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من المعمور (وَجَدَها تَطْلُعُ) تشرق (عَلى قَوْمٍ) جماعة (لَمْ

نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي أنهم عراة لا يتّقون أشعّتها بأيّ لباس ، وليس في أرضهم أي جبل أو شجر أو بناء لأنها أرض رخوة لا يثبت عليها بناء مضافا إلى أنهم لم يعرفوا بناء البيوت ولا وضع الثياب على الأجساد.

٩١ ـ (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) : أي أن أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكانة وبسطة الملك والسلطان النافذ على الشرق والغرب ، مضافا إلى إحاطتنا ومعرفتنا بما معه من جند كثير ، وعدّة عديدة ، وعلم غزير ، ممّا لم يحط به غير اللطيف الخبير.

٩٢ و ٩٣ ـ (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) : ثم تابع مسيره (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) أي وصل إلى ما بين جبلين فاجتازهما ف (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) وراءهما (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) لم يفهموا قوله ولا عرف لغتهم لغرابتها ولقلة فهمهم في التعبير والإشارة. والظاهر أنهم الصينيون وما وراءهم في منقطع بلاد التّرك في أقصى الشرق ، وقد ألهمه الله تعالى كيفية التفاهم معهم كما علّم سليمان عليه‌السلام منطق الطير.

٩٤ ـ (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) ... أي أنهم كلّموه رأسا أو بواسطة ترجمان ولكن الأول أصح بمقتضى عموم قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ومنه تعليمه اللّغات على اختلافها وكثرتها حتى يقدر على إرشاد الناس عامة والتكلم معهم في أمور معاشهم ومعادهم وانتظام ممالكهم وما يحتاجون إليه ـ أجل ، قالوا له : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه‌السلام (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالقتل والنهب والإتلاف ، فقد قيل إنهم كانوا يأكلون كلّ ما يدبّ على الأرض حتى الناس (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) مبلغا من المال. وقرئ : خراجا ، والفرق بينهما أن الخراج اسم لا يخرج من الأرض ، والخرج اسم لما يخرج من المال. وقيل : الخراج : الغلة ، والخرج : الأجرة. فهل ترضى بأخذ مبلغ من المال (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي من أجل أن تجعل فاصلا ما بيننا وبينهم يحجزهم عنّا كالسور وغيره.

٩٥ ـ (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ... أي أنه أجابهم قائلا : إن ما ملّكني إياه ربّي ، وأقدرني عليه من المال والسلطان (خَيْرٌ) ممّا تبذلون لي من مالكم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) فساعدوني بقوة الرجال. فمعنى القوة قوة الأبدان ، أو أن المراد آلات العمل وبعض لوازمه كالحديد والصفر ، أو المراد كلاهما ، فأعينوني بما في أيديكم من قوة (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي حاجزا حصينا متراكبة طبقاته بعضها فوق بعض.

٩٦ و ٩٧ ـ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ... أعطوني قطع الحديد التي هيأتها لكم بالاقتدار الربّاني إذ وهب لي ذلك سبحانه من فضله وأعطاني إياه .. ثم مضى في العمل (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدف : منقطع الجبل وجانبه. فقد عمل بين منقطع الجبلين وما زال يردم الحجارة والأتربة وينضّد الزّبر ويركّبها بعضها فوق بعض ، ويشيّد ردما يقوم على قطع حديد متراكبة منظّمة يتخلّل صفوفها الفحم ثم (قالَ) ذو القرنين عليه‌السلام : (انْفُخُوا) بالمنافخ التي صنعها لهذه الغاية من أجل إشعال النار وإضرامها في مختلف أجزاء الردم ، فنفخوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي صيّر الحديد نارا (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أعطوني النحاس الذي أعددته لأفرغه على الحديد الملتهب فيمتزج بعضه ببعض ويتماسك فيصير جسما واحدا. وقيل قصد القطر الذي تطلي به الإبل التي يظهر فيها الجرب ، طلبه ليريقه على الحديد فيزيد في اشتعال النار ويساعد على التحام الحديد لشدة الحرارة التي يولّدها عند احتراقه. وهكذا عقد بينهم هذا السد الحاجز (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي ما قدروا على تجاوزه والصعود عليه لعلوّه وارتفاع بنائه ونعومة ملمسه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) ولا قدروا على ثقبه وتدميره لصلابته وثخنه ، فقد قيل إن ارتفاعه كان خمسين ذراعا ، وثخنه ثمانية اذرع ، وقد قال صاحب الكشاف : قيل : بعد ما بين السّدّين مائة فرسخ. يقصد طول السّد من طرفيه مما يلي الجبلين.

٩٨ ـ (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) ... الذي قال هو ذو القرنين عليه‌السلام

الذي حمد الله تعالى على الإقدار على صنع ذلك السد ، وقال : هو رحمة من ربّي على عباده ، وسيبقى طويلا يحجز بين يأجوج ومأجوج والناس (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) فإذا اقترب مجيء الساعة وقيام القيامة ، وهو وعد ربّي جلّ وعزّ بالبعث والنشور ، أو هو خروج يأجوج ومأجوج قبيل ذلك ، فحينئذ يجعله ربّي سبحانه مدكوكا مهدوما قد خسفت به الأرض فانهار بناؤه حتى سوّاه بوجه الأرض. وقد قرئ : دكّا ودكّاء بالمدّ أي أرضا مستوية (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي أنه كائن قطعا ولا مناص من وقوعه.

* * *

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

٩٩ ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) ... أي خلّيناهم يوم خروجهم من السّد يندفعون بكثرة ، حالهم حال المياه الكثيرة التي تضطرب أمواجها وتتلاطم في جريانها واندفاعها. وقد قسموا الدنيا إلى سبعة أقاليم ، ثم عدّوا أحدها يأجوج ومأجوج لكثرتهم إذ قيل إنهم يوم خروجهم من السد وانبساطهم على وجه الأرض تكون مقدّمتهم بالشام وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية. وفي الحديث : يخرجون على الناس فيشربون المياه ، ويتحصّن الناس في حصونهم منهم ، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع السهام وفيها مثل الدّماء فيقولون قد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم بقّا أو نقّا على اختلاف النّسخ. وبقّ

هو جمع بقّة وهي الحشرة التي تلسع النائم في ظلام الليل وتمنعه النوم ، ونقّ جمع نقوق وهو الضفدع أو العقرب ، فيدخل البق في آذانهم والضفادع في أقفائهم فيهلكون بهذا البلاء. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن دوابّ الأرض لتسمن وتسكر من لحومهم سكرا. فقيل يا رسول الله متى يكون ذلك؟ ... قال : حين لا يبقى من الدنيا إلّا مثل صبابة الإناء. وقيل : هو من أشراط الساعة ، وعلم من أعلامها .. وقيل إن المراد من (بَعْضَهُمْ .. فِي بَعْضٍ) يعني الخلق من الإنس والجن يختلطون بعضهم ببعض في يوم القيامة بدليل تعقّبه بقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وقد اختلف في شكل ذلك الصور فقيل هو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ،! والثانية النفخة التي يصعق منها من في السماوات والأرض وبها يموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ، فيحشر الناس بها من قبورهم. وقيل : صور : جمع صورة ، فإن الله سبحانه وتعالى يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام أمهاتهم ، ثم ينفخ فيهم كما نفخ وهم في الأرحام (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي حشرناهم في صعيد واحد للحساب والجزاء فكانوا مجتمعين تحت سلطتنا.

١٠٠ و ١٠١ ـ (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) : أي أبرزناها لهم حتى شاهدوها قبل دخولها ، فهم (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي أنه تعالى وصف أولئك الكافرين بأنهم غفلوا عن الاعتبار والتفكّر بقدرته وآياته ودلائل توحيده ، فصاروا بمنزلة من يكون على عينيه غطاء يمنعه عن إدراك المرئيّات (وَكانُوا) مع ذلك العمى (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي يعرضون عن استماع ذكر الله تعالى ، والقرآن الكريم ذكر له سبحانه ، فكأنهم كانوا صمّا عنه لا يسمعونه. ويمكن أن يكون معنى هذه الآية الشريفة أنّ أولئك الكفار ، لفرط معاندتهم وجحودهم ، لا يتفكّرون في آيات الله ولا ينظرون إليها ، ولا يسمعونها بسمع القبول ولا يبصرونها بعين الاقتناع والحقيقة ، فكأنّ ستارا يغطّي أعينهم وصمما يثقل أسماعهم فهم لا يرون ولا يسمعون آيات التوحيد والنبوّة وأوامر الله تعالى ونواهيه.

١٠٢ ـ (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) ... الهمزة للاستفهام والاستفسار والإنكار ، أي : هل ظنّوا أن يتخذوا عبادي الذين خلقتهم ودانوا بربوبيّتي : كالملائكة وعزير وعيسى ـ هل زعموا أنهم يجعلونهم (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) ... آلهة ومعبودات لهم ، وأن ذلك ينجيهم من عذابي؟ وقد حذف هذا الذيل للقرينة ، أي أنه لا ينفعهم ذلك ولا يخلّصهم من غضبي وعذابي أبدا. وعن ابن عباس : المراد بعبادي : هم الشياطين والأصنام (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا وأعددنا (جَهَنَّمَ) بعذابها الشديد (لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي مأوى ومثوى ، وهو ما يهيّأ للضيف مطلقا للنزول فيه.

* * *

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

١٠٣ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) : أي قل يا محمد للناس : أتريدون أن نخبركم بأشد الناس خسرانا في العمل يوم القيامة؟ فإليكم ذلك فإنهم هم :

١٠٤ ـ (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ... أي ضاع عملهم وكدّهم لكفرهم فلم يأجرهم الله عليه. وفي القمّي أن هذه الآية والآية التي تليها نزلتا في اليهود وجرتا في الخوارج من أهل حروراء التي هي قرية بقرب الكوفة نسب إليها الحرورية ـ بفتح الحاء وضمّها ـ لأن أول مجتمعهم

كان فيها وخرجوا من الدين ببدعهم ومروقهم وضلالهم. والذين يضيع عملهم في الآخرة هم :

١٠٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) ... أي جحدوا دلائل ربّهم من القرآن وغيره ، وأنكروا البعث والقيامة ولقاء الله للثواب والعقاب (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت بكفرهم لأنهم أوقعوها على خلاف ما أمر الله سبحانه (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا نرفع لهم ميزانا توزن به أعمالهم إذ ليس لهم أعمال بعد الحبوط ، أو أن المعنى : لا نجعل لهم مقدارا ولا اعتبارا. وفي الاحتجاج عن مولانا أمير المؤمنين عليه صلوات الله ـ في حديث يذكر فيه أهل الموقف وأحوالهم ، ومنهم أئمة الكفر وقادة الضلالة ـ : فأولئك لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا : لا يعبأ بهم لأنهم لم يعبأوا بأمره ونهيه ، فهم في جهنم خالدون ، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون .. والحاصل أنه سبحانه نبّه عباده في هذه الكريمة بأنّ من لا يعتني بأوامره ونواهيه لا قيمة له عنده ولا كرامة ، ولا يهتمّ به بل يستخفّ به ولا يقيم لعمله وزنا. يقول العرب : ما لفلان عندنا وزن ، أي : منزلة وقدر ، وقد يوصف الجاهل بأنه لا وزن له ، لخفّته وقلة تثبّته. والقرآن الكريم نزل على لسان القوم.

١٠٦ ـ (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ... هي تفسير لسابقتها بمعنى أن عدم اعتبار عملهم ذا أهمية لأنه يخالف أوامر الله تعالى ونواهيه ، جعل جزاءهم يوم القيامة جهنّم بسبب عنادهم للحق و (بِما كَفَرُوا) بالدعوة الى الله (وَ) بما (اتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) ولأنهم جعلوا رسلي في دار الدنيا موضع هزء وسخرية إذ سخروا بهم وبرسالاتهم.

ثم إنه سبحانه وتعالى بعد بيان حال الكفرة ، أخذ ببيان حال المؤمنين فقال عزّ من قائل :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

١٠٧ و ١٠٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... بعد الحديث عن الكفرة الجاحدين الذين يكون مثواهم جهنم لخسرانهم وخفّة ميزانهم ، أكّد تبارك وتعالى أن المؤمنين المصدّقين به وبرسله وآياته (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) في يوم القيامة ، فهي مثواهم الذي يخلدون فيه ويتنعّمون ولا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الأولى. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : الجنّة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها درجة ، منها تفجّر أنهار الجنّة. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. وقيل هو أطيب موضع في الجنة ، وأفضلها. فالمؤمنون الذي كانت أعمالهم صالحة هم أصحاب أعلى درجات الجنات ومنازلهم في الفردوس ، يكونون (خالِدِينَ فِيها) يعيشون أبدا إلى ما لا نهاية (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) لا يطلبون تحوّلا عنها إلى غيرها إذ لا أطيب منها ولا أحسن ولا أكثر نعيما مقيما.

١٠٩ ـ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) ... قيل (المداد) جمع مدّة وهي المرة التي يستمد بها الكاتب من الحبر لكتابته. وقيل هو الحبر ذاته. كما قيل (الكلمات) هي العلم الذي لا يدرك ولا يحصى ، ومعلوم

أن المتناهي لا يعني البتة بغير المتناهي كعلم الله تعالى وحكمه .. فقل يا محمد ، لو كان البحر حبرا أو مددا تكتب بها كلمات ربي ويسجّل به علمه (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) انتهى (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وتنتهي آياته وعلمه (وَلَوْ جِئْنا) لهذا البحر (بِمِثْلِهِ مَدَداً) عونا يرفده ويساعده ولو كان مثله كبرا وحجما .. ونظر هذه الكريمة قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ..) الآية. وقيل في معناها غير ما ذكرناه ومن شاء فليراجع.

١١٠ ـ (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) ... أي : قل يا محمد للناس : أنا مخلوق لله تعالى كما أنكم مخلوقون له ، والفرق بيني وبينكم أني مختار لوحيه سبحانه دونكم ، اختصّني بذلك كما يختص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال وبعض الكمالات الأخر دون بعض ، فلا تنكروا عليّ اختصاصي منه جلّ وعلا واختياري للنبوّة من بينكم والإيحاء (إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا ربّ سواه ولا خالق ورازق غيره ، ولا شريك له في خلقه وملكه (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي يطمع في الحصول على جزاء ربّه ويأمل بنيل ثوابه ويقرّ بالبعث والحساب والوقوف بين يديه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي خالصا لله يتقرب به إليه تعالى (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي لا يقصد بعمله الرياء الذي يسمّى بالشّرك الخفيّ الذي يكون في الأعمال. وقد ذكر العياشي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن تفسير هذه الآية فقال : من صلّى وصام أو أعتق وحج يريد محمدة الناس فقد أشرك في عمله ، وهو شرك مغفور ، يعني أنه ليس من الشّرك الذي قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، فإن المراد بذلك الشّرك الجليّ الذي يشارك معه تعالى غيره في العبادة ، كعبدة الأصنام والكواكب والملائكة وعزير وعيسى عليهما‌السلام ، ويسمى الشّرك بالذات وصاحبه غير مغفور له كما يستفاد من ظاهر الكريمة. ولعله يشير إلى ذلك ما عن عطا عن ابن عباس : أن الله تعالى قال : لا يشرك بعبادة ربه أحدا ، ولم يقل : ولا يشرك به أحدا ، لأنه أراد العمل الذي يعمل لله ويحب أن يحمد عليه ، قال : ولذلك يستحب للرجل أن يدفع صدقته إلى غيره كي يقسمها ولكيلا

يعظّمه من يصله بها. وروي أن أبا الحسن الرّضا عليه‌السلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء ، فقال عليه‌السلام : لا تشرك بعبادة ربك أحدا ، فصرف المأمون الغلام وتولى إتمام وضوئه بنفسه. وفي رواية عنه عليه‌السلام : كان يتوضأ للصلاة ، فأراد رجل أن يصب الماء على يديه ، فأبى وقرأ هذه الآية وقال عليه‌السلام : وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة ، فأكره أن يشركني فيها أحد. ويحتمل أن يكون نهيه للمأمون وإباؤه للتنزيه ، يعني شرك تنزيه ، بخلاف القسمين الأولين فإنهما كانا للتحريم .. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأ هذه الآية عند منامه إلى آخرها ، سطع له نور من المسجد الحرام ، حشو ذلك النور ملائكة يستغفرون له حتى يصبح ، هذا إذا كان القارئ من غير أهل المسجد الحرام بقرينة رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ قال : ما من عبد يقرأ قل إنما أنا بشر إلخ ... إلا كان له نور من مضجعه إلى بيت الله الحرام. فإن كان من أهل بيت الله الحرام ، كان له نور إلى بيت الله المقدس. وعن الصادق عليه‌السلام : ما من عبد يقرأ آخر الكهف عند النوم ، إلّا تيقّظ في الساعة التي يريدها. وفي ثواب الأعمال عنه عليه‌السلام أيضا : من قرأ سورة الكهف في كل ليلة جمعة ، لم يمت إلّا شهيدا ، أو يبعثه الله من الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء .. أللهم وفّقنا لذلك.

* * *

سورة مريم

مكيّة ، وهي ثمان وتسعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

١ ـ (كهيعص) : في الإكمال ، عن الحجة القائم عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، في حديث ، أنه سئل عن تأويلها فقال : هذه الحروف من أنباء الغيب ، أطلع الله عبده زكريّا عليها ، ثم قصّها على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذلك أن زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرائيل فعلّمه إياها. فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليّا وفاطمة والحسن عليهم‌السلام سرّي عن همّه وانجلى كريه ، وإذا ذكر الحسين عليه‌السلام خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة ـ أي انقطاع النفس من شدة الحزن ـ.

فقال ذات يوم : إلهي ما بالي إذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ .. فأنبأه تعالى عن قصّته ، فقال : كهيعص ، فالكاف اسم كربلاء ، والهاء : هلاك العترة ، والياء : يزيد وهو ظالم الحسين عليه‌السلام ، والعين : عطشه ، والصاد : صبره. فلمّا سمع بذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ، ومنع فيها الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكانت ندبته : إلهي أتفجع خير خلقك بولده؟ أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه؟ إلهي أتلبس عليّا وفاطمة عليهما‌السلام ثياب هذه المصيبة؟ إلهي أتحل كرب هذه الفجيعة بساحتهما؟ ثم كان يقول : إلهي ارزقني ولدا تقرّبه عيني عند الكبر ، وأجعله وارثا ووصيّا ، واجعل محلّه منّي محلّ الحسين عليه‌السلام. فإذا رزقتنيه فافتنيّ بحبّه ثم افجعني به كما تفجع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى ، وفجعه به. وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين كذلك.

وقيل هو اسم من أسمائه تعالى ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في دعائه : يا كهيعص. كما روي أن هذه أسماء الله مقطّعة ، وقد قلنا سابقا : هذا ونظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور ، من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو هي رموز بينة وبين ربّه سبحانه لا يعرفها إلّا الراسخون في العلم ، والله تعالى أعلم.

٢ ـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) : أي هذا الذي يذكر هو ذكره ، فهو خبر لمبتدأ محذوف. ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد. وزكريّا اسم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، كان من أولاد هارون بن عمران. أو أن المعنى : هذا المتلوّ بيان لقصة زكريّا. ووصفه بالعبودية كاشف عن سموّ مقامه وعلوّ رتبته كما قلنا في سورة الإسراء بشأن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث وصفه بذلك الوصف الشريف :

٣ ـ (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) : أي حين دعا ربّه دعاء ستره عن الآخرين وكان بينه وبين ربّه تعالى. ويمكن أن يستشم من هذه الآية استحباب الدعاء

إخفاتا ، ولعلّ وجهه أن ذلك يكون أبعد عن الرّياء وأقرب إلى الإجابة. كما أن هناك فرقا في موارد الدعاء ولا سيّما فيما يدعى به لنفسه أو لغيره ، أو أنه يدعى له. ويلاحظ أن دعاء زكريا عليه‌السلام كان دعاء شيخ كبير امرأته عاقر ، وقد يستهزئ به الناس إذا سمعوا بذلك ، ولذا أخفت في دعائه ومناجاته حين طلب الولد وهذا لا يعني أنه قصد استحباب الدعاء هكذا بل فعله لأن طلبه كان في أعين الناس عجبا ، ولكن لا يخفى أن الدعاء خفية يكون أشدّ إخباتا وأكثر إخلاصا ـ كما قلنا ـ ولا أحد ينكر ذلك. وعلى كل حال كان دعاؤه عليه‌السلام كما يلي :

٤ ـ (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ... قد أضاف الوهن إلى العظم مع صلابته لكي يفهم ضعف جميع أعضائه ، فإن العظم إذا وهن ، أي ضعف ، ظهر الانتكاس في عامّة الجسد من اللحم إلى العصب إلى غير ذلك من أجزاء البدن. فقد ذكر وهن عظمه وضعفه وقال : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي عمّه البياض وتلألأ فيه الشيب لكثرة بياضه. وكان غرضه إظهار عجزه وتذلّله ، ثم أتمّ : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي بدعائي إيّاك فيما مضى من أيام عمري لم أكن مخيّبا محروما ، بل كنت كلما دعوتك استجبت لي. وهكذا لا تخفى الإشارة إلى أنه تعالى عوّده الإجابة وأطمعه فيها ، ومن حقّ الكريم أن لا يخيّب من طمع به وبكرمه ، وأن لا يحرمه إذا سأله.

٥ و ٦ ـ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ... الموالي هنا : هم الذين كانوا يلونه في النسب وهم بنو عمّه. وخوفه إياهم (مِنْ) ورائه ، أي بعد موته ، يعني أنه خاف أن يموت ويرث ماله من لا يبالي بالدّين فيصرفه فيما لا ينبغي إذا كان من يرثه من أشرار بني إسرائيل. وقد قيل كانوا بني عمومته ، وقيل كانوا الكلالة والعصبة ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : هم العمومة وبنو العم (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي أنها لا تلد أبدا (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي ارزقني ولدا ذكرا يليني ويكون أحق وأولى بميراثي

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أي يرث النبوّة منيّ ومنهم وما هو دونها وأعم منها (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيّا عندك وعند الناس جميعا. وقد قيل إن يعقوب هو ابن ماثان ، وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم أم عيسى عليهما‌السلام ، وقيل بل يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم ، والظاهر أنه الأصح ، ولكننا لسنا بصدد تحقيق هذه الجهة لأنها خارجة عن مقصدنا ، ولكننا ذكرنا القولين واقتصرنا الكلام على ذلك.

وفي القمّي أنه لم يكن يومئذ لزكريا ولد يقوم مقامه ، ويرثه ، وكانت هدايا بني إسرائيل ونذورهم تعطى للأحبار ، وكان زكريا عليه‌السلام رئيس الأحبار. وكانت امرأته أخت أمّ مريم عليها‌السلام بنت عمران بن ماثان. وكان بنو ماثان إذ ذاك رؤساء بني إسرائيل وبنو ملوكهم ، وهم من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام. ومن هذه الرواية يستفاد أن قول زكريا عليه‌السلام : يرثني ، ما كان منحصرا بإرث النبوّة بل هو أعمّ منها ويشمل الأموال أيضا لأن فيه رئاسة الأحبار وما يلي تلك الرئاسة ممّا ذكرنا من الهدايا والنذور الكثيرة التي ينبغي أن تصرف في وجوه الحلال التي ترضي الله عزوجل. وقد استدلّ أصحابنا رضوان الله عليهم بهذه الآية على أن الأنبياء يورّثون المال ، حتى أن بعضهم اختصّ الإرث المذكور في الآية بالمال دون النبوّة والعلم لأن لفظ الإرث والميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلّا على ما تركه الميت وينتقل منه إلى وارثه ، وهو ظاهرة في الأموال ، بل ولا يستعمل في غيره إلّا على سبيل التوسع والمجاز ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير قرينة وليست موجودة في الآية ، بل القرينة على خلافه فإن قوله عليه‌السلام في دعائه : واجعله ربّ رضيّا ، يعني : مرضيّا عندك ممتثلا لأمرك ، ومتى حملنا الإرث على النبوّة لم يكن لذلك معنى ، بل كان من اللغو المحض ، لأنه يشبه أن يقول الواحد : اللهم ابعث لنا رسولا واجعله صالحا عاقلا مرضيّا في أخلاقه وأعماله ، فإن هذا الطلب من تحصيل الحاصل إذ

لا يعقل إرسال رسول غير صالح ولا عاقل ولا مرضيّ عنده للنبوّة حتى يسأل زكريّا منه تعالى هذا السؤال ..

* * *

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

٧ ـ (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ... ها هنا حذف تقديره : فاستجبنا دعاءه وقلنا له على لسان الملائكة : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) نخبرك الخبر السارّ المفرح (بِغُلامٍ) ولد ذكر يولد لك يكون (اسْمُهُ يَحْيى) كما قدّرنا من عندنا ، و (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم نخلق قبله أحدا سمّي بهذا الاسم. وفي هذا الكلام تشريف له من وجهين : أحدهما أنه سبحانه وتعالى تولّى تسميته ولم يكلها إلى أحد من الأبوين أو غيرهما ، والثاني أنه جلّ وعزّ سمّاه باسم ما تسمّى به غيره من قبله ، ليدلّ الاسم على فضله وشرافته.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : وكذلك الحسين عليه‌السلام : لم يسمّ به أحد قبله ، ولم يكن له من قبل سميّا ، ولم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا. قيل : وما كان بكاؤها عليهما؟ قال : كانت تطلع حمراء ، وتغيب

حمراء ـ أي الشمس تطلع في حمرة عند الشروق ، وتغيب في حمرة تبقى كثيرا بعد الغروب ـ وكان قاتل يحيى ولد زنى ، وقاتل الحسين ولد زنى.

وقد روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال : خرجنا مع الحسين عليه‌السلام ، فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا. وقال يوما : من هوان الدّنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريّا عليهما‌السلام أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل.

٨ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ... أي قال زكريّا عليه‌السلام ذلك في مقام التعجب لأن الولد من الشيخ الفاني والعجوز العاقر أمر عجيب من حيث إنه خرق للعادة ومغاير لسنّة الله تبارك وتعالى ، لا من حيث قدرته عزّ اسمه وقوّته الكاملة ، ولو لا ذلك لم يستوهب زكريّا منه الولد أولا وبالذات لأنه عليه‌السلام منزّه عن أن يخطر في قلبه الشريف معنى استحالة الإجابة لأنه يعلم قدرة الله سبحانه وتعالى. ولكنه تعجّب وقال : (أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولد ، و (امْرَأَتِي) زوجي (عاقِراً) لا تلد أصلا ، وقد بلغت سنّ اليأس (وَ) أنا (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي وصلت إلى سنّ العجز. والعتوّ كبر السنّ والشيخوخة أيضا. وقيل : كان له تسع وتسعون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون سنة يوم دعائه.

٩ ـ (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ... أي قال الله تعالى له ، أو الملك الآمر الذي يكوّن الغلام من المرأة العاقر والشيخ العتيّ بأمر الله ولو كان خلاف السنّة الجارية العاديّة. والحقيقة أن الله تعالى أنزل الأمر أنه (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل يسير في كمال السهولة (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي أنشأتك من العدم ولم تكن موجودا قبل خلقك. فإزالة عقر زوجتك ، وإرجاع قوّتك أهون بنظر الاعتبار من بدوّ الإنشاء. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : إنما ولد يحيى بعد البشارة بخمس سنين .. وقد فرح زكريّا عليه‌السلام بالبشارة ولكنه ما كان يعرف موعد التولّد ، وهل يكون بعد البشارة

بلا فصل أو أنه في وقت مؤخّر موقّت. ولذلك سأل الله سبحانه العلامة فقال :

١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ... أي علامة أستدل بها أمام الناس على الحمل به وعلى صدق وعدك (قالَ) الله سبحانه وتعالى بواسطة الملك : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) يعني أنك تبقى ثلاث ليال غير قادر على مكالمة الناس ومخاطبتهم من غير علّة في جسدك بل تبقى صحيحا سالما ، وذلك من غير مرض ولا خرس ، فقالوا : إنه اعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير بأس ومن غير خرس لأنه عليه‌السلام كان يستطيع أن يقرأ الزبور ويدعو الله ويسبّحه ولكنه لا يتمكّن من الكلام مع الآخرين.

١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) ... أي أنه بعد سماع هذا القول ظهر على الناس وترك مصلّاه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) يعني أومى إليهم وأشار ، ولا يحتمل هنا أن يراد بالوحي الكلام لأنه خرج من المصلّى عاجزا عن الكلام إذ وقعت المعجزة من الله سبحانه وبدأ موعد ظهور الآية الربّانيّة ، فقد رمز إلى قومه بالإشارة (أَنْ سَبِّحُوا) أي نزّهوا الله واذكروه وصلّوا له (بُكْرَةً) صباحا (وَعَشِيًّا) مساء ، يعني في طرفي النهار.

* * *

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

١٢ ـ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) : انتقل سبحانه إلى خطاب يحيى الذي وعد به أباه زكريّا في الآيات الشريفة السابقة ، وطوى

ذكر الفترة الطويلة التي مضت ، فقال تعالى له : (خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة (بِقُوَّةٍ) بجدّ وعزيمة وقم بما فيها من أوامر ونواه والتزم بها بنشاط وورع. وقال بعض أعاظم أهل التفسير : إن في قول الله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) اختصارا عجيبا تقديره : فوهبناك يحيى ، ثم أعطيناه الفهم والعقل ، وقلنا له : يا يحيى خذ الكتاب بقوّة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي أعطيناه الحكمة والعقل والرشد وهو في زمن طفولته.

وفي المجمع ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام : أن الصّبيان قالوا ليحيي عليه‌السلام : اذهب بنا نلعب. فقال : ما للّعب خلقنا. ولذلك قال الله تعالى فيه ما قاله. ولا يخفى أن ذلك كان قرب وفاة زكريّا عليه‌السلام حيث إن فيه إشعارا بأن النبوّة تنتقل عنه إلى ابنه قبل أو ان الرّشد الطبيعي. هذا إذا كان الكلام في ذيل هذه الآية لا يزال موجّها إلى زكريّا عليه‌السلام.

١٣ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) : أي رحمة منّا به وتعطّفا عليه آتيناه الحكم صبيّا بناء على أن الضمير يعود ليحيي ، وقيل إن المقصود بلفظ (حَناناً) هو تحنّن يحيى نفسه وعطفه على العباد ليدعوهم إلى الطاعة بلطف وينهاهم عن المعصية إشفاقا عليهم. وقيل قد كان من تحنّن الله سبحانه على يحيى عليه‌السلام أنه كان كلّما قال : يا الله ، قال الله تعالى : لبّيك يا يحيى تلطّفا به (وَزَكاةً) أي تزكية له من الخبائث والأدناس التي طهّره الله منها منذ ولادته ، وذلك يعني أننا طهّرناه طهارة وباركنا فيه بزيادة العلم والعمل الصالح (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا متجنّبا للخطايا لم يهمّ بسيئة.

١٤ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) : أي أنه كان حافظا لحق أبويه تمام الحفظ ولم يكن (جَبَّاراً) متكبّرا (عَصِيًّا) عاصيا لربّه لا في القليل ولا الكثير.

١٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) ... أي تحية مباركة له من ربّه منذ ولادته (وَيَوْمَ يَمُوتُ) حين يقضى عليه بالموت (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) يوم القيامة.

فقد كان مرضيّا عند الله غاية الرضا فاستحقّ منه هذا السلام الملازم له في حياته وحين موته ويوم بعثه.

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

١٦ و ١٧ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) ... بعد قصة زكريّا ويحيى عليهما‌السلام المعجزة ، شرع سبحانه في بيان قصة عيسى ومريم عليهما‌السلام التي هي أكبر إعجازا في عالم الخلق والقدرة ، والتي كانت ـ هي وسابقتها ـ من معاجز نبيّنا صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطيّبين ، وذلك حين أخبر الأمة بالقصّتين العجيبتين وببراءة مريم عليها‌السلام حين قال له سبحانه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) القرآن (مَرْيَمَ) أي قصّتها (إِذِ انْتَبَذَتْ) حيث اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) فابتعدت عن ذويها واتّخذت (مَكاناً شَرْقِيًّا) إذ أقامت في مسجد القدس ولم تزل تشتغل بالتبتّل والعبادة ، ولم تخرج إلا إلى بيت خالتها في حال الاضطرار ، ثم ترجع بعد زوال عذرها إلى مصلّاها. وقيل إنها احتاجت في يوم من الأيام إلى أن تغتسل فطلبت مكانا بعيدا عن

أهلها وعن الناس واختارته شرقيّ بيت المقدس أو شرقيّ منازل أهلها ، مواجها للشمس إذ كان الوقت شتاء شديد البرد (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) جعلت بينها وبينهم سترا يحجز من رؤيتها (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) فبعثنا لها جبرائيل عليه‌السلام ـ والإضافة الى نفسه تعالى تشريفيّة ، والتعبير بالرّوح لكمال اتّصاله به سبحانه وقربه منه ، كما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : فاطمة روحي التي بين جنبيّ لشدة محبّته لها سلام الله عليها ، وهذا التعبير معروف ومتداول بين الناس ـ (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي تصوّر بصورة آدميّ تامّ الخلق سويّ ، وقيل غير ذلك أقوال كانت رجما بالغيب لأنه خلاف ظاهر الآية لأنّ وجه تمثّله بصورة البشر كان لكي تأنس إليه ولا تنفر منه وترتعب إذا رأته بغير الصورة التي تألفها. وحين رأته :

١٨ ـ (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) : فمريم عليها‌السلام لمّا رأت جبرائيل عليه‌السلام في ذلك المكان استعاذت بالله منه ، واتّقته بالله واستجارت به عزّ وعلا ، وقالت : اعتصمت بالله منك (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مطيعا لله متجنّبا لما يغضبه .. فلمّا رأى جبرائيل عليه‌السلام خوفها واستيحاشها :

١٩ ـ (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) ... أي أنا مرسل إليك من الله تعالى (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) لأمنحك من الله تبارك وتعالى ولدا ذكرا طاهرا من الأدناس ، أي من الشّرك وجميع الذنوب. وقال ابن عباس : المراد بالزكيّ هو كونه نبيّ. وعلى هذا يصير الكلام من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم وتسمية الملزوم باسم اللازم. فتعجّبت مريم عليها‌السلام من قول جبرائيل عليه‌السلام ، ثم :

٢٠ و ٢١ ـ (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ... كيف يكون لي ولد ، وكيف يتم هذا الأمر (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) والحال أنني لم يتزوّجني إنسان زواجا مشروعا. والمسّ هنا كناية عن النّكاح المشروع في عرف الشرع وذلك كقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، وقوله سبحانه : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، كما أن

الفجور كناية عن الزّنى وكذلك البغيّ. مضافا إلى أنه لو كان المسّ في المقام أعمّ من الحلال والحرام لكان قولها بعد ذلك (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) لغوا ، إن يحمل ذلك على بعض المحامل التي لا وجه لها ... (قالَ) جبرائيل عليه‌السلام مجيبا على استهجانها واستغرابها : (كَذلِكِ) أي الأمر كما تقولين وكما تزعمين ، ولم يمسسك بشر ، ولست بزانية والعياذ بالله ، ولكن (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي في غاية السهولة ولا يشقّ عليه ذلك أبدا ، وهذا من باب المعجز (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي علامة لهم مدهشة ، وبرهانا على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد إذ يهتدون بإرشاده (وَكانَ) أي إحداث الولد وإيجاده منك ، بلا أب كان (أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدّرا من عنده سبحانه وسابقا في علمه ومسطورا في اللوح المحفوظ ، تعلّق من عنده سبحانه وسابقا في علمه ومسطورا في اللوح المحفوظ ، تعلّق به حكم الله في الأزل .. فرضيت بقضاء الله وسكتت عن المناظرة مع أمين الوحي فاقترب منها جبرائيل عليه‌السلام ونفخ في كمّها أو في جيب مدرعتها ـ أي جبّتها المشقوقة من الأمام ـ أو في فمها ـ على اختلاف في الأقوال ـ فدخلت النفخة في جوفها فأحسّت في الساعة التي نفخ فيها بالحمل كما تدل عليه كلمة (فاء التفريع) في مطلع الآية التالية.

* * *

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً

فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

٢٢ ـ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) : أي حملت بعيسى عليه‌السلام. وفي القمي : فنفخ في جيبها بالليل فوضعته بالغداة ، وكان حملها به تسع ساعات ، جعل الله الشهور ساعات. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : أنه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء في تسعة أشهر ، فخرجت من المستحمّ ـ المغتسل ـ وهي حامل مثقل ، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها .. ومضت مريم على وجهها مستحيية منها ومن زوجها زكريّا. وعن الصادق عليه‌السلام : كانت مدة حملها تسع ساعات .. ثم لمّا حملت به تنحّت عن الناس واعتزلتهم وهو في بطنها وذهبت بعيدا حياء من أهلها ومن غيرهم مخافة أن يتّهموها بسوء. وعن السجّاد عليه‌السلام : خرجت من دمشق حتى أتت كربلاء فوضعته في موضع قبر الحسين عليه‌السلام ثم رجعت من ليلتها.

٢٣ و ٢٤ ـ (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) ... أي ألزمها وألجأها وجع الولادة إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد عليه عند الوضع. وتعريف (النَّخْلَةِ) إما أنه من قبيل تعريف الأسماء الغالبة كالنجم ، والداهية ، أو أن النخلة كانت معروفة مشهورة في تلك الصحراء بحيث إذا أطلق «جذع النخلة» يتبادر إلى الأذهان تلك النخلة لا غيرها ، فالألف واللام للعهد ، ويؤيّد ذلك ما روي ، ففي القمي : كان ذلك اليوم يوم سوق ـ صادفته في ممرّها ـ فاستقبلتها الحاكة ، وكانت الحياكة من أنبل الصناعات في ذلك الزمان ، فأقبلوا على بغال شهب فقالت لهم مريم عليها‌السلام : أين النخلة اليابسة؟ فاستهزأوا بها وزجروها ، فقالت لهم : جعل الله كسبكم نزرا ـ أي قليل الخير والبركة ـ وجعلكم في الناس عارا ، ثم استقبلها قوم من التجار فدلّوها على النخلة اليابسة فقالت لهم : جعل الله البركة في كسبكم وأحوج

الناس إليكم ، فلمّا بلغت النخلة أخذها المخاض فوضعت عيسى عليه‌السلام هناك .. وإمّا أن يكون الألف واللام للجنس ، ومعناه : جذع ذلك النوع من الأشجار ، وهو النخل. والتاء تدل على انحصارها ووحدتها في تلك البادية. ولكنّ الاحتمال الأول ـ كونها للعهد ـ أقرب للصواب. والجذع هو ما بين العرق والأغصان ، ويعبّر عنه بالساق. وكانت النخلة يابسة نخرة لا رأس لها ولا فروع ولا أوراق (قالَتْ) : مريم عليها‌السلام عند المخاض : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) الأمر الذي ابتليت به ، وكلامها هذا من طبائع الصالحين وعادتهم ، فإنهم إذا وقعوا في بلية عظيمة أو مصيبة شديدة لا يتحمّلها إلّا أولياء الله وأصفياؤه تضيق صدورهم ويتمنّون الموت. وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل : يا ليتني متّ قبل هذا اليوم ، وعلى قبر فاطمة الزهراء عليها‌السلام تمنّى لو كان مات قبل ذلك. وروي أن بلالا قال : ليت بلالا لم تلده أمّه. وكذا قال سيدنا علي بن الحسين عليه‌السلام : فيا ليت أمّي لم تلدني ، ومثله قال سيدنا الإمام الشهيد أبو عبد الله الحسين عند ما وقف على رأس ابنه عليّ الأكبر عليهما‌السلام عند قتله. فعلى كل حال قالت مريم عليها‌السلام : يا ليتني متّ (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) النّسي بكسر النون ، وقرئ بفتحها ، وهو ما يتركه المرتحلون من رذال متاعهم الذي من شأنه أن يترك ويطرح ، وقد عبّر بعضهم عنه بخرقة الطمث. وفي تعبيرها هذا مبالغة عجيبة حيث إنها تمنّت العدم الأزليّ لا العدم بعد الوجود ، فإن قولها : يا ليتني متّ ، ولو كان ظاهرا في الانعدام بعد الوجود ، لكن أعرضت عن هذا الظهور ، أو فسّرت مقصودها من صدر الكلام بذيله المفيد لما ذكرناه. ويؤيّد ما ذكرناه من مرادها عليها‌السلام أن الإنسان الشريف إذا صدر عنه ـ ولو بغير اختياره ـ أمر موجب لاتّهامه وذهاب شرفه ، فإنه يحب ويتمنّى عدمه أزلا ، لأنه بهذا الفرض لا يصدر عنه ذلك العمل الشنيع ولو كانت شناعة نسبيّة بنظر الناس لا بحسب الواقع. والمنسيّ أيضا منسيّ الذّكر بحيث لا يخطر ببال أحد حتى يذكره بسوء أو يلومه ، وهذا أيضا لا تحصل له مرتبته الراقية

الكاملة إلّا بما فسّرنا المراد من كلامها من العدم الأزليّ حتى لا يكون لها ذكر في دار الدنيا أبدا ، وقد بيّنّا أن النّسي ـ بكسر النون ـ هو الذي لا يعبأ به لغاية حقارته فكأنّ وجوده لم يكن حاصلا ، وكأنّه في حكم العدم الصّرف .. ويمكن أن يكون مرادها : يا ليتني لم أكن معروفة مشهورة بحيث لا يعرفني أحد من الناس ، وكانت حياتي كالممات ووجودي في حكم العدم لانعدام ذكري وأثري بين الناس.

وعلى كل حال ، قال ابن عباس : فسمع جبرائيل عليه‌السلام كلامها وعرف حزنها (فَناداها مِنْ تَحْتِها) وكان في أسفل جبل كان هناك ، أو أن المنادي كان عيسى عليه‌السلام فإنه قال لمّا رأى حزن أمّه : (أَلَّا تَحْزَنِي) أي لا تغضبي من هذا الإكرام أو الإجلال الذي أعطاك الله إياه واختصّك به ، وهو تعالى يحفظك مما تخافين منه وينزّهك من اتّهام الناس إياك ، وهو خير الحافظين وخير المنعمين عليك ، وممّا أنعم به أنّه (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي جعل تحت قدميك جدول ماء عذب تشربين منه وتتطهّرين. وروي أنه كان هناك نهر قد جف ماؤه وانقطع ، ولكنّ الله سبحانه قد أجراه بقدرته لحاجة مريم عليها‌السلام ، ثم أحيا جذع النخلة اليابس حتى أورق وأثمر. وقيل إن السّريّ هو الشريف الرفيع القدر ، وهذا يعني عيسى عليه‌السلام الذي ناداها من تحتها ، وهو من هو في شرفه وعظمته. ومن معناه الأول ـ أي النهر ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثل الصلاة فيكم كمثل السّريّ على باب أحدكم ، يخرج إليه في اليوم والليلة فيغتسل خمس مرات ، فهل يبقى على جسده شيء من الدّرن؟ ـ الوسخ ـ .. وكذلك الصلاة إلخ ..

٢٥ ـ (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ... فقد نوديت مريم عليها‌السلام بما ذكرناه من تهدئة بالها ، ثم خوطبت بما أنعم الله تعالى عليها يومئذ من ثمر النخلة فقيل لها : حرّكيها واجذبيها إلى نفسك. والباء زائدة ، أي : هزي جذع النخلة. وقد قال الباقر عليه‌السلام : لم تستشف النّفساء بمثل

الرّطب. وقيل إن الحكمة في أن الرّطب ما تساقطت عليها بلا هزّ وتحريك ، هي كي يعلم العباد أن عادة الله سبحانه جرت على أن الرزق المقسوم لا يحصل إلّا بالكسب والجهد ، وفي الحديث : الحركة توجب البركة ، وفي الكافي أنّ الصادق عليه‌السلام كان يتخلّل بساتين الكوفة فانتهى إلى نخلة فتوضّأ عندها ثم ركع وسجد ، فأحصي في سجوده مائة تسبيحة ، ثم استند إلى النخلة فدعا بدعوات ، ثم قال : إنها والله النخلة التي قال الله تعالى لمريم : وهزّي إليك .. الآية .. (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) أي تنزل عليك رطب التّمر اليانعة السهلة الاجتناء.

٢٦ ـ (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) ... أي : كلي من الرّطب ، واشربي من ماء السّري ، وكوني مهنّأة مرتاحة البال قريرة العين هادئتها بهذا المولود المبارك ، ولتكن دمعة السرور باردة في عينيك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أصل الفعل ترأيين ، حذفت الهمزة عند الاستعمال للتخفيف ، وكذا الياء التي هي ضمير المؤنّث ، وحرّكت الياء لالتقاء الساكنين : وهما الياء والنون الأولى. والنونان : إحداهما نون الرفع ، والأخرى نون التوكيد. وإن : شرطيّة. أي : إذا ما رأيت آدميّا ـ كائنا من كان ـ إن استنطقك وسألك عن ولدك هذا (فَقُولِي) له : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) ومعنى نذرت : أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلّم ، لأنني أمرت بالصّمت ، ذلك أنه يكفيها كلام ولدها عليه‌السلام بما يبرّئ به ساحتها. وهذا يسمّى بصوم الصّمت ولا ينافيه الأكل والشرب ، وقد نسخه الإسلام وهو غير مشروع عندنا. وقيل تحقق هذا الصوم بعد الإخبارية أي بالنّذر ، وقيل إنها أخبرتهم به بالإشارة وبأنه منذور ، وهذا القول خلاف ظاهر الآية الكريمة.

* * *

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما

كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

٢٧ و ٢٨ ـ (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) ... يعني أنها بعد أن ولدته جاءت به تحمله ، وعادت إلى قومها كما أمرت. وحين رأوها دهشوا و (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أتيت بفرية ومنكر عظيم لأنك جئت بولد من غير زوج يكون أبا له .. (يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا من تنسب إلى هذا النسب الشريف ، وقد نقل أن هارون كان أخاها من أبيها ، وأنه كان قد اشتهر بالزّهد والصلاح وحسن السيرة وكثرة العبادة في عصره. ثم قيل إن المراد بهارون هو أخو موسى عليهما‌السلام ، ونسبتها له أنها كانت من أحفاده وأنه تفصلها عنه ألف سنة. وهذا القول كما يقال : يا أخا العرب ، ويا أخا همدان ويا أخا تميم وغير. وقيل بل كان في بني إسرائيل رجل اسمه هارون ، مشهور بالتقوى والزهد والورع ، ومعنى قولهم يكون : يا شبيهة هارون بالتقوى والورع (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) أي ما كان يفعل السيّئات والمنكرات (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) زانية تبغي الرجال ، فكيف أتيت بولد وأنت من دون زوج؟

٢٩ ـ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) ... فأومأت إلى عيسى عليه‌السلام بأن كلّموه واسألوه عن أمري وعن براءتي وطهارة ذيلي. فتعجّبوا من ذلك و (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي كيف نخاطب طفلا ولد من جديد

وهو لا يزال في مهد الطفولة وقماط الولادة؟ وحين ألزمتهم بذلك استشهدوه على براءة ساحتها واستنطقوه ، وعندئذ :

٣٠ ـ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) : قدّم إقراره بالعبودية أولا ليبطل قول من يدّعي له الرّبوبية. وكان الله تعالى قد أنطقه وألهمه ذلك لعلمه سبحانه بما يقوله به الغالون الذين ألّهوه. ثم تحدّى القوم بالنبوّة وبأن الله أنزل عليه الإنجيل. والتعبير هنا جاء بالماضي لأنه محقّق الوقوع ، وهو يعني أنه سينزله عليه قطعا. وقيل إنه عنى التوراة ، وأنه عرّفه سبحانه إيّاها.

٣١ ـ (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) ... أي خلقني الله تعالى نفّاعا للناس معلّما للخير في أيّ مكان أكون (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) أمرني بها (وَالزَّكاةِ) أؤدّيها. فعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : زكاة الرؤوس ، لأن كل الناس ليس لهم أموال ، وإنما الفطرة على الفقير والغني والصغير والكبير. فقد أمرني الله تعالى بالزكاة (ما دُمْتُ حَيًّا) أي ما بقيت على وجه الأرض.

٣٢ ـ (وَبَرًّا بِوالِدَتِي ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) : أي جعلني بارّا بها حسن المعاملة لها واللطف. وهي عطف على (مُبارَكاً) والجبّار : هو المستكبر ، والشقيّ : العاصي لله. ويستفاد من هذه الكريمة أن من لم يكن بارّا بوالديه يحسب في الجبابرة ، ويعد من الأشقياء. كما أنه يستفاد أن عقوق الوالدين من الكبائر العظام. ثم لّما بلغ كلامه إلى هذا الحد اختتمه على طريقة ما اختتم يحيى عليه‌السلام كلامه فقال :

٣٣ ـ (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) ... وقد مرّ تفسيرها. والسلام يكون من الله سبحانه وتعالى ، وقد ذكر مواطن : الولادة ، والموت ، والبعث ، لأنها من أعظم المواطن التي يمرّ بها الإنسان من حيث الوحشة. فهو حين يتولّد ويخرج إلى الحياة بعد أن كان مستريحا في بطن أمّه ، يرى ما لم تر عينه ويسمع ما لم تسمع أذنه من الهياكل والأصوات فتأخذه الرّعدة والخوف كما نشاهد بأنفسنا وكما يصيبنا حين نرى ونسمع شيئا فوق العادة. وقد يقال إن

الطفل عند الولادة غير مهيإ للرؤية والسماع بإدراك ووعي لضعف قواه ومداركه ، فيفاجأ بما لا عهد له به ، كما يفاجأ المحتضر عند الموت بما لا عهد له به ، وكما يشاهد الإنسان يوم البعث ما لا يتصوّره ولا يخطر له في بال .. ولهذا يبكي الطفل ، ويرتج على المحتضر ، والله أعلم بما يكون من حال المبعوث بعد الموت!. فنسألك اللهم أن تخفّف عنّا سكرات الموت ، وتهوّن علينا وحشة القبر ومشاهدة الملكين وأهوال البرزخ والقيامة بمحمد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين. أما يوم الحشر فما أدراك ما ذلك اليوم؟ إنه اليوم الذي يجعل الولدان شيبا ، واليوم الذي تضع فيه كلّ ذات حمل حملها من شدة الخوف ، أعاذنا الله من مخاوفه.

* * *

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

٣٤ ـ (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) : أي ذاك هو عيسى عليه‌السلام نقول فيه قول الحق ، وليس هو كما يصفه النصارى من أنه ابن الله. فهذا تكذيب لهم على الوجه الأبلغ حيث إنه تعالى وصفه بما

هو فيه من كونه إنسانا ابنا لمريم عليهما‌السلام ، بضدّ ما نعتوه به ، وهذا هو القول الذي لا ريب فيه و (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يختلفون ويتخاصمون.

٣٥ و ٣٦ ـ (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ... هذا ردّ على الطائفة من اليهود التي قالت : عزير ابن الله ، وعلى الطائفة من النصارى التي قالت : عيسى ابن الله ، وعلى الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، وتعالى الله عمّا يقول الظالمون ، وقد زيدت كلمة (مِنْ) لتأكيد النفي (إِذا قَضى) الله (أَمْراً) وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أنه حين يريد أمرا هو قادر على إحداثه وإيجاده ، يحدث ويوجد لمجرد الأمر بكونه ، ومن ذلك خلق عيسى عليه‌السلام ، وهو تعالى منزه عن شبه الخلق وعن الحاجة لاتّخاذ الولد أو الشريك. وقد روي أن خمسة من الأطفال الصغار أنطقهم الله عزوجل قبل أوان تكلّمهم وهم : الأول شاهد يوسف ومنزّهه عمّا نسبته إليه زليخا ـ وشهد شاهد من أهلها ـ والثاني ولد مشّاطة بنت فرعون ، والثالث صاحب جريح ، والرابع عيسى عليه‌السلام ، والخامس ولد امرأة أحرقها أصحاب الأخدود. وقد روى ابن عباس بشأن ولد مشّاطة بنت فرعون فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أسري بي إلى السماء ودخلت الجنّة استشممت رائحة طيّبة ما رأيت رائحة أطيب وأحس منها. سألت : ما هذه الرائحة الطيّبة؟ قال جبرائيل : هذه رائحة مشّاطة بنت فرعون التي آمنت بالله سرّا وكانت تخفي إيمانها عن فرعون وأتباعه. وفي يوم كانت تمشط رأس بنت فرعون فوقع المشط من يدها فأخذته وقالت : بسم الله. فسألتها بنت فرعون : أبأبي استعنت؟ قالت : بل بالله الذي خلقك وأباك وخلقني وجميع العالمين. فحكت مقالتها بنت فرعون لأبيها ، فأحضرها وسألها عن خالقها فقالت : ربّ السماوات والأرض. فأمر فرعون بأن يصنعوا حوضا من الرصاص ، وأمر بإشعال النار تحته حتى احمرّ ، فأمر بإلقاء أولادها فيه واحدا بعد واحد حتى وصلت النّوبة إلى رضيعتها فأنطقها الله وقالت : يا أمّاه اصبري فنحن على الحق. فألقوها وأمّها في الحوض المحترق

المتأجج بالنار .. وأمّا قصة صاحب جريح فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا أنه قال : كان عابد له صومعة لا يزال يعبد الله فيها ، وكان اسمه جريح العابد. جاءته يوما أمّه حتى تسلّم عليه وتسأل عن حاله وكان مشغولا بالصلاة ، فنادته : يا جريح ، فما أجابها ، فوقفت مدة حتى يسلّم فطالت صلاته. فذهبت وجاءته في نوبة أخرى فنادته فما أجابها لاشتغاله بالصلاة ، فخرجت من عنده. ثم جاءته مرة ثالثة وكذلك ما أجابها إذ كان يصلّي ، فخرجت وهي ساخطة فدعت عليه وقالت : اللهم لا تمته إلّا أن تبتليه بنسوة فاجرات ينظرن إليه نظر سوء. وكان قرب صومعته راع يرعى أغناما له ، فلمّا أمسى دخل الصومعة واستأنس مع العابد. وفي ليلة من الليالي خرجت من البلد التي فيها الصومعة امرأة بغيّ ، ووصلت إلى قربها ، فجامعها الراعي ، فحملت ، فسألوها عن حملها فقالت : من صاحب الصومعة. فجاء الناس إلى الصومعة وخرّبوها وأخرجوا العابد إلى السلطان. فلمّا عبروا به محلّة النسوان الفاجرات خرجن إلى النظر إليه ، فوقع نظره على المرأة التي اتّهمته ، وعلم أن ذلك كان من أثر دعاء أمّه فتبسّم. فاتّهمه الناس بالزّنى لأنه لم يتبسّم إلّا حين وقع نظره على فاجرات النساء. ولمّا وصل إلى السلطان قال : أيها الملك أين الطفل الذي نسبوه إليّ؟ فأمر الملك بإحضاره ، فخاطبه جريح وقال : أيّها الطفل من أبوك؟ فقال الغلام : فلان الراعي. فتعجّب الناس وظهرت براءة العابد وعرفوا حينئذ أنه من أولياء الله تعالى ، فطلبوا منه أن يعيدوا عمارة الصومعة وأن يذهّبوها فما أجابهم ، ولكنه رضي بأن يعيدوها كما كانت أولا .. (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) مرّ تفسير مثلها وهي من قول عيسى عليه‌السلام اعترافا بعبوديّته لله عزوجل وبعبودية جميع النّاس ، وأن ذلك هو الطريق الحق الذي لا يأتيه الباطل.

٣٧ ـ (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) ... أي اختلف اليهود والنصارى الذين آمنوا برسالة عيسى ، أو أنها اختلفت فرق النصارى فيما بينها لأن منها من قال : هو ابن الله ، ومنها من بالغ فقال : هو الله ، ومنها من اعتدل

وقال : هو عبد الله ورسوله (فَوَيْلٌ) هي كلمة وعيد معناها شدة العذاب ، ومعناها شدة الحرب والوجع الأليم (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من شهودهم وحضورهم يوم القيامة الذي يكون عظيما عليهم.

٣٨ ـ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) ... هاتان الكلمتان يمكن أن تكونا صيغة تعجّب ، فإن للتعجّب صيغتين : ما أفعله وأفعل به. وعلى هذا فالجارّ والمجرور في موضع رفع لأنه فاعل : أسمع وأبصر. والمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة وإن كانوا في الدنيا صمّا وبكما عن الحق والحقيقة. والحاصل أن الظالمين وإن كانوا في الدنيا جاهلين ، لكنهم في الآخرة يصيرون عارفين ولو كانت معرفتهم لا تنفعهم. ولا يخفى أن التعجّب من الله تعالى معناه أن هذا الأمر لو وقع وصدر من الخلق لكان في موضع التعجبّ كثيرا ، وبهذا المعنى يضاف إليه تعالى المكر وما لا تليق نسبته إليه .. وأما بناء على أن الصيغة أريد بها الأمر ، فمعناه : أسمع الناس يا محمد بهؤلاء الأنبياء والمرسلين ، وعرّفهم بهم وبيّن لهم مقاماتهم ودرجاتهم حتى يعرفوهم حقيقة فيؤمنوا بهم ولا يضلّوا .. (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أن الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ، يوم يأتوننا عند البعث والقيامة يروا أنهم في ضلال عن الحق واضح الدلالة.

٣٩ ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ... يعني : حذّرهم يا محمد من يوم يتحسّر فيه المسيء على إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانه إذ قضي الأمر ووجد كلّ إنسان جزاء عمله. وقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : ينادي مناد من عند الله عزوجل ، وذلك بعد أن صار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار : يا أهل الجنّة ويا أهل النار هل تعرفون الموت في صورة من الصور؟ فيقولون : لا. فيؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار ، ثم ينادون جميعا : أشرفوا وانظروا إلى الموت. فيشرفون ، ثم يأمر الله عزوجل فيذبح. ثم يقال : يا أهل الجنّة خلود فلا موت أبدا ، ويا أهل النار خلود فلا موت أبدا. وهو قول الله

تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ .. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أنهم كانوا في دار الدنيا غافلين عن هذا ولا يصدّقون به.

٤٠ ـ (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) ... فبعد أن أمر الله سبحانه نبيّه بإنذار الظالمين وتخويفهم من يوم الحسرة والندامة بيّن أنه تعالى الحيّ الباقي الذي يغني المخلوقات ويرث الأرض ومن عليها من الناس بعد النفخة الأولى حيث لا يبقى عليها مالك ولا مملوك ولا صارف ولا مصروف ولا متصرّف ولا متصرّف فيه ـ ومن تشمل العقلاء وغيره ـ ثم بيّن أن الناس (إِلَيْنا) إلى الله عزوجل (يُرْجَعُونَ) يوم القيامة في النفخة الثانية وذلك قوله عزّ من قائل : ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ..

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨))

٤١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا :) أي بعد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام اذكر يا محمد لهؤلاء القوم حال إبراهيم عليه‌السلام. وإنما أمر بذكره لأنه أبو العرب ، فكأنّه قال : إن كنتم مقلّدين لآبائكم كما زعمتم وقلتم : إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم لمقتدون. فأشرف آبائكم وأجلّهم هو إبراهيم ، فإن كنتم صادقين فيما تقولون من أنكم مقلّدون فقلّدوه وكونوا على ما كان عليه من التوحيد والشريعة الحقة وترك عبادة الأوثان ، فإنه كان صادقا مصدّقا بحيث صار الصدق والتصديق عادته. وقد وقعت هذه الجملة معترضة بين إبراهيم عليه‌السلام وبين عبادة : إذ قال. وهذا نظير قولك : رأيت زيدا ، ونعم الرجل زيد ، إذ كان خطيبا.

٤٢ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) ... أي اذكر حين قال لأبيه ذلك. وقد اختلفوا في كون آزر أباه أو عمّه أو جدّه لأمّه ، ولم يكن آباه لطهارة آباء الأنبياء من الشّرك وعبادة الأوثان. والعرب تطلق على العمّ لفظ الأب وتنزله منزلته. والتاء في : يا أبت ، تاء عوض عن ياء الإضافة ، ولذلك لا يقال : يا أبتي لأنه لا يجمع بين العوض والمعوّض عنه ، وكذلك الهاء الساكنة في : يا أبه فإنها عوض عن ياء المتكلم ، وهذا في النداء حيث يقال أيضا : يا أبتا ولا يقال في غيره ، بل يقال : أبي فقط مع ياء المتكلم.

والحاصل أنه سلام الله عليه قد قال له : كيف تعبد شيئا لا يسمعك إذا دعوت ، ولا يراك إذا وقفت بين يديه (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا يريحك في دفع ضرّ ولا في جلب نفع.

٤٣ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ... إنّما كرّرت لفظة : يا أبت ، للاستعطاف ، وقد ذكر له أنه قد جاءه من العلم : أي المعرفة ، ما لم يجئك (فَاتَّبِعْنِي) كن على طريقتي (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أرشدك إلى طريق قويم لا عوج فيه في التوحيد وعبادة الواحد الأحد.

٤٤ ـ (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ... كرّر مخاطبته بلطف عجيب يستدعي استثارة العاطفة وسماع الدعوة ، وقال له : انته عن عبادة الشيطان بإطاعته والسير مع وسوسته وإغرائه (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) كثير العصيان. وقد دعاه بأحسن دعوة واحتجّ عليه بأبلغ احتجاج واستعمل منتهى الرفق والمداراة وإظهار أدب المخاطبة مع الأب أو العم أو الجد كما لا يخفى في الآيات الثلاث ، ولا بدّ لكلّ مبلّغ أن يتعلّم من هذه الطريقة الفذّة من التعليم والإبلاغ والإرشاد.

٤٥ ـ (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ) ... أي إني أخشى عليك من أن يصيبك عذاب مؤلم (مِنَ الرَّحْمنِ) الربّ الرؤوف بالناس (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا للشيطان ومحبّا له ومطيعا لأوامره كأنه سيّدك الذي استخدمك كما شاء ، فأدت إطاعتك له إلى العذاب والخسران.

٤٦ ـ (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) ... فانظر كيف عارضة بضدّ ما بلّغه خلقا ومنطقا وأدبا. فقد قابل استعطافه ولطفه وحسن أدبه في إرشاده ، بألفاظ فظة غليظة ، وبسوء أدب إذ ناداه باسمه ولم يقل له : يا بنيّ ، ثم أخرّه في البيان ، وهذان الأمران شتم في لغة العرب ، مضافا إلى أنه صدّر كلامه بهمزة الإنكار وبضرب من التعجّب ، وهذا استهزاء بتبليغه ، يضاف إليه أيضا أن قال له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) لم تسكت وتدع هذا الأمر الذي جئت به (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأقتلنّك رجما بالحجارة حتى تموت تحت ضرباتها ، فانته عمّا أنت فيه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي اتركني وابتعد بنفسك عنّي زمانا طويلا. وهذا عطف على قساوته وعلى ما يدل عليه الرّجم من التهديد والتحذير ، أي فاحذرني واهجرني .. ويحتمل أن تكون الواو بمعنى : أو ، فيكون المراد : إن لم تنته عن التعرّض للأصنام لأرجمنّك ، إلّا أن تبتعد عنّي وترحل عن بلادنا دهرا طويلا فنهلك نحن أو تهلك أنت.

فلما أيس إبراهيم عليه‌السلام من إيمان عمّه آزر بعد ذلك التهديد

والتشديد ، قال عليه‌السلام على طريقة التوديع وبطريقة مقابلة السيئة بالحسنة :

٤٧ ـ (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ... أي لن يصيبك منّي مكروه ولا آفة ولا ضرر. ثم استماله واستعطفه ووعده بالدّعاء له بالمغفرة ، لعلّ الله سبحانه يوفّقه للإيمان وللتوبة والرجوع عن الكفر وقال له (إِنَّهُ) أي الله عزوجل (كانَ بِي حَفِيًّا) أي مبالغا في البرّ بي والعطف واللطف ، مجدّا في إكرامي وربّي حاضر ناظر عاقل يسمع دعائي ويجيب سؤلي ويعلم ما في ضميري في جميع أحوالي ، وهو بارّ بي رحيم كريم سخيّ عليّ ، وليس مثل معبوداتكم من الأحجار والجماد ، فهي لا تسمع ولا ترى ولا تشعر ولا تنفع ولا تضرّ ، وأنتم أشرف وأعلى ممّا تعبدونه فكيف يعبد الأشرف الأخسّ والأدني ويخضع له؟ .. أفلا تعقلون؟

٤٨ ـ (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... وانّي منصرف عنكم وعمّا أنتم فيه من عبادة غير الله تبارك وتعالى وممّا ألّهتم من الأحجار والأصنام ، وسأبتعد عنكم وأعبد الله (وَأَدْعُوا رَبِّي) فأعبده وأطلب منه وحده حاجاتي و (عَسى) هنا بمعنى التأميل ، أي آمل (أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) سوف لا أكون خائبا بدعائه ولا مجتهدا ضائع الاجتهاد ، ولا ساعيا ضالّ السعي كما أنتم في عبادتكم للأصنام التي لا تدرك أعمالكم ، ولا هي تقبلها ولا ترفضها لأنها لا تملك شيئا ، فأنتم أشقياء تتحمّلون المشقة دون جدوى ، وأنا على العكس أرجو من ربّي إجابة دعائي. وفي تصدير الكلام بكلمة : عسى ، تواضع وتنبيه على أن العبد لا بد أن يبقى في إجابة دعائه والإثابة على أعماله بين الخوف والرجاء من حيث القبول والردّ ، لأن الإثابة تفضّل غير واجب.

* * *

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

٤٩ ـ (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي حين تنحىّ عنهم وعن أصنامهم ، وفارقهم من أرض بابل إلى الأرض المقدّسة ـ أي بلاد الشام ـ وأتى حرّان أولا وتزوّج فيها بسارة (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) رزقناه الولدين هذين (وَكُلًّا) منهما (جَعَلْنا نَبِيًّا) رسولا من الله لقومه في زمانه. وإسحاق هو ابن إبراهيم عليهما‌السلام من سارة ، ويعقوب هو ابن إسحاق ، وقد أعطاهما الله تعالى لإبراهيم عوضا عمّن فارقهم من عشيرته الكفرة ومن آلهتهم ونعم البدل والعوض لأنه عليه‌السلام كان يأنس بهما وبأولادهما البررة الصالحين. وأمّا تخصيص إسحاق ويعقوب بالذكر فإمّا لكونهما أصل شجرة الأنبياء الذين كانوا من نسلهم ، وإمّا مقدمة لذكر إسماعيل على انفراد لفضله ومزيد الاهتمام بذكره عليه وعلى آبائه وأبنائه السلام لمزيد شرافته حيث إن النبيّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خاتم الأنبياء ، من نسلهعليه‌السلام.

٥٠ ـ (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) ... أي أعطيناهم ثلاثتهم سوى الأولاد البررة ، نعم الدّين والدّنيا (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي جعلنا لهم ثناء جميلا حسنا ، وقد عبّر عنه باللسان لأن كل ما يوجد من الصفات يعبّر عنه باللسان كما يعبّر باليد عمّا يصدر عنها. و (عَلِيًّا) يعني : رفيعا ساميا لأنهم مصدّقون في جميع الأديان وعند سائر أهل الملل ، فهم يحمدونهم ويثنون عليهم ويفتخرون بأنهم على دينهم .. وهذا كلّه إجابة لدعوة إبراهيم عليه‌السلام حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) فجعله قدوة لسائر العالمين كما قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ).

وعن الزكيّ عليه‌السلام : (وَوَهَبْنا لَهُمْ) يعني لإبراهيم وإسحاق ، (مِنْ رَحْمَتِنا) : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) يعني أمير المؤمنين. وبناء على هذه الرواية يحتمل كون (مِنْ) زائدة ، ويكون نصب (عَلِيًّا) بناء على الرواية بتقدير : أخصّ وأعني ونحوهما ، لا أنها مفعول ثان لجعلنا ، ولا أنها صفة للسان ، والله تعالى أعلم بما قال.

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

٥١ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) ... بعد الكلام عن عطاياه الجليلة لإبراهيم وبنيه عليهم‌السلام شرع بقصة موسى بإيجاز فقال : يا محمد بيّن لقومك قضايا موسى عليه‌السلام وكيفية أحواله ومجاري أمره مع قومه (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قرئ اسم فاعل (مُخْلَصاً) أي موحّدا أخلص عبادته عن الشّرك والرياء وأسلم وجهه لله تعالى ، وقرئ اسم مفعول (مُخْلَصاً) أي أخلصه الله سبحانه من كل سوء واختصّ جميع أقواله وأفعاله بنفسه تعالى ، لأنه هو الذي طهّره (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله عزوجل إلى الخلق. والفرق بين الرسول والنبيّ أن الأول أخص ، والنبيّ أعمّ من أن يكون رسولا ، إذ كلّ رسول نبيّ ، ولا عكس ، ولذا قدّم لأخصيّته ولكونه أعلى. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية : ما الرسول ، وما النبيّ؟ فقال عليه‌السلام : النبيّ الذي يرى في منامه ، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول يرى ويسمع ويعاين الملك.

٥٢ ـ (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ... أي من ناحية جبل هناك معروف بالطّور وكان على يمين موسى عليه‌السلام حين مناداته من جانب القدرة الإلهيّة (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي جعلناه قريبا منّا تقريب كرامة وتشريف ، وناجيناه بأن كلّمناه بهدوء ومسارّة دون غيره.

٥٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا :) أي أعطيناه ومنحناه وأنعمنا عليه بأن رحمناه وجعلنا أخاه هارون نبيّا يؤازره ويشدّ عضده إجابة لدعوته وطلبه حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) والحاصل أنه كان ممّا أنعمنا به على موسى ، أن قوّيناه بأخيه هارون وجعلناه ردءا له في مقام تبليغ أحكامنا ودعوته لفرعون إلى قبول العبوديّة لنا والتسليم لأمرنا. وكان عمر موسى عليه‌السلام مائة وستّا وعشرين سنة ، وعمر هارون عليه‌السلام ـ أخيه ـ مائة وثلاثا وثلاثين سنة ، وكان أسنّ من موسى عليهما‌السلام.

* * *

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

٥٤ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ... ثم إنه

تعالى بعد ذكر موسى عليه‌السلام وتوصيفه ببعض خصائصه ككونه من المقرّبين والمناجين ، وكجعل الوزير له ، وكونه من المخلصين ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يثبت في كتابه ويذكر لقومه إسماعيل عليه‌السلام ، ويعرّفهم بأنه كان من الرّسل والأنبياء ، وأنّ من خصائصه الممدوحة التي ينبغي أن يتحلّى بها الناس ويتّصفوا بها أنه (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) بحيث صار مشهورا ومعروفا به فعدّ من صفاته وخصائصه التي لم تندرس بتباعد الأعصار وتبدّل الدول واختلاف الملل ، وستبقى كيفية وصف الله تعالى له إلى يوم القيامة بعد أن كرّسها في القرآن الكريم ، ونعته فيه بهذا النعت الشريف. وقد أثبت علماء الأخبار وأهل السّير في تآليفهم أنه روي عن ابن عباس بأن إسماعيل عليه‌السلام وعد صاحبا له بأن ينتظره في مكان ، فانتظره سنة كاملة. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : إنّما سمّي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة فسمّاه الله عزوجل صادق الوعد. وقد أتاه الرجل بعد ذلك فقال له إسماعيل عليه‌السلام : ما زلت منتظرا لك. وقد يراد بصدق الوعد صبره على الذّبح وذلك حين قال لأبيه عليهما‌السلام : يا أبت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين ، وقد كان كذلك.

٥٥ ـ (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ... إن كان المراد بالصلاة والزكاة المفروضتين ، فالمراد بالأهل هنا هو الأمّة والقوم ، وإن حمل على الصلاة والزكاة المندوبتين ، فالمراد هم أهله خاصّة ، أي من كان في داره ومن أقاربه وعشيرته. وعلى الأمرين كان يأمر بالصلاة والزكاة (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) في جميع أقواله وأفعاله. وإن الله تعالى لمّا أمر أنبياءه بأن يأمروا أهلهم بالصلاة والزكاة ، كأنه سبحانه أمرنا نحن بذلك وجعل وظيفتنا أمر أهلنا بهما لنفوز بالقرب منه ولنحوز رضاه عزوجل. وهذا يستفاد من الآية ببداهة ، على أن أهل الإنسان بمنزلة نفسه. وفي العلل أن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ إسماعيل الذي قال الله تعالى في كتابه : واذكر في الكتاب .. الآية ، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، بل كان نبيّا

من الأنبياء ، هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه وجلدة وجهه ، فأتاه ملك فقال : إن الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت ، فقال : لي أسوة بما يصنع بالأنبياء. وفي رواية أخرى : بما يصنع بالحسين بن عليّ عليهما‌السلام .. ويستفاد من مجموع تلك الآيات المباركة أن الله تعالى أراد أن يشرح لنبيّه الأكرم أسماء أنبيائه وأحوالهم وخصائصهم ، ليعرفهم ويكون على بصيرة من أمرهم ، حتى لو سأله سائل عنهم لأجابه به بأحسن ما اطّلع عليه أحبارهم ورهبانهم ، فيكون هذا من أدلّة نبوّته وبراهين رسالته ، بل حجة عليهم ، ثم تستنّ أمته بسنّتهم الحسنة وملّتهم المحمودة صلوات الله عليهم أجمعين.

٥٦ و ٥٧ و ٥٨ ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) ... ثم إنه تعالى ذكر حديث إدريس عليه‌السلام وذكّر به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأثبت ذكره في كتابه المجيد كي لا يندرس ولا ينسى. وكان إدريس جدّ أبي نوح النبيّ عليهم‌السلام ، واسمه أخنوخ ، ودعي بإدريس لكثرة دراسته. وروي أنه نزل عليه ثلاثون صحيفة وأنه أول من خطّ بالقلم ونظر في علم النجوم ، وأول من خاط الثياب ولبسها ، وكانوا قبل ذلك يلبسون الجلود. وقد وصفه الله عزوجل بأنه (كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) كما مرّ في وصف غيره من سلفه الصالح ثم قال تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) فزاد في وصف رفيع مكانته بأنه رفعه إلى السماء ، إلى جانب رفع مكانته في العلم وشرف النبوّة. وقد كان لإدريس من شرف القرب من أبينا آدم عليهما‌السلام ما لم يكن لغيره ممّن بعده لأنه جدّ أبي نوح كما ذكرنا. أمّا إبراهيم عليه‌السلام فهو ممّن حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح ، كما أن من ولده إسماعيل وإسحاق ويعقوب الذين حصل لهم شرف القرب من أبيهم إبراهيم عليهم‌السلام جميعا. أمّا موسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام ، فهم من ذرّية إسرائيل ـ يعقوب عليه‌السلام ـ وفي هذا دلالة على أن أولاد البنات من الذرّية ، لأن عيسى من ذرّية إسرائيل عليهما‌السلام من قبل أمّه مريم التي هي من ذرية يعقوب عليها وعليه‌السلام.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي اخترنا. والجارّ ومدخوله خبر للضمير الراجع إلى الأنبياء المذكورين سابقا. والواو للاستئناف. ويحتمل أن تكون الآية الكريمة كلاما مستأنفا تقديره : وممّن هدينا واجتبينا من الأمم قوم .. فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه كما روي عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام. ولا يبعد أن يكون العطف على قوله تعالى : من النبيّين ، والمراد منه غير النبيّين من الأوصياء والأصفياء والأخيار والزّهاد والعبّاد وغيرهم ممّن هداهم الله واختارهم للعمل بما يرضيه ، وصفهم بهذا الوصف من الخشوع والتسليم والرهبة والرغبة : (إِذا تُتْلى) إن تقرأ (عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) أي آياته المنزلة التي تتضمّن الوعد والوعيد (خَرُّوا سُجَّداً) انكبّوا على الأرض يتلقّون الأرض بجباههم خضوعا وخشية. وكلمة سجّد ، جمع ساجد ، أي حال كونهم ساجدين متعبّدين (وَبُكِيًّا) جمع باك ، وأصله بكوي على فعول كسجود وقعود ، قلبت الواو وأدغمت وكسر ما قبلها ، أي حال كونهم باكين.

* * *

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

٥٩ و ٦٠ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) ... الخلف بالسكون العقب الطالح ، وبالفتح العقب الصالح أي فعقبهم من بعدهم عقب سوء ، وهم الذين من فرط جهالتهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بتركها أو تأخيرها عن وقتها حيث يضيع جزء كبير من أجرها وثوابها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) فعلوا ما حرّم عليهم ممّا تشتهيه أنفسهم الأمّارة بالسوء (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سينالون جزاء الغيّ ، أي الضلال ، يوم القيامة ، وذلك كقوله عزوجل : (مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) : أي جزاء الإثم. وقيل إن الغيّ واد في جهنّم يكون أحرّ نارا وأشدّ عذابا. وعن ابن عباس : إن هؤلاء هم اليهود الذين كانوا من أولاد الأنبياء فتركوا صلواتهم المفروضة عليهم وشربوا الخمور وأحلّوا نكاح أخواتهم اللواتي من آبائهم فقط ، وحرّموا بعض ما أحلّه الله لهم وحلّلوا بعض ما حرّم عليهم. وقيل إن المراد هو فسقة هذه الأمة إلى يوم القيامة ، ولا يبعد أن يكون الأعمّ مرادا منها. كما قيل إن الغيّ هو الشر الذي يلقاه هؤلاء يوم الحساب (إِلَّا مَنْ تابَ) ندم على ما سلف (وَآمَنَ) في مستقبل عمره (وَعَمِلَ صالِحاً) فقام بالواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا ينقصون من حقّهم شيئا. وفي هذه الشريفة دلالة على أن الله لا يمنع ثواب عمل أحد ولا يبطله ، وقد سمّى ذلك ظلما حتى لو كان الانتقاص من الثواب شيئا قليلا في غاية القلّة.

٦١ و ٦٢ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) ... جنات : بدل من الجنّة في الآية الكريمة السابقة ، أو هي مفعول لفعل محذوف ، وقد حرّك بالكسر لكونه جمع مؤنث سالما. فالتائبون يدخلون جنات عدن التي وعد الله تعالى بها عباده (بِالْغَيْبِ) أي بوعد وأمر هو غائب عنهم غير مشاهد من قبلهم ، ثوابا لتصديقهم به وبأوامر ربّهم ونواهيه (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي أمرا واقعا حاصلا هم واصلون إليه حيث (لا يَسْمَعُونَ فِيها) في الجنان (لَغْواً) فضول كلام ، وكلاما لا طائل تحته ، فلا يسمعون (إِلَّا

سَلاماً) تسليما وتحيات من الملائكة عليهم ، ومن بعضهم على بعض ، وهم في نعيم دائم ، (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها) يكون موفورا حاضرا بلا تعب ولا جهد ولا سعي ، يأتيهم (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في أوقات الحاجة إليه ، وقد عبّر ب (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليبيّن لهم أنه يأتيهم في المواعيد المرغوب فيها ، وقد سمّى سبحانه البكرة والعشيّ قياسا على حياتهم الدنيا لتكون مواعيد الرزق في الآخرة مقاسة على مقاييس وقتية يعرفونها لأن البكرة والعشيّة لا تكونان في الآخرة. وقيل إن المراد هنا هو رزقهم في جنّات الدّنيا ـ أو البرزخ ـ قبل يوم القيامة ، حيث تنتقل أرواح المؤمنين وحيث تطلع الشمس والقمر ، وهذا قول بعيد عن الصواب. وفي طبّ الأئمة عن الصادق عليه‌السلام أنه شكا إليه رجل ما يلقى من الأوجاع والتخمة ، فقال عليه‌السلام : تغدّ وتعشّ ولا تأكل بينهما شيئا فإن فيه فساد البدن. أما سمعت قوله تعالى : (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا)؟.

. فهذا التعيين جاء لوقتين معروفين مألوفين عند الناس في حياتهم الدّنيا ، وهو يعني أن رزقهم موفور لهم في مواعيده المطلوبة من قبلهم. ٦٣ ـ (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي هذه الجنّة الّتي وعدنا به المؤمنين بنا والعاملين والتائبين المنيبين إلينا ، هي التي نورثها للأتقياء من عبادنا ، أي للذين تجنّبوا غضبنا وعملوا بأوامرنا. وقد قال بعض المعتزلة ، كالقاضي وأصحابه : ٧ ن في الآية دلالة على أن الجنّة تختصّ بالمتّقين ، والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بالتقوى. وأجيب على هذا الحصر بأن المتّقي يدخل الجنّة مسلّما وليس في الكلام نفيّ عمّن عداه ، لأن المذنب أو صاحب الكبائر وإن كان يفعل الذنوب والسيئات التي توجب الفسق ، إلّا أنه محرز للتوحيد ومتّق للكفر بأقسامه فيصدق عليه موجبة جزئية أنه متّق ، ومن صدق عليه أنه متّق فهو من مصاديق قوله تعالى ، وهو ممّن قد يورثه الله تعالى الجنّة بفضله وكرمه لأنه جلّ وعلا يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ... إلخ .. ولا يجوز القنوط من رحمته تعالى ، فإن

القنوط يجلب اليأس من رحمته سبحانه ويباعد بين الإنسان والتوبة النّصوح التي توجب المغفرة بمنّ الله وكرمه.

* * *

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

٦٤ ـ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ... هذه الآية الكريمة حكاية قول جبرائيل عليه‌السلام في جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقضيّته إجمالا أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال اليهود : اسألوه عن أمور ثلاثة ، فإن أخبركم بخصلتين فاتّبعوه. فاسألوه عن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، وعن الروح. فجاءوا فسألوه ، فلم يدر كيف يجيبهم. فوعدهم ، فأبطأ عليه جبرائيل عليه‌السلام خمسة عشر يوما ـ كما قيل ـ فشقّ عليه ، فنزل بعد المدة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما منعك أن تزورنا؟ فأجاب : وما نتنزّل إلّا بأمر ربّك (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي أن له مستقبل أمرنا ، وما مضى منه ، وحاضره ، وجميع ذلك بيده تعالى ، وليس لنا اختيار في الأمور التي بيده أبدا. وهذا يعني أن عدم نزولي في تلك المدة ما كان من عند نفسي ، بل كنت منتظرا صدور الأمر من ربّي عزوجل (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي أن عدم أمر ربّك لي بالنزول ما كان ناشئا عن نسيانه لك ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، وهل يتصوّر فيه النسيان وهو تعالى يقول إنه :

٦٥ ـ (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ... وهذا الكلام يثبت امتناع النسيان عليه سبحانه كما لا يخفى. والجملة خبر مبتدأ محذوف أي : هو ربّ ... فالذي نعتناه لك بأنه لا ينسى هو ربّ هذه الكائنات كلها بما فيها وما بينها ، وهي له وملكه ، وهو جدير وقادر على إبلاغ تكاليفه في أوقاتها المناسبة ولا يؤخرها عن سهو أو نسيان (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) فقم بما أوجب عليك من العبودية له بصبر ورضى ، وقد عدّى باللام لتضمّنه معنى الثبات في العبادة (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي لا تعلم ولن تعلم من يسمّى باسم «الله» حتى المتربّبون والكفرة والملحدون فإن أفكارهم منصرفة عن أن يسمّوا أصنامهم بهذا الاسم الشريف السامي وإن كانوا يسمّونها باسم الإله ، لا الله وهذا من الإعجاز العجيب لأن الكفرة والوثنيين كانوا يهتمّون كامل الاهتمام بأن يشبّهوا آلهتهم بإله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من جميع الجهات ، وقد كان انصرافهم هذا آتيا من قبله سبحانه فهو على كل شيء قدير.

* * *

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

٦٦ و ٦٧ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) ... الألف واللام للجنس ، ولمّا كانت هذه المقالة موجودة في جنس الإنسان أسندت إلى جنسه. وقيل في أسباب نزولها أن أبيّ بن خلف أو الوليد بن المغيرة أخذ عظاما بالية ففتّها بيده وقال : يزعم محمد أننا نبعث بعد ما نموت؟ والمراد بالاستفهام في الآية هو الإنكار لهذا القول والاستهزاء به. أي كيف يقول الإنسان القاصر ذلك؟ ونحن نجيب الكافر بالبعث قائلين : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟) أفلا يتفكّر ويتأمّل بأننا أوجدناه أولا من العدم المحض؟ أولا يقدر الخالق من العدم ، أن يعيد ما كان أوجده وأحياه ، ثم أماته وأفناه؟ بلى والله :

٦٨ و ٦٩ ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) ... أقسم سبحانه بنفسه قائلا : وحقّ إلهك يا محمد ، لنجمعنّهم يوم القيامة مع قرنائهم من الشياطين الذي صاروا سببا لإغوائهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي لنأتينّ بهم ولنجعلنّهم جاثين على ركبهم حول نار جهنم ، يلتصق بعضهم ببعض لضيق المكان الذي ندعهم فيه ولتضييق حلقة العذاب عليهم لا لعدم وجود المكان المتسع (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) لنأخذنّ انتزاعا وعنوة من كل فرقة وطائفة ممّن تشيّعوا واتّبعوا مبدأ ما ، لنأخذنّ منهم الضالّين المضلّين ونحن نعلم (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) نعرف من كان منهم عصيا غاويا معاندا للرّحمان ، نأخذهم فنطرحهم في جهنم.

٧٠ ـ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) : ونحن أيضا أعرف بهم جملة وتفصيلا ، وأعلم بالمستحقّين منهم للإحراق بالنار وللإلقاء في عذاب السعير الذي يحرقهم ويذيقهم حرّ جهنم ورمضاءها.

٧١ ـ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ... أي وما منكم أحد إلّا واردها ، فإنّ (إِنْ) هنا بمعنى «ما» واختلف في معنى الورود على قولين : أحدهما أن الورود على الشيء هو الوصول إليه والإشراف عليه لا الدخول فيه ، وذلك كقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ، وكقوله سبحانه : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) ، أو

كقولك : وردت البلد الفلاني ، أي أشرفت عليه سواء أدخلت فيه أم لم تدخل. فيمكن أن يكون المراد بالورود هنا هذا المعنى ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها). والثاني من القولين أن ورودها بمعنى دخولها كما في قوله تعالى : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ، وقوله تعالى : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ، ولو كان هؤلاء آلهة ما وردوها. وعن الصادق عليه‌السلام في ذيل هذه الآية الكريمة وتفسيرها ، قال : أما تسمع الرجل يقول : وردنا ماء بني فلان؟ فهو الورود ، ولم يدخل. وهذا يؤيّد القول الأول .. فورودها على أي حال كان (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أوجبه الله على نفسه وقضى به وصار أمرا محتوما لا مفرّ منه. وعلى كل حال فإن الورود إذا كان بحسب القول الثاني الذي ذكرناه ـ أو مهما كان عامّا ـ فقد يخصّص بآية ما ، كالآية الشريفة التي ذكرناها من سورة الأنبياء ـ ١٠١ ـ : إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون ، لأن آيات القرآن يفسّر بعضها بعضا ، ولا نحتاج عند ذلك إلى تأويلات. وحتى بحسب القول الأول فان هناك مخصّصا في قوله سبحانه : مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، فإن ظاهرها مناف للإشراف أو الوصول إلى قربها أو الدخول فيها كما لا يخفى .. وقد قيل أيضا : لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا ويدخلها ، فتكون على الأبرار بردا وسلاما ، وعلى الكّفار عذابا أليما ، ولا يلزمنا أي محذور إن أخذنا به لأن الله تعالى قادر على كل شيء وقد جعل النار على خليله إبراهيم عليه‌السلام بردا وسلاما في عالم المحسوس الملموس الذي لم ينكره أحد .. بل لعلّ بعض المؤمنين يعذّبون بمرتبة خفيفة أو وسطى من العذاب لتكفير ذنوبهم وتطهرهم مقدمة لإدخالهم إلى الجنّة.

٧٢ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) ... حاصل هذا الكلام أن المتّقين ناجون من جهنم وعذابها ، وأن الكافرين معذّبون خالدون فيها ، ومن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، فسنخلّص المتّقين من عذاب جهنم بقدرتنا

وبثواب أعمالهم (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) نتركهم وندعهم (فِيها جِثِيًّا) مكبكبين مكبّلين جاثين على الرّكب.

* * *

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))

٧٣ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) ... أي إذا تقرأ عليهم آياتنا ظاهرات الإعجاز بيّنات المعاني واضحات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) خاطبوهم مستهزئين قائلين : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) من المؤمنين بها والجاحدين لها (خَيْرٌ مَقاماً) خير منزلا ومكانا (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أعلى وأجمل مجلسا ، ذاك أنهم يتبجّحون بما هم فيه من الاجتماع على الضلال وتنظيم أمور معاشهم وأثاثهم ورياشهم ، وأنديتهم التي يتفكّهون فيها ويكيدون للدّين وللمؤمنين ، ولذلك قال سبحانه وتعالى :

٧٤ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) : هذه لفظة (كم الاستكثارية) أي كثيرا ما أهلكنا قبلهم (مِنْ قَرْنٍ) جيل وأمّة كانوا أحسن أثاثا : متاعا وفرشا وأجمل (رِءْياً) منظرا. والرّءي على وزن (فعل) من الرؤية ، وقيل فيه معان أخر لا محل لها هنا.

٧٥ و ٧٦ ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ... أي تفكّر يا محمد وقل من رضي بأن يكون ضالّا كافرا بالإسلام فليمدد له الله عزوجل بطول العمر والمتمتّع بالعيش استدراجا له إلى أن يجيء أجله ، و (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من غلبة المسلمين لهم وقتلهم وأسرهم (إِمَّا الْعَذابَ) بأيدي المسلمين في دار الدّنيا (وَإِمَّا السَّاعَةَ) التي تأتيهم بيوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) يعرفون عند كلا الحالين (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) في الحياة أو بعد الممات (وَأَضْعَفُ جُنْداً) وأقلّ ناصرا ومعينا. فالعذاب : أي القتل ينتظرهم على أيديكم ، والساعة التي هي يوم القيامة تنتظرهم لزجّهم في النار ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أن المقصود بالساعة هنا هو قيام القائم عجّل الله تعالى فرجه حيث يقتل المشركين والكافرين (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) على يديه صلوات الله وسلامه عليه (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي الأعمال الحسنة التي تبقى عائدتها إلى أبد الآباد ، هي (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أجرا وجزاء حسنا (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي مرجعا ونفعا عائدا منها ، فإنما هي النّعم الباقية ، وما سواها من النّعم الدنيوية فهي زائلة فانية .. ويستفاد من هذه الكريمة أن الهدى له مراتب لا تحصل إلّا بلطفه وعنايته سبحانه وبمزيد توفيقه لأمور تصير موجبة للقرب إليه جلّ وعلا.

* * *

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))

٧٧ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) : هذا إخبار بقصة العاص بن وائل حين طالبه الخبّاب بن الأرتّ بدين كان له عليه و (قالَ) أي العاص ـ وكان أحد المستهزئين بالدّين وبالبعث ـ : ألستم

تزعمون البعث بعد الموت؟ قال : نعم. فقال : أحلف بإلهك أنني يوم القيامة (لَأُوتَيَنَ) لأعطينّ (مالاً وَوَلَداً) فأعطيك هناك بأزيد ممّا تطلبني هنا إذا بعثنا. وقد قال له ذلك مستهزئا بالبعث والحساب والثواب والعقاب ومنكرا لكلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فقال سبحانه مستهزئا به :

٧٨ و ٧٩ ـ (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : وهذه همزة الاستفهام التي دخلت على همزة الوصل (أَطَّلَعَ) ومعناه : أعلم الغيب حتى يعرف أنه سيكون في الجنّة أم لا ، وأنه لو بعث رزق مالا وولدا ، أم هل بيده عهد من الله تعالى بذلك؟ (كَلَّا) هذه كلمة ردع وتنبيه إلى أنه مخطئ فيما تصوّره لنفسه ، وإننا (سَنَكْتُبُ) نسجّل عليه (ما يَقُولُ) من الخطل (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ونطيل زمن عذابه فنخلّده فيه تخليدا ، جزاء استهزائه بالبعث والحساب :

٨٠ ـ (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) : أي أننا نرث قوله من بعد أن نهلكه ، ونرث كذلك ما له وولده (وَيَأْتِينا) يجيء إلينا يوم القيامة (فَرْداً) وحده لا يصحبه مال ولا ولد ولا ناصر ولا معين.

* * *

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤))

٨١ ـ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) : أي جعل هؤلاء الكافرون لأنفسهم أربابا من دون الله تعالى وادّعوا أن هذه الأرباب تقرّبهم

من الله زلفى ، وهي تعزّهم وتكرّمهم بين يديه سبحانه ، ولكن :

٨٢ ـ (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) : لا ، فإنهم يوم القيامة سينكرون أنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ، وسيتنصّلون من عبادتها ويكونون ضدّ عبادتها وتكون هي ضدّهم لأنها تتبرّأ من شركهم بالله عزوجل ومن عبادتهم كما قال الصادق عليه‌السلام ، والآية ردع وتسفيه لتعزّزهم بتلك الأصنام التي تكون عبادتها وبالا عليهم حين ترفضهم وترفض عبادتهم لها.

٨٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) ... أي : ألا ترى يا محمد كيف بعثنا الشياطين وخلّينا بينها وبين الكافرين فوسوست إليهم ودعتهم إلى الضلال وهي (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تحثّهم على المعاصي بالتسويلات والإغراءات؟ وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في أن مانع الزكاة والمعروف ، يبعث عليه سلطان أو شيطان ، فينفق عليه ما يجب عليه من الزكاة في غير طاعة الله ، ويعذّبه الله عليه.

٨٤ ـ (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) : لا تستعجل يا محمد بهلاكهم لتستريح من شرورهم ، فإنهم لم يبق لهم إلّا أنفاس معدودة ونحن نحصيها عليهم إحصاء ونأخذهم بأعمالهم الشريرة المعدودة عليهم أيضا. وقد سئل الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) ، فقال للسائل : ما هو عندك؟ قال : عدد الأيام. قال عليه‌السلام : إن الآباء والأمّهات يحصون ذلك. لا ، ولكنّه عدد الأنفاس. وكلامه عليه‌السلام يعني أنه ليس الأمر كما تزعمون لأن الله تعالى اختصّ العدّ بذاته المقدّسة وحصره فيها. وفي نهج البلاغة : أنفاس المرء خطاه إلى أجله ، كما هو الواقع الصحيح.

* * *

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

٨٥ و ٨٦ ـ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) ... لفظة : يوم ، منصوبة على الظرفية ، وهي تعني يوم القيامة حين يجمع الله المؤمنين به في دار كرامته ومحلّ قدسه. وإن سوق الآية كان يقتضي أن يقول سبحانه : يوم نحشر المتّقين إلينا ، ولكنه عدل إلى الاسم الظاهر : (الرَّحْمنِ) مع أنه هو ذاته تقدّس اسمه ، لما في لفظ الرحمان من الإشارة إلى المولى المنعم ، وإلى رحمته الواسعة التي تعمّ جميع الموجودات ولا سيّما الإنسان المطيع. ولهذا قال عزّ من قائل نحشرهم إلى الرّحمان (وَفْداً) أي جماعة وافدين ، واردين ، وعن عليّ عليه‌السلام : ركبانا على نوق رحالها من ذهب. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ) نحثّهم على السير إليها كما تساق البهائم إلى مرابضها ومناخها وأمكنة استراحتها ، ونحن ندفعهم إلى النار دفعا ويأتونها (وِرْداً) واردين إليها عطاشا كالإبل التي ترد الماء.

٨٧ ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : أي : يومئذ لا تكون الشفاعة ملك أحد إلّا من وعده الرّحمان بذلك وعهد إليه أن يأذن بشفاعته ، كالأنبياء والأوصياء والمؤمنين. وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : إلّا من دان لله بولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام من بعده ، فهو العهد عند الله.

* * *

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ

 يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

٨٨ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : هذه حكاية قول اليهود والنصارى ومشركي العرب أيضا ، فهؤلاء جعلوا الملائكة بنات الله ، وأولئك وأولئك جعلوا كلّا من عزير وعيسى ابنا له ، فأجاب سبحانه على قولهم بقوله الكريم :

٨٩ و ٩٠ و ٩١ و ٩٢ ـ (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) ... فأقسم سبحانه باللّام وبقد التحقيق بأنكم أيها المدّعون لله ولدا قد أتيتم بشيء منكر عظيم شنيع ، حين سمّيتم لله تعالى ولدا ، وقد جلّ عن ذلك وعزّ لأنه لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد. وانّ هذا الافتراء عليه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ... أي لو تشقّقت السّماوات لشيء عظيم لكانت تشققت لهذه الفرية العظيمة والنّسبة السخيفة (وَتَنْشَقُ) تتفطّر أيضا (الْأَرْضُ) منها (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تنهدم وتتساقط في السفوح وينقلب أعلاها على أسفلها. والهدّ هو الكسر والتفطّر الذي يعقبه الانسلاخ الذي له صوت شديد. كل ذلك كان يمكن أن يكون لمجرّد (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) حيث جعلوه كائنا ذا أولاد ، وقد جلّ عن الشبيه والمثيل. وهذه الجملة في موضع العلّة للحوادث المهمّة المذكورة ، بل هي العلّة نفسها (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ولا يليق بحضرته وقدسه وعظمته وتعاليه عن الشبيه والمثل ، أن يكون له ولد لا بكيفيّة التجانس ، ولا بالتبنيّ ، لأنه إمّا أنه مستلزم للمحال أو للتجسيم الذي هو محال أيضا.

وإن قيل : أيّ شيء يترتّب على نسبة الولد إليه تعالى ، ليرتّب على ذلك تلك الآثار العظيمة والحوادث المهمّة في السماوات والأرضين والجبال ، ثم يهتمّ كمال الاهتمام بنفي تلك النّسبة وردّها بمثل قوله سبحانه : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً)؟ .. فيمكن أن يجاب بأن هذه النّسبة مستلزمة للوازم وتوالي فاسدة ، منها : مسألة التجسيم الذي يترتّب عليه الحدوث بناء على كون الولد يأتي من ناحية التولّد المتعارف المعهود ، الذي من لوازمه الجسم كما أن من لوازمه الحدوث اللّذان يكونان بذاتهما مسبوقين بالعدم ومتغيّرين بالذات. وليس مرادنا بالحدوث ، إلّا ما كان متّصفا بهذين الوصفين أو بأحدهما على وجه مانع للخلوّ على ما برهن عليه في محلّه. وأمّا القول بالولد من جهة التبنيّ فيلزمه الاحتياج ، لأن طلب الولد وتبنّيه يكون لأمور : منها المعاونة ، ومنها الأنس به والمؤالفة معه ، والتزيّن به والاستظهار ؛ ومآل كلّ ذلك الحاجة والفقر إلى الغير ، وهما من لوازم الممكن ، والإمكان لا يجتمع مع واجب الوجود بالذات ، فتكون النتيجة أنّ من قال بالنبوّة فهو كافر ومنكر لصفة الألوهية وملحد أيضا لم ينزّه ربّه عمّا ليس فيه. فإن قلت : إن المنكرين والملحدين كثيرون في الدنيا ، فما وجه اهتمامه تعالى بالرّد والنفي لما ينشأ من ناحية القول بالنبوّة؟ قلت : لعلّ الوجه أن علل ومناشئ هذا الإنكار قريب للقبول في أذهان العوامّ بل بعض الخواصّ ، ولذا نرى أن الردّ والنفي راجع إلى ناحية العلّة كما أنه راجع إلى ما يترتّب عليها ويلازمها. بيان ذلك أن إضافة الملائكة إليه تعالى وأنها بناته ومختصّة به قد يكون في أنظار العوام وتفكيرهم أن الملائكة بصورة البنات الجميلات ، ولذا نرى المصوّرين يرسمون الملائكة بتلك الصور الفاتنة. وفي بدوّ الأمر يخطر بالبال أن وجودهنّ لا بد أن يكون من ناحية التولّد من الغير والتناسل ، والغير الذي يستولدهنّ لا يكون إلّا هو تعالى لما قلنا من اختصاصهن به وإضافتهن إليه ، جلّ وعلا عن ذلك علوّا كبيرا!!.

وأما مسألة عيسى عليه‌السلام ، والقول ببنوّته له تعالى ، فهو أقرب من الملائكة إلى الأذهان الساذجة ، لأنه سبحانه أضافه إلى نفسه بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي). وهو في ظاهر الأمر ليس له أب ، والولد لا بد له من والد ، وهو هنا لا يكون إلّا الله ، وغيره لا يناسبه. فبهذه التخيلات والتسويلات قالوا بأنه ابن الله.

وأمّا وجه بنوّة العزير له تعالى ، فقد قيل لأنه قام بتلاوة التوراة عن ظهر قلب بعد ما أحرقت وأعدمت ، فزعموا ـ بعد ما جاء بها ـ أنه ابن الله ، ولذا اختصه الله بهذه المنزلة العظيمة من حفظ التوراة ، وأجرى على يديه هذا الأمر العظيم ولم يجره على يد غيره. والحاصل أنهم بمثل هذه التأويلات والتلفيقات الشيطانية المردودة ، خرجوا عن الصراط المستقيم ودخلوا في الضلالة الأبدية وباءوا بغضب من الله ومآلهم إلى الدرك الأسفل من الجحيم.

٩٣ و ٩٤ و ٩٥ ـ (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ... إن هي مخفّفة إنّ ، فإنّ كل كائن عاقل في السّماوات أو في الأرض هو عبد داخر لله عزوجل ، ويأتي يوم القيامة خاضعا لربوبيّته مذعنا لحكمه (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) حسبهم وعرف عددهم بأشخاصهم وأعيانهم واحدا واحدا ، وأحصى أنفاسهم التي قدّرها لهم في دار الدّنيا ، وعلم ما كان من كلّ واحد منهم ، ولم يشغله معرفة واحد عن معرفة الآخر ، فأفعالهم مكتوبة وأمورهم محصيّة ، لا يخرج شيء منهم ومن أعمالهم عن دائرة علمه وحوزة إحاطته وحيّز قدرته (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) يجيئون بين يديه واحدا واحدا فيحاسب كلّ واحد كأنه متفرّغ لحسابه عن غيره ، وتتمّ محاسبتهم في آن واحد كما يرزقهم في آن واحد ، ولا يعجزه شيء من أمرهم ، كما جاء في مضمون كلام للصادق عليه‌السلام.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... بعد أن بيّن سبحانه دقة إحصائه لمخلوقاته جميعا ، ودقة محاسبته لهم ، بشّر بهذه الآية الشريفة المؤمنين الذي سمعوا وأطاعوا وعملوا الأعمال الصالحة واتّبعوا أوامره وانتهوا عن نواهيه بأنه (سَيَجْعَلُ) يحدث لهم ربّهم (الرَّحْمنُ) بهم (وُدًّا) محبة في القلوب ، قلوب بعضهم البعض وذلك قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ، إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ، مضافا إلى مودّته لهم المترجمة بالرحمة والعطف واللطف من جانبه تعالى وتبارك. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم هب لعليّ عليه‌السلام المودّة في صدور المؤمنين ، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ.

٩٧ ـ (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) ... أي : إنّما سهّلنا عليك هذا القرآن بأن جعلناه بلغتك ولغة قومك لتسهل عليهم معرفة ما فيه فتتمّ الحجة عليهم ، فتفرح المؤمنين بتبشيرهم بما وعدهم الله تعالى من الأجر والثواب (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) ولتحذّر الأعداء الشديدي العداء لك ولدعوتك. واللّد جمع ألدّ ، وهو الشديد الجدل بالباطل والمعادي للدعوة ، يعني قريش ومن معهم من أصحاب الخصومة الشديدة والعناد. وعن روضة الواعظين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ الذين آمنوا : هو عليّ عليه‌السلام ، وأنّ : قوما لدّا : قوما ظلمة ، هم بنو أميّة.

٩٨ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ... مرّ تفسير مثلها ، وهي تخويف لكفرة قريش وعتاة المشركين ، بالأقوام التي أفناها الله تعالى من قبلهم فذهبت فلا يرى لها أثر ولا عين ، كما أنها سؤال منه سبحانه موجّه لرسوله

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر العالمين يقول فيه : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) هل تشعر بوجود أحد منهم (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا خفيفا ونأمة؟ مع أنهم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعظم أجساما وأشد خصاما من هؤلاء الكفرة ، فلم تغنهم قوة ولا قدرة لمّا أردنا إهلاكهم. فحكم هؤلاء الكفّار من قومك ـ يا محمد ـ في قبضته قدرتنا حكم أولئك في أننا عمّا قريب نهلكهم ولا يبقى منهم أثر ولا عين. وعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية : أهلك الله من الأمم ما لا تحصون ، فقال يا محمد هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا. والرّكز الصوت الخفيّ الذي لا يكاد يسمع كما قلنا ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

سورة طه

مكيّة إلّا آيتي ١٣٠ و ١٣١ فمدنيّتان ، وآياتها ١٣٥ نزلت بعد مريم

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

١ ـ (طه) : قد سبق تأويل الحروف المقطّعة في أوائل السور ، وقلنا إن أحسن التأويل فيها أنها أسماء رمزيّة لنبيّنا صلوات الله عليه وآله ، ولفظه : طه ، من أدلّها عليه لأنه هو المخاطب بالقول بعدها.

٢ ـ (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) : أي لم نوح به إليك لأجل أن تتعب نفسك وتجعلها في العسر ، فعن الصادقين عليهما‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتى تورّمت

وانتفخت ، فأنزل الله تعالى : (طه ، ما أَنْزَلْنا ..) الآية. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه ، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك فقال الله عزوجل : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) إلخ ...

٣ ـ (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) : أي لكننا أنزلنا القرآن عليك للوعظ لمن يتّعظ ، ولتنذر به من كان في قلبه رقّة ورحمة يتأثر بالإنذار والتوعيد. وقد نصب لفظ : تذكرة ، على الاستثناء المنقطع لعدم السنخيّة بين المستثنى منه والمستثنى. ولفظة إلا ، بمعنى : لكن ، كما قلنا ولكون الاستثناء منقطعا.

٤ ـ (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) : أي : أنزلناه عليك لهذه الغاية تنزيلا من عندنا. فلفظة تنزيلا منصوبة على المفعول المطلق ، والقرآن نزل عليك من خالق السماوات الرفيعة وخالق الأرض ومنشئ الكائنات. ولفظة : العلى : جمع العليا ، مثل الدّنيا والدّنى ، والقصوى والقصى.

٥ ـ (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : أي : هو الرّحمان ، خالق ذلك ، وهو الذي استولى على العرش وعلى جميع الممكنات من الذرّة وما دونها ، والدّرة وما فوقها. وكان الإمام الصادق عليه‌السلام يقول في تفسير هذه الكريمة : على الملك احتوى. ويقال احتوى على الشيء إذا جمعه وأحرزه واشتمل عليه. ويطلق العرش على الملك وإن كان يفهم منه كرسي السلطة.

٦ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ... له كل ذلك (وَما تَحْتَ الثَّرى) الثّرى : هو التراب النديّ ، وهو عادة ما جاور البحر من الأرض. فالله سبحانه وتعالى ملك السّماوات والأرضين ، وما فيهن وما بينهن وما تحت أطباق الثرى من معادن وكنوز وما أشبه ذلك. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه تلا هذه الآية فقال : فكلّ شيء على الثّرى ، والثرى على القدرة ، والقدرة تحمل كلّ شيء.

٧ ـ (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) : الجهر هو رفع الصوت إلى ما فوق الإخفات بحيث يكون مسموعا. والمعنى أنك إن رفعت صوتك بذكر الله وجهرت به ، أو إذا أخفّته وذكرت بما دون الجهر فإنه ـ أي الله تعالى ـ يعلم ويسمع السرّ الذي تكنّه في صدرك أو تبوح به إلى غيرك همسا ، ويعلم ما هو أخفى من السرّ كالذي توسوس به النفس من حديثها الخفيّ. فهو سبحانه يطلع على ما تسرّه وما تخفيه ممّا يخطر في بالك. وعنهم عليهم‌السلام : السرّ ما أخفيته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.

٨ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : ذاك هو الله سبحانه وتعالى الذي لا إله غيره ، وحسن الاسم تابع لحسن المسمّى ، فجميع أسمائه جلّ وعلا هي أسماء حسنى لا يشاركه فيها أحد بالمعنى الدقيق.

* * *

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

٩ و ١٠ ـ (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ رَأى ناراً) ... أي هل بلغك يا محمد قصة رسولنا موسى بن عمران عليه‌السلام وما حدث له حينما خرج من مدين متجها إلى مصر ليرى أمّه فضلّ عن الطريق وتفرّقت ماشيته وحدث لامرأته الطّلق حين وصل إلى وادي طوى الذي فيه جبل الطّور ، فرأى نارا مضيئة من بعيد كانت عنده نارا كما رآها ، وكانت عند الله تعالى نورا (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن معها (امْكُثُوا) أقيموا مكانكم (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا إبصارا لا ريب فيه ، وأنا أقصدها وأتوجّه نحوها (لَعَلِّي) متمنيا أن (آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي قطعة من النار تتدفّأون بها وتستنيرون (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أو لعلي أصادف عند ملك النار أناسا يهدونني طريقا إلى الناس بعد هذا الضياع في الصحراء وبعد تفرّق الماشية وحلول الطّلق الذي حصل في هذه الأزمة.

١١ و ١٢ ـ (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى : إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ... فلما وصل إلى المكان الذي ظنّ فيه نارا نودي : دعي من جانب الطور باسمه : يا موسى ، إني أنا ربّك وخالقك وليس النور الذي تراه نارا (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي انزع حذاءك الذي تنتعله في رجليك ، وامش حافيا ، وذلك أن المشي بلا خفّ ولا نعل نوع من التواضع بين يديه سبحانه وتعالى. فتواضع يا موسى بخلع نعليك (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي في الوادي المطهّر المسمّى بطوى ، وهو واد في أقصى الجنوب الغربي من بلاد الشام ، أي في جنوبي غربي فلسطين.

١٣ ـ (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) : أي قد انتجبتك للنبوّة والرسالة ، وانتقيتك من بين عبادي ، فاستمع : أصغ بكل وعيك لما يوحى : ينزل عليك من كلامي. وفي هذا الأمر بالاستماع اهتمّ سبحانه بسماع وحيه والتوجّه إليه بكل قلبه.

١٤ ـ (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) ... هذا ما أوحى به إليه أولا ، فقال عزّ من قائل : إنّني أنا الله ، وهذا فيض من نوري ، لا إله غيري ولا معبود

سواي (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فاجعل عبادتك خالصة لي ، وصلّ واذكرني في صلاتك وعبادتك وحدي. وفي قوله هذا سبحانه ثلاث جهات هي من أهمّ ما يوحي به في رسائله السماوية :

الأولى : أن الآية تدل على تقرير التوحيد وقصر الوحي ابتداء عليه لأنه من أهمّ ما يوحى به إذ هو منتهى العلم ونتيجة كلّ العبادات لأنها مقدمة له بعد معرفة ذاته المقدّسة.

والثانية : هو الأمر بالعبودية له ، وقد تقدّمت منّا الإشارة إلى سموّ مقام العبودية له وإلى علوّ مرتبتها إذ يعتبر الأنبياء والأوصياء من عباده الصالحين ، لأن العبودية له من أرفع وأسمى المراتب ولأنها تدل على تمام العمل المرضيّ وكماله.

والثالثة : هي الأمر بالصلاة التي هي عماد الدّين ومعراج المؤمن وأهمّ أعماله وخيرها. ومما تدل الآية الشريفة عليه : تعليل الأمر بالصلاة بالذكر. وقد خصّص به لأنه العلة التي أناط بها إقامة الصلاة ، فإن الصلاة بالأخص ـ وسائر الأعمال العبادية ـ جعلت لذكر المعبود ، وهذا هو عمل القلب وشغله ، وروح الأعمال وجوهرها. ولذا ورد : تفكّر ساعة خير من عبادة كذا سنة.

ثم أنه تعالى توعيدا وتخويفا أخبر بمجيء يوم القيامة للحساب والثواب والعقاب فقال :

١٥ ـ (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) ... أي إن ساعة يوم القيامة متيقّنة الوقوع لا محالة ، وأنا أكاد أخفيها : أريد إخفاءها عن عبادي للتهويل والتخويف ورحمة بهم ، فإن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة يكونون دائما على حذر منها في كلّ وقت وفي كلّ حال. وأخفيها : هنا جاء بمعنى : أظهرها ، كأنه سبحانه يتوعّد بها. والإخفاء بمعنى الكتم بخلاف الخفاء ـ بلا همز ـ فإنه بمعنى الظهور لا غير. وقيل إن همزة إخفاء للسلب ، يعني سلب الخفاء ، أي الظهور. والمعنى على هذا يكون : قرب إظهار ساعة القيامة.

فمن أجل ذلك يترتب التخويف من الساعة ، لأن الناس إذا علموا قربها وصدق حلولها كانوا على خوف منها وتهيّأ ولإصلاح أمورهم وللإتيان بالأعمال الصالحة وبالتوبة والإنابة خوفا منها على أنفسهم ، لأن أهوال القيامة مخوفة مهولة ، ويؤيد هذا المعنى قوله سبحانه (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي لتثاب أو تعاقب بحسب سعيها : عملها ، وهذا بناء على التعلّق بأخفيها لا بآتية.

١٦ ـ (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) ... أي لا يمنعنّك عن الإيمان بما ذكرنا لك من التوحيد ، والعبودية ، وإقامة الصلاة ، والتصديق بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) الذي يكفر بهذه الأشياء ولا يصدّق بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) سار مع هوى نفسه في طريق الضلال (فَتَرْدى) فتهلك إذا صدّك هذا الضالّ عنها.

* * *

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

١٧ ـ (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟) ... ليعلم أن هذا السؤال الكريم وهذا الاستفهام العظيم صدرا عن العظيم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض

ولا في السماء ، والذي لا يغرب عنه مثقال ذرّة فما دون ذلك من عباده ، وأنهما إنما وردا هنا لإظهار المودّة والشفقة والرحمة ، ولذا التفت من الضمير (بِيَمِينِكَ) إلى الظاهر (يا مُوسى) لأن في ذكر اسم المحبوب نوعا من التلطّف ليس في غيره كما لا يخفى على أهل المعرفة وأصحاب الذوق السليم. نعم ، في النداء بالكنى والألقاب نوع من الاحترام ليس في الأسماء ، فيا أبا فلان ، أجمل من يا فلان ، بل في النداء بالاسم في بعض الأوقات من شخص إلى آخر قد يوحي بالهتك ويكون خلاف الاحترام ولكنه من الأغيار لا من الحبيب إلى حبيبه فإن الأمور المتعارفة عند الناس ساقطة بين الحبيبين بحيث صار معروفا أنها تسقط الآداب بين الأحباب لأن مودّتهم ليست منوطة بالأمور الظاهرية من العناوين والتشريفات التي يمارسها أهل الظاهر من الحشويّة والقشوريّة ومن شابههما ممّن لا تبقى المودة بينهم إلّا ببقاء التشريفات والتعارفات. وأين هذا من المودة لله وفي الله ومن الله؟ إن مودّته سبحانه فوق المودّات المرسومة لدى الآخرين ، لأنها تصير سببا للاتحاد والوحدة بحيث كأنّ الحبيب مع حبيبه شخص واحد ، وبحيث كأن المحبّ قد حلّ في محبوبه ، ومن أجل ذلك نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته فاطمة الزهراء عليها‌السلام أن تقول : يا رسول الله ، وقال لها قولي : يا أبتاه. ذاك أن القول كذلك بين الأحباب يجلب الحياة للقلب والسرور إلى الفؤاد والراحة إلى النفس.

أجل ، قد صدر هذا السؤال الكريم من عالم الغيب بأجمل تعبير : وما تلك العصا التي تحملها بيمينك؟ مع علمه السابق سبحانه بما سأل عنه.

١٨ ـ (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) ... هذا الجواب بهذه الأمور الواضحة التي لا تناسب لأن يجاب بها الله تعالى الذي أحاط بكلّ شيء علما ، أوّل دليل على ما قلناه في الآية الكريمة السابقة من أن المراد بالحوار إطالة الحديث مع الحبيب بعبارات وألفاظ مختارة غاية الاختيار. فهل العصا لأكثر من (التوكّؤ عليها) أي الاعتماد عليها عند التعب؟ ... وهل هي لمن

يسوق ماشية في البراري والأحراج أكثر من أن (يهش به على غنمه) أي يضرب بها الأشجار لتتناثر أوراقها على الأغنام فترعاها؟ .. وهل يقتني العصا إلّا من كانت له (فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي قضاء حاجات مختلفة من صدّ العدوّ والوحش الضاري والتهويل في كل مناسبة؟ هذه هي لوازم العصا التي يعلمها الله سبحانه وتعالى أكثر ممّا يعلمها موسى عليه‌السلام ، ولكن هذا الذي حصل للسبب الذي ذكرناه من جهة ، ولسبب أن تلك العصا كانت ذات خصوصية ملازمة لها كان موسى لا يزال جاهلا بها وإن كان قد رأى فيها عجائب ليست في غيرها من العصيّ. فقد روى ابن عباس أن من منافعها أنها كانت تتكلّم مع موسى عند وحدته ، فكان يستأنس بها. ومنها أنها كانت تحرسه نوما ويقظة في السفر والحضر من السباع وغيرها ، وأنها كانت تحارب معه عدوّه ، وتحافظ على أغنامه عند غيابه عنها وعند نومه ، وإذا استسقى من بئر كانت تصير حبلا ، وكان في رأسها شعبتان تصيران دلوا يغترف به الماء ، ويصير طولها بعمق البئر فيستقي بها بأدنى قوّة ، وإذا أراد فاكهة كان يغرسها فتخضرّ في الحال وتظهر عليها أنواع الفواكه الناضجة ، وفي الليلة المظلمة كانت شعبتاها تضيئان كالقمر المنير ، وإذا احتاج إلى النار يضرب على شعبتها حجر النار فتخرج منه النار ، وإذا اشتهى الطعام أو الشراب يطلع منها ما يريد. وهكذا كان يستفيد منها موسى فيركبها في السفر إذا تعب فيراها أسرع مركب وأحسنه.

وإذا قيل : ما زالت كذلك فلم لم يفصّل موسى هذه المآرب بين يدي الله تعالى ، واكتفى بما ذكره؟

قلنا : لعله قد أخذته الدهشة والهيبة الإلهيّة فلم يستطع أن يتكلم بأزيد ممّا فصّل وذكر ، فجمع كلامه كلّه بقوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). وهنا أراد ربّه جلّ وعلا أن ينبهّه إلى أمر أعجب وأعظم من كلّ ما يعرفه فيها ، فتابع الحوار :

١٩ و ٢٠ ـ (قالَ أَلْقِها يا مُوسى ، فَأَلْقاها) ... أي قال الله تعالى له :

ارمها من يدك واطرحها على الأرض لتعرف قدرتنا ، ولتستأنس بها بعد معرفة أعظم أسرارها فلا تخاف من مظاهر القدرة والعظمة ، ولا تستوحش إذا استعملتها في موارد الحاجة والدّعوة إلينا حين نأمرك بإظهار الدّعوة وتبيانها إتماما للحجة على الخصماء والمعاندين المتمرّدين (فَأَلْقاها) موسى : رماها (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أفعى مدهشة ، تسير فاغرة فاها ومكشرة عن أنيابها تنشر الرّعب والهلع وهي تتقلّب ظهرا لبطن وتنسرب على الأرض؟! عندها أخذت موسى الهيبة منها ، فجاءه النداء الكريم :

٢١ ـ (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) : قال الله تعالى لموسى : خذها ولا تأخذك الرهبة ولا تستوحش منها فإنها هي عصاك نفسها بعينها وبذاتها وصفاتها ، وهي التي أمرناك بإلقائها تمرينا لك على خاصيّتها العجيبة ، ونحن (سَنُعِيدُها) نرجعها (سِيرَتَهَا الْأُولى) حالتها التي كانت عليها من الهيئة والخاصيّة. وعن الصادق عليه‌السلام : ففزع منها موسى وعدا ، فناداه الله عزوجل : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها ..) الآية. فأراه الله تعالى تلك الآية لتكون معينة له عند الحاجة. ثم شرع سبحانه في تعليمه آية ثانية تكون له معجزة عند الأعداء فقال تعالى :

٢٢ ـ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ) ... أي أدخل يدك تحت إبطك ، وقد كنّى سبحانه عن اليد بكاملها بالجناح ، فافعل ذلك (تَخْرُجْ) يدك (بَيْضاءَ) مشرقة منيرة ذات لون يخالف لونها الطبيعي ، لأنه بياض متلألئ كاللّجين ، يضيء كما تضيء الشمس ويلمع كما تلمع بحيث يدرك كل من يراها أن أمرها أمر غير عادي وهو مما فوق الطبيعة لأنه آية إلهيّة يعجز غيره عن الإتيان بمثلها. وقوله سبحانه : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) هو بيان وتوضيح وتفسير يدل أن ذلك يكون من غير مرض كالبرص ، رغم أن ذلك اللون اللامع لا يشبّه بالبرص وما سواه من الأمراض ، فهي تخرج بيضاء من غير علة :

٢٣ ـ (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) : أي نفعل معك ذلك لتنظر إلى دلائلنا

ومعاجزنا الكبرى التي يعجز الخلق عن الإتيان بما يشبهها ، فإننا قد اخترناك لأمرنا وأطلعناك على بعض آياتنا التي تعينك في الدعوة إلينا.

* * *

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

٢٤ ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) : لمّا أعطاه الله تعالى منصب النبوّة وخلافته في أرضه ، وزوّده بآياته وبيّناته ، أمره بأن يذهب إلى فرعون ملك مصر المترتّب على الناس ، ليدعوه إلى العبودية له تعالى وترك ما هو عليه من العناد والكفر والطغيان ، فاستعظم الأمر الذي لا يستطيع إلّا أن يقبله من جهة ، ولا يمكن الاعتذار منه من جهة ثانية.

٢٥ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ ـ (قالَ : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) ... أي امنن عليّ بسعة الصدر لأصبر على عناد فرعون ومقاومة كفره. وشرح الصدر بالمعنى الظاهري هو توسيعه وفتحه كتوسيع المكان وتوسعة الزمان كما لا يخفى ، ولكن لا بد من أن نحمله على أمر معنويّ يشمل الاستعداد والقدرة على حمل أعباء الخلافة والرسالة إلى جانب القوة على الصبر والأذى وآلام السفارة ، كما أن لشرح الصدر آثارا ولوازم أخرى كحسن الخلق وإيثار الناس على النفس والأهل ، وكإصلاح ذات البين وقضاء الحوائج وإرشاد الجهلة ، وكالشجاعة والسخاوة وكمال العقل وحسن السياسة وتدبير النظام

العالمي من الناحية الدنيوية والأخروية ، وكالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وما سوى ذلك من الأفعال الجميلة والأعمال الحميدة والخصال الطيّبة ، فإن هذه هي كلها من آثار شرح صدور رسل الله الكرام كلوازم لا يسعها التعداد لأنها تحوي كل معنى طيّب يوفّره الله في رسله دون غيرهم. وشرح الصدر على هذه الكيفية مخالف لما قيل في شرح : ألم نشرح لك صدرك حيث قالوا بشقّ صدره الكريم وإجراء عملية فيه تغاير المألوف والمعروف.

وعلى كل حال فإن موسى عليه‌السلام قال : ربّ اشرح لي صدري (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) سهّل لي أمر تبليغ رسالتك وسفارتك إلى الناس وأعني على الطغاة والمردة واحفظني من شرّ كيدهم ومكرهم لأقوم بهذا الأمر العظيم (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) أي أطلق لساني من عقاله واجعله فصيحا بليغا في الأداء ، ذلك أن لسانه الشريف كانت قد أصابته جمرة في طفولته فأحرقت طرفه فصارت فيه رتّة ، فدعا الله سبحانه أن يحلّ هذه العقدة منه ليقدر على الإفصاح عند نطق جميع الحروف عند التبليغ فإن التبليغ من الإبلاغ الذي هو والبلاغة من حسن الكلام وحسن تأثيره في النفوس ليكون على أتمّ وجه. وأما وجه وضع الجمرة في فيه فإنه عليه‌السلام عطس وهو طفل حيث كان يقعده فرعون في حجره بعد أن تبنّاه فقال حين عطش : الحمد لله رب العالمين ، فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه على وجهه فوثب موسى على لحية فرعون الطويلة المرصّعة بالجواهر ونتفها فآلمه ألما شديدا فهمّ فرعون بقتله فقال له امرأته هذا طفل حدث لا يدري ما يقول ولا تصدر أفعاله عن وعي وشعور ، فقال فرعون : بلى إنّه يدري ويعي ، فقالت له : ضع بين يديه تمرة وجمرة فإن ميّز فهو الذي تقول. ففعل فرعون ذلك وصفّ جمرة وتمرة أمام موسى وقال له : كل. فمدّ موسى يده نحو التمرة فصرفها جبرائيل عليه‌السلام إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فمه فاحترق لسانه وبكى ، فعفا عنه وحصلت العقدة فيه منذ ذلك الوقت.

وبمناسبة تكليفه بحمل الرسالة دعا ربّه سبحانه ليخلّصه من هذه الرّتّة التي كانت تشبه التّمتمة وقال : خلّصني منها (يَفْقَهُوا قَوْلِي) ويتفهّمونه حين أبلّغهم رسالتك ويكون أوقع في نفوسهم إذا كان واضحا فصيحا. ثم إنه سلام الله عليه لم يكتف بذلك ، بل التمس معاونا له على أداء الرّسالة وظهيرا مساعدا على أعبائها فإنّ الطّبيعة البشرية تحتم طلب المعين والظهير في المواقع الصعبة الخطيرة ، فقال :

٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي) : أي صيّر لي أخي هارون وزيرا لي في التكليف ، وقد سمّى معينه وزيرا لأن الوزير يعين الأمير على ما يكون بصدده من سياسة الملك وتيسير الأمور العظام ، وهو من المؤازرة : أي المساعدة. وقالوا : إنّ هارون كان أكبر سنّا من موسى. يزيده بثلاث سنين ، وكان أتمّ طولا وأبيض جسما وأكثر لحما وأفصح لسانا ، وقد مات قبل موسى بثلاث سنين. وبالجملة فإنه سلام الله عليه استوزر أخاه من الله حتى يساعده على حمل الدعوة ويتقوّى به على الأعداء ، ويتسلّح برأيه في الملمّات. ثم خصص كون وزيره من أهله لأن ذلك أولى ببذل النّصح وأدعى للاطمئنان ، فقد كان هارون أخا لموسى من أمّه وأبيه وكان أقرب الناس إليه وأولى بأن يختاره على من سواه للوزارة ولشدّ أزره وللمشاركة في أمر الدّعوة إلى الله تعالى ولذلك قال : وزيرا من أهلي. فجاءت هذه الآية مفسّرة للأولى ومبيّنة لها ، فانحصر التوزير بهارون دون غيره.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قوّ به أمري وشدّ عضدي وانصرني به (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) اجعله شريكا لي في أمر الدعوة. وقد اختلفوا في كيفية إشراكه في أمر الرسالة ، والله تعالى هو أعلم بكيفيّة ذلك ، وقد استجاب الله له دعوته وأعطاه سؤله وجهّزه للدعوة والجهاد. وقد علّل موسى عليه‌السلام التماسه للأمور الثلاثة المذكورة بتكثير التسبيح أيضا ، فقال :

* * *

٣٣ و ٣٤ و ٣٥ : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ) ... أي : كي نقدّسك ونذكر آلاءك ونعماءك علينا (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) نمجّدك ونعدّد فضلك متعاونين على ذلك فإنّ التعاون في فعل الطّاعات يهيج الرغبة في العبادة وفي غيرها من المقاصد ، ويؤدّي إلى تكاثر الخير وتزايده وقد ذكر هذا المعنى موسى عليه‌السلام لينفي عنه استيزار أخيه لطلب الرئاسة والملك بل توصلا للطاعات وحتى لا يتوهّم غير ذلك من معنى ، ومن جهة ثالثة ليتيسّر لهما شكر المنعم ودوام ذكره بالتسبيح والتقديس على ما أولاهما من الفضل والمنّ (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا) مذ كنت (بَصِيراً) عالما بأحوالنا وأمورنا ، تدري بأن مسألتي هي خالصة من أجل التعاون في سبيل الدّعوة ، واختصاصي هارون هو ناتج عن علمي بأنّه المخلص وأنّه نعم المعين لي والمساعد فيما أمرتني بالقيام به ، لا لكونه أخي وألصق برحمي.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢))

٣٦ ـ (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ... بعد طلب موسى عليه‌السلام الذي ذكر له عللا ثلاثا أجابه الربّ المتعالي : قد أجيبت دعوتك وقضيت حاجتك وأعطيت سؤلك الذي طلبته. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فأن موسى بن عمران عليه‌السلام خرج يقتبس لأهله نارا فكلّمه الله عزوجل فرجع نبيّا ، وخرجت ملكة سبأ كافرة فأسلمت مع سليمان ، وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة لفرعون ويعارضون الرّب فرجعوا مؤمنين. ثم إنّه تعالى لمّا أخبره بإعطائه سؤله عقّب بقوله :

٣٧ و ٣٨ و ٣٩ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) ... أي أن نعمتنا جارية عليك قديما وحديثا وقد عدّدها بقوله : مرة أخرى قبل هذه النعمة التي أوليناك إياها ، وذلك (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) يوم ألهمناها ما كان فيه نجاتك حين ولدتك فخلّصناك من القتل حيث ألقينا في روع أمّك بعد وضعك ما لم يعلم بغير الوحي (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) ضعيه وارميه في الصندوق المستطيل المصنوع من سعف النخل ، قذفا سريعا ولا تتأنّي ولا تتباطي ، والقذف يكون غير وضع الطفل في المهد بلطف وعناية ، لأنه مرمي يكون خلاف راحته والعمل على ما لا يزعجه (فَاقْذِفِيهِ) ارميه أيضا مع ما هو فيه من التابوت (فِي الْيَمِ) في البحر. وهذا الأمر يظهر فيه استعجال الفعل كيلا تهتّم الأم بأمر الرضيع كثيرا لتأمين راحته ولتطمئن عليه نفسها ، فإن الوضع كان على خلاف ذلك فهي لا تأمن على نفسها ولا على رضيعها لأن العسس يدورون ويفتشون عن الحبالى والمقربات ، والحرس يبحثون عن كل نفساء فيذبحون وليدها إذا كان ذكرا ، بل كانت حكومة ذلك الوقت الغاشم تشق بطون الحبالى من بني إسرائيل لقتل أولادهن الذكور ، فلا فرصة للأم بالتفكير براحة ولدها في هذه الأزمة الخانقة ، ولذلك ابتدرها الوحي الكريم برميه في التابوت ، وبرمي التابوت في البحر

حالا ، فجاء هذا التعبير كأحسن وأفصح ما يكون عليه التعبير عن وقت الشدّة والضيق ، يرمز إلى الحرج وخوف الإعدام والهلاك ، ولذا هيأت التابوت بسرعة البرق وألقت رضيعها فيه وأمرت بإلقائه في البحر بلا مهلة وبتمام الاضطراب الظاهر عليها في إتمام تلك المجازفة السريعة التي تأمل من ورائها نجاة رضيعها وسلامته من القتل. أما وحيه سبحانه إلى أمّ موسى فكان إلقاء المطلب في قلبها بحيث يسكن قلب تلك الأم النّفساء إلى مصير رضيعها طالما أنّ الإلهام من الله جلّت قدرته يعدها بنجاته بدليل أن الإلهام الذي نكت في قلبها وعدها بتمام تلك القصة العجيبة وقال : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) أي أن موج البحر وجريان الماء يقذف ذلك التابوت بالساحل : على الشاطئ فلا يغرق ولا يصيبه مكروه. والأمر هنا (فَلْيُلْقِهِ) معناه الخبر الذي زفّه الإلهام لأمّ موسى أي : وسيلقيه موج البحر على شاطئه سالما ، ومثله قوله تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) ففي نهاية مطاف التابوت على صفحة الماء يصل إلى الشاطئ ويؤخذ الرضيع من قبل عدوّ لله تعالى. وعدوّ لموسى عليه‌السلام في مآل الأمر ومستقبل الأيام ، وهو فرعون. وقد كرّر سبحانه لفظ العدوّ للمبالغة في عداده فرعون قبّحه الله. وهذا الكلام كلّه كان موجّها إلى موسى يذكّره الله تعالى فيه رحمته به ورأفته ، فيقول يوم فعلت ذلك بك لنجاتك ، وأوقعتك في يد عدوّي وعدوّك (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي جعلت في جميع القلوب محبة لك بحيث يحبك كل من يراك في بدء الأمر وختامه حتى أن امرأة عدوّك آسية ، وعدوّك فرعون ، قد أحبّاك وتبنّياك وربّياك في حجرهما وعاملاك بتمام اللطف والمراعاة فكانت تربيتك في بيوت الملك والسلطان بالرّغم من أن فرعون تشأم وتطيّر بأنّك قاتله وأمر بقتلك أولا ، ولكن كثرة الحب لك غلبت على رأيه وصارت مانعة من تنفيذ قتلك ، وكذلك آسية امرأته فقد مانعت أيضا في قتلك والسبب الأقوى في ذلك التصرّف كله كان عن طريق المحبة التي ألقيتها عليك في قلوب الناس وَقد فعلت ذلك كله (لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربّى وأنا راعيك وحافظك. أو أنه سبحانه قصد أن كل ما

صنع بك كان بمرأى ومنظر منّي إذ كنت تحت حراستي وحمايتي. فالعين كأنها هي سبب الحراسة واليقظة والمحافظة ولذلك أطلقت هنا وإن كان المراد منها مجازا لأنه كقوله سبحانه : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) ، أي بمنظر منّا ومرأى إذ تكون في حياطتنا وحفظنا ، فالله تعالى يسمع بلا أذن ويرى بلا عين ويعلم ما تخفي الصدور.

والحاصل أن البحر ألقى التابوت على الشاطئ بعد أن فعلت أم موسى ما أمرها الله بفعله ، وكان إلقاؤه في موضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعيّ يمر بقصر فرعون ويجتاز البركة التي في ساحة القصر ، وقد أدّى ذلك النهر بالتابوت إلى تلك البركة بالذات حيث يجتمع الماء فيها فلمّا رآه فرعون ورأى موسى فيه أحبّه لأول نظرة لأنه قيل : كان في عيني موسىعليه‌السلام ملاحة ما رآها أحد إلّا انجذب إليه وهفا قلبه نحوه. وقد حصلت هذه المفاجأة العجيبة :

٤٠ ـ (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) ... وذلك حين كانت شقيقتك التي تدعى مريم أو كلثوم تدور من هنا وهاهنا لتعرف خبرك وأين وقعت وإلى أين صرت ، فرأتهم يطلبون لك مرضعة فتقول لهم : هل تحبون أن أرشدكم إلى مرضعة وأهل بيت يهتمّون به ويتعهدون راحته وحفظه؟ فقالوا : نعم ، فجاءت بأمّك فقبل ثديها ورضع من حليبها بعد أن رفض ثدي أية مرضعة غيرها (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) فرددناك سالما محفوظا إلى أمّك بإذن فرعون وبكامل رضاه وبدون أن تخاف عليك ، إقرارا لعينها وإثلاجا لصدرها ، ولئلا تحزن لفراقك بعد أن كانت قد رمتك في البحر فلن تحزن لفراقك ، ولا لغرقك ، ولا لقتلك. وقوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ...) إلى قوله : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) هو تفسير لحياطته سبحانه وتعالى وحراسته التي أشار إليها قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ، وهذه كلّها من منن الله عليه (وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهو القبطيّ الكافر الذي وكزته فمات وخفت القصاص والقتل (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) خلّصناك

من القتل وغمّه وآمنّاك منه (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبرناك اختبارات متعددة وأوقعناك في الفتن حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة. وذلك بأن موسى عليه‌السلام ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمّه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وأمر بالمهاجرة من وطنه إلى مدين ، ونال في سفره ما ناله من صعوبة الهجرة وترك الأهل والوطن ومفارقة الألّان والسير على الأقدام من مصر إلى شرقي فلسطين حذرا من فرعون وبطشه ، مضافا إلى قلة الزاد والعيش على ما تنبت الأرض ، وإلى استئجاره من قبل شعيب عليه‌السلام عشر سنين يرعى فيها الأغنام مهرا لبنته التي تزوّجها ، ومضافا أيضا إلى قتله القبطيّ وهربه خائفا يترقّب ، فهذه الفتن التي انتهت بعشر سنوات في الخدمة ورعي المواشي ، انتهت أيضا برجوعه إلى مصر لرؤية أمّه وأحبّته ، فكان من ابتلائه في الطريق أن حلّ الليل ، ووقع البرد ، وتفرّقت مواشيه ، وأخذ امرأته الطّلق للولادة في ذلك الليل البهيم ، إلى غير ذلك من الحوادث التي مرّ بها في حياته ومرّت به فتحمّلها كلها بصبر وأناة لأنها تنوء بها الجبال وتعجز عنها الرجال ، فكانت فتنا متتالية كشفت عن سريرته الصافية ونفسه المطمئنة المؤمنة وقلبه الطاهر ، فذهب ليقتبس النار لأهله وامرأته في حال الوضع فنودي : أن يا موسى إنّي أنا الله ثم استمرّ سبحانه يعدّد لموسى فقال : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي بقيت عشر سنين في بلدة مدين وبين سكّانها (ثُمَّ جِئْتَ) حضرت الآن (عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي في زمان مقدّر أن تتلقى فيه الوحي بعد أن بلغت الأربعين من عمرك وهو سنّ نزول الوحي على أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

٤١ و ٤٢ ـ (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ، اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) : أي اخترتك لرسالتي وإقامة حجّتي ولتكون المرشد إليّ والداعي إلى ما يصلح أمور عبادي ، فامض للأمر أنت وأخوك هارون مزوّدين (بِآياتِي) معجزاتي التّسع التي منها العصا واليد البيضاء ، وقد ذكرناها في مكان آخر (وَلا تَنِيا) أي لا تقصّرا ولا تفترا (فِي ذِكْرِي) تبليغ ذكري والدعوة إليّ ، وقيل

إن الذكر هو الرسالة هنا ، لأن ذكر الله الطاعة والعبادة ، وأيّة عبادة أعظم من تبليغ الرسالة الربّانية وهداية الناس؟.

* * *

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

٤٣ و ٤٤ ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) ... : ثم إنّه تعالى بعد ما جهّزهما واستأهلهما بالقوة العقلية والآيات السماويّة أرسلهما إلى أكفر الكفرة وأشرّ الأشرار الجاحد المارق الذي ادّعي الرّبوبيّة وأضلّ البريّة ، فرعون ملك مصر (إِنَّهُ طَغى) تكبّر وتجبّر وبلغ مبلغا عظيما من الظّلم. وقد كرّر الأمر بالذهاب في الآيتين المتتاليتين للتأكيد على مباشرة القيام بالأمر ، وقيل إن الأمر في الآية السابقة مختص بموسى ، والثاني به وبأخيه بعد إجابة طلب موسى وتوزير أخيه ، فتكرار : اذهب ، واذهبا ، قد جاء في محلّه لأن سياق الآيتين الكريمتين يقتضي ذلك ، ولذا جاء الأمر في الآية الأولى مع العطف ، وجاء في هذه الآية بصيغة التثنية. ويمكن أن يقال : إن الأمر الأول للتجهيز والتهيّؤ ، والأمر الثاني لتعيين وجه المسير وتعيين من هو إليه ، أي فرعون : ولعلّ الأحسن هو التأكيد والمبالغة في ضرورة تنفيذ الأمر ، لأن الذهاب إلى فرعون الذي يدّعي الألوهيّة أمر عظيم عندهما إذ كانا على خوف من

فرعون ومن القبطيين ، فالأمر في الآية السابقة كان مبهما لم تعيّن به الجهة ، والأمر الثاني أوضحها وبيّن المقصود ، والتعيين بعد الإبهام يهوّن الأمور العظام كما هو المتعارف كالذي يحدث حال الوفيات وغيرها من الأمور الهامة والحوادث الجليلة التي إبهامها يكون أعظم من تعيينها والتصريح بها.

والحاصل أنه تعالى قال لهما : اذهبا إلى فرعون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي قولا لا يحبّه ولا يكرهه ، بحيث يظنّ أنه يؤثّر فيه ، فلا ينبغي أن يقال له ما يتنفّر منه. فقد قيل إن موسى عليه‌السلام أتاه فقال له : تسلم وتؤمن بربّ العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم ، وتكون ملكا فلا ينزع الملك منك حتى تموت ، ولا تمنع لذّة الطعام والشراب ولا تنزع لذّة الجماع منك ما زلت حيّا ، فإذا متّ أدخلت الجنّة ، فأعجبه ذلك ولكنه كان لا يقطع أمرا دون وزيره هامان الذي كان غائبا. فلما قدم هامان أخبره فرعون بالذي دعاه إليه موسى وأشار إلى أنه يريد أن يقبل منه ذلك ، فقال هامان : قد كنت أرى لك عقلا ورأيا ، فبينا أنت ربّ ، تريد أن تكون مربوبا ، وبينا أنت معبود تريد أن تصير عبدا عابدا لغيرك؟ فقلبه عن رأيه. وتتمة الآية (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) كانت مبعث رجاء عند موسى فإن الذي يعلم غيب السماوات والأرض لم يترك رسوله بين اليأس والرجاء بل زرع في نفسه الأمل فمضى لمقصده طامعا بإيمان فرعون ، جريئا على دعوته ومفاتحته بالأمر في الوقت الذي يعلم الله سبحانه أن فرعون لا يتذكّر : لا يتفكّر ولا يرعوي ، ولا يخشى : أي لا يخاف ولا يرهب قدرة الله. ومجيء هذه الآية الشريفة بهذا البيان وهذا التعليل يؤيّد ما ذكرناه في الجواب عن التكرار بالحمل على التأكيد لأن المقام يقتضيه ، كما أن النكتة في إرسال موسى إلى فرعون مع المبالغة في طلب تبليغه ، في حال علمه سبحانه بأنه لا يؤمن ولا يخشى ولا يتذكّر ، هي إلزام للحجة وقطع للمعذرة ، وحمل لموسى وأخيه على الدخول إلى البيوت من أبوابها مسلّحين بالآيات وبالقول اللينّ الذي ينبغي أن يقال مع ذلك الجبّار في الأرض ، وذلك أفضل بكثير في أن يبدأ الدعوة مع عامة الناس فيقع اللّوم عليهما ولا تقتضي دعوتهما حينئذ جمع

السحرة من البلاد واشتهار دعوتهما بين العباد وإلقاء الحجة على فرعون وأعوانه وعلى سائر العالمين في وقت واحد .. وحكي أن يحيى بن معاذ لمّا قرأ هذه الآية : فقولا له قولا ليّنا ، بكى وقال : هذا رفقك بمن يقول أنا الله ، فكيف رفقك بمن يقول : لا إله إلّا الله؟ وهذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يناديك؟ هذا رفقك بمن اقترف ، فكيف رفقك بمن اعترف؟ وهذا رفقك بمن استكبر ، فكيف رفقك بمن استغفر؟ ..

وفي كتاب التيسير أن موسى لمّا توجه من مدين تلقاء مصر مع زوجته صفوراء ابنة شعيب النبي عليه‌السلام ، وعرض لامرأته الطّلق ووجعه في أثناء الطريق ، وذهب ليقتبس نارا ، بقيت زوجته تنتظر عودته حتى الصباح فما رجع ، فبقيت تترقّب عودته منذ أصبحت حتى أمست فما عاد ، فبقيت متحيّرة ضالة عن الطريق خائفة على نفسها وعلى ولدها وبعلها وهي في حال النفاس ، فصادف أن مرّت بها قافلة جاءت متّجهة نحو مدين فرأوها وعرفوها فحملوها معهم وردّوها إلى أبيها شعيب عليه‌السلام ، في حين أن موسى أمر من طوى ـ الجبل المقدّس الذي كلّمه الله تعالى عنده ـ أن يتّجه إلى مصر لدعوة فرعون إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى ، فمضى بطريقه إلى أن وصل إلى قربها فوجد أن أخاه هارون يستقبله ، فشرح له موسى ما وقع من أموره إلى آخرها ، فقال له هارون : إن فرعون قد عظمت سطوته وقوي سلطانه وطغى وبغى وتزايد فساده فكيف نجرؤ على مكالمته في هذا الأمر؟ وبمقتضى الطبيعة البشرية أثّر هذا الكلام في نفس أخيه موسى فرأى أنهما في موقع الخطر وغلب عليهما الخوف من المبادرة :

٤٥ ـ (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) ... أي نخشى أن يعجل علينا فيأخذنا ويعاقبنا فلا نقدر على إتمام الدعوة وإظهار المعجزة ، ونخاف (أَنْ يَطْغى) يتكبّر ويتجبّر فيظلمنا ولا يعتني بقولنا ولا يستمعه بل قد لا يقابلنا ولا يتحاور معنا في مجلس التخاطب لأنه لا يزداد إلّا كفرا وطغيانا وقد يتجاسر عليك ويصدر منه ما لا ينبغي لحضرتك ونحن لا حول لنا ولا طول مع هذا الطاغية الجبّار! ... فقال تعالى تقوية لهما وتهدئة لنفسيهما :

٤٦ ـ (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى :) لا ينبغي أن تخافا فرعون ، فادخلا عليه وبلّغاه الأمر دون خشية من عقابه وطغيانه وأنا معكما أتولّى حفظكما من كيده وبطشه أسمع ما تقولان وما يقول ، وأرى ما يحدث بينكما وبينه ، وأسدّدكما فلا يصل إليكما منه سوء.

٤٧ ـ (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ... فاذهبا إليه ، وقولا له : إننا مرسلين من لدن ربّك وربّنا (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) دعهم من أسرهم وعذابهم واتهانهم ، واتركهم لنا لنرحل بهم عن بلادك (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأعمال الشاقة وقتل الرجال واستعباد النساء ، و (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) أتيناك بمعجزة دالّة على صدق رسالتنا هي (مِنْ رَبِّكَ) إذ لا يستطيع البشر أن يصنع مثلها ، فسلّم أمر بني إسرائيل لنا إن لم تؤمن برسالتنا (وَالسَّلامُ) السّلم والعافية وحسن العاقبة (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) كان من أتباع الله ورسل الله ، والهدى ضد الضلال.

٤٨ ـ (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى :) أي فقولا لفرعون حين يأبى الإسلام ويأبى ترك بني إسرائيل إن ربّنا عزوجل قد أوحى لنا أن نقول لك : إن من رفض دعوة ربّه ولم يقبل قول رسله وانصرف عن الهدى وكذّبهم ، فإن العذاب الأليم يقع عليه من الله انتقاما لدعوته ولرسله ، فاحذر بطش الله عزّ وعلا.

* * *

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

٤٩ ـ (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى)؟ : هنا طوى سبحانه ذكر ما كان بين إنهاء الأمر إليهما ، وبين دخولهما على فرعون ودعوتهما له بالكلام اللينّ وبإظهار المعجزات ، وانتقل رأسا إلى جواب فرعون الذي قال لموسى عليه‌السلام : من ربّكما؟ فخاطب الاثنين وخصّ موسى عليه‌السلام وحده بالنداء لأنه هو الذي دعاه ، وهارون عليه‌السلام إنما هو وزيره وتابعه ، فهو يعلم أن موسى ـ بالأصل ـ هو الرسول والداعي. فأجابه موسى عليه‌السلام بالجواب الجامع المانع لأن كلام الرّسل رسول الكلام ، فقال :

٥٠ ـ (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى :) وهذا جواب في غاية البلاغة مع اختصاره لفظا ، لأنه أعرب عن أن الموجودات بأسرها ، وعلى اختلاف مراتبها وكمالاتها اللائقة بحالها من الأجسام الحيّة النامية والسوائل المائعة والجمادات الساكنة ، على أقسامها وأشكالها ، الثقيلة منها والخفيفة ، والمرئيّة منها أو غير المنظورة كالغازات وسائر المخفيّات ، ومن أدون المخلوقات إلى أتمّها الذي هو الإنسان سيد مخلوقات الله ، أعرب له أن جميع هذه الكائنات هي مخلوقة من قبل الله تعالى وأنها مفتقرة له بوجودها ، فدلّ جوابه على أن ربّه هو القادر بالذات ، المنعم على الإطلاق على جميع الموجودات ، وأن كل ما عداه مفتقر إليه تعالى بوجوده وبما يقيم وجوده ، وبهدايته إلى ما أوجد من أجله ، فبهت الذي كفر ولم ير إلّا صرف الكلام عن المقام إلى غير موضوع الخلق والإيجاد والإنعام ، إلى ما لا ربط له بذلك ، خوفا من انصراف الناس عنه إذا تفكّروا بهذه المعاني وعودتهم إلى طريق الحق والاعتراف بإله موسى الذي يدعو إليه. ولذلك :

٥١ ـ (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟ :) أي ما حال الأمم السابقة من حيث الشقاوة والسعادة ، أو ما حال رجال دينهم مع ملوكهم ، وكيف كانت مصائرهم؟

٥٢ ـ (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) ... أجاب موسى عليه‌السلام أنه لا شأن لنا بمن مضى من الأمم ولم نكن في تلك الأعصار حتى نعلم ما جرى عليهم ، وأمرهم وعلمهم عند ربّي عزوجل ، وقد سجّل عليهم كلّ ما عملوه في كتاب إذ (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) فالأشياء المثبتة في ذلك الكتاب كلّها نصب عين ربّي عزوجل وهي لا تذهب عن علمه ولا ينساها. والضلال أن يخطئ عن الشيء فلم يعرف مكانه فلا يهتدي إليه ، في حين أن النسيان يكون ذهاب ذكر الشيء بحيث لا يخطر في البال. فربّي عزوجل لا يغيب علمه عن شيء ولا يذهب من علمه شيء.

ثم عاد موسى عليه‌السلام إلى ما كان فيه من بيان وبرهان يتحدّث عن عظمة الله تعالى :

٥٣ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) ... أي فراشا تقيمون عليه وتقضون حياتكم الدنيا (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) جعل لكم فيها طرقا تمشون عليها وتهتدون إلى ما تطلبون (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أمطركم بالماء من السماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) فكان من أثر الماء أن خرج نبات الأرض بقدرة الله تبارك وتعالى على اختلاف أشكاله وألوانه وأنواعه ، لأنه جعل من الماء كل شيء حيّ. وشتّى : جمع شتيت ، كمريض ومرضى ، فالنباتات التي تخرج بعد إنزال الماء على الأرض : وباتّحاد البذرة مع التراب والماء والهواء ، إن هذه النباتات المتفرقات في الألوان والطعوم والمنافع ، وهذا الاختلاف مع هذا الاتحاد ، دليل واضح على أن ذلك لم يتمّ عن طريق المصادفة والطبع والطبيعة ، بل هو بفعل العالم القادر الحكيم المريد الذي يعمل وفق الحكمة وطبق المصلحة. ولا تنسى أن تسمية الأصناف بالأزواج

رمز للازدواج بين الموجودات حتى الجمادات وللاقتران بين بعضها وبعضها الآخر ليستمر بقاء النوع.

واعلم أن كلام موسى عليه‌السلام قد تمّ عند قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ، وأنه سبحانه قد التفت من الغيبة إلى المتكلّم ، فحكى سبحانه عن نفسه تفريعا على قول نبيّه عليه‌السلام ، فنبّه بذلك إلى أن كلام رسلي هو كلامي وأنهم لا ينطقون عن الهوى ، فقولهم قولي ، وإن كانوا لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، فانتبه إلى هذه النكتة الدقيقة في المقام وما أكثر أمثالها بل ما هو أبلغ منها في القرآن الكريم.

٥٤ ـ (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) ... أي كلوا مما خلق لكم من الأرض وارعوا مواشيكم منه. وفي هذه الكريمة إشارة إلى أقسام النباتات ، فمنها ما يصلح لطعام الإنسان ، ومنها ما يصلح لغيره من الحيوانات. وقد خاطب الإنسان أولا فقال : كلوا ممّا أخرجنا لكم بالمطر من النبات والثمار والحبوب وغيرها ، وارعوا أنعامكم مما يصلح لها من النباتات والأعشاب وغير ذلك من الحبوب التي تنفعها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : إن فيما ذكرها لكم لعبرا لذوي العقول. والنّهى : جمع نهية ، سمّي بها العقل لنهيه عن القبيح. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ خياركم أولو النّهي. قيل : يا رسول الله ، ومن أولو النّهى؟ قال : أولو الأخلاق الحسنة ، والأحلام الرزينة ، وصلة الأرحام ، والبررة بالامّهات والآباء ، والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ، ويطعمون الطعام ويفشون السلام في العالم ، ويصلّون والناس نيام غافلون.

ثم إن موسى عليه‌السلام لمّا بيّن نعم الله عليهم ابتداء من أصل الخلقة وانتهاء بنعم الله الجزيلة ، نبّههم إلى شيء آخر هامّ فقال حكاية عن الله عزوجل :

٥٥ ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) : أي من

التراب أنشأناكم ، حيث إن التراب كان في أصل خلقة أبيكم آدم عليه‌السلام ، فهو أول موادّ أبدانكم ، وفي ذلك التراب نعيدكم عند الموت فتدفنون في الأرض وتنحلّ أجسادكم إلى تراب ومن ذلك التراب نخرجكم تارة أخرى ، فنحشركم ونبعثكم للحساب بتأليف أجزائكم الترابية وردّ الأرواح إليها لتعودوا أحياء كما كنتم. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : أن النطفة إذا وقعت في الرّحم ، بعث الله عزوجل ملكا فأخذ من التربة التي يدفن فيها فماشها في النطفة ، فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتى يدفن فيها.

* * *

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩))

٥٦ ـ (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى :) أي عرّفنا فرعون معاجزنا التّسع التي بعثنا بها موسى لتكون دالّة على نبوّته وصدق رسالته ، فكذّب بها عنادا واستكبارا وأبى : امتنع عن قبولها وأنكرها ، ثم :

٥٧ ـ (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ :) أي قال فرعون : إنك لساحر ، وهل جئتنا بهذا السحر لتكيد لنا وتجعلنا نهرب أمام سحرك ونترك أرضنا لك؟ .. لا ،

٥٨ ـ (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) ... قد نفى ذلك ، ثم أكّد بأنه سيجيئه بسحر مثل سحره يقف في وجهه ويكشف أمره ، ثم قال بعدها : (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) فاضرب موعدا معيّنا يكون بيننا وبينك ، بحيث نأتي

نحن وأنت أثناءه (لا نُخْلِفُهُ) فلا يتأخّر أحدنا عنه (نَحْنُ وَلا أَنْتَ) واختر له (مَكاناً) معيّنا أيضا بحيث يكون (سُوىً) أي مستويا مسافة وبعدا فيما بيننا وبينك.

٥٩ ـ (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) ... أي قال موسى عليه‌السلام : الموعد بيننا يوم العيد الذي جعلتموه لكم في كلّ عام. وإنّما عيّن ذلك اليوم بالذات واختار عيدهم على غيره من الأيام ، ليظهر الحقّ ويبطل الباطل على رؤوس الأشهاد ، وحتى يصل أمر الدعوة إلى جميع الأنحاء والأقطار. فليكن الموعد يوم الزينة (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي أنهم يجتمعون بعد شروق الشمس وارتفاعها ، وقبل الظهر. ولا يخفى أن فرعون قد بدا ضعفه منذ طلب الموعد ، وأن موسى عليه‌السلام قد بدت عليه القوة والوثوق بغلبته لفرعون وحزبه بشكل يروّعه ويزعزع أركان ملكه ويزلزل قلبه وينغّص عليه عيشه ، وقد ظهر الخذلان على فرعون منذ الآن إذ خرج من المجلس غضبان ، ودخل على أهله مضطربا منخلع الفؤاد ممّا رأى من آيات موسى وأخيه عليهما‌السلام ، بدليل قوله تعالى فيما يلي : فتولّى فرعون ... إلخ.

* * *

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

٦٠ ـ (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) : أي انصرف وأدبر من المجلس وخرج بكيفية كانت خلاف المتعارف له ، فلم يمل أوامره ، ولم يلتفت إلى وزرائه وأعوانه ولا اعتنى بأهله لأنه كان غضوبا مرعوبا ، ولم يستطع أن يتكلم مع موسى بأزيد ممّا ذكرنا فدخل ليفكّر ويدبّر أمر المكيدة المنتظرة ليوم الزنية ... وهكذا كان إذ تم تدبير ما خططوه ، فجمع كيده : أي ما يكاد به من السّحرة وآلات السّحر ، ثم أتى : جاء في الوقت المضروب هو وجنده من المشعوذين.

٦١ ـ (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) ... : أي قال موسى ذلك القول للسحرة الذين أحضروا معهم ما عملوا من السّحر ليقابلوا به معجزته ، فنصحهم ووعظهم وخوّفهم بقوله : ويلكم : أي الويل والعذاب لكم ، لا تفتروا على الله : تتعدّوا على حرماته وتكذبوا وتكذّبوا بآياته ، ولا تقولوا عنها سحر كسحركم (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) فيهلككم بعذاب يجتثكم به ويقضي عليكم (وَقَدْ خابَ) خسر وباء بالفشل والخزي (مَنِ افْتَرى) فنسب الباطل إلى الله عزّ وعلا لأمر الذي أوقع شيئا من الخوف في قلوب بعضهم وصدّع وحدتهم وعنادهم.

٦٢ ـ (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) : أي اختلفوا في أمر إقدامهم الجريء ووقع النزاع في صفوفهم بعد سماع كلام موسى وتهديده وتوعيده الذي قال بعضهم إنه ليس من كلام السحرة والمشعوذين ، فاجتمعوا وتناجوا أي حصلت بينهم وشوشة وهمس ومشاورة. ولعل نجواهم قد انتهت بأنه إن كان ساحرا غلبناه ونلنا جائزة فرعون ، وإن هو غلبنا وكان أمره من أمر السماء اتّبعناه وآمنّا به. فخاف فرعون من نجواهم واضطرب لما سمعه وما رآه ، فالتفت من غرفته الخاصة وسأل عن نجواهم ليعلم حقيقتها فأجابوا جوابا معقولا بنظره :

٦٣ ـ (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ... : أي : قالوا ليس موسى وهارون

سوى ساحرين. وإن : هنا ، اعتبرت بمعنى : نعم ، أو : إنه ، وقد حذف ضمير القصة ، أو هي : إنّ وقد ألغي عملها هنا لأنها خفّفت. وقيل إن النون في : هذان وساحران زائدتان والأصل إنّ هذا لساحر. ثم قيل هي : إنّ وهذان اسمها بلغة كنانة التي تقول : أتاني الرجلان ورأيت الرجلان ، وسلّمت على الرجلان ، وقيل غير ذلك. والحاصل أنهم قالوا : هذان ساحران يريدان إخراجكم من أرضكم بسحرهما الرهيب والاستيلاء على أرض مصر (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي بدينكم وما أنتم عليه من نظام الأشراف والعبيد واستخدام بني إسرائيل.

٦٤ ـ (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ... : أي هيّئوا مكركم وأحكموا ما أعددتموه للقاء موسى وهارون ثم تقدّموا مصطفّين مرتّبين منظّمين (وَقَدْ أَفْلَحَ) نجح وفاز (مَنِ اسْتَعْلى) من كان فعله غالبا متفوّقا ، ظفر وغلب.

* * *

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩))

٦٥ ـ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) ... : أي قال السحرة ذلك. والترديد أو التخيير كان مراعاة لقواعد الأدب ، ولذلك قابلهم موسى عليه‌السلام بالأدب وقدّمهم ، لأن صالح المظاهرة يقتضي أن يكونوا المتقدمين ليظهر فعل العصا ويبطل السحر والساحر ، فقدّمهم بعد أن خيّروه قائلين :

(أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) أي : رمى بما بين يديه من العمل لهذا اليوم المشهود.

٦٦ ـ (قالَ بَلْ أَلْقُوا) ... : أي أمرهم بإلقاء ما معهم على مشهد من الناس ، فألقوا (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) ما كانوا قد أعدّوه من حبال وعصيّ ، كان (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) شبّهت لموسى من شدّة ما كان عندهم من البراعة في السّحر (أَنَّها تَسْعى) تتحرّك وتتقلّب على الأرض كالأفاعي الهائجة المرعبة.

٦٧ ـ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) : أي وجد في قلبه خوفا ، وأضمر شيئا من الخشية في نفسه من أن يشكّ الناس بهذا السحر ، ويروا عصاه أيضا كالسحر فلا يتّبعونه كما هو المتعارف في الطبع البشري.

٦٨ ـ (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) : أي ألهمناه أن لا يخشى اغتشاش الناس بسحرهم ولا يخاف عدم التصديق بآيته لأنه هو المتفوّق عليهم بالنهاية. وقوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) ، تعليل للنهي في قوله : (لا تَخَفْ) ، وتقرير لغلبته مؤكدا.

٦٩ ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ... أي : ارم واطرح العصا التي في يمينك يا موسى تلقف : تبتلع ما صنعوا من السّحر والتخييل بقدرة الله تعالى. وقد قالوا لمّا ألقى موسى عصاه صارت حيّة طافت حول الصفوف حتى رآها الناس كلّهم ، ثم قصدت الحبال والعصيّ فابتلعتها جميعها على كثرتها مع أن السّحرة كانوا أربعمائة نفر وكان مع كل واحد مائة عصا وحبل. وفي بعض التفاسير كانوا ثلاثين ألفا وقيل : سبعون لأن السحر كان منتشرا في ذلك العهد ، ومهما كانوا ـ قلّوا أو كثروا ـ ف (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي مكر واحتيال وتخييل لا حقيقة له ، ولا ثبات له أمام الحق والواقع حيث يزهق الباطل وينهزم كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، ولذلك (لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي لا ينجح ولا يفوز على من خاصمه في سحره أين كان وحيث أقبل لأن عمله من

التخييل الباطل الذي يمحقه الحقّ ويزهقه. ولمّا رأى سحره فرعون تلقّف العصا جميع ما سحروه علموا وتحقق عندهم أن هذا الأمر سماويّ وأنه ممّا هو فوق الطبيعة والمألوف وليس من السّحر الذي يعملونه ويعلمونه في شيء لا في قوانين السحر ولا في تعاليمه ولا في آثاره الوضعية التي يعهدونها فأعلنوا إيمانهم بآية موسى عليه‌السلام ومعجزته.

* * *

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

٧٠ ـ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) ... : أي فخّر السّحرة ساجدين تعظيما لما رأوه من الآية السماوية الدالّة على صدق الدّعوة و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ

وَمُوسى) وأعلنوا تصديقهم بوجود الله الذي يدعو إليه موسى وهارون ، فاقشعرّت الأبدان من وقع أصواتهم حين أعلنوا إيمانهم وذعر فرعون وأتباعه لهذه المفاجأة المذهلة إذ أعلن السحرة تصديق دعوة رسولي الله تعالى فاسودّت الدّنيا بعيني فرعون وأعين الأقباط وأكابر مملكته وشرفائها لأن السحرة هم بالحقيقة علماء الأمة وكهنتها وعظماؤها في ذلك العصر وليسوا من السوقة أو من سائر الناس ، فإيمانهم يقف في وجه ادّعاء فرعون للربوبيّة وينزع عنه هالة الألوهية ، ولذا كان طعنة موجهة إليه خاصة ، وشلحة عظيمة في أمر ربوبيته وسلطانه

لا يسدّها شيء بعد هذا الاعتراف الصريح الفصيح المعلن من كهنة الأمة وعلمائها العظام ، فلم ير فرعون غير اللجوء إلى القوّة والتهديد والوعيد ليشفي غليله ممن دمّروا آماله وزعزعوا حاله وصفعوا استعلاءه واستكباره :

٧١ ـ (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) ... أي قال مستنكرا فعلهم : صدّقتم موسى قبل أن يطلب إعلانكم بتصديقه والإيمان بدعوته؟ وقيل : آذن بصيغة المتكلّم وهي مضارع يرجع الضمير فيه إلى فرعون ، أي آمنتم بموسى قبل إذني وإجازتي (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) أي أستاذكم في السحر ومعلمكم ، وهو (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فأتقنتم هذا الفنّ (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي لأقطعنّ من كل واحد منكم يده اليمنى مع رجله اليسرى أو العكس (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وسأصلب كل واحد منكم على ساق شجرة حتى يموت كمدا (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) وسترون من منّا القوي على تعذيب الآخر والقدرة عليه. وكان لا بد لفرعون من هذه التهديدات والتوعّدات ليظهر تجلّده أمام الآخرين مخافة أن ينقلب عامة الناس عليه دفعة واحدة وينتهي أمره ، فذكر تقطيع الأيدي والأرجل وهدّد بالصلب والتعذيب ليخاف الباقون وليبقوا مجتمعين من حوله.

٧٢ و ٧٣ ـ (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) ... : أي لن

نفضّلك ونقدّمك على ما تحقق لدينا من المعجزات الواضحات والبراهين الساطعة التي جاء بها موسى ، ولن نختار طريقتك بعد ظهور قدرة ربّنا وخالقنا ، فقد اعترفوا به جلّ وعلا بمقتضى ما حكى عنهم سبحانه من قولهم : (وَالَّذِي فَطَرَنا) لأنه اعتراف منهم بأنّ الله تعالى هو خالقهم وبارئهم (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاحكم بالحكم الذي تشاؤه لنا (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) فحكمك ماض في هذه الدّنيا الزائلة التي لا دوام لها ولا لك ، والآخرة خير وأبقى (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) فنؤكد لك أننا قد صدّقنا بربّنا القادر القاهر ونرجو منه أن يتجاوز عن ذنوبنا الماضية من الكفر والمعاصي ، وعن حملك إيّانا على تعاطي السحر للوقوف بوجه آيات الله تعالى وإبطالها. ويستفاد من قولهم هذا أنهم لو لا خوفهم من بطش فرعون ما كانوا ليحضروا للمعارضة مع موسى باختيارهم ، بل أكرههم فرعون وأجبرهم ، والوجه في ذلك أنهم قالوا لفرعون لا بدّ لنا من أن نختبر موسى قبل الموعد المضروب بيننا لنعرف أنه هل هو من السحرة أم أمره سماويّ ، فأرنا إياه إن شئت فافتقدوه فوجدوه نائما تحرسه العصا ، فقالوا ما هذا بساحر فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره ، فرفض فرعون قولهم هذا وأبى إلّا أن يعارضوه ، فكان إكراههم من هذه الجهة ..

وقيل أيضا إن جملة ما أكرهتنا عليه من السحر معناها أن : ما أكرهتنا عليه سحر ، أي تخييل وما فعله موسى ليس بسحر ، ولذلك آمنّا بقوله (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي خير جزاء وثوابا للمطيع ، وأبقى عقابا للعاصي. وهذا جواب على قوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى). وهنا انتهى كلام السّحرة بحسب الظاهر مع طاغية زمانهم ، ثم قال الله تبارك وتعالى : أو أنهم هم تابعوا الشرح :

٧٤ و ٧٥ و ٧٦ ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) ... : أي أن من يموت على إجرامه وآثامه ويبعثه الله عليها دون توبة منها ، فإن نار جهنّم

معدّة له بعذابها الأبديّ الذي لا منتهى له فيستريح و (يَمُوتُ فِيها) فيخلص من العذاب الأليم (وَلا يَحْيى) حياة مهنّأة هادئة لا تنغيص فيها (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) من يجئه مصدقا به عاملا بأوامره منتهيا عن نواهيه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) قام بالطاعات وكان حسن المعاملات مع ربّه ومع الناس (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) فالفاعلون لذلك لهم عند ربّهم أسمى الدرجات وأعلاها في الخلد والنعيم الذي لا يزول ، وهذه الدرجات هي (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مرّ تفسيرها مكرّرا ، بحيث يكونون (خالِدِينَ فِيها) يحيون فيها بنعيم دائم لا انقضاء له إلى أبد الأبد (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) وهذا هو ثواب من تطهّر من الأدناس في هذه الدار الفانية.

* * *

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

٧٧ و ٧٨ و ٧٩ ـ (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) ... : أي بعد ما رأى فرعون وقومه جميع الآيات التي جاء بها موسى وظلّوا مصرين على عنادهم وكفرهم أوحينا إلى موسى أن اخرج من مصر مع المؤمنين برسالتك من عبادي وسر بهم ليلا ـ فالسّرى هو السير بالليل ـ فامض بهم على غفلة من فرعون وحزبه إلى ناحية فلسطين ، أي الجهة الشرقية من البحر. فمضى بهم كما أمر حتى وصل إلى البحر الذي لم يتمكّنوا من عبوره لأنه بدون جسر وليس معهم فلك ولا زوارق فألهمناه : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي : اضرب بعصاك البحر فإنه ينفلق إلى قسمين

وتظهر الأرض اليابسة تحت الماء فيمشي الناس بين فلقتي البحر بإذن الله ، ففعل فانشقّ البحر بقدرة الله فنودي يا موسى : جز بالناس (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) أي آمنا من أن يدرككم فرعون ، ومؤمّنا من الغرق.

قال ابن عباس : لما أمر الله موسى أن يقطع البحر بقومه وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيّف ليس فيهم ابن ستّين ولا عشرين ، وكان يوسف عليه‌السلام قد عهد إلى موسى وهارون عند موته بجسده ، وأن ينقلوه من مصر ، فلم يعرفوا موضعه ، فتحيّرا حتى دلّتهم عجوز على موضعه. فأخذوها وقال موسى للعجوز : سلي حاجتك ، فقالت : أكون معك في الجنة.

ولما فشا أمر خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ، خرج فرعون وجنده بطلبهم وكان على مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى ما على الجنبين والقلب. فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هاهنا أمرت ، ثم قال موسى للبحر : انفرق ، فأبى. فأوحى الله إليه أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفرق فقال لهم موسى : ادخلوا فيه. فقالوا : وكيف وأرضه رطبة ، فدعا الله فهبّت عليها ريح الصّبا فجفّفته. فقالوا : نخاف الغرق ونريد أن يمر كل سبط منّا وحده وأن يرى كل سبط منّا بقية الأسباط لنأمن على بعضنا. فجعل لكل سبط طريقا ، وفتحت لهم بقدرة الله كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، ثم دخلوا وجاوزوا البحر جميعا. فأقبل فرعون بجنوده فقالوا له إن موسى قد سحر البحر فصار ـ كما ترى ـ وكان فرعون يركب حصانا عظيما أقبل عليه نحو البحر ، وأقبل جبرائيل عليه‌السلام يركب رمكة (أي برذونا) في ثلاثين من الملائكة ، فصار جبرائيل بين يدي فرعون ، فأبصر الحصان الرمكة الزاهية التي يركبها جبرائيل فهجم نحوها واقتحم بفرعون على أثرها بحيث عجز فرعون عن إرجاعه فصاحت الملائكة بقوم فرعون : ألحقوا بالملك فدخلوا وراءه فانطبق الماء عليهم فأغرقهم وذلك قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما

غَشِيَهُمْ) أي أصابهم منه ما أصابهم من الغرق في مائه. والإبهام هنا لبيان عظمة الغشيان وعظمة الغرق الذي حلّ بهم حين غطّى الماء هذه الألوف المؤلّفة ، وفيه مبالغة وإيجاز. وحين أغرق الله فرعون وقومه رجع بنو إسرائيل ليروا ما أصابهم وقالوا لموسى : ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم ، فدعا ، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم ومن زينتهم الشيء الكثير .. وذكر ابن عباس أن جبرائيل عليه‌السلام قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدسّ فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب. (وَ) هكذا (أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) ضلالا بعيدا وجعلهم يخسرون دنياهم وآخرتهم (وَما هَدى) قومه إلى النجاة بل أوردهم النار وبئس الورد المورود.

* * *

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

٨٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) ... : هذا الكلام الشريف مبتن على إضمار : قلنا. فإن الله سبحانه وتعالى أخذ يبيّن نعمه على بني إسرائيل ويذكّرهم بها فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، ولو لا ذلك ما ذكر شيئا من هذا لأنه سبحانه غنيّ أن يتعرّض لذكر ما ينعم به على عباده لو لا هذا المعنى ، لأن المنّ بالعطايا قبيح عند المخلوق فكيف بالمنعم الحقيقي الغني على الإطلاق؟ فإذا ذكر الله تعالى إنعامه على عباده فإنه لا يقاس

تذكيره بتذكير عباده لأن في تذكيره رحمة لعباده وعطفا عليهم وفيه مصالح كثيرة أخرى تجنبّهم الكفر بالنعم والمنعم ، فمنّه غير منّ المخلوقات ، وهذه المعاني تخرجه عن القبح والذم. فمن النعم التي ذكرها قوله سبحانه : (قَدْ أَنْجَيْناكُمْ) خلّصناكم (مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وحزبه وأغرقناه مع حزبه لكفرهم وعنادهم (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي ضربنا معكم بواسطة رسولنا موسى أن ننزل عليه كتابا فيه تبيان كلّ ما تحتاجون إليه ، وكان الموعد عند الطرف الأيمن من جبل الطور. ويحتمل أن يكون الأيمن صفة للطور كما هو الظاهر ، والمراد به ـ بناء على هذا ـ اسم الوادي التي بجانب الجبل أي وادي الطور المبارك من الجهة اليمنى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) فانكم بعد أن جاوزتم البحر صرتم في صحراء ولا مؤونة فيها ولا غذاء فأنزلنا عليهم منّ السماء الشهي اللذيذ والطائر السمّانيّ الكثير اللحم الشهيّ الطعم تفضلا منّا وكرما.

٨١ ـ (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ... : الأمر هنا للإباحة لأنه في مقام رفع الحذر ، أي : لا بأس عليكم بأكل ذلك والتلذّذ به (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي لا تتمادوا في ترك شكره والتعدّي عمّا حدّ الله لكم فيه كالسّرف والبطر أو كمنعه عن أهل الاستحقاق وأمثال ذلك ، ولو فعلتم شيئا من هذا أمقت عملكم (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي عقابي وعذابي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي : هلك ووقع في الهاوية ، وهي واد في نار جهنّم أشد حرارة منها.

٨٢ ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) : أي أني أتجاوز عن ذنوب التائب الذي لا يعود إليها ، وللمؤمن بي والعامل بأوامري ونواهيّ ، والمهتدي إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن شرائط الإيمان أربع : التوبة والإيمان ، والعمل الصالح ، وولاية أهل بيت النبيّ صلوات الله عليه وعليهم كما هو مضمون كثير من الأخبار.

* * *

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

٨٣ ـ (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى؟) : أي : لم تقدّمت عن قومك وجئتنا مستعجلا أمرنا؟ ويستفاد من هذا الخطاب أنه قد ورد في مقام الاعتراض حيث إن موسى عليه‌السلام مشى ما هو خلاف المرسوم لأن الله تعالى عاهده وقومه أن ينزّل عليهم التوراة هناك كما سبق وذكرنا وقرّر لهم موعدا معيّنا ووقتا خاصّا يحضرون فيه جميعا. ولما قرب الموعد تقدّم موسى قومه وقصد الطور قبلهم وحده ففعل خلاف المقرّر فعوتب بهذا الخطاب لأن المصلحة تقضي بأن يسير معهم إلى الموعد وأن لا يسبقهم إليه ، فأدرك موسى عليه‌السلام أنه فعل خلاف الأولى.

٨٤ ـ (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) ... أي هؤلاء قومي آتون من ورائي ولم أسبقهم إلّا قليلا ، ثم اعتذر ثانية فقال : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي أن مسارعتي كانت مبادرة لامتثال أمرك ونيل رضاك ، وأنا إنما امتثلت أمر مولاي بسرعة لأكون أول من يشمله رضاه. وقد فسّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل موسى واستعجاله بقوله : إنه ما أكل ولا شرب ولا نام ولا اشتهى شيئا من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوما شوقا إلى ربّه.

٨٥ ـ (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) ... هذه الكريمة متفرعة على ما قبلها في قولك سبحانه : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) ، فإنه تعالى يريد أن ينبّه نبيّه عليه‌السلام إلى أن الفتنة قد حصلت بنتيجة استعجالك وكانت وليدة خروجك من بينهم وتخليتك إياهم مع أنفسهم ، فسوّلت لهم أنفسهم أمرا (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) فأغواهم هذا الشيطان المشعوذ ، ولو كنت معهم لما حدثت لهم تلك البلوى ...

وحاصل معنى الكريمة أننا قد ألقينا قومك في الاختبار والامتحان بعدك ، فابتلوا بعبادة العجل حتى نميّز المؤمن المخلص من المنافق المرائي ، وليظهر الصالح من الطالح ، وليظهر أمرهم لغيرهم من سائر الخلق فإنهم أهل عناد وتردّد. وقيل إن السامريّ الذي دعاهم إلى عبادة العجل اسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقا. وقال ابن عباس : إن السامري من أهل كرمان ، وقع إلى مصر وكان من قوم يعبدون البقر. ولكن الأكثرين يبنون على أنه من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها : السامرة. وقيل هو من القبط وقد كان جارا لموسى وآمن به وكان من الذين خلّفهم موسى مع هارون على ساحل البحر. والذين أضلّهم هذا السامري كانوا ستمائة ألف افتتنوا بالعجل بعد مفارقتهم لموسى ، لأن هذا الشيطان ابتدأ بتدبير الفتنة بمجرد ترك موسى لهم ، وعزم على إضلالهم .. ولما استشعر موسى بفتنة قومه رجع إليهم بعد أخذ التوراة.

٨٦ ـ (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) ... قد رجع إليهم بعد ما

استوفى الأربعين يوما ، وبعد أن نزلت التوراة عليه ، فعاد غضبان : شديد الغضب والهم والغم ، أسفا : متلهفا حزينا لما فعلوه لأنه خشي أن لا يستطيع تدارك أمرهم. وحين وصل إليهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي عاتبهم بقوله : ألم يضرب ربّكم موعدا ينزّل فيه التوراة عليكم لتكون كتابكم المقدّس ودستور حياتكم ونظام عيشكم لتعلموا ما فيها وتعملوا به؟ فلم فعلتم خلاف ما وعدتموني به من الثبات على ديني واللحاق بي إلى جبل الطور (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) هل طالت إقامتي وأنتم تعلمون مقدارها (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أم قصدتم أن تبوؤا بغضب الله وسخطه فتأخرتم عن متابعتي واللحاق بي إلى جبل الطور؟ ...

٨٧ ـ (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) ... فأجابوه : ما تأخرنا عنك وعن الموعد معك باختيارنا (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) بل حملنا أثقالا من حليّ القبط التي كنّا استعرناها منهم يوم عيدنا وبقيت معنا ، أو هي زينة القبط التي قذفها البحر مع القبط فأخذوها (فَقَذَفْناها) ألقيناها في النار بتسويل السامريّ ، وقيل بعيدا بأمر هارون (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) أي وألقى السامريّ شيئا في النار كما ألقينا نحن الزينة فيها :

٨٨ ـ (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) ... فصنع لهم السامريّ من الزينة الذائبة تمثال عجل له خوار ، أي جؤار وصوت خشن ، وقد تمّت هذه الصورة بأن وضع السامري قبضة من التراب كان قد قبضها من تحت حافر فرس جبرائيل عليه‌السلام وهي تربة الحياة ، فامتزجت مع الزينة الذائبة وخرج تجسيم عجل ضخم يصوّت كصوت الخوار لأن الريح كانت تمرّ في فمه وأنفه وتجتاز جوفه فتحدث ذلك الخوار (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) فافتتنوا به وقالوا هذا ربّنا وربّ موسى (فَنَسِيَ) قيل إن الضمير راجع لموسى ، أي أن موسى نسي هذا العمل وذهب يطلب ربّه عند الطور فأخطأ في طريق طلب الرّب ، فيكون : نسي هنا بمعنى : ضلّ أو ترك الإله

وراح يطلب غيره. والضمير عند البعض راجع إلى السامريّ ، أي : ترك ما كان عليه من الايمان الثابت وعدم عبادة العجل وإضلال الناس ، والله أعلم. وعلى كل حال ومهما قيل في الضمير فإن الله تعالى أتمّ الحجة عليهم بقوله :

٨٩ ـ (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) ... أي : كيف لا ينظرون ويتدبّرون أن هذا العجل الذي اتّخذوه إلها لا يتكلم بسؤال ولا يحكي عن تكليف ولا يستطيع ردّ جواب إذا هم سألوه (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يقدر أن يضرّهم أو أن ينفعهم إذ ليس بيده شيء من ذلك. والحاصل أن هذا العجل جماد لا يستطيع الحركة ، ولا يصدر الخوار عنه عن إرادة وشعور لأن الريح تمرّ بجوفه فتصفّر هذا التصفير ، وحركته إنما تشبه حركة الأشجار المرتعشة تحت وطأة هبوب الريح ، وخواره كخوارها إذا كانت الريح عاتية شديدة. فيما هذا الإله الذي لا يتكلّم ، ولا يجيب إذا سئل ، وليس بيده نفع ولا ضر؟

* * *

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١))

٩٠ ـ (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) ... قال لهم هارون سلام الله عليه قبل أن يرجع موسى من الميقات : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) يا قومي ويا جماعتي إنما امتحنتم بهذا العجل لأنه جماد لا يملك من أمره شيئا فكيف يملك أمر العباد؟ إنه ليس بإله وقد غشّكم السامريّ ، و (إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) وإلهكم الله سبحانه وتعالى الذي يرحم العباد ويخلقهم ويرزقهم

ويترأّف بهم (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فكونوا من أتباع طريقتي واسمعوا قولي واعبدوا الله واتركوا عبادة العجل ، واثبتوا على الدين الذي جاءكم من عند ربّكم فلا تخالفوا قولي.

٩١ ـ (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) ... أجابوا : أننا لن ندعه وسنبقى ملتفّين من حوله ثابتين على عبادته (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أي حتى يعود ، وقد كان لا يزال في ميقات ربّه الذي أوحى إليه بهذه الفتنة التي كان أعجب ما فيها الخوار فقد قال موسى عليه‌السلام : يا ربّ ، العجل من السامريّ فالخوار ممّن؟ فقال : منّي يا موسى ـ أي بقدرتي ـ لما رأيتهم قد ولّوا عنّي إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة. وقد ذكرنا أن الخوار من الريح وأن السامريّ وقومه قد تحدّروا من قوم يعبدون البقر ، وقد أشربوا في قلوبهم حبّ البقر وتقديسه ، وقد اغتنموا فرصة غياب موسى وغرّوا بني إسرائيل بما صنعوه من الفتنة العجيبة التي نتجت عن إلقاء الحليّ في حفيرة فيها نار ملتهبة تجسّم منها عجل له خوار قد أهلّوا واستهلّوا فرحا له حين سمعوه ينبعث من صورة العجل وشكروا السامريّ على أنه أراهم إلههم مجسما أمامهم. وقد ذكر القمي أن أتباع السامريّ قد همّوا بهارون وحاولوا قتله حين قال لهم : يا قوم إنما فتنتم به وإنّ ربّكم الرحمان. فهرب منهم مع جماعة من بني إسرائيل ثبتوا معه على الإيمان بموسى وبما جاء به عن ربّه وكانوا اثني عشر ألفا كما قيل ذهبوا مع هارون وانحرفوا عن السامريين الذين انفردوا في ناحية أخرى يرقصون ساعة ويشهقون أخرى ، ويخضعون للعجل مرة ويبكون من حوله مرة كما هو ديدن العرفاء من الدراويش العصريين وأصحاب الطّرق الصوفية الضالّة.

ولما رجع موسى ـ وكان معه سبعون نفرا من الذين لحقوا به في الموعد ـ سمع هذه الضوضاء الغريبة وهذه الطقوس غير المعتادة فقال عليه‌السلام : هذه أصوات الفتنة التي ابتلوا بها. وحين رأى القوم والعجل من

بينهم عاتبهم بقوله الذي مرّ آنفا ثم حمل على أخيه هارون يعاتبه بغضب لله عزوجل وألقى الألواح التي كتبت عليها التوراة.

* * *

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤))

٩٢ و ٩٣ ـ (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) ... أي أيّ شيء منعك يا هارون (من متابعتي) وقد رأيتهم ضلّوا وانحرفوا عن الدّين إلى عبادة العجل؟ و : لا ، هنا مزيدة في قوله : ألّا ـ أن لا ـ تتّبعني ، كما أنها مزيدة في قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)؟ (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟) يعني : هل خالفتني فيما أمرتك به؟ ولعله عليه‌السلام يريد مطالبته بقوله له : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين ، فلما أقام هارون على السكوت ولم يبالغ في منعهم ولو بقتالهم نسبه إلى عصيان أمره ، وما قنع بهذا الخطاب الشديد وما خمدت سورة الغضب عند هذا المقدار بل أخذ بلحية أخيه وذؤابتيه يجرّه فعل الغضبان بنفسه ، بل أشد ، فقال هارون سلام الله عليه :

٩٤ ـ (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ... يا ابن أم : أي يا أخي من أبي وأمي ، وقد خصّ الأمّ بالذكر استعطافا وترقيقا لقلبه عند قوله لا تأخذ بلحيتي : أي لا تقبض عليها وتشدها ، ولا برأسي فتجذبني من شعري وتذلّني عند القوم ، فإنني ما خفت القتال ولا كثرة الجدال بل (إِنِّي خَشِيتُ) خفت (أَنْ تَقُولَ) بعد مجيئك إلينا : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

بالنزاع معهم أو بالقتال (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ولم تنتظر أمري فيهم ، ولذلك لم أر أحسن من مفارقتهم بعد أن رأيت عنادهم منتظرا مجيئك حتى ترى وتفعل ما فيه الصلاح والإصلاح .. وبعدها انصرف موسى عليه‌السلام إلى السامريّ يخاطبه ويقول :

* * *

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

٩٥ و ٩٦ ـ (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟) ... أي ما هي قصتك وماذا أردت من أمرك هذا الذي أتيت به ، وما حملك على إضلال الناس؟ (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أريت ما لم يروا ، أي أنه رأى أثر حافر فرس جبرائيل عليه‌السلام على الأرض فأخذ حفنة تراب من مكانه (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي رسول الله عزوجل ، وهي تراب الحياة الذي ذكرناه قريبا (فَنَبَذْتُها) قذفتها في النار مع المعادن الذائبة من زينة القوم (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) وهذا هو الذي زيّنته لي نفسي الأمّارة بالسوء. فاعترف بعمله الشنيع ، وعمد موسى إلى العجل الذي صنعه لهم فأحرقه بالنار وألقاه في البحر على مرأى منهم جميعا وقال للسامريّ بعدها :

٩٧ ـ (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) ... أي انصرف من وجهي بنتيجة عملك القبيح ، وجزاؤك في الدنيا أن تقول لا مساس : أي أن تقيم في البراري مع الوحوش لا تمسّ أحدا ولا يمسّك أحد ، فلا تمس ولا تمس ، ومن مسّك أصيب بالحمّى وأصابك أنت بها أيضا ، فكان إذا أراد أحد أهله أن يمسّه يصيح به : لا مساس خوفا من تلك الحمى التي يرميه بها الله تعالى جزاء على عمله. وقيل إنه لمّا قال له موسى عليه‌السلام ذلك : عوقب بمرض الجنون وهام على وجهه في البريّة وجعل يقول لا مساس ولا مساس ، وكان من يمسّه يصاب بمثل ما أصيب به.

هذا ما كان من عقابه في الدنيا ، وأمّا في الآخرة (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي أن لك يوم القيامة وقتا تتلقّى فيه عذاب الآخرة الأشد فإنه مهيّأ لك وعدا غير مكذوب ولن تجد خلفا في ذلك الوعد إذ ينتظرك عذاب ربّك الخاص بك. وفي بعض التفاسير أن هذه الحالة موجودة في أعقاب السامريّ (لا مِساسَ) لتكون عبرة لهم ولغيرهم ، وأنّ السامريين يعرفون بها في بلاد مصر والشام ويقال عند رؤيتهم لا مساس. وقيل إن موسى عليه‌السلام همّ بقتل السامريّ بعد فعلته الشنعاء ، فأوحى إليه الله تعالى : لا تقتله فإنه سخيّ. فلذلك تركه وأحرق عجله وقال له : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي انظر إلى الرّب المزيّف الذي صنعته وكنت لا تزال ملازما له (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنحرقنّه بالنار ونذيبنّه بها ، ولنرمينّه في البحر مبعثر الأجزاء بعد طرحه في الماء بحيث لا يبقى له أثر.

وقيل إن قراءة (لَنُحَرِّقَنَّهُ) من باب التحريق لا الحرق ، تدل على كون العجل حيوانا ذا جلد ولحم ودم وعظام ، وأما على القراءة بالتخفيف : لنحرقنّه ، فمعناها لنبردنّه بالمبرد ولنسحقنّه ، لأنه مصنوع من الذهب والذهب غير قابل للإحراق. وهذه من الأوهام التي يريد المتحذلقة إيرادها

تلاعبا في اللفظ ، إذ الحقّ أن لا فرق في المعنى بين القراءتين ، وعلى التقديرين فإن العجل من الذهب قابل للاحتراق بالتذويب الذي يفكّك أجزاءه وينثر ذرّاته في الهواء كما أن الجبال الراسيات بصخورها ومعادنها وما في بواطنها قابلة للاحتراق بقدرة الله تعالى.

٩٨ ـ (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ... أي يا بني إسرائيل : إن إلهكم الذي خلقكم ورزقكم ونجّاكم من آل فرعون ، هو الله الذي لا إله غيره ، وهو الذي يستحق العبادة وقد (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه سبحانه بكل شيء فلا يغيب عن علمه شيء كبر أم صغر.

* * *

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ ـ (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ) ... أي : على هذا الشكل نخبرك يا محمد أخبار الأمور الماضية و (ما قَدْ سَبَقَ) من الحوادث التي غابت عنك من أحوال الأمم الدارجة (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) وقد أعطيناك من عندنا كتابا بذلك ، لتكون هذه المعلومات تبصرة لك ومزيدا لعلمك مثبتة في هذا الكتاب الذي بين يديك والذي يشتمل على ما يحتاج إليه في الدّنيا والآخرة ، ومن صدّق ما فيه فاز ونجا ، و (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)

وانصرف إلى غيره (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي يتحمل إثم الإعراض عنه والانصراف إلى غيره مما هو باطل (خالِدِينَ فِيهِ) أي في الوزر ووباله الذي يترتّب عليه (وَساءَ) قبح (لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : ساء هذا الوزر حملا حملوه واحتملوا إثمه يوم القيامة. فإن لفظة : حملا تمييز للمبهم من المضمر في الفعل : ساء.

١٠٢ و ١٠٣ ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ... أي وذلك ـ يعني يوم القيامة ـ يكون حين ينفخ إسرافيل عليه‌السلام في الصور ، فتنبعث الأرواح في أجسادها ويقوم الناس للحساب في يوم المحشر (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) نبعثهم أحياء ونجمعهم إلينا (يَوْمَئِذٍ) في ذلك اليوم (زُرْقاً) مسودّة وجوههم من كثرة المعاصي والآثام (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي تراهم يتكلمون مع بعضهم بصوت خافت (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي لم تبقوا أمواتا أكثر من عشر ليال على الأكثر.

١٠٤ ـ (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) ... أي أن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يقولونه يومئذ عن مدة لبثهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أحسنهم قولا وتقديرا وتقريرا (إِنْ لَبِثْتُمْ) ما بقيتم في رقدتكم (إِلَّا يَوْماً) سوى يوم لا أكثر ولا أقل.

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) ... حكي أن كفّار قريش أو نفرا من ثقيف سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الجبال وما يصيبها يوم القيامة على ثقلها وصلابتها وعظمتها ، فنزلت هذه الآية الكريمة : ويسألونك عن حال الجبال ومآلها وما يحلّ بها (فَقُلْ) يا محمد لهم : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يدكّها ربّي تعالى دكّا ويهدمها ويقلبها من أصلها ويصيّرها كالرمال الناعمة ويأمر الريح الدّبور فتفرّقها على وجه البسيطة وسطح الأرض وتصير أمكنتها سهولا مستوية بعد أن كانت جبالا راسية (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) فيدعها أرضا منبسطة كبقية السهول ، ف (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) فلا تنظر فيها التواء من انخفاض أو ارتفاع بقدرته العزيزة جلّت قدرته.

١٠٨ ـ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) ... أي في ذلك اليوم يلحقون بداعي الله عزوجل الذي يدعوهم للمحشر ، وهو إسرافيل عليه‌السلام ، يدعوهم بأمر ربّه عزّ وعلا فيقبلون من كل أوب إلى صوبه (لا عِوَجَ لَهُ) أي ليس لأحد أن ينحرف عنه ولا يعدل عمّا أشار إليه من خطة السير. والفرق بين العوج والاعوجاج أن الاعوجاج هو الانحراف الفاحش من الشيء بحيث يلتفت إليه من يراه في بادئ الأمر ولأول وهلة ، أما العوج فإنه الانحراف اليسير الذي لا تدركه النظرة الخاطفة لخروجه عن إدراك البصر السريع لدقّته ، ولا يدركه إلّا الحاذق الدقيق والمهندس المختص بالمقاييس الهندسية اللازمة ، ولذا لا يستعمل لفظ العوج ، إلّا في الأمور المعنوية للطافته وكمال دقّته كالأمور المعنوية ، في حين أن الاعوجاج يستعمل في الأعيان المادية. فاستعمال لفظ : العوج في المقامين اللذين مرّا

في الآيتين الكريمتين كان من أجل المبالغة في نفي الاعوجاج ، وهذا من أسرار القرآن وكمال بلاغته (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي سكنت لمهابة البارئ تعالى وعظمته التي تتجلّى في ذلك الموقف الرهيب (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي فلا تسمع في ذلك الجمع الذي يشمل كافة المخلوقات إلا صوتا خفيّا لا يكاد يسمع.

١٠٩ ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) ... أي في ذلك اليوم العصيب لا ينال الشفاعة والعفو وطلب التجاوز إلّا من رخّص الله تعالى أن يشفع فيه (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) كان قد قاله في الدنيا وكان فيه بجانب الحق ولم يتّبع سبيل الغي.

١١٠ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ... أي يعرف سبحانه جميع ما كان في حياتهم (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لأنه لم يغب عن علمه شيء من أحوالهم (وَما خَلْفَهُمْ) من أحوال آخرتهم وما يكونون عليه (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي لا يحيط علمهم بمعلوماته ولا بذاته جلّ وعزّ.

١١١ ـ (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ... أي خضعت وجوه المخلوقات وذلّت خضوع وذلّ العاني الأسير في يد من قهره وأسره ، وانقادت مذعنة لله الحيّ القائم على كل نفس من الأنفال وكلّ خطرة من الخطرات (وَقَدْ خابَ) خسر ووقع بالخيبة والفشل (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي من كان زاده للآخرة الشّرك والمعاصي.

١١٢ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ... أما الذي عمل الأعمال الحسنة والتزم بأوامر ربّه ونواهيه وهو مصدق بجميع ما جاء عن ربّه على لسان رسله (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) فلا يحذر أن يمنع ثوابا يستحقه بالوعد ، ولا يظلم بزيادة سيّئاته ، ولا ينتقص حقّه بإنقاص حسناته وأفعاله الصالحة. وقيل لا يخشى إضافة سيئات غيره إلى سيئاته كما ورد في بعض أخبار الغيبة بالنسبة إلى الذي يغتاب الآخرين ، فإن فيها أن يؤخذ

من حسنات هذا لهذا ، أو يؤخذ من سيئاته لسيئاته والعياذ بالله من ذلك.

فهذه الآية الكريمة تدل على أن من منن الله تعالى على عباده أن المؤمن الذي فعل الطاعات وتجنّب المعاصي ، لا يخاف منع ثواب عمل يثاب عليه ، ولا يخشى زيادة سيئات على سيئاته المسجّلة عليه ، وهذه الآية الكريمة من أرجى الآيات في كتابنا العزيز والحمد لله.

* * *

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

١١٣ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ... أي : وهكذا أنزلنا هذا الكتاب قرآنا يقرأ باللغة العربية (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) وكرّرنا فيه آيات التهديد بالعذاب والوعد بالثواب (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) بأمل أن يتجنّبوا ما يغضب وأن يتقرّبوا بما يرضي حتى تصير التقوى ملكة عندهم (أَوْ يُحْدِثُ) هذا القرآن يجعل (لَهُمْ ذِكْراً) عظة تذكّرهم بما أصاب الأمم الماضية فتجعلهم يتّعظون ويعتبرون.

١١٤ ـ (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) ... أي ارتفع وسما بذاته وبصفاته عن مماثلة المخلوقات ومشابهتها ، لأنه (الْمَلِكُ) النافذ التصرّف فيهم وفي ملكوته بأجمعه ، وهو الملك (الْحَقُ) الذي يحق له الملك ، أو هو النافذ الأمر بالاستحقاق (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي لا تتعجّل قراءته قبل أن يفرغ جبرائيل من تلاوته عليك وإبلاغه إياك ، إذ من المرويّ أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يساوق جبرائيل عليه‌السلام في القراءة

حرصا عليها ، أو لا تعجل في تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيك بيانه ، أو لا تسأل إنزال القرآن في شيء قبل أن يأتيك وحيه ، لأنه تعالى إنما ينزله حسب المصلحة وفي وقت الحاجة (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي قل ذلك يدل الاستعجال ، فإن ما يوحى إليك تناله لا محالة ، فاطلب زيادة العلم فيما يوحى إليك. وقيل إن المراد بالعلم المأمور به هنا هو القرآن من باب ذكر المسبب وإرادة السبب ، فإنه كلّما نزل عليه شيء منه زاد علمه صلوات الله عليه وآله ، لأن فيه علم الأوّلين والآخرين ، وعلم ما كان وما يكون منذ بدء الخليقة إلى أبد الآبدين.

* * *

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

١١٥ ـ (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) ... أي أمرنا آدم بعهد منّا أن لا يأكل من الشجرة التي نهيناه عن الأكل منها (مِنْ قَبْلُ) من قبل زمانك يا محمد.

وقد ذكر في وجه تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه ، أحسنها أنه تعالى لمّا قال في الآية ٩٩ : وكذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق ، نذكر قصة آدم إنجازا للوعد الذي ذكرناه لك ، فإن آدم قد أمرناه بعدم الأكل من الشجرة (فَنَسِيَ) ما أمر به من الكفّ عنه وفعل ما كان خلاف الأولى (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي ثباتا وتصلّبا في الالتزام بما أمر به ، أو لم نجد له عزما على الذّنب ونيّة مقصودة ، لأنه لم يتعمّد المخالفة حيث إنه نسي الأمر ، وعن الباقر عليه‌السلام أن الله تعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة ، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها ، فنسي فأكل منها. وهو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ، فَنَسِيَ ...).

وفي بعض الروايات أن الله تعالى قال لآدم وزوجته : لا تقرباها ، فقالا : نعم ، ولم يستثنيا في قولهما ، ـ أي لم يقولا : إن شاء الله ـ فوكلهما الله في ذلك إلى نفسيهما وإلى تذكّرهما ، فنسيا. والله تعالى أعلم في كل حال.

* * *

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

١١٦ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) : مرّ تفسيره وأن إبليس عليه لعائن الله استكبر عن السجود وعصا أمر ربّه.

١١٧ ـ (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) ... فنبّهنا آدم إلى أن إبليس عدوّ له ولزوجته حواء عليهما‌السلام ، وأنه ربّما كاد لهما كيدا سيئا ومكر بهما مكرا خبيثا (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أسند الشقاء إلى آدم مع اشتراك حوّاء معه في الأكل والخروج ، وذلك لأنه لا يترقّب من النساء ما يترقّب من الرجال ، فما يصدر منها لا يعبأ به كثيرا ، وثانيا ربّما أريد بالشقاء التعب والمشقّة في طلب الرزق والمعاش وفي العبادة وغيرها ، فذلك من وظيفة الرجال ، ويؤيد ذلك ما بعد هذه الآية الكريمة من قوله سبحانه : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها ..) إلخ .. مضافا إلى رعاية الفاصلة والتثنية لا تناسبها. بل يؤيد أن الشقاء هنا غير الشقاوة ، بل يعني المشقة والتعب ، قوله تعالى مخاطبا نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طه ، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ، أي لتتعب وتجهد نفسك.

١١٨ ١١٩ ـ (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) ... أي نؤكّد لك ونشترط أنك إذا أطعت الأمر أن تبقى في الجنة فلا تشكو جوعا فيها ولا عريا. أما عدم الجوع فلأنها مجمع النّعم المرغوبة من المأكول وغيره ، وأما العري فلأن الملبوسات موفورة فيها على الوجه الأتمّ ، فلك ذلك في الجنّة (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) لا تعطش (وَلا تَضْحى) لا يصيبك حرّ الشمس لأنّ ظلّها ظليل أي دائم بلا شمس ولا غيرها مما يسبب الحرارة ، وعن ابن عباس وابن جبير وقتادة ، قالوا : ليس في الجنة شمس ، وإنّما فيها ضياء ونور ، وظلّ ممدود. فلما ابتلى آدم بأكل المنهيّ وأخرج من الجنّة إلى الأرض ، نزل جبرائيل عليه‌السلام ومعه بقرة حمراء وعلّمه الزرع وفلح الأرض بواسطتها. فلما اشتغل بالزرع وتحصيل المعاش عرق وتعب ، فقال : هذا هو الشقاء الذي أخبرني به ربّي .. ويتضح أنه على هذا المعنى لا ترد بعض الإشكالات على أبينا آدم صفي الله عليه‌السلام. فما شاء الله كان.

* * *

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى

(١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

١٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ) ... أي فهمس له الشيطان الخبيث قائلا : (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أتريد أن أرشدك إلى الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنّة فلا يموت أبدا؟ (وَ) هل أدلّك أيضا على (مُلْكٍ لا يَبْلى) ملك وسلطان لا يزول ولا ينقطع؟ فكلا من هذه الشجرة تكونا خالدين.

ويستفاد من هذه الشريفة أن الجنّة التي كان فيها آدم وحواء ما كانت جنّة الخلد التي وعد الله عباده. وإلّا فلا معنى لهذا الكلام الذي قاله لهما إبليس إذا كانا في جنّة الخلد ، إلّا في حال واحدة وهو أنه غرّهما وغشّهما بأن من لا يأكل من (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) لا يكون من الخالدين فيها ، والله أعلم.

١٢١ ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ... فأكل آدم وحواء من الشجرة بإغراء إبليس اللعين ، فظهرت لهما عوراتهما فخجلا خجلا عظيما (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وأخذا يقطعان ورقا من شجرة الجنّة ويلصقانه بجسديهما ليتستّرا (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) خالف أمره وما كان نبّهه إليه ودلّه عليه (فَغَوى) فضلّ ونسي أمر ربّه وترك ما ندب إليه وأرشد إليه فسمّي عاصيا ، وغوايته كانت من ناحية أنه طلب الخلد بالأكل من الشجرة فلم يحصل له ذلك ، بل وقع في خلاف مقصوده وهذا هو الضلال عن المراد.

١٢٢ ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) : اجتباه : اختاره للرسالة (فَتابَ عَلَيْهِ) حين الاجتباء (وَهَداهُ) إلى حفظ أسباب العصمة لتحمّل أمانة الرسالة ، أو هداه إلى التوبة ووفقه لمرضاته وجعله بعدها مجتبى مختارا لهداية غيره فجعله نبيّا يدلّ ذرّيته على الله وعلى أمور الدين والعبادة.

١٢٣ ـ (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) ... أي : انزلا من دار كرامتي ورحمتي إلى دار التعب والبلاء كلكم. والخطاب في : اهبطا ، موجّه لآدم وحواء عليهما‌السلام دون إبليس مع أنه مقصود هو أيضا بالأمر ولكنه لم يعتن به لأنه بعد أن عصى واستكبر عن السجود أخرجه الله تعالى عن مقامه ورجمه ولعنه وطرده من رحمته فلم يبق عنده قابلية المخاطبة لأن فيها شيئا من التوجه والاهتمام بشأنه وإن كانت لفظة : جميعا ، تشمله في الخروج من الجنة ، كما أنها تشمله جملة : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن العداوة بين إبليس من جهة ، وآدم وحواء من جهة ثانية (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي إن جاءكم هدى مني حينما تكونون في الأرض على يد رسول أو بواسطة كتاب فهما الوسيلتان لهدايتكم (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الجملة : فمن تبع هي جواب الشرط لأن : فإمّا ، مركّبة من : إن الشرطية و : ما الزائدة. فمن سمع لرسولي واهتدى به أو بكتابي فلا يضل الصراط السويّ في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، أي لا ييأس من رحمة الله سبحانه ولا يبعد عنها.

١٢٤ و ١٢٥ و ١٢٦ ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ... ومن انصرف وولّى وجهه عن كتابي : القرآن ، أو ما يذكّر بي من كتاب أو رسول ، فإن له ضيقا في معيشته وعناء وتعبا نشقيه بماله وبأولاده وبنفسه. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : إن له معيشة ضنكا ، قال : هي والله النّصّاب. قيل له : رأيناهم في دهرهم الأطول في الكفاية حتى ماتوا. قال : ذلك والله في الرجعة يأكلون العذرة. وفي الكافي : من أعرض عن ذكري ، قال : ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ

أَعْمى) قال : يعني أعمى البصر في الآخرة ، وأعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين. (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي كيف رددتني إلى الحياة يوم القيامة أعمى البصر وقد كنت في الدنيا سليم العينين حسن البصر؟ (قالَ) الله تعالى (كَذلِكَ) أي مثل ذلك فعلنا بك ، لأنك (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) جاءتك دلائلنا وبراهيننا فتركتها وعميت عنها. وفي الكافي قال : الآيات : الأئمة عليهم‌السلام ، ونسيانهم تركهم.

(وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي تترك في النار ، وتعتبر كأنك منسيّ لأن الله سبحانه جلّ عن أن يسهو أو ينسى أو يغيب عن علمه شيء. فترك المعذّب في العذاب الدائم الآبد يجعله كالمنسيّ المسهوّ عنه.

١٢٧ ـ (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) ... أي وبمثل هذا الجزاء نجزي من فرّط ولم يصدّق بدلائلنا وجاوز الحدّ في التفريط. وعن الصادق عليه‌السلام : يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) أي ترك الأئمة معاندة فلم يتّبع آثارهم ولم يتولّهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا بما لا يوصف (وَأَبْقى) أدوم لأنه لا يزول بينما يزول عذاب الدنيا ويذهب كل ما فيها.

* * *

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))

١٢٨ ـ (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) ... أي أفلم ينكشف لهم طريق الهدى إلى ما يبيّن لهم (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) كم أفنينا وأبدنا بالعذاب كثيرا من الأمم الماضية المكذّبة للرّسل كعاد وثمود وغيرهما. وعلى هذا التفسير تكون جملة : أهلكنا ، في محل رفع على أنها فاعل يهدي ، والتقدير : أفلم يهدهم إهلاكنا لمن قبلهم؟ وقيل إن الفاعل هو الضمير فيه ، الراجع إلى الله تعالى ، وضمير : لهم ، راجع إلى قريش الذين (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) في مساكن الذين دمّرناهم بالعذاب لأنهم عصوا الرّسل. والجملة منصوبة مملّا بناء على أنها حال من لهم ، أي يمشون في قرى الأمم السابقة ، الخربة ، ويرون آثار هلاكهم ، أفلا يعتبرون حين دخولهم في منازل أهل الأحقاف والحجر في أسفارهم التجارية إلى الشام ، فإنهم يمرّون عليها ويشاهدون علائم عذابهم فلا بدّ لهم من الاعتبار والاتّعاظ ف ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ) الأثر الظاهر أمام أبصارهم (لَآياتٍ) دلالات واضحة (لِأُولِي النُّهى) لذوي العقل والبصيرة.

١٢٩ ـ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) .... أي : ولولا الوعد الذي أخذه ربّك على نفسه أن لا يعذب الأمة المرحومة بوجودك يا محمد ، وأنه أخرّ عذابها إلى الآخرة ، لولا ذلك (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) لازما لهم وقت ارتكابهم للآثام .. (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) معطوف على كلمة : لولا ، أي لولا الكلمة ولولا الأجل المضروب من عذابهم في الآخرة لعجّلناه لهم كما فعلنا بعضه في يوم بدر وغيره من العذاب العاجل.

١٣٠ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ... أي اصبر على تكذيبهم إيّاك واشتغل بتنزيه ربّك وتقديسه في هذه الأوقات وسلّم الأمر إليه سبحانه. وقد أراد المداومة على التسبيح والتحميد (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) أي في هذه الأوقات لآثار لها خاصة لا توجد في غيرها ، ولشرافة التسبيح والتحميد حينئذ (لَعَلَّكَ تَرْضى) أي بأمل أن ترضى بما يعطيك ربّك في الدارين من النّصر في الدنيا والفوز بنعيم الآخرة.

١٣١ ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) ... نهى الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مدّ بصره والتطلّع إلى ما استمتع به القوم الكافرون من نعم الدّنيا. ومدّ العينين هنا كناية عن الأسف ، أي لا تأسف على ما يفوتك ممّا ينالونه من حظّ الدنيا ، وليس تحديق النظر إلى ما هم فيه متمتّعون. و (الأزواج) هنا هي أصناف الكفار الذين يتمتعون بغضارة الدنيا (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي زينتها وبهجتها ، فذلك (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم ونعذّبهم بسببه في الآخرة فلا تأسف عليه (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) وما أعطاك ربّك من نعم هي أدوم لك.

١٣٢ ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ... يمكن أن يكون تخصصه صلى‌الله‌عليه‌وآله من باب : إياك أعني ، فأمره بذلك ليأتمر غيره به أيضا. كما يمكن أن يكون أهل بيته صلوات الله عليهم أولى بالتكاليف كما في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، لشرافتهم ولإكرامهم بهذه الفضيلة من التقديم على غيرهم ، أي الأمر الخاص بأهم الواجبات الدينية ، الصلاة التي هي عمود الدّين وركنه الركين ، مع أن أهله داخلون في عموم قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ). وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قال : أمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يخصّ أهله دون الناس ، ليعلم الناس أن لأهله عند الله منزلة ليست للناس. فأمرهم مع الناس عامة ، ثم أمرهم خاصة. فأمرهم بالصلاة يا محمد (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي حافظ

عليها ، أو معناه : احمل نفسك عليها وعلى مشاقّها فإنها كبيرة إلّا على الخاشعين ، وقيل معناه : داوم على الأمر بها ونحن (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لا نكلّفك بطلب الرزق والسعي من أجله ، إذ (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ونمنّ عليك (وَالْعاقِبَةُ) الآخرة المحمودة (لِلتَّقْوى) يعني لأهل التقوى والطاعة.

* * *

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

١٣٣ ـ (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) ... أي نتمنّى عليه أن يأتينا بمعجزة من المعاجز التي نقترحها عليه ونطلبها منه لنستدلّ على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته. وهو قول باطل (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟) هذا جواب لهم يعني : أولم يكفهم ما في الكتب التي نزلت على الأنبياء سابقا من إهلاكنا لأممهم حين عصوا أوامرنا وعصوا رسلنا واستهزءوا بأقوالهم؟ أليس ذلك من الآيات البيّنات الواضحات. و (بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) هو القرآن الكريم الذي يشتمل على زبدة ما في جميع الكتب السماويّة من العقائد والأحكام والقصص والأمثال والوعد والوعيد والذكرى وغيرها ، مع أن الآتي به لم ير تلك الصّحف ولم يتعلّم من أحد كان يعلّمها للآخرين ، فهذه أعظم آية وأبينها وأكبر إعجاز لغير الجاحد الكفور.

١٣٤ ـ (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ... يعني أننا لو أنزلنا على قريش عذابا يهلكهم ويفنيهم (مِنْ قَبْلِهِ) قبل بعث محمد ونزول القرآن وإلقاء الحجة عليهم (لَقالُوا) لنا يوم القيامة : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) هلّا بعثت إلينا نبيّا يرشدنا إلى الهدى والصلاح (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) أي قبل أن يلحقنا الهوان والذل والخزي في الدار الآخرة من أجل ذلك قطعنا عذرهم بإرسال رسول كريم ، فلم يبق لهم ما يتعلّقون به من الأمل إذ تمّت الحجة عليهم. وقيل في معنى العبارة : من قبل أن نذلّ في الدّنيا بالقتل والسّبي ، ونخزى في الآخرة بدخول النار ، وهو جيّد.

١٣٥ ـ (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ، فَتَرَبَّصُوا) ... أي قل لهم يا محمد قطعا للجدال : كلّ منّا منتظر عاقبة أمره وما تؤول إليه حاله في الآخرة ، فانتظروا أنتم ما يصيبكم من الذل والخزي في الدارين. وكلمة : فتربّصوا ، تحمل التهديد وقطع الجدل ، فسترون عاقبة السوء التي تنتظركم يوم القيامة ، بل (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) وسترون وتعرفون من كان على الطريقة المستقيمة ومن اتّبع طريق الهدى.

* * *

سورة الأنبياء

مكية ، وآياتها ١١٢ آية نزلت بعد سورة إبراهيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

١ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) : أي : قربت ساعة القيامة للحساب. وإنما وصفت بالقرب لأن أحد أشراط الساعة بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : بعثت أنا والساعة كهاتين ، ثم جمع

سبّابته والوسطى. ولذا صار خاتم الأنبياء. وقال سبحانه : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) ـ أي يوم القيامة ـ (وَنَراهُ قَرِيباً). ووجه آخر لوصفها بالقرب هو أنّ كل آت قريب ، وأن ما بقي من عمر الدنيا المقدّر لها ، أقلّ مما ذهب. وفي الجوامع عن أمير المؤمنين عليه آلاف التحية والسلام : إن الدنيا ولّت حذّاء ـ أي انصرمت خفيفة سريعة ـ ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء. وعلى كل حال فقد وصفت بالقرب لسرعة مضيّ ما بقي ، ولأن كل آت قريب محقّقا. وحكي أن قس بن ساعدة ركب يوما على ناقته في سوق عكاظ وراح يقول : أيّها الناس ، إن من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت ..

فكل ما سيأتي هو بحكم ما أتى ، وقد ذكر سبحانه الحساب هنا من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، فقد اقترب حساب الناس (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ساهون عن يوم القيامة وأهواله والحكم العدل فيه (مُعْرِضُونَ) عن الإيمان بالساعة والقيامة والمحاسبة والتفكّر في أمر ذلك اليوم العصيب.

٢ و ٣ ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي ما يجيئهم هذا القرآن الجديد عليهم ، أو أن المحدث هو تنزيله شيئا فشيئا ، ما يجيئهم ذلك من ربّهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) استمعوا تلاوته مستهزئين به لفرط إعراضهم عنه. ونرجّح أن الذّكر المحدث هو القرآن الكريم بكامله ، لا تنزّل آياته منجّمة ، لأن ذلك خلاف الأصل ، ولأن القول الأول يردّ قول الأشاعرة الذين قالوا : إن القرآن لا يصحّ أن يتّصف إلّا بما يتّصف به قائله ، أي أنه قديم كما أنه سبحانه وتعالى قديم. والحاصل أن كفرة قريش يستمعون القرآن (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) غافلة عن تدبّره والتفكّر بآياته وبيّناته ، ولاهية : حال من الواو في : يلعبون (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي أخفوا التناجي به فلم يشعر بما كانوا يقولونه بشأن النبيّ إلّا الله عزوجل ، إذ كانوا يقولون فيما بينهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) والجملة بدل من النجوى وبيان له ، أي أنه ليس بملك فليس برسول ، وما يأتي به سحر ، كما أخبر تعالى عن

بقية قولهم لبعضهم : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) تحضرونه وتقبلونه (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ترون أنه بشر أو ترون أنه سحر من ساحر؟

٤ ـ (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ... أي قال محمد (ص) أفوّض أمري إلى ربّي الذي يعلم القول كائنا حصوله في السماء أو في الأرض ، جهرا أو سرّا (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع أقوالهم ويعلم أحوالهم.

٥ ـ (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ... أي قالوا عن الوحي إنه رؤيا مختلطة ليست بقابلة للتعبير نشأت عن النّوم وأبخرة الطعام وامتلاء المعدة (بَلِ افْتَراهُ) بل هو قول كاذب افتراه من عنده (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) وقالوا أيضا إنه شاعر يأتي بهذا الكلام المرصوف (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) فليجئ بمعجزة دالّة على صدق نبوّته ودعوته (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) كما بعثوا بالمعاجز كعصا موسى ، ويده البيضاء ، وشفاء الأبرص والأكمة وإحياء الموتى وغير ذلك ، لنصدّقه.

٦ ـ (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)؟ : أي أن كلّ قرية دمّرناها وأهلكنا أهلها ، أتتها آيات منّا فلم تؤمن بها ولذلك أنزلنا عليها عذابنا. أفهم يؤمنون إذا جاءتهم آية؟ لا. فإن الاستفهام للإنكار ، فمن كان قبلهم من الأمم وأهل القرى لم يؤمنوا بآيات ربّهم فأهلكناهم مع أنهم كانوا ألين عريكة وأقلّ جحودا ، فكيف بهؤلاء من كفّار قومك المعاندين الذين هم أكثر عتوّا وطغيانا ممّن كان قبلهم.

* * *

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ

 فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

٧ ـ (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ... الآية إلى آخرها جواب على قولهم : هل هذا إلّا بشر مثلكم. أي لم نرسل ملائكة ، وكلّ رسلنا رجال أنزلنا عليهم الوحي بأوامرنا ونواهينا (فَسْئَلُوا) أيها الناس ، بل أيها المعاندون اسألوا (أَهْلَ الذِّكْرِ) عن ذلك (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لا تعرفون حقيقة الرّسل. وأهل الذكر هنا هم علماء اليهود والنصارى فإن كفّار مكة كانوا يعتقدون بأقوالهم ولذلك أرجعهم إليهم.

٨ ـ (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ... أي أن الرّسل ما جعلناهم ملائكة ، بل كانوا رجالا يأكلون الطعام ، وهذه الشريفة نفي لما اعتقدوه من أن الرسالة من خواص الملائكة ، إذ كانوا يقولون : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ يعيّرونه بذلك. فالرّسل كذلك رجال يأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبقية الناس (وَما كانُوا خالِدِينَ) باقين في دار الدّنيا.

٩ ـ (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) ... أي أن عاقبة الرّسل والمؤمنين بهم ، كانت أننا وفينا لهم بما وعدناهم به ، فأنزلنا عذاب القتل والإهلاك بالكافرين بهم وبالمشركين بنا ، وأنجيناهم من القتل والعذاب وأنجينا معهم من شئنا من المؤمنين بهم وبدعوتهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أفنينا المتجاوزين للحدّ في كفرهم وعنادهم ومعاصيهم. وهذه الكريمة كلّها تهديد لكفار قريش وتخويف لهم ولمن كان على شاكلتهم.

* * *

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)

وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

١٠ ـ (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ... الخطاب لقريش ، والكتاب هو القرآن الكريم الذي فيه ذكر عتاة قريش وجبابرتها ، فإن أكثره كان موجّها إليهم إذ كانوا المقصودين بأكثر التهديد والوعيد إلى جانب الوعد بالحسنى لمن آمن ، وإن كان ذلك يتناول الآخرين نوعا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة. وقيل معناها أن في الكتاب ما يوجب حسن الذّكر لكم إن أنتم تمسّكتم به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تملكون عقولا تفكّر لتؤمنوا به؟.

١١ ـ (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) ... أي : كثيرا ما أهلكنا القرية التي كان أهلها يظلمون أنفسهم بالكفر. وقيل إن المقصود هنا قرية حضورا التي كانت في نواحي اليمن ، وقد أرسل الله إلى أهلها نبيّا اسمه حنظلة ليرشدهم إلى الهدى ويعلّمهم الدين ، فلم يقبلوا قوله ولم يسمعوا كلامه ، وأخيرا قتلوه عدوانا بعد أن زجروه زجرا شديدا أثناء مكالمتهم ، فغضب الله عليهم فبعث إليهم بختنصر ملك بابل ، فسلّطه عليهم فقتل رجالهم ومثّل بهم ، وسبى نساءهم وأطفالهم ، وأغار على دورهم فسلب نفائسها ، وسمع يوم وصوله مع جيشه نداء مناد من السماء يقول : يا لثارات الأنبياء ، هلمّوا وانتقموا من أعداء دين الله وقتلتهم ، فهجموا عليهم وقتلوهم وفعلوا الأفاعيل. وقد أخبر سبحانه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقصتهم كي يعتبر قومه بذلك ويخافوا ربّهم. فقد قال

سبحانه : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) : ضربناها ضربة قاطعة جعلت أهلها أشلاء (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) عاشوا مكانهم وفي بيوتهم وأرضهم.

١٢ و ١٣ ـ (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) ... أي لمّا شعروا بقرب نزول عذابنا عليهم ، وأدركوا أنه قد أحاط بختنصّر وجيشه بهم ، أخذوا يفرّون ويهربون مسرعين خوفا من بطشه وجبروته ، فكأنّ قائلا كان يقول لهم تهكّما واستهزاء : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا) لا تهربوا مسرعين ، وعودوا (إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) إلى النّعم التي كنتم تتلذّذون بها وتتقلّبون في رغدها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) عن أعمالكم أو سيئاتكم الناس شيئا من دنياكم. هذا على قراءة المجهول (تُسْئَلُونَ) وأما على قراءة المعلوم (تُسْئَلُونَ) فالمعنى : لكي تسألوا العفو ممّن أحاط بكم فقد يرجع عن شيء مما قرّره من قتلكم وتخريب دياركم. والعبارة وقعت في موقع السخرية منهم وفي موقع الاستهزاء وعلى وجه الهتك لحالهم التي كانوا عليها. فأدركوا أن الأمر قد قضي وأن البلاء قد نزل ، فعندئذ :

١٤ ـ (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) : أي نادوا بالويل والثبور واعترفوا بأنهم كانوا ظالمين لنبيّهم الذي قتلوه ، ولأنفسهم بفعلهم الشنيع وبكفرهم وعنادهم ، أي بتكذيب النبيّين وقتل المرسلين.

١٥ ـ (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) ... أي ما داموا يردّدون تلك الدعوى من الويل والتحسّر (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) إلى أن سوّيناهم كالزرع المحصود الملقى على الأرض (خامِدِينَ) موتى مطفئين كما تطفأ النار ، لا يتحركون ولا يلفظون نفسا.

* * *

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً

لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

١٦ و ١٧ ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ... وجه تعلّق هذه الشريفة بما قبلها أنه لمّا بيّن قدرته وأظهر بطشه بالعصاة وإهلاكهم وإفنائهم لأنهم كذّبوا رسله وقتلوا أنبياءه بغير حق ، نبّه في هذه الآية إلى أن فعلنا معهم هذا الفعل كان عن استحقاقهم له ، وأنه عدل منّا ومجازاة على العمل القبيح بما يستحقه ، ولم يصدر إهلاكنا لهم عن غير مصلحة ولا بدون رويّة ، كما أن سائر أعمالنا كذلك تصدر عنّا لمصالح مخفيّة ، على العباد كخلقنا للسماء والأرض ، وكخلق ما بينهما من أفلاك وشموس وأهوية وغيرها ممّا لم يكن لهوا ولغوا ، وما كنّا (لاعِبِينَ) في إيجادهما وإيجاد ما فيهما من مخلوقات ، وما كانت أعمالنا إلا بالحقّ ووفق الحكمة والغاية السامية التي ترمي إلى تذكرة الناس وموعظة ذوي الاعتبار وتسبيبا لما تستقيم به أمورهم في المعاش والمعاد ، وليس ذلك من اللهو بل له غاية سامية لا تحيط بها العقول المحدودة القاصرة ، إذ (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) فلو شئنا أن نلهو بشيء أو نلتذّ بآخر ممّا يلهي الإنسان كالزوجة والولد وغيرهما لفعلنا ذلك وجعلناه ممّا هو عندنا في السماء دون أن نأخذه من الأرض. وسبب نزول هذه الشريفة أن طائفة من النصارى قالوا إن مريم عليها‌السلام هي صاحبة الله ، وأن المسيح ابنه ـ والعياذ بالله من ذلك ـ فردّت قولهم السخيف. فاللهو بلغة اليمن هو اللعب مع المرأة ، وهي الملهو بها ، ولذلك قال سبحانه : لو شئنا أن نتّخذ

شيئا من هذا اللهو الذي يزعمونه ، لجعلناه من مخلوقاتنا الروحانية في السماء دون المخلوقات الجسمانية في الأرض (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) في حال فعلنا ذلك. وجواب الشرط هنا معلوم من جواب الشرط المتقدّم ، أي : إن كنّا فاعلين ذلك ، لفعلناه من عندنا من الملائكة. وقيل إنّ (أَنْ) هنا ، نافية. أي : ما كنّا فاعلين ذلك العمل أبدا.

١٨ ـ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) ... أي نرمي الباطل بالحقّ ونضربه به فيذهبه. ومن الباطل الذي يعارض الحقّ اللهو واللّعب ، فكيف نأتي بذلك ونحن ندعو المخلوقات لما هو حقّ ونمحق الباطل به فيغلبه (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) مضمحلّ معدوم قد انمحى وجوده (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) والويل كلمة تهديد بالعذاب بل قيل هي واد في جهنّم شديدة العذاب ، والخطاب للكفّار ، وهو يعني أن لكم العذاب الشديد من وصف الله تعالى بما لا يجوز نسبته إليه. ولا يخفى أن هذه الآية الكريمة إضراب عن اتّخاذ اللهو واللّعب من قبل البارئ عزوجل وتنزيه لذاته المقدّسة عنهما.

١٩ و ٢٠ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي أنه سبحانه كيف يكون كما وصفتم وهو يملك جميع ما في السماوات وجميع ما في الأرض ، ولا يحتاج إلى ما أوجده من العدم بقدرته ولا إلى ما برأه كما يشاء من خليقته ، بل قام بذاته غنيّا عن مخلوقاته لا يلهو ولا يسهو ، يقدّسه من في السماوات ومن في الأرض (وَمَنْ عِنْدَهُ) من الملائكة العظام الشّداد الذين يحملون العرش ويستقلّون السماوات والأرض (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) بل يخضعون لعظمته ويسبّحون بحمده ويقدّسون له (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يغترون ولا يملّون من تسبيحه وتنزيهه لأن تسبيحه عندهم بمنزلة الغذاء والطعام والشراب يلتذّون به ولا يملّون الإتيان به ، والمراد بالذين عنده الملائكة. وفي الإكمال عن الصادقعليه‌السلام : ما من حيّ إلّا وهو ينام ، ما خلا الله وحده ، والملائكة ينامون. فقيل له : يقول اللهعزوجل :

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)؟ قال : أنفاسهم تسبيح ... و (لا يَفْتُرُونَ) يعني لا يتعبون ولا يصيبهم فتور لأن التسبيح لهم كالنّفس لنا لا يشغلهم عنه شاغل ولا يعيون منه أبدا.

* * *

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

٢١ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ)؟ : أي : ما بالهم ضلّوا عن الحقّ والصواب فجعلوا لأنفسهم معبودات من الأحجار والأخشاب وممّا يتكوّن في باطن الأرض من الفلزّات. فعل هذه المعبودات التي اتخذوها عندها قدرة الإحياء والموت وبعث الأجساد بعد الموت للنشور فهم ينشرونها ويحاسبونها على الطاعات والمعاصي؟ فإن ذلك من لوازم الألوهيّة التي لا بد لها من مثل هذه القدرة. والآية الشريفة في مقام التهكّم كما لا يخفى وفي مقام التّنبيه إلى كون الأصنام التي اتّخذوها ليست آلهة بل هي منحوتات عاجزة لا تقدر على شيء ولا تسمع ولا تعقل لأنها جمادات وحال الجمادات معلوم.

٢٢ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ... أي : لو كان في السماوات

والأرض آلهة غير الله تتمكّن من التصرف لفسدت السماوات والأرض ، وهذا دليل آخر على امتناع الشركة. بيان ذلك أن مفاد الآية هو الذي بنى عليه المتكلمون مسألة التوحيد بتقرير أنه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين والقدم من أخص الصفات والاشتراك فيه يوجب التماثل ، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين. ومن شأن كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريده الآخر من إماتة أو إحياء ، أو تحريك أو تسكين ، أو إفقار أو إغناء ونحو ذلك. فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو إمّا أن يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين ، وإما أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر بعينه فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا. فإذا ، لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا.

فإن قيل : إنهما لا يتمانعان لأن ما يريده أحدهما يكون عن حكمة ومصلحة فيريده الآخر بعينه فلا تمانع بينهما ، فالجواب أن كلامنا في صحة التمانع وعدمه لا في وقوعه وصحته ، فيكفي في الدلالة لأن يدل على أنه لا بد من أن يكون أحدهما متناهي المقدور ، فلا يجوز أن يكون إلها. فلو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا سواء توافقا أم تخالفا. أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلأن تأثير كلّ منهم يمنع تأثير الآخر فيه مرة أخرى لاستحالته (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزّه ربّ العرش العظيم الحاوي لأجزاء جميع الكائنات ، المحيط بجميع الموجودات ، الذي هو مصدر التدابير ومنشأ المقادير ، تنزّه وتعالى عمّا يصفونه به من اتّخاذ الشريك والصاحبة والولد.

٢٣ ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) : أي لا يسأله أحد عن فعل يفعله لأنه لا يفعل إلّا عين الحكمة ، بل العباد يسألون عن أفعالهم لأنهم يصيبون ويخطئون.

٢٤ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ... كرّر هذا القول استفظاعا لأمرهم وإظهارا لجهلهم (قُلْ) لهم يا محمد : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أعطوا دليلكم على

صدق ألوهيّة ما ألّهتموه ، وعلى صحة ما تقولون من أن مع الله آلهة أخرى ، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه ولا حجة. أما دليلي أنا ، وبرهاني على أنه ليس مع الله إله ، ف (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي هذا القرآن الذي فيه عظة أمّتي وفيه كل ما تحتاج إليه في معاشها ومعادها فإنه يدل على أنه منزل من لدن واحد أحد ، لأن فيه ذكر أمّتي (وَ) فيه (ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي أخبار كتب سائر الأمم السابقة ، وليس فيه ولا فيها أن مع الله إلها آخر ، بل فيها جميعها ما ينفي ذلك ويدحضه ، ولو كان في الألوهية شريك لأتت رسله وتوالت كتبه ، فما من شريك له جلّ وتعالى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) لا يعرفونه ويجهلون الحق فلا يميّزون بينه وبين الباطل. والحقّ هنا توحيد الله ، والباطل هو الشّرك والعياذ بالله منه (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) منصرفون عن الحق كلّه من التوحيد ومن كتاب الله والرسول وغير ذلك.

٢٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ... أي ما من رسول أرسلنا من قبلك (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ننزل عليه الوحي بالتوحيد والدعوة إليه ، وبعبادتي دون شرك.

* * *

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

٢٦ و ٢٧ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ... أولاء هم : قبيلة خزاعة الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ، واليهود الذين قالوا : عزير ابن الله ،

والنصارى الذي قالوا : المسيح ابن الله. قالوا هذا القول الباطل بالنسبة لذاته (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن ذلك ، فليس هؤلاء أولاده (بَلْ عِبادٌ) يقرّون له بالرّبوبية ويخضعون له بالعبودية وهم (مُكْرَمُونَ) أهل كرامة بين عبادة الصالحين الذين ارتضى عملهم وشرّفهم بكونهم من صالحي عباده. فنقول لمن زعموهم أولادي : ليسوا بأولاد لي ، بل عباد سدّدتهم وأيّدتهم وأكرمتهم بصدق عبوديتهم لي. وقيل إن قوله : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ، تعني الملائكة فقط ، ففي الخرائج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنه اختصم رجل وامرأة إليه فعلا صوت الرجل على المرأة ، فقال له عليه‌السلام : اخسأ ، وكان خارجيّا ، فإذا رأسه رأس كلب. فقال له رجل : يا أمير المؤمنين صحت بهذا الخارجي فصار رأسه رأس كلب ، فما يمنعك عن معاوية؟ فقال : ويحك ، لو أشاء أن آتي بمعاوية إلى هنا بسريره لدعوت الله حتى فعل. ولكنّ لله خزّانا لا على ذهب ولا على فضة ، ولكن على الأسرار! فظاهر كلامه عليه‌السلام يدل على خزّان من الملائكة موكّلين بأسرار الله سبحانه ، وهو تعالى أعلم بما قال.

٢٨ ـ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ... أي أنه سبحانه يدري ما عمل عباده الذين مرّ ذكرهم في الآية السابقة وما هم عاملون قبل وقوعه أي الذي مضى من عملهم والذي هو آت (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ولا يطلبون الشفاعة ويدخلون في التوسط للعفو إلّا عمّن ارتضى الله دينه ولا تنال شفاعتهم كافرا ولا مشركا (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) من مهابة الله تعالى وعظمته (مُشْفِقُونَ) خائفون ووجلون مرتعدون.

٢٩ ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ... أي : ومن يدّع الألوهيّة من المخلوقين ، وذلك أعمّ من الملائكة وغيرهم ، ويقل أنا ربّ من دون الله تبارك وتعالى (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) فإن جهنّم وعذابها يكونان جزاء قوله هذا (كَذلِكَ) بمثل ذلك الجزاء الأليم (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) نعاقبهم.

* * *

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ... ألم ينظر الكافرون إلى خلق السماوات والأرض وأنهما (كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) فعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : فلعلّك تزعم أنهما كانتا رتقا ملتزقتان ملتصقتان ففتقت إحداهما عن الأخرى؟ فقال السائل : نعم. فقال عليه‌السلام : استغفر ربّك ، فإن قول الله عزوجل : كانتا رتقا ، يقول : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت الحب. فلما خلق الله الخلق وبث فيها من كل دابّة ، نتق السماء بالمطر والأرض بنبات الحب. فقال السائل : أشهد أنك من ولد الأنبياء وأن عندك علمهم (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي جعلنا حياة كلّ حيوان من الماء لأنّه مخلوق منه ، أي من النّطفة التي هي ماء ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) ، لأن الماء أعظم موادّها ، ولفرط احتياجه إليه وانتفاعه به ، وقاعدة السنخيّة تقتضي أن يلازم بعض الحيوان الماء ، كالسمك مثلا ، فإنه يتكوّن فيه وينمو ويكبر ويعيش فيه ، فإذا خرج منه وفارقه مات لأن حياته منوطة بأن يكون فيه. وكذلك كل ذي حياة فإنه حياته تقوم بواسطة الماء لأنه لا يستغنى عنه بحال من الأحوال ، ولو انقطع عنه نهائيّا مات. وقيل معناه : وجعلنا الماء حياة كلّ ذي روح ونماء

وكلّ نام ، فيدخل فيه الحيوان والنبات. وقد سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن طعم الماء ، فقال : سل تفقّها ولا تسأل تعنّتا. الماء طعم الحياة. قال الله سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ ..) الآية. ويستفاد من قوله : سل تفقها ولا تسأل تعنتا أن السائل كان من الملاحدة أو من الذين في قلوبهم مرض (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) ألا يصدقون بعد رؤية الآيات المذكورة الدالة على وجود الصانع الحكيم ، وبعد أن لزمتهم الحجة؟ ولم يكتف سبحانه بذكر الآيات المزبورة من خلق السماوات والأرضين على الشكل الذي حكاه ، ومن جعل هذه الخاصيّة العظيمة للماء ، بل عرض لآيات أخرى عظيمة فقال عزّ من قائل :

٣١ ـ (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ... أي خلقنا في الأرض الجبال الراسية الثابتة ، حتى لا تميد الأرض : تضطرب بالناس وتهتزّ وتتحرك بأهلها ، وكيلا تميل بهم فلا تستقر ، وهو كقوله سبحانه : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) أي في الأرض جعلنا طرقا في سهولها وجبالها ووديانها ، وجعلنا الطّرق واسعة (فِجاجاً) مما يدل ضمنا على أن الطرق في بدء خلقتها كانت على صفة الاتّساع ولو لا ذلك لما أمكن الناس أن يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم ، ولضلّوا عن أوطانهم وطرق بلادهم ، ففوائد السعة في الطرق كثيرة قد عبّر عنها جلّ وعلا ب (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ليهتدوا إلى مقاصدهم ويستدلوا على مصالحهم.

٣٢ ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) ... بعد أن تكلم عن الأرض وما جعل فيها ، تكلّم عن أنه جعل السماء كالسقف للكائنات بمجموعها ، وجعله محفوظا عن الوقوع بقدرته الكاملة ، أو عن الشياطين يحفظها بالشهب حتى لا يسترقوا السمع (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أي والناس غير ملتفتين إلى ما فيها من آيات ودلالات ، منصرفون عن التفكّر في كيفياتها وأحوالها الدالة على كمال عظمة الصانع ووجوده وتمام قدرته.

٣٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ... أي أنه تعالى هو خالق الليل

والنهار ، والشمس والقمر. وقد فصّلنا كيفية تعاقب الليل والنهار سابقا ونكتفي به (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي الليل والنهار والشمس والقمر يسبحون في هذا الفضاء الواسع الشاسع ويسيرون كما يسير السابح في الماء. وقد قال : يسبحون ، وأنزلهم منزلة العقلاء تشبيها بهم ، وهو كقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). وذلك لأن حركتهم جميعا تقع بدقة يعجز عنها العقلاء. والفلك لغة : مجرى النجوم ومدارها ، وقد عبّر بالسباحة هنا على وجه جريانها جميعا في الفلك كالسابح الذي يجري على سطح الماء أو فيه ، وقد شبّه الهواء الذي يحملها هنا بالماء الذي يحمل السابح فيه ، ولو لاحظنا بدقة نرى أن الأبعاد الشاسعة في الأفق التي نراها بالعين المجرّدة أو بواسطة الآلات والمراصد ترى كالماء ، فكأن النجوم والكواكب وجميع ما في هذا الفلك الواسع أجرام سابحة فيه ، وكأنه هو بحر لجّيّ يشبه السراب الذي يتألف من الأبخرة الأرضية عند اشتداد الحرارة فيبدو كالماء الجاري أو الساكن المتماوج. وفي الخبر ما مضمونه : خلق الله سبحانه بين السماء والأرض بحرا بقدرته الكاملة ، لا يعلم طوله وعرضه أحد إلّا هو ، وجعل مجاري الكواكب السيارة ومراسيها كلّها فيه ، فهي تجري كما يجري السابح في البحار والأنهار إلخ ... ولا يبعد أن يكون هذا البحر من الماء أو من الهواء أو مما لا نعلمه ، قد جعله الله تعالت قدرته لهذه الغاية ، فالتعبير عن سباحة الليل والنهار والشمس والقمر في ذلك الفلك الهائل في محلّها ، بل هي من أبلغ التصوير وأعظم التدبير لقوم يتفكّرون.

* * *

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)

وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

٣٤ ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) ... نزلت هذه الآية الشريفة حين قال الكفّار : نتربّص به ريب المنون. ومعناها أننا لم نخلق قبلك بشرا خالدا يعيش إلى الأبد ولا يموت. ولماذا ينتظرون نزول الموت بك؟ (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الهمزة للاستنكار ، يعني هل إذا متّ أنت يكونون خالدين من بعدك؟ ومن قال لهم أنهم لا يموتون قبلك وأنهم باقون في الدنيا ما دامت الدنيا باقية؟ ليس الأمر كذلك ، بل :

٣٥ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ... أي كل من قدم من باب مدينة العدم إلى ساحة عالم الوجود ، فلا بد له أن يشرب شربته من كأس الفناء ، ولا يلبس لباس البقاء إلّا بعد أن يذوق سكرات الموت وتنزع روحه في دار الدنيا. فكلّ حيّ ميت في أجله (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي نختبركم بالمنح والمحن ابتلاء لكم. ولفظة الفتنة هنا منصوبة على المصدر لنبلوكم وإن كانت من غير لفظه ، فالدنيا دار اختبار لكم ، مرة بما نعطيكم ومرة بما نأخذ منكم (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) تعودون للثواب والنعيم ، أو للجزاء والانتقام والعذاب الأليم. وفي المجمع عن الصادق أن أمير المؤمنين عليه‌السلام مرض ، فعاده إخوانه فقالوا : كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال : بشرّ. قالوا : ما هذا كلام مثلك. قال : إن الله تعالى يقول : ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة. فالخير الصحة والغنى ، والشرّ المرض والفقر.

٣٦ ـ (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ... أي حين يشاهدك الكافرون لا يخاطبونك ولا يذكرونك فيما بينهم إلّا بالهزء والسخرية ، ويقولون لأنفسهم ولبعضهم : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟)

يذكرها بسوء ويعيب عبادتها وتأليهها (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) يقولون ذلك في حال أنهم هم كافرون بالرّحمان ، وهم أولى بأن يستهزأ بهم ويسخر منهم لأنهم مؤمنون بالأحجار كافرون بالرّحمان. ويمكن أن يكون قد استعمل هذا الاسم الشريف هنا بالخصوص ، لأنه لما قيل لهم : كيف تكفرون بالرّحمان؟ قالوا : وما الرّحمان استهزاء به جلّ وعلا ، وهو راحم العباد من مؤمنين ومن أهل العناد.

وخلاصة المعنى أن الكفار لمّا جحدوا المعبود المنعم القادر العالم بجميع الممكنات الذي خلق جميع الكائنات ورزقها كلّها ما يقيم أودها ، لما فعلوا ذلك وعبدوا ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يعقل ولا يشعر ، فإنهم هم الذين يستحقّون الهزء والسخرية ، لا أهل الحق والحقيقة. وهذه الآية والآيتان اللتان سبقتاها تسلية من الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا كان يرد على قلبه الشريف من أذى الكفرة ومن أقوالهم البذيئة وأفعالهم الشنيعة. ولا يخفى أن تكرار الضمير : هم ، جاء في آخر الآية الشريفة للتأكيد والاهتمام بإثبات كفرهم حتى يترتّب على هذا كمال استحقاقهم للذم والهزء.

* * *

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١))

٣٧ ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ... روي عن عطاء أن نصر بن الحارث كان يستعجل من النبيّ العذاب استهزاء ، فأراد سبحانه أن ينهاه ويزجره عن استعجاله العذاب لطفا منه بعباده حيث يؤخر عذابهم لعلهم يتوبون ويرجعون إليه تعالى.

فعلى سبيل التوطئة ذمّ الله عزوجل الناس على فرط عجلتهم بهذه الآية الكريمة التي هي في أعلى مراتب الفصاحة حيث أدّت معنى راقيا يحمل مبالغة فوق ما يمكن أن يتصوّره البشر في مثل المقام يعني إفراط الإنسان في الاستعجال وقلة تأنّيه في الأمور يبلغ به مرتبة تجعله كأنه خلق من العجل وطبع عليه وأشر به في قلبه لفرط استعجاله وقلة ثباته في المطالب ، وهذا كقولك : خلق زيد من الجود والكرم. ومن جملة عجلة البشر مبادرتهم ومسارعتهم إلى الكفر والإنكار ، واستعجالهم الوعيد ، ولكن مع استفادة هذا المعنى السامي من مفهوم الآية الكريمة ، نراها تحمل الذمّ الكثير.

ولا يخفى أن استعجالنا في أمورنا هو من تراثنا الموروث عن أبينا آدم على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام. ففي القمي أنه لما أجرى الله تعالى الروح في آدم من قدميه فبلغت ركبتيه أراد أن يقوم فلم يقدر ، فقال الله عزوجل : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ .. سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي سأجعلكم أيّها البشر تنظرون إلى آياتي الدالّة على وحدانيّتي وعلى صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يعدكم به من العذاب الذي هو القتل في الدنيا يوم بدر والعذاب في الآخرة (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) فلا تطلبوا مني تعجيل نقماتي بهذه الكيفية من الطلب ولا تقولوا كلّما رأيتم النبيّ أو أحد المؤمنين به : متى يكون حلول الوعد بالعذاب.

٣٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي يسألون عنه على وجه الاستبعاد والإنكار ، ويقولون : في أي وقت يجيء العذاب الموعود (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولون؟ والخطاب موجه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، ولكنّ الجواب أتاهم من الله العزيز الجبّار الذي قال :

٣٩ ـ (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) ... أي : لو أن الكفار يعلمون الوقت الذي لا يستطيعون أن يدفعوا فيه النار عن وجوههم حين تلفحها بلهيبها (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) حين تحرقها ، لأنها تحيط بهم من كل الجهات فلا يقدرون على ردّها (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعانون على دفعها إذ لا ناصر لهم ولا شافع بهم. وجواب : لو محذوف ، تقديره : لو يعلمون ذلك لعرفوا صدق ما وعدوا به ولما استعجلوا ذلك ولما قالوا قولهم.

٤٠ ـ (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) ... أي أن النار تأتيهم بعذابها الموعود فجأة فتوقعهم في البهت والحيرة فتصير حالهم كحال السكران في بعض حالات خبله فيكونون كالسكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) فيعجزون عن دفعها في تلك الحالة من هيجانها وتغيّظها (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فلا يمهلون ساعتئذ كما أمهلناهم في دار الدنيا بأمل أن يتوبوا ويرجعوا عمّا هم فيه من الكفر ، ففي هذا الوقت تمّت حجتنا عليهم فلا منجاة لهم ممّا يقعون فيه.

ثم إنه تعالى يأخذ في تسلية نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول :

٤١ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ... فهو تبارك وتعالى يخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحوال الأمم السابقة وبما كان منهم مع أنبيائهم الكرام حيث سخروا منهم واستهزءوا بهم وآذوهم وفعلوا بهم مثل ما يفعل بك قومك ، فلا يزعجنّك ذلك لأن كفرة الأمم أهانوا رسلهم (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أحاط بهم جزاء استهزائهم بأقوالهم وأفعالهم ، وسنجزي قومك الذين يسخرون بمثل ما جزينا به المستهزئين السابقين بأنبيائهم ونفعل بهؤلاء كما فعلنا بأولئك من العذاب والانتقام.

* * *

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ

بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

٤٢ ـ (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ... أي : يا محمد اسألهم من الحافظ لهم ليلا ونهارا والرادّ عنكم حوادثهما وطوارقهما التي تنزل من السماء أو تخرج من الأرض ويكون منشأها (مِنَ الرَّحْمنِ)؟ أي تجيء عن أمره ومن عنده. والاستفهام إنكاريّ يعني أنه لا حافظ ولا كالئ من بأسه جلّت قدرته إن أراد البأس ، ولا مانع ولا دافع لحوادثه إلّا هو وإلّا رحمته العامة الشاملة. وفي لفظ : الرّحمان إشارة إلى هذا اللّطف منه سبحانه بالعباد ، وإمهال للفسقة والكفرة (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) هذا إضراب عن الأمر بسؤالهم إذ لا فائدة من سؤالهم. وهو يعني أنهم من فرط جحودهم وعنادهم لا يخطر الله ببالهم فكيف يخافون عقابه أو يتذكّرون أنه الحافظ لهم والكالئ؟ .. ثم إنه تعالى يقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع :

٤٣ ـ (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ... أي هل لهم أرباب غيرنا تقدر أن تمنع العذاب عنهم وتحول بيننا وبينهم؟ وهو استفهام للإنكار ، يعني أنهم ليس لهم إله غيرنا يقدر على رفع العذاب عنهم. ثم لو كان لهم أرباب مصطنعة من الأحجار وغيرها فان أربابهم المزيّفة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) لا يقدرون أن يدفعوا عن ذواتهم. والذي لا يقدر أن يدفع الشرّ عن نفسه ، كيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ فلا هم يستطيعون ذلك (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي ليسوا مصحوبين بنصرتنا ولا هي معدّة ومرافقة لهم. وروي عن ذي النون المصري أنه قال : خرجت في ليلة من الليالي المقمرة أمشي على ساحل بحر النيل متنزّها ومتفرجا ، فرأيت عقربا يمشي بكمال السرعة بحيث عجزت أنا عن إدراكه. فقلت في نفسي : لا بد أن يكون هذا المشي بهذه الكيفية عن سرّ فيه وحكمة. فمشيت على أثره حتى وصل إلى الماء ، فخرجت وزغة من الماء فركبها وعبرت به الماء إلى طرفه الآخر. فقلت : سبحان الله الذي سخّر الوزغة وجعلها سفينة للعقرب يعبر بواسطتها ماء النهر. وبحثت عن معبر لي إلى الضفة الأخرى لألاحظ عاقبة الأمر ، فوجدته وقطعت النهر فرأيت العقرب قد نزل إلى البر وأسرع في المشي فلحقت به فإذا أنا بشابّ سكران مستلق على قفاه وعلى صدره حية سوداء تريد أن تدخل فاه ، فجاء العقرب إليها ولسعها في رأسها فماتت للحال ، ثم رجع العقرب من حيث أتى ، فوقفت متعجبا من هذه القصة وكنت ألى جانب الشاب فقرأت هذين البيتين :

يا نائما والخليل يحرسه

من كلّ سوء يدبّ في الظّلم

كيف تنام العيون عن ملك

يأتيك منه فوائد النّسم

ففتح الشابّ عينيه وأفاق من سكره ونومه ، فقلت له ما وقع ، فبكى بكاء شديدا وتاب عن عمله الباطل .. فالحافظ في الليل والنهار ، والحارس والناصر والمعين في كل الأحوال والأزمان هو الله تعالى ربّنا وربّ كل شيء.

٤٤ ـ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ... أي أننا أمهلنا هؤلاء القوم الّذين كذّبوا برسلهم ، وكذلك أمهلنا من كذّبك من قومك ولم ننزل عليهم العذاب حتى طال عليهم العمر وظنّوا أنهم ناجين من العذاب لأنه لم يقع بهم في دار الدنيا ، أو أننا أمهلنا الذين آمنوا ليذوقوا متع العيش والحياة ، وأمهلنا الكافرين ليتوبوا فما فعلوا وغرّهم طول عمرهم (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) نأتي الأرض : نقصدها بإرادتنا ، وهي أرض الشّرك ، أو الأمم بحسب الظاهر ، وننقصها : بتخريبها وموت أهلها ، وروي : بموت علمائها. ويمكن أن يكون انتقاصها بفتحها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدليل قوله تعالى في تتمّتها : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟) فإنه سبحانه ينكر غلبتهم ، فليسوا هم الغالبين بل نحن الغالبون والغلبة والفتح بيدنا ومن عندنا.

٤٥ ـ (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) ... قل يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين : إنني إنما أنذركم وأخوّفكم بما نزل عليّ من ربّي وحيا من عنده وليس التهديد والوعيد من عندي ، فمن شاء فليقنع ومن شاء فليرفض (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) ولكنّ إنذارهم عبث لأنهم كفرة أصمّوا آذانهم عن دعائك لهم ، ولا يسمع الإنذار من كان به صمم : أي ثقل في السمع يمنعه بتاتا من سماع ما تدعوه إليه.

٤٦ ـ (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) ... أي إذا لامستهم وأصابتهم رائحة من العذاب الذي أعدّه لهم ربّك أو لفحة خفيفة للغاية (لَيَقُولُنَّ : يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فمن المؤكّد أن هؤلاء الكفرة الجحدة يتلهّفون على ما فرط منهم وينادون بالويل والحرب مما يقع بهم ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لك ولأنفسهم.

٤٧ ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ... أي أننا يوم القيامة نزن الأعمال بموازين العدل. ويلفت النظر أنّ توصيف الموازين ليومئذ ب (الْقِسْطَ) الذي هو مصدر ، وحمله على الذات لا يجوز للمبالغة ، فكأنّ

تلك الموازين في ذاتها (قسط) وعدل ، لا أنها ليست موازين يجوز عليها أن تقسط وأن تخيس ولو مرة بملايين المرّات. وعن السّجاد عليه‌السلام : اعلموا عباد الله أن أهل الشّرك لا ينصب لهم موازين ، ولا ينشر لهم دواوين ، وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا. وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام. فاتّقوا الله عباد الله. (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) فلا ظلم ولا جور في ذلك اليوم لأحد كائنا من كان حتى ولو أن الإنسان أحسن بمثقال حبة الخردل المتناهي في القلّة لجئنا له بأجر إحسانه ، ووفّيناه ما عمل ، وذلك كقوله عزوجل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) ويكفي أنه سبحانه وتعالى هو الحاسب والمحاسب لأنه العادل الذي يتنزّه عن الجور والظّلم.

ثم إنه تعالى ذكر أن إنذار النبيّ الخاتم عليه وعلى آله الصلاة والسلام لم يكن من عند نفسه ، بل هو وحي يوحى وليس له أو لأيّ رسول أن يختار قولا أو فعلا لم ينزل به وحي ، ولذلك عقّب على هذا الموضوع بإنزال التوراة على موسى وهارون عليهما‌السلام وحيا من عنده ليعلّما الناس أوامر الله السماويّة ، فالتوراة كتاب سماويّ ، والقرآن كذلك كتاب سماويّ ووحي منزل بسائر ما فيه من حلال وحرام ووعد ووعيد وموعظة وتحذير وغيره ، ولذلك قال عزوجل فيما يلي :

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

٤٨ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) ... أي : أعطيناهما الكتاب

الذي يفرّق بين الحق والباطل ، وهو التوراة ، وأعطيناهما إياه فرقانا (وَضِياءً) نورا يهتدي به أتباعه إلى الحق وينجيهم من الضلالة والجهالة وظلمات الوهم والحماقة (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي عظة ونصحا للذين يعملون به ويلتزمون بما فيه ، فذكر ثلاثة أوصاف للتوراة ، ثم وصف المتّقين فقال سبحانه :

٤٩ ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ... أي الذين يحذرون الله حالة كونه غائبا عن أبصارهم وعن جميع حواسّهم ، ولكنهم مصدّقون بوجوده ويخافون حسابه وعقابه (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) خائفون من قيام الساعة ويوم النشور ، ومن الأهوال في ذلك اليوم ومن شرّ ما ينزل فيه بالظالمين والكافرين من سوء العذاب.

وبعد ذكر التوراة أخذ بذكر القرآن الكريم وصفه وبيان إنزاله من عنده فقال جلّ وعلا :

٥٠ ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) ... أي : وهذا القرآن أنزلناه من عندنا لتذكيركم ووعظكم ولبيان كل ما يحتاج الناس إليه في أمور دنياهم وآخرتهم ، حيث إنه كتاب جامع لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلّا أحصاها ، لأنه خاتم الكتب السماوية وفيه علم الأوّلين وعلم الآخرين وهو دستور كامل للعالمين من الآن إلى يوم الدّين ، يوم لقاء الله عزوجل ، وهو كتاب شريف مبارك ، كثير خيره عميمة فائدته لا يوصف غيره بما يوصف به من العظمة والإعجاز والجلال (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) فهم أنتم تنكرونه وترفضونه؟ وهذا استفهام توبيخ وتعيير وتحقير ، يعني أن اليهود والنصارى وسائر الأمم السالفة قبلت كتب رسلها السماوية ولم تنكرها ، فكيف لا تقبلون أنتم كتابكم الشريف المبارك الذي هو أحسن الكتب وأشرفها وخيرها من حيث جامعيّته لكل ما يحتاج إليه منذ عهدكم إلى يوم القيامة؟ .. فوا أسفا على مثل هذه الطغمة الجاحدة المعاندة ، وو أسفا أن يقف هؤلاء الأجلاف مثل هذا الموقف القبيح من هذا الكتاب الكريم

وهذا الرسول العظيم ، ولكن إن هم إلّا جفاة قساة عليهم لعائن الله.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

٥١ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) ... هذا الكلام الشريف معطوف على ما سبقه من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) الآية. والرّشد هو ما فيه صلاح دينه ودنياه عن طريق الحجج والبراهين التي صارت سببا لإرشاده إلى المعرفة والتوحيد. وقيل إن المراد بالرشد هو النبوّة والخلّة ، وقيل هو الاهتداء والاستقامة على طريق الحق ، فقد آتيناه هذا كله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بلوغه ، أو من قبل موسى وهارون ومن قبلك يا محمد ، فكلّها محتملة والله العالم (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي عارفين به معرفة علم وتأكيد بأنه أهل لما أعطيناه من الرّشد.

٥٢ و ٥٣ و ٥٤ ـ (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) ... أي سأل أباه ـ هو عمّه أو جدّه لأمّه كما ذكرنا في غير مكان ـ وسأله قومه عن تلك

الصور الممثّلة التي هي مجسّمات جامدة لا روح فيها ولا حياة ، ولا تضرّ ولا تنفع. وقد أطلق عليها لفظ : تماثيل ، تحقيرا لها وتوبيخا لهم. فما هذه الأصنام (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي ملتفّون على عبادتها ومقيمون لهذه الطقوس الوثنية من حولها؟ (قالُوا) مجيبين : (وَجَدْنا آباءَنا) قبلنا (لَها عابِدِينَ) يؤدّون العبادة لها ونحن على دين آبائنا وطريقتهم. و : عابدين مفعول ثان ل : وجدنا ، وآباء : هو المفعول الأول كما لا يخفى. (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام مجيبا قومه ومستهزئا بهم : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنكم تائهون عن الحق ضائعون عن الهدى أنتم وآباؤكم من قبلكم ، فلا ينبغي لكم تقليد آبائكم الضّالين عن الحق.

٥٥ و ٥٦ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) : سألوه هل أنت جادّ في قولك أم أنت لاعب هازل فيه؟ فالحقّ : هنا الجد بحسب الظاهر (قالَ) لهم : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فأعرض عن سؤالهم المتعلّق بالجد واللعب وما اعتنى به ، وأخذ في إثبات دعواه ببطلان معبوداتهم ، وببيان حججه وبراهينه الواضحة على أن لهم ربّا هو ربّ السماوات والأرض وهو الله تعالى (الَّذِي فَطَرَهُنَ) سوّاهن على ما هنّ عليه من نظام الفطرة والخلق ، فكان قوله أدخل في تضليلهم وإلزامهم الحجة (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي على ما ذكرته لكم (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المحقّقين المثبتين له.

٥٧ ـ (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) : أي : والله لأحلّنّ بها الكيد ولأدبّرن طريقة تكسيرها تدبيرا خفيّا عنكم يسوؤكم. وإنما قال ذلك سرّا عن قومه ـ بحيث همسه همسا ـ ولكن رجلا منهم سمعه فأفشى قوله. وقد وعدهم بهذا الكيد بعد أن (تُوَلُّوا) إلى عيدكم (مُدْبِرِينَ) منصرفين عن الأصنام ليخلو له جوّ الإيقاع بها بعد ذهابهم. وقيل إنهم كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، وكانوا إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام وسجدوا لها. وقد قالوا يومئذ لإبراهيم : ألا تخرج معنا؟ فخرج

ماشيا معهم إلى أن كان في بعض الطريق اشتكى من ألم في رجله وانصرف عن مرافقتهم ، ورجع.

٥٨ ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ... : أي : فكسّرهم قطعا قطعا وترك أكبر الأصنام ، الذي كان بنظرهم رئيسها دون تكسير (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) عسى أن يرجعوا إليه باعتباره الرئيس ، ثم يسألونه عن شأن بقية الأصنام الصغيرة المحطّمة.

* * *

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

٥٩ و ٦٠ ـ (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) ... أي حين رجعوا من عيدهم وقصدوا الأصنام ليسجدوا لها ، تساءلوا فيما بينهم قائلين : إنّ من صنع هذا بأربابنا من الظالمين لها ولنا والمتعدّين عليها وعلينا الممتهنين لحقوقها وحقوقنا. فمن هو هذا الظالم؟ (قالُوا) فيما بينهم : (سَمِعْنا فَتًى) شابا فتيّا

قويّا (يَذْكُرُهُمْ) بالسوء ويعيبهم ويهينهم عند ذكره لهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) يدعى إبراهيم.

٦١ ـ (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) ... : أي : جيئوا به على مرأى من الناس وأثناء اجتماعهم هنا (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) لكي يشهدوه ويروا ما يقول.

٦٢ و ٦٣ ـ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) : هنا طوى سبحانه فترة أرسلوا أثناءها من جاءهم به فأحضروه وقالوا له : هل أنت الذي كسّر أصنامنا وتركها قطعا قطعا؟ (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي صنع هذا التكسير كبير الأصنام ـ وهو الصنم الذي لم يكسّره وتركه واقفا ـ علّق المطرقة بعنقه كما قيل (فَسْئَلُوهُمْ) اسألوا هذه الأصنام المحطّمة (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) إذا كانوا يتكلّمون. فقد علّق إبراهيم عليه‌السلام فعله بالأصنام على نطق رئيس الأصنام ، وبكّتهم وأعجزهم عن الجواب لأنّ الجمادات لا تنطق ولا تقدر على الكلام والجواب ، ومن كان هذا شأنه بحيث لا يسمع خطابا ، ولا يعقل ، ولا يردّ جوابا ، ولا يقدر على شيء ، فكيف يجوز أن يكون ربّا ويحتلّ هذه المرتبة السامية من الألوهية؟ وكيف يجوز لأشرف المخلوقات ، وهو الإنسان. أن يخضع ويتذلّل لأخسّها وهو الجماد. أمّا في حال ادّعائهم أن الأصنام تجيب وتنطق ، فإنه يفضحهم حين يسألونها فلا تردّ على سؤالهم على مرأى منهم جميعا ، فهم يتكلمون على خلاف وجدانهم ولذا كانوا لا يجدون بدّا من الاعتراف بقصور الأصنام عن النطق وبقصور عقولهم عن التفكير.

٦٤ ـ (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) : أي : فعادوا إلى التعقّل والتدبّر في أنفسهم ، وراح كل واحد يفكّر ويقدّر ما بينه وبين ذاته ، فكانوا كأنّهم يقول بعضهم لبعض : إنّكم أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الأحجار التي لا تنطق ولا تعقل ولا تنفع ولا تضر ، وليس إبراهيم عليه‌السلام ظالما.

٦٥ ـ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) ... : أي ثبتت الحجّة عليهم فطأطئوا رؤوسهم من الذل والخزي ، واعترفوا بعدم نطق الأصنام ، فلا يجوز عبادتها. فقالوا لإبراهيم عليه‌السلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ) عرفت أن (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أن الأصنام لا تتكلّم ، ونحن وأنت نعلم أنها أحجار من جماد غير قابل للنّطق والسؤال. وعند ذلك اغتنم إبراهيم عليه‌السلام هذه الفرصة من خزيهم فقال لهم :

٦٦ و ٦٧ ـ (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ)؟ ... : فلامهم على حماقتهم وقال لم تعبدون أحجارا لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرّا؟ (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تأفّف منهم وتضجّر من معبوداتهم باستعمال كلمة أف ، لإصرارهم على الباطل. ومعناه : تبّا لكم ولها ، وقبحا لصنيعكم الذي لا يرتكز على معقول في عبادة غير الله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تفكّرون وتتدبّرون ما أنتم عليه من الضلال؟.

وعند هذه الغضبة الشريفة ، ثار الكفار وهاجوا وماجوا وانقلب موقفهم من التعقّل إلى الهيجان فهاجموه ثائرين قائلين :

* * *

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)

وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

٦٨ ـ (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) : أي أنهم لمّا عجزوا عن المحاجّة وباءوا بالفشل أمام بيانه الفصيح الجريء ، رأوا أن يعذّبوه بأشد ما يعاقب به الإنسان وقرروا إحراقه بالنار قصاصا على تكسير الأصنام وتبريدا لقلوبهم.

وأمّا قولهم : وانصروا آلهتكم فهو مكيدة كل مبطل في مقام تهييج رأي الهمج الرعاع على إبطال الحق ونصر الباطل. فصوّروا باطلهم حقيقة دينية هامة وأهاجوا العوامّ للاستمساك بها والترويج لها ، ذلك بما ألقى معلّمهم الأول المبتدع لهذه الفكرة الخبيثة ، أعني الشيطان اللّعين الذي وسوس لهم كما وسوس لأبينا آدم عليه‌السلام وحلف بأنه ناصح له أمين ، فأزلّه وأخرجه من الجنّة ومضى يغوي الناس من بعده ، ووجد عند هؤلاء الملحدين المبطلين آذانا مصغية ليقفوا في وجه دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، كما وقف غيرهم في طريق دعوات الرّسل من قبله ومن بعده ، وكما وقف في طريق وصول أهل بيت نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حقّهم الربانيّ فأجراه المسلمون حسب آرائهم ووفق ميولهم ودحضوه بروايات مكذوبة اخترعوها ، ثم ما زال يغوي الناس كموقفه يوم صفّين حين أغرى برفع المصاحف على يد عمرو بن العاص ، وكموقفه يوم الطفّ من الإغراء بقتل الحسين عليه‌السلام ابن بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلما وعدوانا ـ أجل جاء الشيطان قوم إبراهيم بهذه البدعة الخبيثة من تحريقه ونصر آلهتهم الزائفة ، فتحمّسوا لها وصرخوا : حرّقوه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) إذا كانت عندكم قابلية نصر دينكم وطريقتكم ، فهاجوا وماجوا للانتقام منه وجمعوا الحطب أكداسا

مكدّسة ضاق بها السهل وغصّت بها الآفاق حتى كانت تكفي لحرق مدينة واسعة شاسعة ولحرق قبيلة مجتمعة من القبائل.

٦٩ ـ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) : أي قال الله تبارك وتعالى : أيّتها النار ابردي بردا لا يضرّه ، وكوني سلاما عليه ، فلم تحرق منه إلّا وثاقة الذي ربطوا به يديه ورجليه ، وزال حرّها فلم يصل إليه منه شيء بأمر تكويني ممّن خلق النار وجعل فيها الحرّ واللهب ، فجعل في نار النمرود وحزبه الظالمين بردا وسلاما على إبراهيم بدل الحر. وقيل إن النار بقيت مشتعلة طيلة سبعة أيام وإبراهيم عليه‌السلام في وسطها قد جلس في روضة غنّاء يؤنسه فيها جبرائيل عليه‌السلام وخرج منها سالما معافى بقدرة الله عزّ وعلا.

٧٠ ـ (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) : أي رغبوا في كيده وقتله ، ومكروا به بالإحراق بالنار ، فخسرت صفقتهم ، وضاع مكرهم وانقلب حقدهم غيظا في صدورهم ، وضلّ سعيهم وانقلب إلى برهان قاطع بأنهم على الباطل.

٧١ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي) ... : أي سلّمناه وخلّصناه من كيد النمرود لعنه الله ، فخلص من الهلاك بناره وكذلك نجيّنا لوطا ـ ابن أخيه ـ الذي كان من المؤمنين الداعين إلى الله ، ثم أمرهما سبحانه بهجر أرض النمرود الذي كان في العراق (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي أرض الشام ، فتركا بابل وأتيا إلى أرض فلسطين. وقد قال تعالى : باركنا فيها ، لأنها أرض خصب وسعة ومنافع دينيّة لأن أكثر الأنبياء صلوات الله عليهم بعثوا فيها ومنها أو جاؤوا إليها. أما لوط فهو ابن هارون بن تارخ ، وهارون هذا هو أخو إبراهيم عليه‌السلام ، وزوجته سارة كانت أيضا بنت عمه. وقد بعث لوط إلى القرى التي تسمّى بالمؤتفكات نسبة لدعوة أهلها إلى الإفك والقبائح ، وقد دمّرها الله تعالى بالعذاب كما مرّ سابقا.

وقيل إنّ المراد بالأرض هو بيت المقدس الذي هو مقام الأنبياء ، وقيل أيضا إنها مكة المكرّمة كما عن ابن عبّاس فإنها منشأ بركات العالم وقد قال سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً).

وقد كان ذلك وجاء إبراهيم عليه‌السلام إلى بلاد الشام ، ثم ذهب إلى مكة المكرّمة وترك زوجته هاجر فيها مع ابنه إسماعيل عليه‌السلام وصار يزورها في كل سنة مرّة.

وعن الصادق عليه‌السلام أنه لمّا أخبر النمرود بأن النار ما أثّرت على إبراهيم ولا أحرقته ، وأنه خرج منها سليما معافى ، أمر بنفيه عن بلاده وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ، فحاجّهم إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك وقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي ، فإن حقّي عليكم أن تردّوا ما ذهب عليّ من عمري في بلادكم. واختصموا إلى قاضي النمرود فقضى على إبراهيم عليه‌السلام أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على جماعة النمرود أن يردّوا عليه ما ذهب من عمره في بلادهم. فأخبر النمرود بذلك فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وأهله وأن يخرجوه في كل حال وقال : إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضرّ بآلهتكم.

٧٢ و ٧٣ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ... : أي أعطينا لإبراهيم ولده إسحاق حين طلب الولد وقال : ربّ هب لي إلخ ... ثم رزقه يعقوب (نافِلَةً) فعن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : ولد الولد نافلة. والعرب يقولون لولد الولد : نافلة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو نافلة عبد المطلب عليه‌السلام ، ذلك أن يعقوب عليه‌السلام هو ابن إسحاق بن إبراهيم ، والنافلة هي الزيادة أيضا. فقد أعطاه سبحانه الولد وزيادة عليه (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) وجعلنا كلّ واحد منهم صالحا من عبادنا المؤمنين (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة وسادة يقتدي بهم الناس ، وهم (يَهْدُونَ) يدلّون الناس إلى طريق الهدى والحق (بِأَمْرِنا) لهم بذلك لأنهم رسلنا إلى الناس (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) أي أن يفعلوا الخيرات ويأمروا الناس

بفعلها (وَإِقامَ الصَّلاةِ) تأديتها والمحافظة عليها ، وقد حذفت التاء تخفيفا (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) إعطاءها وهذان من باب عطف الخاصّ على العام (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) يتعبّدون لنا دون غيرنا ولم يشركوا بنا طرفة عين.

وعن الصادق عليه‌السلام أن الأئمة في كتاب الله عزوجل إمامان. قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، لا بأمر الناس ، مقدّمون ما أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم. وقال : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار ، يقدّمون أمرهم على أمر الله ، وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله! .. نعوذ بالله من ذلك.

* * *

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

٧٤ ـ (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ... : ولوطا معطوف على ما قبله منصوب ، قال سبحانه : أعطيناه (حُكْماً) وظيفة العضل بين الناس ، أو نبوّة ، أو حكمة (وَعِلْماً) معرفة بما يحتاج إلى العلم به في موارد السؤال أو الحكم في الأمور العرفيّة والدينيّة (وَنَجَّيْناهُ) خلّصناه (مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) أي بلدة سدوم والقرى التي كانت تجاورها فإن أهلها كانوا ينكحون الرجال وكانوا قطاع طرق. بخلا ، يفعلون جميع المنكرات ولا يسمعون وعظا ولا يرتدعون عن قبيح لأنهم كفرة معاندون (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) فهم قوم كانوا يعملون السوء وكانوا أهل كفر وفجور يشهدون الزور ويتعاطون اللواط والسحاق والرّبا واللصوصيّة والكذب وغير ذلك من القبائح والفسق.

٧٥ ـ (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) : فبعد أن نجّينا لوطا عليه

السلام من تلك القرية الشّريرة ، شملته رحمتنا وناله لطفنا وعطفنا ، فسلّمناه من العذاب الذي نزل بالقوم الظالمين (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) العباد الذين يعملون صالحات الأعمال التي ترضي الله عزّ وعلا.

* * *

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

٧٦ ـ (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ) ... : نوحا معطوف على ما قبله ، أو هو منصوب ب (اذكر) نوحا حيث دعانا ونادانا من قبل إبراهيم عليه‌السلام ومن قبل لوط وغيرهما ، فاستجار بنا داعيا على قومه العتاة العصاة (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) سمعنا دعاءه وأجبناه بما طلب (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) سلّمناه هو ومن آمن به من أهله وغيرهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الذي هو الغرق الذي انتقم الله تعالى به من قومه حين عصوه ، وهو من أعظم الكرب لأنه لا مهرب فيه من الموت غرقا في غمرات الماء ..

٧٧ ـ (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ... : أي جعلناه منصورا عليهم وظافرا بعد أن سخروا به وبدعوته وكذّبوا بدلائلنا وبراهيننا ومعاجزنا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أهل شرّ لا خير فيهم (فَأَغْرَقْناهُمْ) بماء الطوفان الذي غمر وجه الأرض وقتل كلّ حيّ (أَجْمَعِينَ) بكاملهم فلم ينج منهم أحد إلّا المؤمنون الذين حملهم نوح عليه‌السلام في فلكه.

* * *

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

٧٨ ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) ... : وداود وسليمان : عطف على : نوحا ، أي واذكر في نفسك القصة التي حدثت لداود وابنه سليمان عليهما‌السلام حين حكما في الحرث : الزرع الذي (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعاه قطيع من الغنم فألحق فيه الضرر ، فتحاكم صاحبه وصاحب الغنم عند داود النبيّ وابنه عليهما‌السلام وحكما حكمين متغايرين (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي حاضرين ، وقد جمع الضمير في موضع التثنية باعتبار إضافة الحكم إلى الحاكم والمحكوم.

وللتوضيح نذكر أنه بينما كان داود عليه‌السلام قاعدا في مجلس حكمه في يوم من الأيام ، إذ ورد عليه اثنان : واحد منهما كان صاحب زرع واسمه : إيليا ، والآخر صاحب غنم واسمه يوحنّا. فقال إيليا : يا خليفة

الله كان يوحنّا يرعى أغنامه ليلا فدخلت مزرعتي وأكلت زرعها. وعلى قول ابن عباس : دخلت كرمي وأكلت عنبه وأفسدته. فسأل داود يوحنّا ، فأجاب : نعم يا خليفة الله كان ذلك وكنت نائما فدخلت الأغنام الحرث وأفسدته. فقال داود : احسبوا قيمة الأغنام وقيمة الزرع ، فحسبوا ذلك فكانت القيمتان متساويتين ، فحكم على يوحنّا بردّ أغنامه على إيليا المدّعى بالإضرار بزرعه.

وكان من عادة سليمان بن داود عليهما‌السلام أن يقعد على باب المحكمة ويسأل كلّ من يخرج عن دعواه وعن الحكم الذي صدر بها. فلما خرج هذان المتخاصمان استفسر عن دعواهما وعن الحكم ، فأعلنا له ما جرى بالتفصيل ، فأرجعهما إلى المحكمة ـ وكان عمره الشريف إحدى عشرة سنة ـ فقال : يا أبه ، لو كان الحكم غير ما حكمت به لكان أوفق وأصلح. فسأله داود عن الكيفية التي يراها أصلح من حكمه ، فأجاب بأن يسلّم الأغنام لصاحب الزرع حتى ينتفع بألبانها وأدهانها وأصوافها ، وبأن يسلّم الحرث لصاحب الأغنام يتعهّده ويرجعه كما كان قبل الرعي ، وحينئذ يردّه إلى صاحبه ويستردّ منه أغنامه ، ويكون قد رجع لكلّ ذي حقّ حقه. فأعجب داود هذا الحكم من ابنه وحكم به معترفا أنه أوفق وأصلح وأنه يفسخ حكمه وإن كان صحيحا.

٧٩ ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ... أي علّمناه الحكومة في ذلك ، وأعطيناه من لدنّا فهمها ومعرفتها (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي كل واحد من داود وسليمان عليهما‌السلام ، أعطيناه الحكمة والعلم بأمور الدين والدنيا (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) أي كلّفناها أن تسبّح معه كما يسبّح وتقدّس كما يقدّس. ففي الإكمال عن الصادق عليه‌السلام أن داود خرج يقرأ الزّبور ، وكان إذا قرأ الزّبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه.

ويحتمل أن يكون المراد بتسبيح الجبال هو ردّ صدى الصوت ودورانه

وانعكاسه وتردّده فيما بينها كما هو المسموع والمحسوس دائما عند أهل الجبال فإنهم يلاحظون ردّ الصدى جليّا ، كما أن هذه الظاهرة تلمس داخل القباب العالية السقوف وداخل المساجد الواسعة وخاصة في مسجد أصفهان الذي بردّ صدى الصوت مرارا مكرّرة. وهذا معنى المعيّة في قوله تعالى لأن الصدى يبدأ مع بدء الكلام مقارنا له ، وينتهي بعد انتهائه كما هو المعروف. ويؤيّد هذا المعنى ظاهر الرواية المزبورة عنه عليه‌السلام (إلا جاوبه) والمجاوبة هي ردّ الكلام وإرجاعه. وفي بعض الروايات : لا يبقى شجر ولا مدر إلّا سبّح معه

، فالظاهر من تسبيحها هو إيجاد القوة الناطقة بقدرته الكاملة كما في شجرة موسى عليه‌السلام على ظاهر الشريفة هناك : إنّي أنا الله .. إلخ .. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي كنّا نحن فاعلين ذلك بقدرتنا ، فليس مثل هذا الأمر الذي هو إيجاد الكلام وخلقه في تلك الأشياء بأية كيفية شئنا ، ليس ببديع ولا عجيب عندنا وإن استغربتموه أنتم ، فإن ديدننا أن نفعل تلك الأمور في مواقعها وإن كانت عقولكم لا تدرك حقيقتها.

أما تقديم الجبال على الطّير مع أن القاعدة تقتضي العكس لشرافة الحيوان على الجماد ، فلأن تسخير الجبال وتسبيحها أعجب وأكثر في الدلالة على كمال القدرة وتمامها ، وأدخل في إعجاز داود عليه‌السلام وعلى نبيّنا وأهل بيته أفضل الصلوات والسلام.

٨٠ ـ (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) ... اللّبوس الذي علّمه سبحانه صنعته هو الدّرع ، والجارّ في : لكم ، إما متعلّق بالعلم يعني أن التعليم كان لأجلكم حتى تنتفعوا به في الحروب فإن الدرع حافظة لكم ، وإما صفة للّبوس ، والنتيجة واحدة تقريبا ، فقد علّمناه صناعة الدّرع الحديدية الواقية في الحرب (لِتُحْصِنَكُمْ) تمنعكم وتحميكم ، وهو بدل اشتمال من : لكم (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من وقع السلاح وتأثيره فيكم. وقيل معناه : من حربكم ، أي في حالة الحرب والقتال تمنع عنكم شدّة الضرب والطعن ،

لأن البأس في اللغة معناه : الشّدة في القتال (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي : هل أنتم حامدون لله على هذه النعمة؟ وهذا أمر في صورة الاستفهام ، جاء به للمبالغة والتقريع ، يعني : اشكروا الله على هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها عليكم من صناعة الدرع التي هي لباس الحرب الذي ينجي من طعن الأعداء وضربهم. ونقل عن قتادة أن أول من صنع الدرع كان داود عليه‌السلام ، وقبله كان الناس في الحرب يلصقون صفائح الحديد على أبدانهم ، فمنّ الله تعالى على عباده فجعل الحديد ليّنا على يدي نبيّه داود عليه‌السلام وعلّمه صنعة الدرع وألهمه كيفية صنعها. وروي أن السبب في تليين الحديد على يدي داود عليه‌السلام ، هو أن الله تعالى أعطاه النبوّة والسلطة ، وكان يخرج في الليل ويطوف على الشوارع والسكك وعلى دور الناس حتى يطّلع على أحوالهم ، وكان يتنكّر في زيّه كيلا يعرفه أحد من الرعايا ، وإذا رأى أحدا كان يسأله عن سلوك عمّاله وكيفية معاملتهم للناس ليعلم عدل موظّفيه مع الشعب. وفي ليلة من الليالي نزل جبرائيل عليه‌السلام في صورة بشر ، والتقى بداود في الطريق فسلّم عليه فأجابه على السلام ، وسأله داود عن سلوك داود مع الناس فقال له جبرائيل عليه‌السلام : كان في غاية الحسن والجودة والعدل لو لم يأكل من بيت المال. فلّما سمع هذا الكلام حلف أن لا يأكل من بيت مال الناس شيئا وسأل الله تعالى أن يعطيه كسبا يسترزق منه حتى يعيش به. فألان الله سبحانه له الحديد وعلّمه صنعة الدّروع ليبيعها وينفق على نفسه من ربحها.

وروي أن لقمان رأى أن داود كان يصنع الدرع ، وأنه كان عند ما يتمّه يقوم فيلبسه ويقول : نعمت الجنّة للحرب! فقال لقمان : الصمت جنّة ، وقليل فاعله. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام أنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. قال : فبكى داود أربعين صباحا ، فأوحى الله تعالى إلى الحديد أن لن لعبدي داود. فألان الله تعالى

له الحديد فكان يعمل في كل يوم درعا فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمئة وستين درعا فباعها بثلاثمئة وستين ألفا واستغنى عن بيت المال. وهكذا يؤدّب الله تعالى أولياءه وأهل طاعته في كل زمان عناية منهم بهم واستخلاصا لهم.

ثم إنه تعالى لمّا فرغ من قصة داود وذكر نعمه عليه ، أخذ في بيان نعمه على ابنه سليمان عليه‌السلام فقال :

٨١ ـ (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) ... عطف على ما تقدم من قصة داود عليه‌السلام. أي : وسخّرنا لسليمان الريح : الهواء المتحرّك بقوّة (عاصِفَةً) شديدة الهبوب تقطع مسافة طويلة في مدة قليلة ، كان تجري : تسير بأمره حسب رأيه ومبتغاه (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بيت المقدس أو بلاد الشام ، أو كليهما. وقد قال سبحانه في مكان آخر : غدوّها شهر ، ورواحها شهر (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) أي أن ذلك كان يتمّ بعلمنا لأننا نعلم كل شيء ولا تفوتنا معرفة شيء ولا تخفى علينا صغيرة ولا كبيرة.

٨٢ ـ (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ... أي : وسخّرنا له جماعة من الشياطين يغوصون في البحار ويستخرجون له نفائسها وجواهرها (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة التي يجهلها الناس لقوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) ، (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي محافظين عليهم من أن يزيغوا عن أمره أو يمتنعوا عن أمرنا ، أو أن يفسدوا ما عملوا لرسوله كما هو مقتضى جبلة الشياطين.

* * *

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ

فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

٨٣ ـ (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ... أي : اذكر أيوب الذي كان من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام جميعا ، وأمّه من ولد لوط. وقد رزقه الله تعالى مالا كثيرا واختاره للنبوّة وبعثه إلى أهل قيسنة. وما كان في ذلك العصر أحد أكثر مالا منه ، وكانت مزارعه وبساتينه ومواشيه وأنعامه وغلمانه وإماؤه وخزائنه أكثر من أن تحصى وتعد ، وكان له من زوجته رحمة أو رحيمة بنت أفراييم بن يوسف سبعة أولاد ذكور أو اثنا عشر على رواية ، وسبع بنات أو سبع عشرة.

فهذا النبيّ الكريم (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) والضر بالفتح يطلق على كل ضرر ، وبالضم يختص بما في النفس كالأمراض والهزال ونحو ذلك (وَأَنْتَ) يا الله (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) هذا تعرّض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء. وهو من ألطف الكنايات في مقام طلب الحاجة. ومثله قول موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ويأتي ذكر قصته في سورة ص إن شاء الله تعالى.

٨٤ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) ... أي سمعنا دعاءه واستجبنا لطلبه ، وأزلنا الضرّ عنه وأمرنا بشفائه ومعافاته من المرض والآلام (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي أعطيناه أهله وأرجعناهم له. فعن ابن عباس وابن مسعود : ردّ الله سبحانه عليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم ، وكذلك ردّ عليه أمواله ومواشيه بالأعيان والذوات وأعطاه مثل ذلك أيضا ، بنتيجة صبره على البلاء وشكره في الضرّاء كما في الرخاء. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : ابتلى أيوب سبع سنين بلا ذنب ... وهذه من بلاءات الأنبياء وعباد الله الصالحين.

* * *

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

٨٥ ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) : الأسماء الكريمة عطف على ما قبلها ولذلك نصبت ، والكلام الشريف يعني أن جميع هؤلاء الرّسل كانوا صابرين على مشاقّ التكاليف وعلى الشدائد والمصائب التي ابتلوا بها من جرّاء الدعوة إلى الله تعالى ، وكانوا صابرين على اختياراتنا لهم بكل أنواعها.

٨٦ ـ (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي اخترناهم للنبوّة التي هي من أعظم الرحمة للعبد الصالح ، ولم ندخلهم في تلك الرحمة إلّا لأنهم من عبادنا الصالحين.

* * *

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

٨٧ و ٨٨ ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) .. هذا أيضا معطوف بالنّصب على ما قبله بتقدير : اذكر يا محمد ذا النّون : وهو صاحب الحوت ، يونس بن متّى عليه‌السلام الذي خرج من قومه مغاضبا : غضبانا عليهم

برما لما كان من عصيانهم وتماديهم في الكفر والباطل والجرأة على الله تعالى ، فهاجر عنهم بعد أن دعا عليهم بالهلاك وقبل أن يؤذن له بالخروج من قبل الله سبحانه (فَظَنَ) حسب (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أننا لا نضيّق عليه بما قضيناه من حبسه ببطن الحوت. والقدر إذا عدّي ب ـ : على ، يكون معناه الضيق ، وقد جاء بمعنى القضاء والحكم. وقد فعلنا ما قدّرناه عليه من البلاء الصعب (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) دعا واستغاث في ظلمات : الليل ، وبطن الحوت ، وغمر الماء ، فنادى يقول في استغاثته : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) لا ربّ سواك ولا معبود غيرك (سُبْحانَكَ) تنزيها لك يا الله عن كلّ ظلم وعما لا يليق بك (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : كنت من الظالمين لأنفسهم حين تركت فعل الأولى حيث خرجت من قومي وهاجرت عنهم قبل صدور الإذن من عندك تباركت وتعاليت ، وأنا أعترف بين يديك بما فرط منّي باستعجالي نزول العذاب وباستعجال الخروج عن قومي الذين قضيت بإنزال عذابك عليهم.

فاذكر يا محمد قصة يونس وما كان من دعائه واعترافه ، حيث سمعنا دعاءه وقبلنا اعتذاره (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) خلّصناه من الضيق الذي حاق به أثناء حبسه في بطن الحوت فألهمنا الحوت أن يقذفه على الساحل بعد ثلاثة أيام أو أكثر بعد أن أبقيناه حيّا بقدرتنا ومشيئتنا.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام وقد سئل : ما السبب حتى ظنّ أن لن نقدر عليه؟ فقال : وكله الله إلى نفسه طرفة عين. وفي الخصال والفقيه عنه عليه‌السلام أيضا أنه قال في حديث : عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) .. إلى : (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ). وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له.

* * *

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

٨٩ ـ (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ) ... عطف على ما قبله أيضا ، أي اذكر يا محمد زكريّا عليه‌السلام حين نادى داعيا الله سبحانه بقوله (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي لا تتركني ولا تدعني أبتر بلا عقب وارزقني ولدا يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وهذه الجملة بمنزلة العلّة لقوله عليه‌السلام : أي إن لم ترزقني ولدا يرثني فلا أبالي بذلك لأنك خير الوارثين لي ولجميع الخلق بعد فنائهم.

٩٠ ـ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ... أي سمعنا نداءه ودعاءه ، وأعطيناه ابنا اسمه يحيى عليه‌السلام ، وأصلحنا له زوجه : أعدنا لها بعض شبابها لأنها كانت شيخة وكانت لا تحيض فحاضت ، وقيل كانت عقيما فجعلناها ولودا. ثم أخذ سبحانه في بيان أوصاف زكريا وأهله ومن سبق ذكره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى أفعال الخير ويسبقون إليها غيرهم ، ويرغبون فيها وبثوابها. وفي هذه الكريمة دلالة على أن المسارعة إلى كل طاعة مرغوب فيها من لدنه تعالى ، وعلى أن الصلاة في أول وقتها أفضل. فهؤلاء كانوا يسبقون غيرهم إلى الطاعات وإلى كل خير (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) راغبين في الطاعة محبّين لها حبّا شديدا ، وراهبين : خائفين من المعصية ، ولم تكن رغبتهم في الثواب فقط ، ولا رهبتهم من العقاب فقط ، لأن مقامهم أرفع من ذلك. وقد قال إمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ، ولا طمعا في جنّتك ، ولكن وجدتك أهلا

للعبادة فعبدتك (وَكانُوا) هؤلاء جميعا (لَنا خاشِعِينَ) خاضعين متواضعين مذعنين.

ويعلم من هذه الآية الشريفة أن تلك الخصال الثلاث من أهم أوصاف الكمال والصلاح ، ولذا خصّها الله تعالى بأنبيائه وأهل كرامته من خلقه فنالوا ما نالوه بواسطة : رغبتهم ، ورهبتهم ، وخشوعهم لنا.

* * *

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

٩١ ـ (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ... القمي قال : إن مريم لم ينظر منها شيء ولا نظر إليها أحد ، فلذا وصفت بالإحصان. والإحصان كناية عن غاية العفّة والصّون وكمال العصمة. فإنها سلام الله عليها ما رآها أحد لأنها كانت منذ نعومة أظفارها قابعة في المحراب تبتّل وتتهجد وتصلّي لربّها عزوجل ولم تظهر للمجتمع ولا برزت في مناسبة من مناسبات قومها ، فكنّى الله سبحانه عنها هذه الكناية اللطيفة وقلّدها هذا الوسام الرفيع بقوله جلّ من قائل : والّتي أحصنت فرجها .. (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي أجرينا فيها روح المسيح عليه‌السلام كما يجري الهواء بالنفخ. وقد أضاف الروح إلى نفسه سبحانه تشريفا له في الاختصاص

بالذكر وقيل معناه : أمرنا جبرائيل عليه‌السلام فنفخ في جيب درعها كما سبق وذكرنا ، فخلقنا المسيح في رحمها بقدرتنا الكاملة (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) وهي وابنها عليهما‌السلام آية معجزة خارقة للعادة والعرف ، لأن من تأمّل حالهما حيث ولدته من غير أب يتبيّن له كمال قدرة الله سبحانه وتعالى التي أوجدته هكذا وأوجدت آدم عليه‌السلام من قبله من غير أب وغير أم ، وجعلت مريم تحمل بعيسى من دون أب ..

٩٢ ـ (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ... الأمّة هنا : الملّة. أي إن ملّة الإسلام ملّتكم التي يجب ان تكونوا عليها. وأمة : حال ، أي حال كونها مجتمعة غير متفرقة ولذا وصفها ب : واحدة ... (وَأَنَا رَبُّكُمْ) خالقكم وإلهكم ، ولا ربّ لكم غيري (فَاعْبُدُونِ) اجعلوا عبادتكم وصلاتكم لي وحدي ولا تشركوا بي شيئا.

٩٣ ـ (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ :) أي تفرّقوا في الدّين ، وجعلوا أمر دينهم قطعا موزعة فأخذ كلّ واحد بما يعجبه ، ولكن (كُلٌ) من الفرق المتجزّئة المتفرّقة (إِلَيْنا راجِعُونَ) يوم القيامة والبعث للجزاء والعقاب عند الحساب.

٩٤ ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ... أي فمن يفعل ما أمرناه به من الأعمال الصالحة المفيدة له في دنياه وأخراه (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدق بنا وبرسلنا وبما جاء من عندنا (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) فلا تضييع لسعيه ولا كتمان له ولا رفض لعمله وجهده (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي ونحن نسجّل له ذلك العمل الصالح ونحفظه ونضبطه في كتاب عمله لنوفّيه ثواب ما قام به فلا ننقصه شيئا من أعماله الحسنة.

* * *

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ

وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

٩٥ ـ (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ :) حرام هنا معناها : ممتنع رجوعهم إلى الدنيا أو إلى التوبة بعد إهلاكهم. وعلى هذين التفسيرين تكون (لا) مزيدة ، وقيل حرام عدم رجوعهم للجزاء وممتنع ذلك. وعن الصادقين عليهما‌السلام : أنهم لا يرجعون في الرجعة.

٩٦ ـ (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) ... هما قبيلتان من الناس ، أي : حتى إذا فتح السدّ الذي يحيط بموطنهما. وروي أنه إذا كان في آخر الزمان خرج يأجوج ومأجوج إلى الدنيا ، ويأكلون الناس ، ولا بد من تأويل أكلهم للناس كالتكنية بذلك عن إبادتهم للناس في الحرب أو غير ذلك بسبب كثرتهم ـ والمحتمل أنهم أهل الصين الذين يعدّون حوالي الألفي مليون نسمة ـ وقد عبّرت الآية الشريفة عن كثرتهم حين قالت : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) والحدب : التلّة من الأرض ، أي يأتون من كل ناحية وكل صوب يتراكب بعضهم فوق بعض ، ويأتون أمواجا كأمواج البحار. و : ينسلون : يسرعون كمال السرعة. وقد قيل إن الحدب هو القبر وأنهم يومئذ يقومون من القبور إلى ربّهم ، وقرئ : من كل جدث أيضا. وبناء على هذا

القول يكون المراد : عند خروجهم إلى الدنيا يتعارفون فيها ويتزاوجون وينتظرون خروج إمامهم. وفي كلّ حال تعد هذه الآية الشريفة من علائم ساعة القيامة للحساب ، وعدّوها من علائم قرب الفرج وظهور الإمام عجّل الله تعالى فرجه لأنه يسبق يوم القيامة ، فيكون فتح سدّ يأجوج ومأجوج من علامات الظهور بدليل الآية الكريمة التالية التي تنذر بقرب يوم القيامة حيث قال سبحانه وتعالى :

٩٧ ـ (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) ... أي دنا الوعد الصّدق وهو قيام الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : فإذا القصة التي تلي ذلك أن أبصار الكافرين تشخص : تنظر ولا تكاد تطرف من شدّة أهوال ذلك اليوم وتبقى مفتوحة من الدهشة وهم يقولون : (يا وَيْلَنا) والقول مقدّر ، فإنهم يدعون بالويل والثبور قائلين : (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي كنّا في دار الدنيا ساهين وغافلين عن هذا اليوم وتلك الأهوال (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بعبادة غير الله تعالى ، أو بترك النظر في البراهين والحجج التي جاء بها المرسلون. فيقال لهم بلسان الحال :

٩٨ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ... أي أنتم بالتأكيد وجميع ما عبدتموه غير الله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يعني حطبها ووقودها ترمون فيها كصغار الأحجار وكالحصى ، و (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) داخلون إليها لأنها مقرّكم الذي تخلدون في عذابه وويلاته. كما أنه يقال لهم بلسان الحال ، أو أنهم هم يقولون فيما بينهم عن أصنامهم ومعبوداتهم :

٩٩ ـ (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) ... أي لو كان ما عبدتموه من دون الله تعالى أربابا ما دخلوا جهنّم (وَكُلٌ) من العبدة والمعبودين (فِيها) في جهنّم (خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.

١٠٠ ـ (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ :) الزفير : قذف النفس بشدّة من الغيظ ، فلهم في جهنم زفير وشهيق (عكسه) وأنين وبكاء

وعويل ، ولا يسمعون فيها شيئا يسرّهم لشدّة العذاب واستمراره بل لا يقع في آذانهم إلّا لعن بعضهم بعضا ، وهم لا يمهلون لسماع أي صوت أو أي نداء لأنهم في شغل شاغل.

وقيل إنه لما نزلت هذه الآية الكريمة قال ابن الزبعرى : قد عبد عزير ، وعيسى ، والملائكة فهم في النار؟. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك. ثم نزل القول الكريم الآتي الذي ردّ الله تعالى به قول هذا السفيه ، فقال سبحانه :

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

١٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ... أي أن الذين تمتّعوا بالخصال الكريمة وآمنوا وعملوا الصالحات ـ والرّسل منهم بصورة خاصة ـ وكانوا من عبادنا حقّا وحقيقة ، قد (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) وهو الوعد بالجنّة ، ف ـ (أُولئِكَ) الصالحون (عَنْها) عن جهنّم (مُبْعَدُونَ) في مكان بعيد أمين من أن يروها أو يذوقوا عذابها ، بل إنهم :

١٠٢ ـ (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ... لا يسمعون صوت النار ولا زفيرها لفرط بعدهم عنها (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي هم باقون منعّمين في كلّ ما أحبّت أنفسهم وفي كل ما ترغب فيه إلى الأبد. وهم أيضا :

١٠٣ ـ (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ... لا يهمهم ولا يمقتهم هول يوم القيامة الذي لا يوصف لأنهم لا يصيبهم منه شيء (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) تستقبلهم قائلة : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هذا يوم النعيم المقيم الذي وعدكم به الله تبارك وتعالى على لسان رسله الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. وذلك يكون :

١٠٤ ـ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ... السجلّ هو الطومار الذي يهيأ لكتابة الكتب ولما يثبت فيه من المعاني والأفكار. ففي يوم القيامة نطوي السماء بقدرتنا كما تطوى أوراق الكتب (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) فنرجع الخلق كما بدأناه ولا يصعب علينا ذلك ، وقد وعدنا بذلك (وَعْداً عَلَيْنا) نقلته رسلنا للعالمين (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) إننا صانعون لذلك لأن قدرتنا على الخلق من العدم كقدرتنا على إرجاع السماوات إلى ما كانت عليه قبل خلقها فقد نحوّلها دخانا ، ثم نبعث الخلق للحساب كما وعدناهم.

* * *

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

١٠٥ و ١٠٦ ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ... أي قد أنزلنا ما قضيناه من مشيئتنا ، وأثبتناه في زبور داود عليه‌السلام من بعد إثباته

وكتابته في الذّكر : أي التوراة ، وهو (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي يأخذها ويملكها بعد انقضاء الأمم أصحاب الإمام المهديّ عليه‌السلام وعجّل الله تعالى فرجه ، ويكون ذلك في آخر الزمان. يدل على ذلك الخبر المجمع على روايته عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو أنه قال : لو لم يبق من الدّنيا إلّا يوم واحد ، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

وقيل إن الزّبور يعني هنا جنس الكتب السماوية ، وإن الذكر هو أمّ الكتاب الذي في السماء ، أي اللوح المحفوظ. (إِنَّ فِي هذا) الذي كتبناه في اللوح المحفوظ وفي كتبنا التي أنزلت على رسلنا ، إن فيه (لَبَلاغاً) إعلاما بلّغناه (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) لنا بإخلاص. وقيل : إن في كل ما ذكر في هذه السورة الكريمة لكفاية للمؤمنين.

* * *

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

١٠٧ ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ :) أي لم نرسلك يا محمد ألّا رحمة منّا لجميع الناس لنسبّب لهم السعادة التي أعددناها لهم في دار النعيم في الآخرة من جهة ، ولنسبّب إسعادهم في معاشهم في دار الدنيا أيضا. أما

كونه رحمة للمؤمنين في الدارين فمعلوم ، وأما كونه رحمة للكافرين فلأمنهم من الخسف والمسخ والعذاب والاستئصال ، ولتنعّمهم في الحياة ببركة وجوده ووجود الحجة القائم عنه في كل عصر ، فإنه لولا وجود النبيّ أو الإمام لساخت الأرض بأهلها. بل إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رحمة لأهل السماء أيضا ، ففي المجمع أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرائيل عليه‌السلام لمّا نزلت هذه الآية الكريمة : هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال : نعم ، إني كنت أخشى عاقبة الأمر ، فأمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ).

١٠٨ و ١٠٩ ـ (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَ) ... مرّ تفسير هذه الآية في آخر سورة الكهف. فقل يا محمد للناس : هل أنتم مصدّقون ومسلّمون بهذا الذي يوحى إليّ؟ (فَإِنْ تَوَلَّوْا) إذا انصرفوا وأعرضوا عن التوحيد أو الوصية (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ) أعلمتكم ما أمرت به (عَلى سَواءٍ) مستوين في ذلك ولم أخصّ بإعلامي أحدا دون أحد ، أو على استقامة وعدل في الرأي ، والمعنى الأول أقرب للصحة (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أدري ولا أعلم (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) هل زمن حصول ما وعدتكم به قريب أم بعيد فإنه بعلم الله تعالى ، من نصر المسلمين إلى حشرهم ، لكنه أمر كائن لا محالة.

١١٠ و ١١١ ـ (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ :) أي أن الله تبارك وتعالى يعرف ما تجهرون به وتعلنونه من تصديق رسوله أو تكذيبه ، ويعرف كذلك ما تكتمونه في نفوسكم وتخبّئونه عن الآخرين من الأحقاد عليه وعلى المسلمين (وَإِنْ أَدْرِي) ولا أعلم (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) يحتمل أنه اختبار لكم وامتحان (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) وتأخير لما توعدون به وإبهام لوقته في فترة تتمتّعون بها وتخلعونها عند الموت كما يخلع المتاع البالي.

١١٢ ـ (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ... قل يا محمد ربّ احكم بما هو عدل من الانتقام من الظّلمة ، والله تعالى وجلّ عن الحكم إلّا بما هو حق (وَ)

قل (رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ) أي الذي يطلب منه المعونة للصبر (عَلى ما تَصِفُونَ) من شرككم وكذبكم على الله بنسبة الولد إليه ونحو ذلك .. والحمد لله رب العالمين.

تم الجزء الرابع ، ويليه الجزء الخامس بإذن الله تعالى.

الفهرس

المقدمة....................................................................... ٥

سورة يوسف.................................................................... ٧

١ ـ الر تلك آیات الکتباب المبین.............................................. ٧

٢ ـ إنّا انزلنا قرآناً عربياً........................................................ ٧

٣ ـ نحن نقص عليك أحسن القصص.......................................... ٩

٤ ـ إذ قال يوسف ... يا أبت............................................... ١٢

٥ ـ قال يا بني لا تقصص رؤياك.............................................. ١٢

٦ ـ وكذلك يجتبيك ربك.................................................... ١٢

٧ ـ لقد كان في يوسف وإخوته آیات......................................... ١٣

٨ ـ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا.................................. ١٣

٩ ـ اقتلوا يوسف أو اطرحوه.................................................. ١٤

١٠ ـ قال قائل منهم........................................................ ١٤

١١ ـ قالوا يا أبانا مالك لا تأمّنا على يوسف................................... ١٥

١٢ ـ ارسله معنا غداً يرتع ويلعب............................................. ١٥

١٣ ـ قال إنّه ليحزنني أن تذهبوا به........................................... ١٦

١٤ ـ قالوا لئن أكله الذئب.................................................. ١٦

١٥ ـ فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابه الجب............................ ١٧

١٦ ـ وجاؤوا أباهم عشاء يبكون............................................. ١٩

١٧ ـ قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق............................................ ١٩

١٨ ـ وجاؤوا على قميصه بدم كذب.......................................... ٢٠

١٩ ـ جاءت سيارة فأرسلوا واردهم............................................ ٢١

٢٠ ـ وشروه بثمن بخس..................................................... ٢٢

٢١ ـ وقال الذي اشتراه من مصر............................................. ٢٢

٢٢ ـ ولما بلغ أشده آتیناه حکماً.............................................. ٢٣

٢٣ ـ ورواودته التي هو في بيتها عن نفسه...................................... ٢٥

٢٤ ـ ولقد همّت به وهمّ بها.................................................. ٢٦

٢٥ ـ واستبقا الباب ، وقدّمت قميصه........................................ ٢٧

٢٦ ـ قال هي راودتني عن نفسي............................................. ٢٨

٢٧ ـ وإن كان قميصه قدّ من دبر............................................ ٢٩

٢٨ ـ فلما رأى قميصه قدّ من دبر............................................ ٢٩

٢٩ ـ يوسف اعرض عن هذا................................................ ٣٠

٣٠ ـ وقال نسوة في المدينة................................................... ٣١

٣١ ـ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهنّ....................................... ٣٢

٣٢ ـ قالت فذلكن الذي لمتني فيه............................................ ٣٣

٣٣ ـ قال ربّ السجن أحب إليّ............................................. ٣٥

٣٤ ـ فاستحاب له ربه...................................................... ٣٥

٣٥ ـ ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآیات......................................... ٣٦

٣٦ ـ ودخل معه السجن فتيان............................................... ٣٧

٣٧ ـ قال لا يأتيكما طعام ترزقاته............................................ ٣٩

٣٨ ـ واتبعت ملة آبائي..................................................... ٣٩

٣٩ ـ يا صاحبي السجن أأرباب.............................................. ٤٠

٤٠ ـ ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء........................................... ٤١

٤١ ـ يا صاحبي السجن..................................................... ٤١

٤٢ ـ وقال للذي ظنّ أنّه ناجٍ منهما.......................................... ٤٢

٤٣ ـ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان.................................... ٤٤

٤٤ ـ قالوا أضغاث أحلام................................................... ٤٥

٤٥ ـ وقال الذب نجا منهما.................................................. ٤٦

٤٦ ـ يوسف أيّها الصدّيق أفتنا.............................................. ٤٦

٤٧ ـ قال تزروعون سبع سنين............................................... ٤٧

٤٨ ـ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد........................................ ٤٧

٤٩ ـ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس................................ ٤٧

٥٠ ـ وقال الملك انتوني به................................................... ٤٩

٥١ ـ قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه.............................. ٥٠

٥٢ ـ ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب......................................... ٥٠

٥٣ ـ وما ابرىء نفسي...................................................... ٥٠

٥٤ ـ وقال الملك انتوني به استخلصه لنفسي................................... ٥١

٥٥ ـ قال اجعلني على خزائن الأرض.......................................... ٥٢

٥٦ ـ وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض........................................ ٥٣

٥٧ ـ ولاجر الآخرة أكير.................................................... ٥٤

٥٨ ـ وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه......................................... ٥٥

٥٩ ـ ولما جهزهم بجهازهم................................................... ٥٥

٦٠ ـ فإن لم تأنوني......................................................... ٥٦

٦١ ـ قالوا سنراود عنه أباه................................................... ٥٦

٦٢ ـ وقال لقيانه اجعلوا..................................................... ٥٦

٦٣ ـ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا.............................................. ٥٨

٦٤ ـ قال هل آمنکم علیه................................................... ٥٨

٦٥ ـ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم............................ ٥٩

٦٦ ـ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً.................................... ٦٠

٦٧ ـ وقال يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد..................................... ٦١

٦٨ ـ ولما دخلوا من حيث امرهم أبوهم........................................ ٦٢

٦٩ ـ ولما دخلوا على يوسف آوی إليه أخاه.................................... ٦٢

٧٠ ـ فما جهّزهم بجهازهم................................................... ٦٤

٧١ ـ قالوا وأقبلوا عليهم..................................................... ٦٥

٧٢ ـ قالوا نفقد صواع الملك................................................. ٦٥

٧٣ ـ قالوا تالله لقد علمتم................................................... ٦٦

٧٤ ـ قالوا قما جزاءه إن كنتم كاذبين......................................... ٦٦

٧٥ ـ قالوا جزاؤه من وجد في رحله............................................ ٦٦

٧٦ ـ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه........................................... ٦٧

٧٧ ـ قالوا إنّ يسرق فقد سرق أخ له......................................... ٦٩

٧٨ ـ قالوا يا أيّها العزيز..................................................... ٦٩

٧٩ ـ قال معاذ الله أن نأخذ الإّ من وجدنا..................................... ٦٩

٨٠ ـ فلما استيشوا منه خلصوا نجيّاً........................................... ٧٠

٨١ ـ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا.......................................... ٧١

٨٢ ـ وأسأل القربة التي كنّا فيها.............................................. ٧١

٨٣ ـ قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً....................................... ٧٢

٨٤ ـ وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف.................................. ٧٢

٨٥ ـ قالو تالله تفتاً تذكر يوسف............................................. ٧٣

٨٦ ـ قال إنّما اشكو ... إلى الله.............................................. ٧٣

٨٧ ـ يا بني اذهبوا فتحسوا من يوسف وأخيه................................... ٧٤

٨٨ ـ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيّها العزيز....................................... ٧٦

٨٩ ـ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه...................................... ٧٧

٩٠ ـ قالوا أنك لأنت يوسف................................................ ٧٩

٩١ ـ قالو تالله لقد أثرك الله علينا............................................. ٧٩

٩٢ ـ لا تثريب عليكم اليوم................................................. ٨٠

٩٣ ـ اذهبوا بقميصي هذا فالقوه............................................. ٨١

٩٤ ـ ولما فصلت العبر قال الوهم............................................. ٨٢

٩٥ ـ قالو تالله إنّك لفي ضلالك القديم....................................... ٨٣

٩٦ ـ فلما أن جاءه البشير................................................... ٨٣

٩٧ ـ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا........................................... ٨٤

٩٨ ـ قال سوف أستغفر لكم ربي............................................ ٨٤

٩٩ ـ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه......................................... ٨٦

١٠٠ ـ ورفع أبويه على العرش................................................ ٨٧

١٠١ ـ ربّ قد آتیتنی من الملك.............................................. ٨٩

١٠٢ ـ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك...................................... ٩٤

١٠٣ ـ وما أكثر الناس..................................................... ٩٥

١٠٤ ـ وما تسألهم من أجر.................................................. ٩٥

١٠٥ ـ وكأين من آیة في السماوات والأرض................................... ٩٥

١٠٦ ـ وما يؤمن أكثرهم بالله................................................ ٩٦

١٠٧ ـ أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله................................. ٩٦

١٠٨ ـ قل هذه سبيلي...................................................... ٩٦

١٠٩ ـ وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً......................................... ٩٧

١١٠ ـ حتى إذا استيأس الرسل............................................... ٩٨

١١١ ـ لقد كان في قصصهم عبرة............................................ ٩٩

سورة الرعد................................................................. ١٠١

١ ـ ألر ، تلك آیات الکتاب............................................... ١٠١

٢ ـ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ثروتها................................. ١٠٢

٣ ـ وهو الذي مد الارض.................................................. ١٠٤

٤ ـ وفي الارض قطع متجاورات............................................. ١٠٥

٥ ـ وإن تعجب فعجب قولهم.............................................. ١٠٧

٦ ـ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة....................................... ١٠٧

٧ ـ ويقول الذي كفروا لولا أنزل عليه آیة.................................... ١٠٨

٨ ـ الله يعلم ما تحمل كل أنثى.............................................. ١١٠

٩ ـ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال...................................... ١١١

١٠ ـ سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به................................ ١١١

١١ ـ له معقبات من بين يديه ومن خلفه.................................... ١١٢

١٢ ـ هو الذي يربكم البرق خوفاً وطمعاً .................................... ١١٣

١٣ ـ ويسبح الرعد بحمده والملائكه........................................ ١١٣

١٤ ـ له دعوة الحق....................................................... ١١٦

١٥ ـ ولله يسجد من في السماوات والأرض.................................. ١١٨

١٦ ـ قل من رب السماوات والارض........................................ ١٢٠

١٧ ـ أنزل من السماء ماء................................................. ١٢١

١٨ ـ للذين استجابوا لربهم الحسنى.......................................... ١٢٢

١٩ ـ أفمن يعلم ... كمن هو أعمى........................................ ١٢٣

٢٠ ـ الذين يوفون بعهد الله................................................ ١٢٣

٢١ ـ والذين يصلون ما أمر الله به.......................................... ١٢٣

٢٢ ـ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم.......................................... ١٢٣

٢٣ ـ جنات وعدن يدخلونها............................................... ١٢٤

٢٤ ـ سلام عليكم بما صبرتم............................................... ١٢٤

٢٥ ـ والذين ينقضون عهد الله............................................. ١٢٥

٢٦ ـ الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر........................................ ١٢٥

٢٧ ـ ويقول الذين كفروا................................................... ١٢٦

٢٨ ـ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم............................................ ١٢٦

٢٩ ـ الذين آمنوا طوبى لهم................................................. ١٢٧

٣٠ ـ كذلك أرسلناك...................................................... ١٢٨

٣١ ـ ولو أن قرآناً سیرت به الجبال.......................................... ١٢٩

٣٢ ـ ولقد استهزىء فأمليت للذين كفروا.................................... ١٣٠

٣٣ ـ أفمن هو قائم على كل نفس.......................................... ١٣٠

٣٤ ـ لهم عذاب في الحياة الدنيا............................................. ١٣١

٣٥ ـ مثل الجنّة التي وعد المتّقون............................................ ١٣١

٣٦ ـ والذين آتیناهم الکتاب............................................... ١٣١

٣٧ ـ وکذلك أنزلنا حكماً عربياً............................................ ١٣٢

٣٨ ـ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك........................................... ١٣٣

٣٩ ـ يمحو اللهما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب............................. ١٣٣

٤٠ ـ وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم........................................ ١٣٤

٤١ ـ او لم يروا أنا نأتي الأرض............................................. ١٣٥

٤٢ ـ وقد مكر الذين من قبلهم............................................ ١٣٦

٤٣ ـ ويقول الذين كفروا لست مرسلاً....................................... ١٣٦

سورة إبراهيم

١ ـ ألر كتاب أنزلناه إليك................................................. ١٣٧

٢ ـ الله الذي له ما في السماوات........................................... ١٣٨

٣ ـ الذين يستحيون الحياة الدنيا............................................ ١٣٨

٤ ـ وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه..................................... ١٣٨

٥ ـ ولقد أرسلنا موسى بآیتنا............................................... ١٤٠

٦ ـ واذ قال موسى لقومه.................................................. ١٤٠

٧ ـ وإذ تأذن ربكم....................................................... ١٤١

٨ ـ وقال موسى ان تكفروا................................................. ١٤١

٩ ـ الم يأتكم نبأ الذين من قبلكم.......................................... ١٤٢

١٠ ـ قالت رسلهم أفي الله شك............................................ ١٤٣

١١ ـ قالت لهم رسلهم.................................................... ١٤٣

١٢ ـ وما لنا الا نتوكل على الله............................................. ١٤٣

١٣ ـ وقال الذين كفروا لرسلهم............................................. ١٤٤

١٤ ـ ولنسكننكم الأرض من بعدهم........................................ ١٤٤

١٥ ـ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد...................................... ١٤٥

١٦ ـ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد.................................. ١٤٥

١٧ ـ يتجرعه ولا يكاد بسيفه.............................................. ١٤٥

١٨ ـ مثل الذين كفروا بربهم................................................ ١٤٦

١٩ ـ ألم ترأن الله خلق السماوات........................................... ١٤٦

٢٠ ـ وما ذلك على الله بعزيز.............................................. ١٤٦

٢١ ـ وبرزوا لله جميعاً...................................................... ١٤٧

٢٢ ـ وقال الشيطان لما قضي الأمر......................................... ١٤٨

٢٣ ـ وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات............................. ١٤٩

٢٤ ـ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً........................................... ١٤٩

٢٥ ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها......................................... ١٥٠

٢٦ ـ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة....................................... ١٥٠

٢٧ ـ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت...................................... ١٥٠

٢٨ ـ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً...................................... ١٥١

٢٩ ـ جهنم يصلونها........................................................ ١٥١

٣٠ ـ وجعلوا لله أنداداً....................................................... ١٥١

٣١ ـ قل لعبادي الذين آمنوا ................................................ ١٥٢

٣٢ ـ الله الذي خلق السماوات والأرض....................................... ١٥٣

٣٣ ـ وسخّر لكم الشمس والقمر............................................ ١٥٣

٣٤ ـ وآتاکم من کل ما سألتموه.............................................. ١٥٣

٣٥ ـ وإذ قال إبراهیم....................................................... ١٥٥

٣٦ ـ رب النهنّ أضللن كثيراً من الناس........................................ ١٥٨

٣٧ ـ ربنا إني أسكنت من ذرّيتي.............................................. ١٦٠

٣٨ ـ ربنا أنّك تعلم ما نخفي ما نعلن.......................................... ١٦٢

٣٩ ـ الحمد لله الذي وهب لي............................................... ١٦٣

٤٠ ـ رب اجعلني مقيم الصلاة............................................... ١٦٣

٤١ ـ ربنا اغفرلي ولوالديّ.................................................... ١٦٣

٤٢ ـ ولا تحسبنّ الله غافلاً................................................... ١٦٤

٤٣ ـ مهطعين مقنعي رؤوسهم................................................ ١٦٤

٤٤ ـ وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب.......................................... ١٦٥

٤٥ ـ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم................................. ١٦٥

٤٦ ـ وقد مكروا مكرهم..................................................... ١٦٥

٤٧ ـ فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله........................................ ١٦٦

٤٨ ـ يوم تبدل الارض غير الارض............................................ ١٦٦

٤٩ ـ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد................................... ١٦٧

٥٠ ـ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار................................ ١٦٧

سورة الحجر

١ ـ ألر ، تلك آیات الکتاب................................................. ١٦٨

٢ ـ ربما یود الذين كفروا لو كانوا مسلمين...................................... ١٧٠

٣ ـ ذرهم يأكلوا.......................................................... ١٧٠

٤ ـ وما أهلكنا من قرية.................................................... ١٧٠

٥ ـ ما تسبق من أمّة أجلها................................................. ١٧١

٦ ـ وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر...................................... ١٧١

٧ ـ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين.............................. ١٧١

٨ ـ ما ننزل الملائكة إلاّ بالحقّ.............................................. ١٧١

٩ ـ إنّأ نحن نزلنا الذكر وإنّا لحافظون........................................ ١٧٢

١٠ ـ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع......................................... ١٧٢

١١ ـ وما يأتيهم من رسول................................................. ١٧٣

١٢ ـ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين....................................... ١٧٣

١٣ ـ لا يؤمنون به........................................................ ١٧٣

١٤ ـ ولو فتحنا عليهم باباً................................................. ١٧٣

١٥ ـ لقالوا إنّما سكرت أبصارنا............................................ ١٧٣

١٦ ـ ولقد جعلنا في السماء بروجاً.......................................... ١٧٤

١٧ ـ وحفظناها من كل شيطان............................................. ١٧٥

١٨ ـ إلاّ من استرق السمع................................................ ١٧٦

١٩ ـ والارض مددناها.................................................... ١٧٦

٢٠ ـ وجعلنا لكم فيها معايش.............................................. ١٧٦

٢١ ـ وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه........................................ ١٧٧

٢٢ ـ وأرسلنا الرياح لواقح.................................................. ١٧٧

٢٣ ـ وإنّا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون................................... ١٧٨

٢٤ ـ ولقد علمنا المستقدمين منكم......................................... ١٧٩

٢٥ ـ وإنّ ربك هو يحشرهم................................................ ١٧٩

٢٦ ـ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال...................................... ١٨٠

٢٧ ـ والجان خلقناه من قبل................................................ ١٨٠

٢٨ ـ وإذ قال ربك للملائكة............................................... ١٨١

٢٩ ـ فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي..................................... ١٨١

٣٠ ـ فسجد الملائكة كلّهم أجمعون......................................... ١٨٢

٣١ ـ إلاّ إبليس أبي أن يكون مع الساجدين................................. ١٨٢

٣٢ ـ قال يا إبليس مالك.................................................. ١٨٣

٣٣ ـ قال لم أكن لأسجد لبشر............................................ ١٨٣

٣٤ ـ قال فاخرج منها..................................................... ١٨٣

٣٥ ـ وإن عليك اللعنة.................................................... ١٨٣

٣٦ ـ قال رب فانظرني..................................................... ١٨٣

٣٧ ـ و ٣٨ ـ قال فإنك من المنظرين......................................... ١٨٣

٣٩ و ٤٠ ـ قال رب لما أغويتني............................................ ١٨٤

٤١ ـ قال هذا صراط علي مستقيم.......................................... ١٨٥

٤٢ ـ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.................................... ١٨٥

٤٣ و ٤٤ ـ وإن جهنم لموعدهم أجمعين..................................... ١٨٥

٤٥ و ٤٦ ـ إن المتقين في جنات وعيون..................................... ١٨٦

٤٧ ـ ونزعنا ما في صدورهم من غل......................................... ١٨٦

٤٨ و ٤٩ و ٥٠ ـ لا يمسهم فيها نصب.................................... ١٨٦

٥١ ـ ونبثهم عن ضيف إبراهيم............................................. ١٨٧

٥٢ ـ اذ دخلوا عليه....................................................... ١٨٧

٥٣ ـ قالوا لا توجل إنّا نبشّرك.............................................. ١٨٧

٥٤ ـ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر..................................... ١٨٧

٥٥ ـ قالوا بشرناك بالحق................................................... ١٨٨

٥٦ ـ قال ومن يقنط من رحمه ربّه إلاّ الضالون................................ ١٨٨

٥٧ و ٥٨ ـ قال فيما خطبكم أيها المرسلون.................................. ١٨٨

٥٩ و ٦٠ إلاّ آل لوط................................................... ١٨٨

٦١ و ٦٢ فلما جاء آل لوط.............................................. ١٨٩

٦٣ و ٦٤ ـ قالوا بل جئناك................................................ ١٨٩

٦٥ ـ فأسر بأهلك بقطع من الليل.......................................... ١٨٩

٦٦ ـ وقضينا إليه ذلك الأمر............................................... ١٩٠

٦٧ ـ وجاء أهل المدينة.................................................... ١٩٠

٦٨ و ٦٩ ـ قال هؤلاء ضيفي.............................................. ١٩١

٧٠ ـ قالوا ألم ننهك عن العالمين............................................ ١٩١

٧١ ـ قال هؤلاء بناتي..................................................... ١٩١

٧٢ ـ لعمرك إنّهم في سكرتهم............................................... ١٩١

٧٣ ـ فأخذتهم الصيحة.................................................... ١٩١

٧٤ ـ فجعلنا عاليها سافلها................................................ ١٩١

٧٥ و ٧٦ ـ إن في ذلك لآیات للمنوسمین................................... ١٩٢

٧٧ ـ إن في ذلك لآية للمؤمنين............................................ ١٩٣

٧٨ و ٧٩ ـ وإن كان أصحاب الأيكة...................................... ١٩٣

٨٠ ـ ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين................................... ١٩٤

٨١ ـ وآتیناهم آیاتنا....................................................... ١٩٥

٨٢ ـ وکانوا ینحتون من الجبال بیوتاٌ......................................... ١٩٥

٨٣ ـ فآخذتهم الصيحة مصبحين........................................... ١٩٥

٨٤ ـ فما أغنى عنهم ما كانوا............................................... ١٩٦

٨٥ ـ وما خلقنا السماوات................................................. ١٩٧

٨٦ ـ إن ربّك هو الخلاق.................................................. ١٩٧

٨٧ ـ ولقد آتیناک سبعاٌ من المثانی.......................................... ١٩٨

٨٨ ـ لا تمدن عينيك...................................................... ١٩٩

٨٩ ـ وقل إني النذير المبين................................................. ١٩٩

٩٠ و ٩١ ـ كما أنزلنا عل المقتسمين........................................ ٢٠٠

٩٢ ـ ٩٣ ـ فوربك لنسألنهم............................................... ٢٠١

٩٤ و ٩٥ فاصدع بما تؤمر................................................ ٢٠١

٩٦ ـ الذين جعلوا مع الله إلهاً آخر.......................................... ٢٠١

٩٧ الى ٩٩ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك................................... ٢٠٢

سورة النحل................................................................. ٢٠٣

١ ـ أتى أمر الله............................................................ ٢٠٣

٢ ـ ينزل الملائكة بالروح من أمره.............................................. ٢٠٣

٣ ـ خلق السماوات والآرض............................................... ٢٠٤

٤ ـ خلق الإنسان من نطفة................................................ ٢٠٥

٥ ـ والأنعام خلقها........................................................ ٢٠٥

٦ ـ ولكم فيها جمال...................................................... ٢٠٥

٧ ـ وتحمل أثقالكم إلى بلد................................................ ٢٠٦

٨ ـ والخيل والبغال والحمير.................................................. ٢٠٦

٩ ـ وعلى الله قصد السبيل................................................. ٢٠٧

١٠ ـ وأنزل لكم من السماء................................................ ٢٠٧

١١ ـ ينبت لكم به الزرع.................................................. ٢٠٨

١٢ ـ وسخّر لكم الليل.................................................... ٢٠٨

١٣ ـ وما ذراُ لكم........................................................ ٢٠٩

١٤ ـ وهو الذي سخّر البحر.............................................. ٢١٠

١٥ ـ وألقى في الأرض رواسي.............................................. ٢١١

١٦ ـ وعلامات وبالنجم هم يهتدون........................................ ٢١٢

١٧ ـ أفمن يخلق كمن لا يخلق.............................................. ٢١٣

١٨ ـ وإنّ تعدوا نعمة الله لا تحصوها........................................ ٢١٤

١٩ ـ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون........................................ ٢١٤

٢٠ ـ والذين تدعون من دون الله........................................... ٢١٤

٢١ ـ أموات غير أحياء.................................................... ٢١٥

٢٢ ـ إلهكم إله واحد..................................................... ٢١٥

٢٣ ـ لا جرم أن الله يعلم.................................................. ٢١٦

٢٤ ـ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم.......................................... ٢١٨

٢٥ ـ ليحملوا أوزارهم كاملة................................................ ٢١٨

٢٦ ـ قد مكر الذين من قبلهم............................................. ٢١٩

٢٧ ـ ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول........................................... ٢٢٠

٢٨ ـ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.................................. ٢٢١

٢٩ ـ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها..................................... ٢٢١

٣٠ ـ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم....................................... ٢٢٢

٣١ ـ جنات عدن يدخلونها................................................ ٢٢٢

٣٢ ـ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين......................................... ٢٢٢

٣٣ ـ هل ينظرون إلا...................................................... ٢٢٣

٣٤ ـ فأصابهم سيئات ما عملوا............................................. ٢٢٤

٣٥ ـ وقال الذين أشركوا................................................... ٢٢٤

٣٦ ـ ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً........................................... ٢٢٤

٣٧ ـ ان تحرص على هداهم............................................... ٢٢٥

٣٨ ـ وأقسموا بالله جهد أيمانهم............................................. ٢٢٥

٣٩ ـ ليبين لهم الذين يختلفون فيه........................................... ٢٢٦

٤٠ ـ إنما قولنا لشيء إذا أردناه............................................. ٢٢٦

٤١ ـ والذين هاجروا في الله................................................. ٢٢٧

٤٢ ـ الذين صبروا........................................................ ٢٢٧

٤٣ ـ وما أرسلنا من قبلك................................................. ٢٢٧

٤٤ ـ بالبيتات والزبر...................................................... ٢٢٧

٤٥ ـ أفأمن الذبن مكروا................................................... ٢٢٨

٤٦ ـ أو يأخذهم......................................................... ٢٢٨

٤٧ ـ أو يأخذهم على تخوف.............................................. ٢٢٩

٤٨ ـ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء..................................... ٢٢٩

٤٩ ـ ولله يسجد ما في السماوات........................................... ٢٢٩

٥٠ ـ يخافون ربهم من فوقهم............................................... ٢٣٠

٥١ ـ وقال الله لا تتخذوا إلهين إثنين........................................ ٢٣١

٥٢ ـ وله الدين واصباً..................................................... ٢٣١

٥٣ ـ ومابكم من نعمة فمن الله............................................ ٢٣١

٥٤ ـ ثم إذا كشق عنكم الضر............................................. ٢٣١

٥٥ ـ ليكفروا بما آتیناهم................................................... ٢٣٢

٥٦ ـ ویجعلون لما لا یعلمون................................................ ٢٣٢

٥٧ ـ ویجعلون لله البنات................................................... ٢٣٢

٥٨ ـ واذا بشر أحدهم بالانثى............................................. ٢٣٢

٥٩ ـ يتواري من القوم..................................................... ٢٣٢

٦٠ ـ للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء.................................... ٢٣٣

٦١ ـ ولو يؤأخذ الله الناس بظلمهم.......................................... ٢٣٤

٦٢ ـ ويجعلون لله ما يكرهون............................................... ٢٣٤

٦٣ ـ تالله لقد ارسلنا الى امم............................................... ٢٣٥

٦٤ ـ وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ........................................... ٢٣٥

٦٥ ـ والله انزل من السماء ماء.............................................. ٢٣٦

٦٦ ـ وان لكم في الأنعام لعبرة.............................................. ٢٣٦

٦٧ ـ ومن ثمرات النخيل................................................... ٢٣٧

٦٨ ـ وأوحى ربك إلى النحل............................................... ٢٣٧

٦٩ ـ ثم كلي من كل الثمرات.............................................. ٢٣٨

٧٠ ـ والله خلقكم ثم يتوفاكم.............................................. ٢٤١

٧١ ـ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق................................ ٢٤٢

٧٢ ـ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً..................................... ٢٤٢

٧٣ ـ ويعبدون من دون الله................................................ ٢٤٤

٧٤ ـ فلا تضربوا لله الأمثال................................................ ٢٤٤

٧٥ ـ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً............................................ ٢٤٤

٧٦ ـ وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم................................... ٢٤٥

٧٧ ـ ولله غيب السماوات والأرض.......................................... ٢٤٦

٧٨ ـ والله أخرجكم من بطون امّهاتكم...................................... ٢٤٦

٧٩ ـ ألم يروا إلى الطير.................................................... ٢٤٧

٨٠ ـ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً...................................... ٢٤٧

٨١ ـ والله جعل لكم مما خلق ظلالاً......................................... ٢٤٨

٨٢ ـ فإن تولوا فإنّما عليك البلاغ المبين ..................................... ٢٤٨

٨٣ ـ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها........................................... ٢٤٩

٨٤ ـ يعرفون نعمة الله ثمن ينكرونها.......................................... ٢٤٩

٨٥ ـ واذا رأى الذين ظلموا العذاب......................................... ٢٤٩

٨٦ ـ واذا رأى الذين اشركوا شركاءهم....................................... ٢٥٠

٨٧ ـ وألقوا إلى الله يومئذ السلم............................................ ٢٥٠

٨٨ ـ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله...................................... ٢٥٠

٨٩ ـ ويوم نبعث في كل أمّة شهيداً......................................... ٢٥١

٩٠ ـ إن الله يأمر بالعدل والإحسان......................................... ٢٥١

٩١ ـ وأوفوا بعهد الله...................................................... ٢٥٢

٩٢ ـ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها......................................... ٢٥٢

٩٣ ـ ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة........................................ ٢٥٣

٩٤ ـ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً............................................. ٢٥٤

٩٥ ـ ولا تشتروا بعهدالله................................................... ٢٥٤

٩٦ ـ ما عندكم ينفد...................................................... ٢٥٤

٩٧ ـ من عمل صالحاً..................................................... ٢٥٤

٩٨ ـ وإذا قرأت القرآن فاستعذبالله.......................................... ٢٥٥

٩٩ ـ إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا.................................... ٢٥٦

١٠٠ ـ إنّما سلطانه على الذين يتولونه....................................... ٢٥٦

١٠١ ـ وإذا بدلنا آية مكان آية............................................ ٢٥٧

١٠٢ ـ قل نزله روح القدس................................................ ٢٥٧

١٠٣ ـ ولقد نعلم أنّهم یقولون.............................................. ٢٥٧

١٠٤ ـ إن الذين لا يؤمنون بآیات الله....................................... ٢٥٨

١٠٥ ـ إنّما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون................................... ٢٥٨

١٠٦ ـ من كفر بالله من بعد إيمانه.......................................... ٢٥٩

١٠٧ ـ ذلك بأنّهم استحبوا الحياة الدنيا...................................... ٢٥٩

١٠٨ ـ اولئك الذين طبع اللهعلى قلوبهم..................................... ٢٥٩

١٠٩ ـ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون.................................. ٢٥٩

١١٠ ـ ثم إنّ ربك للذين هاجروا............................................ ٢٦٠

١١١ ـ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.................................. ٢٦٠

١١٢ ـ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة..................................... ٢٦١

١١٣ ـ ولقد جاءهم رسول منهم فكذّبوه.................................... ٢٦٢

١١٤ ـ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً...................................... ٢٦٢

١١٥ ـ إنّما حرم عليكم ... وما أهل لغير الله به.............................. ٢٦٣

١١٦ ـ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم........................................ ٢٦٣

١١٧ ـ متاع قليل ولهم عذاب أليم.......................................... ٢٦٣

١١٨ ـ وعلى الذين هادوا................................................. ٢٦٤

١١٩ ـ ثم إنّ ربك للذين عملوا السوء بجهالة................................. ٢٦٤

١٢٠ ـ إن إبراهيم كان أمة................................................ ٢٦٤

١٢١ ـ شاكراً لأنعمه..................................................... ٢٦٥

١٢٣ ـ ثم أوحينا إليك.................................................... ٢٦٥

١٢٤ ـ انما جعل السبت................................................... ٢٦٦

١٢٥ ـ ادع الى سبيل ربك................................................. ٢٦٦

١٢٦ ـ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم.................................... ٢٦٧

١٢٧ ـ واصبر وما صبرك إلاّ اتّقوا........................................... ٢٦٨

سورة الإسراء............................................................... ٢٦٩

١ ـ سبحان الذي أسرى بعبده............................................. ٢٦٩

٢ ـ وآتینا موسد الکتاب................................................... ٢٧٠

٣ ـ ذوية من حملنا مع نوح................................................. ٢٧٠

٤ ـ وقضينا إلى بني إسرائيل................................................ ٢٧١

٥ ـ فإذا جاء وعد أوليهما................................................. ٢٧٢

٦ ـ ثم رددنا لكم الكرّة.................................................... ٢٧٣

٧ ـ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها............................ ٢٧٣

٨ ـ عسى ربكم أن يرحمكم................................................ ٢٧٤

٩ ـ إن هذا القرآن........................................................ ٢٧٤

١٠ ـ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة.......................................... ٢٧٤

١١ ـ ويدع الإنسان بالشرّ دعاء بالخير...................................... ٢٧٤

١٢ ـ وجعلنا الليل والنهارآیتین.............................................. ٢٧٥

١٣ و ١٤ ـ وکل ؛نسان ألزمناه............................................ ٢٧٦

١٥ ـ من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه......................................... ٢٧٧

١٦ ـ وإذا أردنا أن نهلك قرية.............................................. ٢٧٨

١٧ ـ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح.................................... ٢٧٨

١٨ ـ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء............................. ٢٧٩

١٩ ـ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها...................................... ٢٧٩

٢٠ ـ كلا نمد هؤلاء هؤلاء................................................. ٢٧٩

٢١ ـ انظر كيف فصلنا بعضهم على بعض................................... ٢٧٩

٢٢ ـ لا تجعل مع الله إلها آخر.............................................. ٢٨٠

٢٣ ـ وقضى ربك........................................................ ٢٨٠

٢٤ ـ واخفض لهما جناح الذل............................................. ٢٨٢

٢٥ ـ ربكم أعلم فأنه كان للأوايين.......................................... ٢٨٢

٢٦ ـ وآت ذا القربى حقه.................................................. ٢٨٣

٢٧ ـ إن المبذرين كانوا..................................................... ٢٨٣

٢٨ ـ وإما تعرضن عنهم................................................... ٢٨٣

٢٩ ـ ولاتجعل يدك مغلولة................................................. ٢٨٤

٣٠ ـ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء........................................ ٢٨٤

٣١ ـ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق....................................... ٢٨٥

٣٣ ـ ولا تقربوا الزنى...................................................... ٢٨٦

٣٣ ـ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله.......................................... ٢٨٦

٣٤ ـ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن............................... ٢٨٦

٣٥ ـ وأوفوا الكيل........................................................ ٢٨٦

٣٦ ـ ولا تقف ما ليس لك به علم......................................... ٢٨٧

٣٧ ـ ولا تمش في الأرض مرحاً............................................. ٢٨٨

٣٨ ـ كل ذلك كان سئية.................................................. ٢٨٨

٣٩ ـ ذلك مما أوحى إليك ربك............................................ ٢٨٨

٤٠ ـ أفاصفاكم ربكم بالبنين.............................................. ٢٨٩

٤١ ـ ولقد صرفنا في هذا القرآن من کل مثل................................. ٢٨٩

٤٢ ـ قل لو كان معه آلهة.................................................. ٢٩٠

٤٣ ـ سبحانه وتعالى عما يقولون........................................... ٢٩٠

٤٤ ـ تسبح له السماوات السبع والأرض.................................... ٢٩٠

٤٥ ـ وإذا قرأت القرآن.................................................... ٢٩١

٤٦ ـ وجعلنا علد قلوبهم آکنة.............................................. ٢٩٢

٤٧ ـ نحن أعلم بما يستمعون به............................................. ٢٩٢

٤٨ ـ انظر كيف ضربوا لك الأمثال......................................... ٢٩٣

٤٩ ـ وقالوا إذا كنا عظاما.................................................. ٢٩٣

٥٠ ـ قل كونوا حجارة..................................................... ٢٩٤

٥١ ـ أو خلقاً مما يكبر.................................................... ٢٩٤

٥٢ ـ يوم يدعوكم........................................................ ٢٩٥

٥٣ ـ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن..................................... ٢٩٦

٥٤ ـ ربكم أعلم بكم..................................................... ٢٩٦

٥٥ ـ وربك أعلم بمن...................................................... ٢٩٧

٥٦ ـ قل ادعوا الذين زعمتم............................................... ٢٩٨

٥٧ ـ أولئك الذين يدعون................................................. ٢٩٨

٥٨ ـ وإن من قرية إلاّ نحن معذّبوها......................................... ٢٩٨

٥٩ ـ ما منعنا أن نرسل بالآیات............................................ ٢٩٩

٦٠ ـ وإذا قلنا لك إن ربك أحاط.......................................... ٢٩٩

٦١ ـ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لأدم....................................... ٣٠١

٦٢ ـ قال أرايتك هذا الذي كرمت عليّ..................................... ٣٠١

٦٣ ـ قال اذهب......................................................... ٣٠١

٦٤ ـ واستفزز من استطعت منهم........................................... ٣٠٢

٦٥ ـ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.................................... ٣٠٢

٦٦ ـ ربكم الذي يزجي لكم الفلك......................................... ٣٠٣

٦٧ ـ وإذا مسّكم الضر................................................... ٣٠٣

٦٨ ـ أفأمنتم أن يخسف بكم.............................................. ٣٠٣

٦٩ ـ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى..................................... ٣٠٤

٧٠ ـ ولقد كرمنا بني آدم.................................................. ٣٠٤

٧١ ـ يوم ندعو كل أناس بإمامهم........................................... ٣٠٥

٧٢ ـ ومن كان في هذه أعمى.............................................. ٣٠٥

٧٣ ـ وان كادوا ليفتنونك.................................................. ٣٠٦

٧٤ ـ ولولا أن ثبتناك...................................................... ٣٠٦

٧٥ ـ إذا لاذقناك ضعف.................................................. ٣٠٦

٧٦ ـ وإن كادوا ليستفزونك................................................ ٣٠٧

٧٧ ـ سنة من قد أرسلنا قبلك.............................................. ٣٠٧

٧٨ ـ أقم الصلاة لدلولك الشمس.......................................... ٣٠٨

٧٩ ـ ومن الليل فتهجد به................................................. ٣٠٨

٨٠ ـ وقل رب أدخلني مدخل صدق........................................ ٣٠٩

٨١ ـ وقل جاء الحق وزهق الباطل........................................... ٣١٠

٨٢ ـ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة.................................... ٣١٠

٨٣ ـ وإذا أنعمنا على الإنسان............................................. ٣١٠

٨٤ ـ قل كل يعمل على شاكلته............................................ ٣١١

٨٥ ـ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي............................. ٣١٢

٨٦ و ٨٧ ـ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك............................ ٣١٢

٨٨ ـ قل لو اجتمعت الإنس والجن.......................................... ٣١٣

٨٩ ـ ولقد صرفنا......................................................... ٣١٣

٩٠ ـ وقالوا لن نؤمن لك.................................................. ٣١٤

٩١ ـ أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب..................................... ٣١٤

٩٢ ـ أوتسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً................................ ٣١٤

٩٣ ـ أو يكون لك بيت من زخرف......................................... ٣١٤

٩٤ ـ وما منع الناس أن يؤمنوا.............................................. ٣١٦

٩٥ ـ قل كفى بالله شهيداً................................................. ٣١٧

٩٦ ـ قل كفى بالله شهيداً................................................. ٣١٧

٩٧ ـ من يهد الله فهو المتهدي.............................................. ٣١٧

٩٨ ـ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا............................................. ٣١٧

٩٩ ـ أو لم يروا أن الله الذي خلق........................................... ٣١٨

١٠٠ ـ قل لو أنتم تملكون................................................. ٣١٨

١٠١ ـ ولقد آتینا موسى تسع آیات بینات................................... ٣١٩

١٠٢ ـ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء....................................... ٣١٩

١٠٣ ـ فأراد أن يستفزهم من الأرض........................................ ٣٢٠

١٠٤ ـ وقلنا من بعده اسكنوا الأرض........................................ ٣٢٠

١٠٥ ـ وبالحق أنزلناه...................................................... ٣٢٠

١٠٦ ـ أو قرآناً فرقناه..................................................... ٣٢٠

١٠٧ ـ قل امنوا به أو لا تؤمنوا............................................. ٣٢١

١٠٨ ـ ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد.................................... ٣٢١

١٠٩ ـ ويخرون للأذقان ويزيدهم خشوعاً.................................... ٣٢١

١١٠ ـ قل ادعو الله أو ادعوا الرحمان........................................ ٣٢٢

١١١ ـ وقل الحمدلله...................................................... ٣٢٢

سورة الكهف............................................................... ٣٢٣

١ ـ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.................................. ٣٢٣

٢ و ٣ و ٤ ـ قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه................................ ٣٢٤

٥ ـ ما لهم به من علم..................................................... ٣٢٤

٦ ـ فلعلك باخع نفسك................................................... ٣٢٤

٧ ـ أنّا جعلنا ما على الأرض............................................... ٣٢٥

٨ ـ وأنّا لجاعلون صعيداً جرزاً............................................... ٣٢٥

٩ ـ أم حسبت أن أصحاب الكهف........................................ ٣٢٥

١٠ ـ إذ أوى الفتية إلى الكهف............................................ ٣٢٦

١١ ـ فضربنا على آذانهم.................................................. ٣٢٦

١٢ ـ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين........................................... ٣٢٧

١٣ ـ نحن نقص عليك نبأهم بالحق......................................... ٣٢٨

١٤ ـ وربطنا على قلوبهم................................................... ٣٢٨

١٥ ـ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونة آلهة....................................... ٣٢٨

١٦ ـ وإذ اعتزلتموهم...................................................... ٣٢٩

١٧ ـ وترى الشمس إذا طلعت............................................. ٣٢٩

١٨ ـ وتحسبهم أيقاظاً..................................................... ٣٣٠

١٩ ـ وكذلك بعثناهم..................................................... ٣٣١

٢٠ ـ إنهم إن يظهروا عليكم............................................... ٣٣٢

٢١ ـ وكذلك أعثرنا عليهم................................................. ٣٣٢

٢٢ ـ سيقولون ثلاثة...................................................... ٣٣٤

٢٣ ـ و ٢٤ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً............................. ٣٣٥

٢٥ ـ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين......................................... ٣٣٥

٢٦ ـ قل الله أعلم بما لبثوا................................................. ٣٣٦

٢٧ ـ واتل ما اوحي إليك من كتاب ربك.................................... ٣٣٧

٢٨ ـ واصبر نفسك....................................................... ٣٣٧

٢٩ ـ وقل الحق من ربكم.................................................. ٣٣٧

٣٠ ـ إن الذين آمنوا أحسن عملاً.......................................... ٣٣٨

٣١ ـ أولئك لهم جنّات.................................................... ٣٣٨

٣٢ ـ وأضرب لهم مثلاً رجلين.............................................. ٣٤٠

٣٣ ـ كلنا الجنّتين آتت أكلها.............................................. ٣٤٠

٣٤ ـ وكان له ثمر......................................................... ٣٤١

٣٥ ـ ودخل جنّته وهو ظالم لنفسه.......................................... ٣٤١

٣٦ ـ وما أظن الساعة قائمة............................................... ٣٤١

٣٧ ـ قال له صاحبه...................................................... ٣٤٢

٣٨ ـ لكنا هو الله ربي..................................................... ٣٤٢

٣٩ و ٤٠ ـ ولولا إذ دخلت............................................... ٣٤٢

٤١ ـ أو يصبح ماؤها غوراً................................................. ٣٤٢

٤٢ ـ وأحيط بثمره........................................................ ٣٤٢

٤٣ ـ ولم تكن له فئة...................................................... ٣٤٣

٤٤ ـ هنالك الولاية لله الحق................................................ ٣٤٣

٤٥ ـ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا.......................................... ٣٤٣

٤٦ ـ المال والبنون زينة الحياة الدنيا.......................................... ٣٤٤

٤٧ ـ ويوم نسيّر الجبال.................................................... ٣٤٥

٤٨ ـ وعرضوا على ربك................................................... ٣٤٥

٤٩ ـ ووضع الكتاب...................................................... ٣٤٦

٥٠ ـ وإذ قلنا للملائكة................................................... ٣٤٧

٥١ ـ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض................................... ٣٤٧

٥٢ ـ ويوم يقول نادوا شركائي.............................................. ٣٤٧

٥٣ ـ ورأى المجرمون النار................................................... ٣٤٧

٥٤ ـ ولقد صرفنا في هذا القرآن............................................ ٣٤٨

٥٥ ـ وما منع الناس أن يؤمنوا.............................................. ٣٤٨

٥٦ ـ وما نرسل المرسلين................................................... ٣٤٨

٥٧ ـ ومن أظلم ممن ذكر بآیات ربه......................................... ٣٤٩

٥٨ و ٥٩ ـ وربک الغفور ذوالرحمة.......................................... ٣٤٩

٦٠ ـ وذ قال موسى لفتاة.................................................. ٣٥٠

٦١ ـ فلما بلغا مجمع بينهما................................................ ٣٥١

٦٢ ـ فلما جاوزا آتنا غدائنا................................................ ٣٥١

٦٣ ـ قال أرايت.......................................................... ٣٥١

٦٤ ـ قال ذلك ما كنا نبغ................................................. ٣٥١

٦٥ ـ فوجدا عبداً آتیناه رحمة............................................... ٣٥٢

٦٧ و ٦٨ ـ قال له موسى هل أتبعك....................................... ٣٥٣

٦٩ ـ قال ستجدني ان شاء الله صابراً........................................ ٣٥٣

٧٠ ـ قال فإن اتبعني فلا تسألني عن شيء................................... ٣٥٣

٧١ ـ فانطلقا حتى اذا ركبا في السفينة........................................ ٣٥٤

٧٢ و ٧٣ ـ قال ألم أقل أنّك لن تستطيع.................................... ٣٥٥

٧٤ ـ فانطلقا ، حتى إذا لقيا غلاماً.......................................... ٣٥٥

٧٥ و ٧٦ ـ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع................................ ٣٥٥

٧٧ ـ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية......................................... ٣٥٥

٧٨ ـ قال هذا فراق بيني وبينك............................................. ٣٥٦

٧٩ ـ أما السفينة فكانت لمساكين.......................................... ٣٥٧

٨٠ و ٨١ ـ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين................................... ٣٥٧

٨٢ ـ وأما لجدار فكان لغلامين يتيمين....................................... ٣٥٧

٨٣ ـ ويسألونك عن ذي القرنين........................................... ٣٥٩

٨٤ ـ إنّا مكّناه في الأرض.................................................. ٣٥٩

٨٥ و ٨٦ فأتبع سبباً..................................................... ٣٦٠

٨٧ و ٨٨ ـ قال أما من ظلم فسوف نعذبه.................................. ٣٦٠

٨٩ و ٩٠ ـ ثم اتبع سبباً.................................................. ٣٦١

٩١ ـ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً........................................ ٣٦٢

٩٢ و ٩٣ ـ ثم اتبع سبباً.................................................. ٣٦٢

٩٤ ـ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج................................... ٣٦٢

٩٥ ـ قال ما مكنّي فيه ربي خير............................................. ٣٦٣

٩٦ و ٩٧ ـ آتوني زبر الحديد.............................................. ٣٦٣

٩٨ ـ قال هذا رحمة من ربي................................................ ٣٦٣

٩٩ ـ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض..................................... ٣٦٤

١٠٠ ـ و ١٠١ ـ وعرضنا جهنم للكافرين يومئذ عرضاً......................... ٣٦٥

١٠٢ ـ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي.............................. ٣٦٦

١٠٣ ـ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً.................................... ٣٦٦

١٠٤ ـ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا.................................... ٣٦٦

١٠٥ ـ أولئك الذين كفروا بآیات ربهم ولقائه................................. ٣٦٧

١٠٦ ـ ذلك جزاؤهم جهنم................................................ ٣٦٧

١٠٧ و ١٠٨ ـ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات............................. ٣٦٨

١٠٩ ـ قل لو کان البحر مدادا لكلمات ربي................................. ٣٦٨

١١٠ ـ قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ..................................... ٣٦٩

سورة مريم.................................................................. ٣٧١

١ ـ كهيعص............................................................. ٣٧١

٢ ـ ذكر رحمة ربك عبده زكريا.............................................. ٣٧٢

٣ ـ إذ نادى ربه نداء خفيا................................................. ٣٧٢

٤ ـ رب إني وهن العظم مني................................................ ٣٧٣

٥ و ٦ ـ وإني خفت الموالي من ورائي........................................ ٣٧٣

٧ ـ يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى....................................... ٣٧٥

٨ ـ قال أنّي يكون في غلام................................................. ٣٧٦

٩ ـ قال كذلك هو علي هين............................................... ٣٧٦

١٠ ـ قال رب اجعل لي آية................................................ ٣٧٧

١١ ـ فخرج على قومه من المحراب........................................... ٣٧٧

١٢ ـ يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتیناه الحکم صبیأ............................ ٣٧٧

١٣ ـ وحناناٌ من لدنّا وزكاة وكان تقياً........................................ ٣٧٨

١٤ ـ وبرأ بوالديه ولم يكن جباراً عصياً....................................... ٣٧٨

١٥ ـ سلام عليه يوم ولد.................................................. ٣٧٨

١٦ و ١٧ ـ وإذكر في الكتاب مريم......................................... ٣٧٩

١٨ ـ قالت أنّي أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقياً............................. ٣٨٠

١٩ ـ قال إنّما أنا رسول ربك............................................... ٣٨٠

٢٠ و ٢١ ـ قالت أنّي يكون لي غلام....................................... ٣٨٠

٢٢ ـ فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً....................................... ٣٨٢

٢٣ و ٢٤ ـ فأجاءها المخاض الى جذع النخلة............................... ٣٨٢

٢٥ ـ وهزي إليك بجذع النخلة............................................. ٣٨٤

٢٦ ـ فكلي واشربي وقري عيناً.............................................. ٣٨٥

٢٧ و ٢٨ ـ فأتت به قومها تحمله.......................................... ٣٨٦

٢٩ ـ فأشارت إليه........................................................ ٣٨٦

٣٠ ـ قال أني عبد الله آتانی الکتاب........................................ ٣٨٧

٣١ ـ وجعلنی مبارکاً أينما كنت............................................. ٣٨٧

٣٢ ـ وبرأ بوالدتي ، ولم يجعلني جبّاراً شقياً.................................... ٣٨٧

٣٣ ـ والسلام علي يوم ولدت.............................................. ٣٨٧

٣٤ ـ ذلك عيسى بن مريم قول الحق........................................ ٣٨٨

٣٥ و ٣٦ ـ ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه............................. ٣٨٩

٣٧ ـ فاختلف الأحزاب من بينهم........................................... ٣٩٠

٣٨ ـ اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا............................................ ٣٩١

٣٩ ـ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر..................................... ٣٩١

٤٠ ـ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها........................................ ٣٩٢

٤١ ـ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً............................... ٣٩٣

٤٢ ـ إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع............................... ٣٩٣

٤٣ ـ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك.............................. ٣٩٣

٤٤ ـ يا أبت لاتعبد الشيطان.............................................. ٣٩٤

٤٥ ـ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب................................... ٣٩٤

٤٦ ـ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم................................... ٣٩٤

٤٧ ـ قال سلام عليك سأستغفر لك ربّي.................................... ٣٩٥

٤٨ ـ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله...................................... ٣٩٥

٤٩ ـ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله................................... ٣٩٦

٥٠ ـ ووهبنا لهم من رحمتنا................................................. ٣٩٦

٥١ ـ واذكر في الكتاب موسى إنّه كان ملخصاً............................... ٣٩٧

٥٢ ـ وناديناه من جانب الطور الأيمن....................................... ٣٩٨

٥٣ ـ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً.................................... ٣٩٨

٥٤ ـ واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق.............................. ٣٩٨

٥٥ ـ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة........................................ ٣٩٩

٥٦ و ٥٧ و ٥٨ ـ واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقاً................... ٤٠٠

٥٩ و ٦٠ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة.......................... ٤٠٢

٦١ و ٦٢ ـ جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب...................... ٤٠٢

٦٣ ـ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً............................ ٤٠٣

٦٤ ـ وما ننتزل إلاّ بأمر ربك............................................... ٤٠٤

٦٥ ـ رب السماوات والأرض وما بينهما..................................... ٤٠٥

٦٦ و ٦٧ ـ ويقول الإنسان إذا ما مت...................................... ٤٠٦

٦٨ و ٦٩ ـ فوربك لنحشرنهم والشياطين.................................... ٤٠٦

٧٠ ـ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً................................. ٤٠٦

٧١ ـ وإن منكم إلا واردها................................................. ٤٠٦

٧٢ ـ ثم ينجي الذين اقتوا.................................................. ٤٠٧

٧٣ ـ وإذا تتلى عليهم آیاتنا بینات.......................................... ٤٠٨

٧٤ ـ وکم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن.................................. ٤٠٨

٧٥ و ٧٦ ـ قل من كان في الضلالة........................................ ٤٠٩

٧٧ ـ أفرأيت الذي كفر بآیاتنا وقال لاوتين.................................. ٤٠٩

٧٨ و ٧٩ ـ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهداً........................... ٤١٠

٨٠ ـ ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً............................................. ٤١٠

٨١ ـ واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونو لهم عزاً................................. ٤١٠

٨٢ ـ کلا سیکفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً............................ ٤١١

٨٣ ـ ألم ترأنا أرسلنا الشياطين على الكافرين................................. ٤١١

٨٤ ـ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً...................................... ٤١١

٨٥ و ٨٦ ـ يوم نحشر المتّقين إلى الرحمان وفدا................................ ٤١٢

٨٧ ـ لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتّخذ عند................................... ٤١٢

٨٨ ـ وقالوا اتّخذ الرحمان ولداً............................................... ٤١٣

٨٩ و ٩٠ و ٩١ و ٩٢ ـ لقد جئتم شيئاً إدأ................................ ٤١٣

٩٣ و ٩٤ و ٩٥ ـ إن كل من في السماوات والأرض.......................... ٤١٥

٩٦ ـ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات...................................... ٤١٦

٩٧ ـ فإنما يسرنا بلسانك لنبشّر به المتّقين.................................... ٤١٣

٩٨ ـ وكم أهلكنا قبلهم من قرن............................................ ٤١٦

سورة طه.................................................................... ٤١٩

١ ـ طه.................................................................. ٤١٩

٢ ـ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى........................................... ٤١٩

٣ ـ إلا تذكرة لمن يخشى................................................... ٤٢٠

٤ ـ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى................................. ٤٢٠

٥ ـ الرحمن على العرش استوى.............................................. ٤٢٠

٦ ـ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما.............................. ٤٢٠

 ٧ ـ وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السر وأخفى................................. ٤٢١

٨ ـ الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى...................................... ٤٢١

٩ و ١٠ ـ وهل أتاك حديث موسى ، إذ رأى ناراً............................. ٤٢٢

١١ و ١٢ فلما أتاها نودي أن يا موسى.................................... ٤٢٢

١٣ ـ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى......................................... ٤٢٢

١٤ ـ إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا.............................................. ٤٢٢

١٥ ـ إن الساعة آتیة أكاد أخفيها.......................................... ٤٢٣

١٦ ـ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها...................................... ٤٢٤

١٧ ـ وما تلك بيمينك يا موسى............................................ ٤٢٤

١٨ ـ قال هي عصاي أتوكاً عليها........................................... ٤٢٥

١٩ و ٢٠ ـ قال ألقها يا موسى ، فألقاها................................... ٤٢٦

٢١ ـ قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى.............................. ٤٢٧

٢٢ ـ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء.................................. ٤٢٧

٢٣ ـ لنريك من آیاتنا الكبرى.............................................. ٤٢٧

٢٤ ـ إذهب إلى فرعون إنه طغى........................................... ٤٢٨

٢٥ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ ـ وأجعل لي وزيراً من أهلي........................... ٤٣٠

٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ ـ وأجعل لي وزيراً من أهلي........................... ٤٣٠

٣٣ و ٣٤ و ٣٥ ـ كي نسبحك كثيراً ونذكرك............................... ٤٣١

٣٦ ـ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى....................................... ٤٣٢

٣٧ و ٣٨ و ٣٩ ـ ولقد مننا عليك مرة أخرى............................... ٤٣٢

٤٠ ـ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم..................................... ٤٣٤

٤١ و ٤٢ ـ واصطنعتك لنفسي ، إذهب أنت وأخوك......................... ٤٣٥

٤٣ و ٤٤ ـ إذهبا إلى فرعون إنّه طغى...................................... ٤٣٦

٤٥ ـ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا...................................... ٤٣٨

٤٦ ـ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى.................................... ٤٣٩

٤٧ ـ فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك............................................ ٤٣٩

٤٨ ـ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى....................... ٤٣٩

٤٩ ـ قال فمن ربكما يا موسى............................................. ٤٤٠

٥٠ ـ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى........................... ٤٤٠

٥١ ـ قال ما بال القرون الأولى............................................. ٤٤١

٥٢ ـ قال علمها عند ربي في كتاب......................................... ٤٤١

٥٣ ـ الذي جعل لكم الأرض مهداً......................................... ٤٤١

٥٤ ـ كلوا وارعوا أنعامكم.................................................. ٤٤٢

٥٥ ـ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها..................................... ٤٤٢

٥٦ ـ ولقد أريناه آیاتنا کلها فکذب وأبى..................................... ٤٤٣

٥٧ ـ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى......................... ٤٤٣

٥٨ ـ فلنأتينك بسحر مثله................................................. ٤٤٣

٥٩ ـ قال موعدكم يوم الزينة............................................... ٤٤٤

٦٠ ـ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى....................................... ٤٤٥

٦١ ـ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً............................ ٤٤٥

٦٢ ـ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى.................................... ٤٤٥

٦٣ ـ قالوا إن هذان لساحران.............................................. ٤٤٥

٦٤ ـ فاجمعوا كيدكم ثم اتوا صفاً............................................ ٤٤٦

٦٥ ـ قالوا يا موسى إما أن تلقي............................................ ٤٤٦

٦٦ ـ قال بل القوا........................................................ ٤٤٧

٦٧ ـ فأوجس في نفسه خيفة موسى......................................... ٤٤٧

٦٨ ـ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى........................................ ٤٤٧

٦٩ ـ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا...................................... ٤٤٧

٧٠ ـ فألقي السحرة سجداً................................................ ٤٤٨

٧١ ـ قال امنتم له قبل أن أذن لكم......................................... ٤٤٩

٧٢ و ٧٣ ـ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.......................... ٤٤٩

٧٤ و ٧٥ و ٧٦ ـ إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم........................ ٤٥٠

٧٧ و ٧٨ و ٧٩ ـ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي.................... ٤٥١

٨٠ ـ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم.................................. ٤٥٣

٨١ ـ كلو من طيبات ما رزقناكم............................................ ٤٥٤

٨٢ ـ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاٌ................................. ٤٥٤

٨٣ ـ وما أعجلك عن قومك يا موسى...................................... ٤٥٥

٨٤ ـ قال هم أولاء على أثري.............................................. ٤٥٦

٨٥ ـ قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك...................................... ٤٥٦

٨٦ ـ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً.................................... ٤٥٦

٨٧ ـ قالوا ما أخلفنا موعدك............................................... ٤٥٧

٨٨ ـ فأخرج لهم عجلاً.................................................... ٤٥٧

٨٩ ـ أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً......................................... ٤٥٨

٩٠ ـ ولقد قال لهم هارون................................................. ٤٥٨

٩١ ـ قالوا لن نبرح عليه عاكفين............................................ ٤٥٩

٩٢ و ٩٣ ـ قال يا هارون ما منعك ........................................ ٤٦٠

٩٤ ـ قال يبئوم لا تاخذ بلحيتي............................................. ٤٦٠

٩٥ و ٩٦ ـ قال ما خطبك يا سامري....................................... ٤٦١

٩٧ ـ قال فاذهب فإن لك في الحياة......................................... ٤٦٢

٩٨ ـ إنما إلهکم الله....................................................... ٤٦٣

٩٩ و ١٠٠ و ١٠١ ـ وکذلك نقص عليك من أنباء......................... ٤٦٣

١٠٢ و ١٠٣ ـ يوم ينفخ في الصور......................................... ٤٦٤

١٠٤ ـ نحن أعلم بما يقولون................................................ ٤٦٤

١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ ـ ويسألونك عن الجبال............................... ٤٦٥

١٠٨ ـ يومئذ يتبعون الداعي............................................... ٤٦٥

١٠٩ ـ يومئذ لا تنفع الشفاعة............................................. ٤٦٦

١١٠ ـ يعلم ما بين أيديهم................................................ ٤٦٦

١١١ ـ وعنت الوجوه..................................................... ٤٦٦

١١٢ ـ ومن يعمل من الصالحات........................................... ٤٦٦

١١٣ ـ وكذلك أنزلناه قرآناً عربیاً............................................ ٤٦٧

١١٤ ـ فتعالى الله الملك الحق............................................... ٤٦٧

١١٥ ـ ولقد عهدنا إلى آدم................................................ ٤٦٨

١١٦ ـ وإذا قلنا للملائكة................................................. ٤٦٩

١١٧ ـ فقلنا يا آدم....................................................... ٤٦٩

١١٨ و ١١٩ ـ إن لك إلاّ تجوع فيها....................................... ٤٧٠

١٢٠ ـ فوسوس إليه الشيطان.............................................. ٤٧١

١٢١ ـ فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما...................................... ٤٧١

١٢٢ ـ ثم اجتباه ربه...................................................... ٤٧٢

١٢٣ ـ قال اهبطا منها جميعاً............................................... ٤٧٢

١٢٤ و ١٢٥ و ١٢٦ ـ ومن أعرض عن ذكري.............................. ٤٧٢

١٢٧ ـ وكذلك نجزي من أسرف............................................ ٤٧٣

١٢٨ ـ أفلم يهد لهم كم أهلكنا............................................ ٤٧٤

١٢٩ ـ ولولا كلمة سبقت من ربك......................................... ٤٧٤

١٣٠ ـ فاصبر على ما يقولون.............................................. ٤٧٥

١٣١ ـ ولا تمدن عينيك................................................... ٤٧٥

١٣٢ ـ وأمر أهلك بالصلاة................................................ ٤٧٥

١٣٣ ـ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه......................................... ٤٧٦

سورة الأنبياء................................................................ ٤٧٩

١ ـ اقترب للناس حسابهم.................................................. ٤٧٩

٢ و ٣ ـ ما يأتيهم من ذكر................................................ ٤٨٠

٤ ـ قال ربي يعلم القول.................................................... ٤٨١

٥ ـ بل قالوا أضغاث أحلام................................................ ٤٨١

٦ ـ ما آمنت قبلهم من قربة................................................ ٤٨١

٧ ـ وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالاً.............................................. ٤٨٢

٨ ـ وما جعلناهم جسداً................................................... ٤٨٢

٩ ـ ثم صدقناهم الوعد.................................................... ٤٨٢

١٠ ـ لقد أنزلنا إليكم كتاباً................................................ ٤٨٣

١١ ـ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة....................................... ٤٨٣

١٢ و ١٣ ـ فلما احسسوا بأسنا............................................ ٤٨٤

١٤ ـ قالوا يا ويلنا........................................................ ٤٨٤

١٥ ـ فلما زالت تلك دعواهم.............................................. ٤٨٤

١٦ و ١٧ ـ وماخلقنا السماء والأرض....................................... ٤٨٥

١٨ ـ بل نقذف بالحق على الباطل.......................................... ٤٨٦

١٩ و ٢٠ ـ وله من في السماوات والارض................................... ٤٨٦

٢١ ـ أم اتّخذوا آلهة....................................................... ٤٨٧

٢٢ ـ لو كان فيهما الهة إلاّ الله لفسدنا...................................... ٤٨٧

٢٣ ـ لا يُسأل عما يفعل.................................................. ٤٨٨

٢٤ ـ أم اتخذوا من دونه آلهة............................................... ٤٨٨

٢٥ ـ وما أرسلنا من قبلك من رسول........................................ ٤٨٩

٢٦ و ٢٧ ـ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً......................................... ٤٨٩

٢٨ ـ يعلم ما بين أيديهم.................................................. ٤٩٠

٢٩ ـ ومن يقل منهم إني إله................................................ ٤٩٠

٣٠ ـ أو لم ير الذين كفروا................................................. ٤٩١

٣١ ـ وجعلنا في الأرض رواسي............................................. ٤٩٢

٣٢ ـ وجعلنا السماء سقفاً................................................. ٤٩٢

٣٣ ـ وهو الذي خلق الليل والنهار.......................................... ٤٩٢

٣٤ ـ وما جعلنا لبشر الخلد................................................ ٤٩٤

٣٥ ـ کل نفس ذائقة الموت................................................ ٤٩٤

٣٦ ـ وإذا رآک الذين كفروا............................................... ٤٩٤

٣٧ ـ خلق الإنسان من عجل.............................................. ٤٩٦

٣٨ ـ ويقولون متى هذا الوعد.............................................. ٤٩٦

٣٩ ـ لو يعلم الذين كفروا.................................................. ٤٩٧

٤٠ ـ بل تأتيهم بغتة...................................................... ٤٩٧

٤١ ـ ولقد استهزئء برسل................................................. ٤٩٧

٤٢ ـ قل من يكلؤكم بالليل والنهار.......................................... ٤٩٨

٤٣ ـ ام هم آلهة تمنعهم من دوننا........................................... ٤٩٩

٤٤ ـ بل متّعنا هؤلاء وهؤلاء............................................... ٥٠٠

٤٥ ـ قل إنما أنذركم بالوحي............................................... ٥٠٠

٤٦ ـ ولئن مستهم نفحة من عذاب......................................... ٥٠٠

٤٧ ـ ونضع الموازين....................................................... ٥٠٠

٤٨ ـ ولقد آتینا موسى وهارون............................................. ٥٠١

٤٩ ـ الذين يخشون ربهم بالغيب............................................ ٥٠٢

٥٠ ـ وهذا ذكر مبارك أنزلناه............................................... ٥٠٢

٥١ ـ ولقد آتینا إبراهيم.................................................... ٥٠٣

٥٢ و ٥٣ و ٥٤ ـ إذ قال لأبيه............................................ ٥٠٣

٥٥ و ٥٦ ـ قالوا أجئتنا بالحق.............................................. ٥٠٤

٥٧ ـ وتالله لاكيدن أصنامكم.............................................. ٥٠٤

٥٨ ـ فجعلهم جذاذاً...................................................... ٥٠٥

٥٩ ـ و ٦٠ ـ قالوا من فعل هذا بآلهتنا....................................... ٥٠٥

٦١ ـ قالوا فاتوا به........................................................ ٥٠٦

٦٢ و ٦٣ ـ قالوا أأنت فعلت هذا.......................................... ٥٠٦

٦٤ ـ فرجعوا إلى أنفسهم.................................................. ٥٠٦

٦٥ ـ ثم نكسوا على رؤوسهم............................................... ٥٠٧

٦٦ و ٦٧ ـ أفتعبدون من دون الله.......................................... ٥٠٧

٦٨ ـ قالوا حرقوه وانصروا.................................................. ٥٠٨

٦٩ ـ قلنا يا نار كوني بردا.................................................. ٥٠٩

٧٠ ـ وأرادوا به كيداً...................................................... ٥٠٩

٧١ ـ ونجيناه ولوطاً............................................................

٧٢ و ٧٣ ـ ووهبنا له إسحاق ويعقوب...........................................

٧٤ ـ ولوطاً آتیناه حکماٌ.................................................. ٥١١

٧٥ ـ وأدخلناه في رحمتنا................................................... ٥١١

٧٦ ـ ونوحاً إذ نادى...................................................... ٥١٢

٧٧ ـ ونصرناه من القوم.................................................... ٥١٢

٧٨ ـ وداود وسليمان إذ يحكمان........................................... ٥١٣

٧٩ ـ ففهمناها سليمان.................................................... ٥١٤

٨٠ ـ وعلمناه صنعة لبوس................................................. ٥١٥

٨١ ـ ولسليمان الريح عاصفة.............................................. ٥١٧

٨٢ ـ ومن الشياطين من يغوصون له........................................ ٥١٧

٨٣ ـ وأيوب إذ نادى ربه.................................................. ٥١٨

٨٤ ـ فاستجبنا له وكشفنا ما به............................................ ٥١٨

٨٥ ـ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل.......................................... ٥١٩

٨٦ ـ وأدخلناهم فر رحمتنا................................................. ٥١٩

٨٧ و ٨٨ ـ وذا النون إذ ذهب............................................ ٥١٩

٨٩ ـ وزكريا إذ نادى ربه................................................... ٥٢١

٩٠ ـ فاستجبنا له........................................................ ٥٢١

٩١ ـ والتي أحصنت فرجها................................................ ٥٢٢

٩٢ ـ إن هذه أمتكم أمة واحدة............................................ ٥٢٣

٩٣ ـ وتقطعوا أمرهم بينهم................................................. ٥٢٣

٩٤ ـ فمن يعمل من الصالحات............................................. ٥٢٣

٩٥ ـ وحرام على قرية أهلكناها............................................. ٥٢٤

٩٦ ـ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج....................................... ٥٢٤

٩٧ ـ واقترب الوعد الحق................................................... ٥٢٥

٩٨ ـ إنكم وما تعبدون من دون الله......................................... ٥٢٥

٩٩ ـ لو كان هؤلاء آلهة................................................... ٥٢٥

١٠٠ ـ لهم فیها زفیر...................................................... ٥٢٥

١٠١ ـ ان الذين سبقت لهم منا الحسنى...................................... ٥٢٦

١٠٢ ـ لا يسمعون حسيسها.............................................. ٥٢٧

١٠٣ ـ لا يحزنهم الفزع الأكبر.............................................. ٥٢٧

١٠٤ ـ يوم نطوي السماء.................................................. ٥٢٧

١٠٥ و ١٠٦ ـ ولقد كتبنا في الزبور........................................ ٥٢٧

١٠٧ ـ وما أرسلناك إلاّ رحمة............................................... ٥٢٨

١٠٨ و ١٠٩ ـ قل إنما يوحى إليّ.......................................... ٥٢٩

١١٠ و ١١١ ـ إنه يلعم الجهر............................................. ٥٢٩

١١٢ ـ قل رب احكم بالحق............................................... ٥٢٩

الفهرس................................................................. ٥٣١

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ٤

المؤلف: الشيخ محمّد السبزواري النجفي
الصفحات: 563
  • المقدمة 5
  • سورة يوسف 7
  • 1 ـ الر تلك آیات الکتباب المبین 7
  • 2 ـ إنّا انزلنا قرآناً عربياً 7
  • 3 ـ نحن نقص عليك أحسن القصص 9
  • 4 ـ إذ قال يوسف ... يا أبت 12
  • 5 ـ قال يا بني لا تقصص رؤياك 12
  • 6 ـ وكذلك يجتبيك ربك 12
  • 7 ـ لقد كان في يوسف وإخوته آیات 13
  • 8 ـ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا 13
  • 9 ـ اقتلوا يوسف أو اطرحوه 14
  • 10 ـ قال قائل منهم 14
  • 11 ـ قالوا يا أبانا مالك لا تأمّنا على يوسف 15
  • 12 ـ ارسله معنا غداً يرتع ويلعب 15
  • 13 ـ قال إنّه ليحزنني أن تذهبوا به 16
  • 14 ـ قالوا لئن أكله الذئب 16
  • 15 ـ فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابه الجب 17
  • 16 ـ وجاؤوا أباهم عشاء يبكون 19
  • 17 ـ قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق 19
  • 18 ـ وجاؤوا على قميصه بدم كذب 20
  • 19 ـ جاءت سيارة فأرسلوا واردهم 21
  • 20 ـ وشروه بثمن بخس 22
  • 21 ـ وقال الذي اشتراه من مصر 22
  • 22 ـ ولما بلغ أشده آتیناه حکماً 23
  • 23 ـ ورواودته التي هو في بيتها عن نفسه 25
  • 24 ـ ولقد همّت به وهمّ بها 26
  • 25 ـ واستبقا الباب ، وقدّمت قميصه 27
  • 26 ـ قال هي راودتني عن نفسي 28
  • 27 ـ وإن كان قميصه قدّ من دبر 29
  • 28 ـ فلما رأى قميصه قدّ من دبر 29
  • 29 ـ يوسف اعرض عن هذا 30
  • 30 ـ وقال نسوة في المدينة 31
  • 31 ـ فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهنّ 32
  • 32 ـ قالت فذلكن الذي لمتني فيه 33
  • 33 ـ قال ربّ السجن أحب إليّ 35
  • 34 ـ فاستحاب له ربه 35
  • 35 ـ ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآیات 36
  • 36 ـ ودخل معه السجن فتيان 37
  • 37 ـ قال لا يأتيكما طعام ترزقاته 39
  • 38 ـ واتبعت ملة آبائي 39
  • 39 ـ يا صاحبي السجن أأرباب 40
  • 40 ـ ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء 41
  • 41 ـ يا صاحبي السجن 41
  • 42 ـ وقال للذي ظنّ أنّه ناجٍ منهما 42
  • 43 ـ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان 44
  • 44 ـ قالوا أضغاث أحلام 45
  • 45 ـ وقال الذب نجا منهما 46
  • 46 ـ يوسف أيّها الصدّيق أفتنا 46
  • 47 ـ قال تزروعون سبع سنين 47
  • 48 ـ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد 47
  • 49 ـ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس 47
  • 50 ـ وقال الملك انتوني به 49
  • 51 ـ قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه 50
  • 52 ـ ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب 50
  • 53 ـ وما ابرىء نفسي 50
  • 54 ـ وقال الملك انتوني به استخلصه لنفسي 51
  • 55 ـ قال اجعلني على خزائن الأرض 52
  • 56 ـ وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض 53
  • 57 ـ ولاجر الآخرة أكير 54
  • 58 ـ وجاء أخوة يوسف فدخلوا عليه 55
  • 59 ـ ولما جهزهم بجهازهم 55
  • 60 ـ فإن لم تأنوني 56
  • 61 ـ قالوا سنراود عنه أباه 56
  • 62 ـ وقال لقيانه اجعلوا 56
  • 63 ـ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا 58
  • 64 ـ قال هل آمنکم علیه 58
  • 65 ـ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم 59
  • 66 ـ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً 60
  • 67 ـ وقال يا بنيّ لا تدخلوا من باب واحد 61
  • 68 ـ ولما دخلوا من حيث امرهم أبوهم 62
  • 69 ـ ولما دخلوا على يوسف آوی إليه أخاه 62
  • 70 ـ فما جهّزهم بجهازهم 64
  • 71 ـ قالوا وأقبلوا عليهم 65
  • 72 ـ قالوا نفقد صواع الملك 65
  • 73 ـ قالوا تالله لقد علمتم 66
  • 74 ـ قالوا قما جزاءه إن كنتم كاذبين 66
  • 75 ـ قالوا جزاؤه من وجد في رحله 66
  • 76 ـ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه 67
  • 77 ـ قالوا إنّ يسرق فقد سرق أخ له 69
  • 78 ـ قالوا يا أيّها العزيز 69
  • 79 ـ قال معاذ الله أن نأخذ الإّ من وجدنا 69
  • 80 ـ فلما استيشوا منه خلصوا نجيّاً 70
  • 81 ـ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا 71
  • 82 ـ وأسأل القربة التي كنّا فيها 71
  • 83 ـ قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً 72
  • 84 ـ وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف 72
  • 85 ـ قالو تالله تفتاً تذكر يوسف 73
  • 86 ـ قال إنّما اشكو ... إلى الله 73
  • 87 ـ يا بني اذهبوا فتحسوا من يوسف وأخيه 74
  • 88 ـ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيّها العزيز 76
  • 89 ـ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه 77
  • 90 ـ قالوا أنك لأنت يوسف 79
  • 91 ـ قالو تالله لقد أثرك الله علينا 79
  • 92 ـ لا تثريب عليكم اليوم 80
  • 93 ـ اذهبوا بقميصي هذا فالقوه 81
  • 94 ـ ولما فصلت العبر قال الوهم 82
  • 95 ـ قالو تالله إنّك لفي ضلالك القديم 83
  • 96 ـ فلما أن جاءه البشير 83
  • 97 ـ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا 84
  • 98 ـ قال سوف أستغفر لكم ربي 84
  • 99 ـ فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه 86
  • 100 ـ ورفع أبويه على العرش 87
  • 101 ـ ربّ قد آتیتنی من الملك 89
  • 102 ـ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك 94
  • 103 ـ وما أكثر الناس 95
  • 104 ـ وما تسألهم من أجر 95
  • 105 ـ وكأين من آیة في السماوات والأرض 95
  • 106 ـ وما يؤمن أكثرهم بالله 96
  • 107 ـ أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله 96
  • 108 ـ قل هذه سبيلي 96
  • 109 ـ وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً 97
  • 110 ـ حتى إذا استيأس الرسل 98
  • 111 ـ لقد كان في قصصهم عبرة 99
  • سورة الرعد 101
  • 1 ـ ألر ، تلك آیات الکتاب 101
  • 2 ـ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ثروتها 102
  • 3 ـ وهو الذي مد الارض 104
  • 4 ـ وفي الارض قطع متجاورات 105
  • 5 ـ وإن تعجب فعجب قولهم 107
  • 6 ـ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة 107
  • 7 ـ ويقول الذي كفروا لولا أنزل عليه آیة 108
  • 8 ـ الله يعلم ما تحمل كل أنثى 110
  • 9 ـ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال 111
  • 10 ـ سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به 111
  • 11 ـ له معقبات من بين يديه ومن خلفه 112
  • 12 ـ هو الذي يربكم البرق خوفاً وطمعاً 113
  • 13 ـ ويسبح الرعد بحمده والملائكه 113
  • 14 ـ له دعوة الحق 116
  • 15 ـ ولله يسجد من في السماوات والأرض 118
  • 16 ـ قل من رب السماوات والارض 120
  • 17 ـ أنزل من السماء ماء 121
  • 18 ـ للذين استجابوا لربهم الحسنى 122
  • 19 ـ أفمن يعلم ... كمن هو أعمى 123
  • 20 ـ الذين يوفون بعهد الله 123
  • 21 ـ والذين يصلون ما أمر الله به 123
  • 22 ـ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم 123
  • 23 ـ جنات وعدن يدخلونها 124
  • 24 ـ سلام عليكم بما صبرتم 124
  • 25 ـ والذين ينقضون عهد الله 125
  • 26 ـ الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر 125
  • 27 ـ ويقول الذين كفروا 126
  • 28 ـ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم 126
  • 29 ـ الذين آمنوا طوبى لهم 127
  • 30 ـ كذلك أرسلناك 128
  • 31 ـ ولو أن قرآناً سیرت به الجبال 129
  • 32 ـ ولقد استهزىء فأمليت للذين كفروا 130
  • 33 ـ أفمن هو قائم على كل نفس 130
  • 34 ـ لهم عذاب في الحياة الدنيا 131
  • 35 ـ مثل الجنّة التي وعد المتّقون 131
  • 36 ـ والذين آتیناهم الکتاب 131
  • 37 ـ وکذلك أنزلنا حكماً عربياً 132
  • 38 ـ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك 133
  • 39 ـ يمحو اللهما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب 133
  • 40 ـ وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم 134
  • 41 ـ او لم يروا أنا نأتي الأرض 135
  • 42 ـ وقد مكر الذين من قبلهم 136
  • 43 ـ ويقول الذين كفروا لست مرسلاً 136
  • سورة إبراهيم
  • 1 ـ ألر كتاب أنزلناه إليك 137
  • 2 ـ الله الذي له ما في السماوات 138
  • 3 ـ الذين يستحيون الحياة الدنيا 138
  • 4 ـ وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه 138
  • 5 ـ ولقد أرسلنا موسى بآیتنا 140
  • 6 ـ واذ قال موسى لقومه 140
  • 7 ـ وإذ تأذن ربكم 141
  • 8 ـ وقال موسى ان تكفروا 141
  • 9 ـ الم يأتكم نبأ الذين من قبلكم 142
  • 10 ـ قالت رسلهم أفي الله شك 143
  • 11 ـ قالت لهم رسلهم 143
  • 12 ـ وما لنا الا نتوكل على الله 143
  • 13 ـ وقال الذين كفروا لرسلهم 144
  • 14 ـ ولنسكننكم الأرض من بعدهم 144
  • 15 ـ واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد 145
  • 16 ـ من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد 145
  • 17 ـ يتجرعه ولا يكاد بسيفه 145
  • 18 ـ مثل الذين كفروا بربهم 146
  • 19 ـ ألم ترأن الله خلق السماوات 146
  • 20 ـ وما ذلك على الله بعزيز 146
  • 21 ـ وبرزوا لله جميعاً 147
  • 22 ـ وقال الشيطان لما قضي الأمر 148
  • 23 ـ وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات 149
  • 24 ـ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً 149
  • 25 ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها 150
  • 26 ـ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة 150
  • 27 ـ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت 150
  • 28 ـ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً 151
  • 29 ـ جهنم يصلونها 151
  • 30 ـ وجعلوا لله أنداداً 151
  • 31 ـ قل لعبادي الذين آمنوا 152
  • 32 ـ الله الذي خلق السماوات والأرض 153
  • 33 ـ وسخّر لكم الشمس والقمر 153
  • 34 ـ وآتاکم من کل ما سألتموه 153
  • 35 ـ وإذ قال إبراهیم 155
  • 36 ـ رب النهنّ أضللن كثيراً من الناس 158
  • 37 ـ ربنا إني أسكنت من ذرّيتي 160
  • 38 ـ ربنا أنّك تعلم ما نخفي ما نعلن 162
  • 39 ـ الحمد لله الذي وهب لي 163
  • 40 ـ رب اجعلني مقيم الصلاة 163
  • 41 ـ ربنا اغفرلي ولوالديّ 163
  • 42 ـ ولا تحسبنّ الله غافلاً 164
  • 43 ـ مهطعين مقنعي رؤوسهم 164
  • 44 ـ وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب 165
  • 45 ـ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم 165
  • 46 ـ وقد مكروا مكرهم 165
  • 47 ـ فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله 166
  • 48 ـ يوم تبدل الارض غير الارض 166
  • 49 ـ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد 167
  • 50 ـ سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار 167
  • سورة الحجر
  • 1 ـ ألر ، تلك آیات الکتاب 168
  • 2 ـ ربما یود الذين كفروا لو كانوا مسلمين 170
  • 3 ـ ذرهم يأكلوا 170
  • 4 ـ وما أهلكنا من قرية 170
  • 5 ـ ما تسبق من أمّة أجلها 171
  • 6 ـ وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر 171
  • 7 ـ لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين 171
  • 8 ـ ما ننزل الملائكة إلاّ بالحقّ 171
  • 9 ـ إنّأ نحن نزلنا الذكر وإنّا لحافظون 172
  • 10 ـ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع 172
  • 11 ـ وما يأتيهم من رسول 173
  • 12 ـ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين 173
  • 13 ـ لا يؤمنون به 173
  • 14 ـ ولو فتحنا عليهم باباً 173
  • 15 ـ لقالوا إنّما سكرت أبصارنا 173
  • 16 ـ ولقد جعلنا في السماء بروجاً 174
  • 17 ـ وحفظناها من كل شيطان 175
  • 18 ـ إلاّ من استرق السمع 176
  • 19 ـ والارض مددناها 176
  • 20 ـ وجعلنا لكم فيها معايش 176
  • 21 ـ وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه 177
  • 22 ـ وأرسلنا الرياح لواقح 177
  • 23 ـ وإنّا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون 178
  • 24 ـ ولقد علمنا المستقدمين منكم 179
  • 25 ـ وإنّ ربك هو يحشرهم 179
  • 26 ـ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال 180
  • 27 ـ والجان خلقناه من قبل 180
  • 28 ـ وإذ قال ربك للملائكة 181
  • 29 ـ فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي 181
  • 30 ـ فسجد الملائكة كلّهم أجمعون 182
  • 31 ـ إلاّ إبليس أبي أن يكون مع الساجدين 182
  • 32 ـ قال يا إبليس مالك 183
  • 33 ـ قال لم أكن لأسجد لبشر 183
  • 34 ـ قال فاخرج منها 183
  • 35 ـ وإن عليك اللعنة 183
  • 36 ـ قال رب فانظرني 183
  • 37 ـ و 38 ـ قال فإنك من المنظرين 183
  • 39 و 40 ـ قال رب لما أغويتني 184
  • 41 ـ قال هذا صراط علي مستقيم 185
  • 42 ـ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان 185
  • 43 و 44 ـ وإن جهنم لموعدهم أجمعين 185
  • 45 و 46 ـ إن المتقين في جنات وعيون 186
  • 47 ـ ونزعنا ما في صدورهم من غل 186
  • 48 و 49 و 50 ـ لا يمسهم فيها نصب 186
  • 51 ـ ونبثهم عن ضيف إبراهيم 187
  • 52 ـ اذ دخلوا عليه 187
  • 53 ـ قالوا لا توجل إنّا نبشّرك 187
  • 54 ـ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر 187
  • 55 ـ قالوا بشرناك بالحق 188
  • 56 ـ قال ومن يقنط من رحمه ربّه إلاّ الضالون 188
  • 57 و 58 ـ قال فيما خطبكم أيها المرسلون 188
  • 59 و 60 إلاّ آل لوط 188
  • 61 و 62 فلما جاء آل لوط 189
  • 63 و 64 ـ قالوا بل جئناك 189
  • 65 ـ فأسر بأهلك بقطع من الليل 189
  • 66 ـ وقضينا إليه ذلك الأمر 190
  • 67 ـ وجاء أهل المدينة 190
  • 68 و 69 ـ قال هؤلاء ضيفي 191
  • 70 ـ قالوا ألم ننهك عن العالمين 191
  • 71 ـ قال هؤلاء بناتي 191
  • 72 ـ لعمرك إنّهم في سكرتهم 191
  • 73 ـ فأخذتهم الصيحة 191
  • 74 ـ فجعلنا عاليها سافلها 191
  • 75 و 76 ـ إن في ذلك لآیات للمنوسمین 192
  • 77 ـ إن في ذلك لآية للمؤمنين 193
  • 78 و 79 ـ وإن كان أصحاب الأيكة 193
  • 80 ـ ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين 194
  • 81 ـ وآتیناهم آیاتنا 195
  • 82 ـ وکانوا ینحتون من الجبال بیوتاٌ 195
  • 83 ـ فآخذتهم الصيحة مصبحين 195
  • 84 ـ فما أغنى عنهم ما كانوا 196
  • 85 ـ وما خلقنا السماوات 197
  • 86 ـ إن ربّك هو الخلاق 197
  • 87 ـ ولقد آتیناک سبعاٌ من المثانی 198
  • 88 ـ لا تمدن عينيك 199
  • 89 ـ وقل إني النذير المبين 199
  • 90 و 91 ـ كما أنزلنا عل المقتسمين 200
  • 92 ـ 93 ـ فوربك لنسألنهم 201
  • 94 و 95 فاصدع بما تؤمر 201
  • 96 ـ الذين جعلوا مع الله إلهاً آخر 201
  • 97 الى 99 ولقد نعلم أنك يضيق صدرك 202
  • سورة النحل 203
  • 1 ـ أتى أمر الله 203
  • 2 ـ ينزل الملائكة بالروح من أمره 203
  • 3 ـ خلق السماوات والآرض 204
  • 4 ـ خلق الإنسان من نطفة 205
  • 5 ـ والأنعام خلقها 205
  • 6 ـ ولكم فيها جمال 205
  • 7 ـ وتحمل أثقالكم إلى بلد 206
  • 8 ـ والخيل والبغال والحمير 206
  • 9 ـ وعلى الله قصد السبيل 207
  • 10 ـ وأنزل لكم من السماء 207
  • 11 ـ ينبت لكم به الزرع 208
  • 12 ـ وسخّر لكم الليل 208
  • 13 ـ وما ذراُ لكم 209
  • 14 ـ وهو الذي سخّر البحر 210
  • 15 ـ وألقى في الأرض رواسي 211
  • 16 ـ وعلامات وبالنجم هم يهتدون 212
  • 17 ـ أفمن يخلق كمن لا يخلق 213
  • 18 ـ وإنّ تعدوا نعمة الله لا تحصوها 214
  • 19 ـ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون 214
  • 20 ـ والذين تدعون من دون الله 214
  • 21 ـ أموات غير أحياء 215
  • 22 ـ إلهكم إله واحد 215
  • 23 ـ لا جرم أن الله يعلم 216
  • 24 ـ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم 218
  • 25 ـ ليحملوا أوزارهم كاملة 218
  • 26 ـ قد مكر الذين من قبلهم 219
  • 27 ـ ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول 220
  • 28 ـ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم 221
  • 29 ـ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها 221
  • 30 ـ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم 222
  • 31 ـ جنات عدن يدخلونها 222
  • 32 ـ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين 222
  • 33 ـ هل ينظرون إلا 223
  • 34 ـ فأصابهم سيئات ما عملوا 224
  • 35 ـ وقال الذين أشركوا 224
  • 36 ـ ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً 224
  • 37 ـ ان تحرص على هداهم 225
  • 38 ـ وأقسموا بالله جهد أيمانهم 225
  • 39 ـ ليبين لهم الذين يختلفون فيه 226
  • 40 ـ إنما قولنا لشيء إذا أردناه 226
  • 41 ـ والذين هاجروا في الله 227
  • 42 ـ الذين صبروا 227
  • 43 ـ وما أرسلنا من قبلك 227
  • 44 ـ بالبيتات والزبر 227
  • 45 ـ أفأمن الذبن مكروا 228
  • 46 ـ أو يأخذهم 228
  • 47 ـ أو يأخذهم على تخوف 229
  • 48 ـ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء 229
  • 49 ـ ولله يسجد ما في السماوات 229
  • 50 ـ يخافون ربهم من فوقهم 230
  • 51 ـ وقال الله لا تتخذوا إلهين إثنين 231
  • 52 ـ وله الدين واصباً 231
  • 53 ـ ومابكم من نعمة فمن الله 231
  • 54 ـ ثم إذا كشق عنكم الضر 231
  • 55 ـ ليكفروا بما آتیناهم 232
  • 56 ـ ویجعلون لما لا یعلمون 232
  • 57 ـ ویجعلون لله البنات 232
  • 58 ـ واذا بشر أحدهم بالانثى 232
  • 59 ـ يتواري من القوم 232
  • 60 ـ للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء 233
  • 61 ـ ولو يؤأخذ الله الناس بظلمهم 234
  • 62 ـ ويجعلون لله ما يكرهون 234
  • 63 ـ تالله لقد ارسلنا الى امم 235
  • 64 ـ وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ 235
  • 65 ـ والله انزل من السماء ماء 236
  • 66 ـ وان لكم في الأنعام لعبرة 236
  • 67 ـ ومن ثمرات النخيل 237
  • 68 ـ وأوحى ربك إلى النحل 237
  • 69 ـ ثم كلي من كل الثمرات 238
  • 70 ـ والله خلقكم ثم يتوفاكم 241
  • 71 ـ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق 242
  • 72 ـ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً 242
  • 73 ـ ويعبدون من دون الله 244
  • 74 ـ فلا تضربوا لله الأمثال 244
  • 75 ـ ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً 244
  • 76 ـ وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم 245
  • 77 ـ ولله غيب السماوات والأرض 246
  • 78 ـ والله أخرجكم من بطون امّهاتكم 246
  • 79 ـ ألم يروا إلى الطير 247
  • 80 ـ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً 247
  • 81 ـ والله جعل لكم مما خلق ظلالاً 248
  • 82 ـ فإن تولوا فإنّما عليك البلاغ المبين 248
  • 83 ـ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها 249
  • 84 ـ يعرفون نعمة الله ثمن ينكرونها 249
  • 85 ـ واذا رأى الذين ظلموا العذاب 249
  • 86 ـ واذا رأى الذين اشركوا شركاءهم 250
  • 87 ـ وألقوا إلى الله يومئذ السلم 250
  • 88 ـ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله 250
  • 89 ـ ويوم نبعث في كل أمّة شهيداً 251
  • 90 ـ إن الله يأمر بالعدل والإحسان 251
  • 91 ـ وأوفوا بعهد الله 252
  • 92 ـ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها 252
  • 93 ـ ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة 253
  • 94 ـ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً 254
  • 95 ـ ولا تشتروا بعهدالله 254
  • 96 ـ ما عندكم ينفد 254
  • 97 ـ من عمل صالحاً 254
  • 98 ـ وإذا قرأت القرآن فاستعذبالله 255
  • 99 ـ إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا 256
  • 100 ـ إنّما سلطانه على الذين يتولونه 256
  • 101 ـ وإذا بدلنا آية مكان آية 257
  • 102 ـ قل نزله روح القدس 257
  • 103 ـ ولقد نعلم أنّهم یقولون 257
  • 104 ـ إن الذين لا يؤمنون بآیات الله 258
  • 105 ـ إنّما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون 258
  • 106 ـ من كفر بالله من بعد إيمانه 259
  • 107 ـ ذلك بأنّهم استحبوا الحياة الدنيا 259
  • 108 ـ اولئك الذين طبع اللهعلى قلوبهم 259
  • 109 ـ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون 259
  • 110 ـ ثم إنّ ربك للذين هاجروا 260
  • 111 ـ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها 260
  • 112 ـ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة 261
  • 113 ـ ولقد جاءهم رسول منهم فكذّبوه 262
  • 114 ـ فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً 262
  • 115 ـ إنّما حرم عليكم ... وما أهل لغير الله به 263
  • 116 ـ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم 263
  • 117 ـ متاع قليل ولهم عذاب أليم 263
  • 118 ـ وعلى الذين هادوا 264
  • 119 ـ ثم إنّ ربك للذين عملوا السوء بجهالة 264
  • 120 ـ إن إبراهيم كان أمة 264
  • 121 ـ شاكراً لأنعمه 265
  • 123 ـ ثم أوحينا إليك 265
  • 124 ـ انما جعل السبت 266
  • 125 ـ ادع الى سبيل ربك 266
  • 126 ـ وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم 267
  • 127 ـ واصبر وما صبرك إلاّ اتّقوا 268
  • سورة الإسراء 269
  • 1 ـ سبحان الذي أسرى بعبده 269
  • 2 ـ وآتینا موسد الکتاب 270
  • 3 ـ ذوية من حملنا مع نوح 270
  • 4 ـ وقضينا إلى بني إسرائيل 271
  • 5 ـ فإذا جاء وعد أوليهما 272
  • 6 ـ ثم رددنا لكم الكرّة 273
  • 7 ـ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها 273
  • 8 ـ عسى ربكم أن يرحمكم 274
  • 9 ـ إن هذا القرآن 274
  • 10 ـ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة 274
  • 11 ـ ويدع الإنسان بالشرّ دعاء بالخير 274
  • 12 ـ وجعلنا الليل والنهارآیتین 275
  • 13 و 14 ـ وکل ؛نسان ألزمناه 276
  • 15 ـ من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه 277
  • 16 ـ وإذا أردنا أن نهلك قرية 278
  • 17 ـ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح 278
  • 18 ـ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء 279
  • 19 ـ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها 279
  • 20 ـ كلا نمد هؤلاء هؤلاء 279
  • 21 ـ انظر كيف فصلنا بعضهم على بعض 279
  • 22 ـ لا تجعل مع الله إلها آخر 280
  • 23 ـ وقضى ربك 280
  • 24 ـ واخفض لهما جناح الذل 282
  • 25 ـ ربكم أعلم فأنه كان للأوايين 282
  • 26 ـ وآت ذا القربى حقه 283
  • 27 ـ إن المبذرين كانوا 283
  • 28 ـ وإما تعرضن عنهم 283
  • 29 ـ ولاتجعل يدك مغلولة 284
  • 30 ـ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء 284
  • 31 ـ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق 285
  • 33 ـ ولا تقربوا الزنى 286
  • 33 ـ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله 286
  • 34 ـ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن 286
  • 35 ـ وأوفوا الكيل 286
  • 36 ـ ولا تقف ما ليس لك به علم 287
  • 37 ـ ولا تمش في الأرض مرحاً 288
  • 38 ـ كل ذلك كان سئية 288
  • 39 ـ ذلك مما أوحى إليك ربك 288
  • 40 ـ أفاصفاكم ربكم بالبنين 289
  • 41 ـ ولقد صرفنا في هذا القرآن من کل مثل 289
  • 42 ـ قل لو كان معه آلهة 290
  • 43 ـ سبحانه وتعالى عما يقولون 290
  • 44 ـ تسبح له السماوات السبع والأرض 290
  • 45 ـ وإذا قرأت القرآن 291
  • 46 ـ وجعلنا علد قلوبهم آکنة 292
  • 47 ـ نحن أعلم بما يستمعون به 292
  • 48 ـ انظر كيف ضربوا لك الأمثال 293
  • 49 ـ وقالوا إذا كنا عظاما 293
  • 50 ـ قل كونوا حجارة 294
  • 51 ـ أو خلقاً مما يكبر 294
  • 52 ـ يوم يدعوكم 295
  • 53 ـ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن 296
  • 54 ـ ربكم أعلم بكم 296
  • 55 ـ وربك أعلم بمن 297
  • 56 ـ قل ادعوا الذين زعمتم 298
  • 57 ـ أولئك الذين يدعون 298
  • 58 ـ وإن من قرية إلاّ نحن معذّبوها 298
  • 59 ـ ما منعنا أن نرسل بالآیات 299
  • 60 ـ وإذا قلنا لك إن ربك أحاط 299
  • 61 ـ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لأدم 301
  • 62 ـ قال أرايتك هذا الذي كرمت عليّ 301
  • 63 ـ قال اذهب 301
  • 64 ـ واستفزز من استطعت منهم 302
  • 65 ـ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان 302
  • 66 ـ ربكم الذي يزجي لكم الفلك 303
  • 67 ـ وإذا مسّكم الضر 303
  • 68 ـ أفأمنتم أن يخسف بكم 303
  • 69 ـ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى 304
  • 70 ـ ولقد كرمنا بني آدم 304
  • 71 ـ يوم ندعو كل أناس بإمامهم 305
  • 72 ـ ومن كان في هذه أعمى 305
  • 73 ـ وان كادوا ليفتنونك 306
  • 74 ـ ولولا أن ثبتناك 306
  • 75 ـ إذا لاذقناك ضعف 306
  • 76 ـ وإن كادوا ليستفزونك 307
  • 77 ـ سنة من قد أرسلنا قبلك 307
  • 78 ـ أقم الصلاة لدلولك الشمس 308
  • 79 ـ ومن الليل فتهجد به 308
  • 80 ـ وقل رب أدخلني مدخل صدق 309
  • 81 ـ وقل جاء الحق وزهق الباطل 310
  • 82 ـ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة 310
  • 83 ـ وإذا أنعمنا على الإنسان 310
  • 84 ـ قل كل يعمل على شاكلته 311
  • 85 ـ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي 312
  • 86 و 87 ـ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك 312
  • 88 ـ قل لو اجتمعت الإنس والجن 313
  • 89 ـ ولقد صرفنا 313
  • 90 ـ وقالوا لن نؤمن لك 314
  • 91 ـ أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب 314
  • 92 ـ أوتسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً 314
  • 93 ـ أو يكون لك بيت من زخرف 314
  • 94 ـ وما منع الناس أن يؤمنوا 316
  • 95 ـ قل كفى بالله شهيداً 317
  • 96 ـ قل كفى بالله شهيداً 317
  • 97 ـ من يهد الله فهو المتهدي 317
  • 98 ـ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا 317
  • 99 ـ أو لم يروا أن الله الذي خلق 318
  • 100 ـ قل لو أنتم تملكون 318
  • 101 ـ ولقد آتینا موسى تسع آیات بینات 319
  • 102 ـ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء 319
  • 103 ـ فأراد أن يستفزهم من الأرض 320
  • 104 ـ وقلنا من بعده اسكنوا الأرض 320
  • 105 ـ وبالحق أنزلناه 320
  • 106 ـ أو قرآناً فرقناه 320
  • 107 ـ قل امنوا به أو لا تؤمنوا 321
  • 108 ـ ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد 321
  • 109 ـ ويخرون للأذقان ويزيدهم خشوعاً 321
  • 110 ـ قل ادعو الله أو ادعوا الرحمان 322
  • 111 ـ وقل الحمدلله 322
  • سورة الكهف 323
  • 1 ـ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب 323
  • 2 و 3 و 4 ـ قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه 324
  • 5 ـ ما لهم به من علم 324
  • 6 ـ فلعلك باخع نفسك 324
  • 7 ـ أنّا جعلنا ما على الأرض 325
  • 8 ـ وأنّا لجاعلون صعيداً جرزاً 325
  • 9 ـ أم حسبت أن أصحاب الكهف 325
  • 10 ـ إذ أوى الفتية إلى الكهف 326
  • 11 ـ فضربنا على آذانهم 326
  • 12 ـ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين 327
  • 13 ـ نحن نقص عليك نبأهم بالحق 328
  • 14 ـ وربطنا على قلوبهم 328
  • 15 ـ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونة آلهة 328
  • 16 ـ وإذ اعتزلتموهم 329
  • 17 ـ وترى الشمس إذا طلعت 329
  • 18 ـ وتحسبهم أيقاظاً 330
  • 19 ـ وكذلك بعثناهم 331
  • 20 ـ إنهم إن يظهروا عليكم 332
  • 21 ـ وكذلك أعثرنا عليهم 332
  • 22 ـ سيقولون ثلاثة 334
  • 23 ـ و 24 ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً 335
  • 25 ـ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين 335
  • 26 ـ قل الله أعلم بما لبثوا 336
  • 27 ـ واتل ما اوحي إليك من كتاب ربك 337
  • 28 ـ واصبر نفسك 337
  • 29 ـ وقل الحق من ربكم 337
  • 30 ـ إن الذين آمنوا أحسن عملاً 338
  • 31 ـ أولئك لهم جنّات 338
  • 32 ـ وأضرب لهم مثلاً رجلين 340
  • 33 ـ كلنا الجنّتين آتت أكلها 340
  • 34 ـ وكان له ثمر 341
  • 35 ـ ودخل جنّته وهو ظالم لنفسه 341
  • 36 ـ وما أظن الساعة قائمة 341
  • 37 ـ قال له صاحبه 342
  • 38 ـ لكنا هو الله ربي 342
  • 39 و 40 ـ ولولا إذ دخلت 342
  • 41 ـ أو يصبح ماؤها غوراً 342
  • 42 ـ وأحيط بثمره 342
  • 43 ـ ولم تكن له فئة 343
  • 44 ـ هنالك الولاية لله الحق 343
  • 45 ـ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا 343
  • 46 ـ المال والبنون زينة الحياة الدنيا 344
  • 47 ـ ويوم نسيّر الجبال 345
  • 48 ـ وعرضوا على ربك 345
  • 49 ـ ووضع الكتاب 346
  • 50 ـ وإذ قلنا للملائكة 347
  • 51 ـ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض 347
  • 52 ـ ويوم يقول نادوا شركائي 347
  • 53 ـ ورأى المجرمون النار 347
  • 54 ـ ولقد صرفنا في هذا القرآن 348
  • 55 ـ وما منع الناس أن يؤمنوا 348
  • 56 ـ وما نرسل المرسلين 348
  • 57 ـ ومن أظلم ممن ذكر بآیات ربه 349
  • 58 و 59 ـ وربک الغفور ذوالرحمة 349
  • 60 ـ وذ قال موسى لفتاة 350
  • 61 ـ فلما بلغا مجمع بينهما 351
  • 62 ـ فلما جاوزا آتنا غدائنا 351
  • 63 ـ قال أرايت 351
  • 64 ـ قال ذلك ما كنا نبغ 351
  • 65 ـ فوجدا عبداً آتیناه رحمة 352
  • 67 و 68 ـ قال له موسى هل أتبعك 353
  • 69 ـ قال ستجدني ان شاء الله صابراً 353
  • 70 ـ قال فإن اتبعني فلا تسألني عن شيء 353
  • 71 ـ فانطلقا حتى اذا ركبا في السفينة 354
  • 72 و 73 ـ قال ألم أقل أنّك لن تستطيع 355
  • 74 ـ فانطلقا ، حتى إذا لقيا غلاماً 355
  • 75 و 76 ـ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع 355
  • 77 ـ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية 355
  • 78 ـ قال هذا فراق بيني وبينك 356
  • 79 ـ أما السفينة فكانت لمساكين 357
  • 80 و 81 ـ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين 357
  • 82 ـ وأما لجدار فكان لغلامين يتيمين 357
  • 83 ـ ويسألونك عن ذي القرنين 359
  • 84 ـ إنّا مكّناه في الأرض 359
  • 85 و 86 فأتبع سبباً 360
  • 87 و 88 ـ قال أما من ظلم فسوف نعذبه 360
  • 89 و 90 ـ ثم اتبع سبباً 361
  • 91 ـ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً 362
  • 92 و 93 ـ ثم اتبع سبباً 362
  • 94 ـ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج 362
  • 95 ـ قال ما مكنّي فيه ربي خير 363
  • 96 و 97 ـ آتوني زبر الحديد 363
  • 98 ـ قال هذا رحمة من ربي 363
  • 99 ـ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض 364
  • 100 ـ و 101 ـ وعرضنا جهنم للكافرين يومئذ عرضاً 365
  • 102 ـ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي 366
  • 103 ـ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً 366
  • 104 ـ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا 366
  • 105 ـ أولئك الذين كفروا بآیات ربهم ولقائه 367
  • 106 ـ ذلك جزاؤهم جهنم 367
  • 107 و 108 ـ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 368
  • 109 ـ قل لو کان البحر مدادا لكلمات ربي 368
  • 110 ـ قل انما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ 369
  • سورة مريم 371
  • 1 ـ كهيعص 371
  • 2 ـ ذكر رحمة ربك عبده زكريا 372
  • 3 ـ إذ نادى ربه نداء خفيا 372
  • 4 ـ رب إني وهن العظم مني 373
  • 5 و 6 ـ وإني خفت الموالي من ورائي 373
  • 7 ـ يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى 375
  • 8 ـ قال أنّي يكون في غلام 376
  • 9 ـ قال كذلك هو علي هين 376
  • 10 ـ قال رب اجعل لي آية 377
  • 11 ـ فخرج على قومه من المحراب 377
  • 12 ـ يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتیناه الحکم صبیأ 377
  • 13 ـ وحناناٌ من لدنّا وزكاة وكان تقياً 378
  • 14 ـ وبرأ بوالديه ولم يكن جباراً عصياً 378
  • 15 ـ سلام عليه يوم ولد 378
  • 16 و 17 ـ وإذكر في الكتاب مريم 379
  • 18 ـ قالت أنّي أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقياً 380
  • 19 ـ قال إنّما أنا رسول ربك 380
  • 20 و 21 ـ قالت أنّي يكون لي غلام 380
  • 22 ـ فحملته فانتبذت به مكاناً قصيّاً 382
  • 23 و 24 ـ فأجاءها المخاض الى جذع النخلة 382
  • 25 ـ وهزي إليك بجذع النخلة 384
  • 26 ـ فكلي واشربي وقري عيناً 385
  • 27 و 28 ـ فأتت به قومها تحمله 386
  • 29 ـ فأشارت إليه 386
  • 30 ـ قال أني عبد الله آتانی الکتاب 387
  • 31 ـ وجعلنی مبارکاً أينما كنت 387
  • 32 ـ وبرأ بوالدتي ، ولم يجعلني جبّاراً شقياً 387
  • 33 ـ والسلام علي يوم ولدت 387
  • 34 ـ ذلك عيسى بن مريم قول الحق 388
  • 35 و 36 ـ ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه 389
  • 37 ـ فاختلف الأحزاب من بينهم 390
  • 38 ـ اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا 391
  • 39 ـ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر 391
  • 40 ـ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها 392
  • 41 ـ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً 393
  • 42 ـ إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع 393
  • 43 ـ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك 393
  • 44 ـ يا أبت لاتعبد الشيطان 394
  • 45 ـ يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب 394
  • 46 ـ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم 394
  • 47 ـ قال سلام عليك سأستغفر لك ربّي 395
  • 48 ـ وأعتزلكم وما تدعون من دون الله 395
  • 49 ـ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله 396
  • 50 ـ ووهبنا لهم من رحمتنا 396
  • 51 ـ واذكر في الكتاب موسى إنّه كان ملخصاً 397
  • 52 ـ وناديناه من جانب الطور الأيمن 398
  • 53 ـ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً 398
  • 54 ـ واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق 398
  • 55 ـ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة 399
  • 56 و 57 و 58 ـ واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان صديقاً 400
  • 59 و 60 فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة 402
  • 61 و 62 ـ جنات عدن التي وعد الرحمان عباده بالغيب 402
  • 63 ـ تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً 403
  • 64 ـ وما ننتزل إلاّ بأمر ربك 404
  • 65 ـ رب السماوات والأرض وما بينهما 405
  • 66 و 67 ـ ويقول الإنسان إذا ما مت 406
  • 68 و 69 ـ فوربك لنحشرنهم والشياطين 406
  • 70 ـ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً 406
  • 71 ـ وإن منكم إلا واردها 406
  • 72 ـ ثم ينجي الذين اقتوا 407
  • 73 ـ وإذا تتلى عليهم آیاتنا بینات 408
  • 74 ـ وکم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن 408
  • 75 و 76 ـ قل من كان في الضلالة 409
  • 77 ـ أفرأيت الذي كفر بآیاتنا وقال لاوتين 409
  • 78 و 79 ـ أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهداً 410
  • 80 ـ ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً 410
  • 81 ـ واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونو لهم عزاً 410
  • 82 ـ کلا سیکفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً 411
  • 83 ـ ألم ترأنا أرسلنا الشياطين على الكافرين 411
  • 84 ـ فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً 411
  • 85 و 86 ـ يوم نحشر المتّقين إلى الرحمان وفدا 412
  • 87 ـ لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتّخذ عند 412
  • 88 ـ وقالوا اتّخذ الرحمان ولداً 413
  • 89 و 90 و 91 و 92 ـ لقد جئتم شيئاً إدأ 413
  • 93 و 94 و 95 ـ إن كل من في السماوات والأرض 415
  • 96 ـ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات 416
  • 97 ـ فإنما يسرنا بلسانك لنبشّر به المتّقين 413
  • 98 ـ وكم أهلكنا قبلهم من قرن 416
  • سورة طه 419
  • 1 ـ طه 419
  • 2 ـ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى 419
  • 3 ـ إلا تذكرة لمن يخشى 420
  • 4 ـ تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى 420
  • 5 ـ الرحمن على العرش استوى 420
  • 6 ـ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما 420
  •  7 ـ وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السر وأخفى 421
  • 8 ـ الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى 421
  • 9 و 10 ـ وهل أتاك حديث موسى ، إذ رأى ناراً 422
  • 11 و 12 فلما أتاها نودي أن يا موسى 422
  • 13 ـ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى 422
  • 14 ـ إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا 422
  • 15 ـ إن الساعة آتیة أكاد أخفيها 423
  • 16 ـ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها 424
  • 17 ـ وما تلك بيمينك يا موسى 424
  • 18 ـ قال هي عصاي أتوكاً عليها 425
  • 19 و 20 ـ قال ألقها يا موسى ، فألقاها 426
  • 21 ـ قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى 427
  • 22 ـ واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء 427
  • 23 ـ لنريك من آیاتنا الكبرى 427
  • 24 ـ إذهب إلى فرعون إنه طغى 428
  • 25 و 26 و 27 و 28 ـ وأجعل لي وزيراً من أهلي 430
  • 29 و 30 و 31 و 32 ـ وأجعل لي وزيراً من أهلي 430
  • 33 و 34 و 35 ـ كي نسبحك كثيراً ونذكرك 431
  • 36 ـ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى 432
  • 37 و 38 و 39 ـ ولقد مننا عليك مرة أخرى 432
  • 40 ـ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم 434
  • 41 و 42 ـ واصطنعتك لنفسي ، إذهب أنت وأخوك 435
  • 43 و 44 ـ إذهبا إلى فرعون إنّه طغى 436
  • 45 ـ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا 438
  • 46 ـ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى 439
  • 47 ـ فأتياه فقولا إنّا رسولا ربك 439
  • 48 ـ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى 439
  • 49 ـ قال فمن ربكما يا موسى 440
  • 50 ـ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى 440
  • 51 ـ قال ما بال القرون الأولى 441
  • 52 ـ قال علمها عند ربي في كتاب 441
  • 53 ـ الذي جعل لكم الأرض مهداً 441
  • 54 ـ كلوا وارعوا أنعامكم 442
  • 55 ـ منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها 442
  • 56 ـ ولقد أريناه آیاتنا کلها فکذب وأبى 443
  • 57 ـ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى 443
  • 58 ـ فلنأتينك بسحر مثله 443
  • 59 ـ قال موعدكم يوم الزينة 444
  • 60 ـ فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى 445
  • 61 ـ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً 445
  • 62 ـ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى 445
  • 63 ـ قالوا إن هذان لساحران 445
  • 64 ـ فاجمعوا كيدكم ثم اتوا صفاً 446
  • 65 ـ قالوا يا موسى إما أن تلقي 446
  • 66 ـ قال بل القوا 447
  • 67 ـ فأوجس في نفسه خيفة موسى 447
  • 68 ـ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى 447
  • 69 ـ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا 447
  • 70 ـ فألقي السحرة سجداً 448
  • 71 ـ قال امنتم له قبل أن أذن لكم 449
  • 72 و 73 ـ قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات 449
  • 74 و 75 و 76 ـ إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم 450
  • 77 و 78 و 79 ـ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي 451
  • 80 ـ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم 453
  • 81 ـ كلو من طيبات ما رزقناكم 454
  • 82 ـ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاٌ 454
  • 83 ـ وما أعجلك عن قومك يا موسى 455
  • 84 ـ قال هم أولاء على أثري 456
  • 85 ـ قال فإنّا قد فتنا قومك من بعدك 456
  • 86 ـ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً 456
  • 87 ـ قالوا ما أخلفنا موعدك 457
  • 88 ـ فأخرج لهم عجلاً 457
  • 89 ـ أفلا يرون ألاّ يرجع إليهم قولاً 458
  • 90 ـ ولقد قال لهم هارون 458
  • 91 ـ قالوا لن نبرح عليه عاكفين 459
  • 92 و 93 ـ قال يا هارون ما منعك 460
  • 94 ـ قال يبئوم لا تاخذ بلحيتي 460
  • 95 و 96 ـ قال ما خطبك يا سامري 461
  • 97 ـ قال فاذهب فإن لك في الحياة 462
  • 98 ـ إنما إلهکم الله 463
  • 99 و 100 و 101 ـ وکذلك نقص عليك من أنباء 463
  • 102 و 103 ـ يوم ينفخ في الصور 464
  • 104 ـ نحن أعلم بما يقولون 464
  • 105 و 106 و 107 ـ ويسألونك عن الجبال 465
  • 108 ـ يومئذ يتبعون الداعي 465
  • 109 ـ يومئذ لا تنفع الشفاعة 466
  • 110 ـ يعلم ما بين أيديهم 466
  • 111 ـ وعنت الوجوه 466
  • 112 ـ ومن يعمل من الصالحات 466
  • 113 ـ وكذلك أنزلناه قرآناً عربیاً 467
  • 114 ـ فتعالى الله الملك الحق 467
  • 115 ـ ولقد عهدنا إلى آدم 468
  • 116 ـ وإذا قلنا للملائكة 469
  • 117 ـ فقلنا يا آدم 469
  • 118 و 119 ـ إن لك إلاّ تجوع فيها 470
  • 120 ـ فوسوس إليه الشيطان 471
  • 121 ـ فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما 471
  • 122 ـ ثم اجتباه ربه 472
  • 123 ـ قال اهبطا منها جميعاً 472
  • 124 و 125 و 126 ـ ومن أعرض عن ذكري 472
  • 127 ـ وكذلك نجزي من أسرف 473
  • 128 ـ أفلم يهد لهم كم أهلكنا 474
  • 129 ـ ولولا كلمة سبقت من ربك 474
  • 130 ـ فاصبر على ما يقولون 475
  • 131 ـ ولا تمدن عينيك 475
  • 132 ـ وأمر أهلك بالصلاة 475
  • 133 ـ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه 476
  • سورة الأنبياء 479
  • 1 ـ اقترب للناس حسابهم 479
  • 2 و 3 ـ ما يأتيهم من ذكر 480
  • 4 ـ قال ربي يعلم القول 481
  • 5 ـ بل قالوا أضغاث أحلام 481
  • 6 ـ ما آمنت قبلهم من قربة 481
  • 7 ـ وما أرسلنا قبلك إلاّ رجالاً 482
  • 8 ـ وما جعلناهم جسداً 482
  • 9 ـ ثم صدقناهم الوعد 482
  • 10 ـ لقد أنزلنا إليكم كتاباً 483
  • 11 ـ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة 483
  • 12 و 13 ـ فلما احسسوا بأسنا 484
  • 14 ـ قالوا يا ويلنا 484
  • 15 ـ فلما زالت تلك دعواهم 484
  • 16 و 17 ـ وماخلقنا السماء والأرض 485
  • 18 ـ بل نقذف بالحق على الباطل 486
  • 19 و 20 ـ وله من في السماوات والارض 486
  • 21 ـ أم اتّخذوا آلهة 487
  • 22 ـ لو كان فيهما الهة إلاّ الله لفسدنا 487
  • 23 ـ لا يُسأل عما يفعل 488
  • 24 ـ أم اتخذوا من دونه آلهة 488
  • 25 ـ وما أرسلنا من قبلك من رسول 489
  • 26 و 27 ـ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً 489
  • 28 ـ يعلم ما بين أيديهم 490
  • 29 ـ ومن يقل منهم إني إله 490
  • 30 ـ أو لم ير الذين كفروا 491
  • 31 ـ وجعلنا في الأرض رواسي 492
  • 32 ـ وجعلنا السماء سقفاً 492
  • 33 ـ وهو الذي خلق الليل والنهار 492
  • 34 ـ وما جعلنا لبشر الخلد 494
  • 35 ـ کل نفس ذائقة الموت 494
  • 36 ـ وإذا رآک الذين كفروا 494
  • 37 ـ خلق الإنسان من عجل 496
  • 38 ـ ويقولون متى هذا الوعد 496
  • 39 ـ لو يعلم الذين كفروا 497
  • 40 ـ بل تأتيهم بغتة 497
  • 41 ـ ولقد استهزئء برسل 497
  • 42 ـ قل من يكلؤكم بالليل والنهار 498
  • 43 ـ ام هم آلهة تمنعهم من دوننا 499
  • 44 ـ بل متّعنا هؤلاء وهؤلاء 500
  • 45 ـ قل إنما أنذركم بالوحي 500
  • 46 ـ ولئن مستهم نفحة من عذاب 500
  • 47 ـ ونضع الموازين 500
  • 48 ـ ولقد آتینا موسى وهارون 501
  • 49 ـ الذين يخشون ربهم بالغيب 502
  • 50 ـ وهذا ذكر مبارك أنزلناه 502
  • 51 ـ ولقد آتینا إبراهيم 503
  • 52 و 53 و 54 ـ إذ قال لأبيه 503
  • 55 و 56 ـ قالوا أجئتنا بالحق 504
  • 57 ـ وتالله لاكيدن أصنامكم 504
  • 58 ـ فجعلهم جذاذاً 505
  • 59 ـ و 60 ـ قالوا من فعل هذا بآلهتنا 505
  • 61 ـ قالوا فاتوا به 506
  • 62 و 63 ـ قالوا أأنت فعلت هذا 506
  • 64 ـ فرجعوا إلى أنفسهم 506
  • 65 ـ ثم نكسوا على رؤوسهم 507
  • 66 و 67 ـ أفتعبدون من دون الله 507
  • 68 ـ قالوا حرقوه وانصروا 508
  • 69 ـ قلنا يا نار كوني بردا 509
  • 70 ـ وأرادوا به كيداً 509
  • 71 ـ ونجيناه ولوطاً
  • 72 و 73 ـ ووهبنا له إسحاق ويعقوب
  • 74 ـ ولوطاً آتیناه حکماٌ 511
  • 75 ـ وأدخلناه في رحمتنا 511
  • 76 ـ ونوحاً إذ نادى 512
  • 77 ـ ونصرناه من القوم 512
  • 78 ـ وداود وسليمان إذ يحكمان 513
  • 79 ـ ففهمناها سليمان 514
  • 80 ـ وعلمناه صنعة لبوس 515
  • 81 ـ ولسليمان الريح عاصفة 517
  • 82 ـ ومن الشياطين من يغوصون له 517
  • 83 ـ وأيوب إذ نادى ربه 518
  • 84 ـ فاستجبنا له وكشفنا ما به 518
  • 85 ـ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل 519
  • 86 ـ وأدخلناهم فر رحمتنا 519
  • 87 و 88 ـ وذا النون إذ ذهب 519
  • 89 ـ وزكريا إذ نادى ربه 521
  • 90 ـ فاستجبنا له 521
  • 91 ـ والتي أحصنت فرجها 522
  • 92 ـ إن هذه أمتكم أمة واحدة 523
  • 93 ـ وتقطعوا أمرهم بينهم 523
  • 94 ـ فمن يعمل من الصالحات 523
  • 95 ـ وحرام على قرية أهلكناها 524
  • 96 ـ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج 524
  • 97 ـ واقترب الوعد الحق 525
  • 98 ـ إنكم وما تعبدون من دون الله 525
  • 99 ـ لو كان هؤلاء آلهة 525
  • 100 ـ لهم فیها زفیر 525
  • 101 ـ ان الذين سبقت لهم منا الحسنى 526
  • 102 ـ لا يسمعون حسيسها 527
  • 103 ـ لا يحزنهم الفزع الأكبر 527
  • 104 ـ يوم نطوي السماء 527
  • 105 و 106 ـ ولقد كتبنا في الزبور 527
  • 107 ـ وما أرسلناك إلاّ رحمة 528
  • 108 و 109 ـ قل إنما يوحى إليّ 529
  • 110 و 111 ـ إنه يلعم الجهر 529
  • 112 ـ قل رب احكم بالحق 529
  • الفهرس 531