بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصّمد ، الّذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد ، وصلّى الله على رسوله الكريم سيّدنا ونبيّنا محمد ، وعلى آله الأطهار المنتجبين ، شفعاء خلقه في يوم الدين.

وبعد :

فهذا هو الجزء الثالث من «الجديد ، في تفسير القرآن المجيد» نفتتحه بسورة الأنعام المباركة التي نزلت على النبيّ (ص) جملة واحدة ، يشيّعها سبعون ألف ملك ـ كما في الأخبار المقدسة ـ يهلّلون ويكبّرون ، ومن قرأها ردّوا عنه كيد الشيطان. ونسأل الله من فضله أن يسددنا ويوفقنا لقول ما يرضيه في بيان فرقانه الكريم وكتابه العظيم ، إنه الحليم الكريم الرحمان الرحيم ..

المؤلف

في شهر شوالل سنة ١٤٠٣ ه‍.

الموافق تموز سنة ١٩٨٣ م.

سورة الأنعام

مكية وهي مائة وخمس وستون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥))

١ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي الشكر لله الخالق الذي ابتدع السماوات والأرض وأنشأهما بما اشتملا عليه من بدائع الصنع وعجائب الموجودات ، مما يحيّر العقول وتكلّ دونه الأفهام ، لما أوجد فيهما من أنواع النّعم وسائر المخلوقات. والله سبحانه أتى بصيغة الجمع عند ذكر «السماوات» وأبقى الأرض بصيغة المفرد ، إمّا لجهة أنّ السماوات سبع والأرض واحدة إذ لم يرد ذكر سبع أرضين إلّا

في آية : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وإما لجهة أن السماء أشرف من الأرض بعددها ، وبطبقاتها ، ولأن فوقها العرش وما حوله ، واللوح والقلم ، ودونها الشمس والقمر والكواكب وسائر المجرّات ، وفيها الملائكة المقرّبون ، ومنها تنزل الرحمة الإلهية بأنواعها ، وتهطل الأمطار في أوقاتها ، وتجري الفيوضات الربّانية والخيرات التي لا تحصى. فاقتضت هذه المذكورات وغيرها جمع لفظ : السماء من جهة ، وتقديم ذكرها على الأرض من جهة ثانية. فالحمد لهذا الرب القادر الذي اخترع ذلك كلّه على غير مثال سبقه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي صيّرهما موجودين. والفرق بين الخلق والجعل أن الأول اختراع وإيجاد لا من شيء كان قبله بل بكلمة : كن ، والثاني هو التصيير : أي إيجاد الشيء من شيء بحسب المشهور بين أعلام الكلام ، وقد يكون الحق خلاف ذلك أعني أن الخلق يجيء أيضا بمعنى التصيير نحو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، أو : من منيّ يمنى ، أو : من ذكر وأنثى. ففي جميع ذلك تدل لفظة : من ، على إنشاء شيء من شيء ، لا على إيجاد ذلك الشيء فقط بكلمة : كن التكوينية ، حتى أن آدم أبا البشر (ع) قد «خلقه» الله تعالى ، من ماء وطين ، أي صيّره كائنا من ذلك. فالخلق أعمّ على كل حال.

وقد جمع جلّ شأنه الظلمات دون النور لأن الأجرام الفضائية تكاد لا تعدّ ولا تحصى لكثرتها ، ولكلّ جرم منها ظلّ ، فأشار سبحانه إلى جميع تلك الظلال «الظلمات» الكثيرة للأسباب التي ذكرناها ، بخلاف النور الذي له سبب واحد وهو عدم وجود الظّل ، لأنهما ضدّان لا ثالث لهما ، ويكون أحدهما إذا انعدم الثاني بتقدير العزيز الحكيم (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي بعد هذه القدرة الكاملة من خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، بقيت طائفة من الناس كفروا بخالق ذلك كله وعدلوا : أي مالوا عن المحجة البيضاء وابتعدوا غاية البعد عن الحق مع أن الحجة في غاية القوة والظهور ، وعدولهم عن جادة الصواب غير عقلائية لأن كل آية من هذه الآيات تكفي وحدها للإيمان به سبحانه ،

ومن لا تكفيه هذه البراهين العجيبة وهذه الدلائل العظيمة يكن أمره غريبا ومستهجنا. وقد قيل أيضا في معنى يعدلون : أن الكافرين يساوون بينه جلّ شأنه وبين الأوثان التي يعبدونها من دونه رغم هذه الآيات البيّنات. وفي الاحتجاج عن الصادق عليه‌السلام «في حديث له حول نزول هذه الآية الكريمة» أنها ردّ على ثلاثة أصناف :

«فلما قال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، كان رداّ على الدهرية» الذين قالوا إن الأشياء لا بدو لها وهي قائمة ولا تزال ثابتة. «ولما قال : (جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، كان رداّ على الثنوية» الذين زعموا أن النور والظلمة هما المدبّران للعوالم. ثم قال تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فكان رداّ على مشركي العرب الذين اتخذوا من أوثانهم آلهة.

٢ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ...) يستفاد من لفظة : من ، أنه تعالى يشير إلى بدء خلقنا ، فنحن من آدم عليه‌السلام وآدم من طين ونحن كذلك بواسطته بحسب قياس المساواة ، فتساوينا معه. غاية الفرق أنه عليه‌السلام قد خلق من طين أولا وبالذات ، وأننا ـ نحن ـ خلقنا كذلك ثانيا وبالعرض (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) أي حتم وقتا معيّنا. فعن ابن عباس أن الأجل هو من مولد الإنسان إلى موته (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قيل إنه وقت ما بين الممات إلى البعث فإنه لا يعلم ميقاته أحد سواه. ومعنى : مسمّى أنه معلوم عنده لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ في السماء. ولا يملك أمر الخلق والحكم إلّا هو جلّ وعلا (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكّون ولا تجزمون وتقطعون بأن الله تعالى إلهكم وخالقكم وباعثكم غدا من قبوركم بعد أن توفاكم وعيّن ميقات بعثكم. أفي الله شكّ فاطر السموات والأرض ، وهو بارئكم من بدء خلقكم ، ورازقكم وكافل حياتكم؟. فالله سبحانه يتعجب من إنكارهم لربوبيّته وللبعث ، ومع وضوح دلائل وجوده ووحدانيته ، ومع ظهور أمر البعث إذ لا تصعب الإعادة على من قدر على الابتداء والإيجاد من العدم وإنكارهم يكشف عن قلة تدبّرهم وضعف

إدراكهم. والآية الأولى : هو الذي خلقكم ، دليل على التوحيد ، والآية الثانية : ثم قضى أجلا ، دليل على البعث كما لا يخفى.

٣ ـ (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ...) هو مبتدأ ، والله خبره. وهذا الضمير عائد لذاته المقدّسة ، ولفظة الجلالة بيان لها. وحاصل ذلك أن المعبود في جميع الكائنات ليس إلّا الله تعالى ، سواء أكان ذلك في السماوات أم في الأرض. وفي كتاب التوحيد عن الصادق عليه‌السلام : كذلك هو في كل مكان .. إلى أن قال : ولكن هو بائن عن خلقه ، محيط بما خلق علما وإحاطة وقدرة وسلطانا وملكا. وليس علمه بما في الأرض بأقلّ مما في السماء ، لا يبعد عنه شيء ، والأشياء عنده سواء (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ففي تفسير القمي : السر ما أسرّ في نفسه ، والجهر ما أظهره (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تجنون من خير أو شر ، فتثابون على الخير ، وتعاقبون على الشر.

٤ ـ (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ ...) أي ما جاءتهم حجة من حجج الله تعالى ، وبانت لهم حقيقتها الدالّة على أنها معجزة من معجزاته جلّ وعلا كآيات القرآن وغيرها ممّا ذكره القرآن الكريم وممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي منصرفين رغم ظهورها لأنهم لا يتأملون ولا يتفكرون بآيات الله عزوجل مع وضوحها ودلالتها. ولفظة : «من» الأولى : مزيدة ، و «من» الثانية : للتبعيض.

٥ ـ (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ...) أي كذّبوا بما جاءهم به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحق من ربهم ، وهو القرآن الذي قالوا إنه من عند محمد واستهزءوا به ، فتربّص بهم (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أن تكذيبهم بالحق وإعراضهم عن آيات الله لن يحول دون مجيء أنباء : أي أخبار ما استهزءوا به من نزول العذاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة. فألفت نظرهم يا محمد ، وقل لهم :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

٦ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ...) ألم ينظروا إلى ما أفنيناه قبلهم من الناس؟. والقرن : أهل عصر واحد ، ويطلق على مائة سنة ، وله معان أخرى لا تناسب المقام .. فقد كنّا (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لهم مكنة ورفعة بحيث كان لهم سلطان على الآخرين (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) يعني أعطيناهم من القوة ما لم نعطكم يا أهل مكة ، وفي الجملة التفات عن الغيبة للتنبيه (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي كنّا نمطرهم بغزارة ونرسل لهم بركات السماء وخيراتها (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي تسير تحت غرفهم ومنازلهم ، وماؤها يصلهم مع خيراته بسهولة فعاشوا في نعيم ورفاهية وخصب ، ونسوا ذكر الله وارتكبوا الكفر والمعاصي (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي دمّرناهم لعدم إيمانهم وأفنيناهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلقنا وتعهّدنا أجيالا غيرهم وأقمناها بدلا عنهم. والقادر على ذلك قادر على أن يفعله بكم يا أهل مكة الذين خاطبناكم.

٧ ـ (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) : يعني لو أننا استجبنا لطلبهم

وأنزلنا عليك سور القرآن وآيات الوحي مكتوبة في قرطاس : أي ورق ، كما اقترحوا عليك (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) يعني تحسّسوا الورق وأمسكوه بأيديهم ، وقد ذكر الأيدي للتأكيد ولأن اللمس غالبا ما يكون بالأيدي ، وقد قال سبحانه : لمسوه ، ولم يقل : عاينوه ، لأن اللمس أبلغ في نفي الرّيب والشك. ولذلك ترى الذي يشاهد السحر يحاول أن يمسك الشيء المسحور ويلمسه بيده ليتأكد مما يراه بعينه. فلو أن هؤلاء المنكرين لمسوا القرطاس الذي ننزّله عليك مكتوبا من عندنا (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عنادا وتعنتا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) مؤكّدين أنه سحر ، لقسوة قلوبهم وشدة كفرهم.

٨ ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ...) أي : هلّا نزل عليه : على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ملك من الملائكة نعاينه ونراه ، ويصدّق على أقوال محمد ، فنصدّقه في مدّعاه؟. وقد أجابهم الله سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني لو نزّلنا الملك كما طلبوا لقضي الأمر بهلاكهم على يد ذلك الملك الذي نرسله بعد أن كفروا برسالة رسولنا. فإن سنّة الله جرت بذلك من إهلاك من سبقهم على يد ملك من عندنا تقتضي حكمتنا إنزاله على المنكرين. فلو شئنا إجابة طلبهم وأرسلنا ملكا من عندنا لقضينا بعذابهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولا يرفق بهم طرفة عين.

٩ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ...) أي لو جعلنا الرسول ملكا يعاين ويرى ويتكلم معه لجعلناه رجلا : مثّلناه بصورة رجل ليكون من جنسكم كما مثّلنا جبرائيل عليه‌السلام بصورة دحية الكلبي ، أي الرجل المحبوب الصورة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الملك لا تشاهده حواسّ البشر إذ هو مخلوق روحاني غير مادي ، ومهما زيد في حواسّ الناس فإنهم سيرونه رجلا ممثّلا بالصورة البشرية فلا يغني هذا التمثيل شيئا لأنه لا يرى بصورته الملكية (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) أي أن الأمر يلتبس عليهم ويظنون الملك رجلا مثلهم ، فيبقى الإشكال قائما

عندهم ولا يحصل لهم اليقين إذ يعتقدون أن المرئيّ رجل فلا يؤمنون برسالته ولا يستمعون إلى قوله ، وتكون النتيجة أن يهلكوا في كل حال.

* * *

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

١٠ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ...) في هذا القول تسرية عن قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإزالة لهمّه وكشف لغمّه إذ ذكر له سبحانه أن الرّسل من قبله قد استهزأ بهم الناس وسخروا من دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى (فَحاقَ) أي أحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) استهزءوا من دعوتهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب الذي هدّدهم به الرّسل فلم يصدّقوا به فأنزله الله عليهم حين استحقوه جزاء استهزائهم.

١١ ـ (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي قل لهم يا محمد : اذهبوا في الأرض وتتّبعوا ما أصاب الأمم من قبلكم ، واختبروا واعتبروا (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وتأمّلوا بمصائر الذين كذّبوا الرّسل ولم يصدّقوهم فأهلكهم الله بالعذاب والاستئصال جزاء عنادهم وكفرهم.

١٢ ـ (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي اسأل يا محمد

من يعاندك : من هو المالك لما في السماوات والأرض؟. فإن هذا السؤال سؤال تعجيز للمسؤول ولا بد له بالإقرار عن المسؤول عنه وقول الحق الذي هو ظاهر غاية الظهور ، وهو ما علّمه الله لنبيّه بقوله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ) وهو تقرير لا مفرّ منه ولا جواب غيره لدى الجن والإنس ولا محيد عنه ، وهو سبحانه الذي (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي اللطف بعباده والرأفة بهم في دار الدنيا ، وذلك بأن نصب لهم الدلائل وأقام الحجج الدالة على وحدانيته وربوبيّته ليوحّده ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وإنه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) قرنا بعد قرن يأخذكم ويجمعكم ليوم الحساب. واللام لام القسم ، وإلى : بمعنى : في ، فو الله إن موعدكم في يوم القيامة. ونحن نقول : إن : إلى ، هنا لإنشاء الغاية فيما له استمرار ، فإن اجتماع الأمم يكون بمرور الأيام ، ثم يمكن أن يحصل بغتة لأنه رهن بإرادة قادر مطلق. فكأنه سبحانه قد أراد أن يقول : إن العباد منذ خلقوا لا زالوا في مسيرة للتجمع إلى يوم القيامة ، ونحن لسنا غافلين عنهم في سائر عوالمهم وفي عالم حشرهم. ويوم القيامة (لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك ، وهذا تأكيد لحصوله وتوعد للغافلين عنه (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) وضيّعوها بأن ضلّوا فأهلكوها في عذاب يومئذ (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون لأنهم مغمورون بالضلالة تائهون في الجهالة قد استحال عليهم أن يتنسّموا روح الإيمان.

١٣ ـ (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي لله جلّ وعلا ما سكن : هدأ في الليل ، وتحرّك في النهار. وقد اكتفى بإيراد الفعل : سكن ، فقط ، للبلاغة في القول. فهو سبحانه مالك السماوات والأرض وما فيهن طرّا ، ما سكن وما تحرّك (وَهُوَ السَّمِيعُ) العظيم السمع (الْعَلِيمُ) العارف أشد المعرفة بكل ما يملكه بحذافيره ، يسمع ويحس الحركات ، ويعلم ويدرك ما يجري في السّكنات ، ولا يشغله صوت عن صوت ولا شيء عن شيء ، يسمع تسبيح الأشياء التي لا نفقه تسبيحها ، ويعلم وساوس الصدور التي نظنّها ساكنة هادئة ، ولا تخفى عليه خافية

في الأرض ولا في السماء

* * *

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

١٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ...) قل يا محمد للمعاندين : لا يجوز أن أتخذ وليّا غير الله لتكون مقاليد أموري بيده ويكون أولى منّي بنفسي. والسؤال استفهاميّ إنكاريّ لأن الله تعالى هو وليّ كل وليّ ، وهو ولي من لا وليّ له. فالكلام يدل على نفي اتخاذ غير الله وليّا مطلقا ، إلّا من ولّاه الله تعالى أمور الناس كالنبيّ وأوصياء النبيّ ، وإن كانت لفظة الولي ذات معان كثيرة لأنها تدل على النصير والصديق والحافظ ، كما تدل على من يلي أمر الإنسان في حياته الدنيوية ويتكفل بإدارة شؤونه وتدبير سائر أموره. فقل يا محمد : لا أتّخذ وليّا غير الله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وموجدهما من كتم العدم إلى حيّز الإمكان. وهذه العبارة تعليل لعدم جواز اتخاذ وليّ غيره سبحانه وتعالى ، لأن من كان بهذه المثابة من القدرة والعظمة بحيث فطر السماوات والأرض وخلق ما فيهما ، كيف نخلّيه ونتمسّك بولاية غيره ، وننكر عليه نعمة وجودنا وسائر

ألطافه بنا إلى جانب حفظنا ورزقنا وهدايتنا ، إلى سبل الخير ، فكيف نترك ولايته (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي يرزق ولا يرزق. وقد اختص الطعام بالذكر لغاية الحاجة إليه ، وعنى مطلق ما يحتاج إليه البشر (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي أمرني ربّي بذلك. ومن هذه الشريفة نفهم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أول من أسلم لله عزوجل ، بل القاعدة العقلائية تحكم بأنّ من أمر بشيء عامّ من عند مولى واجب الإطاعة لا بد وأن يكون هو أول المأمورين به وأول المصدّقين ، وإلّا فإن أمره لا يؤثّر في الناس بل يكون عدم تصديقه وائتماره به حجة عليه فكن كذلك يا محمد (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقل لمن يؤمن بك وبرسالتك لا تكوننّ من المشركين. والجملة معطوفة على ما قبلها.

١٥ ـ (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : وهذا القول من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعريض بالكفّار وتوبيخ لهم على معصيتهم ، لأن الرسول الأعظم يخاف معصية ربّه فكيف بهم؟ فيلزم أن يحذروا عصيانه بوجه أولى. وفي العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قول : إني أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم ، حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

١٦ ـ (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ...) أي من ما لا يناله العذاب وينحرف عنه وينجيه الله تعالى منه (يَوْمَئِذٍ) في يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي أشفق عليه الله سبحانه وتفضّل عليه بالعفو والمغفرة. وفي المجمع عن النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله : والّذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله. قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟. قال : ولا أنا إلّا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي شمول الرحمة والفضل للعباد هو الفوز والنصر والربح يوم القيامة.

١٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) يمسسك : أي يصيبك ، والضرّ هو الضرر النفسي من مرض وهزال كالذي أصاب بعض أولياء الله ممّن

قالوا : ربّ مسّني الضّر وأنت أرحم الراحمين. والضّر ـ بالفتح ـ هو ضد النفع مطلقا. فإن أصابك ـ يا محمد ـ شيء من الضّر (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي لا رافع ولا مزيل له (إِلَّا هُوَ) سبحانه وتعالى لأنه الواحد الأحد المستطيع لذلك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي إن يصبك بنعمة وفضل وأمن وإيمان ورزق ومال وغيره من أفضاله (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي مستطيع قادر على إعطاء النّعم الظاهرة والباطنة ، الدائمة والمؤقّتة ، الكثيرة والقليلة.

١٨ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ...) أي أنه سبحانه هو المتسلّط الذي يقهر عباده ويقدر على إحيائهم وإماتتهم ورزقهم وحرمانهم ، بجميع معاني القهر المتصوّرة وغير المتصوّرة ، وبأعظم معاني القدرة عليهم (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يفعل بهم ما تقتضيه الحكمة وحسن التدبير في جميع أمورهم ، لأنه خبير عليم عارف بجميع حالاتهم وما يليق بهم.

* * *

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

١٩ ـ (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ...) لفظ : شهادة ، تمييز. وقد نزلت هذه المباركة حين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أهل الكتاب أنكروك ، فأتنا بمن يشهد بصدق رسالتك. فيا محمد قل : أي شهادة هي

أكبر عند سائر العالمين؟ ف (قُلِ اللهُ) أكبر شاهد ، وهو (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهل تتصوّرون أكبر من هذا الشاهد بصدق رسالتي؟. وقوله تعالى : قل الله مع تاليه المقدّر الذي أشرنا إليه جواب. ويمكن أن تكون لفظة : شهيد ، مستأنفة بتقدير كلمة : هو ، التي أوردناها والله أعلم.

وفي القمي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن مشركي أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدّقك بالّذي تقول. وذلك في أول ما دعاهم وهو يومئذ بمكة. قالوا : ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم ، فأتنا بأمر يشهد أنك رسول الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله شهيد بيني وبينكم ... (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) نزل بطريقة الوحي (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) والخطاب هنا لأهل مكة ونواحيها من جزيرة العرب ولسائر من بلغه ذلك من غيرهم ولمن علم به من الناس إلى يوم الوقت المعلوم. فالقرآن الكريم إنذار لكلّ من سمع به يخوّفه عاقبة الكفر والإصرار على العناد (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) والهمزة الأولى للاستفهام الإنكاريّ الاستبعادي ، لأنهم يشركون مع الله غيره (قُلْ) يا محمد : (لا أَشْهَدُ) بما تشهدون به ولا أقول ما تقولونه (قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أحد لا إله معه ولا شريك (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرّأ من أصنامكم التي تعبدونها من دون الله ومن جميع أوثانكم.

٢٠ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ...) وهم اليهود الذين يعرفون توراتهم مثلما يعرفون أولادهم ، ويعرفون ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة ، والنصارى الذين يعرفون إنجيلهم حق المعرفة وكمعرفتهم لأولادهم ، ويعرفون ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة به فيه. فكيف ينكر علماء اليهود وأحبار النصارى ذكره في كتبهم مع علمهم الأكيد به وبأوصافه المميّزة المدرجة في التوراة والإنجيل؟ (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من هؤلاء المنكرين الجاحدين لما ورد في كتبهم ، ومن مشركي العرب أيضا (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا إخبار بالغيب

من لدنه تعالى ، فاطمئنّ بالا يا محمد ، لأنهم معاندون قد تعمّدوا البقاء ورفضوا الإيمان وضيّعوا الفرصة التي كان يمكن أن يحصّلوا فيها الإيمان بك بعد أن رأوا صفاتك عندهم ، ولمسوا دلائلك الواضحة التي لا شك فيها ولا ريب.

٢١ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أعظم ظلما ممّن يتعمّد الكذب والافتراء على الله تبارك وتعالى ، كمن قالوا إن الملائكة بنات الله وأمثال ذلك من الأكاذيب (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كمن كذّب بالقرآن العظيم وبمعجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قالوا إن ذلك سحر ، فظلموا بذلك الحق ، بل ظلموا أنفسهم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح هؤلاء المكذبون ولا يصيبون الفلاح بمزاعمهم التي تؤدي بهم إلى النار وغضب الجبّار.

* * *

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

٢٢ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) قوله تعالى : جميعا تأكيد وتهويل من ذلك اليوم ـ يوم الحشر ـ والعياذ بالله من أهواله وشروره. فقد قال سبحانه سنحشرهم في ذلك اليوم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ؟) يعني أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله؟ وهذا السؤال خطاب توبيخيّ ، بل توهين للمشركين وتعجيز لهم حيث إنهم غير قادرين على إيجاد الشريك لله تعالى في ذلك اليوم ، لأنه لا شريك له في كل حال فكيف يجدون الشريك فيأتون به؟. إن إيجاد المحال محال بقانون التساوي بين نفس الشيء وإيجاده. فيا أيها المشركون أين شركاؤكم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وتظنون غرورا أنهم شركاء لله جلّ وعلا؟. الأمر الذي يبهتهم ويجعلهم خاضعين للأمر الواقع باخعين للحجة الدامغة التي تلزمهم بعد عبادة الأصنام والأوثان من دون الله عزّ اسمه.

٢٣ ـ (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ...) أي اختبارهم ـ بالمعنى اللغوي ـ ولكن جاء في المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام : ثم لم تكن معذرتهم التي يتوهّمون التخلص بها من عذاب الله. فإن عذاب الفتنة أشد من عذاب القتل وخصوصا حين تكون المعذرة غير ميسّرة ، فلا يكون منهم (إِلَّا أَنْ قالُوا : وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فهم يحلفون بالله كذبا لشدة دهشتهم وحيرتهم أمام هذا السؤال المفاجئ منه سبحانه عن الشركاء التي نصبوها له.

وإن أيمانهم لا تنفعهم في ذلك اليوم لأنها أيمان كاذبة تكشف عن تعمّدهم الكذب حين يحلفون ، إذ لو كانوا يعتقدون أن الله وحده هو ربّهم لما أشركوا معه معبودا ولا صنما ، فكيف يقسمون به ويقولون إنه ربّهم؟ ... وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن الآية تعني السؤال عن ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢٤ ـ (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ...). بنفي شركهم وبالحلف على ذلك لأنهم أقسموا اليمين وهم يعلمون أنهم كاذبون (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي فاتهم وضاع عنهم ما افتروا به وكذبوا على أنفسهم بتنصيبه ربّا لهم وشريكا لله تعالى في حين أنه صنم لا يسمع ووثن لا يضر ولا ينفع. وحاصل معنى الآية الشريفة أنه غاب عنهم ما كانوا يقولونه كذبا وافتراء من إثبات الشريك لله تعالى. وفي القمي مقطوعا أنها في قدريّة هذه الأمة ويحشرون مع اليهود والنصارى والمجوس.

٢٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ...) يعني : أن بعض هؤلاء المشركين الضالين يصغون إليك وأنت تتلو القرآن. والضمير في : منهم ، للشأن والقصة. وقد قيل إن جماعة من قريش قالوا للنضر بعد أن استمع إلى القرآن : ما يقول محمد؟. فقال : أساطير الأولين ، فنزلت هذه الآية الكريمة. فهؤلاء الذين يستمعون إليك ولا يعقلون ما تقول قد عميت أبصارهم وصمّت أسماعهم عن الحق (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع كنان ، وهو ما يغطّي ويستر ، فقد حجزت الأكنّة بينهم وبين (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ويفهموا معانيه ويعلموها ، إذ جعلنا قلوبهم محجوبة عن ذلك (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي ثقلا في السمع وصمما (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي لا يصدقون بها لعنادهم الشديد ولتحكّم تقليد أسلافهم بهم (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي يخاصمونك ويناقشونك في كل قول. والجملة حال من فاعل : جاؤوك. وحينئذ (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين مجادلتك : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) والأساطير جمع أسطورة ، وهي الخرافات والأباطيل. وفي قولهم هذا يبلغون غاية التجاسر والتكذيب قاتلهم الله.

٢٦ ـ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ...) أي أن الكفرة يمنعون غيرهم

من اتّباع الكتاب والرسول ، وينأون : يبتعدون عن كلّ واحد منهما. وفي القمي قال : بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقريش كانت تمنع الناس عنه وتباعدهم عن الاجتماع به (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعني أنهم بنهيهم هذا ومنعهم ذاك لا يهلكون ويتعبون إلّا أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) ولا يحسّون بأن ضررهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم لأن الله تعالى يتولى أمره ويجمع إليه من كان أهلا للإيمان والرضوان.

* * *

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١))

٢٧ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ...) يعني يا ليتك تراهم وقد عرضوا على جهنم وأوقفوا على شفيرها يرونها ويعاينون نيرانها ويسمعون حسيسها وزفيرها وصريفها الذي يشبه صريف الرعد ، ويتأملون أهوالها وهي ترمي بشرر كالقصر. وفي القمي أنها نزلت في بني أمية. فإنهم

حين يرونها كأنك بهم قد تأكدوا صدق قولك ـ يا محمد ـ (فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي نرجع إلى دار الدنيا لنعمل على إصلاح ما فات منّا. ويكون هذا التمنّي منهم حين رؤية العذاب واليأس من رحمة الله فيقولون : يا ليتنا نرجع لنؤمن (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدّقين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون ريب وتكذيب. وقد مضى تفسير هذا الذيل فيما سبق.

٢٨ ـ (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ...). بدا : ظهر وبان. يعني أنهم يوم القيامة يظهر لهم واضحا جميع ما أخفوه وستروه من كفرهم وزندقتهم وعملهم للقبائح والمعاصي لأن ذلك كله مسجّل عليهم ، ولأن أيديهم وأرجلهم وجلودهم تشهد عليهم بل جميع جوارحهم تفعل ذلك ، ولكنهم معاندون على كل حال (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لو أرجعناهم إلى الحياة الدنيا لرجعوا إلى المعاصي فإنهم ضالّون كافرون بأوامر الله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون من الوعد بالإيمان لو أعيدوا إلى دار الدنيا :

٢٩ ـ (وَقالُوا : إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ...) هذه الشريفة معطوفة على جملة : عادوا ، فإنهم لو أعيدوا لعادوا إلى سالف قولهم وسابق عملهم ولقالوا أيضا : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ولنفوا البعث والحساب في يوم القيامة مرة أخرى.

٣٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ ...) أي أيقنوا بوجوده ووقفوا على صدق ما جاء عن ذاته المقدسة ، ومثلوا بين يدي عظمته ، ورأوا جزاء العمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فليتك تراهم في ذلك الموقف الذليل وتطّلع على حقيقة حالهم في تلك الساعة الشديدة حيث يقف الجناة العصاة بين يدي المولى المقتدر الذي (قالَ) سبحانه وتعالى لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟) أي البعث ، والحساب ، والجزاء. يقول ذلك توبيخا لهم وتقريعا (قالُوا بَلى) فأجابوا : نعم (وَرَبِّنا) فحلفوا يمينا

وأكدوا تصديقهم به ، وأقرّوا بأن الأمر صار عندهم بغاية الوضوح (قالَ) الله تبارك وتعالى لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم وعنادكم وضلالكم ذوقوا العذاب الذي وعدنا به العاصين.

٣١ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ...) أي أنّ الذين كذّبوا بالبعث والحساب والثواب والعقاب خسروا بعدم اعتقادهم بذلك (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) يعني حين مجيء الموعد وقيام الساعة يرون عاقبة تكذيبهم ، لأنها تأتيهم (بَغْتَةً) فجأة ومن غير ترقّب وعلى غير انتظار. وعندها يصف سبحانه حكاية حالهم (قالُوا : يا حَسْرَتَنا) فنادوا بالحسرة والندم الذي لا ينفع لأنهم اعترفوا بقولهم يا ندمنا (عَلى ما فَرَّطْنا) أي قصّرنا (فِيها) يعني في الحياة الدنيا. ووجه التقصير منهم اعترافهم بالتفريط وإضمارهم العصيان. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية ، قوله : يرى أهل النار منازلهم في الجنّة «لو أطاعوا» فيقولون : يا حسرتنا على ما فرّطنا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) والأوزار : جمع وزر ، وأحد معانيه الإثم ، وهو المراد هنا. وقد اعتيد حمل الأثقال على الظهور. والإثم ثقل معنوي ، ولذا عبّر عزوجل بقوله : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ). وللآثام ثقل أيّ ثقل على الظهور في الآخرة يحسّه المذنبون والعياذ بالله ويتجسد لهم كأنه ثقل مادي!. (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ألا : للتنبيه والاستفتاح ، والله سبحانه يقول : أنبّهكم إلى سوء وقبح ما يحملونه من الذنوب العظيمة التي سيحسون بثقلها حين الحساب.

* * *

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ

لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

٣٢ ـ (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) اعتبرها جلّ وعلا هكذا لمن اتخذها لعبا ولهوا وكانت أكثر أعماله شراّ وأكثر عمره في المعاصي وفيما لا نفع فيه ولا فائدة. وهي على خلاف ذلك لمن لاحظ عقبى الدار إذ قال تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي أنها خير محض لمن يتجنّبون معاصي الله. ووجه كونها خيرا هو في كثرة لذاتها ودوام بقائها واستمرار نعيمها (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ألا يفكّرون بذلك ويفهمونه ويستوعبونه فيؤمنون بما وعد الله عباده الصالحين؟

٣٣ ـ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ...) الضمير في قوله تعالى : إنه ، هو للشأن. أي أنه سبحانه يعرف أنّ من حال الإنسان وطبع البشر أن ينسب إليهم الكذب والتكذيب. فلا يحزنك ولا يهمك قولهم ساحر كذاب أو ما أشبهه. فإننا نسلّيك عن بهتانهم وكذبهم (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بل يرجع تكذيبهم إلى أنفسهم لأن ما يسندونه إليك هو خلاف الواقع ونفس الأمر ، فلا شيء عليك وأنت منزّه ومبرّأ منه (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) والباء في لفظ : بآيات ، هي لتضمّن الجحود معنى التكذيب. وعن أكثر المفسرين : إنهم لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقادا بكذبك ، بل يكفرون بآيات الله عزّ وعلا. ويشهد لهذا ما روي عن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقي أبا جهل فصافحه : فقيل لأبي جهل في

ذلك ، فقال : إني لأعلم أنه صادق لكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف؟. فأنزل الله تعالى الآية.

٣٤ ـ (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ...) قال الله سبحانه ذلك لتسكين قلبه الشريف وللترفيه عن نفسه الكريمة صلوات الله عليه وعلى آله وعلى سائر رسل الله ليحصل له التسلّي لأن الرّسل كذّبوا (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) فلا بدّ لك يا نبيّ الله من الصبر في قبال أذى قومك أسوة بغيرك من الأنبياء الذين كذّبوا (وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) فكانوا هم الغالبين. وقد ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ألزم نفسه بالصبر بعد نزول هذه الآية الكريمة امتثالا لأمره سبحانه إذ قال : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لقضائه بإتمام وعده ونصره لرسله ، وذلك كقوله تعالى : (لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي ممّا ورد عليك من أخبار الأنبياء وصعوبة ما كانوا عليه من تحمّل المشاق ومكابدة ظلم الظالمين قبل أن ننصرهم عليهم.

٣٥ ـ (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ...) أي إذا ثقل عليك واشتدّ انصرافهم عنك وعمّا جئت به من القرآن وما يشتمل عليه من الأحكام ، وضاق صدرك بميلهم عن ذلك (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) تطلب منفذا ومدخلا في جوف الأرض (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) يعني مرقاة ترتقي عليها لتصعد بواسطتها إلى السماء (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) تجيئهم بمعجزة ، فافعل. وهذا يعني أنك لا تستطيع ، ولو استطعت لفعلت حرصا على إيمانهم بك وإسلامهم فلا تفعل إذ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) ودلّهم على ذلك جبرا بحيث يميت من لم يؤمن به تعالى أو يعميه ويصمّه ، وهو قادر على ذلك يفعل ما يشاء حين يشاء. لكن الإيمان الجبري لا يعبأ به في الإسلام وحكم العقل ، لأن الذي يؤمن كرها وجبرا ويضطر إلى ذلك يكون إيمانه لقلقة لسان ، بخلاف الإيمان الاختياري الذي يستقر في القلب ويعمر الجنان ، وهو الإيمان

المقبول عند الله والرسول وعليه الثواب الجزيل ، وبمثله فليعمل العاملون. وهنا يتجلّى الفرق بين الجبر والاختيار في هذا المورد وكل مورد ، لأن الله سبحانه لهذه الحكمة وغيرها أمر الناس بأحكام وكلّفهم بتكاليف عديدة وخيّرهم في قبولها ولم يجبرهم بشيء إذ لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين وهو الاختيار. وفي الإكمال عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ ، إن الله قد قضى الفرقة والاختلاف في هذه الأمة ، ولو شاء لجمعهم على الهدى حتى لا يختلف الناس من هذه الآية ولا ينازع في شيء من أمره ولا يجحد المفضول لذي الفضل فضله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) هذه الجملة يمكن أن تكون من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، كما أنه يمكن أن تكون في مقام تأديب نبيّه (ص) بأدب الإسلام وإبعاده عن آداب الجاهلية.

* * *

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

٣٦ ـ (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ...) قد أكد سبحانه لنبيّه (ص) أنه لا يستجيب له إلّا الذين يسمعون دعوته بتفهّم وتدبّر ، وأن الذين قد يحرص على إيمانهم ولا يؤمنون هم بمنزلة الموتى الذي لا يسمعون

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) أي يحييهم من قبورهم فيحكم فيهم ، ويردّهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يعادون للجزاء ، وحينئذ يسمعون ولا ينفعهم استماعهم ، فلا سبيل إلى إسماع هؤلاء الصم البكم ـ كالأموات ـ ولا إلى إفهامهم.

٣٧ ـ (وَقالُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي قالوا عنادا ، واقترحوا مكابرة إنزال معجزة تكون غير ما أنزله الله تعالى على رسوله من الآيات المباركات والمعجزات الباهرات ، فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) أي مستطيع أن ينزل آية تلجئهم وتجبرهم على الإيمان كالبلاء والصاعقة والقحط وغير ذلك ممّا يحملهم قهرا على التصديق بوجوده تعالى وبصدق رسالة نبيّه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فحكمته سبحانه لا تقتضي ذلك لأنه خالقهم العالم بهم ، فقد قال القمي : إن الآية إذا جاءت ولم يؤمنوا بها هلكوا. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام في هذه الآية : سيريكم في آخر الزمان آيات : منها دابة الأرض ، والدّجال ، ونزول عيسى بن مريم ، وطلوع الشمس من مغربها. وقد روي أن دابة الأرض تخرج من بين الصفا والمروة فتسم المؤمن بأنه مؤمن ، والكافر بأنه كافر ، لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب.

٣٨ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ...) الدابة تعني كلّ حيوان يدب : يمشي على الأرض من أي صنف أو جنس كان. فليس من حيوان مخلوق على وجه الأرض (وَلا) من (طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) وقد ذكر الجناحين لأنهما مختصان بالحيوان الذي يسير في الفضاء ولرفع اللّبس عما يعنيه العرب بلفظ الطيران الذي يعني السرعة كقولهم : طر في حاجة فلان ، وذكرهما قيد احترازيّ على كل حال ، فما ذلك كلّه من المخلوقات الحيّة (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي أنها جماعات تشبهكم في الخلق والإبداع ، وتدل على قدرة صانعها. وإنما مثّل الأمم من غير الناس بالناس لحاجة الكل إلى مدبّر يدبّرهم في تكفّل أغذيتهم ولباسهم ومسكنهم ونومهم ويقظتهم وهدايتهم إلى مراشدهم ، ولغير ذلك مما لا

يحصى من وجوه الشبه. وبالاختصار فإن كل شيء مما خلق مثلكم أيها الناس ، ودلّ على كمال القدرة عند الخالق على أن ينزّل آية (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي ما تركنا في الكتاب : يعني اللوح المحفوظ الذي فيه ما يجري في العالم من الكبير والصغير والجليل والحقير من الأمور من شيء ، أو هو يعني القرآن الكريم الذي فيه تبيان كلّ شيء من أمر الدين مجملا أو مفصّلا ، ومن أمور المعاش والمعاد. وكلمة : من ، مزيدة جيء بها لتزيين الجملة كما لا يخفى على أهل الدربة والبلاغة.

والظاهر من كثير من الروايات أن المراد بالكتاب في هذه الشريفة هو القرآن ، ففي حديث الإمام الرضا عليه‌السلام عن الإمامة ـ كما في العيون وغيره ـ قال : جهل القوم وخدعوا عن أديانهم. إن الله لم يقبض نبيّه حتى أكمل الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء ، بيّن فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كملا ، فقال عزوجل : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي أنهم جميعا يبعثون ويجمعون وتكون كل نفس بما كسبت رهينة فتجزى بما عملت إن خيرا فخير وإن شرّا فشر.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ ...) أي الذين كذّبوا بالقرآن هم صمّ عن استماعه وبكم لا يستطيعون النّطق بكلمة الحق وبالربوبية ، وهم (فِي الظُّلُماتِ) أي ظلمات الجهل والكفر و (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي يخذله ويترك نصرته ومعونته وهدايته فيصير ضالّا قهرا بسوء اختياره لنفسه ولا يتيسر له أن يكون من أهل الهدى (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يهديه ويساعده على الهدى ويلطف به لأنه سبحانه من أهل اللطف والكرامة.

* * *

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ

اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

٤٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ ...) أرأيتكم ، أي : أرأيتم أنفسكم ، ومعناه أخبروني عن حالكم فيما لو نزل عليكم عذاب الله في الدّنيا (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) يوم القيامة ، إلى من تلجأون في دعائكم واستغاثتكم؟. (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ؟) وهذا تعجيز لهم لأنهم في مثل تلك الحال لا يدعون إلّا الله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال : أغير الله تدعون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأن الأصنام آلهة؟ ولذلك عقّب سبحانه بقوله :

٤١ ـ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ...) أي إلى الله تضرعون وإليه تلجأون ولدعوته تضطرون فتخصّونه بالدعاء دون آلهتكم المزيّفة (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي يزيل ما حلّ بكم ويستجيب لكم لأنه إله العالمين وكاشف المحن والبلوى ، وهو وحده القادر على ذلك ، وغيره عاجز عن دفع الضّر عن نفسه فكيف يدفعه عن الغير؟ والضمير في كلمة : إليه ، عائد إلى : ما الموصولة ، أي الذي تدعون الله تعالى إلى رفعه (إِنْ شاءَ) إذا أراد ، فيمنّ عليكم بكشف السوء (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) أي

تجعلون حينئذ آلهتكم وراء ظهوركم وتلجأون إلى الله تعالى لا إلى غيره وقت الشّدة.

٤٢ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ...) يعني : بعثنا رسلا إلى الأمم السابقة لعهدك فكذّبتهم الأمم السابقة. وفي هذا تطييب لنفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ كذّبه قومه ، فلا ينبغي أن يتأذّى أو يتأثر لمخالفتهم لأن الله يدافع عن رسله فقد قال لنبيّه عن أولئك المكذّبين : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) أي شدة الفقر والبلاء بالجدب والحاجة (وَالضَّرَّاءِ) أي المرض والنقص في الأنفس والأموال (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي لكي يبتهلوا ويتذلّلوا لنا فنرضى عنهم ونرفع البلاء.

٤٣ ـ (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ...). فلو لا : تعني هنا : فهلّا ، وهي كلمة تحضيض ، وهو التحريض ، والحمل على الأمر. وهي إذا دخلت على الماضي كانت للّوم على ترك الفعل نحو : هلّا آمنت؟ أي : لما ذا لا تؤمن. وإذا دخلت على المضارع كانت للحث على الفعل ، نحو : هلّا تؤمن؟ أي : آمن به تعالى فهو أحق من غيره بالإيمان به. ومجمل المعنى أنه لمّا جاءهم بأسنا وعذابنا لم يتضرّعوا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) جمدت على كفرها (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) زخرف لهم أعمالهم الفاسدة بوسوسته وحسّن لهم عبادة الأصنام وقتل الأولاد خشية الإملاق ووأد البنات خوف العار وما أشبه ذلك من الموبقات.

٤٤ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) أي لمّا نسوا به ما نزل بهم من البأساء والضراء ، ولم يتّعظوا بما حلّ بهم (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من نعمنا وعطائنا رأفة من جهة ، وامتحانا لهم من جهة ثانية وإتماما للحجة عليهم ، فبقوا على كفرهم وانصرافهم وغرّهم النعيم الذي هم فيه (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) وبطروا وزادتهم النعم غرورا وفتنة ولم يشكروا المنعم بل نسوه (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة ومن حيث لا يشعرون (فَإِذا

هُمْ مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون آيسون من رحمته تعالى دنيا وآخرة في وقت لا تنفع فيه التوبة ولا تلافي الذنب.

٤٥ ـ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) أي أهلك آخر من بقي منهم فلم يترك أحد لظلمهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إهلاك الظالمين المعاندين ، وعلى إعلاء كلمة الحق. ويستفاد من هذا الحمد أنه ينبغي الشكر لله تعالى حين ينزل عذاب منه سبحانه يطهّر به الأرض من الظالمين. وفي العياشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تأويل هذه الآية الكريمة : لمّا تركوا ولاية عليّ عليه‌السلام وقد أمروا بها ، أخذناهم بغتة. وقال : نزلت في ولد العباس.

* * *

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

٤٦ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ...) قل يا محمد لهؤلاء المعاندين : إنه في حال أن الله جعلكم صما وعميا (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن غطّى عليها بعمى القلوب فصارت لا تعقل (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ

(اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟) أي فهل لديكم ربّ قادر على إرجاع ما أخذ الله منكم؟ ... (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبيّنها ونوجهها حججا عقلية ترغيبا وترهيبا (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون.

٤٧ ـ (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً ...) يعني فجأة ودون سابق علامة أو مقدمة تلفت النظر إليه (أَوْ) أنه أتاكم وحلّ بكم (جَهْرَةً) أي علنا وبتقديم مقدمة وبسابقة قبلية (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) هل : أداة استفهام إنكاري ، يعني أنه لا يهلك هلاك سخط ولا يفنى ويبيد إلّا الكافرون والظالمون.

٤٨ ـ (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ ...) أي لا نبعث أنبياءنا إلّا مبشّرين بالخير للمؤمنين وواعدين إياهم بالجنة وتجنّب النار (وَمُنْذِرِينَ) مهدّدين للكفار وسائر الناس بالنار والخسار (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ) أي صدّق الرسّل وحسنت حاله بعد سيرة الكفر والجحود (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عذاب الله يوم الحساب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوت الثواب وخسارة الأجر الجزيل الذي وعد الله به المؤمنين ، فهم متنعّمون في جنات النعيم لا يحزنهم فوت شيء.

٤٩ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي : جحدوها وأنكروا ما جاء به رسلنا (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) يصيبهم سخط الله وعذابه بخروجهم عن الطاعة و (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب أنهم كانوا يفجرون ويعتدون على أوامر الله عزّ وعلا.

* * *

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ

أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢))

٥٠ ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ...) قل يا محمد لهؤلاء العتاة العصاة ليس عندي مقدورات الله جلّ وعزّ وجميع ما يملك في مذخور علمه. فإن خزائنه تعالى ليست كما نتصور بعقولنا القاصرة أماكن يختزن فيها الرزق والنّعم ، إذ جاء في التوحيد والمجالس عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه لمّا صعد موسى على نبيينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام إلى الطّور نادى ربّه عزوجل : يا ربّ أرني خزائنك. فقال تعالى : يا موسى ، إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له : كن فيكون .. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لا أعرف ما انطوى عني من علم اختصّ الله تعالى به نفسه طالما لم يوح به إليّ (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ولست ملكا من الملائكة يقدر على ما هو مقدور لهم (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ولكني أسير وفق ما يردني من أوامر الوحي ولا أدّعي الملكية والإلهية ، بل اختارني الله سبحانه للنبوّة وميّزني بها عن كمالات البشرية. وبعد ذلك (قُلْ) لهم : (هَلْ يَسْتَوِي) يتساوى لدى العقلاء (الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي من يعلم ومن لا يعلم أو الكافر والمؤمن كما ذكر القمي في تفسيره؟ (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) ألا تتأمّلون بفكركم لتميّزوا بين الحق والباطل؟

٥١ ـ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ...) الضمير في : به ، راجع للقرآن بدليل ما في المجمع من قول الصادق عليه

السلام : وأنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى ربّهم ، أي رحمة ربّهم ومغفرته ورضوانه ، ترغّبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفّع ... وقيل إن الضمير راجع إلى : ما يوحى إليك ـ في الآية السابقة ، ويحتمل قبول ذلك ويكون المراد بما يوحى : القرآن وعموم الوحي. فأنذر المؤمنين بذلك وحذّرهم به إذ (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فقد حصر الولاية به سبحانه ثم الشفاعة التي أوردها بصيغة المبالغة ليهتمّ الناس بها ، وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته يشفعون من بعد إذنه سبحانه. فذكّرهم بهذا يا محمد (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي من أجل أن يخافوا العاقبة ويتوبوا إلى ربّهم ليفوزوا برضاه.

٥٢ ـ (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) لا تطرد : أي لا تبعد عن مجلسك ولا تنحّ عن حضرتك المؤمنين الّذين يطلبون رضى الله بالغداة : عند الصباح ، والعشيّ : عند المساء ، أي يعبدونه على الدوّام بلا استثناء وقت من أوقات العبادة ، فلا تبعد من يفعل ذلك من الناس لأنهم بفعلهم هذا (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يبتغون رضاه مخلصين له. والجملة حالية من الفعل : يدعون (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لست مسئولا عن محاسبتهم وليس لك إلّا اعتبار ظاهرهم (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وليسوا مسئولين عن محاسبتك على ما تفعل ولا أحد يؤاخذ بحساب أحد (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنك تظلمهم بطردهم من حولك ، وهذا جواب النهي ـ والفعل منصوب بفاء السببية ـ وقيل إن هذه الآية الكريمة نزلت في فقراء المسلمين من أهل الصّفة ، وكان المشركون قد طعنوا فيهم وطلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يطردهم من حوله ليتسنّى للمشركين الجلوس إليه ، فأبى عليهم ذلك. قالوا له : فنحّهم عنّا إذا جئناك ، قال : نعم ، فنزلت هذه الشريفة.

* * *

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ

عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))

٥٣ ـ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ...) أي وهكذا فتنّا : اختبرنا بعضهم ببعض في أمور الدين كما جرى من اختبار الأغنياء بهؤلاء الفقراء الذين طلبوا إبعادهم عن مجلس النبيّ (ص) مع أنهم سبقوهم إلى اتّباع دعوة الحق وكانوا من أهل التقوى ، فاختبرناهم وأتحنا الفرصة لكشف سرائرهم ، وألجأناهم (لِيَقُولُوا : أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي ليقول الأغنياء بإنكار واستهجان «واللام للعاقبة» : أهؤلاء الفقراء منّ الله : أنعم ، عليهم بالتوفيق للخير والإيمان من بيننا : أي من دوننا واختارهم علينا مع أننا أغنياء وهم فقراء مساكين؟ وهذا القول من الرؤساء الطّغاة هو كقولهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، فكشف عن إنكارهم بأن يختص الله سبحانه الفقراء بإصابة الحق. ثم أجاب سبحانه وتعالى على استهجانهم بقوله الكريم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فسفّه قولهم بردّه مثبتا أنه تعالى أعلم : أعرف بمن وفقّهم لشكره.

٥٤ ـ (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ...) أي إذا جاءك يا محمد الّذين وصفوا بالإيمان والتصديق بحججنا وبراهيننا إيذانا بأنهم أهل القرب والإكرام ونقلوا إليك توبتهم من ذنوب اقترفوها (فَقُلْ) لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا بأس عليكم إذ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) يعني أوجبها على ذاته القدسية رأفة بعباده ـ وهو أرحم بهم من أنفسهم ـ وذلك بأن سنّ (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) أي من ارتكب إثما

عن جهل بالحكم (ثُمَّ تابَ) ندم وكفّ عن ممارسته وأقلع (مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) يعني تدارك الأمر بإتيان الأعمال الصالحة والتوبة والإنابة (فَأَنَّهُ) جلّ وعلا (غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير المغفرة والرحمة ... وقد قيل في سبب نزول هذه الآية المباركة أن قوما جاؤوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : أصبنا ذنوبا ، فسكت عنهم ولم يتكلّم حتى نزلت الآية بالمغفرة وقبول التوبة.

٥٥ ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ ...) أي : وهكذا نبيّن الآيات ونوضحها فنصف المطيعين والعاصين ـ كما جرى في الآيات السابقة ـ لتتّضح الأمور ويعرف كل امرئ مصيره (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) أي : تتضح طريق الظالمين لأنفسهم. وقد قرئت تستبين ، بصورة الخطاب ، ونصبت لفظة : السبيل. كما أنها قرئت بصيغة الغيبة : وليستبين سبيل. ولفظة السبيل تؤنّث وتذكر عادة.

* * *

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

٥٦ ـ (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ ...) أمر سبحانه نبيّه (ص) أن يعلن رفضه لعبادة ما يعبدونه مما يدعونه : أي يسمونه ربّا

من أصنامهم وأوثانهم (مِنْ دُونِ اللهِ) يعني غير الله تعالى. ثم كرّر أمره قائلا : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي لا أقلّدكم في اتّباع هوى نفوسكم الضالة ـ وذلك ليؤكد لهم قطع أطماعهم في المساومة ـ لأني إذا فعلت ذلك أكون (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي انحرفت عن طريق الحق بإطاعتكم (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي : وكنت من الضالين مثلكم وما أصبت شيئا من الهدى. وفي الآية الكريمة تعريض واضح بما هم عليه من الضلال والكفر.

٥٧ ـ (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ...) أي على حجة واضحة ودليل قاطع من معرفة ربّي وأنه لا معبود سواه (وَ) أنتم (كَذَّبْتُمْ بِهِ) وأنكرتموه وأشركتم معه غيره ، وأنا (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي ليس بيدي إنزال العذاب الذي تطلبونه وتستعجلون وقوعه ، كقولكم : فأمطر علينا حجارة من السماء أو أتنا بعذاب أليم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي أن القضاء بذلك بيد الله فهو وحده يملك التقديم والتأخير وهو (يَقْضِي بِالْحَقِ) يحكم حكم الحق لأنه العادل في كل ما يقضيه إذ لا يجحف في حكم أبدا (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي القاضين قضاء حقاّ يفصل في كل قضية بلا نقيصة ولا زيادة.

٥٨ ـ (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ...) أي أن ما تطلبون تعجيله من نزول العذاب على المنكرين لو كان بيدي وكنت أملك أمره (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي لحكمت حالا غضبا مني لربّي عزوجل ولفصلت النزاع بيني وبينكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أعرف بهم وبما توجبه الحكمة من إمهالهم أو أخذهم حالا.

* * *

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما

تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

٥٩ ـ (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ...) أي : وعند الله سبحانه مفاتح : جمع مفتح يعني مخزن وخزانة وكنز علم الغيب الذي لا يعلمه غيره. أما المفتاح الذي جمعه مفاتيح فهو الآلة المعلومة لفتح الأبواب والأقفال وغيرها فعند الله تعالى خزائن علوم الغيب التي (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) لا يعرفها غيره لأن علمها منحصر به فهو وحده يعلم ما توجبه حكمة تصريف الأمور والأقدار في حالي التعجيل والتأجيل (وَيَعْلَمُ) مع ذلك كلّه (ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من ذوات الأرواح وغيرها (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) يعرف لبثها على الغصن وأمدها وسقوطها وما قبل ذلك وبعده (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أي ما من حبة تسقط على الأرض أو تقع في جوفها إلّا يعرف أين صارت وكيف سقطت (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) أي جميع ما في الكائنات لأنها كلها تدور بين أن تكون من الرطب اللّدن الأخضر أو اليابس الجافّ ، فليس شيء من ذلك يفوت علمه ، وما من كائن مخلوق (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي في لوح محفوظ مسجّل أو هو ثابت في علمه تبارك وتعالى لأن علمه ذاتي لا يقيّده شيء ، ولأن الذاتيّ

لا يتغيّر ولا يتبدّل إذ هو تابع للذّات التي لا تتغيّر ، بخلاف العلم الاكتسابي كعلم غيره سبحانه ، فهو يتغيّر ويتبدّل.

٦٠ ـ (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ...) الذي يتبادر إلى الذّهن من هذه الصيغة العربية العريقة هو أنه تعالى يتوفّى الناس في جميع الأحوال ليلا ونهارا. ولعلّ لفظة : الليل ، هنا تشير إلى النّوم ـ كما قيل في بعض وجوه التفسير ، لوقوع النوم غالبا في الليل. وعلى هذا إنه هو سبحانه يتوفّاكم في الليل أي يأخذ أرواحكم الواعية إليه. والتوفّي هو المجيء للملاقاة ، فيكون إما بقبض الروح عند النوم أو عند الموت كقوله تعالى : هو الذي يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، أي يقبضها إليه عند النوم.

وهذا الكلام من باب التنبيه للإنسان ليكون متهيئا إلى الموت في كل آن ، ليلا ونهارا ، لأن الموت لا يختص بوقت دون وقت ولا بحال دون حال بل هو أجل مسمّى لا يقدّم ولا يؤخّر ... فهو الذي يفعل ذلك بكم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي يعرف ما كسبتم وعملتم (بِالنَّهارِ) أو غيره كما يدل سياق الكلام (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي يوقظكم وينبّهكم في النهار من نومكم (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي ليحين أجل موتكم. وفي القمي عن الإمام الباقر عليه‌السلام في قوله : (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ، قال (ع) : هو الموت (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى الله سبحانه معادكم يوم البعث (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بمجازاتكم طبق استحقاقكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا.

٦١ ـ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ...) أي الغالب لهم والمستولي المنتصر عليهم (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يبعث ملائكة تحميكم وتحرسكم من جهة ، وتحصي أعمالكم وتنسخها في سجلّ الحسنات والسيئات من جهة ثانية .. وفي هذا لطف عظيم منه سبحانه بعباده من ناحية حفظهم ومن ناحية أنهم إذا علموا أن أعمالهم تكتب وتعرض عليهم يوم القيامة وتظهر

على رؤوس الأشهاد ينزجرون عن الأعمال القبيحة خوفا من الهتك والعار في يوم القيامة إذ لا تنفع الندامة. فهو تعالت قدرته يفعل ذلك معكم أيها الناس طيلة حياتكم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وحان حينه وحلّ أجله (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي قابضو الأرواح ـ عزرائيل وأعوانه عليهم‌السلام ـ بكل دقة (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) يعني لا يسبقون الأجل المقدّر ولا يتأخرون عنه لحظة واحدة بل يقومون بوظيفتهم بصورة آلية تتم بدقة عجيبة.

٦٢ ـ (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ...) أي أنهم بعد قبض أرواحهم وموتهم ردّوا : أعيدوا إلى مولاهم : من يتولّى أمورهم ومن هو مالكهم والأولى بهم من أنفسهم وهو الله عزوجل. ومولاهم بدل من لفظة الجلالة ، والحق نعت لمولى. فهم يعادون بعدها إليه ليحكم بهم بعدله (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يعني ليس لغيره من حكم بمصائرهم والحكم محصور به سبحانه وتعالى وإن قيل كيف يكون مولى جميع الخلائق وقد قال في مورد آخر : وأنّ الكافرين لا مولى لهم؟. قلنا : المولى الأول بمعنى الخالق المالك المعبود ، والمولى الثاني بمعنى الناصر ولا تنافي بين القولين لأن الكافرين لا ناصر لهم يوم القيامة ولا معين ولا شافع. فهو سبحانه المولى ، وهو كذلك (أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) إذ يحاسبهم كلمح البصر. وقد ورد في بعض التفاسير أنه تعالى يحاسب الخلائق في قدر حلب شاة إذ لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره. وفي كتاب الاعتقادات أن الله تعالى يخاطب عباده من الأولين والآخرين يوم القيامة بمجمل حساب عمل كل واحد منهم مخاطبة واحدة يسمع كلّ واحد قضيّته دون غيره ويظنّ أنه المخاطب دون غيره. فإنه سبحانه وتعالى لا تشغله مخاطبة عن مخاطبة ولا عمل عن عمل. فيفرغ حساب الأولين والآخرين بأقل من نصف ساعة من ساعات الدنيا بقدرة خارجة عن طاقة العقول وعن طاقة جميع الموجودات. وقد سئل الإمام الصادق عليه‌السلام : كيف يحاسب الله العباد يوم القيامة من الأولين والآخرين؟ فقال : يحاسبهم دفعة واحدة كما يرزقهم دفعة واحدة.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧))

٦٣ ـ (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أي من يخلّصكم منها ويخرجكم سالمين. والظّلمات قد تكون الشدائد والمشقّات لأن هاتين تشاركان الظّلمات في الأهوال والمخاوف للحيلولة دون رؤية الأبصار ما يعترض الإنسان من مخاطر. فإنكم حين تقفون في هذه الظلمات تقعون في الضّر فتلجأون إلى الله وتدعونه ليكشف عنكم ضرّها ، ولذا قال سبحانه في مكان آخر : وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلّا إياه ، يعني ليس من كاشف لذلك الضرّ سواه سبحانه ، فالمنجي في تلك الحالات هو الله وحده ، وهو الكاشف للشدائد القادر على دفعها (تَدْعُونَهُ) تبتهلون إليه (تَضَرُّعاً) والتضرع هو التذلل والابتهال ، وهما غالبا مقارنان للدعاء بصوت ضعيف. أي : دعاء بضراعة ورجاء تنطلق به ألسنتكم علنا (وَ) تهمس به نفوسكم (خُفْيَةً) قائلين : (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ) أي خلّصنا مما نحن فيه من شدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنصيرنّ من الحامدين لله المطيعين له السامعين لأوامره. وإن سلاسة الكلام واستقامته لتظهر في سبك هذه الآية الكريمة فإنه عزوجل

كأنه قال : تدعونه قائلين : لئن أنجانا .. إلخ ... أي : والله إن نجونا لنشكرنّ الله ، يعني نثني على كرمه ونعمه.

٦٤ ـ (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ...) قل يا محمد للناس : إن الله تعالى هو الذي ينجي الناس من الشدائد التي تحيق بهم في البرّ والبحر ، ومن كل كرب : أي حزن ومشقة يلازمها الغيظ والانقباض في النفس وضيق الصدر. فهو وحده اللطيف بعباده (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي تجعلون له شريكا في خلقكم ورزقكم وتخليصكم من الشدائد بعد ظهور الحجة عليكم؟

٦٥ ـ (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً ...). أخبر هؤلاء يا محمد أن الله قادر على إنزال العذاب عليكم (مِنْ فَوْقِكُمْ) كما فعل بأصحاب الفيل حين أمطرهم بحجارة من سجّيل ، وكالطوفان الّذي أغرق قوم نوح (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أهلك فرعون وقومه وكما خسف بقارون وبقوم لوط ، أي بالزلازل (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أي يجعلكم فرقا مختلفة فيما بينها تلتبس أهواؤها بعضها ببعض وتضطرب آراؤها وتتباعد مذاهبها وتكثر خصوماتها وجدلها فتتفرّق ولا يألف أحد أحدا فيسيطر الاختلاف (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) وذلك بأن يحصل النزاع والقتال فيقتل بعضكم بعضا ويهيمن سوء الجوار عليكم (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي تأمّل كيف نبيّن الدلائل الحاوية للوعد والوعيد (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) طمعا بأن يتفكّروا ويعقلوا ويرعووا. والفقه هو فهم الشيء بدليله.

وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام : من فوقكم : من السلاطين الظّلمة ، ومن تحت أرجلكم : من عبيد السوء وممّن لا خير فيه ، ويلبسكم شيعا : يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية ، ويذيق بعضكم بأس بعض : هو سوء الجوار. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا وقع السيف في أمّتي لم يرفع عنها إلى يوم

القيامة. وقال (ص) أيضا : سألت ربي أن لا يظهر على أمّتي أهل دين غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني ، وسألته أن لا يجمعهم على ضلال فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني ـ أي لم يعطه ذلك ـ.

٦٦ ـ (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ...) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والضمير في : به ، راجع للقرآن الناطق بالدلائل والبيّنات. فقد كذّب به القرشيون ـ وغيرهم ممن كان في عصره (ص) ـ مع أنه الحق الثابت الذي لا ريب فيه ، ف ـ (قل) لهم : (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي حافظ ، كالمولى الذي يلاحظ حفظهم من التكذيب ويحميهم من هجمات أعدائهم ليدفع عن حياتهم ويرد عنهم كيد مخالفيهم ، إذ أنه ليس مسئولا عمّا يقعون به من مخالفات لأنه بشير للمؤمنين ونذير للمكذبين الكافرين.

٦٧ ـ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) : أي لكل خبر تلوته عليكم وأنذرتكم به وقت استقرار وحصول ، يقع الخبر فيه من غير خلف في موعده ، وستعرفون عند وقوعه وحلوله بكم عاقبة تهديدي ووعيدي إذ سيكون كل ذلك وفق قدر مقدور.

* * *

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ

تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

٦٨ ـ (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...) أي إذا صادفت الكافرين يتحدثون فيما بينهم ساخرين بآياتنا ذامّين للقرآن وهازئين به ـ وذلك مأخوذ من : خاض في الماء : دخله بحيث لم يبق شيء من بدنه خارجا عنه. فقوله عزّ اسمه : يخوضون في الآيات ، يعني أنهم يغرقون في الهزء منها ولا يلمّون بالسخرّية بها إلماما ، ففعل : يخوضون ، آكد من أن يقول : يتحدثون ساخرين وأشمل وأعمق كما لا يخفى ، فهم بهذه الصورة يظهرون غارقين في محافلهم بذم القرآن ونبيّ الرحمان. فإذا رأيتهم في مثل هذه الحال يا محمد (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : مل بوجهك وجسدك عنهم ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا) أي يأخذوا (فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) يعني غير القرآن أو غير الحديث الذي يتناول آيات الرحمان. فحينئذ لا بأس بمجالستهم واستماع كلامهم. والخطاب موجه للنبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر المؤمنين ، وقد أباح سبحانه مجالسة الكفار والمنكرين من باب التقية لانتظام سير الحياة وارتياد المجالس العامة والمجالات الاجتماعية من أجل صلاح الفرد والجماعة. ثم عقّب سبحانه بقوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) ولفظة : إمّا المشدّدة مركّبة من إن الشرطية ، ومن : ما ، الزائدة المدغمة بعضها ببعض. ولفظة : ينسينّك ، شدّدها ابن عامر وخففّها ابن يعقوب وكلاهما من القرّاء المعروفين. فإذا أنساك الشيطان هذا الأمر من عدم مجالسة الخائضين في آياتنا الساخرين من قرآننا ووحينا ، ثم جلست إليهم سهوا (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي : فلا تجلس بعد أن تتذكر أمرنا (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني معهم. وقد

وضع الاسم الظاهر موضع الضمير ـ إذ كان ينبغي أن يقول : فلا تقعد معهم ـ إيذانا بظلمهم باستهزائهم.

ونكرر أن الخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن مفاده لنا ، لأن غيره من الأمّة غير قابل لأن يكون شأنه شأن النبي الكريم إذ هو أعظم من أن يقعد في مجلس يستهزأ فيه بالقرآن ويكذّب نبيّ الرحمان ، ومثل ما نحن فيه هو من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة. وقال العياشي : قال الباقر عليه‌السلام في تأويل هذه الآية : الكلام في الله ، والجدال في القرآن ، وقال عليه‌السلام : منه القصّاص. والقمي أورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسبّ فيه إمام ، أو يغتاب فيه مسلم. إن الله تعالى يقول في كتابه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...) ومن هذه الرواية الشريفة يستفاد أن المجلس المذكور فيها هو في حكم مورد الآية الكريمة.

٦٩ ـ (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ...) أي ليس من واجب على المؤمنين المتّقين المتجنّبين ما يسخط الله ، حين مجالسة الخائضين في آيات الله ، ليس عليهم ولا يلزمهم (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) إذ لا تلحقهم تبعة الكافرين ولا يحاسبون بقول من قال (وَلكِنْ) ينبغي أن يكون جلوسهم معهم (ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فعليهم تذكيرهم بالحسنى ولا يحسن أن يغضبوا ويثوروا ، بل عليهم أن ينهوهم ويذكّروهم لعلّهم يجتنبون ذلك ويقلعون عن ذمّ آيات الله والاستهزاء بها.

٧٠ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ...) يعني : دع واترك هؤلاء الذين دينهم لهو ولعب ، إذ العبادة لأصنامهم وأوثانهم لا تعقب نفعا ولا تدفع ضراّ بل هي مواقيت يلهون بها ويلعبون كما في أعيادهم ومواسمهم ـ وقيل إن الأمر بترك هؤلاء في هذه الآية قد نسختها آية السيف ـ فإن هؤلاء القوم قد استحوذ عليهم الشيطان (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعهم ما في الحياة على هذه الأرض من مغريات فأنساهم

الآخرة وأهوالها ، فاتركهم وشأنهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي خوّف بالقرآن الكريم (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) يعني أن تسلم للهلكة وتعرّض للعذاب بسوء ما كسبت من الإثم وترتهن بقبيح أعمالها حين تصبح (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فلا وكيل يدافع عنها ولا متوسّط يشفّع بها (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي ولو تدفع أية فدية كانت ـ والعدل هنا الفدية المساوية لارتكاب الذنب ـ فإن أي فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها) بل يرفض لأنها نفس خبيثة قدّمت شهواتها ورضى المخلوقين على أوامر خالقها ورضاه. فالفئة التي تكون من هذا الصنف (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي حبسوا بأعمالهم الخبيثة وعقائدهم الفاسدة المفسدة لعقائد غيرهم وأصبحوا رهن العذاب بعد الموت ، وقد أعدّ في الآخرة (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) والحميم هو الماء الساخن المغليّ البالغ غاية الحرارة بحيث يقطّع الأحشاء. وقد قال سبحانه في مورد آخر : وسقوا ماء حميما فقطّع أمعاءهم ، ومع ذلك الشراب لهم عذاب أليم : موجع وجعا شديدا غير قابل للتحمّل جوزوا بذلك (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم وانحرافهم عن الحق.

* * *

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ

فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

٧١ ـ (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ...) قل لهم يا محمد : أنعبد غير الله ، مثلكم ، ونسمّي رباّ لا يقدر على جلب النّفع لنا ولا يستطيع أن يدفع عنّا الضّر أو يكشف السوء؟ أنفعل ذلك (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أي ننصرف عما نحن عليه ونعود القهقرى ونترك دين الحق؟ والردّ على الأعقاب هو الرجوع إلى الوراء واتّباع جهة العقب وهو مؤخّر القدم ، وهو هنا ترك دين الحق ـ دين الإسلام ـ والعودة إلى الشّرك والأوثان. أفنفعل ذلك (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) أرشدنا إلى الإسلام ، وتكون حالنا (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أي كمن أغرته الأبالسة وألقت به في المهواة السحيقة من الوهاد ، وتركته (فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) ضالّا لا يعرف كيف يتخلص مع أن (لَهُ أَصْحابٌ) رفاق (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) يرشدونه إلى الحق ويدلّونه على طريق الرشاد قائلين له : (ائْتِنا) أي تعال إلينا وكن معنا ، فيعرض عن دعوتهم ولا يطيعهم فيهلك. وما ذكر في صدر هذه الآية الشريفة مبنيّ على ما تزعمه العرب من أن الجنّ تستهوي بعض الناس وتذهب بعقولهم وألبابهم وتزيّن لهم ما شاءت من الأضاليل ، ف (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ هُدَى اللهِ) إلى دين الإسلام وإطاعة الرحمان (هُوَ الْهُدى) والرشاد الصحيح وغيره ضلال (وَ) نحن ـ المسلمين إنما (أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أوجب علينا التسليم والانقياد والطاعة لأوامر ربّ العالمين : يعني الناس وسائر المخلوقات والكائنات :

٧٢ ـ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) عطف على قوله السابق : لنسلم ـ تابع له لا في الإعراب بل فيما هو عليه من كون المعطوف عليه من باب ذكر الخاص بعد العام ـ. بيان ذلك أن «الهدى» يدخل فيه كلّ ما أمر الله به ونهى عنه. والمقصود من ذكر الإسلام بالخصوص هو التنبيه على

عظمته ، ولذلك عقّب سبحانه بقوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي أدّوها وأظهروا إقامتها إذ لا هداية ولا إسلام إلّا بها فإنها عمود الدين (وَاتَّقُوهُ) والضمير هنا عائد لرب العالمين إذ التقوى واجبة بعد الإسلام وإقامة الصلاة ، ولا إيمان صحيحا بلا تقوى الله فهو الخالق الرازق الأمر بالحق (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم الحشر ليجازى كلّ عامل بعمله. ففي الخبر أن الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

٧٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) قد أشار سبحانه إلى ذلك ليبيّن عظمته لأنه خلقهما (بِالْحَقِ) أي على وفق الحكمة وفي أعلى مراتب النظام والدقة فكانا ، هما وما فيهما ، طبقا لقواعد طبيعية مستقرة جزءا وكلّا بقدرة غير ميسورة لسواه (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) فالمراد بكلمة : كن ، هو إرادته سبحانه ، فبمحض إرادته يحصل الإيجاد والانعدام دون الحاجة إلى التلفّظ بقول : كن. وهذا هو المعنى المناسب لذاته المقدّسة ، والقول إنما يحتاج إليه المرتاضون والأولياء المقرّبون والأنبياء العظام. والله سبحانه ساق الكلام مساق مفهوم العرف والعادة ليفهم عامة الناس. فوقوع قوله هذا سبحانه بعد ذكر خلق السماوات والأرض ، هو لأن خلقهما في ستة أيام ـ بضميمة ما بثّ فيهما ـ دليل على عظمته وقدرته التي تستطيع أن تقول للشيء كن من كتم العدم فيكون. وبالمناسبة نشير إلى أن الإيجاد يكون تدريجيا بحسب العرف والعادة ، ويكون أسهل في الحصول من الإعدام الذي يحتاج إلى زمان أيضا وخصوصا حين يتعلّق بإعدام الكائنات جميعها منذ بدء الخليقة إلى اليوم ، ومع ذلك فالله تعالى كما وصف نفسه يقول للشيء كن فيكون ، أي يريد فيكون ما يريد ، ولذا كان قوله هنا تفريعا لبيان إرادته ، صوّره سبحانه بلفظة : كن ، تقريبا لأذهاننا القاصرة.

أما قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ ...) فنصب على الظرفية ، وقد أورده هنا لبيان قدرة من خلق السماوات والأرض وما فيهما.

(قَوْلُهُ الْحَقُ) أي الثابت الذي تجب طاعته والإذعان إليه والتصديق به ، وأريد به مطلق أقواله جلّ وعلا (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي له الملكية والسّلطة والسطوة والأمر حين النفخ في الصور لبعث الخلائق بعد الموت ، حيث لا ملك لغيره. وقد قيل إن الصّور قرن عظيم ذو عقد يحدث النفخ فيه صوتا عظيما يوقظ الموتى ويعيد الأحياء ، والنافخ فيه إسرافيل عليه‌السلام. وهو سبحانه (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي العارف بغيب السماوات والأرض وبما خفي على المخلوقين ، والمشاهد لما استتر عنهم والشاهد على كل حركة ونأمة في الأحياء والجمادات (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله (الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء بدقة غير مستطاعة لغيره.

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩))

٧٤ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...). قد اختلف الأعلام في أبي إبراهيم عليه‌السلام. أما نحن فنرى الآية الشريفة ظاهرة ، بل صريحة في أنّ آزر أبوه. ونحن مأمورون أن نأخذ بظاهرات الآيات والروايات ما دام لم يكن دليل على خلاف الظاهر. وفي المقام لا يدلّنا شيء على الخلاف إلّا قول النسّابة أن أباه تارح. وقولهم ليس لنا بحجة ما لم يكن فيهم معصوم مبسوط اليد ، أو شاهدا عدل من أهل الصلاح ومن أهل الدراية والرواية في النسب. ولم يكن واحد من هذين في النسّابة ، فقولهم ليس بحجة عندنا. مضافا إلى أن الذي عزا هذا القول إلى النسّابة هو مجهول الحال عندنا أيضا ، فإذا فقد الدليل على خلاف الظاهر فلا بد لنا أن نأخذ بظاهر الآية والرواية في أي مقام كان كالذي نحن فيه. نعم لا بد لنا من رفع الشّبهة عن هذه الناحية ، وهو أنه لا يجوز الأخذ بظاهر هذه الآية إذ يلزم الالتزام بأمر مخالف للعقيدة. بيان ذلك أن إجماع الأمّة الإسلامية على تنزيه آباء النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكفر والشّرك إلى آدم عليه‌السلام ، وكان آزر مشركا بحسب الظاهر في الكلام.

والجواب : أن آزر كان مع المشركين تقية. وكونه معهم لا يلزمه أن يكون يعبد الأصنام. وعلى فرض قولنا أنه كان يعبدها كما هو ظاهر قول إبراهيم عليه‌السلام ، فنقول : هذا أيضا من باب التقية على ما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : التقيّة ديني ودين آبائي. فآباء النبيّ (ص) كانوا بأجمعهم مؤمنين بالله تعالى ، لكنّ بعضهم كان مبتلى بالتقيّة ، وبعضهم كان يعمل بما علم من دينه. فيمكن أن نقول : إن إبراهيم عليه‌السلام كان يعلم بإيمان أبيه ، وأن نزاعهما كان من باب المصانعة مع الناس لمصالح خفية عليهم وإبراهيم (ع) يعلم بها ويكتم إيمان أبيه ، كما أن أبا طالب عليه‌السلام كان يكتم إيمانه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورسول الله يعلم به.

وفي الكافي عن الصادق صلوات الله عليه أن آزر أبا إبراهيم كان

منجّما لنمرود ، ثم ساق الحديث إلى أن قال عليه‌السلام : ووقع آزر بأهله فعلقت بإبراهيم. وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام أيضا أنه سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) ، فقال (ع) : كان اسم أبيه آزر. فهاتان الروايتان صريحتان في ما هو ظاهر الآية الشريفة. فالجواب على ما هو مجمع عليه عند الشيعة وبعض أعلام السنّة هو ما ذكرناه. ثم إنه لا منافاة بين كون اسمه (ع) تارح ، ولقبه آزر. وهو لقب مدح لا ذمّ كما قيل ، ولكنه أطلق عليه كالاسم تسامحا لأن كليهما يشيران إلى مسمّى واحد.

أجل ، لقد قال إبراهيم عليه‌السلام لأبيه : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) يعني أتجعل الأصنام أربابا من دون الله؟ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ضلالة واضحة. ولا يخفى أن قوم إبراهيم عليه‌السلام كانوا يعبدون النجوم ، ولذا ردّ إبراهيم (ع) عليهم بغروبها وأفولها ، ثم استهزأ بعبادتهم لها وللأصنام إذ ليس لها ولا للأصنام عقل ولا إدراك بل هي جماد محض لا تملك من أمرها شيئا. وللجمع بين ما قلناه من عبادتهم للنجوم والأصنام في آن واحد نقول لرفع الإشكال : إن علم النجوم في عصرهم كان علما راقيا رائجا ، ولذا كان جماعة منهم يعبدون الشمس والقمر وبعض الكواكب لأنهم كانوا يعتقدونها خالقة للعالم وموجدة للكائنات ، في حين كان جماعة من علمائهم ـ وآخرون معهم ـ يعبدون الأصنام والأوثان ، ومن أجل ذلك شرع إبراهيم عليه‌السلام بذكر الأصنام أولا فقال : أتّتخذ أصناما آلهة؟ والاستفهام هنا إنكاريّ ، أي لا تتّخذوها كذلك لأن عبادة غيره سبحانه وتعالى ضلالة ، وعبادة الجمادات لغو محض وغير عقلائية.

٧٥ ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ...) أي وبهذه الطريقة من التبصير والتفهيم ، نبصّر إبراهيم (ع) ـ وهذه حكاية حال ماضية ـ نريه (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني حقائقهما وما هما عليه في الواقع ، وهو تعالى أعلم بهما. والحاصل أننا كما بصّرنا إبراهيم ودللناه على كيفيّة غلبة

خصمه بأفول الكواكب ، كذلك أفهمناه حقائق الأشياء ، وملكوت السماوات والأرض كما هي عليه في واقع الأمر وأوضحنا له بعض ماهياتها ليكون ذا يقين لا يدفع ، لأن في حقائق الملكوت ما يحيّر العقول ويذهب بالألباب. وفي العياشي والقمي عن الصادق عليه‌السلام : كشط ـ أي كشف ـ له عليه‌السلام عن الأرض ومن عليها ، وعن السماء ومن فيها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه. وزاد القمي : وفعل ذلك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفي رواية : والأئمة عليهم‌السلام. وفي رواية العياشي عن الباقر عليه‌السلام : وفعل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما فعل بإبراهيم عليه‌السلام ، وإنيّ لأرى صاحبكم قد فعل به مثل ذلك ـ يعني بذلك نفسه (ع) ـ.

وفي المناقب عن الباقر عليه‌السلام أنه سأله جابر بن يزيد عن هذه الآية فرفع بيده وقال : ارفع رأسك. قال : فرفعته فوجدت السقف متفرّقا ، ورمق ناظري في سلّم حتى رأيت نورا حار عنه بصري ، فقال : كذا أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض. وانظر إلى الأرض وارفع رأسك ، فلمّا رفعته رأيت السقف كما كان. ثم أخذ بيدي وأخرجني من الدار وألبسني ثوبا وقال : غمّض عينيك ساعة ، ثم قال : نحن في الظّلمات التي رأى ذو القرنين ، ففتحت عينيّ فلم أر شيئا. ثم خطا خطى فقال : أنت على رأس عين الحياة للخضر عليه‌السلام. ثم خرجنا من ذلك العالم حتى تجاوزنا خمسة أقاليم فقال : هذا ملكوت الأرض. ثم قال : غمّض عينيك ، وأخذ بيدي ، فإذا نحن في الدار التي كنّا فيها. وخلع عني ما كان ألبست. قلت : جعلت فداك ، كم ذهب من اليوم ، فقال : ثلاث ساعات.

وفي الكافي ، والمجمع ، والقمي ، والعياشي ، عن الصادق عليه‌السلام : لمّا رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات. ثم رأى آخر فدعا عليه فمات. ثم رأى ثلاثة فدعا

عليهم فماتوا ، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم دعوتك مستجابة ، فلا تدع على عبادي فإني لو شئت أن أميتهم لدعائك ما خلقتهم ، فإني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف : صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا فأثيبه ، وصنف يعبد غيري فليس يفوتني ، وصنف يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني ... وقد ذكرت هذه الروايات الثلاث تيمّنا من جهة ولمناسبتها للمقام من جهة ثانية ... والحاصل أن إبراهيم عليه‌السلام أري ملكوت السماوات والأرض فاستسلم للتفكّر والتبتّل.

٧٦ ـ (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...) أي أظلم وستره ظلامه ولازمته العتمة (رَأى كَوْكَباً ، قالَ هذا رَبِّي) يعني قال ذلك على سبيل المماشاة والمصانعة مع قومه ليتدرّج إلى رفض ذلك بالحجة فإن الأنبياء كلهم معصومون. وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام أن المأمون سأله فقال : يا ابن رسول الله أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى. قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي.) فقال الرضا عليه‌السلام : إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزّهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس. وذلك حين خرج من السّرب الذي أخفته فيه أمّه ـ وسنتكلم عنه قريبا إن شاء الله ـ فلمّا جنّ عليه الليل رأى الزّهرة كوكبا ، قال : هذا ربي على الإنكار والاستخبار. فلما أفل قال : لا أحبّ الآفلين ، لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم. فلمّا رأى القمر بازغا أي طالعا ، قال هذا ربّي على الإنكار والاستخبار ، فلما أفل أي : غاب قال : لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضالّين. فلمّا أصبح ورأى الشمس بازغة ـ قد شرعت بالشّروق ـ قال : هذا ربّي ، هذا أكبر من الزّهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار ، فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزّهرة والقمر والشمس : يا قوم ، إني بريء ممّا تشركون ، إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين. وإنما أراد إبراهيم بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم

ويثبت عندهم أن العبادة لخالقها ، خالق السماوات والأرض. وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله وآتاه ، كما قال الله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ، نرفع درجات من نشاء. فقال المأمون : لله درّك يا ابن رسول الله.

وفي القمي عن الصادق عليه‌السلام ، أن آزر أبا إبراهيم كان منجّما لنمرود بن كنعان ، فقال له : إني أرى في حساب النجوم أن في هذا الزمان يولد رجل ينسخ هذا الدّين ويدعو إلى دين آخر. فقال له نمرود : في أي بلاد يكون؟ قال : في هذه البلاد ، وكان منزل نمرود بكوثاريا. فقال له نمرود : قد خرج إلى الدنيا؟ قال آزر : لا. قال نمرود : فينبغي التفريق بين الرجال والنساء. وكانت أمّ إبراهيم حاملا بإبراهيم من آزر ولم يتبيّن حملها. فلمّا حان وقت ولادتها قالت : يا آزر إني قد اعتللت ـ أي مرضت ـ وإني سأعتزل عنك إذ كان من العادة في ذلك الزمان أن تعتزل المرأة عن زوجها إذا اعتلّت. فخرجت أمّ إبراهيم واعتزلت آزر وأوت إلى غار وضعت فيه إبراهيم عليه‌السلام وهيّأته وقمّطته وسدّت عليه باب الغار بالحجارة خوفا عليه من الحيوانات ورجعت إلى منزلها. فأجرى الله تعالى لإبراهيم (ع) لبنا من إبهامه ، وكانت أمه تأتيه بين فترة وأخرى تتفقّد أحواله. وكان نمرود في تلك الآونة يؤتى بكل امرأة حامل فيذبح ولدها إذا وضعت ذكرا ولذا فرّت أم إبراهيم بمولودها خوف الذبح ، ثم صار إبراهيم عليه‌السلام يشبّ في الغار في يوم كما يشبّ غيره في شهر حتى أتى له في الغار ثلاث عشرة سنة. فلمّا كان بعد ذلك زارته أمّه فلمّا أرادت أن تفارقه تشبّث بها فقال : يا أمي أخرجيني. فقالت : يا بنيّ إنّ الملك إن علم أنّك ولدت في هذا الزمان قتلك. فلمّا أخرجته من الغار ، وكانت الشمس قد غابت وخيّم الليل ، رأى الزّهرة والقمر وقال في نفسه ما ذكرناه سابقا ، وحين أصبح رأى الشمس ولاحظ ضوأها وإشراق الدّنيا بالنور منها فقال ما قال فكشط الله سبحانه له عن السموات حتى رأى العرش ومن عليه ، وأراه الله ملكوته في

السموات والأرض فأسلم ودان بالحنيفية. وقد سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول إبراهيم : هذا ربي ، أشرك؟ قال : من قال هذا فهو مشرك. ولم يكن إبراهيم مشركا. وكان هو في طلب ربّه وفي طلب الخالق تعالى.

٧٧ ـ (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً ...) أي شارعا ومبتدئا بالطّلوع (قالَ هذا رَبِّي) مستنكرا أن يكون هو المعبود (فَلَمَّا أَفَلَ) غرب وغاب (قالَ : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) يرشدني إلى الحق ويأخذ بيدي إلى سبيل الرشاد (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) وبهذا القول أظهر عجز نفسه واستعان بربّه جلّ وعلا من أجل الوصول إلى الهدى إذ لا يتسنّى للإنسان أن يبلغ مآربه ويصل إلى أهدافه السامية إلّا بحوله سبحانه وقوّته حيث لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم. وفي قوله هذا تعريض بضلالة قومه بعبادتهم للأصنام التي يصنعونها بأيديهم.

٧٨ ـ (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ...) فحين نظر الشمس بازغة : طالعة قال ذلك منكرا ومستنكرا. وقد ذكّر اسم الإشارة ـ هذا ـ صيانة للرب عن شبهة التأنيث ، ولم يقنعه كون الشمس أكبر من غيرها وإن كان قد ذكر كبرها لشبهة الخصم أو استدلالا لاستمالة الخصم (فَلَمَّا أَفَلَتْ) غابت وتوارت عن الأفق (قالَ : يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أتبرأ من شرككم بالله وعبادتكم لأجرام مخلوقة محدثة.

٧٩ ـ (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً ...). إني التفتّ بوجهي وأقبلت بقلبي وجميع مشاعري إلى الله الذي فطر : أي خلق السماوات والأرض على ما هي عليه من موجودات وأنظمة ، حنيفا : مخلصا مائلا عمّا أنتم عليه من الوثنية (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله سبحانه إذ ليس كمثله شيء تبارك وتعالى. (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ

* * *

قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))

٨٠ ـ (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ...) أي جادلوه في التوحيد والربوبية دفاعا عن أوثانهم وأصنامهم وما يعبد آباؤهم ، ف (قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) تجادلونني بربي الواحد الأحد الخالق الرازق وفي وحدانيته (وَقَدْ هَدانِ) دلّني بفضله على توحيده؟ (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ولا أرهب ولا أتهيّب آلهتكم ، ولا أخشى أن تضرّني كما أنني لا آمل أن تنفعني لأنها جمادات ليس من شأنها النفع والضرر (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) يعني إلّا إذا قدّر ربّي وأراد أن يصيبني بذنب ارتكبته أو سوء أتيته كأن يرجمني بشهاب أو أن أختار لنفسي الكفر به والعياذ بالله فيخلّي بيني وبين اختياري لنفسي (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) علما : منصوب على التمييز ، والكلام المقدّس يعني أن علم الله تعالى واسع : أحاط بكل شيء لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أوليس في ذلك ذكرى لكم إن كانت عندكم عقول تميّز بين الحق والباطل والقادر والعاجز؟.

٨١ ـ (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ...) مع أن معبوداتكم لا يتعلّق بها نفع ولا ضرر؟ (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) القادر المهلك الذي هو

حقيق بالخوف ، بل هو أحق به من كل مخيف ينبغي الخوف منه ، فكيف بأربابكم التي لا مجال للخوف منها لأنها جمادات لا تستطيع شيئا ، وهي (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) الله عزوجل (عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) ولا برهانا يجيز إشراككم به سبحانه عن حجة قاطعة. فلم تنكرون عليّ ولا تنكرون على أنفسكم؟ وأين ربّ الأرباب عن الأصنام والأنصاب؟ (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أنا أو أنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) من خوف عاقبة الأمر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعقلون وتفهمون مصائر الأمور؟.

٨٢ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ...) أي : ولم يمزجوا ولم يضمّوا ظلما إلى إيمانهم ينال أنفسهم أو غيرهم ، ف ـ (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي الأمان والسلامة في يوم الخوف الأكبر ـ يوم القيامة ـ (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إلى الحق الذي يجلب لهم الخير في الدنيا والأمن في الآخرة. وقد روي أنه لمّا نزلت هذه الآية الكريمة شقّ على الناس وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس ما تعنون. إنما هو ما قال لقمان : إنّ الشّرك لظلم عظيم. ليس الإيمان أن يصدّق الله ويشرك به غيره.

فالمؤمنون الذين لم يظلموا أنفسهم ولا غيرهم (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) المأمونون من العذاب والمهتدون إلى ما فيه مرضاة الله وإلى سبل الفلاح والنجاة. وعن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم : الزّنى منه؟ قال : لا ، أعوذ بالله. أي أنه أجاب على السؤال واستعاذ بالله من أولئك الذين يزنون. ولفظة : لا ، هي للنفي. والزاني ذنب إذا تاب العبد عنه تاب الله عليه.

* * *

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)

وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

٨٣ ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ ...) وتلك : إشارة إلى ما أحتجّ به إبراهيم عليه‌السلام على قومه من أفول الكواكب وما بعده من الحجج الدامغة. والحجة هي البرهان الدامغ القاطع ، التي آتيناها : أي جئنا بها إليه وأرشدناه إليها وعلّمناه إياها ، فاحتجّ بها وانتصر (عَلى قَوْمِهِ) فأفحمهم وغلبهم. ونحن (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) ـ أي : نرقّي في العلم والمعرفة والحكمة من نشاء : نريد. فيا محمد : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه وفي الرفع والخفض (عَلِيمٌ) بأحوال خلقه بجميع جهاتها.

٨٤ ـ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي أعطيناه منّا هبة وهدية

و (كُلًّا) أي كلّ منهما (هَدَيْنا) أرشدنا إلى الحق (وَ) مثلهما (نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) أي قبل إبراهيم وبنيه عليهم‌السلام جميعا ، لنجعل الوصية في أهل بيتهم كما عن الباقر عليه‌السلام في الكافي والإكمال في حديث اتّصال الوصية من لدن آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام .. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نسله ، والضمير راجع إلى نوح لقربه ، أو لإبراهيم عليهما‌السلام لأن يونس ولوطا اللّذين يأتيان بعد ذلك ليسا من ذرية إبراهيم (ع). فمن نسله (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) وكلّهم أنبياء مكرمون سلام الله عليهم (وَكَذلِكَ نَجْزِي) نثيب ونكافئ (الْمُحْسِنِينَ) الذين يفعلون الخير والإحسان لهم ولغيرهم كما جزيناهم وكافأناهم. (وَ) مثلهم (زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) ففي العياشي عن الصادق عليه‌السلام : نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ، ثم تلا هذه الآية. وعن الكاظم عليه‌السلام : إنما الحق عيسى بذراري الأنبياء من طريق مريم ، وكذلك ألحقنا بذراري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أمّنا فاطمة (ع) وقد قال ذلك في جواب هارون الرشيد عن هذه المسألة ... (وَ) مثلهم أيضا (إِلْياسَ) في كونه من هذه الذرّية الطيبة المنتجبة ، و (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني وجميعهم من عباد الله الصالحين. وقد قيل في إلياس إنه إدريس جدّ نوح ، وقيل بل هو من أسباط هارون أخي موسى عليهم‌السلام جميعا.

٨٦ ـ (وَإِسْماعِيلَ ...) أي ابن إبراهيم عليهما‌السلام هو من تلك الذرية الصالحة وكذلك (الْيَسَعَ) وهو علم أعجميّ ممنوع من الصّرف دخلت عليه آل التعريف (وَيُونُسَ) بن متّى (وَلُوطاً) بن هارون أخي إبراهيم ـ وقيل هو ابن أخته (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي قدمناهم ورفعناهم على الناس في زمانهم بالنبوّة.

٨٧ ـ (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ...) هذه الآية الكريمة معطوفة على سابقتها ، يعني أنه سبحانه بعد أن ذكر فضل أولئك الرسل

الكرام وتعهّده لهم ، بيّن أنه جلّ وعلا فضّل غيرهم أيضا من آبائهم وإخوانهم على أهل أزمنتهم ، وفضل من هم من ذرّياتهم بقوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اخترناهم واصطفيناهم (وَهَدَيْناهُمْ) دللّناهم على الحق وأرشدناهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) طريق الهدى والخير الواضحة.

٨٨ ـ (ذلِكَ هُدَى اللهِ ...) أي أن هذه الإنعامات على النبيّ إبراهيم وذرّيته من الأنبياء عليهم‌السلام هي منه سبحانه ومن هداه الذي يمنحه لعباده الصالحين و (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي من يريد وفق اختياره (مِنْ عِبادِهِ) الخيّرين ، ممّن يعلمه أهلا للهدى والاصطفاء. ثم صرّح في الجزء الثاني من هذه الشريفة بالشرط الهامّ الذي يديم عليهم هداه ونعمته وفضله بقوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا) وعدّوا معي من لا يماثلني «مع فضلهم وعلوّ شأنهم» (لَحَبِطَ عَنْهُمْ) أي فسد وتلف وقلّت قيمة (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) على أساس الشّرك ، وكانوا كغيرهم من البشر غير المنتجبين.

٨٩ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...) المراد بالكتاب الجنس ، يعني أنه أعطى وآتى كلّ واحد منهم كتابا فيه بيان أوامره ونواهيه ، ومنحه (الْحُكْمَ) أي الحكمة أو الفصل بين الناس بالحق ، وأعطاه (النُّبُوَّةَ) في زمانه (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي إذا أنكر هذه الثلاثة الأشياء التي منحناك إياها يا محمد ، وهي : الكتاب ، والحكم ، والنبوّة (هؤُلاءِ) أي أهل مكة أو خصوص قريش من أهل مكة (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي منحنا التفويض في الإيمان بها (قَوْماً) من غير هؤلاء المعاندين (لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) لا ينكرونها ولا يرفضونها لك. والباء في : بكافرين ، زائدة. وفي المحاسن عن الصادق عليه‌السلام : أي قوما يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويذكرون الله كثيرا.

٩٠ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ...) المفعول لهدى في هذه الجملة

محذوف بقرينة المقام أي : هدى «هم» الله ، والمراد ب ـ : هم ، الأنبياء المتقدّم ذكرهم. والمعنى أن من ذكرناهم من الأنبياء هم الّذين هداهم الله (فَبِهُداهُمُ) أي بطريقتهم التي توافقوا عليها من التوحيد والصّبر على الأذى وتحمّل المشاقّ في التبليغ (اقْتَدِهْ) فعل أمر : اقتد ، أي اجعل لنفسك قدوة ، والهاء للوقف ، ويقال لها هاء السّكت والصّمت ، ولذا حذفها حمزة والكسائي وصلا ، وأثبتها الباقون من القرّاء. والحاصل أنه ليس أحسن من إتّباع طريق الأنبياء الأصفياء للإنسان المسلم الكيّس ، ولا أشرف من الاقتداء بهم ولا أفضل من ذلك .. (قُلْ) يا محمد للناس : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي جعلا وأجرة على تبليغ الرسالة وبيان أحكام القرآن ، ولا أطلب منكم جزاء أتعابي وجهادي في سبيل تشييد الدين الإسلامي ، وما كان ذلك منّي إلّا خالصا لله سبحانه وتعالى ، كما لم يسأل الأنبياء قبلي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) أي أن تبليغي تذكير للناس ، بل عظة للثّقلين من الإنس والجن.

* * *

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ

وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

٩١ ـ (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...) الضمير في : قدروا ، عائد لليهود ، فقد نفى سبحانه عنهم معرفته ، وعدم كونهم يقدّرونه قدره اللازم ، لأنهم جهلوا رحمته وفضله وإنعامه (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) حين أنكروا بعثة الرّسل والوحي ، مع أن رسالات الأنبياء من أعظم نعمه وأجلّ ألطافه على عباده في بلاده. فلهؤلاء المنكرين (قُلْ) يا محمد : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى؟) كلمة : من ، اسم استفهام. فكيف تنكرون فضله ولا تقدّرونه قدره ، وقد جعل ذلك الكتاب (نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟) والنور هو الإضاءة التي من لوازمها أن تهدي الناس في طريقهم وتجنّبهم الضلالة لأنها تكشف لهم حقيقة ما في الطريق. ووقوع الهدى بعد النور يمكن أن يقال أنه عطف بيان. وحاصل المعنى أن منزل التوراة هل يكون غيره تعالى؟ وإذا وجدوا غيره فليجيئوا به حتى نرى. وإذ لم يجيئوا به علم أنّ المنزل لا يكون إلّا هو تعالى. فما بالكم أيها اليهود تأتون إلى كتابكم فتجزّئونه و (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ؟) جمع قرطاس وهو الورقة. وفي الجملة توبيخ لهم على جعل كتابهم أوراقا متفرّقة يفصلون بعضها عن بعض حسب هواهم. فما لكم ما أعجبكم من هذه القراطيس (تُبْدُونَها) أي تظهرونها (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) ممّا حوى صفات

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونعته ، تفعلون ذلك حسب شهواتكم (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) أي أنكم أيها اليهود تفعلون ذلك في حال أنكم ـ بفضل القرآن وما فيه من بيان ـ قد عرفتهم الكثير مما كنتم تجهلونه ويجهله آباؤكم إذ تسنّى لكم أن تدركوا عهد بعثة هذا النبيّ الكريم ، وأن تطّلعوا على صفاته في توراتكم ، ف ـ (قُلْ) يا محمّد لهم قبل أن يجيبوا على سؤالك : أنزلها (اللهَ) تعالى (ثُمَّ ذَرْهُمْ) دعهم واتركهم (فِي خَوْضِهِمْ) باطلهم وهزلهم ولعبهم (يَلْعَبُونَ) ويلهون عابثين بفعل أهوائهم الضالّة المضلّة. وجملة : يلعبون حال من الضمير في : ذرهم ، ويحتمل كونه حالا من خوضهم كما صرّح القمي ، أي في ما خاضوا فيه من التكذيب.

٩٢ ـ (هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ، مُبارَكٌ ...) هذا : يشير به إلى القرآن الكريم ، نعته بالبركة لكثرة نفعه وجليل فائدته ، فهو (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي موافق ومكرّس لصدق ما نزل قبله من الكتب السماويّة ، جعلناه لك كذلك لتصديق الدّعوات الربّانية التي سبقته (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) أي : لتحذّر وتخوّف من العقاب أمّ القرى : مكة التي سمّيت كذلك لأنها دحيت الأرض من تحتها فكأنها تولّدت منها. والقمي قال : سمّيت أمّ القرى لأنها أول بقعة خلقها الله من الأرض. فالقرآن أنزلناه عليك لإنذار أهل مكة (وَمَنْ حَوْلَها) يعني أهل الشرق والغرب والجهات الأخرى ، لا من هم في ضواحيها فقط (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ويصدّقون بالبعث والحساب (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يصدّقون بهذا الكتاب الكريم (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي أنهم يداومون على صلاتهم وسائر عباداتهم لأنهم يخافون العاقبة ، وهم «على الدوام» يتفكّرون ويتدبّرون ، وينظرون في حوادث الكون ويؤمنون بموجد العالم ومدبّره. وقد ذكر الصّلاة دون سائر عباداتهم وطاعاتهم لأنها عماد الطاعات وأعظم العبادات ولا يقبل عمل إلّا بها على ما في المرويّ بين سائر فرق الشيعة والسنّة.

٩٣ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممّن

يدّعي النبوّة افتراء على الله. والافتراء هو ادّعاء أمر غير واقع. فليس أظلم لنفسه ممّن كذب على الناس وادّعى نزول الوحي عليه ، كما فعل مسيلمة الكذّاب في اليمامة. وعلى قول «كما في الكافي والعياشي عن أحدهما عليهما‌السلام» أنها نزلت في ابن أبي سرح الذي استعمله عثمان على مضر ، وكان أخاه من الرضاعة ، أسلم وقدم المدينة وكان له خطّ حسن ، فكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاه فكتب ما يمليه رسول الله عليه ، وكان إذا قال الرسول (ص) : سميع بصير ، يكتب : سميع عليم ، وإذا قال (ص) : والله بما تعملون خبير ، يكتب : بصير ، ثم لا يفرّق بين التاء والياء ، وأخيرا ارتدّ ورجع إلى مكة كافرا ، ولمّا فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة هدر دمه ، فجاء به عثمان وقال : يا رسول الله اعف عنه ، فسكت. ثم أعاد عثمان ، فسكت النبيّ (ص) وفي المرّة الثالثة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو لك. فلمّا مرّ قال رسول الله (ص) لأصحابه : ألم أقل : من رآه فليقتله؟ فقال رجل من الصحابة : كانت عيني إليك أن تشير إليّ فأقتله. فقال (ص) : إن الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ، فكان من الطّلقاء على كل حال.

والحاصل أنه ليس أظلم ممّن ادّعى النبوّة كذبا (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وهذا كلّه بيان لحال من يدّعي ذلك ، وقيل إنها كلها في ابن أبي سرح ، وهي تكرار لما كان يقوله ويذيعه بين أترابه ... (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي : ليتك يا محمد ، أو يا من يسمع قولنا ، تنظر إلى الظالمين وهم يعالجون سكرات الموت ويذوقون شدائدها المنكرة أعاذنا الله تعالى منها وأجارنا من آلامها ومشقّاتها ، فإنها لا تكون إلا لمنكري الوحدانية والنبوّة ، والإمامة ، وللمكذّبين بالرّسل ، يعانون تلك الشدائد الصعبة (وَالْمَلائِكَةُ) من حولهم أثناء النّزع والاحتضار (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي قد مدّوا أيديهم لقبض أرواحهم وقالوا لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أي زيادة في عنفهم عليهم يخاطبونهم قائلين : أعطونا أرواحكم «وهذا تكليف

بالمحال إذ لا أحد يخرج روحه باختياره ولا يعطيها بطيب نفسه وهذا تهديد لهم يعقبه قولهم لهم : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي منذ اليوم يبدأ عذابكم ، والهون هو الخزي والذل الذي يصيبكم منذ اليوم إلى يوم القيامة. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام : هو العطش يوم القيامة ، تلقون ذلك الجزاء (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فأنتم مستحقّون لذلك لأنكم كذلك.

٩٤ ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ...) في هذه الآية الشريفة منتهى التوبيخ لهم ، إذ يقول سبحانه : جئتم إلينا فرادى : واحدا واحدا ، صفر اليدين ممّا كنتم تملكون ، ومن العشيرة والأهل والأولاد ، وأتيتم (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : كما كنتم في بدء الخليقة عراة ليس معكم رفيق ولا بيدكم قوة. وفي الخرائج عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قرأ على فاطمة بنت أسد هذه الآية ، فقالت : وما فرادى؟ فقال : عراة. فقالت : وا سوأتاه! فسأل الله أن لا يبدي عورتها وأن يحشرها بأكفانها. قيل : أنّى لهم الأكفان وقد بليت؟ قال : إن الذي أحيا أبدانهم جدّد أكفانهم. قيل : فمن مات بلا كفن كأكيل حيوان من السّباع؟ قال : يستر الله عورته بما يشاء من عنده. وعن الصادق عليه‌السلام : تنوّقوا في الأكفان ، فإنكم تبعثون بها. ومعنى هذا الحديث الشريف : اطلبوا أحسنها وأجودها ، وذلك من قولهم : تنوّق وتنيّق في مطعمه وملبسه : تجوّد وبالغ. والاسم النقيّة والنيّقة .. فها أنتم أيها الظالمون جئتم «مرغمين» واحدا بعد واحد (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي خلّفتم وراءكم كلّ ما أعطيناكم إياه وتفضّلنا عليكم به وملّكناكم له فشغلكم عن الآخرة ، وتركتموه (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في دار الدّنيا إذ صارت وجهتكم الآخرة وظهوركم نحو الحياة والأحياء في الدّنيا (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) والمراد بالشّفعاء الأصنام التي زعمتم أنها في يقينكم شركاء لله تعالى في ربوبيّته ، فإننا لا نراها معكم لتشفع لكم ، بل (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي انقطعت الصلة بينكم وبينهم. والبين والوصل ضدّان ، وهما الوصل

والفصل ، فقد تقطّع الوصل الذي يلازم تحقّق الفصل وتشتّت الشمل بين كل ميّت منكم وما كان يحسبه شفيعا أو شريكا (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي : ضاع وبطل (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الذي كنتم تظنّون أنه شفيع وشريك له سبحانه في ربوبيّته.

* * *

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩))

٩٥ ـ (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ...) فالق : يعني شاقّ الحب إلى فلقتين بقسميها ، وشاقّ كلّ نوى : جمع نواة ، وهي عجمة التمر ونحوه ، أي الحب والبذور. فهو الذي يفلق الحبّ والنوى ليخرج منها الأشجار

المثمرة بأنواعها جلّت قدرته وعظمته. بل يفعل أعظم من ذلك لأنه (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي الحيوان من النّطفة ، وهو (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كخروج البيضة من الدجاجة. وبقوله سبحانه وتعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) ، عطف اسم الفاعل ـ مخرج ـ على الفعل المضارع ـ يخرج ـ وقرّر علماء الأدب التوافق بين الجملتين لأن ورود هذه الصيغة في الوحي المنزل حجة لا ردّ لها لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال يعمل عمل فعله. فكلّ حكم يترتّب على فعله يترتّب عليه ، وكما يجوز عطف الفعل على الفعل ، يجوز عطف اسم الفاعل على فعله لأنه بحكم فعله ويعامل معه معاملة فعله. وقد قال البيضاوي : ومخرج : عطف على فالق الحبّ والنوى ، ويخرج : بيان لفالق الحب.

فصاحب هذه القدرة (ذلِكُمُ اللهُ) هو الإله المستحقّ للتّأليه والعبادة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تنصرفون وتدبرون عنه إلى غيره.

٩٦ ـ (فالِقُ الْإِصْباحِ ...) يقال في اللّغة : فلقه ، وفرقه ، وفتقه بمعنى واحد ، أي شقّه وأبان عنه. والإصباح مصدر سمّي به الصّبح. ومعنى ذلك أنه تعالى أخرج عمود الصّبح وأبان النور من ظلمات الليل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) أي سكونا فيه للناس يستراح فيه على ما هو الغالب ، إذ قد يسكن الإنسان في النهار ، وقد ينام ، فلا ينحصر ذلك فيه إلّا في الأعمّ الأغلب. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : تزوّج بالليل فإنه ظلمة. وفي الكافي أيضا : أن علي بن الحسين عليه‌السلام كان يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتى يطلع الفجر ويقول : إن الله جعل الليل سكنا لكلّ شيء وقرأ الآية الكريمة. فقد جعله الله تعالى «منذ جعله» سكنا وَجعل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) أي لحساب الأوقات في النهار والليل. وحسبانا قد تعتبر مفعولا به ، وقد تعتبر حالا عن مقدّر أي : يجريان بحساب معلوم عنده سبحانه وتعالى (ذلِكَ) أي ما ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي جريان تلك الأمور السماوية على مجاريها كانت بتقدير قادر

قاهر دقيق العلم بها وبغيرها.

٩٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) قد ذكر سبحانه النجوم لأنها أعمّ من القمر ولأنها كثيرة العدد ، ولأنها تنوب عنه في غيابه عن الأفق ، وبينها نجوم أكثر نورا وأكبر حجما منه ومن الشمس ، بل فيها شموس لا تقاس بها شمسنا المعروفة فهي جديرة بالذّكر لهاتين الجهتين ولغيرهما لأنها خلقت لتهتدوا بها في أسفاركم في البلاد ، وفي تعيين الجهات ومعرفة أوقات الليل بواسطة النجوم السيارة منها ، وفي غير ذلك مما تحتاجون إليه أثناء سيركم في البر والبحر. قال البلخي : ليس في قوله : لتهتدوا بها ، ما يدل على أنها لم تخلق لغير ذلك ، بل خلقها سبحانه لأمور جليلة عظيمة. ومن فكّر في صغر الصغير منها وكبر الكبير ، وفي اختلاف مواقعها ومجاريها واختلاف سيرها وظهور منافعها في نشوء الحيوان والنّبات ، علم أن الأمر كذلك (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بينّاها وأظهرناها ، وهي آيات القرآن أو الآيات المذكورة في عالم الكون وواقعه ، بينّا ذلك (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأنهم أهل لذلك ويستحقّون العناية لتثبيتهم على علمهم وإيمانهم.

٩٨ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) أنشأكم : أي أوجدكم من نفس واحدة هي نفس آدم عليه‌السلام لأنه كان في أول الأمر ولم يكن من جنسه معه أحد ... (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) أي هناك محلّ تستقرّون فيه ، ومحلّ نودعكم إياه. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال لأبي بصير حين سأله عن هذه الآية : ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه؟ قال : يقولون : مستقرّ في الرّحم ، ومستودع في الصّلب. فقال : كذبوا. المستقرّ من استقرّ الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبدا ، والمستودع الذي يستودع الإيمان زمانا ثم سلبه ، وقد كان الزبير منهم. ووجه تكذيبه عليه‌السلام لما قاله أهل بلد صاحبه أبي بصير واضح لأن استقرار النّطفة وعدمه سواء كانت في الرّحم أو في الصّلب ليس استقرارا زمانيّا تصح تسميته بالاستقرار وخصوصا حين تصير النّطفة في رحم الأمم فإنها تصبح

بطريق ظهورها ، وتتطوّر استعدادا لخروجها ، في حين أنها قد تستقر أكثر من ذلك في أصلاب الآباء والرجال كما يظهر بالتأمّل ، وهي في كلا الحالين ستخرج إلى عالم الحياة في الدّنيا ، وستخرج إلى مرحلة الموت والبعث في الآخرة إما إلى جنّة وإمّا إلى نار ، أي إلى عالمين آخرين ربّما كانا هما المستقر والمستودع والله العالم. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام : أن الله خلق النبيّين على النبوّة فلا يكونون إلّا أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين ، وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممّه لهم وإن شاء سلبهم إياه. قال : وفيهم جرت : فمستقرّ ومستودع. قال : إن فلانا كان مستودعا إيمانه ، فلمّا كذّب علينا سلب إيمانه ذلك. وقد كنّى بفلان عن أبي الخطاب محمد بن أبي مقلاص الغالي كما يستفاد من حديث شريف آخر (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يعلمون عن تفكّر وتبصّر وتدبّر. ففي ذكر آية النجوم قال تعالى : لقوم يعلمون : أي يعرفون ، وفي آية خلق بني آدم قال تعالى : لقوم يفقهون ، لأن الآية الأولى لا تحتاج إلى أكثر من أخذ العلم بما فيها من قدرة وعظمة ومنافع ، في حين أن الآية الثانية تعرض للتخليق والإنشاء وتصريف أحوال بني البشر في أطوار مختلفة تقتضي العلم والفطنة والدقة والنظرة العميقة التي تستجلي غوامض الخلق والإنشاء ، والفرق جاء من هنا والله أعلم.

٩٩ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) يشير بذلك سبحانه إلى أن المياه التي تصل إلى الأرض إجمالا ، مصدرها ومنشأها السماء. ولكن يجب أن لا ننسى أن المراد بلفظ السماء يعني الفوق والعلوّ ، سواء كانت السماء الدّنيا أو ما فوقها أو ما تحتها ، وسواء كان منشأ تكوّن المياه البحار الأرضية أو هي بحار أخرى مسخّرة بين السماء والأرض يحملها السحاب أو غيره. فهو جلّ وعلا ينزل الماء بقدرته وبتقديره وبحسب المصالح والمنافع إذ قال سبحانه : (فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي فأبرزنا بواسطته جميع ما تنبته الأرض من جميع أصناف النبات والأشجار

المختلفة أنواعا وأصنافا. وهذا بيان لقدرته الكاملة لأن جميع ما تنبته الأرض يسقى بماء واحد ، ويعطي تلك الأنواع والأصناف التي لا تحصى لأكل الإنسان والحيوان (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) أي نبتا أخضر غضّا يخرج من الحبة التي تقع في الأرض بعد أن يصل الماء إليها. وهذا النبات الأخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً) أي يركب بعضه بعضا كالسّنبل في الحنطة والشعير ، وكالذّرة وغيرها (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) والطّلع هو الحمل الذي يظهر في النخل لتخرج منه قنوان : جمع قنو وهو الكباسة ، أي العذق ، وهو من النخل كالعنقود من العنب ، ودانية : يعني قريبة التناول لا يصعب الحصول عليها. فنحن نخرج ذلك بقدرتنا ، وكذلك أنشأنا (جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ ، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) جميع هذه الفواكه والنّعم خلقناها وجعلنا بعضها مشتبها وغير متشابه : والّلفظتان : مشتبها ، وغير ، حال من الجميع ، أي أن بعضها يماثل بعضا في الطّعم واللّون والحجم ، وبعضها مغاير له بكل ذلك ولا يماثله فيه (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) وتأمّلوه تأمّل اعتبار وفكّروا بقدرة من يجعل من الماء والتراب الواحدين هذه الأصناف الكثيرة المختلفة ، فانظروا إليه (إِذا أَثْمَرَ) حين خروج ثمره بحيث يكون في غاية الصغر ولا يستفاد به (وَ) انظروا إلى (يَنْعِهِ) أي نضوجه حين يدرك موسمه ويطيب ويحين قطافه ويصبح ذا نفع ولذة طعم (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ) ففي هذه الظواهر العجيبة معاجز وبراهين تدل على وجود صانع عليم حكيم قادر على كلّ شيء. وهي شواهد قائمة على ذلك (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون. وإنّ من آمن بالله وبرسوله وبالبعث ينتفع بما في القرآن العظيم ، ويراها آيات بيّنات ، وهي تزيد في تعميق إيمانه وترسيخ تصديقه.

* * *

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)

بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥))

١٠٠ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ ...) الجنّ بيان للشركاء أو بدل من اللفظة ، والمراد بالجنّ هنا الملائكة وقد سمّاهم تعالى اسمه هكذا لخفائهم عن الأنظار ولكونهم مستجنّين عن الأبصار ، ذلك أن الكافرين كانوا يشركون به سبحانه ويعبدون الملائكة. وقد يكون المراد بالجنّ الشياطين لأنهم شاركوهم في عبادة الأوثان وامتثلوا لوسوستهم في الشّرك وأطاعوهم كإطاعة المعبود. والحاصل أن المشركين أصناف فمنهم من عبد الملائكة ومنهم من عبد الأصنام والأوثان وجعلوها آلهة ، ومنهم من عبد الكواكب ، وطائفة منهم عبدت إبليس اللعين وطائفة عبدت الجنّ ، فأخبر الله تعالى إجمالا عن الشركاء التي جعلوها له في عبادتهم ورمز إليها بالجنّ مع أنه هو الذي برأ الجنّ (وَخَلَقَهُمْ) أي خلق جميعهم من عبّاد ضالّين ومعبودات باطلة. وهنا يرد السؤال : هل الخالق تعالى هو الذي ينبغي أن يعبد أم المخلوق؟ ولذلك ذكر تبارك وتعالى سيرة الخلق لينبّه إلى أنّه لا ينبغي عبادة غير الخالق ، وإنّ أحدا من معبوداتهم ما ادّعى خالقا غير الله ، فهو أحقّ بالعبادة بلا شبهة فكيف جعلوا له شركاء

(وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) أي كذبوا واصطنعوا من عندهم بنين وبنات لله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وهم المشركون المنافقون الذين قالوا مرة إن الملائكة بنات الله ، كما قال اليهود عزير ابن الله ، وكما قال النصارى المسيح ابن الله جهلا وعنادا ، لأنهم قالوا ذلك (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولا يقين يثبت دعاواهم الباطلة (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) أي عزّ وسما عن وصفه أبا لهؤلاء أو هؤلاء وعن أن يكون له ولد لأنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولدا ولم يلد ولم يولد.

١٠١ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) في المجمع عن الباقر عليه‌السلام : هو مبدعهما ومنشؤهما بعلمه ابتداء لا من شيء ولا على مثال سبق. وهذا البيان أحسن البيانات في كشف القناع عن المعضلات. وقيل لا نظير له في خلقهما عن لا شيء ، ولا يتأتّى لمخترع أن يصنع مثلهما (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) فكيف ومن أين يكون له ولد (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) إذ مقتضى عالم التكوين أن لا يتكوّن الولد من إنسان أو غير إنسان بلا صاحبة أي زوجة تصاحب الزّوج ، وقد جلّ سبحانه عن الصاحبة والشريك والندّ ، وهو غنيّ قد برأ الكائنات (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولفظة : كلّ ، هي هنا اسم موضوع للاستغراق إذ يشمل أصنافا متعدّدة ، ويشمل جميع أجزاء الواحد. فقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يعني : خلق كلّ ما صدق عليه الشيء المخلوق من الذرّة إلى الدّرة إلى عالم الأحياء بالمجرّات وغيرها في سائر العوالم كليّا أو جزئيّا لا يستثني موجود ولا كائن من الكائنات ، وهو عليم : عارف تمام المعرفة بها جميعها.

١٠٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ...) ذلكم : يعني هذا الموصوف بما سبق. ولفظة : ذلكم ، مبتدأ خبره جملة : (اللهُ رَبُّكُمْ) التي هي كما ترى مبتدأ وخبر في محل رفع على أنها خبر لذلكم. والمعنى أن الموصوف بما سبق في الآية الكريمة الماضية هو الله الذي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ سواه ، لأنه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : بارئه وصانعه وواهبه الوجود ، وهو

أهل للعبادة (فَاعْبُدُوهُ) لأنه جلّ وعلا مستجمع لكافة صفات الربوبيّة مستحقّ للعبادة وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) مستطيع لأن يكون معتمدا لكم وقائما بأموركم وحافظا لكم لقدرته على كل شيء.

١٠٣ ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ...) أي لا تراه الأبصار : العيون ، ولا البصائر تحيط بكنهه ، وهي العقول ، بل هو يراها ويحيط بها. و

في المجمع والعياشي عن الرضا عليه‌السلام أنه سئل عمّا اختلف الناس فيه من الرؤية فقال : من وصف الله تعالى بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله ، فلا تدركه الأبصار التي هي في القلوب ولا تراه العيون (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) واللّطف هو الرّفق ، ولطف الله بالعبد هو رحمته به وإيصاله إلى كلّ ما يحب. وقد تعني لفظة : اللطيف ، هنا : أنه الذي لا يدرك بأوهام المخلوق انسجاما مع كونه لا تدركه الأبصار. والخبير هو العالم بكل شيء كمن يعلم عن تجربة ودقة ، لأنه عالم بالشيء وبحقيقته وكنهه كلّا وجزءا. واللطيف اسم من أسمائه الحسنى ، ومعناه البارّ بعباده المحسن إليهم الرفيق بهم.

١٠٤ ـ (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ...) يعني جاءتكم من ربّكم حجج وبراهين كافية شافية لمن تبصّر بها وتدبّرها (فَمَنْ أَبْصَرَ) رأى الحق وآمن به في قلبه بعد أن أدركته بصيرته (فَلِنَفْسِهِ) أي أنه ينفعه ذلك لنفسه فيؤمن ويختار لها طريق النجاة (وَمَنْ عَمِيَ) لم ير الحقّ وكفر (فَعَلَيْها) يعني يكون قد جنى على نفسه فوقع عليها وبال عماه بسوء اختياره لها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي لست عليكم بوكيل شديد الحفظ والإحصاء لأعمالكم الحسنة أو القبيحة إذ ليس هذا عليّ ولا من وظيفتي ، بل الله سبحانه هو الحفيظ المحصي لأعمالكم وأعمال جميع العباد ، وهو يجازيكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ... ولا يخفى أن هذا الكلام ورد على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٠٥ ـ (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ...) أي على هذا الشكل من البيان

والحجة الواضحة نصرّف الآيات : نغيّرها ونبدّل بعضها ببعض ، وننقلها من حال إلى حال ليتمّ البرهان القاطع على صدق ما أنزلناه (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) إذ توهّمت قريش وكانت تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد درست : أي تعلّمت تصريف هذه الآيات بهذا الشكل المعجز من أهل الكتاب ، ودرست عليهم ، وفهمت منهم ، وليس هذا التصريف من عند الله. وكلمة : ليقولوا ، يظهر فيها معنى عاقبة تصريف الآيات ، لأن من عاقبة ذلك أن قالوا للنبيّ (ص) : درست هذه الآيات وعرفت تصريفها من غيرك. وقد قال القمي : كانت قريش تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الذي تخبرنا به من الأخبار تتعلّمه من علماء اليهود وتدرسه منهم .. والحاصل أننا نصرّف الآيات على هذا الشكل وإن كان عاقبة ذلك أنهم يقولون درست ، لنلقي الحجة (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نوضحه «والضمير عائد للقرآن الكريم بقرينة المقام ولاحتوائه الآيات باعتبار المعنى» ولنكشف أسرار ذلك (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وهم المؤمنون المنتفعون به.

* * *

(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

١٠٦ ـ (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) أي : اسلك طريق ما نزل عليك من وحي الله تعالى وخذ به لأن الرشد والنّجاة بذلك ، والضلالة والغيّ في خلافه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أورد سبحانه وتعالى كلمة التوحيد هنا ترغيبا في الإقبال عليه دون سواه وتنبيها إلى أن لا ربّ غيره (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي : انصرف عنهم وعن أقوالهم وآرائهم لأنهم لا يعرفون

شيئا من الحقائق بل هم عمي عن طريق نجاتهم.

١٠٧ ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا ...) لو شاء : يعني : لو أراد. وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام : ولو شاء الله أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتى كان لا معصية لأحد منهم لما كان يحتاج إلى جنّة ولا إلى نار ، إلى آخر الخبر الشريف. والحاصل أنه لو كان الأمر مبنيّا على خلقهم مؤمنين لما ظهر للبشر كمال قدرته تعالى ، ولا عرفت عظمته ، ولا عرفوه بحسب ما يحبّه لهم من معرفته النابعة عن اليقين والاعتقاد والإيمان ، إذ قال جلّ وعلا : أحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف. هذا مضافا إلى أنه لو خلقهم غير مشركين وجعلهم جعلا مؤمنين لكان فعله جبرا ولكان إيمانهم اضطرارا ، والإيمان الجبريّ ليس الإيمان المطلوب إذ لا يساوي شيئا باعتبار أنّ الإنسان قد دفع إليه دفعا فبطل اختياره وإيمانه القلبيّ الذي ينبغي أن ينبع من ذاته. وقد قال الإمام عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين. وهذا هو الخيار .. فلم يشأ الله تعالى لهم عدم الشّر شيئة إرادة ، لأن ذلك ينافي الحكمة (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي لم ننصبك عليهم مراقبا (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ولست موكّلا بأمورهم لتجبرهم على التوحيد.

* * *

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا

بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١))

١٠٨ ـ (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ...) أي لا تشتموا المشركين الذين يدعون : يسمّون بالرّبوبيّة من هو دون الله ، يعني غيره ، فلا تسبّوهم (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) أي تجاوزا وتعدّيا على الحق «والعدو كالعدوان مصدران لعدا الذي يأتي بمعاني مختلفة» فالمشركون لا يتورّعون عن سبّ الله اعتداء و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل به سبحانه ، والجهل في هذا المورد داء لا دواء له إلّا السؤال والاستيضاح ، وهم لا يسألون ولا يحبّون أن يفهموا وهم بالنتيجة باقون على الجهالة (كَذلِكَ) أي في مثل هذا الحال (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أرينا كلّ قوم عملهم مقبولا وحسنا بنظرهم «وفقا لرغبتهم ولما اختاروه» ولم نكفّهم جبرا عمّا هم عليه ولا كفيناهم الضلال والانزلاق لأنهم لم يرغبوا في هدى ولا في حق (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) أي معادهم إليه سبحانه يوم القيامة (فَيُنَبِّئُهُمْ) يخبرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إذ يطلعهم على ما فعلوه ، ويجازيهم على أعمالهم القبيحة ودعوتهم إلى الكفر والإلحاد.

١٠٩ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) أي حلفوا به تعالى أيمانا مغلظة ليقبل المؤمنون قولهم ، بأنهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) يعني نزلت على قريش آية من الآيات التي كانوا يقترحونها (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ليصدّقنّ بها ، فقد قرروا فيما بينهم أن يخدعوا المؤمنين بالأيمان التي يحلفونها غافلين عن أنّ الله تعالى يسمع ويرى مخادعتهم ، ولا يدع المؤمنين يصدّقونهم بل يطلعهم على ما يبيّتون ، ولذا نزلت هذه الشريفة على النبيّ صلّى الله

عليه وآله حيث أمره الله سبحانه : (قُلْ) يا محمد : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) وليس من شأن المخلوق أن ينزل آية حتى تطلبوا ذلك منّي ، فإنزال الآيات منحصر بذاته المقدّسة جلّ وعلا (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي ما يدريكم ويجعلكم تحسّون (أَنَّها) أي الآيات التي يقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) فهؤلاء كذّابون مكذّبون. وجملة : ما يشعركم ، استفهام إنكاريّ.

١١٠ ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ...) الآية عطف على ما قبلها ، ونقلّب أي : نحوّل قلوبهم عمّا جعلناه من سبل المعرفة المؤدّية إلى التوحيد والإيمان بالرّسل ، إلى ما هو ضدها من العكوف على الأوثان والأصنام «وهذا من أشد أقسام النقمة والغضب» لأن أفئدتهم تضلّ عن الحق فلا يفقهونه ، وأبصارهم تعمى عنه فلا يبصرونه (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال القمي : أول مرة : يعني في عالم الذّر وأخذ الميثاق. والمراد بأول مرة : قبل بعثة محمد (ص) ودعوتهم للإسلام ، أي قبل القرآن. فهو سبحانه عالم بحالهم ومآلهم ، عارف بحقيقتهم وبأنهم لا يؤمنون أبدا ولا أزلا ، وقد خلقهم لإظهار قدرته التي كان ينبغي أن تقودهم إلى الإيمان فبقوا على كفرهم واستحقوا سخطه وغضبه في الدنيا ، وعذابه ونقمته في الآخرة (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي نتركهم ولا نمنعهم عمّا هم فيه من الضلالة وتجاوز الحد الذي هو الطغيان ، فندعهم مستغرقين في تجاوزهم طريق الهداية ، متحيّرين متخبّطين فيما هم فيه ، كل ذلك لنميّز الخبيث من الطيّب في هذه الحياة الدنيا التي هي دار اختيار واختبار ، لا دار لقلقة لسان وفذلكة شيطان.

١١١ ـ (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ...) هذه الشريفة جواب لما طلبوه من الله عزّ اسمه لينزله عليهم بواسطة نبيّه (ص) فقال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) كما طلبوا منك ورأوا الملائكة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) وذكروا لهم ما رأوه من أهوال الموت والقبر والبرزخ (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي : ولو جمعنا إليهم كلّ شيء قبائل وجماعات ،

لأن قبلا : جمع قبيل ، وهذا جمع قبيلة فلو فعلنا كلّ ذلك واعترف كلّ شيء لهم بما عنده من معرفة عظمة الله ووحدانيّته (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) باختيارهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ويريد إرادة جبر وحمل وإكراه على الإيمان. فهم غير لائقين بالإيمان ولا طمع بهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) لا يعلمون ولا يعرفون ولا يعترفون بالله ولا برسله ولا بكتبه ، ومن هنا جاء طلبهم بنزول الآيات أو نزول الملائكة أو بإحياء آبائهم وأجدادهم حين قالوا له (ص) : ائت بآبائنا ، ممّا حدا إلى التصريح بحقيقة أمرهم في هذه الآية الشريفة ليعرف النبيّ (ص) والمؤمنون عنادهم وكفرهم.

* * *

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ

هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

١١٢ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ...) أي كما أنّ لك أعداء يا محمد ، فكذلك كنّا قد جعلنا لغيرك من الأنبياء أعداء. وقد أسند فعل الجعل إليه تعالى إذ لا مانع من ذلك باعتبار معنى التخلية لهم وعدم منعهم عن وساوسهم ، وبمعنى التخلية أيضا بين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وبين أعدائهم للامتحان والاختبار ولئلا يقول الناس لو أننا كنّا محفوظين من وساوس الشيطان كما حفظ الأنبياء لما وقعنا في الزلل ولما ارتكبنا الخطأ والإثم. فالآن ، وبعد «جعل» عداوة المعاندين للأنبياء ، أصبحت عصمة الرّسل مميّزة تمام التمييز عن عناد المعاندين ، وأصبحت طاعاتهم واضحة في مقابل خلاف المخالفين ، وتمّت الحجة وانقطع الكلام بعد أن جعل الله سبحانه لكل نبيّ عدوّا (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أي مردة هؤلاء وهؤلاء. وهذه العبارة بيان لقوله : عدوّا. فالعدوّ إمّا أن يكون من الإنس وإمّا أن يكون من الجنّ ، وهم (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) أي ينفث هذا لهذا قولا منمّقا يموّه الحقائق ويقلب المفاهيم ويكون باطنه غير ظاهره ، مزيجا من الحق بالباطل ، غرورا : أي خداعا وغشّا من القول الذي يلقيه بعضهم إلى بعض ليجترئ على الحق وليظهر أمام الملأ كأنّه يبحث عن الحق الذي لا ريب فيه ، كذبا وتمويها. ولفظة : غرورا ، مفعول لأجله ، يعني : ليغرّ بعضهم بعضا. وفي الخصال عن الإمام الصادق عليه‌السلام : الإنس على ثلاثة أجزاء : فجزء تحت ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدميّين وقلوبهم قلوب الشياطين .. فطب نفسا يا محمد فقد ابتلينا الرّسل من قبلك بالأعداء كما ابتليناك (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة جبر (ما فَعَلُوهُ) ولكفّوا عن عداوتك مكرهين وكانوا عليها غير قادرين ، ولعجزوا عن الإيحاء بزخرف القول (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) يعني : أتركهم في كذبهم وكلامهم المزخرف الذي يبثّونه بين إخوانهم من

أمثالهم.

١١٣ ـ (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ...) أي : دع أعداءك على ما هم عليه من لقلقة اللسان ووشي القول والهذيان وليستمع إليهم من يستمع من الّذين لا يؤمنون بالبعث والحساب ، لينكشف أمر هؤلاء الذين تستمع قلوبهم إلى تزويق الكلام وتذهب مع نفث الشيطان (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي ليأثموا ويكتسبوا الذنوب ويحملوا وزر السيئات والكفر.

١١٤ ـ (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ...) أي : قل يا نبيّ الله لهؤلاء المكابرين المعاندين : أتريدون مني أن أطلب حكما بيني وبينكم غير الله سبحانه وتعالى؟ فالله وحده يحكم بيننا ويبيّن الحق من الباطل (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) فليس أعلم منه أحد بعموم الكتاب : أي القرآن وخصوصه ، وهو الذي أنزله مبيّنا مبهمة موضّحة إشكالاته ظاهرة آياته ، وهو الحاكم لا غيره (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني اليهود والنّصارى «وكتاباهما التوراة والإنجيل» (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) يعرفون ذلك عن القرآن ويعرفون أنه حقّ ، لما رأوه في كتبهم كعبد الله بن سلام مثلا وكغيره ، وعلمهم بذلك يعضد دلالة إعجازه وأنه حق (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكّين المتردّدين في أنه هل هو حقّا من عند الله تعالى أم لا؟ والكلام هنا موجّه للنبيّ (ص) ومخاطب به غيره من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، وحتّى لا يشك بذلك من خاف أن يرقى إلى قلبه الشك ، إذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون معه لا يشكّون بنزوله من عنده سبحانه وتعالى.

١١٥ ـ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ...) تحتمل قويّا أن يكون المراد بالكلمة هو الإسلام حيث اتّصف بالصدق. وكل ما هو من عنده تعالى فهو صدق وحقّ لأنه أصدق الصادقين وكل ما ينتسب إليه هو من أصدق الصدق. وقيل إن المراد بالكلمة القرآن الذي هو عدل في كل

حكم وكل شرع ، وكل آية ورواية لأنه منزل من عند ربّك الذي (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغيّر لها لأنها باقية على أصلها التي صدرت عليه عنه تعالى ، وحصلت بمشيئته تبارك اسمه. وربّما كان المراد بالكلمة الحجج والأحكام ، والله أعلم بما قال : وقد قرأ الكوفيون صدر الآيات بالجمع : وتمّت كلمات ربّك ... وللكلمات إطلاقات كثيرة في مقامات متعددة تختلف باختلاف الموارد ، فقد عبّر بالكلمة عن الإمامة في قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ، وهي في عقب سبطه الحسين عليه‌السلام ، وليس لأحد أن يقول بعد هذا الجعل لم كانت كذلك ، لأنه سبحانه الحكيم الذي لا يسأل عمّا يفعل. ثم عبّر بالكلمة عن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام : وكلمة الله ، وسمّى : لا اله إلّا الله محمد رسول الله : كلمة التوحيد والتقوى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع ما يقول هؤلاء وغيرهم ويعلم أعمالهم ، ويطّلع على ما يضمرونه.

وبالمناسبة نذكر أنه قد جاء في الكافي عن الصادق عليه‌السلام : أن الإمام يسمع في بطن أمّه ، فاذا ولد خطّ بين عينيه : وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا ... فإذا صار الأمر إليه يجعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة ، فبهذا يحتجّ الله على خلقه. وقد ورد في القمي والعياشي ما هو قريب منه.

١١٦ ـ (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) المراد بالأكثر الكفرة حيث إنهم هم أكثر من المؤمنين في كل عصر. ولعل الوجه في ذمّ الأكثر هو هذا. فقد جاء في الآيات الكريمة أن أكثر الناس ... لا يعقلون ، لا يعلمون ، لا يفقهون. وهنا قد نهى الله سبحانه النبيّ (ص) عن إطاعة الأكثر وقال له : لأنهم يضلّونك عن طريق الحق وعن الدّين الذي اختاره لك. فإن أكثر الناس وراء شهواتهم وأهوائهم ، ونبيّ الله لا بدّ وأن يكون مخالفا للهوى والشهوات. وهذا يفيد أن لا عبرة بالكثرة في مجال الحق ، بل العبرة بالحجة وبالبرهان القاطع. وأكثر من في الأرض زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) كمثل

ظنّهم أن آباءهم كانوا على حقّ فهم على آثارهم مقتدون ، وكمثل ظنّهم أنهم لن يبعثوا وكغير ذلك من الأوهام التي يتّبعونها (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي يكذبون على الله سبحانه ويذهبون مع حدسهم وظنّهم وتخمينهم الذي ينبع من قلوبهم ويجري على ألسنتهم نفاقا منهم ومن شياطين الإنس والجن.

١١٧ ـ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ...) أي أنه سبحانه أعلم ، وهي على صيغة أفعل التي لا يعلوها شيء ، فهو أكثر علما من كلّ عليم ، يعرف الضالّين عن سبيله : أي طريقه التي هي طريق الحق والصواب (وَهُوَ أَعْلَمُ) كذلك (بِالْمُهْتَدِينَ) الذين اتّبعوا سبيله وسلكوا طريقه. وهو جلّ وعلا أعلم بالفريقين من كل عالم بهما.

* * *

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

١١٨ ـ (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي : ذكر اسم الله على ذبحه ، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره تعالى من الأوثان كاللّات والعزّى ومناة وغيرها من الأصنام ، أو ممّا مات حتف أنفه ـ من غير قتل ولا ضرب ولا حرق ولا غرق ـ وقد نزلت هذه الشريفة لمنع اتّباع الكفرة المحلّين للحرام والمحرّمين للحلال ، وذلك أنهم قالوا للمسلمين : تأكلون ممّا قتلتم أنتم ، ولا تأكلون ممّا قتله ربّكم أو غيره ممّا ذكرنا؟ فنهى الله سبحانه المسلمين عن أكل غير المذكّى من اللحوم ، وقال : تفعلون ذلك (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين به عزّ اسمه وبحججه وبراهينه. والإيمان يقتضي أن لا يستباح ما حرّمه الله تعالى ، ولذلك ذكره في ختام الآية الكريمة.

١١٩ ـ (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) أي : ولا مانع يمنعكم من أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه خصوصا (وَقَدْ فَصَّلَ) بيّن (لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي جعله محظورا ممنوعا ، وقد فرّق بينه وبين المحرّم ، ثم استثنى حالة قد يقع فيها المؤمن ، فقال جلّ وعلا : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي قد تلجئكم الضرورة إلى أكل ذلك الحرام من الذّباحة واللحم ، فإنه حلال لكم أكله عندها ، لأن الضّرورات تبيح المحذورات (وَإِنَّ كَثِيراً) من الناس (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) أي : يحلّلون المحرّم حسب رغباتهم وميولهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي عن جهل بالحكم. وهؤلاء ضالّون مضلّون ، نحن نعرفهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) لأنه مطّلع على المفترين المتجاوزين الّذين يحكمون بالباطل.

١٢٠ ـ (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ...) ذروا : يعني : دعوا واتركوا ما فيه إثم : خطأ أو ذنب في ما يعلن وما يسرّ ، أو ما بالجوارح : كأن تفعل أو تتكلّم ، وما بالقلب والجوانح : كأن تظنّ. والأول كغيبتك لأخيك ، والثاني كظنّك به شرا ، لأن هذا باطنيّ وذاك ظاهريّ. وكذلك فإن المعاصي من ظاهر الإثم ، كما أن الشّرك والشك وما شابههما من باطن

الإثم ... فاتركوا الإثم كيف كان مظهره ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يقترفون الذنوب (سَيُجْزَوْنَ) يعاقبون (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) بسبب ما كانوا يجنون من معاصي وآثام.

١٢١ ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) في الآية الشريفة التي قبل السابقة أمر بأكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه ، وفي هذه الآية الكريمة نهي عن أكل غيره ، زيادة في التشديد على الحرمة ، ولبيان أهمّية ذكر اسمه عزّ وعلا. ففي التهذيب عن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن مجوسيّ قال : باسم الله ، وذبح؟ فقال : كل. فقيل : مسلم ذبح ولم يسمّ؟ فقال (ع) : لا تأكل. إن الله يقول : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب فقال : لا بأس إذا ذكر اسم الله عليه ، ولكنّي أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى عليهما‌السلام ... والروايات في المقام متعدّدة ، ويستفاد من جميعها إطلاقا وتقييدا أنه إذا حصلت التّسمية حقيقة من ذابح ـ حتى المجوسيّ ـ على فرض أنه لم يكن من أهل الكتاب ـ فالمذبوح حلال ولا بأس بأكله ، وإن لم تتحقّق التسمية فهو حرام. نعم إذا تركت التّسمية سهوا فلا بأس به عندنا. وأمّا عند غيرنا من إخواننا العامة فهم بين موافق لنا ومخالف. والقول مطلقا في صورة التّرك ولو كان عن سهو ونسيان أم لا ، فحرام مطلقا. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن رجل ذبح ولم يسمّ؟ فقال : إن كان ناسيا فليسمّ حين يذكر يقول : باسم الله على أوّله وآخره. وعنه عليه‌السلام : ذبح المسلم ولم يسمّ ونسي. فكل من ذبيحته وسمّ الله على ما تأكل. وعنه عليه‌السلام أيضا : سئل عن رجل ذبح فسبّح أو كبّر أو هلّل الله أو حمده؟ قال عليه‌السلام : هذا كلّه من أسماء الله تعالى ، لا بأس به. وهذه الرواية تدلّ على التّوسعة في البسملة ولا خصوصية فيها ، فكل ما ذكر الذابح من أسمائه سبحانه يكفي ، والمذبوح حلال.

والحاصل أنه سبحانه وتعالى نهى عن أكل غير ما ذكر اسمه عليه وقال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي أن الأكل ممّا لم يذكر اسمه عليه عند ذبحه حرام ، وأكل الحرام يدل على الفسق ، بل هو فسق : أي خروج عن طاعة الله تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي أن الأبالسة من الإنس والجنّ يوسوسون إلى أصحابهم والمطيعين لهم من الكفّار (لِيُجادِلُوكُمْ) ليحاجّوكم ويخاصموكم وينازعوكم في تحليل ما حرّم الله سبحانه ، كقولهم : ما قتل الله أحقّ أن يؤكل ممّا قتلتم أنتم مثلا (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) تسمعوا منهم وتذعنوا لقولهم في استحلال الحرام (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بترك دين الله والميل إلى دينهم ، فإن ذلك شرك به تعالى وإدخال لغير حكمه في أحكامه.

* * *

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

١٢٢ ـ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) ... قرأ نافع : ميّتا ، بالتشديد ، وهذا مثل ضربه سبحانه فقال : هل من كان ميتا كالكافر وغيره من الناس الضالين (فَأَحْيَيْناهُ) بالهداية إلى الإيمان (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) أي علما

ومعرفة بالحجج الفاصلة بين الحق والباطل (يَمْشِي بِهِ) بذلك النور حيث يسير على هداه ـ هل يكون حاله (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي لا يكون كالذي صفته في ظلمات الكفر والشقاوة والضلال (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال كونه باقيا في جهله وغيّه (كَذلِكَ) أي كما زيّن للمؤمن إيمانه (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني زيّن لهم الشيطان أعمالهم وحسّن لهم عقائدهم الفاسدة ، أو أن الله تعالى بتخليتهم وشأنهم أصبحوا يرون ما هم عليه حسنا. والآية الشريفة نزلت في عمّار بن ياسر أو في الحمزة كمؤمنين ، وفي أبي جهل كمعاند كما عن الإمام الباقر عليه‌السلام.

١٢٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) ... أي كما جعلنا أكابر مكة فسّاقها ، كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابرها الفسقة الفجرة لأنهم أقوى على استقطاب الناس واستتباعهم والمكر بهم والخديعة لهم ، جعلناهم هكذا في كل قرية (لِيَمْكُرُوا فِيها) ولنعرف من يتّبع الحق ممّن يتّبع مكرهم وخداعهم (وَ) لكن (ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) أي أنهم لو عقلوا لرأوا أن وبال مكرهم يحيق بهم دون غيرهم (وَما يَشْعُرُونَ) بذلك ولا يحسّون به لأننا نمهلهم ولن نهملهم وسيلقون الجزاء الذي يستحقونه.

١٢٤ ـ (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ ...) أي إذا جاءت كفّار مكة آية تنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالوا لن نؤمن (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي لن نصدّق بإلهك يا محمد حتى ينزل علينا مثل ما نزل عليك من الوحي. والآية نزلت عليه (ص) ردّا لقولهم بل يريد كل امرئ أي يطلب كلّ واحد من أولئك الكفرة (أَنْ يُؤْتى) أي أن تنزل عليه وحده دون غيره صحف من عند الله عزوجل خاصّة به (مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) كما أنزل عليهم من الوحي والكتب حتى يؤمن بالله الواحد الأحد ، وذلك لسخفهم وشديد حمقهم ، ولكن (اللهِ) تبارك

وتعالى (أَعْلَمُ) أعرف وأدرى (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) أين يضعها وعلى من ينزلها. والآية الشريفة ردّ على الكفّار واستهزاء بهم وبعنجهيّتهم لأن النبوّة ليست بالمال ولا بالثراء ولا بطول الباع في حطام الدنيا ، ولا بوجاهتها الزائفة ، وإنما هي رسالة مقدّسة يختار الله سبحانه لها من توافرت فيه الفضائل الخلقية والنّفسانية ، ويختص بها من يشاء من عباده الّذين اصطفى واجتبى لهذا الأمر الربّانيّ العظيم. ويا محمد (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي سيحلّ بهؤلاء الّذين ارتكبوا الكبائر بحقّ أنفسهم وبحقّ غيرهم (صَغارٌ) أي : ذلّ وهوان يوم القيامة بعد تكبّرهم ، (وَ) سينالهم أيضا (عَذابٌ شَدِيدٌ) صعب أليم (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي : بسبب مكرهم وعنادهم في دار الدنيا. وفي القمي : يعصون الله تعالى ويخادعونه ، فيجازيهم على مكرهم وحيلهم.

* * *

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

١٢٥ ـ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ...) أي من يلطف به بأن يريد له الهدى ويشاءه (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يوسع قلبه لذلك ويفسح له فيه. وهذا كناية عناية عن جعل قلبه قابلا للإفاضات النازلة من رحاب الله تعالى ، متقبّلا لأوامره ونواهيه (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) أي : ومن لا يستحق الهداية ولا يرغب فيها يخلّي الله تعالى بينه وبين نفسه ، ويجعل قلبه كثير الضّيق بالأمور

السماوية ، ينفر من تقلّبها وإذا أمر بالإيمان كأنما أمر بالصعود إلى السماء وبتحمّل مشقّة ذلك الصعود ، يعني كأنّما أمر بما لا يستطيعه ولا يقدر عليه. وقد قرأ نافع وأبو بكر لفظة : حرجا ، بالكسر ، وقرأها الباقون بالفتح. وتشديد لفظة : يصّعّد لبيان أن الأمر بغاية الصعوبة ، وليدلّ على أن الإيمان لا يدخل في مثل ذلك القلب القاسي أبدا ، حاله في ذلك حال من يتصوّر الصعود إلى السماء بما فيه من مشقّة وتعب (كَذلِكَ) أي في مثل هذه الحالة (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) أي الشكّ كما في العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام. أما في الكافي فروي عنه عليه‌السلام أن القلب يتخلخل في الجوف لطلب الحق ، فإذا أصابه اطمأنّ به وقرّ. فالله سبحانه يدع الشك الذي عبّر عنه بالرّجس لأنه رجس وفسق وكفور يسيطر (عَلَى) قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ويبقون في صفوف المكذّبين الكافرين.

١٢٦ ـ (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ...) أي أن الإسلام وما أنت عليه مما أمرنا به يا محمد هو الطريق الذي سنّة الله مستقيما : لا اعوجاج فيه ، وعن القمي : طريقا واضحا (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي أقمناها بيّنة ، وأوردنا لها الحجج والبراهين الكافية الوافية الدالّة على صحة الإسلام ، وجعلناها في منتهى الوضوح (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي للجماعة التي تريد أن تتّعظ بها وتنتفع بما فيها وترغب في سلوك طريق الهدى والدّين.

١٢٧ ـ (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ...) أي دار السلامة ، وهي دار الله التي أعدّها للمؤمنين الصالحين ، وهي الجنّة المعدّة عند ربّهم : أي في ضمانه وعهدته لأنهم واردون عليه بأمره عزوجل (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي المتولّي لأمورهم بحيث تكون سائر تصرفاتهم تحت نظره كما يكون الوليّ للقاصرين يتعهد شؤونهم ويلاحظ مصالحهم ، والوليّ هو الناصر أيضا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدّنيا كان ولياّ لهم وموكّلا بشؤونهم في الآخرة.

* * *

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))

١٢٨ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) قد نصب : يوم ، بفعل مقدّر مثل : اذكروا يوم ، أو ما يفيد معناه. وذلك حين يحشر الله الخلائق بأجمعهم يوم القيامة ثم يقول سبحانه : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) أي أنه يقول للكفرة منهم : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي رغبتم في ازدياد عددكم ، أو عدد

الكفرة منكم ، فأضللتم عددا كبيرا من الإنس لتضمّوهم إليكم ، وقد وسوستم لهم وأغريتموهم ليكونوا مثلكم وليعدّوا معكم. ففي القمي أن كلّ من والى قوما فهو منهم وإن لم يكن من جنسهم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي الّذين أطاعوهم واستمعوا لوسوستهم واستجابوا لإغرائهم : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي انتفع الإنس بالجنّ لأنهم زيّنوا لهم شهواتهم وهوى نفوسهم فأنسوا بذلك والتذّوا بطاعتهم لهم وبحصول مرادهم حين ظنّوا أن الجنّ أقدروهم على ذلك (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعني فعلنا ذلك حتى أتى أمرك يا ربّنا وجاء يوم القيامة والبعث كما في القمي ، (قالَ) الله سبحانه : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي أن جهنّم مقامكم تكونون (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما لا تحولون ولا تزولون (إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي أنه في أفعاله حكيم وبخلقه عليم ، حكيم في عقاب من يخلّده في العذاب ، وحكيم في من يعفو عنه ويعافيه منه ، وعليم بمن يستحق العقاب وبمقدار ما يستحقه منه ، وبمن يستحق العفو والتجاوز وبمقدار ما ينتهي عذابه ويحين وقت العفو عنه.

١٢٩ ـ (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ...) أي نخلّيهم في نار جهنّم حتى يتولّى بعضهم بعضا ، أو المراد أننا نقرنه به في النار ليكون كل واحد كأنه وليّ الاخر جزاء (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما ارتكبوه من الذنوب فصار سببا لدخولهم النّار. وفي الكافي والعياشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : ما انتصر الله من ظالم إلّا بظالم ، وذلك قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً).

١٣٠ ـ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) هذا نداء واستفهام توبيخيّ منه سبحانه ، يعاتب فيه الإنس والجنّ بأنه قد أرسل إليهم رسلا منهم وأنبياء يبيّنون لهم حلال الله وحرامه ، فقال : هؤلاء الرّسل كانوا (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : يحكون لكم ما أنزلته عليهم من الآيات التي تبيّن الأوامر والنواهي ، ويخوّفونكم من يوم القيامة الذي أحاسبكم فيه ، فما هو عذركم اليوم وقد

صرتم مع الحساب وجها لوجه؟ (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي : اعترفنا بالتقصير والعصيان. يعني أنهم أقرّوا بالكفر واستحقاق العذاب والعقاب (وَ) كانت قد (غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي غشّتهم بما فيها من زينة (وَ) هؤلاء هم قد (شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) باعترافهم أن الدنيا خدعتهم وأطمعتهم بأباطيلها وأضاليلها ، ولذا استسلموا للعذاب واعترفوا باستحقاقهم العقاب المخلّد.

ويستفاد من هذه الشريفة أن الله تعالى قد أرسل إلى الجنّ رسولا منهم كما أرسل للإنس رسولا منهم ، بدليل مخاطبة الطرفين بذلك. وفي خبر الشامي أنه سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام : هل بعث الله إلى الجنّ نبيّا؟ فقال : نعم بعث الله نبيّا يقال له يوسف ، فدعاهم إلى الله فقتلوه. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام في حديث : أن الله عزوجل أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الجنّ والإنس. وقال بعض أكابر المفسّرين : عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الثقلين مستفيض. ولا منافاة بين رواية الشاميّ وهذه الرواية ، لأن رواية الشاميّ محمولة على ما قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديث الباقر عليه‌السلام يعني بعثته (ص) وما بعدها.

١٣١ ـ (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ ...) أي أن الأمر كما ترى يا محمد ، وربّك يبعث الرّسل لعباده ، وينزّل عليهم الكتب ، لأنه سبحانه عادل لا يظلم ولا يعاقب أحدا إلّا بعد إتمام الحجة. فهو يرسل الأنبياء مبشّرين ومنذرين ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فإن لم يعمل الناس بحسب ما أمرتهم به الرّسل ، ولم يرتدعوا عن المعاصي ولم يتوبوا منها بل أصرّوا عليها يعاقبهم الله سبحانه بما يستحقون ، ولكن حاشاه أن يهلك أحدا أو أن يهلك قرية (وَأَهْلُها غافِلُونَ) عن أن العذاب يصيب من كان على مثل ما هم عليه من العصيان والعناد. فالله سبحانه لا يأخذ أحدا على حين غرّة ، ولا يعذّب إلّا بعد البيان والحجة. والواو في الجملة واو الحال ، ومعنى ذلك أنه

سبحانه لا يعذّب الناس في حال أنهم غافلون عن استحقاقهم للعذاب.

١٣٢ ـ (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ...) أي أن لكلّ واحد من المكلّفين مراتب ومقامات معيّنة يوم القيامة بسبب ما فعلوه في الدنيا من الطاعات أو المعاصي. وهذه الدرجات تكون طباق عملهم وجزاء فعلهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) أي ليس ساهيا ولا ناسيا ولا لاهيا (عَمَّا يَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

١٣٣ ـ (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ...) أي أنه تبارك وتعالى غير محتاج إلى خلقه ، ولا إلى طاعة من أطاع ، لأن الطاعة لا تزيد في عظمته ، وغنيّ بالذّات ، ولا تزيد في كبريائه وسموّ ذاته توبة العاصي وبخوعه إليه ، بل هو يترحّم على عباده بالتكليف لنفع أنفسهم ، وليجود عليهم بنعم الآخرة وبما يعوّضه عليهم من درجات نعيمها التي لا تنال إلّا استحقاقا للعمل والطاعات ، والتي لا يقاس بها ما في دار الدنيا من نعيم زائل ولذة موهومة. وهو سبحانه (إِنْ يَشَأْ) إذا أراد (يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم ويفنكم ويستغن عن وجودكم أيها الطّغاة (وَيَسْتَخْلِفْ) أي يخلق (مِنْ بَعْدِكُمْ) أيها الناس (ما يَشاءُ) من الخلق ممّن يطيعونه ويأتمرون بأمره. وخلق غيركم سهل عليه ، ينشأوهم (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي قرنا بعد قرن وأحفادا بعد آباء وأجداد.

١٣٤ ـ (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ ...) أي ما نعدكم به من الحشر والثّواب والعقاب يأتي قطعا بدليل أننا نؤكّده لكم بأنّ وباللام ، فهو كائن واقع محتوم لا محالة وبلا شك (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولستم بخارجين من سلطان الله تعالى ولا من مملكته. ويقال : أعجزني فلان أي : فاتني وسبقني فلم أقدر عليه فخرج عن سلطتي. فالله سبحانه يقول للناس : لستم بخارجين من سلطاني ولا تفوتون قدرتي عليكم ولا تتعدّون سلطتي ، فاحذروا ما حذّرتكم منه.

* * *

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا

أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠))

١٣٥ ـ (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) يعني : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ولسائر الكفّار : اعملوا غاية استطاعتكم وبحسب تمكّنكم وبأية كيفية كانت (إِنِّي عامِلٌ) أنا وصانع أيضا على مكانتي واقتداري وبحسب طريقتي بحيث أبقى ثابتا على ديني الذي هو الإسلام. وهذا تهديد تعجيزيّ لهم ، أي افعلوا الآن في الدنيا ما شئتم وكما ترغبون ، وأنا أفعل كما أمرت (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ستعرفون بعد حين (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي من هو الذي يفوز بالدار الحسنى في يوم القيامة ، ومن تكون له الجنّة التي أعدّها الله دارا للمطيعين. وكلمة : من موصولية ، وهي مفعول لتعلمون ، وإذا اعتبرت استفهامية يكون معناها : ستعلمون أيّنا تكون له عاقبة الدار. ولا يخفى أن التهديد جاء بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد ، وتسجيلا على المأمور بأنه لا يأتي منه إلّا الشّر. وهذا كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) حيث وضع الظالمين موضع الكافرين لأن اللفظة أعم وأكثر فائدة.

١٣٦ ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ...) يعني أن المشركين ، بعقيدتهم الفاسدة ، جعلوا لله سبحانه وتعالى نصيبا : أي قسمة وسهما ممّا ذرأ : أي مما خلق وبثّ في الدّنيا من الحرث : المزروعات ، والأنعام : الحيوانات الأربعة : البقر والمعز والغنم والإبل (فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) أي هذا لله وهذا لأصنامهم وآلهتهم التي يعبدونها (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي أن سهم آلهتهم لا يصرف في جهة يقصد بها وجه الله (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) يعني العكس وأنّ سهم الله يمكن أن يبذل في جهة معبوداتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم ، وبئس ما قضوا به. فقد روي أنهم كانوا يعيّنون شيئا من حرثهم ونتاج أنعامهم لله ، ثم يصرفونه إلى

الأضياف والمساكين ، ويجعلون شيئا منه لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون عندها الأضاحي. ثم إن ما عيّنوه لله إذا كان أزكى يبدّلونه بما هو لآلهتهم ، وإذا كان ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبّا بأصنامهم واعتلّوا بأن الله غنيّ عن سهمه.

١٣٧ ـ (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ...) كذلك أي : كما زيّن لهم فعلهم من جعل النّصيب لله ولآلهتهم على الكيفية المذكورة سابقا ، قد زيّن للكافرين شركاؤهم : أي الشياطين من سدنة أصنامهم ، حسّنوا لهم قتل أولادهم لأمور بديهيّة البطلان عند العقلاء ، كخشية الإملاق أي الفقر ، وكنحرهم أطفالهم أضاحي للأصنام ، وكوأد البنات ودفنهنّ في حال ولادتهنّ إناثا ، ففعلوا ذلك مع وضوح سفهه وبطلانه. ولفظة : شركاؤهم فاعل لزيّن ، وقتل : مفعول به لنفس الفعل ، وقد قدّم سبحانه المفعول هنا على الفاعل اهتماما بشأن القتل ظلما ، ولكونه عظيما عنده جلّت قدرته. وقد كان هذا التّزيين من السّدنة للمشركين (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليهلكوهم بالإغواء ، والردّى هو الموت والهلاك (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليخلطوا الأمر وليشتبه عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه‌السلام. واللّام هنا للعلّة إن كان المزيّن الشيطان ، وللعاقبة إن كان المزيّن السّدنة (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي : لو أراد الله غير ذلك ما فعله المشركون ولا شركاؤهم ، ولكنه لا يجبر أحدا على فعل ، بل يأمر ويختبر ليثاب من يثاب عن استحقاق ، ويعاقب من يعاقب عن استحقاق (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا محمد (وَما يَفْتَرُونَ) أي اتركهم وافتراءهم الباطل وكذبهم.

١٣٨ ـ (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ...) هذه : إشارة إلى ما جعلوا لآلهتهم من النّصيب ، وحجر : أي محجور ، يعني : ممنوع لأنه جعل للآلهة فحرّموه على غيرها وحرّموا الاستمتاع بها سواء في الركوب أم في ذبحها وأكل لحمها ولو صدقة على الفقراء من قبل الآلهة (لا يَطْعَمُها)

أي لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) إلّا من أرادوا (بِزَعْمِهِمْ) أي برأيهم الذي لا يرتكز على يقين نابع عن حقيقة مكرّسة. وفي القمي : كانوا يحرّمونها على قوم خاصة (وَأَنْعامٌ) أخرى غير ما ذكر (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أي منع ركوبها ، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. والبحيرة هي ما أنتجت خمس أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا شقّوا أذنه ولحمه للرجال والنساء ، وإن كان هذا الخامس أنثى شقّوا أذنه وكان لحمه حراما على النساء ، وإذا مات في بطن أمّه كان حلالا مطلقا على النساء. وهذه الأمور جعلوها من عند أنفسهم. وكذلك السائبة والوصيلة والحام التي سنعرض لشرحها في موردها إن شاء الله. فهذه الأربعة حرّمت ظهورها فلا يركبونها في الأسفار حتى ولو كان للحج أو التّلبية (وَأَنْعامٌ) أخرى أيضا (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) عند النّحر أو الذّبح (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي تعدّيا على الله سبحانه وتعالى لأنهم نسبوا تلك التدابير إليه كذبا عليه ، ولذلك (سَيَجْزِيهِمْ) سيعاقبهم ويعذّبهم (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) بسبب كذبهم عليه.

١٣٩ ـ (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ...) أي أنهم قالوا إن الجنين إذا كان حيّا في بطن أمه ثم خرج حيّا ـ كما قلنا آنفا ـ فهو خاصّ بالذكور ، وإن خرج ميّتا فللذكور والإناث على حدّ سواء في حلّية الأكل إلخ ... وقد جاءت لفظة : خالصة بصيغة التأنيث مع أن المراد به وصف لفظة : ما ، وهو ظاهرا غير مؤنّث فعلّلوا ذلك بما يلي : أولا : اعتبروا لفظة : ما ، دالّة على الأجنّة التي في بطون أمهاتها. وثانيا : أن لفظة : خالصة ، ليست تأوها للتأنيث بل هي للمبالغة كما في : رواية الشّعر. وثالثا : أنها مصدر ، كالعافية ... والحاصل أنهم جعلوا ذلك حلالا للذكور (وَ) قالوا : هو (مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي ممنوع على النساء (وَإِنْ يَكُنْ) الجنين (مَيْتَةً) في بطن أمّه (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) للذكور والإناث (سَيَجْزِيهِمْ) الله ويعاقبهم جزاء (وَصْفَهُمْ) هذا الذي اختلقوه ورتّبوه على هذا الشكل (إِنَّهُ) سبحانه (حَكِيمٌ) في فعله الذي

لا يعدو الحكمة والصواب ، وهو (عَلِيمٌ) بخلقه وبما يحتاجون إليه ، وبما يلائم ذنوب الكافرين عقاب.

١٤٠ ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) أي ضلّ وهلك الجماعة الذين قتلوا أولادهم : نحرا للآلهة ، أو خوف الفقر ، أو وأدا لأنهنّ بنات ، وما ربحوا بعملهم هذا لأن الله تبارك وتعالى هو الرزّاق الكريم الّذي يهب الحياة ، ويعطي الولد ، ويتكفّل الرزق ، ومع ذلك فعل هؤلاء ما فعلوه (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) ممّا ذكرنا من الأنعام التي منعوا الانتفاع بها (افْتِراءً) كذبا (عَلَى اللهِ) عزوجل ، وبهذا العمل (قَدْ ضَلُّوا) تاهوا عن جادة الصواب (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الحق.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ

آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤))

١٤١ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ...) هو : أي الله سبحانه وتعالى الذي أنشأ : أوجد من العدم البساتين والحدائق والكروم معروشات : أي مرفوعات على ما يحملها من الدعائم ، كالعرائش والأشجار المتعرّشة. خلقها وخلق سواها (غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كبقية النباتات المثمرة الملقاة على وجه الأرض كالبطيخ والخيار والقثاء وغيره مما هو غير داخل في الأشجار المعروشة ، (وَ) أنشأ كذلك (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) يعني مختلفة ألوانه وطعومه وروائحه وأوصافه (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) خلقه كذلك مختلفا بأشكاله وألوانه وأحجامه ، ومتشابهة أفراده في بعض الأحيان (كُلُوا) أيها العباد (مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) وإن لم يدرك وحين يدرك وينضج (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي تصدّقوا بشيء منه غير الزكاة حين جنيه كما هو المرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام ، لأن الزكاة قد فرضت في المدينة المنوّرة ، وهذه الآية الكريمة كانت قد نزلت في مكة المكرّمة. ففي الكافي والعياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : في الزّرع حقّان : حقّ تؤخذ به ، وحقّ تعطيه. أمّا الّذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأمّا الّذي تعطيه فقوله عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ). فالضّغث تعطيه ثم الضّغث. والضّغث هو الكفّ من التّمر إذا خرص. والقمي قال : فرض الله يوم الحصاد من كل قطعة أرض قبضة للمساكين ، وكذا في جذاذ النخل وفي التمر ، فكلوا (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا في التصدّق ، وهذا

كقوله تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(إِنَّهُ) تعالى (لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يكره المبذّرين. وفي الكافي والعياشي أن الإمام الرضا عليه‌السلام سئل عن هذه الآية فقال : كان أبي يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدّق الرجل بكفّيه جميعا. وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا ، فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفّيه صاح به : أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة ، والضّغث بعد الضّغث. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري ـ وسمّاه باسمه ـ كان له حرث ، وكان إذا أخذه تصدّق به ويبقى هو وعياله بلا شيء ، فجعل الله عزوجل ذلك. وكذلك سئل الإمام الرضا عليه‌السلام : إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع؟ قال : ليس عليه شيء.

١٤٢ ـ (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ...) أي أنه سبحانه وتعالى خلق من نوع الأنعام كما خلق من أنواع النباتات التي ذكرها في الآية الكريمة السابقة. وجعل هذه الأنعام حمولة : حاملة للأثقال بل هي كثيرة الحمل للأمتعة وقوية عليها. قد جعلها كذلك وجعل فيها الفرش المتعارفة التي تنسج من صوفها ووبرها وأباحها لنا وقال : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) منها من لحم ولبن (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تطيعوا إبليس في تحريم شيء منها من عند أنفسكم (إِنَّهُ) أي الشيطان اللّعين (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة لكم يا بني آدم ، وعداوته لكم غير خافية بل هي كالنّار على المنار.

١٤٣ ـ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ : مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ...) ثمانية : بدل من حمولة وفرشا ، ولذلك جاءت منصوبة. والزّوج ما معه آخر من جنسه. من الضّأن أي الغنم ، والمعز ، اثنين : أي الأهلي والوحشيّ من الجنسين (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي ذكر الضأن والمعز هل هما المحرّمان أم الأنثى من كلّ منهما؟ (أَمَّا) هي مدغمة من : أم و : ما

وهي للاستفهام (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من كلا الجنسين؟ (نَبِّئُونِي) خبّروني (بِعِلْمٍ) أي عن أمر معلوم متيقّن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ما ادّعيتم به من التحريم. وبعبارة أخرى : بيّنوا من أين جاء التحريم؟ ولم لم يكن التحريم للذكورة فقط ، أو للأنوثة فقط ، أو لسائر ما اشتملت عليه أرحام الصّنفين؟ ومن أين جاء التّخصيص ببعض دون بعض؟.

١٤٤ ـ (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ...) الآية معطوفة على سابقتها. ومن الإبل : أي العراب ، وهذا خلاف البخاتي. والبخاتي هي الخراسانية. ومن البقر اثنين : الأهلي والوحشي (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) مرّ تفسيرها (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : أكنتم حاضرين ناظرين شاهدين بهذا (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) أي أمركم بهذا التحريم الذي وصفتموه مع أنكم لم تؤمنوا بنبيّ ، ولا طريق لكم إلى معرفته إلا المشاهدة ، ولا مشاهدة ، فمن أين قلتم بهذا التحريم؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟) أي : هل أحد أظلم ممّن يكذب على الله صراحة؟ والمراد به كبراؤهم الّذين سنّوا ذلك وأقرّوه ، أو هو عمر بن لحي المبتدع المؤسس الذي بحر البحائر ، وسيّب السوائب (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بقصد إضلال الناس عن غير معرفة جاءته من السماء (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال داود الرقّي : سألني بعض الخوارج عن هذه الآية : ما الّذي أحلّ من ذلك وما الّذي حرّم؟ فلم يكن عندي جواب من ذلك ، فدخلت على أبي عبد الله ـ جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ـ وأنا حاجّ ، فأخبرته بما كان ، فقال : إن الله تعالى أحلّ في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية ، وحرّم الجبليّة. وأمّا قوله : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ، فإن الله تعالى أحلّ في الأضحية الإبل العراب وحرّم منها البخاتي ، وأحلّ البقر الأهليّة أن يضحّى بها ، وحرّم الجبلية. فانصرفت إلى الرّجل فأخبرته بهذا الجواب فقال : هذا شيء حملته الإبل من الحجاز!. فالظاهر يقينا أن

الخارجيّ قد عرف أن الرجل شيعيّ وأنه قد سأل إمامه المقيم في الحجاز. والله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما فيه نيل ثوابه ، أو أنه تعالى لا يلطف بهم لأنهم ليسوا أهلا لذلك ولأنهم لا يطلبون لطفه ولا يرغبون بتوفيقه للعمل الصالح.

* * *

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧))

١٤٥ ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) أي طعاما محرّما (عَلى طاعِمٍ) أي آكل (يَطْعَمُهُ) يأكله. وهذه الآية تدلّنا على أنه لا تحريم في المأكل إلّا بالوحي ، وهنا يتكلّم سبحانه عن الذبائح واللحوم. فقل يا محمد لا حرام في اللحوم (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) أي حيوانا مأكول اللحم مات دون ذبح وتذكية (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا كالدّم الذي يتدفق من العروق ، بخلاف الدم الذي في الطحال أو ما في الكبد أو بعض الدماء المختلطة باللحم بحيث لا تنفكّ عنه ، فهي لا تعد في

المسفوح ويطلق عليها اسم الدم المتخلّف ، ولا يحرم منها إلّا ما ثبتت حرمته بدليل. فالميتة والدم المسفوح من العروق حرام (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) نجس قذر وحرام (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذبح دون تذكية ولم يذكر اسم الله عليه فسقا أي خلافا لأمره تعالى كالذي يذبح على الصنم لتوغّله في الفسق والتعدي على أمر الله. فهذه كلّها محرّمات ، نعم استثنى حالة واحدة مشروطة بشروط وقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ) في يوم مجاعة مثلا ، أو ألجأه الاضطرار إلى أكل محرّم من اللحوم من غير طلب لذة (غَيْرَ باغٍ) أي عن غير بغي (وَلا عادٍ) وغير تعدّ على حدود الله سبحانه ولا وصل إلى حد الضرورة. فإن وصلت الضرورة إلى أحد الحدّين جاز له أكل شيء من المحرّم بمقدار سدّ الرّمق لوجوب حفظ الحياة مهما أمكن ، لأن الله عزوجل رخّص بأكله في تلك الحالة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن مثل هذه الأمور الاضطرارية ولا يؤاخذ العباد لشدة رحمته بهم.

فإن قيل : لم خصّ الله تعالى هذه الأشياء الأربعة هنا بالذكر والتحريم ، مع أن غيرها محرّم أيضا ، بدليل أنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وغيرها ، بل وردت الأخبار الصحيحة بتحريم كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من الوحش ، وكل ما لا قشر له من السمك ، إلى غير ذلك؟. قلنا : أما المذكورات في المائدة فكّلها يقع عليها اسم الميتة ويشملها التحريم هنا بهذا العنوان ، فكأنها ذكرت هنا مع حكمها ، فأجمل هنا وفصّل هناك. وأما غيرها فليس بهذا الحد من الحرمة ، فخصّ هذه الأشياء بالتحريم والذكر تعظيما لحرمتها ، وهو تعالى فوّض تحريم ما عداها إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي هذا المقام كلام مفصّل في التفاسير ومن شاء فليراجعه هناك. وبالمناسبة نذكر بيانا ذكره صاحب التهذيب رحمه‌الله وهو أنه ليس الحرام إلا ما حرّم الله في كتابه. والمعنى أنه ليس الحرام المخصوص المغلّظ الشديد إلّا ما ذكره الله في القرآن وإن كان ما عداه أيضا من المحرّمات

التي هي دونه في التغليظ والتشديد.

١٤٦ ـ (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ...) الّذين هادوا هم اليهود ، وقد حرّم الله عليهم كل حيوان تنتهي قوائمه بظفر أو مخلب من الدوابّ كالسّباع والطيور (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) أي الشحم الرقيق الذي يغشّي الكرش وشحوم الأمعاء وغيرها حرّمها عليهم أيضا (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي اشتملت عليه الظهور مع اللحم الذي تحمله (أَوِ الْحَوايا) أي ما اشتملت عليه الأمعاء ، وهي جمع :حاوية أو حاوياء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) كشحم الإلية المختلط بالعصعص الذي هو عظم الذنب. كلّ هذا قد حرّمه سبحانه على اليهود (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) أي بسبب ظلمهم حرمهم من أكل تلك الأشياء ، وقال تعالى : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقول من أخبار ووعد ووعيد.

١٤٧ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ...) فإن كذّبوك يا محمد فيما تقول فقل إن الله تعالى لا يعجل بالعقوبة ، ولذا أمهلكم لسعة رحمته ولطفه فلا تغترّوا بإمهاله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فإن عذابه القوي الشديد لا يرجعه أحد إذا نزل حين النّقمة والغضب.

* * *

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩))

١٤٨ ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا ...) أي أن المشركين بالله سبحانه وتعالى سيتعلّلون بالأعذار الواهية ويقولون لو أراد الله ما كنّا مشركين به نحن ولا آباؤنا ، ولكننا فعلنا ذلك بمشيئته لا باختيارنا. فقد علّلوا مشيئته بقول المجبّرة (كَذلِكَ) أي كما كذّبوا شهادة الحجج العقلية والنقلية ـ السمعيّة ـ وقالوا بمقالة الجبرية (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وافتروا على الله تعالى مثل افترائهم هذا ، وأنكروا براهين الرّسل والأنبياء عليهم‌السلام. فقد قلّد المتأخّرون المتقدّمين بمقالتهم الكفريّة وصرّحوا بأنهم على دين آبائهم وأنهم على آثارهم مقتدون (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي عذابنا وشعروا بقوّتنا (قُلْ) يا محمد : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) أي حجة معلومة يصحّ الاحتجاج بها على ما زعمتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) أي تبدوه لنا (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : إنكم تسيرون بحسب المزاعم والأوهام وهذه لا تغني من الحقّ شيئا (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أي تكذبون عليه تعالى.

١٤٩ ـ (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ...) أي له وحده سبحانه البيّنة التي تبلغ قطع عذر المحجوج المعاند ، والقوّة على إثبات المدّعى ، والبرهان القاطع الذي لا ردّ عليه (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد إرادة إلجاء إلى الإيمان وإجبار عليه لتمكّن من ذلك بمجرّد المشيئة ، ولكن يصير إيمانكم إيمانا جبريّا ، والله تعالى لا يحب الإيمان الجبريّ إذ لا يحسن الثواب عليه. وفي الأمالي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن قول الله عزوجل : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ، فقال : انه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما عملت؟ وإن كان جاهلا قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجة البالغة.

* * *

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ

اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

١٥٠ ـ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا ...) أي قل : أحضروا شهداءكم الذين تقتدون بهم والذين ترون قولهم حجة عليكم. فإن هؤلاء الّذين اتخذتموهم قدوة وسادة وقادة قد كذبوا على الله تعالى بقولهم إن الله حرّم هذه المحرّمات التي تدّعونها ، فهو لم يحرّمها

قطعا فأحضروهم لإظهار كذبهم (فَإِنْ شَهِدُوا) وأقرّوا واعترفوا بما ادّعوه (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تؤيّدهم في شهادتهم ولا تصدّقهم في قولهم فإن تصديقهم كالشهادة لهم بباطلهم ، بل بيّن لهم فساد قولهم وشهادتهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ولا تسلك طريقتهم السائرة وفق أهوائهم ورغباتهم فإن تكذيبهم لآياتنا منبعه الأهواء والغايات والنفوس المريضة التي قادها الشيطان والهوى (وَ) لا تتّبع أيضا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من عبدة الأصنام والكافرين بالبعث والنشور فإنهم كافرون (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون له عديلا ونظيرا لأنهم مشركون.

١٥١ ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ...) أتلو : أي أقرأ ما حرّم : يعني منع ربّكم عليكم : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) فأوجب توحيده سبحانه وعدم الشّرك به. ولفظة : ألّا هي : أن و : لا الناهية. (وَبِالْوالِدَيْنِ) الأب والأم (إِحْساناً) أن تحسنوا إليهما ، وهذا ليس أمرا بالإحسان إليهما فحسب ، بل هو مبالغة في ضرورة الإحسان إليهما ليبيّن أن ترك الإساءة إليهما غير كاف بل لا بد من صريح الإحسان للوالدين عرفانا بجميلهما وبرّا بهما. وعن القمي بطريق مقطوع أن الوالدين هما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليهما‌السلام، ولكن لا بد أن يكون المراد أعمّ منهما (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي خوف الفقر ، فربّما ولد الطفل وكان قرين الغنى لأن الله سبحانه متكفّل برزق عباده وقد صرح بقوله (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) قد أخذ على نفسه الرحمة لمخلوقاته والعطاء. والواو هنا للمصاحبة فالرزق يشمل الوالد والمولود (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) أي ابتعدوا عن الفواحش وهي جمع فاحشة وتعني العمل القبيح المنهيّ عنه بالنهي الشديد شرعا وعرفا (ما ظَهَرَ مِنْها) أي ما بان من تلك الفواحش لأعين الناس (وَما بَطَنَ) كالزّنى واتّخاذ العشيق والخليل سرّا ـ قال الله تعالى ولا متّخذات أخدان ـ. وفي الكافي والعياشي عن الإمام السجاد عليه‌السلام : ما ظهر : هو نكاح امرأة

الأب ، والله أعلم .. (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) فنهى سبحانه عن قتل النفس منعا باتّا واستثنى ما يجب فيه إقامة الحد بالحق كالقصاص والقود ، وقتل المرتدّ ، ورجم المحصن (ذلِكُمْ) إشارة إلى موارد جواز القتل مما ذكرناه (وَصَّاكُمْ بِهِ) لتحفظوه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يعني لكي تفهموا ما أوصاكم به فلا تضيعوا عن وصية ربّكم جلّ وعلا ولتعملوا وفق أوامره وحلاله وحرامه.

١٥٢ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) حرّم سبحانه القرب من مال اليتيم أي التصرّف به إلّا في الوجوه الذي تحفظه لصاحبه وتنمية ، وبأحسن وجوه التصرّف ، وكما يحفظ الإنسان ماله ودراهمه ودنانيره ، ليبقى المال مرصودا لليتيم (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي حتى يقوى ويكمل عقله ويحتلم. وكلمة : أشدّه جمع شدّ أو شدّة ، والأنسب كونها مفردة وهي تعني القوّة والبلوغ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) وأوفوا أي : زيدوا ولا تنقصوا ، والقسط هو العدل والتسوية دون النقصان والتخسير (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي أنه تعالى لم يطلب من العبد إلّا الحدّ الذي يسعه ولا يعسر عليه ، بل يطيقه. ومن المؤكّد أن مراعاة العدل الواقعي في إيفاء حقه تعالى ـ أو أي حق ـ متعسرة ، فلم يطلب إلّا ما في الوسع وهو يعفو عمّا سواه (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) فقد طلب إجراء قاعدة العدل والإنصاف في القول ، في الخصومة والحكومة وفي كل مقام (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان قولكم لمصلحة أحد أقربائكم أو عليه ، فاشهدوا بالحق ولا تقولوا إلّا الصدق (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي بما عهد إليكم ممّا أوجبه عليكم فأدّوه كاملا كما طلبه منكم (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لأجل أن تتّعظوا بما وصّاكم به ولا تنسوا وصية الله سبحانه وتعالى.

١٥٣ ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ...) أي أن طريقه الذي أشار إليه سبحانه هو الطريق العدل المؤدي إلى ما فيه الرشاد ، ذهابا من إثبات وحدانيّته تعالى إلى النبوّة فسائر موادّ الشريعة السمحة (فَاتَّبِعُوهُ) أي فاسلكوه لأنه لائق بالاتّباع والاهتداء به إلى الحقائق من أقرب الطّرق

(وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي لا تسلكوا الطّرق المتشعّبة الملتوية التي تسير وفق الأهواء والرغبات (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فتفرق ، يعني : فتتوزّع وتأخذ بكم وتصرفكم عن طريق الحق المستقيم وتزيلكم عن اتّباع الوحي واقتفاء البرهان الساطع (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي وصّاكم بذلك لتتجنبوا التّيه في الضلال والتفرّق عن الحق والحقيقة ، ولتؤمنوا بما جاء من عند الله. وفي العياشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال لبريد العجلي : تدري ما يريد : بصراطي مستقيما يعني رسول الله؟ قال : قلت : لا. قال : ولاية علىّ والأوصياء عليهم‌السلام في خطبة الغدير. قال : وتدري ما يعني : فاتّبعوه؟ قال : قلت : لا. قال : يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام. قال : وتدري ما يعني : ولا تتّبعوا السّبل؟ قال : قلت : لا. قال : ولاية فلان وفلان والله. قال : وتدري ما يعني : فتفرّق بكم عن سبيله؟ قال : قلت : لا. قال : يعني سبيل عليّ عليه‌السلام.

* * *

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

١٥٤ ـ (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) هذه الآية الكريمة معطوفة على : وصّاكم ، وقد عطف سبحانه ب : ثم ، للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرّتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا. وقد استفتح سبحانه الآية ب : ثم ، ليبين حالة لليهود كانت أعظم ممّا هم عليه ، وهي عصيانهم يوم آتى موسى (ع) الكتاب يعني التوراة (تَماماً) أي كاملا في موادّه التكليفية للقيام به (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكلّ ما يحتاج إليه في الدّين بتفصيل (وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي وجعلناه هدى وجعلنا فيه رحمة لهم (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) وهو يقصد اليهود المشركين الذين خصّهم بكتابهم ليؤمنوا ويصدّقوا بلقائه عزوجل يوم البعث للجزاء.

١٥٥ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ...) يعني القرآن الكريم الذي أوحى به سبحانه من السماء إلى نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله كثير الخير والبركة. ومبارك صفة للكتاب (فَاتَّبِعُوهُ) أي اعملوا بما فيه (وَاتَّقُوا) واحذروا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بأمل أن تنالكم الرحمة باتّباعه وعدم مخالفته.

١٥٦ ـ (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ...) هذه الشريفة مرتبطة بسابقتها ، وهي تعني أننا أنزلنا القرآن المبارك لتعملوا به ولنقطع احتجاجكم أيها الكافرون ولئلا نترك لكم المجال أن تقولوا : أنزل الكتاب من السماء على طائفتين : هما اليهود والنصارى ، ودعا هؤلاء وهؤلاء للإيمان (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي عن مدارستهم وتلاوة ما نزل عليهم (لَغافِلِينَ) لا ندري ما هي ، لأننا لا نعرف مثلها ، ولأن قراءتها حديثة. واللام هنا جاءت للتأكيد بعد : وإن ، التي تعني : وإنّنا كنّا.

١٥٧ ـ (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...) الآية معطوفة على ما سبقها ، وتعني : أننا أنزلنا عليكم القرآن قبل أن تعتذروا بعدم نزول كتاب عليكم وتقولوا لو كان لنا كتاب لكنّا أسرع إلى الهدى

من اليهود والنصارى إذ لا تنقصنا الفصاحة والفهم وحذق الشّعر والخطب وغيرهما وإن كان أكثرنا أميّين (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة واضحة أنزلها الله سبحانه لكم (وَهُدىً) لمن اتّبعها (وَرَحْمَةٌ) لمن تأمل فيها وكان من أهلها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) أي : هل أظلم لنفسه من الذي كذّب بآيات ربّه وبراهينه وحججه ولم يصدّقها (وَصَدَفَ عَنْها) أي أعرض وانصرف بوجهه عن تلك الآيات البيّنات؟ (سَنَجْزِي) نعاقب (الَّذِينَ يَصْدِفُونَ) يعرضون (عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) العذاب السيّء الأليم (بِما) بسبب ما (كانُوا يَصْدِفُونَ) يشيحون بوجوههم عنها.

* * *

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

١٥٨ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ...) هذا استفهام إنكاري يعني : ما ينتظر كفّار مكة إلّا مجيء الملائكة إليهم إمّا للوفاة وإمّا للعذاب (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي أمر ربّك وقد أقام المضاف محل المضاف إليه (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) بعض ما وعدهم به من الأهوال والعذاب. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في معنى هذه الآية الكريمة :

إنما خاطب نبيّنا : هل ينظر المنافقون والمشركون إلّا أن يأتيهم الملائكة : أي ملائكة الموت أو العذاب فيعاينونهم ، أو يأتي ربّك أو يأتي بعض آيات ربك يعني بذلك : أمر ربك ، والآيات هي العذاب في دار الدّنيا كما عذّب الأمم السالفة والقرون الخالية .. فإذا كان ذلك (لا يَنْفَعُ) لا يفيد (نَفْساً) أحدا من الناس ذوي النفوس (إِيمانُها) تصديقها (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) أي في حال أنها لم تكن قد صدّقت بذلك قبل وقوعه (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أي ربحت أجرا لتصديقها (قُلِ) يا محمد مهدّدا الكفار : (انْتَظِرُوا) اصبروا حتى يحلّ ذلك بكم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) متربّصون له ومصدّقون به.

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) أي آمنوا ببعض ما أمروا به وكفروا بالبعض الآخر (وَكانُوا شِيَعاً) أي فرقا وجماعات مختلفة الأهواء متعدّدة الأئمة والقادة. ففي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنهم أهل الضلال وأصحاب الشّبهات والبدع من هذه الأمة. وفي الحديث الشريف عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النّار إلّا واحدة وهي التي تتّبع وصيّي علياّ ... فيا محمد ، إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي ما أنت المسؤول عن تفرّقهم وعن كونهم سلكوا مذاهب فاسدة شتّى (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) أي حسابهم وتولّي سماع قولهم والإجابة المقنعة عليه ، فكل شؤونهم موكولة إليه تعالى. والأمر هنا يعني مجازاتهم وعقابهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي يخبرهم بكل ما عملوه حين محاسبتهم يوم القيامة.

١٦٠ ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ...) أي : من فعل الخير واكتسب الحسنة يكتب الله تعالى له عشر حسنات تفضّلا منه وكرما وجزاء لإيمانه. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه‌السلام : لمّا نزلت الآية : من جاء بالحسنة فله خير منها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ربّ زدني. فأنزل الله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها). وفي الكافي

عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنه سئل : هل للمؤمن فضل على المسلم في أي شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في مجرى واحد. ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزوجل. أليس الله عزوجل يقول : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع الإيمان؟ قال : أليس قد قال الله أيضا : يضاعفه له أضعافا كثيرة. فالمؤمنون هم الّذين يضاعف الله لهم حسناتهم لكلّ حسنة بسبعين ضعفا. فهذا فضل المؤمن ، ويزيده الله حسنا له على قدر صحة إيمانه أضعافا كثيرة ، ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي اقترف ذنبا كبيرا أو صغيرا (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) لا يكتب عليه إلّا بمقدارها فقط ويجازى بحسبها عدلا من الله سبحانه وتعالى (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص الثواب ويزيد العقاب ، وتعالى الله عن الظلم والجور لأنه ذو المغفرة والرحمة. وقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنه لمّا أعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة والإنظار ، قال آدم عليه‌السلام : يا ربّ سلّطته على ولدي وأجريته فيهم مجرى الدم في العروق ، وأعطيته ما أعطيته ، فما لي ولولدي؟ فقال تعالى : لك ولولدك : السيئة بواحدة ، والحسنة بعشر أمثالها. قال : يا ربّ زدني. قال : التوبة مبسوطة إلى أن تبلغ النّفس الحلقوم. فقال : يا ربّ زدني. قال : أغفر ولا أبالي. قال آدم عليه‌السلام : حسبي.

* * *

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ

اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

١٦١ ـ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ...) أي اقطع يا محمد نزاع القول مع القوم الكافرين وقل : إنني هداني ربّي : أي أرشدني ودلّني وأراني الطريق المستقيم : الذي لا اعوجاج فيه وحيا من عنده وتفضّلا وكرما (دِيناً قِيَماً) دينا بدل من موضع : إلى صراط ، والمعنى : هداني صراطا ، دينا. وقيما أي : قيّما على وزن فيعل ، وهو مصدر بمعنى القيام وبمعنى قائم وثابت وهو أبلغ منهما (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ، أي طريقة إبراهيم (ع) ودينه (حَنِيفاً) حال من إبراهيم ، وهو بمعنى الاستقامة ، أي أن إبراهيم عليه‌السلام كان مستقيما في دينه (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والجملة عطف بيان ممّا قبله ، وقد نفى سبحانه شرك إبراهيم (ع) وشرك من كان على طريقته.

١٦٢ ـ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) أي دعائي وعبادتي وقرباني (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وما آتيه فيها ، وموتي وما أموت عليه (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ذلك كلّه خالص لوجهه سبحانه وتعالى فهو رب الكون وسائر العوالم.

١٦٣ ـ (لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ...) أي لا أشرك معه غيره أحدا في عبادتي وغاية تخضّعي وتذلّلي ، وقد أمرني لأعترف (بِذلِكَ) أي بما ذكر في صدر الآية ، وأنا أعبده بغاية الإخلاص إذ لا تجوز العبادة إلّا له

تعالى (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله يتقدّم إسلام أمّته ككلّ نبيّ يؤمن بربه ويأمر الناس بالإيمان به. وهذا طبيعيّ لأن النّبيّ يؤمر بالإيمان قبل الذين بعث إليهم ، ولأن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أول من أجاب في الميثاق في عالم الذّر كما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فإسلامه تقدّم إسلام كافة الخلائق يوم الجبروت والعظمة. وفي حديث ذكر فيه إبراهيم (ع) فقال (ص) : دينه ديني ... إلى أن قال : وأنا أفضل منه.

١٦٤ ـ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) أبغي : يعني : أطلب ، والاستفهام إنكاريّ يعني أنه (ص) لا يطلب غير الله سبحانه إلها (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي أن كل ما سواه مربوب لا يصلح للرّبوبيّة ، لأن الله تعالى هو ربّ جميع الكائنات (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي أن كل نفس تتحمل تبعة عملها وتنال جزاء طاعتها أو معصيتها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، ولا تحمل غير حملها. وفي العيون عن الإمام الرضا عليه‌السلام أنه سئل عمّا يقول في حديث يروى عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه إذا خرج القائم عجّل الله تعالى فرجه قتل ذراري قتله الحسين عليه‌السلام بفعال آبائهم ، فقال عليه‌السلام : هو كذلك. فقيل : قول الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ما معناه؟ قال : صدق الله في جميع أقواله ، ولكنّ ذراري قتلة الحسين عليه‌السلام يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها ، ومن رضي شيئا كان كمن أتاه. ولو أنّ رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله من في المغرب لكان الرّاضي عند الله شريك القاتل. وإنّما يقتلهم القائم عليه‌السلام إذا خرج لرضاهم بعمل آبائهم .. (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم يوم القيامة إلى خالقكم بقرينة لفظة : ثم ، وبدليل الآيات السابقة (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي بما كنتم في دار الدّنيا تفترقون فيه بتمييز الحق من الباطل والرّشد من الغي والهداية من الضلال.

١٦٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ...) الله سبحانه هو الذي جعل الناس يخلف بعضهم ، فاللاحق يأتي بعد السابق بحيث كلّما مضى قرن خلفه قرن آخر من الناس وهكذا حتى آخر الدّهور وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. وقد يراد أنه جعلكم خلفاءه سبحانه في أرضه تتصرفون فيها وبخيراتها وسائر أمورها ، والله أعلم بما أراد في كلامه القدسي. فقد جعلكم خلفاء الأرض (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بالشرف ، والمال ، والعلم ، وجهات أخر جعلكم متفاوتين في المراتب (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (فِي ما آتاكُمْ) أي ليعلم أتشكرون نعمه أم تكفرون بها؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) أي سريع التأديب بالعذاب الشديد لمن كفر نعمه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن شكره على أفضاله الجزيلة كالمؤمنين به من عباده.

سورة الأعراف

مكية ، غير قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ، إلى قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) نزلت في المدينة بحسب قول قتادة والضحاك. وعدد آياتها مائتان وست آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

١ ـ (المص ...) قد مرّ تفسيره فيما سبق من كلامنا على مثل هذه الافتتاحيات.

٢ ـ (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ...) أي هذا الذي أوحيناه إليك هو كتاب أنزلناه عليك بواسطة الملائكة وبأمر منّا. ولفظة كتاب مرفوعة بغير هذه الحروف : المص ، إذ المعنى : هذا كتاب أنزل إليك (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي فلا يضيقنّ صدرك بما فيه من الأوامر والنواهي الكثيرة التي تخاف من أن لا تقوم بتبليغها حق القيام. وقيل : لا ينبغي أن يضيق صدرك من خوف تكذيب قومك لك بسببه ، وذلك كقوله سبحانه

في سورة الكهف : فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا. وقد جاء في الأخبار أنه لمّا نزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إني أخشى أن يكذّبني الناس ويثلغوا رأسي ـ أي يخدشوه ـ فيتركوه كالخبزة. فأزال الله تعالى عنه الخوف بهذه الآية ... أما الفاء فقد دخلت على جملة : فلا يكن ، لتعطف الجملة على الجملة السابقة بتقدير : كتاب أنزلناه إليك فلا يكن في صدرك حرج بعد إنزاله. وقيل إنها وقعت في أول جواب بتقدير : إذا أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج ، والأوّل أصوب (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بالكتاب الذي هو القرآن الكريم والإنذار هو التخويف بالوعيد لمن يخالف أوامر الله ونواهيه ، وذلك بمعنى : كتاب أنزل إليك لتنذر به (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي موعظة لهم ، وقد خصّهم سبحانه بالذكر لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.

والحاصل أنه سبحانه قال لنبيّه : كن طيّب النفس منشرح الصدر حال التبليغ ليتذكّر من تنفعه الذكرى من المؤمنين المصدّقين.

٣ ـ (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الخطاب لسائر المكلّفين ، فقل يا محمد لهم : اتّبعوا : أي تصرّفوا بما في المنزل إليكم من الله. والاتّباع هو أن يتصرّف التابع بتصرّف المتبوع كالمأموم والإمام يفعل ما يفعل. والاتّباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب والنّدب والمباح على أن يعتقد المرء في الحرام وجوب اجتنابه. فيا أيها المكلفون كونوا متّبعين لما في القرآن من أوامر ونواه وأطيعوا ما فيه ولا تتخذوا من دونه أولياء أي لا تقلّدوا أولياء تتولّونهم وتطيعونهم في معصية الله ، فإن من لا يتّبع الله وكتابه يكون متّبعا للشيطان أو للأوثان (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا تذكّركم وكونكم متّعظين بما فيه. ومعناه هنا الأمر ، يعني : تذكّروا كثيرا كلّ ما أوجبه الله تعالى عليكم وما يلزم لكم من أمور دينكم ومعاشكم ومعادكم. ويقال تذكّر الإنسان إذا اتّعظ وتفقّه وتعلّم شيئا بعد شيء وانتفع بالذكرى.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

٤ ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها ...) كم : لفظة توضع للتكثير بعكس لفظة : ربّ. وقد قال الفرزدق :

كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

وموضع : كم ، في الآية رفع بالابتداء ، وأهلكناها خبرها ... فبعد أن سبق أمره سبحانه للمكلّفين بوجوب اتّباع القرآن الكريم ، وبالتحذير من مخالفته ، وبالتذكّر والانتفاع بالذكرى ، عقّب بهذه الآية الكريمة قائلا : كم من قرية أهلكناها : أي من أهل قرية ، فإنهم هم الذين يقع عليهم الهلاك ، وقد حذف اللفظ لدلالة المعنى عليه. والإهلاك يكون بالإبادة والاستئصال والعذاب الشديد. فكثيرا من القرى أهلكناها (فَجاءَها بَأْسُنا) أي حين حلّ فيها عذابنا (بَياتاً) في الليل وأهلها بائتون ، وقد سمّي البيت بيتا لأنه يصلح للمبيت (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني نزل العذاب بأهل القرى حين مبيتهم أو حين القيلولة التي هي نصف النهار حين يأوي الإنسان إلى بيته ليرتاح بعد العمل منذ الصباح إلى الظهر.

أما الفاء في : فجاءها بأسنا ، فهي للتعقيب. فإن قيل كيف عقّبنا بها

في حال يوهم أن البأس جاء بعد إهلاك القرى والإهلاك لا يتم إلّا بنزول البأس والعذاب؟ ... فالجواب : أننا أهلكنا القرى بحكمنا عليها فجاءها بأسنا ، أو أهلكناها ببعث ملائكة العذاب فجاءها بأسنا ، أو أخيرا : أهلكناها فصحّ أنه جاءها بأسنا كما فصّله في المجمع. وأما الواو في : وهم قائلون فقد قال الفراء : واو الحال مقدّرة فيه ، يعني : أو وهم قائلون. ولفظة : بياتا ، مصدر وضع مكان الحال بمعنى بائتين ، وقيل غير ذلك وهذا هو الأصح.

٥ ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا ...) أي لم يكن دعاء من أهلكناهم عقوبة على كفرهم ومعاصيهم حين نزول عذابنا بهم في وقتي الراحة من البيات أو من القيلولة (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعني لم يقع منهم سوى الاعتراف بظلمهم لأنفسهم ، والإقرار بالذنوب والمعاصي في وقت لا تنفع فيه التوبة عند معاينة العذاب والتيقّن بالهلاك.

٦ ـ (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ...) قد أقسم الله سبحانه أنه سيسأل المكلّفين الذين أرسلت إليهم الرّسل. وقد وقع هذا القسم بعد الإنذار بعذاب الدّنيا وعذاب الآخرة ، ثم أقسم أيضا بقوله القدسيّ : (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الّذين بعثناهم. نسأل هؤلاء عن التبليغ ، ونسأل أولئك عن الطاعة والامتثال ، مع كونه تعالى عالما بما كان من هؤلاء وهؤلاء. ولكنه أورد القسمين لإخراج الكلام مخرج التهديد والوعيد ليهتم المكلّفون وليعرفوا أنهم مسئولون. وما أحسن ما جاء في المجمع عن الحسن من أن المكلّفين يسألون سؤال توبيخ ، والأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق ، وأنه كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ، وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، فأجاب :

أولا : إنه تعالى نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ، بل سؤال تبكيت وتقريع كمن يقول : ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي؟

وثانيا : إنما يسألون كما قال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ، ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة ، فلا تنافي بين القولين بل هما إثبات للسؤال في وقت ، ونفي له في وقت آخر.

وثالثا : أن في القيامة مواقف يسأل العبد في بعضها ، ولا يسأل في بعضها الآخر ، فلا تضادّ بين الآيات ... ومثل ذلك كثير في القرآن.

٧ ـ (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ ...) أي لنخرجنّهم بأعمالهم إخبار علم ليعرفوا أن أعمالهم كانت محفوظة ، وليعرف المكلّف جزاء عمله ، فتظهر لهم أحوالهم (بِعِلْمٍ) أي بمعرفة تامة. وهذا ما أشرنا إليه من أنه سبحانه لا يسأل سؤال من ينتظر معرفة الجواب ، بل نسألهم ونخبرهم بعلم يبدو لهم ظاهرا في كتاب أعمالهم الذي لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلّا أحصاها (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن شيء من أفعالهم ولا عن علم ذلك كله ، ولا عن الرّسل فيما بلّغوا لأممهم ، ولا فاتنا شيء من ذلك.

٨ ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ...) يومئذ : أي يوم القيامة يكون وزن الأعمال وزنا حقّا. وقد قيل في ذلك الوزن :

أنه عبارة عن العدل الإلهي بحيث لا ظلم لأحد كما عن مجاهد والضحاك والبلخي.

وأن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفّتان توزن به الحسنات والسيئات في قول ابن عباس والجبائي ، واختلفوا في كيفية الوزن لأن الأعمال أعراض لا تعاد يوم القيامة ولا يكون لها وزن. فقال جماعة : تظهر علامات للحسنات وعلامات للسيئات يراها الناس ، وقيل توزن نفس المؤمن ونفس الكافر.

وقيل ثالثا : المراد بالوزن هو ظهور مقدار المؤمن في العظم. ومقدار الكافر في الذّلة ، فمن عمل صالحا ظهر قدره وفلاحه ، ومن عمل سيئا

ظهر خسرانه وخذلانه .. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت حسناته على سيئاته. وقد جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من الطاعات ميزان بدليل ما جاء في الخبر الشريف من : أن الصلاة ميزان فمن وفي استوفى (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الناجحون الفائزون بالثواب.

٩ ـ (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) أي الذين تخفّ موازينهم فتثقل كفة سيّئاتهم فإنهم يخسرون باستحقاقهم لعذاب الأبد الذي لا تنقضي مدته والخسران ذهاب رأس المال ، والنفس من أعظم رأس المال يخسرها من أهلكها. (بِما) أي بسبب أنهم (كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بجحودهم وكفرهم بما جاء به محمد (ص) من حججنا ودلائلنا.

* * *

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))

١٠ ـ (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ...) ثم أخذ سبحانه وتعالى يذكر نعمه على البشر فعدّ التمكين في الأرض. والتمكين هو إعطاء ما يصح به الفعل مع رفع المنع ، فإن الفعل يحتاج إلى القدرة وإلى الآلة والدلالة والسبب وارتفاع المنع عن القيام به. فقد مكنّاكم في الأرض على هذا

الأساس من إعطائكم جميع ذلك (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) والجعل هو إيجاد ما به يكون الشيء على خلاف ما كان عليه ، كجعل الساكن متحركا. فقد وفّرنا لكم في الأرض معايش : جمع معيشة ، يعني ما تعيشون به من أنواع النعم والرزق ومختلف المنافع (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) يعني تشكروا أنعمنا عليكم بذلك ولكنه قلّ شكركم.

١١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ...) نعمة الخلق والإيجاد والتصوير ، هي أول نعمة ذكّر بها سبحانه. والمعنى في هذا الخطاب : أنّا بدأنا خلق آدم ثم صوّرناه ، فابتداء خلقه (ع) من التراب عقبته الصورة التي صار عليها. (ثُمَ) بعد هاتين المرحلتين (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد الفراغ من خلقه وتصويره ونحن نخبركم بما كان منّا من خلقكم في أصلاب الرجال وأمرنا للملائكة بالسجود (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) قد مرّ تفسير ذلك في سورة البقرة.

١٢ ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ...) يعني أن الله سبحانه قال : ما منعك من السجود يا إبليس حين أمرت ملائكتي به؟ و : ما ، مرفوع الموضوع ، والمعنى : أي شيء منعك. وألّا : هي : أن لا ، و : لا ، بحكم الملغاة ، والتقدير : ما منعك أن تسجد ، وذلك كقول القائل :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

أي : أبى جوده البخل : و : لا ، زائدة.

وقيل إنما دخل : لا ، في قوله تعالى : ألّا تسجد ، لأن معناه : ما دعاك إلى أن لا تسجد ـ وهو قول جميل ـ (إِذْ أَمَرْتُكَ) بالسجود لآدم (قالَ) إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي أنا خير من آدم لأنك أوجدته من تراب ، وأنا مخلوق من نار ، والنار تقوى على الطين. ويلاحظ أن الجواب غير مطابق للسؤال إذ لم يسأل سبحانه : أيّكما خير من الثاني. وقد قال ابن عباس : أول من قاس إبليس

فأخطأ القياس ، فمن قاس الّدين بشيء من رأيه قرنه الله بإبليس ، ونعم ما قال. ومثله ابن سيرين الذي قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس. أمّا ظنّ إبليس أن النار أشرف من الطين فلا يجوز أن يسجد الأشرف لمن هو دونه ، فهو خطأ لأن ذلك تابع لما يعلم الله تعالى من المصالح ، على أن الطين أيضا خير من النار باعتبار كثرة منافعه للخلق ، فالأرض مستقرّ العباد ، ومنها معايشهم وأرزاقهم وخيراتهم.

١٣ ـ (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها ...) أي قال الله عزوجل لإبليس : اهبط : انزل منها : من السماء أو من الجنّة أو ممّا أنت عليه من الدرجة والمنزلة الرفيعة الخاصة بمن اتّبع أوامر الله حق الاتّباع (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ) عن أمر الله ، ولا يحق ذلك لك (فِيها) أي الجنّة أو ما ذكرناه فإنها لا يكون فيها المتكبّرون بل موضعهم النار وبئس القرار. وقد قال سبحانه : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ فَاخْرُجْ) يا إبليس من الجنة والنعمة التي أنت عليها (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) يعني الأذلّاء بالمعصية ، والصاغر الذليل بصغر القدر. ولا يخفى أن العاصي يكون ذليلا عند من عصاه ، بل يكفي بالعذاب صغارا يوم القيامة. وقيل إن هذا الكلام قول الله سبحانه ولكنه صدر لإبليس على لسان بعض الملائكة والله أعلم.

* * *

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

١٤ ـ (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ...) قال إبليس اللعين : أمهلني وأخّرني إلى يوم البعث : أي بعث الناس من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم ، ولا تمتني. فكأنه خاف تعجيل العقوبة ووقوعها حالا فسأل الله المهلة. وقد قال الكلبي ـ كما في المجمع ـ : أراد الخبيث أن لا يذوق الموت في النفخة الأولى مع من يموت ، فأجيب بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم الذي هو النفخة الأولى ليذوقه بين النفختين ، وهو أربعون سنة. فالله سبحانه متفضّل على مخلوقاته يجيب سؤالهم ويستجيب دعاءهم ولو عصوه بدليل إجابة طلب أكبر عاص له سبحانه ، وهو إبليس إذ لمّا سأله الإنظار والبقاء :

١٥ ـ (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ...) أي قال الله تعالى له : إنك من المؤخّرين بحسب ما طلبت وإن كنت عاصيا.

١٦ ـ (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ...) أي قال إبليس بعد أن أجابه الله إلى شيء من طلبه : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) يعني : فبالّذي أغويتني : أي فباعتباري غاويا ضالا. وقيل : بما خيّبتني من رحمتك وطردتني منها ، وذلك كما قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس خيره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أي من يخب. وقيل معناه : بما امتحنتني بالسجود فغويت عنده ، كما قيل : حكمت بغوايتي كما يقال : أضلّه أي حكم بضلاله. وفي المجمع قال : لا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أن الله تعالى يغوي الخلق ويضلهم بدافع نفسه الشّريرة. ولذلك قال : فبما أنك أغويتني : أي اعتبرتني غاويا (لَأَقْعُدَنَ) أي لأجلسنّ (لَهُمْ) لأبناء آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي على طريق الحق الذي تسنّه لأصدّهم عنه وأصرفهم إلى طريق الباطل عداوة لهم

وكيدا (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي لأحضرنّهم في دنياهم ولأسدّن عليهم الطّرق مزيّنا لهم الدّنيا قائلا لهم : لا جنّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، ومن مات وعاد فأخبر عن ذلك ، وما أشبه ذلك لأثبّطهم عن الطاعات وأشغلهم بالشهوات وملاذّ الدّنيا ولأحثّهم على عصيان أوامر الله ، ولذلك ذكر أنه يجيئهم من جميع الجهات ليعترض أيّ طريق لهم إلى الإيمان. وقد قال ابن عباس : لم يقل : ومن فوقهم لأن فوقهم جهة نزول الرحمة من السماء ولا سبيل له إلى ذلك ، كما أنه لم يقل : من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه موحش. وقال مجاهد : معنى من بين أيديهم وعن أيمانهم : من حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم : من حيث لا يبصرون.

وروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) : أهوّن عليهم أمر الآخرة ، ومن خلفهم : آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ، وعن أيمانهم : أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة ، وعن شمائلهم : بتحبيب اللّذات إليهم وتغليب الشهوات على قلوبهم.

وإنما دخلت : من ، في القدّام والخلف ، وعن : في اليمين والشمال ، لأن في القدّام والخلف معنى طلب النهاية ، وفي اليمين والشمال يكون الانحراف عن الجهة .. وحين أفعل ذلك مع العباد يكفرون بأوامرك (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي أن الأكثر منهم يكونون غير شاكرين لله لأن الشيطان يستزلّهم فيطيعونه ويعصون الخالق تبارك وتعالى.

١٨ ـ (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً ...) قرئ : مذوما بتخفيف الهمزة. والذام والذيم أشدّ العيب ، فمذوم ومذءوم يعني معيب في غاية العيب. فقد قال سبحانه لإبليس : اخرج من الجنّة مذموما معابا بعصيانك أمر الخالق ، مهانا لعينا مدحورا : أي مدفوعا بهوان ومطرودا بذلّ (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي : من اتّبعك من بني آدم وأطاعك وعمل بوسوستك.

واللام هنا للابتداء ومن للشرط وهو في موضع رفع ولا يجوز أن يكون بمعنى الذي كما أن لام (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) لام القسم. يعني سأملأ جهنّم منك ومن ذرّيّتك التي تعينك في إضلال الناس ، ومن الكفار المطيعين لكم من بني آدم (أَجْمَعِينَ) مجموعين في جهنّم بلا استثناء أحد منكم.

* * *

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١))

١٩ ـ (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ...) أمر سبحانه آدم (ع) بسكنى الجنّة والإقامة فيها مع زوجته حواء (ع) ولم يقل زوجتك لأن لفظة : زوج ، تقع على الزوج وعلى الزوجة من جهة ، ولأن الإضافة هنا إليه أغنت عن ذكره وأبانت عن معناه من جهة ثانية (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) أي من أي مكان أردتما ، فقد أباح لهما أكل كل شيء وأينما كان ذلك الشيء الذي يريدانه ، ولكنه نهاهما عن شيء واحد قائلا : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تأكلا منها (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم أي الباخسين نفوسهم أعظم الثواب. وقد سبق أن بيّنا ذلك في سورة البقرة.

٢٠ ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما ...) أي وسوس الشيطان لآدم وحواء ، يعني أنه ألقى في قلبيهما المعنى بصوت خفيّ ، وأوهمهما أنه ناصح لهما في ذلك (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما. والإبداء والإظهار للشيء هو جعله على صورة يصح أن يدرك

معها ، وذلك بعكس الإخفاء. فقد كانت وسوسته لهما بقصد إظهار (ما وُورِيَ) يعني : ستر (عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) أي عوراتهما. (وَقالَ) لهما : (ما نَهاكُما) منعكما (رَبُّكُما عَنْ) الأكل من (هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أي تتغيّر صورتكما وتصير إلى صورة الملائكة وأن الله تعالى قد قضى بذلك في سابق علمه (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لا تفنى حياتكما ولا تنتهي إذا أكلتما منها (وَقاسَمَهُما) أي حلف بالله حتى تتم مكيدته لهما ، وأكّد قائلا : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) أي المخلصين في النصيحة حين أدعوكما إلى التناول من هذه الشجرة ، الأمر الذي جعلهما يصدّقان قول إبليس لأنهما كانا قد اعتقدا أنه لا يقدم أحد في المخلوقات على اليمين إلّا صادقا.

٢١ ـ (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ ...) أي : حلف لهما يمينا بالله أنه ينصحهما بذلك ، والنصيحة ضد الغش. فهو يقسم اليمين كاذبا ويؤكد لهما رأيه بأنه من المخلصين في النصيحة حين يدعوهما للأكل من هذه الشجرة ، مما جعلهما يصدّقان قوله لأنهما اعتقدا أنه لا يتجرّأ أحد في ذلك الوقت أن يحلف بالله يمينا كاذبة ، فرغبا في الخلود والبقاء.

* * *

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها

تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

٢٢ ـ (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ...) أي غرّهما واستزلّهما ودلّاهما : من تدلية الدلو وإنزالها إلى البئر ، فأوقعهما في المكروه وغرّهما : فأظهر حالا وكتم حالا فكان غروره غشّا لهما (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) أي تناولا شيئا قليلا لأن الذوق ابتداء الأكل والشرب ليعرف الطّعم ، وفي هذا دلالة على أن ذوق الشيء المحرّم يوجب الذم فكيف إذا تناول منه ما يقضي به وطره؟ وحين ذاقا الجزء اليسير منها (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) يعني ظهرت عوراتهما وبانت عورة كلّ منهما لصاحبه. وقد قيل إنهما لمّا أكلا منها تساقط لباسهما عنهما فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه فخجل واستحيا (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي أخذا يجعلان ورقة فوق ورقة على جسديهما ليستترا. وطفقا : بمعنى جعلا يفعلان خصف الأوراق الذي قيل إنه وصلها بعضها ببعض ورقعها معا ، ومن ذلك خصف النّعل ، ومنه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكنّه خاصف النعل في الحجرة ـ يعني علياّ عليه‌السلام ـ وذكر أنهما خصفا ورق التين حتى صار كالثوب (وَ) حينئذ (ناداهُما رَبُّهُما) خاطبهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما) : ألم أمنعكما (عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) يعني تلك الشجرة ، وقد استعمل تلكما لأنه يخاطب الاثنين والكاف حرف الخطاب كما لا يخفى (وَ) ألم (أَقُلْ لَكُما) أخبركما (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) مبين : أي ظاهر العداوة ، والجملة ظاهرة المعنى.

٢٣ ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) يعني أن آدم وحوّاء عليهما‌السلام بعد أن وبّخهما الله سبحانه وتعالى وعاتبهما على ارتكاب ما نهاهما عنه ، قالا : إننا بخسنا أنفسنا ثواب الطاعة ، وتركنا ما ندبتنا إليه فخسرنا ثواب الاستماع لأمرك. وقد قال في المجمع : لا خلاف أن آدم وحوّاء لم يستحقّا العقاب ، وإنما قالا ذلك لأنّ من حلّ في الدّين قدمه كثر على

يسير الزّلل ندمه. وقيل : ظلمنا أنفسنا بالنزول إلى الأرض وترك هذه الحياة السعيدة في الجنة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي تستر علينا لأن المغفرة هي الستر على الذنوب (وَتَرْحَمْنا) تتفضّل علينا بنعمتك لتعوض علينا ما فوّتناه علينا من رغد العيش (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من جملة الذين يخسرون فضلك وخيراتك.

٢٤ ـ (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ...) مر تفسير هذه الشريفة في سورة البقرة.

٢٥ ـ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ...) أي قال الله سبحانه : في الأرض تحيون : تعيشون وتقضون حياتكم الدنيا ، وفيها أيضا تموتون : تنتهي حياتكم ، ومنها تخرجون : أي تبعثون يوم القيامة للموقف والحساب.

* * *

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨))

٢٦ ـ (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ...) هذا خطاب لجميع المكلّفين من بني آدم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، أنه أنزل عليهم لباسا يغطّي عوراتهم ، قيل أنزله مع آدم وحوّاء حين أهبطهما كما هو ظاهر الكلام ، وقيل معناه أنه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء ما تصنع منه ألبسة تستر الناس ـ وذلك كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، وكل ما يعطي الله العباد فهو منزل عليهم أي مخلوق لهم لا أنه ينزل من فوق إلى تحت (وَرِيشاً) يعني أثاثا مما تحتاجون إليه ، وقيل خصبا وجمالا ومالا وكل ما هو خير ، والأقوى أنه الفرش والأثاث والرياش (وَلِباسُ التَّقْوى) أي العمل الصالح ، وإن كان قيل هو ثياب النّسك والتوضع ، وأنه خشية الله ، والإيمان ، ولا مانع من حمل لباس التقوى على الجميع (ذلِكَ خَيْرٌ) يعني لباس التقوى هو خير من جميع ما يلبسه الإنسان ، وقد أضيف اللباس إلى التقوى ، كما أضيف في قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ)(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) يعني جميع ما خلقه وأنزله من نعمه ومن حججه الدالة على توحيده (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكّرون ، لكي يتفكّروا ويؤمنوا ويطيعوا ويبتعدوا عن المعاصي بعد الذكرى والتفكّر.

٢٧ ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ...). أي لا يضلّنكم ويبتلينّكم بالانصراف عن الحق إلى الباطل بأن يوقعكم في الآثام التي تميل إليها النفوس بالفتنة والإغراء ، فاحذروا منه لئلا يجرّكم إلى ما يدعوكم إليه من المعاصي ويخرجكم من طاعة الله (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) بإغوائه ، أي كما كان سببا بإخراجهما ، فإن الله تعالى هو الذي أخرجهما بعد أن خدعهما الشيطان اللعين وراح (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) أي يلقي عنهما بوسوسته وإغراءاته ، لباس الجنّة الذي لا مثيل له (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) لتفتضح أمامهما عوراتهما (إِنَّهُ) أي الشيطان (يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي نسله بدليل قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي)؟ وقيل قبيله يعني جنوده وأتباعه من الجن والشياطين. وقد قال

ابن عباس : إنّ الله تعالى جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم ، وصدور بني آدم مساكن لهم. فهم يرون بني آدم ، وبنو آدم لا يرونهم لأن أجسامهم شفافة لطيفة لا تتلبّس بمادة (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي قضينا بذلك وحكمنا به لأنهم ينصر بعضهم بعضا على الباطل بدليل أن الذين لا يؤمنون لا يتمكّنون من إغواء خيار المؤمنين المتيقّظين ، بل يظفرون بالكفرة والجهلة.

٢٨ ـ (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) يعني إذا عملوا جرما كبيرا وذنبا خطيرا مستهجنا محرّما ، كالمشركين الذين كنّى بالآية عنهم حين كانوا يبدون سوآتهم في طوافهم بحيث يطوف النساء والرجال عراة قائلين نطوف كما ولدتنا أمّهاتنا لا في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب ـ وهم الحمّس : من قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية ـ وكانت المرأة تضع على قبلها النسعة وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

تعني فرجها لأن ذلك يستر سترا تاما.

فهؤلاء ـ الذين لا يؤمنون ـ إذا فعلوا فاحشة ـ كهذه وكغيرها ـ ثم نهوا عنها ـ وهذا حذف مقدّر في الآية ـ (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) وهي حجة واهية (وَ) لكنهم إذا سئلوا من أين أخذ آباؤكم هذه العادة قالوا : (اللهُ أَمَرَنا بِها) يقولون ذلك كذبا وافتراء عليه سبحانه ولذا ختم الآية الشريفة بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فقد أنكر صدور ذلك عنه سبحانه ، وثّنى بإنكار آخر جاءهم به من وجه آخر موبخا قائلا : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني أتكذبون عليه سبحانه وتعالى؟

* * *

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠))

٢٩ ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ...) القسط هو العدل أصلا والمقسط العدل في حال كونه إلى جهة الحق. ومنه قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.) أما إذا كان القاسط إلى جهة الباطل فعمله جور ، ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ..) فبعد أن بيّن سبحانه أنه لا يأمر بالفحشاء في الآية السابقة لأن الفحشاء تجمع سائر القبائح والسيئات التي يتنزه جلّ وعلا عن الأمر بها ، قال تبارك وتعالى : قل يا محمد : أمر ربّي بالقسط والعدل والاستقامة وجميع الطاعات (وَ) أن (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي أخلصوا وجوهكم لله في الطاعة عند تأدية كل فريضة صلاة. وقيل معناه : توجّهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة ، وقيل : أقيموا وجوهكم إلى الجهة التي أمركم الله بالتوجه إليها في صلاتكم وهي الكعبة وأن المراد بالمسجد أوقات السجود وهي أوقات الصلاة ، وقيل غيره وغيره والأول الذي ذكرناه أفضلها (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أمر سبحانه بالدعاء والابتهال إليه على وجه الإخلاص بعد إخلاصكم له الدّين. والإخلاص بمعناه اللغوي هو إزالة كل شائبة من الجنس وإبقاء المحض الخالص. وإخلاص الدّين جعل العبادة له خالصة غير مشوبة (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) أي كما خلقكم أولا ، فسيعيدكم بعد الموت ويبعثكم فيجازي كل واحد بعمله.

أما وجه اتصال هذا الختام بما قبله من الآية الشريفة فمعناه : وادعوه مخلصين فإنكم ميّتون فمبعوثون ـ وإن بعد ذلك عن أن تدركه عقولكم ـ فاعتبروا كيف ابتدأكم في الخلّق الأول لتروا أنه قادر على بعثكم في الخلق الثاني. وفي المجمع روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال :

تحشرون يوم القيامة عراة حفاة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدا علينا إنّا كنّا فاعلين.

٣٠ ـ (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ...) أي جماعة هداها الله سبحانه وتعالى ، يعني حكم لهم بالاهتداء لقبولهم الهدى وإرادته ، أو هداهم إلى طريق الثواب لأنهم كانوا من أهل الهدى وأتباع الحق ، وجماعة حقّ : أي وجب عليهم الضلال لأنهم لم يقبلوا الهدى ولا أرادوه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فهم البادئون بالمعصية المبادرون إلى سلوك طريق الضلال ، فكان حكمه عليهم بالضلالة طباق عملهم ولم يبدأهم بعقوبة إلّا بعد استحقاقها على عصيانهم للخالق وإطاعتهم لأوليائهم من الشياطين (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي يظنّون مع ذلك كله أنهم على هدى وعلى حق.

* * *

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

٣١ ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ...). بعد ما ذكر الله سبحانه نعمه على الناس أمرهم بالتستّر والتزيّن وأخذ أجمل ما عند

أحدهم عند كل مسجد ، يعني خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها للصلاة في الجمعات والأعياد ـ كما عن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ وقيل : عند كل صلاة يستحب التطيّب ولبس أطهر الثياب وأحسنها. وفي العياشي أن الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقيل له : يا ابن رسول الله ، لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، فأتجمّل لربّي ، وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد فأحب أن ألبس أجمل ثيابي.

وقيل أيضا يقصد به : خذوا ما تسترون به عوراتكم عند الطواف لأنهم كانوا يطوفون عراة كما ذكرنا : الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وقيل أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) مما رزقكم ، وفي هذا الأمر إباحة للأكل والشّرب (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تبذّروا وتتجاوزوا الحلال إلى الحرام. فلا ينبغي الخروج عن المستوى المعقول في المأكل والمشرب ولا زيادة المقدار اللازم. ففي المجمع أن طبيبا حاذقا نصرانيا كان خاصّا بالرشيد قال يوما لعلي بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء ، والعلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له عليّ : قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابه ، وهو قوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) ، وجمع نبيّنا (ص) الطب في قوله : المعدة بيت الداء ، والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عوّدته. فقال الطبيب : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا.

وقد عدّ المفسرون أن المحرّم الذي لا يحلّ أكله وإن قلّ يسمّى إسرافا ، وأن مجاوزة الحد تصيب بالضرر ، وما استقبحه العقل إسراف (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) يعني أنه يبغضهم ويمقتهم لأنه سبحانه يكره التبذير والمبذّرين.

٣٢ ـ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ...) أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يحرمون عراة ، أو يحرّمون الزينة أو الأكل والشرب أو

يمتنعون عن أكل السمن والألبان في الإحرام ، قل لهم : (مَنْ حَرَّمَ) منع (زِينَةَ اللهِ) من الثياب التي يتزيّن بها الناس (الَّتِي أَخْرَجَ) بها الله سبحانه (لِعِبادِهِ) وأباحها لهم هي (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) أي ما لذّ وحسن طعمه من الرزق ، وقيل هي المحلّلات في الدنيا؟ ف (قُلْ) للناس : (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أن الزينة والطيبات مباحة محلّلة للذين آمنوا في حياتهم الدنيا وفي حدود ما أنزل الله ، ومجازة لهم يشاركون الكفار فيها اليوم ، وهي في الآخرة خالصة لا يحاسبون عليها ، لهم دون الكفار. وقال ابن عباس : يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا ، فأكلوا من طيبات طعامهم ، ولبسوا من جياد ثيابهم ، ونكحوا من صالح نسائهم ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء (كَذلِكَ) أي بحسب ما ذكرنا في هذا الموضوع (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نشرح ونفنّد الآيات لندلّ على ما فيه النفع والصلاح (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعرفون الحق في الأمور. وفي هذه الآية إباحة لأفخر الثياب وأطيب الأطعمة وأحسن الزينة مع الاستطاعة. ففي المجمع والعياشي أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف ـ دخل الصيف ـ تصدّق به ولا يرى في ذلك بأسا ويقول : قل من حرّم زينة الله؟ وقال أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام : دخلت على أبي عبد الله (ع) وعليه جبة خزّ وطيلسان خز. فنظر إليّ فقلت : جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه؟ فقال : وما بأس بالخز؟ قلت : فسداء إبريسم! قال : لا بأس ، فقد أصيب الحسين عليه‌السلام وعليه جبة خز.

فلا الزينة ولا الأكل والشرب حرام ، حين يكون ذلك من حلال وبلا إسراف ، وفي الآية دلالة واضحة على أن الأشياء على الإباحة حتى يأتي العكس.

٣٣ ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ...) أي قل يا محمد للناس : إنما حرّم : منع ربّي الفواحش. والتحريم هو المنع بعد إقامة الدليل على

وجوب التجنّب. والفواحش هي أقبح القبائح وتتناول الكبائر فقد حرّم سبحانه هذه كلّها (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يعني ما بان علنا وما خفي (وَ) كذلك حرّم (الْإِثْمَ) الذي قيل إنه الخمر هنا لا مجرّد الذنب ، قال الأخفش :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

فقد عدّد سبحانه المحرّمات (وَ) حرّم فيها (الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي الظّلم والفساد بدون موجب له. وقال في المجمع : قد يخرج البغي من كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص (وَ) حرّم (أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) تعبدوا معه غيره أو تجعلوه شريكا له في فعله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يعني ما لم يقم عليه حجة وبرهانا ، وكل شرك لا حجة عليه ولا برهان (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أن تكذبوا عليه والعياذ بالله فهذا من أعظم المحرّمات ، ومن كذب على الله فليتبوّأ مقعده من النار.

٣٤ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ...) بعد ما مرّ في الآيات السابقة بيّن الله جلّ وعلا ما فيه تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ولكل أمة : أي جماعة وأهل عصر ، أجل : موعد ووقت لاستئصالهم وإهلاكهم في دار الدنيا بعد إقامة الحجة عليهم عن طريق الرّسل والمنذرين. وفي المجمع أن الأجل هنا أجل العمر الذي هو مدة الحياة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي حان وقت نهايتهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ) لا يتأخرون أو لا ينفعهم طلب تأخير الأجل (ساعَةً) عن ذلك الوقت المحتوم (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتقدمون ساعة على ذلك الوقت ، ومجيء الأجل : قربه وحلوله.

* * *

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ

اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧))

٣٥ ـ (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) في هذه الآية الشريفة خطاب لسائر المكلّفين من البشر ، سواء منهم من جاء الرسول منهم أو من غيرهم قال عزّ وعلا فيه : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي إن يأتكم (رُسُلٌ) أنبياء (مِنْكُمْ) أي من جنسكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يخبرونكم بآياتي ويحكونها لكم ويعرضونها عليكم (فَمَنِ اتَّقى) تجنّب إنكار الرّسل (وَأَصْلَحَ) عمله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة.

وإمّا : أصلها : إن الجزاء ، دخلت عليها : ما. وبدخولها دخلت النون الثقيلة على يأتينّكم. ولا يجوز أن يقال : إن يأتينّكم ، بل يقال : إن يأتكم إلخ ...

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ...) أي الذين لم يصدقوا حججنا ودلائلنا وبراهيننا (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي رأوا أنفسهم أكبر من أن يصدّقوها ويقبلوا بها ف (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الذين يكونون ملازمين لها كأنهم أصحابها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون دائما وأبدا.

٣٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله وافترى عليه. وهكذا ترى أنه إخبار وإن جاء بصورة

الاستفهام فكان أبلغ. فليس أظلم من المفتري على الله (أَوْ) ممّن (كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي أنكر آياته الدالة على توحيده وصدق رسله (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أولئك يعني بهم المكذّبين المفترين يصل إليهم نصيبهم من العذاب. وقد كنّى عن العذاب بالكتاب لأن الكتاب : أي ما هو مكتوب ومقدّر ، ورد فيه ونزل في القرآن الكريم كقوله : (لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ..) وقال بعض المفسرين : إن هؤلاء ينالهم نصيبهم مما كتبنا للناس من العمر والرزق والخير والشر وغير ذلك فلا ينقطع عنهم الرزق لكفرهم بل ينالهم جميع ما كتب لهم (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) يعني ملك الموت وأعوانه جاءوهم (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يأخذونهم من الدنيا يقبض أرواحهم. وقيل : حتى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم إلى النار (قالُوا) أي الملائكة : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سمّيتموه رباّ كالأوثان والأصنام. وفي هذا توبيخ واضح لهم واستهزاء بما عبدوا من دون الله إذ كأنّهم قالوا لهم : هلّا جاء أربابكم فدفعوا عنكم العذاب؟ (قالُوا) أي الكفار : (ضَلُّوا عَنَّا) يعني ذهبوا ولم يهتدوا إلينا وقد بطلت عبادتنا لهم لأنهم لا يقدرون على دفع العذاب عنّا (وَ) بهذا الاعتراف (شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) أي أقرّوا على أنفسهم بالكفر بهذه الشهادة.

* * *

(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ

عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١))

٣٨ ـ (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ ...) لسان حال مصير الكفار وحكاية حال قول الله تعالى لهم يوم القيامة أن يؤمروا بالدخول في صفّ الأمم السالفة التي قد خلت من قبلهم : أي مضت وطواها الهلاك وخلا منها مكانها ، فكأنه قيل لهم : ادخلوا مع هؤلاء لأنهم مثلكم وقد هلكوا (قَبْلِكُمْ) وهم (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) محشورون (فِي النَّارِ) أمة بعد أمة لأنهم أصروا على الكفر.

ولفظة : في ، هنا بمعنى مع ، أي ادخلوا مع الكافرين أمثالكم (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) منهم النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي الأمة التي سبقتها ، وقد كنّى عنها بأختها لأنها أختها التي سبقتها إلى مذهب الكفر وسبقتها إلى دخول النار ، لا أختها بالنسب. فكلما دخلت النار أمة من الكافرين ، تلعن من سبقها إليها لأنها تعتقد أن السابقين يضلّون اللاحقين. وقيل في المجمع إن الأتباع يلعنون القادة والرؤساء إذا صاروا في العذاب بعد ما كانوا أصحابا في الدنيا ، فيقولون لهم : أنتم أوردتمونا هذا المورد فلعنكم الله (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي تداركوا يعني أدرك بعضهم بعضا ، يعني : تلاحقوا وصاروا (فِيها) أي النار (جَمِيعاً) كلهم. فلما اجتمعوا فيها (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) أي قالت الأخيرة دخولا إلى النار ، وهم الأتباع ، قالت لأولاهم دخولا ، وهم القادة والسادة : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) أي ضيّعونا عن طريق الحق وشرعوا أن نعبد غيرك يا ربّنا ودعونا

إلى الضلال وحملونا عليه ومنعونا من اتّباع الحق. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : يعني أئمة الجور (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) أي عذّبهم عذابا مضاعفا والضّعف هو المثل الزائد على مثله ، فضعف الواحد اثنان ، وضعف الاثنين أربعة وهكذا. وقيل أراد هنا بالضّعفين من العذاب : واحدا لكفرهم ، وواحدا على إغواء غيرهم (قالَ) الله تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) أي للتابع والمتبوع أو القائد والمقود عذاب مضاعف (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أيها الطرفان من الضالين والمضلّين ما لكل فريق منكم من العذاب المرصود لكم في يوم القيامة جزاء ضلالكم وإضلالكم.

٣٩ ـ (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ ...) يعني قال السادة والرؤساء لمن أطاعوهم ، أو المتبوعون للتابعين : (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي لستم أفضل منّا ، ولا تفاوت بيننا في درجات الكفر ليجوز لكم أن تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم ، فنحن سواء. وقيل إن الأمة السابقة تقول للأمة اللاحقة : ما كنتم أفضل منّا رأيا ولا عقلا ، فقد بلغكم ما نزل بنا من عذاب وأننا كنّا أعداء الحق فلم اتّبعتمونا وسلكتم طريقنا؟ ولم تفعلوا معنا فضلا باتّباعنا (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر بسوء اختياركم الذي قلّدتم به سوء اختيارنا ، فأنتم فعلتم الآثام وأمعنتم في الحرام.

٤٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ...) توعّد سبحانه في هذه الآية مكرّرا بأن المكذّبين بدينه وبحججه وبراهينه ، الذين لا يقبلونها ويتكبّرون عن الاقتناع بها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) يعني لا تفتح لقبول أرواحهم عند الموت ، بل تصدّ وتردّ كما ردّت أعمالهم القبيحة من قبل ، فإن أبواب السماء تفتح للمؤمنين دون غيرهم. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين ، وهو واد بحضرموت يقال له برهوت .. وَهؤلاء (لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى

يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) يعني لا يصيرون إلى الجنة إلا حين يدخل البعير في ثقب الإبرة ، يعني أنهم لا يدخلونها أبدا لأن ذلك مستحيل كاستحالة دخول الجمل الضخم في ثقب الإبرة الصغير. وهذا مثل يشبه ما تقوله العرب في التبعيد للشيء واستحالته كقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللّبن الحليب

والغراب لا يشيب والقار الأسود لا يصير أبيض كالحليب ... (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) أي وبهذا الشكل نجزي المجرمين الذين يكذّبون بآياتنا ... وتصويرا لبعض ما يكون عليه عذابهم قال سبحانه وتعالى :

٤١ ـ (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ...) أي أنهم يكون لهم في جهنم مهاد : يعني فراش خاص بهم يضطجعون عليه كما ينام الطفل في مهده الخاص به (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) أي أغطية من فوقهم تغشّيهم كاللّحف التي يتغطّون بها ، وهذا يعني أن النار تحيط بهم من الأعلى والأسفل ، وذلك مثل قوله تعالى عن الكافرين : لهم من فوقهم ظلل ، من النار (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بأن أشركوا واتّخذوا من دون الله إلها كما قال ابن عباس.

* * *

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

٤٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) قد وعد الله تعالى الكفار بالخلود في النّار فيما سبق ، وفي هذه الآية الكريمة قال سبحانه : والمؤمنون الذين عملوا أعمالا مرضية مقبولة لأنّهم صدّقوا بما جاءت به رسلنا ولم يستكبروا عن آياتنا ، وقاموا بواجباتهم (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) يعني لا نلزم نفسا إلّا قدر طاقتها وما تتحمله ، بل الوسع دون الطاقة ، وبعبارة ثانية : لا نكلّف أحدا إلّا بما يقدر عليه من الطاعات. وهذه الجملة في موضع رفع خبر للذين آمنوا ، وحذف العائد للمبتدأ ، فكأنه قيل : منهم لا من غيرهم. وقيل أيضا إنّها اعتراض ما بين المبتدأ والخبر ، وأن التقدير : والذين آمنوا ... مبتدأ ، أولئك أصحاب الجنّة ... خبر. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مقيمون دائما بلا انقضاء مدة.

٤٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...) يعني : أخرجنا ما في قلوبهم من حقد وحسد ، فإنّ الغل لغة هو الحقد الذي يدخل ـ يتغلغل إلى صميم القلب للطفه وشدّته ـ ويكون نزع ذلك الغل من صدور المؤمنين يوم القيامة حتى لا يحقد أحد على أحد ولا يبقى في نفس أحد كره لغيره ، فلا تحاسد بينهم حتى ولو رأى الواحد من هو أعلى منه درجة ، فيقيمون في الجنّة بلا غلّ في الصدور (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تجري مياه أنهار الجنة تحت منازلهم والجملة حاليّة. (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي دلّنا على الإيمان وأرشدنا إلى العمل الصالح الذي استوجبنا به الثواب العظيم الذي أوصلنا إلى النعيم (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) لهذا النعيم (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) وهذا الاعتراف من المؤمنين في الجنة يقع منهم بمثابة الحمد والشكر لله تعالى لأنه اعتراف بنعمته أولا وأخيرا (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) اعتراف آخر يصدر عنهم بصدق الرسالات السماوية وبصدق المرسلين (وَنُودُوا) أي ناداهم مناد من جهته سبحانه تعالى : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) أي هذه الجنة ، وإنّما أشار إليها باعتبار أنهم كانوا موعودين بها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون

قد قيل لهم حين عاينوها ـ وقبل دخولها ـ هذه هي الجنة (أُورِثْتُمُوها) أعطيتموها كالإرث وصارت لكم. وفي المجمع : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ومنزل في النّار. فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم بعد أن كنتم موحّدين غير مشركين ، وعاملين غير مقصّرين.

* * *

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧))

٤٤ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ...) هذه حكاية حال ما يكون عليه الأمر بعد الحساب ، فقد وقع الفعل الماضي مكان المضارع والمستقبل ، يعني : سينادي أهل الجنّة أهل النّار ، وكان وقوعه دليلا على أنّ هذا المعنى كائن لا محالة وأن هذا الأمر واقع. والذي يقوله أهل الجنة : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا) من الثواب الجزيل والأجر العظيم ، وكما جاء عن الرّسل في الكتب (حَقًّا) أي صدقا (فَهَلْ

وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العقاب على الكفر والعناد (حَقًّا)؟ وقد أضاف أهل الجنّة الوعد بالجنة إلى نفوسهم ـ وعدنا ـ لأنّ الكفار لم يعدهم الله بالجنّة إلّا بشرط الإيمان والعمل الصالح ، فلم يكونوا مؤمنين ولا كانوا موعودين. ولا يخفى ما في هذا السؤال من الشماتة والتوبيخ الّذين يظهران سرور أهل الجنّة وحسرة أهل النّار حين (قالُوا نَعَمْ) يعني وجدنا جهنّم التي وعدنا العقاب بها (حَقًّا) وصدقا (فَأَذَّنَ) نادى (مُؤَذِّنٌ) مناد (بَيْنَهُمْ) بحيث يسمع الفريقان : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) يعني غضب الله وسخطه وعقابه على الكافرين الذين اعتبرهم ظالمين لأنّه وصفهم بقوله التالي :

٤٥ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي الّذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم باعتبار أنهم أعرضوا عن طريق الحق والإيمان بالله المؤدي إلى الجنة ، وصرفوا غيرهم واعترضوا سبيله (وَ) هم (يَبْغُونَها عِوَجاً) أي يريدون السبيل معوجة غير مستقيمة فيعظّمون غير الله سبحانه ويعبدون غيره وعوجا يجوز أن يكون منصوبا بأنه مفعول به ليبغون ، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر بمعنى يطلبون لها هذا النوع من الطلب ، كما يقال : رجع القهقري. والعوج بالكسر يكون في الّدين وفي الخلقة يكون بالفتح ـ عوج ـ فيقال : في ساقه عوج ، وفي دينه عوج. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة التي هي البعث والحساب والثواب والجزاء (كافِرُونَ) منكرون جاحدون. وقيل إن المؤذّن يكون مالك خازن النّار. و

عن الإمام الرضا عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ أنه قال : المؤذّن أمير المؤمنين عليّ (ع)

وذكره علي بن إبراهيم في تفسيره ، وروى الحسكاني عن ابن الحنفية عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : أنا ذلك المؤذّن. وعن ابن عبّاس أن لعليّ (ع) في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس ، قوله : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) ، فهو المؤذّن بينهم يقول : ألا لعنة الله على الذين كذّبوا بولايتي واستخفّوا بحقي.

٤٦ ـ (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ...) الحجاب هو

الحاجز الذي يمنع من الوصول والإدراك والاتصال ، وهذا يعني أن الفريقين : أهل الجنّة ، وأهل النّار ، يكون بينهما هذا الحجاب الحاجز الذي ذكره سبحانه وأنه يستر هؤلاء عن هؤلاء وهو الأعراف : أي السّور الذي بين الجنّة والنّار وهو المعنيّ بقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ ، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ). وقيل إنّ الأعراف هي شرفات ذلك السور العظيم (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) اختلف في أولئك الرجال الذين يقفون على الأعراف : فقيل هم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هناك لا هم مع أهل الجنّة ولا هم مع أهل النّار. وعن الحسن أنهم قوم جعلهم الله على تعريف أهل الجنة والنّار يميّزون بعضهم من بعض. وقيل هم حمزة والعباس وعلي وجعفر يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه ويعرفون مبغضيهم بسواد الوجوه. وقيل هم ملائكة من خزنة الجنّة وخزنة النّار ، وقيل غير ذلك. أما أبو جعفر الباقر عليه‌السلام فقال ـ كما في المجمع وغيره ـ : هم آل محمد عليهم‌السلام لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النّار إلّا من أنكرهم وأنكروه. وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : الأعراف كثبان بين الجنّة والنّار فيقف عليها كلّ نبيّ وكل خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنّة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : أنظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنّة ، فيسلّم المذنبون عليهم ، وذلك قوله : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فهؤلاء هم الذين (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي يعرفونهم بعلاماتهم المميّزة الخاصة بهم ، يعرفون سائر الخلق بذلك. ثم أخبر سبحانه أنهم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) أي المذنبون لم يدخلوا الجنّة ولكنهم يطمعون أن يكونوا من الدّاخلين إليها بشفاعة النبيّ والإمام.

٤٧ ـ (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ...) أي إذا تحوّلت أبصار الذين على الأعراف نحو أهل النّار ووقعت أنظارهم عليهم

وعلى ما هم فيه من العذاب الشديد (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يقولون ذلك حين يرون العذاب الأليم.

ثم ينادي أصحاب الأعراف أهل النّار موبّخين : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون؟ أهؤلاء ـ يعني المستضعفين ـ الذين كنتم تحتقرونهم في الدنيا وتتكبّرون عليهم؟ ثم يقولون للضعفاء بأمر الله عزّ وعلا : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). وفي المجمع أن عليا عليه‌السلام هو قسيم النّار والجنّة ، وأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج ، تسوق قوما إلى الجنّة ، وآخرين إلى النّار. وفيه أيضا أنه عليه‌السلام قال : نحن تقف يوم القيامة بين الجنّة والنّار. فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة ، ومن أبغضناه عرفناه بسيماه فأدخلناه النّار.

* * *

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩))

٤٨ ـ (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً ...) يعني بهذا القول الشريف أنّه سينادي يوم القيامة (أَصْحابُ الْأَعْرافِ) هم المنادون ممّن ذكرناهم (رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) جماعة يعرفونهم بعلاماتهم الخاصة بهم وبصفاتهم المميّزة لديهم ، وهم يدعونهم بأسمائهم وكناهم كما عن ابن عبّاس ، وهم رؤساء المشركين يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وتشوية الخلق (قالُوا) لهم : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) المال وحطام الدنيا

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) يعني ما أغنى عنكم استكباركم عن الإيمان وعبادة الله سبحانه وتعالى وعن الإذعان لدعوة الحق ، وأين تكبّركم وتجبّركم ، وأين من التفّ حولكم من الأعوان على الإثم؟ أنظروا : ٤٩ ـ (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ ...) يعني أهؤلاء المؤمنون ، هم (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) أي أنه لا يصيبهم بخير أو لطف ولا يرون الجنّة؟ لقد كذبتم. ويا أيّها المؤمنون : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) جزاء إيمانكم (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) بل بتمام السرور والأمن وأتمّ الكرامة من الله سبحانه وتعالى .. أما هذا القول فهو قول أصحاب الأعراف بحسب ما ذكرناه ولأنه المرويّ عن الإمام الصّادقعليه‌السلام.

* * *

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

٥٠ ـ (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) يعني : سينادي أصحاب النّار أصحاب الجنّة يوم القيامة ، بذلّ وصغار وافتقار قائلين ، راجين : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي صبّوه نحونا وأريقوه لنا لندفع به عطشنا وحرّ النّار (أَوْ) أفيضوا كذلك علينا (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي مما أعطاكم من الطعام ومن طيّبات الجنّة (قالُوا) يعني قال أهل الجنّة مجيبين أهل النّار : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) أي منعهما منعا باتا ، وهما طعام الجنّة وشرابها ، حرّمهما (عَلَى الْكافِرِينَ) وحرمهم منهما لكفرهم وعصيانهم ، وهؤلاء هم :

٥١ ـ (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً ...) يعني جعلوا دينهم الذي

أمرهم الله به ، أداة للتندّر واللعب واللهو ، ولم يمارسوا أعماله ولا اعتنقوا عقائده ، وقد حرّموا ما شاؤوا ، وأحلّوا ما شاؤوا لأنهم زعموا الدعوة إلى الحق هزلا وباطلا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني غشّهم مظهرها ولذّاتها واغترّوا بطول البقاء فيها ، وانصرفوا عما دعاهم الله إليه من عبادته وطلب رضوانه (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي ندعهم في جهنم وعذابها ونتركهم يقاسون أهوالها كما تركوا العمل للقاء هذا اليوم الذي لا ينفع فيه إلّا العمل الصالح. فنحن بذلك نعاملهم معاملة المنسيّ في النّار فلا نستجيب لهم دعاء ولا نرحم لهم دمعة ولا نرأف بصراخهم واستغاثتهم لأنهم نسوا معرفتنا وتناسوا أوامرنا ونواهينا. فلهذا نهملهم لهذا السبب وَل (ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ولجحودهم وكفرهم بآياتنا. وإمّا ، في الموضوعين بمعنى المصدر كما لا يخفى على الذكي ، والتقدير : كنسيانهم لقاء يومهم هذا وكونهم جاحدين لآياتنا. واختلفوا في هذه الآية فقيل إنّ الجميع كلام الله عزوجل ، وأنها ليست حكاية عن أهل الجنّة إذ تمّ كلام أهل الجنّة عند قوله : (حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ). وقيل : إنه من كلام أهل الجنّة إلى قوله : الحياة الدنيا ، ثم استأنف سبحانه وتعالى بقوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) ، والله أعلم.

* * *

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣))

٥٢ ـ (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ...) الكتاب لغة هو الصحائف المسطورة التي تدلّ على معاني مفهومة. والكتاب هنا هو القرآن الكريم الّذي جئناهم به وحيا على رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث فصّلناه : فسّرناه وبيّنا ما جاء فيه على علم : أي ونحن عالمون به وبما فيه جملة وتفصيلا ، جئنا به (هُدىً وَرَحْمَةً) أي دلالة ترشد إلى الحق وتنجي من الضلال (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدّقون به وينتفعون بتصديقهم. وهدى ورحمة : يمكن أن يكون محلّهما من الإعراب حالا ، ويمكن أن يكون مفعولا له. وقيل إنّهما مصدران وضعا موضع الحال وهو الأصوب.

٥٣ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ...) هل ينظرون : معناها هنا : هل ينتظرون إلّا تأويله : أي عاقبة الجزاء على مخالفته ، وما تؤول إليه أمورهم من جراء مخالفته ، في حال كونهم جاحدين لذلك كافرين به غير متوقعين له. والذين ينتظرون بهم الدائرة هم المؤمنون الذين يعتقدون بكل ما نصّ عليه من عقائد الرّبوبيّة والعدل والنبوّة والإمامة والبعث ف (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي ما وعدوا به من البعث والنشور والحساب والثواب والعقاب ، وهو آخر ما ينتظر (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وهم الذين تركوا العمل به لأنهم لم يعتقدوا صدقه ، يقولون بعد فوات الأوان : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) فيعترفون بالرسالات وبالرّسل ويكون ما نزل من السماء حقا وصدقا (فَهَلْ) بعد هذا الاعتراف المتأخر الذي جاء في وقت لا تقبل فيه التوبة ولا الإنابة فهل (لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) أي هل من وسائل خير ووسائط رحمة واسترحام فنقدمها بين يدي اعترافنا من جديد فتعمل على ازالة العقاب عنّا؟ فيشفعوا : نصب لأنه جواب التمني بالفاء. (أَوْ نُرَدُّ) يعني أم هل نردّ إلى الدنيا ، وهي أمنية لا تتحقق (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي أنهم يتركون الشّرك والكفر والمعاصي ، ويعملون بما يرضي الله (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي أهلكوا أنفسهم بوقوعهم في العذاب الذي لا مناص عنه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا

يَفْتَرُونَ) أي لم يجدوا الأصنام التي كانوا يقولون : إنها آلهة تشفع لنا.

أو : هل نردّ فنعمل : أي هل يكون لنا ردّ فأن نعمل ، أي فعمل منّا غير ما كنا عملناه.

* * *

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

٥٤ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) ذكر سبحانه أنّه خالق السماوات والأرض ليبيّن قدرته وعظمة مخلوقاته للكفّار الذين يعبدون غيره خلقهن بما فيهن (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وقد مر تفسيره في سورة البقرة. وبيّن شيئا من قدرته وكيف أنه (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) من أغشى الذي هو فعل متعدّ بالهمز إلى مفعولين لأنه من الفعل غشي المتعدي إلى مفعول واحد بطبيعته.

فالمعنى : أنّ ربكم أي مالككم ومحدثكم هو الله تعالى الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سابق في ستة أيام من أيام الدنيا ، وهو القادر على خلق مثلهن في لحظة واحدة إذا شاء ، بل فعل ذلك بترتيب ونظام أنشأ عنه الأيام ثم استوى على العرش ، أي استقرّ أمره على الملك ، وهو يغشي ، أي لبس الليل النهار ، ويلبس النهار الليل ، فيأتي

بهذا بعد هذا وتكون ظلمة الليل بمثابة الغشاوة التي تحجب النهار ، ولم يقل : يغشي النهار الليل لدلالة الكلام عليه ، فهما يتعاقبان ويغشي أحدهما الآخر تباعا ، وهذا معنى تكوير كل منهما على الآخر ـ كما مرّ في غير هذا المكان ـ (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يتبعه ويتلوه سريعا فيدركه. و : حثيثا ، حال من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعا كقوله سبحانه : فأتت به قومها تحمله ، فإن : تحمله حال كذلك (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي أن هذه المخلوقات العظيمة المدهشة مذلّلة لقدرته ، تجري في مجاريها بتدبيره وصنعه وقد خلقها جميعها لمصالح العباد ومنافعها. ومسخّرات منصوبة على الحال. وشذّ ابن عامر فقرأ :

والشمس والقمر والنجوم مسخّرات كلها بالرفع بحجة قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وممّا في السماء الشمس والقمر. فإذا أخبر بتسخيرهما حسن الإخبار عنهما به ، بينما حجة النصب أنها محمولة على خلق ، بعطفها كلها على جملة السماوات والأرض (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي أنه الخالق المبدع الذي لا يستطيع الخلق غيره. وهو الآمر في خلقه وليس لأحد أن يأمر في خلقه غيره (تَبارَكَ اللهُ) يعني تعالى ودام وثبت وعزّ عن صفات المخلوقين الذين يحدثهم من العدم فهو دائم البركة ، والبركة تحصل بذكره جلّ وعلا لأنّه (رَبُّ الْعالَمِينَ) خالقهم ومالكهم والمتصرّف بأمورهم.

٥٥ ـ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ...) أي ادعوا خالقكم تخشّعا له وابتهالا وسرا ، فإن دعوة السّر أسرع استجابة. فعن الحسن أن بين دعوة السّر ودعوة العلانية سبعين ضعفا. ولذا كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت مميّز اللهم إلّا الدويّ كدويّ النّحل. وتضرعا وخفية مصدران وضعا موضع الحال ، يعني : ادعوا ربكم متضرّعين ومخفين. وروي أن النبيّ (ص) كان يسير في غزاة فأشرفوا على واد فجعل الناس يهلّلون ويكبّرون ويرفعون أصواتهم فقال (ص) : يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم. أما إنكم لا تدعون الأصمّ ولا غائبا.

إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم. ـ وعن علي بن إبراهيم في تفسيره : قد صرح بالتضرّع والخفية لأن التضرع رفع الصوت ، والخفية السّر ، وهذا يعني : ادعوه سرا وعلانية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا يحبهم في الدعاء أن يكونوا معتدين ، يعني : متجاوزين حدودهم ، كمن يصيح ويرفع صوته في دعائه ، وكمن يطلب منزلة الأنبياء والأولياء في دعائه ، فهو سبحانه يكره من تعدى الحدّ المقرّر في الدعاء وفي سائر الطاعات والعبادات.

٥٦ ـ (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ...) تحمل هذه الآية الشريفة النهي عن العمل بالمعاصي في الأرض ، بعد أن أصلحها الله تبارك وتعالى بالنبيّين والمرسلين وأقام نظامها السويّ بعباده الصالحين. والفساد في الأرض يكون أكثر ما يكون إذا تناول إخافة المؤمنين وقتلهم. أو بظلمهم وظلم غيرهم. وفي المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في هذه الآية قال : إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيّه (ص) فيا أيها الناس إياكم وإفساد أمور عباد الله ، بل الجأوا إليه سبحانه ليهديكم سواء سبيله (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من عقابه (وَطَمَعاً) في ثوابه ، وقيل : خوفا من عدله وطمعا في فضله. واللفظتان مصدران وضعا موضع الحال كما قلنا بالنسبة لتضرعا وخفية ، يعني ادعوه خائفين من عذابه طامعين بثوابه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أن عطفه ولطفه وثوابه قريب من مطيعي أوامره الذين أحسنوا إلى أنفسهم وإلى غيرهم فخلصت أفعالهم من الإساءة فكانت حسنة. وقد قال الزّجاج في تذكير لفظة : قريب ، هنا : إن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد ، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي ، وقال الأخفش : جائز أن يكون أراد بالرحمة هنا : النظر ، فلذلك ذكّره.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ

لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

٥٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ...) بشرا : جمع بشير ، وهو ما يخبر بالخير ، ومثله قوله سبحانه : (يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) ، أي تنبئ بالمطر وتأتي بين يدي رحمته : أي قبيل نزول الغيث. وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يقول إذا هبّت ريح : اللهم اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا. ذلك أن الرياح دائما تبشّر بالخير ، والريح تنذر بالسوء والشر كقوله تعالى : (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) ، وقوله سبحانه : (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ، وغير ذلك (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً) أي حملت الريح السحاب : يعني الغيم الجاري (ثِقالاً) بالماء (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي دفعناه لبلد نضبت ينابيعه ، وقلّت مياهه ، وجفّت أرضه وعطشت زروعه (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي أنزلناه بالبلد ، أو أنزلناه بالسحاب الذي يحمله (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بالماء المنزّل أو بالبلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من الثمرات عامة وقد جاء بمن هنا لبيان الجنس ـ فبالماء يخرج النبات وتتغذى الأشجار وتظهر الثمار وتدب الحياة في البلد الذي نزل فيه الماء (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي مثل إخراج النبات والثمرات ، نخرج الموتى ونحيي الأجساد بعد الفناء تماما كما نبعث الحياة من الأرض الميتة بالماء فنظهر فيها الكلاء والنماء والحيوية (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يعني كي تتذكّروا فتكون لكم ذكرى ، ولكي تعتبروا بعد تفكيركم بهذه الآيات الدالة على قدرة الله جلّ وعلا ، فإن من أنشأ الحياة والنبات في بلد ميّت بمجرد أن بعث الرياح والأمطار ، قادر على إحياء الأموات وخلق الحياة في الأجسام بعد الفناء. فسبحان من أجرى العادة في طبائع الأشياء أن يخرج النبات عند نزول

المطر ، ليدلّنا على أنه لا يعجزه البعث والنشور وأنه على كل شيء قدير.

٥٨ ـ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...) أي أن الأرض الصالحة التي تتوافر فيها العناصر الضرورية لنمو الزرع والنبات ، يخرج نباته أي كافة زروعه بسهولة ونشاط ويكون ناميا زاكيا بإذن ربه : أي خالقه ومالكه سبحانه وتعالى (وَالَّذِي خَبُثَ) من الأرض وكان ترابها خبيثا كالسّباخ والأرض الرملية وغيرها (لا يَخْرُجُ) زرعها ولا ينبت نباتها (إِلَّا نَكِداً) أي عسرا صعبا يظهر عليه الضعف والجفاف وليس فيه نضرة ولا ينتفع به (كَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الخصب والجدب ، وإجراء العادات وطبائع الأشياء وخصوصيات الكائنات (نُصَرِّفُ الْآياتِ) نجري هذه الدلالات ونأتي بها ونرسلها وفق نظام حكيم (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي للناس الذين يعرفونها ويشكرون الله على نعمه الكثيرة.

فما أعظم هذا المثل على ما أجراه الله من العادات وطبائع الأشياء ، إذ لو أراد وشاء لأخرج من الأرض النكدة أكثر مما يخرج من الأرض الطيّبة ولأمكنه ذلك ، ولكنه لفت نظر العارفين إلى ضرورة طلب الخير من مظانّه ، وعن ابن عباس والحسن ومجاهد : أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، فأخبر بأن الأرض كلها جنس واحد ، إلا أن منها طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ، ومنها سبحة لا تنبت شيئا ينتفع به ، وكذلك القلوب فكلها من لحم ودم ولكن منها الليّن للوعظ ومنها الجاف القاسي.

* * *

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١)

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤))

٥٩ ـ (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) من جملة ما سلّى به سبحانه قلب نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قصة نوح عليه‌السلام فقال تعالى : ولقد : واللام للقسم كما لا يخفي ، وقد للتأكيد ، وتقدير هما : حقاّ نقول : أرسلنا نوحا نبيّا إلى قومه وحمّلناه أمر الرسالة ليهدي الناس ويبلّغهم أوامر الله ونواهيه. ونوح (ع) هو بن ملك بن متوشلخ بن أخنوخ ـ أي إدريس عليه‌السلام ـ وقد ولد في نفس العام الذي توفي فيه آدم عليه‌السلام ، وهو أول نبيّ بعد إدريس ، قيل إنه بعث وهو ابن أربعمائة سنة ، وقيل ابن خمسين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش في تلك الألف ثلاثة قرون من الناس ، عايشهم ودعاهم إلى التوحيد واعتناق الدين ليلا ونهارا فأبوا سماع دعوته ولم يزدهم دعاؤه إلّا فرارا ، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قرأ بعضهم : غيره بكسر الراء على البدلية من إله. وقد حذفت ياء الإضافة من : يا قومي ، لقوة النداء على التغيير حتى يحذف للترخيم. فقد دعا نوح قومه إلى عبادة الله وحده ثم خوّفهم من المخالفة فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ولعلّه نوّه بيوم الطوفان خاصة وبيوم القيامة عامة. ولكن :

٦٠ ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : الملأ هم الجماعة من الرجال خاصة ومثله : الرهط والقوم والنفر. وقيل إنهم سمّوا كذلك لأنهم يملأون المحافل والنوادي. فقد قال جماعة نوح لنوح (ع) : نحن

نراك ونتيقّن أنه في ذهاب عن طريق الحق ظاهر ، لأنك تدعونا إلى ترك عبادة أصنامنا.

٦١ ـ (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ...) أجابهم نوح (ع) على قولهم ، بأنني لست ضالا ولا عادلا عن الحق إلى غيره ، ولا تركت طريق الصواب (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بل أنا نبي مرسل من الله الذي يملك كل شيء. ولكني أصله لكنّني وقد حذفت النون لاجتماع النونات (لكن ن ن) ويجوز عدم حذفها في غير القرآن الكريم لأنه الأصل الذي يجري عليه. ومثله إني وكأني. أما ليتني فتثبت النون فيه دائما إذ ليس فيه علة حذف.

٦٢ ـ (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ...) التبليغ والإبلاغ هو إيصال ما فيه بيان أمر من أجل إفهامه إلى الآخرين. ومنه البلاغة التي هي إيصال المعنى إلى النفس بأحسن صورة من اللفظ والفرق بين الإبلاغ والأداء أن الأداء إيصال الشيء على الوجه الذي يجب فيه. فقد قال نوح لقومه : إني رسول الله إليكم أبلّغكم رسالات ربّي : أي ما أمرني بأدائه إليكم مع تمام الإخلاص والنصيحة (و) أنا (أعلم من الله) يعني من صفاته وربوبيته (ما لا تَعْلَمُونَ) أي ما لا تعرفون. وقد قال لهم ذلك لأنهم لم يسمعوا أبدا أن الله تعالى عذّب قوما لأنهم عصوا رسوله. فلم يسبق أن وقع هذا العذاب بأحد قبلهم لأنهم من أوائل الأمم ، وقد تحدثت الأمم بهلاكهم فقال هود (ع) لقومه : جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ، وقال شعيب لقومه : لئلّا يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح إلخ ...

٦٣ ـ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الهمزة للاستفهام وقد دخلت على واو العطف لتفيد الإنكار. فنوح (ع) ينكر على قومه عجبهم من أن تنزل إليهم رسالة من ربّهم (عَلى رَجُلٍ) أي على بشر ، إنسان (مِنْكُمْ) مثلكم تعرفونه منذ ولد وكيف نشأ ، قد جاءكم (لِيُنْذِرَكُمْ) أي يخوّفكم العقاب إن لم تؤمنوا بالرسالة (وَلِتَتَّقُوا) تتجنّبوا الشّرك وتتركوا

المعاصي ، وتأتمروا بأوامر الله عزّ وعلا (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يعني لكي ترحموا وتنالكم رحمة الله ولطفه ، أي : برجاء أن يرحمكم.

٦٤ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ...) أي أن قوم نوح كذّبوا قوله ، ولم يؤمنوا بما دعاهم إليه ، فخلّصنا نوحا والذين آمنوا معه وهم الذين حملتهم في الفلك : أي السفينة جنّبناهم عذاب الغرق (وَأَغْرَقْنَا) بمياه الطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وضلوا عن دلالاتنا (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) أي عميا عن الحق : عمي الأبصار وعمي القلوب ، إذ يقال : رجل عم إذا كان أعمى القلب ، ورجل أعمى في البصر. ولذلك قال زهير : ولكنني عن علم ما في غد عم.

شيء من قصة نوح

وبهذه المناسبة نذكر للقارىء الكريم قصة نوح (ع) نقلا عن المجمع فيما رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه بإسناده في كتاب النبوّة مرفوعا إلى أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال :

لمّا بعث الله عزوجل نوحا دعا قومه علانية ، فلمّا سمع عقب هبة الله بن آدم ، من نوح تصديق ما في أيديهم من العلم ، وعرفوا أن العلم الذي في أيديهم هو العلم الذي جاء به نوح صدّقوه وسلّموا له. فأمّا ولد قابيل فإنهم كذّبوه وقالوا إن الجنّ كانوا قبلنا فبعث الله إليهم ملكا ، فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث إلينا ملكا من الملائكة.

وعنه (ع) قال : آمن مع نوح من قومه ثمانية نفر .. وكان أول نبيّ نبّأه الله عزوجل بعد إدريس (ع) .. دعا قومه إلى الله حتى انقرضت

ثلاثة قرون منهم ، كل قرن ثلاثمئة سنة. يدعوهم سرّا وجهرا فلا يزدادون إلّا طغيانا ، ولا يأتي منهم قرن إلّا كان أعتى على الله من الذين قبلهم. وكان الرجل منهم يأتي بابنه وهو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول : يا بنيّ ، إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون. وكانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتى يسيل مسامعه دما وحتى لا يعقل شيئا مما يصنع به ، فيحمل فيرمى به في بيت أو على باب داره مغشيّا عليه ، فأوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن. فعندها أقبل على الدعاء عليهم ، ولم يكن دعا عليهم قبل ذلك. فقال : ربّ لا تذر على الأرض إلى آخر السورة .. فأعقم الله تعالى أصلاب الرجال وأرحام النساء ولبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد ، وقحطوا في تلك الأربعين سنة حتى هلكت أموالهم وأصابهم الجهد والبلاء ، ثم قال نوح : استغفروا ربّكم إنه كان غفّارا ، الآيات ... فأعذر إليهم وأنذر فلم يزدادوا إلا كفرا. فلمّا يئس منهم أقصر عن كلامهم ودعائهم فلم يؤمنوا بل قالوا : لا تذرنّ آلهتكم ، ولا تذرنّ ودا ولا سواعا الآية .. حتى غرّقهم الله وآلهتهم التي كانوا يعبدونها.

وسنذكر قصة صنع السفينة وحادثة الطوفان والغرق في سورة هود إن شاء الله تعالى.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : عاش نوح ألفي سنة وخمسمائة سنة. منها ثمانمائة وخمسين عاما قبل أن يبعث ، وألف سنة إلّا خمسين عاما وهو في قومه يدعوهم ، ومائتي عام في عمل السفينة وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء فمصّر الأمصار وأسكن ولده البلدان. ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال : السّلام عليك. فردّ عليه نوح وقال له : ما جاء بك يا ملك الموت؟ فقال : جئتك لأقبض روحك. فقال له : تدعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ؟ فقال له : نعم. قال فتحوّل نوح ثم قال له يا ملك الموت : كأنّ ما مرّ بي من الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظل. فامض لما أمرت

به. قال : فقبض روحه (ع).

ومن الطريف أن نذكر للقارىء ما جاء في بعض الروايات : من أن نوحا عليه‌السلام كان يوما في السفينة نائما ، فهبّت ريح فكشفت عورته فضحك حام ويافث ، وزجرهما سام ونهاهما عن الضحك. وكان كلّما غطّى سام ما يكشفه الريح ، كشفه حام ويافث. فانتبه نوح فرآهم يضحكون ، فقال : ما هذا؟ فأخبره سام بما كان. فرفع نوح يده إلى السماء يدعو فقال : اللهم غيّر ماء صلب حام حتى لا يولد له إلا السودان ، اللهم غيّر ماء صلب يافث. فغيّر الله ماء صلبيهما ، فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا ، وجميع الترك والسقلاب ويأجوج ومأجوج والصين من يافث. وجميع البيض سواهم من سام. وقال نوح لحام ويافث : جعل الله ذرّيتكما خولا ـ عبيدا وخدما ـ لذرية سام إلى يوم القيامة ، لأنه برّبي وعققتماني ، فلا زالت سمة عقوقكما لي في ذرّيتكما ظاهرة ، وسمة البر في ذرّية سام ظاهرة ما بقيت الدنيا.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨))

٦٥ ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ...) هذه الآية الكريمة معطوفة على ما سبقها ولذلك انتصب : أخاهم هودا بقوله : أرسلنا في أول الكلام عن نوح (ع) والتقدير : وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. وهودا ، صرفت

لخفّتها. ويا قوم : موضع قوم النّصب لأنه نداء مضاف .. والحاصل أنه سبحانه أخبر عن إرسال هود عليه‌السلام إلى قوم عاد ف (قالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) لأنه إلهكم وخالقكم و (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) لا أنتم ولا غيركم فهو خالق الكون وما فيه (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام أراد به التقرير ، يعني أن هذا كله يدعوكم لأن تتجنبوا غضب الله وتؤمنوا به وتعبدوه.

وهود (ع) هو من قوم عاد بالنسب فقد اختاره الله تعالى منهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. وهو : هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح (ع) وقد ورد أنه : هود بن عبد الله بن رياح بن جلوث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح (ع) والله أعلم.

٦٦ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) قد مرّ تفسير الملأ وقولهم. وقد قال هؤلاء لهود (ع) : (إِنَّا لَنَراكَ) يا هود (فِي سَفاهَةٍ) أي جهالة وخفة حلم ، يعني : إننا نراك سفيها غير عاقل (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أنهم كذّبوه لا على القطع واليقين بأنه كاذب. بل الحق أن الظن هنا بمعنى العلم واليقين ، يعني أنهم متيقّنون كذبه ، ولذلك فإن هود (ع) :

٦٧ ـ (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ ...) أي أنني لست جاهلا ولا بعثني على قولي سفاه ولا جنون (وَلكِنِّي رَسُولٌ) بل أنا نبيّ مبعوث (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حمّلني أعباء الرسالة من أجل هدايتكم ورأفة بكم. وهذا من تأديب الله سبحانه وتعالى لرسله بأن لا يقابلوا السفهاء بالكلام القبيح ، بل يقتصرون على نفي ما يتّهمونهم به. ولذلك نفى ما نسبوه إليه.

٦٨ ـ (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ...) يعني قال لهم : أنا رسول ربّي إليكم جئت (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) قد عبّر عن الرسالة بالجمع لأنها تحمل كثيرا من الفروض والواجبات ، والأوامر والنواهي ، والوعد والوعيد وغير ذلك. فأنا أعرّفكم ذلك بأمر من ربّي عزوجل (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) في ما

أدعوكم إليه من توحيد الله وإطاعة أوامره (أَمِينٌ) يعني مأمون على الرسالة ، لا أكذب ولا أغيّر ولا أبدّل.

* * *

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

٦٩ ـ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) أي لا تعجبوا من نزول رسالة لكم من ربكم ، أوحي بها (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) هو منكم في النسب وقد نشأ بينكم وأنتم تعرفونه ، وقد كان ذلك (لِيُنْذِرَكُمْ) أي ليخوّفكم من البقاء على عبادة الأوثان والأصنام (وَاذْكُرُوا) أي عدّوا من نعم الله عليكم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) فأصبحتم سكان

الأرض من بعدهم. وخلفاء : جمع خليفة وهو من يكون مكان غيره ويقوم مقامه ويصبح بدله في التدبير. وهذه نعمة ظاهرة إذا أهلكهم بمعاصيهم وأقامكم مقامهم (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي طولا وقوة كما عن ابن عباس.

وفي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : كانوا كأنهم النخل الطوال ، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيديه فيهدم منه قطعة .. وقيل كانوا أطول من ذلك ، وقيل كانوا أطول من غيرهم بمقدار مد اليدين مبسوطتين فوق رأس الإنسان .. فقد جعلكم ذوي طول وعرض منسجمين (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) يعني نعم الله وأفضاله ، فاذكروها واشكروها .. والآلاء مفردها : إلى ، وألى وألي وإلي. ومعناه النعمة. قال الأعشى :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون إلى

أي يصل الرّحم ولا يكفر بنعمة. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني لتفوزوا في الآخرة وثوابها.

٧٠ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ ...) أي أنهم حين دعاهم إلى التوحيد قالوا له : يا هود أتيتنا بهذه الدعوة وأن نعبد الله (وَنَذَرَ) نترك عبادة (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان والأصنام؟ فرفضوا دعوته قائلين : (فَأْتِنا) أي جئنا (بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) يعني إن كنت صادقا أنك رسول الله وأنك تستطيع أن تدعو الله بإنزال العذاب علينا.

٧١ ـ (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ...) أي أجاب هود قومه قائلا : قد استحققتم العذاب وقد حلّ بكم وهو واقع لا محالة. والرجس هو العذاب والغضب هو السخط. فانتظروا ذلك بعد عنادكم واعتبروا أنه قد قضى الله تعالى بعذابكم (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) يعني أتخاصمونني وتناقشونني في أصنام صنعتموها بأيديكم وبأيدي آبائكم ووضعتم لها أسماء مخترعة من عندكم ثم دعوتموها آلهة هذه للمطر وهذه للخير وهذه للشرّ افتراء على الله

سبحانه ووصفتموها بأشياء (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي دون حجة على ألوهيتها ولا برهان على صدق ما تدّعونه لها ، بعكس ما أدعوكم إليه من أن الله تبارك وتعالى هو المعبود الذي لا معبود سواه كما أنه الخالق الرازق الذي لا خالق ولا رازق غيره (فَانْتَظِرُوا) ما وعدتكم به من العذاب النازل دون تأخير (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) له ولنزوله بعد أن أصبحتم تستحقونه بكفركم وعنادكم.

٧٢ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ...) يعني خلّصنا هودا والمؤمنين معه عند نزول العذاب بأن أوحينا إليه أن يخرج هو والمؤمنون من بينهم أثناء نزول العذاب (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلنا المكذّبين بحججنا. وكلمة قطعنا دابرهم تدل أننا لم نترك لهم ذرّيّة من بعدهم ولا أبقينا نسلا ، فعلنا بهم ذلك لأنهم كفروا بما أنزلناه (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) بنا ولا برسولنا ولا برسالتنا ، بل لم يكونوا ليؤمنوا لو أننا لم نهلكهم. وفي هذه الآية الشريفة دليل واضح على أن قوم هود قطع دابرهم تماما ولم يبق من نسلهم أحد.

وقيل إن عادا كانوا ينزلون اليمن ، وكان موطنهم منها في الأحقاف التي هي رمال : عالج ، والدهناء ، ويبرين الواقعة بين عمان وحضرموت. وكانوا أهل زرع ونخل وضرع ، وكانوا طوالا يعمّرون كثيرا ويعبدون الأصنام. وقد بعث الله إليهم هودا (ع) وهو من أشرفهم وأنبلهم حسبا ونسبا ومن أفضلهم خلقا ، فدعاهم إلى التوحيد فلم يجيبوه ثم آذوه بعد أن كذّبوه فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ـ وقيل سبع سنين ـ وكان من عادة الناس أن يلجأوا إلى حرم الله تعالى في مكة كلما نزل بهم بلاء مسلمين كانوا أو كافرين ، فإنهم يطلبون الفرج في مكة بعد أن يحجوا إليها ، لذا بعث قوم عاد جماعة منهم إلى مكة ليستقوا ويستمطروا رحمة الله. فنزل الجماعة على رئيس العماليق الذين كانوا مقيمين في مكة ، ويدعى معاوية بن بكر وأمّه من قوم عاد ، فرحّب بهم وأحسن ضيافتهم فبقوا عنده شهرا كاملا يشربون الخمر كأنهم نسوا ما جاؤوا من أجله فنظم

مضيفهم ـ معاوية ـ الأبيات :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يصبحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد امسوا ما يبينون الكلاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التماما

وأعطاها إلى القينة التي كانت تغنّيهم على شرابهم ، فغنّتهم بها ففطنوا لمهمّتهم وتداعوا للدخول إلى مكة من أجل الاستغاثة ، فقال لهم رجل منهم كان قد آمن بهود سرّا : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إذا أطعتم نبيّكم سقيتم. فزجروه وخرجوا يستقون على طريقتهم. وكان رئيس وفدهم يدعى : قيل بن عنز ، فقال : يا إلهنا إن كان هودا صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سبحانه ثلاثة سحب : بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء : يا قيل ، اختر لنفسك ولقومك ، فاختار السحابة السوداء التي فيها العذاب ، فساقها الله تعالى بما فيها من نقمة إلى قوم عاد ، فلمّا رأوها فرحوا وقالوا : هذا عارض ممطرنا .. فسخّرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام دائمة فلم تدع من عاد أحدا أبدا. وقيل إن هود ومن آمنوا معه اعتزلوا في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود وتلتذّ النفوس. أما الكافر من قوم عاد فكانت تلك الريح تصيبه أينما كان فتدمغه بحجارة تشجّ دماغه. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ قال : إن لله تبارك وتعالى بيت ريح مقفل عليه ، لو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض. ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر الخاتم.

ومن المفيد أن تعلم أن هود وصالح وشعيب وإسماعيل ونبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله يتكلمون العربية.

* * *

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ

ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩))

٧٣ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ...) قال صالح عليه‌السلام لقوم ثمود كما قال غيره من الرّسل إلى أقوامهم : اجعلوا عبادتكم لله وحده سبحانه وتعالى فإنه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) تجوز عبادته فتعبدونه (قَدْ جاءَتْكُمْ) أتتكم على يدي (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي

علامة فاصلة بين الحق والباطل وهي : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) الناقة أنثى الجمل وقد أشار صالح (ع) إلى ناقة خاصة بعينها لأن الله سبحانه أضافها إليه إذ خلقها بطريقة فريدة لتكون دليلا على صدق رسوله فقد خرجت من صخرة ملساء تمخّضت كما تتمخّض الحبلى ثم انفلقت عن الناقة وقوم صالح ينظرون لتكون معجزة سماوية كما طلبوها وبتمام الصفات التي تمنّوا أن تكون عليها. ومن الصخرة التي اقترحوا خروجها منها. وقد جعل الله تعالى لها شرب يوم ، تشرب فيه ماءهم بكامله وتسقيهم بدله اللبن ، ولهم شرب يوم خاصّ بهم لا تذوق هي فيه ماءهم. ومذ خرجت من الصخرة على ما ذكرنا فقال صالح عليه‌السلام لقومه : هذه آية ربّانية لا ناقة عادية (فَذَرُوها) يعني اتركوها ودعوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) يعني ترعى في الأرض (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لا تؤذوها (فَيَأْخُذَكُمْ) فيصيبكم (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع شديد الإيجاع.

٧٤ ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ...) أي لا تنسوا نعمة الله عليكم بأن أورثكم الأرض بعد قوم عاد الجبابرة ، وجاء بكم بعدهم فمكّنكم من أرضهم (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أسكنكم فيها وأنزلكم في منازل ترتاحون فيها (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي تشيّدون في أرضها المنبسطة القصور الشامخة والدّور الباذخة (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) قيل إنهم لطول أعمارهم كانت تفنى البيوت التي يبنونها ، وتنهدم السقوف التي يرفعونها بمرور الزمن الطويل ، ولذلك كانوا ينحتون بيوتا في الجبال لأنها تكون أقوى وتدوم أكثر ، وتكون أدفأ في الشتاء ، وأبرد في الصيف (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي اذكروا نعمه ـ وقد مر تفسيره ـ (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تكثروا الفساد وعثي يعثى : أفسد ، فلا تبالغوا في الفساد وتسلكوا جميع خططه.

٧٥ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) أي أن جماعة المتكبّرين من قوم صالح جحدوا ما جاءهم به من الآيات والبيّنات ، وقالوا (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي للذين كانوا بنظرهم ضعفاء مساكين ، ووجّهوا

كلامهم (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) أي للمسلمين مع صالح (ع) قالوا لهم : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وتشهدون بذلك وتؤمنون به فعلا؟ (قالُوا) أي المؤمنون : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فأكّدوا تصديقهم بدعوته وإيمانهم برسالته حينئذ :

٧٦ ـ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ...) أي أنهم ردّوا على المؤمنين بعناد وصلافة : نحن كافرون بما آمنتم به وصدّقتم ، وجاحدون بالرسالة.

٧٧ ـ (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ...) يعني حين بلغت بهم حدّة الكفر مبلغها ، نحروا الناقة ، أي ذبحوها ، والعقر لغة هو قطع عرقوب البعير. وقد سمّوا النحر عقرا لأنّ الناحر يعقر البعير أولا ثم ينحره. فقد قتلوا الناقة (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي تجاوزوا الحد في العصيان والكفر والفساد ، وتكبّروا على ما أمرهم به (وَقالُوا) بتحدّ وعناد : (يا صالِحُ ائْتِنا) أي جئنا بالعذاب فقد قتلنا النّاقة التي قلت : لا تمسّوها بسوء ، فأنزل علينا عذابا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يعني إن كنت نبيّا كما تدّعي.

٧٨ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ...) في هذه الكريمة وصف سبحانه وتعالى ما أصابهم بأخصر بيان ، فقد أخذتهم الرّجفة يعني الزلزلة أو الصيحة ، أو هما معا فإنه لا بد للزلزلة المدمّرة من صوت مخيف ، ولا بد للصيحة من زلزال ترجف له الأرض وتهلع من القلوب ، فأصبحوا : صاروا في دارهم : أي بلدهم ، جاثمين : رابضين لا حركة بهم ، صرعى ميّتين. وقيل : جاثمين : يعني كالرماد الجاثم فالصاعقة قد أحرقتهم.

٧٩ ـ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي ...) أي أن صالحا (ع) تولى : انصرف عنهم وأعرض بعد كفرهم وعنادهم وقال لهم قد أوصلت إليكم ما حمّلني ربّي من الأمانة والرسالة (وَنَصَحْتُ لَكُمْ)

أي محضتكم النّصح وأخلصت لكم في الأداء (وَلكِنْ) يعني ولكنكم (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) بديل عدم قبولكم للدعوة لأن من أحبّ أحدا سمع منه ولم يردّ عليه كلامه.

أمّا ثمود فمن العرب الذين أقاموا في أرض عاد ، وطغوا وبغوا حين نعموا بسعة العيش ، ثم عبدوا غير الله سبحانه فبلغت أصنامهم السبعين فبعث الله فيهم صالحا الذي هو من أشرفهم نسبا. وفي الخبر أنه لما بعث كان ابن ست عشرة سنة ، فلبث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه إلى خير .. وأخيرا قال لهم : قد شنئتكم وشنئتموني وأنا أعرض عليكم : إما أن تسألوني معجزة فأسأل الله أن يفعلها فتؤمنوا ، وإما أن تدعوني أسأل آلهتكم فإن أجابوني خرجت عنكم .. وفي يوم عيدهم خرجوا إلى أصنامهم وأكلوا وشربوا ثم دعوا صالحا ليسأل آلهتهم. فسألها فلم تجب بشيء. فقال : لا أرى آلهتكم تجيبني ، فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة. فقالوا : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة ـ وأشاروا إلى صخرة منفردة ـ ناقة مخترجة جوفاء وبراء. فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك. فسأل صالح (ع) ذلك فانصدعت الصخرة صدعا كادت عقولهم تطير منه ، ثم اضطربت كالمرأة التي يأخذها الطّلق ، وانشقّت عن الناقة التي وصفوها ، وكانت ناقة عظيمة سرعان ما نتجت سقبا عظيما مثلها ، فآمن بصالح رهط واقتنع الأكابر. فقال لهم صالح : هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم. وكانت تضع رأسها في الماء فتشربه عن آخره ثم تتفحّج ـ تفرق ما بين رجليها ـ فيحتلبون ما شاؤوا من اللبن ويشربون ويدّخرون لليوم الثاني. وقد شق عليهم أن يطلبوا الماء يوم شربها من الجبال والمغارات ، وصعب عليهم أن ماشيتهم كانت تنفر منها وتخافها فتهرب لعظمها فلم يروا إلّا قتلها ليتخلّصوا منها. ويقال إن امرأة ذات جمال ومال وأنعام كانت شديدة العداوة لصالح (ع) فدعت رجلا اسمه مصرع بن مهرج وأباحت له نفسها على أن يعقر الناقة ، وأن امرأة أخرى اسمها عنيزة دعت قدار بن سالف

وهو أزرق أحرم قصير وكان ولد زنا قد وضع على فراش سالف ، وقالت له : اختر أيّ شئت على أن تقعر الناقة. وانطلق مصرع وقدار فأغريا سبعة آخرين معهما واتفقوا على عقر الناقة. فأخبر الله سبحانه صالحا بقصتهم ، فذكرها لقومه فأنكروا.

أما قصة هؤلاء التسعة فهي أن الله سبحانه أوحى لصالح أن قومه سيعقرون الناقة ، وأن عاقرها سيولد في هذا الشهر ، وأن هلاك قومه سيكون على يدي ذلك المولود. فأنذر صالح (ع) قومه ، فاتفقوا أن لا يولد لهم غلام في ذلك الشهر إلّا قتلوه. فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ، ثم ولد غلام عاشر فأبى والده أن يقتله فنبت نباتا سريعا وكان يراه الآباء التسعة فيقولون : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا الغلام ، مما أدّى بهم إلى الغضب على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم فحلفوا الأيمان على قتله خفية ، فأعلنوا أنهم خارجين لسفر وقرروا أن يأووا إلى غار ليختبئوا فيه حتى يجيء الليل ويخرج صالح إلى مسجده للصلاة ليثبوا عليه ويقتلوه ويعودوا إلى الغار فيكونوا خارج القرية أثناء قتله ولا يشك بهم أحد ، وحينئذ يقولون للناس : ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون ، لأننا كنا في سفر. وقد كان من عادة صالح (ع) أن يتعبّد ويبيت في المسجد ثم يعظ قومه في النهار. وقد ذهب التسعة إلى الغار ودخلوه بانتظار مجيء صالح (ع) إلى مسجده ، فسقط عليهم الغار فقتلهم جميعا. فانطلق ناس ممّن علموا بذلك فوجدوا الغار مطبقا عليهم ووجدوهم مرضوخين فعادوا يصيحون في القرية : أيها الناس ، أما رضي صالح بأمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم في الغار؟ عندها أجمع أهل القرية على عقر الناقة. ويومها جلس قدار وجماعة يشربون ويسكرون ولم يجدوا ماء يمزجون به شرابهم لأنه كان يوم شرب الناقة للماء فعظم ذلك عليهم فقال قدار : هل لكم في عقر الناقة؟ قالوا : نعم. فانطلق قدار ومصرع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وكمن لها قدار في ظلّ صخرة على طريقها ، وكمن لها مصرع في أصل صخرة مقابلة ،

فمرّت بهذا فرماها بسهم أصاب عضلة ساقها ، ومرّت عنيزة فأمرت ابنتها أن تسفر لقدار فرآها فشدّ على الناقة بالسيف فضرب عرقوبها فخرّت للأرض ورغت مرة واحدة فهجم ونحرها واجتمع أهل البلد فاقتسموا لحمها وطبخوه. فلما رأى فصيلها ما فعلوه بأمه ولّى هاربا ثم رغا رغاء هلعت له قلوبهم ، وخرج صالح عندئذ فجاءوه يعتذرون بأن لا ذنب لهم وإنما عقرها فلان فقط. فقال صالح (ع) : إنكم إن أدركتم فصيلها فعسى أن يرتفع عنكم العذاب فراحوا يبحثون عن الفصيل فلم يجدوه ، فقال صالح : تمتّعوا في بلدكم ثلاثة أيام وسينزل بكم العذاب بعد انقضائها : وستصفرّ وجوهكم في اليوم الأول وتحمّر في اليوم الثاني ، وتسودّ في اليوم الثالث ، وقد حصل لهم ذلك ، ثم أتاهم جبرائيل (ع) فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصرعت أكبادهم فماتوا منها أجمعين كبيرا وصغيرا ، ثم أرسل الله عليهم نارا من السماء أحرقتهم عن بكرة أبيهم ، وقيل إنها حلّت بهم زلزلة وصيحة في آن واحد.

وبالمناسبة نذكر ما روي عن النبي (ص) مرفوعا ـ كما في المجمع وغيره ـ قال : يا عليّ أتدري من أشقى الأولين. قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : عاقر الناقة. قال : أتدري من أشقى الآخرين؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : قاتلك. أو قال : أشقى الآخرين من يخضب هذه من هذه ، وأشار إلى لحيته ورأسه. وعن جابر بن عبد الله ، أن النبيّ (ص) لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلنّ أحد منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم ، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم الذي أصابهم. ثم قال (ص) : لا تسألوا رسولكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية ، فبعث لهم الناقة وكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج تشرب ماءهم يوم ورودها. ثم دلّهم على المحل الذي صعد إليه الفصيل ، ثم أسرع صلوات الله وسلامه عليه فاجتاز هو وأصحابه ذلك الوادي الذي حصل فيه عقر الناقة وحلّ به غضب الله ونزل عليه العذاب من السماء.

* * *

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

٨٠ ـ (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ...) أي كيف تفعلون السيئة القبيحة العظيمة ، وهي إتيان الرجال بأدبارهم ، وهي فعلة شنعاء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) يعني ما فعلها قبلكم أحد ، فعن عمرو بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر قبل قوم لوط. أما قوم لوط فقد كانوا يفعلون ذلك مع الغرباء ، ولذا كانوا يهاجمون بيت لوط (ع) كلما دخل عليه ضيوف زائرون. ثم بيّن سبحانه الفاحشة التي كان يفعلها قوم لوط فقال عزّ من قائل :

٨١ ـ (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ...) فيها كما في سابقتها استفهام إنكاري : يعني : أتأتون الرجال في أدبارهم وتشهونهم وتتركون إتيان النّساء اللاتي خلقهنّ الله تعالى مباحات لهذه الغاية وصالحات ومهيّات بطبيعة خلقهنّ لها (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) فأنتم متجاوزون للحد الذي شرعه الله تعالى ، ظالمون لأنفسكم بما ترتكبونه من عيب ومنكر كإتيان الذكور دون الإناث.

٨٢ ـ (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ...) يعني حين أنكر لوط (ع) على قومه فعلهم الشنيع وبيّن لهم إسرافهم في الظلم لارتكابهم القبيح ، لم يجيبوه على كلامه ، ولا حفلوا بما قاله لهم ، وما كان منهم إلّا أن قالوا : (أَخْرِجُوهُمْ) أي آل لوط ، اطردوهم وانفوهم (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) بلدتكم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يأنفون من ارتكاب المنكر ، ويتحرجون من تدنيس أنفسهم بإتيان الرجال في أدبارهم. ويلاحظ أنهم قد مدحوا لوطا (ع) وأهل بيته من حيث أرادوا ذمّهم ، فقد نعتوهم بالتطهير ونزّهوهم عن أفعالهم القبيحة.

٨٣ ـ (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ...) أي فخلّصناه ، يعني لوطا خلّصه الله تعالى من الهلاك ، وخلّص أهله : يعني عائلته ، باستثناء امرأته : ما عدا زوجته التي (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الماضين الذين تخلّفوا مع قوم لوط ولفّها الهلاك بالعذاب وطواها الفناء مع قومها. وقد كانت من الغابرين لتخلّفها عن لوط حتى هلكت في من هلك ، ذلك أنها كانت على دين قومها ولم تؤمن بدعوة لوط.

٨٤ ـ (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ...) أي أنزل عليهم مطرا لا كالمطر الذي نعهده ، بل أمطرهم حجارة من السماء ـ والعياذ بالله ـ بعد أن خسف بهم مدائنهم. وقد قال سبحانه في آية أخرى : وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) فتأمّل وتفكّر وأجل نظرك : كيف يكون مصير الذين يرتكبون الجرائم ويقترفون السيئات. وبعبارة أخرى : انظر بعين عقلك كيف تكون نهاية المجرمين : فمن عذاب في الدنيا ، إلى خلود في النار في الآخرة.

والحاصل أن لوطا (ع) كان ابن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقيل ابن خالته وأن سارة امرأة إبراهيم هي أخته. وقد بقي في قومه ثلاثين سنة يدعوهم إلى الطاعات وينهاهم عن المعاصي والفواحش فلم يسمعوا منه ولا أجابوه إلى شيء كفرا وعنادا.

وكانوا بخلاء لدرجة الشّح. وبحكم وقوع مدائنهم على طريق السيارة بين الشام والحجاز ومصر ، كانت الضيوف تطرقهم دائما فيضيقون ذرعا بكل ضيف لشحّهم بالطعام ، فأغراهم بخلهم بأنه إذا نزل بهم ضيف فضحوه ، لينصرف المارّة عن طروق منازلهم والمبيت عندهم ، وليحيد المسافرون عن طريق قراهم. وقد بدأوا هذا الفعل مع الرجال عن غير شهوة ، بل بقصد تنفيرهم من النزول عندهم ، ثم أوردهم بخلهم هذا الداء القبيح فصاروا يطلبون الرجال ويعطون على ذلك أجرا عظيما.

أما لوط (ع) فكان على عكسهم ـ ولم يكن منهم بالأصل ـ فهو كريم سخيّ يقري الضيوف ، ويرحّب بالنزلاء ، ويفتح بيته لكل رائح وغاد ، فنهوه عن ذلك وهدّدوه بفضح كل ضيف ينزل به. فكان يكتم أمر الضيف إذا حلّ ببيته ، ويستر خبره عن قومه أشد ستر مخافة الوقوع في هذه الفضيحة الفظيعة ، ولما أعيت لوطا الحيلة وبقي قومه على إصرارهم العنيد ، وأراد الله تعالى أن يوقع عليهم عذابه ، بعث جبرائيل (ع) في نفر من الملائكة ، فجاؤا إبراهيم أولا فذبح لهم عجلا سمينا وظنّهم ضيوفا فقالوا له : إنّا رسل ربّك ، ونحن لا نأكل الطعام ، وقد بعثنا الله تعالى لتنفيذ مشيئته في قوم لوط. ثم ودّعوه وقصدوا لوطا فوجدوه يسقي الزرع فسلّموا ووقفوا ، فردّ عليهم بأحسن التحية وقال : من أنتم؟ قالوا نحن أبناء سبيل ، أضفنا الليلة. فقال لوط : إن أهل هذه القرية قوم سوء ، فهم ينهبون مال الضيف وينكحونه في دبره. فقالوا : قد أبطأنا فأضفنا. فجاء لوط إلى أهله وقال لها : قد أتاني ضيوف فاكتمي أمرهم هذه الليلة. فقالت له : أفعل. وكانت امرأته كافرة ، وكانت العلامة بينها وبين قومها أنه إذا نزل بلوط ضيف تدخّن هي فوق السطح إذا كان الوقت نهارا ، وتشعل النار إذا كان الوقت ليلا.

فلما دخل جبرائيل (ع) والملائكة إلى بيت لوط ، قامت زوجه فأوقدت النار على السطح فأقبل القوم يهرعون إليه من كل ناحية. ثم دار بينهم وبين لوط ما حكاه الله في غير هذا المكان ، فضرب جبرائيل عليه

السلام بجناحه على عيونهم فطمسها ، فعلموا أنه قد نزل بهم العذاب فقال جبرائيل (ع) : اخرج يا لوط من بينهم أنت وأهلك إلّا امرأتك. فقال : كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري؟ فوضع جبرائيل (ع) بين يديه عمودا من نور وقال اتبع هذا العمود ولا يلتفت منكم أحد. فخرجوا .. وحين طلع الفجر ضرب جبرائيل بجناحه في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرض ثم رفعها في السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديوكهم ، ثم قلبها عليهم بحيث جعل سافلها عاليها كما قال الله سبحانه وتعالى ، ثم أمطرها الله حجارة من سجيل ، فهلكوا وهلكت امرأة لوط معهم.

وقيل إن أول من سوّل لهم هذا الفعل القبيح من نكاح الرجال في أدبارهم ، هو إبليس اللعين ، فقد تمثّل لهم بصورة غلام جميل ثم دعاهم إلى دبره فنكحوه ، فأعجبهم هذا الفعل فمارسوه حتى أكثروا منه ، فعجّت الأرض إلى ربها وعجّت السماء والعرش ، فأمر الله بخسف الأرض بهم وبحصبهم بالحجارة المعدّة لعذاب المجرمين.

* * *

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا

إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦))

٨٥ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) أي وبعثنا إلى مدين النبيّ شعيبا. ومدين اسم المدينة أو القبيلة. فقد قيل إن مدين ابن إبراهيم الخليل (ع) فنسبت القبيلة إليه. وشعيب هو ابن توبة بن مدين بن إبراهيم الخليل (ع) ولذلك قال سبحانه : أخاهم ، لأنه منهم. وقيل إن شعيب هو ابن ميكيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم ، وقيل غير ذلك. وإن شعيبا (ع) يدعى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وقيل إنه أرسل إلى مدين مرة وإلى أصحاب الأيكة مرة أخرى. وقد (قالَ) لهؤلاء وهؤلاء : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) مرّ تفسيره (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أي أتمّوها ، فالإيفاء هو إتمام الشيء إلى حد الحق. فأتمّوا للناس ما تكيلونه لهم وما تزنونه ، وأدّوهم حقوقهم تامة كاملة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوا من حقوقهم شيئا ، فالبخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي لا تعملوا الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي واستحلال المحرّمات (بَعْدَ إِصْلاحِها) يعني بعد أن أصلحها الله تبارك وتعالى ببعثة الأنبياء وبأمر الناس بالطاعات ونهيهم عن المعاصي (ذلِكُمْ) الشيء الذي أمرتكم به (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي أحسن لكم وأعود عليكم إذا كنتم مصدّقين بالله سبحانه وتعالى. وقد قال الفراء : لم يكن لشعيب معجزة على نبوّته لأن الله لم يذكر له دلالة في القرآن. وهذا غلط مروود بقول شعيب الوارد في الآية الشريفة نفسها إذ قال لقومه : قد جاءتكم بيّنة من ربكم. وهل البيّنة سوى آية أو معجزة؟ فلا مانع أن تكون له معاجز وإن لم يذكرها القرآن الكريم.

٨٦ ـ (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ...) الصراط هو الطريق. يعني لا تجلسوا في كل طريق تؤدي إلى منزل شعيب توعدون قاصدها

أي تهدّدونه وتخوّفونه بالقتل إن هو آمن بشعيب (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) يعني تمنعون الناس من الإيمان بشعيب وبالله تعالى واتّباع طريق دينه الذي شرعه للناس (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) أي تريدونها عوجاء غير مستقيمة. فالهاء في : تبغونها ، راجعة للسبيل التي يحبونها منحرفة عن الحق بقولهم هذا كذب ، هذا سحر ، هذا باطل ملتمسين الزّيع عن جادة الهدى (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي زاد عددكم بالتوالد. قال ابن عباس : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت حتى كثر أولادها. وقيل يمكن أن يكون معناه ، جعلكم أغنياء بعد فقر ، أو ذوي قدرة بعد ضعف ، فاذكروا ذلك (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) فتأمّلوا وفكّروا كيف كانت نهاية أمر قوم عاد وثمود ولوط وغيرهم فقد حلّ بهم عذاب وتدمير ومطر من حجارة من سجّيل.

* * *

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

٨٧ ـ (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ...) أي : وإن آمنت جماعة منكم بما جئت به وصدقوا قولي ورسالتي (فَاصْبِرُوا) أيها المكذّبون وأيها المصدّقون ، وتريّثوا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) ويجزي كل فريق بما يستحقه على فعله ، في الدنيا قبل الآخرة ، فلا تذهب بكم المذاهب لتفرّق الناس عني لأن العاقبة للمؤمنين (وَ) الله (هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) إذ لا يجوز عليه أن يجور ولا أن يحابي أو يراعي في حكم. وفي هذه الشريفة وعيد ظاهر. فكأنه عليه‌السلام قد شكا أمره معهم إلى الله تعالى ، ودعاهم إلى الكفّ عن مخاصمته والصدّ عن دينه ، ولذلك ردّ المستكبرون عليه بما يلي :

* * *

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

٨٨ ـ (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) استكبروا : أي جعلوا أنفسهم في منزلة لا يستحقونها تكبّرا ، فقد قالت هذه الفئة المتعجرفة من قوم شعيب : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) أي لنطردنّك من بلدتنا مع جميع المؤمنين بك ولو كانت بلدتنا وطنك (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) يعني ولا ينجيكم من الإخراج من الوطن الذي تستقرّون فيه ، إلا إذا عدتم : رجعتم إلى ملّتنا التي كنا عليها. وقد ظنّ هؤلاء الكفار أن شعيبا كان على عقيدتهم قبل أن يكون رسولا لله ، ولذلك شملوه بقولهم : لتعودنّ إلى طريقتنا في عبادة الأصنام. والملّة هي الديانة التي يعمل بموجبها فرقة عظيمة من الناس.

والحاصل أنهم خيّروه بين الخروج من وطنه وبين أن يدخل في ملّتهم ف (قالَ) شعيب لهم : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) يعني حتى ولو في حال إكراهنا على ملتكم التي نعرف بطلانها؟ وقد أدخل همزة الاستفهام هنا على : ولو ، لتعطي معنى : أتردّننا إلى ملتكم مكرهين عليها إكراها؟ .. لا ، إننا إذا :

٨٩ ـ (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ ...) أي أننا نكون

قد كذبنا على الله ، ونسبنا إليه ما لا يرضاه وما لم يقل به ، إذا رجعنا إلى ملّتكم وأحللنا ما تحلّون وحرّمنا ما تحرّمون (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي بعد أن خلّصنا سبحانه منها وأقام لنا الدلائل على بطلانها ، وأوضح لنا الحق من عنده بحجة جلية ، ولم نختلق على الله كذبا حين دعوناكم إلى الإيمان (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) وهي ملّة كفر لا يجوز الارتداد إليها (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) إلّا إذا أراد الله سبحانه ذلك ، وهو لا يرضى لعباده الكفر. فقد علّق شعيب (ع) ما لا يكون ، بما علم أنه لا يكون ، تبعيدا لذلك واستحالة لحصوله (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : وسع علم ربّنا كلّ شيء وهذا تعبير في غاية الروعة والجمال ، يعرض المعنى بشكل أكثر روعة وأعمق شمولا. وقد انتصب : علما ، على التمييز. فقد أحاط علمه سبحانه بكل شيء ، وهو أعلم بما يصلح لمعاشنا ومعادنا مما نتعبّد به (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي فوّضنا أمرنا إليه لينتصر لنا منكم وليتولّى جميع أمورنا (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي اكشف مع أيّنا الحقّ : معنا ، أو مع قومنا. وهذا دعاء يظهر عليه الخشوع والانقطاع إلى الله تعالى يستشم منه الطلب بأن يعجّل له النّصر عليهم (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) أي خير الفاصلين في الأمور والحاكمين فيها.

* * *

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

٩٠ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) أي قال هؤلاء الكفرة المعاندون مهدّدين من لم يكن مع شعيب ، ومحذّرين من كان معه : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) في دعوته ومشيتم معه في طريقته وانقدتم لأمره ونهيه تاركين دينكم وما أنتم عليه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ففي هذه الحال تكونون من المغبونين الذين أضاعوا رأس مالهم في الحياة. وإنكم لخاسرون جواب القسم ، وقد سدّ مسدّ جواب الشرط من قوله : لئن. أما : إذا فهي هنا زائدة.

٩١ ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ...) الرجفة : هي رجفة الأرض بالزلزلة والعياذ بالله. فقد حلّت بقوم شعيب زلزلة في آخر مرحلة من مراحل نوعيّة عذابهم الأليم. فقد قيل : أرسل الله عليهم رمدة وحرّا شديدا ضيّق أنفاسهم ، فدخلوا البيوت هربا من ذلك فوجدوا الضّيق قد دخلها عليهم ، ولم يقهم الحرّ لا الظلّ ولا الماء حتى شواهم كما تشوي النار اللحوم ، فأرسل الله تعالى سبحانه فيها ريح طيبة أحسّوا بردها فخرجوا يتفيّئون ظلّها ويستنشقون روحها ، فألهبها الله عليهم نارا فاحترقوا ، وحلّ بهم زلزال قوّض الأرض بهم. وهذا هو عذاب يوم الظّلة كما عن ابن عباس وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا. وقد انتهى الأمر بهؤلاء المكذّبين أن كبكبوا على وجوههم داخل منازلهم وخارجها نكال تكذيبهم رسول الله.

٩٢ ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ...) أي أن الذين استكبروا ووقفوا في وجه دعوة شعيب (ع) كأنهم لم يكونوا قد أقاموا في تلك البلاد ولم يعيشوا فيها مستغنين بها عما سواها. ويقال : غني بالمكان ، يغني غنىّ وغنيانا : أقام فيه ، كأنه استغنى به عن غيره. والمغاني المنازل كما لا يخفى. ف (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) كرر العبارة سبحانه وتعالى تأكيدا وتغليظا (كانُوا هُمُ) بذواتهم ، ودون غيرهم (الْخاسِرِينَ) وحدهم ، وقد نجا كلّ من آمن معه.

٩٣ ـ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ...) يعني أن شعيبا (ع) انصرف عن قومه وأعرض عنهم حين يئس منهم مع كثرة جدالهم له وسعة صدره معهم ، وقال لهم قد أديت إليكم (رِسالاتِ رَبِّي) جميع ما أمرني بتبليغه لكم من أوامره ونواهيه ، فلم تؤمنوا ، وبقيتم على عنادكم (وَ) قد (نَصَحْتُ لَكُمْ) وجّهت إليكم النصائح فلم تقبلوها ، فاستوجبتم هذا الجزاء الأليم الذي حلّ بكم. وكأنه (ع) التفت على قومه حال نزول العذاب بهم وقال : (فَكَيْفَ آسى) يعني لا أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) ولا أتألم لما نزل بهم مما استحقوه بالكفر والعناد والإرصاد لله ولرسوله وللمؤمنين به. والتعبير موجود في صورة الاستفهام ، ولكنه يراد به النفي قطعا : أي : لا آسى على هؤلاء الكفرة. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يدعو للكافر بالخير ، وأنه لا يجوز الحزن على هلاكه مهما كان شكل هلاكه.

* * *

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

٩٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا ...) أي لم نرسل نبيّا في بلدة ما ، إلّا أخذنا (أَهْلَها) سكانها (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) أي بالشّدة وما يضرّهم في أنفسهم وأموالهم إذا هم كذّبوه ووضعوا العراقيل في سبيل انتشار دعوته. نفعل بهم ذلك (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ليدعوا الله فينجّيهم ، وليتوبوا عن شركهم ويعودوا عن كفرهم وعنادهم. وأصل يضّرعون : يتضرّعون ، وقد أدغمت التاء في الضاد. وقد ذكر هذا وما يليه تسلية لقلب نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتطييبا لنفسه بعد تكذيب قومه له.

٩٥ ـ (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ...) يعني محونا السيئة بعد التوبة والرجوع إلى جادة الحق ووضعنا مكانها حسنة رأفة منّا بعبادنا. والتبديل هو وضع أحد الشيئين مكان الآخر. وعن ابن عباس : السيئة : الشّدة ، والحسنة : الرخاء. وقد سمّيت السيئة هكذا لأنها تسوء صاحبها. فنحن طالما رحمنا عبادنا ورأفنا بهم (حَتَّى عَفَوْا) يعني اعرضوا عن الشكر بعد أن كثروا وكثرت عليهم النّعم والعفو هو التّرك : من قوله سبحانه : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ). (وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي صار أحدهم يقول لغيره : ابق على ما أنت عليه ولا تعبأ بما يحلّ بنا فقد ابتلي من كان قبلنا بالضّيق والشدّة وبالسعة والراحة وما غيّروا ولا بدّلوا «ف» من كانوا كذلك (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) يعني فجأة ليعتبر بهم غيرهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يحسّون ما ينزل بهم من عذاب إلّا بعد حلوله ، ولا يعلمون متى ينزل بهم. والبغتة هي الأخذ فجأة ودون مقدمة تنذر بما يحصل : يقال : بغتة بغتا وبغتة ، وقيل :

وأنكأ شيء حين يفجأك البغت.

وحاصل ما في هذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى يأخذ عباده العصاة مرة بالشدة ومرة بالرخاء حتى إذا ظهر فسادهم في كل حال أخذهم على حين غرّة بعقاب تبقى حسرته في قلوبهم لأنهم لا يعرفون وقت حلوله.

* * *

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا

ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩))

٩٦ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...) لو : معناه تعليق الثاني بالأول الذي يجب الثاني بوجوبه وينتفي بانتفائه : كما يصح ذلك بأن وإن. وفتحت أنّ ، لوقوعها في موضع الفعل لأن : لو ، لا تدخل إلّا على الفعل عادة. والتقدير : لو حصل أن أهل القرى التي أهلكناها بسبب جحود أهلها وعنادهم (آمَنُوا) صدّقوا رسالاتنا السّماوية (وَاتَّقَوْا) المعاصي ولم يشركوا بنا (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) أنزلنا عليهم خيرات كثيرة (مِنَ السَّماءِ) بأمر منّا وبواسطة المطر وغيره (وَمِنَ الْأَرْضِ) بخصب النّبات والمزروعات والثمار والغلال (وَلكِنْ كَذَّبُوا) رسلنا وأنبياءنا (فَأَخَذْناهُمْ) بالعذاب (بِما) بسبب أنهم (كانُوا يَكْسِبُونَ) المعاصي والكبائر ومخالفة الرّسل ، فرميناهم بالعقوبات الشديدة.

٩٧ ـ (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ...) أي : هل أمن الجاحدون لك يا محمد أن يحلّ بهم عذابنا (بَياتاً) ليلا وهم بائتون قد أووا إلى بيوتهم للراحة أو (وَهُمْ نائِمُونَ) في مخادعهم داخل منازلهم كما فعلنا بمن كان قبلهم؟.

٩٨ ـ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ...) أي هل هم في أمن وثقة بالسلامة من أن يجيئهم عذابنا (ضُحًى) وقت ارتفاع الشمس بعد شروقها وفي صدر النهار (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي أثناء لهوهم وممارسة ما لا ينفعهم في دنياهم ولا في آخرتهم؟ وقد اختصّ سبحانه هذين الوقتين بالذكر ـ الليل والنهار ـ لأنه لا يجوز أن يأمن الناس نزول العذاب عليهم في وقت من الأوقات إن هم غووا وضلوا وأمعنوا في الكفر والجحود.

٩٩ ـ (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ...) سؤال توبيخيّ استهجانيّ ، يعني هل أمنوا بعد هذا كله (مَكْرَ اللهِ)؟ والمكر لغة الالتفاف والأخذ على حين غفلة.

ومما يدل على أنه الالتفاف قول ذي الرمّة :

عجزاء ممكورة خمصانة ، قلق

عنها الوشاح وتمّ الجسم والقصب

فالمكر التفاف في التدبير يحتوي مكروها لصاحبه.

وقد دخلت الفاء على : أفأمن ، للتعقيب. والمقصود بالمكر هنا العذاب ، وقد سمّاه مكرا لنزوله بحيث لا يعلمون. وقيل إن مكر الله للعباد يكون باستدراجهم بالصحة والسلامة ورغد العيش وطول العمر. ولكن في الواقع (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ) وأخذه على غرّة (إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين لم يعملوا لآخرتهم فباؤوا بالخسران. وفي هذه الشريفة بيان لما يجب أن يكون عليه المكلّف من الخوف ليبادر إلى طاعة الله جلّ وعلا.

* * *

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

١٠٠ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها ...) قرئ : أولم نهد بالنّون أيضا. وهذا استفهام أراد سبحانه به التقرير. والمعنى : أولم نبيّن ونوضح ، أو : ألم يبيّن الله تعالى للناس الذين يسكنون الأرض بعد الأمم الماضية التي أخذناها بالبأساء والضراء حين الجحود والطغيان (أَنْ لَوْ نَشاءُ) إذا أردنا (أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) رميناهم بعذاب فأهلكناهم عقابا لذنوبهم كما أهلكنا غيرهم من قبلهم؟ وقوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) : في موضع رفع على أنه فاعل ليهدي. والتقدير : أولم يهد لهم مشيئتنا (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) مرّ تفسير الختم على القلوب في سورة البقرة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لا يعون الوعظ ولا يقبلون الوعد ولا يهتمّون

بالوعيد.

* * *

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

١٠١ ـ (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ...) أخبر سبحانه عن القرى التي ذكرها في الآيات السابقة ، ثم خاطب نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (تِلْكَ الْقُرى) المذكورة (نَقُصُّ عَلَيْكَ) نحكي لك مفصّلا (مِنْ أَنْبائِها) أي أخبارها لتتفكّر بها ولتنذر قومك فيتفكّروا ويعتبروا بما نزل بها من أليم العذاب في الدنيا ، وليحذروا عاقبة ما هم عليه من إصرار على الكفر (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الدلالات الواضحة والحجج الدامغة. وقد قال : رسلهم ، مع أنهم رسله سبحانه ، لأن الرسول يملك الرسالة ، ولأن العباد يملكون الانتفاع بها بعد الاهتداء إلى الحق لما فيها من بيان. فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو رسول الله إلينا ، وهو رسولنا ونبيّنا ، والإسلام رسالتنا نقتنع بها ونستفيد منها ونحملها إلى غيرنا. أما أولئك المهلكون (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي لم نهلكهم إلّا بعد أن كان في معلومنا أنهم لن يؤمنوا بما كذّبوا به ، وأنهم سيستمرّون على العناد ، وقد عرفنا ذلك منهم قبل إهلاكهم ، فتمرّدهم لم يدعهم يتركوا خطّتهم ويفيئوا إلى الإيمان. فقد كذّبوا بمعجزات رسلنا ، وتبعهم هذا الخلف الذين مضوا على ما كان عليه آباؤهم من التكذيب. وقد جعل الأخفش لفظة : ما ، هنا مصدرية ، وهو

على حق في ذلك (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي أنه لما علم منهم ذلك جاز أن يضيف الطبع إلى نفسه إذ عرف أنهم لا يؤمنون. وفي المجمع قال : إن الله سبحانه شبّه الكفر بالصدإ لأنه يذهب عن القلوب بحلاوة الإيمان ونور الإسلام كما يذهب الصدأ بنور ـ بريق ـ السيف وصفاء المرآة .. وهذا هو الطبع على القلوب.

١٠٢ ـ (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ...) أي لم نر لأكثر من أهلكناهم من وفاء بعهد عهدناه إليهم. ويقال : هذا لا عهد له ، أي : لا وفاء له بالعهد. ويحتمل قويّا أن يكون قد أراد بالعهد ما أودعه سبحانه في العقول الحصيفة من وجوب شكر النعمة والاعتراف بجميل المحسن ، والابتعاد عن ممارسة القبائح ، أو ما أخذه على المكلّفين من أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) إن ، واللام ، هنا للتأكيد. والمعنى : إنّنا وجدنا أكثرهم يتعاطون الفحشاء والمنكر ، وينقضون العهد ولا يفون به.

* * *

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ

بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠))

١٠٣ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا ...) البعث : هو الإرسال ، وبعث الأنبياء هو نقلهم عن حالة الإنسانية إلى حالة النبوّة ، والمعنى أننا بعد الأمم التي أهلكناها ، أو بعد الأنبياء الّذين ذكرناهم ، أرسلنا ، موسى بمعجزات منّا وبدلائل وحجج (إِلى فِرْعَوْنَ) ملك مصر المتربّب (وَمَلَائِهِ) أشراف قومه وذوي الرأي منهم. وفرعون هذا اسمه الوليد بن مصعب ، وهو فرعون يوسف. وقد كان بين دخول يوسف (ع) ودخول موسى إلى مصر مقدار أربعمائة سنة (فَظَلَمُوا بِها) أي ظلموا أنفسهم بوضعها في غير المواضع اللائقة بها ، وبجحودهم لها. والظّلم كما لا يخفى هو وضع الحق في غير موضعه. وهذا كناية عن أن موسى عليه‌السلام جاءهم بالرسالة من ربّه فكذّبوه وهذا هو ظلمهم بها (فَانْظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) يعني كيف كانت نهاية أمرهم ومآل حالهم. وموضع : كيف ، في قوله : كيف كان ، نصب لأنه خبر كان. وتقديره : أنظر أيّ شيء كان عاقبة المفسدين.

١٠٤ ـ (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ...) هذه الآية الشريفة حكاية حال ما فاجأ به موسى (ع) فرعون وملأه حين قال لهم : إني نبيّ مرسل إليكم من قبل الله تعالى. وأتمّ تصديقا لرسالته قائلا :

١٠٥ ـ (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ...) إلّا الحق : منصوب على أنه مفعول للقول. والمعنى : أنني لن أقول إلّا الحق. وقال الزمخشري : حقيق عليّ قول الحق : أي واجب عليّ قول الحق وأن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلّا مثلي ناطقا به. وهو سديد بلا

ريب. أما الفراء فقال : حقيق بأن لا أقول على الله إلّا الحق. وعلى ، بمعنى الباء. كما تقول : رميت السهم على القوس ، أي بالقوس ، وجاءني فلان بحالة حسنة ، أي على حالة حسنة ، وهو حسن أيضا (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ) أي بمعجزة تبيّن صدقي في رسالتي ، هي (مِنْ رَبِّكُمْ) أعطانيها كدليل على صدق ما أقول (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي اتركهم من غلّ السّخرة وأطلق سراحهم ليعودوا إلى الأرض المقدّسة. فقد كان فرعون يستعبدهم ويكلّفهم بالأعمال الشاقة.

١٠٦ ـ (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها ...) أي : قال فرعون لموسى : إن كانت لديك حجة على صدق دعواك فأت بها : هاتها ، وأرنا إيّاها إذا صحّ ذلك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أنك رسول من الله إلينا.

١٠٧ ـ (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ...) أي : فرمى عصاه من يده في باحة المناظرة فظهرت حيّة تسعى ظاهرة للعيان بحيث تبدو للناس حية عظيمة ، ولم تكن ممّا يخيّل أنها حية وليست بحية كما في السحر والشعوذة. وخاف الحاضرون منها خوفا شديدا ، فقد قيل إنها أخذت قبة فرعون بين فكّيها اللّذين كان بينهما ثمانون ذراعا بذراع اليد ، فوثب فرعون عن عرشه وهرب منها وأحدث في ثيابه وهرب الناس ، ودخل فرعون منزله وصاح بموسى أن يأخذها وهو يؤمن به. فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت.

أما قصة العصا هذه ، فقيل إنه أعطاه إياها ملك حين توجّه إلى مدين. وقيل إنها عصا كانت لآدم ـ كما في المرويّ عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ هي من آس الجنّة جاء بها وكانت تنتقل بين أولاده إلى أنّ وصلت إلى شعيب (ع) ميراثا مع أربعين عصا غيرها. ولمّا استأجر شعيب موسى (ع) قال له : ادخل وخذ عصا من تلك العصيّ ، فوقعت تلك العصا في يد موسى. فاستردّها شعيب وقال : خذ غيرها ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات في كل مرة تقع يده عليها دون ما سواها ، فتركها له شعيب

في المرة الرابعة. فلما خرج من عنده بعد نهاية مدة الاستئجار وتوجّه نحو مصر ورأى النّار وأتى الشجرة ناداه الله تعالى : أن يا موسى ألق عصاك. فألقاها فصارت حية فخاف منها وهرب ، فناداه سبحانه : خذها ولا تخف ، فأدخل يده بين يده بين لحييها فعادت عصا كما كانت. فلما أتى فرعون ألقاها بين يديه كما ذكرنا وكان من سيرتها ما كان ... وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من خرج في سفر ومعه عصا لوز مرّ ، وتلا هذه الآية : ولمّا توجّه تلقاء مدين ، إلى قوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ، آمنه الله من كل سبع ضار ومن كلّ لصّ عاد ومن كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله ، وكان معه سبعة وسبعون من المعقّبات يستغفرون له حتى يرجع ويضعها ..

١٠٨ ـ (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ...) قيل إن موسى أخذ العصا فعادت إلى ما كانت عليه ، فهدأ روع فرعون وقومه ، فقال له فرعون : هل معك آية غير هذه؟ فقال : نعم ، ثم أدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ونزعها : أي أخرجها وأظهرها فإذا لونها أبيض ينير ويشعّ حتى يغلب شعاع الشمس مع أن موسى عليه‌السلام كان آدم ، أي أسمر. ثم أعادها إلى كمه ثانية وأخرجها كما كانت أولا. عند هاتين الآيتين العجيبتين :

١٠٩ ـ (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ...) أي قال جماعة فرعون إن هذا : أي موسى ، ساحر ماهر عالم بالسّحر متفوّق فيه. والسّحر لطف الحيلة في إظهار أعاجيب يتوهّم من يراها أنها معاجز فوق المستطاع والعقل. وقيل إنه صرف الشيء عن حقيقته ـ كما في المجمع ـ وأصل السّحر خفاء الأمر. وقد قال قوم فرعون ذلك ليفتنوا بسطاء الناس وليصرفوهم عن الإيمان بمعاجز موسى (ع) لأنهم آنسوا ميلا للإيمان من كثير من الحاضرين ، فقالوا هذا ساحر :

١١٠ ـ (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ؟ ...) أي يرغب في استمالة قلوب بني إسرائيل الذين هم قومه إلى نفسه ، وأن يتقوّى بهم وينتصر عليكم ويخرجكم من بلدكم ، فبماذا تشورون. وقيل إن هذا قول فرعون لقومه. وقيل بل هو قول الأشراف فيما بينهم. والحاصل أنهم طلبوا الائتمار والمشاورة ليعرفوا كيف يتصرّفون.

أما موضع : ما ، في : فما ذا تأمرون ، فيحتمل أن يكون رفعا ، ويكون : ف ، بمعنى الذي. فيصير المعنى : فما الذي تأمرون ، ويحتمل أن يكون محله نصبا ويكون : ما ، وذا ، اسما واحدا ويصير المعنى : فأي شيء تأمرون؟.

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

١١١ ـ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ...) قرئ : أرجه ، وأرجه بكسر الهاء وبغير همز بين الجيم والهاء. وقرئ : أرجئه بالهمز وضمّ الهاء. وأصل الفعل : أرجأت وأرجيت. والإرجاء على كل حال هو التأخير. فقد قال القوم لفرعون : أخّره وأخاه هارون واترك الحكم عليهما ، وقيل : احبسهما ، وهو ضعيف (وَأَرْسِلْ) ابعث رسلا (فِي الْمَدائِنِ) البلدان التي حولك (حاشِرِينَ) جماعة يحشرون لك السّحرة ويجمعونهم. وقيل إنه أرسل أهل شرطته وكانوا اثنين وسبعين رجلا ، وهؤلاء :

١١٢ ـ (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ...) أي يجيئوك ويحشروا إليك السّحرة المهرة ليأتوا ويعارضوا موسى ويناظروه بسحرهم. والفعل : يأتوك : مجزوم لأنه جواب الأمر والطلب ـ أرسل ... يأتوك ـ وعامل الإعراب فيه محذوف ، والتقدير : فإنك إن ترسل يأتوك. أما الباء في قوله : بكل ساحر ، فيحتمل أن يكون بمعنى : مع. أي يأتوك ومعهم كل

ساحر. وهذا كقولهم ذهب به ، وأتى به.

* * *

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

١١٣ ـ (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ ...) تقدير الكلام أن فرعون حشر الناس من المدائن وجمعهم إليه ، وقيل كانوا خمسة عشر ألف ساحر وقيل كانوا ثمانين ألفا أو أقل ، وقيل بل كانوا اثنين وسبعين ساحرا منهم اثنان من القبط ومنهما رئيس السحرة والباقون من الإسرائيليين ، وهذا هو الأقرب للمعقول. فحضر هؤلاء السحرة عند فرعون و (قالُوا) له : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً؟) أي عوضا وأجرة نقبضها على عملنا وتجيزنا بها (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إذا انتصرنا بسحرنا على موسى؟ ... ولفظة : نحن ، يحتمل أن يكون موضعها رفعا وتكون تأكيدا للضمير المتصل في كنّا ، ويحتمل أن تكون فصلا بين الخبر والاسم. فحين سألوا فرعون : هل لهم من جوائز على انتصارهم على موسى :

١١٤ ـ (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ...) ردّ فرعون بالإيجاب وقال : أجل إنني أعطيكم أجرا على ذلك ، وإنني أقرّب منزلتكم مني وأضعكم في مراتب راقية لا يصل إليها سائر الناس ، بل تصيرون من حاشيتي ومن ذوي الرأي عندي. وفي هذه الآية الشريفة يتجلّى ضعف فرعون وذلّته لأن احتياجه للسحرة دليل على ذلك .. أما لفظ : نعم ، فهو حرف جواب يجوز الوقف عليه ، وهو مثل : لا ، في النفي ، وكلاهما جواب لكلام يستغنى بدلالته عليه عما يتصل به.

١١٥ ـ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ...) الذين قالوا هم السحرة ، فإنهم طمعوا بالأجر الذي وعدهم به فرعون ، فخيّروا موسى قائلين له : إمّا أن تلقي : ترمي عصاك أولا ، أي قبلنا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أو أن نرسل بالسحر ما معنا من عصيّ وحبال وغيرها قبلك. وفي الكلام نكتة لغوية بديعة : فقد دخلت : أن ، في قوله : إمّا أن تلقي ، ولم تدخل في : إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم ، لأن في الكلام معنى الأمر ، فكأنه قال : اختر إمّا أن تلقي.

١١٦ ـ (قالَ أَلْقُوا ، فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ...) أي قال موسى (ع) للسحرة : ألقوا أنتم ما في أيديكم مما تسحرونه ، وابدأوا بشعوذتكم. وفي كلامه (ع) يظهر تهديده لهم وتقريعهم لافترائهم على الله ، فهو يتكلم من موقف قوة ويهزأ بهم ، فكأنه قال لهم : هاتوا ما عندكم واعملوا ما شئتم لنرى إذا كنتم على حق. فألقوا وسحروا أعين الناس باحتيالهم في تحريك العصيّ والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق الذي تمدّد بحرارة الشمس فحرّكها ، وفعلوا غير ذلك من الحيل والتلبيسات والتمويهات فخيّلوا للناس أشياء عجيبة (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي أخافوهم وأثاروا الرهبة في قلوبهم بأحابيلهم الباطلة إذ أروهم شيئا عجيبا لم يعرفوا حقيقته فأصابهم الرعب مما رأوه (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) وصفه سبحانه وتعالى بالعظمة لإتقان حيلتهم فيه ولشدة نجاح تمويههم في سحر

أعين الناس ، خصوصا وقد رأوا عشرات وعشرات الحبال والعصيّ كأنها حيّات تسعى وتتلوّى تحت أشعة الشمس.

١١٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ...) أي ألهمنا موسى بما يشبه الوحي وإلقاء شيء لم يشعر به غيره ، وهو : أن ألق عصاك : أي اطرحها في الأرض وارمها من يدك (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) يعني أنه ألقاها من يده بعد أن ألهمه الله تعالى ذلك ، فصارت ثعبانا عظيما يبتلع ما كذبوا به على الناس وصوّروه حيّات تسعى. أما عبارة : أن ألق ، فمصدرية والتقدير : وأوحينا إلى موسى الإلقاء. و : ما ، في : ما يأفكون ، بمعنى الذي : أي تلقف المأفوك ، وهي في محل نصب للفعل : تلقف ، ومعنى الإفك قلب الشيء عن وجهه في الأصل ، ومنه الكذب لأنه قلب الكلام عن جهة الصواب. وأما لقف فمعناها : لقم وابتلع.

١١٨ ـ (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ...) وقع : أي ظهر الحق : وهو أمر موسى (ع) وصحة نبوّته وصدق معجزته وصارت عصاه حية فعلا وابتلعت عصيّهم وحبالهم ، وبطل : صار باطلا لاغيا كلّ ما عملوه من تمويه وسحر ، فرأوا أن الأمر سماويّ لا يقدر عليه إلّا الله سبحانه فقد اختفت حيلتهم واختفت حبالهم وعصيّهم مع كثرتها الهائلة واحتوتها عصا موسى (ع) في بطنها وما زالت تبدو عصا عادية من غير زيادة في حجمها ، ففهم كلّ عاقل من الحاضرين أن الأمر فوق مقدور البشر ، فاعترفوا بالتوحيد وآمنوا بنبوّة موسى عليه‌السلام فصار إيمانهم حجة على فرعون وقومه.

١١٩ ـ (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ...) أي وقعت عليهم الغلبة والقهر ، وخذل فرعون وقومه ، وانقلبوا : انصرفوا من هذه المنافسة أذلة خاسئين قد حلّ بهم الصّغار والاحتقار :

١٢٠ ـ (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ...) أي أن السحرة لمّا رأوا الحق وأيقنوا بصدق معجزة موسى (ع) سجدوا لله سبحانه سجودا كأنّهم ألقوا إليه

إلقاء وحملوا على السجود حملا كتعبير عن شكرهم لله تبارك وتعالى على هدايتهم إلى أن هذه الآية من عند الله. والفعل : ألقي لم يظهر فاعله ، ليكون فيه معنى إلقاء السحرة ، هو ما رأوا من آية الله العظمى ودعاهم إلى السجود فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. وقيل إن موسى وهارون عليهما‌السلام قد سجدا شكرا لله على ظهور أمرهما ، فاقتدى بهما السحرة وسجدوا معهما. أما السحرة فإنهم :

١٢١ ـ (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ...) آمنّا : أي صدّقنا بوجود الربّ الذي خلق السماوات والأرض والناس ، وما بين السماوات والأرض من العوالم ، وأسلمنا لذلك الربّ العظيم :

١٢٢ ـ (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ...) أي الربّ الذي دعا إليه هذان النبيّان الكريمان : موسى وهارون. وقد خصّوهما بالذكر مع أنهما تشملهما لفظة : العالمين ، لأنهما هما الداعيان للإيمان به سبحانه وتعالى ، وقد شرّفوهما بذكرهم لهما تفضيلا لهما عن سائر من عداهما من الموجودين في زمانهما. وقيل ـ في المجمع ـ : إنهم فسّروا سجودهم بأن قالوا : آمنّا برب العالمين ، لئلا يتوهم أحد أنهم سجدوا لفرعون. ثم قالوا : ربّ موسى وهارون ، لأن فرعون كان يدّعي أنه ربّ العالمين فأزالوا بذلك كل وهم. وهو تعليل لطيف متين.

* * *

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ

آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

١٢٣ ـ (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ...) بعد إيمان السحرة وسجودهم وإعلان إسلامهم قال فرعون مستهجنا ومهدّدا : آمنتم : أي أقررتم وسلّمتم له بالصدق (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) يعني قبل أن أسمح لكم بالإيمان وأرخّصكم أو آمركم به؟ وقد قرأ حفص عن عاصم : آمنتم بهمزة واحدة بناء على الخبر ، أي أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع والإنكار. والباقون قرءوها بهمزتين بناء على الاستفهام. أي على جهة التقريع أيضا لكن مع الاستفهام الإنكاري ... وقد استأنف فرعون الكلام بعد أن قرّع وأنكر وثار غضبه ، ثم هدأ روعه ، فقال مقرّرا : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) أي خدعة صنعتموها ، وحيلة ابتدعتموها (فِي الْمَدِينَةِ) في عاصمة ملكي (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) لتطردوهم منها بسحركم ومكركم. وقد استعمل فرعون هذه الطريقة من استفزاز قومه وتحريك مشاعرهم ، فأخذ يوم الناس أن السحرة تواطأوا مع موسى وهارون لينتزعوا منهم ملكهم وأرضهم ، وأن إيمان السحرة ما كان عن علم ويقين ، بل عن مؤامرة مبيّتة للاستيلاء على مصر بعد إخراج أهلها منها (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها السحرة كيف تكون نهايتكم عندي وكيف أصنع بكم بعد هذا المكر الذي مكرتموه! ..

١٢٤ ـ (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ...) إنه يؤكّد باللّام والنون مقسما يمينا بأنه سيقطّع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف : يعني أنه يقطع من واحد يده اليمنى ورجله اليسرى ، ويقطع من الثاني يده اليسرى ورجله اليمنى ، وهكذا ، ثم لم يكتف بذلك بل أقسم : (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أصلبكم واحدا واحدا بعد تقطيع الأيدي والأرجل ، فأقيم الواحد على خشبة وأدق المسامير في يديه مفتوح الذراعين ، وفي صدره ، وفي رجليه وهو حيّ ، ليموت وهو على خشبته

التي صلب عليها. والصّلب هو الشد على الخشبة كما ذكرنا أو غيرها كالشجرة والنخلة.

١٢٥ ـ (قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ...) أي أن السحرة قالوا مجيبين فرعون على تهديده : إنّا منقلبون : راجعون إلى ربّنا وخالقنا الذي نوحّده مخلصين بعد رؤية آياته البيّنات ، وانقلابنا سيكون إلى ثوابه الذي يعطينا إياه على إيماننا به وتصديقنا لرسله. ويظهر في هذه الآية الكريمة تسليمهم الأمر لله ، والصبر على بلائه عند الشدة التي قد تنزل بهم على يدي فرعون الجبّار. ثم تابعوا قولهم لفرعون :

١٢٦ ـ (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا ...) أي لم يثر نقمتك علينا : لم تأخذ علينا شيئا تكرهه ولا تريده إلّا إيماننا بربّنا وخالقنا وتصديقنا بآياته التي جاءنا بها رسوله ، فلم نذنب معك ولا ارتكبنا جرما وليس لك علينا طعن إلا الإيمان بالله وآياته (لَمَّا جاءَتْنا) حين نزلت على رسوله وبلّغنا إياها ورأينا أنها آيات سماوية لا يقدر عليها إلّا الله سبحانه وتعالى (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي أنزل علينا الصبر على هذه الشدة وصبّه علينا صبّا لنتحمّل تقطيع الأيدي والأرجل والصّلب ، ووفّقنا للثبات حينئذ على ما نحن عليه من الإسلام والإيمان ، وتوفّنا : تلقّنا بعد الموت مسلمين على ما نحن عليه من العقيدة وهذا منتهى الإيمان واليقين والصبر على الشدائد. وقد جاء في المجمع : أن فرعون فعل بهم ذلك وصلبهم من يومه فكانوا أول النهار كفّارا سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة. وقيل بل عصمهم الله تعالى ، ولم يصل إليهم بسوء ، والله أعلم.

* * *

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ

أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩))

١٢٧ ـ (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ ...) بعد أن هدأت سورة فرعون وسكن غليانه ذكر الله سبحانه ما قاله له قومه بعد إسلام السحرة ليوغروا صدره على موسى ومن آمن معه إذ قالوا أتذر : أي تترك موسى (وَقَوْمَهُ) الذين أسلموا معه (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي ليظهروا مخالفتك ويتبعهم الناس على ذلك فيفسدوا الأمر عليك ويعبد الناس غيرك فيذهب ملكك؟ ... وعن ابن عباس أنه لمّا آمن السحرة آمن معهم ستمائة ألف من بني إسرائيل وصدّقوا بنبوّة موسى عليه‌السلام ، فقال أتباع فرعون : هل تدعهم هكذا فيخرج موسى عن طاعتك (وَيَذَرَكَ) يدعك (وَآلِهَتَكَ) أي ما تعبده أنت من الأصنام؟ فقد قيل إن فرعون كان يعبده الناس ، وكان هو يعبد الأصنام ويحمل الناس على عبادتها تقرّبا إليه. وفي المجمع أنه كان يعبد البقر ، ولذلك أخرج السامريّ لبني إسرائيل عجلا وقال هذا إلهكم. وقد روي عن عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس وابن مسعود أنهم كانوا يقرءون : ويذرك آلهتك ، أي ربوبيّتك (قالَ) فرعون مجيبا قومه : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) فنفني شبابهم الذين يمكن أن يشدّوا أزرهم في الحروب (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) نبقى بناتهم ونساءهم للخدمة وإذلالا لهم. ويلاحظ من محتوى الآية الكريمة أن فرعون قد خشي محاولة البطش بموسى وأخيه عليه

السلام ، وخاف من أمرهما السماوي ، فلم يذكر أنه سيقتلهما لما رأى من علوّ شأنهما وصدق دعوتهما ، فعمد إلى تقتيل الأبناء واستحياء النساء قائلا : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي متمكّنون من إخضاعهم .. وقد قرأ بعضهم : سنقتل بالتخفيف ، وهذه الصيغة تقع أيضا على التكثير من القتل ، ولكن : سنقتّل تبقى الأصح والأخص بالمعنى كما لا يخفى على اللبيب.

١٢٨ ـ (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ...) من المعلوم أن فرعون كان يذبح الصّبيان من أطفال الإسرائيليين قبل حادثة السّحر ليذبح في من يذبحه موسى كما زعم. ولما كان من أمر السّحر ما كان ، عاد فرعون فأمر بإعادة قتل الذكور ، فشكا بنو إسرائيل أمرهم لموسى (ع) فقال لهم : استعينوا بالله : خذوه عونكم على دفع كيد فرعون ، ورفع هذه الشدّة ، واصبروا على هذا البلاء وعلى دينكم الذي هداكم الله تعالى إليه (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) فهو مالك الملك ، وهو تعالى (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ينقلها ممّن يكون ملكا فيها إلى من يريده هو جلّ وعلا ، وهو قادر على إهلاك فرعون كما أهلك من قبله ، فما عليكم إلّا الصبر (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والفوز لمن اتّقى ورضى بقسمة الله سبحانه. ونلفت النظر إلى أنه إذا قيل : العاقبة له ، فهو في الخير. وإذا قيل : العاقبة عليه ، فهو في الشر.

١٢٩ ـ (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا ...) القائلون هم بنو إسرائيل الذين شكوا أمرهم إلى موسى (ع) بأنهم حلّت بهم أذية فرعون وعذابه قبل أن يجيئهم بالرسالة والنبوّة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) بها مؤخّرا ، ففرعون يقتل ويصلب ويذبح ويكلّفنا بأشقّ الأعمال ، فأين وعدك لنا بالنجاة والخلاص من هذا الذي نعانيه؟ فجدّد موسى (ع) لهم الوعد و (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) أي : أوجب الله سبحانه على نفسه إهلاك عدوّكم. فلفظة : عسى ، فيها معنى الطمع والإشفاق ، ولكن المفسرين قالوا : إنها من الله واجب ليس فيه شيء من ذلك ولا من التمني ، وهو

جيد. فسيهلك الله فرعون وقومه (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلكم خلفاء بعدهم ويملّككم ما يملكونه (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يرى منكم فعلكم حين تصيرون ورثة الأرض والملك فيها ، وهل تشكرونه على النعمة كما صبرتم على البلاء أم لا.

* * *

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

١٣٠ ـ (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ ...) يقال : أخذتهم السّنة إذا كانت قحطا. وأسنت القوم : أجدبوا. ولا يقال أخذتهم السّنة إذا كانت مخصبة لأن المجدبة نادرة في الوقوع. وقد قال الشاعر :

كأنّ الناس إذ فقدوا علياّ

نعام جال في بلد سنينا

أي في بلد قحط وجدب قد أخذته السنون. وعلى هذا الأساس من المعنى قال سبحانه : أخذنا آل فرعون بالقحط والجدب بعد طغيانهم مقسما على ذلك ومؤكّدا ب : ولقد ، التي لأمها للقسم. وآل الرجل هم خاصّته الذين يؤول أمرهم إليه أو يؤول أمره إليهم. فقد أصاب الله قوم

فرعون الذين هم آله بجدب (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) فلم تثمر أشجارهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي بأمل أن يتذّكّروا ويتفكروا ويعودوا إلى الحق ، فإن الشدة تجعل القلب رقيقا يرغب فيما عند الله تعالى ويرجو لطفه ورحمته ، وهذا من باب قوله عزّ من قائل : وإذا مسّه الشرّ فذو دعاء عريض. فالله سبحانه رؤف بعباده يريد منهم التذكّر والرجوع إليه ليصرف البلاء برحمته.

١٣١ ـ (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ...) أي أن بني إسرائيل كانوا إذا جاءتهم النّعمة والخير والسلامة والتوفيق قالوا إننا أهل لذلك لأن النعم والسلامة تأتياننا من تعبنا وعنايتنا وشغلنا ، فهم ـ إذا ـ لا يعلمون أن ذلك من الله تبارك وتعالى فيشكرونه ويحمدونه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) تحلّ بهم بلية أو ضيق أو جوع (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) يعني : يتطيّروا ، وقد أدغمت التاء في الطاء. ومعناه : يتشاءمون بموسى وأتباعه ويرون أنهم هم سبب البؤس والشر المحيق بهم (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي أن التشاؤم الذي ابتلوا به هو نذير لهم من عند الله ينبّههم به إلى ما وعدهم من عذاب الآخرة ، فلو كانوا يعقلون للجأوا إلى الله وطلبوا منه الخير والسلامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون حقيقة ذلك ليثوبوا ويتوبوا. ولفظة : طائر ، مشتقة من الطير ، وطائر الإنسان عمله وفيه قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ). وقد أخذ ذلك من أن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالطائر الذي يأتي من الشّمال ، وتتبرّك بالطائر الذي يأتي من جهة اليمين.

١٣٢ ـ (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ ...) أي : قال آل فرعون لموسى (ع) : إنّ أيّة آية تجيئنا بها لتصرفنا عن دين فرعون و (لِتَسْحَرَنا بِها) وتموّه علينا بها (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) فلسنا نصدّقك ولا نؤمن بدعوتك ولا بالدين الذي جئت به. وهذا إصرار منهم على الكفر والعناد ، ولذلك قال سبحانه بعد تمام الحجة عليهم :

١٣٣ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ ...) أي بعث سبحانه عليهم الطوفان وهو الماء الذي يغمر الأرض بما فيها ويخرج عن المعتاد. وقد اختلف المفسرون في الطوفان الذي أصاب آل فرعون ؛ فقيل هو الطاعون ، أو الموت الذريع ، أو الجدريّ ، وعن ابن عباس أنه أمر من أمر الله طاف بهم والله أعلم. فقد أصابهم الطوفان الذي عناه سبحانه وتعالى (وَالْجَرادَ) المعروف الذي يأكل الأخضر واليابس (وَالْقُمَّلَ) الذي قيل إنه صغار الجراد أو الجراد الذي ليس له أجنحة ، كما قيل إنه البراغيث وأشباهها ، أو السوس. وأرسل عليهم (الضَّفادِعَ) أيضا (وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) أي معاجز ظاهرة لا يقدر على تسليطها إلّا الله تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا) مع ذلك أي تكبّروا عن الإيمان والتصديق بالحق (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي كافرين وعاصين ، والجرم هو الذّنب ، وليس بعد الكفر ذنب أكبر منه أو مواز له.

أما القصة المرويّة عن هذه البلايا فهي ـ كما عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وعن ابن عباس وابن جبير ـ باختلاف يسير في الروايات ، وباختصار :

لمّا آمن السّحرة ومن تبعهم ورجع فرعون مغلوبا مقيما على الكفر هو ومن تبعه ، نصحه هامان بحبس جميع من آمنوا ففعل. فتتابعت عليهم آيات الله تعالى تأديبا لهم وغضبا لعباده. فأرسل الجرب ، ثم بعث الطوفان فخرّب بيوتهم فقعدوا في الخيام ولم تصب بيوت الإسرائيليين بأذى ، فطلبوا من موسى رفع المطر عنهم فدعا ربه فرفعه فلم يؤمنوا ولم يعطوه بني إسرائيل ليخرج بهم من مصر. وصحّت زروعاتهم في تلك السنة فبقوا على إصرارهم ، فأرسل الله عليها الجراد فأكلها وأكل أبواب بيوتهم وبعض أمتعتهم وثيابهم ولم يفعل ذلك مع أتباعه عليه‌السلام. فضجّ فرعون وقومه وطلبوا من موسى رفع هذا البلاء بمقابل دفع بني إسرائيل إليه ، فخرج إلى العراء وأشار بعصاه إلى المشرق وإلى

المغرب فرجع الجراد من حيث أتى. ولكن فرعون لم يف بوعده ، فبعث الله عليهم الجراد الذي لا أجنحة له وهو أخبث أنواع الجراد فلحس الأرض كلها ، وقيل بل هو قمل كان يدخل ثوب الواحد منهم فيعضّه ، ويدخل في الطعام والشراب ، ويتخلل الشّعر وأشفار الجفون ، فهلعوا لذلك وهرعوا مع فرعون إلى موسى يقسمون له الأيمان على أنهم يطلقون بني إسرائيل إن هو أجارهم وجنّبهم هذا البلاء العجيب ، ففعل سلام الله عليه ، ولكنهم مع ذلك نكثوا معه العهد ، فسلّط الله تعالى عليهم الضفادع التي دخلت في بيوتهم ، ونزلت في قدورهم التي يطبخون فيها ، بل كانت تثب إلى حلوقهم إذا تكلموا ، فعادوا بالشكوى إلى موسى ووعدوه بالتوبة وعدم العودة إلى ما أخلفوا به ، فأخذ عليهم العهود والمواثيق ثم دعا الله فكشف الضفادع عنهم ، فنقضوا العهد كما هي عادتهم فأرسل عليهم الدم حتى سال نهر النيل يراه القبطي دما ، ويراه الإسرائيلي ماء ، فيشربه الإسرائيلي سائغا ، وإذا تناوله القبطي تحوّل دما ، فعطشوا ومضغوا غصون الأشجار فصار ماؤها دما ، فشربوا من ذلك فحلّ بهم الرّعاف فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنّا ذلك لنؤمن لك ، ففعل وبقوا على الكفر والعناد ، فاستحقّوا غضب الله بعد هذه الآيات التي تكلّم عنها أيضا فيما يلي فقال سبحانه :

* * *

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦))

١٣٤ ـ (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ...) الرّجز : معناه هنا العذاب ، وقد عرضنا لتفسيره اللغوي سابقا. وهذا يعني أنه حين حلّ بهم العذاب مما نزل بهم من الطوفان وغيره مما ذكرناه في الآيات السابقات كالطاعون الذي مات منه سبعون ألفا ـ وكالذي روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام من أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم يعهدوه قبله ، فعند ذلك (قالُوا : يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي اطلب منه (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما تقدّم إليك منه أن تدعوه فيجيبك ، أو بعهد النبوّة التي منحك إياها. وعلى هذا تكون الباء في : بما ، باء القسم ، ويكون المعنى : بحقّ ما بعثك به من النبوّة إلّا ما دعوت الله ليزيل عنّا هذا العذاب ، و (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ) أي دفعته عنّا (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) لنصدّقنّ أنك رسول الله (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) نطلقهم من الأسر والخدمة ونجعل أمرهم إليك.

١٣٥ ـ (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ...) يعني : حينما رفعنا العذاب عنهم إلى وقت مقدّر ومؤجّل هم بالغوه : أي واصلون إليه لا محالة (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) فإذا بهم ينقضون العهد ويخلفون الموعد. وحينها استحقوا عقاب الدنيا الحقيقيّ قبل عقاب الآخرة ، ووقع عليهم عذاب الله الذي أخبر سبحانه عنه بقوله :

١٣٦ ـ (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ...) أي فحلّت ـ حينئذ ـ نقمتنا فيهم وجزيناهم بسوء عملهم المتكرر عذابا بالغرق (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي البحر (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) لم يصدّقوها واعتبروا حججنا كاذبة وقالوا إن معاجز موسى سحرا (وَكانُوا عَنْها) عن آياتنا ودلائلنا (غافِلِينَ) معرضين ، كأنّ عملهم عمل الغافل الذي لم يع ما أنذره به موسى عليه‌السلام.

* * *

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ

الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧))

١٣٧ ـ (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...) بعد أن بيّن سبحانه ما أنزله بفرعون وقومه من الغرق والهلاك قال تعالى إنه أورث بني إسرائيل الذين كانوا يستضعفونهم ويستخدمونهم (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعني الأرض الواقعة في جهتي الشرق والغرب. وقيل شرق بلاد الشام وغربها. وقد انتصبت اللفظتان إمّا على أنهما مفعول به لأورث وإمّا على الظرفية بتقدير : أورثناهم الأرض في مشارقها ومغاربها (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بما تنبته من الزرع الخصيب والثمار المنوّعة وبما فيها من العيون والأنهار ، التي تكثر فيها البركة والخير (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) يعني : وبذلك أنجز الله سبحانه وعده الحسن وأفاض الخير (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وأتم النعمة على أتباع موسى. وكلمات الله سبحانه كلها حسنة ، وقد خص هذا الإنجاز بكونه حسنا لأنهم كانوا يحبّونه ويتوقون إليه ، وقد جزاهم ذلك (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على ما ابتلاهم به من ظلم فرعون (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ) أي خرّبنا وأهلكنا ما كان يعمله (فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) من القصور والمساكن الفخمة ، وَخرّبنا (ما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي ما كانوا يغرسونه من الأشجار والأعناب وغيرها مما يثمر. وقيل ما كانوا يبنونه من سقوف بيوتهم وقصورهم.

* * *

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ

آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

١٣٨ ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ...) جاوز بهم البحر : أي أخرجهم عن حدّه فقطعوه واجتازوا مساحته وصاروا خلفه. والبحر الذي عناه هنا هو نهر النيل فقد جعل سبحانه لهم فيه طرقا يابسة حتى عبروه ، ثم أغرق آل فرعون فيه حين حاولوا عبوره (فَأَتَوْا) أي مرّ بنو إسرائيل بعد تجاوز البحر (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) أي يلتفّون من حول أصنامهم ويقيمون من حولها ملازمين لها ، وكانت تماثيل بقر قد أعجبت بعض ضعفاء الإيمان من الإسرائيليين ف (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) أي اصنع لنا نصبا نعبده ونرمز به إلى إلهنا كهذه الآلهة. وفي هذا دلالة على جهل القائلين وضعف إيمانهم فإن المؤمنين الأخيار لم يطلبوا ذلك لما رأوا من آيات ربهم العظمى. عندئذ (قالَ) لهم موسى عليه‌السلام : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون عظمة ربكم ولم تدركوا صفاته العليا ، ولولا ذلك ما قلتم هذا القول السخيف. ثمّ أتمّ قائلا :

١٣٩ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ ...) أي إن هؤلاء المقيمين على عبادة الأصنام من دون الله ، متّبر : مدمّر ما هم فيه من أصنام وعبادة ووثنية وكفر (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أن عملهم باطل لا يجلب لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرّا ، لأنهم يعبدون تماثيل لا تسمع ولا تعقل.

١٤٠ ـ (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً ...) أي أن موسى عليه‌السلام تابع كلامه الموجّه لقومه قائلا : هل أبغيكم : ألتمس لكم وأطلب إلها : ربّا ومعبودا غير الله تعالى (وَهُوَ) سبحانه (فَضَّلَكُمْ) قدّمكم وخصّكم بالفضائل وآثركم (عَلَى الْعالَمِينَ) يعني الناس من أهل زمانكم ، ومنحكم ما لم يمنحه لغيركم في عصركم كما رأيتم مما جرى في حكمه لكم وحكمه على فرعون وقومه إذ أهلكهم وأسكنكم الأرض من بعدهم؟ ثم ذكّرهم سبحانه بفضله عليهم فقال :

١٤١ ـ (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) أي أنه تعالى قال لبني إسرائيل : اذكروا يوم أنجيناكم : خلّصناكم من آل فرعون : قومه ، ولا تنسوا ما أنعمنا به عليكم وعلى أسلافكم من الامتنان ، لأن آل فرعون كانوا (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي ينزلون بكم أشدّ العذاب وأسوأه إذلالا لكم واحتقارا إذ كانوا (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) أي يكثرون القتل فيهم ذبحا وقتلا وصلبا (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يبقونهنّ للخدمة والعمل المفيد لهم (وَفِي ذلِكُمْ) أي في الذي فعلناه من نجاتكم بعد هذا الإذلال (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي ابتلاء عظيم ، وقيل نعمة من ربكم عليكم.

* * *

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ

لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤))

١٤٢ ـ (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ...) أي جعلنا لموسى موعدا ننزل عليه فيه التوراة وجعلنا اللقاء بعد أربعين ليلة منذ عرّفناه ذلك ، وذلك من أجل أن يتطّهر ويصوم ويتبتّل لله سبحانه قبل الموعد. ولم يقل أربعين ليلة هنا رأسا كما قالها سبحانه في سورة البقرة لأن العدة كانت ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، ولو لم يقل ثلاثين أولا لما علم أن الابتداء كان أول الشهر. وقيل إن العشر التي أتمّها بها هي الوقت الذي أنزلت فيه التوراة ، وعن الباقر عليه‌السلام أنه ذكر لهم الثلاثين ليستهل عليهم أمر غيابه ولا يستبطئوه إذا ذكر الأربعين (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الميقات هو الوقت المقدّر لعمل يعمل فيه ، والوقت يشمله ويشمل غيره ، ولا يجوز أن يتوهم متوهّم أنه أتمّ الثلاثين بعشر حتى صارت ثلاثين ، ولذلك ذكر سبحانه لفظ الأربعين الذي به ينتهي الميقات. ولفظ : أربعين ، هنا منصوب على الحال وتقدير الكلام : معدودة أربعين ليلة (وَقالَ مُوسى) حين خرج إلى الميقات وفارق قومه ، قال (لِأَخِيهِ هارُونَ : اخْلُفْنِي) يعني كن خليفتي النائب عنّى (فِي قَوْمِي) من بني إسرائيل (وَأَصْلِحْ) في حكمك بينهم كما هي عادتك من الصلاح والإصلاح. وقيل : أراد : أصلح ما يفسد من أمورهم واجعلهم مطيعين لله أثناء غيبتي (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي لا تسلك طريقة أهل الفساد والمعاصي. وموسى ـ كما لا يخفى ـ يجل أخاه عن ذلك ، ولكنه يخاطبه ويعني قومه ، فإن هارون نبيّ يجل عن سلوك طريقة العصاة ، إلا أن موسى (ع) هو صاحب الرئاسة على هارون وعلى

بني إسرائيل جميعا ومرتبة هارون أقرب إلى الولاية والإمامة منها إلى النبوّة ، بدليل أنه ردء ، وأنه مستخلف وأنه لا يتلقّى الوحي وغير ذلك من شؤون النبوّة.

١٤٣ ـ (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ...) أي حين حضر موسى (ع) إلى المكان المعيّن في الوقت المقرّر لنكلّمه وننزل عليه التوراة. ولفظ الميقات يقع على الزمان وعلى المكان كما لا يخفى على الحاذق. فإن موسى حين انتهى إلى المكان في الوقت المحدّد (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) سبحانه وتعالى من غير سفير ولا وحي كما كان يكلّم الأنبياء على ألسنة الملائكة. ولا يخفى أيضا أن الكلام عرض لا يتم إلّا بجسم ولذلك سمع كلامه سبحانه من الشجرة التي ذكرها في غير هذا المكان وجعلها محلّا للكلام كدليل على القدرة الربّانية ، وقيل أسمعه كلامه من الغمام والأول أصح لذكره في القرآن الكريم. فحين كلّمه ربّه (قالَ) موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) يعني : أرني نفسك.

وقد اختلف العلماء في وجه مسألته هذه في الوقت الذي هو نبيّ يعلم أنه عزوجل لا يدرك بالحواس.

فقال الأكثرون : إنه سأل الرؤية لقومه ولم يسألها لنفسه ، لأنهم هم الذين قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الرجفة. وقد جوّز هؤلاء القائلون سؤال موسى لقومه ما يعلم استحالته ليحصل لهم على الجواب الكافي الشافي.

وقال آخرون : إنه لم يسأل رؤية بصرية بل سأل إراءته بعض علائم الآخرة أو غيرها مما يزيل الشكوك ويغني عن الاستدلال ، وذلك كسؤال إبراهيم عليه‌السلام حين قال : ربّ أرني كيف تحيي الموتى. فالرؤية القلبية تفيد العلم واليقين كالرؤية البصرية.

وقال غيرهم : سأل رؤية بصرية لعظمته سبحانه على غير وجه التشبيه.

وكل هذه الأقوال تعليلات لظاهر طلبه (ع) فقد طلب ما طلبه إبراهيم عليه‌السلام مما يرسّخ العقيدة ويعمّق الإيمان مع جلالة رتب الأنبياء عليهم‌السلام ف (قالَ) الله تبارك وتعالى : (لَنْ تَرانِي) لا تراني أبدا لأن : لن ، تنفي للتأبيد ، كقوله : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) ، وقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أمره سبحانه بالنظر إلى الجبل وعلّق رؤيته على استقرار ذلك الجبل الذي لا يستقر إذا تجلّت له قدرة الله ، فموسى لا يرى ربّه الذي جلّ عن الشبيه لأنه ليس بجسم ليرى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي حين ظهر أمر ربّه للجبل وما فيه ومن فيه ، وبدت آياته التي أحدثها في الجبل (جَعَلَهُ دَكًّا) أي خسفت به الأرض وصار مستويا مع ما حوله كأنه ساخ وابتلعته الأرض. وقيل إن الله تعالى أبرز من العرش مقدار الخنصر فاندكّ به الجبل. وقال ابن عباس : معناه : ظهر نور ربّه للجبل فاندكّ (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي وقع مغشيّا عليه ، ومات السبعون الذين كانوا معه كلّهم من هول الظاهرة الهائلة (فَلَمَّا أَفاقَ) حين انتبه من غشيته التي قيل إنها حدثت عشية الخميس يوم عرفة وانتهت عشية يوم الجمعة وعندها نزلت عليه التوراة وفارقته صعقته وعاد إليه وعيه ف (قالَ سُبْحانَكَ) تنزيها لك عمّا لا يليق بك ، أو تنزيها لك عن أخذي بما فعل السفهاء من قومي حين طلبوا رؤيتك إني (تُبْتُ إِلَيْكَ) أقلعت عن أن أسأل ما ليس لي به علم. وهذا تسبيح منه وتهليل بعد ما ظهر له أمر جليّ جعله ينقطع إليه سبحانه وينيب إليه قائلا : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : معناه : أنا أول من آمن وصدّق بأنك لا ترى.

١٤٤ ـ (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ...) أي : قال الله جلّ وعلا لموسى : إني اصطفيتك : اخترتك وأخذتك صفوة من الناس بما فضّلتك عليهم (بِرِسالاتِي) التي بلّغتك إياها دون كلام (وَبِكَلامِي) من غير رسالة وهو ما سمعته عند طلب الرؤية. ومن المستحسن أن نشير إلى أنه سبحانه لم يكلّم سوى الملائكة ، ولم يكلّم من البشر سوى

موسى عليه‌السلام على الطور ، ثم كلّم نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سدرة المنتهى كما ذكر في سورة النجم .. فخذ يا موسى (ما آتَيْتُكَ) أي ما أعطيتك من التوراة واعمل بما أمرتك به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الحامدين لي على نعمتي وأفضالي.

* * *

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

١٤٥ ـ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ...) يعني سجّلنا لموسى (ع) في الألواح : مفردها لوح ، وهي التوراة التي نزلت من السماء مسجلة على ألواح زمرّد طولها عشرة أذرع ، كتب الله عزوجل فيها (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل ما يحتاج إليه في أمر الدين (مَوْعِظَةً) أي جعلنا كل شيء مسجل فيها موعظة يتّعظ بها الناس ، فاللفظة بيان لذلك وتفسير له (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) مما يتعلق بأوامر الله تعالى ونواهيه وحلاله وحرامه

وذكر الجنة والنار وغير ذلك مما تعمّه عبارة : كل شيء (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وهذا خطاب لموسى (ع) يعني به : خذها بجدّ وقوة قلب ، وباجتهاد وصدق عزيمة (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي احمل قومك على أخذ أحسن ما فيها من فرائض الله سبحانه ونوافله. وقيل : أن يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ ، وهو رأي لا يعتدّ به لأن المنسوخ لم يعد حسنا (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) التي هي جهنم كما لا يخفى ، فإنه سيريها للناس يوم القيامة ، فليكونوا على حذر منها. وقيل معناه : سأريكم ديار فرعون وقومه ، وديار الأمم السالفة التي انتقمنا منها وأنزلنا بها العذاب لتعتبروا برؤية ما حلّ بها.

١٤٦ ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ...) أي سأحوّل نظر المتكبّرين في الأرض عن دلائلي التي تثبت النبوّة وتهدي إلى الحق فتظهر لهم بحيث لا ينتفعون بها كغيرهم من المؤمنين. وقيل معناها : سأمنع المتكبّرين آياتي ومعجزاتي وأخص بها الأنبياء الذين هم أهل لها ، وهو ضعيف. وقيل أيضا : الصرف معناه المنع من إبطال الحجج والبراهين والآيات والقدح فيها بشكل يخرجها عن كونها أدلة مقنعة ، أي : أصرفهم عن القدح في صحة دلالتها ، وألجم ألسنتهم عن الخوض في الطعن فيها. وقيل غير ذلك مما هو مذكور في التفاسير موسعا ، والأول أصح الأقوال ، لأنهم مستحقّون للصرف بسبب تكذيبهم وذهابهم مع كبريائهم وعجرفتهم ، وخصوصا إذا كانوا من المتكبّرين في الأرض (بِغَيْرِ الْحَقِ) فإن صاحب الحق سلطان ، والحق يعلو ولا يعلى عليه. فالمتكبّرون معاندون في كل حال (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) أي إذا رأوا أيّة دلالة أو حجة تدل على وحدانية الله سبحانه وصدق النبيّ الذي جاء بها ، لا يصدقون بها. وفي هذا القول منه تعالى دليل واضح على إخباره عنهم بعلمه السابق بهم وبكونهم يكذّبون رسله وأنبياءه (و) أنهم (إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) والرّشد هو الهدى الذي لا يسلكون الطريق المؤدية إليه ، والسبيل هي الطريق ، الرشد أيضا سلوك

طريق الحق (وَ) هم أيضا (إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي طريق الضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) طريقا لهم ويمضون فيه (ذلِكَ) إشارة إلى اتّباعهم طريق الغيّ وتركهم طريق الإيمان ، أو صرف أنفسهم عن الآيات. والتقدير : أمرهم ذلك (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا وبمعجزات رسلنا (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) لا يتفكّرون بها ولا ينتبهون إلى أهميتها ، شأنهم شأن الغافل الحقيقي الذي يسهو عمّا يجري حوله. ثم توعّد تعالى اسمه المكذّبين بقوله :

١٤٧ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ...) أي : الّذين لم يصدّقوا بلقاء الله سبحانه يوم البعث والحساب ، فأولئك (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) يعني حصلت على غير الوجه المطلوب فكانت ملغاة كأنها لم تكن. و (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ليس يجزون إلّا بعملهم السيّء ، لأن الاستفهام هنا جاء استنكارا وتوبيخا.

* * *

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ

الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

١٤٨ ـ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً ...) اتّخذ تعطي معنى الاختيار ، وهؤلاء الذين عاد سبحانه إلى ذكر قصتهم من بني إسرائيل ـ وهم السامريّ ومن مشى على طريقته ـ اتّخذوا من بعده : بعد مضيّ موسى إلى الميقات لتلقيّ الألواح ، من حليّهم : أي مما تحلّوا به من الذهب وتزيّنوا به ، جعلوا منه (عِجْلاً جَسَداً) أي صورة وتمثالا لولد البقرة مجسّدا لا روح فيه. وقرئ : حليّ : جمع حلي ، وحليّ بالكسر للحاء واللام على وزن قسيّ ، وحليّ كاسم جنس يقصد به الواحد والكثير. وموضع العبارة : من حليهم ، نصب على أنه مفعول به لاتّخذوا ، بتقدير : اتّخذوا حليّهم .. وهذه الحلي كان بنو إسرائيل قد استعاروها من الأقباط ليتزيّنوا بها يوم عيدهم ، ولبسوها وبقيت معهم يوم أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون ، فصنع منها السامريّ عجلا أثناء غياب موسى (ع) في الطور ثم أخذ قبضة من تراب أثر فرس جبرائيل (ع) يوم اجتاز البحر ، فقذفها في فم العجل فتحوّل لحما ودما وقيل : لم يكن سوى تمثال جامد بدليل لفظ «الجسد» وهو الصحيح. وقد حدث (لَهُ خُوارٌ) أي صوت وروي جؤار في الشواذ. وكان السامريّ محترما منهم ، فأطاعوا أمره حين قال لهم : هذا إلهكم ، وعصوا أمر هارون عليه‌السلام ، وأذاع السامريّ بينهم أن موسى (ع) قد مات وأنه لا يرجع إليهم ، فصدّقوه بعد أن سمعوا خوار العجل الصادر عن الرّيح التي كانت تمر في جوفه فتحدث صوتا يشبه صوت العجل ، وشجّعهم على قبول رأيه أن موسى لم يعد إليهم على رأس الثلاثين ليلة كما وعدهم ، فعبدوا العجل فقال سبحانه وتعالى : (أَلَمْ يَرَوْا) يلاحظوا ويعلموا (أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) أي لا يخاطبهم بما فيه نفع أو دفع ضرر (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) لا يرشدهم إلى طريق الهدى. فبيّن لهم عزّ وعلا أنه جماد لا ينفع ولا يضر

فكيف يصلح أن يكون إلها ومعبودا؟ (اتَّخَذُوهُ) برغم ذلك ربّا (وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم لأنهم عبدوا صنما جامدا.

١٤٩ ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا ...) سقط في أيديهم : أي وقع البلاء في أيديهم ، وهذه العبارة تقال للنادم الذي يجد خلاف ما ظنّ والمعنى : أنهم لمّا ظهر خسرانهم ورأوا ضلالهم عن الحق بتأليه العجل وعبادته (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) أي إذا لم يرأف بنا ويقبل توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنا) ذنب عبادة العجل (لَنَكُونَنَ) نصيرنّ (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين يستحقون العقاب على فعلهم القبيح. وقرئ : لئن لم ترحمنا ربّنا بضمير الخطاب لله عزّ اسمه وعلى سبيل الدعاء مع حذف حرف النداء ، أي : يا ربّنا إن لم ترحمنا إلخ ...

١٥٠ ـ (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ...) أي : حين عاد موسى من ميقات ربه ورأى قومه يعبدون العجل ، تلقّاهم أسفا : حزينا من تصرّفهم. وقد عاد فعلا غضبان مما رأى قومه عليه ، متأسفا على ما مضى من لحظات مناجاة ربه جلّ وعلا ، ف (قالَ) لهم : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) أي ساء فعلكم الذي فعلتموه بعدي (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) يعني استعجلتم ولم تصبروا لذلك الأمر وحسبتم أنني قد متّ لمّا لم أرجع على رأس الثلاثين ليلة وتأخرت إلى الأربعين؟ وقيل إن المقصود هو : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتي أمر ربّكم ، أو استعجلتم وعد الله؟ (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي رمى الألواح التي تقدّم ذكرها من يده لشدة غضبه وجزعه من ضلال قومه الذين قيل إنهم جميعا عبدوا العجل ما عدا هارون ، ولذلك قال عليه‌السلام : ربّ اغفر لي ولأخي. وروي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يرحم الله أخي موسى (ع) ليس المخبر كالمعاين. لقد أخبره الله بفتنة قومه وقد عرف أن ما أخبره ربّه حق ، وإنه على ذلك لمتمسك بما في يديه. فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح .. (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي أمسك به وجذبه إليه كما يفعل الإنسان حين يغضب فيقبض على لحيته ويشدها ، أو يعضّ

شفته ، أو يضرب يدا بيد. أو أنه ـ كما ذكر الشيخ المفيد رحمه‌الله ـ أراد أن يظهر لقومه ما اعتراه من الغضب على قومه لما صاروا إليه من الكفر والارتداد ، فصدر منه ذلك تألما وإعلاما لهم بعظم الحال عنده لينزجروا عمّا وقعوا فيه. وقيل بل ـ رأى هارون (ع) في حالة جزع مما هم عليه فأخذ برأسه مهدّئا ومتوجّعا له ، فحكى هارون له براءته فدعا له ولنفسه لتظهر براءته. وقيل : بل أنكر على أخيه فعل قومه لأنه قال له : ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا أن لا تتّبعن؟ ف (قالَ) هارون (ابْنَ أُمَ) أي : يا أخي من أمي. وقد قالها استعطافا مع أنه : من أبيه وأمه. وقرئ : ابن أمّ على الترخيم ، والأصح اعتباره اسما واحدا إذ يقال : يا ابن أمّ ويا ابن عمّ كما يقال : خمسة عشر ، فبني الاسمان على الفتح بحيث صارت الفتحة التي على : ابن ليست النصبة التي تقع على المنادي المضاف .. فقد قال له مستعطفا : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي نظروا إليّ نظر مستضعف بينهم (وَكادُوا) أوشكوا (يَقْتُلُونَنِي) وهمّوا بذلك لشدّة ما رأوا من إنكاري لعملهم (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أي لا تجعلهم شامتين بي ، مسرورين لإهانتي وتوبيخي (وَلا تَجْعَلْنِي) تعتبرني (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين عبدوا العجل وأثاروا حفيظتك عليهم لارتدادهم.

١٥١ ـ (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ...) أي : قال موسى (ع) بعد أن ألفت نظره أخوه هارون (ع) إلى أن لا يشمت به الأعداء كيلا يظنوا به الظنون : ربّ اغفر لي ولأخي. وهذا خشوع منه لا يدل على أن أحدهما ارتكب كبيرة أو صغيرة والعياذ بالله لأن الأنبياء معصومون منزّهون عن المعاصي وعن كل قبيح ، فهو ابتهال وانقطاع إلى الله سبحانه أن اغفر لنا ما يمكن أن يكون قد بدر منّا مما هو بخلاف الأولى (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي واشملنا برأفتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أرأف من كل رؤف.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣))

١٥٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ ...) في هذه الآية وعيد لليهود الذين اتّخذوا العجل إلها ـ وفي الجملة حذف ـ فلأنهم عبدوه من دون الله (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ) يعني : سيلحق بهم سخط من الله (وَذِلَّةٌ) أي هوان واحتقار (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في هذه الدار ، وذلك بأخذ الجزية منهم ، أو بما أمروا به من قتل أنفسهم ، أو باحتقار جميع الشعوب لهم طيلة مدة بقائهم (وَكَذلِكَ) أي مثل هذا التهديد والغضب والسخط (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) الكاذبين الذين يفترون على الله ، وهم قد عبدوا العجل ودعوه معبودا وإلها.

١٥٣ ـ (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها ...) أي فعلوا المعاصي وأقلعوا عنها وعادوا إلى حظيرة الإيمان قولا وعملا بعد التوبة عن منها (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمّد (مِنْ بَعْدِها) أي بعد صدور التوبة عن المعاصي (لَغَفُورٌ) متجاوز عن ذنوبهم (رَحِيمٌ) رؤف بهم.

* * *

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

١٥٤ ـ (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ...) أي حين هدأ غضبه وسكن روعه بعد ما عاناه من رؤية قومه عاكفين على عبادة العجل ، وبعد إعلان توبتهم عمّا فرط منهم من ارتداد وكفر (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي

سجّلت فيها التوراة (وَفِي نُسْخَتِها) يعني فيها سجّل ونسخ فيها وكتب (هُدىً) إرشاد إلى الحق ودلالة إلى ما يحتاج إليه المكلّف من أوامر الدين (وَرَحْمَةٌ) أي رأفة تتجلّى في النعمة التي منّ سبحانه بها ، وفي المنفعة المرصودة (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي للمؤمنين الذين يخافون ربّهم ويخشون عقابه.

* * *

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

١٥٥ ـ (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ...) أي : انتقى موسى من قومه سبعين رجلا لميقات ربّه : ليحضروا تكليمه له وإعطاءه التوراة فيكونوا شهداء له عند قومه ـ بني إسرائيل ـ إذا لم يصدّقوه في رواية ما يجري أثناء الميقات. وقيل إن هؤلاء السبعين لمّا سمعوا كلام الله تعالت قدرته ، طلبوا رؤيته ، فأخذتهم صاعقة أماتتهم. ثم أحياهم الله تعالى. وهذا معنى (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الرّعدة حين زلزل الله تعالى بهم الأرض فكادت تتقطع أوصالهم هلعا ، فخاف موسى (ع) مغبّة الأمر وخشي من تهمة بني إسرائيل بإهلاكهم ف (قالَ : رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) أي دمّرتهم وأفنيتهم ، إذا أردت (مِنْ قَبْلُ) أي قبل هذا الموقف ، فإنك تستطيع إهلاكهم (وَإِيَّايَ) وإهلاكي معهم. وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : إنما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قتل أخيه هارون. وذلك أن موسى وهارون وشبّرا وشبيرا ابني هارون انطلقوا إلى سفح جبل ، فنام هارون على سرير فتوفّاه الله. فلّما مات دفنه موسى (ع) فلمّا رجع إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون؟ قال : توفّاه الله. فقالوا : لا بل أنت قتلته. حسدتنا على خلقه ولينه. قال : فاختاروا من شئتم. فاختاروا منهم سبعين رجلا ذهب بهم ليروا صدق قوله ، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى : يا هارون أقتلت أم مت؟ فقال هارون : ما قتلني أحد ولكن توفاني الله. فقالوا : لن نعصي الله بعد اليوم ، فأخذتهم الرجفة وصعقوا فماتوا ، ثم أحياهم الله وجعلهم وزراء موسى على الخير .. (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) هو استفهام إنكاريّ معناه أنك لا تفعل ذلك بنا بسبب فعل سفهاء القوم من عبادة العجل وغيرها من المعاصي (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي ليست الرجفة التي أصابتهم إلا ابتلاءك واختبارك ومن باب شدة التكليف الذي فرضته

علينا. وفتنتك هذه التي هي الرجفة (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) أي تصيب وتهلك من تريد (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) وتنجي منها من تريد. وقيل : بل تضل بها من تريده بترك الصبر عليها والرضاء بها فتصرفه عن نيل الثواب ودخول الجنة ، وتهدي بها من تريده بالصبر والرضا ، وتثيبه على صبره ورضائه فتدخله الجنة (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي الأولى بنا ، ومالك أمورنا وناصرنا (فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا) اشملنا برحمتك ورأفتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) خير المتجاوزين عن الذنوب.

جملة : واختار موسى قومه : تقديرها : اختار من قومه. وقد حذف حرف الجر : من ، فوصل الفعل فنصبت لفظة : قومه. وإنما حذف : من ، لدلالة الفعل عليه مع إيجاز اللفظ. قال الفرزدق :

ومنّا الذي اختير الرجال سماحة

وجودا إذا اختير الرياح الزعازع

أي : اختير من الرجال.

١٥٦ ـ (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً ...) هذا من بقية دعاء موسى عليه‌السلام ، فقد سأل الله ـ بعد المغفرة والرحمة ـ حسنة : أي نعمة في الدنيا (وَ) اكتب لنا (فِي الْآخِرَةِ) حسنة أيضا تثيبنا عليها. فوفّقنا في الدنيا للأعمال الخيّرة وفي الآخرة للمغفرة وحسن الثواب والجنّة (إِنَّا هُدْنا) أي ورجعنا بتوبتنا ، وإنّا تبنا (إِلَيْكَ) والهود هو الرجوع. فعند ذلك (قالَ) الله تبارك وتعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي الذي يعصيني ويستحق العذاب. وقد علّق العذاب بمشيئته سبحانه لاحتمال جواز المغفرة للتائبين. وقرئ شاذّا : عذابي أصيب به من أساء (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فقد منحتها في الدنيا للطائع والعاصي ، ولكنها يوم القيامة للمؤمنين خاصة. وقال العوفي معلّلا ذلك : وسعت كلّ شيء ولكن لا تجب إلّا للذين يتّقون ، وذلك أن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن ، فيعيش فيها. فاذا صار في الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة ، كالمستضيء بنور غيره إذا ذهب صاحب السّراج بسراجه. وهو قول حسن .. وفي الحديث ـ كما في المجمع ـ أن النبيّ

(ص) قام في الصلاة فقال أعرابي وهو في الصلاة : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا. فلمّا سلّم رسول الله (ص) قال للأعرابي : لقد تحجّرت واسعا ، يريد رحمة الله عزوجل ... (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي سأسجّلها وأوجبها لمن يجتنبون الشّرك والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يخرجون زكاة أموالهم لأن إخراج الزكاة فرض شاقّ لشدة حب الإنسان للمال ـ وتحبّون المال حبّا جمّا ـ فالزكاة تطهير للمال وتطهير للنفس ، فسأوجب رحمتي لفاعليها (وَ) أخصّ بها (الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون ببيّناتنا وحججنا الدامغة ... وقيل إن هذه الآية لمّا نزلت قال إبليس اللعين : أنا من ذلك الشيء. فنزعها الله من إبليس بقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلخ ... وبيان الذين هم بآياتنا يؤمنون فصّله سبحانه بقوله التالي :

١٥٧ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ...) أي أن الذين يؤمنون بآيات الله تعالى ، هم المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعتقدون بصدق نبوّته وبصدق ما جاء به عن ربّه ، المتّبعون ما شرع من الدّين. والأميّ هو الذي لا يقرأ ولا يكتب. وقيل إنه المنسوب إلى الأمّة ـ والأمة العربية لم تكن تحسن الكتابة ، كما قيل هو نسبة للأم ، أي أنه كما ولدته أمّه قبل تعلّم القراءة والكتابة ، ونسب إلى الإمام الباقر عليه‌السلام أنه نسبة إلى أمّ القرى التي هي مكة. فلا يكون الناس مؤمنين بعد بعثته (ص) إذا لم يؤمنوا به لأنه هو (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) بنعته وصفته ونبوّته ، ففي السفر الخامس من التوراة قال : إني سأقيم لهم نبيّا من إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فيه ، فيقول لهم كلّ ما أوصيه به ، وقال أيضا : وأما ابن الأمّة فقد باركت عليه جدّا جدّا ، وسيلد اثني عشر عظيما ، وأؤخّره لأمّة عظيمة. وقال : أتانا الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. وكذلك تجد في الإنجيل البشارة بالغارقليط. ففي موارد كثيرة منه قال : نعطيكم غارقليط آخر يكون معكم آخر الدهر كلّه. وفيه قول المسيح عليه‌السلام للحوارّيين

أيضا : أنا ذاهب ، وسيأتيكم الغارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه. إنه نذيركم بجميع الحق ، ويخبركم بالأمور المزمعة ، ويمدحني ويشهد لي. فهذا النبيّ الكريم (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) فلا يأمر إلّا بما فيه خير الدنيا والآخرة ولا ينهى إلّا عمّا فيه شرّ في الدنيا والآخرة ، لأن المعروف هو الحق ، والمنكر هو الباطل ، وفي هذه الشريفة مدح للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه يفعل ذلك ويأمر بمكارم الأخلاق وصلة الأرحام. ولفظة يجدونه : من : وجد المتعدي إلى مفعولين. فالهاء مفعول أول ، ومكتوبا مفعول ثان. والمعنى يجدون ذكره مكتوبا. فالاسم الأول قام مقام المضاف إليه. وقوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) تفسير لما كتب. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) المستلذات الحسنة من طعام وشراب ونكاح وغيره (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) أي القبائح التي تمجّها النفوس. وقيل يحل لهم ما حرّمه عليهم رهبانهم وأهل جاهليتهم من البحائر والسوائب وغيرهما (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي يخفّف عنهم ثقلهم في التكليف فقد كانت توبة بني إسرائيل لا تقبل إلّا بقتل التائب نفسه في حين أن توبة المسلم تقبل بالندم والإقلاع عن الذنب كرامة للنبيّ الكريم صلوات الله عليه وعلى أهل بيته. وقيل إن الإصر هو العهد الذي كان قد أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة ، وقد عرّفه الزجّاج بما عقدته من عقد ثقيل وهو أحسن التعاريف. (وَ) هو أيضا يضع عنهم (الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي يعفيهم من العهود التي في ذمّتهم. وقد شبّه العهود بالأغلال التي تطوّق الأعناق ، وهذا من محاسن التشبيه. والأغلال مفردها : غلّ ، وهو القيد. ومنها أنهم كانوا يقتلون أنفسهم بالتوبة كما قلنا ، وكانوا يقصّون ما يصيبه البول من أجسادهم ، وابتلوا بتحريم السبت وتحريم العروق والشحوم في الذبائح ووجوب القصاص بدل دفع الدية وغير ذلك (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) صدّقوا بهذا النبيّ الأميّ الموعود (وَعَزَّرُوهُ) أي وقّروه وحموه من أعدائه (وَنَصَرُوهُ) عليهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي ساروا بحسب تعاليم القرآن الذي

جاء به ، فإن القرآن نور للقلوب يهتدي الناس به إلى الدّين. وكلمة : معه قامت مقام : عليه ، أي : أنزل عليه. وقد تقوم لفظة : مع ، مقام لفظة : على ، وبالعكس. وقد روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل أصحابه : أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا : الملائكة. فقال : الملائكة عند ربّهم ، فما لهم لا يؤمنون! قالوا : فالنبيّون. قال : النبيّون يوحى إليهم ، فما لهم لا يؤمنون! قالوا : فنحن يا نبيّ الله. قال : أنا فيكم ، فما لكم لا تؤمنون! إنهم قوم يكونون بعدكم يجدون كتابا في ورق فيؤمنون به. فهو معنى قوله عزوجل : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجحون الناجون من العقاب الفائزون بثواب الله عزّ وعلا.

* * *

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

١٥٨ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) أي قل يا محمد لجميع الناس من عرب وعجم : قد أرسلني الله إليكم جميعا بشيرا ونذيرا ، وأنا أدعوكم إلى توحيده سبحانه وإلى السمع والطاعة لما أبلّغكم إياه عنه جلّ وعلا. وقد وضع لفظة : جميعا ، للتأكيد ولبيان أنه مرسل إلى الناس كافة. وقد نصبت : جميعا على أنها حال من ضمير المخاطب الذي عمل حرف الإضافة فيه ، أي : إليكم مجتمعين ... فقل لهم : إنني رسول الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مالكهما والمتصرف بهما وبما فيهما من غير منازع (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا ربّ ولا

معبود سواه ، ولا شريك له في الربوبيّة (يُحيِي) الأموات بقدرته حين يشاء (وَيُمِيتُ) الأحياء حين انتهاء آجالهم ، ولا يستطيع إماتتهم وإحياءهم غيره (فَآمِنُوا) صدّقوا (بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أعاد سبحانه وصفه اعتناء بشأن معجزه إذ هو أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، فإنه (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي يصدّق ويعترف به جلّ وعلا ، قبل أن يأمركم بالإيمان به لأنه مكلّف من عنده بأداء الرسالة (وَ) هو مؤمن أيضا (كَلِماتِهِ) أي كلمات ربّه المنزلة وحيا في القرآن وما سبقه من الكتب السماوية (وَاتَّبِعُوهُ) كونوا من أتباعه والمؤمنين به (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بأمل أن تهتدوا إلى الرشاد وتنالوا الثواب الذي يؤدي بكم إلى الجنة والنعيم.

* * *

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠))

١٥٩ ـ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...) عاد سبحانه إلى قصة بني إسرائيل بعد أن بشّر بسيد المرسلين وخاتمهم (ص) فقال عزّ من قائل : وجعلنا من قوم موسى : أي جماعته وأتباعه ، أمة : فرقة وجماعة يدعون الناس إلى الحق والهدى (وَبِهِ) بالحق (يَعْدِلُونَ) في حكمهم

فلا يحيفون على أحد. وقد اختلف المفسّرون في هؤلاء الجماعة ، فقال ابن عباس وغيره : هم من وراء الصين من بلاد يفصلها عن الصين واد جار بالرّمل ، وقد آمنوا ولم يغيّروا ولم يبدّلوا ، وقد روي قريب منه عن الإمام الباقر عليه‌السلام. فهم يعيشون هناك ولم نصل إليهم ولا وصلوا إلينا وقد بقوا على الحق يحكمون بما أنزل الله تعالى منذ أن قتل بنو إسرائيل أنبياءهم ، وذلك أنهم تبرّأوا من بني إسرائيل لأعمالهم الشنيعة ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصف سنة حتى وصلوا إلى تلك البلاد ، فأقاموا فيها حنفاء مسلمين ، إذ قيل إن جبرائيل (ع) انطلق إليهم بالنبيّ (ص) ليلة المعراج فأدّى إليهم الرسالة وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الإيمان فآمنوا به فعلّمهم شرائع دينهم وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والبقاء في مكانهم حتى يأتي تأويل الآية الكريمة : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) يعني أنهم يخرجون مع المسيح عليه‌السلام ومع القائم المنتظر عجّل الله تعالى فرجه فينصرونه.

وقيل إنهم قوم من بني إسرائيل ، مؤمنون تمسّكوا بالحق لمّا جحد به غيرهم ، وتقدير الآية : ومن قوم موسى أمة كانوا يهدون بالحق ، وما كانوا ليجحدوا برسالة نبيّنا (ص) لو كانوا باقين ، وهو قول هزيل.

وقيل أيضا هم الذين آمنوا بالنبيّ (ص) كعبد الله بن سلام وابن صوريا ومن سواهما. وروي أن النبيّ (ص) قال لمّا قرأ هذه الآية الشريفة : هذه لكم ، وقد أعطى الله قوم موسى مثلها ..

والحاصل أن الذي عندنا ـ كما في الأخبار الكثيرة ـ أنهم جماعة من قوم موسى (ع) يبعثهم الله في العهد المبارك فينصرون القائم المهديّ عجّل الله تعالى فرجه ويكونون من الشهداء على صدق ما يدعو إليه ، يحييهم الله سبحانه كما يحيي أصحاب الكهف والرقيم آية منه ونصرة لوليّه في عباده عليه‌السلام. وهذا المعنى هو الذي ورد في أول احتمال ذكرناه في صدر الكلام عنهم .. ثم ذكر سبحانه بعض ما أصاب قوم موسى (ع) فقال :

١٦٠ ـ (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) : أي فرّقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة. والأسباط : مفردها : سبط ، وهو الفرقة ولذلك أنّث اثنتي عشرة وحذف المميّز ، يعني : قطعناهم اثنتي عشرة فرقة وجعلناهم أسباطا ، والأسباط هم أولاد يعقوب عليه‌السلام فقد كانوا اثنتي عشر ، وكان لكل واحد منهم نسل فصار نسله فرقة من فرقهم ، وقد كانوا (أُمَماً) كل أمة منهم يرجعون إلى رئيسهم في سائر أمورهم ليخف الأمر على موسى عليه‌السلام ولا يقع بينهم تنافر وتباغض (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) أي بلّغنا بواسطة الوحي (إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) طلبوا منه أن يسقيهم في صحراء سيناء الجرداء ، فكلّفناه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وقد تكلّمنا عنه في سورة البقرة فضربه (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي تفجّر منه الماء بكثرة من اثنتي عشر ثقبا (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) عرف كلّ سبط منهم (مَشْرَبَهُمْ) موردهم من الماء (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) مرّ تفسير ذلك في سورة البقرة ، وقلنا لهم : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) مرّ معناه أيضا.

* * *

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ

يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣))

١٦١ ـ (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ...) إلخ ... مرّ تفسيرها في سورة البقرة فليراجع هناك. وقد قرأ بعضهم : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) ببناء الفعل للمجهول ، أي تغفر من قبل الله تعالى.

١٦٢ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ...) إلى آخر الآية الشريفة ، مرّ تفسير مثلها في سورة البقرة فلا حاجة إلى التكرار.

١٦٣ ـ (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأمره الله تعالى أن يستخبر بني إسرائيل عن القرية المجاورة للبحر الواقعة على شاطئه ، التي هي : أيلة ، وقيل مدين وقيل طبريّة والأول أصح. ولا يخفى أنه عنى بسؤالهم توبيخهم وتقريعهم ولم يأمره بسؤال استفهام (إِذْ) حيث كانوا (يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يعتدون ويظلمون ويتجاوزون حدود ما أمر الله تعالى في السبت (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي كانت تجيء ظاهرة على وجه الماء مشرعة أذنابها رافعة رؤوسها لأنها كانت آمنة من أن يصطادوها في يوم السبت الذي حرّم عليهم فيه صيدها. والحيتان : جمع حوت وهو السمكة الكبيرة. وموضع : إذ ، نصب على معنى : سلهم عن وقت ذلك. ومثلها : إذ ، في : (إِذْ تَأْتِيهِمْ) وشرّعا : نصب على الحال ، ومثلها الكاف في كذلك ، الآتية في الآية .. والحاصل أن الحيتان كانت تأتيهم حين تحريم الصيد عليهم (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) بل تختفي في عرض البحر. ولذلك كانوا يحتالون في صيدها فيلقون الشبكة في الماء يوم السبت فتقع فيها الحيتان ثم يخرجونها من الماء يوم الأحد. فيكونون قد اعتدوا على ما شرع الله لهم باحتباسها في الشبكة من السبت إلى الأحد. وعن ابن عباس قال : اتّخذوا حياضا فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ولا يمكنها الخروج منها فيأخذونها يوم الأحد (كَذلِكَ) أي

بمثل ذلك الاختبار (نَبْلُوهُمْ) نختبرهم (بِما) بسبب ما (كانُوا يَفْسُقُونَ) بفسقهم وعصيانهم أمر الله تعالى.

* * *

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

١٦٤ ـ (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ ...) أي اسألهم يا محمّد عن يوم عدوهم في السبت ، ومعصيتهم لأمر الله في تحريم صيد الحيتان ، إذ قالت أمة : جماعة من بني إسرائيل ، إذ كانوا يومئذ ثلاث فرق : واحدة معتدية بصيد الحيتان ، وثانية ساكتة لا تحرك ساكنا ، وثالثة واعظة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر. فقال الساكتون للواعظين : (لِمَ تَعِظُونَ) أي لماذا ترشدون وتخوّفون (قَوْماً) جماعة معتدية (اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي مدمّرهم ومفنيهم لأنهم عتوا عن أمره (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) في الآخرة لأنهم عصاة؟ (قالُوا) أي أجاب الواعظون الآمرون بالمعروف : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي وعظنا لهم (مَعْذِرَةً) إلى الله وقياما بما فرضه علينا من النهي عن المنكر (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وعسى أن يرجعوا عن غيّهم ويتجنّبوا غضب الله تعالى. وقد نصبت : معذرة على أنها مفعول مطلق ، أي : نعتذر بموعظتنا معذرة إلى الله. ولم : أصلها : لما. وقد حذفت الألف من : ما ، لأنها وقعت بعد حرف الجرّ كما ذكرنا سابقا عن حروف الاستفهام الملحقة بحروف الجر.

١٦٥ ـ (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) أي حين ترك أهل أيلة موعظة الواعظين ولم يدعوا ارتكاب المعاصي بصيد السمك يوم السبت (أَنْجَيْنَا) خلّصنا (الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) أي عن المعصية نجّيناهم من العذاب (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد سيّء (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) مرّ تفسيره. والعذاب الذي نزل بهم بيّنته الآية الكريمة التالية : إذ قال عزّ من قائل :

١٦٦ ـ (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ ...) أي فحين ظلموا أنفسهم وتكبّروا عن سماع الحق وتمرّدوا فلم يتركوا ما نهاهم الله والواعظون عنه وأبوا أن يرجعوا عن غيّهم (قُلْنا لَهُمْ : كُونُوا قِرَدَةً) جعلناهم قردة بمجرد أمرنا : كن ، فكانوا (خاسِئِينَ) مطرودين مبعدين مرذولين. وفي الآية الشريفة نكتة دقيقة ، وهو أنه سبحانه استعمل لفظة : كن ، ليبيّن أنه ـ عزّ وعلا ـ لا يمتنع عليه شيء إذا أراد. وهكذا صاروا قردة تتعادى ، لها أذناب وبقوا على ذلك ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ، ثم أهلكهم الله تعالى.

أما قصة المسخ ـ هذه ـ فقد قيل إنها حصلت في زمن داود عليه‌السلام. وعن ابن عباس قال : أمروا باليوم الذي أمرتم به : يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به ، إذ أتاهم الشيطان وقال : إنما نهيتم عن أخذها ـ أي الحيتان ـ يوم السبت فاتّخذوا الحياض والشبكات ، ففعلوا ذلك وكانوا يسوقون الحيتان إليها. وقيل إن رجلا منهم أخذ حوتا وربطه من ذنبه بخيط وأبقاه في البحر ثم شدّه إلى الساحل وسحبه يوم الأحد وشواه وأكله فلم ينزل به عذاب ، ففعل ذلك نحو اثني عشر ألفا منهم اعتزلتهم الفرقتان اللتان لم ترضيا بعملهم ، فأصبحوا يوما ولم يخرجوا من بيوتهم ففتحوا الأبواب ونظروا إليهم فوجدوهم قد مسخوا قردة ، فعرفتهم القردة ولم يعرفوا هم منها أحدا ، فقالوا لهم : ألم ننهكم ، فبكوا وأشاروا برؤوسهم : أن نعم. وعن قتادة أن الشبّان مسخوا قردة والشيوخ مسخوا خنازير ، والعياذ بالله من ذلك.

* * *

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

١٦٧ ـ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ...) أي أذكر يا محمد ما كان يوم أذن ربّك وقدّر وأعلم ما قدّره ، وقيل : أقسم على قضائه وقوله (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) ليرسلنّ على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) منذ مروقهم إلى آخر الدهر (مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي من يذيقهم العذاب الشديد قتلا مرة ، وأخذ جزية مرة ، يفعل ذلك أمّة محمد (ص) كما روي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وجميع المفسّرين. وفي الآية الكريمة شاهد على أنه لن تقوم لليهود دولة آمنة مطمئنة (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) يحاسب من يستحق ذلك بسرعة ويأخذه بكفره ومعاصيه (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن يتوب وينيب إلى ربّه. وفي الأخبار المقدّسة أن الذي يسوم اليهود سوء العذاب هم المهديّ عجّل الله تعالى فرجه وأنصاره الغر الميامين.

١٦٨ ـ (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً ...) يعني قسّمناهم ـ ببغيهم ـ

وجعلناهم فرقا مختلفة ، ووزّعناهم في البلاد المختلفة من العالم لصلاح من صلح منهم ، وانتقاما ممّن عصى بدليل قوله تعالى : (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) الخيّرون المؤمنون بالله ورسله (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي في مرتبة أدنى وأحط من مرتبة الصلاح إذ عملوا عملا صالحا وآخر سيّئا. (وَ) بعد تفريقهم بحسب ما علم من صلاح الصالحين منهم (بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) أي اختبرناهم بالنعمة ورغد العيش ، وبالمصائب بالأنفس والأموال. وبعبارة أخرى بالنّعم ، ليعلم الشاكرين ، وبالنّقم ليعلم الصابرين الذين يلجأون إليه تعالى في كشف البلوى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إليه سبحانه ويمتثلون أمره ويتوبون مما يصدر منهم من معاصي.

أما عبارة. ومنهم دون ذلك ، فهي في محل رفع على أنه مبتدأ. وقد جاءت : دون ، منصوبة لتمكّنها في الظرفية ، وهي كقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) وكقوله عزّ اسمه : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وتقدير العبارة : ومنهم جماعة دون ذلك ، فحذف الموصوف وقامت صفته مقامه.

١٦٩ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ...) أي جاء من بعد أولئك الأسلاف أخلاف قاموا مقامهم بوراثة الكتاب : يعني التوراة ، وعبّر بالإرث لأنها تركها الماضي منهم للباقي ، ولكن هؤلاء الأخلاف كانوا (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي عرض ما في الدنيا من متاع ومغريات والعرض ما يعرض ويقلّ بقاؤه ، فكانوا يرتشون ويحكمون بالباطل ، ويغوصون في الشهوات والملذّات ، وقد ذكّر : الأدنى بقصد : هذا العالم الأدنى ، أي الأقرب إلى مداركهم وشهواتهم الدنيا ، وهو الدار الفانية ، يفعلون فيها الأفاعيل (وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنا) أي يعفى عن ذنوبنا. وهذا معناه أنهم يعصون ويعلمون أنهم عصاة ويصرون على معاصيهم ويخلطون الحلال والحرام آملين بالمغفرة والعفو. وجملة : يأخذون عرض هذا الأدنى ، في محل نصب على أنها حال من الضمير في : ورثوا. وورثوا الكتاب صفة لخلف. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ) أي إذا جاءهم عرض زائل (مِثْلُهُ) كالعرض المذكور آنفا (يَأْخُذُوهُ) بلا امتناع لأنهم مصرّون

على سلوكهم المنحرف عن الحق ، ماضون في ممارسة الحرام ، لا يرتدعون ولا يشبعون من متع الدنيا ومفاتنها (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي : ألم يرتبطوا بالعهد الذي في الكتاب من أحكام الحلال والحرام ، وعاهدوا (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي أن لا يكذبوا عليه في ما أنزل على رسوله موسى (ع) في التوراة ، إذ لم ينزل المغفرة للمصرّ على الذنوب (وَ) قد (دَرَسُوا ما فِيهِ) يعني قرءوا ما في التوراة وعرفوا محتواه ، ولكنهم ضيّعوا دراستهم ولم يعملوا بموجب تعاليم كتابهم مع أن الدرس هو تكرير الشيء المقروء حتى الاستيعاب الكامل. وجملة : ودرسوا ما فيه ، معطوفة على : ورثوا ، والتقدير : ورثوا الكتاب .. ودرسوا ما فيه (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ) أي ما أعدّه الله للمؤمنين من نعيم الآخرة الباقي الذي لا يفنى لأنها دار القرار (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي خير من هذه الدنيا الفانية المملوءة بالشقاء (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أي تتدبّرون وتفكّرون وتفهمون؟

١٧٠ ـ (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ ...) أي يتمسكون به ويحملون غيرهم على التمسّك به. والكتاب هو التوراة لأن الحديث عن بني إسرائيل ، فهؤلاء الملتزمون به الذين لا يحرّفونه ولا يكتمون شيئا منه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) مع ذلك ، وقد ذكرها سبحانه دون غيرها من الطاعات لأهميتها وكونها مفتاح الطاعات وأجلّ العبادات (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) لا نضيع جزاءهم الخيّر ولا نحرمهم حقّهم في الثواب .. أما خبر : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) ، فهو قوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، من الممسّكين به. والتقدير : والّذين يمسّكون ... غير ضائع حقّهم.

* * *

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

١٧١ ـ (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ...) نتق الشيء : قلعه ورمى به. وقيل نتق ، يعني : رفع ، وقيل : جذب. فاذكر يا محمد يوم اقتلع الله الجبل ورفعه فوق بني إسرائيل وهم في عسكر موسى عليه‌السلام يشغلون مساحة فرسخ في فرسخ لكثرتهم ، فجعله سبحانه فوقهم كأنه ظلة : أي غمامة أو سقف يظلّهم (وَظَنُّوا) حسبوا موقنين (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي عليهم فاتك بهم. فقلنا لهم عند هذه الشّدة : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) التزموا بما في أيديكم من أحكام التوراة وفرائض الله سبحانه ولا تقصّروا بشيء مما أمرناكم به (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ولا تنسوا المواثيق والعهود المأخوذة عليكم للعمل بما فيه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتجنّبوا ما يغضب ربّكم وتطلبوا ثوابه وتخافوا عقابه.

* * *

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

١٧٢ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...) أي اذكر يا محمد لهؤلاء إذ أخرج الله سبحانه من بني آدم (مِنْ ظُهُورِهِمْ) أي من أصلابهم أخذ (ذُرِّيَّتَهُمْ) جميع ما يتناسل منهم إلى يوم القيامة. وعبارة : من ظهورهم ، بدل من : بني آدم كما لا يخفى. والتقدير : أخذ ربّك من ظهور بني آدم ذرّيّتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) جعلهم شهودا على ذواتهم حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟) أي أما أنا إلهكم وخالقكم؟ (قالُوا : بَلى)

أجابوا : نعم (شَهِدْنا) بذلك على أنفسنا بأنك ربّنا وخالقنا. وقيل إن قول : شهدنا ، هو من قول الملائكة الذين سمعوا ذلك الاعتراف ، وهذا خلاف ظاهر الكلام الذي لا ينبغي أن ينتهي عند : بلى ، بدليل قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ).

وقد ذكر المفسرون شروحا مختلفة للإشهاد. فقالوا : إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذّر ، وعرضهم على آدم وقال : إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا ، وعليّ أرزاقهم ، ثم قال : ألست بربّكم؟ قالوا : بلى ، إنك ربّنا. فقال للملائكة : اشهدوا. فقالوا : شهدنا. وقيل إنه سبحانه جعلهم عقلاء واعين لخطابه ، ثم ردّهم إلى صلب آدم. وفي المجمع أن هذا القول ردّه المحققون لأنه بخلاف ظاهر القرآن ، إذ قال سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل : من آدم. وقال : من ظهورهم ، ولم يقل : من ظهره ، وقال : ذرّيتهم ، ولم يقل : ذرّيته. كما أن في الآية ما يقتضي أن يكون المشرك من أب مشرك ، وهذا لا يتناول ولد آدم من صلبه.

وقالوا : أخرج الله بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ثم رقّاهم درجة بعد درجة من نطفة إلى مضغة إلى علقة ... إلى بشر سويّ يولد ويصير مكلّفا فأراه آثار صنعه ومكّنه من معرفة دلائل وحدانيته ، فأشهده بذلك على نفسه بعد أن جعله عاقلا مفكرا واعيا ، فكان ذلك كله بمنزلة الشهادة منه على نفسه. ويظهر ذلك قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ولم يكن منه سبحانه خطاب ولا منهما جواب. ومثله أيضا قول الشاعر :

وقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدّرتا كالدّر لمّا يثقّب

فلم تتكلم العينان ، ولكنه استخلص كلامهما من دمعهما.

وقالوا أيضا إنه تعالى عنى جماعة خاصة من ذرّية آدم خلقهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله عليهم الصلاة والسلام ، فأقرّوا بالرّبوبية

وأشهدهم على أنفسهم. وعلى هذا فلا يدخل جميع ولد آدم في الموضوع ، وأول الأقوال هو الأصوب والأليق والأوفق لما بين أيدينا من أخبار.

والحاصل أنه سبحانه ـ بطريقة أو بغيرها لا تدركها عقولنا ولا تستوعبها أفهامنا ـ قد أخذ هذا الإقرار على بني آدم ، وأشهدهم على أنفسهم ، وكأنه قال سبحانه لهم : فعلت ذلك مخافة (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لئلا تقولوا إذا واجهتم العذاب والعقاب : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) الواقع (غافِلِينَ) لم تنبّهنا إليه ولم ترشدنا إلى دلائلك وحججك لنفكّر ونقدّر ونعمل لهذا اليوم. وقوله : أن تقولوا ، معناه : كراهة أن تقولوا ، أو : لئلا تقولوا. وقد مرّ سابقا ما يشبهه.

١٧٣ ـ (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا ...) أي أشهدناكم على أنفسكم لئلا يقول بعضكم ممّن تحدّروا من أصلاب مشركين : قد أشرك بك آباؤنا يا رب وعبدوا معك غيرك حين بلغوا سنّ الرّشد (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) جئنا من أصلابهم وتولّدنا منهم وكنّا خلفا لهم ولم نتدبّر ولم نتفكّر في حال طفوليّتنا فأورثونا الشّرك (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي هل توردنا الهلاك بفعلهم المبنيّ على الباطل؟ فقد قطعت حجة هؤلاء بعد أن شهدوا على أنفسهم وصار احتجاجهم بتقليد آبائهم لا يجديهم فتيلا ، وجوابهم منه سبحانه : لا نهلككم بفعل آبائكم ولكن بفعلكم أنتم لأنه يخالف إقراركم.

١٧٤ ـ (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ...) : أي كما أوضحنا لكم هذه الآيات البيّنات ، كذلك نبيّنها لسائر عبادنا ليتمكّنوا من الاستدلال بكل واحدة منها على الوهيّتنا وربوبيّتنا (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي بأمل أن يتفكروا ويعودوا عن الباطل إلى الحق.

* * *

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ

الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨))

١٧٥ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا ...) أي : واقرأ عليهم ـ يا محمد ـ نبأ ، أي الخبر العظيم من أخبار بني إسرائيل ، وهو قصة الرجل الذي آتيناه : أعطيناه آياتنا : حججنا (فَانْسَلَخَ مِنْها) يعني خرج من المعرفة بها إلى الجهل بها كما ينسلخ الجسم من جلده ، أي حاد عنها وتنصّل (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي تبعه ولحق به فأضلّه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) الضالين الهالكين وقيل : كان من الخائبين.

أما الرجل المشار إليه في الآية الكريمة فقيل هو بلعام بن باعور ـ أو بلعم بن باعورا على الأصح ـ الذي كان على دين موسى عليه‌السلام ، وكان في مدينة أهلها كفار ، وكان عنده اسم الله الأعظم فإذا دعا الله تعالى به أجاب دعاءه. وقيل بل هو أمية بن أبي الصلت ، الشاعر الثقفي المعروف ، وكان قد قرأ الكتب السماوية وعرف يقينا أن الله تعالى يرسل نبيّا في ذلك الوقت وطمع أن يكون هو ذلك الرسول. فلما بعث الله سبحانه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حسده وحقد عليه ، وقد مرّ ـ مصادفة ـ على قتلى بدر فسأل عمّن قتلهم فقيل له : قتلهم محمد (ص) فقال : لو كان نبيّا ما قتل أقرباءه. وبعد موته سمع النبيّ (ص) بعض شعره فقال (ص): آمن شعره وكفر قلبه ، وأنزل الله فيه قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ

الَّذِي ..) إلخ .. وفي المجمع أن هذا الرجل هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبيّ (ص) الفاسق لأنه ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ولما قدم إلى المدينة قال للنبيّ (ص) : ما هذا الذي جئت به؟ قال (ص) : جئت بالحنيفية دين إبراهيم (ع) قال : فأنا عليها. فقال (ص) : لست عليها ، ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال الراهب : أمات الله الكاذب منّا طريدا وحيدا ، ثم خرج إلى أهل الشام فاستنفرهم لقتال النبيّ (ص) وجمع جندا كبيرا فمات بالشام طريدا وحيدا وهو يحاول ذلك. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : الأصل في ذلك بلعم ، ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هدى الله من أهل القبلة.

١٧٦ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ...) أي بتلك الحجج والآيات التي أعطيناه إياها ، يعني : لو أردنا لرفعنا منزلته في الإيمان والمعرفة ، ولكن خلّينا بينه وبين هوى نفسه الكافرة بعد أن اختار الكفر. ومعنى قوله : ولو شئنا لحلنا بينه وبين ما اختاره من المعصية ، يدلّ على كمال قدرته سبحانه وتعالى (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أي ركن إلى الدنيا واطمأنّ لها ومال إليها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) انقاد له مؤثرا دنياه على آخرته فقال عنه عزّ من قائل : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ، أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) أي أن صفته كصفة الكلب الذي يخرج لسانه ويلهث إن طردته وإن تركته. وهذا الرجل ضالّ إن أرشدته إلى الحق ووعظته أم لم تعظه ، فهو متبع لهواه في كل حال (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني أن هذه هي صفة المكذّبين ببراهيننا وحججنا ، كأهل مكة الذين كانوا يتمنّون مرشدا هاديا ، فلما جاءهم الرسول (ص) شكّوا في صدقه وكذّبوه وبقوا على كفرهم وعنادهم (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي فاحك لهم أخبار الماضين (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فعسى أن يتدبّروا حالهم ويعتبروا ولا يفعلوا ما يفعلونه من النفاق والتكذيب.

١٧٧ ـ (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) أي بئس مثلا ، مثل الفئة التي تكذّب بآياتنا ، وقبح حالهم لأنهم يرون الآيات وينكرونها

(وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) فظلموا بذلك أنفسهم لا غيرها إذ حرموها ثواب الإيمان وسيحلّ بهم قصاص المعاصي التي يرتكبونها ولم يضرّوا الله بكفرهم كما أنه لا تنفعه طاعتهم ، بل يعود وبال الكفر عليهم دون غيرهم.

١٧٨ ـ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ...) أي من يهده الله تعالى إلى الحق والعمل الصالح ونيل الثواب فهو المهتدي للإيمان والخير (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي ومن يضلله الله سبحانه عن طريق الجنّة عقابا له على كفره وفسقه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا الجنّة ونعيمها وخسروا أنفسهم ونالوا سخط الله فزجّهم في عذابه الذي لا يطاق.

* * *

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩))

١٧٩ ـ (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) ذرأنا : أي أنشأنا وخلقنا كثيرين من الجنّ والإنس يكون مصيرهم إلى جهنم بسبب إنكارهم للوحي وكفرهم وسوء ما يختارون لأنفسهم. فقد خلقهم الله سبحانه للعبادة والإيمان به وبرسله وكتبه ، ولم يخلقهم للنّار خاصة ، بل قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ) ، فمن لم يطع الرّسل وعصى الله وخالف أوامره فقد اختار أن يكون مخلوقا لعذاب جهنم بكفره وإلحاده.

أما اللام في : لجهنّم ، فهي للعاقبة ، وذلك كقول الشاعر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

أما الذين خلقوا وكانوا طعمة لنار جهنم فقد وصفهم سبحانه بقوله :

(لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي لا يعون ولا يعقلون ولا يفكرون بحجج الله وبيّناته (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) لا يرون طريق الرشد من طريق الغي (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) قول الأنبياء ولا وعظ المرشدين إلى الهدى ، بل يعرضون عن أمر الله كأنهم ليست لديهم آلات الإدراك (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) أي : هؤلاء هم كالحيوانات لا يتدبّرون قول الله عزّ اسمه ولا يتدبّرون آياته ودلائله لأنهم كالبهائم التي لا تفقه قولا ولا تسمع وعظا (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من البهائم لأنها قد تنزجر وهم لا ينزجرون ، وقد تسمع أمر صاحبها وهم لا يسمعون. وقوله تعالى : بل هم كالأنعام ، يدل على أن : بل ، للإضراب مع بقاء كونهم كالبهائم ، فهم مع عقولهم لا يميّزون ، في حين أن البهائم ليس عندها آلة معرفة ولا تلحقها مذمّة إذا لم تعقل ، أمّا هم فقد ضيّعوا فائدة ما وهبهم الله وعصوه وخرجوا عن أمره فكانوا أسوأ حالا من البهائم (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن حجج الله تعالى وبيّناته ، وعن التفكير بما يصلح حالهم ويؤمّن مآلهم في الدنيا والآخرة.

* * *

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

١٨٠ ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، فَادْعُوهُ بِها ...) بعد ذكر هؤلاء المعاندين أخبر سبحانه أن له الأسماء الحسنة المعاني والدلالة كالرحمن والرحيم والرزّاق والكريم وغيرها مما يتضمّن أحسن المعاني ويحمل أجمل الدلالات كالقدير والحي والبصير والسميع والغني والواحد والأحد ، فهي أسماء ترتاح إليها النفس (فَادْعُوهُ بِها) يا أيها المؤمنون وقولوا يا الله الطف بنا ويا رزّاق ارزقنا ويا رحيم ارحمنا ويا غفور اغفر لنا (وَذَرُوا

الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي اتركوا ودعوا الذين ينكرون هذه الأسماء ويعدلون بها عمّا هي عليه فيسمّون بها أصنامهم ، أو أنهم يصفونه تعالى بما لا يجوز عليه كتسميتهم عيسى ابن الله والعياذ بالله وكغير ذلك ، فهؤلاء الملحدون (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) سيلقون جزاءهم وعقابهم في الآخرة.

١٨١ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...) أي : ومن جملة من خلقنا وذرأنا وأحدثنا جماعة يدعون الناس إلى الحق ويرشدونهم إلى الصواب ، لأنهم عصبة تهدي إلى توحيد الله وطاعته. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : هي لأمّتي ، بالحق يأخذون ، وبالحق يعطون ، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها. (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وقال (ص) أيضا : إنّ من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم. وروى العياشي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : والذي نفسي بيده لتفترقنّ هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا فرقة واحدة ، وممّن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فهذه التي تنجو. أما الإمامان الصادقان عليهما‌السلام فقد روي أنهما قالا : نحن هم.

* * *

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))

١٨٢ ـ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ...) بعد أن ذكر سبحانه المؤمنين المصدقين الذين يتّبعون الحق ويعملون بالحق ، ذكر المكذّبين بالقرآن الذي هو من آياته جلّ وعلا ، إلى جانب المعجزات الأخرى التي تدل على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم الذين كفروا بالله وبرسوله فقد قال عنهم : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) والاستدراج هو الأخذ

قليلا قليلا ودرجة بعد درجة ، فهؤلاء سيستدرجهم إلى الهلكة والخسران حتى يقعوا في العذاب بغتة ، وبحيث لا يحسّون كيف اعترفوا بذنوبهم فاستحقّوا سخط الله وعذابه. فهو سبحانه سيأخذهم في المستقبل القريب ـ أي بعد موتهم ـ بدليل السين التي دخلت على الفعل.

١٨٣ ـ (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ...) أي وأستأنيهم ، وأتركهم في ضلالهم ولا أستعجل بأخذهم ، بل أمهلهم ولا أعاجلهم بالعقاب ، فإنهم لن يفوتوا قدرتي ولن يفوتهم عذابي ، فإن كيدي : أي عذابي منيع قوي لا يقف بوجهه حائل ولا يدفعه دافع. وقد سمّى سبحانه عذابه هذا كيدا لأنه ينزل بهم من حيث لا يحسبون له حسابا ومن حيث لا يشعرون.

* * *

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

١٨٤ ـ (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ...) يعني : أولم يفكّر هؤلاء الكفار المكذّبون الذين مرّ ذكرهم ، والذين عاندوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يؤمنوا به وبقوله ، أو لم يتفكّروا أنه ليس بمجنون ولا خالطه مسّ ولا ظهر عليه ذلك في قول أو فعل؟ وقد قيل في سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد صعد الصّفا وأخذ يدعو قريشا فخذا فخذا إلى توحيد الله ويخوّفهم عذابه ، فقال المشركون : إن صاحبهم قد جنّ ، بات ليلا يصوّت إلى الصباح .. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ

مُبِينٌ) أي أنه أرسل مخوّفا للناس من عذاب الله ليتّقوه ، ودالّا على ما يؤدي إلى الأمن منه فيسلكون طريقه.

١٨٥ ـ (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) يعني : ألم يتفكروا في هذا الملك العظيم الذي لا يحدّه فكر ولا يحيط به نظر ، ولم يلاحظوا عجيب هذا الصّنع فيعتبروا ويعترفوا بخالق السماوات والأرض وبأنه مالكهما (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : ولم ينظروا بعين البصيرة إلى أصناف خلقه وعظيم قدرته فيستدلّوا بذلك على توحيده وإثبات وجوده (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولم يتفكّروا في أنه قد يكون قد اقترب أجل موتهم ووفاتهم فيدعوهم ذلك لأن يحتاطوا لأنفسهم ويختاروا الصالح لها بعد الموت وموافاة الأجل ويزهدوا بالدنيا وما فيها من التفاخر بالمال والولد. وهذا معناه : لعل أجلهم قريب وهم ساهون عن ذلك (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ) مع ما في القرآن الكريم من معجز. وقد سمّى القرآن حديثا لأنه محدث غير قديم كما لا يخفى.

١٨٦ ـ (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ...) قد مرّ تفسيره فيما مضى (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي ونتركهم متحيّرين في ضلالتهم وعمه قلوبهم. والعمه يكون في القلب ، كالعمى الذي يكون في العيون والعياذ بالله من كليهما.

* * *

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ

وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

١٨٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ...) أي : يستفهمون منك يا محمد عن الساعة : ساعة القيامة التي تتحدّث لهم عنها حين يحشرهم الله تعالى للحساب والثواب والعقاب ويقولون : (أَيَّانَ مُرْساها) متى موعدها؟ وأيّان معناه : متى ، وهو سؤال عن الزمان ، والإرساء الإثبات ، ورسا الشيء ثبت واستقر. فهم يسألونك عن الوقت الثابت المستقر لساعة البعث والحساب. والكاف في : يسألونك ، مفعول به أول ، وعن الساعة في موضع المفعول الثاني. والتقدير : يسألونك وقت الساعة ، قائلين : أيان مرساها ، أي منتهاها (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي علم وقت حدوثها وقيام القيامة عند الله سبحانه وتعالى لا يعرفه أحد غيره ولم يطلع عليه أحدا من عباده ليبقى الناس على حذر منه ، وذلك يخيفهم من سوء العاقبة ويدعوهم إلى الطاعة. فالساعة (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) أي لا يظهرها ويبيّن وقتها ولا يأتي بها (إِلَّا هُوَ) سبحانه وتعالى فقد استأثر لنفسه بعلمها وبكل ما يواكبها (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ثقل علمها على أهلهما لأن الذي يخفى عليه سرّ شيء يكون إدراكه له ثقيلا عليه ، بعكس من يعلمه فإنه تكون خفيفة عليه معرفته. وقيل معناه : ثقل وقوعها على أهل السماوات والأرض ، وقيل : عظمت عليهم ، وقيل أيضا : إن السماوات والأرض لا تطيق حملها لشدّتها لما يصيبهما من الانشقاق والانفطار ، فهي (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة لتكون أشد هولا وإخافة يسألونك كأنك حفي بها أي كأنك عالم بها. والحفيّ لغة هو الذي يستقصي في السؤال حتى يكون محيطا بجميع نواحي ما سأل عنه. فهم يسألونك كأنك قد اطّلعت على وقت حدوثها وعرفت سائر تفصيلاتها ، أي كأنك معنيّ بالسؤال عنها فسألت عنها حتى علمتها ، ولذلك وصل السؤال ب : عن (قُلْ) يا محمد : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ)

أي علمها محصور به عزّ اسمه ، لا يعلمها إلّا هو. وقد كرر سبحانه هذا القول لوصله بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقت حدوثها مع جميع ما يحدث أثناءها وبعدها ، فكل الناس لا يعلمون وقتها ، وأكثرهم لا يعلمون شيئا عنها وعمّا يرافقها.

وقيل إن جماعة من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا عن الساعة متى هي إن كنت نبيّا ، فنزلت هذه الآية.

١٨٨ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا ...) أي : قل يا محمد لجميع الناس : إنني لا أملك جلب نفع ولا دفع ضر (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سوى ما أراد الله أن يملّكني إياه فأملكه بأمره وتقديره. وقيل إن أهل مكة قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا يخبرك ربّك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه ، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل عنها إلى أرض قد أخصبت؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره الله سبحانه بذلك القول (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) وفي هذه الجملة حذف هو قوله (ص): ولا أعلم الغيب إلّا ما شاء الله أن يطلعني عليه ، ولو كنت أعلمه لادّخرت من أيام الخصب لأيام الجدب ، ومن أيام الرّخص لأيام الغلاء ، ثم كنت أختار الأفضل دائما في عمل الدّنيا وعمل الآخرة ، ولكن الغيب محجوب عني (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ما أصابني الفقر والحاجة والضر ، وقيل : معناه وما أصابني جنون كما تزعمون (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) مخوّف بالعذاب (وَبَشِيرٌ) مبشّر بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدقونني فيما أقول. وقد خصّهم سبحانه بالذكر لأنهم هم وحدهم المنتفعون بإنذاره وتبشيره وإن كان ينذر ويبشّر غيرهم أيضا.

* * *

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا

أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣))

١٨٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ...) أي أن الله تعالى خلقكم يا بني آدم عليه‌السلام (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلق حواء عليها‌السلام من تلك النفس ، والزوج يطلق على المذكّر والمؤنّث ، خلقناها (لِيَسْكُنَ) آدم (ع) الذي هو زوجها (إِلَيْها) ويأنس بها ويلتذّ بعشرتها (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي حين وطأها وأصابها كما يصيب الرجل زوجته بمجامعتها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) وهو الماء الذي استقرّ في رحمها وكان حمله خفيفا حين استقراره فيه (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت على الخفة بحركتها وقيامها وقعودها ولم يمنعها ذلك عن أي تصرف من تصرفاتها (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي : حين أحسّت بثقل الحمل لمّا كبر وصار جنينا وأخذ يتحرك في بطنها (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) يعني سألاه وطلبا منه وهما آدم وحواء (ع) قالا : (لَئِنْ آتَيْتَنا) إذا أعطيتنا (صالِحاً) ولدا معافى سليما سويّا ، وقيل ذكرا (لَنَكُونَنَ) لنصيرنّ (مِنَ الشَّاكِرِينَ) الحامدين لك المعترفين بنعمتك علينا. وقد قالا ذلك إذ أحبّا أن يكون لهما ولد يؤنسهما في وحدتهما إذ كانا لا يزالان فردين وحيدين إذا غاب واحد منهما عن الثاني أخذته الوحشة والخوف. وهذا القول يصح أن يقال في كل زوج وزوجة حين تكون الزوجة حاملا فإنهما يدعوان الله طالبين

ولدا صالحا.

١٩٠ ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ...) أي فلمّا آتاهما الله ولدا صالحا كما طلبا (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) وقد اختلف المفسرون في من يعود الضمير الموجود في : جعلا. فقيل انه يرجع إلى النسل الصالح المعافى في خلقه وبدنه لا في دينه ، وإنما ثنّاه سبحانه لأن : حواء عليها‌السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا أو أنثى ، وهذا يعني أن ذلك الذكر وتلك الأنثى جعلا لله شركاء فيما أعطاهما من النعمة ، فأضافا تلك النعمة إلى من اتّخذوهم آلهة من دون الله كما ورد عن الجبائي. وقيل إنه يرجع إلى النفس وزوجها من سائر ولد آدم ، لا إلى آدام وحواء بالذات لأنه سبحانه إنما يتكلّم هنا عن النوع كما عن الحسن وقتادة وغيرهما ، فلكل نفس زوج هو من جنسها ، فلما تغشّى كل زوج زوجه وحملت منه دعا كل منهما بأن يولد لهما صالح ، وكانت من عادة الجاهليين أن يئدوا البنت ويدفنوها في التراب حيّة ، أي أنهم كانوا يرضون بالذكر ويرفضون الأنثى ، فلسان حال كل أب وأم : إذا أعطيتنا ذكرا لنشكرنّك ، وإن أعطيتنا أنثى فلن نرضى بها (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : فسما وتقدس وارتفع الله سبحانه عن شركهم. وقوله : يشركون ، يدل على أن الكناية في الآية لا تتعلّق بآدم وحواء بل بجميع الناس ، إذ لو تعلّقت بهما لقال : فتعالى الله عمّا يشركان. والحديث في هذه الآية الشريفة يتناول حال الكفار والمشركين بالله ، ويجوز أن يذكر العموم ويخصّ البعض بالذكر ، وهذا كثير في لغة العرب ، فقد أخبرت الآية عن حالة بعض البشر من نسل آدم وحواء ، وهو نظير قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ...) إلخ .. حيث خاطب الجماعة بالتسيير ، ثم خص ركاب البحر بالذكر والوصف.

وفي إرجاع الضمير قول آخر ذكره صاحب المجمع قدس سرّه ، وهو أن الضمير يعود لآدم وحواء ، ويكون التقدير : جعل أولادهما له شركاء ،

فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار : جعلا. وهذا مثل قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ، والتقدير : وإذ قتل أسلافكم نفسا ، ويقوّيه ختام الآية : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

١٩١ ـ (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) : أي : كيف يشركون مع الله الخالق القادر غيره ممّا لا يستطيع أن يخلق شيئا ، بل هم ـ أي من أشركوهم معه ـ مخلوقون أوجدهم الله تبارك وتعالى؟ .. وهذا توبيخ للمشركين الذين يعبدون مع الله جمادات لا تسمع ولا تعقل ، قد أحدثها الله تعالى بقدرته. وقد قال سبحانه : وهم يخلقون ، على لفظ العقلاء لأنه أراد بذلك الأصنام والعابدين لها جميعا فغلّب ما يعقل على ما لا يعقل.

١٩٢ ـ (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) : أي أن المشركين يعبدون أصناما لا تقدر على نصر عابديها ، ولا نصر أنفسها إن حلّ بها ضيق. ومن كانت هذه حاله فهو في غاية العجز والضعف فكيف يجوز أن يكون معبودا؟

١٩٣ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ ...) أي وإن تدعوا هؤلاء المشركين إلى الهدى والحق لا يسمعوا دعوتكم لإصرارهم على الكفر ، ولذلك كان (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي أن دعاءكم لهم وسكوتكم عن دعوتهم للإيمان سواء ، فإنهم لا يسمعون دعوتكم ولا يستجيبون لقولكم.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ

ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

١٩٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ...) أي أن ما تدعونه آلهة من دون الله كالأصنام وغيرها ، هي عباد مخلوقة مملوكة مثلكم. وقيل إنهم عباد لأنهم مسخّرون مذلّلون لأمر الله تعالى. فالأصنام والأوثان غير ممتنعة عن قدرة الله تعالى ، وهي بهذا المعنى كانت عبادا لله معبّدة موطّأة كالطرق المعبّدة الموطوءة ، وقوله تعالى : عبّدت بني إسرائيل ، أي ذلّلتهم وجعلتهم خدما وعبيدا (فَادْعُوهُمْ) أي اطلبوا منهم حاجاتكم ومهمّاتكم وكشف السوء عنكم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي فليجيبوا طلباتكم إذا قدروا عليها. وهذا تعجيز لعبدة الأصنام لأن الأصنام لا تستجيب. واللام هنا هي لام الأمر. فادعوهم أيها المشركون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنها تنفع وتضر وتستجيب الدعاء وتثيب وتعاقب وتنصر وتذل. ثم استهزأ بأصنامهم ومعبوداتهم ، وفضّل الإنسان عليها فقال سبحانه :

١٩٥ ـ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها ...) أي ليس يملكون أرجلا يمشون بها لمصالحكم ولما تدعونهم إليه (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) ومعنى البطش الأخذ بشدة والضرب بقسوة ، فليس لهم أيد يدفعون بها عنكم (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها) ويرون الطائع من العاصي والعابد من المستهزئ بهم (أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) ويصغون إلى من يدعوهم وإلى من يسخر منهم؟ لا ، ليس لهم هذه الأعضاء ولا تلك الحواس ، والناس أفضل منهم ، فكيف يعبد المشركون من لا يستطيع الحركة والسمع ويفتقر إلى الحياة بكاملها؟ ف (قُلِ) يا محمد : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي ادعوا هذه الأوثان التي تشركونها في أموالكم وضحاياكم ونذوركم (ثُمَّ كِيدُونِ) واستعملوا ما عندكم من تدبير وتعاونوا معهم على ذلك جميعكم (وَلا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخّروني ، فإن ربي ومعبودي ينصرني ويدفع عني كيد الكائدين ومكر الماكرين ، في حين أن معبودكم عاجز عن نصركم والدفاع عنكم ، فلا تمهلوني في الكيد فإن ربّي يردّ كيد الكافرين عني.

* * *

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))

١٩٦ ـ (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ ...) أمر الله سبحانه نبيّه أن يقول للمشركين الذين دفعتهم حجته : إن حافظي وولي أمري وناصري عليكم ، هو الله الذي أنزل عليّ هذا القرآن ، وهو يؤيّدني بنصره كما أنزله عليّ ليحفظني ويحفظه (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي هو الله سبحانه يتولّى أمور المطيعين له الكافّين أنفسهم عن معاصيه المؤتمرين بأوامره المنتهين عن نواهيه.

١٩٧ ـ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ...) أي الذين تسمّون من دون الله ، وتدعونهم آلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) لا يقدرون على معاونتكم ونصركم في المهمات ، ولا يدفعون عنكم ضرّا (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) قد كرّر سبحانه ذلك ليبيّن الفرق بين من تصحّ عبادته ومن لا تصح عبادته وربوبيته. فكأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : من أعبده ينصرني ، ومن تعبدونه لا يستطيع أن ينصركم لأنه عاجز عن نصر نفسه.

١٩٨ ـ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا ...) أي إذا دعوتم هذه الأصنام التي تعبدونها إلى الهدى لا تسمع ولا تعي ولا تعرف الرشد (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي مفتوحة أعينهم نحوكم كما رسموها ونحتوها

(وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي لا يرون ولا يبصرون الحجة ولا يدركون شيئا مما حولهم.

١٩٩ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) أي : خذ يا محمد ما عفا وما فضل من أموال الناس للنفقة ـ كما هي عادتك من أخذ فضل أموال المسلمين ـ وهذا قبل نزول آية الزّكاة ـ وقيل : خذ بالعفو عمّا في سلوك الناس وأخلاقهم ، واقبل الميسور وكن متساهلا واقبل أعذار المعتذرين. وفي المجمع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل جبرائيل عن ذلك حين نزول هذه الآية فقال لا أدري حتى أسأل العالم. ثم أتاه فقال : يا محمد ، إن الله يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك. فأمر بالعرف : أي بالمعروف وبكل ما هو حسن بنظر العقل (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي اتركهم وانصرف عنهم بعد قيام الحجة عليهم وبعد أن تيأس من قبولهم حجتك.

٢٠٠ ـ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ...) النزغ هو الإزعاج بالإغراء ، ويكون أكثر ما يكون عند الغضب ، ونزغ الشيطان هو إفساده ووسوسته. فإذا أصابك يا محمد شيء من ذلك وأصابك نخسة في القلب عند الغضب فاستعذ بالله ، واسأله أن يعيذك ويجيرك (إِنَّهُ سَمِيعٌ) كثير السمع شديدة (عَلِيمٌ) عارف بكل ما خفي خبير به.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

٢٠١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ...) أي أن الذين تجنّبوا معاصي الله وائتمروا بأوامره ، إذا مسّهم : أي عرض لهم وسواس من الشيطان وأغراهم بمعصية الله جلّ وعلا. والطائف هو خطرة من الشيطان كالوسوسة وغيرها. وهو كالطيف يراه الإنسان فالمتّقون إذا أصابهم ذلك (تَذَكَّرُوا) الله سبحانه وذكروه ورجعوا عمّا فكّروا به وتركوه وأقلعوا عن الوقوع في الذنب واتّباع وسوسة الشيطان (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) راؤون طريق الرشد متبصّرون للحقيقة.

٢٠٢ ـ (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ...) أي أن إخوان المشركين من شياطين الجن وشياطين الإنس ، يشجّعونهم على الضلال واتّباع همزات الشياطين ويزيّنون لهم ما هم فيه (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) أي لا يكفّون ولا يمتنعون عن التزيين لهم والإغواء ، فلا يقصر هؤلاء الضالون عن سلوك طريق الغيّ كما يقصر المتّقون.

٢٠٣ ـ (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ ...) أي إذا سكتّ عنهم يا محمد ولم تأتهم بحجة أو ببيّنة وأبطأت عنهم في ذلك (قالُوا) لك : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي لولا اخترتها من عندك ولم تنتظر الوحي كما تدّعي ، وذلك حين يقترحون عليه الآية فينتظر (ص) نزول الوحي. أي فهلّا جئت بها من عندك واستغنيت عن أن تسأل ربك؟ ف (قُلْ) لهم يا محمد : (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) أي لا أجيء بالآيات من قبل نفسي ، وإنما يفعل ذلك الله جلّ وعلا ، وأنا أتّبع وحيه إليّ وأمره لي ، فهو الذي ينزّل الآيات ويظهرها على حسب ما يعلم من المصلحة ، ولا يكون ذلك باقتراح الناس ولا رغبات البشر ، وأنا لا أسأله الآيات إلّا بعد إذنه ورضاه (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) أي هذا القرآن الكريم هو دلائل واضحة وحجج وبراهين ساطعة من ربكم تبصرون به أمور دينكم وَهو (هُدىً وَرَحْمَةٌ) لأنه يهدي إلى الحق والرشاد ، وهو رحمة ولطف في الدنيا

والآخرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي للذين يصدّقون دون غيرهم لأنهم هم الذين ينتفعون بهداه ويستفيدون من مواعظه. وفي هذه الآية الكريمة دلالة على أن أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأفعاله كانت تابعة للوحي لأنه كان : لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى.

* * *

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

٢٠٤ ـ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ...) هذا أمر من الله تعالى للناس بالاستماع إلى القرآن عند تلاوته وبالإنصات والتفكر في معانيه. وقد اختلف المفسرون في الوقت الذي أمروا بالإنصات فيه ، فقيل إنه في الصلاة خاصة خلف الإمام كما عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وابن عباس ومجاهد وغيرهم ، إذ كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم ويسلّم بعضهم على بعض. وقيل أمروا بالاستماع له في الخطبة والصلاة جميعا ، والأول أقوى. وفي العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قرأ ابن الكوا خلف أمير المؤمنين : لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين ، فأنصت أمير المؤمنين عليه‌السلام. وفي المجمع عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يقرأ القرآن ، أيجب على من سمعه الإنصات له والاستماع؟ قال : نعم ، إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع .. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي بأمل أن تصيبكم الرحمة بذلك لاعتباركم بمواعظة ولالتزامكم بأوامره.

٢٠٥ ـ (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ...) الخطاب هنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد به عامّ لسائر المكلّفين. وقيل إن المقصود به هو مستمع تلاوة القرآن يذكر ربّه في نفسه بالكلام الخفيّ من التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل. وفي المجمع أن زرارة روى عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : معناه إذا كنت خلف الإمام تأتمّ فأنصت وسبّح في نفسك ، أي أثناء القراءة التي لا يجهر بها الإمام. وسواء كان هذا أو ذاك فأنت مأمور أن تذكر ربّك في نفسك في تلك الحالات (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) أي بتضرّع ، يعني بدعاء وخشوع وابتهال وخوف من الله جلّ وعلا. وقد خصّ الذكر في النفس لأنه يكون أبعد عن الرياء كما عن الجبائي (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي ارفع صوتك قليلا ولا تجهر به كثيرا بليغا ، وهذا بمعنى قوله سبحانه : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، فاذكره كذلك (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي في الغدوات ـ صباحا ـ وفي العشيّات ـ مساء ـ ففي هذين الوقتين يكون القلب فارغا عن طلب الدنيا والمعاش (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) لا تغفل عمّا أمرتك به من الذّكر والدعاء والتسبيح. وعلى هذا فلا ينبغي رفع الصوت فوق المألوف عند الدعاء.

٢٠٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ...) أي إن الملائكة المقرّبين مع عظمة خلقهم وجلال قدرهم وسموّ شأنهم يعبدون الله تعالى ولا يأنفون من عبادته ولا يتكبّرون عن طاعته ، فلا ينبغي للناس ـ وهم أدنى منهم شأنا ومنزلة ـ أن يستكبروا عن عبادته. ولا يخفى أنه عزّ اسمه قال : عند ربّك ، تشريفا للملائكة وتعظيما لشأنهم ، لا أنه أضافهم إلى نفسه يريد قرب مكانهم منه جلّ وعلا ، وذلك كقول الناس عند الملك كذا وكذا من الجند ، يريدون أنهم تحت أمره لا أنهم في قصره. وقال الزجاج : من قرب من رحمة الله وفضله فهو عند الله ، وهو قريب من فضله وإحسانه ... فهؤلاء الذين عند ربّك يعبدونه غير مستكبرين عن عبادته (وَيُسَبِّحُونَهُ) يعني ينزّهونه عمّا ليس من شأنه ولا يليق بعظمته (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي يخضعون أو يصلّون ، أو يسجدون في الصلاة وفي مناسبات الشكر والحمد على النّعم.

سورة الأنفال

مدنية ، خمس وسبعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) أي يسألك يا محمد أصحابك عن الأنفال ، وهي جمع نفل وهو الزيادة على الشيء كالنافلة التي هي زيادة على الصلاة ، ونفلته إذا أعطيته زيادة عن حقه. وقيل هو العطية تطوّعا ومن غير واجب. فأصحابك يسألونك عن الغنائم التي غنمتها يوم بدر ويطلبون تقسيمها. وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : إن الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال. ويسميها الفقهاء الفيء وميراث من لا وارث له ، وقطائع الملوك غير المغصوبة والأودية وبطون الآجام والأرض

الموات ، وقالا : هي لله وللرسول ، وبعده لمن قام مقامه فيصرفه حيث شاء من مصالح نفسه ليس لأحد فيه شيء. وقالا : إن غنائم بدر كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة ، فسألوه أن يعطيهم ... وقد صح أن قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : يسألونك الأنفال ، وكذلك قراءة ابن مسعود وكثيرين غيره. وقد قال سبحانه لنبيّه (ص) : (قُلِ) يا محمد : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فهي لهما دون غيرهما ولا يجب تقسيمها ولا إعطاؤها سهاما (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوه وتجنّبوا سخطه وما يغضبه ولا تطلبوا ما ليس لكم. وقيل إن أصحابه لم يسألوه تقسيم الأنفال وإنما سألوه عن حكمها ولذلك جاء الجواب على هذا الشكل ، ونزع الله الغنائم وجعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها بينهم بالسوية. وقال ابن عباس ـ كما في المجمع ـ : كانت الغنائم لرسول الله خاصة ليس لأحد فيها شيء ، وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول ، فسألوا رسول الله (ص) أن يعطيهم منها فنزلت الآية. فالأنفال لله والرسول يقسمان منها ما شاءا ، فاحذروا مخالفة أمرهما (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي ما بينكم من الخصومة والنزاع ، وكونوا مجتمعين على ما أمر الله سبحانه ورسوله وأصلحوا حالكم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي ارضوا بما أمرتم به في الأنفال والغنائم وغيرها وأقبلوا بحكم الله فيها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذا كنتم مصدّقين بما جاء به النبيّ (ص) عن الله. وفي تفسير الكلبي أن الخمس لم يكن مشروعا يومئذ وإنما شرع يوم أحد ، ولما نزلت هذه الآية عرف المسلمون أنه لا حقّ لهم في الغنيمة وأنها لرسول الله فقالوا : يا رسول الله سمعا وطاعة فاصنع ما شئت فنزلت آية الخمس.

٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) بعد أن قال سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) في آخر الآية السابقة ، بيّن في هذه الآية صفة المؤمنين فقال : إن المؤمنين يخافون الله عند ذكره ، وتفزع قلوبهم تعظيما له وخوفا من معصيته وعقابه ورغبة في طاعته وثوابه ، وعلما بقدرته ومعرفة

برحمته ورأفته. فالمؤمنون توجل قلوبهم وتضطرب نفوسهم إذا ذكروا معاصيهم (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي إذا قرئت عليهم آيات القرآن زادتهم بصيرة ومعرفة ويقينا فيزداد تصديقهم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي يفوّضون إليه أمورهم فيما يخافون وفيما يرجون.

٣ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) : قد مرّ تفسيرها في أول سورة البقرة. وقد خص الصلاة والزكاة بالذكر لعظم أمرهما وليحث الناس على فعلهما والاستدامة عليه.

٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ...) يعني أن المؤمنين الّذين تكون صفتهم بحسب ما ذكر في الآيتين السابقتين ، هم المؤمنون حقّا وحقيقة. وقد نصبت لفظة : حقّا ، بما دلّت عليه الجملة : أولئك هم المؤمنون. والمعنى : أحق ذلك حقّا (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هي الدرجات التي في الجنة يرتقون إليها بأعمالهم ، ويستحقونها بما فعلوه من خير في أيام حياتهم. فلهم تلك الدرجات (وَ) لهم (مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) كبير دائم لا ينفد ولا يعتريه كدر ولا يخشى نقصانه.

ويظهر من هذه الآيات أن المنافق لا تدخل قلبه خشية الله عند ذكره ، وأن هذه الأوصاف لا تكون إلّا عند المؤمن المصدّق.

* * *

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦))

٥ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ...) الكاف في قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) ، يتعلق بما دلّ عليه قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، لأن معنى ذلك نزعها من أيديهم بالحق كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق.

فالأنفال ثابتة لله ورسوله حقّا ، مثلما أخرجك ربّك من بيتك. فيا محمد قل لأصحابك : إن الأنفال لله ورسوله قد نزعها عنكم مع كراهتكم لذلك فإن ذلك أصلح لكم ، كما أن خروجكم للقتال كان أصلح لكم. فهذا خير لكم كما كان ذاك أيضا خيرا لكم. وجاء في حديث أبي حمزة الثمالي أن معناه : فالله ناصرك كما أخرجك من بيتك. وقوله : (بِالْحَقِ) أي بواسطة الوحي ، وذلك إن جبرائيل عليه‌السلام أتاه وأمره بالخروج. فخرج ومعه الحق في قتال المشركين والمعاندين وفي إعلان الجهاد (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي طائفة منهم (لَكارِهُونَ) غير راغبين في ذلك الخروج للمشقة التي يتحمّلونها ، وهم (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يناقشونك فيما ندبتهم إليه بعد ما علموا صحته وعرفوا صدقك. ومجادلتهم كانت تتجلّى في قولهم : هلّا أخبرتنا بذلك القتال لنستعدّ له ، وهم يعلمون أنك لا تأمرهم عن الله إلا بما هو حق ، ومجادلتهم كانت وسيلة للحصول على رخصة لهم بالتخلّف عنه أو في تأخير الخروج إلى مناسبة أخرى ، فهم (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأن هؤلاء المجادلين الذين لم يكونوا مستعدين للجهاد ، كانوا بمنزلة من يساق إلى الموت وهو يراه بعينيه وينظر إلى أسبابه وقرب حلوله.

* * *

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

٧ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ...) أي اذكروا إذ يعدكم الله أن العير أو النفير تكون لكم. وصاحب العير كان أبو سفيان بن

حرب وقد رغبوا فيها لأنه لا تلحقهم مشقة دونها ، والنفير هو الجيش الذي نفر للقتال من قريش (وَتَوَدُّونَ) تحبّون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي العير التي لا تكلفهم حربا وتعبا كانوا يرغبون بها. أما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان يرغب بذات الشوكة ، أي بالنفير. وذات الشوكة كناية عن الحرب والسلام (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) فانه أعلم بالمصلحة منكم ، ويريد أن يظهر الحق بلطفه وأن يظفركم على الأعداء ذوي الشوكة ويعز الإسلام بإهلاك جبابرة قريش على أيديكم. وبكلماته أي بأمره إياكم بالقتال ليقتلهم (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) يعني يستأصلهم ولا يبقي منهم أحدا.

٨ ـ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ ...) أي ليظهر الإسلام الذي هو الحق (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) يذهب الكفر بقتل العتاة والكافرين (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي برغم كره الكافرين لذلك ، فهم مجرمون بحق أنفسهم وبحق غيرهم بتمسكهم بالباطل وحثّ الآخرين عليه.

أما غزوة بدر فقال عنها أصحاب السير : أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام ، وفيها أموالهم التي اشتروا بها الطّيب وغيره ، وفيها أربعون راكبا من قريش : فانتدب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه للخروج إليها لأخذها وقال : لعلّ الله أن ينفلكموها : فخفّ بعضهم وتثاقل البعض وظنوا أن رسول الله (ص) لن يلقى كيدا ولا حربا ، وخرجوا يريدون أبا سفيان وركبه ويرون ذلك غنيمة لا تكلفهم مشقة كبيرة. فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ (ص) وصحبه استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة ليأتي قريشا ويستنفرهم ويخبرهم بغزو المسلمين لقافلة تجارتهم ، فخرج ضمضم سريعا في مهمته. وكانت عاتكة بنت عبد المطلب (ع) قد رأت فيما يرى النائم ـ قبل وصول ضمضم إلى مكة ـ رأت كأنّ راكبا أقبل على بعيره ونادى : يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم. ثم صعد بجمله جبل أبي قبيس وأخذ حجرا ودحرجة من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه

فلذة ، فانتبهت فزعة وأخبرت أخاها العباس بذلك فأخبر به عتبة بن ربيعة فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش. وانتشر خبر الرؤية فبلغت أبا جهل فقال : هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطلب. واللات والعزّى لننظرنّ ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقّا وإلا لنكتبنّ كتابا بيننا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.

فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم ينادي بأعلى صوته : يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير أي أدركوا الطّيب والعطور والعير ـ أدركوا وما أراكم تدركون. إن محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم. فتهيأوا للخروج ولم يبق أحد من عتاة قريش إلّا أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وقالوا : من لم يخرج نهدم داره ، ثم أخرجوا معهم القيان يضربون على الدفوف.

أما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج في ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا وسار ، إلى أن كان بقرب بدر أخذ عينا كان يتجسّس لقريش فأخبره بهم. ثم بعث (ص) عينا له على عير قريش اسمه عدي ، فلما قدم عليه أخبره أين فارق العير. ثم نزل جبرائيل عليه‌السلام فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفير المشركين من مكة ، فاستشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام ابو بكر فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ، ولم تخرج على هيئة الحرب. ثم قال : فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنّا فرسا رهان. ثم قام عمر فقال مثل ذلك ، ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله ، إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنّا بك وصدّقنا وشهدنا أنّ ما جئت به حق. والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى (ع) : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون. ولكنّا نقول : امض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون. فجزاه النبيّ (ص) على قوله خيرا وقال : أشيروا عليّ أيها الناس ـ يريد الأنصار لأنه في ذمّتهم وعليهم نصره ـ فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا

رسول الله ، كأنك أردتنا؟ فقال : نعم. قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منها ما شئت. والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ، ولعلّ الله عزوجل أن يريك منّا ما تقرّ به عينك. فسر بنا على بركة الله.

فقال رسول الله (ص) : سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، ولن يخلف الله وعده. والله لكأني أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وفلان وفلان ، ثم أمر بالرحيل إلى بئر بدر.

وأقبلت قريش فأرسلت عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله (ص) وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم في حين كان النبيّ (ص) يصلي ، فانفتل من صلاته وقال : إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم؟ فأتوه بهم فقال لهم : من أنتم؟ قالوا : يا محمد نحن عبيد قريش. قال : كم القوم؟ قالوا : لا علم لنا بعددهم. قال : كم ينحرون في كل يوم من جزور؟ قالوا : تسعة إلى عشرة. فقال رسول الله (ص) : القوم تسعمئة إلى ألف رجل. ثم أمر بهم فحبسوا. وبلغ ذلك قريشا فخافوا وندموا على مسيرهم. ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال : أما ترى هذا البغي ، والله ما أبصر موضع قدمي. خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت ، فجئنا بغيا وعدوانا. والله ما أفلح قوم بغوا قط. ولوددت أن ما في العير من أموال عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير. فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش ، فسر في الناس وتحمّل العير التي أصابها محمد وأصحابه ، وتحمّل دم ابن الحضرمي فإنه حليفك. فقال له : عليّ ذلك وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ فصر إليه وأعلمه أني حملت العير ودم ابن الحضرمي وعليّ عقله. قال : فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال : إن

عتبة يتعصب لمحمد فإنه من بني عبد مناف ، وابنه معه يريد أن يخذّل بين الناس. لا واللات والعزى حتى نقحم عليهم يثرب ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك.

وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش قد نجّى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب وادفعوه بالراح ما اندفع ، وإن لم ترجعوا فردّوا القيان. فلحقهم الرسول (ص) بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم ، وردّوا القيان من الجحفة ... وفزع أصحاب النبيّ (ص) لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا فأنزل الله سبحانه : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ...) (وستأتي بقية قصة غزاة بدر بعد صفحات قليلة).

* * *

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠))

٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ ...) أي : واذكروا أيها المسلمون إذ تستجيرون بربكم وتطلبون منه الغوث قبل نصركم يوم بدر. والعامل في إذ قوله : ويبطل الباطل ، وقيل هو محذوف أي واذكروا إذ كنتم تستغيثون. وعلى الوجه الأول يكون الكلام متصلا بما قبله ، وعلى الوجه الثاني يكون الكلام مستأنفا ... فيوم كنتم تستجيرون بربكم استجاب لكم وكشف الضرّ عنكم ووافق على مسألتكم وأجاب دعاءكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي مرسل لكم مدادا (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متبعين ألفا آخر لأن مع كل واحد منهم ردفا. وقيل بل هم ألف واحد

كانوا متتابعين بعضهم في إثر بعض. وقرئ : مردفين على صيغة اسم المفعول ، من جانب أهل المدينة فقط.

١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى ...) الهاء في : جعله ، عائدة للإمداد بالملائكة ، لأنه مدار الكلام. وهذا يعني أن الله سبحانه ما جعل ذلك الإمداد إلّا بشارة لكم بالنصر ولتطمئن قلوبكم. ولولا تسكين نفوسكم لكان ملك واحد كافيا لتدمير المشركين وزلزلة الأرض تحت أقدامهم. واختلف المفسرون في هل إن الملائكة قاتلت أم أنها شجّعت وكثّرت عدد المسلمين. وقد روى عبد الله بن مسعود أن أبا جهل سأله قائلا : من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص؟ قال : من قبل الملائكة. فقال : هم غلبونا لا أنتم. وكذلك روى ابن عباس أن الملائكة قاتلت فعلا (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي لم يكن النصر في الواقع من قتال الملائكة ، وإنما هو من قبل الله ، فهم عباده ينصر بهم من يشاء. وعلى كل حال فليس النصر بكثرة العدد ولا بقلّته ، ولكنه من عند الله جلّ وعلا (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) قوي منيع لا يرد قضاؤه ، وهو (حَكِيمٌ) يجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة.

* * *

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ

الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ...) قرئ : يغشيكم ، ولا فرق في المعنى وإن اختلفت الصيغة ، كما أنه قرئ : يغشاكم النّعاس ، بإسناد الفعل إلى النعاس ، وهي قراءة شاذة. وقد مرّ تفسير هذه العبارة عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) ، والنّعاس هو أول النوم ، وقد انتصب أمنة بأنه مفعول له والعامل فيه يغشّي. وأمنة يعني أمانا من العدوّ ولئلّا تنتبهوا إلى عدده وعديده فتخافوا فإن الإنسان إذا نعس تخفّ عليه وطأة الخوف ، وقيل أمانا من الله سبحانه ودعة منه لتزداد قوّتهم على القتال حين يستشعرون بالراحة. وَهو تعالى الذي كان حينئذ (يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) وذلك أنهم سبقهم الكفار إلى الماء ، وأقاموا ـ هم ـ على كثيب رمل وأصبحوا محدثين ومجنبين وأصابهم العطش وجاء الشيطان يوسوس لهم بسبق عدوّهم إلى الماء وبأنهم لن يصلوا إليه إذ لا يستطيعون السير على الرمل حيث تسوخ أقدامهم فيه. فأنزل الله المطر فاغتسلوا من الحدث ومن الجنابة وصلبت الأرض تحت أقدامهم وغاص أعداؤهم في الوحل لأنهم كانوا في أرض ترابية (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته بالقبيح الذي رماكم به ، وقيل إنه وسوس لهم بأنه لا طاقة لهم بالأعداء (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ليشدّ عليها ويشجّعكم ويزيدكم أملا بالنصر عليهم (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) أي ليجعل أقدامكم ثابتة لا تزول في الحرب.

١٢ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ ...) يعني الملائكة الذين أعانوهم في الحرب حين أمدّهم الله تعالى بهم ، فقد أوحى إليهم أني معكم ، أعينكم وأنصركم. والوحي هنا إلقاء في القلب يدركه وتقوى به النفس. فقد ألقى سبحانه في روع الملائكة : أني معينكم (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) قوّوهم بالبشارة بالنصر. وروي أن الملك كان يسير أمام

الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم. وقيل إن تثبيتهم هو بقتالهم معهم وبتشجيعهم وبأشياء تلقى في قلوبهم فيقولون على القتال (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الرّعب هو الخوف الشديد الذي يلقيه الله جلّ وعلا في قلوب المشركين من سطوة أوليائه المؤمنين (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي اضربوا الرؤوس والجماجم التي تحملها أعناق الكافرين أيها المؤمنون. وقيل هو خطاب للملائكة التي كانت لا تعرف كيف تضرب فعلّمها الله تعالى ذلك (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) البنان هي أطراف اليدين والرجلين ، أي الأصابع فاضربوها لتختلّ السيوف في أيديهم وليفقدوا توازنهم حين تضرب أيديهم وأرجلهم.

١٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي ذلك العذاب الذي كتبته عليهم والذي أمرتكم به ، كان بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله وحاربوهما (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يخالف أوامرهما ويعصيهما لأن الشقاق هو العصيان (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يهلك العصاة في الدنيا ، ويخلّدهم في النار في الآخرة ، وهذا من أشد العقاب الذي ينزله بأعدائه ولا يفوته.

١٤ ـ (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) : أي هذا الذي أعددته لكم أيها الكافرون من القتل والإهلاك في الدنيا فذوقوه في العاجلة ، وإن لكم في الآجلة عذاب النار التي تحرقكم ولا تموتون فيها ولا تحيون.

.. أما بقية قصة غزوة بدر فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أصبح عبّأ أصحابه الذين كانوا لا يملكون سوى فرسين أحدهما للزبير والثاني للمقداد. وكان معهم سبعون جملا يتعاقبون عليها. أما عسكر قريش فكان فيه أربعمائة فرس (وقيل مائتا فرس) ولذلك قال أبو جهل حين رأى النبيّ (ص) وأصحابه : ما هم إلّا أكلة رأس ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد. فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا أو مددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي الفارس الشجاع ، فجال بفرسه حول عسكر النّبيّ (ص) وعاد فقال : ليس لهم كمين ولا مدد ، ولكنّ نواضح

يثرب (أي جمالها) قد حملت الموت. أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي؟ ما لهم من ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم. فارتأوا رأيكم. فقال أبو جهل : كذبت وجبنت ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، فبعث إليهم رسول الله (ص) فقال : يا معشر قريش ، إني أكره أن أبدأ بكم ، فخلّوني والعرب وارجعوا. فقال عتبة : ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ، ثم ركب جمله وجال بين العسكرين ونهى عن القتال ، فقال رسول الله (ص) : إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ـ أي عتبة ـ وإن يطيعوه يرشدوا. وكان عتبة قد خطب فقال : يا معشر قريش ، أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، إن محمدا له إلّ وذمّة ـ أي عهد وأمان ـ وهو ابن عمكم ، فخلّوه والعرب ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره. فغاظ أبا جهل قوله فقال له : جبنت وانتفخ سحرك؟ فقال : يا مصفرّا ستة ، مثلي يجبن؟ وستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن ، وأيّنا المفسد لقومه ، ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد ، وقال : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش. فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم. فقالوا : ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش. فأمر رسول الله (ص) عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ـ وهو ابن سبعين سنة ـ وعمّه الحمزة ، وعليّ بن أبي طالب ـ وهو أصغر القوم ـ وقال (ص) : اطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها ، تريد أن تطفئ نور الله ، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره. وقال : يا عبيدة عليك بعتبة ، ويا حمزة عليك بشيبة ، ويا عليّ عليك بالوليد. فبرزوا إليهم ، فقالوا : أكفاء كرام.

وحمل عبيدة على عتبة فضربه ضربة فلقت هامته ، وضر عتبة عبيدة على ساقه فقطعها ، فسقطا جميعا.

وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما.

وحمل أمير المؤمنين (ع) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه. وفي هذه اللحظة اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون : يا عليّ أما ترى أن الكلب قد نهز عمّك؟ فحمل عليّ على شيبة ثم قال : يا عم طأطئ رأسك إذ كان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره فضرب عليّ شيبة فطرح نصفه الأعلى فقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة ، عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة فنريهم ضلالتهم التي هم عليها.

وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم : أنا جار لكم ، ادفعوا إليّ رأيتكم ، فدفعوا إليه راية الميسرة التي كانت مع بني عبد الدار ، فنظر إليه رسول الله (ص) وقال للمسلمين : غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ ، ورفع يده فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة لا تعبد. ثم أصابته غشية قليلا وأفاق منها وهو يمسح العرق عن وجهه الشريف وقال : هذا جبرائيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين. ولقد روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أنه قال : لقد رأينا يوم بدر أن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقال ابن عباس : حدثني رجل من بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن يومئذ مشركان ننظر الوقعة وننتظر على من تكون الدبرة. فبينا نحن هناك إذ دنت منّا سحابة فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم. ثم قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.

وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول الله (ص) كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلمت وأسلمت أمّ الفضل. وكان العباس يكره أن يخالف قومه ويهابهم وكان يكتم إسلامه. وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة ، وكذلك صنعوا فلم يتخلّف رجل إلا بعث

مكانه رجلا. فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزّا ، وكنت رجلا ضعيفا أنحت القداح في حجرة زمزم. فو الله إني لجالس في عملي وعندي أم الفضل وقد أفرحنا ما حصل ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرّ رجليه حتى جلس على طنب الحجرة فصار ظهره إلى ظهري ، وسريعا ما قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وقد قدم. فقال أبو لهب : هلمّ إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر. فجلس إليه والناس قيام ، فقال : أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله ، إن كان إلّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا. وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ثم قلت : تلك الملائكة ، فرفع أبو لهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة ثم احتملني وضرب بي الأرض ثم برك عليّ يضربني. فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة شجّت رأسه شجّة منكرة وقالت : تستضعفه إن غاب عنه سيّده؟ فقام مولّيا ذليلا ، فو الله ما عاش إلّا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته ، وتركه ابناه ليلتين أو ثلاثا لم يدفناه فأنتن في بيته ، فقال لهما رجل من قريش : أما تستحيان وقد أنتن أبوكما؟ ألا تغيّبانه؟ فقالا : إنا نخشى هذه القرحة. ثم غسّلاه قذفا بالماء ولم يمسسه أحد واحتملاه فدفناه في جانب مكة وقذفوا عليه الحجارة قذفا.

وفي تلك الغزوة أسر العباس ، أسره كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وهو رجل مجموع والعباس رجل جسيم ، فقال رسول الله (ص): كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، فقال (ص) : لقد أعانك عليه ملك كريم .. والحمد لله الذي نصر عبده وأنجز وعده.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))

١٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ...) هذا خطاب للمؤمنين أن إذا جمعتكم الحرب مع الذين كفروا والتقيتم بهم وجها لوجه وهم يزحفون : يدنون منكم قليلا قليلا ويتقدّمون نحوكم ، وتواقفتم معهم للقتال (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي فلا تهربوا ولا تنهزموا أمامهم ، ولا تجعلوا ظهوركم مما يليهم وأنتم هاربون من قتالهم.

١٦ ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ...) أي ومن يعيرهم كتفيه ويدير ظهره منهزما يومئذ : أي في ذلك الوقت (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي : إلّا مغيّرا موقفه من حال استعداد إلى حال أفضل وموقف أصلح ، بحيث يري عدوّه أنه يفرّ ، ثم يكرّ عليه منعطفا لقتاله (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منضمّا ومنحازا إلى جماعة من حزبه ليستعين بهم ويعينهم ـ إذا لم يكن فعله كذلك (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي استحق غضب الله وسخطه واحتمله وعاد به (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أي مرجعه الذي يأوي إليه ويدخله يكون جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وساء مصيره ذاك. وقيل إن هذا الوعيد خاص بيوم بدر ، وقيل هو عامّ وأن من فرّ من الزحف إذا لم يزد الكافرون على ضعفي المسلمين لحقه الوعيد.

ثم نفى سبحانه وتعالى أن يكون المسلمون قتلوا المشركين يوم بدر خاصة فقال عزّ من قائل :

١٧ ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ...) فقد نفى القتل عن المسلمين مع أنه كان يرى أنهم هم الذين فعلوه بحسب الظاهر ، ونسبه إلى نفسه جلّ وعلا وليس بفعل له لأن أفعاله سبحانه كانت كالسبب المؤدّي لفعل المسلمين إذ أقدرهم عليه وأعانهم وشجّعهم وألقى الرعب في قلوب أعدائهم. وقد قال لنبيّه (ص) : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فقد ذكر ابن عباس وغيره أن جبرائيل عليه‌السلام قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول الله (ص) لمّا التقى الجمعان لعليّ : أعطني قبضة من حصى الوادي ، فناوله كفّا من حصى عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم. وكان هذا العمل سبب هزيمة المشركين. فقد أضاف الله تعالى الرمي إلى نفسه لأنه لا يقدر غيره على مثله إذ هو من أعظم المعاجز (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي لينعم بذلك على المؤمنين نعمة حسنة. والضمير في : منه ، عائد إلى النصر الذي حقّقه ، ويمكن إرجاعه إليه تعالى (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لدعائكم وغيره ، وعالم بأفعالكم.

وقد قال عن النعمة بلاء ، كما يقال عن المضرّة بلاء ، لأن أصل البلاء ما يظهر به الصبر والشّكر المؤدّي إلى الأجر سواء أكان صبرا على الضّر ، أم شكرا على النعم.

١٨ ـ (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) : ذلكم موضعه رفع ، وكذلك : أنّ الله ، في موضع رفع. والتقدير : الأمر ذلكم ، والأمر أن الله موهن. وهذه إشارة إلى بلاء المؤمنين الذي ذكره في الآية الشريفة السابقة. والحاصل أن الأمر ذلك الأنعام الذي مننت به عليكم (وَأَنَّ اللهَ

مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي مضعف مكرهم بإلقاء الرعب في قلوبهم وبتفتيت جمعهم وتفريق شملهم. ويقال أوهن كيد عدوّه إذا قتل الجبابرة وأسر الأشراف.

* * *

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

١٩ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ...) قيل إن هذه الآية الشريفة خطاب للمشركين ، ذلك أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فانصر عليه. أو أنه قال : اللهم ربّنا ديننا القديم ودين محمد الحديث ، فأي الدّينين كان أحبّ إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. فمعنى الآية : إن تطلبوا النصر ـ أيها المشركون ـ لأهدى الفئتين فقد جاءكم نصر محمد (ص) وأصحابه. وفي بعض التفاسير أنه خطاب للمؤمنين ، ومعناه : إن تستنصروا على أعدائكم فقد جاءكم النصر بمحمد (ص) والأول أصح (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي تتركوا الكفر وتمتنعوا من قتال الرسول والمؤمنين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَعُودُوا) إلى قتال المسلمين (نَعُدْ) إلى نصرهم عليكم (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ

شَيْئاً) أي لا تدفع عنكم جماعتكم شيئا مما يوقعه بكم المسلمون من القتل (لَوْ كَثُرَتْ) جماعتكم وشملت عددا (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم عليكم ويكسر شوكتكم.

٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ...) قد خاطبهم وطلب طاعتهم الواجبة عليهم وعلى غيرهم لأنه لا يعتني بغيرهم لإعراض غيرهم عما يجب عليهم من الطاعة ، وفي ذلك عناية منه سبحانه بالمؤمنين. فأطيعوه ورسوله (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي ولا تنصرفوا عن رسول الله ، فالضمير في : عنه ، هو للرسول (ص) فلا تعرضوا عنه (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) تصغون إلى دعائه (ص) وأمره ونهيه ، وتسمعون الحجج الموجبة لطاعة الله وطاعة رسوله.

٢١ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) : فالّذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون هم أولئك الذين لا يسمعون سماع عالم يقبل ما يسمعه ويقتنع به. فلا تكونوا أيها المؤمنون أمثال هؤلاء المنافقين الذين يسمعون بآذانهم ولا تعي قلوبهم ولا تستوعب أفهامهم كأهل الكتاب من بني قريظة وبني النظير وغيرهم وكمشركي العرب لأنهم قالوا : قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا ..

٢٢ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ ...) في هذه الكريمة ذمّ متناه للكفار لأنهم شرّ : أي أسوأ من دبّ على وجه الأرض من المخلوقات إنسانا وحيوانا. ذلك أنهم لا ينتفعون بما يسمعون من الحجج والبراهين ، ولا يتّبعون الحق ولا يقرّون به ، فكأنهم صمّ بكم لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يتفكرون فيما يسمعون فصاروا كالدوابّ لأنهم هم (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) وفي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار إذ لم يسلم منهم إلّا مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له سويبط.

٢٣ ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ...) أي لو علم فيهم قبولا

للهدى والإذعان للحق لجعلهم يسمعون ويعون جواب كل ما يسألون عنه ، ولكنهم ليسوا كذلك (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي لو فعل ذلك لأعرضوا عن القول. وفي هذه الآية دلالة على أن الله لطيف بجميع المكلّفين ، وأنه لا يمنع لطفه إلا من يعلم أنه لا ينتفع به ولا يسمعه.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

٢٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...) أي أجيبوهما فيما يأمران به ، وإجابتهما هي طاعتهما فيما يدعوان إليه من اتّباع الحق. فأجيبوا الله ، وأجيبوا الرسول (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي إذا ندبكم لما فيه حياتكم وسعادتكم. وقيل في ذلك أقوال : أحدها : إذا دعاكم إلى الجهاد والشهادة التي فيها إحياؤكم الدائم عند الله جلّ وعلا ، أو إلى إحياء أمركم وإعزاز دينكم بجهاد عدوّكم والقضاء عليه. وثانيها : إذا دعاكم إلى الإيمان الذي تحيا به قلوبكم ، وإلى الحق. وثالثها : إذا دعاكم للقرآن والعلم بالدّين لأن الجهل موت والعلم حياة. ورابعها : إذا دعاكم إلى الجنة التي فيها حياة النعيم الدائم ، وفي كل ذلك حياة لكم فأجيبوه إليه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي يحجز بين الإنسان وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يقدر على استدراك ما فاته من الطاعات ، فعليه أن يبادر إلى العمل الصالح قبل أن يحول الموت بينه

وبين ذلك. وقيل : معناه أن الله سبحانه أقرب إليه من قلبه قد يصرفه عن بعض ميوله بقدرته ، وذلك كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، فإن من يحول بين الإنسان وبين شيء آخر يكون أقرب للإنسان من ذلك الشيء. فالله سبحانه وتعالى يقلّب القلوب كيف يشاء ، ويغيّرها من حالة إلى حالة. وفي المجمع أن أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : إنه يحول بين المرء وقلبه معناه : لا يستيقن القلب أن الحقّ باطل أبدا ، ولا يستيقن القلب أن الباطل حقّ أبدا. وعنه (ع) أيضا كما في العياشي : معنى يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حقّ. والحاصل أن القلب لا يستطيع أن يكتم الله شيئا لأنه أقرب إليه من ذلك الشيء (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون إليه للثواب على أعمالكم وللعقاب على مساوئكم.

٢٥ ـ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...) أي احذروا من بلاء قد يصيبكم جميعا حين يصيب الذين ظلموا أنفسهم ولا يختصّ بالظالمين دون غيرهم إذا حلّ ووقع. وتحذيره سبحانه يعني أن لا تقربوا فتنة فتصيبكم كما تصيب غيركم. وقيل في الفتنة هنا أنها العذاب وأن الله أمر المؤمنين أن يتجنّبوا المنكر لئلا يعمّهم العذاب. وقيل هي الضلال والاختلاف الذي يدخل ضرره على كل أحد. وقرئ : لتصيبنّ الذين ظلموا خاصة ، أي أنها تختص بالظالم ، وفي هذا نهي عن الظلم ومنع له ، والمعنى : فاتقوا فتنة يصيب بلاؤها الظّلمة ، أي لا تظلموا فيصيبكم العذاب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) عقابه قويّ ثقيل على من لم يتجنّب المعاصي. وفي حديث أبي أيوب الأنصاري أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمّار : يا عمار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم ، وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني ، علي بن أبي طالب (ع) فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك عليّ واديا فاسلك وادي عليّ وخلّ عن الناس. يا عمار إن عليّا لا يردّك عن هدى ولا يدلّك على

ردى. يا عمار طاعة عليّ طاعتي وطاعتي طاعة الله.

وفي المجمع عن ابن عباس أنه قال : لمّا نزلت هذه الآية : واتّقوا فتنة .. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنّما جحد بنبوّتي ونبوّة الأنبياء قبلي.

* * *

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

٢٦ ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ ...) أي انتبهوا ولا تسهوا وتذكّروا أيها المهاجرون (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) عددكم في ابتداء الدعوة الإسلامية يوم خروجكم من مكة (مُسْتَضْعَفُونَ) بنظر أعدائكم يرون أمركم هيّنا (فِي الْأَرْضِ) أي في مكة (تَخافُونَ) تخشون (أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) يستلبكم المشركون ويختطفونكم إن أنتم خرجتم منها (فَآواكُمْ) الله تعالى : أي جعل لكم مأوى في دار هجرتكم بالمدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) قوّاكم بمنحكم النصر والظفر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي أعطاكم النّعم الهنيئة اللذيذة ، وقيل إنه خطاب للمهاجرين فقط والمعنى : أنه أحل لكم

الغنائم التي تأخذونها في الحرب ولم يجعلها حلالا لمن قبلكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا الله وتحمدوه حين تقابلون بين ما أنتم فيه من النّعم وبين الحال التي كنتم عليها قبل ذلك.

٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ...) الخيانة ضدّ الأمانة ، والمعنى لا تنقصوا ما أوجبه الله عليكم من طاعته وطاعة رسوله ولا تمنعوا حقّا أوجب الله تأديته (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون أن ترك فرائض الله تعالى وسنن نبيّه وتضييع ذلك خيانة لهما ، وتعرفون ما في الخيانة من الذم والقبح والعقاب.

وروى عطا قائلا : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبرائيل عليه‌السلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا كذا فاخرجوا إليه واكتموا. قال : فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل في سبب نزولها غير ذلك.

٢٨ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ...) أي واعرفوا يقينا وتحقّقوا أن أموالكم وأولادكم بلية عليكم ابتلاكم الله سبحانه بها بمعنى أن المال أو الولد قد يورد الإنسان موارد الهلكة ، وقد يرتكب في سبيل هذا أو ذاك ما لا يحلّ له ، ولذلك كان كلّ منهما فتنة يختبر بها الإنسان ليعلم هل يستطيع أن يخرج من هذه الفتنة عاملا بما يرضي الله تعالى قادرا على أن يخرج من هذا الامتحان بنجاح ، فانتبهوا لذلك أيها المؤمنون (وَ) اعلموا (أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثواب كثير لمن أطاعه وجاهد نفسه وجاهد عدوّه وقدّم ذلك على ماله وأولاده. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لا يقولنّ أحدكم : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، لأنه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة. ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإن الله تعالى يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ...)

٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ...) هذا خطاب للمؤمنين يفيد بأنهم إذا تجنّبوا معاصي الله سبحانه وأدّوا فرائضه وائتمروا بأوامره وانتهوا عن نواهيه (يَجْعَلْ) الله عزّ اسمه (لَكُمْ) أيها المؤمنون (فُرْقاناً) هداية إلى الحق ونورا في قلوبكم يجعلكم تفرّقون به بين الحق والباطل ، ونجاة (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) يغفرها لكم بسترها عليكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) يعفو عن ذنوبكم وآثامكم التي اجترحتموها (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي صاحب الإنعام الزائد على خلقه والإفضال الكثير الكبير من غير استحقاق بل تكرّما منه وجودا ، وقد سمّي فضلا لأنه أعطاه لعباده ابتداء منه جلّ وعلا.

* * *

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ

عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) أي اذكر يا محمد إذ يستعمل الكفار معك المكر الذي هو الميل إلى الشر خفية يضمره الماكر لخصمه. فاذكر احتيالهم في إبطال أمرك وتدبير المكائد لإهلاكك ، كأبي جهل وأبي البختري وابن الأسود وابن حزام وابن خلف وغيرهم ، يفعلون ذلك (لِيُثْبِتُوكَ) أي ليربطوك بالوثاق ويقيّدوك أو ليحبسوك (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة إلى أطراف البلاد (وَيَمْكُرُونَ) هذا المكر (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يدبّر جزاء عملهم السيّء معك. فهم يحتالون في أمرك خفية عنك ، والله سبحانه يجازيهم على مكرهم من حيث لا يشعرون (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأن مكره حقّ يأتي جزاء على مكر باطل إذا لا يكون إلا إنزال عقوبة بمن يستحقّها. ومكره عزّ اسمه عدل كلّه ولذلك كان خير الماكرين.

وقال المفسرون إنها نزلت في قصة دار الندوة حيث اجتمع نفر من قريش وتآمروا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عروة بن هشام : نتربّص به ريب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل : ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدّية. فصوّب إبليس هذا الرأي إذ كان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد وخطّأ الأولين ، فاتّفقوا على هذا الرأي وأعدّوا الرجال والسلاح. وجاء جبرائيل عليه‌السلام فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إلى الغار وأمر عليّا عليه‌السلام فبات على فراشه. فلمّا أصبحوا وحصبوا النائم في الفراش وجدوا عليّا (ع) ينام مكان النبيّ (ص) وقصة المبيت والغار واقتصاصهم أثر النبي (ص) ونسج العنكبوت كلها مشهورة معروفة.

٣١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ...) أي إذا قرئت على هؤلاء الكفّار المعاندين آياتنا التي في القرآن قالوا قد سمعنا وأدركنا فحوى هذا القول بآذاننا ، ولكن (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي لو أردنا لأنشأنا مثل هذه الآيات. وهذا من عنادهم للحق لأن عجزهم ظاهر عن الإتيان بسورة واحدة مثل سور القرآن رغم تحدّيهم بأن يقولوا مثله إذا استطاعوا ، ومع ذلك بقوا على عنادهم وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أن القرآن ـ والعياذ بالله ـ أحاديث وأخبار الأولين الماضين وهو يتلوها علينا. وكان قد قال ذلك اثنان هما : النضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط.

أما الأول فقتله رسول الله (ص) يوم بدر بعد أن أخذ أسيرا ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ عليّ بالنضر أبغيه. فأخذ عليّ بشعره فجاء به النبيّ (ص) فسأله بالرحم فقال له : لا رحم بيني وبينك ، قطع الله الرحم بالإسلام ، قدّمه يا عليّ فاضرب عنقه ، فضرب عنقه.

وأما الثاني فقال (ص): يا عليّ عليّ بعقبه ، فأحضر فقال : يا محمد ألم تقل لا تصبر قريش؟ ـ أي لا تقتل صبرا ـ فقال (ص) : وأنت من قريش؟ إنما أنت علج من أهل صفورية. والله لأنت في الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى له. قال : فمن للصّبية؟ قال (ص) : النار ، ثم قال : حنّ قدح ليس منها وأمر بقتله فقتل.

٣٢ ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ ...) هو : ضمير فصل لا محلّ له من الإعراب. والحقّ منصوب بأنه خبر كان. والمعنى : اذكر يا محمد قول هؤلاء الكفار : اللهم إن كان هذا الذي جاء به محمد هو الحق (مِنْ عِنْدِكَ) وكان يغلب ما نحن عليه (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) كالذي فعلته بقوم لوط وأصحاب الفيل وغيرهم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي شديد الألم. وكان النضر بن الحارث هو القائل كما عن سعيد بن جبير ومجاهد ، وقيل بل هو أبو جهل لعنه الله.

٣٣ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...) اللام في : ليعذّبهم ، لام الجحد. وفي هذه الآية الشريفة ذكر الله سبحانه سبب إمهال أهل مكة وعدم إنزال العذاب عليهم. والمعنى أنه تعالى لم يكن ليعذّب كفار مكة عذاب استئصال ما زال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مقيما بينهم لفضله وحرمته على الله جلّ وعز ، لأنه (ص) بعثه الله رحمة للعالمين ولا ينزل العذاب بهم إلا بعد أن يفعلوا ما يستحقون به سلب نعمة وجودك بينهم ، أي حين يخرجونك من مكة (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي أنه لا يعذّبهم وفيهم مؤمنون يستغفرون ، ولذلك رفع العذاب عن المكيّين بعد خروجه (ص) منها لما فيها ممن آمن وتأخّر عن الهجرة لعذر ، ولذلك أيضا أذن الله سبحانه بفتحها بعد خروجهم منها وبعد أن كانت حرمة استغفارهم تدفع العذاب عن أهلها. ولا يخفى أن هذه الآية الكريمة جاءت جوابا على قول المشركين : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ... أما حين همّوا بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخرجوه من مكة ، فقد أنزل الله سبحانه :

٣٤ ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ ...) أي وكيف يحجب الله تعالى عنهم العذاب ، ولم لا يعذّبهم ، وبأي أمر يجب ترك تعذيبهم (وَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يمنعون (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أولياءه الحقيقيين؟ وقد حذفت لفظة : (أَوْلِياءَهُ) لدلالة ما بعدها عليها (وَما كانُوا) أي المشركون ما كانوا أولياء المسجد الحرام وإن عملوا لعمارته وسعوا لسدانته (إِنْ أَوْلِياؤُهُ) أي ليس أولياؤه بالحق والحقيقة (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) المؤمنون الذين يخافون سخط الله. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ولا يعرفونه بحقيقة ولاية بيت الله والمسجد الحرام.

فاذا قيل كيف يكون الجمع بين هاتين الآيتين ، وفي الأولى نفي تعذيبهم ، وفي الثانية إثباته؟ نقول قد ذكر صاحب المجمع قدّس الله سرّه ثلاثة أوجه للجواب عن ذلك :

الأول : انه المراد بالأول عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالأمم الماضية ، وبالثاني عذاب القتل بالسيف ، والأسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.

والثاني : أنه أراد : وما لهم أن لا يعذّبهم الله في الآخرة ، ويريد بالأول عذاب الدنيا ـ عن الجبائي.

والثالث : أن الأول استدعاء للاستغفار ، ويريد أنه لا يعذّبهم بعذاب دنيا ولا آخرة إذا استغفروا وتابوا ، فاذا لم يفعلوا عذّبوا. ثم بيّن أن استحقاقهم العذاب بصدّهم الناس عن المسجد الحرام.

٣٥ ـ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ...) المكاء : الصغير ، والمكّاء طائر يكون بالحجاز له صفير ، ومكا : يعني صفّر بفيه. أما التصدية : فهي التصفيق وضرب اليد على اليد ، ومنه الصدى أي الصوت الذي يردّه الجبل إذا تكلّمت في الوادي. فصلاة المشركين الذين صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام ، كانت صفيرا وتصفيقا يفعلونهما وهم يطوفون حول بيت الله الحرام عراة ، ويجعلونهما بدل التسبيح والدعاء. ففعلهم ضرب من اللهو ، ولذلك كان أحرى بالمسلمين أن يمنعوهم من هذا اللهو الشنيع. وقد قيل إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه يصفّران ، ورجلان منهم يصفّقان فيخلطون عليه صلاته وقد قتلهم الله تعالى يوم بدر ، ثم قال سبحانه لهم ولبقية بني عبد الدار : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) عذاب السيف والقتل ، وعذاب الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب كفركم بتوحيد الله والإقرار برسالة رسوله (ص).

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ...) يذكر سبحانه في هذه الآية ما كان ينفقه كفّار قريش من إطعام الطعام وما أنفقه أبو سفيان وشركاؤه في العير يوم وقعة بدر ، فيقول عزّ اسمه : إن هؤلاء الذين يصرفون أموالهم في قتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (لِيَصُدُّوا) أي يمنعوا الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريق الحق ودين الله الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَسَيُنْفِقُونَها) سيصرفونها ويقع إنفاقها منهم (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي لا ينتفعون بصرفها ويتحسّرون عليه لأنها لا

تفيدهم في الدنيا ولا في الآخرة بل هي وبال يجلب لهم الندم والتحسر (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الحرب وينتصر عليهم النبيّ (ص) والمؤمنون معه. وهكذا كان فقد غلبوا يوم بدر وغيره وظهر أن الآية من أعلام النبوّة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون فيها. وقد كرر لفظ الذين كفروا ، لأن بعضهم أسلم بعد الإنفاق الذي ذكره عزوجل.

٣٧ ـ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ...) أي أنه يفعل عزّ اسمه ذلك ليميز نفقة المؤمنين من نفقة الكافرين (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) من نفقاتهم التي تحدّث عنها (فَيَرْكُمَهُ) أي يجمعه ويكدّسه بعضه فوق بعض (جَمِيعاً) كلّه في الآخرة (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) فيعاقبهم به ، وذلك مصداق قوله عزوجل : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) إلخ ... (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم فعلوا ما جلب لهم الخسران إذ أنفقوا المال في معصية الله فنالوا العذاب.

٣٨ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ...) ثم دعاهم سبحانه إلى التوبة عن فعلهم فقال : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين : إن يتوبوا عمّا يفعلونه من الشّرك وعن محاربتك ويعودوا إلى الموادعة ، نغفر لهم ما مضى من ذنوبهم التي يستحقون العقاب عليها (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى حربك وقتالك (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي فقد سبق ما قضى الله سبحانه به من نصر المؤمنين على الكافرين كما شاهدتم في الأمم السابقة التي عاندت رسل الله حيث نصر الله رسله عليها ، حتى صار نصره لرسله سنّة مقضيّة.

٣٩ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين ، وهو أمر بمقاتلة الكافرين حتى لا يبقى شرك ولا كافر بغير عهد ، ولكيلا يفتن مؤمن عن دينه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي ليجتمع أهل الإيمان وأهل الكفر على الدين الحق ، ويكون الدين كلّه لله باجتماع الناس عليه. وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنه قال : لم يجيء تأويل هذه الآية ، ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من

تأويل هذه الآية ، وليبلغنّ دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال الله تعالى : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (فَإِنِ انْتَهَوْا) عمّا هم فيه وعن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وسيجازيهم بأعمالهم مجازاة البصير بها ، لا يخفى عليه شيء من ذلك.

٤٠ ـ (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ ...) أي إذا انصرفوا ومالوا عن طاعة الله ، فاعلموا أيها المؤمنون به وبرسوله أن الله هو سيّدكم وناصركم ووليّكم ، و (نِعْمَ الْمَوْلى) هو (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لأنه ينصر المؤمنين على أعدائهم ويعينهم على طاعته. ولا يخفى على ذوي الدّربة أن : وإن تولّوا شرط ، وأن : فاعلموا أن الله هو مولاكم ، أمر في موضع الجواب. وإنما جاز ذلك لأن فيه معنى الخبر ، كأنه قال : فواجب عليكم العلم أن الله مولاكم.

٤١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...) أي واعرفوا جيدا أيها المسلمون أنه مهما كسبتم من أموال أهل الحرب من الكفار مما جعله الله تعالى هبة لكم ، ومما قلّ أو كثر (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) قيل في فتح همزة أنّ قولان : أحدهما التقدير : فعلى أن لله خمسه ، والثاني : أنه عطف على أن الأولى ، وحذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه ، أي فاعلموا أن لله خمسه. والخمس يفرز جزءا منه من خمسة أجزاء ويقسّم حسب نصّ الآية الشريفة ، وقد ذهب أصحابنا إلى تقسيمه على ستة أسهم : سهم لله ، وسهم للرسول ، وسهم لذوي القربى من آل محمد ، فتصير ثلاثة أسهم خاصة بالإمام القائم مقام رسول الله (ص) وسهم ليتامى آل محمد (ص) وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم ، لا يشاركهم فيها أحد ، لأن الله سبحانه حرّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوّضهم بذلك الخمس. وقد روي ذلك عن الإمامين : عليّ بن الحسين زين العابدين ، ومحمد بن عليّ الباقر عليهما‌السلام. وروى غيرنا مثل ذلك التقسيم إلا أنهم قالوا : سهم الله للكعبة

والباقي لمن ذكره الله. ورووا تقسيمه خمسة أسهم واعتبروا سهم الله وسهم رسوله سهما واحدا يصرف على السّلاح. كما أنهم رووا تقسيمه إلى أربعة أسهم : سهم ذوي القربى لقرابة النبيّ (ص) والأسهم الثلاثة لمن ذكروا بعد ذلك ، ورووا تقسيمه على ثلاثة أسهم بإسقاط سهم الرسول (ص) بعد وفاته لأن الأنبياء ـ عندهم ـ لا يورّثون ، وبإسقاط سهم ذوي القربى لأن أبا بكر وعمر لم يعطياه لأصحابه ، ولعبوا في تقسيمه لعبا كثيرا وضاعوا عن حقيقة مصرفه ، والحقّ ما ذكرناه من تقسيمنا المرويّ عن أئمتنا الأطهار عليهم‌السلام. فهو لله تعالى وللرسول ولذي القربى (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ليتامى بني هاشم ومساكينهم وبني سبيلهم خاصة ، كما بينّا سالفا (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أيها المسلمون وَب (ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) رسولنا محمد (ص) (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي يوم فرّق الله بين الحق والباطل (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) هو يوم بدر ، وهما : جمع المسلمين ، وجمع الكافرين ، حيث تمّت غلبة المسلمين مع أنهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا والكافرون تسعمئة إلى ألف من عتاة قريش. ويوم بدر كان يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنها كانت يوم التاسع عشر من الشهر كما في المجمع (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مرّ تفسرها.

وفي تفسير الثعلبي قال المنهال بن عمر : سألت علي بن الحسين عليه‌السلام وعبد الله بن محمد بن عليّ عن الخمس ، فقالا : هو لنا. فقلت لعليّ : إن الله يقول : (وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ). فقال : يتامانا ، ومساكيننا ، وفي العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن موضع الخمس ، فكتب إليه ابن عباس : أما الخمس فإنّا نزعم أنه لنا ، ويزعم قومنا أنه ليس لنا. فصبرنا وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : إن الله تعالى لمّا حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس. فالصدقة علينا حرام ، والخمس لنا حلال ، والكرامة لنا حلال.

ثم انتقل سبحانه من هذا الفرض وتفصيله إلى وصف ما أجراه على المسلمين من مننه وفضله يوم معركة بدر فقال :

* * *

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

٤٢ ـ (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ...) أي اذكروا أيها المسلمون يوم بدر إذ كنتم بالعدوة الدنيا : وهي شفير الوادي الأسفل ، وكان أصحاب النفير ، أعداؤكم من كفّار قريش ، على شفير الوادي الأعلى (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي وأبو سفيان ومن معه في العير في موضع أسفل من موضعكم من ناحية ساحل البحر وقد نصب : أسفل ، لأن تقديره : بمكان أسفل ، فهو في موضع جرّ وهو غير منصرف ويجوز أن يكون نصبه على الظرف بتقدير : والرّكب مكانا أسفل منكم. أما الزجاج فأجاز رفعها كخبر للركب ، فانتبهوا كيف قارن سبحانه بينكم

جميعا على هذا الشكل على غير ميعاد ضربتموه حيث كنتم تسيرون في الرمل مع قلّة في الماء وقلّة في العدد ، وحيث كان عدوّكم أكثر منكم وأوفر عدة ، ينزلون قرب الماء ، ومع ذلك كلّه نصركم عليهم لتعلموا أن النصر من عنده سبحانه وتعالى (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي اتّفقتم على موعد تلتقون فيه على هذا الشكل بالذات (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لتأخّرتم عن لقائهم لقلّتكم وكثرتهم ، ولحسن موقعهم الحربي وسوء منزلكم على شفير الوادي الأسفل (وَلكِنْ) فعل الله ذلك (لِيَقْضِيَ اللهُ) سبحانه ويمضي (أَمْراً) من عنده (كانَ مَفْعُولاً) كائنا بلا ريب ، وصائرا لا محالة وهو إعزاز الدين والرسول والمؤمنين ، وإذلال الشّرك والكافرين ، إذ لا محالة من إظهار الإسلام وإعلاء كلمته (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) أي يموت من مات (من الكافرين عن بينة أي عن حجة ظاهرة بما رأى من المعجزات التي قام بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ويعيش من بقي على قيد الحياة بعد قيام تلك الحجج عليه. ولا يهلك إلّا من ضلّ عن الحق بعد قيام الحجة ، ولا يحيا إلّا من اهتدى للحق ، فيكون بقاء المؤمن حياة له (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم.

٤٣ ـ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ...) أي : واذكر يا محمد إذ يريك ربّك في المنام أن المشركين الذين قاتلوك وقاتلوا المسلمين معك قليلو العدد. والعامل في : إذ ، هو ما تقدّم ذكره ، والتقدير : أتاكم النّصر إذ كنتم بشفير الوادي إذ يريكهم الله قليلا. وقيل إن عامل : إذ ، محذوف وتقديره : اذكر يا محمد إذ (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) فقد أراكهم قليلين لتخبر المؤمنين فيتشجّعوا على قتالهم ، ولو أراك إياهم كثيرين لجبنتم عن قتالهم ، ولاختلفتم في الأمر فيقول بعضكم : نقاتل ، ويقول بعض : لا نقاتل. (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) المؤمنين من الفشل والنزاع والاختلاف ولطف بهم وأحسن إليهم فبلغوا ما أرادوه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : عارف بما في قلوبهم ، يعلم أنكم لو عرفتم كثرة عدوكم

لامتنعتم عن القتال. ولا يخفى على الحاذق أن رؤيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست كرؤيا عامة الناس تصوّرا يتوهّم معه الرؤية في اليقظة ، لأنه لا يكون إدراكا ولا علما ، ولا يكون تعبيره بالعكس كمن يفسّر رؤيا البكاء في المنام بالضحك في اليقظة ، أجل لا يخفى أن ذلك لا يجوز فعله على الله سبحانه مع نبيّه فرؤياه جلّ وعلا ذات تعبير صادق لا كبقية الرؤيا.

٤٤ ـ (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ...) كم : ضمير يكنّي عن المؤمنين ، لأن الخطاب هنا موجّه لهم. والضمير : هم يكنّي عن المشركين. ففي الآية السابقة كانت رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ورؤيا الأنبياء لا تكون إلّا حقّا ، وفي هذه الآية الشريفة أضاف سبحانه الرؤية للمؤمنين في حال اليقظة ، فقلّل المشركين بنظر المؤمنين فزاد من جرأتهم على قتالهم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) أي يريهم إياكم قليلي العدد كي لا يكترثوا بقتالكم ولا يأخذوا الأهبة التامة لحربكم. فقد روي عن ابن مسعود أنه قال : قلت لرجل بجنبي : أتراهم سبعين رجلا؟ فقال : هم قريب من مائة. كما أنه روي أن أبا جهل كان يقول لأصحابه : خذوهم بالأيدي أخذا ولا تقاتلوهم. وقد فعل الله تعالى هذه المعجزة بأسباب منعت الرؤية الواقعية كالغبار الذي أثارته الريح وغيره فتخيّل كلّ فريق أن خصومه قليلين (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مرّ تفسيره ، وقد كرّره سبحانه لزيادة الفائدة ، مع العلم أن المعنى في الآية السابقة أن جمعكم كان من غير ميعاد لتلتقوا على الشكل الذي حصل ، وهنا قلّل هؤلاء وهؤلاء لقضائه بإعزاز الدين بجهاد المسلمين وخذلان الكافرين (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) مرّ تفسيره.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)

وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

٤٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ...) في هذه الشريفة أمر الله عزّ وعلا المؤمنين بالثبات في الحرب عند لقاء الفئة : أي الجماعة المحاربة من الكفار ، وبأن لا ينهزموا أمامهم. ولا يخفى أنه اكتفى بلفظ : فئة ، دون أن يصفها ، لأن من المعلوم أن المؤمنين لا يقاتلون إلّا فئة كافرة ، فأمرهم بالثبات أمامها وقال : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) لتستعينوا به على حربهم. فاذكروه متوقعين للنصر عليهم يأتيكم من عنده فإن بذكره تقوى قلوبكم وتشتدّ سواعدكم. وقيل : اذكروا وعد الله بالنصر في الدنيا والثواب في الآخرة على معنى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه ، فافعلوا ذلك (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لكي تنجحوا وتفوزوا بالظفر بهم وبالثواب على الجهاد.

٤٦ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ...) أي : وأطيعوهما فيما يأمران به من الحق والخير ، ولا تتنازعوا وتختلفوا في لقاء أعدائكم فتجنبوا عن قتالهم وتضعفوا أمامهم. وكلمة : فتفشلوا ، منصوبة بإضمار أن ، على معنى جواب النهي ، ولذلك عطف عليها : وتذهب (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي تذهب قوّتكم وشوكتكم ودولتكم. والريح هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على حسب الرغبة والمراد. والريح لغة : الدولة ، فقد قال عبيد بن الأبرص :

كما حميناك يوم النّعف من شطب

والفضل للقوم من ريح ومن عدد

أي : من عزة ودولة ، والعرب تقول : هبّت ريح فلان : إذا جرى أمره

على ما يريد. (وَاصْبِرُوا) على قتال أعدائكم (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) يؤيّدهم بنصره ويعينهم في جهاد أعدائه لأنه مع الثابتين على الحق.

٤٧ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً ...) الخطاب للمؤمنين بأن لا يرضوا أن يكونوا بطرين مثل القرشيين الذين أبطرهم المال. والبطر : الخروج عن شكر النعمة. وقريش قد خرجوا من ديارهم في مكة ليحموا عيرهم من المسلمين ، وأخرجوا معهم القيان والمعازف والخمور. (وَ) قد فعلوا ذلك (رِئاءَ النَّاسِ) فهم بطرون ملحدون وقد أظهروا للناس احترام الأصنام والأوثان رياء. وقيل : بل ذهبوا إلى بدر وقلوبهم تستطير رعبا من المسلمين ، ولكنهم أظهروا عدم اكتراثهم بهم فسمّى الله سبحانه ذلك رئاء. فهم على الحالين يبطرون ويراءون (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الآخرين عن طريق الحق ودين الله. ويصدّون في محل نصب عطفا على قوله : (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) اللذين هما مصدران وضعا موضع الحال. والمعنى : يبطرون ، ويراءون ، ويصدّون. وليس بعطف على : خرجوا لأنه لا يعطف مستقبل على ماض (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم تمام العلم بعملهم ويجازيهم عليه ولا تخفى عليه خافية منه.

وما عناه سبحانه من هذه الآية الكريمة هو ما نقله ابن عباس بقوله : لمّا رأى أبو سفيان أنه حصل على عيره أرسل إلى قريش ليرجعوا فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ونقيم بها ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف لنا القيان ، فتسمع العرب فتهابنا. فوافوها فكان ما كان من كؤوس الموت التي سقوها والحمد لله رب العالمين.

* * *

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ

النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١))

٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ...) أي : واذكروا ـ أيها المؤمنون ـ يوم زيّن : حسّن الشيطان للمشركين ما قاموا به من المسير إلى بدر لقتال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه من المسلمين. وقد دخلت الواو في : وإذ ، عطفا على حال المشركين يوم خرجوا بطرا ورئاء وصدّا عن سبيل الله. فقد زهّدهم الشيطان بالمسلمين ، وغرّهم بأنفسهم (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لن يغلبكم أحد في هذا اليوم فأنتم أكثر عددا وعدّة وأقوى جماعة (وَإِنِّي) أنا بنفسي مع قوّتكم وكثرتكم (جارٌ لَكُمْ) أي ناصر لكم أدفع السوء عنكم ، وعندي عقد الأمان عليكم من عدوّكم وأنا كفيل به ، وذلك من الإجارة ، ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ)(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي رأت كلّ واحدة منهما صاحبتها والتقت بها (قالَ) الشيطان للكافرين : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) راجع عن ضماني لكم ومتبرّئ ممّا أخذته على نفسي من العهد بإجارتكم وأمانكم وسلامتكم حيث (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الملائكة الذين نزلوا لنصر المؤمنين ، فإبليس اللعين يعرف الملائكة يقينا وهم يعرفونه ، ولذلك ذعر

من نزولهم وقال : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي عذاب الله ، أخشاه على أيدي هؤلاء الذين أراهم ولا ترونهم (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي عذابه قويّ عظيم لا يطاق. وقال قتادة : ذلك عادة عدوّ الله لمن أطاعه ، حتى إذا التقى الحقّ والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم.

أما ظهور الشيطان لقريش قبيل وقعة بدر ، فقيل إن قريشا لمّا أجمعت على المسير ذكرت ما كان بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب ، وكاد ذلك يثنيهم عن المسير. فجاء إبليس في جند له وتبدّى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ، وكان من أشراف كنانة ، فقال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس. فلما رأى الملائكة نزلوا من السماء ، وعلم أنه لا طاقة له بهم نكص على عقبيه. وقيل إنه لمّا التقوا في الحرب كان لا يزال في صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام ، وحين نكص قال له الحارث : يا سراقة أين؟ أتخذ لنا على هذه الحالة؟ فقال له : إني أرى ما لا ترون. فقال الحارث : والله ما نرى إلّا جعاسيس يثرب. فدفع إبليس الحارث في صدره وانهزم ، وسريعا ما انهزم المشركون.

فلما رجعوا إلى مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغه ذلك فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم. فقالوا : إنك أتيتنا يوم كذا .. فحلف لهم. فلمّا سمعوا علموا أن ذلك كان الشيطان.

٤٩ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) يجوز أن يكون العامل في : إذ ، هنا الابتداء ، بتقدير : ذلك إذ يقول ... ويجوز أن يكون التقدير : اذكر إذ. والآية الشريفة تتعلّق بما قبلها. والمنافقون هم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ، والذين في قلوبهم مرض هم المشكّكون في الإسلام رغم نطقهم بكلمة الإيمان. وقيل إنهم فتية من قريش كانوا قد أسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم فيها فلم يهاجروا إلى يثرب ورافقوا أهلهم إلى وقعة بدر. وقد قالوا في بدر حين رأوا قلّة المسلمين

(غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) يعني أن المسلمين اغترّوا بقول رسولهم الذي أتى بهم ـ على قلّتهم ـ لحرب المشركين ـ على كثرتهم ـ فبيّن الله تعالى أنهم هم المغرورون (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي يفوض أمره إليه ويرض بفعله (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قويّ لا يغلب ، ويضع الأمور في مواضعها بتمام الحكمة.

٥٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ...) أي : يا ليتك يا محمد تنظر الملائكة وهم يقبضون أرواح الكفار عند الموت ، فإنهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي يضربون وجوههم وأقفيتهم ، أي ما أقبل منهم وما أدبر يتلقّونه بالضرب من قدّام ومن الخلف. وجواب : لو ، محذوف هنا ، وتقديره : لرأيت أمرا عجبا. وفي حذفه بلاغة من بلاغات القرآن الكريم لا تخفى على اللبيب. وقيل عنى سبحانه بها قتلى بدر من المشركين فإن رجلا قال : يا رسول الله اني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك ضرب الملائكة. وعن مجاهد ـ كما في المجمع ـ أن رجلا قال للنبيّ (ص) : إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه فندر ـ أي فسقط قبل أن يضربه ـ فقال (ص) : سبقك إليه الملائكة. ويصدق هذا الوصف لوفاة جميع الذين كفروا بحسب ظاهر الآية الشريفة فإن الملائكة يضربونهم حين الوفاة (وَ) يقولون لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي عذاب النار في الآخرة بعد هذا العذاب عند قبض أرواحكم.

٥١ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ...) أي ذلك الضرب والعقاب حين الموت وفي الآخرة ، صرتم مستحقّين له (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) بما فعلتم باختياركم وبمباشرة أيديكم لكل فعل سيّء. وقد ذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تباشر فيها ، والذي قدّمته أيديهم هو الكفر والعصيان (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يعاقبهم بجناياتهم ، ويعذّبهم بذنوبهم ، ويقاصصهم على قدر استحقاقهم فلا يظلمهم البتة ، بل لقد بالغ في نفي الظلم عن نفسه باستعمال عبارة : ليس بظلّام. وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح

على بطلان الجبر وعلى ثبوت الاختيار ، فإن الله لا يخلق الكفر في نفس الكافر ويعذّبه عليه ، ولا يجوز أن يعذّب عبدا إلا بما كسبت يداه.

* * *

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

٥٢ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) الدأب هو العادة والطريقة والحال ، وإدامة الفعل. وهنا يبيّن سبحانه أن حال الكفار الذين تكلّم عنهم ، كحال الذين من قبلهم ، ودأبهم في الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كدأب آل فرعون ومن سبقهم في تكذيب الرّسل وفي لفظة كدأب : الكاف في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ، والتقدير : دأبهم كدأب ... فالمكذبون من آل فرعون والذين من قبلهم (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وأنكروها كما أنكر هؤلاء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي فعاقبهم (بِذُنُوبِهِمْ) وسيئاتهم وعصيانهم (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) قادر لا يستطيع أحد منع عقابه للمستحق (شَدِيدُ الْعِقابِ) عذابه لمن استحقّه لا توصف شدّته.

٥٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً ...) أي ذلك الذي ذكره سبحانه من أخذ الكفار وعقابهم ، يدل على أنه جلّ وعلا عن تغيير نعمة (أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) أي بسطها لهم ومنّ بها عليهم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما

بِأَنْفُسِهِمْ) أي يتحوّلوا عمّا هم عليه. والتغيير هو تصيير الشيء على خلاف ما كان عليه ، وذلك بأن يستبدلوا الطاعة بالمعصية ، وكفران النعمة بشكرها ، فيسلبها منهم على وجه المصلحة لا على سبيل الاقتصاص إلا عمّن استحق ذلك بطغيان. و : لم يك ، أصلها : لم يكن ، من يكون. فحذفت الواو للجزم ثم حذفت النون استخفافا إذ لا يقع بحذفها إخلال بالمعنى. وكان ويكون أمّ الأفعال. ألا ترى أن شرب في معناها : كان شرب ، ويشرب معناه : يكون : شرب. ولا يجوز هذا الحذف في غير : يكون ، ك : لم يحن فإنه لا يقال : لم يح وهلمّ جرّا ... (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع أقوال الكفار ويعلم ما بضمائرهم من المكر والكيد لرسالة نبيّه (ص).

٥٤ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي أن عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم كعادة آل فرعون ومن سبقهم من المنافقين الذين (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي بحججه وبراهينه البيّنة (فَأَهْلَكْناهُمْ) استأصلناهم وأبدناهم «ب» سبب ما ارتكبوه من (بِذُنُوبِهِمْ) ومعاصيهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) في البحر (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي أن جميع من أهلكناهم على هذا الشكل كانوا ظالمين لأنفسهم فاستحقوا الإهلاك.

أما تكرير قوله سبحانه : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ، فإنه أراد بالأول أن يبيّن حالهم التي كانوا عليها فاستحقّوا بها العذاب ، وأراد بالثاني أن يبيّن استحقاقهم لعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ، وليبيّن ـ بالأخير ـ مشاركة كفار مكة للكفار السابقين في جميع أحوالهم.

* * *

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ

لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨))

٥٥ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) بيّن سبحانه أن شرّ من يدبّ على الأرض ويتحرك على رجلين أو أكثر ، هم الذين كفروا به وبرسله وبآياته ، وهم شرّ جميع المخلوقات في معلومه وفي حكمه (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون به ولا برسله وكتبه. والفاء في : فهم ، تعطف جملة على جملة ، والتقدير : كفروا مصمّمين على الكفر فهم لا يؤمنون. وأجيز عطف جملة اسميّة على جملة فعليّة لما فيها من التأدية إلى معنى الحال ، لأنهم بشغفهم في الكفر وإصرارهم عليه أدّى إلى الحال في أنهم لا يؤمنون.

٥٦ ـ (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ ...) أي من جملة الكفار هؤلاء الذين عاهدتهم ـ و : من ، مزيدة ـ وهم يهود بني قريظة كما عن مجاهد ، فقد عاهدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يمالئوا عليه عدوّا ، ثم خانوا العهد وأعانوا الأحزاب يوم الخندق بالسلاح ،! وكانوا ينقضون عهدهم (كُلِّ مَرَّةٍ) أي كلّما عاهدتهم لأنه (ص) كرّر معهم عقد العهد وكرّروا الخيانة لأنهم خونة مكرة (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) لا يتجنّبون نقض العهود ولا يخافون عذاب الله تبارك وتعالى. وجملة : ثم ينقضون ، عطف المستقبل على الماضي أيضا لأن المراد أن شأنهم نقض العهد مرة بعد أخرى في مستقبل أوقاتهم بعد العهد إليهم.

٥٧ ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ...) الثّقف : الظّفر والإدراك بسرعة. أي إذا ظفرت بهم وانتصرت عليهم فشرّد بهم أي : فرّق وشتّت بما توقعه بهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من يمشي على خطاهم بنقض عهودك ، ونكّل بهم تنكيلا يخيف من يأتي بعدهم لعقد عهد معك. وهذا حكم

منحه الله جلّ وعلا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكفار الناقضين للعهود ، ليفعل بهم فعلا من القتل يفرّق من يجيء بعدهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) كي يتذكّروا ويرعووا ويتّعظوا ويمتنعوا عن خيانته.

٥٨ ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ...) أي إذا خفت يا محمد من خيانة قوم بينك وبينهم ميثاق وعهد (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي فانقض العهد معهم كما نقضوه ودع ما شرطت لهم ، لتكون أنت وإياهم مستويين في نقض العهد. والخيانة : نقض العهد ، والنّبذ : إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. والحاصل أنه أمره سبحانه أن يفعل مثلما فعلوا ، وأن لا يبدأهم بقتال قبل أن يعلمهم نقض العهد لئلا ينسب إلى الغدر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي يكره ناكثي العهود. وفي المجمع ـ عن الواقدي ـ أن هذه الآية نزلت في بني قينقاع ، وبموجبها سار النبيّ (ص) إليهم وقاتلهم.

* * *

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ

جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

٥٩ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ :) وعد الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنصر على أعدائه وأمره بالإعداد والاستعداد وقال له : لا تظنّن يا محمد أن أعداءك من الكافرين قد فاتوك وأصبحوا خارج قبضة يدك وسبقوا أمر الله وأعجزوه ، بل إنه سبحانه وتعالى سيظفرك بهم وينصرك عليهم. وقد قرأ ابن عامر وحفص وأبو جعفر : ولا يحسبنّ ، بالياء. والباقون بالتاء وقرأ ابن عامر : أنهم بفتح الهمزة والباقون بكسرها.

من قرأ : لا تحسبن ، بالتاء اعتبر : الذين كفروا ، المفعول الأول ، وجملة : سبقوا ، المفعول الثاني ، وهو الأصوب.

ومن قرأ لا يحسبنّ ، بالياء ، إذا جعل : الذين كفروا ، الفاعل ، فإنه لا يجوز ذلك لأن : يحسبنّ تحتاج إلى مفعولين. ويمكن حمل رأيهم على كون فاعله النبيّ (ص) أو أن يكون تقديره على حذف أن ، بتقدير : لا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، فحذفت : أن كما في قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ).

أما كسر همزة إنّ فعلى الاستئناف وهو الأصح ظاهرا ، كما أن من فتحها جعل القول متعلقا بالجملة الأولى ، والتقدير : لا تحسبنّهم سبقوا لأنهم لا يفوتون.

والحاصل أن في الآية الشريفة تطييبا لقلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ وعده سبحانه بأن الكفار لن يفتلوا من يده. ولذا أمره بقوله في الآية التالية :

٦٠ ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ...) أي هيّئوا السلاح للقاء المشركين ، وأعدّوا ما قدرتم عليه مما تتقوّون به من مقاتلين ومن آلات

للحرب. والقوّة هي الثقة بالله سبحانه والرغبة في ثوابه ، ووحدة الصف واتّفاق الكلمة ، إلى جانب التحصّن والتهيئة بكل وسيلة مفيدة. فدبّروا ذلك ، وأقدموا بما عندكم من قوّة (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي اقتنوا الخيل واربطوها وهيئوها للغزو فهي من أقوى عدد الجهاد في تلك الأيام. وفي المجمع روي قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتبطوا الخيل ، فإن ظهورها لكم عزّ ، وأجوافها كنز. فإن ذلك الاستعداد (تُرْهِبُونَ) تخوّفون (بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي مشركي مكة وكفار العرب كافة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) يعني وترهبون أعداء وكفارا غيرهم من المنافقين الذين (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعرفونهم لأنهم يصلّون ويصومون ويوحّدون ، وهم بين المسلمين و (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يعرفهم لأنه مطّلع على ما في ضمائرهم ، وقد خصّهم سبحانه بالذّكر لأنهم ليسوا في صفوف الأعداء المتظاهرين بالعداوة ، بل هم مختلطون بالمسلمين (وَ) اعلموا أيها المسلمون أن (ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما تبذلونه في طاعته وجهاد أعدائه (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) تعطون ثوابه كافيا وافيا في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون شيئا بل تأخذون فوق استحقاقكم.

٦١ ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ...) الخطاب للنبيّ (ص) أي إذا مالوا إلى المهادنة والصلح وترك القتال فمل أنت إليها واقبل بها منهم. وقد أنّث لفظة : السّلم ، لأن معناها المسألة وطلبة الصلح ، فافعل ذلك (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فوّض أمرك إليه ف (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) قد مرّ تفسيره. وقد قيل إنها منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وبقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) والحق أن هذه الآية الكريمة لموادعة أهل الكتاب ، والآيات الأخرى لمقاتلة عبدة الأوثان ، والله أعلم.

٦٢ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ...) الخداع إظهار المحبوب في الأمر مع إبطان المكروه. أي إذا أراد الذين يطلبون منك الصلح أن يقصدوا بطلبهم تفريق أصحابك حتى يقوى أمرهم هم ،

ويقاتلونكم وأنتم على غير استعداد ، فإن الله تعالى يتولّى كفايتك أمرهم ، لأنه (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي مكّنك وقوّاك ونصرك. والأيد : القوّة ، فقوّاك على الظفر من أعدائك بالمؤمنين ..

٦٣ ـ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ...) أي قرّب وجمع قلوبهم على هدف واحد ، وهم الأنصار كما عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أي الأوس والخزرج الذين كان بينهم عداء واقتتال ، فصاروا بوجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متحابّين متوادّين ، وأصبحوا ببركة وجوده إخوانا متآلفين ، و (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لو بذلت كل وسيلة ممكنة لما قدرت على إزالة ما بينهم من ضغائن (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) أي جمعهم على الإيمان بحسن اختياره لهم إذ هداهم للإسلام (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لا يمتنع عليه شيء إذا أراده ، ولا يفعل الا ما فيه عين الحكمة.

ولا يخفى أن التأليف بين قلوب المسلمين ببركة النبيّ (ص) وببركة هذا الدّين الشريف آية من أكبر الآيات ، لأن المسلم ترك كل حقد وضغينة على سائر من أسلم ،! وصار يحارب أباه وأخاه وابنه إذا أصرّ على الكفر وحارب المسلمين.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ

مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

٦٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ...) استفتح سبحانه هذه الكريمة بخطابه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحثّه على قتال الكافرين ، وبإخباره أن الله يكفيه أمرهم ويقيه شرورهم ، وهو يكفيك يا محمد ويكفي أيضا (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من وافقك منهم إلى ما تدعو إليه من الجهاد. وقال الحسن : معناه : حسبك وحسب من اتّبعك من المؤمنين ، أي أنه تعالى يكفيك ويكفيهم ، وهو الأقرب إلى الصواب.

أما موضع : من اتّبعك ، من الإعراب ، فهو الرفع ، والتقدير : حسبك الله وتبّاعك من المؤمنين. ويمكن على المعنى الآخر الأصح أن يكون نصبا عطفا على محل الكاف في : حسبك ، والتقدير : يكفيك ويكفي من اتّبعك. ولا يخفى أن الكاف في : حسبك ، في موضع جرّ بالإضافة ، ولكنه مفعول به في المعنى ، فعطفت جملة : ومن اتبعك ، على المعنى. قال الشاعر :

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضحّاك سيف مهنّد

٦٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ...) التحريض : هو الحثّ والحضّ. أي رغّبهم في الجهاد والقتال ، وابعثهم إليه بالوعد بالنّصر وكسب الغنائم في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة. و (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) على الحرب والقتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من أعدائكم (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ينتصروا عليهم ويقهروهم «ب» سبب (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يدركون أمر الله ولا تستوعبه أفهامهم. والنصر لكم عليهم لأنكم تصدّقون بأمره تعالى وبما وعدكم به من الربح والثواب.

٦٦ ـ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) الآن : يعني في هذا الوقت. واللفظة مبنيّة مع الألف واللام الملازمة لها ، وقد خرج عن التمكن بشبه الحرف.

والمعنى : أن الله سبحانه لمّا علم أن الأمر يشقّ عليكم ، خفّف عنكم الحكم في الجهاد من وجوب ثبات الواحد للعشرة من الكفار (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) في العزيمة الطبيعية الإنسانية ، وفي ضعف التبصّر أيضا ، لأنه بعد أن كثر المسلمون اختلط بهم من كان أضعف من المسلمين الأوائل يقينا وبصيرة وقوة بدنية ، فخفّف عنهم مسئولية الثبات : (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ) على الجهاد والقتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من أعدائهم (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرون (يَغْلِبُوا) من الأعداء (أَلْفَيْنِ ، بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وعلمه. وهذا أمر منه سبحانه بأن يثبت المسلم الواحد لاثنين من الكافرين ، الله تعالى يضمن له النصر عليهما (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي أن معونة الله مرصودة للصابرين : الثابتين في ساعة العسرة والجهاد.

وقيل إن هذه الآية الكريمة ناسخة للآية السابقة. والتغليظ في الأولى كان على أهل بدر خاصة ، ثم جاءت الرخصة بعدها.

* * *

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

٦٧ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ...) ما : للنفي ، أي ليس لأيّ نبيّ حقّ ، ولا عهد الله إليه أن يتخذ أسرى من أعدائه ـ والأسر وقوع المحارب في قبضة آخذه. وهو لغة الشدّ ، إذ كانوا يشدّون الأسير بالحبال ـ فما لنبيّ أن يتخذ أسرى من محاربيه المشركين ليعذبهم

ذووهم أو ليمنّ هو عليهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي لا يجوز له ذلك إلّا بعد أن يبالغ في قتل المشركين وقهرهم ، يأخذ الأسرى ليرتدع بهم غيرهم. وأثخن في الأرض : يعني غلّظ الحال بكثرة القتل وإيقاع الجرحى (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون ، والخطاب لهم وحدهم دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي ترغبون في أسر أعدائكم لتأخذوا الفدية منهم منذ أول وقعة ـ في بدر ـ وقبل أن تثخنوا في الأرض وتخوضوا غمار حروب طاحنة ، محبّين (عَرَضَ الدُّنْيا) وهو مالها وما يعرض فيها مما هو زائل من مظاهرها الكثيرة (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يريد لكم ثواب الآخرة لا الحظّ العاجل من الدّنيا (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب هو ولا يخذل أنصاره وهو (حَكِيمٌ) أفعاله دائما طبق الحكمة والصواب.

٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ...) أي : لولا حكم أو قضاء سبق منه سبحانه وتعالى (لَمَسَّكُمْ) لأصابكم (فِيما) بسبب ما (أَخَذْتُمْ) من الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد ورد في تعليل ذلك وجوه :

أولها : أنه سبحانه لولا ما مضى من حكمه بأن لا يعذّب قوما حتى يبيّن لهم ما ينبغي أن يتجنّبوه لعذّبكم بأخذ الأسرى وأخذ الفداء.

وثانيها : أنه لولا إباحته لكم أخذ الغنائم والفداء في سابق علمه وفي اللوح المحفوظ لعذّبكم بسبب أسرهم لأنكم استبحتم ذلك قبل تحليله.

وثالثها : أنه لو لا كتاب ، وهو القرآن الكريم ، آمنتم به فوجبت لكم المغفرة بفضله لكنّا عذّبناكم.

ورابعها : أن الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ.)

٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ...) أي أبيح لكم أكل ما أخذتموه غنيمة من أموال الأعداء الذين قاتلوكم (وَاتَّقُوا اللهَ) بتجنّب المعاصي (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) متجاوز عن السيئات (رَحِيمٌ) يرأف بعباده.

أما الفاء في : فكلوا ، فقد دخلت للجزاء ، يعني : لقد أحللت لكم الغذاء بمالهم فكلوا. وحلالا طيبا : منصوب على الحال.

أما قصة القتل والأسر يوم بدر فتتلخّص بما يلي :

قتل يوم بدر من المشركين سبعون ، قتل منهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحده سبعة وعشرين ، وقتل من أصحاب النبيّ (ص) تسعة رجال وقيل ثمانية ، وقيل أحد عشر وأسر من المشركين سبعون ، ولم يؤسر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد. وقد قرن المسلمون الأسارى بالحبال وساقوهم إلى يثرب سيرا على أقدامهم. وليلة أسرهم بات النبيّ (ص) ساهرا لأنه كان يسمع أنين عمه العباس ، فأطلقوه من وثاقه فسكت فنام النبي (ص). وفي المدينة قال (ص) لأصحابه : إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ، فقالوا : بل نأخذ الفداء نتقوّى به على أعدائنا. وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم ، وأقلّه ألف درهم. وأخذت قريش تبعث بالفداء وتستنقذ الأسرى. وفدت زينب بنت رسول الله (ص) زوجها أبا العاص بن الربيع بقلائد لها كانت خديجة أمّها عليهما‌السلام قد جهّزتها بها لأن أبا العاص ابن أخت خديجة (ع) فأطلقه رسول الله (ص) واشترط عليه أن يبعث إليه زينب وأن لا يمنعها من اللحوق به وقال : رحم الله خديجة ، هذه قلائد هي جهّزتها بها.

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية ، والأوقية أربعون مثقالا ، إلّا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية ، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقيّة ذهبا فقال النبي (ص) : ذلك غنيمة ، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذهب الذي سلّمته إلى أمّ الفضل وقلت : إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم؟ فقال : من أخبرك بهذا؟ قال : الله تعالى. فقال : أشهد أنك رسول الله ، والله ما اطّلع على

هذا أحد إلّا الله تعالى.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) هذا خطاب للنبيّ (ص) وأمر أن يقول لأسرى بدر : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي لو علم أن عندكم صلاحا ورغبة في الإيمان وصفاء نيّة (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي أفضل (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء في الدّنيا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم في الآخرة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن السيئات ويرحم عباده. ولا يخفى على ذوي الدربة أنه سبحانه ذكر الأيدي لأن من كان في قبضة المسلمين من الأسرى ، فهو بمنزلة من يكون بأيديهم بعد أن استولوا عليه. وهو كقولك : أصبح الأمر في قبضة يدي ، أي تحت تسلّطي وفي حوزتي.

وقد روي عن العباس بن عبد المطلب قوله : نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي. كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت منّي ، فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كلّ منهم يضرب بمال كثير ، وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية ، وأعطاني زمزم وما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربّي.

٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ ...) أي إذا أراد الأسرى الذين أطلقتهم يا محمد ، أن يخونوا العهد معك وأن يعدّوا حربا عليك أو ينصروا عدوّك ، فقد خانوا الله ، بالتعدّي على سننه (مِنْ قَبْلُ) إذ خرجوا

لقتالك في بدر مع المشركين ، فأشركوا بالله وأضافوا إليه الشريك وما لا يليق به (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم وسلّطك عليهم وجعلك تغلبهم وتأسرهم ، وسيفعل ذلك بهم إن عادوا إلى الخيانة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يقولونه وما يضمرونه في نفوسهم (حَكِيمٌ) في فعله.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) بهذه الآيات المباركات ختم الله سبحانه وتعالى قوله بوجوب موالاة المؤمنين والانقطاع عن موالاة الكافرين. فالذين آمنوا بالله ورسوله وبكل ما يجب الإيمان به ، وهاجروا من مكة إلى المدينة وتركوا وطنهم ، وجاهدوا فقاتلوا العدوّ وتحمّلوا المشاقّ ، وكان جهادهم (بِأَمْوالِهِمْ) التي بذلوها (وَأَنْفُسِهِمْ) التي أرخصوها (فِي سَبِيلِ اللهِ) طريق طاعته وإعزاز دينه ، (وَ) كذلك (الَّذِينَ آوَوْا) أي ضمّوا الرسول (ص) والمهاجرين إليهم بالمدينة وأنزلوهم في بيوتهم ، وأسكنوهم في منازلهم ، وهم الأنصار (وَنَصَرُوا) الرسول (ص) والمهاجرين معه على أعدائهم ، ف (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

بَعْضٍ) أي بعضهم أولى بنصرة بعض وإن لم تربطهم قرابة نسب ، بل الموالاة في الدّين بحيث ينفذ أمان واحد منهم على سائر المسلمين. وقيل : بعضهم أولياء بعض في التوارث كما عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) معكم إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي ليس لكم من ميراثهم شيء حتى يهاجروا إليكم ، فإن الميراث كان منقطعا في ذلك الوقت بين المهاجرين وغيرهم. وفي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى. وقيل إن المراد : ليس عليكم نصرتهم. والولاية لغة : عقد النّصرة للموافقة في الديانة. وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثّاب : ولايتهم بكسر الواو ، وقرأ الباقون بفتحها. والأصح فتحها لأن الولاية بالكسر معناها الإمارة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) طلبوا مساعدتكم على حرب أعدائهم من الكفار (فَعَلَيْكُمُ) فيجب عليكم (النَّصْرُ) لهم. أما في غير الدين فلا تجب عليكم نصرتهم. وقد استثنى سبحانه وجوب نصرهم فقال : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يعني انصروهم في الدين ، إلّا إذا استعانوا بكم على قوم من المشركين يربطكم بهم عهد أو أمان يجب فيه الوفاء به فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك نقض للعهد يأباه الإسلام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه أعمالكم كائنا ما كانت.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) أي أن الكافرين بعضهم ناصر بعض ، وبعضهم أولى بميراث بعض ، فلا تتعاطوا أمورهم ودعوهم وشأنهم واهتمّوا بشؤون أنفسكم (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إلّا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين السابقتين من التناصر والتعاون فيما بينكم ، ومن التبرؤ من الكفار والمشركين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي : يحصل بلاء ومحنة على المؤمنين الذين لم يهاجروا خاصة ، فقد يميلوا إلى الضلال. والفساد الكبير : هو ضعف الإيمان ، أو الفتن والحروب وسفك الدماء. وقيل إن المراد بالفتنة : الكفر ، لأن المسلمين إذا والوا

الكافرين تجرّأ الكافرون عليهم ودعوهم إلى اتّباع طريقتهم ، وهذا يوجب التبرؤ النهائيّ منهم. وقيل أيضا : معناه أنكم إذا لم تربطوا التوارث بالهجرة ، ولم تقطعوه بعدمها أدّى ذلك إلى فتنة واختلاف كلمة وفساد عظيم إذ يتقوّى بذلك الخارج على الجماعة. ثم عاد سبحانه يمتدح المهاجرين والأنصار ويثني عليهم فقال فيما يلي من ختام السورة المباركة :

* * *

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) أي الذين صدّقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند الله ، وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته ، وتركوا ديارهم فرارا بدينهم مع رسول الله (ص) وحاربوا معه لينصروا دينه وشريعته (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هم المصدّقون فعلا ، قولا وعملا ، وقد حقّقوا إيمانهم حتى برهنوا أنه إيمان حق. فهؤلاء (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي أعد الله لهم مغفرة : تجاوزا عن سيئاتهم ، ورزقا كريما : واسعا عظيما لا ينغّصه شيء من المكدّرات. وقيل : الرزق الكريم : هو هنا طعام الجنّة لأنه لا يتحوّل في الجوف إلى نجو بل يتحوّل ويتبخّر من الجسم كالمسك ريحا وعبيرا.

٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) أي الذين آمنوا بعد فتح مكة ، وقيل هم الذين آمنوا بعد إيمانكم (وَهاجَرُوا) إلى النبيّ

(ص) بعد هجرتكم الأولى (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) فهم من جملتكم إيمانا وهجرة وجهادا وحكما في الموالاة والميراث والنّصرة رغم تأخّر إيمانهم وهجرتهم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي أن أهل القرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم. وهذا ينسخ التوارث السابق بالمعاقدة والهجرة وسائر الأسباب كالمؤاخاة وغيرها ، وقد خطّ هذا الحكم (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ ، أو كما فصّل في القرآن لأبواب الإرث. وقوله هذا ، تبارك اسمه ، يدل على أن من كان أقرب إلى الميّت في النسب كان أولى بميراثه سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم ، أو عقبة أو غير ذي عقبة. ومن وافق مذهبنا في توريث ذوي الأرحام يستثني أصحاب الفرائض والعصبة من الآية مع أنه خلاف الظاهر منها (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معناه ظاهر وقد مرّ تفسيره.

* * *

سورة التوبة

مدنية ، وهي مائة وتسع وعشرون آية.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

١ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ...) ختم سبحانه وتعالى سورة الأنفال بوجوب البراءة من المشركين ، ثم افتتح هذه السورة المباركة بأنه ورسوله بريئان منهم. والبراءة انقطاع العصمة ، أي أنه هو عزّ اسمه ورسوله قد رفعا الأمان وخرجا من عهود المشركين بهذه السورة التي تحمل خبر البراءة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) يا محمد ويا أيّها المسلمون ، فتبرّأوا ممّن بينكم وبينهم عهود منهم فالله قد حرّم إعطاءهم العهود والوفاء لهم بها.

وإن قيل كيف يجيز سبحانه نقض ما كان من عهود فجأة؟ فالجواب أن عهود هؤلاء كان يجوز نقضها من أوجه :

منها أن عهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مشروطة بالبقاء إلّا أن يرفعها الله سبحانه بالوحي.

ومنها أنه قد ظهر من المشركين خيانة ونقض ، فأمره الله بالنّبذ لهم على سواء.

كما أن منها ما له مدة تنتهي وينتقض العهد بانتهائها. وقد روي أنه (ص) قد شرط عليهم كلّ ذلك. وبعد هذه البراءة خاطب سبحانه المشركين بقوله :

٢ ـ (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي سيروا فيها واقضوا حوائجكم بأمان لمدة (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فإذا مضت المدة ولم تعلنوا الإسلام فقد برئت الذمة منكم وانقطعت عصمة دمائكم وأموالكم (وَ) مع ذلك (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تفوتونه ولا يعجز عنكم أينما كنتم في ملكه (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مبعدهم ومهينهم. والأشهر الأربعة كان ابتداؤها يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الثاني كما هو المرويّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي ، وقيل إنها من أول شوال إلى آخر المحرّم لأن هذه الآية نزلت في شوال عن ابن عباس والزهري وغيرهما.

وقيل إن من كان له عهد من النبيّ (ص) إلى أكثر من أربعة أشهر حطّ عهده إليها ، ومن كان عهده إلى أقل منها رفع إليها.

ومما لا شك فيه عند أحد من المفسّرين ورواة الأخبار أنه لمّا نزلت براءة دفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر ليبلّغها إلى الناس في الحج ، فانصرف بها حتى إذا بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على ناقته العضباء فردّه وأخذها منه ، فقال أبو بكر : هل نزل فيّ شيء؟ قال رسول الله (ص): لا يبلّغ إلّا أنا أو رجل منّي ، ثم بعث بها

عليّا وأمره أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده. وقد روى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : خطب عليّ عليه‌السلام الناس واخترط سيفه فقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجّن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر. وقد فعل ذلك عند جمرة العقبة ثم قرأ عليهم سورة براءة ، وقيل : قرأ عشر آيات أو ثلاث عشرة آية من أولها ، فقال المشركون قاتلهم الله : نحن نتبرّأ من عهدك وعهد ابن عمّك.

٣ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ...) أي وإعلام للناس من الله ورسوله في نداء يوجّهه إليهم (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة ، وقيل : يوم الوقوف (والحج الأصغر الذي ليس فيه وقوف ، أي العمرة) وقيل هو يوم النّحر كما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام وابن عباس وكثيرين ، وقيل أخيرا : عنى به حجّ المسلمين والمشركين معا لآخر مرّة. ولفظة : أذان معطوفة على : براءة التي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذه الآيات براءة من الله ، وهي أذان منه ومن رسوله (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي نازع عصمة عهودهم ، وقد حذف المضاف هنا (عهود) وأقيم المضاف إليه (الْمُشْرِكِينَ) مقامه ، وَكذلك (رَسُولِهِ) بريء منهم أيضا. وحسن ما ذكره صاحب المجمع من قولهم : إن البراءة الأولى لنقض العهد ، والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان ، وليس ذلك بتكرار. وقريء : رسوله ، بالفتح. فمن قرأه بالرفع فعلى أنه مبتدأ محذوف خبره إذ يدل عليه ما تقدّمه وتقديره : ورسوله أيضا بريء منهم. ومن قرأه بالفتح فعلى العطف على لفظة الجلالة مقدّرا : أن الله بريء من المشركين وأن رسوله بريء منهم أيضا (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون عن الشّرك في هذه المدة ووحّدتم الله وآمنتم به وبرسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من بقائكم على عنادكم وشرككم (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم عن الإيمان وأقمتم على الكفر (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه ولا يعجز عن عقابكم في الدّنيا ، وإنما يمهلكم لتظهر لكم حجته (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم يا محمد

بذلك. وقد استهزأ سبحانه بهم فأورد لفظ البشارة في مورد الإخبار عن العذاب الموجع في نار جهنّم.

٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ ...) استثنى سبحانه وتعالى من البراءة من كان بيده عهد من النبيّ (ص) ولم ينقضه ولم تنقض مدته ، وعنى بهم بني كنانة وبني ضمرة كما عن الفرّاء ، إذ بقي من أجلهم تسعة أشهر ولم يظاهروا على المؤمنين ولا نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان (ص) قد صالح أهل البحرين وهجر وأيلة ودومة الجندل وغيرهم ولم ينبذ إليهم عهودهم ولا حاربهم حتى مضى لسبيله صلوات الله وسلامه عليه ووفى لهم بما صالحهم عليه عملا بقوله سبحانه : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي لم يسقطوا من شروط عهودهم شيئا (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (أَحَداً) من أعدائكم. هؤلاء (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى انقضاء وقت عهودهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين نقض العهود التي يعطونها.

* * *

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ...) بدأ سبحانه بتفصيل ما يجري بعد انسلاخ : أي انقضاء الأشهر الحرم المعروفة عندهم التي حرّموا فيها القتال وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب ـ ثلاثة سرد ، وواحد

فرد ـ وقيل قصد بها الأشهر التي عنتها الآية الشريفة من يوم النحر حتى آخر المحرّم فأمهلهم خمسين يوما ، وقيل : بل هي : عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر ، وشهر ربيع الأول وعشرة من ربيع الثاني ، وبعدها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وضعوا السيف فيهم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان من الحلّ والحرم وفي الأشهر الحرم وغيرها. وهذا معناه نسخ لكل آية وردت في مهادنة المشركين ، فاقتلوهم أيها المؤمنون (وَخُذُوهُمْ) بالعنف والقتل (وَاحْصُرُوهُمْ) أي احبسوهم واسترقّوهم وامنعوهم دخول مكة والتصرف في سائر بلاد الإسلام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي ارصدوهم في كل طريق وبكل مكان تحتملون مرورهم فيه ، وسدّوا عليهم الطّرق لقتلهم أو أسرهم (فَإِنْ تابُوا) أي رجعوا عن الكفر وندموا وانقادوا للدّين (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي رضوا وقبلوا بذلك وعملوه (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أطلقوهم يتصرّفون كأحدكم في البلاد المسلمة ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقيل : دعوهم يحجّوا البيت (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عمّا سلف ويرحم عباده. واستدلّوا بهذه الآية على أن تارك الصلاة عمدا يجب قتله ، لأنه تعالى أوجب الامتناع عن قتل المشركين إذا تابوا وأقاموا الصلاة ، وإذا لم يقيموها وجب قتلهم.

٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ...) أي إذا طلب منك يا محمد أحد من المشركين أمانا من القتل وأن تجيره منه وتحفظه في جوارك (فَأَجِرْهُ) فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فيصغي لدعوتك ويتدبّر آيات القرآن الكريم ، لأن كلام الله فيه الأدلّة القاطعة ، واحفظه في كنفك حتى يتيسّر له ذلك (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي أوصله إلى حيث يأمن عند قومه ، فإذا أسلم يكون قد نال خير الدارين ، وإذا أصرّ على كفره فلا تغدر به ولا تقتله وليكن آمنا على نفسه وماله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعني أن هذا الأمان منحناهم إياه بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإيمان ولا يفقهون الدلائل ، فخذهم بحلمك عسى أن يتدبّروا ويعلموا.

* * *

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ...) أي كيف يكون لهم عهد محترم عند الله وعند رسوله وهم أهل غدر ونقض ولا يضمرون الوفاء. والجملة وردت على التعجّب وأنه سبحانه كيف يأمر بالكفّ عن دمائهم مع ما هم عليه (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلهم عهد لأنهم لم يخونوك ولا أضمروا الغدر بك. وعن ابن عباس أن المقصود بهم قريش ، وقيل : هم أهل مكة حين عاهدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية فلم يستقيموا وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول الله (ص) بعد الفتح أربعة أشهر فإمّا أن يسلموا وإمّا أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا ، فأسلموا قبل مضي الوقت. وقيل إنه سبحانه عنى قبائل كثيرة. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فما ثبتوا لكم على العهد فاثبتوا لهم وكونوا باقين عليه ما بقوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتجنّبون نكث العهود والمحافظة على الأوامر والنواهي.

٨ ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا ...) أي كيف يكون لهم عهد ، وكيف لا تقتلونهم ـ وهنا حذف هذا تقديره ـ وهم إذا ظهروا : أي علوا عليكم وغلبوكم ، لا يرقبوا : لا يحافظوا ولا يراعوا فيكم إلّا : أي عهدا ، قال الشاعر :

وجدناهم كاذبا إلّهم

وذو الإلّ والعهد لا يكذب

وقيل إن الإلّ هو القرابة و «الذّمّة» العهد ، قال حسان :

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النعام

فأين تذهبون وحالهم معكم هكذا وهم (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي يتكلّمون كلام الموالين المحبّين لترضوا عنهم (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ترفض كل شيء إلّا عداوتكم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) ممعنون في الشّرك والعناد والتمرد والكفر.

٩ ـ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ...) يعني أنهم أعرضوا عن حجج الله تعالى وبيّناته ودلائله ومنعوا الناس من الإيمان راضين بيسير ممّا نالوه من الدنيا. والاشتراء هو استبدال السلعة بالمال أو بغيرها وعكسه البيع. وقد نزلت هذه الآية الشريفة بقوم من العرب جمعهم أبو سفيان على الطعام ليؤجج صدورهم بعداوة النبيّ (ص) وقيل : إنها في اليهود الذين كانوا يقبضون الرّشى من عوام اليهود لقاء الحكم بالباطل (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الحكم حكمهم ذاك.

١٠ ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...) مرّ تفسيره في الآية السابقة وقد كرّر تأكيدا لصفاتهم الرديئة. وقيل إن الأول في صفة الناكثين للعهود ، والثاني في صفة المشترين بآيات الله ثمنا قليلا (أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون الحدّ في كفرهم وسيرتهم ومعاملاتهم.

* * *

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

١١ ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ...) أي إذا ندموا وأقلعوا عمّا هم فيه من الشّرك ونكث العهود ، وأسلموا وقبلوا بإقامة الصلاة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) فعلوها وصرفوها في وجوه البرّ «ف» هم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) عاملوهم كما تعاملوا إخوانكم من المؤمنين (وَ) نحن (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها ونوضحها ونظهر ما تعني كلّ واحدة منها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذلك ويتفهّمونه ، لا للمعاندين والجهلة.

١٢ ـ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ...) أي إذا نقضوا عهدهم وما أوثقوا به أنفسهم من بعد أن أعطوا تلك المواثيق (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي قدحوا فيه وذمّوه وعابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي رؤساء الكفر وقد أورد سبحانه ذكرهم لأنهم هم الضالّون المضلّون لأتباعهم. وعن ابن عباس وقتادة أنهم رؤساء قريش مثل الحرث بن هشام وأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل

وغيرهم. وعن حذيفة بن اليمان أنه لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقرأ عليّ عليه‌السلام هذه الآية يوم البصرة ثم قال : أما والله لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لي : يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الناكثة ، والفئة الباغية ، والفئة المارقة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا يحفظون عهدهم وقسمهم لأن اليمين هو القسم. وقد قرئ : لا إيمان لهم ، بالكسر ، أي إذا آمنوا إنسانا لا يفون به ، وأنهم كافرون لا إيمان لهم ، والأول أقرب للصواب لأن الكلام عن العهود والمواثيق كما لا يخفى على الحاذق. فقاتلوا هؤلاء الكفرة (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي لكي يمتنعوا عن الكفر وينهوه من صدورهم بقتالكم إياهم لينجلي لهم الحق. أما كيف قال سبحانه : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ، ثم قال : إنهم لا أيمان لهم ، ويكف أثبتها ونفاها في آية واحدة ، فذلك أنه أثبت أيمانهم وما حلفوا به وعقدوا العزم عليه ، ثم نفى الأيمان بعد ذلك لأنهم لم يتمسّكوا بها.

١٣ ـ (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ...) هذا استفهام يراد به التحضيض ـ والألف للاستفهام ـ أي هلّا تقاتلون ناكثي الأيمان وناقضي العهود ، وهم اليهود الذين خرجوا مع الأحزاب (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من المدينة كما أخرجه كفّار مكة من مكة المكرّمة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بنقض العهود وبالقتال (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافونهم وتحذرون أن يصيبكم ما تكرهون بقتالهم؟ وهو استفهام أراد به سبحانه تشجيع المؤمنين على جهادهم ، وهو في منتهى البلاغة والفصاحة لأنه جمع بين السؤال والاستهجان والتقريع والتشجيع (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أجدر بالخوف من المؤاخذة والأخذ بالعقاب بسبب ترك أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين بما جاء من عنده وبثوابه وعقابه.

١٤ ـ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ...) هذا أمر منه سبحانه للمؤمنين بقتال المشركين ، ووعد لهم بالنصر عليهم وبشارة بالظفر لأنه جعل جواب الأمر بالقتال والطلب ، جوابا للطلب بأن يعذّبهم بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا (وَيُخْزِهِمْ) أي يذلّهم ويبعدهم من رحمته (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) يعني :

يعينكم عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي يذهب الغيظ المستكنّ في صدور بعض المؤمنين ممّن نالتهم أذيّة الكفار كبني خزاعة الّذين بيّت عليهم بنو بكر وباغتوهم كما عن مجاهد والسدّي ، وهم كانوا حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٥ ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ...) أي يزيل ما كان فيها من الكدر والحزن لكثرة ما نالهم من الأذى والهوان. ويلاحظ أنه سبحانه بعد أن جعل الأفعال كلها في الآية معطوفة على جواب الطلب ومجزومة به من جهة ، وجعلها كلّها حثّا على قتلهم وقتالهم من جهة ثانية ، قد استأنف الكلام فقال : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي يقبل التوبة ممّن يتوب منهم رحمة منه وكرما (وَاللهُ عَلِيمٌ) بتوبة من يتوب (حَكِيمٌ) في الأمر بقتالهم إذا نكثوا ، وبقبول توبة من تاب ، لأن أفعاله صواب كلها .. وقد قرئ : يتوب بالفتح شاذّا وعلّلوا ذلك بأنه إذا نصب فالتوبة داخلة في جواب الشرط ، وإذا رفع فهو استئناف وتقديره في النّصب : إن تقاتلوهم تكن كل هذه الأشياء التي أحدها التوبة من الله على من يشاء. والاستئناف والرفع أصحّ كما لا يخفى.

* * *

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

١٦ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ...) أي : أظننتم وزعمتم أيها المؤمنون أن تهملوا فلا تكلّفون بالجهاد في سبيل الله؟ وأم : حرف عطف يعطف به الاستفهام. و (أَمْ حَسِبْتُمْ) معطوف على ما تقدّم. (وَلَمَّا يَعْلَمِ) نفي للعلم مع تقريب لوقوعه. ولو قال : ولم يعلم لكان نفيا للعلم بعد الإطماع بوقوعه. يعني : أتظّنون أن تتركوا هكذا ولمّا يظهر ما علم الله منكم؟ فذكر نفي العلم وهو يريد نفي المعلوم تأكيدا للنفي. وهو سبحانه عالم بما يكون قبل أن كان ، وبما لا يكون لو كان كيف يكون. ولمّا يعلم الله (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) فامتثلوا الأمر وقاتلوا الكفار (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) هذه الجملة معطوفة على سابقتها ، أي : ولم يعلم الله سبحانه الذين لم يتخذوا سواه وسوى رسوله وسوى المؤمنين أولياء وبطانة. والوليجة لغة : هو الدخيلة في القوم من غيرهم. ولكنه هنا البطانة ، ووليجة الإنسان من يختص بدخيلة أمره دون سائر الناس. فهو سبحانه وتعالى يريد أن يظهر ما يعلمه ممّن لا يوالي إلّا الله ورسوله والمؤمنين (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عارف بأعمالكم ، عالم بها ، وهو يثيب ويجازي عليها.

١٧ ـ (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...) أي لا ينبغي لمن أشرك بالله تعالى أن يشرف على عمارة مساجده وأمكنة عبادته ، بل هذا حقّ للمسلمين دون غيرهم. فكيف يفعلون ذلك (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) يعني حال كونهم يشهدون ويعترفون بكفرهم بالله وبقدسية مساجده. وقد فسّروا العمارة مرّة بالدخول إليها والنزول بها كمن يعمر مجلس فلان أي يغشاه ، ومرة بإصلاحها وترميمها ، وأخرى بأن يكونوا من أهلها وروّادها. فعلى كل حال لا ينبغي للمشركين أن يكونوا أهل المسجد الحرام بكل هذه المعاني. أما شهادتهم على أنفسهم بالكفر ـ كما جاء في المجمع ـ فهو أنك إذا سألت اليهوديّ : ما أنت؟ يقول : أنا يهودي ، والنصرانيّ يقول : أنا نصراني ، ومثلهما المشرك. وقيل كلامهم وسلوكهم يدلّان على كفرهم ، كقولهم في التلبية : لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو

لك تملكه وما ملك. فجميع أحوالهم تشهد بكفرهم (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت لأنها وقعت على خلاف الحق والصواب وهم لا يستحقون ثوابا عليها ، بل يعذّبون (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي مقيمون إلى الأبد.

١٨ ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...) أي لا يعمر المساجد بالمعنى الذي ذكرناه في الآية السابقة إلّا الموحّد المؤمن بالله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم القيامة. ولفظة : إنّما ، تستعمل لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، فإذا لا يقوم بعمران المساجد والطاعات إلّا من أقرّ بالوحدانية والبعث (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) بحدودهما وأصولهما (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) ولم يخف غيره أحدا من الخلق (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) فعن ابن عباس والحسن أنّ (فَعَسى) من الله واجبة. ومعنى ذلك أنّ من فعل ذلك فهو من المهتدين إلى الجنّة ورضوان الله تعالى بما أوجب له الله عزوجل.

* * *

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

١٩ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) هو استفهام

إنكاري معناه : لا تجعلوا أهل ساقية الحاج وأهل عمارة المساجد في الفضل والمرتبة عند الله (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي صدّق. إنها لا تكون مقابلة هذا الفعل بذاك ، ولا تقابل سقاية الحاج الماء أو نبيذ الزبيب ، ولا سدانة الحرم الإيمان ، بالله وبيوم الحساب. فكيف إذا آمن (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ضمّ إلى إيمانه مقاتلة الكفار لإعلاء كلمة الحق؟ لا ، فإنهم (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي لا يتساوون في الثواب والفضل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الحق ، كما يهدي العارف به المطيع له.

وفي المجمع أن الإمام الباقر عليه‌السلام وغيره كثيرون قرءوا : أجعلتم سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام. والسّقاة : جمع ساق ، والعمرة : جمع عامر. والسقاية : مصدر كالسّقي ، والعمارة كذلك.

٢٠ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...) أي الذين صدّقوا بوحدانية الله تعالى وهاجروا من أوطانهم التي هي ديار كفر ، وجاهدوا الكفار في طريق مرضاة الله وإعلاء الحق ، بل جاهدوا (بِأَمْوالِهِمْ) أي بإنفاقها (وَأَنْفُسِهِمْ) يعني ببذلها للشهادة في سبيله ، وتحمّلوا المشاق من جرّاء ذلك كله ، هم (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) ممّن سواهم من المؤمنين الّذين لم يفعلوا ذلك كلّه (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بما يريدون من ثواب الله ورضوانه.

٢١ ـ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ ...) هؤلاء المذكورون في الآية السابقة يزفّ إليهم الله البشرى بما يظهر سرورهم من رحمته : أي عطفه ورأفته ، ورضوانه. أي جزيل رضاه المضادّ لسخطه ، (وَ) يبشّرهم أيضا ب (جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) والنعيم مشتقّ من النعمة ورغد العيش ، ونعيم هؤلاء دائم لا ينقضي ولا يزول.

٢٢ ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ :) أي باقين فيها إلى الأبد مع النعيم الدائم لأن أجر العمل وثوابه من عند الله كثير ، وصفه بالعظم لأنه لا يمكن تقديره إذ لا تبلغه نعمة غيره.

وهذه الآيات الثلاث نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة. فقد روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : بينا شيبة والعباس يتفاخران إذ مرّ بهما عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال : بما ذا تتفاخران؟ فقال العباس : لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد ، سقاية الحاج. وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال عليّ عليه‌السلام : استحييت لكما ، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا : وما أوتيت يا عليّ؟ قال : ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله. فقام العباس مغضبا يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أما ترى إلى ما يستقبلني به عليّ؟ فقال : ادعوا لي عليّا. فدعوه له ، فقال : ما حملك على ما استقبلت به عمّك. فقال : يا رسول الله صدمته بالحق فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض ، فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن ربّك يقرأ عليك السلام ويقول : أتل عليهم : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) الآيات .. فقال العباس : إنّا قد رضينا ، ثلاث مرات.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ...) هذا خطاب منه سبحانه للمؤمنين قائلا : لا تتّخذوا آباءكم (وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) في أمور الدّين (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي إذا فضّلوا الكفر واختاروه وآثروه على التصديق بالله وأوامره. أما في أمور الدنيا فلا بأس بمجالستهم ومعاشرتهم لقوله تعالى : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً). وعن الحسن أن من تولّى المشرك فهو مشرك ، يعني إذا كان راضيا بشركه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) ويطلعهم على أمور المسلمين ليكيدوا لهم ويترك طاعة الله (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أنفسهم المانعين عنها ثواب طاعة الله تعالى إذ وضعوا الموالاة في غير موضعها.

٢٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ ...) أي قل يا محمد للمسلمين الذي تخلّفوا عن الهجرة إلى دار الإسلام : إن كان والدوكم أو من ولدتموهم أو إخوانكم في النّسب (وَأَزْواجُكُمْ) اللواتي عقدتم عليهن عقد النكاح (وَعَشِيرَتُكُمْ) أي جماعتكم وأقاربكم (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها وجمعتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) أي تخافون أن لا تباع إذا اشتغلتم بطاعة الله (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) وبيوت يعجبكم الإقامة فيها ، أجل إن كانت كل هذه الأشياء (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي آثر عندكم وتحبّونها أكثر من الله والنبيّ وجهاد الكافرين (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يعني بحكمه فيكم بسبب اختياركم هذه الأشياء. وهذا وعيد شديد لمن فعل ذلك (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) مرّ تفسيره أكثر من مرة.

* * *

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ

ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

٢٥ ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...) الخطاب للمؤمنين منه سبحانه يبيّن لهم فيه أنه ـ بعد أن أمرهم بالقتال في الآيات السابقة ـ قد نصرهم في مواطن كثيرة. والموطن الموضع الذي يقيم فيه صاحبه. ومواطن اسم لا ينصرف لأنه جمع ليس على مثال الآحاد. واللام في : لقد ، لام القسم ، فكأنه تعالى أقسم بأنه نصرهم على أعدائهم وأعانهم عليهم في كثير من المواضع رغم ضعفهم وقلّة عددهم وعددهم ، ليبعثهم على طاعته ولو قضت طاعته بترك الأهل والأقربين. وفي المجمع عن الصادقين عليهم‌السلام أنهم قالوا : كانت المواطن ثمانين موطنا فلفظة (كَثِيرَةٍ) تعني هذا المقدار ، فقد روي أن المتوكل مرض مرضا شديدا ونذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه الله ، فلما أبلّ سأل الفقهاء عن حدّ المال الكثير فاختلفوا فيه ، فأشار إليه المقرّبون أن يسأل أبا الحسن عليّ بن محمد الهادي عليه‌السلام وقد كان حبسه في داره وحجّر عليه ، فكتب إليه فأجاب بأن يتصدّق بثمانين درهما. ولمّا سألوه عن العلّة في ذلك قرأ الآية الشريفة وقال : عددنا تلك المواطن التي نصر الله تعالى فيها المسلمين فبلغت ثمانين موطنا. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي : في يوم وقعة حنين (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) أي تهتم بها عجبا وسرّتكم وقال قتادة : كان من أسباب انهزام المسلمين يوم حنين أن بعضهم قال حين رأى كثرة المسلمين : لن نغلب اليوم من قلّة ، فكان أن انهزموا بعد ساعة رغم أنهم كانوا اثني عشر ألفا (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) الكثرة (شَيْئاً) أي لم تدفع عنكم سوء الهزيمة (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) أي انسدّت

آفاقها في وجوهكم وأنتم تولّون الأدبار (بِما رَحُبَتْ) أي رغم رحبها. والباء في (بِما) هنا بمعنى : مع ، أي مع رحبها ، فلم تجدوا مكانا تفرّون إليه (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) هربتم (مُدْبِرِينَ) أي ولّيتم أدباركم للعدو حين انهزمتم هاربين من المعركة .. (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته التي تسكّن النفوس وتزيل الخوف ورهبة القتال. أنزلها سبحانه (عَلى رَسُولِهِ) صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) حين رجعوا إلى الأعداء وقاتلوهم ، وقيل على المؤمنين الذين ثبتوا مع النبيّ (ص) وهم عليّ عليه‌السلام والعباس ونفر من بني هاشم. وعن الإمام الرضا عليه‌السلام كما في العياشي : السكينة ريح من الجنّة تخرج طيبة لها صورة وجه الإنسان فتكون مع الأنبياء (وَأَنْزَلَ) الله سبحانه (جُنُوداً) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) لم تشاهدوها لأنها أجسام نورانيّة وليست من سنخكم ، نزلت لتقوية قلوب المؤمنين الثابتين ولتشجيعهم. والملائكة الذين نزلوا يوم حنين لم يقاتلوا فيه بل في بدر خاصة كما عن الجبائي (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر وسلب الأموال (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي أن العذاب جزاء الكافرين على كفرهم (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) أي يعفو (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي حصل (عَلى مَنْ يَشاءُ) يريد. ولا يخفى على اللبيب أنه سبحانه ذكر (ثُمَ) في ثلاثة مواضع متقاربة من الآية ، أولها : ثم وليتم مدبرين. وثانيها : ثم أنزل سكينته ، والثالث : ثم يتوب الله. وفي العطف الثالث حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه يشاكله. ففي المعطوف عليه الذي هو جملة (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) تذكير بنعمته سبحانه ، وفي المعطوف الذي هو جملة (ثُمَّ يَتُوبُ) وعد بنعمة ثانية وهو أن يقبل توبة من تاب عن الشّرك ورجع إلى حظيرة الطاعة والإسلام وندم على ما فعل من القبيح. ويجوز أن يكون عزّ اسمه قد عنى أنه يقبل توبة من تاب ممّن انهزموا من حول الرّسول يوم حنين وعلّق قبول التوبة على مشيئته كما أن الثواب يتعلّق على الطاعة بالمشيئة أيضا ، ذلك أنّ منهم من كان له منه لطف يصلح به ، ويتوب ويؤمن ، ومنهم من لا لطف له منه جلّ وعلا (وَاللهُ غَفُورٌ) متجاوز عن الذنوب (رَحِيمٌ) بمخلوقاته.

أما القصة التي حكتها هذه الآية الكريمة فقد ذكر أصحاب السير وأهل التفسير أن النبيّ (ص) بعد فتح مكة توجه إلى حنين لقتال ثقيف وهوازن في أواخر شهر رمضان أو في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة. وكان قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري ومعهم أموالهم ونساؤهم وذراريهم ، ونزلوا بأوطاس ـ وهو واد بديار هوازن جنوبي مكة ـ وكان فيهم الشاعر دريد بن الصمّة ، وهو رئيس جشم ،! وقد شاخ وذهب بصره ، فسأل عن اسم المكان الذي نزلوا فيه فقالوا : هو أوطاس ، قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ولا سهل دهس ـ أي : ليّن ـ ولكن مالي أسمع الرّغاء والنهيق والخوار والثغاء وبكاء الصبيان؟ فقيل له : قد ساق الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم ليقاتلوا دونهم. فقال : راعي ضأن وربّ الكعبة ـ أي أن صاحب هذا الرأي ليس بذي رأي حصيف ـ ائتوني بمالك .. ولما جاءه قال له : قد أصبحت رئيس قومك ، وهذا يوم له ما بعده. ردّ قومك إلى بلادهم واحمل بالقوم على متون الخيل فإنه لا ينفع إلّا الفرسان والسيوف فإن ربحت لحق بك الناس ، وإن كانت عليك الواقعة لم تفضح الأهل والعيال .. فقال له مالك : قد كبرت وخرفت وذهب علمك وعقلك.

أمّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان قد عقد لواءه الكريم لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثم أمر كلّ من دخل مكة براية أن يحملها ، وخرج بعد إقامته بمكة بخمسة عشر يوما ، وكان قد استعار مائة درع من صفوان بن أمية ، وكان معه ألفا رجل من مسلمي الفتح ، فخرج من مكة باثني عشر ألفا بعد أن كان دخلها بعشرة آلاف ، ولاقى مالكا بن عوف وهو يأمر قومه بجعل الأهل والمال والذراري وراء الظهور ، وبكسر جفون السيوف والكمين في شعاب تلك الوادي وبين أشجارها حتى إذا كان غبش الصبح حملوا على محمد (ص) وأتباعه حملة الرجل الواحد فإنه لم يلق أحدا يعرف الحرب قبل ذلك.

ولما كان الصبح صلّى رسول الله (ص) بأصحابه وانحدر معهم في

وادي حنين ، فخرجت عليهم الكتائب من كل صوب ، فانهزم جماعة المسلمين من حول رسول الله (ص) متفرقين بين الشعاب رغم إعجابهم بكثرتهم ، ولم يبق إلّا أمير المؤمنين (ع) ومعه الراية يقاتل هو والعباس ونفر قليل ، فقال رسول الله (ص) للعباس : اصعد هذا الظرب ـ التّل ـ فناد : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أصحاب سورة البقرة ، يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله. فلمّا سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا وقالوا : لبّيك لبّيك ، وقاتل الأنصار المشركين قتالا قال عنه رسول الله (ص) : الآن حمي الوطيس ، أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، ثم نزل النصر من عند الله سبحانه وتعالى وانهزمت هوازن شرّ هزيمة بعد أن قتل منهم قرابة مائة رجل ، وتعقّبهم المسلمون في كل طريق ، وغنموا أموالهم ونساءهم وذراريهم ، ثم لحق (ص) بهم ، وهو ومن معه إلى الطائف فحاصروها بقية الشهر ثم عادوا فقسم الغنائم بين المسلمين.

وفي المجمع أن أحد المشركين حدّث عن هذه الوقعة فقال : لمّا التقينا لم يثبت لنا المسلمون حلب شاة فلمّا كشفناهم انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ـ يعني رسول الله (ص) ـ فتلقّانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ، ارجعوا. فرجعنا وركبوا أكتافنا .. أما السبي من هوازن فكان ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشاء ما لا يعلم عدده إلّا الله. ثم أمر (ص) أن ينادي : لا توطأ الحبالى حتى يضعن ، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة. ثم دعا (ص) للأنصار ولأبناء الأنصار.

وجاءت بعدها وفود هوازن مسلمة مسترحمة ، فردّ عليهم ما في يده وأيدي بني هاشم وخيّر المسلمين في الردّ أو قبول الفداء ففعلوا هذا وذاك ، ثم بعث إلى مالك بن عوف أن إذا أسلمت ودنوت علينا ، أرجعنا لك أهلك ومالك ومائة من الإبل ، فوفد مسلما فأعطاه ذلك واستعمله على من أسلم من قومه.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين كافّة بأن المشركين به غيره أنجاس أرجاس (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) فامنعوهم من دخول بيت الله الحرام (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي بعد سنتهم هذه وإلى الأبد ، وكان ذلك سنة تسع حيث نادى فيها عليّ عليه‌السلام بسورة (بَراءَةٌ) إذ قال : ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك. وقد سمّى الله تعالى المشركين أنجاسا لخبث اعتقاداتهم وأفعالهم وأقوالهم ، ولذا منعهم من دخول المسجد الحرام ، أي من الحرم الشريف وما حوله ، ثم قال للمسلمين : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي حاجة أو فقرا ، لأنهم خافوا انقطاع تجاراتهم ومعاطاتهم وخافوا أن تنقص وارداتهم ورزقهم فأمّنهم من هذه الناحية ووعدهم بالفرج إذ قال سبحانه : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهذه بشارة بأن أهل الآفاق ستحمل الميرة إليكم وتأتيكم النّعم من كل صوب برحمة الله ونعمته ، وقد أسلم بعد هذه الوقعة أهل نجد وصنعاء وجرش وصاروا يحملون الطعام إلى مكة ، وكفى الله أهلها ما كانوا يخافون. وقيل أغناهم بالمطر والنبات والخير ، كما قيل أغناهم بالغنائم. و (إِنْ شاءَ)

عبارة تعني وعدهم بالغنى الذي يصيبونه بعد فتح دور الأكاسرة والقياصرة ، وهو أمر مؤخّر قد تظفر به ذراريهم من بعدهم ، وهذا ـ على كل حال ـ ترغيب للإنسان في طلب الغنى بمشيئته تعالى إذ يعلم أن الغنى لا يكون إلا بالكد والجد (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمصلحة وتدبير العباد (حَكِيمٌ) في تقديره وأمره ونهيه.

٢٩ ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) بعد أن عرّفهم حكم المشركين في الآية السابقة ، بيّن في هذه الآية الكريمة أن من الكفّار من لا يعترف بوحدانية الله ولا يقرّ ببعث ولا نشور وأمرهم بقتاله. ذلك أن الكافرين لا يعتقدون بربوبيّته (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يمتنعون عمّا منعه الله ورسوله. ودين الحق هو دين الله تعالى لأنه هو الحق ، ودينه الإسلام والتسليم له في جميع أوامره ونواهيه. وعن أبي عبيدة أنهم الّذين لا يعترفون بالإسلام (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) كاليهود والنصارى الذين يكتمون نعت محمد (ص) وقيل إن المجوس منهم في الحكم فينبغي قتالهم (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) يدفعوها للمسلمين (عَنْ يَدٍ) أي نقدا من يد ليد من غير نائب ينوب بالدفع ، وهذا كما يقال : فم بفم ، وعين بعين. ولعلّ الأصح : أنكم افعلوا بهم ذلك حتى يدفعوا الجزية لكم مرغمين بيد عالية لكم عليهم ، فكأن اليد لكم عليهم بقبولكم الجزية منهم والسكوت عنهم في حمل عقائدهم الفاسدة (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي أذلّة مقهورون وهم يساقون إلى محل دفع الجزية. وجملة : عن يد ، في محلّ نصب على الحال ، أي : نقدا ، ويدا بيد ، أو مرغمين كما قلنا ، والله أعلم.

* * *

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

٣٠ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ...) كان جماعة من اليهود يقولون إن عزيرا هو ابن الله شركا به ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. ومنهم جماعة جاؤا النبيّ (ص) وجاهروا بذلك كسلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشارس بن قيس ومالك بن الضيف وغيرهم. وقيل إن اليهود جميعهم كانوا يقولون بذلك وأن عزيرا أملى التوراة من ظهر قلبه بعد أن علّمه جبرائيل إياها فقالوا : إنه ابن الله. وقد أضاف الله سبحانه القول إليهم جميعهم لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك إذا سمعوه وكذلك (قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) كما قال اليهود عن عزير شركا بالله وإنكارا لوحدانيّته (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي أنهم ابتدعوا ذلك واخترعوه قولا بأفواههم ولم يجئهم بذلك رسول ولا نزل به كتاب ، وليس لقولهم صحة ولا حجة عليه ولا برهان بل هو لقلقة لسان وزور وبهتان (يُضاهِؤُنَ) يعني يشابهون بقولهم هذا (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي عبدة الأوثان (مِنْ قَبْلُ) أي ممّن سبقهم. فكأنّ النصارى وافقوا من سبقهم من اليهود فقالوا في المسيح (ع) ما قالوه (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم ، فالمقاتلة من الله هي اللعنة لأن من لعنه كان بحكم المقتول الذي قضي على وجوده (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يمنعون

مع الإفك ويتركون الحق ، والإفك هو الكذب.

٣١ ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ...) الحبر ـ بفتح الحاء وكسرها ـ هو العالم الذي يحبّر المعاني ويحسن بيانها ، والراهب هو الخاشي الخائف من الله ، وذلك من الخشية ، وغلب الاسم على المتنسّكين من النصارى. فاليهود اتّخذوا أحبارهم ، والنصارى اتخذوا رهبانهم ، أربابا (مِنْ دُونِ اللهِ) وروي عن الصادقين عليهما‌السلام كما في مجمع البيان وغيره من التفاسير الكثيرة أنهما قالا : أما والله ما صاموا ولا صلّوا ، ولكنهم أحلّوا لهم حراما ، وحرّموا عليهم حلالا فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون. وروى الثعلبي أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله (ص) وفي عنقه صليب من ذهب فقال له : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، فطرحه وقرأ رسول الله (ص) هذه الآية فقال عدي : إنا لسنا نعبدهم ، فقال له (ص) : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ فقاله : بلى. قال : فتلك عبادتهم .. (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي اتّخذوه إلها إلى جانب رهبانهم (وَما أُمِرُوا) عن طريق رسلهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي معبودا لا شريك له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تحق العبادة لسواه (سُبْحانَهُ) تقديسا وتنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى عما يقولون ممّا لا يجوز بحقه جلّ وعلا.

٣٢ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ...) الإطفاء هو إذهاب نور النّار ، ويستعمل لإطفاء كل نور ، والأفواه جمع فم ، وأصله : فوه وقد حذفت منه الهاء وأبدل الواو بميم لأنه حرف صحيح يخرج من مخرج الواو. فالمشركون من اليهود والنصارى ، يريدون إطفاء نور الله ، وهو القرآن والإسلام برأي أكثر المفسّرين ، وهو كل ما يهتدى به إلى دينه الحق. وقد قال : بأفواههم ، لأن النور يطفأ بالفم بواسطة النفخ كما هو معلوم ، وهذا القول من أبلغ القول وأجمل البيان لأنه يحمل من السخرية بهم وتصغير شأنهم والاستهزاء بمكرهم وكيدهم لأن الفم يؤثر نفخه بالأنوار الضئيلة ، وأين هو من إطفاء نور الله وساطع براهينه وواضح حججه؟ (وَيَأْبَى اللهُ)

أي يمنع (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ليظهر دينه (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي على كره منهم.

٣٣ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ...) أي أنه تعالى هو الذي بعث رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وحمّله الرسالة للناس بالهدى ، أي الدلائل والبيّنات والحجج (وَدِينِ الْحَقِ) وهو الإسلام وما تضمّنه من بيان الحلال والحرام والشرائع والأحكام والأوامر والنواهي (لِيُظْهِرَهُ) أي ليعليه وينصره (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جميع الأديان بالغلبة والقهر لها ، لأنه حق وهي منسوخة باطلة. وقيل سيكون ذلك يوم ظهور الحجة المهديّ عجّل الله تعالى فرجه وقد أراد سبحانه أن يكون ذلك عند نزول المسيح عليه‌السلام في عهده ، حيث لا يبقى أهل دين إلّا أسلم. وقال الإمام الباقر عليه‌السلام ـ كما في المجمع وغيره ـ : إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد ، فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمد. وقال بذلك السدي والكلبي ، وبعد ذلك تكون حكومة العهد الالهي على الأرض ويكون من أشراط الساعة وقرب يوم القيامة. وقال المقداد بن الأسود : سمعت رسول الله (ص) يقول : لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام إمّا بعزّ عزيز وإمّا بذلّ ذليل ... يفعل ذلك الله سبحانه (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي وإن كرهوا هذا الدّين فإنه سيظهره رغما لهم وينصره ولو كرهوا ذلك.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ

(٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

٣٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ ...) خطاب منه سبحانه يدل به المؤمنين بأن أكثر الرّهبان والأحبار (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي يأخذونها رشى على الأحكام بما يرضي الناس ، ولا يخفى أن أكل المال بالباطل يعني أخذه من الجهات المحرّمة ، وقد وضع الأكل مكان التملّك ، لأن التملّك نفسه معظمه من أجل الاكل (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يمنعون غيرهم عن الإسلام الذي هو طريق النجاة ، وعن الاعتراف بمحمد (ص) مع أنه دعاهم لما فيه خلاصهم (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أي يجمعونها ويكدّسونها بعضها فوق بعض لتتراكم وتكثر (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : ولا يؤدّون زكاتها ، فقد روي عنه (ص) أنه قال : كلّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا ، وكلّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز ولو كان مدفونا في الأرض. وهذه الآية تشمل مانعي الزكاة من الأمة الإسلامية أيضا بدليل عمومها في الفريقين (فَبَشِّرْهُمْ) هؤلاء أو هؤلاء من مانعي الزكاة عدهم يا محمد (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) موجع ، وذلك في يوم القيامة ، أي :

٣٥ ـ (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ...) يعني حين يوقد على الذهب والفضة المكتنزة في نار جهنّم حتى تصير جمرا (فَتُكْوى بِها) أي بالكنوز المدّخرة المحماة (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) جميعا تكوى بها ، وهي معظم البدن ، وقد كان أبو ذرّ رضوان الله عليه يقول : بشّر الكانزين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيّ في الظهور حتى يلتقي الحرّ في أجوافهم. وهذا حق ، لأن الأعضاء المسماة كلها قريبة من التجاويف الفرعية والجوف العام ، بخلاف اليد والرجل وغيرهما. وقيل : تكوى بها الجباه لأنها محل

السجود ولم تقم به ، والجنوب لأنها مقابل القلوب التي لم تخلص بالإيمان لله ، والظهور لأنها محلّ حمل الأوزار ، يفعل بهم ذلك ويقال لهم (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) يقال لهم ذلك حين الكيّ ، أي هذا جزاء ما كنزتم وجمعتم من المال الذي لم تؤدّوا حقوق الله منه (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تجمعون. وفي المجمع أن ثوبان روى عن النبيّ (ص) قوله : من ترك كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا ـ أي حيّة ضخمة ـ أقرع ، له زبيبتان ـ أي نقطتان سوداوين فوق عينيه ـ يتبعه. ويقول : ويلك ما أنت؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركت بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقصمها ، ثم يتبعه سائر جسده.

* * *

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

٣٦ ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ ...) يعني أن عدد الشهور في كل سنة كاملة هو اثنا عشر شهرا في تقدير الله سبحانه وحكمه ، وقد فرض على المسلمين أن يتعبّدوه بذلك وأن يجعلوا سنّيهم هكذا ، ليوافق ترتيب

أشهرهم ترتيب عدد أهلّة القمر ومنازله. والشهور مفردها : شهر ، وقد أخذ اسمه من شهرة الأمر وحاجة الناس إليه في عباداتهم ومعاملاتهم. فعدد الشهور هكذا (فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما قدّره وكتبه في اللوح المحفوظ ، وفيما أنزله في كتبه السماوية إذ قدّر ذلك (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي يوم أجرى الشمس والقمر وسيّرهما بطريقة تتولّد منها الشهور والأيام ، و (مِنْها) أي من الشهور (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ثلاثة سرد هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وواحد فرد هو : رجب ، كما ذكرنا سابقا. ومعنى كونها حرما أنها يكبر فيها انتهاك المحارم أكثر من غيرها. وقد كانت العرب ـ قبل الإسلام ـ تعظّم هذه الشهور حتى أن الرجل لو التقى بقاتل أبيه أثناءها لم يتعرّض له بسوء ولم يخفه لحرمة هذه الشهور. وقد جعل الله سبحانه بعض الشهور أعظم حرمة من بعض لما علمه من المصلحة المؤدية إلى الكفّ عن الظلم فيها بسبب عظم منزلتها ، وبأمل أن يؤدّي ذلك بين الناس إلى إذهاب الغل وإطفاء نائرة الحقد أثناء تلك المدة الطويلة ، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تخفيف سورة الحميّة ووقوع الصلح بين المتخاصمين (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي في الشهور المذكورة لا تظلموا (أَنْفُسَكُمْ) بالتعدّي على أوامر الله تعالى ونواهيه وفائدة هذا الكلام أن الطاعة في الأشهر الحرم تكون أعظم ثوابا والمعصية بالعكس (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي قاتلوهم جميعا وبكل قواكم واجتمعوا لذلك (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي جميعهم. ولفظة (كَافَّةً) منصوبة على الحال من المسلمين ٠ ويجوز أن تكون حالا عن المشركين أيضا. والجملة أمر بقتالهم دون مراعاة عهود أو مواثيق إلا لمن كان من أهل الذّمة وأعطى الجزية وهو صاغر (وَاعْلَمُوا) اعرفوا جيدا وتيقّنوا (أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) يتولّى أمورهم وينصرهم على أعدائهم.

وهذه الآية تدلّ صراحة على أن المعتبر عند الله سبحانه هو الشهور القمرية وعليها تترتّب الأحكام الشرعية ومسائل العبادات ، أما الشهور الشمسيّة فلا اعتبار لها لأنها يزاد في شهر شباط منها وينقص ، ولذلك قال

تعالى.

٣٧ ـ (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ ...) النّسيء هو التأخير ، وذلك مأخوذ من : نسأ الإبل عن الحوض ، إذا أخّرها عنه. فتأخير الأشهر الحرم عن مواقيتها التي رتّبها الله سبحانه عليها هو زيادة في كفر المشركين الّذين يفعلون ذلك. وقد كانوا يفعلونه لأنهم كانوا أهل غزو وغارات ، وكانوا يتضايقون من بقاء ثلاثة أشهر متوالية دون غزو فيلجئون إلى تأخير تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه بدل المحرّم ويستحلّون الغزو في المحرّم. وعن ابن عباس أن عبارة (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) تعني أنهم أحلّوا ما حرّم الله ، وحرّموا ما أحلّ الله. وكان رجل من كنانة يدعى نعيم بن ثعلبة يقول وهو رئيس الموسم : أنا الذي لا أعاب ولا أخاب ولا يردّ لي قضاء ، فيقولون له : صدقت ، أنسئنا شهرا ، فينقل حرمة المحرّم إلى صفر. وكان يفعل ذلك حين جاء الإسلام جنادة بن عوف بن أمية الكناني. واختلفوا في أول من سنّ النسيء. فقيل هو عمرو بن لحي وقيل هو القلمس من كنانة والله أعلم. وقد قال الكميت :

ونحن النّاسئون على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما

وقيل إن النبيّ (ص) قال في حجة الوداع : ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان. وذلك يعني أن الأشهر الحرم قد عادت إلى مواضعها الصحيحة ودقّة أهلّتها ، وقد بطل التأخير بعد نزول حكم الله سبحانه وتعالى ، والنسيء (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضيّعون عن حقيقة الأشهر الحرم فيستحلّون القتال في غير وقته ، ويستحلّون ترك الحج في وقت وجوبه ، وقد ضلّوا بذلك وأضلّوا أتباعهم إذ كانوا (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) أي يفعلون ذلك بحسب هواهم قائلين شهر بشهر إذا احتاجوا إلى

المخالفة (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) والمواطأة الموافقة ، فهم إذا أحلّوا شهرا حراما ، حرّموا مكانه شهرا حلالا ، ليوافقوا بذلك عدة الشهور ، وقد (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) من جرّاء اتّباع هوى نفوسهم ، فقد زيّن ذلك لهم إمّا من جهة هواهم ، وإمّا من قبل الشيطان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فسّرناه سابقا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

٣٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ ...) يعني أيها المؤمنون ما لكم (إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) أي اخرجوا إلى الحرب ، فإن النّفر هو الخروج لأمر صار تهييج إليه ، ما بالكم إذا قيل لكم اخرجوا للجهاد (فِي سَبِيلِ اللهِ) وقتال

الكفّار والمشركين (اثَّاقَلْتُمْ) أي تثاقلتم فقد أدغمت التاء في الثاء كما لا يخفى ، وهذا يعني أنكم ملتم إلى السكينة حين الدعوة إلى النّفر ، وأخلدتم إلى الأرض وتباطأتم عن إجابة الدعاء ، وقد كان ذلك منهم قبيل غزوة تبوك فنزل هذا الاستفهام والعتب : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي هل آثرتم نعيم الدّنيا الزائل على نعيم الآخرة الدائم؟ لا تتوهّموا (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ليس نعيمها الذي يبلي ويفنى وتخلعونه عنكم إذا قيس فِي متاع (الْآخِرَةِ) الدائم الخالد (إِلَّا قَلِيلٌ) زهيد لا يقاس به.

٣٩ ـ (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ...) الخطاب مستمر للمؤمنين يومئذ خاصة ، ولسائر المؤمنين عامة ، وهو تهديد ووعيد إذ قال : (إِلَّا) أي : إن لم تخرجوا إلى قتال عدوّكم حين دعاكم النبيّ (ص) وقعدتم عنه واستسلمتم للراحة والدعة ، يعذّبكم الله عذابا موجعا في الآخرة (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) لا يتقاعدون عن الجهاد بل يندفعون إليه. وفي المجمع أن القوم أبناء فارس أو أبناء اليمن وقيل غيرهم (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) أي ولا تلحقوا ضررا به سبحانه إذا أنتم قعدتم عن الجهاد لأنه غنيّ بنفسه غير محتاج إلى أحد. وقيل إنه تعالى عنى أنهم لا يضرّون الرسول (ص) بتخلّفهم ، فقد عصمه الله من الهزيمة ومن شرّ سائر الناس ، ونصره بالملائكة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يستطيع أن يستبدل بكم غيركم ويفعل ما يشاء. ويقوّي كون النبيّ (ص) هو المعني بالضمير في (تَضُرُّونَهُ) قوله تعالى :

٤٠ ـ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ...) أي إن لم تنصروا النبيّ (ص) وتساعدوه على قتال عدوّه ، فإن الله لا يخذله بل يتولّى نصره دائما. وقد فعل ذلك حين أجمعت القبائل على قتله (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة ، بكيدهم وبتدبير الوقيعة فيه إذا استطاعوا ، وكان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي أحد اثنين هو وأبو بكر (إِذْ هُما فِي الْغارِ) وحدهما ، والغار لغة هو الثقب العظيم في الجبل ، وقصد به هنا (غار ثور) الواقع في جبل بمكة (إِذْ) كان (يَقُولُ) النبيّ (ص) (لِصاحِبِهِ) أبي بكر (لا تَحْزَنْ) يعني : لا تخف

(إِنَّ اللهَ مَعَنا) أي مطّلع على ما نحن فيه وهو يحفظنا ويتولّى نصرنا.

وقد ذكر الزهري أنه لمّا دخل النبيّ (ص) وصاحبه إلى الغار بعث الله زوجا من الحمام باضا في أسفل الثقب ، ثم بعث العنكبوت فنسجت بيتا لها على باب الغار. ولمّا جاء سراقة بن مالك يقص أثرهما رأى بيض الحمام وبيت العنكبوت فقال : لو دخل إلى الغار أحد لا نكسر البيض وتبدّدت خيوط بيت العنكبوت ، فانصرف وجزم بأنهما ليسا في الغار. وقد قال النبيّ (ص): أللهم أعم أبصارهم. فعميت أبصارهم وجعلوا يروحون ويجيئون يمينا وشمالا حول الغار حتى قال أبو بكر : لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا. وروى علي بن إبراهيم بن هاشم أنه كان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز ، ما زال يقفو أثر رسول الله (ص) حتى وقف على باب الغار فقال : هذه قدم محمد (ص) ما جاوزوا هذا المقام ، إمّا أن يكونوا قد صعدوا في السماء ، أو دخلوا في الأرض. وروي أن أحدهم بال على باب الغار فقال أبو بكر : قد أبصرونا يا رسول الله ، فقال (ص) : لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي على محمد (ص) إذ ألقى الاطمئنان في قلبه فعلم أنهم لا يصلون إليه (وَأَيَّدَهُ) يعني قوّاه وشدّ عضده (بِجُنُودٍ) تنصره (لَمْ تَرَوْها) هي ملائكة كانت تضرب وجوه أعدائه وأبصارهم حتى لا يروه ، وتأييده كان بصرف أعدائه وردّ كيدهم. ولا يمكن أن يكون الضمير في (عَلَيْهِ) راجعا لأبي بكر لأن الضمائر قبل هذا وبعده تعود إلى النبيّ (ص) بلا خلاف فلا يعقل أن يعود ضمير واحد من بينها على أبي بكر دون التنويه باسمه أو بما يدل عليه (وَجَعَلَ) الله تبارك وتعالى (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) فأحبط تآمرهم وردّهم بغيظهم وكانت عزمتهم هي الواطئة الدنيئة (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) أي المرتفعة المنتصرة دائما وأبدا لأنها لا تدعو إلّا إلى الحكمة والمصلحة (وَاللهُ عَزِيزٌ) منيع قويّ في انتقامه ولا ينال جانب حضرته القدسيّة ، وهو (حَكِيمٌ) في أفعاله وتدابيره.

* * *

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))

٤١ ـ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا ...) يعني اخرجوا ـ أيها المؤمنون ـ للجهاد خفافا : شبابا ، وثقالا : شيوخا ، أي نشاطا وغير نشاط. وقيل : أغنياء وفقراء ، وكثيري العيال أو قليليهم ، كما قيل ركبانا ومشاة ، أو اخرجوا خفّ عليكم الجهاد أم شق وهبّوا إليه وخفّوا له ولا تتثاقلوا وتتقاعدوا وامضوا إليه على أي حال كنتم (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ابذلوا الأموال وضحّوا بالنفوس (فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الحق (ذلِكُمْ) الجهاد والبذل (خَيْرٌ لَكُمْ) من التثاقل وترك الجهاد (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إذا أدركتم أن الله جلّ وعزّ صادق فيما وعد وأوعد.

٤٢ ـ (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ...) أي أنهم لو دعوتهم ـ يا محمّد ـ إلى عرض : غنيمة يكسبونها قريبة التناول حاضرة (وَسَفَراً قاصِداً) قصيرا هيّنا قريب المسافة قليل الجهد ـ لأن القاصد هو السهل المقصد ـ فلو كان السفر غير شاقّ (لَاتَّبَعُوكَ) أي مضوا معك ولحقوا بك طمعا في الكسب والغنيمة (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي صعبت عليهم المسافة ـ والحديث عن غزوة تبوك التي أمرهم بالخروج إليها ـ (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي لو قدرنا

لرافقناكم ، فسيعتذرون عن خروجهم بعدم استطاعتهم وسيقسمون الأيمان على عدم قدرتهم ، ولكنهم (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) يخسرونها إذ أسرّوا فيها الشّرك وعدم التصديق ، أو بما أضمروا حين أقسموا الأيمان الكاذبة واعتذروا بالباطل الذي لا حقيقة له (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) غير صادقين في اعتذارهم وفي أيمانهم. وفي هذا القول دلالة صادقة من أعلام نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم كانوا قادرين على الخروج وأحجموا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة.

٤٣ ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ...) أي تجاوز الله تعالى عنك يا محمد إذ أذنت لبعضهم بالتخلّف عن الجهاد. وفيها عتاب له (ص) بسبب إذنه لمن أذن له في التأخر عن الغزوة ، وهي من ألطف المعاتبة كما لا يخفى على الحاذق. والعتاب لائق لم يكن على قبيح أتاه والعياذ بالله ، بل على مباح له كان الأولى أن يدعه ، مع أنه تعالى قال له في موضع آخر : فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم. وجميل ما أورده صاحب المجمع قدّس الله سرّه من أن معناه : أدام الله لك العفو ، لم أذنت لهؤلاء مع أنهم استأذنوا تملّقا ، ولو خرجوا معك لأوقعوا الفساد في صفوف المسلمين لأنهم يضمرون ذلك ولا تعلم أنت ما في سرائرهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يعني حتى تعرف من هو معذور في تخلّفه ممّن هو غير معذور. وقد قال ابن عباس : إن رسول الله (ص) لم يكن يعرف المنافقين يومئذ ، ولكنه قيل إنه خيّرهم بين النّفر والقعود وتوعّد القاعدين ، فمعنى الآية أنه كان ينبغي أن يلزم الجميع بالخروج حتى إذا تخلّف أحد ظهر نفاقه.

* * *

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

٤٤ ـ (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي أن المؤمنين حقّا لا يطلبون منك الإذن لإعفائهم من الخروج للجهاد بل يأتمرون بأمرك لأنهم مصدّقون بالله وبك وبالبعث والحساب والثواب والعقاب. فالمؤمنون يتأهبون للجهاد بمجرّد دعوتك إليه ، ولا يستأذنون (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) بل يعتبرون أنك لا تدعوهم إلّا إلى الخير (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) يعرف المؤمنين الذين يجتنبون ما يسخطه ويفعلون ما يرضيه. وقد قال ابن عباس : هذا تعيير للمنافقين حين استأذنونه في القعود عن الجهاد وعذر للمؤمنين.

٤٥ ـ (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) أي : لا يطلب الإذن منك والسماح بعدم الخروج وبالتأخر عن الزحف إلّا القوم (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي لا يصدّقون بوجوده وَلا (الْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم البعث والنشور (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) يعني شكّت ودخلها الرّيب فاضطربت (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي يروحون ويجيئون ولا يجزمون بأمر بسبب شكّهم في الدّين وبسبب ضعف عقيدتهم وعدم تصديقهم بثواب المجاهدين.

٤٦ ـ (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) أي لو كان في نيّة هؤلاء المنافقين الخروج وأرادوه ورغبوا فيه كما رغب المؤمنون (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) والعدّة هي الأهبة كالاستعداد لأمر يحدث ، قبل وقوعه ، وكان عليهم أن يعدوا السلاح والمركب لتظهر عليهم علائم من يريد الجهاد (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي مقت خروجهم للحرب ـ والانبعاث هو الانطلاق للأمر بسرعة ـ كره سبحانه ذلك لمعرفته بنفاقهم وبأنهم سيكونون عيونا للمشركين على المسلمين فضررهم أعظم من فائدتهم (فَثَبَّطَهُمْ) أي قلّل عزائمهم عن الخروج لما علمه من نميمتهم وكفرهم فبطّأهم لفساد نيّاتهم وطويّاتهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي ابقوا مع النساء والصبيان الذين يقعدون عن الجهاد لأنه غير مطلوب منهم. ويمكن أن يكون هذا القول لهم قد وقع من أصحابهم الذين نهوهم عن الخروج مع النبيّ (ص) وأصحابه ، ويمكن أن يكون قد صدر ذلك عنه (ص) على وجه الوعيد لهم لا على وجه الإذن ، أو على الإذن الذي عوتب عليه إذ كان ينبغي أن لا يأذن لهم حتى يتخلّفوا من تلقاء أنفسهم فيظهر نفاقهم للملأ.

٤٧ ـ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ...) الخبال هنا هو الفساد والاضطراب في الرأي ، ومعناه أنهم إذا خرجوا معكم في الغزو لا يزيدونكم إلّا سوء رأي وفساد تصرّف لأنهم لا يريدون بكم خيرا ، وقيل : إنهم سيزيدونكم جبنا وتهويلا للأمر ليثبّطوا عزائمكم (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) والإيضاع هو الإسراع ، أي أنهم كانوا يسرعون بينكم بالإفساد ويسعون بالتفريق فيما بينكم بأن يركّضوا الإبل وسطكم ليفرّقوا صفوفكم ، ويتخلّلون صفوفكم ليفرّقوا بينها ، وبفعلهم هذا (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يريدون أن تكونوا مشركين مثلهم بفتنتكم عن دينكم فيرمونكم باختلاف الكلمة ويخوّفونكم من أعدائكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي وبينكم عيون للكفار ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ، أو أنه سبحانه أراد ضعفاء العقيدة من المسلمين الذين يسمعون لهم ويصغون لأقوالهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي عارف بهؤلاء المنافقين الظالمين لأنفسهم بما أضمروا من الفساد

كعبد الله بن أبيّ وجدّ بن قيس وأوس بن قبطي وغيرهم.

٤٨ ـ (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ...) أي أنهم أرادوا الشرّ بك يا محمّد وأضمروا لك السوء ورغبوا في اختلاف المسلمين وتفريق آرائهم (مِنْ قَبْلُ) يعني قبل حدوث وقعة تبوك ـ أي في وقعة أحد ، يوم انصرف ابن أبيّ بمن معه وخذل النبيّ (ص) ـ أو أنهم أرادوا صرف الناس عن الإيمان بإلقاء الشّبهات في نفوس ضعفاء المسلمين ، بل قيل إنه عنى ما أرادوه من الفتك بالنبيّ (ص) في غزوة تبوك (ليلة العقبة) وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين الذين ترصّدوه على ثنيّة الوادي ودحرجوا الصخور ليجفلوا مركبه (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) يعني استعملوا الحيل والخدع ليوهّنوا أمرك وليوقعوا الاختلاف بين المؤمنين. فتقليب الأمور له هو سائر محاولاتهم في الكيد له فإنهم كانوا كلما لجأوا إلى حيلة وفشلت ، عادوا إلى غيرها حتى أعيتهم الحيل (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) أي جاء ظفرك الذي وعدك الله تعالى به وانتصر حقّك على باطلهم (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) يعني دينه ـ الإسلام ـ علا على عقيدة الكفار الفاسدة برغمهم (وَهُمْ كارِهُونَ) في حال كرههم لظهوره وانتصاره.

* * *

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١))

٤٩ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ...) أي : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : ائذن لي في البقاء وعدم الخروج والجهاد ولا تفتنيّ بالإغراء وغنيمة النساء والأموال. والذي قال ذلك للنبيّ (ص) هو جدّ بن قيس ، ذلك أن رسول الله (ص) قيل إنه قال حين الاستنفار لوقعة تبوك : انفروا لعلّكم تغنمون بنات الأصفر ، أي بنات الروم الجميلات اللواتي أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفرا لعسا فاتنات. فقام جد وقال للنبيّ (ص) : ائذن لي ولا تفتنيّ ببنات الأصفر فإني أخاف أن أفتتن بهنّ. فكأنه قال بوقاحة : لا توقعني في الفتنة بالنساء أو الإثم بمعصية أمرك فائذن لي بالبقاء (أَلا فِي الْفِتْنَةِ) أي العصيان والضلال عن الدين (سَقَطُوا) أي وقعوا بمخالفتهم أمرك حين انتحلوا الأعذار الواهية. أمّا إذا كانوا قد اعتذروا بالحرّ فقد أوقعوا أنفسهم في نار جهنّم التي هي أشدّ حرّا (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي أنها يوم القيامة ستكون محيطة بهم من جميع الجهات فلا يجدون عنها مصرفا.

٥٠ ـ (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ...) يعني يا محمد إن هؤلاء المنافقين إذا نالتك نعمة من ربّك أو أصابك نصر أو فتح أو غنيمة يصيبهم السوء والحزن (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) أي إذا نزلت بك نكبة أو أصابتك شدّة أو خسارة في المال أو آفة في النفس (يَقُولُوا) في أنفسهم (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي احتطنا وأخذنا حذرنا (مِنْ قَبْلُ) فاحترزنا سابقا لما حدث ، فسلمنا من الهلاك أو من الوقوع ممّا وقعت فيه (وَيَتَوَلَّوْا) ينصرفون إلى بيوتهم (وَهُمْ فَرِحُونَ) مستأنسون بما أصاب المسلمين ونجوا هم منه.

٥١ ـ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ...) أي : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين : إن كل ما يصيبنا من خير أو شرّ فهو ممّا قدّره الله سبحانه ، في سابق علمه وأثبته في اللوح المحفوظ ، ولم يقع شيء من ذلك بسبب سوء تدبير أو قلة تبصّر أو إهمال. وقيل معناه أنه لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلّا ما كتب الله لنا من النّصر والظّفر ، أو من القتل والشهادة ، فننال إحدى الحسنيين ، فالله (هُوَ مَوْلانا) أي وليّ أمرنا ومالكنا وحافظنا المسؤول عنّا ،

ونحن عبيده المطيعون الممتثلون (وَعَلَى اللهِ) وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي فليسلّموا الأمر لحكمته وتدبيره ويرضوا بتقديره وصلاح ما يختاره.

* * *

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))

٥٢ ـ (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ...) أي : قل يا محمد لهؤلاء الكفرة : هل تنتظرون لنا إلّا واحدة من النّعمتين العظيمتين : إمّا النّصر على الأعداء والغنيمة في الدنيا ، وإمّا الشهادة والثواب في الآخرة؟ ولفظة (هَلْ) التي هي حرف استفهام ، جاءت هنا لتوبيخ المنافقين وتقريعهم ، ولتفيد أنهم واصلون إلى ما يكرهون من الخيبة والخسار حين يرون شقاءهم وهلاكهم ، وفوز خصمهم وسعادته (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ) أي نتوقّع (بِكُمْ) لا محالة (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ) يحلّ بكم فيهلككم (مِنْ عِنْدِهِ) نازلا من السماء (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن ينصرنا عليكم فنقتلكم بأيدينا وسيوفنا (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا. وهذا تهديد لهم ووعيد شديد بسوء العاقبة (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ننتظر لأنفسنا النصر أو الشهادة ، وننتظر لكم ذلّ البقاء أو القتل وخزي الآخرة. أو أننا نتربّص نصر دين الله وأتباعه ، وخذلان الشيطان وحزبه وأوليائه.

* * *

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا

بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

٥٣ ـ (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ...) أي قل يا محمد لهؤلاء : أنفقوا طائعين أو مكرهين ف (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أي لا يرضى إنفاقكم ولا يقبل لأنه ليس لوجه الله. وأول هذه الآية الشريفة جاء بصورة الأمر ولكنّ معناه معنى الشرط والجزاء ، إذ المعنى : ان أنفقتم عن طوع أو عن كره فلن يقبل ذلك منكم ل (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله سبحانه ومتمرّدين على أوامره ونواهيه ، ولا يتقبّل الله تعالى إلّا من المؤمنين.

٥٤ ـ (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ ...) أي لا يمنع من قبول نفقات المنافقين التي يبذلونها في الزحف والغزو (إِلَّا) بسبب (أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي أنكروا وجود الله كما أنكروا بعث النبيّ (ص) وهذان الأمران يبطلان الأعمال ويحبطانها ويمنعان من استحقاق أيّ ثواب ، كما أنهم (لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي لا يجيئون بها إلا متثاقلين بثقل الكسل والنّعاس فلا يؤدّونها على الوجه المطلوب (وَلا يُنْفِقُونَ) يبذلون الأموال (إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) أي يعطونها وهم مرغمون.

٥٥ ـ (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...) هذا الخطاب للنبيّ (ص) ولكنّه موجّه لسائر المؤمنين ، يعني : أيها السامع لا ينبغي لك أن تعجب بحسن ما تراه من كثرة أموال المنافقين وكثرة أولادهم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالتشديد عليهم في التكليف وأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو فيدفعون كارهين ويتحمّلون مشقة في الدنيا ولا يرجون منها ثوابا في الآخرة. وقيل : إنه يعذبهم بجمع المال وتربية الأولاد ويحزنهم

بفقدان المال وموت الأولاد ، وقيل : يعذّبهم بخسارة المال وسبي الأولاد حين الهزيمة في الحرب ولا يعرفون إلى ما يصيرون إليه في الآخرة ، وقيل : بل يعذّبهم في الدنيا بحفظها والسهر عليها والمصائب بها وعدم المنفعة ، ثم قيل أخيرا ـ نقلا عن ابن عباس ـ : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، أي : لا يسرّك أموالهم وأولادهم في الحياة الدّنيا ، إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الآخرة .. أما (اللام) في قوله : (لِيُعَذِّبَهُمْ) فيحتمل أن يكون بمعنى (أن) كما يحتمل أن يكون (لام العاقبة) أي : إنما يملي لهم فيها ليعذّبهم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك بالموت (وَهُمْ كافِرُونَ) باقون على حالتهم من الكفر ، فالجملة في محل نصب على أنها حال كما لا يخفى.

* * *

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

٥٦ ـ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ...) أي يقسم المنافقون الأيمان أنهم من جملتكم ، يؤمنون بما تؤمنون به ، وأنهم أمثالكم لا يفرقون عنكم. و (اللام) في (لَمِنْكُمْ) لزيادة التوكيد (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي وليسوا مثلكم مؤمنين بالله ولا برسوله (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي قوم يصيبهم الفرق الذي هو انزعاج النفس من توقّع الضرر ، وأصله من مفارقة المال حال انزعاج النفس من ذلك. والمعنى أنهم جماعة يخافون من القتل أو الأسر إن لم يظهروا الإيمان ، فأظهروه ليسلموا وتسلم أموالهم وأولادهم.

٥٧ ـ (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ...) أي يتمنى هؤلاء المنافقون أن يجدوا ملجأ أي موضعا يتحصّنون فيه ويعتصمون به ، أو مغارات : جمع مغارة ، وهي مأخوذة من غار الشيء في الشيء إذا دخل منه في موضع يستره ، والغار هو الثقب الغائر في الجبل ، أي : يا ليتهم يجدون

ما يغورون فيه ليستتروا به ، أو مدّخلا : أصله : مدتخلا ، وقد أبدلت التاء بعد الدال بدال أدغمت في الدال الأولى ، والمدّخل المسلك الذي يدخل فيه الإنسان أو غيره ليتوارى به عن العيون ـ أجل يتمنون لو يجدون موضعا يدخلون إليه ليواريهم. وعن الحسن : لو يجدون وجها للخلاف على رسول الله (ص) (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي انصرفوا إليه وعدلوا نحوه وأعرضوا عنكم أيها المسلمون (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون في الذهاب إلى ما يخلّصهم منكم. فهم لشدة نفاقهم لو أصابوا منفذا لنفاقهم لدخلوا فيه ليجهروا بما يبيّتونه في نفوسهم من الإعراض عن النبيّ (ص) ودعوته.

* * *

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

٥٨ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ...) اللّمز هو العيب ، واللّمزة العيّاب ، يعني أن من المنافقين من يعيبك ـ يا محمّد ـ ويطعن عليك في أمر الصدقات وتوزيع الغنائم. فعن ابن عباس قال : بينا رسول الله (ص) يقسم غنائم هوازن يوم حنين ، إذ جاء ابن أبي ذي الخويصرة التميمي ، وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج ، فقال : إعدل يا رسول الله! فقال :

ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ، فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال النبيّ (ص) : دعه فإن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من الرميّة ... إلى أن قال : يخرجون على فترة من الناس وفي حديث آخر قال : فإذا خرجوا فاقتلوهم ، وكرّرها ، فنزلت هذه الآية الشريفة.

أجل ، إن من المنافقين من كان يلمز الرسول (ص) في تقسيم الصدقات (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها) أي إذا منحوا من الصدقات (رَضُوا) وأعجبهم التقسيم واعترفوا بعدل التقسيم (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها) وحرموا لعدم استحقاقهم (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي يغضبون وينقمون ثم يعيبون التقسيم. وقال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : أهل هذه الآية أكثر من ثلثي الناس ـ والعياذ بالله من ذلك ـ.

٥٩ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ...) أي : لو أن المنافقين الذين عابوا توزيع الصدقات قنعوا بما أعطاهم الله ورسوله منها (وَقالُوا) حالة كونهم كذلك : (حَسْبُنَا اللهُ) يعني : يكفينا الله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي سيعطينا الله من إنعامه ، ويعطينا رسوله من تفضّله (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أي متوجّهون إليه بكليّتنا ، فهو الذي يوسّع علينا من فضله ويجعلنا في غنيّ عن أموال الناس. وقيل : بل راغبون في ثوابه وصرف عذابه .. أما جواب (لَوْ) فمحذوف وتقديره : لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم ، وحذف الجواب في هذا الموضع من أبلغ الكلام وأحسن البيان.

٦٠ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) هذه الآية الكريمة تبيّن وجوه صرف الصدقات ، أي زكاة الأموال. فهي تعطى للفقراء والمساكين ، والفرق بين الفقير والمسكين دقيق لا يكاد يعرّف وإن كانوا قد قالوا : إن الفقير هو المتعفّف الذي لا يسأل ، والمسكين هو الذي يسأل ... وقيل إن المسكين مشتقّ من المسكنة بالمسألة. فالمهمّ أن الصدقات تعطى لهما (وَ) لـ

(الْعامِلِينَ عَلَيْها) أي السّعاة الذي يجبون الزكاة ويجمعونها من أصحابها (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين كانوا من الأشراف في زمن النبيّ (ص) وكان يعطيهم من الزكاة ليتألّف قلوبهم بما يعطيهم ويرغّبهم في عدل الإسلام ، وليستعين بهم على قتال العدوّ. وقد اختلفوا في ثبوت هذا السهم بعد النبيّ (ص) أم لا؟ فقال الشافعي هو ثابت في كل زمان ، وأسقطه بعضهم كأبي حنيفة باعتبار أن الله قد أعزّ الإسلام وأظهره وقهر الشّرك وخذله ، أما

الإمام الباقر عليه‌السلام فقد قال بثباته بعد النبيّ (ص) ثم قال : من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألّفهم على ذلك به. فالصدقات توزّع في من ذكرنا (وَ) تصرف أيضا (فِي الرِّقابِ) أي في فكّها من العتق وتحليل المكاتبين من ربقة العبوديّة (وَ) في (الْغارِمِينَ) أي الّذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف ، فإن ديونهم يقضيها الإمام من الصدقات (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني البذل للجهاد ، وعندنا تدخل فيه مصالح المسلمين من بناء مساجد وعقد جسور وغيرها (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي انقطع في بلاد الغربة يعطى منها ولو كان غنيّا في بلده. يوزّع ذلك حسب السهام المذكورة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي واجبا مقدّرا. وقد نصبت لفظة (فَرِيضَةً) على المصدر والتوكيد ، أي كأنه سبحانه وتعالى قال : فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يحتاج إليه خلقه (حَكِيمٌ) فيما فرضه وأوجبه من إخراج تلك الصدقات.

* * *

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ

أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

٦١ ـ (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...) أي : ومن المنافقين جماعة يسيئون إلى النبيّ (ص) ويقولون أو يفعلون ما يجلب له الأذية (وَ) هم (يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يعني أنه يدير أذنه ويستمع إلى هذا وذاك ويصغي إلى كل ما يقال. فلهؤلاء (قُلْ) يا محمد : هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي يستمع إلى ما فيه خيركم كالوحي وغيره ، وهو ـ على كل حال ـ باستماعه لكم يقبل أعذاركم ويقضي حوائجهم ويردّ مظالمكم ولا ينتج عن استماعه إلا ما هو مصلحة لكم ، فكيف تعيّرونه بما هو في مصلحتكم؟ ... وهو (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فكونه أذنا لا يضرّ طالما هو يؤمن بالله ويدعو الآخرين إلى الإيمان به ، وما زال لا يقبل إلّا الخبر الصادق ، وما زال يصدّق المؤمنين فيما يقولونه له ويقبل قولهم دون قول المنافقين ، وقيل يؤمن للمؤمنين ، أي يؤمّنهم بالأمان الذي يمنحهم إياه بخلاف المنافقين الذين هم على خوف دائم منه (وَ) هو كذلك (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) لأنهم لم ينالوا الإيمان إلّا بهدايته ولذا كان رحمة عليهم إذ دعاهم إلى ما ينجيهم في معاشهم ومعادهم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) (ص) ويزعجونه في قول أو فعل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) سينالونه في الآخرة وسيكون صعبا موجعا.

٦٢ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ...) أي يقسمون لكم الأيمان أيها المؤمنون بأنّ ما يبلغكم عنهم من قول أو فعل هو باطل لم يقولوه ولم يفعلوه ، وتكون أيمانهم من أجل إرضائكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي أن الله ورسوله بالحقيقة هما أحق منكم بأن يرضوهما ويطلبوا منهما قبول اعتذارهم ، وهما أولى منكم بطلب المعذرة ونيل الرضا (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي في حال كونهم مصدّقين بربوبيّة الله عزوجل ووحدانيّته ، وبنبوّة محمد

(ص) ورسالته .. أما الفعل (يُرْضُوهُ) فقد حذف مرة للتخفيف وثبت مرة لأن تقدير الكلام : والله أحقّ أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه ، والكلام يدل على ذلك ، وهو كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرّأي مختلف

أي : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض.

٦٣ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) هذا الاستفتاح للآية الكريمة توبيخ للمنافقين واستهزاء بهم وتقريع لهم. أي : وما يعلم هؤلاء (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني يتجاوز حدود الله التي حمّلها للمكلّفين ، ويتجاوز أوامر النبيّ (ص) وهي من أوامر الله سبحانه ، فهلّا علموا أن من يفعل ذلك (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) باقيا إلى الأبد و (ذلِكَ) هو (الْخِزْيُ) الذلّ والإبعاد من الرحمة ، والهوان (الْعَظِيمُ) الكبير.

وقيل في تفسير : ألم يعلموا ، إنه أمر لهم بالعلم ، ويجب عليهم أن يعلموا بهذا الخبر وبصدق دلائل الألوهيّة والنبوّة ، والله أعلم. وقيل نزلت هذه الآيات الكريمة في بعض المنافقين ، ومنهم الجلاس بن سويد ، وشاس بن قيس ، ورفاعة بن عبد المنذر ، ومخشى بن حمير ، وغيرهم ...

* * *

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ

طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

٦٤ ـ (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ...) أي يحترز المنافقون ويخشون نزول سورة من الوحي (تُنَبِّئُهُمْ) تكشف ما يضمرون من نفاق وتخبرهم (بِما فِي قُلُوبِهِمْ) من الشّرك والنفاق والكيد لمحمد (ص) ودعوته. وهذه الآيات الشريفة نزلت في اثني عشر رجلا أشرنا إليهم سابقا ترصّدوا النبيّ (ص) عند العقبة ليفتكوا به ويقتلوه أثناء رجوعه من تبوك ، وقد أخبر جبرائيل (ع) رسول الله (ص) بأمرهم ، وكان عمار يقود دابّته التي يركبها وحذيفة يسوقها ، فقال (ص) لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها حتى نحّاهم من طريقه (ص) فلمّا نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال : لم أعرف منهم أحدا ، فقال رسول الله (ص) : إنه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم. وقد روي ذلك عن الإمام الباقر عليه‌السلام وعن ابن كيسان وغيرهما ، وكتب حول هذا الموضوع الشيء الكثير .. وقد حكى سبحانه قصّة حذرهم على سبيل السخرية منهم من جهة وعلى سبيل كشف ما في دخائلهم من جهة ثانية ، فإنهم حين رأوا النبيّ (ص) ينطق عن الوحي دائما خافوا وقالوا لبعضهم : نخشى نزول وحي يتحدث بما فعلناه وبما أضمرناه ، ثم خافوا ـ فعلا ـ من الفضيحة إذا نزل الوحي بما حاولوه ، ف (قُلِ) لهؤلاء يا محمد : (اسْتَهْزِؤُا) أي اسخروا ، وهو أمر منه سبحانه يحمل لهم الوعيد والتهديد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تخافونه وحيا لرسوله (ص) ليبيّن له نفاقكم وكيدكم.

٦٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ...) أي إذا استجوبتهم وعاتبتهم عمّا بدر منهم من استهزاء وكيد ، فإنهم ـ بالتأكيد ـ سيقولون لك : (كُنَّا نَخُوضُ) نتبادل الحديث ونخوض فيه خوض الرّكب في الطريق (وَنَلْعَبُ) أي نلهو ولا نتكلّم جدّا. وهو عذر أقبح من الذنب ، ف (قُلْ)

يا محمد : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ) أي في الله جلّ وعلا وفي بيّناته وحججه (وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) تسخرون وتحقرون؟

٦٦ ـ (لا تَعْتَذِرُوا ، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) أي لا تبدوا الأعذار الواهية القبيحة الكاذبة ، فقد كفرتم ومرقتم من الدّين بعد أن كنتم قد أظهرتم الإيمان الذي يكفي إظهاره لأن يعتبر الإنسان مؤمنا ولو كان لا يستحق الثواب في الحقيقة وواقع الأمر (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي إن نتجاوز عن فريق منكم ربما اعترف وتاب وأناب (نُعَذِّبْ طائِفَةً) من الذين يصرون على النفاق ولا يتوبون ولا ينيبون «ب» سبب (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) قد أجرموا بأقوالهم وأفعالهم ، وأجرموا بحق نفوسهم. ولفظة (طائِفَةٍ) اسم للجماعة ولما يطيف بغيره ويحيط به. وقد سمّى الواحد طائفة بمعنى أنه نفس طائفة ، والآية الكريمة : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، قد ورد في الأخبار عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن أقلّ من يحضر عذابهما واحد من المؤمنين فقد كنّت الطائفة عن واحد.

أما الطائفتان اللتان تحدثت عنهما هذه الآية فقيل إنهما الثلاثة الذين ذكرناهما في أول تفسيرها ، فمنها اثنان هذيا بالنفاق المحكي عنه ، والثالث ضحك من هذيانهما. ثم تاب هذا الثالث الذي هو مخشى بن حمير فعفا الله تعالى عنه وتجاوز عمّا اقترفه.

* * *

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها

هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨))

٦٧ ـ (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ...) بعد أن حكى سبحانه عن المنافقين وعمّا قالوا وما فعلوا ، ذكر المنافقات وقال : إنهم بعض من بعض في اجتماع الكلمة على النفاق والكيد ، وهذا كقولهم : هذا من ذاك ، وفلان من فلان ، وهذا الكعك من ذلك العجين. وقد قيل : بعضهم على دين بعض ، كما قيل : بعضهم من بعض مقتا من الله لأنهم ، ولأنهن ، كلمة واحدة على النفاق ، ولأنهم جميعا (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالمعاصي والكفر (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) عن كل ما هو حسن قد أمر الله تعالى به وحثّ عليه (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي يمسكونها عن الجهاد وهذه من أجمل الكنايات البديعة عمّن تقاعس عن العمل في سبيل الله ـ وهي تعطي أنهم يقبضون أيديهم عن الإنفاق في الطاعات وفي المغازي والحروب (وَ) قد (نَسُوا اللهَ) أي لم يشغل شيئا من وعيهم بدليل ترك جميع طاعاته (فَنَسِيَهُمْ) الله تعالى : أي تركهم في النّار ومنع رحمته عنهم فكانوا بحكم المنسيّين ، وحاشاه أن ينسى أو يسهو ، ولكنه حين جعلوه كالمنسيّ ولم يتفكّروا بكونه خالقهم ورازقهم ومكلّفهم ، أدخلهم نار جهنم وتخلّى عنهم فصاروا كالمنسيّين ، وهو جلّ وعلا لا يجوز عليه النسيان والسهو ، ولكن ازدواج الكلام اقتضى هذا التعبير اللطيف الذي يطابق تعبيرهم وذهنيّتهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أن المنافقين والمنافقات ـ لأن اللفظ يشمل الطرفين ـ هم الخارجون على أوامر الله ونواهيه ، والمتمرّدون على حدوده ، والمرتكبون للمعاصي والذنوب لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الشّرك.

٦٨ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ...) هؤلاء الذين تظاهروا بالإسلام ومارسوا النفاق ، من الرجال والنساء ، ومعهم الكفار أيضا ، وعدهم الله النار في الآخرة. وقد ذكر الكفار ليبيّن أن الصنفين موعودان بنار جهنّم : الذين أظهروا الإسلام ونافقوا ، والذين بقوا على الكفر ، وسيكونون (خالِدِينَ فِيها) باقين دائما وأبدا ف (هِيَ حَسْبُهُمْ)

يعني : هي كافية لهم ولائقة بذنوبهم (وَ) قد (لَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وجنّته وحرمهم كلّ خيراته (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم لا يزول ولا ينقضي.

* * *

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

٦٩ ـ (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ...) قد نقل سبحانه الكلام من الحديث عن المنافقين والكافرين ، إلى الخطاب وضرب المثل. والكاف هنا في موضع نصب لفعل محذوف ، والتقدير : وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم وقد فعلوا مثل فعلكم ، و (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) في الأبدان ، وهو الذي خلقهم وعرفهم وحدّث عن قوّتهم (وَ) كانوا (أَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) ولكن كثرة أموالهم وأولادهم لم تنفعهم لأنهم كفروا وضلّوا (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي طلبوا المتعة ورغد العيش ونعيم الحياة وأخذوا بخلاقهم : أي نصيبهم من الملذّاب العاجلة وصرفوا

حياتهم في الشهوات المحرّمة ، ثم أهلكناهم رغم قوّتهم ومالهم وبنيهم (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) مثلهم (بِخَلاقِكُمْ) بحظّكم من الدنيا (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) أي أنكم فعلتم مثل فعلهم وأخذتم بنصيبكم مع أنكم أضعف منهم (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي تمرّغتم في الكفر واستهزأتم بالمؤمنين كما تمرّغوا واستهزءوا (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) انصرف سبحانه عنهم ليخبر نبيّه (ص) وسائر العالمين بأن أمثال هؤلاء الكفار والمنافقين بطلت أعمالهم وخسرت صفقتهم وصارت أعمالهم هباء منثورا ، لأنها ليس فيها طاعة لله ، ولا صلة رحم ، ولا أنفقوا وقتهم ولا مالهم في وجه من وجوه الخير ، فحبط ما عملوا (فِي الدُّنْيا) وخسروا الثواب (وَالْآخِرَةِ) لكفرهم وشركهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم خسروا أنفسهم في الآخرة بعد أن لفظتهم دنياهم .. وعن ابن عباس قوله : ما أشبه الليلة بالبارحة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل ، شبّهنا بهم. والذي نفسي بيده لتتبعنّهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه. وفي الثعلبي عن ابن مسعود ـ كما في المجمع ـ : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا ، تتبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة ، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ وقال حذيفة : المنافقون الذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله (ص) قلنا : وكيف؟ قال أولئك كانوا يخفون نفاقهم ، وهؤلاء أعلنوه.

٧٠ ـ (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي ألم يصل إلى هؤلاء المنافقين خبر المنافقين الّذين وصفهم وكانوا سابقين لهم ك (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) فهم أمم ماضية نزل بها ما نزل من الهلاك حين طغت وبغت ، فأهلك قوم نوح بالغرق ، وعادا بالريح الصرصر ، وثمود بالرجفة ، وقوم إبراهيم بسلب النعمة وظلم النمرود ، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظّلة ، والمؤتفكات : أي القرى الثلاث التي كان يسكنها قوم لوط هلكت بالخسف. وهؤلاء القوم ، جميعهم (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي جاءوهم بالحجج والدلائل والمعجزات (فَما

كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يظلمهم حين أهلكهم لأن إهلاكهم كان دون معاصيهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فهم ظلموا أنفسهم بكفرهم لما كذّبوا رسلهم كما فعلتم أنتم سواء أبقيتم على الكفر أم أظهرتم الإسلام ونافقتم.

* * *

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

٧١ ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) لم ينه سبحانه وتعالى الكلام عن الكفرة والمنافقين ولكنه قابل النقيض بالنقيض ليظهر الفرق بين مراتب هؤلاء وهؤلاء ، فقال : إن المؤمنين والمؤمنات بعضهم وليّ بعض في النّصرة والموالاة وسائر مظاهر الحياة ، وهم ـ رجالا ونساء ـ يد على من سواهم ، شأنهم شأن النفس الواحدة ، وهم (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي بجميع ما أمر الله تعالى به وأوجبه (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي يمنع بعضهم بعضا عمّا نهى الله تعالى عن فعله (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) حسب أوامره جلّ وعلا ويمتثلون قوله وقول رسوله ويتّبعون ما يرضيهما ويداومون على فعل الطاعات جميعها ، و (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) تنالهم رحمته في الآخرة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) منيع الجانب ، قادر على منح الرحمة وإيقاع

العذاب بمن استحق الرحمة أو العذاب (حَكِيمٌ) في أفعاله يضع كل واحد منها في موضعه.

٧٢ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ...) هؤلاء الّذين مرّت صفاتهم في الآية السابقة ، وعدهم الله في الآخرة جنات النعيم التي (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تسيل أنهارها منسابة تحت أشجارها الوارفة الظّلال ، ويكونون (خالِدِينَ فِيها) مقيمين دائما وأبدا (وَ) أعدّ لهم فيها (مَساكِنَ طَيِّبَةً) تحلو فيها الحياة وتطيب لأنها مبنيّة من الياقوت والزبرجد واللآلئ وهم لا يرون فيها همّا ولا غمّا ، وهي معدّة لهم (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) قد تكون وسط الجنّة أو أعلاها قرب منازل الأنبياء (ص) والأولياء (ع) والجنان كلّها من حولها. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيّين والصدّيقين والشهداء ، يقول الله عزوجل : طوبى لمن دخلك. فللمؤمنين والمؤمنات مثل هذه الجنة (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي أن الرضا الّذي ينالونه من ربّهم سبحانه هو أكبر من ذلك كلّه لأن الرضوان هو الموجب لكل ثواب ونعيم ، و (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أعني الجنان والرضوان والنعيم الذي وصفه هو النجاح الكبير الذي ليس أكبر منه.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ

وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ...) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر له بمجاهدة الكفّار والمنافقين الذين وصفهم في الآيات السابقة ، وأن يأخذ الكفّار بالسيف والقتل ، وبمجاهدة المنافقين بالتخويف والوعظ كما عن الجبائي وبإقامة الحدود عليهم ، وقيل بحسب الإمكان إمّا باليد أو باللسان أو بالقلب بحيث يقطّب في وجوههم ولا يستصوب آراءهم إذ لا يجوز قتلهم إذا أظهروا الإسلام. فجاهد هؤلاء وهؤلاء يا محمد (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي شدّد اللهجة ولا تشفق عليهم ، أو أسمعهم الكلام الغليظ (وَمَأْواهُمْ) مسكنهم ومقامهم المعدّ لهم (جَهَنَّمُ) بنارها وألوان عذابها (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ساء ذلك المآل والمرجع وبؤس ذلك المأوى.

٧٤ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ...) هؤلاء المنافقون يقسمون بالله ـ كاذبين قطعا ـ أنهم ما قالوا الكلام الذي نقل عنهم من نفاقهم (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) بالحقيقة لأن الله تعالى أقسم على ذلك باللام وحققه ب (قد) وكلمة الكفر هي جحدهم بنعم ربّهم وطعنهم في الدّين وسلوكهم مسلك المنافقين (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي أنهم مرّة همّوا بإخراج الرسول (ص) من المدينة فلم يفلحوا ، ومرة حاولوا قتله ليلة العقبة فألقى الله كيدهم في نحورهم وكشف أمرهم للنبي (ص) وثالثة حاولوا الإفساد والفساد بين المسلمين فلم يتمّ لهم ذلك (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعني أن النعمة التي عمّتهم بفضل محمّد (ص) قد أبطرتهم وفعلوا ضد واجب شكرها ، فقابلوا الإحسان بالكفران حيث كان من حقّهم الشكر والحمد أشرا وبطرا. ولا يخفى أنه تعالى لم يقل : (أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي لم يجمع في الضمير بين اسمه الكريم واسم رسوله (ص) تعظيما لذاته القدسيّة إذ الفضل والنعم منه تعالى ببركة وجود النبيّ (ص) ففضل الله سبحانه وفضل رسوله من الله

تبارك وتعالى ، وذلك كقوله في مكان آخر : والله ورسوله أحقّ أن يرضوه (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) أي إذا أقلع هؤلاء المنافقون عمّا هم فيه وتابوا وعادوا إلى الحق تكون توبتهم خيرا لهم من بقائهم على النفاق لأنهم ينالون رضا الله في الدنيا والآخرة. و (يَكُ) أصلها : يكن ، وهي مجزومة ب (أَنْ) الشرطيّة وقد حذفت النون من آخر الفعل (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يعرضوا وينصرفوا عن الحق وطريق الدين المستقيم (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) موجعا وجعا شديدا (فِي الدُّنْيا) بما يصيبهم من ويلات وحسرات وهموم وسوء سمعة لأنهم يوسموا بالنّفاق ، ويعذبهم (وَالْآخِرَةِ) بنار جهنم (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي فيما حولهم من الناس ـ أثناء حياتهم الدّنيا ـ ليس لهم (مِنْ وَلِيٍ) صاحب ومحبّ (وَلا نَصِيرٍ) يعينهم على ما هم فيه ويدفع عنهم العذاب ويزيل الغمّ الذي يرافقهم والحسرة التي تلازمهم.

* * *

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

٧٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ ...) المعاهدة هي أن تقول : عليّ عهد الله أن أفعل كذا وكذا وتعقد النيّة على وجوب فعل ما تذكره. فمن المنافقين من قال ذلك ، وعاهد الله أنه إن آتاه : أي أعطاه من فضله : يعني رزقه (لَنَصَّدَّقَنَ) أي لنتصدّقنّ على الفقراء ونحسن إلى

المساكين ونواسي أهل الحاجة (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) أي فلمّا رزقهم وأغدق عليهم نعمه بخلوا بالصدقات والزكوات وشحّت نفوسهم بالوفاء بعهد الله ومنعوا حق الله الواجب (وَتَوَلَّوْا) انصرفوا عن إيتاء الصدقات والزكوات (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عمّا أمرهم الله تعالى به وعن الوفاء بعهدهم الكاذب. وذكر صاحب المجمع أن هذه الآيات نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وهو من الأنصار وقد كان فقيرا فقال للنبيّ (ص) : أدع الله أن يرزقني مالا. فقال : يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه. أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ فو الذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فو الذي بعثك بالحق لئن رزقني مالا لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه. فقال (ص) : اللهمّ ارزق ثعلبة مالا. فاتّخذ غنما فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحىّ عنها ونزل واديا من أوديتها ، ثم كثرت نموّا حتى تباعد عن المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة والجماعة. وبعث إليه رسول الله (ص) المصدق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل وقال : ما هذه إلّا أخت الجزية ، فقال رسول الله (ص) : يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! ... وأنزل الله تعالى الآيات.

٧٧ ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ...) أي أن بخلهم بالصدقة وامتناعهم عن دفع الزكاة وحقّ الله أورثهم النفاق الذي يلازمهم إلى يوم القيامة حيث يتلقّون الله به لأن إبليس اللعين يحول بينهم وبين التوبة ويسلبهم القدرة على إخراج حق الله فيموتون على ما هم عليه من النفاق ولا يتسنّى لهم تركه ، وذلك (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) أي بسبب نكثهم للعهد وإخلافهم للوعد (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم في دار الدنيا.

٧٨ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ...) يعني : أما يعرف هؤلاء المنافقون المعاهدون الناكثون أنّ الله سبحانه وتعالى يعلم ما توسوس به نفوسهم وما يخفونه عن الآخرين ويبقونه سرّا مكتوما ، كما أنه يعلم

(نَجْواهُمْ) : أي ما يتناجون به ويهمسونه إلى أنفسهم أو إلى أقرب المقرّبين منهم؟ .. وهذا استفهام يحمل التقريع الشديد والتوبيخ لهم ، لأنه ينبغي أن يعلموا ذلك (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والعلّام هو الكثير العلم الشديد الاطّلاع ، والغيوب : مفردها : غيب ، وهو كل ما غاب عن الإحساس ولم يستطع الحواس أن تنفذ إليه وتعرفه ، فالله عزّ اسمه وحده يعلم الغيب. وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن المعاصي تجرّ إلى المعاصي ، وأن الطاعات تجرّ إلى الطاعات وترغّب فيها ، وأن هذا العكس صحيح البتة ، إذ أن النفاق يدعو إلى الثبات على النفاق حتى الموت ، والطاعة تدعو إلى الطاعة قبل الفوت. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : للمنافق ثلاث علامات : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

٧٩ ـ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) اللمز هو العيب ، والمطّوّع هو المتطوّع وقد أدغمت التاء في الطاء لأن مخرجهما واحد. وهذه صفة ثانية للمنافقين بأنهم يعيبون المتطوّعين المتبرّعين بالصدقة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بوجوبها ، المؤدّين لها طاعة لله وامتثالا لأمره ، وبأنهم يطعنون عليهم (فِي الصَّدَقاتِ) ويذمّونهم (وَ) يعيبون معهم (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي المتصدّقين بالقليل لأنهم لا يملكون إلّا القليل

(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) يستهزئون بصدقاتهم ، فأولئك المنافقون (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) يعني جازاهم جزاء سخريتهم (وَلَهُمْ) فيها (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع شد الإيلام. وقد قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل. أي قدر ما تحتمله حالة الفقير.

٨٠ ـ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ...) يبدو أن صيغة الفعل صيغة أمر ، وهو في الحقيقة مبالغة في الأياس من المغفرة والرحمة ، فالاستغفار لهم وترك الاستغفار لهم سيّان ، كما قال سبحانه في مكان آخر : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ... (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي : فلن يغفر الله لهم البتة. أما ذكر السبعين مرة فهو للمبالغة لا للعدد الذي يوجب المغفرة ، وهذا مثل قولهم : لو أقنعتني ألف مرة لما قنعت ، أي أنني لن أقنع. على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يستغفر للكفّار ، نعم يجوز ـ ضعيفا ـ أن يكون قد خطر له (ص) أن يرجو لهم لطفا إذا كانوا مستحقّين له ، فلمّا بيّن سبحانه أنهم ليسوا أهلا لذلك ترك ، والله أعلم. وهكذا فإن الاستغفار لهم وعدمه سواء (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فلم يصدّقوا بوجود الله ، ولا بدعوة رسوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) مرّ تفسيره سابقا.

* * *

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))

٨١ ـ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ ...) المخلّفون :

مفردها : المخلّف ، وهو المتروك. ويعني بهم سبحانه الذين تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خروجه إلى تبوك إذ استأذنوه في التخلّف فأخرّهم ولم يخرجهم معه لأنهم جماعة من المنافقين ، ففرح هؤلاء بقعودهم عن نصرته ومعاونته في الجهاد. و (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) (ص) أي بعده ، يعني بقعودهم في المدينة بعد خروجه منها. و (خِلافَ) نصب على الظّرف ، وقيل هو منصوب على المصدر إذا جعل معناه المخالفة ، والأول أصح. فقد سرّ هؤلاء بتخلّفهم (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ويبذلوها (فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا) للمسلمين صدّا لهم عن الغزو معه (ص) : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي لا تخرجوا مع الجيش في هذه الأيام الحارة واركنوا إلى الراحة والدعة وخفّفوا عن أنفسكم المشاقّ ف (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المنافقين المانعين عن طاعة الله عزوجل : (نارُ جَهَنَّمَ) التي وجبت لهم بقعودهم عن الجهاد الذي أمر الله تعالى به ، هي (أَشَدُّ حَرًّا) من الحرّ الذي يتعلّلون به ، وهي أولى بأن يتّقوها ويحترزوا منها ويحذروها (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي : لو كانوا يفقهون أوامر الله ونواهيه ويدركون معنى وعده ووعيده.

٨٢ ـ (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ...) هو أمر يحمل التهديد والوعيد ، أي فليستهزءوا وليضحكوا قليلا في حياتهم الدنيا ، وليبكوا كثيرا في الآخرة لأن اليوم فيها مقداره خمسون ألف سنة ، فذلك (جَزاءً) لهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما احتطبوا من الذنوب والمعاصي والكفر والتخلّف عن الجهاد بغير عذر. وقد قال ابن عباس : إن أهل الكفر ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. وقال رسول الله (ص) فيما رواه أنس عنه : لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.

* * *

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ

فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

٨٣ ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) أي : يا محمد إن ردّك الله تعالى من غزوك هذا (إِلى طائِفَةٍ) جماعة (مِنْهُمْ) من أولئك المنافقين المتخلّفين عن نفرك (فَاسْتَأْذَنُوكَ) وطلبوا منك الإذن «للخروج» معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ) لهم : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) لن أسمح لكم بمرافقتي في أية غزوة (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) في حرب من حروبي التي في غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) يعني ابقوا مع المتأخّرين عن الجهاد ، الذين قيل إنهم النساء والصبيان ، وقيل هم المعتذرون ، أو هم المتأخرون بغير عذر ، وقيل أيضا هم المخالفون والفاسدون والمفسدون.

* * *

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

٨٤ ـ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ...) هو أمر ينهاه به عن الصلاة على أي واحد مات منهم ، وقد كان من عادته (ص) أن يصلّي على أمواتهم ويجري عليهم أحكام الإسلام. وجملة (ماتَ) بفعلها وفاعلها في محل جرّ ، صفة ل (أَحَدٍ) بتقدير : على أحد ميت ، و (أَبَداً) منصوب على الظرفية (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تقف على قبره كما هي عادتك لتدعو له بالمغفرة ، حيث (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أنكروهما (وَماتُوا) على

إبطان الكفر بهما (وَهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن أمر الله تعالى وأمر رسوله (ص).

٨٥ ـ (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ...) الخطاب ما زال للنبيّ (ص) يقينا ولكن يراد به الأمة المسلمة بأسرها ، فينبغي أن لا يعجب الناس ما هم فيه من مال ورغد عيش وأولاد وأحفاد (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) بما يلحقهم منها من الهموم ، وبما يصيبهم من الخسائر والسبي وغيره ممّا يغنمه المسلمون منهم فيكون ذلك عذابا لهم في الدنيا (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك وتموت (وَهُمْ كافِرُونَ) باقون على كفرهم بحيث لا يفيدهم مال ولا أولاد ، وقد مرّ تفسير مثلها فيما سبق.

* * *

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧))

٨٦ ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ ...) أي إذا أنزلت آية من القرآن تدعو إلى الإيمان والتمسك به والمداومة عليه ويدخل فيها المنافق لأن الأمر يشمله بترك النفاق واتّباع الإيمان (وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) يعني : كونوا معه في جهاد عدوّه إمّا في الحرب أو في الدّعوة إلى الإيمان بالله تعالى وبه (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ) أي طلب الإذن منك في التخلّف أصحاب المال وذوو القدرة (مِنْهُمْ) من المنافقين (وَقالُوا) لك (ذَرْنا) دعنا واتركنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) نبقى مع المتأخرين عن الجهاد والدعوة مع النساء والصبيان.

٨٧ ـ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ...) الخوالف هن النساء ، سمّين بذلك لتخلفهنّ عن الجهاد. وقيل : هو جمع خالف وخالفة ، وهو الذي يكون غير نجيب. فالمنافقون قنعوا بأن يكونوا معهم ، ورضيت نفوسهم بالبقاء مع المقعدين ، بل والمرضى (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) قد فسّرنا الطبع على القلوب فيما سبق ، فقد ماتت قلوبهم ولم يلجها نور الدعوة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) لا يعلمون ولا يعملون بأوامر الله تعالى ونواهيه.

* * *

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

٨٨ ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ...) انتقل سبحانه إلى الثناء على رسوله الكريم (ص) وعلى الّذين صدّقوه واتّبعوه وهم المؤمنون ، فقال : هؤلاء (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) إذ أنفقوها في سبيل الله وفي طرق مرضاته (وَ) جاهدوا ب (أَنْفُسِهِمْ) في بذلها في سبيل قتال الكفار (وَأُولئِكَ) أي الرسول والمؤمنون معه (لَهُمُ الْخَيْراتُ) الكثيرة في جنّة النعيم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجحون الظافرون بما وعد الله من حسن الثواب.

٨٩ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ...) أي : هيّأ لهم وخلق جنات ذات أنهار جارية وأشجار ظلّيلة وفاكهة كثيرة (ذلِكَ) النعيم في الجنات الذي مرّ ذكره ، هو (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) النجاح والنجاة من المهالك. وقال أهل اللغة : إن المهلكة سمّيت مفازة تفاؤلا لها بالنّجاة.

* * *

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ

الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

٩٠ ـ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ...) المعذّرون : هم المتعذّرون سواء كان لهم عذر أو لم يكن ، وقد أدغمت التاء في الذال ، وقيل : هو جمع معذّر أي : مقصّر ، وهو الذي يريك أنه معذور ولا عذر له. والمعنى أنه جاء هؤلاء المعتذرون بغير عذر واقعيّ كما هو عليه أكثر المفسرين إلى النبيّ (ص) (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في عدم الخروج إلى الجهاد والتخلف عن الغزو (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما كانوا يبطنونه من النفاق رغم إظهارهم الإسلام ، و (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والفريقان من الذين كفروا ، أي الذين اعتذروا كاذبين ، والذين قعدوا ولم يعتذروا. وقد قال أبو عمرو العلا ـ كما في الجمع ـ : كلا الفريقين كان مسيئا : جاء قوم فعذروا ، وجنح آخرون فقعدوا. يعني أن هؤلاء اعتذروا باطلا ، وأولئك قعدوا عن الاعتذار وهم ليسوا بذوي عذر ... وهؤلاء جميعا ارتكبوا جرأة عظيمة على الله عزوجل.

* * *

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ

يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

٩١ ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) أي ليس على ذوي القوة الناقصة بسبب العجز والذين لا يقدرون على الخروج للجهاد ، ولا على المرضى : أي أصحاب العلل التي تحول دون المشاركة في الجهاد ، (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) بسبب فقرهم وعجزهم عن نفقة الخروج وإيجاد المركب ، فليس على هؤلاء بأس (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بإخلاص العمل على الأقل وبالطاعة التامة و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس من طريق لذمّ من فعل الحسن وقعد عن الجهاد وإذا كان لا يملك غير ذلك ، وقيل هو عامّ في سائر وجوه الإحسان إلى النفس وإلى الغير (وَاللهُ غَفُورٌ) متجاوز عن هؤلاء جميعا ، قابل لأعذارهم (رَحِيمٌ) بهم لا يريد منهم أن يحملوا فوق طاقتهم.

٩٢ ـ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ...) هذه الآية الشريفة معطوفة على سابقتها حتى لكأنها جزء منها ، وهي تعني أنه ليس على الذين يجيئونك سائلين منك مركبا تحملهم عليه إلى الجهاد معك ليخرجوا معك ، لأنهم عاجزون عن السير على أقدامهم لبعد المسافة ف (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) أي ليس لديّ مركب تركبونه ، ف (تَوَلَّوْا) انصرفوا من عندك خارجين (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) أي تسيل بالدمع لأجل الحزن الذي يصيبهم من جراء عدم مشاركتهم إيّاك في الجهاد ، فليس على هؤلاء حرج في التخلّف ولا سبيل لذمّهم في التأخر عن الخروج .. ولفظة (حَزَناً) نصبت على أنها مفعول له ، أي : يبكون للحزن الذين أصابهم. وجملة (يَجِدُوا) منصوبة ب (أن)

٩٣ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ ...) أي أن الطريق متاحة إلى ذمّ وتقريع ، أولئك الذين يطلبون الإذن منك بالقعود (وَهُمْ أَغْنِياءُ)

متمكّنون من مشاركتك في المال والنفس وقد (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) مرّ تفسيره (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) مرّ تفسيره أيضا.

* * *

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

٩٤ ـ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ...) ما زال الكلام عن المعتذرين للنبيّ (ص) عن البقاء في المدينة وعدم الخروج معه إلى غزوة تبوك اعتذارا باطلا يدل على نفاقهم وتقاعسهم عن خدمة الدّعوة إلى الإسلام ، وقيل إن هذه الآية الكريمة نزلت بجد بن قيس ومعتبة بن قشير وأصحابهما من المنافقين ، ف (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المعتذرين : (لا تعتذروا اليوم عن تأخركم) فنحن (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) ولا نصدّقكم في قولكم إذ (قَدْ نَبَّأَنَا) أخبرنا (اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) وعرّفنا حقيقة أمركم وما علمنا به كذبكم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيطّلع هو سبحانه ورسوله (ص) على أعمالكم وهل أنكم تتوبون عن نفاقكم أم تداومون عليه ، وسيكشف المستقبل سرائركم وخفايا نفوسكم. وقد عبّر سبحانه

ب (سَيَرَى) لأن الشيء أظهر ما يكون وضوحا حين الرؤية ، فنفاقهم معلوم ، ولكن ظهوره فيما يستقبل يجعله كالمرئيّ عيانا (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون يوم القيامة (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الذي يعلم ما غاب منكم ويشهد ما تتصرّفون به خفية (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعملكم حسنه وقبيحه فيجازيكم عليها جميعا.

٩٥ ـ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ ...). أي سيقسم المتخلّفون عن النصّرة ليعتذروا إليكم أيها المؤمنون حين ترجعون إليهم (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لتنصرفوا عن تعييرهم وتوبيخهم وتعنيفهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) انصرفوا عنهم انصراف إعراض وأنكروا كذبهم وأظهروا مقتكم لهم ، وذلك بسبب (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) نجس يجب أن تجتنبوه ككل نجس خبيث (وَمَأْواهُمْ) مقرّهم الدائم (جَهَنَّمُ) المعدّة لهم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من المعاصي.

٩٦ ـ (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ...) أي أن سبب حلفهم كان طلبا لرضاكم عنهم (فَإِنْ تَرْضَوْا) وتصفحوا عنهم أنتم ـ أيها المؤمنون ـ لجهلكم بما يضمرون (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين يخرجون من طاعة الله عزوجل ويدخلون في معاصيه ، فلن ينفعهم رضاكم ، ولذلك كان لا ينبغي لكم أن ترضوا بأيمانهم الكاذبة ، وقد صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من التمس رضا الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى الناس. ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

* * *

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ

ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠))

٩٧ ـ (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً ...) أي الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، وإنما كانوا أشد كفرا لأنهم قساة جفاة ، ليس فيهم ليونة المدنيّين ، فهم أبعد عن سماع الدعوة وقبول الرسالة السماوية. وهذا يعني أن الكفار من سكان البوادي يكونون أشد كفرا من الحضر بسبب بعدهم عن مجالس العلم والتوعية فهم متمسّكون بعاداتهم حسنة كانت أو قبيحة (وَ) هم (أَجْدَرُ) أي أحرى وأولى (أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) أي أن يقوموا بفرائض الله تعالى وما شرح من حلال وحرام ، وما أنزله (عَلى رَسُولِهِ) الكريم بواسطة الوحي ليبلّغه للناس (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال هؤلاء الأعراب وغيرهم (حَكِيمٌ) فيما يقرّر بشأنهم.

٩٨ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً ...) يعني أن من منافقي هؤلاء الأعراب من يعتبر أن النفقات التي يصرفها في سبيل الجهاد أسوة بغيره من المسلمين ، هي نفقات فرضت عليه غرما وضريبة لحقت به

وأخذت عنوة ، وهم لا يرجون ثوابا عليه ولا أجرا (وَ) هو (يَتَرَبَّصُ) ينتظر (بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي حوادث الزمان التي تدور وتكون مذمومة العواقب بالنسبة إليكم ، فكأنهم ينتظرون لكم القتل والهزيمة ، أو موت النبيّ (ص) ليرجعوا إلى شركهم وكفرهم. ولا يخفى أن الدائرة معناها زوال النعمة والوقوع في الشّدة. وقد ردّ سبحانه على تربصهم بقوله (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي أنه وعدهم بها ودعا عليهم بالبلاء بعد العافية وبسوء العاقبة وسيبقون مغلوبين (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع ما يقولون بدقّة (عَلِيمٌ) بنيّاتهم وخفاياهم.

٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ ...) أي ومن هؤلاء الأعراب من يصدّق بالله وبما جاء به رسوله عنه (وَ) يصدّق (الْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب وجنة ونار (وَيَتَّخِذُ) يعدّ (ما يُنْفِقُ) يبذل في الجهاد (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) أي يعتبر نفقاته أعمال خير تقرّبه من مرضاة الله ، والقربة هي عمل الطاعة المقرّب إلى الله تعالى ، فهو يطلب بنفقته تعظيم أمر الله ونيل رضاه (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) هذا عطف على (ما يُنْفِقُ) أي أنه يبتغي بها دعاء النبيّ (ص) لأن الصلاة معناها الدعاء (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي أن نفقتهم وصلوات الرسول تقرّبهم من ثواب الله لأنهم قصدوا بها وجهه ورضاه ورضا رسوله. وهؤلاء المؤمنون (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي أنه سيرحمهم ويدخلهم الجنة. وهذه بشارة ثانية بعد البشارة التي استفتحها سبحانه ب (أَلا) التي تبشّر أن عملهم قربة إليه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) متجاوز عن ذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم وبأهل طاعته. وغفور ورحيم صفتا مبالغة بمغفرته ورحمته.

١٠٠ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) بعد ذكر المنافقين وعرض حالهم وذكر مآلهم ذكر سبحانه السابقين إلى الإيمان المتسابقين إلى النّصرة والجهاد ممن هاجروا من مكة أو ممن آووا ونصروا النبيّ وأصحابه في المدينة ، فقال : هؤلاء وهؤلاء وَمعهم (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي تابعوهم على عمل الخير والدخول في الدّين ومشوا

وراءهم لأنهم كانوا سابقين لهم فسلكوا منهاجهم وساروا على خطتهم ، فهم جميعا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) قبل أعمالهم وصاروا مرضيّين لحسن فعالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) لكثرة ما أجزل لهم من العطاء ثوابا على إيمانهم وطاعتهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مرّ تفسيرها مكرّرا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الفلاح الكبير الذي يكون دونه كل فلاح. ونلفت النظر إلى أن (السَّابِقُونَ) مبتدأ و (الْأَوَّلُونَ) صفة له ، وجملة (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) تبيين لهم. أما (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) فإنه يجوز حمله على موضع الرفع إن عطفته على (السَّابِقُونَ) وعلى موضع الجر إن عطفته على (الْأَنْصارِ) أما خبر الأسماء كلها فجملة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) كما أن جملة (أَعَدَّ لَهُمْ) عطف على (رَضِيَ ...)

أما فضل السابقين على غيرهم فهو لامتيازهم على من سواهم لأنهم بسبيل نصر الدين فارقوا الأهل والأقربين وهجروا الوطن والدين الباطل ، ونصروا الدين الجديد رغم قلة العدد وقوّة العدوّ ، مضافا إلى سبقهم إلى الإيمان. وقد اختلفوا في أول من أسلم وصدّق من المهاجرين ، فقيل إن أول من آمن خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها ، ثم علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وقال أنس : بعث النبيّ (ص) يوم الاثنين ، وأسلم عليّ عليه‌السلام وصلّى يوم الثلاثاء ، وذكر مجاهد وغيره أنه كان يومئذ ابن عشر سنين ، وكان رسول الله (ص) قد أخذه من أبي طالب رضوان الله عليه وضمّه إلى حجره. وروي أن أبا طالب قال لعليّ عليه‌السلام : أي بنيّ ، ما هذا الدّين الّذي أنت عليه؟ قال : يا أبة آمنت بالله ورسوله وصدّقته فيما جاء به وصلّيت معه لله. فقال له : إن محمدا (ص) لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه. وفي المجمع عن عباد بن عبد الله قال : سمعت عليّا (ع) يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر ، صلّيت قبل الناس بسبع سنين.

* * *

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣))

١٠١ ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ...) حول الشيء : أي ما يحيط به ، يعني : ومن جملة من هم حول مدينتكم أعراب يسكنون البادية (مُنافِقُونَ) يظهرون لكم الإيمان ويبطنون الكفر ، قيل إنهم عدّة قبائل : كمزينة وأسلم وغفار وأشجع ، النازلين في ضواحي المدينة ، فهؤلاء وَبعض (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الذين يعيشون معكم ، هم منافقون كأولئك الأعراب ، وقد حذف (مُنافِقُونَ) لدلالة الكلام عليه فإن جملة (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا) تعني أن منهم قوم مردوا ، فقد حذف الموصوف ، أو أنه يجوز أن يكون التقدير : ومن أهل المدينة (مُنافِقُونَ) مردوا على النفاق ، وكلا الوجهين صحيح. وجملة : آخرون اعترفوا ، معطوفة على سابقتها. فهؤلاء جميعهم (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرّنوا عليه أنفسهم وأقاموا عليه ولم يتوبوا كغيرهم (لا تَعْلَمُهُمْ) أنت يا محمد ولا تعرفهم ، بل (نَحْنُ) نعلّمهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي مرة في الدّنيا كالذين أخرجهم رسول الله (ص) من المسجد وأخزاهم ونبذهم ، وكالذين يصيبهم القتل والسّبي والجوع وغير ذلك ، ومرّة بعذاب القبر كما عن ابن عباس (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) ينالونه يوم القيامة حيث يدخلون النار ويخلّدون فيها.

١٠٢ ـ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ...) أي ومن أولئك الأعراب قوم آخرون تابوا من ذنوبهم وأقرّوا بها ، وكانوا قد (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) فأحسنوا مرة وأساؤا مرة والخلط هو جمع الأشياء مع بعضها من غير امتزاج ببعضها ، ف (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه : لعلّ توبتهم تقبل ، ولكنهم قالوا في التفاسير : إن (عَسَى) من الله تعالى واجبة ، يعني أنه أخذ على نفسه المغفرة لهم ، ولكنه استعمل (عَسَى) ليكونوا بين الخوف والرجاء ولئلا يتّكلوا على العفو ويتخلّوا عن التوبة والعمل الصالح. وقال بعض التابعين : ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مرّ تفسيره.

١٠٣ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ...) الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأمره الله عزوجل بأخذ الصدقة وزكاة الأموال ممّن ذكرهم في الآية السابقة ، تطهيرا لهم وتكفيرا عن ذنوبهم. وقد ارتفع الفعل (تُطَهِّرُهُمْ) لأنه إما أن تكون التاء فيه خطايا للنبيّ (ص) بتقدير أنك تطهرهم بها بحيث يكون ضمير (بِها) للصدقة ، وإمّا أن تكون جملة (تُطَهِّرُهُمْ) صفة لصدقة وتاء (تُطَهِّرُهُمْ) للتأنيث ، إذ يتبادر للذهن أن (تُطَهِّرُهُمْ) كان ينبغي جزمها ، وهو وهم ، فخذ يا محمد صدقة من أموالهم مطهرة لهم وَهي (تُزَكِّيهِمْ بِها) تنظّفهم من دنس الذنوب ، أو قصد سبحانه : أنك تدعو أنت لهم بما يصيروا به أذكياء (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم بقبول الصدقة كما هي عادتك ، إذ روي عنه (ص) أنه كان إذا أتاه قوم بصدقة قال : اللهم صلّ عليهم (إِنَّ صَلاتَكَ) يا محمد (سَكَنٌ لَهُمْ) أي أن دعاءك لهم تسكن به نفوسهم وتطمئنّ لقبول صدقتهم ورضا الله بها (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع دعاءك ويعلم ما هم عليه في أعمالهم وصدقاتهم.

* * *

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

١٠٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ...) هذا استفهام منه سبحانه يعني به أنه ينبغي أن يعلم ، بل يجب أن يعرف أن الله يقبل التوبة الصادرة (عَنْ عِبادِهِ) وهذا التنبيه للعباد بأن ربّهم يقبل توبتهم وأن إقلاعهم عن الذنوب يكون مرغّبا لهم في المسارعة إلى التوبة للخلاص من العقاب والفوز بالثواب ، لأن الله تعالى يقبلها (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) التي يقدّمونها ، أي يرتضيها ويعتبرها مطهّرة لهم ومزكّية لأعمالهم ، فكأنّ أخذ النبيّ (ص) للصدقات أخذ لها من الله سبحانه وتعالى على وجه المجاز ، وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل. فهي منزّلة هذا التنزيل ترغيبا للناس بفعلها لينالوا أجرها وثوابها ، فليعلموا ذلك (وَ) ليعلموا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) جملة مرّ تفسيرها ، وهي معطوفة على ما قبلها ولذلك فتحت همزة (أن) فيها.

١٠٥ ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ...) أي : قل يا محمد للمكلّفين من الناس : اعملوا ما أمركم الله تعالى به واعلموا أنه مجازيكم على أفعالكم لأنه يرى عملكم هو ويراه رسوله (ص) وقد أدخل السّين هنا على (يرى) لأن الذي لم يحدث منهم بعد لا تتعلّق به الرؤية ، بل ما سيعملونه في المستقبل سيراه الله ورسوله (وَالْمُؤْمِنُونَ) قيل أن عملهم يراه أيضا الشهداء أو أراد بهم الملائكة الحفظة كاتبو الأعمال ، ولكن أصحابنا رووا أن أعمال الأمة تعرض على النبيّ (ص) في كل اثنين وخميس

فيعرفها ، وكذلك تعرض على أئمة الهدى عليهم‌السلام ، وهم المعنيّون بهذا القول ، وقد فصّلنا كيفيّة رؤيتهم لأعمال العباد فيما سبق. فقل لهم اعملوا بحذر من يرى عمله (وَسَتُرَدُّونَ) ترجعون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله تعالى الذي يعلم السّر وما غاب عن الآخرين (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيثيبكم عليه أو يجازيكم.

١٠٦ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ...) أي أن هناك آخرين من العباد مؤخّرون وموقوفون لما يأتي من أوامر الله بشأنهم قبل أن يصار بهم إلى الجنة أو إلى النار ، ف (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) فيدخلهم النار باستحقاقهم لها (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فيتجاوز عن ذنوبهم التي تابوا عنها ويدخلهم الجنة. وهذا يعني أن فريقا من العصاة يكون أمرهم إليه سبحانه إن شاء عذّبهم وإن شاء عفا عنهم لأن قبول التوبة بحدّ ذاته تفضل من الله (وَاللهُ عَلِيمٌ) عارف بما يصير إليه أمر هؤلاء (حَكِيمٌ) في فعله بهم وبغيرهم.

* * *

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨))

١٠٧ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً ...) عطف (الَّذِينَ) بالواو هنا يدل على عطف الكلام على ما قبله. أي ومن المنافقين الذين تكلّمنا عنهم قوم بنوا مسجدا ضرارا : طلبا للضّرر ، وكفرا : طلبا لإقامة الكفر فيه والاجتماع للطعن على رسول الله (ص) (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ)

أي بقصد تفريقهم عنك ولبثّ الشّقاق بين المسلمين وإبطال ألفتهم (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي أرصدوا ذلك المسجد لأعدائك كأبي عامر المترهّب الذي حسدك وحاربك من قبل وحزّب عليك وذهب إلى قيصر الروم ليأتي بجنده لمحاربتك (وَلَيَحْلِفُنَ) إنهم والله ليقسمنّ الأيمان قائلين : (إِنْ أَرَدْنا) يعني : ما أردنا (إِلَّا الْحُسْنى) إلّا الفعلة الحسنى الجيّدة كالتوسعة على الضعفاء من المسلمين ، وهم في أيمانهم كاذبون ونحن نطلعك على طويّاتهم وسرائرهم الخبيثة (وَاللهُ) العالم بذلك كله (يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أكّد كذبهم ب (إِنْ) وباللام ، وكفاهم خزيا أن يشهد الله تعالى بكذبهم ونفاقهم.

وقد ذكر المفسّرون أن الذين بنوا ذلك المسجد هم بنو عمرو بن عوف ، اتّخذوه ليصلوا فيه بدل أن يحضروا جماعة محمد (ص) وكانوا اثني عشر أو خمسة عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث. بنوه قرب مسجد قباء وجاؤا إلى النبيّ (ص) أثناء تجهيز الجيش إلى تبوك فأخبروه بذلك وقالوا إنّا بنيناه لذوي العلّة والضعفاء ولمن لا يستطيعون الذهاب إلى قباء في ليالي المطر ، ونحن نحب أن تأتينا فتصلّي فيه وتدعو لنا بالبركة : فاعتذر يومئذ لأنه كان على أهبة السفر ووعدهم بالصلاة فيه بعد رجوعه من الغزو. وقد أطلعه الله سبحانه على حقيقة أمرهم وعلى غايتهم من بناء المسجد أثناء سفره ، ولذلك كلّف ـ بعد عودته من تبوك ـ عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم ، أن ينطلقا إلى ذلك المسجد ويهدماه ويحرّقاه ففعلا. وقيل إنه أرسل عمار بن ياسر ووحشيّا فنفّذا أمره ، وأمر أن يتّخذ كناسة تلقى فيه الجيف والأقذار.

١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ...) أي : يا محمد : لا تقم للصلاة في ذلك المسجد أبدا. والقيام هنا للصلاة ، ولذا يقال للمصلّي بالليل : يقوم الليل. ثم أقسم سبحانه فقال : (لَمَسْجِدٌ) أي : والله إن مسجدا (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي قام أساس بنيانه وأصله على طاعة الله واجتناب معاصيه (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) منذ وضع أساسه (أَحَقُ) أجدر (أَنْ تَقُومَ فِيهِ) وهو أولى أن

تقيم الصلاة فيه. وقال ابن عباس وكثيرون غيره : عنى مسجد قباء ، وقيل : هو مسجد رسول الله (ص) كما عن زيد بن ثابت والخدري وغيرهما. ثم وصف المسجد المفضّل وأهله بقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أي يحبّون أن يصلّوا متطهّرين من الخبائث كالطهارة بالماء من البول والغائط كما عن الباقرين عليهما‌السلام، ففي المجمع روي عن النبيّ (ص) أنه قال لأهل قباء : ماذا تفعلون في طهركم فإن الله قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا : نغسل أثر الغائط. فقال : أنزل الله فيكم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) لأنهم يقفون بين يديه أتقياء أنقياء.

* * *

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ ...) استفهام إنكاريّ بيّنا تفسيره فيما مضى ، فقد شبّه الله تعالى بنيانهم لهذا المسجد الممقوت ، بمن بنى بيتا على جانب نهر قد يجرفه الماء ولا يثبت أمام فيضانه واندفاع مائه ، وكذلك بناؤهم هذا سينهار بهم في نار جهنم. وهذا يعني أنه لا يستوي عمل المتّقين وعمل العاصين .. فهل من أسس بنيانه على تقوى (وَرِضْوانٍ) من الله (خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فقوله عزوجل : على شفا جرف ، يدل على أن بانيه لا يتّقى الله ولا يخشاه. والبنيان : مصدر وضع على المبنيّ ، كمصدر خلق إذا قصد به المخلوق. وجملة : على تقوى من

الله ، وجملة : على شفا جرف هار ، كلاهما في موضع نصب على الحال ، والتقدير : أفمن أسس بنيانه متّقيا خير أم من أسس بنيانه غير متّق ومعاقبا عليه؟ وفاعل (فَانْهارَ) ضمير مستتر فيه يعود للبنيان.

١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ...) أي سيبقى البناء الذي بنوه شكّا في قلوبهم في إظهارهم للإسلام وثباتهم على النفاق ، وقيل سيبقى حسرة فيها لأنه عمل مرفوض لخبث ما انطوى عليه (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي : إلّا أن يموتوا فتنقطع الحسرة من نفوسهم لأنهم لم يقلعوا عمّا هم فيه من النفاق ولم يتوبوا حتى ماتوا على إصرارهم. وقوله : إلّا أن تقطّع ، نصب بتقدير : إلّا على تقطّع قلوبهم ، أي : في حال تقطّعها. ومعنى (إِلَّا) هنا : حتّى ، لأنه استثناء من الزمان المستقبل ، والاستثناء منه ينتهي إليه .. (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عظيم العلم بنيّاتهم في بناء ذلك المسجد ، وعظيم الحكمة في هدمه وتحريقه ومنع إقامة الصّلاة فيه.

* * *

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ...) الاشتراء هنا للتقريب إلى الذهن بمعنى أنه سبحانه يقبل عمل الخير من المؤمنين ، ويأجرهم عليه بالثواب. والاشتراء لا يجوز عليه سبحانه لأن المشتري يشتري ما لا يملك ، وهو جلّ وعزّ مالك السماوات والأرضين. ولكنه لمّا ضمن الثواب على نفسه لقاء الإيمان والقيام بالطاعات ، عبّر عن ذلك بالاشتراء مجازا. فهو هنا يرغّب المؤمنين بالجهاد لأنه يشتري ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ نفوسهم التي يبذلونها في سبيل إعلاء كلمته ، وأموالهم التي ينفقونها ابتغاء مرضاته (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) أي اشترى ذلك بالجنّة فجعلها ثمنا لأنفسهم ومالهم. وقد ذكر سبحانه النفس والمال خاصة لأن العبادات على نوعين : بدنيّة وماليّة فقط وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام قوله : أيا من ليست له همّة ، إنه ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها ... ثم وصف الله تبارك وتعالى أولئك المؤمنين بأنهم (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأوضح السبب الذي من أجله اشترى أنفسهم وأموالهم (فَيَقْتُلُونَ) أعداءهم الكافرين والمشركين (وَيُقْتَلُونَ) أحيانا فيقتلهم الكافرون والمشركون ويكونون شهداء معوّضون بالجنّة (وَعْداً عَلَيْهِ) أي : وعدهم الله تعالى وعدا (حَقًّا) لا شكّ فيه ولا خلف. وقد نصب وعدا على المصدر لأن الفعل (اشْتَرى) يدل على أنه وعد بذلك الشّراء. ومثله : صنع الله الذي أتقن كل شيء وغيره. وقد أثبت الله هذا الوعد لهم (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أي في الكتب السماوية المقدّسة ، وبهذا يدل على أن أهل الملل جميعا مأمورون بالجهاد في سبيل الله وموعودون بالجنّة إذا باشروا الجهاد (فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون خذوا البشارة (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا ببيع الزائل بالباقي ، والفاني بالدائم (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الكبير والظفر الذي لا يساويه ظفر.

١١٢ ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ ...) هذه كلّها صفات للمؤمنين الّذين اشترى سبحانه منهم أنفسهم وأموالهم ، فهم الراجعون إليه المنيبون النادمون عند فعل كلّ قبيح ، الّذين يعبدونه وحده ولا يشركون به

شيئا ، ويحمدونه على كل حال في السرّاء والضرّاء ، والسائحون : أي الصائمون إذ روي عنه (ص) قوله : سياحة أمّتي الصيام. وقيل هم المتردّدون في الأرض المتأملون بعجائب صنعه ، أو الذين يضربون في الأرض لطلب العلم ، و (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي المقيمون للصلاة بأركانها ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الهادون غيرهم إلى طرق الخير وفعل أوامر الله. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المانعون الناس عمّا نهى الله تعالى عنه وأنكر فعله (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) القائمون بطاعته حسبما حدّد من الفرائض والواجبات ، وحدود الله هي أوامره ونواهيه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : يا محمد انقل هذه البشارة للمصدّقين بالله وبك ، وخاصة لمن جمعوا الصفات التي في الآية ، وأخبرهم بالثواب الجزيل والأجر العظيم.

أما الرفع في مطلع هذه الآية الكريمة وقوله : التائبون إلخ ... فعلى القطع والاستئناف ، أي : هم التائبون إلخ ... وقيل إنه رفع على الابتداء ، وخبره محذوف بعد قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) ، أي : لهم الجنّة ، فبشّر المؤمنين. وقيل أيضا هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون ـ الآية السابقة ـ أي : يقاتل التائبون إلخ ...

وقرأ أبي والأعمش وابن مسعود : التائبين العابدين إلخ ... إمّا جرّا على أن يكون وصفا للمؤمنين ، أي : من المؤمنين التائبين إلخ ... وإمّا نصبا على إضمار فعل المدح أو أعني.

* * *

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ

لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥))

١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) أي : ليس للنبيّ (ص) ولا للمؤمنين أن يطلبوا المغفرة من الله تعالى للمشركين : الذين يعبدون مع الله غيره ولا يعتقدون بوحدانيته عزوجل ، حتى (وَلَوْ كانُوا) أي : ولو كان المشركون (أُولِي قُرْبى) من أقرب الناس إليهم كأن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو من قراباتهم وذوي رحمهم. فليس لهم ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن اتّضح لهم كونهم من أهل النّار ومن المستحقّين دخولها. وسبب نزول هذه الآية هو أن المسلمين قالوا للنبيّ (ص) : ألا نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت في النهي عن ذلك.

١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ...) بعد النّهي عن الاستغفار للمشركين البتة ، ذكر سبحانه أن استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه ، لم يكن (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) أي : لم يصدر إلّا بسبب موعدة (وَعَدَها إِيَّاهُ) وذلك قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ...) وقيل إنه كان يستغفر له بشرط الإيمان وبأمل أن يعود إلى حظيرة الدّين فلمّا يئس منه تبرّأ منه. وقد قرأ الحسن : عن موعدة وعدها أباه (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي : إنه كثير الدعاء والاستغاثة والبكاء والتأوّه والحزن. فالأوّاه من التأوّه ، أي : من قول : آه ، قال الشاعر :

فأوّه بذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض دونها وسماء

فإبراهيم عليه‌السلام أواه من كثرة خشوعه وتضرعه ولشدة إيمانه ورسوخ يقينه ، كما يتأوّه المنيب فرقا من العقاب وتمنّيا للثواب ، وهو (حَلِيمٌ) صبور على الأذى صفوح عن زلّات غيره. ويقال إنه بلغ من

حلمه أن رجلا قد آذاه وشتمه فقال له : هداك الله.

١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ ...) أي أن الله سبحانه لا يحكم بضلال قوم أن علم هدايتهم ، فقد قيل إن سبب نزول هذه الآية أن كثيرين من المسلمين ماتوا على الإسلام قبل نزول الفرائض فقال إخوانهم : يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزل قوله تعالى أنه لا يعتبر المهتدين ضالّين (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي حتى يوضح لهم ما ينبغي أن يفعلوه وأن يجتنبوه ، كأمرهم ببعض الطاعات وكاجتنابهم المعاصي ، وحتى يبيّن لهم ما تستحق الأعمال من الثواب أو العقاب ، فلا يعذّب الله المسلم الذي مات قبل أن يصلّي لقبلتنا ، ولا على غير ذلك مما كان يفعله ونسخته شريعتنا (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم هذه الحالة ممّن ماتوا كما يعلم غيرها ولا يفوته علم شيء لكونه تعالى عالما لنفسه.

* * *

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أنه عزوجل هو مالك أمور السماوات ومن فيهن ، والأرض وما فيها ، له التصرّف وحده والتدبير فيهما إذ لا ينازعه في ذلك أحد ، وهو (يُحْيِي) الجماد (وَيُمِيتُ) الحيوان ، متى شاء بقدرته ، ولا يستطيع أن يفعل ذلك غيره (وَما لَكُمْ) أيها الناس (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره (مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم ويحفظكم ويكون مالكا لمصالحكم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ويدفع عنكم العذاب والسخط من الله. ووجه وجود هذه الآية في هذا المكان ، أن الله سبحانه هو مالك أمر السماوات والأرض ، وأنكم عبيده يأمركم بما يشاء ، ويدبركم

بحسب ما يريد ، ويقضي بشأنكم كلّ ما هو مصلحة لكم.

* * *

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) اللام في (لَقَدْ) هي لام القسم ، وهذا يعني أنه تبارك وتعالى قبل طاعات وتوبة المهاجرين والأنصار ، وذكر على رأسهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مفتاحا مباركا لهذه البشارة وتحسينا للكلام عنها ولكون النبيّ (ص) سبب كلّ خير من طاعتهم وتوبتهم عن كل ما يكرهه الله جلّ وعلا. وذكر صاحب المجمع رواية عن الرضا عليه‌السلام أنه قرأ : لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وخرجوا معه إلى غزوة تبوك (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي حين الصعوبات التي عانوها في مشقة السفر وشدة الحرارة وقلّة الزاد ، فقد كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم هذا يركب ساعة وهذا ساعة ، وكان طعامهم من الشعير المسوّس والتمر المدوّد ، وقد بلغ منهم التعب مبلغه ، وبلغ منهم الجوع أن أحدهم كان إذا أخذ التمرة لاكها حتى يجد طعمها ثم ناولها إلى غيره ليمصّها من بعده ويشرب عليها جرعة قليلة من الماء. وكان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة قد

تخلّف عن الخروج إلى أن مضى من مسير رسول الله (ص) عشرة أيام ، ودخل يومها على امرأتين له في عريشين قد رتّبتاهما وبرّدتا الماء فيهما وهيّأتا له الطعام ، فقام على العريشين وقال : سبحان الله ، رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر في الفتح والرّيح والحرّ والقرّ يحمل سلاحه على عاتقه ، وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيّأ وامرأتين حسناوين!! ما هذا بالنّصف. ثم قال : والله لا أكلّم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبيّ (ص) ثم أناخ ناضحه واشتدّ عليه متزودا ولم يكلّم زوجتيه. وإذ اقترب من تبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق. فقال النبيّ (ص) كن أبا خيثمة أولى لك. فلما دنا قال الناس : هذا أبو خيثمة يا رسول الله. فأناخ راحلته وسلّم على رسول الله (ص) وحدّثه بحديثه فقال له خيرا ودعا له ...

وهكذا عاش ذلك الجيش بدعاء النبيّ (ص) لأن وضعه كان في غاية الشدة من حيث التعب والجوع والعطش ، ففي المجمع أن عمر بن الخطاب قال : أصابنا حرّ شديد وعطش فأمطر الله السماء بدعاء النبيّ (ص) فعشنا (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي بعد أن كاد ينحرف ميل كثيرين منهم عن الجهاد ، وراودتهم نفوسهم بالانصراف فعصمهم الله من ذلك. (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ الذي كاد أن يقع في قلوبهم (إِنَّهُ) سبحانه وتعالى (بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قد عطف عليهم وتداركهم برحمته.

١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ...) هذه الآية معطوفة على سابقتها ، أي أنه تعالى تاب على أولئك ، وتاب على الثلاثة الذين تأخروا عن مرافقة النبيّ (ص) في حرب تبوك ، وهم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية الذين تخلّفوا عن الزحف لا عن نفاق بل عن توان ، ثم ندموا وجاؤوا إلى النبيّ (ص) بعد رجوعه ليعتذروا فلم يكلّمهم وهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم ، فهجروهم ، حتى الصبيان ، فجاءت نساؤهم إلى النبيّ (ص) فقلن : يا رسول الله نعتزلهم؟ فقال : لا ، ولكن لا يقربوكنّ.

فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال وكان ذووهم يأتونهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، ولمّا رأوا هذه الحال تهاجروا فيما بينهم وتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان حتى مضى خمسون يوما كانوا أثناءها يتضرّعون إلى الله ويبتهلون فقبل الله توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية ... فقد كابدوا تلك المهاجرة من المسلمين (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي ضاقت عليهم مع سعتها ، وهذه صفة لبلوغهم غاية النّدم على التأخر عن نصرة النبيّ (ص) وقد شدّد الله تعالى عليهم المحنة لاستصلاحهم واستصلاح غيرهم ، فإنهم ضاقت عليهم الأرض (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) لشدّة الغم التي عمرت صدورهم (وَظَنُّوا) أي اعتقدوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) أي لا عاصم منه (إِلَّا إِلَيْهِ) بصدق التوبة (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) يعني سهّل لهم طريق التوبة ليعودوا إلى حالتهم الأولى (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الكثير القبول للتوبة من عباده الرحيم بهم.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...) خطاب منه سبحانه للمؤمنين يشرّفهم به إذ يخاطبهم آمرا إياهم باجتناب معاصيه واتّباع أوامره بالطاعات ، فمن نعمه سبحانه أنه خاطبهم عشرات وعشرات المرّات في القرآن الكريم ولم يخاطب الكافرين مرة واحدة ، وهنا يأمرهم بأن : اتّقوا (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) الذين لا يكذبون في قول ولا فعل ، ولا يعرف الناس منهم إلا صدق اللهجة في سائر معاملاتهم مع الله ومع الناس. وقوله سبحانه : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، يعني : اقتدوا بهم. وقيل إنه سبحانه عنى بالصادقين الذين عناهم قوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ـ يعني حمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ـ (وَمِنْهُمْ

مَنْ يَنْتَظِرُ) ـ يعني علي بن أبي طالب (ع) ـ وروى الكلبي عن ابن عباس : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) : مع عليّ وأصحابه ، وعن الباقر عليه‌السلام : مع آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل غير ذلك.

* * *

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ ...) أي ليس لأهل المدينة ومن يحيط بهم (مِنَ الْأَعْرابِ) سكّان البادية (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) أي عن الغزو معه إلى تبوك ، أو غيرها بغير عذر مشروع يرتضيه الله ورسوله ، ولا أن يؤذوه (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) وليس لهم ، ولا لأحد أن يطلب نفع نفسه دون نفس رسول الله (ص) وهذا إلزام لهم جميعا بحقّ النبيّ (ص) بسبب ما دعاهم إلى الهدى وأخرجهم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان فلا يجوز لهم أن يطلبوا لأنفسهم الدعة والراحة والنعيم ، ورسول الله (ص) في الحرّ والقر والشدائد (ذلِكَ) أي ذلك النهي عن التخلّف (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب بدنيّ (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي مجاعة وهم في طريق طاعته سبحانه (وَلا

يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يعني : ولا يضعون أقدامهم في موضع ليجلبوا المقت والغيظ للكفار حين مهاجمتهم وغزوهم في عقر دورهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) أي : ولا يصيبون من أعدائهم أمرا من القتل والسّبي والكسب ، أجل ، لا يصيبهم شيء من ذلك (لَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلّا اعتبره الله تعالى طاعة مقرّبة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي لا ينقص العاملين للحسنى شيئا من عملهم الحسن الذي يستحقون به المدح والثناء والثواب.

١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ...) ما زال الكلام عن الترغيب في الجهاد ونصرة النبيّ (ص) ، أي أن المجاهدين مع النبي (ص) لا يقدّمون من نفقة في الجهاد صغيرة أو كبيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي : لا يتجاوزنه في حال زحفهم (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أجر ذلك وثوابه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) يأجرهم بقدر استحقاقهم بل (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأنه تعالى مفضل كريم يجعل الثواب دائما أحسن من العمل فيجزيهم بثواب يكون فوق ما ينتظرونه.

* * *

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...) نزلت هذه الآية الشريفة بعد غزوة تبوك ، وكان رسول الله (ص) إذا خرج في غزو لا يتخلف عنه إلّا المنافقون والمعذورون ، ففضح الله تعالى المنافقين في تلك الغزاة ، فصار المسلمون ينفرون جميعا كلّما أمر رسول الله (ص) بالسرايا ويتركون رسول الله (ص) وحده ، فأنزل سبحانه أن ليس للمؤمنين أن يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبيّ (ص) وحيدا. وقيل نزلت في معنى آخر وهو أنه

ليس لهم أن ينفروا إلى النبيّ (ص) ويتركوا قراهم وبواديهم ويخلوا ديارهم طلبا للتفقّه في الدّين (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) جماعة معدودة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ويتعلّموه ويفهموا حقيقة أوامر الله ونواهيه. فالتفقّه في الدين هو طلب الفقه أي العلم به. ولكلمة (فَلَوْ لا) تعني : هلّا ، وهي للتحضيض إذا دخلت على الفعل كالذي نحن فيه ، وهي لامتناع الشيء لأجل وجود غيره إذا دخلت على الاسم. والمعنى : هلّا ذهب بعض المؤمنين وتعلّموا الدّين وأصوله ليعلموه (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) أي ليخوّفوهم إذا عادوا وليعلّموهم القرآن والسنّة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي عسى أن يخافوا سخط الله فلا يعملون بخلاف ما أمر؟ وقد قال الإمام الباقر عليه‌السلام : كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن تنفر منهم طائفة للتفقّه وتقيم طائفة ، وأن يكون الغزو نوبا.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥))

١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ...) هذا أمر منه سبحانه للمؤمنين بأن يحاربوا الكفّار الذين يلونهم : أي بقربهم وجوارهم. وقيل قصد الأقرب فالأقرب بالنّسب والدار والجار لأنه أمر صدر قبل الأمر بمقاتلة المشركين كافّة. وقيل أيضا هو يعني قتال الأقرب قبل الأبعد ، ودعوة الأدنين قبل الأبعدين إلّا أن يكون بين الجيران موادعة

ومواثيق. وهذا يعني ـ على كل حال ـ أن على أهل كل ثغر الدفاع عن ثغرهم من أجل حفظ بيضة الإسلام وإن كان ابن عباس قد قال : أمروا بقتال عدوّهم الأدنى فالأدنى ، مثل قريظة والنّضير وخيبر وفدك ، وابن عمر قد قال : إنهم الرّوم لأنهم سكان الشام ، والشام أقرب إلى المدينة من العراق ، كما أن الحسن كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم والترك قرأ هذه الآية ... فعليكم أيها المؤمنون أن تقاتلوا من يليكم بالمعاني التي ذكرناها (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدّة وقسوة تبرز شجاعتكم وخشونتكم في ذات الله ، فلا تلينوا لهم بل أروهم العنف لتزجروهم عمّا هم فيه من ضلال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي هو يعينهم وينصرهم فلا يغلبهم أحد معه الله جلّ وعزّ ... ثم عاد سبحانه إلى ذكر المنافقين فقال :

١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي : أن المنافقين الذين ذكرناهم لك ، إذا أنزلت عليك سورة من القرآن (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) فبعضهم يقول لمن يليه على سبيل الاستهجان والإنكار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) أي تصديقا؟ يعني أنهم لم تزدهم شيئا من ذلك. ولهذا فصّل سبحانه وهو العالم بالسرائر : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي زادت المؤمنين يقينا ورسوخا في الإيمان لأنهم كانوا مؤمنين بما مضى نزوله ثم آمنوا بما أنزل الآن (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يتناقلون البشارة وتتهلّل وجوههم فرحا بنزول ما ينزل من الوحي ، والجملة حاليّة كما لا يخفى.

١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) أي المنافقين الذين مرضت قلوبهم بالشكوك (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني كفرا ودنسا ، إلى جانب نفاقهم وريائهم لأنهم يشكّون فيها كما شكّوا فيما قبلها ، وتلك هي الزيادة. وقد سمّى الكفر رجسا ذمّا له ليتجنّبه من كان يعقل ، وعنى بزيادة الكفر ما أضافته هذه السورة من حقدهم وحنقهم فاغتاظوا (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي على حالة الكفر ، وجملة : وهم كافرون ، في موضع نصب على الحال.

* * *

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))

١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً ...) أي : أولا يعلم المنافقون المذكورون ويدركون أنّهم يمتحنون في كل سنة مرة (أَوْ مَرَّتَيْنِ) يعني دفعة أو دفعتين بالأمراض والآلام التي هي نذير بالموت؟ ولفظة : (أَوَلا) هي : واو العطف ، دخلت عليها همزة الاستفهام .. أفلا ينظرون إلى ذلك (ثُمَّ يَتُوبُونَ) أي ويرجعون عن كفرهم (وَلا يَذْكُرُونَ) يتذكّرون نعم الله عليهم ، وضرورة الاعتراف بالمنعم ووجوب شكره وإطاعة أمره؟

١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ...) أي أنهم كلّما نزل وحي (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) تفاخروا في حضرة النبيّ (ص) وتبادلوا النظرات الدالّة على كره ما يسمعون وعلى أنهم يحذرون أن ينكشف نفاقهم لأحد بدليل قوله تعالى كأنهم يقول بعضهم لبعض : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) أي هل لاحظ هذه العلامة الفارقة فيكم أحد من المحدقين بالنبيّ (ص)؟ (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا وخرجوا من المجلس ، وانصرفوا عن الإيمان وعمّا يدعو إليه (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن ذلك وعن كل ما ينتفع به المؤمنون ، وقيل صرفها عن رحمته وثوابه عقابا على انصرافهم عن الإيمان بالنبيّ (ص) وبالقرآن الكريم. وقيل إن الفعل : (صَرَفَ) جاء على وجه الدّعاء عليهم ، كما يقال : فضّ الله فاك ، أو : أطال الله عمرك ، وغيره وهو الأقرب إلى الصواب. والدّعاء من الله على العباد ـ والعياذ بالله منه ـ وعيد لهم وإخبار باستحقاقهم السخط في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقد دعا

عليهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يدركون ولا يفهمون مراد الله بخطابه للناس.

* * *

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) هذا خطاب للبشر عامة ، ثم للعرب خاصة ، ثم لبني إسماعيل على الأخص ، فهو من أنفسكم : أي منكم ، فالأحرى بكم أن تؤمنوا به وتصدّقوه خصوصا وقد عرفتم مولده ومنشأه وعاشرتموه صغيرا وكبيرا ، ولم تطّلعوا على شيء فيه يوجب النقص. وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنه من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. وعن ابن عباس عن النبيّ (ص) ـ كما في المجمع ـ أنه قال : ما ولد لي من سفاح أهل الجاهلية شيء ، ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام. فقد منّ الله سبحانه عليكم أيها الناس بكون رسوله محمد (ص) منكم ، وأنه (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي شديد عليه عنتكم وصعب عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإسلام ، لأنه أيضا (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي حريص على الكافر أن يؤمن لتشمله رحمة الله ويخلص من سخطه وعذابه ، وهو إلى جانب حرصه العامّ الشامل لجميع الناس (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تشملهم رحمته ورأفته التي هي أشد من الرحمة ... وجميل ما ذكره صاحب المجمع رحمه‌الله من أن الله تعالى لم يجمع لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلّا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه قال : بالمؤمنين رؤف رحيم ، وقال عن نفسه : إن الله بالناس لرؤوف رحيم.

١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ ...) كان الخطاب للبشر في الآية

السابقة ، وهو في هذه الآية الشريفة خطاب لرسوله (ص) يقول له فيه : إذا انصرف هؤلاء عن الحقّ وعن اتّباعك ، وأعرضوا عمّا تدعوهم إليه من الإقرار بوحدانيّة الله وبصدق نبوّتك ، فقل حسبي الله : أي هو كافيّ ، ويكفيني رضاه وعنايته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وما من ربّ سواه يستحق العبودية (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وكلت إليه أموري ووثقت به واعتمدت عليه وفوضت أموري إليه لأنه هو ربّي (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وربّ كل شيء فعلا ، ولكنه ذكر العرش بالخصوص هنا تفخيما لشأنه عزّ وعلا ، لأن العرش كناية عن الملك والسلطان في السماوات والأرضين.

وقد قيل إن هذه الآية هي آخر آية نزلت من السماء. وقال قتادة : آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان ، خاتمة براءة.

* * *

سورة يونس

مكية إلّا ثلاث آيات قال ابن عباس وقتادة هي : فإن كنتم في شك ممّا أنزلنا إليك ... إلى آخرهن. وهي مائة وتسع آيات.

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

١ ـ (الر ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : قد تكلّمنا عن معاني الحروف المعجمة الواقعة في أول السور ، فيما مضى. والآية : هي العلامة التي تدل على مقطع من الكلام في جهة مخصوصة من القرآن الذي هو مفصّل بالآيات. وقد أضيفت (آياتُ) إلى الكتاب لأنها أبعاض منه كما أن السورة الواحدة بعض منه. فالمعنى : أن الآيات التي جرى ذكرها ، أو يجري نزولها على محمد (ص) هي آيات من الكتاب : أي القرآن الحكيم : يعني المحكم من الباطل الذي لا اختلاف فيه. و (تِلْكَ) أي هذه السور هي من ذلك الكتاب الذي ربما كان اللوح المحفوظ الذي سمّاه حكيما لأنه ينطق بالحكمة ويؤدي إلى الصواب في العلم والمعرفة.

٢ ـ (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ...) هو استفهام إنكاري ، يعني : هل كان وحينا المنزل على رجل من الناس مدعاة لتعجّبهم؟ وقد قيل : عنى بالناس هنا أهل مكة لأنهم قالوا : نعجب أن الله سبحانه لم يجد رسولا إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب؟ والمقصود بهذه الصيغة من السؤال هو : لماذا يعجبون أن أوحينا إلى رجل منهم؟ مع أن هذا ليس بموضع تعجّب ، بل هو الشيء الذي يقرّره العقلاء ، لأنه سبحانه لمّا خلق الناس وأكمل عقولهم وتكفّل برزقهم كلّفهم بمعرفته وأداء شكره فوجب ـ حكما وحكمة ـ أن يبعث من يوحي إليه (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) خوّفهم بالعذاب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) عرّفهم الخبر السارّ المفرح وهو (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قيل إن القدم اسم للحسنى من العبد ، واليد اسم للحسنى من السيّد للفرق بين هذا وذاك. فبشّر المؤمنين يا محمد بأن لهم أجرا حسنا ومنزلة سامية بما قدّموا من صالح الأعمال وأنهم سينالون شرف الخلود في نعيم الجنة إكراما لما قدّموه من الطاعات. وعن الإمام الصادق عليه‌السلام وأبي سعيد الخدري أن قدم الصدق هي شفاعة محمد (ص) ، وجملة : أن أنذر ، في موضع نصب ، والتقدير : أوحينا بأن أنذر ، فحذف الجارّ فوصل الفعل. وكذلك جملة : أنّ لهم قدم صدق ، فموضعها نصب بالفعل : وبشّر .. (قالَ الْكافِرُونَ) المنكرون : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي أن النبيّ (ص) يأتي بسحر يخفي الحقيقة بالحيلة ، ويظهرها على غير وجهها ، حتى يتوهّم الناس أنه يأتي بالمعاجز. وقد قالوا ذلك لعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن ليعارضوه به.

* * *

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا

تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

٣ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن خالقكم ومبتدعكم ومصرّف أموركم ومدبّر شؤونكم الذي يجب عليكم عبادته هو الله الذي خلق السّماوات والأرض أيضا ، واخترعهما وأنشأهما بما فيهما من عجائب الصّنع وبدائع الحكمة والتدبير والتنظيم (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا تزيد ولا تنقص مع أن قدرته تسع خلقهما دفعة واحدة ، فهو قادر على إيجاد ذلك كله في أقلّ من لمح البصر ، وقد خلق ذلك في وقت محدّد منظّم إبعادا له عمّا يتوهّمه المتوهّمون من الصّدقة والاتّفاق في وجود هذه الكائنات المدهشة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فسرنا ذلك في سورة الأعراف ، ومعناه أنه أخذ بإنشاء التدبير لما كوّنه مع أنه لا يشغله شيء عن شيء ، فهو (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقدّره على الوجه الأكمل اللائق به ويحكم عواقبه (ما مِنْ شَفِيعٍ) أي ليس من متوسط بالشفاعة لأحد (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي بعد أمره والترخيص له بذلك. وقد ذكر ذلك وإن لم يجر ذكر الشفعاء هنا ، لأن عبدة الأصنام كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا إلى الله ، فبيّن أن الشفيع لا يشفع إلّا برخصته ، والأصنام لا تعقل فكيف تكون شفيعة؟ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي أن الموصوف بتلك الصفات من الربوبيّة والخلق والجبروت ، هو إلهكم المستحق للعبادة (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تشركوا معه شيئا كالأصنام التي لا تسمع ولا تعقل ولا تملك ضرّا ولا نفعا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : هلّا تتذكّرون وتتفكّرون فيما يخبركم به؟

٤ ـ (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ...) أي : إلى الله الذي وصفته الآية السابقة مرجعكم الّذي هو إمّا معادكم وإمّا موضع رجوعكم يوم حشركم جميعا في

صعيد واحد (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي : أنه سبحانه وعد بذلك عباده وعدا صادقا. فلفظة (وَعْدَ) منصوبة على المصدر بإضمار الفعل (وَعْدَ) و (جَمِيعاً) منصوبة على الحال بتقدير : إنه يرجعكم إليه مجموعين ، كما أن لفظة (حَقًّا) منصوبة على المصدر ، أي حقّ ذلك حقّا كما بيّناه في مكان آخر (إِنَّهُ) جلّ وعلا (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ينشئه ابتداء وعلى غير مثال (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موته كما كان في إبّان الحياة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ليعطيهم ثواب أعمالهم الحسنة (بِالْقِسْطِ) أي العدل الذي لا ينقص من أجر أعمالهم شيئا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء حارّ غاية الحرارة من شدة نار جهنّم (وَ) لهم (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع غاية الوجع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم وجزاء لهم عليه.

* * *

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

٥ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ...) أي أن هذا المتوحّد في الربوبيّة والخلق والتدبير هو الذي جعل الشمس ضياء يشرق بها النهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) ينير الليل بما يستمدّه من الشمس لأنه قبالتها. والضياء لغة وفعلا أبلغ من النور. فقد خلق القمر مرآة تنعكس عليه أشعة الشمس ليردّها بدوره إلى الأرض ليلا (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أمكنة ينتقل من واحدة منها إلى واحدة بحسب الفصول الطبيعية المنتظمة ، وجعله كذلك (لِتَعْلَمُوا) أي

لتعرفوا (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي أول كل شهر وآخره ، وتمام كل سنة وانقضاءها. والقمر والشّمس ـ فعلا ـ أعظم آيتين لله تعالى تدلّان على وحدانيّته وقدرته من حيث خلقهما وجعل الضياء الذي لا ينفد فيهما ، ودورانهما وقربهما وبعدهما بحسب المنازل ، ومن حيث مشارقهما ومغاربهما ، وبالنظر للخسوف والكسوف ، ولتأثيرهما في الحر والبرد وحياة الإنسان والحيوان والنبات وإخراج الثمار والمد والجرّ وغير ذلك من عجيب الصّنع ودقيق الحكمة ، ف (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الخلق العجيب (إِلَّا بِالْحَقِ) إلّا شاهدا بحقّ الربوبيّة وبحقّ كونه آية دالّة على الوحدانيّة ، والله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يشرحها ويوضحها واحدة واحدة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعونها ويدركون أهميّتها ويعطونها حظّها من الفهم والتدبّر والتأمل في عظمتها. وما أجمل ما أورده صاحب المجمع تغمّده الله برحمته من أن قوله تعالى : (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) ، يعني التثنية ، أي قدّر القمر ، وقدّر الشّمس ، منازل. غير أنه وحّده للإيجاز اكتفاء بالمعلوم كما مرّ ذكر أمثاله. وقد ورد ذلك في الشعر كقول أحدهم :

رماني بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ، ومن جول الطّويّ رماني

أي كنت بريئا مما رماني به ، وكان والدي بريئا ممّا رماه به ، فالشّمس تقطع منازل كالقمر في الشهر وفي الفصل كما لا يخفى على من عنده إلمام بذلك ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

٦ ـ (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) أي : في اختلاف تعاقب اللّيل والنهار على ما تقتضيه الحكمة في الآفاق من حيث علاقة تعاقبهما وعلاقتهما بالأفلاك والكواكب السيارة والثابتة ، وفي فعل الله تعالى في ذلك كله ـ إن فيه (لَآياتٍ) براهين ودلالات وحججا على وحدانيته وحكمة صنعه (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) لجماعة يجتنبون المعاصي ويخافون العقاب ويعملون بأوامر الله تعالى ، وينتهون عمّا نهى عنه. وقد أورد ذكرهم بعد ذكر هذه الآيات

العظمى لاختصاصهم بالانتفاع بها وتفكّرهم بكونها أدلة مقنعة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨))

٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...) الّذين لا يرجون لقاءنا ، أي : المنكرون للبعث الكافرون بالثواب والعقاب ، فلقاؤه عزوجل هو المثول للحساب الذي رفضوا الاعتراف به (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي قنعوا بها فلا يعملون إلا لها ولا يبذلون جهدا إلا في سبيلها مع قلّة بقائهم فيها ، فهم لا يرجون شيئا بعدها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) يعني سكنوا إليها وركنت قلوبهم لمتعتها ونعيمها الزائل بقلوبهم وتصرّفاتهم (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي الذين هم في غفلة عن حججنا ودلائلنا.

٨ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ ...) أي مالهم ومصيرهم ومقرّهم نار جهنّم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) جزاء معاصيهم وبسبب كفرهم وعنادهم ، وبما اكتسبوا من السيئات.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) بعد أن قرّر سبحانه مصير المنكرين للبعث والحساب ، ذكر المؤمنين الذين صدّقوا به وبرسله ثم أضافوا إلى ذلك التصديق عمل الطاعات والخير ، وبيّن أنهم (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) يدلّهم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورهم في الجنّة ومن بين أيديهم وهم يتنعّمون غدا (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وذلك جزاء إيمانهم وعملهم الصالح. وقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) ، هو كقوله لمريم ابنة عمران عليها‌السلام : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) ، أي نهرا صغيرا ، فإن ذلك لا يعني أن النهر تحتها وهي تقعد عليه ، ولكنه أراد أن النهر بين يديها وفي متناولها ، وكذلك الأنهار التي هي تحتهم تكون تحت قصورهم في الجنة وفي بساتينهم وحدائقهم.

١٠ ـ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ ...) أي أن دعاء المؤمنين في الجنة وكلّ عملهم لا يتعدّى أكثر من قولهم : سبحانك يا الله ، إذ لا تكليف في الجنة ولا صوم ولا صلاة ولا فريضة ، فهم إذا تعجّبوا من نزول نعمة جديدة ، أو إذا رأوا ما اختصّهم الله تعالى به قالوا : سبحان الله لا على وجه العبادة بل تلذّذا بالتّسبيح (وَتَحِيَّتُهُمْ) التحية : التكرمة ، يعني أن السلام الذي يأتيهم منه سبحانه ، أو التحية الذي يحيي بعضهم بعضا بها ، هي : سلام. وكذلك تحية الملائكة لهم ، ومعنى ذلك ـ لو قاله أيّ ممّن ذكرنا ـ : سلمتم ممّا ابتلي به أهل النار (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) الدعاء الأخير عندهم : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهذا آخر كلّ كلام لهم ، لا أنه آخر كلمة يقولونها ولا يتكلّمون بعدها بشيء. والخلاصة : أن مفتتح كلامهم في كل مناسبة التسبيح وآخره الحمد ... أما لفظة (أَنِ) في : أن الحمد لله ، فهي (أَنِ) المخفّفة من (أَنِ) الثقيلة ، وتقدير الكلام : أنّه الحمد لله ربّ العالمين. ولا يجوز أن تكون (أَنِ) زائدة هنا كما قرّر النحويون.

* * *

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

١١ ـ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ ...) أي لو أن الله سبحانه يعجّل في استجابة دعاء النّاس على أنفسهم بالشرّ ، أو على أولادهم وأهلهم حين يتضجّرون من شيء ويقولون : أمات الله فلانا ، ولعن الله أبا فلان ، ولا بارك الله في رزق فلان ولا في عمره (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) يعني كما يعجّل لهم إجابة أدعيتهم في طلب الخير إذا استعجلوه ـ لو فعل ذلك (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لأهلكهم وفرغ من تدميرهم وتقويض عيشهم لمجرّد أدعيتهم بالسوء ، ولكنه يمهل الإجابة ويفسح لهم في مجال التوبة رحمة منه وتجاوزا. وقيل معناه : ولو يعجّل الله للناس العقاب الذي يستحقونه بمعاصيهم ، كما يستعجلون هم خير الدّنيا ، لأفنيناهم بإجابة دعائهم على أنفسهم وعلى غيرهم بالشّر (فَنَذَرُ) نترك وندع (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) الذين لا يصدّقون بالبعث ، نذرهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي يتحيّرون في كفرهم وتماديهم في الظلم. والعمه هو شدة الحيرة ، نعوذ بالله منه.

١٢ ـ (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا ...) أي إذا أصابه البلاء والمشقة أو المحنة في الدنيا ، دعانا وابتهل إلينا وتضرّع (لِجَنْبِهِ) وهو مضطجع نائم على جنبه (أَوْ قاعِداً) أو جالسا (أَوْ قائِماً) أو واقفا ، وفي كل حال من هذه الأحوال ، يعني أنه يلحّ في الدعاء لكشف ضرّه وسؤال العافية منه (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) أي عند ما أزلنا عنه ذلك الضرّ الّذي أصابه

ومنحناه العافية (ضُرٍّ) استمرّ على حاله الأولى في إعراضه عن شكرنا وحمدنا (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كأنّه ما دعانا لكشف ضرّه ، وكأنّ الضرّ قد زال دون إجابتنا (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي على هذا الشكل أظهر التزيين من قبل الشيطان وجنوده لمن لا يعرفون قيمة أنفسهم ولا يحسبون حساب مصيرهم ، زيّن لهم عملهم هذا من قبل أنفسهم أو من قبل الشيطان ، أو بعضهم من قبل بعض ، فمنحوا العافية بعد البلاء ولم يشكروا مانحها ولم يذكروا حسن صنيع واهبها. ولا يخفى أن في هذه الآية حثّا على الشكر ، كما أن فيها دعوة إلى شكر النعمة بعد البلاء ... ونلفت النظر إلى أن كلمة : (لِجَنْبِهِ) في موضع نصيب على الحال ، وتقدره : دعانا نائما أو منبطحا لجنبه. أما الكاف في (كَذلِكَ) فهي منصوبة على أنها مفعول ما لم يسمّ فاعله ، والتقدير : زيّن للمسرفين عملهم مثل ذلك (كَذلِكَ).

* * *

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

١٣ ـ (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) القرون : جمع قرن ، وهو أهل كل عصر من العصور ، وقد سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض. فالله تعالى قد أهلك أهل جميع العصور التي سبقتكم بأنواع العذاب لأنها عصت أوامر ربّها ، وهذا لا يعني أنه أماتهم موتا طبيعيّا. ـ أهلكناهم (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالعصيان والبقاء على الشّرك (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي وكانت قد أتتهم أنبياؤهم بالدلالات الواضحة والبراهين القاطعة (وَما

كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : وفي معلومنا السابق ما كانوا ليؤمنوا لو أبقيناهم ، لا بالرّسل ولا بحججهم فأهلكناهم. ويؤخذ من هذه الآية الشريفة وجوب إبقاء الكافر وعدم إهلاكه إذا كان المعلوم من حاله أنه يؤمن في المستقبل (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي ، وبمثل ذلك نعاقب المجرمين بحق أنفسهم وبحق غيرهم فنهلكهم إذا علمنا أنهم لا يصطلحون ولا يؤمنون.

١٤ ـ (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) الخطاب لأمّة محمد (ص) فقد جعل الله المسلمين يخلفون الأمم التي أهلكها الله بظلمها ، وأسكنهم الأرض من بعدها ، وحذّرهم ، فقال : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي لنرى عملكم ، وهل أنه يقع مثل عمل الأمم السالفة وتقتدون بهم فتستحقّون العذاب مثلهم؟ وفي كلمة : (لِنَنْظُرَ) معنى دقيق يجب أن لا يفوتنا ، وهو أنه سبحانه يعامل العباد معاملة المختبر الذي كأنّه لا يعلم ما كان وما يكون ، فينتظر حتى يقع الفعل من العبد ، وهذا منتهى العدل لأنه يلقي الحجة على العصاة ويجازيهم على ما يظهر منهم وعلى ما لا يستطيعون إنكاره ، والله جلّ وعلا ينظر بلا عين ولا يجوز عليه النظر بمفهومنا البشري ، وإنما استعمل ذلك على سبيل المجاز.

أمّا لفظة : (كَيْفَ) بمحلّها النصب بقوله : تعملون وتقدير الجملة : لننظر أخيرا تعملون أم شرّا ، ولا يجوز أن يكون مفعول الفعل (لِنَنْظُرَ) لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده.

* * *

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ

شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

١٥ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ...) الضمير في (عَلَيْهِمْ) يعود لمشركي قريش لأنهم المعنيّين بهذه الآية الكريمة. فقد نزلت في خمسة منهم هم : عبد الله بن أمية المخزومي ، والوليد بن مغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هاشم. فقد اجتمعوا وقالوا للنبيّ (ص) : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام أو بدّله. فهؤلاء وأضرابهم إذا قرئت عليهم آياتنا الموحاة إلى رسولنا (ص) (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) من أمثال هؤلاء الكافرين بالبعث والحساب : (ائْتِ) جيء (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) الذي تتلوه علينا (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما هو عليه من عيب الأصنام وترك عبادتها ، ليخلّي بينهم وبين ما هم عليه من الكفر ، ف (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المعاندين : (ما يَكُونُ لِي) أي ليس له حقّ (أَنْ أُبَدِّلَهُ) أغيّره (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي من جهة نفسي ، فإن التلقاء هو جهة المقابلة للشيء. وقد تستعمل (تِلْقاءِ) ظرفا ، فيقال : هو تلقاءك ، أي : قبالتك. فالقرآن الكريم معجز لا أقدر على تبديله والإتيان بمثله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) إن : هنا بمعنى : ما. أي : ما أتّبع إلا الوحي كما ينزل (إِنِّي أَخافُ) أخشى (إِنْ عَصَيْتُ) في اتّباع غيره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عذاب يوم القيامة الذي ليس أعظم منه ، والعياذ بالله منه. ومن استدلّ بهذه الآية على أن نسخ القرآن بالسنّة لا يجوز فقد ابتعد عن دقيق فهم معنى النسخ ، لأن السنّة قول النبيّ (ص) وهو لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلّا وحي يوحى ، فما

يقوله من سنّته ليس تبديلا ولا نسخا للقرآن ، بل هو منزل عليه من الله تعالى وإن كان لا يعتبر قرآنا.

١٦ ـ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ... قُلْ) يا محمد لهؤلاء : (لَوْ شاءَ اللهُ) قضى وأراد (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) ما قرأت آيات هذا القرآن عليكم (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) ضمير الغائب في (أَدْراكُمْ) راجع له سبحانه والجملة معطوفة على (شاءَ) أي : ولا أعلمكم الله به (فَقَدْ لَبِثْتُ) أقمت ومكثت (فِيكُمْ) بينكم (عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي مدة طويلة قبل نزول القرآن عليّ فما ادّعيت رسالة ولا تلوت وحيا حتى أكرمني الله عزوجل برسالته وبتنزيل قرآنه عليّ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تتفكّرون بعقولكم ، وينبغي لكم أن تعقلوا وأن تعلموا حقيقة ذلك ...

١٧ ـ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) أي ليس أحد أظلم ممن اخترع الكذب على الله وافتراه عليه ، والفرية هو القول في الإنسان بما ليس فيه يخترعها المفتري اختراعا ، ومنتهى الجرأة على الله تعالى إذا افترى الإنسان عليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) رفضها واعتبر حججه مردودة بكونها سحرا لا معاجز (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) من المؤكّد عدم نجاح المشركين في شركهم وفي دعاواهم وافتراءاتهم.

ولو قيل : أليس من ادّعى الرّبوبيّة أعظم ظلما ممّن يدّعي النبوّة مثلا ، أو ممّن يفتري على الله كذبا؟ فالجواب أن من افترى على الله كذبا فقد كفر بالله تعالى ودخل فيه من ادّعى الرّبوبية وغيرها من عقائد الكفر ، فكأنّه لا أظلم من الكافر في كل حال.

* * *

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا

عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

١٨ ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ...) أي أن الكفار يعبدون الأصنام. و (مِنْ دُونِ اللهِ) يعني : غيره. فهم يعبدون الشيء الذي لا يدفع عنهم ضرّا ولا يجلب لهم نفعا ، فلا هي تضرهم إذا تركوا عبادتها ، ولا هي تنفعهم إن عكفوا عليها (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) أي يدّعون أنهم بعبادتهم لها تقرّبهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده ، وأنه هو أذن لهم بعبادتها وسيشفّعها بهم يوم القيامة ، وتوهّموا ـ بعقيدتهم القبيحة ـ أن عبادة الله من خلالها تكون أشد تعظيما لله ، فاجتمع عندهم قبح القول وقبح العمل ف (قُلْ) لهم يا محمد : (أَتُنَبِّئُونَ) تخبرون (اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) بشيء لا يعرفه من عبادتكم للأصنام والأوثان ، أو بما لا يعرفه ممّا (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فهو خالقهما والعالم بما فيهما ، ولا تخفى عليه خافية من أمورهما (سُبْحانَهُ) تقديسا له وتنزيها (وَتَعالى) سما وارتفع وعلا (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن أن يكون له شريك يستحق العبادة.

وقد ذكر صاحب المجمع قدس‌سره أنه لو قيل : كيف ذمّهم على عبادة الصنم الذي لا ينفع ولا يضر ، مع أنه لو نفع وضرّ لكان لا يجوز أيضا عبادته؟ لقلنا : عبادة من لا يقدر على أصول النّعم وإن قدر على النفع والضر إذا كان قبيحا ، فمن لا يقدر على النفع والضر أصلا من الجماد ، تكون عبادته أقبح وأشنع ، فلذلك خصّه بالذكر. ونعم ما قال.

* * *

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

١٩ ـ (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...) قيل : إن الناس كانوا أمة واحدة من حيث الفطرة على الإسلام والتسليم لله بالوحدانية منذ كانوا ، ثم اختلفوا في الأديان واعتناق العقائد. وقيل كانوا جميعهم على الحق وعلى دين واحد ثم اختلفوا ، ثم قيل ـ عن ابن عباس وجماعة غيره ـ إنهم كانوا أمة واحدة مجتمعة على الشّرك والكفر ، أي أنهم اختلفوا بعد نزول الأديان ، والأوّلان أقرب للمعقول لأن الدين والإسلام والعقيدة نزلت مع آدم عليه‌السلام ولم يترك الله سبحانه عباده في فترة ، وما كان ليذرهم بلا دين لطفا بهم وعدلا في حكمه عليهم أولهم ... (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هي أنه لا يعاجل العصاة بالعقاب وينعم عليهم بالتأني إذ سبقت رحمته غضبه وأخذ على نفسه الرأفة بعباده ، فلو لا ذلك (لَقُضِيَ) أي فصل (بَيْنَهُمْ) وحكم لهم أو عليهم (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في مواضع خلافهم العقائدي والمعيشي ، وذلك بأن يهلك الكفار وينجي المؤمنين ، ولكنه أخّرهم إلى يوم القيامة وأجّل حسابهم زيادة في الإنعام عليهم.

٢٠ ـ (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) يعني هؤلاء الكفار يتمنّون أن تنزل آية على محمد (ص) من ربّه ، أي آية تلزم الخلق بتصديقه إلزاما وتضطرّهم إلى الإيمان اضطرارا فلا يلزمهم بعدها نظر ولا استدلال. وهم لم يطلبوا منه معجزة تدل على صدقه ولا حجة تقنعهم بصواب ما جاء به فقد أتاهم بذلك مكرّرا من غير أن تلجئهم تلك الآيات للإيمان إلجاء ودون أن تدفعهم إلى التصديق دفعا غير اختياريّ ، فإن التكليف يمنع من الاضطرار ، ويقتضي المعرفة والعلم بضرورته ليكون مجلبة للقربة والثواب (فَقُلْ) يا محمد لهؤلاء المتعنّتين : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي ما غاب عنّا علمه فلا يغيب عن الله تبارك وتعالى ، بل هو يعلم الغيب وما في الأمور من

المصالح قبل كونها وبعد كونها ، ويعلم ما في إنزاله إصلاح فينزله ، كما أنه يعلم ما ليس في إنزاله إصلاح فلا ينزله ، وعلى هذا الأساس لا ينزل الآية التي اقترحتموها برحمته وحسن تدبيره (فَانْتَظِرُوا) ما يصيبكم من عقابه في الدنيا بالقهر والقتل ، ومن عقابه في الآخرة بعذاب النار ودخول جهنّم (إِنِّي) أنا أيضا (مَعَكُمْ) منتظر (مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وقد وعدني النّصر عليكم وأنا انتظر إعزاز الدّين وإذلالكم.

* * *

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١))

٢١ ـ (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ ...) هذا إخبار بعموم يراد به الخصوص ، أي إذا أذقنا الكفار ـ لا الناس جميعا ـ رحمة منّا ، ورأفة تشملهم من بعد أن يكونوا قد أصيبوا بضرّاء : ببلاء. يعني إذا متّعناهم براحة ونعيم بعد بلاء وشدّة (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) يعني : فاذا هم يحاتلون لانكار آياتنا استهزاء وتكذيبا (قُلِ) لهم يا محمد : (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) يعني هو سبحانه أقدر جزاء على المكر ، وما يأتيهم من عقابه لهم هو أسرع من مكرهم وكيدهم ، ومكره الّذي يردّ به مكرهم خفيّ يأتيهم من حيث لا يشعرون ، وهذا هو معنى مكره جلّ وعلا ، إذ يأخذهم من حيث لا ينتظرون. فقل لهم ذلك وقل أيضا : (إِنَّ رُسُلَنا) أي الملائكة الحفظة (يَكْتُبُونَ) يسجّلون ويدوّنون (ما تَمْكُرُونَ) ما تدبّرون من حيل وسوء تصرّف. وفي الآية غاية الزجر والتهديد للكفار ، لأنه من جهة يحفظ مكرهم ويسجّله عليهم ، ومن جهة ثانية هو أقدر على جزائهم وأسرع في الإيقاع بهم حين يمكر بهم كما مكروا ، أي حين يرد مكرهم بمكر لا يردّ. أما جواب (إِذا) فهو في (إِذا) الثانية التي في الآية لكونها بمعنى الجملة لما

فيها من معنى المفاجأة ، وهي ظرف مكان هنا ، وهي كقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ). والتقدير : إذا أذقنا الناس رحمة مكروا.

* * *

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

٢٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) أي أنه تعالى هو الذي يمكّنكم من المسير في هذا وذاك ، وذلك بما خلق لكم من الوسائل والآلات التي سخرها لتركبوها ذهابا من الدوابّ ووصولا إلى السيارة والطائرة والباخرة والرياح ، وهي جميعها تحمل أثقالكم وتجري بكم في مختلف جهات أسفاركم (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي لحين كونكم في السّفن ـ وقد خاطب راكبي البحر إذا كانوا من راكبيه ـ (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي ومشت السفن براكبيها جارية كجري الماء. وقد عدل هنا عن الخطاب إلى الإخبار عن الغائب تصرّفا في الكلام بمعجز بلا غيّ لا أروع ولا أجمل منه في هذه اللفتة القرآنية البديعة ، إذ إنه إخبار للغائب يجوز أن يكون خطابا لمن كان في تلك الحال وإخبارا لغيره من الناس .. أجل حتى إذا ركبوا الفلك ، وجرت بكم (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي ليّنة عليلة يرون نسيمها طيبا (وَفَرِحُوا

بِها) أي سرّوا بتلك الريح لأنها تساعدهم في السير نحو هدفهم ، أو أنهم فرحوا بالسفينة وسيرها الرصين نحو مقصودهم ، ف (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي ضربت السفينة ريح عصفت عليها بهبوبها المخيف ، ثم ضربت الريح سطح البحر فهاج وماج (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي اضطرب البحر وجاء الركاب الموج المتلاطم من جميع الجهات (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) اعتقدوا أن الموج طوّقهم والهلاك أحدق بهم وأيقنوا بالغرق ف (دَعَوُا اللهَ) ابتهلوا إليه ورفعوا الأيدي ضارعين ليكشف عنهم مخاوفهم ، وظهروا (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي فعلوا ذلك على وجه الإخلاص في العقيدة ولم يذكروا وثنا ولا صنما لعلمهم بأنه لا ينفع ولا يغني شيئا ، بل يلجأون إليه وحده : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا ربّنا (مِنْ هذِهِ) الورطة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لنصيرنّ في جملة من يشكرك على نعمتك وفضلك.

ويلاحظ أن قوله تعالى : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) ، هو جواب قوله : (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ).

وقوله : (دَعَوُا اللهَ) ، جواب قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ).

وقوله : (جَرَيْنَ بِهِمْ) : إخبار عن غائب بعد ابتداء الكلام بالخطاب كما أشرنا ، لأن كل من أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز له أن يردّه إلى الغائب. وقد قال كثيرّ عزّة :

أسيئي بنا ، أو أحسني ، لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت

٢٣ ـ (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ ...) أي : فلمّا خلّص الله تعالى ركاب السفينة التي كادت تبتلعها الأمواج من كارثة الغرق التي أوشكت أن تحلّ بها ، إذا بهم يبغون : تقديره : فلمّا أنجاهم بغوا وعملوا بالباطل وارتكبوا المعاصي واشتغلوا بالفساد بين المسلمين وبظلم الأنبياء ، فلسان حالنا يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أن بغيكم فيما بينكم إنما تأتونه لحبكم الحياة العاجلة وإيثارا لها

على الطاعات التي تقرّب إلى الله سبحانه (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي أن مالكم في الآخرة إلينا (فَنُنَبِّئُكُمْ) نخبركم يومها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بعملكم في دار الدّنيا لأننا سجّلناه عليكم وحفظناه. وفي الآية الكريمة تهديد لا يخفى لمن مرّ في مثل هذه الحالة ، ولغيره.

* * *

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

٢٤ ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ ...) لمّا رغّب سبحانه في الآخرة وزهّد في الدنيا في الآيات السابقة ، أتبع ذلك بصفة هذه وتلك ، فشبّه سرعة الفناء في الحياة الدّنيا بالماء الذي أنزله (مِنَ السَّماءِ) مطرا مجتمعا ما لبث أن توزّع (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) لأن المطر يتخلّل النبات ويمتزج به ويعذّيه ويدخل في تركيبه ويصير جزءا فيه جميعه (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من حبوب وفواكه وخضار ، ومما ترعاه (الْأَنْعامُ) كالعشب المختلف في المراعي (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي بهجتها وحسنها بأنواع النباتات وألوانها (وَازَّيَّنَتْ) يعني تزيّنت وتزخرفت في عيون الناظرين إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أي أيقن مالكوها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) مستطيعون أن ينتفعوا بها وأن تدوم لهم في بهجتها الحاضرة ، حينئذ (أَتاها أَمْرُنا) جاءها قضاؤنا الذي حتمناه لإتلافها وجاءها عذابنا من برد ومطر أو ريح وحر (فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي صيّرناها محصودة نقتلعها من الأرض يابسة جافّة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأنها لم تكن قائمة غنّاء زاهية في أمسها وكأنها

لم توجد من قبل وغني بالمكان أقام به ، و (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وبمثل ذلك المثل نبيّن حججنا للمعتبرين.

ففي هذه الشريفة شبّه سبحانه الدنيا وبهجتها بالماء الذي ينتفع به ثم يذهب ويغور في الأرض ويتغذّى به الحيوان والنبات ، ثم بالنبات وزهوه وازدهاره وسرعة يباسه وذهابه ، أي ببهجة سريعا ما تزول وتفنى كما تفنى الحياة بالموت ، فألفت النظر إلى توقّع زوالها وعدم الاغترار بها والعمل لدار البقاء.

* * *

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

٢٥ ـ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ...) أي أنه جلّ وعلا يخلق الخلق ويلطف به ويرسل الرّسل مبشّرين ومنذرين ليدعوهم إلى داره الباقية ، فقد قيل إن السلام هو الله تعالى ، ودار السلام هي الجنّة التي أعدّها للمطيعين ، وقيل إن دار السلام هي التي يسلم فيها المؤمنون من الآفات. والجنة هي دار السلام ، لأن تحيّة أهلها فيها السلام ، ولأن الملائكة تسلّم عليهم ، ولأن ربّهم جلّ وعلا يسلّم عليهم أيضا. فهو يدعو الناس إلى دار السلام (وَيَهْدِي) بواسطة رسله (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى طريق الصلاح

الموصلة إلى الدين الحق بنصب الأدلّة للمكلّفين ، وقيل يهدي عباده الصالحين إلى طريق الجنة.

٢٦ ـ (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ...) الكلام متصل بين الآية وسابقتها ، أي قد أعدّ سبحانه في دار السلام للمحسنين ممّن أطاعوا الله في الدنيا جزاء حسناهم ، مع زيادة من منازل اللذّات والنعيم البالغة لغاية الكمال الذي لا ينتظرونه. وقيل إن الزيادة التي يتفضّل بها عليهم هي ما يفوق الثواب الذي تستحقّه طاعاتهم كقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، وقيل هي أنه ـ كرما منه ـ لا يحاسب عباده على نعم الدّنيا كما عن الباقر عليه‌السلام ، وقيل غير ذلك (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) والرّهق لغة لحاق الأمر ، ومنه راهق الغلام أي لحق بالرجال ، ورهقت الذلة الوجه لحقت به ، والقتر الغبرة. فهم لا يصيب وجوههم اغبرار ولا كابة لغمّ أو همّ ولا تغشاها ذلة أي كسوف وهوان وخجل من حالة مزرية ليس فيها عزّة. وفي المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من عين ترقرقت بمائها إلّا حرّم الله ذلك الجسد على النار ، فإن فاضت من خشية الله لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلّة (أُولئِكَ) أي الّذين أحسنوا ، هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مضى تفسيره.

٢٧ ـ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) أي : و (الَّذِينَ) ارتكبوا المعاصي واكتسبوها ، فإن عدلنا قضى بأن (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) فهم يجزون بحسب ما يستحقون على أعمالهم دون زيادة ، لأن الزيادة ظلم والله تعالى لا يظلم أحدا ، فهكذا نعاقبهم (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يلحقهم هوان لأن العقاب بحد ذاته إذلال ، و (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي ليس لهم مانع ولا دافع يدفع عقاب الله تعالى عنهم ، وتراهم في الآخرة (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي كأن وجوههم غطّيت بظلمة الليل لسوادها ولكونها كالحة غبراء. وهو تشبيه يرسم صورة وجوههم الكئيبة

بأبدع بيان ، و (أُولئِكَ) المسيئون هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) واضح المعنى وعرضنا له سابقا.

أما (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) فارتفع على أنه مبتدأ وخبره : بمثلها ، على كون الباء زائدة ، وهي مثل : وجزاء سيئة سيئة مثلها. أو أن الجارّ والمجرور متعلّقان بخبر محذوف ، والتقدير : جزاء سيئة كائن بمثلها. وقيل أيضا : ارتفع (جَزاءُ) على أنه فاعل لفعل مضمر بتقدير : استقرّ لهم جزاء سيئة بمثلها ، ولوضوح المعنى حذف (الفعل) ثم حذف (لَهُمْ) لأن الكلام يدل عليهما. ثم قيل أيضا : جزاء : مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : لهم جزاء ... أو جزاء سيئة بمثلها كائن.

* * *

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

٢٨ ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ...) نحشرهم : أي : نجمعهم يوم الحشر والجمع كما سمّاه سبحانه وتعالى. والمعنى : أننا يوم نجمعهم من كل حدب وصوب إلى موقف القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) نخاطبهم بواقع الحال ونترفع عن مكالمتهم لأنهم أشركوا معنا غيرنا : (مَكانَكُمْ) أي الزموا مكانكم ، وقفوا واثبتوا فيه (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ومعكم شركاؤكم من الأوثان والأصنام لأننا حشرناها معكم ، فإننا سنسألكم ونسألها. ولفظة : (جَمِيعاً) نصبت على الحال ، أي : نحشرهم مجموعين. أما لفظة :

(مَكانَكُمْ) فقال الزجّاج : منصوب على الأمر ، والمعنى : انتظروا مكانكم حتّى يفصل بينكم ، والعرب تتوعّد فتقول : مكانك! وقال صاحب المجمع رحمه‌الله : الصحيح عند المحققين أن : مكانك ودونك ، من أسماء الأفعال. فيكون (مَكانَكُمْ) هنا : اسما ل (الزموا) مبنيّا على الفتح ، وليس بمنصوب نصب الظروف.

(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ميّزنا وفرّقنا بينهم لسؤال هؤلاء وحدهم ، وسؤال أولئك بمفردهم ، سؤال تقريع وتبكيت (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) لهم : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إذ ينطقهم الله سبحانه بقدرته فيقولون لعبدتهم من المشركين : لم نشعر بأنكم كنتم تعبدوننا. وهذه إهانة ثانية للمشركين وتبكيت آخر ، وهي نظير الآية الكريمة : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا).

٢٩ ـ (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) أي كفى به عزّ اسمه فاصلا للحكم بالحق بيننا وبينكم أيها الّذين أشركتم بعبادتنا مع الله (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) مضى تفسيره : وهو يعني أنهم كانوا غافلين عمّا ادّعوه عليهم لأنهم لم يحسّوا بشركهم سواء أكان المعبودون الملائكة ، أم كانت الأصنام التي لا تسمع ولا تعقل ، فلا هؤلاء ولا هؤلاء اختاروا أن يكونوا معبودين أو أغروا المشركين بعبادتهم من دون الله.

٣٠ ـ (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ...) أي حينئذ ، وفي ذلك المكان تجرّب نتيجة عملها وتعلمه ، وتختبر حاصل ما قدّمته من حسنات وسيئات (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) أرجعوا بالبعث والقيامة إلى ربّهم و (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وليّهم الحقيقي الذي يملك الحكم عليهم وحده لأنه خالقهم ومالكهم. والحق : صفة لله تعالى ، وهو الحي القديم الباقي الذي لا يزول كغيره ، بل معنى الإلهية حاصل له حقّا. فإذا ردّوا إليه في ذلك اليوم رأوا ما كانوا ينكرون (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضاع من بين أيديهم ما

كانوا يعدّونه شريكا مع الله تعالى ، افتراء عليه ، وتاهوا عن معبودهم وتاه عنهم.

* * *

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

٣١ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) خاطب سبحانه نبيّه العظيم : قل يا محمد لهؤلاء بعد أن أوضحنا لهم الأدلة الكافية على التوحيد : من يخلق الأرزاق ويعطيكم إياها من السماء : بالمطر الذي ينزله (وَ) من (الْأَرْضِ) بالنبات والزرع والأشجار ، ومن يغدق عليكم هذا العطاء الدائم الجاري (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) هي أم ومن أي : فمن هو الذي يملك إعطاءكم حاستي السمع والبصر ولو شاء لسلبهما؟ (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَ) كالإنسان من النطفة ، وكلّ حيوان من بطن أمه ، وأي كائن حيّ على الكيفية التي قدّرها (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالبيضة من الدجاجة وكالبذرة من النّبتة. وقيل : المقصود : من يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي مطلق الأمر في السماوات والأرضين ، ويعني به الأمر المحكم المنتظم الذي ليس فيه خلل؟ ... (فَسَيَقُولُونَ : اللهُ) يعني : سيعترفون بأن الله يفعل ذلك كلّه وأن معبوداتهم من الأصنام لا تقدر عليها (فَقُلْ) يا محمد لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تفكّرون بعقولكم وتدركون هذه المعاني؟ وهذه الآية الكريمة من أجمل طرق المحاجّة في الربوبيّة والوحدانية ، لأن العقلاء ـ إجمالا ـ لا بد

أن يقرّوا بالخالق سبحانه وتعالى إلا من استحوذ عليه الشيطان من الفلاسفة الملحدين أو من الجهلة والحمقى.

٣٢ ـ (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ...) ذلك : إشارة إلى المتكلّم عنه في الآية السابقة ، أي إلى اسم الله الحقّ تبارك وتعالى. وكم ضمير المخاطبين وهم الخلق. والمعنى أن الله هو ربكم الحق الذي تحق له الألوهية والعبادة (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) الذي تقرّر بالحجة والبرهان (إِلَّا الضَّلالُ) أي الضياع في متاهات الكفر؟ وفي هذا الاستفهام يتجلّى تقرير الحجة التي لا محيص عن الاعتراف بها لأن المجيب ملجأ إلى قول الحق أو إلى تعمّد الضلال ، ولا طريق له غير هذين .. (فَأَنَّى) كيف وأين (تُصْرَفُونَ) تعدلون وتميلون عن عبادة الله الذي ثبتت إلهيته وبطل ما عبدتم من أصنام؟

٣٣ ـ (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ...) أي : بمثل ذلك الاستدراج البسيط والاستقراء الحكيم ، وجبت كلمة ربّك ، وهي حكمه عليهم بالعقوبة على شركهم ومجازاتهم على ما فعلوا ـ أجل بمثل هذه الطريقة نستدرجهم ليقعوا في الاعتراف بما اعتقدوه وعملوه ، ويقع حكم ربّك (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي تعدّوا على حدود الله (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بأنهم غير مصدّقين. وفي هذا الوعيد كفاية للمشركين لو كانوا يعقلون ، والكاف في (كَذلِكَ) في محل نصب ، أي : مثل أفعالهم جازاهم ...

* * *

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ

لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

٣٤ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ...) تابع سبحانه الحجج على وحدانيته يلقيها على المشركين واحدة بعد واحدة ، فأنزل على رسوله (ص) : قل يا محمد لهم : هل واحد من أصنامكم وأوثانكم يملك إنشاء الخلق وابتداعه ابتداء ويجري الأرواح في الأحياء ، ويوجد الكائنات من العدم وجميع الخلق ثم يفنيه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) في نشأة ثانية بعد موته وفنائه؟ ... فإنهم ـ يقينا ـ سيعيون عن الجواب ، ف (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن جوابهم الحتمي : ليس من شركائنا من يفعل ذلك أو يقدر عليه ، بل لله الخلق والإنشاء ، فقل لهم موبّخا : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) كيف تقعون في الإفك وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟

٣٥ ـ (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ...) هذا الكلام القدسيّ عطف على سابقه. فتابع معهم الحجاج يا محمد واسألهم : هل من معبوداتكم التي أشركتموها مع الله معبود يدل على طريق الحق ويدعو إلى ترك الباطل ، ويأمر بالرشاد والخير وما يؤدّي إلى النجاة؟ وقد طوى سبحانه الكشح عن ذكر جواب لهم لأنهم يقعون في الخرس فقال لنبيّه : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) وتابع جدالهم بقولك : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ويدل على ما فيه الصلاح والخير في الدارين (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) أي يؤخذ بأوامره ونواهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) يعني أم من لا يهتدي ولا يهدي أحدا إلى شيء (إِلَّا أَنْ يُهْدى) يدل إذا كان يسمع أو يرى. أما أصنامكم فإنها لا تهتدي ولا تهدي فهي جماد أصمّ أبكم. وقد عبّر عنها كمن يعقل لطفا في حجاجهم لأنهم أنزلوها منزلة من يعقل حين اتخذوها آلهة. ولفظة : (يَهْدِي) أصلها : يهتدي على وزن يفتعل وقد أدغموا التاء في الدال لمقاربتها لها ولمجاورة محلّي نطقهما. فمعنى قوله سبحانه هو : أمن لا يهتدي حتّى يهدى أحقّ أن يتّبع ، أم من يهدي إلى الحق؟ (فَما لَكُمْ) ما بكم ، وما عراكم؟ وأي شيء لكم في عبادة من لا يهدي ولا يهتدي؟ .. و (كَيْفَ

تَحْكُمُونَ) كيف تقضون في هذا الأمر؟ وهذا تعجيب من حالهم لأنهم يحكمون لأنفسهم بما لا تقوم عليه حجة.

وما لكم كيف تحكمون : ما : مبتدأ. لكم : خبره. كيف : منصوب بقوله : تحكمون ، أي تحكمون كيف.

٣٦ ـ (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ...) أي لا يأخذ أكثر هؤلاء الكفار إلّا بالظّن : التخمين الذي لا يفيد شيئا كتقليد آبائهم الذي ليس بشيء ، و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأن الظّن غير العلم ، والعلم هو الحقيقة ، فالظنّ لا يكفيهم بديلا عن الحق ، وقد يأتي على خلاف ما ظنّوا ويبعدهم عن الحق فلا يكون كالعلم والحق المقطوع به (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) عارف جيدا بما يعملون من عبادة غيره وسيجزيهم على ذلك الجزاء الملائم لشركهم.

* * *

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠))

٣٧ ـ (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى ...) أي : ما كان يمكن افتراء هذا القرآن الكريم ليتمكّن الإنسان أن يأتي بمثله حسبما زعم الكفار ، ولا يمكن قول مثله (مِنْ دُونِ اللهِ) من غيره ، ومن غير أن يوحى به منه سبحانه لأنه في أسمى مراتب البلاغة وأعلى طبقات الفصاحة ، وافتراء مثله مستحيل. فجملة (أَنْ يُفْتَرى) قامت مقام المصدر المنصوب على أنه خبر (كانَ) بتقدير : ما كان القرآن افتراء (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل هو مصدّق لما سبقه من الكتب الموحى بها كالتوراة والإنجيل والزّبور ، ينطق بأنها حقّ من عند الله ، ثم هو مصداق لما جاء فيها من البشارة به. وقيل إنه مؤكّد لما يأتي من بعده من البعث والحساب (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي : ومبيّنا لما كتب في اللوح المحفوظ من التكاليف ، ومفصّلا للأحكام في الحلال والحرام وفي كل ما تحتاجون إليه (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ في أنه منزل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحيا لا يمكن تبديله ولا افتراء مثله لأنه معجز لا يقدر على مثله البشر مع تحدّيه لهم.

٣٨ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : أيقولون افترى محمد (ص) هذا القرآن؟ والكلام تقرير هو بمثابة حجة بعد حجة على الكافرين. ف (قُلْ) لهم يا محمد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يعني : جيئوا بسورة واحدة تشبهه مع أنكم من أهل لغته العربية ، ولو قدر محمد على ذلك لقدرتم أنتم لأنكم أهل فصاحة! .. وإذ عجزتم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من كلام البشر. وإن رغبتم في محاولة تقليده والإتيان بمثله فافعلوا (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي استعينوا بمن شئتم ـ غير الله ـ ليساعدوكم في معارضته (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم إنه مفترى .. وهذا نهاية التحدّي والتعجيز لهم منه سبحانه وتعالى.

٣٩ ـ (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ...) هذا استدراك وتأكيد بأنهم كذّبوا بقرآن لم تحط أفهامهم بعلمه ، ولم يصل إدراكهم إلى معرفة إعجازه في مبناه ومعناه ، أي أنهم كذّبوا به حين عجزوا عن فهمه فحكموا ببطلانه إذ

لم يعرفوا معانيه ومراميه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي لم يجئهم بعد تفسيره وبيان ما فيه من المحكم والمتشابه ، وممّا يؤول إليه أمرهم من العقوبة ، ولو أنهم راجعوا رسول الله (ص) في ذلك كلّه لفهموه ووعوه. وقد روي أن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله خصّ هذه الأمة بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون ، وأن لا يردّوا ما لا يعلمون. ثم قرأ : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلّا الحق .. وقرأ : بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ... (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كمثل تكذيبهم كذّبت الأمم السابقة أنبياءها (فَانْظُرْ) تأمل يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي أن من قبلهم هلك بتكذيب الرّسل ، وعاقبة هؤلاء ستكون كذلك بسبب تكذيبك.

٤٠ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ...) أي : أن من هؤلاء المكابرين من يؤمن بهذا القرآن في المستقبل ، ولذلك لا يهلكهم الله في الحال ، وأبقاهم لما يعلم من صلاح إبقائهم ، أو أن منهم من يؤمن به بينه وبين نفسه ويعترف بصحته ولكنه شاكّ متحيّر ، ومنهم من لا يصدّق به ويخالف (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي بمن يدوم على الفساد ولا يقلع عن العناد ولا يرجع إلى الصواب.

* * *

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))

٤١ ـ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ...) هذا خطاب منه سبحانه لرسوله (ص) يعني : إذا كذّبك قومك وداوموا على معاندتك وعدم تصديق دعوتك فقل لهم : لي عملي وما يجرّ عليّ من نفع أو ضرر ، ولكم عملكم وجزاؤه الذي يترتّب عليه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) لن يصيبكم شيء من نتيجة عملي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي وأنا أتبرّأ إلى الله من

سوء عملكم ووزره. والآية وعيد شديد منه سبحانه وتعالى للمكذّبين ، وهي كقوله عزوجل : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ..) إلخ.

* * *

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

٤٢ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ...) أي ومن هؤلاء الكفار المعاندين من يستمع : أي يطلب سماع ما تتلوه وما تدعو إليه بدافع الرّد على قولك لا بدافع الفهم والتبصّر ، ولذلك كانوا أهلا للذم (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أي هل تقدر يا محمد أن توصل صوتك إلى الصّم الذين لا يسمعون (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) أي : حتى ولو كانوا في غاية الجهل؟ وهذا كقول الشاعر : أصمّ عمّا ساءه سميع. أي يسمع ما يحب ، ويصم سمعه عمّا يكره.

٤٣ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ...) أي ومن هؤلاء الكفار من ينظر إلى أقوالك وأفعالك نظرا عاديّا لا عبرة فيه ولا سعي وراء الحقيقة كمن يريد أن يستفيد من نظره (أَفَأَنْتَ) أي هل أنت يا محمد (تَهْدِي) تدل (الْعُمْيَ) على طريقهم وترشدهم إليه (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي لا ينظرون المعالم التي تدلّهم عليها؟. وفي هاتين الآيتين استفهام منه جلّ وعلا يدل به على النفي والإنكار ، إذ لا يقدر أحد على ردع الصّم الّذين يسمعون القول ليطعنوا فيه ، ولا على هداية العمي الذين ينظرون إلى قول

النبي (ص) وفعله نظر المكذّب المنكر.

٤٤ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ...) أكّد سبحانه في هذه الآية حقيقة ما هو عليه عزوجل من عدم ظلم الناس ، وأنه يوفّيهم جزاء أعمالهم غير منقوص لأنه منزّه عن الظلم والجور (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكن العباد العاصين يظلمون أنفسهم بأنفسهم حين ينصرفون عن دعوته سبحانه ويمضون على طيّتهم مع هوى نفوسهم. وجملة المعنى أن الله لا يمنع أحدا من الانتفاع بما أنزله عليك يا محمد ، ولكن الكفار يظلمون أنفسهم بسوء اختيارهم وبترك النظر في صدق دعوتك وفي صدق ما نزل به القرآن. وفي هذا ردّ لقول المجبرة واضح.

* * *

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

٤٥ ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ...) انتقل سبحانه بخطابه إلى آخر مرحلة مع هؤلاء الكفار وهي يوم يحشرهم : أي حين يجمعهم يوم القيامة من كل مكان يرون (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) كأنّهم لم يبقوا قبل البعث إلّا (ساعَةً) من الزمن كجزء (مِنَ النَّهارِ) الذي هو من الفجر إلى أول الليل. فحالهم حال من يرى أيامه كلّها وبقاءه في الدّنيا كأنها ساعة من النهار ، أي أنهم استقلّوا مكثهم فيها وحسبوه ساعة واحدة سريعا ما

مضت وانقضت ، بسبب قلة انتفاعهم أيام حياتهم وكأنهم مرّوا في الحياة مرور جماعة عاشوا فيها ساعة ثم ماتوا ، وبعثوا ، وها هم (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يتعرّف بعضهم إلى بعض إذا خرجوا من قبورهم ، ويعرف بعضهم خطأ بعض وكفره ، ثم تنقطع تلك المعرفة عند معاينة العذاب (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي قد ظهر خسرانهم بلقاء الجزاء على سوء عملهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للحق في دار الدنيا. فهم قد خسروا الدنيا حين صرفوها في المعاصي ، وخسروا الآخرة حين حرموا نعيمها وملذّاتها الدائمة.

٤٦ ـ (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ...) أي : فإمّا أن نريك يا محمد ـ في حياتك ـ بعض ما نعد هؤلاء الكفار ، ونحن قادرون على ذلك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نأخذك من بينهم بالوفاة قبل نزول ما وعدناهم به في الدّنيا قبل الآخرة من العقوبة بالقتل والهزيمة كما حصل في وقعة بدر وغيرها (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) معادهم ومصيرهم إلينا ولا يفوتنا الظفر بهم يوم الحساب. وهذا وعد منه سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانتقام له من أعدائه إمّا في حياته أو بعد وفاته ، وقد قدّر ذلك (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) أي أنه تعالى ناظر عالم بما يقومون به وسيوفّيهم جزاء عملهم.

٤٧ ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ...) أي ولكل جماعة مجتمعة على طريقة واحدة نبيّ أرسلناه إليها وحمّلناه ما ينبغي لها فعله وتركه ، كأمة موسى وأمة عيسى عليهما‌السلام وأمّتك (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) أي إذا بعث إليهم وبلّغهم. وفي الآية الكريمة حذف ، والتقدير : إذا قام بأداء رسالته وصدّقه بعض أمته وكذّبه آخرون (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم بنجاة المصدّقين ، وإهلاك المكذّبين ، فيفصل بينهم بما قضى الله سبحانه (بِالْقِسْطِ) أي العدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا يلحق جور على المكذّبين ، ولا ينقص من ثواب المطيعين.

* * *

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩))

٤٨ ـ (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ ...) متى : سؤال عن الوقت والزمان. والوعد يكون للخير ، والوعيد للشر. والمعنى أن الكفار يقولون : متى يقع هذا الوعد للمطيعين بالفوز بالجنّة؟ يقولون ذلك استعجالا للأمر وإنكارا له ، وتكذيبا بالبعث والقيام للحساب كقولهم : ائتنا بما تعدنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في القول الذي تقولونه أيها الرّسل.

٤٩ ـ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً ...) قل يا محمد لهؤلاء المشركين والمكذّبين : أنا لا أقدر على جلب نفع لنفسي ولا على دفع ضرّ عنها (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) إلّا ما أراد أن يقدرني عليه ربّي ، فهل أملك ذلك لكم ، أو أملك معرفة وقت القيامة والحساب ونزول العذاب ، أو تقديمه أو تأخيره عن الوقت المعين؟ لا ، ف (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل أمة وقت محدد أجله لتعذيبها على تكذيب رسولها (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) حان وقت موعدهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) يملكون طلب تأخير (ساعَةً) لنزول العذاب (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) يملكون طلب تقديم مثلها للوصول إلى الثواب ، ولا يتقدّم موعدهم ولا يتأخّر بل يتم ذلك في وقته المعيّن.

* * *

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ

الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))

٥٠ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً ...) أي : قل يا محمد للمشركين : هل دريتم أنه إن جاءكم عذاب الله الذي وعد به الكافرين بياتا : ليلا وأنتم تبيتون وتأوون إلى بيوتكم ، (أَوْ نَهاراً) وأنتم مستيقظون منتشرون في أعمالكم (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أي ما هو الشيء المطموع به الذي يطلب العصاة تعجيله لنفعهم؟ ولا يخفى أن هذا الاستفهام يحمل التهويل الشديد ، يعني : لماذا تطلبون تعجيل العاقبة الوخيمة التي تكون نهاية المجرم؟ وفي المجمع أن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : يريد بذلك عذابا ينزل من السماء على فسقة أهل القبلة في آخر الزمان. نعوذ بالله وحده من ذلك العذاب. ولفظة : بياتا ، منصوبة على الظرفيّة.

٥١ ـ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ...) دخلت ألف الاستفهام على : ثمّ التي هي للعطف ، لتدلّ على أن معنى هذه الآية معطوف على ما قبلها. وهذا الاستفهام إنكار على الكافرين ، ومعناه : أحين وقع عليكم العذاب الموقّت بوقته المعلوم آمنتم : صدّقتم ، به : بالله عزوجل ، أو بالقرآن ، أو بالعذاب؟ ولكن بعد اليأس (آلْآنَ) أفي هذا الوقت الذي لا يفيد فيه الندم ، تؤمنون؟ (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) وكنتم قبل وقوعه تطلبون استعجاله. والمعنى أنه سيقع ، وستؤمنون به ، ولا ينفعكم عندها الإيمان. ولفظة : الآن : هي (ألف الاستفهام) دخلت على (الآن) وأدغمت الألفان.

٥٢ ـ (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ...) أي بعد وقوع العذاب يوم القيامة يقال لمن ظلموا أنفسهم : ذوقوا العذاب الدائم الذي لا يخفّف ولا تنقضي مدته ، ثم يقال لهم بلسان الحال : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي هل نالكم إلّا جزاء ما ارتكبتم من المعاصي؟ فقد دعاكم الرسول (ص) وحاول هدايتكم بشتى الوسائل وتمّت عليكم الحجة

فأبيتم إلّا العناد والإمعان في الكفر فتجرّعوا غصص العذاب حين لا ينفع الندم.

* * *

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤))

٥٣ ـ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ...) أي يطلبون النبأ منك يا محمد ، ويستخبرونك قائلين : أحقّ هو : ما جئت به من الرسالة والقرآن والشريعة ، أو ما وعدتنا به من البعث والعذاب ، ف (قُلْ) مجيبا إياهم : (إِي وَرَبِّي) : نعم وحقّ الله (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي كلّ ما قلته لكم ووعدتكم به حقّ لا شكّ فيه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لستم بفائتين له ، بل أنتم في قبضته ولا يعجز عن إدراككم. أما استخبارهم عن ذلك فيحتمل أن يكون على وجه الاستفهام ، أو أن يكون على وجه الاستهزاء ، فأجبهم يا محمد وأقسم لهم على ذلك.

٥٤ ـ (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ ...) أي : لو كانت كلّ نفس أشركت بالله ، تملك جميع ما في الأرض (لَافْتَدَتْ بِهِ) لفدت نفسها به يوم القيامة. و (لَافْتَدَتْ) هي من الافتداء ، أي دفع الفدية لاتّقاء شيء مكروه. فلو ملك الكافرون والمشركون مال الدنيا لبذلوه اتّقاء لهول ما ينزل بهم من العذاب (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي ندموا أشدّ ندامة وأخفوا ندامتهم وبقيت حسرة تلجلج في صدورهم حين شاهدوا العقاب الذي ينتظرهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي حكم بالعدل (وَهُمْ لا

يُظْلَمُونَ) لا يصيبهم ظلم ممّا يفعل بهم بسبب جنايتهم على أنفسهم. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام في هذه الآية الشريفة : إنّما أسرّوا الندامة وهم في النار كراهية لشماتة الأعداء على أنفسهم.

* * *

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

٥٥ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) ألا : حرف استفتاح ، وهي كلمة تستعمل في التّنبيه. أصلها : لا ، دخل عليها حرف الاستفهام تقريرا وتذكيرا فصارت تنبيها ، وما بعدها يكون كلاما مستأنفا على معنى الابتداء. والمعنى : اعلموا أن الله تعالى يملك السماوات والأرض وله حق التصرف بهنّ وبمن فيهنّ ولا يقدر أحد على الاعتراض عليه إن أراد أن ينزل عذابه على مستحقّيه (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فليعلم أن وعده سبحانه بعقاب الكافرين حقّ لا ريب فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لم يعرفوا صحة ذلك الوعد لجهلهم المطبق بالله تعالى وبرسوله الكريم (ص).

٥٦ ـ (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ...) أي أنه سبحانه يردّ الناس أحياء بعد موتهم ، ويميتهم بعد أن جعلهم أحياء ، وإليه ترجعون : تردّون أيها الناس فيجازيكم على أعمالكم. وعن الجبائي : في هذه الآية دلالة على أنه لا يقدر على الحياة إلّا الله تعالى ، لأنه سبحانه تمدّح بكونه قادرا على الإحياء والإماتة.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ

بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

٥٧ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ ...) هذا خطاب وجّهه سبحانه لجميع الناس بعد ذكر الوعد والوعيد اللّذين حواهما القرآن الكريم ، ينبّههم فيه إلى أنه قد جاءتكم موعظة تخوّفكم من المعصية والعقاب وترغّبكم بالطاعة والثواب ، هي في هذا الكتاب الكريم وفي قول هذا الرسول العظيم (ص) جاءت (مِنْ رَبِّكُمْ) وهي طريق خلاصكم وصلاحكم (وَ) هي (شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) برء للنفوس تعافيها ممّا فيها من الجهل. وقد ذكر (الصُّدُورِ) لأنها تحوي القلوب والنفوس التي هي من أشرف ما في البدن ، فموعظته سبحانه شفاء للنفوس من الجهل ، وللقلوب من الغل (وَهُدىً) أي دلالة إلى طريق الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي نعمة لمن أخذ بها وانتفع بما فيها. وجميل ما ذكره صاحب المجمع رحمه‌الله من أنه سبحانه وصف القرآن في هذه الآية بأربع صفات : بالموعظة ، والشفاء لما في الصدور ، وبالهدى ، والرحمة.

٥٨ ـ (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ ...) أي : قل يا محمد للناس : بإفضال الله وعطائه ونعمته (فَبِذلِكَ) دون غيره أي بفضله وبنعمته جلّ وعلا (فَلْيَفْرَحُوا) فليسرّوا ، فذلك (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدّنيا ، لأن ما في الدنيا يزول ، ما يمنّ به الله على عبده من الإيمان به وبنبيّه

وبكتابه باق لا زوال له. وروى أنس عن النبيّ (ص) قوله : من هداه الله للإسلام وعلّمه القرآن ثم شكا الفاقة ، كتب الله عزوجل الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة. ثم تلا : قل بفضل الله وبرحمته. إلخ ...

وعن قتادة ومجاهد وكثيرين غير هما أن أبا جعفر الباقر عليه‌السلام قال : فضل الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورحمته عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

٥٩ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) هذا خطاب للنبيّ (ص) أن قل يا محمد لكفار مكة : هل نظرتم إلى ما أعطاكم الله من رزق وجعله حلالا لكم (فَجَعَلْتُمْ) أنتم من عند أنفسكم بعضا (مِنْهُ حَراماً) حسب تقسيمكم (وَ) بعضا (حَراماً) كما سننتم في السائبة والبحيرة والوصيلة وغيرها من الزروع وذوات الضروع (قُلْ) لهم : (آللهُ) هل الله سبحانه وتعالى (أَذِنَ لَكُمْ) بذلك ورخّص (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون. ومعناه : لم يأذن لكم بشيء من ذلك ، وأنتم تكذبون عليه فيما حلّلتم وحرّمتم.

٦٠ ـ (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ ...) يعني : أي شيء يظن الذين يكذبون على الله وينقلون عنه (الْكَذِبَ)؟ وماذا يعتقدون أنه يصيبهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) من جرّاء كذبهم وافترائهم؟ لا ينبغي لهم أن يظنّوا إلّا أن العذاب مصيبهم وواقع بهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بما منّ عليهم من النّعم والأفضال وبما قدّر من ترك معاجلة المذنب على ذنبه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يحمدونه على أفضاله ونعمه ، بل يجحدون ذلك وينكرونه. وفي الآية الكريمة تقريع لا يخفى على ذوي اللّب ، وتوبيخ واضح لمن كذّب بنعم الله وافترى عليه الكذب. وظنّ أن إمهاله دون عقاب إهمالا.

* * *

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

٦١ ـ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ...) الشأن هو الحال والأمر الذي يكون عليه الإنسان. ومعناه : أنك يا محمد ما تكون في حال من أحوالك التي أنت عليها ، وفي أمر من أمور الدّين وتبليغ الدعوة وتعليم الشريعة (وَما تَتْلُوا) أي : وما تقرأ وترتّل (مِنْهُ) من الله تبارك وتعالى (مِنْ قُرْآنٍ) أي الكتاب الذي ينزله عليك منجّما ، بل (وَلا تَعْمَلُونَ) أيها الناس جميعا (مِنْ عَمَلٍ) كائنا ما كان (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) مشاهدين لكم وناظرين إليكم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) والإفاضة في العمل هي الدخول فيه والانكباب عليه ، يعني إذ تتصرّفون بعملكم وتخوضون فيه (وَما يَعْزُبُ) أي : وما يبعد ولا يغيب (عَنْ رَبِّكَ) يعني عن رؤيته وعلمه وقدرته (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أي أصغر وزن ممكن (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) من أعمال ساكنيهما (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) أي : ولا أصغر من الذرّة (وَلا أَكْبَرَ) منها (إِلَّا) كان ذلك مسجّلا (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في كتاب بيّنه الله تعالى وهو اللوح المحفوظ ، وقيل كتاب الحفظة. وروي أن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا .. كيف لا وهي تخبر بأن الله يطّلع على ما هو كالذّرة وما هو أكبر أو أصغر منها من أعمالنا؟

* * *

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ

(٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))

٦٢ ـ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ...) الخوف : هو الفزع وأشدّه الجزع. فقد بشّر سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من تولّى الله وأطاعه وعمل بأوامره وانتهى عن نواهيه ، تولّاه هو تبارك وتعالى وأمّنه من الخوف من عذاب يوم القيامة وأهواله. فأولياؤه المطيعون السامعون لا خوف عليهم من العقاب يومئذ (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي ولا يصيبهم المقت والهم والحزن الذي هو ضد السرور .. وقيل إن أولياء الله الذين عناهم في هذه الآية هم الّذين بيّنهم في الآية التالية ، وقيل هم الذين أدّوا فرائض الله وأخذوا بسنن رسوله (ص) وقيل هم الذين كانت أفعالهم موافقة للحق ، وقيل غير ذلك.

٦٣ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ...) : أي الّذين صدّقوا بالله وبرسوله وبدينه ، وتجنّبوا معاصيه وعملوا بطاعته. و (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا في موضع نصب على أنها صفة لأولياء الله ، ويقوّيه أن هذه الآية الشريفة مرتبطة بسابقتها وتكون محكمة المعنى إذا لم تبق مستقلّة. وقيل بل هي مرفوعة على المدح بتقدير : (الذين آمنوا وكانوا يتقون ممدوحون من الله) وقيل أيضا : هي في محل رفع على الابتداء ، وخبرها : لهم البشرى. وهذا أيضا قول متين يربط الآية بالآية التالية ربطا محكما.

٦٤ ـ (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) أي أن المؤمنين المتقين لهم بشارة من الله تعالى بالخير. قيل إنها بشارته لهم في القرآن في ما ذكره عن المؤمنين المتقين ، وقيل هي بشارة الملائكة عليهم‌السلام لهم عند موتهم ، وقيل أيضا هي الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن لنفسه أو يراها غيره له. فإن لهم

البشرى في الحياة الدنيا بمعنى من هذه المعاني ، أو بكلّها (وَ) لهم البشرى (فِي الْآخِرَةِ) حيث تبشرهم الملائكة بالجنّة عند خروجهم من القبور كما هو مرويّ عن الباقر عليه‌السلام. وقد روى عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام أنه قال له : يا عقبة ، لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدّين الّذي أنتم عليه ، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن يبلغ نفسه إلى هذه ، وأومأ بيده إلى الوريد ... وقرأ هذه الآية (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا خلف ولا تغيير لما وعد سبحانه من الثواب ، فكلماته حقّ ولا خلف في الحق (ذلِكَ) أي الذي سبق ذكره من البشارة في الحياة وبعد الممات (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هو النجاح والنجاة العظيمة.

٦٥ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ...) أي لا ينبغي أن يجلب قولهم لك الحزن والغم لأنه مؤذ. وهذا النهي يراد به تسلية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أمره الله عزّ اسمه بأن لا يهتمّ لأذاهم ، وأن لا يعبأ بما يظهر من عنادهم وكلامهم المزعج (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) والله الذي استأثر لنفسه بالعزة كلّها هو يجعلك منهم في منعة ولا ينالونك بسوء ، وهو يردّ كيدهم ويحبط مكرهم وسينصرك ويذلّهم لأنه عزيز قادر على ذلك ، و (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع قولهم المؤذي ، ويعلم ما في نفوسهم وسيدفع ذلك كلّه عنك.

* * *

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

٦٦ ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ ...) عاد سبحانه إلى استفتاح كلامه القدسيّ ب (أَلا) بعد أن سلّى نبيّه (ص) وأمره بأن لا يحزنه قول الكافرين ، لينبّه بأن له من في السماوات (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من عقلاء وغيرهم ، لأن غير العاقل تابع للعاقل ، وقبّح فعل المشركين بقوله : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي أنهم على لا شيء في شركهم ، فليس هم شركاء في الحقيقة ، لأنهم ـ في أنفسهم ـ يعلمون أن أصنامهم ليست أندادا لله سبحانه ، ولا هي خالقة ولا قادرة ، ولكنهم حائرون ضالّون (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) فليسوا على يقين من ربوبيّة تلك الأصنام ولكنّ عملهم تقليد للآباء زعما بأن الأصنام تقرّب إلى الله زلفى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فما هم إلّا كاذبين بهذا الزعم وتلك العقيدة.

٦٧ ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) أي أن ذلك المالك للسماوات والأرضين ومن فيهن هو خالق الليل الذي تهدأون فيه وترتاحون من تعب النهار ووصبه (وَ) هو أيضا الذي جعل (النَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا تبصرون فيه وتهتدون إلى ما تحتاجون إليه من أعمالكم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي أن في إحداث الليل والنهار على هذا الشكل أدلة قاطعة على توحيد الله تعالى الذي أحدثهما ، وحججا قوية على أن القادر على ذلك هو الربّ المعبود ، ولا يقدر على ذلك غيره بنظر من يسمع ويعقل.

* * *

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ

الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

٦٨ ـ (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ...) في مجال الحديث عن المشركين من قريش وغيرهم ، حكى سبحانه وتعالى عن النّصارى الّذين قالوا إن المسيح هو ابن الله قد اتّخذه ولدا له ، وقال : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن ذلك وتقديسا عن ذلك ف (هُوَ الْغَنِيُ) عن أن يكون له ولد أو عضد يتقوّى به مثلكم من ضعف أو حاجة. فكما أنه مستغن عن الحاجة إلى غيره فكذلك هو مستغن عن تبني أحد من مخلوقاته المفتقرة إليه. فاسألهم : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي : ما عندكم على هذا القول حجة مقنعة ولا برهان مقطوع (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ) افتراء ، وتختلقون عليه (ما لا تَعْلَمُونَ) حقيقته؟ وهذا توبيخ لهم على قولهم باتّخاذه الولد.

٦٩ ـ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ ...) أي : قل يا محمّد للمتقوّلين على الله المفترين عليه (الْكَذِبَ) باتّخاذ الولد وغيره : إنهم (لا يُفْلِحُونَ) لا ينجحون في قولهم ولا يفوزون بنيل نصر أو ثواب على افترائهم ، بل هم من الخاسرين في الدّنيا والآخرة.

٧٠ ـ (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ...) كلمة : متاع ، هي خبر مبتدأ محذوف بتقدير : ذلك متاع ، أو هو مبتدأ محذوف الخبر بتقدير : لهم متاع في الدّنيا ، يعني أنهم قدّر لهم متاع ينعمون فيه قليلا بمتاع الحياة ، ثم تنقضي أيامه فنرجعهم إلينا للحكم عليهم ونعيدهم للحساب على افترائهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ) عذاب النار في الآخرة (بِما) بسبب وبجريرة ما (كانُوا يَكْفُرُونَ) يعني : بكفرهم الذي كانوا عليه.

* * *

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ

عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))

٧١ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ...) أي اقرأ عليهم يا محمد خبر رسولنا نوح عليه‌السلام (إِذْ) حين (قالَ لِقَوْمِهِ) الّذين أرسلناه إليهم : (يا قَوْمِ) يا أصحابي وبني عشيرتي (إِنْ كانَ كَبُرَ) أي شقّ وعظّم (عَلَيْكُمْ مَقامِي) إقامتي بينكم (وَتَذْكِيرِي) أي تنبيهي ووعظي إياكم (بِآياتِ اللهِ) ببيناته وحججه الدالّة على صدق التوحيد وما إليه ، وعلى بطلان ما أنتم عليه من الكفر ـ فإن كان صعب عليكم ذلك منّي وثقل وجودي عليكم وعزمتم على طردي وقتلي ـ والكلام فيه حذف ولكنه يدل على ذلك ـ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي أكل أموري إليه ليكفيني شرّكم ، وأفوّض إليه مصيري ولا أرهبكم بعد ثقتي به (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي : اتّفقوا فيما بينكم على أمر واحد أنتم وشركاؤكم ، فإنني لا أخافكم جميعا ما زلت متكلا على الله عزوجل ، ولن أكفّ عن دعائكم إلى الحق ولا عن عيب آلهتكم مستعينا بالله على ذلك ـ فافعلوا ذلك (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الحزن والكرب أي لا تغتمّوا ممّا أنتم فيه ولا تحزنوا واكشفوا عداءكم (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي احكموا ونفّذوا ما اتّفقتم عليه من طردي أو قتلي (وَلا تُنْظِرُونِ) : ولا تمهلوني ولا تؤخّروا ذلك. وروي أنه قرئ : ثم أفضوا ـ بالفاء ، أي :

أدخلوا إليّ وأسرعوا ، فإنني لست خائفا منكم بإذن الله الذي يحفظني منكم وينصرني عليكم.

٧٢ ـ (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ...) أي إذا ملتم عن الحق وانصرفتم عن دعوتي إليه ولم تقلبوا قولي ولا نظرتم في الأمر الذي دعوتكم إليه ، فإنني لم أطلب منكم أجرا على ما قلته وأدّيته عن الله سبحانه ليثقل عليكم ذلك (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) يعني : ما أجري إلا على ربّي الّذي قمت بأداء رسالته (وَأُمِرْتُ) منه عزّ اسمه (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المستسلمين لأمره بطاعته لأن بها نجاة العباد.

٧٣ ـ (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ ...) أي لم يقبلوا قوله واعتبروه كاذبا في ادّعاء النبوّة والقيام بالرسالة إليهم ، وانصرفوا عنه كليّة فأنذرهم بهلاك فأنجيناه : خلّصناه ، هو والمؤمنين معه وأمرناه أن يركب (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة التي ألهمناه صنعها لينجو من الغرق. وقيل كان معه فيها ثمانين نفسا ، أنجيناهم (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يعني قدّرنا أن يخلفوا قوم نوح بعد هلاكهم بالغرق (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي غمرنا الأرض بالماء حتى مات جميع أهلها (فَانْظُرْ) أيها المستمع لقولنا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) كيف كانت نهاية من خوّفناه من آياتنا فلم يرتدع ، وكيف كان مصيره إلى الهلاك!.

* * *

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

٧٤ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ ...) أي أنه سبحانه أرسل بعد نوح عليه‌السلام أنبياء ، يعني بهم إبراهيم وهودا وصالحا ولوطا

وشعيبا ، كلّ واحد منهم إلى قومه : جماعته التي كان فيها (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالبراهين المقنعة والحجج الواضحة التي تدل على صدقهم وعلى صحة ما يدعون إليه (فَما كانُوا) فما كان أقوامهم (لِيُؤْمِنُوا) يصدّقوا (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي بما رفضه أسلافهم وكذّبوه. والمعنى أنه قد مضت أمم كأمة نوح التي كذّبت رسولها (كَذلِكَ) كهذا الذي أصيب به قوم نوح (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي نجعل في قلوبهم علامة دالة على كفرهم تكون مدعاة لذمّهم.

* * *

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))

٧٥ ـ (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ ...) عطف على قصة بعث الرّسل المذكورين ، قصة إرسال موسى وهارون من بعدهم حيث أرسلهما نبيّين (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ورؤساء قومه ، قال سبحانه : بعثناهما (بِآياتِنا) بمعجزاتنا (فَاسْتَكْبَرُوا) تعجرفوا وامتنعوا عن الإيمان وتعالوا عن الانقياد (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) والاجرام هو اكتساب السيئات ، أي كانوا عصاة مستحقّين للعقاب.

٧٦ ـ (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا ...) أي : وحين جاء فرعون وقومه الحقّ الظاهر من عند الله تعالى ، وهو ما أتى به موسى عليه‌السلام من

الآيات والمعجزات الباهرات (قالُوا) فرعون وقومه : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي أنه سحر واضح الدلالة على كونه سحرا.

٧٧ ـ (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ ...) يعني أن موسى قال للمنكرين لآيات ربّه التي هي حقّ حين بهرتهم ورموها بالسحر : (أَسِحْرٌ هذا)؟ هل هذا الذي جئتكم به سحر. مع أنه حقّ والسحر باطل؟ (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) مع أنه لا يظفر أهل السحر بحجة ولا يأتون ببيّنة بل يموّهون على الضعفاء من الخلق بألاعيبهم.

٧٨ ـ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...) أي قال فرعون وقومه لموسى : هل أتيتنا لتلفتنا : تصرفنا عن العقيدة التي كان عليها آباؤنا وتفوز أنت وأخوك (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي : تصير لك ولهارون العظمة والسلطان علينا ، والملك (فِي الْأَرْضِ) في بلادنا : مصر لأنكما تصبحان صاحبي عقيدة عامة الناس (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي لسنا بمصدّقين ما تدّعيانه. وممّا لا يحتاج إلى توضيح أن استفهامهم هذا يعني إنكارهم أن يكونوا من المصدّقين.

* * *

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢))

٧٩ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ...) : أي أن فرعون حين بهرته معاجز موسى عليه‌السلام وأعجزته آياته ولم يستطع دفعها بغير ادّعاء كونها

سحرا ، قال لقومه : جيئوني بكل ساحر متقن للسحر عارف بجميع نواحيه ، من أجل الردّ على ما جاء به موسى (ع) ثم يموّه فرعون على قومه ويقول لهم : هذا سحر ندفعه بسحر مثله ، مع أن فرعون كان ذكيّا ربّما علم بأن دعوة موسى حق ، ولكنه حاول ذلك من أجل الإبقاء على تربّبه على الناس ، أو ربما كان قد جهل ذلك لأول وهلة فأراد أن يدفع سحرا بسحر.

٨٠ ـ (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى ...) لقد طوى سبحانه كلاما كثيرا يفهم من سياق الكلام ، وهو أن فرعون أرسل بطلب السّحرة ، وأنه جمعهم ، ثم ضرب موعدا للمباهلة والمباراة ، فاجتمع الناس ، وأتى السحرة ، الذين استدعاهم فرعون فقال لهم موسى عليه‌السلام : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي اطرحوا في الأرض ما تريدون طرحه من سحركم. وقيل معناه : افعلوا ما أنتم فاعلون من السحر وأفرغوا ما في جعبتكم ، قاله على وجه التحدّي لأن من جاء لمقاومة المعجزات السماوية فليفعل ما بيده فعله حتى يرى الناس فشله وخذلانه.

٨١ ـ (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ...) أي حين ألقوا حبالهم وعصيّهم وما جاؤا به من السحر ، قال موسى : هذا الذي جئتم به هو السحر ، وقد أدخل عليه الألف واللام للعهد ، فإن المباهلة كانت لتظاهر السحر في ذلك الموعد ، و (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي سيظهر عملكم باطلا لا جدوى منه ، حيث (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي أنه سبحانه لا يجعل عمل من قصد الإفساد في الدّين وأراد التلاعب بعقائد الناس عملا ناجحا صالحا يقف في وجه الحق ، لأنه يريد أن يظهر الحق من الباطل في كل حين. وقد ذكر في إعراب : ما جئتم به السحر ، وجهان : أحدهما : أن (ما) في موضع رفع مبتدأ ، وجملة (جِئْتُمْ بِهِ) في موضع رفع خبره ، والكلام استفهام. أما (السِّحْرُ) بدل من (ما) التي هي مبتدأ ، والتقدير : السحر جئتم به. وثانيهما : أن (ما) اسم موصول ، مبتدأ. وجملة (جِئْتُمْ بِهِ) صلتها ، والهاء في (بِهِ) عائدة على الموصول ،

والسحر خبر المبتدأ ، والتقدير : الذي جئتم به السحر.

٨٢ ـ (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : أي يظهر الله الحقّ ويبيّن أنه حقّ وينصر القائم به (بِكَلِماتِهِ) التي أثبتها في اللوح المحفوظ من نصر أهل الحق على أهل الباطل ، وبما قدّر نصره ولو كره المجرمون نصره وظهوره وخاصة في مثل تلك المظاهرة التي لا مجال فيها للتخلية والامتحان.

* * *

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣))

٨٣ ـ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ...) الذريّة هي الجماعة من نسل القبيلة. والمعنى أنه لم يصدّق بآيات موسى (ع) إلّا فئة من جيل الشباب والشابات من قوم فرعون ، وقيل من بني إسرائيل : قوم موسى (ع) ، وقيل بعض يسير من قوم فرعون فيهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون والسّحرة وبعض من بني إسرائيل رووا أنهم كانوا ستمائة ألف نسمة عبّر عنهم سبحانه ب (ذُرِّيَّةٌ) لضعفهم واستهانتهم. وقد آمن هؤلاء وهؤلاء (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) أن يفتك بهم ويقتلهم ، وخوف من (مَلَائِهِمْ) أي : أشرافهم ورؤسائهم الباقين على الكفر ، وقد خافوا أن يأتمر آباؤهم وزعماؤهم بأمر فرعون ويعذّبوهم ليصرفوهم عن دينهم ، و (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي : يصرفهم فرعون عن عقيدتهم بما يمتحنهم به من عظيم البلاء والعذاب كما كانت عادته مع بني إسرائيل (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) أي متكبر متعال طاغوت في مصر وما يليها (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) المجاوزين الحد في الكفر والطغيان بادّعائه الربوبيّة وبكثرة ما قتل وما ذبح من صبية الاسرائليلين.

* * *

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))

٨٤ ـ (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ ...) أي قال موسى (ع) للذين آمنوا من قوم فرعون وبني إسرائيل : يا قوم : يا جماعتي الذين ارتضوا دعوتي : إن كنتم آمنتم : صدّقتم بالله يقينا وبما دعوتكم إليه ظاهرا وباطنا (فَعَلَيْهِ) على الله تعالى (تَوَكَّلُوا) أسندوا إليه أموركم (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) مسلّمين له على الحق والحقيقة. وقد قال : إن كنتم آمنتم أولا ، ثم عاد فقال : إن كنتم مسلمين ، ليظهر له أنه قد اجتمع عندهم صفتا التصديق والانقياد لله عزوجل. وقد حذفت الياء من (يا قَوْمِ) اجتزاء بالكسرة عنها ، وهذا مستحسن في النداء.

٨٥ ـ (فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ...) يعني : أجاب المؤمنون بالله وبدعوة موسى قائلين : توكّلنا على الله ووكلنا أمورنا إليه لأننا واثقون به ، ثم دعوا قائلين : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : نسألك يا الله أن لا تجعلنا محلّ الابتلاء بكيد فرعون وبطشه ، ولا تظهره علينا ، لئلا يفتتن بنا الكفار ويظنّوا أن لو كنّا على الحق ما ظفر بنا فرعون وقومه. وقد روي عن الصادقين عليهما‌السلام أن معناه : لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا. والفاء في (فَقالُوا) فاء العطف ، وقد وقعت في جواب الأمر : قال موسى ... فقالوا.

٨٦ ـ (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ...) : معناها : خلّصنا يا رب بلطفك بنا ، من فرعون وقومه المقيمين على الكفر ، ومن استعبادهم لنا وأخذنا بالأعمال الشاقة والقيام بالخدمات الخسيسة والمهن المنحطّة.

* * *

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

٨٧ ـ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ ...) أي أمرناهما بواسطة الوحي (أَنْ تَبَوَّءا) أي اتّخذا (لِقَوْمِكُما) للذين آمنوا بكما وصاروا من حزبكما ، اتّخذا لهم (بِمِصْرَ بُيُوتاً) يأوون إليها ويسكنونها ، و «مصر» هنا غير منصرف لأنه معرفة ومؤنث. ولو قصد به القطر من الأقطار لكان معربا. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي اجعلوها أماكن للصلاة ، فقد قيل إن فرعون أمر بهدم جميع مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فيها ، فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم ليأمنوا من خوف فرعون. وقيل : معناه اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا لتكونوا مجتمعين في أماكن سكنكم ، والأول أقرب للصواب بدليل تكرير قوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : واظبوا على أدائها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالجنّة ، وبما وعد الله عباده الصالحين من النعيم وحسن الثواب.

* * *

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

٨٨ ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ...) أي : خاطب موسى ربّه سبحانه وتعالى أثناء دعائه وابتهاله قائلا : إنك آتيت : أعطيت فرعون وملأه : وقومه المتكبّرين (زِينَةً) يزدهون ويتيهون عجبا فيها من الحليّ والثياب ، أو من الصحة والوسامة وجمال القامة (وَ) آتيتهم (أَمْوالاً) نقودا ذهبية وفضيّة وأملاكا (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فظهروا بذلك على من سواهم ، وإن كان سبحانه لم يعطهم ذلك ليفسدوا وليصيروا طغاة جبابرة (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي أن ذلك يجعل عاقبتهم الإضلال عن طريق معرفتك ، فإن اللام في (لِيُضِلُّوا) هي لام العاقبة. وقيل : معناه : لئلا يضلّوا عن سبيلك ، فحذفت (لا) كما حذفت من قوله سبحانه : شهدنا أن تقولوا يوم القيامة ، أي : لئلا تقولوا (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي غيّرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها ، وهذا هو الطمس عليها. وعن قتادة ومجاهد وعامة أهل التفسير أن أموالهم صارت كالحجارة (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي اطبع على قلوبهم وثبّتهم على المقام ببلدهم بعد إتلاف أموالهم ليكون ذلك أشدّ عليهم ، وأهلكهم (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي لا يؤمنون إيمان اختيار مطلقا ، وإذا رأوا العذاب الأليم لا يؤمنون إلّا إيمان إلجاء.

٨٩ ـ (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ...) أي : قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون حين دعا موسى وأمّن هارون على دعائه على قوم فرعون : قد استجبت لكما ، ودعوتكما نافذة فيهم (فَاسْتَقِيما) أي اثبتا على دعوة الناس للإيمان ، ولا تتواينا عن الهداية والإرشاد (وَلا تَتَّبِعانِ) لا تسلكا (سَبِيلَ) طريق (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الذين لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه.

* * *

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ

قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

٩٠ ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ...) أي : عبرنا بهم البحر بين مصر وفلسطين ، وجعلناهم يعبرونه ويصلون سالمين لأننا جعلنا لهم أرضه يبسا بعد أن فرقنا لهم ماءه اثني عشر فرقا رأفة منّا بهم لأنهم انحصروا بين فرعون وجنوده وبين البحر وأصبحوا مطوّقين قد أحيط بهم ولا نجاة لهم إلّا بالمعجزة السماويّة (فَأَتْبَعَهُمْ) لحقهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) هو وعساكره الجرّارة (بَغْياً وَعَدْواً) أي من أجل البغي عليهم والظلم لهم. و : بغيا وعدوا ، مفعول له على الأرجح ، أو هما مصدران في موضع الحال.

وقصة ذلك أن الله تعالى لمّا استجاب دعاء موسى وهارون أمرهما بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا ، فخرجوا مشرقين نحو أرض فلسطين ، وعرف فرعون وقومه فتجهّزوا وزحفوا وراءهم. ولما انتهى موسى وقومه إلى البحر أمره الله سبحانه فضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر فرقا ، وصار لكل سبط طريق يابس ، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل ، وصار في الماء شبه الخروق لينظر بعضهم إلى بعض. ثم لما وصل فرعون وجنوده ورأوا البحر على تلك الحالة هابوا دخوله وهو على هذا الشكل وخافوا أن ينطبق ماؤه عليهم. وكان فرعون يركب حصانا أدهم شمّ ريح الفرس التي كان يركبها جبرائيل عليه‌السلام وهو يقود بني إسرائيل في حين كان ميكائيل عليه‌السلام يسوقهم ، فلحق حصان فرعون بالفرس واقتحمت خيول قومه خلفه إلى أن دخل آخرهم فانطبق الماء عليهم قبل أن يهمّ أولهم بالخروج من الجهة الثانية. وهكذا تمت آية الله تبارك وتعالى (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي وصل إلى فرعون وأيقن بالموت والهلاك (قالَ آمَنْتُ)

صدّقت (أَنَّهُ لا إِلهَ) لا ربّ (إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ) صدّقت (بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي المستسلمين. ولكنه كان إيمان إلجاء لا يستحق ثوابا ولا ينتفع به.

٩١ ـ (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ...) كلمة : الآن ، تعني الوقت الحاضر الذي يفصل بين الماضي والمستقبل ، وهو إشارة إلى الحاضر ، ولذا بني كما بني : ذا. وهنا قد دخلت عليه ألف الاستفهام التي أدغمت مع ألفه فأصبح : الآن. والمعنى. أفي هذا الوقت يا فرعون تؤمن؟ الآن آمنت ، وأعلنت إسلامك (وَقَدْ عَصَيْتَ) بترك الإيمان في الوقت الذي كان ينفعك فيه أن تؤمن؟ فلم لم تؤمن (قَبْلُ) هذا الخوف من الهلاك على الكفر؟ (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بما نشرت من الفساد بقتل الناس وتذبيح الأطفال وادّعاء الربوبية؟ وفي هذا تقريع شديد وتوبيخ قيل هو من جانب القدرة الإلهية ، وقيل هو من قول جبرائيل عليه‌السلام. وفي المرويّ عن الصادق عليه‌السلام قوله : ما أتى جبرائيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا كئيبا حزينا ، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون. فلمّا أمر الله سبحانه بنزول هذه الآية نزل وهو ضاحك مستبشر فقال له : حبيبي جبرائيل ، ما أتيتني إلّا وبيّنت الحزن في وجهك حتى الساعة؟ قال : نعم يا محمّد ، لمّا غرق والله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنوا إسرائيل ، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ثم قلت : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟ ثم خفت أن تلحقه الرحمة من عند الله فيعذّبني على ما فعلت. فلمّا كان الآن وأمرني أن أؤدّي إليك ما قلته أنا لفرعون ، آمنت وعلمت أن ذلك كان لله رضا.

٩٢ ـ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ...) أي : في هذا الوقت نخلّصك من قعر البحر ونخرج جسدك فنلقيه على نجوة من الأرض : أي تلّة مرتفعة عمّا حولها ليراك الناس ، فقد قيل إن بعض بني إسرائيل قالوا : إن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق مثل سائر قومه ، فطفا على وجه الماء عريانا ولفظه الماء على تلك النجوة ليكون آية للناس. فنجاته كانت تخليصه من البحر

ميتا وقد قيل له : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) أي موعظة بالغة في النكال لمن يأتي بعدك فلا يقول أحد بمقالتك ، إذ يتبيّن أنك عبد ذليل ناله الغرق كسائر قومه ولم ينفعه ادّعاؤه للربوبيّة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي أنهم ساهون عن التفكّر بدلالاتنا والتبصّر بحججنا.

* * *

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

٩٣ ـ (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ ...) يقول تعالى إنه بعد إنعامه على بني إسرائيل بالنجاة ، بوّأهم : أقعدهم ومكّنهم ، وأسكنهم (مُبَوَّأَ) صدق : مكانا محمودا. ومبوأ : مصدر منصوب على أنه المفعول الثاني ل (بَوَّأْنا) وهو يعني إسكانهم في بيت المقدس وبلاد الشام ، وهي أرض خصب ومنازل مباركة ، وقيل : قصد مصر لأن موسى عليه‌السلام عاد فسكن مع كثيرين منهم في مساكن آل فرعون (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أنعمنا عليهم بحلال الرزق اللذيذ الكثير إذ كانوا ذوي نعمة وافرة (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي لم يختلفوا بشأن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بعد أن جاء القرآن ، وقد كانوا مقرّين به معترفين منتظرين له. وكلمة : العلم تعني علمهم به وبصفاته (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) يحكم فيما اختلفوا فيه فيما بينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنه لا يعاجل بالعقوبة في الدنيا ، وسيتولى القضاء بينهم عند البعث (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في الأمور التي تنازعوا بشأنها.

* * *

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

٩٤ ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ...) هو خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اختلف المفسرون في معناه لأن محمدا (ص) معصوم عن أن يشك أو يرتاب في ما نزل عليه من ربّه من الوحي. قال الزجاج : إن الله يخاطب النبيّ (ص) وذلك الخطاب شامل للخلق ، فالمعنى : فإن كنتم في شك فاسألوا ... والدليل عليه قوله في آخر السورة : يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفّاكم ، الآية .. فاعلم أن نبيّه (ص) ليس في شك .. وقيل : إن الخطاب له (ص) وإن لم يشكّ وعلم الله سبحانه أنه غير شاكّ ولكنّ الكلام خرج مخرج التقرير والإفهام كما يقول الأب لابنه : إن كنت ابني حقّا فأطعني. وقيل أيضا : (فَإِنْ كُنْتَ) أيها السامع (فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا) على لسان نبيّنا (إِلَيْكَ) وذكر الزجّاج وجها آخر هو أن يكون «إن» بمعنى (ما) أي : ما كنت في شكّ بما أنزلنا عليك ومع ذلك (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) كالأحبار وكعبد الله بن سلام وتميم الدارمي وغيرهم ممّن يعرفون نعوتك وصفاتك في كتبهم التي بشّرت بك ، أي : لسنا نريد بأمرك أن تسأل لأنك شاكّ ولكن لتزداد إيمانا كما جرى لإبراهيم (ع) حين قال له : أولم تؤمن؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئنّ قلبي ، فالزيادة في التعريف لا تبطل العقيدة. وقيل أخيرا : إن المراد بالشكّ الضّيق والشدّة ، أي : فإن كنت تضيق ممّا

تعانيه من عناد قومك وأذاهم فاسأل الذين يقرءون الكتب ويعرفون صبر الأنبياء من قبلك على أذى أقوامهم (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُ) أي القرآن (مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) الشاكّين.

٩٥ ـ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ...) أي : لا تكوننّ من جملة من يجحد بآياته سبحانه ولا يصدّقها (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الخسارة ضدّ الرّبح ، وقد ذكرها جل وعلا لأنه يعلم شدة حزن الإنسان وحسرته إذا خسر ماله ، فكيف يكون تأسّفه إذا خسر دينه؟ ولذا لم يقل : من الكافرين ، لأن الكافر لا يكون مهتّما بكفره ولا يبحث عمّا يخلّصه منه ، ولو أنه فعل ذلك لاهتدى وكان من المؤمنين.

٩٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) : أي أن الذين لا يؤمنون ولا يصدّقون بالله وبرسوله مع القدرة على الإيمان بذلك ومع عدم محاولة الايمان والتصديق ، وجب لهم سخط الله تعالى واستحقوا وعيده الخاصّ بالكافرين.

٩٧ ـ (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ...) : هي تتمة للآية السابقة : يعني أن المتقاعسين عن الإيمان الراغبين عنه المنصرفون إلى لهوهم ولعبهم ، لو أتتهم أيّة معجزة دالّة على وجود الله وصحة النبوّة ، حتى ولو كانت ممّا اقترحوه على نبيّهم ، فإنهم لا يؤمنون حتى يقعوا في العذاب الموجع الذي يلجئ للإيمان إلجاء لا فائدة منه. ومجمل القول أن هذه الفئة من الكفار ليس عندها قابلية اختيار للإيمان ، كما هو في معلوم الله جلّ وعلا.

* * *

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى

حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

٩٨ ـ (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ ... فَلَوْ لا) معناها : هلّا ، وهي للتحضيض كقولك : هلّا أتيتني لأقضي حاجتك؟ ثم هي للتأنيب كقولك : هلّا كففت عن الفساد؟ و (كانَتْ) هنا تامّة لا تحتاج إلى خبر. والمعنى : فهلّا كان أهل كل قرية آمنوا في الوقت الذي ينفعهم فيه إيمانهم؟ فإن الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع كما أنه لا يفيد عند الموت وسقوط التكليف ، وقوم يونس لم يقع بهم العذاب ولكنهم رأوا الآية الدالة عليه فلجئوا إلى الله تعالى وابتهلوا إليه وتضرّعوا وأعلنوا توبتهم ، شأنهم في ذلك شأن المريض الذي يتوب في مرضه ويرجو الشفاء ليعود إلى استئناف العمل الصالح. والحاصل أنه هلّا كانت كل قرية آمنت وقت الإيمان (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن ارتفع عنها عذاب الله ، ولم تؤجّل إيمانها حتى وقوع العذاب؟ فإننا لم نقبل إيمان قوم على هذا الشكل (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) مستثنيا قوم يونس الّذين (لَمَّا آمَنُوا) عند نزول العذاب وقربه منهم (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صرفناه عنهم ونجّيناهم من عاره وشناره وعاقبته الوخيمة (وَمَتَّعْناهُمْ) تركناهم يرتعون في نعمنا (إِلى حِينٍ) أي : إلى انقضاء آجالهم.

وقد ذكر المفسّرون أن يونس عليه‌السلام كان بنينوى من أرض الموصل ، وكان يدعو قومه إلى الإسلام وينذرهم ويحذّرهم فلا يستمعون إليه. فضاق بهم ذرعا لما كانوا عليه من عناد فدعا عليهم بالعذاب والاستئصال. ثم أخبرهم يوما أن العذاب نازل بهم في صبيحة ثلاث ليال إن لم يتوبوا ويعودوا عن كفرهم. فخافوا لأنهم قالوا لم نجرّب عليه كذبا ،

ثم قالوا : انظروه فإن بات تلك الليلة بيننا فلن يقع عذاب ، وإن تركنا وخرج فاعلموا أن العذاب مصبحكم. وفي جوف الليلة المعيّنة خرج يونس ، فأصبحوا وقد أغامت السماء غيما أسود مخيفا يدخّن دخانا شديدا ، هبط على مدينتهم فغشّاها فاسودّت سطوحها. فلمّا رأوا ذلك خافوا الهلاك فطلبوا يونس عليه‌السلام فلم يجدوه ، فخرجوا إلى الفلاة هم ونساؤهم وأولادهم ودوابّهم ولبسوا لباس الذّل وأظهروا التوبة والإيمان وفرّقوا بين كل أمّ وابنها وبين كل دابّة ورضيعها فعلا حنين بعضها إلى بعض ، وعلت الأصوات والابتهالات وأعلنوا إيمانهم بما جاء به يونس عليه‌السلام ، فرحمهم‌الله سبحانه وتعالى واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد أن كاد يظلّهم. وروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه كان فيهم رجل اسمه مليخا ، عابد ، وآخر اسمه روبيل ، عالم. وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم ، وكان العالم ينهاه ويقول : لا تدع عليهم فإن الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد فدعا عليهم ، فأوحى الله إليه أنه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا. فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم. فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم : أفزعوا إلى الله فلعلّه يرحمكم ويردّ العذاب عنكم. فاخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين سائر الحيوان وأولادها ، ثم ابكوا وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب وكان قد نزل بهم وقرب منهم. ومرّ يونس على وجهه مغاضبا كما حكى الله تعالى عنه حتى انتهى إلى ساحل البحر فإذا سفينة قد شحنت وأرادوا أن يدفعوها ، فسألهم يونس أن يحملوه ، فحملوه. فلمّا توسطوا البحر بعث الله عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة ، فتساهموا فوقع من بينهم السهم على يونس فأخرجوه فألقوه في البحر ، فالتقمه الحوت ومرّ به في الماء. وقيل إن أهل السفينة قالوا نقترع على من نلقيه للحوت فإن بيننا عبدا آبقا. فاقترعوا سبع مرات فوقعت القرعة على يونس ، فقام وقال أنا العبد الآبق وألقى نفسه في الماء فابتلعه الحوت ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت : لا تؤذ شعرة

منه ، فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك ، فلبث في بطنه ثلاثة أيام ، وقيل سبعة أيام ، وقيل أربعين يوما ... فنادى في الظّلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانه إني كنت من الظالمين ، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحر البحر وهو كالفرخ المتمعّط ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ، فجعل يستظل تحتها ، ووكّل الله به وعلا يشرب من لبنها. ثم يبست الشجرة فبكى عليها فأوحى الله تعالى إليه : تبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن أهلكهم؟ فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى فقال : من أنت؟ قال : من قوم يونس. قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس. فأخبرهم الغلام ، وردّ الله عليه صحّته ورجع إلى قومه فآمنوا به. وقيل : بل أرسل إلى قوم آخرين والله أعلم.

٩٩ ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ...) لو شاء : أراد الله تعالى الإيمان لكان إيمانا ملجأ إليه العبد ومجبرا. فلو أراد سبحانه لصدّق أهل الأرض (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يا محمّد ولكن لا ينفع الإيمان بالإكراه (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) تجبرهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مع عدم قدرتك على ذلك وعدم جدواه ، ومع قدرتنا عليه؟ فلا ينبغي لك أن تكرههم على الإيمان. وقد أراد بذلك تسلية نبيّه (ص) عن عناد الكفرة من قريش وغيرهم ... ولفظة (كُلُّهُمْ) تأكيد ل (مَنْ). و (جَمِيعاً) نصب على الحال ، أي : مجموعين.

١٠٠ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ...) أي ليس ميسورا لأحد أن يؤمن (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) تعالى ، بأن يطلق ذلك له ويمكّنه منه بما خلق له من الفهم والعقل والتبصّر والتدبّر. وقيل إن «الإذن» هنا هو العلم ، يعني أنه لا يؤمن أحد إلّا بعلمه أو بإعلامه له بفضل الإيمان وبما يبعثه إليه فيدخل في عباد الله المؤمنين (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) : السّخط والقذر والعذاب ، يجعلها (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي من لا يدركون ولا يعون الحقّ.

* * *

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

١٠١ ـ (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) انظروا : أي اطلبوا الحقيقة عن طريق الفكر ، وتأمّلوا ما في السماوات والأرض. فقل يا محمد لمن يسألك عن الآيات والمعاجز فلينظر الدلائل والعجائب في مخلوقات الله تعالى كمجاري الشمس والقمر والنجوم ومختلف الأفلاك ، وكالبحار واليابسة وحركة الأرض وجميع ما في الكون من جمادات وأحياء (وَ) لكن (ما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا تفيد الدلائل والبراهين ولا أقول الرّسل والمرشدين عند قوم لا يحملهم الخوف من سوء العاقبة ، لأنهم لا ينظرون في الآيات التي حولهم نظر تفهّم وتعقّل ، والحجج لا تفيد مع من لا يقبلها.

١٠٢ ـ (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا ...) أي فهل ينتظر الّذين تأمرهم بالإيمان فيأبون التصديق بأدلّتك ومعجزاتك ، إلّا أن يصيبهم مثل ما أصاب الّذين خلوا : أي مضوا من قبلهم ، في أيام نزول العذاب عليهم كأيّام عاد وثمود وقوم نوح وغيرهم. والمعنى أنهم لا ينتظرون إلا مثل ذلك ، ف (قُلْ) لهم يا محمد : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فتوقّعوا العذاب الذي وعد الله به الكافرين ، وأنا أنتظره معكم في جملة من ينتظره.

١٠٣ ـ (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) ننجّي : أي نخلّص الأنبياء الذين بعثناهم وجميع من آمنوا معهم حين حلول العذاب وحال وقوعه ، و (كَذلِكَ) أي مثل نجاة من مضى من المؤمنين ننجّي من بقي ، وقد حقّ ذلك (حَقًّا عَلَيْنا) في قضائنا ، وجعلناه واجبا علينا من جهة الحكمة ومن باب اللطف بعبادنا (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) الماضين منهم والحاضرين نخلّصهم

من عذاب الدنيا والآخرة. والمعنى : أننا ننجي المؤمنين حقّا. وفي المجمع عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنه قال لأصحابه : ما يمنعكم من أن تشهدوا على من مات منكم على هذا الأمر ـ أي الولاية ـ أنه من أهل الجنّة؟ إن الله تعالى يقول : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

* * *

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤))

١٠٤ ـ (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ ...) هذا خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمره به الله تعالى أن قل يا محمد للناس : أي الكفّار الذين ترفّع سبحانه عن تسميتهم : إن كنتم في شكّ : ريب (مِنْ دِينِي) وهل هو حقّ «ف» أنا (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ) تقدّسون وتصلّون له من الأوثان والأصنام (مِنْ دُونِ اللهِ) بدلا عن عبادته تعالى (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ) وحده (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقدر على إماتتكم وأخذكم من الحياة (وَأُمِرْتُ) من قبل ربّي (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين المخلصين عقيدة وعملا.

ولو قيل : كيف قال : ان كنتم في شكّ من ديني ، وهم يعتقدون بطلان دينه وقد فاقوا بذلك مرتبة الشك؟ فالجواب : أنهم في حكم الشاكّين لما كان في نفوسهم من الاضطراب لأن دعوة النبيّ (ص) زعزعت احترام آلهتهم في نفوسهم ولو ثبتوا على العناد في عبادتها ، كما أن بينهم شاكّين فعلا فغلب ذكرهم لاعتبارهم أكثر من غير الشاكّين. على أنّ (إِنْ) شرطيّة ، وتقدير الكلام : من كان شاكّا في أمري فهذا حكمه ، فلا تطمعوا في أن أشك وأعبد غير الله ... فإن كنتم في شكّ : شرط ، وجوابه : فلا أعبد.

* * *

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

١٠٥ ـ (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ...) هذه الآية الشريفة معطوفة على سابقتها ، فكأنه قال في السابقة : وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وقيل لي : (أَقِمْ وَجْهَكَ) أي توجّه (لِلدِّينِ) واستقم فيه وأقبل على ما كلّفت به من القيام بأعباء الرسالة والدعوة إلى الإسلام (حَنِيفاً) أي : مستقيما. وقيل : أقم وجهك نحو الكعبة في الصلاة ، والأول أصح ، فقل لهم : قيل لي أن افعل ذلك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : نهي عن الشّرك في الله بعبادة غيره.

١٠٦ ـ (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ ...) أي لا تذكر غير الله معبودا مما لا ينفعك ذكره والدعاء إليه إن أنت أطعته (وَلا يَضُرُّكَ) إن أنت عصيته وتخلّيت عنه. وليس معنى هذا القول أن عبادة من ينفع أو يضرّ جائزة ، بل معناه أن عبادة غير الله ممّن يضر وينفع قبيحة وكفر ، وعبادة غيره ممّن لا ينفع ولا يضرّ أشدّ قبحا وأعظم كفرا. أو أن المعنى : من لا ينفع ويضر نفع الإله وضرره (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : إذا عملت بخلاف ما أمرت به والعياذ بالله ، تكون ظالما لنفسك ، والخطاب للنبيّ (ص) من باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، أي أن من يفعل ذلك يكن من الظالمين.

١٠٧ ـ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) أي إذا أصابك من الله سوء أو شدة أو مرض أو غير ذلك من النوازل (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي : لا مزيل

له غيره سبحانه وتعالى لأنه وحده قادر على ذلك كقدرته على النفع والضر (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من نعمة يتفضّل بها عليك أو من صحة أو أمن أو غيره (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي فلا أحد يردّ : يمنع الفضل والنعمة والخير عنك ، فهو (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ) يريد (مِنْ عِبادِهِ) فيعطي الواحد منهم ما تقتضيه الحكمة وما تدعو إليه المصلحة (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) المتجاوز عن ذنوب عباده الرؤوف بهم.

* * *

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

١٠٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ ...) أي : أعلن يا محمد بين الناس وناد بهم قائلا لهم : قد جاء الحق : أتاكم القرآن ودين الإسلام الذي هو الحقّ ، أو هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ـ جاءكم ذلك (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من خالقكم ورازقكم وما لك أموركم (فَمَنِ اهْتَدى) استدلّ بالحجج وعرف أن الدّين الإسلاميّ حق وصواب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِه) أي تعود عليه منفعة هدايته وإيمانه ، ويفوز بثواب عقيدته وعمله (وَمَنْ ضَلَ) عدل عن ذلك وكفر بالآيات والبيّنات والدعوة إلى الله والدّين (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يكون وبال ضلاله على نفسه ، وهو يجني عليها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يعني أن ليس محمدا (ص) على الناس بحفيظ يدفع عنهم الهلاك ويمنع عنهم العقاب كما يكون الوكيل حفيظا على مال غيره. فهو (ص) مبلّغ وغير ملزم بجعلهم مهتدين ولا بإنجائهم من النار كما يحفظ الوكيل المال من التلف والضياع.

١٠٩ ـ (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) هو خطاب لنبيّه الكريم أن سر

بحسب ما ينزل عليك من ربّك بالوحي (وَاصْبِرْ) على تكذيب الكافرين وأذاهم وكيدهم لك وابق على أناتك (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) يقضي بينك وبينهم بظهور الدّين ونصر دعوتك وإعلاء أمرك الّذي هو أمر الله (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه الحاكم بالعدل الذي لا يحيف في حكمه ويتنزّه عن الجور.

* * *

سورة هود

مكية ، وهي مائة وثلاث وعشرون آية

* * *

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

١ ـ (الر ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ...) الر : مرّ تفسير هذه الرموز في أول البقرة ، و (كِتابٌ) يعني القرآن الكريم ـ وهو مرفوع خبرا لمبتدأ محذوف بتقدير : هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي أثبتت دستورا لا ينسخ أبد الدهر كما نسخ غيره من الكتب السماوية (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ببيان الحلال والحرام وسائر ما في الشريعة الإسلامية من الأحكام ـ أحكمت ثم فصّلت (مِنْ لَدُنْ) من قبل أو من عند (حَكِيمٍ) في جميع تدابيره وأحكامه (خَبِيرٍ) عليم بأحوال خلقه وبمصالحهم. وقيل (أُحْكِمَتْ) آيات الكتاب بالأمر والنهيّ و (فُصِّلَتْ) بالوعد والوعيد ، وقيل (أُحْكِمَتْ) آياته جملة ،

و (فُصِّلَتْ) واحدة واحدة لتبيّن الأحكام للمكلّفين بالتفصيل. ثم قيل (أُحْكِمَتْ) في نظمها الفصيح المعجز ، و (فُصِّلَتْ) بالشرح وببيان الشرع. وقيل أيضا (أُحْكِمَتْ) فما فيها خلل ولا باطل ، و (فُصِّلَتْ) بتتابع بعضها بعضا لتفصيل الأحكام المختلفة ، وكل ذلك يشمله إحكام وتفصيل آيات القرآن الكريم.

ونلفت النظر إلى أن هذه الآية الشريفة تدل دلالة قاطعة على أن كلام الله تبارك وتعالى محدث لأن الإحكام والتفصيل من صفات الأفعال ، مضافا أن ذلك (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي أن الفعل أسند إلى محدث وأضيف إليه ، فتأمّل.

٢ ـ (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أحكم آيات هذا الكتاب وفصّلها ، ثم أنزله إليكم آمرا أن لا تعبدوا غيره. فلفظة (أَلَّا) تتألف من (أن) و (لا) المدغمتين. فقل يا محمد ذلك للنّاس ، وقل : (إِنَّنِي) أنا رسول الله إليكم ، وأنا (مِنْهُ نَذِيرٌ) يخوّفكم البقاء على الكفر والعصيان (وَبَشِيرٌ) يبشّر السامعين المطيعين بالجنة وجزيل الثواب.

٣ ـ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ...) هذا تمام لما قبله ، أي جئت لآمركم أن تطلبوا المغفرة من الله والتجاوز عن الذنوب بالتوبة الصحيحة. والتوبة والاستغفار متلازمان لأن الاستغفار إنما يكون بعد التوبة كما أن التوبة تستدعي الاستغفار مما سلف من المعاصي. فإن فعلتم ذلك (يُمَتِّعْكُمْ) يمنحكم الله المتعة بنعمه (مَتاعاً حَسَناً) برغد ودعة وخفض عيش (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى وقت قدّره لكم يعقبه الموت (وَيُؤْتِ) يعطي (كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) كلّ صاحب إفضال على غيره بالمال أو بسواه ، حتى الكلمة الطيّبة ، وكل من يعمل عملا صالحا ، يعطيه ثواب ما عمل. وهذا يقوّي أن تكون (الهاء) في (فَضْلَهُ) عائدة لاسم الله تعالى المكنون في (يُؤْتِ وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن تتولّوا : تعرضوا وتميلوا عما أمرتم به (فَإِنِّي أَخافُ) أخشى (عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) أي كبير شأنه ، بحيث

يكون عذابا غاية في العظم ، وهو عذاب جهنّم في يوم القيامة نعوذ بالله منه.

٤ ـ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : يعني أن معادكم ومصيركم في يوم القيامة إلى الله الذي يحكم في ما قدّمتموه من خير أو شر ، وهو القادر على إحيائكم وبعثكم للثواب والجزاء فتجنّبوا معاصيه.

* * *

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

٥ ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ... أَلا) حرف استفتاح يستعمل للتّنبيه ولا محلّ له من الإعراب ، وما بعده يكون مبتدأ. و (يَثْنُونَ) يعطفون ويميلون. والمعنى : انتبه أيها السامع إلى أن المنافقين يعطفون ويطوون صدورهم على ما هم عليه من غلّ وكفر حتى لا يسمعوا ما أنزل الله من آيات وبيّنات. وذكر الزجاج وغيره أنهم حين ينضمّ بعضهم إلى بعض لمكايدة النبيّ (ص) ونشر الفساد يثني الواحد منهم صدره إلى صدر صاحبه ويتناجون في تدبير المكائد (لِيَسْتَخْفُوا) ليطلبوا الخفاء والتستّر مختبئين (مِنْهُ) أي من الله عزوجل ، ظنّا منهم أن ثني الصدر يحول دون علم الله جلّت قدرته ويستر منه ومن رسوله الكريم! ... ولكن (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي حين يتغطّون بثيابهم ويتستّرون بها عند تآمرهم بشأن النبيّ (ص) (يَعْلَمُ) الله سبحانه (ما يُسِرُّونَ) ما يقولونه في السّر (وَما

يُعْلِنُونَ) وما يقولونه علنا على رؤوس الأشهاد لأنه لا تخفى عليه خافية ، بل يعلم السرّ وأخفى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم وساوس الصدور وما تكنّه القلوب وتتحدّث به النفوس.

٦ ـ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ...) أي ليس من حيوان يدبّ على وجه الأرض : يمشي ، من جميع ما خلقه الله تعالى على هذه الصفة حتى الجن والإنس والطير ، ما من ذلك نفس (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فهو سبحانه متكفّل لها بالرزق الخاص بها الذي يصلها بحسب ما توجبه حكمة خالقها جلّ وعلا (وَ) هو (يَعْلَمُ) يعرف (مُسْتَقَرَّها) مكان قرارها فيما بين الأصلاب والأرحام وفيما بعد ذلك من وجوه تقلّباتها في الأرض ، ويعلم (مُسْتَوْدَعَها) أي ما تصير إليه وأين تصبح وديعة بعد موتها (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي كل هذه التفصيلات بشأن كل مخلوق وكائن ، مكتوب ومسجّل في كتاب ظاهر هو اللّوح المحفوظ ، أثبته فيه لطفا منه بملائكته الموكّلين لأنه هو عالم لذاته لا يعزب عنه علم شيء البتة.

* * *

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

٧ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) أي أن هذا الذي خلق كلّ نفس وتكفّل برزقها ، ويعلم مستقرّها ومستودعها ، هو منشئ السماوات والأرض وخالقهن بقدرته (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وهذا إخبار منه سبحانه بإنشائهما في هذه المدة مع أنه يقدر على إيجادهما بمثل لمح البصر ، ولكنه أجرى ذلك مجرى الحكمة في الترتيب والتدبير ، وعلى مبدأ أن الأمور لا تجري إلّا على منهاج النظام والتقدير. أمّا الأيام الستة التي ذكرها سبحانه فهي تعني وقتا مقداره ستة أيام من أيامنا المحدودة بطلوع الشمس وغروبها إذ لم يكن هناك أيام بعد ولا ليالي (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي كان مكان منطلق سلطانه وقدرته وملكه على الماء ، وهذا يدل على وجود الماء والعرش قبل السماوات والأرض كما تشير آيات كثيرة. وقيام العرش على الماء أبدع وأعجب كما عن أبي مسلم ، وأعجب وأبدع منه أن الماء لم يكن قائما على موضع قرار إلّا بما يمسكه به تبارك وتعالى من قدرته ، وقد فعل ذلك كله (لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فيظهر إحسان المحسن ، لأنه تعالى عن أن يجازي الناس بحسب معلومه ومن غير اختبار وابتلاء وقبل أن يعملوا ما هم عاملون (وَلَئِنْ) أي : والله إذا (قُلْتَ) لهم يا محمد : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ) معادون أحياء (مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) للحساب والثواب والعقاب (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فسيقول الكافرون مؤكّدا : (إِنْ هذا) ما هذا القول (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ليس سوى تمويه ظاهر لما لا حقيقة له في الواقع. وننبّه إلى أن (اللام) في (وَلَئِنْ) لام القسم ، ولا يجوز أن تكون (لام الابتداء) لأنها دخلت على (إن) التي للجزاء ، ولام الابتداء للاسم أو ما ضارعه.

٨ ـ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ ...) أي : إذا أجّلنا عذاب الهلاك والاستئصال عن هؤلاء الكفار المكذّبين لك يا محمد (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الأمة هنا : الحين ، أي إلى أجل وحين محسوب مقرّر وقته. وذلك كقوله سبحانه : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : أي بعد حين. وقيل معناه : إذا أخّرنا عذابهم إلى جماعة معدودين يتعاقبون مصرّين على الكفر تقتضي الحكمة إهلاكهم.

وقيل إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهديّ عجّل الله تعالى فرجه وجعل أرواحنا فداه ، يأتون في آخر الزمان ، ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا ، على عدّة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف كما هو المرويّ عن الإمامين الصادقين عليهما‌السلام ـ فإذا أخّرنا عذاب الكفار إلى ذلك الوقت (لَيَقُولُنَ) أي من المؤكّد قولهم على وجه الاستهزاء : (ما يَحْبِسُهُ) أي ما يمنع ذلك العذاب عنّا إن كان حقّا؟ ولماذا كان تأخيره؟ فنحن نعلن لهم قائلين : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) إنه حين يجيئهم ويحلّ بهم (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يكون من غير الممكن تحويله عنهم إذ لا أحد يقدر على صرفه في زمانه ومكانه (وَحاقَ) نزل بهم محيطا من جميع الجهات (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي العذاب الذي كانوا يسخرون منه.

* * *

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

٩ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ...) أي : إذا رحمنا الإنسان وأنزلنا عليه النّعم من مال وولد (ثُمَّ نَزَعْناها) أي أخذنا وسلبنا تلك الرحمة (مِنْهُ) حين نرى المصلحة في ذلك (إِنَّهُ) أي الإنسان (لَيَؤُسٌ) مستسلم لليأس والقنوط الأكيد (كَفُورٌ) شديد الكفر لأن من عادته الكفر بنعمة ربّه. وهذا شأن جهلة الكفّار الّذين حرموا من معرفة أبواب حكمة الله في العطاء والأخذ بحسب المصالح ، نعوذ بالله من ذلك.

١٠ ـ (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ...) أي إذا أعطينا الإنسان نعمة جزيلة وأنزلنا عليه فضلا كبيرا بعد بلاء شديد أصابه (لَيَقُولَنَ) بعد حلول النعمة يقول بكل تأكيد : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي راح ما يسوؤني من الآلام والفقر وغيرهما ، ثم ينسى فضل الله ولا يشكره لا على ذهاب الضرّاء ولا على حلول النّعماء (إِنَّهُ) لقلّة تفكّره بشكر المنعم حين زوال الضّر (لَفَرِحٌ) مسرور شديد السّرور (فَخُورٌ) يزدهي ويتيه فخرا بين الناس لما أصابه من فضل وهو غير شاكر لذهاب الضّر ومجيء العافية.

١١ ـ (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) هذا تتمّة لما سبقه ، فقد استثنى سبحانه من جحده (الَّذِينَ صَبَرُوا) على البلاء ، وقابلوا الضّر والشدائد بالصبر وبالحمد على السّراء والضرّاء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فعلوها وقاموا بالطاعات وجميع الواجبات وداوموا على الصلاح ، ف (أُولئِكَ) هؤلاء (لَهُمْ) من ربّهم (مَغْفِرَةٌ) تجاوز عن ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثواب عظيم هو الجنّة.

* * *

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

١٢ ـ (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ...) أي عساك يا محمد ـ أثناء تلاوة ما ينزل عليك من هذا القرآن على الكفار ، تترك بعض ما فيه من التشنيع على آلهتهم وتتخلّى عنه لتخلص من أذاهم (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي تبدو متضايقا من حجاجهم وتكذيبهم أو من اقتراحاتهم عليك (أَنْ يَقُولُوا) أي مخافة أن يقولوا والجملة في موضع نصب بأنها مفعول له (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) يا ليت لو نزل عليه كنز من المال (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) نزل معه يصدّقه بما يقول ويشهد له (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) أي لم نبعثك لهم إلّا منذرا مخوّفا لهم من عذاب الله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي أنه حفيظ على كل شيء وبيده مقاليد السماوات والأرض يقدر على النفع ودفع الضرر كما هو شأن الوكيل القائم على حفظ الأشياء. أما كلمة «لعلك» التي تأتي غالبا في مجال الشك ، فيراد بها هنا النهي عن ترك أداء الرسالة برمّتها ، والحثّ على تلاوة القرآن الموحى به كما هو. فالمعنى : لا تترك شيئا مما يوحى إليك ولا يضيق صدرك بأذاهم فأنت نذير. وعن ابن عباس أن رؤساء قريش أتوا النبيّ (ص) فقالوا : إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوّة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وفي العياشي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : أن رسول الله (ص) قال لعليّ (ع) إني سألت ربّي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربي أن يجعلك وصيّي ففعل ، فقال بعض القوم : والله لصاع من تمر في شنّ بال أحب إلينا ممّا سأل محمد ربّه ، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستعين به على فاقته؟ فنزلت الآية الشريفة.

١٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي : بل أيقولون افترى هذا القرآن واخترعه من عنده ونسبه إلى الله ، ف (قُلْ) يا محمد إذا متحدّيا لهم : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي : جيئوا بعشر سور تضاهيه نظما وبلاغة وإعجازا تكون مكذوبة على الله مثل هذا القرآن الذي تزعمون افتراءه وكذبه عليه ، وقد نزل بلغتكم العربية وأنتم فصحاء. ثم ارتق معهم في تحدّيك لهم فقل : حاولوا ذلك (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) واطلبوا معونة من شئتم ومن قدرتم

عليه لتعارضوه وتقلّدوه (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ما سوى الله القادر وحده على الإتيان بمثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم. وهذا منتهى التحدي لأنه أيضا وعدهم بالخسران والقتل والأسر إلى جانب ما عاب به عقائدهم وأصنامهم ، إلى جانب حرصهم على إبطال دعوته وتفشيل أمره ودحض حججه. ولو سأل سائل : لم تحدّاهم سبحانه مرة بعشر سور ، ومرة بسورة ، وثالثة بحديث مثله ، فالجواب أن المقترح يورد تحدّيه بما يظهر فيه الإعجاز سواء كان بالأقل أو بالأكثر طالما كان واقعهم العجز عن معارضة القرآن ، وكان لا فرق بين التحدّي بسورة أو بآية ..

١٤ ـ (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ...) أي إذا لم يجب الكفار على هذا التحدّي بالإتيان بعشر سور (فَاعْلَمُوا) اعرفوا وتيقّنوا أيها المسلمون ـ والخطاب لهم ـ (أَنَّما أُنْزِلَ) هذا القرآن الكريم (بِعِلْمِ اللهِ) ولم يفتر عليه. وقيل بل الخطاب للكفار : أي إذا لم يستجب لكم من تدعونه لمشاركتكم في معارضة القرآن فاعلموا أن القرآن معجز من عند الله وأن الحجة قد قامت عليكم ولزمتكم ، وهو قول وجيه. كما قيل إن الخطاب لرسول الله (ص) على طريقة التفخيم.

أما نزوله (بِعِلْمِ اللهِ) فمعناه أنه جلّ وعلا عالم به وبأنه حقّ ليس فيه افتراء ، وأن تأليفه ليس من إنسان قاصر مهما بلغت فصاحته بل هو مما يتلاءم مع عظمة الله وجلاله ، وأن الإعجاز الذي فيه يقصر كل علم دون علمه سبحانه عنه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعني منقادون للحجة بعد قيامها عليكم ومسلّمون بأن القرآن حقّ نزل من عند الله تبارك وتعالى؟

* * *

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

١٥ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) الزينة هي تحسين الشيء بغيره بلبس جميل أو حلية أو تجميل هيئة. والمعنى : أن الذين يرغبون في الحياة الدنيا وحسن بهجتها وما يغرّ فيها من غير أن يحسبوا حسابا للآخرة (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي نعطهم جزاء أعمالهم تامة بكمال الوفاء (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا يلحقهم النقص لا في مجال عطائنا للخلق في دار الدنيا ، ولا في مجال جزاء الأعمال في الآخرة. فقد يعطى الكافر في دار الدنيا عوض برّه وصلة رحمه وإحسانه إلى الآخرين وإغاثته للمظلومين ويعجل له ذلك مع إنكاره له جلّ وعلا ومع تكذيبه بالبعث والحساب ، وقيل كثيرا حول من تشملهم هذه الآية كالمنافقين الذين كانوا يغزون مع النبيّ (ص) للكسب والغنيمة دون الرغبة بثواب الآخرة ، وكغيرهم من أهل الدنيا الذين يعيشون بلا دين.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ...) أي أن الذين يريدون الدنيا وزينتها فقط ، نعوّض عليهم جزاء حسناهم في الدنيا وليس لهم في الآخرة (إِلَّا النَّارُ) التي يدخلونها بكفرهم وبعدم تجنّبها (وَحَبِطَ) سقط وجاء على خلاف الوجه الصحيح المطلوب كلّ (ما صَنَعُوا) عملوا (فِيها) في الدّنيا (وَباطِلٌ) ذاهب سدى (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من عمل لم يقصدوا به الله عزوجل. وذكر الحسن في تفسيره أن رجلا من أصحاب النبيّ (ص) خرج من عند أهله فإذا جارية عليها ثياب وهيئة ، فجلس عندها ، فقامت فأهوى بيده إلى عارضها ، فمضت فأتبعها بصره ومضى خلفها ، فلقيه حائط فخمش وجهه ، فعلم أنه أصيب بذنبه. فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فذكر له ذلك فقال : أنت رجل عجّل الله عقوبة ذنبك في الدّنيا. إن الله تعالى إذا أراد بعبد شرّا أمسك عنه عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ، وإذا أراد به خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدّنيا.

* * *

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

١٧ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ...) البيّنة هي الحجة التي تفصل بين الحق والباطل. و : من كان على بيّنة من ربّه مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : أفمن كان على بيّنة من ربّه ، كمن لا بيّنة له؟ وخذا استفهام يراد به التقرير ، والبيّنة هي القرآن أو هي بيّنة نبوّة محمد (ص) ... وليس من كان يدين بدين قويم (وَيَتْلُوهُ) يتبعه (شاهِدٌ مِنْهُ) أي من يشهد من قبل الله تعالى أي جبرائيل عليه‌السلام الذي يتلو القرآن على النبيّ (ص) وقيل بل الشاهد من الله تعالى هو محمد (ص) كما عن أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وأرواحنا فداه وعن غيره ، وقيل إن الشاهد هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام يشهد للنبيّ (ص) وهو منه بحسب المرويّ عن أبي جعفر وعن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلاموغير هما (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن الذي يدور الكلام في الآية حوله (كِتابُ مُوسى) وهو التوراة التي بشّرت بمحمد (ص) والعبارة عطف على قوله ويتلوه شاهد منه ، أي وكان يتلوه كتاب موسى من قبله. (إِماماً) دليلا يؤتمّ به في أمور الدين وأحكامه (وَرَحْمَةً) نعمة ولطفا منه سبحانه على عباده ، ورحمة وإماما منصوبان على الحال (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين يؤمنون بمحمد (ص) أو بالقرآن. وحاصل المعنى في الآية الشريفة وسابقتها : ليس من كان على بينة من ربه كمن هو على غير بيّنة فالذين هم على بيّنة معها شاهدها يؤمنون به وليسوا كمن أراد الحياة الدّنيا وزينتها (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) يجحد بمحمد وبالقرآن (مِنَ الْأَحْزابِ) وهم المشركون عامة وأصحاب الأديان

المنسوخة (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي هو موعود بها بحيث تكون مقرّه ومصيره. وفي الحديث أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يسمع بي أحد من الأمة ، لا يهوديّ ولا نصرانيّ ، ثم لم يؤمن بي إلّا كان من أهل النار (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : لا تكن في شك من ربك ومما أنزله أيها النبيّ ، بل أيها الإنسان السامع ، لأن الخطاب للنبيّ (ص) والمراد به عامة الناس (إِنَّهُ الْحَقُ) الذي لا شك فيه (مِنْ رَبِّكَ) من الله سواء أكان المقصود القرآن أم النبيّ (ص) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصدّقون بصحته وبأنه من عند الله بسبب جهلهم وكفرهم المطبق.

* * *

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢))

١٨ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) هذا استفهام يحمل الاستهجان والاستنكار ، ويعني أنه ليس أظلم ممّن يكذب على الله ،

والصيغة القرآنية في غاية البلاغة ، ف (أُولئِكَ) المفترون (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي يوقفون يوم القيامة بحيث يراهم الناس ويسألون عن افتراءاتهم ، (وَ) عندها (يَقُولُ الْأَشْهادُ) من الملائكة الحفظة الذين يشهدون على ذلك وغيره. وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم الأئمة في كل قوم ، يقول أولئك الأشهاد : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) أي نافقوا على رسل ربّهم وأضافوا إلى رسالاتهم ما لم يقله افتراء عليه (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي اللعنة موجّهة للذين ظلموا أنفسهم بافترائهم. واللعنة هي إبعادهم من رحمته ، والجملة ابتداء كلام يعلن النتيجة المنتظرة لهم بعد تنبيه الناس والاستفتاح ب (أَلا).

١٩ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) الجملة صفة للظالمين الذين لعنهم الله تعالى في الآية السابقة ، أي : هم الذين يصرفون الناس عن دين الله بجميع وسائلهم من نفاق وترغيب وترهيب (وَ) هم بذلك (يَبْغُونَها عِوَجاً) أي يريدون لسبيل الله زيغا وميلا عن الصواب كمثل ما يفعل أهل الكتاب من التغيير والتبديل في صفات النبيّ (ص) وغير ذلك (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالقيامة والبعث (هُمْ كافِرُونَ) جاحدون.

٢٠ ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ...) أي أولئك الكفار الملعونين سابقا ليسوا بفائتين الله إذا حاولوا هربا في الأرض ، ولا نعجز عن إدراكهم وأخذهم حين نريد لأنهم في قبضتنا وتحت سلطاننا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لهم من ينصرهم ويحميهم من بطش الله عزّ وعلا مما يوقعه بهم في الدنيا ، أو مما يحيق بهم من عذاب الآخرة ، و (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) مضاعفته ليست زيادة والعياذ بالله عمّا يستحقون وتعالى الله عن أن يجازيهم إلا بما يوازي معاصيهم سواء بسواء. وقد علل المفسرون هذه المضاعفة بأنه لا يقتصر لهم على عذاب الكفر ، بل يعاقبون على سائر معاصيهم مجموعة ، وذلك كقوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ). وأنه كلما مضى نوع من العذاب على جريرة ، يعقبه نوع آخر من العذاب أشد على الجريرة الأشد مسئولية ، وكلاهما على قدر الاستحقاق ، وذلك

أنهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ، وبما كانوا يقدرون على الإبصار فلا يبصرون لعنادهم وإصرارهم على الوقوف في وجه الحق ، وقد أسقطت الباء من (ما) كقول الشاعر الذي حذف (الباء) و (في) :

نغالي اللحم للأضياف نيئا

ونبذله إذانضج في القدور

أي : نغالي باللحم ... إذا نضج في القدور. وقيل : ما كانوا يستطيعون السمع ولا الإبصار لاستثقالهم آيات الله وكراهيتهم لها ، يعني ما كانوا يقدرون على حمل أنفسهم على الاستماع والإبصار لشدة غيظهم من ذلك.

٢١ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ...) أي أهلكوها بما استحقوا من عقاب فكان ذلك بمثابة الخسران إذ ليس بعد ذلك عوض (وَ) قد (ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فسّرناه سابقا.

٢٢ ـ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) : قال سيبويه في (لا جَرَمَ) : جرم فعل ماض ، و (لا) ردّ لقولهم ، كقوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ، لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ). قال : (لا) أي : ليس لهم الجنة ، ثم قال : (جَرَمَ) أي كسبهم وقولهم أن لهم الحسنى ، إنّ النار لهم. وقيل : جرم ، بمعنى : وجب. وقال الزجّاج : (لا) نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم ، كأن المعنى : لا ينفعهم ذلك جرم أنهم كسبوا الخسران في الآخرة بفعلهم. وقيل أيضا : معناه : لا بدّ ولا محالة أنهم الأخسرون. كما قيل : حقّا هم الأخسرون.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ

وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

٢٣ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) بعد الكلام عن الكافرين وعن العذاب المعدّ لهم في الآخرة ، نقل الكلام سبحانه إلى المؤمنين الّذين يقومون بطاعات ربّهم والائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه بدافع تصديقهم بالوحدانية وتصديقهم لرسول الله (ص) ثم ابتدأ الكلام ب (إِنَ) المؤكّدة على أن هؤلاء العباد الّذين عملوا بالواجبات (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أنابوا إليه وخشعوا لعظمته واطمأنّوا لوعده (أُولئِكَ) الموصوفون هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) مرّ تفسيره.

٢٤ ـ (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ ...) يضرب سبحانه هنا مثلا للمؤمنين والكافرين ، أي أن فريق المسلمين هو (كالبصير والسميع) الشديد البصر والشديد السمع ، وفريق الكافرين (كَالْأَعْمى) الذي لا يبصر ولا يرى (وَالْأَصَمِ) الذي لا يسمع ولا يعي ، فالمؤمن يتمتع بحواسّ التمييز وينتفع بها ويستعملها في سبيل خيره فينقاد لأوامر الدّين ، بينما الكافر لا ينتفع بحواسه ولا يسخّرها لخيره حاله في ذلك حال من هو معدوم من حواسّه ، ف (هَلْ يَسْتَوِيانِ) أي هل يتساوى السامع المبصر مع الأعمى الأصمّ (مَثَلاً) في مقام التمثيل والتشبيه وبنظر العقلاء؟ لا ، وكذلك لا تتساوى حالتا المؤمن والكافر (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) يعني : ألا تتفكّرون بذلك لتجدوا الفرق بينهما؟

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦))

٢٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ...) انتقل سبحانه إلى قصة نوح (ع) بعد ذكر المؤمنين والكافرين والوعد والوعيد ، فقال عزّ من قائل : قد بعثنا رسولنا نوحا إلى عشيرته فقال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فسّرناه سابقا. والحكاية تعني مثلا من أمثلته تعالى لرسوله عن رسله السابقين وما لاقوا من أممهم وعناد جبابرتها. فقد قال نوح (ع) لقومه : جئتكم منذرا :

٢٦ ـ (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ...) أي أن توحّدوا الله وتعبدوه ولا تعبدوا غيره (إِنِّي أَخافُ) أخشى وأحذر (عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي عذابه مؤلم موجع سواء كان عذابا في الدنيا أو في الآخرة وقد قال (أَخافُ) لأنه لا يعرف هل يسمعون ويطيعون أم لا ، وهو لطف في الدعوة مع علمه بأن عقاب الكفار كائن لا محالة. وجملة : أن لا تعبدوا يمكن أن يكون موضعها النّصب بأن كما هو الظاهر ، ويمكن أن يكون الجزم ب (لا الناهية).

* * *

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨))

٢٧ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ...) أي فأجابه رؤوس الكفر والضلال من قومه قائلين : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) يعني أنك إنسان مثلنا لا فرق بيننا وبينك ، زعما منهم بأن الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليهم ، جاهلين بأن الرسول الذي يكون مثلهم يكون أحسن

لمصلحتهم وأقرب إلى التفاهم والحجاج. فقد أنكروا كون الرسول بشرا منهم أولا ، ثم قالوا له : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) أي صدّقك وتابعك على أمرك (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعني السفلة ولم يتّبعك الأشراف والرؤساء بل الأخسّة الدنيئون (بادِيَ الرَّأْيِ) أي للفور ودون أن يتدبّروا قولك ، أو المقصود أنهم اتّبعوك في ظاهر الأمر وهم يبطنون خلافك. وقرئ : بادئ الأمر ، أي ابتداء ودون تفكير (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي ليس لك ولمن تبع مقالتك من إفضال علينا لا في المال ولا في جاه الدنيا ولا في النسب والشرف ، وسها عن بالهم إفضاله بدعوتهم ليخلصوا من الكفر إلى الإيمان إذ أبطرهم أنهم أرباب دنيا فهزءوا من أهل الدّين ونظروا إليهم نظرة ازدراء واسترذال ، وعقّبوا قائلين : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي نحسبكم غير صادقين فيما أنتم عليه.

٢٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ ...) أي قال نوح (ع) : يا قوم وقد حذفت الياء للنداء ونابت عنها الكسرة ، أتظنّون أني كاذب؟ ما رأيكم إن كانت دعوتي مبنيّة (عَلى بَيِّنَةٍ) برهان من ربي يصدّق نبوّتي (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ) أي أعطاني نعمة جزيلة هي النبوّة التي نزلت عليّ من عنده ، ثم عاندتم ذلك وكفرتم به (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) دعوتي (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : أنكرهكم بها ونلجئكم إلى الإيمان إلجاء؟ ليس ذلك بمقدوري ولكني أدلّكم على طريق الحق بالبيّنة والبرهان ولست مطالبا باضطراركم إلى ذلك اضطرارا فأنتم الذين تختارون. أما لفظة (أَنُلْزِمُكُمُوها) ففيها ثلاثة ضمائر هي : ضمير المتكلم وهو المستتر ، وضمير المخاطب وهو (كم) وضمير الغائب وهو (ها) وقد جاءت على أحسن ترتيب إذا بدأ بالمتكلم الذي ترمز إليه (ن : نون المضارعة) لأن ضمير المتكلم هو الأخص بالفعل ، ثم بالمخاطب لأنه هو المعنيّ ، ثم بالغائب الذي هو الموضوع.

وليس أبلغ ولا أفصح ولا أجمل من هذا الذي نجده في القرآن لمثل هذا الفعل الثلاثي (لزم) الذي عدّي بالهمز (ألزم) ثم صرّف في المضارع

واحتمل زيادة سبعة حروف (أصله ومزيداته وضمائره) وجاء محكم السبك ، جميل الجرس ، قوي البناء ، عميق المعنى ، يعطي صفة الاستعلاء على لسان نبيّ كريم يخاطب المعاندين الضالين.

* * *

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

٢٩ ـ (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً ...) قال نوح عليه‌السلام لقومه : إنني لا أطلب منكم مالا كأجر على دعوتي لكم إلى ما فيه الصالح لكم في الدارين فلا تخشوا ذلك ولا تخافوا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ليس ثوابي في تحمّل أعباء الدعوة إلّا على الله وحده (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) لست بمبعدهم عني ولا بمفرّقهم من حولي ، إذ قيل إنهم طلبوا طرد الفقراء الذين آمنوا به أنفة من الكون معهم وإذا طردهم آمن الرؤساء ، فقال لهم ذلك وزاد : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي سيقفون بين يديه يوم الحساب ويشكون إليه من طردهم وظلمهم إذ لا يستحقون الطرد بعد أن صدّقوه وآمنوا به (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون الحق ، فإن الناس يتفاضلون بالدّين لا بزخرف الدنيا ، ولو كنتم تعلمون لكرّمتموهم لأنهم سبقوكم بالايمان وكان لهم فضل ذلك ، أو أنهم يجهلون في الذي سألوه من طرد من كانوا حوله.

٣٠ ـ (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ ...) أي من يساعدني ويجيرني من عذاب الله (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أبعدتهم عني ونفيتهم وهم مؤمنون؟ فسيكونون خصمائي يوم القيامة (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي : أفلا تعقلون وينفعكم التذكّر والتدبّر؟

٣١ ـ (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ...) أي لا أرفض أجر الدعوة إلى الله منكم كبرياء ولا ترفّعا ولا إعطاء لنفسي فوق قدرها كأنني أملك خزائن الله التي لا تنفد (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لا أعرفه ولا أدّعيه ولا أعلم ما تسرّون في أنفسكم ولا كيف تكون مصائركم (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) أي أنني لست من غير البشر لأخبركم بما ينزل من السماء من عند نفسي ، بل أنا بشر مثلكم اختصّني ربّي جلّ وعلا بالرسالة من بينكم (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي لا أقول لمن تحتقرونهم من المؤمنين وتستخفّون ظهورهم مظهر الفقراء : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي لن يعطيهم في مستقبل حياتهم ـ إن في الدّنيا أو الآخرة ـ خيرا وثوابا على ما يعملون من طاعات وخيرات ، بل لقد وفّقهم للإيمان والعمل الصالح في دار الدنيا ، وسيعطيهم ثوابا جزيلا في الآخرة ، و (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) لأنه مطّلع على ما في القلوب من الإيمان أو الكفر ـ وإن أنا أطعتكم وطردتهم (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لهم ، لأنني لا أحكم على الباطن ولي الظاهر من إيمانهم المصدّق بالعمل وإنجاز التكليف ، ولن أضع نفسي في صنف الظالمين.

* * *

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))

٣٢ ـ (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا ...) أي أن قوم نوح عليه‌السلام قالوا له قد حاججتنا وناقشتنا في كل أمر (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فزدت في الحجاج والمخاصمة حتى ضقنا بك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) جئنا بالعذاب الذي وعدتنا به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بقولك أن ربّك يعذّبنا بكفرنا. وهذا معناه أنهم لم يكونوا مصدّقين به ولا بعذاب الله وأنهم غير مقتنعين بشيء من قوله وأنهم يتحدّونه ويتّهمون صدق وعده بالعذاب.

٣٣ ـ (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ ...) أي : أجاب نوح قومه قائلا : إن العذاب رهن بإرادة الله تعالى ، فهو يأتي به إذا أراد ، ولا يقدر على الإتيان به غيره فإن شاء قدّمه وإن شاء أخّره (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا يعجز عن إدراككم ولا تفلتون من قبضته ولا تهربون من ملكه.

٣٤ ـ (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ...) أي لا يفيدكم ما أقدّمه إليكم من النّصح (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) إذا شاء الله أن يحرمكم من نعمة الإيمان ومن الرحمة ويعاقبكم على الكفر. وكلمة (يُغْوِيَكُمْ) تعني : يعاقبكم ، وقد سمّى العقاب غيّا في غير هذا المكان حيث قال سبحانه : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، والغيّ هو الضلال والشر أيضا فقد قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

بل قد يقصد بها : إن أراد الله عقوبة غيّكم وإغوائكم الآخرين : أي ضلالكم وإضلالكم ، وقد سمّى العقوبة باسم المعاقب عليه ، أو أنه يريد أن النصح لا يفيد عند نزول العذاب وتمام الحجة لأن التوبة حينئذ لا تنفع ولا ترد العذاب (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالله تعالى هو خالقكم ومالككم وإليه تعودون وإلى تدبيره يصير أمركم وأمر عقابكم.

* * *

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))

٣٥ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ...) أي أنك يا محمد حين تروي قصة نوح (ع) مع قومه لكفار مكة وجبابرة قريش : هل يقولون افتريت هذا النبأ وابتدعت هذه القصة من عندك؟ (قُلْ) لهؤلاء المكابرين : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) إذا كنت قد كذبته وجئت به من عند نفسي كما تزعمون (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) فأنا أتحمّل عقوبة جرمي وأنتم لا تؤخذون به بل عاقبة ذلك عليّ وحدي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) وأنا في مقابل ذلك متبرّئ من إجرامكم ولا أؤخذ بما ترتكبونه من معاص وآثام. وعن ابن عباس أن القول يعني به نوحا (ع) وأنه من كلامه مع قومه ، والله أعلم بما قال.

* * *

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧))

٣٦ ـ (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ ...) أي أعلمه الله تعالى بواسطة الوحي أنه لن يصدّقك في دعوتك أحد من قومك في المستقبل ، ولن يؤمن لك (إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) حتى الآن (فَلا تَبْتَئِسْ) فلا يصيبنّك سوء ولا تحزن ، لأن الابتئاس هو الحزن مع الاستكانة ، أي فلا تغتمّ «ب» سبب (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من العناد والمعاصي. وهذا يعني أن الله الذي هو عالم الغيب قد سبق في علمه أنه لن يؤمن من قومه أحد بعد الآن ولا من نسلهم القادم ، وقضى سبحانه بإنزال العذاب عليهم وأخبر نوحا (ع) بذلك وأمره باتّخاذ التدابير لاتّقاء ذلك العذاب بدليل الآية التالية حيث يقول عزّ من قائل :

٣٧ ـ (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ...) أي اعمل السفينة التي قدّرنا أن تركبها أنت مع المؤمنين بك للنّجاة من الإغراق الذي قدّرناه للكافرين

بك ، واصنعها (بِأَعْيُنِنا) بمرأى منّا وبحفظ لك كما يحفظ الرائي من يحافظ عليه (وَوَحْيِنا) أي بحسب ما أوحينا إليك من صفتها وطولها وعرضها وسعتها وما تحتاج إليه من تجهيز (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تسألني العفو عن الكافرين الظالمين لأنفسهم وغيرهم من قومك ولا تتشفّع بأحد منهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي سيغمرهم ماء الطوفان ويحلّ بهم العذاب. وقيل إنه سبحانه عنى بذلك امرأته وابنه الباقيين على الكفر ، وهو غاية في الوعيد والتهديد الداعيين لليأس والعياذ بالله منه.

* * *

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))

٣٨ ـ (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ...) أي وشرع نوح (ع) بصناعة السفينة وأخذ بعملها كما أمر الله تعالى (وَ) كان (كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي كلما اجتاز به جماعة من رؤساء قومه وأشرافهم وهو منهمك في تسويتها (سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا به فقد روي أنهم قالوا له : يا نوح صرت نجّارا بعد النبوّة؟ وقيل زادت سخريتهم منه لصنعه سفينة في البر وحيث لا يوجد ماء ، بشكل عجيب من الطول والعرض يلفت النظر لثقلها وعجز الماء عن حملها في حال وجوده ف (قالَ) نوح للساخرين منه : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي أننا نستهزئ بكم كما استهزأتم بنا وننظر إليكم نظرنا إلى الجاهلين وسيظهر استهزاؤنا بكم عند الغرق والهلاك وتتمّ شماتتنا .. أما السفينة التي أمره الله تعالى بصنعها فكان طولها ألف ومائتا ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع وقيل بل طولها ثلاثمئة ذراع وعرضها خمسون

ذراعا وارتفاعها ثلاثون. وقال ابن عباس : كانت ثلاث طبقات : طبقة للناس ، وطبقة للدوابّ والهوام ، وطبقة سفلى للسباع والوحوش. وركب هو ومن معه في طبقتها العليا مع ما يحتاجون إليه من الزاد ، وكان خشبها من الساج. وروت عائشة عن النبيّ (ص) أنه قال : مكث نوح (ع) في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ، حتى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة فعظمت وذهبت كلّ مذهب. فقطعها وجعل يعمل على سفينته وقومه يمرّون به فيسألونه فيقول : أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة على البر ، فكيف تجري؟ فيقول : سوف تعلمون. فلمّا فرغ منها وفار النّور وكثر الماء في السّكك خشيت أمّ صبيّ عليه ، وكانت تحبّه حبّا شديدا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء. فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أمّ الصبيّ. ولكنّ أبا بصير روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لمّا أراد الله إهلاك قوم نوح عقم أرحام النساء أربعين سنة فلم يلد لهم مولود. ولما فرغ نوح من اتّخاذ السفينة أمره الله تعالى أن ينادي بالسريانية أن يجمع إليه جميع الحيوانات ، فلم يبق حيوان إلّا وقد حضر ، فأدخل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين ما عدا الفأر والسنّور. وإنهم لمّا شكوا إليه سرقين الدواب والقذر دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج سنّور. وكان الذين آمنوا به من جميع الدّنيا ثمانين رجلا. وفي حديث آخر أنهم شكوا إليه العذرة فأمر الله الفيل فعطس فسقط الخنزير.

٣٩ ـ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ...) أي ستعرفون أيها الساخرون المكابرون من منّا يحلّ به العذاب الذي يفضحه ويهينه في الدّنيا ويحمّله العار بين الناس (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) ينزل به (عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم لا يحول ولا يزول يوم القيامة.

* * *

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))

٤٠ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا ...) لفظة (حَتَّى) متعلّقة بقوله تعالى : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا). أي استمرّ العمل والحوار حتى جاء أمر الله وحلّ قضاؤه بإنزال العذاب على قوم نوح (ع) (وَفارَ التَّنُّورُ) أي ارتفع الماء فيه بشدّة وخرج مندفعا. والتنّور حفرة في الأرض مستديرة توقد فيها النار ويخبز على جوانبها دقائق الخبز. وقيل : فار الماء من تنور كان لنوح (ع) ونبع من مكان غير معهود بنبع الماء منه لأنه موقد للنار ، وهذا آية معجزة لنوح عليه‌السلام. واختلفوا في مكان ذلك التنور من بقاع الأرض ، فقيل كان في دار نوح بعين وردة من أرض الشام ، وروي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنه كان في ناحية الكوفة ، وروى المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دير قبلة ميمنة مسجد الكوفة. قال : فكيف كان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ قال : نعم ، إن الله أحبّ أن يري قوم نوح آية ، ثم إن الله أرسل عليهم المطر يفيض فيضا ، وفاض الفرات فيضا ، وفاضت العيون كلها فيضا ،

فغرّقهم الله ، وأنجى نوحا ومن معه في السفينة. فقلت : فكم لبث نوح في السفينة حتى نضب الماء فخرجوا منها؟ فقال : لبث فيها سبعة أيام بلياليها. فقلت : إن مسجد الكوفة لقديم؟ فقال : نعم ، هو مصلّى الأنبياء ، ولقد صلّى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أسري به إلى السماء ، قال له جبرائيل (ع) : يا محمد هذا مسجد أبيك آدم ومصلّى الأنبياء فانزل فصلّ فيه ، فنزل فصلّى فيه. ثم إن جبرائيل (ع) عرج به إلى السماء. وفي رواية ثانية أن السفينة بقيت على ظهر الماء مائة وخمسين يوما بلياليها. وقبيل فوران التنّور المذكور ، أو وجه الأرض كما قيل ، أو أعالي الجبال ، أو غضب الله (قُلْنَا) أي قال الله سبحانه وتعالى لنوح : (احْمِلْ فِيها) خذ معك في السفينة (مِنْ كُلٍ) من كل جنس من الحيوان (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، (وَ) احمل (أَهْلَكَ) أي أفراد عائلتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي من سبق أن وعدناه بالهلاك وهما امرأته واغلة وابنها كنعان (وَ) احمل أيضا (مَنْ آمَنَ) بك وصدّقك من غير أهلك ، وهم قلّة نوّه الله بها في إخباره عنهم قائلا : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) فقيل هم ثمانون ، وقيل أقل من ذلك ، ومن بينهم أولاده الثلاثة : سام وحام ويافث مع زوجاتهم ليجدّد الله تعالى بهم النسل بعد الطوفان ، فكان العرب والروم وفارس وأصناف العجم من ولد سام ، والسودان من ولد حام ، والتّرك والصينيون والصقالبة ويأجوج ومأجوج من ولد يافث.

٤١ ـ (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها ...) أي عند ما جاء أمر الله قال نوح عليه‌السلام للمؤمنين معه : اركبوا في السفينة (بِسْمِ اللهِ) يكون (مَجْراها وَمُرْساها) أي ببركة الاسم العظيم الشريف يكون سيرها ووقوفها. والمعنى اركبوا فيها متبرّكين باسم ذي الجلال وذاكرين اسمه عند سيرها وإرسائها ليكون ذلك حافظا لها وموفّرا لنجاتها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن ذكره سبحانه طاعة والطاعة تجلب المغفرة والرحمة.

٤٢ ـ (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ ...) يعني أن السفينة كانت تسير بنوح عليه‌السلام وبمن معه وسط أمواج الماء المتلاطمة التي كانت في

عظمتها بحجم الجبال. وهذا يدل على كثرة الأمواج وشدّتها (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) خاطب ولده كنعان الذي كان يظن أنه مسلم لأنهم رووا أنه اعتزل دينه القديم ، فقال له : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) اصعد في السفينة (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) لتسلم من الغرق ، فقال ابنه الذي تبيّن أنه مصرّ على الكفر :

٤٣ ـ (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ...) أي سأدخل إلى مأوى في أعلى الجبل يمنع عني الماء الذي غمر وجه الأرض ، ف (قالَ) نوح : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) لا مانع ولا دافع في هذا اليوم : يوم نزول العذاب (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لا يعصم سوى من رحمه‌الله وشمله لطفه (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) فصل الموج بين نوح وابنه (فَكانَ) أي فصار وأصبح ابن نوح (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الذين غمرهم الماء وحاقت بهم النقمة.

* * *

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

٤٤ ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ...) أي جاء الأمر من جانب القدرة الإلهية أن يا أيها الأرض اشربي الماء الذي على سطحك والذي غمرك ليجفّ الطوفان الذي انفجرت به العيون. والبلع هو إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف ، فيا أرض ابلعي الماء بأسرع وقت (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) من الإقلاع الذي هو نزع الشيء من أصله وإذهابه ، ومعناه أن الله أمر السماء أن تنقطع عن المطر بسرعة وينقشع سحابها فورا (وَغِيضَ الْماءُ) أي انسرب في الأرض وذهب به إلى باطنها. ويقال إن الأرض ابتلعت الماء الذي فار من جوفها ، وأن ماء السماء صار بحارا كما في المرويّ عن أئمتنا عليهم‌السلام (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تمّ أمر إهلاك الكفار وفرغ منه وتمّت نجاة

نوح عليه‌السلام والذين معه في السفينة (وَاسْتَوَتْ) استقرّت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) وهو جبل معروف بناحية آمد على قول الزجّاج وقرب جزيرة الموصل في قول غيره (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي قال الملائكة أو نوح (ع) وجماعته النّاجون قالوا : أبعد الله الظالمين من رحمته وهلكوا بنقمته وذلك بما كسبت أيديهم. وقد انتصب (بُعْداً) على المصدر وفيه معنى الدعاء عليهم. وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : كان نوح لبث في السفينة ما شاء الله وكانت مأمورة ، فخلّى سبيلها فأوحى الله إلى الجبال أني واضع سفينة نوح على جبل منكنّ فتطاولت الجبال وشمخت ، وتواضع الجوديّ وهو جبل بالموصل ، فضرب جؤجؤ السفينة (أي مقدمها) الجبل فقال نوح عند ذلك : يا ماريا اتقن ، وهو بالعربية : يا ربّ أصلح ، وفي رواية ثانية : يا رهمان أتقن ، أي : يا ربّ أحسن.

وغير خاف أن هذه الآية تحتوي من البلاغة والفصاحة وجميل السبك ودقيق التصوير وحسن التعبير ما لا يدانيه كلام أحد من الناس. وقد حملت من ائتلاف الألفاظ في أمرين سماويّين صدرا للأرض والسماء يدلّان على القدرة الإلهية التي تأمر الجماد كما تأمر الأحياء ، وفيها من دقيق المعنى في إكمال صورة إيقاف الطوفان والذهاب بآثاره ما يعجز عن الإتيان بمثله أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء حتى أن كفار قريش الذين كانوا يريدون معارضة القرآن ويعكفون على تقليده واجتمعوا يأكلون لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر مدة أربعين يوما ، قد وقفوا مشدوهين عند سماع هذه الآية وقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام ولا يشبه كلام المخلوقين وانصرفوا عن فكرتهم السخيفة فاشلين.

* * *

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥)

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨))

٤٥ ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ ...) هذا تمام لما سبق من ذكر الركوب في السفينة حين تفجّر الأرض بالماء ، أي فقد جرى ذلك وتمّ ، ونادى نوح ربّه أي دعاه دعاء تعظيم وابتهال قائلا : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي : اللهمّ خالقي وبارئي ورازقي إن ابني من عائلتي (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) فقد وعدتني بحمل أهلي معي ، ووعدك لا خلف فيه فنجّه معي من الهلاك إن كان أهلا للنجاة (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) حكيم في قولك وفعلك وتدبيرك.

٤٦ ـ (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ...) أي جوابا على دعاء نوح (ع) قال الله تعالى له : إن ابنك ليس من أهلك الّذين قضيت بنجاتهم. وقد قال سبحانه : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ، فهو ممّن أراد إهلاكه على قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة وغيرهم. وقيل إن المراد أنه ليس على دينك وقد أخرجه كفره عن الأحكام الجارية على أهله. وقد روي عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله تعالى قال لنوح : إنه ليس من أهلك لأنه كان مخالفا له ، وجعل من اتّبعه من أهله. وقيل أيضا : إنه لم يكن ابنه على الحقيقة ولا من صلبه ولكنه ولد على فراشه ، فقال (ع) : إنه ابني ، على ظاهر الأمر فنبّهه الله إلى ذلك كما روي عن الحسن ومجاهد وهو مناف لظاهر القرآن ولذا قيل : إنه ابن امرأته وهو ربيبه (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي أنه ذو عمل غير صالح ، وهذا مألوف في قول

العرب فقد قالت الخنساء :

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

أي ذات إقبال وذات إدبار (فَلا تَسْئَلْنِ) لا تطلب منّي معرفة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لا تعرفه وإن كنت قد سألتني نجاة ابنك بظنّ إيمانه (إِنِّي أَعِظُكَ) أدعوك بالحسنى (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي أعظك لئلّا تكون منهم ، فإن وعظه سبحانه ينزّه عن كل قبيح.

٤٧ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ...) أي قال نوح أستجير وأعتصم بك يا ربّ من أن أسألك (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما لم أعرفه. وجوابه عليه‌السلام يدل على منتهى الخشوع والذلة لله تعالى لأنه نبيّ يتخشّع بين يدي ربّه عزوجل (وَإِلَّا) أي : وإن لم (تَغْفِرْ لِي) تتجاوز عمّا صدر عنّي (وَتَرْحَمْنِي) ويشملني لطفك ورحمتك (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) يكون نصيبي الخسران. وهذا يكمل صورة تذلّله عليه‌السلام في خطابه لربه جلّ وعلا.

٤٨ ـ (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا ...) هذا من تمام كلامه سبحانه عن إرساء السفينة بعد هدوء الطوفان ، حيث أمر نوح أن اهبط : انزل من السفينة (بِسَلامٍ) سالما ناجيا ، وقيل بتحيّة من الله تعالى (وَبَرَكاتٍ) ونعم كثيرات ناميات نرسلها (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) الأمم : جمع أمة وهي الجماعة ، أي عليك وعلى جماعة المؤمنين الذين معك في السفينة ، وقيل عليهم وعلى ذرّيتهم (وَأُمَمٌ) يكونون من نسلهم فيما يأتي (سَنُمَتِّعُهُمْ) سننعم عليهم بما يرتعون به في الدنيا ويكفرون فنهلكهم (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ) يصيبهم (مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع غاية الوجع. وقد ارتفع لفظ (أُمَمٍ) لأنه كلام استأنف سبحانه الإخبار به عنهم.

* * *

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

٤٩ ـ (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ...) أي تلك الأخبار التي سردناها لك ممّا غاب عنك يا محمد من قصة نوح هي (مِنْ أَنْباءِ) أخبار (الْغَيْبِ) الذي يغيب علمه عن الناس (نُوحِيها إِلَيْكَ) ننزلها عليك وحيا من السماء (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) لم تكن عارفا بها (أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) قبل هذا القصص والتفصيل وقبل هذا القرآن المنزل بها (فَاصْبِرْ) على أذى قومك واتّعظ بالأذى الذي لقيه نوح من قومه ، واصبر على الأمر وصعوبة تبليغه (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) أي الآخرة المحمودة والخاتمة بالخير تكون للمؤمنين المتجنّبين ما يسخط الله تعالى.

* * *

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

٥٠ ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ...) عاد سبحانه يقص ما جرى على الأنبياء من أممهم فقال لمحمد (ص) : وأرسلنا إلى قوم عاد (أَخاهُمْ) هودا. ونصب (أخا) بتقدير : أرسلنا. وقد عنى سبحانه أن هودا من قومه بالنسب لا بالدّين. وقد (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحّدوه وأطيعوه واجعلوا عبادتكم له لا لغيره من الأصنام (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ليس لكم ربّ خالق رازق سواه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) يعني : ما أنتم إلّا كاذبون في قولكم بألوهيّة الأصنام.

٥١ ـ (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ...) أي : يا جماعتي لا أطلب منكم أجرة على دعائكم إلى الحق وإلى عبادة الله ولا أرغب في جزاء على ذلك (إِنْ أَجْرِيَ) ليس جزائي (إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) الذى خلقني وكلّفني بذلك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتفكّرون بأنني لم أقصد إلّا مصلحتكم ، ثم تعقلون عني ما أبلّغكم إياه؟

٥٢ ـ (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ...) أي اطلبوا مغفرة خالقكم وعفوه (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أعلنوا امتناعكم عن المعاصي وندمكم على ما سبق منكم (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي ينزل المطر عليكم من السماء متتابعا دارّا : منهمرا. وقيل إن هودا عليه‌السلام قال لهم ذلك لأنهم كانوا قد أجدبوا وأصيبوا بالقحط ، فوعدهم بالمطر والخصب ونزول الغيث (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) فسّروا القوّة هنا بالمال والأولاد ، أي أطيعوه يغثكم ويزد في مالكم وأولادكم ، فيقوى أمركم ويزيد عزّكم (وَلا تَتَوَلَّوْا) لا تنصرفوا وتميلوا عما أدعوكم إليه (مُجْرِمِينَ) مرتكبين للجرم الذي هو الشّرك والكفر ، وليس بعد الكفر ذنب ولا جرم.

* * *

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣)

إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

٥٣ ـ (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ...) يعني أن قوم هود حين دعاهم إلى التوحيد وعبادة الله وترك أوثانهم ، لم يصدّقوا أنه رسول وقالوا ما جئتنا بمعجزة تثبت صدقك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) ولسنا ندع عبادة الأصنام (عَنْ قَوْلِكَ) صدورا في ذلك عن قولك الذي لم نصدّقه. وقيل إن (عَنْ) وقعت مكان (الباء) فمعناه لا نترك عبادة الأصنام بقولك ، والأول أقوى (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي لسنا بمصدّقين لك. وإنكارهم كإنكار غيرهم تقليد للآباء والأجداد وإمعان في تقديس الأوثان ، وذهاب مع وسوسة الشيطان وحبّ للدّنيا وافتتان بزينتها كما لا يخفى عند استقصاء أحوالك الأمم على مرّ الزمان.

٥٤ ـ (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ...) أي لا نقول إلّا أنه قد أصابك سوء من بعض أربابنا فخلّط في عقلك وصار فيك مسّ من الجنون لأنك تشتمها وتسفّهها (قالَ) هود لقومه : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) أي أجعله شهيدا (وَاشْهَدُوا) أنتم أيضا مع شهادة الله (أَنِّي بَرِيءٌ) متبرّئ متنصل (مِمَّا تُشْرِكُونَ) تعبدون من دون الله كفرا وجحودا :

٥٥ ـ (مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ...) : هذه الآية تمام للآية السابقة ، تعني أن هودا عليه‌السلام بعد أن تبرّأ من آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، تحدّاهم وسخر من زعمهم أن آلهتهم عاقبته واعتبره السّفه بعينه لأنه على يقين مما هو عليه من الهدى والحق ، وقد أشهدهم على براءته

من أربابهم لتكون له الحجة عليهم في ذلك مع عدم الثقة بشهادة كفار يعبدون الأصنام ، لا من أجل أن تقوم الحجة بشهادتهم. ثم أكمل التحدي بقوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي احتالوا وامكروا ما وسعكم المكر لإلحاق المكروه بي ، ثم لا تمهلوني. وقال الزجّاج تعليقا على هذه الآية الشريفة : من أعظم آيات الأنبياء أن يكون الرسول وحده ، وأمته متعاونة عليه ، فيقول : كيدوني ، فلا يستطيع واحد منهم ضرّه.

٥٦ ـ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) أي : إني فوّضت أمري إلى الله خالقي وخالقكم وسلّمته شؤوني كلّها لأنني متمسك بطاعته تارك لمعصيته ، وتارك ـ مع ذلك ـ إليه أمري ، عالم بأنه (ما مِنْ دَابَّةٍ) ليس من كائن يدبّ ويسعى على الأرض (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) الناصية هي مؤخّر الرقبة وأعلاها ، فالله تعالى مالك الرّقاب وهو قادر على التصرف بها وعلى قهرها وإذلالها لأنه محييها ومميتها (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي هو على عدل في حكمه وقضائه مع ملكه للنواصي ، وتدبيره للخلق والكائنات جميعها إذ يجري ذلك كله بحسب الحكمة ولا عوج في ما يجريه عليه.

* * *

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا

بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

٥٧ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ ...) أي : إن تتولّوا : تنصرفوا عن دعوتي «ف» إنّي (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) أوصلت إليكم (ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ما بعثت لأنقله إليكم عن ربّي ، ولم أقصّر في التبليغ حتى يكون ذلك مدعاة لإعراضكم وسوء اختياركم للبقاء على الجحود فقد يهلككم هذا الجحود (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يأتون بعدكم ويستبدلكم بهم فيتّعظون بما نزل فيكم من سخطه ويوحّدونه ويعبدونه (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) لا تقدرون على ضرّ إذا فعل بكم ذلك ولا إذا تولّيتم لأنه غير مفتقر لأحد من مخلوقاته ولا هو بحاجة لأحد ، إذ لا تضرّه معصية من عصاه (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحرس كل شيء من التلف والهلاك إلا إذا اقتضت الحكمة هلاكه والتخلّي عنه ، وهو سبحانه يحفظني من كيدكم الذي لا يخفى عليه لأنه لا تخفى عليه خافية ، وهو ـ كذلك ـ يحفظ جميع أعمال عباده.

٥٨ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً ...) أي لمّا حان وقت قضائنا بإهلاك عاد قوم هود ، نجّينا : خلّصنا هودا (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ومن صدّقوا به ، وقيل كانوا أربعة آلاف ، نجّيناهم (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي رحمناهم لأنهم اهتدوا وأطاعوا ، وقيل بنعمة منّا خصصناهم بها (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) من عذاب ثقيل عظيم وهو عذاب الآخرة الذي يفوق عذاب الدنيا.

٥٩ ـ (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ...) أي (تِلْكَ) الأمة أو القبيلة التي هي عاد كفروا بالمعجزات التي أراهم إياها ربّهم للدلالة على صحة نبوّة هود (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) أي تمرّدوا على رسوله ، وإنما جمع لفظة (رسل) لأن من كذّب رسولا فقد كذّب سائر الرّسل ، ولأن هودا عليه‌السلام ، وكلّ رسول ، إنما يدعو قومه للإيمان به وبمن تقدّمه من رسل وكتب ، فبتكذيب هود (ع) كذبت عاد بجميع الرّسل السابقين له (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي تابع الضعفاء والسفلة من عاد رؤساءهم الجبّارين المتكبّرين المعاندين لنبيّه.

٦٠ ـ (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ...) أي : بعد إهلاك عاد لحقت بهم لعنة في هذه الدّنيا ، هي إبعادهم من رحمة الله تعالى ، وباءوا بخزي الإهلاك بالآيات السماوية وبتعبّد المؤمنين بلعنتهم إلى أبد الآبدين (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يوم البعث والنشور يلعنون أيضا ويبعدون من رحمة الله ويدخلون النّار (أَلا) هو استفتاح وتنبيه يلفت نظر السامع إلى شيء هامّ ، هو : (إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوا بربهم ، وقد حذفت الباء ، ففي قول العرب : أمرتك الخير ، أي بالخير (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) أي إبعادا لهم من رحمة الله. والتقدير : كفروا بربهم ، وبعدوا بعدا من رحمته.

* * *

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢))

٦١ ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ...) أي : وأرسلنا صالحا إلى قبيلة ثمود. وهذا عطف على قصة إرسال هود إلى قوم عاد (قالَ) صالح عليه‌السلام لقومه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فسّرناه سابقا (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني ابتدأ خلقكم من الأرض لأن آدم عليه‌السلام من تراب (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي صيّركم عمّارا لها تعملون فيها بحسب حاجاتكم من المساكن والزراعات والمكاسب وقيل أطال أعماركم إذ كانت أعمارهم تتراوح بين ثلاثمئة وألف سنة (فَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشّرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) من الذنوب بعد الإيمان به (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أي أنه قريب من كل سائل مجيب لمن دعاه ، متفضل برحمته.

٦٢ ـ (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا ...) أي قالت قبيلة ثمود : يا صالح كنت محلّ رجائنا قبل دعوتك هذه ، وكنا نعدّك لكل خير للطفك وحسن سيرتك ، وقد أيأستنا منك لهذه البدعة التي جئتنا بها (أَتَنْهانا) تمنعنا عن (أَنْ نَعْبُدَ) نقدّس وندعو ونصلّي ل (ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وهو إنكار عليه في منعهم عن ذلك (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍ) ريب (مِمَّا تَدْعُونا) تنتدبنا (إِلَيْهِ) من الدّين (مُرِيبٍ) باعث على الشك مثير للتهمة لأنك ترمي آباءنا بالجهل والكفر.

* * *

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥))

٦٣ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ ...) قد مرّ تفسير هذه الآية وقد وردت هنا على لسان صالح عليه‌السلام. وكلمة (أَرَأَيْتُمْ) لا مفعول لها هنا وقد علّقت كما تعلق إذا دخل الجملة لام الابتداء كمثل قولهم : قد رأيت لزيد خير منك. فيا قوم أرأيتم إن كانت لديّ معجزة من الله (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أي منحني نعمة النبوّة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) أي من يمنع عني عذابه في حال معصيتي له مع ما أنعم به عليّ (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي أنني إن أجبتكم إلى ما تريدونه مني أخسر كثيرا. وعن ابن عباس : ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم.

٦٤ ـ (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً ...) أي هذه الناقة التي جعلها الله سبحانه وتعالى معجزة لي حين أخرجها من بطن الصخرة وأنتم

تشاهدون خروجها بحسب الصفات التي طلبتموها وهي حامل تشرب الماء جميعه في يوم وتنفرد به فلا ترده معها دابّة غيرها ، وتدعه لهم يوما آخر. وقد انتصبت لفظة (آيَةً) على الحال من ناقة ، فكأنه قال : انتبهوا إليها في حال كونها آية. فان كنتم قد شككتم في نبوّتي فهذه معجزتي. وقد أضاف الناقة إلى الله تعالى تشريفا لها ولأنها خرجت على غير المعهود من قلب الصخرة وعلى صفات معيّنة في الحال ولدي السؤال وذلك كقولنا : بيت الله (فَذَرُوها) دعوها واتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ترعى العشب والنبات (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لا تصيبوها بمكروه من ضرب أو جرح أو نحر (فَيَأْخُذَكُمْ) ينالكم إن فعلتم بها شيئا (عَذابٌ قَرِيبٌ) أي عاجل يكون سببا لهلاككم.

٦٥ ـ (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ...) أي : عقروها. وقد أضاف ذلك إليهم لأنه عقرها بعض ورضي البعض فكأنهم عقروها جميعا ، وإنما عقرها أحمر ثمود الذي ضربت به العرب المثل في الشؤم ، فقال لهم صالح : تنعّموا في بلادكم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) يحلّ بعدها بكم العذاب. وكلمة دار هي ما يجمع الناس كما تجمع الدار العاديّة أهلها ، ولذلك يقال ديار بكر وديار مضر. وقيل إنه لما عقرت الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث مرات فقال صالح : لكلّ رغوة أجل يوم ، فاصفرّت ألوانهم في اليوم الأول واحمرّت في الغد ، ثم اسودّت في اليوم الثالث ، فهو قوله تعالى : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي وعد صدق لا كذب فيه. وعن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة له في غزوة تبوك : يا أيّها الناس ، لا تسألوا نبيّكم الآيات ، فهؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث لهم الناقة ، وكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها ويحلبون من لبنها مثل الذي كانوا يشربون من مائها يوم غبّها ـ والغب ورود الإبل يوما بعد يوم ـ فعتوا عن أمر ربّهم فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ، وكان وعدا من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم ، إلّا رجلا كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله

تعالى يقال له أبو رغال. قيل له : يا رسول الله من أبو رغال؟ قال : أبو ثقيف.

* * *

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

٦٦ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً ...) مرّ تفسير مثلها ، فقد نجّى الله تعالى صالحا والمؤمنين معه من العذاب بلطفه وخلصهم (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي من العيب والفضيحة التي حلّت بهم في يوم نزول العذاب عليهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) القادر على ما يشاء الذي لا يمتنع عليه شيء.

٦٧ ـ (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ...) أي : أماتتهم الصيحة التي قيل إن الله سبحانه أمر جبرائيل عليه‌السلام بها ، فصاح صيحة ماتوا منها (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي صاروا ميّتين في منازلهم قاعدين على ركبهم كما يجثم الطائر إذا حط على الغصن ، فقد انخلعت أفئدتهم من الصيحة فانهاروا على ركبهم ثم كبكبوا على وجوههم.

٦٨ ـ (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ...) أي كأنهم لم يظهر لهم أثر في منازلهم العالية لاجتثاثهم بالهلاك ، إذ أصبحت ديارهم لا حركة فيها ولا نأمة (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ، أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) مرّ تفسيره مثله بالنسبة لعاد.

* * *

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١))

٦٩ ـ (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ...) انتقل سبحانه لقصة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه‌السلام فذكر أن رسله من الملائكة قد جاءته بالبشارة بإسحاق عليه‌السلام وقيل بإسماعيل عليه‌السلام من هاجر ، وأنه يكون نبيّا. وقد دخلت اللام على (قد) لتأكيد الخبر ، وكان رسله المذكورون ثلاثة هم ـ فيما قيل ـ : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم‌السلام جاؤوا بصورة غلمان ، وروي عن الصادق عليه‌السلام كونهم أربعة هم من ذكرنا ومعهم روبيل عليه‌السلام، وأوصل المفسّرون عددهم إلى أحد عشر ، دخلوا عليه ف (قالُوا سَلاماً) أي نسلّم عليك سلاما ونحيّيك ، وقيل معناه : أصبت سلاما ف (قالَ) إبراهيم (ع) في جوابه لهم : (سَلامٌ) وقد فصّلنا سبب رفع اللفظة سابقا (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي : فما أبطأ أن جاءهم بعجل ـ وهو ولد البقرة ـ مشويّ لأنه توهّم كونهم أضيافا وهو أبو الضّيفان. وعن ابن عباس أن الحنيذ هو الناضج على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض ، وقيل هو المشويّ الذي يقطر ماؤه ودسمه.

٧٠ ـ (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ ...) أي فلما رأى أيدي الملائكة لا تمسّ العجل (نَكِرَهُمْ) أي أنكرهم واستوحش منهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أضمر منهم خوفا ، قيل في سبب خوفه أن رفضهم للطعام يعني أنه لا يؤمن جانبهم كما هي عادة من يرفض طعام وشراب المضيف ، فقد

خشي منهم سوءا لفتوّتهم وكون بيته في أطراف البلد ، وقيل ـ وهو الأوجه ـ عرف كونهم ملائكة وخاف أن يكونوا قد حملوا خبر عذاب ينزل بقومه ، ولذلك (قالُوا) له : (لا تَخَفْ) لا تفزع يا إبراهيم (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي بعثنا إليهم بالهلاك ونزول عذاب الدّنيا عليهم.

٧١ ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ...) هي امرأة إبراهيم عليه‌السلام : سارة بنت هاران بن ياحور ابنة عمّه كانت واقفة خلف السّتر تسمع حديث إبراهيم (ع) مع الرّسل ، وقيل كانت قائمة على خدمتهم وهو جالس معهم (فَضَحِكَتْ) قيل تبسّمت فرحا لأنها كانت تشمئز من غفلة قوم لوط وتنصح إبراهيم بضم لوط إليه خوف نزول العذاب. وقيل ضحكت ضحك العتب على أضياف قدمت لهم الطعام فرفضوه وقالت : عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يتناولون من طعامنا ، كما قيل إنها تعجّبت من البشارة بإسحاق وهي في الثامنة والتسعين من عمرها وزوجها فيما بين المائة والمائة وعشرين سنة بحسب الأقوال المختلفة ، ولم يرزق منها ولدا في شبابهما فكان ضحكها بعد البشارة بإسحاق ويعقوب عليهما‌السلام (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي بنبيّين. وروي عن الصادق عليه‌السلام أن (فَضَحِكَتْ) بمعنى حاضت ، ويقال : ضحكت الأرنب أي حاضت والضّحك الحيض.

* * *

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣))

٧٢ ـ (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ...) أي قالت سارة : يا ويلتي أو يا ويلتي ، وهي كلمة حرب تقال عند ورود الأمر العظيم الذي يصعب على الإنسان حمله ، ويمكن أن تكون يا ويلتا التي تلحق بها ألف النّدبة ، أو أنها

ويلتي التي لحقت بها ياء المتكلم. فقد تعجّبت سارة على كل حال كيف تحمل وتلد وهي شيخة وزوجها شيخ وقد طعنا في السنّ؟ ولا يتنافى تعجّبها مع عدم شكّها بقدرة الله تعالى على ذلك لأنه من خوارق العادات ، فكيف ألد وأنا عجوز (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وهذا زوجي كما ترونه شيخ متقدّم في عمره. ولفظة (شَيْخاً) منصوبة على الحال ، وقال الزجّاج : إن نصبها من لطيف النحو فإنك تقول للذي يعرف زيدا : هذا زيد قائما ، فيعمل في الحال التنبيه ، والمعنى : انتبه لزيد في حال قيامه. وأتمّت سارة : (إِنَّ هذا) الذي بشرتموني به (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) غريب في موضعه غير مألوف عادة.

٧٣ ـ (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ...) أي قال الملائكة لسارة حين رأوا استهجانها : أتستغربين أمر الله تعالى أن تلد العجوز بعد كبرها وكبر زوجها؟ ليس هذا موضع تعجّب (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) أي لطفه وكثير خيراته النامية الباقية (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي : يا أهل بيت النبوّة. ويحتمل أن تكون الجملة إخبارا لها بنعم الله تعالى عليهم فلا عجب من هذه الخارقة للعادة ، ويحتمل أن تكون دعاء لهم والأول أقوى لأنه مثل قول العرب : أتتعجّب ممّا أقول لك ، بارك الله فيك ورحمك؟ (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) الضمير في (إِنَّهُ) راجع لله تعالى ، فهو المحمود على جميع فعاله ، الكريم المعطي قبل الاستحقاق الجامع للمجد والعظمة. وروى السدّي أن سارة قالت لجبرائيل (ع) : ما آية ذلك؟ فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه فاهتزّ أخضر.

* * *

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

٧٤ ـ (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ...) أي : حين زال الخوف والفزع عن إبراهيم (ع) مما دخله من أمر الرّسل ومن إخبارهم بالعذاب (وَ) حين (جاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد الجديد ، أخذ (يُجادِلُنا) أي يسائل رسل الله ويحاجّهم (فِي قَوْمِ لُوطٍ) وبشأن إنزال العذاب عليهم. فقد روي أنه قال لهم : أتهلكونهم إن كان بينهم خمسون من المؤمنين؟ قالوا : لا. قال : فأربعون؟ قالوا : لا. فما زال ينقص ويقولون لا ، حتى قال : فواحد؟ قالوا : لا. فاحتجّ عليهم بوجود لوط بين قومه. كما روي أنه جادلهم بالسبب الذي استحقوا به عذاب الاستئصال وذهب معهم في الحديث عن كشف مالا يعلمه فسمّي حديثه جدالا. وجملة (يُجادِلُنا) في موضع نصب لأنها حكاية حال قد مضت.

٧٥ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ...) فسّرنا معناها في سورة التوبة ، والإنابة هي التوكل على الله والرجوع إليه في جميع الأمور. ولا يخفى أن التعقيب بهذه الآية على جدال خليل الله عليه‌السلام ، يكشف عن أن جداله كان منبعثا عن رحمته للناس ورقة قلبه ولين طبعه ، ولذلك مدحه البارئ جلّ وعلا بهذه الصفات الكريمة.

٧٦ ـ (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ...) أي قالت الملائكة له : انصرف عن الجدال في هذا الموضوع ودع التفكير والقول فيه (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي قضي الأمر وحتم بنزول العذاب (وَإِنَّهُمْ) أي قوم لوط (آتِيهِمْ) نازل عليهم وواصل إليهم (عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) غير مدفوع لا يردّ عنهم ولا يرجع القضاء فيه.

* * *

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ

قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠))

٧٧ ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ...) أي حين خرج الملائكة من عند إبراهيم عليه‌السلام وجاؤوا لوطا عليه‌السلام في صور الآدميّين ساءه مجيئهم بهذه الصور الجميلة وخاف عليهم من قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ارتبك بمجيئهم إليه ، والذّرع هنا القلب ، أي انقبض قلبه عن أن يأخذهم في ضيافته التي دعوه إليها لأن قومه كانوا يسارعون إلى من هو مثلهم بالفاحشة وقد علم عادتهم من الميل إلى نكاح الذكور ، فضاق بذلك (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) صعب كثير الشرّ مخيف. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام ـ كما في المجمع ـ : جاءت الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية ، فسلّموا عليه ورأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض ، فقال لهم : المنزل ، فتقدّمهم ومشوا خلفه. فقال في نفسه : أي شيء صنعت؟ آتي بهم قومي وأنا أعرفهم؟ فالتفت إليهم فقال : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. وكان قد قال الله لجبرائيل : لا تهلكهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات ، فقال جبرائيل : هذه واحدة. ثم مشى لوط ثم التفت إليهم فقال : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله ، فقال جبرائيل (ع) : هذه اثنتان. ثم مشى ، فلمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال : إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرائيل : هذه الثالثة. ثم دخل ودخلوا معه ، حتى دخل منزله. فلمّا رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفّقت فلم يسمعوا ، فدخّنت. فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يهرعون. فذلك قوله : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ).

٧٨ ـ (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ...) أي اندفعوا مسرعين يتدافعون ويسوق بعضهم بعضا نحو بيت لوط عليه‌السلام لأن (الهاء) في (إِلَيْهِ) تكنّي عنه ويهرعون في موضع نصب على الحال (وَمِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيئهم هذا ومجيء الملائكة عليهم‌السلام إلى بيته وضيافته. ومن قبل ومن بعد مبنيّان على الضم ، فإذا أضيفا أعربا. (كانُوا) قوم لوط (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي يفعلون الفواحش ويطلبون الذكور ، ولذلك (قالَ) لوط : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أي لمّا خرجوا عن حيائهم وأرادوا فعل القبيح وجاهروه به عرض عليهم نكاح بناته لأنهنّ أطهر : أحلّ ، لهم من الذكور. وقد دعاهم إلى الحلال ، أما المفسّرون فخاضوا في هذا الموضوع : فعن قتادة أنه أراد بناته لصلبه ، وعن مجاهد وابن جبير أنه أراد النساء من أمته لأنهن كبناته إذ كل نبيّ يكون أبا أمته وأزواجه أمّهاتهم. وقيل : عرضهن بالتزويج فقد كان يجوز تزويج المسلمة من الكافر (فَاتَّقُوا اللهَ) احذروا غضبه وتجنّبوا عقابه لإصراركم على مواقعة الذكور (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي لا تلحقوا بي الخزي والعيب والعار بالهجوم على أضيافي ، فإن ما يصيب الضيف من مكروه يلحق بمضيفه الذي لم يحفظ كرامته (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) ما فيكم رجل يتمتع برشد وعقل فينهى عن هذا المنكر ويأمر قومه بالمعروف ويدلكم على سبيل الرّشد وطريق الحق.

٧٩ ـ (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ ...) أي حين دعاهم إلى النكاح الحلال المباح وعرض عليهم بناته ، قالوا : ما لنا في بناتك (مِنْ حَقٍ) أي ليس لنا بهنّ حاجة ، ولا نحن تزوّجناهن فيكنّ زوجات لنا فيهنّ حقّ (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) تعرف مرادنا المنحصر في طلب الغلمان دون النساء.

٨٠ ـ (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ...) أي أنه بعد عدم جدوى الموعظة لهم ، وبعد رفض عرضه ، تأسّف لعدم قدرته على دفعهم عن مرادهم ، وقال : يا ليت لو كان لي قدرة على منعهم أو جماعة يساعدوني على ردعهم عن أضيافي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أو أدخل في عشيرة وشيعة لي

تنصرني عليهم. وقد قال الإمام الصادق عليه‌السلام : فقال جبرائيل : لو يعلم أيّ قوة له!. وروي عن النبيّ (ص) أنه قال : رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد وهو معونة الله تعالى. وما زالوا مكابرين يدافعونه فصاح به جبرائيل أن يا لوط دعهم يدخلوا. فلمّا دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم ، وهو قوله : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ..) وفي جملة : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) جواب (لَوْ) محذوف يدل عليه الكلام وتقديره : لحلت بينهم وبينكم.

* * *

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

٨١ ـ (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ ...) أي قال الملائكة بعد ذلك الجدال : يا لوط إننا مرسلون من الله تعالى لإهلاكهم فلا تهتمّ ولا تغتمّ فإنهم (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) لا ينالونك بأذى (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) أي : سر ليلا بعائلتك واترك القرية. وقيل لم يؤمن بلوط إلّا ابنتاه ، فامض كما قلنا لك (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في ظلمته ، وقيل بعد مضيّ جزء منه وقيل في نصفه (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي ولا ينظر نحو القرية ـ وراءكم ـ أحد

منكم تعبّدا لله بالطاعة المؤدية للنجاة ، ولكيلا ينظر إلى بيته ومتاعه وماله حين سماع الهدّة وقت الخسف ونزول العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ) نستثني خروجها معك لأنها على دين قومها. وقيل إنها مستثناة من الالتفات ، وقد خرجت معه وحين سمعت الوجبة التفتت وقالت : يا قوماه! فأصابها حجر فقتلها (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي سيحلّ بها من العذاب ما يحلّ بهم (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) وقت إهلاكهم (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أنه غير بعيد ـ فقد روي أنه لما أخبره الملائكة بهلاك قومه قال : أهلكوهم الساعة ، لضيق صدره بهم فقالوا : أليس الصبح بقريب تسلية له.

٨٢ ـ (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ...) أي : فحين نزل أمرنا بإيقاع الهلاك ، وأوحينا به إلى الملائكة ، أو أنه حين قلنا (كُنْ) .. (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) قلبناها ، أعني القرية التي كانت تعمل الخبائث ، فإن الله تعالى أمر جبرائيل (ع) فأدخل جناحه تحت الأرض فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الدّيكة ونباح الكلاب ، ثم قلبها ، ثم خسف بهم الأرض فهم يتلجلجون فيها إلى يوم القيامة (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً) أي أنزلنا على أهل القرى حجارة من السماء تغليظا لعقوبتهم. وقيل إنها كانت أربع قرى هي المؤتفكات : سدوم ، وعاموراء ، ودوما ، وصبوايم. وكانت سدوم أعظمها وكانت مسكن لوط عليه‌السلام ، فقد أنزل سبحانه عليها حجارة (مِنْ سِجِّيلٍ) أي من طين الأرض الشديد الصلابة والجار والمجرور صفة للحجارة في موضع نصب ، أي : كائنة من سجيل. (مَنْضُودٍ) مرتّب الحروف والصقل ، قد نضّد بعضه إلى بعض حتى صار حجرا محدّدا في غاية القوّة والصلابة.

٨٣ ـ (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ...) أي معلمة موسومة معدّة قد كتب على كل حجر اسم صاحبه ، فهي حجارة ذات سيماء لا تشبه حجارة الأرض موجودة (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في علمه وخزائنه لا يملكها غيره (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي : وليست تلك الحجارة بعيدة عن أصابة الظالمين ولا

يجار منها ظالم بعد قوم لوط فاتّقوها يا جبابرة قريش وجبابرة الزمن. و (مُسَوَّمَةً) منصوبة على أنها صفة للحجارة في الآية السابقة.

* * *

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦))

٨٤ ـ (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ...) يعني : وأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا. ومدين هي المدينة التي كانت القبيلة تقيم فيها ، وتنسب إلى مدين بن إبراهيم (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فسّرناه قريبا (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ) أي لا تطفّفوا الكيل لكم وتنقصوا من حقوق الناس (وَ) لا (الْمِيزانَ) حين تزنوا لهم (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي في خصب ونعمة ورخص أسعار ومال ورفاهية ولا تحتاجون إلى نقص المكيال والميزان (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي : أخشى عليكم عذابا لا يفلت منه أحد ولذلك وصفه بالإحاطة. وقيل عنى به عذاب يوم القيامة أو أن وصفه كذلك يهول النفس.

٨٥ ـ (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ...) أي أدّوا حقوق الناس عند الكيل أو الوزن بالعدل (وَلا تَبْخَسُوا) أي لا تنقصوا (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ)

أموالهم وسلعهم (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تسعوا في الفساد وتنشروه في الأرض.

٨٦ ـ (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ ...) أي ما يبقى لكم من رزق الله الحلال ، وممّا أنعم عليكم من فضله هو خير من نقص الميزان وبخس المكيال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذا كنتم مؤمنين فإن الاستقامة وأداء الحقوق من شروط الإيمان وعن الحسن أن معناه : طاعة الله خير لكم من نعيم الدنيا لأنها يبقى ثوابها أبدا والدنيا تفنى (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي ولست كفيلا بحفظكم ولا بحفظ نعم الله عليكم ولكني أنهاكم عن الظلم في حقوق الناس.

* * *

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠))

٨٧ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ ...) كان شعيب عليه‌السلام كثير الصلاة معروفا بذلك كما كان كثير البر والحلم وكرم النفس والفصاحة وجزالة اللفظ ، فقال له قومه : هل صلاتك التي تدّعي أنها تأمر بالخير وتنهى عن الشر هي التي أمرتك (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟) ودينك يأمر بأن نترك نحن دين آبائنا ويقيّد حرّيتنا مع أنفسنا؟ قالوا ذلك مستهزئين ، ثم أتمّوا متزلّفين : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) اللطيف بمعاملة قومك ، أو قالوه ساخرين يريدون أنه سفيه بهذا الطلب.

٨٨ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ ...) فسّرنا هذا التعبير الشريف من المحاجّة ، أي لم تتعجّبون إن كانت معي حجة واضحة (مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أي أنه مع النبوّة موسع عليّ في الرزق كثير المال ، فهل أعدل عن تكليفي قناعة بالرزق والمال والنعيم وأترك عبادة الله تعالى وتكليفكم بها (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لن أدخل في شيء أنهاكم عن فعله ولا أختار لكم إلّا ما أختاره لنفسي وأنا أول العاملين بما آمركم به (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي أريد إصلاح أموركم وإصلاح ما هو منتقد وحرام في أعمالكم وشؤونكم الدنيوية والأخروية ، أفعل ذلك بحسب قدرتي عليه (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) أي لست موفقا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا بعناية من الله ، ولا أفعل ذلك بقدرتي الشخصية بل هو بمعونة الله وقدرته ولطفه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يعني : أفوّض أمري إلى ربّي وأتمسك بطاعته وأرضى بتدبيره ، وأرجع إليه في كل أموري.

٨٩ ـ (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي ...) أي يا جماعتي وأهل عشيرتي إن خلافي ونزاعي ومعاداتي لا تمنع (أَنْ يُصِيبَكُمْ) يحلّ عليكم العذاب العاجل الذي وقع على من سلف من الأمم قبلكم (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) إذ هلكوا بالغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) إذ هلكوا بالريح العقيم (أَوْ قَوْمَ

صالِحٍ) الهالكين بالرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أي أنهم أقرب ما يكون إليكم في الزمان والمكان فاتّعظوا بهم واحذروا نزول العذاب.

٩٠ ـ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ...) أي اطلبوا المغفرة لما سلف من تفريطكم وأعلنوا التوبة له والندامة الحقيقية في السرّ والعلانية (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فهو لطيف بعباده شفيق عليهم محبّ لهم ومريد لمنافعهم متودّد إليهم بالعطاء وكثرة النّعم. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : كان شعيب خطيب الأنبياء. ذلك أن حجاجه في غاية اللين والفصاحة وسلاسة الأسلوب ، ويكفي أن تصدر بحقه هذه الشهادة من سيد البلغاء وسيد الفصحاء وأفصح من نطق بالضاد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.

* * *

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣))

٩١ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ...) أي قال قوم شعيب له : لسنا نفهم أكثر ما تقوله من وعظك وإرشادك ونحن نسمعه ولا نعيه لنعمل به. وقد قالوا ذلك فرارا من الحجة التي قامت عليهم ورأوا أنهم لا مناص لهم من إعلان الخصومة له فلجئوا إلى التنكّر لأقواله فقالوا : لا نفقه.

كلامك (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) هزيل البدن ضعيف القوة ، يعني أنهم يرونه مهينا قليل الناصر (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي لولا عشيرتك وأقاربك لقتلناك رميا بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) ولست ممتنعا منّا بقوّة تحميك.

٩٢ ـ (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ...) بعد التهديد السابق قال شعيب لقومه : أعشيرتي أعظم حرمة عندكم من الله ، فتمنعكم عن أذيّتي ولا يمنعكم منها خوفكم من الله الذي جعلني رسولا إليكم وتكفّل بحمايتي ونصري؟ فقد حفلتم بعشيرتي (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي جعلتم الله تبارك وتعالى (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) وراء ظهوركم ونسيتم ذكره؟ وقيل قصد أمر الله والهاء في (اتَّخَذْتُمُوهُ) عائدة إلى أمره عزّ وعلا (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بجميع أعمالكم لا يفوته شيء منها.

٩٣ ـ (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ...) أي : اعملوا بحسب الحالة التي أنتم عليها. وهو تهديد لهم وإن كان يظهر بصيغة الأمر. يعني ابقوا على الحال الكافرة التي تعرّضكم للعذاب والخزي ، واعملوا بحسب دينكم الباطل الذي أنتم عليه (إِنِّي عامِلٌ) بما أمرني به ربّي ، وقيل : عامل على إنذاركم (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ستعرفون أيّنا المصيب وأيّنا المخطئ ، وسيتبيّن لكم فساد ما أنتم عليه و (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يهينه ويفضحه ويوقعه في الخزي عند ظهور الصادق من الكاذب (ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) انتظروا ما أعدكم به من عذاب ربّي وأنا انتظر ذلك معكم. وقيل : أنا معكم مرتقب لرحمة ربّي وثوابه. وروي أن الإمام الرضا عليه‌السلام قال بالنسبة لانتظار الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه : ما أحسن الصبر وانتظار الفرج ، أما سمعت قول العبد الصالح : وارتقبوا إنّي معكم رقيب؟

* * *

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ

آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

٩٤ ـ (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً ...) مضى تفسيرها بالنسبة للرّسل السابقين صلوات الله عليهم ، فقد نجّى الله رسوله شعيبا عليه‌السلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وخلّصهم من عذاب الاستئصال (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أي صاح بهم جبرائيل عليه‌السلام صيحة صعقوا منها وماتوا لفورهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) مرّ تفسيره.

٩٥ ـ (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ...) فسّرناها سابقا ، فقد أهلكوا وبادوا وكأنهم لم يكونوا في ديارهم (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي بعدا لهم من رحمة الله ورأفته ولطفه. وهو دعاء عليهم يعني : هلاكا لهم كما أهلكنا ثمود من قبلهم. ووجه التشبيه بين هلاكهم وهلاك ثمود أن هؤلاء أهلكوا بالصيحة ، وأولئك أهلكوا بالرجفة ، ونعوذ بالله وحده من آياته المهلكات.

* * *

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

٩٦ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بعثناه بحججنا ومعاجزنا المؤيّدة لرسالته وكونه نبيّا (وَ) بعثناه (سُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة مقوّية لأمره على أمر أعدائه ، تنصره على خصومه وتجعل له السلطان عليهم. أرسلناه (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي ملك مصر المدّعي الرّبوبيّة وأشراف قومه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أخذوا به ، وتركوا أمر الله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ليس ذا رشد ولا يهدي إلى الخير لأنه على عكس الحال المطلوبة عقلا إذ يصدّ عن الخير ويدعو إلى الشر لأن فرعون (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) يمشي أمامهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حتى يدخل وإياهم النار كما كان يقدمهم في الدّنيا (فَأَوْرَدَهُمُ) أي أدخلهم (النَّارَ) وقد جاء بصيغة الماضي ويراد به المستقبل لأنه معطوف على المضارع (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي ساء وبؤس ذلك المكان الذي وردوه كما يرد العطاش إلى الماء ، والنار بئس القرار وبئس النصيب المقسوم لقوم فرعون وسائر الكافرين.

٩٩ ـ (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً ...) أي ألحقوا في هذه الدنيا مع خزيهم وإبعادهم من رحمة الله بلعنة : إبعاد وخزي هو العذاب بالغرق (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولهم لعنة أخرى يوم القيامة وهي عذاب الآخرة ، فلا تفارقهم اللعنة لا في الدّنيا ولا في الآخرة وقد قال ابن عباس : من ذكرهم لعنهم ، وذلك (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي ساء ذلك العطاء المعطى لهم ، وقال ابن عباس أيضا : ذلك هو اللعنة بعد اللعنة ، وقال الضحّاك : اللعنتان اللتان أصابتاهم رفدت إحداهما الأخرى.

* * *

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١)

وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥))

١٠٠ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ...) أي ذلك النبأ الذي أخبرناك به يا محمد ، هو من قصص الأنبياء وأممهم وقراهم التي كانوا يسكنونها (مِنْها قائِمٌ) أي عامر قائم على بنائه لم يذهب نهائيّا وأبقيناه آية للناس (وَحَصِيدٌ) قد اندرس وخرب وصار بلقعا كالأرض المحصود نباتها ، نذكره تسلية لقلبك عمّا يصيبك من أذى قومك.

١٠١ ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...) أي ما جرنا عليهم بإهلاكهم ، ولكنهم ألحقوا الظلم بأنفسهم بكفرهم وارتكابهم المعاصي التي استحقوا بها الهلاك (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أي لم تفدهم الأصنام التي عبدوها بدفع الشر عنهم ، ولم تكن ذات غناء من العذاب تلك الأوثان (الَّتِي) كانوا (يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ولم تنفعهم (لَمَّا) جاء أمر (رَبِّكَ) حين نزل عذابه عليهم (وَما زادَهُمْ) ما كانوا يدعونه من دون الله (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) سوى التخسير والهلاك والخراب. وقد نسب إهلاكهم إلى آلهتهم لأنها كانت السبب في وقوعه ، ولو أقلعوا عن عبادتها لما نزل عليهم العذاب.

١٠٢ ـ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى ...) أي على هذا الشكل العنيف الذي ذكرناه يكون إهلاك ربّك لأهل القرى الجائرة حين يأخذ أهلها بكفرهم وبذنوبهم (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وأهلها ظالمون. وقد روي عن النبيّ (ص) أنه قال : إن الله تعالى يمهل الظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم

قرأ الآية (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي أن تأديب الله للظالم بالهلاك موجع شديد الإيجاع.

١٠٣ ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ...) أي أن فيما قصصناه عليك يا محمد من إهلاك تلك الأقوام على وجه العقوبة على كفرهم ، لدلالة وعبرة عظيمة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) : لمن خشي وحذر من العقاب في يوم القيامة ، لأن الذي يخاف هو الذي يتّعظ ويعود عن غيّه وضلاله (ذلِكَ يَوْمٌ) أي يوم القيامة (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) محشور فيه الأوّلون والآخرون للحساب والثواب والعقاب (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يراه الخلائق جميعهم ويشهدونه من الجنّ والإنس والملائكة ، ولا يوصف ـ على الحقيقة ـ بهذه الصفة الشاملة غيره.

١٠٤ ـ (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ...) : أي : وما نؤخّر يوم القيامة الا لوقت قد عينّاه وحتمنا وقوعه في وقت محدّد معيّن ، وهذا يدل على قربه لأنه سبحانه أشار إليه بالعد.

١٠٥ ـ (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ...) أي : حين يجيء يوم القيامة ترى الخلائق فيه صامتين ذاهلين لا يتكلّم أحد إلّا بإذن : رخصة من الله تبارك وتعالى ، والكلام الذي يؤذن به هو ما يكون للشفاعة ، فحتى الأولياء لا يتكلمون إلّا من بعد إذنه سبحانه. أما الجمع بين هذه ، وبين : يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ، وبين ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، أو : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، أو : وقفوهم إنهم مسئولون ، وكل ما يبدو من اختلاف التعابير عن ذلك اليوم ، أمّا ذلك فيدل على اختلاف المواقف يوم القيامة ، في موقف يؤذن بالكلام لإتمام الحجة وليأخذ العدل مجراه ، وفي موقف لا يؤذن به إذ لا حجة لكافر جاحد مارق ولا فائدة من تبادل طرح ذنوب الكفار بعضهم على بعض (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي الناس يصيرون قسمين : الأشقياء المستحقّون للعقاب ، والسعداء الفائزون بنعيم الله ورضوانه.

* * *

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

١٠٦ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ...) أي أن الّذين صنّفوا أشقياء باستحقاقهم العذاب جزاء على أعمالهم القبيحة يكونون في النار (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير إخراج النفس بقوّة ، والشهيق إدخاله بقوّة ودفعة واحدة ، وهما من أصوات كل محزون ومكروب يرافقهما التأفف والأنين. وعن ابن عباس : يريد ندامة ونفسا عاليا. وما قاله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الشقي من شقي في بطن أمه» معناه : المعلوم من حاله أنه سيشقى بارتكاب القبائح التي تؤديه إلى عذاب النار.

١٠٧ ـ (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ...) أي باقين فيها معذّبين بذنوبهم ... (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قيل في تأويل هذين الموضعين المشكلين : قد حدّد الخلود بدوام السماوات والأرض : أي بسماوات وأرض الآخرة المبدلتين وهما لا يفنيان إذا أعيدا بعد الإفناء كما عن الضحّاك والجبّائي ، أو ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما. وكل ما علاك فهو سماء ، وكل ما استقرّ عليه ما قدمك فهو أرض. أو ما دامت الآخرة وهي دائمة أبدا كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بنائها كما عن الحسن. أو أنه لا يراد به السماء والأرض بعينهما بل المراد التبعيد.

وقيل في معنى الاستثناء بقوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) : إنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار ، والزيادة من النعيم لأهل الجنة بتقدير : إلّا ما شاء ربّك من الزيادة على هذا المقدار ، أو هو واقع على مقامهم في المحشر

والحساب لأنهم حينئذ ليسوا في جنّة ولا في نار ، فهم في البرزخ ، بين الموت والبعث ، لأنه تعالى لو قال : خالدين فيها أبدا ولم يستثن لظنّ الظانّ أنهم يكونون في النار والجنّة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف ، فحصل للاستثناء فائدة. وهذا قول المازني والبلخي وغيرهما ، وقيل ان الاستثناء الأول يتّصل بقوله لهم فيها زفير وشهيق ، وتقديره : إلّا ما شاء ربّك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين ، ولا يتعلّق الاستثناء بالخلود ، وفي أهل الجنة يتصل بما دلّ عليه الكلام ، فكأنه قال : لهم فيها نعيم إلّا ما شاء ربّك من أنواع النعيم ، وإنما دل عليه قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) كما عن الزجّاج. وقال الفرّاء : إن (إِلَّا) بمعنى الواو ، أي : وما شاء ربّك من الزيادة. والمراد بإلّا الواو هاهنا ، وإلّا كان الكلام متناقضا. وقيل إن المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل التوحيد الذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب المعاصي ، فقال سبحانه : إنهم معاقبون في النار إلّا ما شاء ربّك من إخراجهم إلى الجنة وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم ، ويجوز أن يريد بالذين شقوا جميع الداخلين إلى جهنم ثم استثنى بقوله : إلا ما شاء ربّك أهل الطاعات منهم من استحق الثواب ولا بد أن يوصل إليه ، وتقديره : إلّا ما شاء ربّك أن يخرجه بتوحيده من النار ويدخله الجنة. وقد يكون (ما) بمعنى «من» كمثل قوله سبحانه : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ..) وأما في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضا لما ذكر ، لأن من ينقل إلى الجنّة من النار وخلّد فيها لا بدّ من الإخبار عنه بتأبيد خلوده أيضا من استثناء ما تقدّم. فكأنه قال : خالدين فيها إلّا ما شاء ربّك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم إلى الجنّة. و (ما) في قوله : (ما شاءَ رَبُّكَ) ها هنا على بابه ، والاستثناء من الزمان ، والاستثناء في الأول من الأعيان ، والذين شقوا على هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم ، وإنما أجرى عليهم كلّ لفظ في الحال الذي تليق به ، فإذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها فهم من أهل الشقاء ، وإذا نقلوا منها إلى الجنّة فهم من أهل السعادة. وهذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين القدماء ، وزاد ابن

عباس : الذين شقوا ليس فيهم كافر ، وإنما هم قوم من أهل التوحيد والإيمان ، يدخلون النار بذنوبهم ، ثم يتفضّل الله عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنّة ، فيكونون أشقياء في حال سعداء في حال أخرى.

وقيل أيضا : إن تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج ، لأن الله تعالى لا يشاء إلّا تخليدهم على ما حكم به. فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون ، لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها ... وقيل غير ذلك كثير وفي هذا كفاية .. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا ينازعه أحد في ملكه ولا في حكمه العدل.

١٠٨ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ ...) أي أن الذين نالتهم السعادة برضوان الله لطاعاتهم وبعدهم عن المعاصي ، فيكونون في الجنّة (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي باقين مدة بقائهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) مرّ تعليلها وتعليل ما قبلها في الآية السابقة ، إلّا ما مضى ذكره من جواز إخراج بعض الأشقياء من تناول الوعيد لهم وإخراجهم من النار بعد دخولهم فيها ، فإن ذلك لا يتأتّى في هذه الآية بالنسبة لأهل الجنة لإجماع الأمة على أن من استحق الثواب فلا بدّ أن يدخل الجنّة ، وأنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي دائما مستمرّا غير مقطوع.

* * *

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا

تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))

١٠٩ ـ (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ...) المرية هي الشكّ مع ظهور الدلالة. أي فلا تشكّ بعد ظهور الدلالات على بطلان ما يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ، وعلى أن مصيرهم إلى النار بسبب عكوفهم على الأصنام ، فإنهم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي على جهة تقليد آبائهم (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) لمعطوهم الجزاء والعقاب على أعمالهم ومؤدّون إليهم (نَصِيبَهُمْ) أي حظّهم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) بمقدار ما يستحقون ولا ننقصه أبدا.

١١٠ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ...) أي أنه سبحانه أعطى موسى عليه‌السلام كتاب التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي أختلف قومه في صحة نزوله عليه ، فتسلّ أنت يا محمد عن تكذيب قومك للوحي والقرآن ، ولا تغتمّ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير الجزاء على المعاصي للآخرة لعلمه بالمصلحة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فصل الأمر بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي أن الكافرين في شك شديد من صدق وعد الله تعالى بالبعث ، والريب أقوى من الشك.

١١١ ـ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ...) أي : وإن كلّا من الفريقين : المصدّقين ، والمكذّبين ، ليعطينّهم ربّك جزاء أعمالهم وافيا دون نقص (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عالم بأعمالهم لا تخفى عليه خافية. أما (لَمَّا) المشدّدة فهي ها هنا بمنزلة (إلا) أي : وما منهم أحد مؤمن أو مكذّب إلّا توفّيه عمله. وهي كقولك : سألتك لمّا فعلت كذا.

١١٢ ـ (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ ...) أي داوم يا محمد على تبشيرك وإنذارك وامض لما أمرت به أنت ومن عاد عن الشرك وآمن وصار معك (وَلا تَطْغَوْا) يعني لا تتجاوزوا ما أمر الله لا في زيادة ولا في نقصان لتبقوا في جادّة الاستقامة ، ولا تبطرنّكم النعمة ولا تعصوا الله ولا تخالفوا

أمره فإن ذلك من الطغيان (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى ما أنتم عليه ويرى عملكم ولا يخفى عليه شيء من ذلك. وعن ابن عباس قال : ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله آية كانت أشد عليه ولا أشق من هذه الآية ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : أسرع إليك الشيب يا رسول الله : شيّبتني هود والواقعة.

* * *

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

١١٣ ـ (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ...) أي : ولا تطمئنوا وتميلوا إلى المشركين في شيء من دينكم عن ابن عباس ، ولا تداهنوا الظّلمة عن السدي وكثيرين غيره. والركون المنهيّ عنه هو الدخول معهم والرضا بفعلهم ومخالطتهم وموالاتهم ، وهو ـ كما عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ـ المودة والنّصيحة والطاعة. فلا تفعلوا ذلك (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي فيصيبكم عذابها (وَما لَكُمْ) حينئذ وفي كل حين (مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار غيره يدفعون عنكم عذاب النار (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) على أعدائكم في الدّنيا لأنكم مالأتموهم وداهنتموهم في دينكم ولم تقاوموهم ، ولا تنصرون في الآخرة لأنكم لا تفوزون بثواب الله. والفعل (فَتَمَسَّكُمُ) نصب لأنه جواب النهي بفاء الجزاء كما لا يخفى.

١١٤ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ...) أي أدّ الصلاة وجيء بأعمالها تامة وبأحكامها كاملة ودوام عليها في طرفي النّهار اللّذين هما

الفجر والمغرب ، وزلفا من الليل : جمع زلفة وهي هنا الأوقات المتقاربة ، في أول ساعات الليل كصلاة العشاء الآخرة ، ولم يذكر صلاتي الظّهر والعصر لظهور أمرهما فكأنه قال : أقم الصلاة في تلك الأوقات مع صلاة النهار المعروفة ، أو أنهما أضيفا للطرف الأخير لكونهما بعد الزوال ، وقد قال سبحانه في غير هذا الموضع : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، ودلوك الشمس هو زوالها كما هو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قيل إن الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب ، ففي الواحدي عن أبي عثمان قال : كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا فهزّه حتى تحاتّ ورقه ـ أي تساقط ـ ثم قال : يا أبا عثمان ، ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت : ولم تفعله؟ قال : هكذا فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزّه حتى تحاتّ ورقه ثم قال : ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت : ولم فعلته؟ قال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ، ثم قرأ هذه الآية إلى آخرها. وعن أبي حمزة الثمالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث طويل عن أرجى آية في القرآن ، قال : سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أرجى آية في كتاب الله : وأقم الصّلاة طرفي النهار ، وقرأ الآية كلّها ، قال : يا عليّ والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب ، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه. فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عدّ الصلوات الخمس ، ثم قال : يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم ، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمّتي.

وقيل في المعنى أيضا : إن الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات فكأنه يذهب بها. (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي ما بيّنه من إذهاب

الحسنات للسيئات هو عبرة وموعظة لمن تذكّر فيه وتفكّر.

١١٥ ـ (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ...) : أي اصبر على القيام بالصّلاة وجميع الواجبات وعلى أذى قومك وكل ما تلاقيه من مشقات في طريق القيام بدعوتك التي تحث الناس على الخير وتدعوهم إلى ترك القبائح ، وإن ربّك يحفظ لك أجرك وثوابك لأنه ـ كذلك ـ يحفظ أجر وثواب كل عمل يقوم به المحسنون وعاملو الخير ، وهو لا يهمل مكافأة أي محسن.

* * *

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

١١٦ ـ (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ...) أي : هلّا كان من الأقوام الذين سبقوكم جماعة باقون على الاستقامة (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ومفهوم هذه الصيغة هو النفي ، ومعناها : كان يجب أن يكون قوم هذه صفتهم بعد أن أنعم الله تعالى عليهم بالعقل وهداهم بالرّسل وأقام عليهم الحجج. ولا يخفى أن في ذلك توبيخا لمن سلك طريق الأولين من بثّ الفساد الذي كان عليه قوم عاد وثمود وفرعون وغيرهم ، وتعجبا من حال من يكون كذلك مع معرفته بهلاكهم. فكيف لم تكن من جملتهم بقية من جماعة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وكيف اجتمعوا على الكفر حتى أهلكهم الله بالاستئصال (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي : سوى عدد قليل منهم نهوا عن الفساد ، كالأنبياء والصالحين من أتباعهم الذين جنّبناهم العذاب وخلّصناهم منه بقدرتنا. وهذا الاستثناء منقطع لأنه إيجاب لم يتقدم

فيه صيغة النفي ، بل استهجان خرج مخرج السؤال كما بينّا (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي انصرف الكافرون والمشركون للنّعم التي كانوا فيها واشتغلوا بها عن الإيمان والطاعة. والتّرف هو النعيم ورغد العيش الّذي ألهاهم وغرّهم وصرفهم عن الإيمان فاتّبعوا زخرف الدنيا ونسوا الآخرة (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) مصرين على جرم الكفر وظلم أنفسهم ، ومن ذوي المعاصي والسيئات.

١١٧ ـ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ...) قيل إن معناها : وما كان ربّك ليهلك القرى (بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) بظلم منه لهم ، ولكن إنما يمهلهم بظلمهم لأنفسهم كما قال : إن الله لا يظلم الناس شيئا إلخ ... وقيل إنه لا يؤاخذهم بظلم واحد منهم مع أن أكثرهم مصلحون ، ولكن إذا عمّ الفساد وظلم الأكثرون عذّبهم. وقيل أيضا : لا يهلكهم بشركهم وظلمهم لأنفسهم وهم يتعاطون الحقّ بينهم. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : وأهلها مصلحون ينصف بعضهم بعضا.

* * *

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠))

١١٨ ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ...) أي لو أراد الله أن يكون الناس على ملّة واحدة ودين واحد بحيث يكونون مؤمنين سامعين مطيعين لفعل. ولكنه حينئذ يلجئهم إلى الإيمان إلجاء ويخلق العلم والايمان في قلوبهم خلقا يتنافى مع التفكّر والتبصّر والتوصّل إلى المعرفة واختيار

النّهوض إلى الطاعة والإقلاع عن المعاصي بعد التمييز السليم واعتناق العقيدة السماوية الصحيحة. والحاصل أنه سبحانه لو شاء لرفع الخلاف ممّا بينهم ، وهم (لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) متفرّقين متنازعين بين يهودي ونصراني ومجوسي وغيره.

١١٩ ـ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ...) أي ما عدا الّذين يلطف بهم الله عزوجل من المؤمنين الّذين يصدّقون برسله ويؤمنون به ويعملون بأوامره ويجتمعون على الحق الذي نزل من عنده. وقال الزجاج : إلّا من رحم ربّك : استثناء منقطع على معنى : لكن ، وتقديره : لكن من رحم ربّك فإنه غير مختلف. فالمعنى : لا يزالون مختلفين بالباطل إلّا الّذين شملتهم رحمة الله تعالى فهم يؤمنون ويثابون وينجون من الاختلاف بالباطل (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي وللرحمة خلقهم ، ليغدقها عليهم بلطفه بهم. فإنه قد خلق الناس جميعا ليكونوا سامعين مطيعين ... مرحومين مثابين ، إلّا من رغب منهم عن ذلك بسوء اختياره ، فهو لم يخلقهم للعذاب ولا حتم عليهم الكفر المؤدّي إلى سخطه وعذابه. وقيل : خلقهم وعلم أن عاقبتهم تؤول إلى الاختلاف بدليل قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ...) وهذا باطل إذ لا يجوز أن يكون غرضه اختلافهم ، بل خلقهم ليكونوا مطيعين فكان منهم عاصين بسوء تصرّفهم ، وقال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فلم يسمع ذلك كثير من الإنس وكثير من الجن الذين خلقهم للرّحمة فاختاروا النقمة. فإنه خلق الناس لمصير حسن اختاره لهم : هو الجنّة ، فكفر كثيرون منهم به وبرسله وبقوله وكان مصيرهم سيّئا : هو النار (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي كمل وحيه ووعده ووعيده لعباده ، وقضي في الأمر ، و (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأركسنّهم فيها لكفرهم وعدم تصديقهم بوحدانيتي وللتقاعس عن إطاعة رسلي والقيام بعبادتي.

١٢٠ ـ (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ...) أي وكل هذه القصص نرويها لك من أخبار الأنبياء الّذين أرسلناهم إلى الأمم عبر التاريخ ، نقصّ عليك منها (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ما نقوّي قلبك به ونثبّته

على الإيمان لتطيب نفسك وتمضي مطمئنّا على ما أنت عليه من الدّعوة إلى الله ومن التبشير والتحذير صابرا على عناد قومك وأذاهم (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) وأوصلنا إليك الحق في هذه الأنباء التي قصصناها عليك ونزل عليك بها القرآن الّذي هو حقّ كلّه (وَمَوْعِظَةٌ) تزجر الناس عن المعاصي وترغّبهم بالطاعات (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تذكّرهم وتخوّفهم العواقب السيئة في الآخرة.

* * *

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

١٢١ ـ (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) أي : بعد معرفة ما قلناه لك ، وتبليغه للناس ، قل يا محمد للكافرين بقولك : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي افعلوا ما أنتم عليه من فعل ، واعملوا ما شئتم (إِنَّا) نحن (عامِلُونَ) ما أمرنا به ربّنا جلّ وعلا.

١٢٢ ـ (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ...) : أي : بعد إصراركم على الكفر توقّعوا حصول ما وعدكم به ربّكم من العقاب على كفركم ، ونحن متوقّعون الوصول إلى ما وعدنا ربّنا من الثواب على الإيمان به وبرسله وبكتبه وملائكته. فقد وعدكم الشيطان غرورا ووعدنا ربّنا حقّا.

١٢٣ ـ (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أنه تعالى عالم ما غاب في السّماوات والأرض ولا يخفى عليه شيء فيهما ، يعرف كل ذلك لا بعلم مستفاد لأنه قديم عالم لذاته ولا يعلم أحد شيئا من ذلك إلّا ما تلقّاه النبيّ (ص) عن ربّه وما أطلعه عليه من غيبه وما أطلع الرسول عليه أوصياءه (وَإِلَيْهِ) إلى الله وحده (يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فله الحكم الفصل يوم

القيامة (فَاعْبُدْهُ) فإنه أهل للعبادة وهو على هذه الحال من العظمة (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ) أي أنه لا يسهو عن شيء ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يغفل (عَمَّا تَعْمَلُونَ) عن كل ما تفعلونه.

* * *

الفهرس

المقدمة.......................................................................... ٥

سورة الانعام.............................................................. ٧ ـ ١١٦

سورة الأعراف......................................................... ١١٧ ـ ٢٥٢

سورة الأنفال.......................................................... ٢٥٣ ـ ٣٠٤

سورة التوبة............................................................ ٣٠٩ ـ ٣٩٧

سورة يونس............................................................ ٣٩٩ ـ ٤٦٢

سورة هود............................................................. ٤٦٣ ـ ٥٢٨

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ٣

المؤلف: الشيخ محمّد السبزواري النجفي
الصفحات: 528
  • المقدمة 5
  • سورة الانعام 7 ـ 116
  • سورة الأعراف 117 ـ 252
  • سورة الأنفال 253 ـ 304
  • سورة التوبة 309 ـ 397
  • سورة يونس 399 ـ 462
  • سورة هود 463 ـ 528