

بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدّمة
.. وهذا هو الجزء
الثاني من «الجديد في تفسير القرآن المجيد» نفتتحه بسورة آل عمران المباركة ،
متكلين على الله تبارك وتعالى في المضي بهذا المشروع الذي لا نبتغي من ورائه سوى
مرضاة الله عز وعلا ، وسوى بيان بعض ما وفقنا اليه سبحانه من فهم كلامه العزيز.
والغوص في هذا
البحر من أصعب الصعب ، ولذا نستمد منه وحده التوفيق لفهم محكم قوله ، وجلاء بعض
غوامض آياته ، مستبصرين في مسارنا بهدى الأئمة الأبرار من أهل بيت محمد المختار
صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ، ومستفيدين من بعض ما جاءت به قرائح السلف الصالح
ممن انبرى لهذا المضمار ، ودأب على التقاط لآلئه ليل نهار ، وعارضين ما عندنا من
محاولات متواضعة نظن أنه قد حالفنا فيها التوفيق لأنها تلائم روح هذا العصر ،
وتوافق مصالح ومطامح أجياله الجديدة ..
ولن يفوتنا
الاعتذار الى القراء مما قد نقع فيه من التقصير في بيان أسرار هذا المعجز العظيم ،
بل لن ننسى استغفار ربنا الكريم من الزلل والخطل حين يعيي قدرتنا سبر غور كلامه
الذي فيه المجمل والمفصل والمبيّن والمبهم ، والمحكم والمتشابه ، والذي له ظاهر
وباطن ، وتفسير
وتأويل ، تقصر
دونه الأفهام ، ويحار دونها العلماء الأعلام ، والعصمة لله وحده ، والحمد لله أولا
وآخرا.
المؤلف
في شهر رجب سنة ١٤٠٢ هجرية
الموافق شهر أيار سنة ١٩٨٢ ميلادية
|
|
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦))
١ ـ (الم) : قد مر تفسيرها في سورة البقرة فلا نكرره ، مضافا الى أن
تلك الحروف المقطّعة في أوائل السور ، من المتشابهات التي علمها عنده تعالى وعند
أمناء وحيه ، فليس لنا أن نتعرض لها بجزم. نعم نقول عن بعض جهاتها : حقّ الميم هو
الوقف عليها والابتداء بما بعدها كما قرأ عاصم ، أما الباقون من القراء فقد فتحوها
لالتقاء الساكنين ، إذا ألقوا فتحة همزة «الله» عليها إشعارا بأنها في حكم الثابت
، وجعلوا حذفها تخفيفا لقراءة الدّرج.
٢ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .. كلمة توحيد. وروي أنها والجملة المستثناة من قوله (الحي
القيوم) اسم الله الأعظم. و (الله) علم لذات واجب الوجود جلّ وعلا ، الجامعة لصفات
الكمال بأجمعها. وقد تقدم تفسير (الحي القيوم) في آية الكرسي ـ ٢٥٥ من سورة البقرة
ـ
٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) الظاهر أن المراد بالكتاب هو القرآن الكريم و (بِالْحَقِ) حال ، أي مقترنا بالحق ، إمّا بلحاظ تنزيله : أي تنزيله هو
حق ثابت ، متيقن أنه من عنده سبحانه لا ريب فيه لا من عند غيره تعالى كالتوراة
والإنجيل المختلقين المبتدعين من عند المخترعين بعد رفع عيسى
عليهالسلام الى السماء وفقدان الأصل على يد أولئك المخترعين أو بلحاظ
أنه حال من نفس الكتاب ، باعتبار ما فيه من الأخبار ، وما يتضمّن من الحقائق
والحجج والبراهين الساطعة الدالّة على حقّانيته وصدقه وكونه كتابا إلهيا بحيث لا
يشك فيه أحد ، ولا يرتاب فيه ذو مسكة ، وتحدّي النبي (ص) به دليل على ذلك. واعتبار
الثاني يغني عن اللحاظ الأول ، لأن كون (بِالْحَقِ) حالا من الكتاب يلزمه أنّ التنزيل من عنده تعالى على ما لا
يخفى ، فقد نزّله سبحانه بالحق (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) ومصدقا نصب على الحال من الكتاب ، يعني أن هذا الكتاب يصدق
ويشهد بأن الكتب السماوية المتقدمة عليه ، والتي نزلت على الأنبياء الماضين حق ،
وما فيها صدق (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) وقد ذكرهما من باب ذكر الخاص بعد العام الذي يتضمنه الكلام
السابق. فالقرآن مصدّق لجميع الكتب السماوية ، ولا يختص ببعض دون بعض. ولعل وجه
اختصاص ذكرهما هو كونهما أكبر وأكثر ما يحتويان من الأخبار والأحكام والحقائق ،
ونحو ذلك مما كان يحتاج اليه الناس في عصريهما. كما أن حاجة الناس في عصرنا هي
أزيد من حاجة جميع أهل الأزمنة السالفة. ولذا فصّل كتابنا ، وشرح أكثر من الكتب
الماضية كما يقتضي قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ) إلخ .. وقوله : فيه تبيان كل شيء ، كناية عن أن فيه جميع
ما يحتاج اليه الناس الى يوم القيامة ، ولهذا صار نبينا (ص) خاتم النبيين ، وكتابه
خاتم الكتب السماوية ، وأوصياؤه ختمة الأوصياء ، بدليل أنه لو كان الناس يحتاجون
الى بعث نبي آخر ، وتنزيل كتاب معه لأنزل ، ولكنه ما بعث ولا أنزل لعدم الحاجة بعد
هذا القرآن الكريم والنبي العظيم. ولو كان غير ذلك للزم منع الفيض والرحمة
بالمحتاجين ، وهذا عن الفيّاض المطلق قبيح لأنه ظلم وبخل وكلاهما محال عليه ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. فنستكشف عدمه.
والفرق بين
التنزيل والانزال ، أن الأول يعني نزول الشيء نجوما ، أي في أوقات متعددة متعينة ،
والثاني هو نزوله جملة واحدة ، ولما كان
نزول القرآن من
القسم الأول عبّر عن القرآن بالتنزيل ، وكان نزول الكتابين المذكورين من القسم
الثاني فبين بأنزل ، وهذا من الأمور المرموزة في القرآن الكريم وهذا الفرق منقول
عن الزمخشري ، ولكنه مردود بقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.) والأحسن أن يقال : إن التضعيف في «نزّل» والهمز في «أنزل»
كلاهما للتعدية ، لأن «نزل» فعل لازم في نفسه ، وإذا أريد تعديته يجوز نقله الى
باب إفعال ، وتفعيل. والفعلان هنا جمعت الآية بينهما جريا على عادة العرب في
افتنانهم في الكلام وتنويعهم فيه على وجوه شتى. ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة
الأنعام : (لَوْ لا نُزِّلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، وقوله في سورة يونس : (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).
٤ ـ (مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ) .. أي من قبل نزول القرآن. ولما قطع عن الإضافة بناه على
الضم. وموضع هدى نصب على الحال من التوراة والإنجيل ، أي هاديين للناس عامة
ولقوميهما خاصة. وهذا هو الظاهر من الآية اقتضاء لتعقبهما به ، ويحتمل كونه حالا
من القرآن الذي قدر مضافا اليه للنزول الذي هو مضاف اليه للظرف ، أي لفظة : قبل ،
على ما بينّاه آنفا ، وإفراده يقوّي هذا الاحتمال ، والله هو الهادي الى أمثال هذا
الإجمال. وقيل هو حال بعد حال من الكتاب ، والفواصل ليست بمانعة منه على ما بين في
علم الأدب من العلوم العربية التي وضعت وصنّفت مثل هذه الاصطلاحات. (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي ما يفرق بين الحق والباطل. وعن القمي والعياشي عن
الصادق عليهالسلام : الفرقان هو كل أمر محكم. والكتاب هو جملة القرآن الذي
يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء. وفي بعض النّسخ : يصدقه من كان قبله من
الأنبياء. وقيل : المراد بالفرقان جنس الكتب السماوية فإنها بأجمعها تفرق بين الحق
والباطل ، فهو من عطف العام على الخاص. أو المراد به القرآن على ما هو المشهور
والمعروف في كتب التفاسير وألسنة العلماء .. وقد كرّر ذكره بوصفه المادح له تعظيما
لشأنه ، لأن دلالات صفاته وإن كان الموصوف واحدا مختلفة ، وفي كل
واحدة فائدة ليست
في الأخرى على ما هو المبين عند أهله .. (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من كتبه وحججه وبراهينه الشرعية والعقلية ، وجحدوا أنها
منزلة من عنده سبحانه ، وكانوا يحملون المعجزات وخوارق العادات على السحر والشعوذة
وأخبار الكتب السماوية وحقائقها على الأساطير والأحلام. هؤلاء إذا ماتوا على كفرهم
بلا توبة (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) بما جحدوا ، ولعدم توبتهم الى أن ماتوا مع تمامية الحجة
عليهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يقهر ، ولا يقدر أحد أن يمنعه من تعذيب الجاحدين ،
وهو (ذُو انْتِقامٍ) يعاقب المجرم على جرمه دون أن يزيد أو ينقص إلا إذا شاء أن
يعفو فينقص من العذاب رحمة منه وتفضلا.
٥ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) .. أي أنه عالم بجميع ما من شأنه أن يعلم به في جميع عوالم
الامكانية ، والتعبير عن ذلك بالأرض والسماء هو لأن القوى الحساسة البشرية نوعا لا
تتجاوزهما ، ولا تنتقل عنهما الى غيرهما من الممكنات.
٦ ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) .. التصوير هو جعل الشيء على هيئة يكون عليها الشيء في
التأليف والتركيب. فالصورة تدل على جعل جاعل وصنع صانع بديع في صنعه ، قدير في
تدبيره وتقديره. يصوركم (فِي الْأَرْحامِ) والرحم هو العضو الذي يتكون فيه الجنين من الأم ، ويتربى
فيه الى حين الولادة (كَيْفَ يَشاءُ) من حيث الكم والكيف ، وبحيث يمتاز كل من البشر عن الآخر
ولو كانوا من أب وأمّ في رحم واحد مع أن أعضاء الإنسان معدودة محصورة ، وذلك
بقدرته وحكمته الباهرة البارزة وأما الأسرار التي استودع في هذا المخلوق الذي يعبر
عنه بأعجوبة الكون ، والفوائد التي تترتب عليه ، فكثيرة كبيرة لا يسع المقام
البيان بعضها. وفي التشريح الجديد يظهر للعلماء ما يبهر عقولهم بدقيق صنعه وعجائب
حكمته عزوجل. على أن ما وصلت اليه معرفة البشر الى يومنا هذا ، يحسب من
آلاف الغرائب بل أقل ويكشف عما ذكرنا ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهو آية الله العظمى ، مخاطبا الإنسان :
وتزعم أنك جرم
صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر.
وفي قوله غنى في
مقام تعريف خلق الإنسان البديع الذي جرى على يد القدرة وصوّره قلم القضاء بأبدع
صورة ، كما قال سبحانه وتعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)!. فسبحان الله أحسن الخالقين. الذي هو أجلّ وأرفع عن أن
يكون من خالق سواه ، ولكن جرت العادة عند الملوك وأرباب. الشأن العالي أن يجيء تعبيرهم
بصيغة الجمع الدالة على الرفعة وعلوّ الشأن ، وهو جلّ وعلا لتقدمه على سائر
الكائنات معلّم الكائنات ومرجع المخلوقات طراّ ، والكل فقراء اليه تعالى يحتاجون
له احتياج العبد الذليل الى السيد الجليل ، ولا يقدرون على شيء من عند أنفسهم كما
لا يخفى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا وجود في عالم الامكانية لا اله غيره ، فهو الخالق
والمدبر والمنظم الذي حارت فيه العقول ، وتاهت فيه الأفكار ، ولو كان ثمة إلى آخر
لآل الأمر الى ما أخبر سبحانه عنه في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا). فمن عدم فساد نظام الكائنات نستكشف عدم وجود غيره سبحانه.
هذا مضافا الى البراهين العقلية والنقلية الأخرى التي ذكرت في محلها ودلت على
التوحيد. فهو إلا آله الواحد (الْعَزِيزُ) الغالب بقدرته وسلطانه (الْحَكِيمُ) المتقن للأمور حين أحكمها من غير أن يبرز وجه حكمته ، وهو
المتصرف طبق مشيئتهمن غير استشارة أحد ، لأنه يعلم حقائق الأشياء بعناوينها وكنهها
.. وقيل إنه بمثل هذا جرى الحجاج على وفد نجران حين زعموا أن عيسى عليهالسلام رب يعبد ..
* * *
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا
وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))
٧ ـ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ) .. أي أن كتابك هذا منزل من عند الله. وتجد هذا المضمون
وعلى هذا السياق تقريبا في كثير من الآيات ، وبالأخص في أوائل الحواميم ، وصدور
الألف لام ميم. فمنها : حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ، وفي غيرها :
تنزيل من الرحمن الرحيم ، وفي البعض : المر ، تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب
العالمين ، والباقي منها هو على هذه الوتيرة.
أما وجه التكرار
لهذا المضمون ، بهذه الشدة وبالعبارات المختلفة ، فهو ردّ على الجحدة المنكرين
لكون القرآن منزلا منه تعالى. وإثبات كونه من عند الله كان بمثابة من الأهمية ،
لأنه إذا لم يثبت كون القرآن منزلا من الله فإنها لا تثبت رسالة محمد صلىاللهعليهوآله ، ولم يثبت دين الإسلام. فالقرآن هو المعجزة الخالدة
المثبتة لرسالة النبي (ص) وإذا رد ردّت النبوة بلا شك. ولذا كان الكفار يحتالون في
تحصيل مستمسك ينكرون به القرآن ، ويتشاورون ليلا ونهارا في نواديهم من أجل ذلك ،
إذ لعله يحصل لهم طريق يطفئون به نور الله سبحانه ، ولكن الله متمّ نوره ولو كره
الكافرون. فالاهتمام بالإثبات ، وتكراره مرارا ، هما معارضة بالمثل في مقابل مقالة
النافين والمنكرين. فما تكرر في كتاب الله تعالى ، كان لمصلحة ولو خفيت علينا ،
ولم يخل من مصلحة حتى يكون مستهجنا.
(مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) أي أن دلالتها تكون على المعنى المراد منها ، وما قصد منها
يكون في غاية الظهور والصراحة عند ذوي الأفهام المستقيمة والعقول العارفة بالحقائق
وموازين الكلام ، وعند سائر المبرّئين من فلتات الجهل وغواية الأهواء ، الذين
حباهم الله بنور الايمان. وهذه الآيات
المحكمات بالنظر
الى ذواتها (هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ) أي أصله ومعنى ذلك أنها المرجع في أخذ الأحكام وفيما يحتاج
اليه الناس. وهذا لا يعني أن غيرهنّ من الآيات ليست بأصل ، فإن القرآن بحذافيره ،
حتى الحرف الواحد منه ، أصل في مورده. فكيف بالمتشابهات التي تحتوي على المواضيع
المهمة من الأحكام وغيرها ، تلك التي لا يعلمها إلّا الله تعالى وأهل بيت الوحي
والرسالة لأنهم هم الراسخون في العلم الذين اختصهم الله بمعرفة الآيات المتشابهة
وغيرها وعلّمهم علم التنزيل وعلم التأويل ، وفهّمهم الناسخ من المنسوخ. وأهل البيت
أدرى بالذي فيه ، فكيف بهم وبيتهم مهبط الملائكة وهم معدن الرسالة؟ .. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) إذا عرفت المحكمات فالمتشابهات غيرها لأن تعريف الأشياء
يكون أحيانا بأضدادها. فالمتشابهات هي المحتملات للمعاني الكثيرة التي لا يكون
المراد منها شيء خاص واضح ، مع أن المتدبرين المدققي النظر من الأعلام يجتهدون في
استخلاص فوائد عديدة ومصالح كثيرة منها. بل يدركون مرادها ويفهمون المقصود منها ،
ويستخرجون معانيها الحقيقية ، ويردونها الى آيات محكمات ذات درجات عالية حين معرفة
المقصود منها. ولكن ليس لذلك بالحقيقة سوى أهل البيت الذين كان يلجأ الناس إليهم
لبيان تأويل المتشابهات ، لئلا يقعوا في قول : «كفانا كتاب الله» كما قيل ذلك من
دون روية وتدبّر ، لأن القرآن العظيم يحتوي على كثير من المتشابهات التي يستعصي
فهمها وتوضيح المراد منها ، فلا يمكن أن يستغنى عمن عنده علم الكتاب كأهل البيت عليهمالسلام. ولذلك قال صلىاللهعليهوآله : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي
إلخ .. الذين اقتضت حكمته تعالى أن يعلمهم لأنهم أولياؤه وأهل طاعته.
ومن المتشابهات
يستنبطون تعيين وقت ظهور الحجة عجل الله تعالى فرجه مثلا ، وبيان أشراط الساعة
التي تسبق يوم القيامة ، وأمثال ذلك من المهمات التي لا صلاح بإظهارها بالفعل
لكافة الناس. وفي الكافي والعياشي ، عن الصادق عليهالسلام في تأويل قوله سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) : أن المحكمات أمير المؤمنين والأئمة عليهمالسلام ، والمتشابهات (أعداؤهم) ولا ينافي هذا ما جاء في بقية
التفاسير لأن للقرآن بطونا. (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي انحراف ، وهم الذين استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا
الضلالة على الهداية تبعا لأهوائهم ، فمالت قلوبهم عن نهج الحق وانحرفوا مع الباطل
(فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ) أي يمضون مع أهوائهم السخيفة وآرائهم الرديئة ، ويؤوّلون
تلك الآيات تأويلا باطلا (ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ) أي طلبا لا يجاد سبيل الى فتنة الناس عن دينهم ، وزرع
الشكوك في عقيدتهم ، ليعرضوا عن طريق الحق والحقيقة (وَابْتِغاءَ
تَأْوِيلِهِ) أي طلبا لتفسير آياته بحسب ما يشتهون ، ووفق ميولهم
الفاسدة تلبيسا على الآخرين وتشكيكا لهم ، وخلطا للحق مع الباطل ، وتلاعبا بالدين
، واستهزاء بالكتاب والسنة (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) أي الثابتون فيه. وعن الصادق عليهالسلام : نحن الراسخون في العلم. نحن نعلم تأويله ، أجل ، فهم باب
مدينة علم الله وعلم رسوله ، لا غيرهم ممن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ..
فالعالمون به يؤوّلونه بجزم وعن علم (وَيَقُولُونَ آمَنَّا
بِاللهِ) والجملة حال من الراسخين ، ويحتمل الخبرية لها إن جعلت
مبتدأ ، والأول أولى في النظر. (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) أي مجموع المحكم والمتشابه من عنده سبحانه (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) أي ما يفكر بذلك ويؤمن به إلا أرباب العقول الصائبة
والافهام المستقيمة والأذواق السليمة.
وذيل هذه الشريفة
ثناء على الراسخين في العلم ومدح لهم. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال في حديث : إنّ الله جلّ ذكره ، بسعة رحمته ورأفته
بخلقه ، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه ، قسّم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل
قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصح
تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه والراسخون
في العلم. وإنما فعل ذلك لئلا يدعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله
صلى
الله عليه وآله من
علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار الى الائتمار بمن ولّاه أمرهم.
فاستكبروا عن طاعته تعززا وافتراء على الله عزوجل ، واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله عز اسمه ،
وعصا رسوله (ص) ..
٨ ـ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) .. أي لا تجعلها تنحرف عما هي عليه من الفطرة الأولى
والهداية الموهوبة من الهداة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين. ومعنى إزاغة
القلوب من الله سبحانه في هذه الآية وفي أمثالها كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ). ونسبة الإزاغة اليه عزوجل من قبيل الإضلال والإغراء وعدم جواز نسبتهما اليه ، تعالى
الله عن ذلك. وقد أجاب الاعلام عن الآية بأجوبة ، مثل قولهم : لا تمنعنا ألطافك
بعد أن لطفت بنا. أو : لا تخذلنا بسلب توفيقك وتأييدك عنا بسوء أعمالنا وأقوالنا. ولعل
الحق في قول الشريف السيد المرتضى طاب ثراه فقد قال : إنّ من أصلنا ردّ المتشابه
من الآي الى المحكم منها. وقد ذكرت حول موضوع الإزاغة آيات بعضها متشابه مثل ما
نحن فيه ، وبعضها محكم مثل قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ.) ولا بد من رد الآية التي نحن فيها الى هذه الآية. والمراد
بالزيغ الأول منهم هو ميلهم عن الايمان والإسلام ، والثاني الذي كان منه سبحانه ،
إنما كان عن طريق الجنة وثواب الآخرة. فالثاني غير الأول وإلّا لم يكن للكلام
فائدة. وإن الأول قبيح إذ كان معصية. والثاني حسن لأنه جزاء وعقوبة. فيرتفع
الاشكال بحمده تعالى وشكره.
هذا ما أفاده قدّس
سره في المقام. ولكن إذا أمعنّا النظر نجد أنه لم يأت بما يشفي الغليل ، ولا يحسم
النزاع ، لأن صرفه سبحانه لهم عن طريق الجنة والثواب مسبب عن عدم توفيقه تعالى لهم
أن يدخلوا في الإسلام ، وسلب ألطافه عنهم دون غيرهم. وهنا يكمن الاشكال ...
والذي يختلج
بالبال لرفع هذا الاشكال هو أن يقال : إن هذه هي
مقالة الراسخين في
الايمان الذين يدعون ربهم بالآية الشريفة كي يبقيهم كما كانوا من قبل. فقولهم : لا
تزغ قلوبنا ، أي لا تسلب عنها ألطافك ، وثبّتها على صراطك المستقيم ومنهاج الحق
بحيث لا تقع فيها ريبة ، ولا يتطرق إليها اضطراب. وقولهم : وهب لنا من لدنك رحمة :
تأكيد لقولهم : لا تزغ. وبعبارة أخرى فإن الآيات يفسر بعضها بعضا .. وحاصل المراد
أن قولهم : لا تزغ قلوبنا : هو دعاء منهم له تعالى بتثبيت قلوبهم على الهداية ،
وإمدادهم بالتوفيقات للبقاء على ما هم عليه. وهذا يجري مجرى : اللهم لا تسلط علينا
من لا يرحمنا والنكتة في نسبة الازاغة اليه تعالى ، هي النكتة في نسبة الإضلال
اليه سبحانه. وهي التنوية بما لتوفيقه من الأثر المحيي ، وما لخذلانه من الوبال
المهلك .. فلا تزغ قلوبنا يا رب. (بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا) لدينك وصراطك ، ولما أنعمت به على الخلّص من عبادك (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي امنحنا من عندك غفرانا وإحسانا ورأفة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) كثير العطاء ، جزيل النعم ، وفي العياشي عن الصادق عليهالسلام ، قال : أكثروا من أن تقولوا : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا ، ولا تأمنوا من الزيغ.
٩ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ... يعني مجمعهم للحساب والثواب والجزاء (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) اللام في : ليوم ، معناه : في يوم. وإنما جاز ذلك لأن
تقديره : جامع الناس للجزاء في يوم. فلما حذف الجزاء تخفيفا لدلالة القرينة
المقامية عليه دخلت اللام على ما يليه فأغنت عن في ، لأن حروف الاضافة متآخية لما
يجمعها من معنى الاضافة. وهذا الكلام منهم متضمن لإقرارهم بالبعث. (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد ، وهو على وزن الميقات بمعنى الوقت. وظاهر الجملة
يدل على أنها من كلام الراسخين. وقد عدلوا من الخطاب الى الغياب لأن فيه تنشيطا
للمتكلم ونوع تعظيم وإجلال للمخاطب في بعض المقامات ولو نفيا كالذي نحن فيه. وهذا
متعارف في المحاورات والرواية والحكاية كقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ
، وَجَرَيْنَ بِهِمْ ..) والعدول في مثل ذلك من البديع .. والله لا يخلف وعده.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى
كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... وماتوا على الكفر والشرك لأن الشرك قرين الكفر حكما ،
أو هو كفر على ما بيّن في محله عند أهله أولئك (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) لن تفيدهم إذا افتدوا بها أنفسهم تخلصا من عذاب الله عزوجل (وَلا أَوْلادُهُمْ) يغنون عنهم (مِنَ اللهِ) ولا يمنعون عن آبائهم سخطه ولو ضحوا بأنفسهم فدية لهم ، لا
ولا إذا بذلوا قوتهم وقدرتهم وعلو منزلتهم ، فكل ذلك لا يفيد في دفع غضب الله عن
الكفرة والجحدة. وقد ذكرت الأموال والأولاد لأنهما من أهم ما يعتمد عليه الإنسان
في ما يخافه من النوائب والشدائد ، وهما اللذان يبيع الجاهل بهما دينه
وآخرته. وقد قدم
سبحانه المال على الأولاد ، لأن الإنسان أكثر اعتمادا على المال في دفع الحوادث.
والمال حلّال المشاكل عند أهل الدنيا. بل قد يفيد الأولاد آباءهم وأمهاتهم نوعا في
دفع الحوادث والآلام عن طريق المال أيضا حين يكون في أيدي الآباء والأمهات شيء من
حطام الدنيا. فيحوطونهم بالعناية ما درّت عليهم منهم معايشهم أما إذا كانوا صفر
الأيدي فقد لا يعتنون بهم ... هذا والإنسان لا تطيب نفسه بأن يفتدي نفسه بأولاده
في المناسبات الخطرة لشدة تعلقه بهم وعطفه عليهم ، بخلاف المال الذي تطيب به نفسه
لدى أقل بادرة خطر. فالمقام يقتضي أن تقدم الأموال على الأولاد بحسب البديهة ، بل
بحسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته. (وَأُولئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ) أي الكافرون ، هم حطب النار وطعمتها.
١١ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) .. الدأب بسكون الهمزة مصدر : دأب ، بمعنى كدح ، أي سعى
وثابر وداوم على العمل والكسب في أمور الدنيا أو الآخرة. وهنا نقل الى معنى الشأن
، أي : كحال آل فرعون. ومحل الكاف هو الرفع بناء على الخبرية ، أي : دأب هؤلاء
كدأب آل فرعون في الكفر. والمراد بآل فرعون قومه وعشيرته. فحال هؤلاء الكفرة ، كحال
أولئك في الجهالة والضلالة (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون. وهؤلاء جميعا (كَذَّبُوا بِآياتِنا) والعبارة تفسير لدأبهم الذي هو التكذيب بآيات الله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم بها وبسببها (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) جزاؤه قوي لا يحتمل ، وقد أورد ذلك ترهيبا ووعيدا وتهويلا
....
١٢ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ... قل يا محمد للذين كفروا من مشركي قريش وغيرهم : (سَتُغْلَبُونَ) ببدر (وَتُحْشَرُونَ إِلى
جَهَنَّمَ) أي تجمعون وتساقون إليها (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي أن جهنم مهاد سوء. والمهاد ما يمهد للإنسان من أجل
الاستراحة عليه ، وقد غلب استعماله للرّضعاء. وقد عبّر سبحانه عن جهنم بالمهاد
تهكما واستهزاء بالكفار وبمن اختاروا الغواية والضلالة اللتين صارتا سببا لسوء
عاقبتهم.
١٣ ـ (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) ... الخطاب لمن حضر في معركة بدر. والآية هي العلامة
والحجة على صدق النبي صلىاللهعليهوآله في وعده المؤمنين بالظفر والنصر على أهل البغي والطغيان.
فإن للمؤمنين آية (فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا) أي فرقتين متحاربتين اجتمعتا ببدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي فرقة تحارب في سبيل طاعة الله وإعلاء كلمته ونصر دينه.
وهم الرسول (ص) والمسلمون معه (وَأُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون من أهل مكة ومن تبعهم. (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) أي يرى المسلمون المشركين ضعفيهم ، يعني أكثر منه بضعفين ،
أو العكس ، والأول أصح (رَأْيَ الْعَيْنِ) يعني أنهم يرونهم بأعينهم وبلا واسطة ، ولا يرتابون. وذلك
لتقوية قلوب المؤمنين ، وللتهويل على خصومهم بظهور كثرة جند المسلمين حيث كانوا
يرونهم أكثر منهم (وَاللهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) والتأييد من الأيد أي القوة ، فهو التقوية. وقد قوّى الله
المسلمين يوم بدر وأيديهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تقليل المشركين بأعين المسلمين ، وفي تكثير المسلمين
بأعين المشركين ، وفي نصر القليل على الكثير في تلك المعركة ، إن في ذلك (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي في ذلك عظة ونصح لذوي البصائر التامة. والبصر هنا بمعنى
العقل والحذاقة والإدراك ...
* * *
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
وَرِضْوانٌ
مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ
النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))
١٤ ـ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) .. أي أظهر حسنا وجميلا للناس (حُبُّ الشَّهَواتِ) جمع شهوة ، وهو مصدر معناه : الرغبة في الشيء وحبّه. ولها
معنى آخر وهو حركة النفس طلبا للملائم واللاذّ. والمراد بالشهوات : المشتهيات التي
تتعشقها النفوس ، لا الشهوة نفسها ، إذ جاء التعبير بها للمبالغة كزيد علم ، وفلان
عدل ، والدليل على ذلك هو تفسيرها من لدنه تعالى بالنساء والبنين وبقية المشتهيات.
وقد رمز سبحانه الى انهماك الناس في محبتها ، بحيث أحبوا شهوتها ، كقول سليمان عليهالسلام : إني أحببت حبّ الخير ... وإنما يجيء القول في المزيّن من
هو؟ ... وقد قيل هو الله تعالى ، زين ذلك للناس من أجل الاختبار ، ولبقاء النوع ،
وللتعيش ، ولأمور أخر فيها مصالح وحكم خفيت بتفصيلها علينا.
وقيل هو الشيطان.
ويؤيد أنه هو المزيّن قول ذلك الخبيث في محضر رب العالمين وخالق الكون والناس
أجمعين ، في سورة الحجر من الآية ٣٨ : قال (رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ).
هذا ، والآية في
معرض الذم. وقد قال الحسن عليهالسلام : فو الله ما أجد أذمّ للدنيا ممن خلقها. وقيل : ما يحسن
من الدنيا فالله تعالى زينه ، وما قبح منها زينه الشيطان ومدحه وأمال الناس اليه.
ثم إنه سبحانه
قدّم ذكر النساء لأنهن أكبر حبائل الشيطان ، فإذا عجز في مرحلة الاصطياد يتوسل بهن
، ويحصل مقصده بأسهل طريق بواسطتهن والدليل على ذلك قوله صلىاللهعليهوآله : ما تركت بعدي فتنة أضرّ على
الرجال من النساء!
... وقد قال أمير المؤمنين عليهالسلام : المرأة شرّ كلّها ، وشرّ ما فيها أنه لا بد منها ، وهي
عقرب حلوة اللسعة! .. فقد زين للناس حب الشهوات (مِنَ النِّساءِ
وَالْبَنِينَ) الذين عقّب تعالى بذكرهم لأنهم أيضا من الفتن الدنيوية
العظيمة ، وقد قال تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). فالأولاد فتنة بالنسبة لوالديهم من نواح كثيرة. فمن ذلك
مسألة معاشهم فقد يقع الأب في مهالك دينية أو دنيوية من أجل تدبير أمور أولاده في
حال صغرهم وحال كبرهم ، ذكورا كانوا أو إناثا. وكذلك مسألة آدابهم وتربيتهم
الدينية والخلقية فكم يلاقي من الصعاب حتى يصيروا متدينين متوظفين بوظائف إسلامية
راسخة ، وخصوصا في عصرنا هذا الذي نواجه فيه مشاكل صعبة عسيرة أقلها الانحرافات
التي تؤدي إليها الثقافات العصرية المادية الملحدة ، فإنه لا بد من التعليم ليماشي
الإنسان عصر الحضارة ، ولكن كم هو من الصعب عليه أن يبقى سائرا على المنهج الديني
القويم والسيرة الاسلامية الخالصة التي تكفل للإنسان حسن المعاش وحسن المعاد.
أعاذنا الله ، وأعاذ أجيالنا ، من الميول العصرية الشريرة التي لا يربح من أتعبها
من دنياه ، عشر معشار ما يخسره من آخرته ، وإن كانت دنياه ستتعبه أيضا وسيعيش فيها
منغصا يقضي عمره ركضا وراء الوهم والسراب ... وقد قال النبي صلىاللهعليهوآله : جئت لأتمم مكارم الأخلاق. فما أحرانا بأن نتخلق بالأخلاق
الحميدة منذ مراحل الحياة الاولى ، وأن نخلّق بها أبناءنا من بعدنا. ولكن للأسف
كأن النبي (ص) لم يشرع لنا شيئا من مكارم الأخلاق ، ولم يسنّ لنا شيئا من المزايا
الحميدة وغر الصفات ، مع أن الروايات متضافرة على كون الأخلاق الحميدة من شرائع
الدين الاسلامي الحنيف. فما بال بنينا وبناتنا لا يتصفون بالصفات الكاملة ليكونوا
كأسلافهم الشرفاء الماضين الذين سنّوا شرعة أخلاقية لسائر العالمين.
وأما وجه الاقتصار
على البنين دون البنات في الآية الكريمة ، فهو أن البنات داخلات في النساء مرة ،
وفي البنين التي تجمع الذكور والإناث مرة
أخرى. (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) جمع قنطار ، وهو المال الكثير ، وقيل هو ملء مسك ثور ،
وقيل مائة ألف دينار ، وفي رواية أنه ألف أوقية. والمقنطرة : أي المجمعة قناطير
فوق قناطير ، وقيل مبنية منه للتأكيد : كبدرة مبدّرة. وكلمة : من : بيانية
للقناطير (مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) من سوّم الفرس أي أعلمه فهو مسوّم : معلم. وقد يكون من
السّومة التي هي العلامة. والمراد أنها مسوّمة بسيماء الحرب كما كان يعلق عليها
صوف ملون في رؤوس الحراب ، أو قطعة قماش مطرزة كالعلم. ويقال : سامت الماشية ، أي
أخرجت الى المرعى (والأنعام) المواشي الثلاث بأصنافها ـ البقر والغنم والمعز (والحرث)
الذي هو أعمّ من المغروس والمزروع. فهذه كلها من الأشياء التي يرغب فيها الإنسان
رغبة شديدة مع أن (ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي جميع هذه المشتهيات ، وسائر منافعها إنما هو من أعراض
الدنيا الزائلة ، والانتفاع به قليل لا بقاء له إذ ينقضي عما قريب ، فلا بد
للإنسان من أن يتوجه لما يكسبه نعيم الآخرة الدائم الذي لا فناء له ولا زوال ...
وهذا مما يحرّك الشوق إلى الأعمال الصالحة ويوجب الزهد في متاع الدنيا القليل ،
ويجلب الورع عن محارم الله (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآبِ) أي المرجع الأحسن حيث النعم دائمة لا تزول ، وحيث لا عناء
ولا كدر ولا همّ ولا غم ولا ألم ولا سقم ولا فناء ، ولا انقضاء لمدة النعيم
والسرور.
١٥ ـ (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذلِكُمْ) .. أي : يا محمد قل للناس المجتمعين من حولك : هل أخبركم
بما هو أحسن من هذا المتاع الفاني وهذه المستلذات الدنيوية الزائلة التي ذكرت لكم
في الآية ، وما هو الأنفع مما أعدّ الله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي تجنبوا المحرمات؟؟ وهذا منتهى الاستفهام الذي استأنف
بعده القول أن لهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) على تقدير أنه بيان لقوله : (أَأُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ). وهذا جواب إذ كأنه قيل ما ذلك الخير للذين اتقوا؟ .. فجاء
الجواب بمالهم عند ربهم ... ويحتمل أن يكون رفع جنات على الخبرية على تقدير كونها
جوابا.
ويمكن أن تقرأ
مجرورة على البيانية والأول أصح. وجنات : جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر. وجريان
الأنهار إما أن يكون تحت الأشجار ، وإما تحت الأبنية والقصور فالجنة تحتوي على ذلك
كله من أشجار وأنهار وقصور وربما كان جري الأنهار تحت كليهما على ما هو ظاهر
الآية. وقوله : عند ربهم ، عند : اسم لمكان الحضور كقوله : رأيته عند الباب ، واسم
لزمان الحضور كقوله : ذهبت اليه عند بزوغ الفجر. وهو في الآية الشريفة متعلق بقوله
: اتقّوا ، باعتبار كونه حالا عن فاعله الذي هو المتقون ، أي حال كونهم عند ربهم
يرزقون تلك الجنات. أو هو صفة لهم باعتبار كونه متعلقا بمحذوف مقدر والله تعالى
أعلم .. و (خالِدِينَ فِيها) حال من الذين في قوله : للذين ، وقد نصب على ذلك. وللذين
اتّقوا كلّ ذلك (وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ) أي منظفة عما يستقذر من النساء ومن كل دنس وعيب ، ومن كل
شين خلقا وخلقا (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ) فوق ذلك كله ، ورضوانه تعالى يفوق كلّ نعيم ويزاد على
النعم التي ذكرت بل هو (أكبر) منها وأعلى لأنه عبارة عن أعلى مراتب الجنة. وهو
بمعناه اللغوي رضى الله خاصة وما أعظمه من نعمة على العبد (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي عالم عارف بما يعملون وما يستحقون من الجزاء ، وفي
المجمع عن الصادق عليهالسلام ، قال : ما تلذذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكبر لهم
من النساء ، وهو قول الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) الى آخر الآية ، ثم قال عليهالسلام : وإن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة أشهى عندهم من
النكاح ، لا طعام ولا شراب.
وقد نبه سبحانه
بهذه الآية الكريمة ، الى مراتب نعمه ، وبيّن أن أدناها هو متاع الدنيا ، وأعلاها
رضوان الله على ما وصفه تعالى ، وأوسطها الجنة ونعمها. فارزقنا اللهم من مراتبها
الثلاث ، إنك سميع مجيب.
١٦ ـ (الَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا إِنَّنا
آمَنَّا) .. في هذا القول بيان لصفات الذين اتقوا ، وما أكرمها
وأحسنها من صفات لأنهم يقولون : ربنا إننا صدّقنا الله ورسوله! .. وصفة الايمان
أول صفة لا بد للعباد من تحصيلها ، وما
عداها من باقي
صفات التصديق لا تنتج بلا إيمان ثابت ، والايمان الواقعي الصادر عن عرفان كامل ،
يلازمه التصديق بالنبوة ويقبل الولاية اللتين لا تنفكان عن بعضهما ولا تنفكان عنه.
والذي يقول آمنت ثم لا يقبل الولاية يكشف أنه ما آمن بالله ولا بما جاء من عنده ،
ولا آمن بالرسول ولا بما جاء به عن ربه ، وإيمانه لسانيّ لا أثر له إلا في ما فيه
مصالح ظاهرية كحقن دمه وحفظ ماله وعرضه وجميع نواميسه ، لكونه طاهرا يتعامل معه
تعامل الطاهر في الشرع المقدس لنطقه بالشهادتين. أما المؤمنون حقّا فهم المصدّقون
الذين يقولون آمنا بذلك كله (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي استرها علينا ، وتجاوز عنها ، وأمحها عنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وجنبنا إياه ، وادفعه عنا ، واحفظنا منه ولا تجعلنا من أهل
النار.
١٧ ـ (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقانِتِينَ) .. فالله تعالى أثنى على الذين اتقوا بصفات أخرى ، فعبّر
أنهم هم الصابرون على البأساء والضّراء والصابرون على الطاعة ، والصابرون عن
المعصية أيضا. وهم الصادقون في أقوالهم وأفعالهم ، بل في إيمانهم بالله وبرسوله
وبكتابه وما فيه ، وبجميع أمورهم الدنيوية والأخروية. وهم القانتون : أي القائمون
بالطاعات ، الدائمون عليها ، المتواضعون لله الأذلاء له تعالى. (والمنفقين)
الباذلين من أموالهم وأنفسهم في سبيل الله طوعا لأمره ، ورغبة في ثوابه ،
والمجتهدين في ذلك سرا وعلانية ، فريضة وتطوعا (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ)
في المجمع : أي
المصلّين وقت السحر. وقد رواه الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله عليهمالسلام جميعا. وعن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : من استغفر سبعين مرة في وقت السحر فهو من أهل هذه
الآية. وفي الفقيه والخصال عنه عليهالسلام : من قال في وتره إذا أوتر : استغفر الله وأتوب اليه ،
سبعين مرّة وهو قائم ، فواظب على ذلك حتى تمضي له سنة ، كتبه الله عنده من
المستغفرين بالأسحار ووجبت له المغفرة من الله تعالى. وتخصيص الأسحار بذلك هو لأن
الدعاء فيها أقرب الى الاجابة لأن العبادة في هذا الوقت أشق على العبد ، إذ النوم
يكون أحلى وأهنأ ، بينما تكون النفس أصفى والروع
أسكن وأجمع وخصوصا
للمتهجدين المتفرغين للعبادة المتوجهين لها بجميع حواسهم وبحضور قلوبهم ...
والسّحر هو الوقت
الذي يكون قبيل الصبح ، أي السابق لطلوع الفجر. وهو أحسن الأوقات نوعا لحضور القلب
أثناء العبادة ، وأهدأها للإقبال على المناجاة والدعاء وأبعدها عن مظاهر الرياء
والسمعة ، لأن العبد يكون فيها بعيدا عن العيون ...
* * *
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
١٨ ـ (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ ..) أصل الشهادة من الشهود : أي الحضور والمعاينة. ثم شاعت في
ما ينشأ عن ذلك من الاعلام بالأمر والشيء لإثباتهما. ومن ذلك معنى ما نحن فيه في
المقام ، فيقال : شهد الله بأنه لا إله إلا هو. وشهادته تعالى هي إعلامه بوحدانيته
وإلهيته بالدلالات
الباهرة والحجج
القاطعة. ومن ذلك خلق العوالم الامكانية ، ودلائل الحكمة ، وقوانين أنظمة الكائنات
البالغة الدقة مع دوام انتظامها منذ كانت بنفس النسق وذات الكيفية المقررة
المستمرة من الأزل الى الأبد. فقد شهد الله ، وأعلن لعباده بذلك (وَالْمَلائِكَةُ) أيضا شهدوا به ، وهم الطائفة الروحانية من مخلوقات الله عزوجل (وَأُولُوا الْعِلْمِ) شهدوا به ، وهم ذوو العلم والعرفان من البشر الذين نور
الله تعالى قلوبهم بنور الايمان الراسخ ، ولم يعمهم الجهل عن النظر الى عجيب صنعه
وبديع نظامه الدائم الذي لم يتطرق اليه الخلل ، فأقاموا من ذلك برهانا على ألوهيته
ووحدانيته ، وحجة قيمة يرشدون بها الجاهل ويحكمون بها المعاند .. فالله تعالى ،
وملائكته ، وأولو العلم من خلقه ، شهدوا بكونه إلها واحدا (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي مقيما للعدل. وقد نصب قائما على كونه حالا من لفظة
الجلالة : الله. وفي العياشي عن الباقر عليهالسلام : أن أولي العلم الأنبياء والأوصياء ، وهم قوّام بالقسط والقسط
هو العدل ... (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا رب ولا معبود سواه. ولو سئل ما وجه تكرار قوله تعالى :
لا إله إلا هو؟ .. لأجيب بأن القول الأول هو قول الله ، والثاني هو حكاية قول
الملائكة وتاليه. وقد قال الامام الصادق عليهالسلام : الأول وصف ، والثاني تعليم. أي قولوا بكذا ، وهو كذلك (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي لا مغالب له في الإلهية والوحدانية ، والذي يعمل في
ما يعمل بمقتضى الحكمة والمصلحة.
١٩ ـ (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ ..) أي الدين المرضي عنده جلّ وعلا هو دين الإسلام. وهو بعد
معرفة الصانع عبارة عن التوحيد والتمسك بشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله الكرام
، وهو دين الفطرة ، بمعنى أنه إذا ألقي على من وصل الى أول حدّ من حدود التكليف ،
فإنه يقبله بطبعه وفطرته البشرية السليمة ، بل يستقبله بلا تكلّف ولا عناء نفسي.
وجملة : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، جملة مستأنفة مؤكدة لجملة ما قبلها. والنتيجة منها أن
قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، توحيد. وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ)
تعديل. فإذا أتبعه
بقوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فقد أشعر أنه الدين المقبول المرضي عنده سبحانه. وفي الكافي
عن الصادق عليهالسلام : ان الإسلام قبل الايمان ، وعليه يتوارثون ويتناكحون ،
والايمان عليه يثابون. (وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اختلفوا بشأن هذا الدين. والمراد بأهل الكتاب في عصر
الاختلاف هم اليهود والنصارى ، فأثبته قوم ونفاه آخرون ، وخص به طائفة من العرب.
وما اختلفوا فيه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي بعد أن علموا الحق وتمكنوا من إثباته بالأدلة الباهرة
الصريحة الواردة في كتبهم ، وفيما بقي فيها بعد أن حرفوها ، فجاءت شاهدا مبينا ،
ولكن اختلافهم كان (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما للحق ، واستطالة وحبا للرئاسة الدنيوية الفانية ،
لا لشبهة أو ارتياب فيه ، بل إنكارا للحق وتمردا على ما علموه وقد استمر ذلك البغي
منهم حتى جحدوا رسالة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأنكروا قرآنه وجميع معارف الحق التي فيه ، وشرعه الذي
دل على ذلك المعجز ، مع أن كتبهم حوت البشرى بالرسول وبالقرآن الكافي للناس مدى
دهر الداهرين ، لأنه خاتم الكتب السماوية كما أن نبيّنا صلىاللهعليهوآله كان خاتم الرسل الكرام .. (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ) أي ينكرها ويجحد دلالاتها البينة الواضحة عنادا (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسبهم بأسرع حساب بعد ما أثبت عليهم أن عنادهم وإنكارهم
كانا تمردا ، فيعاقبهم ويجازيهم على كفرهم أشد عقاب في يوم الجزاء
٢٠ ـ (فَإِنْ حَاجُّوكَ ،
فَقُلْ ..)
أي : فإن جادلوك في أمر هذا الدين الحق الذي هو الإسلام ، فقل لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ)
بعد إتمامك الحجة الدامغة عليهم وإقامتك البراهين الساطعة ، إذا لم يقنع الخصم
العنود بذلك بعد وضوح حقك وظهور ضلالهم. وبعبارة أخرى ، قل لهم : إني انقدت بوجهي
وخضعت وأسلمت نفسي له تعالى في إخلاص التوحيد ورفض الشرك. فعلت ذلك أنا (وَمَنِ اتَّبَعَنِي)
قد أسلم لله ، وأطاعني في دعوتي الى الإقرار بوجود الصانع وتوحيده ... والتعبير عن
النفس بالوجه وإضافة
الإسلام اليه ،
يمكن أن يكون لأن الإنسان إذا أراد أن يتوجه الى شخص أو الى أمر من الأمور أو شيء
من الأشياء ، يتوجه اليه بنفسه الناطقة ، فيتبعها باقي القوى الباطنية وسائر
الحواس في مجال الأمور الباطنية ، أما في مجال الظاهر فوجه الإنسان هو مظهر سائر
القوى والحواس ، وهو مرآتها. وكما أن النفس الناطقة هي أشرف أعضاء الإنسان ، فكذلك
الوجه هو أشرف الجوارح الظاهرية لأنه يجمع الحواس كلها وعليه تظهر آية الحزن
والسرور والغضب والفرح ، والتعب والراحة والعبوس والبشاشة وغير ذلك من الانطباعات
التي ترتسم عليه. هذا وإن الإنسان إذا قصد أن يرى شخصا في أمر من الأمور ، فإنه
قبل أن يحاوره ويقاوله ، يتوجه اليه أولا بوجهه ، وتتبعه سائر مقاديم الجوارح
والأعضاء الظاهرية من البدن كما هو المشاهد بالوجدان فلا يحتاج الى برهان.
والحاصل أن بين
النفس والوجه تشابها من بعض الجهات ، وهما من أشرف سائر القوى والجوارح. ولا بأس
أن يقوم الوجه مقام النفس فيما نحن فيه.
(وَقُلْ لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) الأميين : أي الذين لا كتاب لهم كمشركي العرب من أهل مكة
وغيرهم من أهل القرى. وهذا المعنى يناسب قوله : (لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) ولكن الأميّ في اللغة هو من لا يعرف القراءة ولا الكتابة
باقيا على ما ولدته أمه. نعم لقد فسر الأمي في المجمع بمن لا كتاب له. والأم أصل
الشيء والأميون هم من كانوا على ما ولدتهم عليه أمهاتهم من الجهل بالكتابة
والقراءة والتمدن والتديّن. ولعل الملاك في قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) هو من هذا ، ولذلك كان ذيل تلك الشريفة : وأجدر أن لا
يعلموا حدود ما أنزل الله لأنهم كانوا متوغلين في الجهالة والبداوة وقد أشربت
قلوبهم بالكفر والنفاق .. فقل يا محمد لهؤلاء وهؤلاء : (أَأَسْلَمْتُمْ ..) يعني : هل آمنتم بعد وضوح الحجج وإقامتها وتبين البراهين؟
.. وهل دخلتم في سلم الله ورسوله وصدقتموهما بحقيقة التصديق؟ .. والاستفهام تقريري
، ولذا يقول تعالى : (فَإِنْ أَسْلَمُوا)
وسلموا ولم
يحاربوا الرسول ولم يعاندوه ، ولم يحادّوه بالشرك بالله والتمرد على آياته وبإنكار
رسوله وكتابه وهذه علامة سلمهم له تعالى ولرسوله فإن فعلوا ذلك (فَقَدِ اهْتَدَوْا) وسلكوا طريق الحق ونفعوا أنفسهم بإخراجها من الضلالة الى
الهدى وفازوا فوزا عظيما .. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي انصرفوا وبقوا على كفرهم وأعرضوا عن الإسلام وجعلوه
وراء ظهورهم فإنهم لا يضرونك بشيء وما عليك من حسابهم من شيء (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي إيصال الدعوة الى الله والإسلام إليهم والى غيرهم ،
وإعلامهم أن ما جاء به القرآن ناسخ لجميع ما سبقه وإن كان دين حق في حينه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يرى ويعرف المطيع والعاصي من الناس ، وهو يجازيهم بحسب ما
يكونون عليه ووفق ما يستحقون إن خيرا وإن شرا. والجملة وعد وتهديد.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا
جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))
٢١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ ..) أي يجحدونها وينكرونها ، ولا يقبلون الدلائل الواضحة
ويعمهون في الكفر والضلال (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ) الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقفون في وجه
دعوتهم الى الله ويحاربونهم أو يقتلونهم (بِغَيْرِ حَقٍ) وقد قال سبحانه هذه العبارة لأنه لا يستغنى عنها إذ لا
يكون قتل الأنبياء إلا بغير حق ، وهؤلاء يقتلونهم (وَيَقْتُلُونَ) أيضا (الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) أي الآمرين بالعدل (مِنَ النَّاسِ) ومكان الظرف هنا في مورد النصب على أنه مفعول لقوله تعالى
: يأمرون ، أي يأمرون الناس بالقسط. ولفظة : من ، للتبعيض. وأل التعريف للاشارة
بأن المراد بهؤلاء الناس هم الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط
أي بالمعروف ، وجحدوا في بدء الأمر بآيات الله تعالى .. وقيل : من الناس ، بيان
للآمرين بالقسط ، بمعنى أنهم عباد صالحون وهم غير النبيين وهم مميزون من الناس.
وهذا أمر لا يحتاج الى البيان لأن وقوع هذه الجملة في ذيل قوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) ، والكلام حوله من أبرز مصاديق توضيح الواضحات في مجال
البلاغة التي بني القرآن الكريم عليها .. هؤلاء الكفرة (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقد عبّر هنا بلفظ التبشير هزءا بهم ، وسخرية منهم ،
وتوبيخا لهم. وإدخال الفاء هنا على : بشرهم ، هو بمنزلة الجزاء المتفرع على الكفر
وقتل الأنبياء والصلحاء ، كما في قوله : (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، وفي المجمع عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه سئل : أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ .. قال : رجل
قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر. ثم قرأ : والذين
يقتلون النبيين
بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ثم قال : قتلت بنو إسرائيل
ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من
عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف أي أمروا القاتلين ونهوهم عن المنكر ،
فقتلوهم جميعا من آخر النهار! .. والمراد من هذا الذيل هو أن قتلة الأولين هم قتلة
الآخرين .. والعذاب الأليم هو العذاب الشديد الموجع. نعوذ بالله منه ....
٢٢ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ ..) الحبط هو البطلان ، وحبط عمله أي :
بطل وفسد. وأحبط
الله أعمالهم : أبطلها ولم يأجرهم عليها. وقيل إن استحقاق الأجر منوط بالموافاة ،
أي أداء حقّ كلّ ذي حقّ تامّا كاملا. لقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ..) وقوله : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) ، الآية .. وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فمن كان من أهل الموافاة ، أي قدم على الله تعالى ولم يلبس
إيمانه يظلم ، كان ممّن يستحق الثواب الدائم مطلقا. ومن كان من أهل الكفر ومات على
ذلك استحق العقاب الدائم مطلقا. ومن كان ممّن خلط عملا صالحا وآخر سيّئا فإن وافى
بالتوبة استحق الثواب مطلقا ، وإن لم يواف بها فإمّا انه يستحق ثواب إيمانه أو لا؟
.. والثاني باطل لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ، فتعيّن الأول. وأما أن يثاب ثم يعاقب فهو باطل إجماعا
لأن ثواب الأعمال الصالحة هو الجنّة في يوم القيامة ، ومن يدخل الجنة لا يخرج منها
لأنها دار الخلود ، والخروج مناف لذلك. وحينئذ يلزم بطلان العقاب ، أو أنه يعاقب
ثم يثاب وهو المطلوب والمراد لقوله عليهالسلام في حق هؤلاء : يخرجون من النار كالحمم ، أو كالفحم. فيراهم
أهل الجنة فيقولون : هؤلاء الجهنّميون! .. فيؤمر بهم فيغمسون في عين الحيوان ،
فيخرجون وأحدهم كالبدر ليلة تمامه ..
وبما قرّرنا تبيّن
أن الإحباط والموازنة بالمعنى الذي يقول بالوعيدية ، باطلان. والذين لا يجوّزون
العفو عن الكبيرة قد اختلفوا على قولين :
أحدهما : قول أبي
علي وهو أن الاستحقاق الزائد يسقط الناقص ويبقى بكماله ، كما لو كان أحد
الاستحقاقين عشرة ، والآخر خمسة ، فإن العشرة تسقط الخمسة ، وتبقى هي كاملة ، وهذا
يسمّى بالإحباط.
وثانيهما : قول
أبي هاشم ابنه ، وهو أن يسقط من الزائد ما قابل الناقص ، ويبقى الباقي ، أي الحاصل
بعد الطّرح. وفي المثال المذكور تسقط الخمسة من العشرة ، وتبقى خمسة ، وهذا يسمى
بالموازنة. وقد أبطلها المحقّقون من المتكلّمين ، وللبحث في المقام ذيل طويل في
الكتب الكلامية يرجع إليها من أراده. ومسألتا الإحباط والتكفير كانتا من قديم
الزمان محلّ نقض وإبرام ، ونفي وإثبات. وكلتاهما لا إشكال فيهما على ما يظهر كتابا
وسنّة ، وهو الهادي والمسدّد في الدنيا والآخرة ..
أمّا بطلان
الأعمال بالنسبة إلى قتلة النّبيين ، وقتلة الآمرين بالقسط ، فباعتبار عدم ترتّب
آثارها. فأمّا الدنيويّة فإنهم لا تحقن دماؤهم ، ولا تحترم أموالهم ، ولا ينالون
بفعلهم حمدا ولا ثناء من أحد. وأما الأخروية فإنهم لا يستحقون بأعمالهم أجرا ولا
ثوابا ولا يرون الجنة ولا يتذوقون نعيمها (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) أي مساعدين في دفع العذاب عنهم ، أو شافعين لهم عند الواحد
القهّار لرفع العذاب أو تخفيفه ..
٢٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ..) أي : ألم يصل علمك يا محمد الى أحوال الناس المتّصفين
بأنهم أعطوا نصيبا ، أي حظا من الخير والسعادة التي يحويها الكتاب؟ ... وتنكير
النصيب للتعظيم ، يعني حظا وافرا إذا كانت «من» بيانية. أو للتحقير إذا كانت
تبعيضية ، أي حظا ناقصا. والكتاب هو التوراة والإنجيل ، أو هو الجنس المنزّل. وقيل
:المراد بالذين ، أي بالموصول في الآية ، هم أحبار اليهود والنصارى. ويحتمل أن
يراد أعمّ من علمائهم كما هو الأظهر من الآية الكريمة ، فهؤلاء (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) أي القرآن ، أو التوراة لأن فيه بيانا كافيا ، دعوا اليه (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي ليحكم نبينا (ص) عليهم بكتابهم ، فقد قيل إن
رسول الله صلىاللهعليهوآله دخل يوما مدرسهم فدعاهم ، فقيل له : على أي دين أنت؟ ..
قال (ص) : على ملّة إبراهيم عليهالسلام. فقالوا : إن إبراهيم كان يهوديا. فقال (ص) : إن بيننا
وبينكم التوراة. فأبوا أن يحاكمهم الى التوراة! .. وقيل : ليحكم الكتاب بينهم في
نبوة محمد صلىاللهعليهوآله .. (ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي ينصرف بعد دعوتهم الى كتاب الله ليحكم بالحق ، لأنهم
جعلوه وراء ظهورهم واستقبلوا الدعوة بالعناد والكفر. وهذا عمل طائفة منهم فعلته
استكبارا وتهاونا بكتاب الله الذي دعوا للاحتكام به ، أو بشأن النبي (ص) جهلا منهم
وضلالا عن الحق ، وفريق منهم بقرينة المقابلة والتخصيص كانوا سلما أو لا معارضين
ولا مسلمين ، بل مترددين الى أن ينكشف الأمر لهم فيخرجون من التردد .. فقد تولى
فريق منهم وبدوا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) منصرفون عن الاحتكام الى الكتاب.
وإن قيل : ما
الفائدة من قوله تعالى : «معرضون» بعد قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) والتولي والاعراض واحد كما رأينا في سورة البقرة؟ ..
فالجواب : أن التولي يكون عن الداعي ، والاعراض يمكن أن يكون عما دعاهم اليه وهو
كتاب الله. بل نقول : إن الاعراض كان قبل الدعوة ، والتولي عنه صلىاللهعليهوآله كان بعد دعوتهم والواو في الجملة الاسمية هنا للحال. وحاصل
المعنى أنهم حال كونهم معرضين عن الله والرسول وعما جاء به لأنهم كانوا في ضلالتهم
وعنادهم ، دعاهم فتولوا عنه وأدبروا عنه وعن دعوته (ص).
٢٤ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ ..) أي أنهم زعموا أن النار لن تصل إليهم وتلامس أجسادهم (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي قلائل يمكن حصرها بالأيام التي عبدوا فيها العجل ، وهي
سبعة أيام ، وقيل أربعون يوما. وقيل إنما هي أيام قليلة منقطعة الآخر في قبال
الخلود ، والأول أظهر فقد ادّعوا أنهم يعذبون عذابا ينتهي ويخلصون منه ، وهذه دعوى
بلا رهان
عقلائي ، بل هو رجم
بالغيب وتصور باطل ، ولذا قال سبحانه : (وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي أنهم غشوا أنفسهم في دينهم الذي كان ينبغي أن يدينوا به
، وخالفوه عنادا وإلحادا ، ومشوا مع أهوائهم وعصبياتهم ضلالا وأنفة من أن يذعنوا
للحق ، ومضوا يتصورون وهمهم هذا حقيقة فجاء ختام الآية الشريفة يكذّبهم ويبطل
زعمهم في أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
٢٥ ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ ..) أي فكيف حالهم ، وما هو مقالهم إذا جئنا بهم يوم القيامة
وطالبناهم بوعدهم هذا لأنفسهم؟ .. وكيف : اسم مبهم مبني على الفتح ، والغالب فيه
كونه للاستفهام كما فيما نحن فيه. والسؤال هنا عن الحال ، أي حال هؤلاء الذين
يساقون الى العذاب. وفيه بلاغة واختصار وإيجاز مفيد ومعناه : أي حال تكون لمن
اغترّ بالدعاوى الكاذبة والمزاعم الفاسدة وقت الجمع والحشر بعد الموت (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) ولا شك في وقوعه من أجل الجزاء لدى أي عاقل يملك النظر
المنصف. والدال على الجزاء هو اللام في : ليوم ، ولولاه لم يدل على الجزاء شيء. وهذا
نظير قولك : جئتك ليوم الجمعة ، أي لما يكون في يوم الجمعة من طاعات وعبادات
وأدعية وتزاور. أما إذا قلت : جئتك في يوم الجمعة ، فإنه لا يستفاد هذا المعنى.
وهذه الرموز من لطائف القرآن الدقيقة. وروي أن أول راية ترفع يوم القيامة من رايات
الكفر هي راية اليهود ، فيفضحهم الله على رؤوس الأشهاد ، ثم يأمر بهم الى النار ..
فكيف بهؤلاء المنافقين إذا جئنا بهم يوم القيامة للحساب (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جوزيت جزاء وافيا موافقا لما كسبته في دار الدنيا ، ثم
كان عذاب جهنم جزاء لما قدموا فزجوا في النار على ذلك الإصرار العنيد (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ولا ينقص من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم مثقال ذرة؟ ...
* * *
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ)(٢٧)
٢٦ ـ (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ..) الميم المشددة في «اللهم» عوض عن حرف النداء ، ولذا فإنهما
لا يجتمعان خلافا للراجز الذي تجوّز وقال : يا اللهم ، في قوله الشاذّ .. فكأنه
أمره سبحانه أن يقول : يا الله ، يا (مالك الملك) والملك ما يملكه الإنسان ويتصرف
فيه كيفما شاء ، ويستولي عليه ويكون زمام أمره بيده مطلقا. وهو سبحانه مستول على
ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وعلى جميع الممكنات الدنيوية والأخروية
، وبيده عزوجل أزمّة أمور كل شيء بحذافيره. وقيل إنه جاء هنا بمعنى
السّلطة والعظمة ، وقد يستعمل في معان أخرى في موارد ومناسبات تقتضي استعماله بها.
والجملة نداء ثان ، وقيل صفة له سبحانه وتعالى. فيا مالك الملك ، أنت (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تعطيه لمن له الأهلية والقابلية حسب ما تقتضيه مصلحة
العباد ، وتحكم به الحكمة الربانية كمّا وكيفا (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشاءُ) تسترده منه بموت أو بانتقال منه الى غيره ونحوهما حسب
مشيئتك وسير تقاديرك الجارية بحكمتك في نظام العالم .. والملك الأول عامّ ،
والآخران خاصان ، لأن كل واحد منهما بعض من الكل. ويحتمل أن يكون المراد بالملك
النبوة ، ويكون نزعها حينئذ نقلها من قوم الى قوم. (تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بأن توفّقه لتحصيل الخير والسعادة وتعزّه بعزّك (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب نعمتك منه ، وبأن تكله الى نفسه وهذا غاية الذل
والخذلان في الدنيا والآخرة ، فأنت (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تملكه وتمنحه
من شئت من
المستحقين. ولم يذكر الشر لأن أفعاله سبحانه صادرة عن المصالح وطبق الحكمة وكلها
خير محض ، ولا يعقلى من الفيّاض المطلق إلّا الخير المطلق (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مستطيع ذو قدرة مستطيلة تفعل ما تشاء ولا يفعل ما يشاء
غيرك ، يدلّنا على ذلك مظاهر قدرتك وعجائب تصرّفك بالكون ، الدالة على أنك كما قلت
لنبيك (ص) قادر على المكونات قدرة تامة كاملة.
٢٧ ـ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ..) تولج : من ولج وأولج ، أي دخل في الشيء وأدخله فيه. فأنت
يا رب تدخل من الليل في النهار ، وتدخل في ذاك من هذا ، فما زاد في أحدهما فهو نقص
في الآخر ، كنقصان نهار الشتاء وزيادة ليله وكزيادة نهار الصيف ونقصان ليله
تدريجيا في هذا وذاك وفيما يتردد بين الزيادة والنقصان .. فإن قيل : ما الفائدة من
التكرار؟ .. يجاب بأن فيه تنبيه على أمر مستغرب عجيب. وهو حصول الزيادة والنقصان
معا في كلّ من الليل والنّهار بحسب اختلاف وقوع المناطق في الشمال من خط الاستواء
، أو الجنوب منه ، وبحسب تحرّكات الأرض أثناء دورانها المستمر في مختلف الفصول ،
وبحسب ما يتراءى منها للشمس أثناء تلك التحركات وذلك الدوران. فهي في تحركاتها ،
بين أن يرتفع القطب الشمالي من الأرض الى أقصى حدّ مقرّر له ، فتواجه الشمس القسم
الأكبر من مناطقه مدة أطول فيطول النهار فيها ويقصر الليل ، وبين أن يأتي دور
انحناء الكرة الأرضية في فصول أخرى فيبتعد القطب الشمالي مع ما يليه من مناطق عن
الشمس ، ولا يتراءى لها إلا القسم الأقل في مدة أقلّ فيقصر النهار ويطول الليل.
ولذا كانت الزيادة في النهار ، والنقصان في الليل أو العكس يقعان في وقت واحد ولكن
في منطقتين متقابلتين من الكرة الأرضية.
والحاصل أن الليل
يأخذ من النهار أو يعطيه ، بحسب تعاقب فصول السنة ، وبحسب دوران الأرض حول محورها
، وبحسب تحرّكها في قبالة
الشمس ، وبحسب
نزول أشعة الشمس عليها عمودية على خط الاستواء أو منحنية حين تراوح حركة انتقال
الأرض بين العمودية والانحناء. فكلما طلعت الشمس على منطقة من سطح الأرض كان فيه
نهار ، وكان في المنطقة المقابلة لها ليل ، وإذا طال هذا قصر ذاك والعكس صحيح. كما
أنها كلما غربت عن منطقة من سطح الأرض كان فيه ليل وإذا طال ذلك الليل ، قصر
النهار الحادث في المنطقة المقابلة لها .. فإيلاج الليل في النهار يجيء من جراء
غروب الشمس عن سطح ودخولها في سطح آخر. باستمرار. ومثله إيلاج النهار في الليل
الذي يحدث من طلوع الشمس على سطح وغروبها عن غيره باستمرار. وإن شئت فعبّر عن
إيلاج أحدهما بالآخر بتداخل أول هذا في آخر ذاك ، أو تداخل هذا في أول ذاك فالنهار
والليل أمران اعتباريان ما زالا متعاقبين ، وما دامت الشمس تجري في مدارها ،
والأرض تستمر في تحرّكها ودورانها منذ الأزل إلى الأبد.
وأشكل على الآية
بأن إيلاج الشيء في الشيء يقتضي اجتماع حقيقتهما بعد الإيلاج كإيلاج الخيط في
الإبرة ، والماء في الكوز ، وحقيقة الليل والنهار أنهما لا يجتمعان .. والجواب
الأحسن من بين الأجوبة أن المراد بإيلاج هذا في ذاك هنا هو اعتبار ما أخذ هذا من
هذا في الطول ، فطال الأول وقصر الثاني ، أو بالعكس. وهو بالحقيقة ليس إيلاجا بل
هو انفصال من هنا واتصال من هناك. فاللازم أن نلتزم بالمجاز بالنسبة لهذه الصورة
الرائعة في الكتاب السماوي ، حيث لا يتم إيلاج كل في كل ، بل بعض في بعض. فما أبلغ
القرآن!! ..
(تُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كإخراج الفرخ من البيضة وبالعكس ، أو المنّي من الإنسان
وبالعكس. ومن المرويّ عن الباقرين (ع) في المجمع أنه اخرج المؤمن من الكافر ،
وبالعكس. والوجه أنه سبحانه عبّر عن الكافر بالميت لأن الحياة الأبدية الحقيقة هي
الايمان ، والكافر محروم منه ، وفي المعاني أن الصادق عليهالسلام فسّر الآية بأن
المؤمن إذا مات لم
يكن ميتا ، وأن الميت هو الكافر. (وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي تعطي من تشاء
أن ترزقه بغير تقتير ولا مراعاة لمقدار الرزق. ولا مداقة فيه من حيث العطاء ، لأن
هذه الجهات هي من شأن من يخاف النقص في ملكه ، والله جلّ شأنه منزّه عن ذلك لأن ما
عنده لا ينفذ وهو الرزاق الكريم .. هذا ، وفي ذكر قدرته تعالى على جعل تعاقب الليل
والنهار ، وعلى إخراج الميت من الحي ، وهذا من ذاك وعلى الرزق الواسع ، دلالة على
أنه القادر على كل شيء وعلى إيتاء الملك لمن شاء ونزعه ممن شاء ..
* * *
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا
ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ
وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ
(٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))
٢٨ ـ (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ..) نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ، أي محبتهم أو
جعلهم أولياء أمرهم كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وأن يمتنعوا عما كان منهم قبل
الإسلام من مخالفتهم إياهم أو نحو ذلك ، حتى لا يحبّوا ولا يبغضوا إلّا في الله.
وقد كرر ذلك في القرآن كقوله : (لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فيستفاد من مجموع الموارد أن الحب في الله والبغض فيه
تعالى أصلان كبيران من أصول الإيمان. فينبغي أن لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء (من
دون الله) أي لا يؤثروا حبّ الكفرة والجحدة على ولايته تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يختار الكفرة بموالاته (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) يعني أن الله سبحانه ليس بوليّ له أبدا. وعبارة : في شيء
تأكيد للنفي (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي لا توادّوهم إلّا في حال خوفكم من ناحيتهم فتتّقون
ضررهم وتستعملون معهم التقيّة التي هي أهم أمر مرغوب فيه ، وقد عدت من الدين ،
وتاركها في موردها مذموم جدا. وإن من خالط الكفار وعايشهم وعاملهم وكان يخاف سوء
العاقبة في عدم موافقتهم وحسن معاشرتهم ، لا بأس له بأن يظهر مودتهم بلسانه ،
ومداراتهم تقية منهم ودفعا لضررهم عن نفسه ، من غير عقيدة بهم وبطريقتهم ومسلكهم.
وقال بعض أعلامنا بضرورة التقية ، وقال المفيد رحمهالله أنها قد تجب ، وقد تجوز أحيانا ، وقد تكون في وقت من
الأوقات أفضل من تركها. وقال الشيخ الطوسي رحمهالله : وظاهر كثير من الروايات أنها واجبة عند الخوف على النفس.
وقيل : التقية رخصة ، والإفصاح بالحق فضيلة وإن قتل القائل ، يشهد على ذلك قضية
عمّار ووالديه : ياسر وزوجته ، وهي مشهورة .. وتقاة : مصدر ، وأصله : وقاة على وزن
فعلة. والواو
المضمومة قد أبدلت
تاء استثقالا لها ، فإنهم يفرّون من ضمّة الواو إلى الهمزة وإلى التاء. والتقية
لغة ، هي إظهار خلاف ما عليه القلب خوفا على النفس .. (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي ينبهكم ويخوّفكم مغبّة ذلك حتى لا تتعرضوا لسخطه سبحانه
حين توالون أعداءه ، فإن الحب والبغض في الله يخالفان موالاة أعدائه من دون
المؤمنين. وهذا ترهيب بليغ ، وتوعّد شديد.
وليست النفس هنا
ما يرادف الروح المرتبطة بالبدن ، بل هي ذاته المقدّسة ، وذات العزيز الجبّار تخيف
في مقام التحذير. واستعمال النفس بهذا المعنى شائع ، ومنه قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقوله سبحانه : (كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) ونحوهما في أكثر من عشرين موردا. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ). أي إليه المرجع الأخير. وفي هذا أيضا ترهيب وتخويف ، لأنه
تعالى يؤذن خلقه بأن مصيرهم بأجمعهم إليه ، وهو عالم بأقوالهم وأعمالهم ، وهو
يوفّي كل نفس ما عملت ، وهم لا يظلمون. فعلى العبد أن يتوجه في أموره إلى مولاه
الحقيقي وأن لا يقع في محاذير العصيان ، اللهم إلّا في ما تحسن فيه التقية التي قال
عنها الإمام عليهالسلام : التقية ديني ودين آبائي.
٢٩ ـ (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ
..) أي إن تحاولوا كتمان ولاية الكفّار وسائر نيّاتكم ووجوه
أعمالكم ، وتستروا ذلك (أَوْ تُبْدُوهُ) تظهروه وتعلنوه في دار الدنيا خيرا كان أو شرا (يَعْلَمْهُ اللهُ) يعرفه لأنه جلّ وعلا هو خالق أبدانكم ونفوسكم ، وعالم
محالّ أسراركم ، وهو القائم عليها بالتدبير ، والمطّلع على خلجاتها وجميع حركاتها
وسكناتها. ونحتمل أن هذه الآية الشريفة جاءت في مقام الترهيب والتحذير أيضا ، إلى
جانب أنها إظهار لقدرته تبارك وتعالى.
ويلاحظ أن
الخطابات كانت إلى الآن محضا لأهل الأرض في مختلف الآيات ، لكن في هذه الشريفة
أشرك معهم أهل السماوات فقال
سبحانه : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي جميع ما في العوالم العلوية والسفلية بالملاك المذكور
آنفا ، لأنه هو فاطر ذلك كله ، وخالق كل شيء ، وموجد ما في طبائعه ، يعلم ما في
ظواهر مخلوقاته وما في بواطنها ، ولا يخفى عليه تعالى من ذلك شيء (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بحيث يعلم خواطر القلوب ووساوس الصدور ، ويعرف النيّات
والمنويّات ، وعلمه محيط بجميع الممكنات ، ولا يعزب عن علمه شيء.
٣٠ ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
..) الظرف منصوب بمقدّر تدل عليه القرينة المقامية وهو : أذكر.
وتجد : من الوجدان. ومحضرا حال من فاعله ، وإن كانت تجد من العلم ، فنصب : محضرا ،
بناء على كونه مفعولا ثانيا.
ولما حذّر سبحانه
العقاب في المباركة المتقدمة ، عيّن وقته وبيّن أنه اليوم الذي ترى النفوس فيه كلّ
عمل بالرغم من أن الآمال أعراض والأعراض لا بقاء لها. ولكنها يراها العبد مسجّلة
عليه بحسب حصولها في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى ، لأن رسله من الملائكة يستنسخون
ما يعمل العباد ، مضافا إلى أنهم يرون نتائج الأعمال وجزاءها من خير أو شر. فأعمال
كل نفس ، أو جزاء أعمالها ، ستجده مشاهدا من قبلها (مِنْ خَيْرٍ
مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ، تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ
أَمَداً بَعِيداً) لأنها ستشاهد عملها السيّئ أيضا ، وتحبّ أن يفصلها عن
رؤيته أمد بعيد ووقت طويل. ولكن على فرض ثبوت ذلك فإن «لو» شرطية ، وثبوت الجزاء
يكون على فرض ثبوت شرطه ، كما هو المشاهد في قوله سبحانه : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) وغيره من الموارد .. (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) ترهيب آخر للحثّ على الأعمال الخيرية ، وتجنّب الأعمال
السيئة ، وهو كالتحذير السابق من موالاة الكفّار ، ولا تكرار لاختلاف الموضوعين (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) أي رحيم ، من مصاديق رحمته تحذيره مما يلازم عقابه. فلا بد
من عمل يرجى به الثواب : كما أنه لا بد من تجنّب ما يخشى منه العقاب ، ونبتهل إليه
أن يوفقنا لذلك.
٣١ ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ..)
ففي الكافي
والعياشي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : هل الدّين إلّا الحب؟ ثم تلا هذه الآية. ويستفاد
من هذه الرواية أن المراد بحب الله هو إطاعته وامتثال أمره ، وإتيان ما يعجبه ،
يعني التديّن بدينه تعالى. والمعنى : قل لهم يا رسول الله : إن كنتم محبين الله
ولدينه وتريدون طاعته (فَاتَّبِعُونِي) فيما جئتكم به من عنده سبحانه حتى تصح دعواكم محبّته ،
وعند ذلك (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وهو جواب الأمر ، ومعناه ، أنه يرضى عنكم. ولا يخفى أن
المحبة من العبد تكون بالميل وهوى النفس إلى الشيء المحبوب لأمر من الأمور
المستفادة مادّيا أو معنويّا. أما المحبة منه تعالى فهي رضاه عن العبد ، وكشف
الحجاب عن قلبه ، وتمكينه من أن يطأ بساط قربه ورحمته ، فإن ما يوصف به سبحانه ،
إنما يؤخذ باعتبار الغايات لا المبادئ. كما أن علامة حبه لعباده تتجلّى في توفيقهم
للتجافي عن دار الغرور ، والتعالي إلى عالم النور والأنس بالله ، والوحشة ممّا
سواه. وأي فوز وسعادة أعلى وأنبل من وعده سبحانه بغفران ذنوب عباده كبيرها وصغيرها
، وكثيرها وقليلها ، كما وعد ذلك على لسان رسوله صلىاللهعليهوآله ، ولم يقيّد وعده بشيء ونحن نأخذه على إطلاقه ، وذلك في
قوله عزوجل : (يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) ويتجاوز عنها. وعلّل ذلك بقوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لأن شأنه وعادته غفران الذنوب والتجاوز عن السيئات ،
وهو متّصف بصفة الرحيميّة لجميع المؤمنين في الآخرة. وهاتان الصفتان مختصّتان
بذاتّه المقدسة.
٣٢ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ..) هذه المباركة يمكن أن تكون في مقام اختبار وفد نجران ، وهم
قوم من النصارى يسكنون تلك البلدة التي يقال إنها في اليمن وبانيها نجران بن زيدان
، ويقال إنها موقع معروف بين الحجاز والشام وهو الأصح. وفي الحديث : شرّ النصارى
نصارى نجران. وهذا الوفد ، ومن وراءهم ، كانوا يدّعون أنهم يحبّون الله وأنهم
أبناؤه وأحباؤه كما حكى قولهم حين وفدوا على
النبيّ (ص) فأمر
نبيّه الكريم أن يقول لهم : «أطيعوا الله إن كنتم صادقين في دعواكم وتؤمنون به
وتحبونه لأن الطاعة لازمة لذلك ، وأطيعوا الرسول فيما جاءكم به عن ربه ، وإن لم
تأتمروا بأوامره تكشفوا أنكم كاذبون وباقون على الكفر.»
ويستفاد من هذه
الآية الكريمة أن الإيمان بالله تعالى لا يجدي إلّا أن يقارنه الإيمان برسوله صلىاللهعليهوآله ، فإن ذلك إمارة دعوى حب الله بحب رسوله. كما أن علامة حب
رسوله تكون باتّباعه وبطاعته. وقد أخذ ذلك من قولهم : إنا نعظّم المسيح عليهالسلام حبّا بالله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وانصرفوا وأداروا ظهورهم لأمرك يا محمد ، وأعرضوا عن
اتّباعك وإطاعتك (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي أنه يبغضهم ولا يرضى عنهم. وقد دلّ على الإثبات بالنّفي
، وذلك أبلغ لأنه لو قال : يبغضهم ، يمكن أن يتوهم أنه تعالى يبغضهم من وجه ،
ويحبّهم من وجه آخر ، كما يمكن أن يكون الشيء معلوما من جهة ، ومجهولا من أخرى ،
وهذا بخلاف ما إذا قال : لا يحب ، فإنه في هذه الحالة لا يتوهّم شيء من ذلك. وفي
الآية دلالة واضحة على أن التولّي عن اتّباع الرسول ، والتوليّ عن محبته كفر ..
* * *
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
فَلَمَّا
وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ
وَذُرِّيَّتَها
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))
٣٣ ـ ٣٤ ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً ..) أي اختار وانتجب للنبوّة والإمامة وما فيهما من خصائص
الروحانية والعصمة والكمالات والفضائل ، وما يلازمها من الصفات الخيّرة الجسمانية
والروحية والخلقية ، اختار لهذه المرتبة السامية آدم ونوحا عليهماالسلام (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ
عِمْرانَ) صلوات الله عليهم أجمعين كذلك .. وآل إبراهيم هم : إسماعيل
وإسحاق ومن ولد منهما ، فدخل فيهم نبيّنا (ص) وآله (ع). وآل عمران هم : موسى
وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليهمالسلام ... وأما عمران ، أبو مريم ، جدّ المسيح (ع) فهو : عمران
بن ماثان من ولد سليمان بن داود بن إيشا ، من ولد يهوذا بن يعقوب. وكان بين
العمرانين ألف وثمانمائة سنة. والآية الكريمة تشير إلى المسيح (ع) بعموم آل
إبراهيم كما لا يخفى ، مع اقتضاء المقام الإشارة إليه بنحو جليّ. ويشهد له قوله
تعالى بعد هذه الآية : (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ) إلخ ..
وقد قلنا إن
نبيّنا (ص) وآله منهم ، وهذا مما لا شك فيه ، وقد جاء في العياشي عن الباقر عليهالسلام أنه تلا هذه الآية فقال : نحن منهم ، ونحن بقيّة تلك
العترة. وأظهر من ذلك ما في المجالس عن الصادق عليهالسلام أنه قال : قال محمد بن أشعث بن قيس الكندي لعنه الله ،
للحسين عليهالسلام : يا حسين بن فاطمة ، أيّة حرمة لك من رسول الله صلىاللهعليهوآله ليست لغيرك؟ .. فتلا الحسين (ع) هذه الآية : (إِنَّ اللهَ
اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) ... إلخ ثم قال : والله إنّ محمدا صلىاللهعليهوآله لمن آل إبراهيم ، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد صلوات
الله عليهم.
وأما بيان اختياره
تعالى لآدم (ع) وقد ذكره أولا ، فهو أنه خلقه من غير واسطة ، وأسكنه جنّته ، وأسجد
له ملائكته ، وأرسله إلى الإنس والجنّ. وكذلك اختار نوحا (ع) بالنبوّة ومنحه طول
العمر واستجابة الدعاء ، وأغرق قومه ونجّاه ومن معه في السفينة. وكذلك اجتبى
إبراهيم (ع) وجعله خليله وجعل عليه النار بردا وسلاما ، وأهلك عدوّه النمرود.
وهكذا اصطفى من اصطفاه من آل إبراهيم وآل عمران بالنبوّة أو بالإمامة مع ما يتبع
ذلك من جزيل نعمه وسنيّ عطائه ، وجعلهم (ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ) والذريّة تقع على الكثير والقليل ، وعلى الواحد والجمع.
ومعنى الشريفة أنهم ذريّة واحدة متناسلة متشعبة متسلسلة من لدن آدم وإبراهيم (ع)
إلى عصر خاتم النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين ... ويجب أن يكون الاصطفاء مخصوصا
بمن كان معصوما من آل إبراهيم وآل عمران بلا فرق بين كونه نبيّا أو إماما. وفي
المجمع عن الصادق عليهالسلام : إنّ الذين اصطفاهم الله ، بعضهم من نسل بعض. (وَاللهُ سَمِيعٌ) للأقوال (عَلِيمٌ) بالأعمال مضمرة كانت أو مظهرة.
٣٥ ـ (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ..) كلمة : إذ ، منصوبة إمّا بقوله : سميع عليم ، أي أنه سميع
عليم لقول امرأة عمران ونيّتها ، وإمّا ب : أذكر المقدّرة. وامرأة عمران هي أم
مريم البتول وجدّة عيسى عليهماالسلام ، واسمها حنّة. وكانت لها أخت عند زكريّا عليهالسلام ، اسمها إيشاع ، واسم أبيها فاقوذ. فيحيى بن زكريا ومريم
ابنا خالة. وقد قالت أم مريم (ع) : (رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي إنني رصدت حملي ووهبته لخدمتك مستخلصا لطاعتك وعمارة
بيتك. لا أنه محرّر من عتق عبودية ، بل هو يملك جميع إرادته لسدانة بيت الله
وعبادته وإقامة
طقوسه (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) نذري قبول رضي (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ) لقولي (الْعَلِيمُ) بما في ضميري من صدق النّذر.
٣٦ ـ (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ ..) الضمير في : وضعت راجع لما كان في بطنها ، وقد أنّثه
باعتبار كونه أنثى ، وكانت ترجو أن يكون غلاما ، ولذا خجلت ونكست رأسها بعد الوضع و
(قالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى) قالت ذلك في نفسها تحسّرا وخشية أن لا يقبل نذرها ، لأنه
ما كان ليقبل في خدمة المعبد إلّا الغلام في ذلك العصر وكانت الأنثى ترفض لهذه
المهمّة. ولذا يئست حنّة وحزنت وتأسّفت أسفا شديدا وقالت ما قالته مع علمها بأنّ
الله عالم وبصير بما وضعت. وهذا القول منها ، هو نحو من البيان المعروف المتداول
في أمثال هذا المقام ، وهو لا يخفى على العارفين (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) قال الله هذه المقالة تعظيما لما وضعت وتكريما لا بنتها
مريم عليهاالسلام ، وإن كان هو الأعلم في كل حال لأنه هو الذي خلقها
وصوّرها. والجملة معترضة جاءت لتبيّن أن تأسّف الأمّ وحزنها كانا بسبب جهلها لقدر
وشأن ما وضعت باعتبار أنها أنثى ، ولكنّ هذه الأنثى ليست كسائر الإناث ولذلك كان
الله أعلم وأدرى بجليل مقامها .. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) الألف واللام من الذكر للإشارة إلى المعهود الذهني الذي
ظنّته حنّة ذكرا قبل الوضع. ومعنى ذلك قولها في نفسها : إن الذي كان في ذهني أنه
ذكر ، وتعلّق نذري به حسب ما ظننت لأنني أعلم أن الأنثى لا تقبل في خدمة البيت ولا
يصلح أن تجتمع في المعبد مع الرجال ، فليس الذكر كالأنثى في هذا المجال إذ لا
أهلية لها في السدانة وإقامة الطقوس .. فالكلام تام لا يتوجّه عليه أي إشكال ،
والله العالم.
وقد قرأ ابن عامر
وأبو بكر : وضعت (بضمّ التاء) بصيغة المتكلم في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ). ولعل هذا أنسب باعتبار أن ما بعده (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) هو من قول أمها لا من قوله تعالى كما سيجيء. وبناء على ذلك
لا يكون في الآية كلام معترض بين كلامي أم
مريم. ومعناه أنها
قالت ذلك تسلية لنفسها ، أي : لعلّ فيما وضعت حكمة ومصلحة وهو تعالى أعلم. أو أن
المعنى : هذه الأنثى خير ، وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت. وبناء على هذا
تكون اللّام للجنس لا للعهد ، ويكون ذلك قوله تعالى لا قولها ، أي : ليس الذكر
كالأنثى فيما نذرت جنسا.
(وَإِنِّي سَمَّيْتُها
مَرْيَمَ) قيل هذا عطف على : إني وضعتها ، وما بينهما اعتراض ، وليس
ذلك ببعيد. وقد ذكرت تسميتها لربّها طلبا لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون الاسم طبقا
للمسمّى ، وتكون أفعالها مطابقة لاسمها الذي معناه باللغة السريانية : العابدة. (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي أحميها بك من الشيطان الرجيم ، المطرود من رحمتك ،
المرجوم بالشّهب ، والمستعاذ منه باللعن .. أعيذها بك هي وذرّيتها ومن يتناسل منها
وأجعلها مستجيرة بك.
٣٧ ـ (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ
..) أي رضي بها في النّذر مكان الذكر ، ولم يتقبّل إلى ذلك
اليوم غيرها للسّدانة ، تقبّلها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) وهو اختصاصها بالإقامة مقام الرجل ، وتسلّمها من أمها عقيب
ولادتها وقبل أن تصير صالحة للسدانة وخدمة المعبد .. وقد روي أن حنّة لمّا ولدتها
لفتّها في خرقة وحملتها إلى الهيكل ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه
المنذورة. فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم. إذ كان عمران من
أكابر بني ماثان وأعاظمهم ، في حين أن بني ماثان أنفسهم كانوا رؤوس بني إسرائيل
وملوكهم طرّا. وقد قال زكريا : أنا أحق بكفالتها وعندي خالتها ، أخت أمها الكبرى.
فأبى الأحبار إلّا القرعة بينهم لأنهم كانوا يريدون التقرب إلى ربّهم بكفالتها.
واتفقوا على ذلك فذهبوا إلى نهر قريب فألقوا أقلامهم في مائه فرسبت الأقلام إلّا
قلم زكريّا طفا على وجه الماء ، فكفلها زكريّا بناء على هذه القرعة. وهكذا وفّقها
الله (وَأَنْبَتَها نَباتاً
حَسَناً) أي يسّر لها تربية صالحة تناسب شأنها. وقد
استعمل سبحانه
المجاز اللفظي كناية عن التربية الرفيقة الرفيعة التي سهّلها لها لتكون مؤهلة
لإرهاصة عظمي تنتج عنها ولادة عيسى (ع) الذي ليس له شبيه ولا نظير في ولادته
المعجزة .. (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) أي جعل أمر كفالتها بيده ، فقام بأمرها وضمن كلّ ما يصلحها
، وأكرم به من كفيل صالح أمين حدوب رؤف. (كُلَّما دَخَلَ
عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) أي الغرفة التي أفردها لها للعبادة ، أو الصومعة التي
اختصّت بها في محراب العبادة. وقيل إن المحراب محلّ محاربة الشيطان. فكلّما جاءها
زكريّا (وَجَدَ عِنْدَها
رِزْقاً) والرزق كل ما ينتفع به ، فلا اختصاص له بالمأكول والمشروب
، بل يشمل الملبوس وجميع ما يدرّ بخير على الإنسان في حياته. ففي بعض الأوقات كان
زكريا عليهالسلام يجد عند دخوله عليها فاكهة الشتاء في الصيف ، وبالعكس. وروي
أنه كان لا يدخل عليها غيره ، وأنه إذا خرج من عندها أغلق عليها سبعة أبواب. ولعل
المراد بالأبواب أنها سبعة أقفال لباب واحد تضرب عليه استحكاما لئلا يفتح. وظاهر
عبارة الأبواب بعيد في النظر. وكان كلما دخل عليها ووجد عندها رزقا جديدا (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين هذا الرزق الذي يأتيك في حينه وفي غير حينه
والأبواب مغلقة؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) تقول ذلك دون تعجّب أو استغراب. وقيل إنها تكلمت صغيرة
كابنها عيسى عليهماالسلام ، وأنها ما رضعت قط ، وأن رزقها كان يأتيها في أوقاته من
الجنّة كرامة لها (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل أن تكون هذه الجملة من تتمّة كلامها ، أو هي من
كلامه سبحانه وتعالى. والمراد من : بغير حساب ، أنه بلا محاسبة للعبد ، وبلا
مجازاة عليه ، بل سعة وتفضّلا وكرامة ، لا من حيث الاستحقاق.
* * *
(هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ
قائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ
مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ
اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ
(٤٠)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكارِ (٤١))
٣٨ ـ (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ..) أي في ذلك المكان ـ أو الزمان ـ وإطلاقه على الزمان
استعارة. ولعله حين رأى كرامة مريم (ع) على الله. قال في نفسه ـ على ما في تفسير
الإمام ـ : إن الذي يقدر أن يأتي لمريم بفاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس ، ليقدر أن
يهب لي ولدا وإن كنت شيخا وكانت امرأتي عاقرا. وحينها دعا ربّه (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي امنحني وأعطني ولدا ونسلا صالحا مباركا كما وهبت لحنّة
العجوز العاقر (إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعاءِ) تسمعه وتجيبه.
٣٩ ـ (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ
..) أي جاءه النداء من الملائكة. وفي هذا تمييز للنداء عن نداء
البشر ، وإن كان المنادي واحدا من البشر. أتاه نداء الملائكة وهو قائم : واقف
أثناء الصلاة (يُصَلِّي فِي
الْمِحْرابِ) وجملة : قائم ، في محل نصب لأنها حال من هاء : نادته.
وكذلك جملة : يصلّي. فهي حال من الضمير في : قائم. وكان نداء الملائكة له أن قالوا
: (أَنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) فقد بشروه بابن له يسمى يحيى الذي يصدّق بكلمة الله ، يعني
بالمسيح عليهالسلام على ما سيأتي قريبا. ومصدقا حال من يحيى ، أي مؤمنا به.
وجميع المفسّرين متفقون على أن المراد بالكلمة هو عيسى ما عدا النادرين من إخواننا
السنّة الذين
فسّروها بكتاب الله ، وهو رأي مردود من جهات لا تخفى على ذوي العلم والمعرفة. وقد
سمّي عيسى (ع) بكلمة الله لأنه أوجد بكلمة «كن» فكان من غير أب. والمسيح لقب له
لقّب به لأنه كان كثير السياحة في البلاد لهداية الناس ولإنقاذهم من ضلالة الجهل ،
لا سياحة من ينشد الراحة وهوى النفس .. ويقال إن المسيح معناه الصدّيق ، ولقّب به
عيسى لكونه صادقا مصدقا .. فسيهب الله يا زكريّا ولدا صادقا (وَسَيِّداً) يترأس قومه وتكون زعامتهم بيده ، ويكون وليّ أمر المؤمنين (وَحَصُوراً) أي أنه لا يأتي النساء في رواية القمّي ، وعلى هذا المعنى
أتت مدحته التي اختص بها إذ كان التبتّل فضيلة ، وإن كان لم يعهد مجانبة النساء في
شرع من الشرائع ولا رجّحه دين من الأديان بنحو نوعي. وأمّا في شرع نبيّنا (ص) فقد
قال : من رغب عن سنّتي فليس مّني أي سنّته في الزواج وعدم الرهبانية فهو خارج عن
دينه. وقيل معنى : حصورا : أنه كان مبالغا في حصر نفسه عن مطلق الشهوات والملاهي. وروي
أنه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللّعب فقال عليهالسلام : ما للّعب خلقت. فقد قدّر الله له أن يكون سيدا ، وحصورا (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من زمرة الأنبياء الذين هم كلهم بالحقيقة صالحون ،
ولكنه سبحانه ذكر ذلك تنبيها ، وتنويها بفضل النبوّة.
وفي تفسير الإمام
أن زكريّا كان لا يصعد إلى صومعة مريم غيره ، وكان يصعد إليها بسلّم ، فإذا نزل
أقفل عليها الباب ثم فتح من فوق الباب كوّة صغيرة ليدخل الهواء النقي إلى الصومعة.
وأنه لمّا وجد مريم قد حبلت ساءه ذلك وقال في نفسه : ما كان يصعد إليها غيري ،
والآن حبلت ، وسأفتضح في بني إسرائيل ، ولن يشكوا في أني أحبلتها. فجاء إلى امرأته
وقال لها ذلك ، فقالت : يا زكريّا لا تخف ، فإن الله لا يصنع بك إلّا خيرا. فائتني
بمريم أنظر إليها ، وأسألها عن حالها. فجاء بها زكريّا إلى امرأته ، فكفى الله
مريم مؤنة الجواب عن السؤال إذ لمّا دخلت على
أختها وهي الكبرى
، ومريم الصغرى ، لم تقم إليها امرأة زكريّا ، فأذن الله ليحيي وهو في بطن أمّه
فنخس بيده في بطن أمّه وأزعجها وناداها : يا أمّه ، تدخل إليك سيدة نساء العالمين
مشتملة على سيد رجال العالمين فلا تقومين لها؟ .. فانزعجت وقامت إليها ، وسجد يحيى
في بطن أمه كرامة لعيسى بن مريم (ع). فذلك كان أول تصديقه له .. وللرواية تتمة وقد
أخذنا منها ما نحتاج إليه.
٤٠ ـ (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
..) قال هذا تعجبا واستبعادا عاديا : كيف أرزق صبيّا (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ،
وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) فأنا كبير طاعن في السنّ وامرأتي كذلك ، فكيف يكون لنا ولد
مع هذين الأمرين؟ .. وهذا الكلام لا يجتمع مع طلب الولد ظاهرا وخصوصا من مثل
زكريّا ، إلّا أن يقال إن زكريّا قال ذلك استفهاما وطلبا للاطمئنان ، لأن مثل هذه
الأمور الخارقة للعادة يشكل قبولها بحسب العادة حتى من جانب الأنبياء قبل أن ينكشف
لهم وجه الحكمة ، ولو من باب حمل الإخبار بها على الاختبار وحصول البداء بعد ذلك
ما في قضية إبراهيم (ع) والأمر بذبح الولد. فإذا لم يحصل للإنسان الاطمئنان طبعا
في بادئ الأمر ، ويتم له سكون القلب ، لا يختلف هذا المقام ومقام النبوّة ، ولا
سيّما إذا كان الإخبار بواسطة غير ذاته تعالى. وأقوى دليل على الدعوى وقوع ذلك حتى
مع من هو مثل إبراهيم عليهالسلام وهو من أولي العزم من الرّسل. فإذا جعل البداء ذهب
الاطمئنان في الابتداء .. هذا مضافا إلى أن يلزم صدور تلك البوادر عنهم بمقتضى
الحكمة الإلهية لئلا يقول الناس بإلهيّتهم عليهمالسلام كما قالوا ذلك ببعضهم فعلا.
ويتجلّى وجه الشبه
بين قبول هذه البشرى ، وبين قضيّة إبراهيم (ع) أيضا حين قال : ربّ أرني كيف تحيي
الموتى ، قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئنّ قلبي .. فالبشرى بيحيى كانت
على خلاف العادة في التناسل من مثل زكريّا وزوجه الكبيرين. وإمّا أنه قال ذلك شكرا
واعترافا بالنعمة وبإجابة دعائه إذ كانت الإجابة على خلاف العادة الجارية
في الاستيلاء
وإعطاء النّسل ، أي بمعنى أني وامرأتي في مثل هذه الحال ، فمن أين يكون لي غلام لو
لا قدرتك وعنايتك ورحمتك الخاصة ، فشكرا لك وحمدا للإجابة بما فيه خرق للعادة. وقد
ذكر السيد المرتضى رحمهالله مثل هذا الجواب في حقائق التأويل.
والعاقر من الرجال
الذي لا يولد له ، ومن النساء التي لا تلد. وقوله : (قَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ) أي الشّيب والهرم ، وقيل إنه كان له تسع وتسعون سنة. بل
قال ابن عباس : كان زكريّا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة. وكانت امرأته بنت
ثمان وتسعين سنة. أما الله تعالى فلا يعجزه شيء ، ولذلك (قالَ كَذلِكَ) أي كما أنتما عليه من الهرم والعقم ، إذ (يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ويرزقكما الولد وذلك عليه هيّن لأنه على كل شيء قدير. فلما
اطمأن قلبه بأن قدّر له إعطاء الولد وقضي الأمر :
٤١ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ..) أي علامة خارقة للعادة تدلّني على الحمل ووقت وضعه ،
لأتلقّاه بالحمد والشكر (قالَ آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ) أي قال الله تعالى : العلامة التي تطلبها هي أن لا تقدر
على تكليم الناس وإن كان لسانك مطلقا بذكر الله وتمجيده وتحميده (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) تبقاها لا تكلّم أحدا أثناءها (إِلَّا رَمْزاً) بالإشارة بيديك أو بعينيك أو بحاجبيك أو بغيرها كرأسك.
وإنما خص بالمنع عن تكليمهم لتنتهي المدة بذكر الله وشكره على نعمه وآلائه ،
وبالأخص على هذه النعمة العظمى بالولد الصالح الخارق لطبيعة العادات ، والكاشف عن
لطف الله سبحانه وتعالى وإكرامه لزكريّا وزوجه. ولا يخفى أن الأيام كانت مع
لياليها ، يدلّنا على ذلك قوله عزوجل في سورة مريم : (ثَلاثَ لَيالٍ
سَوِيًّا) والشائع في العربية دخول الليل والنهار معا في اليوم ، لأن
اليوم الكامل أربع وعشرون ساعة ، أي مجموع ليل ونهار .. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) وهذا الأمر يرمز إلى مطلب يقوم وراء منعه عن التكلم مع
الناس. وذلك أن الإنسان إذا سلبت عنه نعمة البيان ولو من ناحية ما ، فلا بدّ أن
تعوّض عليه من ناحية أخرى كالتسبيح والتهليل والتفكّر ونحو ذلك. فما
أحرانا باغتنام
فرصة العمر وكسب الوقت للإكثار من الدعاء والأذكار والأوراد لنصل إلى هذه المرتبة
السامية فنكون مع الذاكرين .. فمعنى قوله تعالى : أذكر ربك في أيام عدم قدرتك على
التكلم مع الناس (وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِ) والتسبيح هو تنزيه الله تعالى وتقديسه عن كل ما لا يليق
بذاته القدسية السامية. والعشي : هو من زوال الشمس إلى الغروب ، وقيل هو آخر
النهار ، فسبّحه في ذلك الوقت (وَالْإِبْكارِ) بكسر الهمزة ، أي باكرا ، من الفجر إلى الضّحى.
ويستفاد من الآية
الكريمة أن لهذين الوقتين خصوصية للذكر ليست في غيرهما.
* * *
(وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))
٤٢ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ
..) أي أذكر يا محمد حينما قالت الملائكة لمريم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي اختارك من بين نساء العالمين ، لأمور ميّزك بها :
كقبولك بنذر أمك لسدانة المحراب ولم يقبل ذلك من امرأة قط ، وكتربيتك في بيته
ومكان عبادته ، وكجعل مربيك نبيه المرسل الى عباده ، وكإكرامك برزق الجنة في دار
الدنيا ، وبأنك ما ارتضعت ثدي امرأة ما دمت رضيعة (وَطَهَّرَكِ) أي نزّهك وقدّسك عن الأدناس وعما يستقذر من النساء ، وما
لا يليق بمقامك الرفيع (وَاصْطَفاكِ) كررها
سبحانه ثانية : أي
انتقاك لأمر هامّ ، ثم اختصك بتكليم الملائكة ، وبالنفخة الربانية التي تكوّن منها
ولد من غير أب. وبتلك المزايا آثرك الله على (نِساءِ الْعالَمِينَ) من أهل زمانك .. ولا تنافي بين كون فاطمة عليهاالسلام سيدة نساء العالمين وبين ذلك حتى نحتاج الى تخصيص كل واحدة
بسيادة نساء عالمها. فإن سيادة مريم عليهاالسلام جاءت من الجهات التي اختصت بها من بين سائر النساء بحسب ما
ذكرنا من صفاتها وملازمات حياتها ، فسيادتها سيادة حيثية وجهتّية لا مطلقا حتى
تتعارض مع سيادة الزهراء عليهاالسلام العامة الشاملة صلوات الله على أبيها وعليها وعلى بعلها
وبنيها.
والحاصل أن
السيادة هي المجد والشرف ، والاصطفاء أعم منها. بيان ذلك أنني إذا اخترت فلانا من
بين قوم لأمر معيّن ، ليس معناه أنني جعلته أشرف وأعلى مقاما من جميع القوم حتى
يقال فلان مقدّم في السيادة والزعامة بمجرّد الاصطفاء. بل معنى ذلك أنني اخترته
لأمور خاصة ، ولحكم اقتضت اصطفاءه دون غيره. فلا نحتاج الى التخصيص كما هو واضح
بأدنى تأمّل وتدبّر .. نعم ، إن فاطمة عليهاالسلام ، سيدة نساء العالمين لشرافتها الذاتية الأصلية والخارجية
المعروفة بلا شك ولا شبهة مضافا الى أن لفظ سيادة لم يرد هنا بمعنى الزعامة
المطلقة ، ولم يقل سبحانه وتعالى : مريم سيدة نساء العالمين ، حتى يقال لا بد من
التخصيص ، وإلّا لزم تقدّمها. ولا يخفى المقصود على ذوي المعرفة ولا على ذوي
الفطنة.
٤٣ ـ (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ..) أي اعبديه وصلي له (وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي) وبهذا أمرت بالصلاة بذكر أركانها إذ أمرها بالسجود وبأن تركع
(مَعَ الرَّاكِعِينَ) لتحسب في زمرة الراكعين وتعد مع من يركع في صلاته علامة
للخشوع لله والخضوع له ، لا مع من لا يركع في الصلاة طبقا لشرعه أو متعمدا لجهله
أو نسيانا ، فإن الصلاة بلا ركوع ناقصة باطلة ولو كان الجهل عن تقصير.
٤٤ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ..) يعني أن قصة امرأة عمران ومريم وزكريا وبشرى الملائكة لهم
بالغيوب التي لا تعرف إلّا بالوحي ، كل ذلك من أخبار الغيب التي نقصها عليك يا
محمد ، لأن طريق العلم والعرفان بحال الأمم السابقة وكيفية سيرهم مع أنبيائهم لا
يعرف إلّا بقراءة تاريخ أحوالهم في الكتب والصحف التاريخية التي يدّون فيها ذلك ،
أو عن طريق الوحي السماوي والإلهام. ولما كان الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب فقد كان باب العلم موصدا لديه من
حيث القراءة والاطلاع وانحصر علمه بالوحي الالهي وباطلاعه على أمور غيبية. ولذلك
قال سبحانه وتعالى : (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نلهمك إياه ونلقيه إليك عن طريق جبرائيل الأمين عليهالسلام ، لتكون معرفتك به معجزة فيها تبصرة وعبرة. فالنبي (ص) لم
يشاهد هذه القصص ولا عاين تلك الوقائع في عصر صدورها ، ولا قرأها في كتب ، ولا
استمع إليها من مؤرخ ، فليست إذا إلّا أنباء غيبية معجزة ، لأن البشر عاجزون عن
الإتيان بمثلها ، ومن يخبر بها نعلم أنه عرفها عن طريق الوحي الذي ينحصر في النبي.
(وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) أي : يا محمد لم تكن عند سدنة المحراب يوم ولادة مريم
والاختلاف على كفالتها ، ولم تشاهدهم وهم يرمون أقلامهم في الماء ليجروا القرعة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ليعرفوا من الذي يقوم بأمور مريم عليهاالسلام من جميع الجهات (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي حين كانوا يختلفون في أمر كفالتها ويتشاجرون فيما بينهم
، الى أن قطعت القرعة باب النزاع كما هو المتعارف عنها في الموارد طراّ.
* * *
(إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٥)
وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ
اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))
٤٥ ـ (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ ..) إذ : ظرف زمان متعلق بأذكر ، بمقتضى المقام. أي اذكر يا
محمد حين قالت الملائكة : (يا مَرْيَمُ إِنَّ
اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وكلمته عزوجل هي : كن ، التي تتجسّد بعدها إرادته التكوينية بلا أسباب
وبلا معدات ، كالذي يجري حين إيجاد سائر المخلوقات ، وكالذي جرى بالنسبة للمسيح عليهالسلام الذي تكوّن في
الرحم بلا فحل ،
ثم خرج بلا كلفة على الله سبحانه. وهذا غير ميسور بحسب العادة البشرية إلّا بإرادة
الله ومشيئته جلّ وعلا. فعيسى (ع) منشأ كلمة من عند الله تعالى ، و (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ) وقد جيء بالضمير في : اسمه ، مذكّرا مع أنه كان ينبغي أن
يرجع الى الكلمة باعتبار المعنى وأصل المسيح في لغتهم : مسيحا ، ومعناه : المبارك.
ولفظة عيسى عطف بيان للمسيح. وأصل عيسى معرّب إيشوع. وقد وصف بابن مريم رداّ على
الزاعمين أنه ابن الله. وقد جعله الله (وَجِيهاً فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) نصبت لفظة : وجيها على الحالية من : كلمة. والوجيه سيد
القوم وصاحب الجاه والمنزلة ووجاهته كانت في الدنيا بالنبوة وبكونه من أولي العزم
من الرسل وهم على ما هو المشهور خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد
صلوات الله عليهم. وهؤلاء أرفع الرسل مقاما وأعظمهم جاها. ووجه تسميتهم بأولي
العزم ـ على ما روي ـ أنهم بعثوا الى مشارق الأرض ومغاربها وإنسها وجنها. ونلفت
النظر بهذه المناسبة الى أن المعمورة لم تكن في أزمنة الرسل الماضين على ما كانت
عليه من السعة في السّكنى والعمران في أيام سيدنا ونبينا محمد (ص) مما جعل أعباءه
أكثر وأصعب ، وأذاه أشد من سلفه .. وقيل أيضا في وجه التسمية بأولي العزم بأمور
كثيرة سنعرض لها في مقام آخر يجيء في محلّه إن شاء الله تعالى .. وأمّا وجاهة
المسيح في الآخرة فتكون بالشفاعة في الأمة ، والشفاعة في ذلك اليوم العظيم من أعظم
الدرجات وأجلّ الكرامات ، حيث يكون كل الناس مشغولين بأنفسهم إلّا الشفعاء فيكونون
مأمونين من ناحية أنفسهم ومهتمين بنجاة أممهم. فالمسيح عليهالسلام يكون يومئذ وجيها (وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) الى ثواب الله وكرامته في الدنيا برفعه الى السماء
ومصاحبته الملائكة ، وفي الآخرة بكونه في أعلى درجات الجنة مع الأبرار والصالحين.
٤٦ ـ (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ..) أي أنه حال كونه في المهد طفلا رضيعا يكلّمهم بتنزيه أمّه
من السفاح وبشهادة نزول الكتاب عليه ، وبكونه
نبيا .. وكان
كلامه إعجازا بهر قومه ، ولذا قبل أكثرهم جميع مقالاته التي كان أو لها اعترافه
بأنه عبد لله ، لا أنه هو الله ، لأنه كان عالما بسفاهة قومه وضلالتهم الناشئة عن
الجهل ، ولذا نبههم بكونه عبدا من عباد الله ، ومخلوقا من مخلوقاته تعالى ، ومع
ذلك رجعوا بعده بمدة عن التوحيد وعادوا الى الشّرك وقالوا بألوهيته. هكذا خلقه
الله تعالى يكلّم قومه في المهد لتبرئة أمّه ولإثبات عبوديته ونبوته (وَكَهْلاً) أي حال كونه ابن ثلاثين الى أربعين سنة يكلّمهم بصفة
النبوة ، ويبلغهم الرسالة في كل مكان ، ولذا كان عليه أن يتردد بين القرى والمدن
للتبليغ وليذكرهم تقلّب أحواله ولينفي الالوهية عن نفسه ، وليثبت لهم أنه من سنخ
البشر. وقد أشار الله سبحانه ونبّه الى جهات تكوينه ، وطفولته ، وكهولته ، وجميع
تقلبات أحواله دفعا لشبهة تأليهه ، فلا بد أن يتدبر العاقل هذه الأمور ويحصل له
اليقين بأن عيسى عليهالسلام بشر من البشر (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) وهذه حالة أخرى له تنفي عنه صفة الالوهية ، فهو عبد صالح
عدّه الله تعالى في الصالحين.
٤٧ ـ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
..) أي أن مريم تعجبت وسألت ربّها : من أين يكون لي ولد (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فإن الولد يكون بأسبابه الطبيعية فكيف يكون لي بلا زوج؟ ..
(قالَ كَذلِكِ اللهُ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فأجيبت بأن الأمر بيده تعالى يخلق بأيّة كيفية يريد ،
وسترزقين ولدا كذلك ، أي على الكيفية التي أنت عليها ، وهو سهل عليه يسير ، لأنه (إِذا قَضى أَمْراً) وقدّر وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ : كُنْ ، فَيَكُونُ) ولعل لفظة : كن إرشاد الى إرادته التكوينية كما قلنا سابقا
، فإن ساحته المقدسة منزهة ومستغنية عن قول : كن ونحوها من الأسباب للخلق ، فإذا
شاء أن يخلق شيئا بلا سبب يخلقه كذلك ويخلق الساعة لمجرد إرادته سبحانه.
٤٨ ـ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
..) أي جنس الكتاب المنزل. أما الحكمة فلعل المراد بها الفقه
والمعرفة ، وقيل لها معان أخر ذكرناها
سابقا. والجملة
للحال ، معطوفة في نسق الأحوال واقتضاء المشابهة مع قوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ). وقيل هي معطوفة على : وجيها. وقيل إنها كلام مبتدأ. فالله
تعالى يعلّمه ذلك ، ويعلّمه (التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) والتوراة في الأصل اسم الكتاب الذي أنزل على موسى عليهالسلام. وهو في العبرانية اسم للشريعة. وجرى الاصطلاح أخيرا على
تسمية الكتب التي كانت لليهود بالعهد القديم ، وهو اصطلاح لا يعتدّ به بحسب الظاهر
، لأن التوراة اسم لخصوص ما أنزل على موسى عليهالسلام. أما الإنجيل فهو الكتاب الواحد الذي أنزل على عيسى عليهالسلام ، ويقال إنه يعني : التعليم ، باللغة اليونانية القديمة. (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) الواو للحال. أي في حال كونه مبعوثا الى بني إسرائيل من
عنده سبحانه. وتخصصه بهم باعتبار أول بعثته ، لأنه ـ بالحقيقة ـ رسول الى البشر
طراّ إذ هو من أولي العزم كما أسلفنا. هذا وقد روي في الإكمال عن الباقر عليهالسلام أنه أرسل لبني إسرائيل خاصة. (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول لهم ذلك بعد أن يعلن كونه رسولا لهم ولغيرهم بحكم
المشاركة في التكاليف الالهية إني جئتكم رسولا من عند ربّكم ، وأثبت إرسالي ببرهان
وحجة بيّنة مثبتة لدعواي حتى تتم الحجة عليكم ، وهي (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَأَنْفُخُ فِيهِ ، فَيَكُونُ
طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) أقدّم لكم هذه المعجزة الخارقة لتصدقوا ببعثتي وتؤمنوا
بدعوتي .. ثم لما كان الطب في تلك الأيام مدار الفضل والفضيلة ، ومن لم يكن له
نصيب منه عدّوه مع الجهلاء ، فقد اختار الله تعالى له بعض المعاجز التي لا يتوصل
إليها الطب فألهمه أن يقول لهم : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) أي أنه يشفي من أمراض مستعصية على كل طبيب حاذق ، كمعالجة
الأكمه : الذي ولد أعمى ممسوح العينين أو الذي له عينان ولكنه لا يبصر بهما أبدا ،
وقيل هو الأعشى الذي يبصر في النهار ولا يبصر في الليل ، أو المزمن الذي ولد
ورجلاه لا حركة لهما ولا حسّ فيهما ، ويشفي من البرص الذي هو مرض
جلدي يلّون الجلد
بلون بياض ويشوّهه ، ويحصل عن فساد في المزاج وخلل في الأخلاط الأربعة التي قوام
البدن وصحته باستقامة نسبها واستوائها. وعلاجه صعب ممتنع ولذا اختصه سبحانه بالذكر
من بين الأمراض ، وجعل الشفاء منه آية للنبوة. بل يفعل ما هو عندهم ممتنع عقلا
كإحياء الموتى وردّ الأرواح الى أجسادها ، بل يقدره الله على أعظم من ذلك وما هو
أشدّ امتناعا من ذلك كله وهو إيجاد الأرواح في أجسام يصنعها بيده كخلق الطيور ..
فما أصعب أن يعجن طينا ثم ينفخ فيه فيصير بإذن الله طيرا ذا ريش وأجنحة ولحم ودم
وحواس ، يتمكن من الحركة الحرة الطليقة بشكل يحير الألباب ويدهش ذوي العقول؟ .. فبالجملة
جعل الله له هذه الأشياء لتكون علامة على صدق رسالته ، وسببا للتصديق به ، وحجة
مثبتة لنبوّته. وها هنا أسئلة :
الأول : لماذا آثر
الطين في مقام إظهار الآية من سائر الموجودات الأخرى القابلة لذلك؟
الثاني : لماذا
اختار الطير من بين ذوات الروح؟
الثالث : لماذا
قدّم هذه الآية على الآيات الأخر؟
والجواب على الأول
: أن الطين جسم لين ، قابل لأن يتشكل كيفما أراده صانعه وهو معدّ لأن تجسد به أية
صورة بلا كلفة وبدون مؤونة ، ولا يزاد عليه شيء ولا ينقص منه ، ولا في تحصيله
صعوبة ، بخلاف الأجسام التي لا تخلو من الحاجة الى كثير غيرها. والطين هو عجين
التراب ، والتراب من أشرف العناصر التي خلق منها الإنسان ، وهذا الأمر هو المختار
لدينا في مقام تقديم التراب على غيره ، وإن كان لا بأس بالاستدلال بغير ما اخترنا.
فالتراب كفء الماء
وقرينه. وقد قال تعالى فيه : وجعلنا من الماء كل شيء حي ، ومع ذلك فهو لا يفضل على
التراب إذ لو فرض أن غمر وجه الأرض كله الماء كالطوفان مثلا ، فلا يتسنى للإنسان
ولا لأي ذي
روح أن يعيش على
وجه الأرض دون وطء الثرى والتراب ، حتى الحيوانات المائية فإنها لا بد لها من
تناول غذائها من أعماق اللجج ومن قعر البحر عن الرمال والصخور. فسبحان من فطر
الأشياء على ما فطرها عليه ، وأجرى لكلّ منها طبيعة وعادة نوعية ، فجعل الماء لا
يفيد بلا تراب ، وجعل الهواء لا يفيد بلا ماء ، وجعل التراب لا يفيد بلا هواء ولا
ماء ، وجعل الفوائد الحياتية بضميمة ذلك وغيره من العناصر بعضها الى بعض لتتوفر
فائدة كل شيء مع فائدة غيره ، وتتحد الفوائد كلها لمصلحة الكائن الحي ..
هذا ما رأيته
بنظري القاصر وما انقدح في ذهني وجال في فكري ، أذكره للقارىء وإن كنت لم أره في
كتاب ولا سمعته من محدّث ولا وعيته من واعظ ، وإن كان عدم الوجدان لا يدل على عدم
الوجود .. وبالجملة فإن التراب والماء هما بمنزلة قوّتي الفعل والانفعال ، ويمكن
أن يقال إنه تعالى كوّن في التراب حيثية الانفعال ، وفي الماء حيثية الفعل ، فإذا
قرنا يتولد منهما ما يتولد مما يشاء الله من الخلق والنّعم والآلاء. وما اختيار
الباري جلّ وعلا لذكر الطين من بين الموجودات الأرضية ، إلّا من هذا الباب ، ومن
كون التراب منبعا للفيوضات ومصدرا لوجود الإنسان الذي هو أشرف الكائنات وأعلى
الموجودات .. ومن هنا لا بد لك أن تعرف أن إبليس اللعين كان من أغبى المخلوقات ،
ومن أدناها فهما ، وأحطّها مقاما وأكثرها جهلا وأشدّها ضلالا حين أنكر معرفته
بحقائق الموجودات واستكبر عن السجود لآدم عليهالسلام وقال لخالقه وخالق العالمين : أنا خير منه ، خلقتني من نار
، وخلقته من طين .. أفما علم أن النار ذاتها لا تتكوّن من دون أجزاء الأرض؟ وأنه
لو لا الأرض والتراب لما وجدت النار وانعدم مصدرها؟ .. فالطين مقدّم على النار ،
وهو أعلى مرتبة منها بلا ريب.
والجواب عن السؤال
الثاني : أن خلق الطير صعب. ففيه جميع ما
في غيره من الحيوانات
من الأجهزة البدنية مع زيادة الريش المختلف في الشكل والكيفية والصلابة ، والتلوين
الذي يحيّر العقول ، مع القدرة على الطيران والتحليق في الجو مضافا إلى المشي على
الأرض ، إلى جانب قوى الصعود والهبوط والتماسك أثناء وجوده في الجو ، إلى رفيف
ودفيف ، ونظر يخترق المسافات الشاسعة بين الجوّ والأرض ، إلى غير ذلك من خصائص
الطير التي لا وجود لها إلا فيه.
أما الجواب عن
السؤال الثالث : فهو الأهم والأجدر بالعناية من حيث كونه آية معجزة لعيسى عليهالسلام. فقد قدّم سبحانه هذه الآية ليفجأ عيسى قومه بأمر يعجز عنه
الطب والبشر جميعا كما فاجأهم بكلامه في المهد من قبل. ذلك أن الله تعالى الذي
أرسله من عنده ، وبعثه لهداية الخلق ونجاتهم وتخليصهم من تيه الضلالة وحيرة
الغواية ، أجرى على يد رسوله أمورا كلها من خوارق العادات بدءا بشفاء المرضى ،
ومرورا بإحياء الموتى ، وانتهاء بإيجاد الروح بالنفخ أي إيجاد الشيء من كتم العدم
بلا سابق وجود له. فقد أعطاه ولاية تكوينية يصنع بها العجائب ويخترق المعاجز
احتجاجا على الخصم.
وقوله : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) هو بيان لمعنى قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). أو أنه في محل نصب على تقدير القول. وقوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) يعني كصورته ، أسوّي الطين مثلها (فَأَنْفُخُ فِيهِ) نصب أعينكم وأنتم تنظرون (فَيَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِ اللهِ) تامّ الخلقة يطير كسائر الطيور. ويستفاد من فاء التفريع
ومن كلمة : يكون ، أن المراد بالنفخ ليس ما هو ظاهره بمقتضى وضعه اللغوي ، أي
إخراج الريح من الفم ، بل هو كناية عن مجرّد الارادة التي يعبّر عنها بكلمة : كن ،
كما في قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) أي : أحييته. وإحياؤه سبحانه هو إرادة حياته وليس ثم نفخ
ولا منفوخ فيه ، وإنما هو تمثيل وتشبيه لما هو الواقع في الأمور الظاهرية للتقريب
إلى الأذهان. هذا بالنسبة إليه تعالى.
أما الأنبياء فما
يشاءون إلّا أن يشاء الله ، ولا يريدون إلا ما أراد. ولا يبعد أن يكون نفخهم كنفخ
الله عزّ وعلا ، أي كناية عن مجرّد الإرادة التكوينية التي أعطاهم الله إياها من
فضله ، إذ قال : عبدي أطعني تكن مثلي. تقول للشيء : كن ، فيكون.
وحاصل المعنى أن
قوله : فأنفخ فيه ، يعني : فأريد كونه طيرا ، فيصير طيرا بإذن الله ومشيئته ،
ويطير كغيره من الطيور .. أما التعليق : بإذن الله ، فلينبّه إلى أن بثّ الحياة
ليس من مقدوري وإنما هو فعله تعالى. وهو ردّ على من زعم أنه عليهالسلام هو الله. ولذا بيّن أنه لا يقدر على إيجاد ذي روح ، فكيف
يقدر على إيجاد الكون وما فيه؟ فالقادر على ذلك هو الله فعلا ، لا المخلوق الضعيف
المحتاج الذي هو كلّ على مولاه في معاجزه وجميع أمور.
وقد قيل إن الطير
الذي صنعه كان على هيئة الخفّاش ، وقال عليهالسلام : (وَأُحْيِ الْمَوْتى
بِإِذْنِ اللهِ) يمكن أن يكون الظرف راجعا إلى الثلاثة وقيدا لها. ويحتمل
قويا أن يكون للإحياء لأنه أهمّ وأصعب من أخويه وأدلّ في كونه آية وإعجازا.
ثم ذكر عليهالسلام من آيات نبوّته قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما
تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي : وأخبركم بأشياء غيبيّة علمها مختص بالبارئ جلّ شأنه
وتقدست أسماؤه ، واختصّ من اصطفاه من خلقه واجتباه ، بتعليمه شيئا من الغيب
كالرّسل عليهم الصلاة والسلام. ولذا كان عيسى عليهالسلام إذا لاقى رجلا يقول له : أكلت كذا ، وذخرت كذا ، وخبّأت
كذا وكذا ..
وقيل إن الذي
أحياه من الموتى ، هو سام بن نوح ، ففي العياشي مرفوعا أن أصحاب عيسى (ع) سألوه أن
يحيي لهم ميتا ، فأتى بهم إلى قبر سام بن نوح فقال : قم بإذن الله يا سام بن نوح
.. فانشقّ القبر. ثم أعاد الكلام فتحرّك. ثم أعاد ، فخرج سام بن نوح ، فقال له
عيسى :
أيهما أحبّ إليك :
تبقى أو تعود؟ فقال : يا روح الله بل أعود ، فإني لأجد حرقة الموت ، أو قال لذعة
الموت في جوفي إلى يومي هذا ..
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ) أي في ما ذكرت ، وفيما أفعل لكم ، حجة وبرهان على ما
أدّعيته من النبوّة والرسالة (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) أي إذا كانت فيكم ملكة الإيمان وأهلية التصديق بما تقوم به
الحجة وتشهد له الآيات : لا ممّن استحوذ عليهم الشيطان وأضلّهم الهوى ودعتهم النفس
الأمّارة بالسوء إلى شهواتها وغلبت عليهم فلا يتأثرون بأية حجة أو برهان.
وبالمناسبة نذكر
أنه قد صدر عن نبيّنا صلىاللهعليهوآله أمثال ما صدر عن عيسى عليهالسلام ، وأكثر وأعجب. ففي الاحتجاج عن الحسين بن عليّ عليهماالسلام ، وفي التوحيد عن الرضا عليهالسلام في حديث طويل : أن قريشا اجتمعت إلى رسول الله (ص) فسألوه
أن يحيي لهم موتاهم ، فوجّه معهم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فقال له : اذهب إلى الجبّانة فناد بأسماء هؤلاء الرّهط
الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك : يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان : يقول لكم محمد (ص)
: قوموا بإذن الله تعالى. فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم. وأقبلت قريش تسألهم عن
أمورهم. ثم أخبروا قومهم بأن محمدا صلىاللهعليهوآله قد بعث نبيا وقالوا : «وددنا أن كنا أدركناه فنؤمن به»
وعادوا إلى رقدتهم ثم قال عليهالسلام : ولقد أبرأ الأكمه والأبرص ، وشفى المجانين ، وكلّمته
البهائم والطير والجنّ ..
٥٠ ـ (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ ..) أي جئتكم بهذه الآيات المثبتة لنبوّتي ، ومصدّقا لما تقدم
عنها وعني (مِنَ التَّوْراةِ) وكلمة : من ، بيان للموصول. أي لأصدق ما تقدّمني من هذا
الكتاب (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على : مصدقا والجملة منصوبة حالا عمّا كان مصدقا له أي
محلّلا لكم (بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ممّا كانت التوراة قد حرّمته ثم زال مقتضى تحريمه ، أو أنه
عنى سبحانه قوله تعالى في الآية ١٥٨ من سورة
النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)(وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) أي بحجة ، ذكرها أولا تمهيدا لها ، ثم كرّر القول تذكيرا
وتقريبا لما ترتّب عليها من أحكام التحليل وغيره ، ولهذا رتّب عليه ما بعده بالفاء
فقال سبحانه حكاية عن ذلك : (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) أي تجنّبوا مخالفة الله تعالى واسمعوا قولي وأطيعوا أمري
فيما أدعوكم إليه من عند ربي.
٥١ ـ (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ..) قد أكدّ لهم ربوبية الله تعالى له ولهم ، بعد أن أثبت
وحدانيّته ، واعترف بكونه ربّه ورب كل مخلوق ، وأمرهم بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) أي صلّوا له وابتهلوا اليه. فهو بعد الإشارة إلى مقام
العلم بوجود الصانع ومقام التوحيد ، أوجب العمل وأمر بعبادة الله عزوجل ، وجمع سلام الله عليه بين العلم والعمل وبين قوله :
فاتّقوا الله ، إلى قوله : فاعبدوه ، وكان ذلك كله بيانا لقوله : وقد جئتكم بآية
إلخ ... فهذا كله مصداق بتمامه لختام الآية الشريفة : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي طريق مستقيم واضح لا عوج فيه لأنه يوصل إلى النجاة
بالجمع بين الأمرين : العلم والعمل.
* * *
(فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا
بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))
٥٢ ـ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ ..) يعني لمّا شعر وأدرك
كفرهم وإنكارهم له
ولدعوته عن طريق الحواس لا عن طريق الوحي ، وعلم أنهم مصرّون على العناد ومصمّمون
على قتله أيضا مع إظهاره الآيات الباهرات والمعجزات الخارقة. وعرف بإحساسه أن
الكفر والإصرار ومحاولة القتل من بعض اليهود لا من الكل بدليل لفظة : من ، في قوله
: منهم ، أقول : لمّا انكشفت له نواياهم امتحن البعض الآخر منهم بالسؤال ليتعرّف
على ما يضمرون في نفوسهم وعلى مبلغ اعتقادهم فيه ومدى نصرتهم له (قالَ : مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من هم أعواني على صدّ هؤلاء الكفرة تقربا لله سبحانه
ودفاعا عن رسوله وعن دينه؟
ومما يمكن أن يسأل
هنا ويقال : إن عيسى عليهالسلام بعث للوعظ وتربية الأخلاق ، فلم كان هذا الاستنصار منه ،
والاستنصار يكون للحرب؟ والجواب أن الموعظة والنّصح والإصلاح كلها تتوقف على عدم
الموانع. ومع وجود هؤلاء الجحدة الكفرة المانعين عن بيان الحق والحقيقة لا يمكن
الوعظ ولا الإرشاد. مضافا إلى أنهم كانوا عازمين على قتله إذا بقي ماضيا في دعوته
، فلا بدّ من طلب النّصرة لدفع تلك الموانع ولحفظ حياته وحتى يتمكن من نشر دعوته
وإقامة حججه ، بل ليميّز المؤمن الموافق من المخالف الكافر. فحين استنصر المؤمنين
به (قالَ الْحَوارِيُّونَ) وحواريّ الرجل هم خاصته وخالصته وصفوته من بين أصحابه.
وكان حواريّو عيسى عليهالسلام اثنى عشر رجلا سمّوا بذلك لأنهم كانوا من خلّص صحبه.
فهؤلاء قالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) أي أنصار دينه وأعوان نبيّه على أعدائه ، والمساعدون في
الدعوة إلى الإيمان به والجهاد في سبيل الحق (آمَنَّا بِاللهِ) أي صدّقنا به وبرسوله ، فاسمع يا نبيّ الله اعترافنا بذلك (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) وقد استشهدوه لأن الرّسل يشهدون يوم القيامة للمؤمنين بهم
من قومهم ، كما أنهم يشهدون على الكافرين منهم.
٥٣ ـ (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ ..) أي صدّقنا بما أوحيت من عزائم أمرك على عيسى عليهالسلام (وَاتَّبَعْنَا
الرَّسُولَ) وأطعناه وقلّدناه فيما أمرنا به من عندك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي اجعلنا بتأييدك وتوفيقك لنا
وبتثبيتك إيانا
على الحق ، اجعلنا مع الرّسل الذين يشهدون لأممهم وعليها واحشرنا معهم يوم
القيامة. ويدل على أن هذا هو طلبهم قولهم لعيسى (ع) قبيل هذه الجملة : واشهد بأنّا
مسلمون ، يعني يوم الحشر. فهم متذكرون بأن الأنبياء صلوات الله عليهم هم الأشهاد
في ذلك اليوم.
٥٤ ـ (وَمَكَرُوا ، وَمَكَرَ اللهُ ..) يعني أن كفرة بني إسرائيل مكروا مكرهم بعيسى بن مريم عليهماالسلام الذي تلخّص بتوكيل من يقتله غيلة. فعن ابن عباس ، أنه لما
أراد كفّار بني إسرائيل قتل عيسى (ع) دخل خوخته أي قبّته ، بيته وفيها كوّة أي
فتحة كالنافذة فرفعه جبرائيل عليهالسلام من الكوّة إلى السماء. فقال الملك لرجل منهم خبيث : أدخل
عليه واقتله. فدخل الخوخة ، فألقى الله عليه شبه عيسى فخرج على أصحابه ليخبرهم أنه
ليس في البيت فاشتبهوا به ، فقتلوه وصلبوه على خشبة نصبوها لهذه الغاية ، ومكروا
على هذا الشكل بنبيّ الله تعالى أي كادوا له كيدا سيّئا ، فمكر الله سبحانه بهم
مكرا حسنا من جنس صنعهم بأن دبّر تدبيرا جميلا لا يخطر ببالهم وهو إلقاء شبه عيسى
على الجاني .. ونسبة المكر إلى ذاته المقدسة على المقابلة والمشابهة يعدّ أحد وجوه
البلاغة. والمراد بمكره عزّ وعلا ، هو إعطاؤه جزاء مكرهم. والمكر من المخلوق هو
الخداع والاحتيال ، ومن الخالق هو المجازاة بطريقة كانت خافية على العبد حين تدبير
خدعته ومكيدته. وكونه سبحانه خير الماكرين هو أنه يجازي تأديبا وتنبيها لئلا يمكر
أحد بعد ذلك. أو أن معنى : خير الماكرين ، هو أنه تعالى الأقوى والأقدر على الكيد
من حيث لا يحتسب المعاقب كما ألقى شبه عيسى على الذي تصدّى لقتله ، فرفع عيسى إلى
السماء ، وقتل المتصدّي لقتله بعد أن دلّ الكفّار على خوخة عيسى وتبرّع بأن يكون
الجاني لهذه الجناية المنكرة. ولعل السرّ في أن المكر بهذه الكيفية كان خير مكر ،
هو من جهة أنه
سبحانه لو غيّب
المسيح عنهم ورفعه إلى السماء خفية قبل تلك المحاولة التي سبق إليها علمه ، لاتّهم
المؤمنون به هذا أو ذاك ، ولعمّهم البلاء وكثر فيهم التقتيل والتنكيل. أو لو رفع
إلى السماء ظاهرا بمرأى من الناس لا لاستحكمت شبهة الألوهية وسرت حتى إلى بعض
المؤمنين به. ولكنّ رفعه على هذا الشكل ، وإلقاء شبهه على مريد قتله كان أحسن مكر
وخير مكر.
ثم بعد أن بيّن
سبحانه قضية مكر الكافرين من قوم عيسى (ع) وطريقة محاولة قتله غيلة ، وأظهر كيفية
دفع مكرهم عنه ، عقّب ذلك ببيان ما أنعم عليه من لطف التدبير وحسن التقدير في
الآيات الكريمة التالية.
* * *
(إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما
لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))
٥٥ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى ..) فاذكر يا محمد هذه الألطاف
الجليلة من الله
بعيسى حين قال له ربّه : (لا تخف يا عيسى من مناوأة الكفّار) ولا من كيدهم : و (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ). وجملة الكلام في المقام أن بني إسرائيل من بعد موسى قد
خرج أكثرهم من الدين وطال عليهم أمد الفترة ، فمنّ الله عليهم إذ بعث منهم نبيا هو
عيسى عليهالسلام. فجاء إلى بيت المقدس يدعوهم إلى كتابه ـ الإنجيل ـ ويحمل
مواريث النبوّة ويؤيّده الله بالمعاجز العجيبة فأبى جلّهم إلّا الكفر والطغيان ، فثابر
على دعوتهم إلى الحق ، وما فتئ يبشّر وينذر ، ويعد ويخوّف مدة ثلاث وثلاثين سنة
على ما في الإكمال ، ولكنهم أبوا وخاصموه وحادّوه وطلبوه أخيرا ليقتلوه ، فرفعه
الله إليه كما نصّ ، وقال : إني متوفيك ورافعك إليّ : أي أني متوفّيك عند أجلك
المسمّى ، فلا تخف من توعدّهم بالقتل. ثم لم يقتصر سبحانه على قوله : إني متوفيك ،
لأن التوفّي تكون له أسباب كثيرة كالقتل الذي يصح أن يقال فيه : إن الله أمات
المقتول وقبض روحه وتوفّاه إليه ، فإنه تعالى يتوفّى الأنفس حين موتها وخروج
الأرواح ولو كان ذلك بواسطة عزرائيل عليهالسلام الموكّل بذلك. فلرفع شبهة القتل عن عيسى (ع) من أجل توفّيه
، قال سبحانه : ورافعك إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي فلا يتمكنّون منك ولا تصل
أيديهم إليك ، فاطمأنّ عيسى (ع) وأدرك أن الكفرة لا يستطيعون قتله ، وكان الأمر
كما أدرك من قوله ربه.
أمّا قوله سبحانه
: إليّ ، وهو لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان ، فهو تكريم لعيسى وتفخيم لغاية
رفعه من الأرض التي فيها الكفرة والمنافقون إلى السماء المختصة بالملائكة
المسبّحين المقدّسين. أي أني رافعك إلى مكان كرامتي وأمني. وهذا ما كنّى به سبحانه
برفعه إليه. والواو ، في : ورافعك ، ليست للترتيب حتى يظن أن الرفع يكون بعد
التوفّي ، بل لمطلق الجمع كما تقول : جاءني زيد وبكر ، أي جاءا معا. فلا مورد
للسؤال أنه كيف قال : متوفيك ورافعك إليّ والله ورفعه وما توفّاه .. وأمّا وجه
تقديم التوفّي فقد كان لجلب الاطمئنان إلى نفس عيسى بأنه لا يقتل
منذ أول مرحلة من
مراحل المخاطبة. فإن تقديم ما من شأنه التأخير لا بدّ له من جهة. ومن المعلوم أن
الرفع في خصوص المقام لا بدّ أن يكون مقدّما على التوفّي عند الأجل المسمّى حسب ما
قد قدّر من رفع عيسى إلى السماء حيّا ، رغما عن الكفرة من اليهود الذين أرادوا
قتله ، وإظهارا لخيرية مكر الله عزوجل ، فالرفع مقدّم على التوفّي بحسب الواقع. وأما الإخبار
الظاهر فقد اتّبعت فيه طريقة حصول الاطمئنان لنبيّه في أول أزمنة الإمكان كما
قدّمنا ، فإن التوفّي بيده تعالى ملازم لعدم قدرتهم على قتله ، والحاصل أن التقديم
بشارة لعيسى (ع) وأنه إنما تقبض روحه بالوفاة لا بالقتل. وهذا مما يعدّ من محاسن
الكلام وبليغه. فقد أخبره سبحانه بذلك ، وبشرّه ، وقال له : إني فاعل ذلك بك (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والتطهير هو تجنيب الشيء عن الدنس ، وتطهير الشيء من الشيء
إبعاده منه. فقوله تعالى : مطهّرك ، أي مبعدك عنهم ومجنّبك منهم. وهذا من نتيجة
رفعه من بين ظهرانيهم إلى السماء. ومن محصّل ذلك ولوازمه ، أني مخلّصك من مكرهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي أنه قضى سبحانه أن يكون متّبعوه أعلى من كفرة بني
إسرائيل ، يعلونهم بالحجة وبالسيف ، وباستذلالهم وكونهم أدنى منهم في الدنيا ، أما
في الآخرة فيمتازون عنهم بالدرجات الرفيعة والنعيم العظيم ، بينما يكون الكفرة في
الدرك الأسفل من الجحيم أبد الآبدين. والذين اتّبعوه هم الذين صدّقوه وآمنوا به
وعملوا بشريعته ولم ينحرفوا ولا حرّفوا شيئا من قوله. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) والخطاب لعيسى (ع) ومن تبعه ومن كفر به على التغليب ، فإن
الكل يحشرون إليه سبحانه يوم القيامة ، أي للمثول بين يدي قدرته لتجزى كل نفس بما
عملت من خير أو من سوء (فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ) وأقضي بالحق يومئذ (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والإيمان بي وبرسولي وبشريعة الحق.
٥٦ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي بعد تمييزهم من المؤمنين
(فَأُعَذِّبُهُمْ) أقاصصهم وأعذّبهم (عَذاباً شَدِيداً) قويا لا يتحمّلونه (فِي الدُّنْيا) حيث أبتليهم بكل عظيم من البلاء ، وبالقتل والذلة العامة
المحيقة بهم كما في حادثة طيطوس وبالتشريد عن الديار من جرّاء حروب يذوقون فيها
الويلات في دار الدنيا (وَالْآخِرَةِ) التي ينتظرهم فيها العذاب (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) وليس لهم من مساعدين ولا شفعاء ، لأن الشفعاء إنما هم
الأنبياء والأولياء ، وهؤلاء يتبرّءون من الكفار في الدنيا بعد اليأس من إيمانهم
بالله وبالرّسل وفي الآخرة حيث ماتوا على الكفر والعناد ، والشفعاء لا يشفعون إلّا
لمن ارتضى ربّهم عزّ سلطانه.
٥٧ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي صدّقوا الله ورسله وما جاؤا به حقيقة التصديق ، أي
بلسان يطابق ما في قلوبهم ، وبعمل ينمّ عن مبلغ طاعتهم وإذعانهم لأمر الله ، وآية
ذلك قوله تعالى : (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) فإن العمل الصالح يكشف عن الإيمان الصحيح الواقعي. ولذا
نرى أنه كلما ذكر الإيمان في القرآن الكريم ، يعقبه ذكر العمل الصالح. أما هؤلاء
المؤمنون القائمون بالعمل الصالح (فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ) أي يعطيهم أجر ما عملوا كاملا وافيا (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) بل يبغضهم ويمقتهم ويكره ما هم عليه من الضلال.
٥٨ ـ (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ..) إشارة إلى أخبار مريم وعيسى وزكريّا ويحيى. واسم الإشارة
في محل رفع مبتدأ ، وخبره : نتلوه عليك. والتلاوة هي القراءة. ومعنى ذلك أننا نقرأ
هذا عليك (مِنَ الْآياتِ) أي من جملة العجائب التي صنعناها مع أوليائنا لتكون دالّة
على صدق دعواك النبوّة ، لأنها أخبار غيبيّة لا يعلمها الأميّ إلّا من طريق الوحي (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) أي القرآن الكريم. وهذا عطف على الآيات. وقد وصف بالحكيم
لأنه ، لكثرة حكمه ، كأنه ينطق بالحكمة ، وهو بحد ذاته معجزة باقية تدل أيضا على
صدق نبوّتك وصدق رسالتك.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(٦٣)
٥٩ ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ..) نزلت هذه الآية الكريمة وما يليها في وفد نجران .. وقد
قلنا سابقا إن نصارى نجران كانوا أخبث من غيرهم من النصارى ، وكان فيهم الأحبار
والكهنة ، وكان من جملة من جاء بالوفد الى النبي (ص) العاقب ، والسيد ، والأسقف ،
فسألوا النبي (ص) : هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزلت : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) .. إلخ أي أن حاله العجيبة بنظركم ، كحال (كَمَثَلِ آدَمَ) عليهالسلام بالنسبة الى الله تعالى (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وصوّره بشرا من غير أب ولا أم (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فخلق آدم (ع) أغرب وأبدع وأدعى للدهشة. والله سبحانه شبّه
الغريب بأغرب منه ، والعجيب بأعجب كثيرا ، لتكون الحجة أقطع لنزاع الخصم العنود
اللجوج. ذلك أنهم قالوا بألوهية المسيح عليهالسلام من جهة كونه ولد من غير أب ، فردّ الله تعالى عليهم بهذا
التمثيل لأن الملاك في آدم عليهالسلام أقوى ، فلم لا يقولون بألوهية آدم في حال أنه أولى بذلك؟
.. فقولهم إذا باطل ، مضافا الى أن عيسى سلام الله عليه
كان يأكل ويشرب
وينام ويتقلب بين الناس كسائر الناس ، والله سبحانه منّزه عن الحاجة لشيء وهو بريء
من كل الصفات التي تجعل منه حادثا وهو ليس بحادث ولا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان
..
وإن قيل : إن
تشبيه عيسى بآدم ليس على ما ينبغي لأن آدم خلق من تراب ومن غير أب وأم ، وعيسى ولد
من أم بلا أب. فالجواب أن التشبيه جاء من ناحية إيجاده بغير أب ، وأن التشبيه لا
يقتضي المماثلة من جميع الوجوه كما في قولنا : زيد أسد ، كما لا يخفى على ذوي
الفهم.
٦٠ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ..) أي ما ذكر من قضايا عيسى هو الحق من عند ربك (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المرتابين ، ولا يخطر في بالك ريب ولا شك. ونهيه صلىاللهعليهوآله هنا هو من باب التثبيت وزيادة اليقين ، على أن مخاطبة الله
تعالى لأنبيائه ـ نهيا كانت أو فرضا ـ هي من باب التذكير لزيادة الانتفاع من جهة ،
ولأنها لا أقلّ من أن تفتح لكل نبي بحسب مقامه بابا من أبواب الحكمة والتشريع في
الأحكام ، والفقه في الأمور. وقد قال تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). فالعلة في ذلك هي التذكير المفيد من الله لنبيه أو من
الأنبياء لأوليائهم والمؤمنين بهم. نعم لقائل أن يقول بأن العلة ليس فيها عموم
فإنها مقيدة بالمؤمنين ، ومرتبة الأيمان منصرفة عن الأنبياء والرّسل لعلوّ منازل
إيمانهم. فتذكير الأنبياء خارج هنا. والجواب أن الصرف أساسا لا يعبأ به لأن
الأنبياء هم أجلى مصداق وأعلى فرد في مجال الإيمان ، لأن أول مؤمن في كل شريعة هو
النبي الذي بعث بتلك الشريعة ليطبقها على نفسه وعلى غيره من الناس بلا شك منه
البتة. وإن لم يكن كذلك لزم من عدمه عدمه .. غاية الأمر أن الانتفاع مقول بالتشكيك
، فانتفاع الأنبياء من تذكير الله نوعا ، هو غير انتفاع علماء الأمة من تذكير
أنبيائهم ، وغير انتفاع عامة الناس أو جهلتهم من تذكير العلماء ، وإنما يؤجر
العامل على قدر معرفته .. والحاصل أن إطلاق لفظة المؤمن على الأنبياء والرسل لا
مانع منه ولا شك فيه ، لأن الله تعالى عدهم من
المؤمنين كما في
قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى
إِبْراهِيمَ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ.) وقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ).
٦١ ـ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ..) أي من جادلك في عيسى عليهالسلام زاعما أنه إله ، أو أنه ابن الله ، متمسكا بكونه ولد من
غير أب. والمحاجّة هي تبادل الاحتجاج بين خصمين ، وقد تكون المحجة برهانا صحيحا أو
جدلا فاسدا. وحاصل الآية أنه من جادلك يا محمد في ألوهية عيسى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي البراهين والحجج المفيدة في باب العلم بقيمتها ، لا
بالنظر للخصم الجاحد المعاند الذي ينكر الحجج القاطعة والبراهين الساطعة ، ولا
يقبل دعوى خصمه ولو دعاه الى الحق ، بل يقول جحدا بالتثليث والشّرك في الألوهية ،
وينسى أن من جعله جزءا من الله متغير له حيز ، يجوع ويعطش ، ويتأثّر ويتألم ،
ويبكي ويضحك ، ويحزن ويسرّ. ويكشف عن احتياجه لغيره في كل مجال من مجالات حياته
فلا يعقل أن يكون إلها ، ولا تكفي حجة مولده بدون أب لأن آدم وحواء عليهماالسلام خلقا من غير أب ولا أم .. فإذا جادلك هؤلاء يا محمد من بعد
ما بينا لهم من الحجج (فَقُلْ : تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ، وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ) واقطع بذلك معاذيرهم ، واحسم إصرارهم على الغيّ والضلال
بعد إتمام حجتك وما جئت به من البراهين الموجبة لهم بالعلم والتي توجب عليهم
الإذعان ، وأدعهم بعزم راسخ للمباهلة ، واعرض عليهم أن يدعو كل منا نفسه ، وأبناءه
ونساءه (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا ونحن وقوف بين يدي الله
تعالى. والبهلة والبهلة : اللعنة.
ولو قيل : لم لا
نحمل قوله : وأنفسنا. على نفس شخص النبي صلىاللهعليهوآله وذاته ، فلا نحتاج للتكلّف بتأويله الى : من هو كنفسه ،
حتى يراد به علي عليهالسلام؟ .. قلنا : على هذا الحمل يلزم اتحاد الداعي
والمدعو ، ولا بد
أن يكون الداعي غير المدعو ، فإن دعاء الإنسان نفسه أمر غير عقلائي. والتأويل لا
بد منه ، وما كان مع رسول الله (ص) من الرجال أحد حين حضوره للمباهلة إلّا عليّ بن
أبي طالب (ع) فلا يبقى في المقام شك بأن المراد من أنفسنا ، هو علي عليهالسلام. بل نقول بجزم إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته ثبوتا
وإثباتا ، وجرت مشيئته ، أن يظهر بآية المباهلة أن عليا عليهالسلام نفس الرسول. وإذا ثبت هذا فلا يخفى على ذي الدرية من الناس
أن من هو نفس الشخص هو مقدّم على الكل في الكل ، فهو الوصي ، والولي ، والخليفة.
وله الوزارة والتدبير لأنه هو النصير في كل حال ، كما كانت حال علي (ع) من النبي (ص)
طيلة حياتهما الشريفة.
ومن جملة أسئلة
المأمون للرضا عليهالسلام في كتاب العيون أيّ دليل من القرآن عندك في خلافة علي عليهالسلام؟ ... قال الامام الرضا (ع) آية : وأنفسنا. فقال المأمون :
لولا كلمة : ونساءنا. قال الامام (ع): لولا كلمة : وأبناءنا. فسكت المأمون ولم
يتكلم بشيء إذ عرف مدلول جواب الامام عليهالسلام ... ولكن (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ. وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى
وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ... والحاصل أنه سبحانه أمر رسوله بمباهلة وفد نجران ،
وقال له أدعهم لنبهل (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللهِ) أي نكاله وعقابه الدنيوي (عَلَى الْكاذِبِينَ) من الطرفين.
وروي أنهم حين
دعوا الى المباهلة قالوا : حتى ننظر. وقد اختلوا ببعضهم ، فقال العاقب الذي كان له
الرأي الأول فيهم : والله لقد عرفتم نبوّته. ولقد جاءكم الفصل من أمر صاحبكم.
والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا. فإن أبيتم إلا الف دينكم فوادعوه وانصرفوا.
فأتوه صلىاللهعليهوآله وقد غدا آخذا بيد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين بين
يديه ، وفاطمة الزهراء خلفه ، فقال أسقفهم : يا معشر النصارى : إني لأرى وجوها لو
سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله : فلا تباهلوا. فأبوا المباهلة وصالحوا
النبي صلىاللهعليهوآله عن ألفي حلة
وثلاثين درعا في
كل عام ، فقال صلىاللهعليهوآله : والذي نفسي بيده ، لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير ،
ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر. وتلك
العقيدة كاشفة عن صدق نبوّته وعلوّ درجة أهل الكساء في الفضل على من سواهم. ولا
يخفى أن حديث المباهلة منقول بالكمية والكيفية التي ذكرناها عن أكثر من خمسين
واحدا من أكابر علماء السنة بلا ترديد بينهم بل صرحوا بأن المراد ب : أنفسنا ، هو
علي بن أبي طالب ، حتى ابن حجر في صواعقه قال : أخرج الدار قطني أن عليا عليهالسلام احتج يوم الشورى على أهلها فقال : أنشدكم الله ، هل فيكم
أحد أقرب الى رسول الله (ص) في الرحم مني ، ومن جعله نفسه ، وأبناءه أبناءه ،
ونساءه نساءه غيري؟ ... قالوا : اللهم لا. وقد روى الفريقان بأسانيدهم عن جماعة من
الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيت عليهمالسلام. أن القدر المشترك في الأحاديث هو أن رسول الله (ص) دعا
عليا (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع) ليباهل بهم نصارى نجران ولم يشارك أحدا معهم
في ذلك. وهذا وحده كاف في فضلهم على جميع من دونهم من أهل ذلك العصر وغيره.
٦٢ ـ (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ..) أي الذي قصّ من نبأ عيسى عليهالسلام. واللام في : لهو ، للتأكيد. والضمير مبتدأ ، وخبره :
القصص والحقّ : وصف للقصص. فما ذكر الله سبحانه من قصة عيسى هو الحق والصدق في ما
ينبغي أن يقال فيه (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ) تنبيه وتذكير للنصارى بعد بيان حال عيسى (ع) وإثبات أنه
مخلوق كسائر عباد الله ، وبأنه أين هو عن صفة التأليه وقد جرى عليه من الأذى
والاضطهاد ما جرى مما لم يفزع منه إلّا الى الله سبحانه وتعالى كسائر أنبيائه
ورسله وأوليائه. فالألوهية لله وحده الذي لا آله غيره (إِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) أي المتفرّد في القدرة الكاملة ، وذو الحكمة البالغة ،
الذي لا يشاركه أحد في الالهية والألوهية ، بل كلّ من عداه ذليل ومفتقر له في
مخلوقيته وحاجته ، فكيف يكون أحد إلها معه؟ ...
٦٣ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ ..) أي إذا انصرفوا ومالوا عن تصديقك واتّباع الحق بعد وضوحه
وبعد إفحامهم بالبراهين أثناء محاجّتهم ، فإن الله (عَلِيمٌ
بِالْمُفْسِدِينَ) عارف بمن يريد الفساد في دينه. وهذا وعيد لهم. ولم يقل :
عليم بهم. بل بدّل الضمير بالاسم الظاهر ليدل على أن الاعراض عن الحجج المثبتة
للتوحيد ، النافية للشرك إفساد للدين وإفساد للعالم.
* * *
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (٦٩))
٦٤ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ..) قد يراد بالكتاب الجنس ، أي مطلق كتاب سماوي ، وقد يراد
الكتابان الرائجان في ذلك العصر وهما التوراة والإنجيل. وقد يراد بالنداء يهود أهل
المدينة بالخصوص. ولكن الخطاب هنا متوجّه الى وفد نجران بقرينة ما سبق من الآيات
الكريمة ، فقل لهم يا محمد (تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي جيئوا لنتفق على أمر مستو بيننا وبينكم لا يختلف فيه
الرسل ولا الكتب السماوية. وهو (أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي لا نقصد بالعبادة إلا الله. ولا نخلص بها إلّا له ،
ونعتبره واحدا لا شريك له في استحقاق العبادة (وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا نقول عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، ولا
نطيع الأحبار والرهبان فيما أحدثوا من التحليل والتحريم فهو من العبودية لهم أيضا.
وقد روي أنه حين نزلت الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، قال
عدي بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله. قال صلىاللهعليهوآله : أليسوا كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ ..
فقال : نعم. قال صلىاللهعليهوآله : هو ذاك. أي أن هذا يعني اتخاذهم أربابا. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا) فإذا أعرضوا عن الدعوة الى توحيد الله وأصرّوا على كفرهم
فقولوا : (اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) فأجيبوهم بأنكم أنتم مسلمون لله وحده واستشهدوا بهم على
توحيدكم وإسلامكم لله. فانظر الى حسن المماشاة في مقام الدعوة الى دين الحق ،
وتأمّل بالمبالغة في إرشاد الخصم المعاند ، وبكيفية التدرج في الحجاج : فقد بيّن
أولا حال عيسى (ع) وما تعاوره من الأطوار والتقلبات والحوادث المنافية لمقام
الألوهية ، ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم ثانيا ، ثم لما رأى عنادهم ولجاجهم
دعاهم الى المباهلة التي كانت معهودة ورائجة في مقام الخصومات والشبهات كما في
القرعة وغيرها فخافوا منها حين حذّرهم أسقفهم مباشرتها فانقادوا بعض الانقياد ، ثم
عاد النبي (ص) عليهم بالإرشاد وسلك الطريق الأسهل ، ودعاهم الى ما وافق عليه عيسى (ع)
وإنجيله وسائر الأنبياء (ع) من قبله ، وأشهدهم بأنه وقومه مسلمون
منقادون لله فيما
أمر ونهى من التوحيد ونفي الشريك ، لا يعبدون إلا الله الواحد الأحد الذي لم يلد
ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، ولا يقولون بالشريك ، ولا بالتثليث كالأب والأبن
والروح القدس ولا بالحلول والاتحاد ولا بشيء يتعارض مع توحيده تعالى وجعل العبادة
خالصة له.
٦٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ : لِمَ تُحَاجُّونَ
..) سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه اجتمع أحبار اليهود
والنصارى عند رسول الله (ص) وزعم كل فريق منهم أن إبراهيم عليهالسلام كان على دينهم ، وانه كان منهم. وقد تنازعوا في ذلك عنده صلىاللهعليهوآله. وجعلوه حكما بينهم فنزلت هذه الشريفة وقال بعدها (ص): إن
اليهودية حدثت بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل. وبين إبراهيم
وموسى عليهماالسلام ألف سنة ، وبينه وبين عيسى عليهماالسلام ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث الا بعد عهده
بأزمنة كثيرة ..
فيا أهل التوراة
ويا أهل الإنجيل (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي
إِبْراهِيمَ) وتتجادلون في أمر نسبته الى اليهودية أو الى النصرانية (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ
وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) بعشرات وعشرات القرون (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ولا تتفكرون فيما تقولون من الجدل غير العقلائي؟
٦٦ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ..) كلمة : ها ، للتنبيه. وقوله : أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبره.
والمعنى أنكم أنتم بذاتكم (حاجَجْتُمْ) أي جادلتم. والجملة مبينة للأولى ، وهي تعني أنكم أيها
الحمقى قد ظهرت حماقتكم وبان جهلكم بعد أن جادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ) مما في التوراة والإنجيل من الدعاوي الفاسدة لإثبات ألوهية
عزير وعيسى (ع) التي أظهرنا بطلانها (فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) فكيف تجادلون في أشياء تظهر جهلكم بحقيقتها .. وهذا تعريض
بالطرفين وتقريع لهما ، لأن الكل ليسوا على ملة إبراهيم عليهالسلام ، ولا هو منهم ولا هم منه (وَاللهُ يَعْلَمُ) حقيقة ذلك وبطلان زعمكم (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) استحالة إقراركم على
هذا الزعم الخاطئ
وهذه الدعوى الباطلة.
٦٧ ـ (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا
نَصْرانِيًّا ..) نفى كون إبراهيم (ع) من هؤلاء أو من هؤلاء ، وبذلك كذّب
الله اليهود والنصارى ، ونزّه نبيه وبرّأه من عقيدتيهما .. بل ذلك يدل على أن موسى
عليهالسلام لم يكن يهوديا ، ولا كان عيسى عليهالسلام نصرانيا لأن الملّتين محرّفتان ، ولأن الدين عند الله
الإسلام أي الاعتراف بالوحدانية لله والتسليم له في الأوامر والنواهي. فليس
إبراهيم (ع) منهم جميعا (وَلكِنْ كانَ
حَنِيفاً) أي مائلا عن الأديان كلها الى دين الإسلام ، مستقيما في
دينه (مُسْلِماً) في عقيدته (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون مع الله إلها آخر. وقيل إن هذا يتضمن كون
اليهودية والنصرانية شركا ، وإبراهيم (ع) حنيف مسلم ، وهم الهوا عزيرا والمسيح (ع).
٦٨ ـ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ
..) أي أحق الناس به وهو من ولي يلي وليا ، أي قرب ، فهم أخص
الناس به وأقربهم منه وأولى بالانتصار به والانتساب اليه : (لَلَّذِينَاتَّبَعُوهُ) المؤمنون بنبوته في زمانه ، المتولّون له بالنصرة على عدوه
(وَهذَا النَّبِيُّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) يتولون نصرته بالحجة لما كان عليه من الحق ، وهم الذين يحق
لهم أن يقولوا : نحن على دين إبراهيم ولهم ولايته (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ) لأنه يتولى نصرتهم. وإنما أفرد الله تعالى النبي بالذكر ،
تعظيما لأمره ورفعا لقدره. وفي هذا دليل على أن الولاية تثبت بالدين لا بالنسب ، وقد
قال أمير المؤمنين عليهالسلام : إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به.
٦٩ ـ (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
..) أي تمنّى جماعة منهم وأحبّوا (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) يضيعونكم عن طريق الحق. وكلمة : لو ، بمعنى : أن. والطائفة
هم اليهود الذين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا الى الدخول في اليهودية. والاستقبال في
الإضلال إنما جاء بالنسبة الى التمني لا الخطاب. (وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي وما يلحق وبال إضلالهم إلا بهم ، لأنه
سيضاعف بهذا
التمني عذابهم (وَما يَشْعُرُونَ) لا يحسون ولا يفطنون الى عودة الضرر عليهم ولا يدركون ذلك
إلا حين يدركهم الموت وتقول نفس يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله ..
* * *
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
يا
أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٧١)
٧٠ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ ..) أي كيف تنكرون آيات الله التي نزلت في الكتابين بنعوت محمد
(ص) ووصفاته التي نطق بها كلّ من التوراة والإنجيل ، والتي هي كلها وبعينها تطابق
ما فيه من نعوت كريمة وصفات سامية؟ .. فلم تكفرون بذلك وتنكرون نبوته وتجحدونها (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) وترون ذلك بأعينكم وتعرفون أن دلالتها عليه كدلالة الشمس
على النهار في الوضوح؟ .. والكفر هو ستر الحق وكتمانه. والمراد هنا هو كتمان نبوّة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ ..) أي لم تخلطون وتمزجون الحق بغيره من ضده بالتحريف لما في
كتبكم .. فتجعلون الباطل لباسا للحق ، وتغطونه به محاولة لحجبه ومخادعة في أمره
وتمويها (وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَ) تسترونه ، وهو نبوة محمد (ص) المذكورة في توراتكم وانجيلكم
(وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) وتعرفون أن ذلك حق لا ريب فيه بعد تطبيق الصفات على
الموصوف؟ ..
* * *
(وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا
إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى
أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٧٤)
٧٢ ـ (وَقالَتْ طائِفَةٌ ..) والظاهر أن هؤلاء من اليهود ، قالوا لبعض أفراد عشيرتهم
وقومهم ، تعليما لهم على مخادعة المؤمنين ومحاولة إضلالهم عن الحق : (آمِنُوا) أي تظاهروا بالايمان صورة (بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) من الآيات ، وافعلوا ذلك رياء (وَجْهَ النَّهارِ) أي أوله (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ثم صارحوا المؤمنين بالكفر والارتداد في آخر ذلك النهار ،
فلعل هذه الخدعة تجرّ بعض المسلمين الى التشكيك في دينهم ظنا منهم بأن إيمانكم في
أول النهار اختيارا ، ورجوعكم في آخره من غير إكراه ، لا بد أنه يكشف عن خلل ظهر
لكم في دين الإسلام (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ) ويعودون عن التمسك بدينهم بطريقة مخادعتكم لهم. ونحن
يكفينا أن نزرع بذور الشك في نفوسهم لنصرفهم عن بذل الأنفس والأموال بسبيله كما هي
حالهم الآن. وقد ردّ الله عليهم مخاطبا المؤمنين :
٧٣ ـ (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ ..) هذه الآية الكريمة بنظري من أولها الى آخرها لله تعالى.
وحاصلها لا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وكان عليه وهو دين الإسلام.
ويا محمد ((قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى
اللهِ) ومن هذه الله فلا مضل له. ولا تصدقوا (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما
أُوتِيتُمْ) من الدين الحنيف ، فلا نبي بعد نبيكم ولا شريعة بعد
شريعتكم الى يوم القيامة. وإن كنتم على غير ذلك يستخفون بكم وبدينكم (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ويستهزؤن بكم ويجادلونكم في كفركم بين يدي ربكم لأن اليهود
قالوا : إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا ، فبيّن سبحانه أنهم هم الداحضة
حجتهم ، وهم المغلوبون ، والمؤمنون هم الغالبون لأن هداهم من الله جل وعلا.
(قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) قيل يريد به النبوة ، وقيل الحجج التي أوتيها محمد (ص) ومن
معه ، وقيل هي نعم الدين والدنيا. وبيد الله : أي في ملكه وهو القادر عليه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي يعطيه من يريد. وفي هذا دلالة على أن النبوّة والامامة
معلقتان بالمشيئة (وَاللهُ واسِعٌ) الرحمة والجود ، وواسع المقدور لأنه يفعل ما يشاء ، وهو (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق ، وهو يعلم حيث يجعل رسالته و (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعطي رحمته وجوده لمن أراد من المستحقين ويضع رحمته في
محلها ، وحسب اقتضاء مشيئته ، وفضله أعظم الفضل وأجلّ الفضل والكرم .. وفي هذه
الآيات معجزة عظيمة لنبيّنا (ص) إذ فيها إخبار عما في سراء الأعداء التي لا يعلمها
إلا رب السماء.
وقيل أيضا : إن
الآية بلسان حال اليهود المخادعين الذين أمروا بعض أفراد عشيرتهم ، وقالوا لهم :
آمنوا أول النهار واكفروا آخره ، (وَلا تُؤْمِنُوا) أي لا تسلّموا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ) وكان على اليهودية ، ولا تصدقوا بأن أحدا يؤتى مثل ما
أوتيتم من العلم والحكمة والبيان والحجة ، ولا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم ،
لأنكم أصحّ دينا منهم حين يحاجّوكم عند ربكم .. ثم قيل : إنها منذ : قل إن الهدى
هدى الله .. إلخ .. هو من كلام الله تعالى ، جوابا لليهود وردا عليهم .. أي أن
جملة : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، هي من تمام كلام اليهود. والله تعالى أعلم.
٧٤ ـ (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ..) هذه الآية الموعودة التي قلناها سابقا. وهي تدل على ما
استفدناه من أن آية المشيئة هي في مقام تشخيص النبي (ص) وهذا هو المعلق على
المشيئة لا مسألة الاستحقاق. ولعل المراد بالرحمة هو النبوة هنا ، لأنها أعلى وأجل
أفراد الرحمة ، ولذا قال تعالى عن النبي : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). وبما أن في هذه الآية والتي سبقتها كشفا لاسرار المعاندين
المكايدين ، فهي إذا من إعجاز النبي الذي رفع عنه مكائد القوم حين فضحهم في مكرهم
وأحبط تخطيطهم ، والذي يثبّت المؤمنين على عقيدتهم ويزيد من إيمانهم بدينهم
وبرسولهم (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وهو صاحب النعم كثيرها وقليلها. ويحتمل أن يراد بالفضل هنا
النبوة إذ لا شيء أعظم منها ، وقد اختص بها خيرة خلقه محمدا (ص) وهو على كل حال
صاحب كل فضل ومعطيه ومفيضه.
* * *
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ
لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧٧)
٧٥ ـ (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ..) كلمة : من ، للتبعيض ، أي أن أهل الكتاب فيهم (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي إذا استأمنته على القنطار يرجعه لأنه أمانة. وقيل إن
القنطار هو ملء مسك الثور ذهبا كما هو المروي عن الامام الباقر عليهالسلام. وقيل هو ألف ومائتا أوقية. وفي رواية أنه ألف أوقية ، وفي
غيرها ألف ومائتا درهم. والقول الأول هو الحق بظاهر المروي عن الباقر عليهالسلام كليهما. وعليه جماعة من الشيعة والسنة. وعن ابن عباس قال :
يعني بقوله : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) : عبد الله ابن سلام ، أودعه رجل ألفا ومائتا أوقية من ذهب
فأدى اليه ذلك. ويعني بقوله : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) : هو فنخاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش دينارا
فخانه. وقيل : إن المأمونين على الكثير هم النصارى لغلبة الأمانة فيهم ، والخائنون
على القليل هم اليهود لغلبة الخيانة فيهم ..
فالحاصل أن من
هؤلاء أو هؤلاء من لا يؤدي لك الدينار الواحد (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) أي منتبها لأمرك ، تقوم على رأسه وتطالبه بالعنف والقوة
والحجة. وهذا كناية عن الإلحاح الذي يزعجه ويضطره الى الأداء ولو بالإجبار (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا) أي أن خيانتهم للأمانة بسبب قولهم (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) قيل إنهم أرادوا بالأميين من ليس من أهل دينهم. والحق أن
أكثر العرب كانوا يومئذ أميين لا يقرءون ولا يكتبون. ويمكن أن يكونوا قد أرادوا
أتباع الرسول الأميّ صلىاللهعليهوآله.
وحاصل معنى
الكريمة أن اليهود كانوا يزعمون أن ليس لغيرهم سبيل ولا حق بالحكم عليهم بردّ
الأمانة وحرمة الخيانة ، لأن عقيدتهم السخيفة أن كل ما يفعلونه هو حق ثابت وطريق
الى الواقع (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) بما يدّعونه من العقيدة الفاسدة التي ليست من الدين (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيما يزعمون ، إذ يعرفون بحكم العقل ومما
يقرءونه من باقي شريعتهم النازلة المثبتة في التوراة أن الأمانة يجب ردّها ، وأن
جحدها خيانة وخطيئة وإثم.
٧٦ ـ (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ..) كلمة : بلى ، إثبات لما نفوه. أي أنه
عليهم في الأميين
سبيل ، وهم مسئولون عن أداء الأمانة وعن الوفاء بالعهد. ومن : موصول مبتدأ ،
وجزاؤه قام مقام خبره. وأوفى بمعنى وفى على ما في اللغة. وجملة : (وَاتَّقى) عطف على الصلة إشعارا بأن ملاك الأمر في أوامره تعالى ،
والترك في النواهي ، هو التقوى ، أي اتّقاء غضب الله وعقابه ، وهو ما يحصل بالأعمال
الصالحة وبالطاعات حتى يصير التقوى ، ملكة عند المتقي (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) لا يبعد أن تكون هذه الجملة في مورد العلة لقوله سبحانه :
واتقى. وبيان ذلك أن الإيفاء بالعهد والاتقاء كلاهما أمران محبوبان ، ولكن إذا قيل
أيهما أعلى وأنبل؟ يجاب : التقوى لأن الله تعالى قال مع التأكيد : إن الله يحب
المتقين ، فاختصاص التقوى بالذكر يدل على التقدم في الأهمية. هذا مضافا الى أن
الفاء لها خمسة معان أحدها السببية. والسبب يطلق على العلة كثيرا. فملاك الأمر هو
التقوى التي تفوق الوفاء وغيره من الصفات.
٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ ..) يشترون هنا بمعنى يبيعون عهدهم مع الله من الايمان بمحمد صلىاللهعليهوآله بعد وضوح الدلالة عليه والوفاء بالأمانات والتقوى (وَأَيْمانِهِمْ) أي يبيعون ما حلفوا به وأقسموا عليه من قولهم : والله
لنؤمنن به ولننصرنّه ، وقد استبدلوا ذلك ليقبضوا (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عوضا نزرا هو عرض الدنيا ، وقد سماه قليلا لأنه كذلك
بجنب ما يفوتهم من الثواب الجزيل ويحصل لهم من العقاب الكثير (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ) إشارة الى من باعوا آخرتهم بدنيا فانية ورئاسة زائلة ،
فهؤلاء لا حظّ لهم وافرا (فِي الْآخِرَةِ) وقد نكر لفظة : خلاق ، لنفي الحظ مطلقا (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) حتى في مقام المحاسبة فإنه يكل أمرهم الى ملائكة العذاب
ويكشف لهم سبحانه عن جميع سرائر الكفار كما لو كان تعالى هو المحاسب ، وهو جلّ
وعلا قد يكشف وقد لا يكشف في بعض الحالات لطفا منه وكرما ، أما هؤلاء الخبثاء فلا
تشملهم رحمته في الآخرة إذ لا يكلّمهم (وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ) بعين عفوه (يَوْمَ الْقِيامَةِ). وهذه الجملة وما قبلها تكنيان عن غاية سخط الله عليهم
لأن من غضبه على
الشخص أن يعرض عنه بوجهه الكريم. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليهالسلام : يعني لا يصيبهم بخير ، قال : وقد تقول العرب : والله ما
ينظر إلينا فلان ، وإنما يعنون بذلك أنه لا يصيبهم بخير. (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يعفو عنهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع ، على ما فعلوه. نزلت في أحبار كتموا أمر محمد صلىاللهعليهوآله وحرّفوا التوراة لئلا يظهر أمر النبوة والرسالة وشددوا في
الكتمان حتى لا يفشوا أمرهم فيفتضحون ويذهب ريحهم وتفلت الرئاسة الدنيوية من
أيديهم مع ما فيها من رشى وفوائد مادية.
* * *
(وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))
٧٨ ـ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً ..) أي من أحبار اليهود ، أو من أهل الكتاب كرهبان النصارى
أيضا. فئة (يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) يحرّفون الكلم عن مواضعه ويغيّرونه ، ويعرضون عما جاء من الحق
في الكتابين من
أوصاف محمد (ص)
ويميلون الى ما كتبوا من عند أنفسهم وما أملته ميولهم الدنيئة وطبائعهم السخيفة
للإبقاء على رئاساتهم وجلب قلوب الناس الى أنفسهم. والليّ هو الفتل ، وكما أن
الإنسان يفتل الحبل كيف يشاء كمّا وكيفا فكذلك هؤلاء الفسقة يحرّفون ما شاؤا كما
يريدون بلا خوف من الله تعالى وبلا عقيدة بيوم الجزاء. والفرق بين الفريق والفرقة
أن الأول هو الطائفة والجماعة من الناس ، والفرقة هي المجموعة الصغيرة .. فهؤلاء
المحرّفون يتلون ما حرفوا من كتابهم (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتابِ) أي لتظنوا أن النص الذي يتلونه منزلا وجزءا من الكتاب
المقدس. وقد قال تعالى : لتحسبوه ولم يقل : لتزعموه ، للفرق بين اللفظتين ، فإن :
زعم يحتمل في معناها الظن أو اليقين. أما حسب فلا يحتمل معه اليقين أبدا. (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) والحال أنه ليس منه بل هو القول المزوّر (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) اختلافا وافتراء. وهذا يكشف عن عدم تدينهم لا بالموسوية
ولا بالعيسوية ولا بما قبلهما ولا بما بعدهما من الرسالات السماوية الشريفة بل هم
في ضلالهم يعمهون ، إذ من المستحيل على من يعتقد بالله ويؤمن به وبرسله أن تكون
عنده هذه الجرأة في الكذب عليه وعلى رسله ، ثم يدّعون أنه منزل من عند الله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل افتروه عليه. وفي هذه الجملة كما في سابقتها رد عليهم
وتسفيه لزعمهم ، وتأكيد لقوله جلّ وعلا : (وَما هُوَ مِنَ
الْكِتابِ) ، وقوله تعالى : (وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ). وإتيان الظاهر مكان الضمير لمشاكلة الرد للمردود ومجانسته
، وهذا يعد من الفصاحة عند العرب. (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يكذبون عليه وهم عالمون بكذبهم. والجملة ناطقة بزيادة
التشنيع عليهم بتعمّدهم الكذب عليه سبحانه. فهو يخبر بحالهم ومقالهم ، ويكشف
افتراءهم وكذبهم عن علم بالكذب عليه تعالى ، ولذلك فسيكون عقابهم أشد عقاب.
٧٩ ـ (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ
..) أي ما من أحد يرسله الله تعالى هاديا لعباده الى الحق ،
ويعطيه (الْكِتابَ) أي علم التشريع لملّته ودستور
شريعته (وَالْحُكْمَ) أي الكلام الموافق للحق والصواب ، وقد يعبّر عنه بالحكمة (وَالنُّبُوَّةَ) ثم يجعله نبيا ذا رسالة ودعوة للإرشاد الى الحقائق (ثُمَ) أي بعد ذلك الأنعام كله (يَقُولَ لِلنَّاسِ :
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي أقصدوني بالعبادة وذلك يغنيكم عن عبادة الله .. وهذا
تكذيب لعبدة نبي الله عيسى عليهالسلام. وقد قيل إن أبا رافع القرضي ورئيس وفد نجران قالا : يا
محمد ، تريد أن نعبدك ونتخذك ربا ..؟ قال : معاذ الله أن نعبد غير الله ، وأن نأمر
بعبادة غيره تعالى. ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني. نعم أكرموا نبيكم ، واعرفوا
الحق لأهله .. فالنبي لا يقول للناس اعبدوني من دون الله (وَلكِنْ) بل يقول : (كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ) أي اعملوا أعمالا تقرّبكم الى الله عزوجل ، فتضافوا إليه سبحانه قهرا وتصبحوا ربانيي هذه الأمة ، أي
الكاملين في العلم والعمل .. وفي القمي : أن عيسى (ع) لم يقل للناس إني خلقتكم
وكونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن قال لهم : كونوا ربانيين ، أي علماء ، بما شرع
الرب لعباده. وبهذه الآية الشريفة نزّه الله تعالى أنبياءه عما أضافه لهم اليهود
مما يتدينون به باطلا ، إذ لا ينبغي لبشر أعطاه الله هذه النعم الجزيلة وشرّفه
بهذه المرتبة الجليلة ثم يدعو لعبادة نفسه والخضوع له منفردا أو مع الله تعالى.
فالنفي هنا تنزيهي لا مولوي .. (بِما كُنْتُمْ
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي لأنكم معلمون للكتاب ودارسون له. وقرئ : تعلمون
بالتخفيف ، ولكن قراءة التشديد أفيد وأبلغ لأنه يدل على أنهم كانوا يعلمون
ويعلّمون غيرهم ، بينما التخفيف لا يفيد أكثر من كونهم عالمين ما درسوه. والآية
المباركة تدل على سمّو مقام العلم الديني ودراسته وتدريسه فإن من يشتغل بتعليمه
لغيره يعد من الربانيين.
وفي العيون عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : لا ترفعوني فوق حقي ، فإن الله تعالى اتخذني عبدا
قبل أن يتخذني نبيا ، ثم تلا هذه الآية. وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال :
يهلك فيّ اثنان ولا ذنب
لي : محب مفرط ،
ومبغض مفرط. وإنّا لبرءاء الى الله تعالى ممن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدّنا كبراءة
عيسى من النصارى.
٨٠ ـ (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ..) عطف على : يقول للناس في الآية السابقة ، وهو منفي بمفاد :
ما كان. أي ما كان لبشر يبعثه الله نبيا للناس ، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، ولا
يأمركم أيها الناس بجعل (الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) تعبدونهم وتتخذونهم آلهة كما هو عمل الصابئين الذين منهم
قوم يعبدون الملائكة ، وقوم يعبدون النجوم ، كما أن النصارى يقولون بألوهية عيسى (ع)
.. هذا على قراءة نصب الراء في : يأمركم. وأما بناء على الرفع فالجملة تكون
مستأنفة ومفادها واضح. (أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ)) هذا اعتراض عليهم لأن الأمر باتخاذ الملائكة والنبيين
أربابا هو أمر بالشرك ، وأمر بالكفر بالله عز اسمه. فهل يجوز على النبي أن يأمركم
بذلك (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) والاستفهام إنكاري والخطاب للناس المسلمين في كل زمان
بمقتضى شريعة كل زمان. وهذا يعني أن الأنبياء ساحتهم منزّهة عن الأمر بذلك لأنهم
لا يصدر عنهم شيء يحيله العقل عادة ولا يقبله العاقل.
* * *
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
أَفَغَيْرَ
دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ
مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))
٨١ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ ..) هذه الآية الشريفة كالآيات السابقة موجهة الى اليهود
والنصارى الموجودين في عصر خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله باعتبار كونهم من أهل الكتاب. وهي تنّبههم الى أنه كما
كانت الأمم السابقة مأخوذة بالعهد والميثاق على العمل بما أعطاهم الله من كتاب
وحكمة أنزلت على أنبيائهم في كل عصر وزمان ، وعلى الإقرار بنبوة خاتم النبيين (ص)
والايمان به والتصديق بكتابه المنزل عليه ، فكذلك ينبغي لليهود والنصارى في زمن
نبيّنا محمد (ص) أن يكونوا من الأمم الموعودة به ، المعترفة بنبوته ، الآخذة بعهد
الله وميثاقه للايمان به وبشريعته عند معرفته. ذلك الميثاق الأزلي التي صدّقت به
الأمم السابقة أنبياءها ، لأن الأمم المعاصرة للنبي (ص) مأخوذة بالعهد ولا بد لها
من الاعتراف بالنبي وقرآنه لأنه مصدّق لما بين يديه ، ومن ذلك كتابا موسى وعيسى عليهماالسلام ، وعدم مخالفته (ص) لهما موجب لتصديقه وموافقته وعدم
معاداته .. فقوله تعالى : (إِذْ) أي اذكر أو اذكروا يوم (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ) أي العهد على أمم النبيين على ما فسّره الصادقعليهالسلام. ففي التبيان روي عنه (ع) أنه قال : تقديره : وإذ أخذ الله
ميثاق أمم النبيين بتصديق نبيها. فقوله تعالى من قبيل : إياك أعني واسمعي
يا جارة. (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ
وَحِكْمَةٍ) قرئ بكسر اللام : لما ، ومعناه : لأجل ما آتيتكم. وما :
مصدرية ، أي لأجل إيتائي إياكم الكتاب والحكمة (ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) يعني : ثم لمجيء رسول مصدق لما بين أيديكم من كتب أنبيائكم
، وهذا يفرض عليكم تصديقه تصديقا لأنبيائكم بالذات ، (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) واللام للتأكيد في وجوب الايمان به وفي نصرته والتدين
بدينه وشريعته التي تنسخ الشرائع السابقة ، لأنها أتمّ الشرائع وأكملها ، ولذا لا
يحتاج الناس بعده الى رسول ، ولا الى شريعة حتى قيام الساعة ، إذ في كتابه تبيان
كل شيء لأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وفيه جميع الأحكام التي يحتاج
إليها الإنسان في أمور دنياه وآخرته بشرط أن يكون المفسّر له والمبين من أهل البيت
الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وأهل البيت أدرى بالذي فيه. وهما أحد
الثقلين : الكتاب والعترة ، ولن يفترقا حتى ورود الحوض على النبي (ص) في يوم
النشور. أما الجهة في ضمّ أهل البيت الى القرآن فهي لأن بيان حقائقه لا يتيسر
لغيرهم ولا يمكن إلا بهم ، ولذا لما سدّ بعض المسلمين باب الاجتهاد الذي هو الطريق
لحصحصة الحق ، هلكوا وأهلكوا الناس الى يوم الدين ، وحملوا وزر ما فعلوه الى يوم
ينفخ في الصور .. وقد ذكر سبحانه كيفية أخذ ذلك الميثاق على الأمم وقال : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى
ذلِكُمْ إِصْرِي) يعني هل اعترفتم وقبلتم عهدي وميثاقي عليكم بالاستماع الى
ما يأمركم به أنبياؤكم بعد أن تؤمنوا بهم وبكتبهم وبما جاؤوا به من عند ربهم ، وأن
تؤمنوا بمحمد (ص) إذ أدركتموه ، وأن تنصروه إذا استنصركم؟ .. وهل ارتبطتم بما
أخذتم من إصري ، أي عهدي الشديد المعقود عليكم؟ .. (قالُوا : أَقْرَرْنا) أي الأنبياء وأممهم أجابوا بالاعتراف ، على بعض الأقوال. وفي
المجمع عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على أممكم. قالوا ؛ أي
الأنبياء وأممهم ؛ أقررنا .. إلخ .. فهذه الرواية تدل على أن الخطاب للأنبياء
والأمم ذيلا لا صدرا (قالَ) الله سبحانه : (فَاشْهَدُوا ،
وَأَنَا
مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي الحاضرين الناظرين لأخذ العهد المقرّين به. فليشهد
بعضكم على بعض كيلا ينكر أحد في دار الدنيا هذا الإقرار الذي اعترفتم به في عالم
الذر. وأنا أشهد عليكم جميعا به. ولكن .. مع الأسف قد نسي الكثيرون هذا العهد ،
وأنكروا نبّوة محمد (ص) ونسبوه الى الجنون وحاربوه وآذوه أشد إيذاء بالرغم من أن
ذات الله المقدسة كانت شاهدة عليهم حين أخذ الإقرار بالعهد في حضرة أنبيائهم
ورسلهم.
والحاصل أن الخطاب
في الآية الشريفة مع الأمم ، أما بواسطة أنبيائهم كما هو ظاهر بعض الروايات ، أو
بلا واسطة كما بيّناه ، والعلم عند الله. والآية بالفعل من معضلات الآيات من حيث
تركيبها ، ومن حيث صعوبة ما يستفاد منها وما يراد وقد قال سعيد بن المسيب : هذه
الآية من مشكلات آيات القرآن ، وقد غاص النحويون في وجوه إعرابها وتحقيقها ، وشقوا
الشعرة في تدقيقها ، ولا نراها في موضع أوجز لفظا وأكثر فائدة منها.
٨٢ ـ (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ ..) أي أعرض وأدبر عن الايمان بنبي زمانه وبكتابه ، وعن
الايمان بمحمد (ص) لو أدركه (بَعْدَ ذلِكَ) بعد أخذ الميثاق الذي أقررتم به بين يدي الله تعالى وبين
يدي أنبيائكم فمن فعل ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) الخارجون عن دائرة الايمان وحوزة الطاعة ووظائف العبودية
... وهذا في حد الكفر ، وفيه تحذير بليغ لأنه تكفير بلسان الكناية إذ المتمرد كافر
أو مشرك.
٨٣ ـ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ ..) يعني : أتطلبون دينا أحسن من دين الله وأنفع لكم وهو يجمع
لكم خير الدنيا والآخرة؟ .. والاستفهام إنكاري ، أي لا يحصل ، بل لا يوجد لكم دين
كدينه سبحانه. وقد قدم المفعول به لتوجه الإنكار اليه. ويستفاد من هذا الإنكار
التسفيه لهم والتوبيخ والمقت. وقد قرأ أبو عمرو وحفص بلفظ الغيبة. أما الباقون فقرءوا
بتاء الخطاب على تقدير : قل لهم ، أتريدون غير دين الله (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) وهذا الإسلام محمول على عالم الذر عند أخذ
الميثاق ، لأنهم
في ذلك الوقت استسلموا وقبل بعضهم الإسلام رغبة ، وبعضهم الآخر شق عليهم القبول
ومع ذلك أظهروه. والطّوع : هو الاختيار ، يعني أسلموا مختارين راغبين. والكره : هو
المشقة والكره : القهر. ومن الوجوه التي حملت عليها هذه الآية أنها تعني عصر
الامام الحجة من آل محمد عجل الله تعالى فرجه ، لأنه في غير ذلك الزمان لا يجتمع
أهل السماوات والأرض ، من الجن والإنس ، على الإسلام ولو كرها. ففي ذلك العصر يحصل
مصداق هذه الكريمة طوعا من المؤمنين ، وكرها من سائر فرق المعاندين خوفا من سيفه
وسطوته عليهالسلام. فما من قرية في قرى الأرض إلّا وينادى فيها بشهادة أن لا
إله إلا الله بكرة وعشيا ، وما من أحد في البر أو البحر إلا ويرى عدله مبسوطا
وتجري عليه أحكام الإسلام راضيا من تلقاء نفسه ، أو راضيا مرغما أولا ثم راضيا بعد
رؤية العدل في الرعية والحكم بالسويّة يوم يظهر الله الدين على كل دين ولو كره
الكافرون .. (وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ) في آخر الأمر وتردّون جميعا الى الله تعالى للحساب والثواب
أو العقاب.
والآية بمجملها
تهديد لأهل الكتاب وترغيب لهم في الدين الذي هو دين الله تبارك وتعالى.
٨٤ ـ (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ ..) الخطاب للنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أمره الله تعالى بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بأنهم آمنوا بالله
وصدّقوه. أو أنه إخبار عن نفسه جاء بصيغة التعظيم ، كما يفعل الملوك في مخاطباتهم
، وذلك إجلالا من الله سبحانه لشأن نبيه (ص) كما أنه سبحانه يتكلم عن ذاته القدسية
هكذا .. فقل يا محمد : آمنا بالله (وَما أُنْزِلَ
عَلَيْنا ، وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) وهذا الإخبار عن الرسول الأكرم مشّوق ومرغّب للبشر بأجمعهم
حين يتفهمونه ويكونون من أهل الدقة والنظر .. وبيان ذلك أنه صلىاللهعليهوآله إذا آمن بما انزل عليه وعلى الأنبياء والرسل من قبله مع
جلالة شأنه وسموّ مقامه فغيره ، بالأولى ،
ينبغي أن يؤمن به
وبهم صلوات الله عليهم أجمعين لأن اتخاذه (ص) أسوة خير طريق للنجاة في الدنيا
والآخرة ... فالنبي (ص) والمؤمنون به يقولون بالنسبة لجميع الأنبياء صلوات الله عليهم
: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي أننا نصدق بالكل ونقدس الكل ، ولا نصدّق بعضا ونكذب
بعضا آخر إذ ليس هذا شأننا ولا هو من أطماعنا في سبيل طلب رئاسة الكافرين
والجاحدين الذين يناوئون رسل الله ، بل نحن مسلمون لله تعالى ، مطيعون له ، راضون
مسلّمون لأمره ومصدقون لرسله.
٨٥ ـ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً ..) أي من يرغب في غير الانقياد والتسليم له تعالى بتوحيده
وامتثال أوامره ، ويطلب ويريد غير الإسلام دينا ومعتقدا (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلا يرضى الله منه ذلك ولو بقي على اليهودية أو النصرانية
بعد ظهور الإسلام الذي نسخ ما قبله من شرائع ولا يقبل الله له عملا في الدنيا (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وفي يوم القيامة يبوء بالخسران ولا ينفعه عمله ، بل يكون
وبالّا عليه لأنه يؤدي به الى النار وغضب الجبّار ...
* * *
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))
٨٦ ـ (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمانِهِمْ ..) أي كيف يدلّ سبحانه ويرشد بلطفه ، ويوصل بتوفيقه الى الحق
جماعة ارتدّوا عن الايمان الى الكفر ، وفعلوا ذلك بعد أن كانوا آمنوا (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) واعترفوا به وبرسالته (وَجاءَهُمُ
الْبَيِّناتُ) والدلالات الواضحة على صدق نبوته وصحة رسالته ، ثم عادوا
الى الكفر بعد إقامة الحجج عليهم وبعد إيمانهم؟ .. وجملة : وشهدوا معطوفة على فعل
مقدّر يدل عليه مصدره ، أي بعد أن آمنوا وشهدوا .. فكيف يلطف بهم مع علمه تعالى
بتصميمهم على الكفر ولو بقوا في الدنيا الى الأبد ، لأنهم تركوا الحق بعد وضوحه ،
وسلكوا نهج الباطل تمردا وعنادا لله جل وعلا ، فأسقطوا أنفسهم عن أهليّة ألطافه
وإيصالهم الى الهدى والرشاد؟ .. وقد ظلموا أنفسهم بعودتهم الى الكفر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) فلا تشمل هدايته المتمردين على نواميسه جل وعلا ، ولا
الظالمين لأنفسهم ولغيرهم ممن صدوهم عن سبيل الحق ..
٨٧ ـ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ ..) أي الذين كفروا يكون حظهم ونصيبهم وعقابهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) أي طردهم عن رحمته وخزيهم من قبله (وَالْمَلائِكَةِ) أيضا يدعون الله بإبعاد أولئك الكفرة عن رحمته ودار رضوانه
، وبسلب التوفيق عنهم (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) كذلك يلعنونهم ويطلبون الى الله تعالى أن يضاعف عليهم
العذاب في الدنيا والآخرة. والتمسك بمفهومه في منع لعن غيرهم في غاية الضعف ، لأنه
لا ملازمة بين إثبات شيء لشيء ونفيه عن آخر بلا قرينة تدل على الملازمة.
٨٨ ـ (خالِدِينَ فِيها ..) أي في اللعنة والطرد من الرحمة والعقوبات التي استحقوها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) كناية ثانية تدل على خلودهم في العذاب ، وهي أنه لا تنالهم
رحمة أبدا (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون يوم القيامة عن العذاب الأليم ولا ينظر
بشأنهم ولا يفتّر عنهم.
٨٩ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ..) أي امتنعوا وأقلعوا عما عملوه من المفاسد ،
وندموا على ذلك
قولا وفعلا (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الارتداد والكفر والذنب العظيم (وَأَصْلَحُوا) واصطلحت نياتهم ونفوسهم وصلحت أعمالهم وجاؤا بما يدل على
صلاحهم وإصلاح ما كان قد فسد منهم وبقي قابلا للإصلاح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لأنه غفور رحيم. وقد أقيمت العلة في التفريع مقام
المعلول تأكيدا ، أي أنه يغفر ذنوب كل من له الأهلية والصلاح لغفرانه ورحمته
وتجاوزه سبحانه وتعالى. وقيل إن هذه الآيات نزلت في حارث بن سويد ، وهو رجل من
الأنصار كان قد قتل المحذر بن زياد غدرا وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة. ثم ندم
فأرسل الى قومه أن اسألوا رسول الله صلىاللهعليهوآله هل لي من توبة؟ .. فسألوا ، فنزلت الآيات الكريمة ، فحملها
رجل من قومه اليه ، فقال : إني لأعلم أنك لصدوق ، وإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أصدق منك ، وإن الله تعالى أصدق الثلاثة. ورجع الى المدينة
وتاب وحسن إسلامه. ولكن هذه الرواية غير مسندة ، بل لقد اختلفت الروايات في هذا
الموضوع وتدافعت ، وليس هنا محل تمحيصها بل نردّ علمها الى أهلها ، والآيات
الكريمات تنطق بقبول التوبة النصوح وإنابة المنيب سواء أنزلت بعنوان خاص أم بعنوان
عام.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ
ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٩١))
٩٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمانِهِمْ ..) أي ارتدوا ولحقوا بالكفرة بعد
أن كانوا مظهرين
للايمان بالله ، والتصديق بنبيه وكتابه (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) كاليهود الذين كفروا بعيسى (ع) بعد إيمانهم بموسى (ع) ثم
ازدادوا كفرا حين كفروا بمحمد (ص) أو بعد إيمانهم به قبل بعثته ثم كفرهم بعدها ،
وإصرارهم على العناد ، وطعنهم فيه وصدهم غيرهم عن الايمان به ، وتكذيب رسالته
وإنكار كتابه وما جاء به من عند ربه. فهؤلاء (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) إما لكونها ليست عن إخلاص ، وإما لأنها لا تكون إلّا عند
المعاينة حال الموت وشدة الخوف : لا ندما على ما كان ارتدادهم وصدّهم الناس عن
الايمان به (ص) وصرفهم عنه : وازدياد كفرهم ، ولذا ترك الفاء فيه (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي الذين كانوا ضالين مدة حياتهم وقبل معاينة الموت.
٩١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا ..) أي ماتوا على كفرهم ، كما قال تعالى : (وَهُمْ كُفَّارٌ) أي كانوا كافرين حدوثا ، وماتوا في حالة الكفر بقاء ، وما
آمنوا بالله طرفة عين لأنها لم تزل ولا تزال دواعي نفوسهم الأمّارة بالسوء تبعثهم
على مداومة العناد. ونزعات الهوى عندهم تدفعهم الى القبائح وتصدهم عن الحق وعن
التفكير في الايمان بالله تعالى ، ولذا أكدّ سبحانه عدم قبول توبتهم إذ قال : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ ذَهَباً) معلقا جل وعلا عدم القبول على أمر محال ، حتى على فرض
تحقّقه فإنه لا يقبل فدية عنهم. ومثل هذا التأكيد لم يقع في الكتاب الكريم إلّا في
موارد نادرة. وقد أتى بالفاء إيذانا بأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على
الكفر. وذهبا تمييز. والتقدير : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا
(وَلَوِ افْتَدى بِهِ) وكلمة : لو وصلية مربوطة بقوله : لن يقبل. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا الذيل إقناط لهم من العفو عنهم تفضلا منه تعالى (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مساعدين على دفع العذاب ، أو معينين بالشفاعة لرفع غائلة
أهوال يوم القيامة. ولفظة : من ، زيدت للاستغراق ، أي : وما لهم ناصر من الشفعاء.
* * *
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
كُلُّ
الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى
نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ
فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(٩٤))
٩٢ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا ..) أي لن تحصلوا على السعة في المال والخير الكثير والنفع
الواصل الى الغير إلا إذا صرفتم (مِمَّا تُحِبُّونَ) أي مما هو محبوب لديكم خالصا لوجه الله تعالى. فهو سبحانه
يدل عباده على منابع النفع وتحصيل المال في العاجل بلا كلفة ولا مشقة بدنية
بإخباره أن السعة طريقها إنفاق ما هو عزيز عليهم كالمال ، وهو يضاعف ذلك عليهم من
واسع فضله لأنه جاء في الأخبار الشريفة : تاجروا مع الله بالصدقات. وقد أكدّ
سبحانه ذلك بالنفي الأبدي والحصر المولّد عنه ، وكلمة : حتى ، جاءت هنا في مكان :
إلّا أن تنفقوا. والحاصل أنكم لا تكونون أبرارا حتى تنفقوا وتبذلوا من عزيز ما في
أيديكم في وجوه البر وأعمال الخير قربة لوجهه تعالى. ويؤيد هذه الآية ، ويعضد
تأكيد الربح في المتاجرة مع الله. ما جاء في الآية السابعة من سورة الطلاق الجزء
٢٨ وهو : ومن قدر عليه رزقه أي قلّ فلينفق مما آتاه الله ، لا يكلّف الله نفسا
إلّا ما آتاها. يعني من ضيّق عليه رزقه ينبغي له أن ينفق بمقدار وجده ، وسيجعل
الله بعد عسر يسرا ، لأنه قال عزوجل : سبقت رحمتي غضبي ، أي هي غالبة عليه.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي عالم أشد العلم بما تنفقونه وتبذلونه في مجالات البر من
مالكم ومن كل ما تحبونه وهو عزيز
عليكم ، وهو
يجازيكم على ذلك ويضاعف لكم العطاء والجزاء كما وعد من أنفق من طيّبات رزقه مع
الإخلاص في النيّة.
٩٣ ـ (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا ..) أي أن أصول المطعومات على اختلافها ، أو كل ما يؤكل كان
حلالا ومباحا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي اليهود .. وذلك قبل نزول التوراة بتحريمه ومنعه (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى
نَفْسِهِ) وإسرائيل هو يعقوب النبي عليهالسلام ، الذي قيل إنه كان مبتلى بعرق النساء ، فنذر إن هو شفي أن
لا يأكل الشحوم ولحوم الإبل ، أي الطعامين اللذين كان يحبهما ، فحرمهما على نفسه.
وقيل أشارت عليه الأطباء باجتنابهما فحرّمهما بإذن الله تعالى. ولكن ملاك هذا
التحريم كان منه عليهالسلام (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) التي اشتملت على تحريم ما حرّم الله تعالى عليهم بظلمهم
لأنفسهم. وهذا تكذيب لدعوى اليهود الذين كلما حرموا شيئا أضافوا تحريمه الى الله
سبحانه. مع أنهم لم يفعلوا ذلك إلّا تقليدا لآبائهم الذين كانوا لا يأكلون بعض
أجزاء الحيوان ، وكانوا يدعّون تحريم تلك الأشياء من قديم الزمان في شرائع جميع
الأمم. والحاصل أنه تعالى يكذّبهم ويذكر أن جميع الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل
قبل نزول التوراة ، ثم بقيت حلالا بعد نزولها ؛ إلا ما حرّم يعقوب عليهالسلام على نفسه للجهات التي ذكرناها. وقد تحدّاهم سبحانه بقوله
لمحمد (ص) : (قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي جيئوا بالتوراة وأقرءوا علينا نص المحرمات فيها إذا
كنتم صادقين في ادعاءاتكم بأن التحريم فيها من جهة ، وأنه قديم من جهة ثانية. وفي
الآية الكريمة توبيخ عظيم لليهود صدر عمن يحلل ويحرّم ومن بيده الأمر والحكم
والتشريع جل وعلا. فهو سبحانه قد أمضى حكم تحريم بعض الشحوم واللحوم على إسرائيل (ع)
نفسه ، ولم يحرّم ذلك على غيره .. ولما لم يأتوا بالتوراة خوفا من ظهور كذبهم
وافتضاح أمرهم ، ظهر كذبهم وافتراؤهم على الله تعالى. ولكن قال عز اسمه :
٩٤ ـ (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ ..) أي اخترع عليه ما لم يقله وكذب
(الْكَذِبَ) العظيم ، فإن هناك فرقا بين الكذب الذي هو مطلق ضد الصدق
بينما الافتراء هو الكذب العظيم والاختراع والبهتان .. فمن فعل هذه الفرية الكبيرة
على الله (بَعْدِ ذلِكَ) يعني بعد الإلزام بالحجة التي لا مخرج لهم منها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بمكابرة الحق البيّن ، واللّجاج في الأمر الواضح.
* * *
(قُلْ صَدَقَ اللهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))
٩٥ ـ (قُلْ صَدَقَ اللهُ ..) أي الله سبحانه هو الصادق. وهذا تعريض بكذب اليهود يدل على
أنهم هم الكاذبون في ادعائهم تحريم بعض اللحوم والشحوم منذ عهد إبراهيم عليهالسلام ، وان التحريم مذكور في التوراة مع أنه غير موجود وغير
صحيح ، لذا أنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة إزراء بكذبهم ، وبيانا بأنه تعالى
هو الصادق فيما يقول فيا محمد قل : صدق الله وحسم معهم هذا الموضوع المفترى وأدعهم
بقولك : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي عودوا الى الصواب والى حنيفية إبراهيم عليهالسلام وشرعته السمحة ، وتعالوا فتدينوا بدينه الذي يشبه الدين
الاسلامي من حيث تحليل وتحريم بعض الأشياء ، ومنها اللحوم والألبان ، فإنه عليهالسلام كان
(حَنِيفاً) أي مستقيما عدلا في دينه وطريقته ومائلا عن الأديان
الباطلة الى دين الحق (وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) وبهذا برّأه الله تعالى مما ينسبه اليه اليهود والنصارى ،
ومن أنهم على حنيفيته ، أو أنه هو على دينهم كما مر في الآية (٦٧) من هذه السورة :
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا .. إلخ .. ودعوة محمد صلىاللهعليهوآله الى اتباع ملة إبراهيم عليهالسلام ، لا تعني أكثر من اتباع ما وافق من ملته شريعة الإسلام.
وقد خوطب اليهود بهذا لأنهم أظهروا ميلهم الى شريعة إبراهيم (ع) وادعّوا كونهم على
ملته إعراضا عن شريعة نبينا (ص) .. وفي الآية الكريمة مماشاة جميلة للخصم أثناء
الجدل ، لأنه سلك معهم طريقة الأمر باتباع شريعة الإسلام من خلال دعوتهم الى اتباع
شريعة إبراهيم (ع). أما إنهاؤها بأن إبراهيم (ع) ما كان من المشركين ، فهو تعريض
بأن جماعة اليهود مشركون ، ونبي الله لا يجوز أن يكون مشركا ولا كافرا بمقتضى حكم
العقل مع قطع النظر عن حكمته الأزلية.
٩٦ ـ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
..) وضع : أي بني وقرى بالبناء للفاعل : وضع ، أي جعله الله
عامرا للناس محجة ومعبدا ومنسكا أبديا في الأرض له الأولية بلحاظ أن بيت المقدس
بني بعده وجعل معبدا وقبلة لهم خاصة إن أول بيت كان لهذه الغاية (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي الكعبة أعزها الله التي في مكة المكرمة (مُبارَكاً) من لدنه تعالى منذ وجود أهل الأرض على الأرض. فأمر هذا
البيت خارج عن العادة بل هو من خوارق العادات ، وأمره سماوي لا يحيط به بياننا
لأنه البيت العظيم الذي جعله الله تعالى قبلة لخاتم النبيين وسيد المرسلين ، وجعل
خيرات الأرض الدنيوية تنقل اليه من أطراف الأرض ، ونعم الدنيا تصير اليه ،
وبركاتها تتمركز حوله وحواليه منذ دعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليهالسلام ، بل منذ وجود أبينا آدم عليهالسلام. فهو بيت مبارك في بقعة مباركة منذ دحا الله تعالى الأرض.
ففي حديث مروي عن
الامام الباقر عليهالسلام قال : إن الله سبحانه لما أراد أن يخلق الأرض أمر الأرياح
أن تهب على سطح البحار من
كل النواحي
والأطراف حتى يحصل من الأمواج الزبد كالجبل العظيم في المكان الذي البيت فيه ، ثم
دحيت سائر الأرض من تحته. ومعنى ذلك أن الأرض قد تكونت بعد ذلك المد والبسط اللذين
استمرا ما شاء الله ، وكان مكان البيت منها النقطة التي منحها الله تعالى عنايته
وبركته ، ثم جعل هذه البقعة محجة للمسلمين ، وجعل من لم يأته بعد الاستطاعة من
الكافرين ، فالحج اليه فريضة ، وهو (هُدىً لِلْعالَمِينَ) أي هاد. وقد قيل : هدئ للتأكيد كما يقال زيد عدل. وهدى
منصوب على أنه حال .. ومن بركة هذا البيت أن العرب التفت بإسماعيل حينما وضعه أبوه
إبراهيم عليهماالسلام مع أمه هاجر بأمر من الله تعالى ودلالة جبرائيل عليهالسلام وظهور ماء زمزم لهما ، فأستأذنت القبائل العربية من هاجر
أن تنزل بقربها لتؤنس وحشتها ووحشة ابنها ولوجود الماء ، فأذنت بعد نيل رضى زوجها
وإذنه ، ثم تقربت القبائل من إسماعيل عليهالسلام بعد أن بلغ سن الرشد فأرشدها ، الى دين أبيه إبراهيم عليهالسلام ، فعلّم الناس التوحيد وعبادة الله تعالى والحج والطواف ،
وشرع لهم الختان وغيره من الحنيفية الإبراهيمية الشريفة. وبقي ذلك ساريا مدة
متطاولة من الزمن الى أن بدأت الجاهلية والوثنية تمحو آثاره شيئا فشيئا حيث وصل
العرب الى ضلالهم المعهود. ويكفي مكة شرفا وبركة أن كانت مولدا لأشرف الأنبياء
المظهر لدين الحق ، الذي جعلها دار ندوة لنشر الدعوة الكريمة من مهبط الوحي ومختلف
الملائكة ، ومشرقا لأنوار القرآن الكريم ، وقبلة للناس الى يوم الدين.
٩٧ ـ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ..) أي في البيت الحرام وحرمه آيات تثبت أنه محل العبادة الحق
للإله الحق منذ الأبد الى الأزل يكفي أن نذكر منها إهلاك أصحاب الفيل وتحريم دخوله
على كل كافر ومشرك ، وكونه حرم فيه القتال ولم يرده أحد من الطواغيت بسوء إلا قصمه
الله وهدم سلطانه. وعن ابن عباس أنه قرأ : فيه آية بينة (مَقامُ إِبْراهِيمَ) فجعل المقام الشريف وحده هو الآية وقال : أثر قدميه في
المقام آية بينة. وقيل إن المشاعر كلها آيات ، أي علامات ، ومنها المقام ، وذلك
لما شرع من العبادات والمناسك المجعولة
فيها في أيام
معلومات يكون فيها ازدحام الناس تعبدا وتعظيما وإجلالا لله عزوجل. وكل ذلك يصلح لكونه دلالة جلية على عظيم منزلته وسموها ،
كيف لا وهو بيت الله الحرام الذي جعله ربه أمنا وأمانا لزائريه ونازليه والطواف لا
ينقطع فيه أبدا طيلة أيام السنة ، والطيور تنحرف عنه حين تحليقها والضواري منها
تستأنس بالناس كأنها قد ألهمت أنها في أمن الله وحرمه. كما أن من آيات الحرم عدم
نفاد حصيات الجمار التي تؤخذ من بقعة واحدة (المزدلفة) ثم انمحاق هذه الملايين
والملايين من الحصيات بعد رمي الجمار ، ولو لا ذلك ارتفعت أكواما كالجبال في كل
عام فسبحان الله الواحد الأحد ..
وعبارة : مقام
إبراهيم ، بدل تفصيلي هو وما بعده من الآيات. وهو مرفوع مبتدأ ، وخبره : منها.
وفي الكافي
والعياشي عن الصادق عليهالسلام أنه سئل : ما هذه الآيات البينات؟ قال : مقام إبراهيم حيث
قام على الحجر فأثرت فيه قدماه .. والحجر ذاك صخرة تأثرت بقدميه الشريفتين كما
يتأثر الطين الرطب ، وقيل بغوصهما فيها الى الكعبين ، وقد صرف الله عنها الأعداء
فلم يتعرضوا لها لكونها من الآثار القديمة ، بل كانوا يمنعونها من السرقة ومن
البغاة والعتاة. فهذه إحدى آيات البيت البينات الباهرات ، الخالدة رغم تطاول
القرون والأزمان.
وفي الكافي عن
الباقر عليهالسلام : كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليهالسلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية الى
المكان الذي هو فيه اليوم. فلما فتح النبي صلىاللهعليهوآله مكة رده الى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم (ع) فلم يزل
هناك حتى ولي عمر بن الخطاب ، فسأل الناس : من يعرف منكم المكان الذي كان فيه
المقام؟ فقال رجل : أنا قد أخذت قياس مكانه بحبل هو عندي. فقال : تأتيني به. فأتاه
به ، فقاسه ثم رده الى المكان الذي هو فيه اليوم.
والحجر الأسود
أيضا آية في بيت الله الحرام تدل على عظمه وكرامته ، بل هو من أظهر الآيات. ويكفي
في ذلك شهادته بإمامة علي بن الحسين عليهماالسلام يوم سأله عمه محمد بن الحنفية عن أمره لرفع ما يخالج نفسه
وليطمئن قلبه طالبا اليه علامة ترفع ما في نفسه مع جلالة قدرة التي يكفي فيها أنها
من تربية أمير المؤمنين عليهالسلام ويجوز عليه ما جاز على الأنبياء العظام من البلاءات ،
مضافا الى أن العلامة التي طلبها تشد قلوب ضعفاء الشيعة الذين مالوا الى إمامة
محمد بن الحنفية رضوان الله عليه نفسه فنظر الامام علي بن الحسين (ع) الى الحجر
الأسود واستشهده على إمامته ، فشهد على مرأى ومسمع من الناس ناطقا بلغة فصيحة
سمعها كل من حضر في المسجد ، ثم اشتهر خبر العلامة في مكة ونواحيها فارتفعت الشبهة
عن أكثر المعتقدين بإمامة محمد بن الحنفية (رض) فتكلم الحجر بفصيح القول علامة على
أنه آية. أضف الى ذلك تزاحم الناس على لمسه وتقبيله على مدى الأيام ، وكونه لا يصح
وضعه في مكانه من زاوية البيت إلّا على يد معصوم ، وقد جربوا ذلك مرارا. ثم كونه
موجودا وباقيا في مقره من البيت ومن الحرم ومن الأرض رغم مرور آلاف وآلاف السنين
ورغم من نقله مرة أو سرقه أخرى فذلك وجود يدل على أنه آية بينة لا جدال فيها.
ومن آيات البيت
حجر إسماعيل عليهالسلام ، فإنه منزله مع أمه أنزله فيه أبوه إبراهيم عليهالسلام يوم أمر من جانب الله سبحانه بإخراجهما عن بيت المقدس الى
أرض مكة المقدسة التي باركها الله تعالى وما حولها ، ثم جعلها ببركة دعاء إبراهيم عليهالسلام مثابة للناس ، وأنبع فيها الماء وأنبت الكلاء وجعل أفئدة
الناس تهوي إليها على مرور الأدهار والأعصار ، وجعل خيرات الأرض ونعمها تحمل إليها
من كل صوب ، فصارت مكة بما هي عليه من عمران حاضرة عامرة من حواضر الدنيا.
وفي حجر إسماعيل عليهالسلام بركات معنوية لا يدركها إلا أربابها من المصلين والداعين
والمتهجدين والضارعين الى الله في موسم الحج وفي غيره ، كيف لا وهو من الأمكنة
المقدسة في الحرم ، وهو مدفن إسماعيل
عليهالسلام ومدفن أمه العظيمة رضوان الله عليها ، بل قيل إنه مدفن
كثير من الأنبياء على ما في الروايات. فهو من الآيات الباهرة بدون أدنى شبهة.
(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) عطف على مقام من حيث المعنى ، أي ومن الآيات أمن من دخله.
أو : وفيه آيات منها المقام ، والأمن ، ثم طوى ذكر غيرهما إيذانا بكثرة الآيات ،
أو هي جملة مستأنفة. والضمير في : دخله يكون عائدا للبيت ... وهذه الآية من آثار
دعوة إبراهيم عليهالسلام عند ما حمل إسماعيل وأمه من بيت المقدس وأنزلهما في المكان
المعروف اليوم بحجر إسماعيل ورأى واديا غير ذي زرع عند بيت الله المحرم ، فطلب
الأمن والأمان لذلك البلد الكريم وقال في دعائه : (رَبِّ اجْعَلْ هذا
بَلَداً آمِناً ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ..) وقيل : هذه الجملة من أقسام البدل التفصيلي من الآيات.
واستعمال كلمة : من ، لتغليب ذوي العقول على غيرهم.
أما أمن البيت
والحرم فهو آية كبري ظاهرة ، لأن العرب على فوضويتهم وجاهليتهم الرعناء في الغزو
والقتال والعدوان ، وعلى ما كان فيهم من الغلظة وكفر الجاهلية الأولى حيث ما كان
يردعهم دين ولا شريعة ، ومع ذلك كانوا خاضعين لحرمة من دخل الحرم ، تنقاد نفوسهم
الشرسة لاعتبار تلك البقعة أمنا وأمانا ، ويلتزمون بذلك مذعنين على مرّ القرون.
ولم يكن ذلك من طبع التربة ولا الهواء ، ولا بنحو الجبر السالب للاختيار ، بل هو
عناية إلهية ألهمت الناس احترام الحرم إكراما وإجلالا له ، وحرمة لمن دخل فيه ،
وإن شذ على تطاول الأيام بعض المتجاسرين على حرمة الله تعالى والمتجرئين على بيته
أمثال يزيد بن معاوية والحجاج اللذين بعثا بجيوش ضربت الكعبة بالمنجنيق وقاتلت أهل
الحرم. ولكن يمكن أن تكون الحكمة في ذلك أن يعرف الناس أن احترام البيت ليس من
القسر ولا الجبر والإلجاء كما أشرنا اليه سابقا ، وانما هو توفيق منه سبحانه
وعناية شملت المشركين في زمن من الأزمان ، ثم لم تشمل المتمردين على الله من
أعدائه كيزيد والحجاج ومن قاتل بين أيديهما ...
وفي الصحيح عن
الحلبي ، عن الأمام الصادق عليهالسلام ، قال : سألته عن قول الله سبحانه : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال عليهالسلام : إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر الى الحرم لم
ينبغ لأحد أن يأخذه من الحرم ، لكن يمنع من السوق ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، ولا
يكلم. فإذا فعل به ذلك يوشك أن يخرج فيؤخذ. وإذا جنى في الحرم جناية أقيم عليه
الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة. وعند السنة والشيعة روايات معتبرة عديدة بهذا المعنى
، ففي الكافي عنه عليهالسلام ، وقد سأله سماعة عن رجل له عليه مال فغاب عنه زمانا ،
فرآه يطوف في الكعبة وقال : أفأطلبه مالي؟ .... فقال (ع) لا ، لا تسلم عليه ، ولا
تروعه حتى يخرج من الحرم ، وعنه عليهالسلام كما في الفقيه من دفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر من بر
الناس وفاجرهم. ومن مات بين الحرمين لم ينشر له ديوان. ونقل جماعة أن قوله سبحانه
: من دخله ... خبر (داخله آمن) والمراد به الأمر. وعلى هذا يكون تقديره : من دخله
فأمنوه. وقد قال بهذا التعليل أبو جعفر وأبو عبد الله عليهماالسلام ، وقال به ابن عباس أيضا وابن عمر وغيرهما. فهذا من مصاديق
أمنية هذا البيت الشريف ، فالجاني لأية جناية لا يقاص إذا لجأ اليه حتى يخرج منه ،
وما من أحد يصطاد فيه طيرا أو حيوانا من أحناش الأرض بالرغم من أن العرب كانوا
يصطادون الكثير منها لغذائهم ، وصاروا يجتنبون صيد الحرم وقتل الحيوانات والسباع
حتى الكلاب.
(وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) هذه جملة مستأنفة لا تندرج تحت الآيات البينات السابقة.
وعن سيبويه أن الحج بالكسر مصدر كالذكر ، وعليه الكوفيون في قراءتهم. ومعناه لغة :
القصد للسفر.
وغلب على القصد
بالسفر الى مكة لنسك الحج المعروف ، أو نقل الى نفس المناسك المخصوصة التي مجموعها
يسمى الحج. وقيل : هو اسم مصدر. وهو قول يناسب لإطلاق الثاني ، لكن الظاهر أن المراد
به هو الذهاب الى البيت على الوجه المخصوص ... أما حمزة والكسائي وحفص
وغير الكوفيين
فقرءوا بالفتح حج. أما اللام الداخلة على لفظة الجلالة لله فإما للاختصاص نحو :
الجنة للمؤمنين ، وإما للاستحقاق نحو : العزة لله. والظاهر أن كونها للأول أولى ،
بل ينحصر به فإن من البديهي كون العبادات منحصرة بذاته المقدسة ولا يشاركه فيها
أحد. وكلمة : على ، تفيد الوجوب كما في نظائره نحو : كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم إلخ ...
وهل الوجوب يختص
بالحج فقط؟ ... ففي الكافي عن الصادق عليهالسلام. : يعني به الحج والعمرة جميعا لأنها مفروضان. وقوله (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بدل من الناس ، والتقييد بالاستطاعة هنا يعرف أنها غير
العقلية التي هي شرط في كل تكليف ، إذا فهي الاستطاعة العرفية. ونقل جماعة كثيرون
من العامة عن علي عليهالسلام أن النبي صلىاللهعليهوآله سئل عن «السبيل» في الآية فقال : الزاد والراحلة. ووردت
الاستطاعة في روايات عديدة فسرت الاستطاعة فيها بالزاد والراحلة فنفقة واجبي
النفقة ولو مبذولة ، وصحة البدن ، وتخلية السرب ، وعليه أصحابنا ... ومنهم من
اعتبر الرجوع الى كفايته لرواية وردت في المقام أوردها المفيد في المقنعة عن أبي
الربيع الشامي عن الصادق عليهالسلام من أرادها فليراجعها فقد تلقاها عدة من أصحابنا بالقبول
ولا بعد في ذلك. لكن آخرين من الأصحاب ضعفوها لأنها معارضة لظاهر الآية ولروايات
صحيحة غير مقيدة ... أما الضمير في : إليه فراجع للبيت أو للحج الذي هو فرض على من
قدر عليه. وقد أكد سبحانه وتعالى أمر الحج بإيجابه بصيغة الخبر والجملة الاسمية ،
وإيراده على وجه يفيد أنه حق لله في رقاب الناس. (وَمَنْ كَفَرَ) جحد هذا الفرض. وقد أورد تغليظ تركه فسماه كفرا ، كما سمت
الأحاديث الشريفة تاركه يهوديا أو نصرانيا. والمراد بالكفر هو أنه أعم من إنكار
فرض الحج ومن الارتداد. وعلى كلا القيدين فتاركه كافر يترتب عليه حكم الكافر إلا
إذا كان الترك للحج عصيانا فهو فسق وإثم عظيم وعقابه أليم. وقد روي عن الامام
الكاظم عليهالسلام أن
أخاه عليا سأله :
من لم يحج منا فقد كفر؟ قال : لا. ولكن من قال : ليس هذا هكذا ، فقد كفر. وقال بعض
الأكابر مذيلا للرواية : وذلك لأن الكفر يرجع للاعتقاد دون العمل. فقوله سبحانه :
ومن كفر ؛ أي : من لم يعتقد فرضه ، أو لم يبال به حيث إن عدم المبالاة يرجع الى
عدم الاعتقاد. ونعم ما قال ... أما نحن فنقول توضيحا لمراده : إن تارك الحج تعمدا
ثبوتا كافر. غاية الأمر إثباتا لا يطلق عليه كافر ، بل نقول : هو مسلم ، لكنه
تعبدا يعتبر كما اعتبرته الروايات عن علي عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا. فمن فعل ذلك (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) لأنه لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين ، ولا تنقص منه معصية
العاصين. وفي هذا توبيخ عظيم لمن ترك الحج مع الاستطاعة ، أي مع وجود شرائطها التي
ذكرناها والتي حررتها كتب الفقه والربانيون. ووجه الإبدال عن الكافر المنكر لفريضة
الحج بقوله تعالى : عن العالمين ، مع أن السياق كان يقضي بقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) ، أما هذا فلأن إنكار فريضة الحج أو غيرها من الفرائض ، لو
لم يؤمن بها جميع البشر لا يضر ذلك الله شيئا ، فكيف إذا لم يؤمن بها واحد أو أكثر
، فالله سبحانه مستغن عمن سواه وعن عبادة الناس وطاعاتهم ، ولكنه جعل هذه الأحكام
وتشريعها. وتكليف الخلق بالإتيان بها وإقامتها ، من باب إقامة الشعائر الدينية
لمصالح العباد التي هو عالم بها ويعود نفعها إليهم إذا عملوا بها ، وإذا تركوها
فيعود الضرر والخسران عليهم لأنه تعالى غني عن سائر العالمين. وقد أجاد الشاعر
الفرنسي الذي قال ما معناه : لو أن جملة الكائنات كفرت بخالقها وموجدها ، لما أنقص
كفرها من كبريائه شيئا ...
* * *
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ
لِمَ
تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ
شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))
٩٨ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ..) خصص أهل الكتاب بالخطاب ، لأن الكفر بالآيات وإن كان قبيحا
من كل مخلوق بشري ، لكنه منهم أقبح ، فإنهم قارءون للتوراة والإنجيل ، وقريبو عهد
بملة إبراهيم عليهالسلام. والحاصل أنه فرق بين من هو قائل بإله وبنبي وكتاب سماوي ،
وبين من لا يقول بواحد من ذلك كالطبيعيين والدهريين والزنادقة. فقد أمر سبحانه
بسؤال أهل الكتاب (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ) أي تجحدونها وتنكرونها. ولعل المراد بالآيات هو ما دل على
صدق محمد صلىاللهعليهوآله ، وصدق كتابه وما جاء به من عند ربه من الأخبار الغيبية
وسائر كراماته ومعجزاته الخالدة التي حفلت بها بطون الكتب والأسفار. ومن ذلك ما هو
مدون في التوراة والإنجيل من اسمه واسم أبيه وعلائمه وجميع ما يدخل في تعيينه
والدلالة عليه بالذات ، وبحيث لا يبقى لليهود ولا للنصارى أية شبهة في أن هذا
المولود في مكة ، الموجود فيها ، القائم بالدعوة الى الله ، هو الذي عنته التوراة
ووصفه الإنجيل وبشّرا به معا كخاتم لرسل الله وأنبيائه. فإنكار أهل الديانتين له صلىاللهعليهوآله ، إنكار منهم لأمر كان بديهي الضرورة. واضحا كالشمس في
رابعة النهار وكالنار على المنار. فظهر من
ذلك أن وجه
تخصيصهم بالخطاب هو أيضا توبيخ لهم دون سائر الكفار. هذا بناء على أن المقصود
بالآيات هذا المعنى.
أما إذا كانت
الآيات تعني آيات بيت الله الحرام التي ذكرها سبحانه سابقا. فهذه أيضا كاشفة دالة
على جميع ما ذكر في الآيات التوراتية والانجيلية من الدلالة على صدق خاتم النبيين
في جميع ما يدعو اليه من سبيل ربه من صلاة وصيام وحج. بل لا يعد في أن نأخذ بعموم
لفظ الآيات ، فهو يشمل الاحتمالين كليهما أيضا ... فكيف تكفرون يا أهل الكتاب
بآيات الله (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى
ما تَعْمَلُونَ؟) أي حاضر ناظر ، يرى ما تعملونه ، إذ لا تغيب عنه أعمال
العباد ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء لأنه محيط بكل شيء. وسيجازيكم
على ما كنتم تقولون وعلى ما كنتم تفعلون.
٩٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ..) كرر سبحانه الخطاب والاستفهام تأكيدا في تقريعه لهم ، وسدا
لباب العذر عليهم ، وإيذانا بأن كل واحد من الأمرين قبيح بحد ذاته ، ومستقل في جلب
العقاب وفتح باب العذاب. فقد سألهم ثانية : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) أي : لماذا تمنعون الناس عن سبيل الله. والسبيل هو الطريق
، وهو هنا الشرعة والدين الحق الذي أمر بممارسته والسير عليه كما يسار على الطريق
والنهج. وقد كان المشركون يحتالون على المؤمنين المصدقين بمحمد (ص) ودعوته لصرفهم
عن الايمان بشتى الوسائل ، يعينهم في ذلك اليهود والنصارى الذين لا عذر لهم في
جهله. وقد روى الواحدي في أسباب النزول ، عن زيد بن أسلم ، أن الآية نزلت في شاوس
بن قيس اليهودي لما أمر يهوديا بأن يجلس مع الأوس والخزرج وأن يهيج الأضغان بين
الفريقين ليجرهم الى الجدل والحرب والى جاهليتهم السابقة وضلالهم الأول ، وبذلك
يجعلهم يسيرون مع ضلال الجاهلية ويعرضون عن الإسلام. وهذا صد لهم عن سبيل الله وبخ
الله سبحانه عليه فاعلي هذه الحيل في منع طريق الهداية عن كل (مَنْ آمَنَ) أي صدق بالله وبرسوله ودعوته (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي تطلبون بأعمالكم
التلبيسية اعوجاج
الناس عن دين الإسلام ، أي انحرافهم عن ذلك ، وهو عوج بنظر ذي الفطرة السليمة.
والجملة في محل نصب على أنها حال من المستتر تصدون والهاء عائدة للسبيل التي
يريدونها معوجة غير مستقيمة.
تفعلون ذلك (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جمع شهيد ، وهو هنا الشاهد الأمين في شهادته. ومعناه أنهم
ثقاة عند قومهم وأمناء عند أهل ملتهم يستشهدون بهم في أمورهم. فلم لا تشهدون لهم
بأن سبيل الله التي يدعو إليها محمد (ص) هي الحق ، وأن غيرها سبل ضلالة وغواية ،
والصاد عن سبيل الله ضال مضل؟ (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا وعيد وتهديد. فإنه سبحانه وتعالى منتبه لتصرفاتكم غير
ساه عنها. والباء زائدة ، والتقدير : ليس الله غافلا عن عملكم.
١٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) هذا خطاب للأوس والخزرج كما بينا في سبب نزول الآية
السابقة ، ويدخل غيرهم في مفاد الآية الكريمة بعموم اللفظ : (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) إن استمعتم واتبعتم قول هؤلاء الجماعة من اليهود (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
كافِرِينَ) يرجعونكم الى الكفر بعد أن أسلمتم. وقد أشرنا الى أن شاس
بن قيس اليهودي قد مر بنفر جلوس من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه تآلفهم فبعث إليهم
بمن يذكرهم بيوم بغاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من ظفر الخزرج وانكسار الأوس ، فأثار
حمية هؤلاء وهؤلاء فتنازعوا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح ، واجتمع من
القبيلتين خلق عظيم ، فأتى النبي (ص) إليهم فقال : أتدّعون الجاهلية وأنا بين
أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وألّف بينكم؟ ... فعرفوا أنها نزعة الشيطان
وكيد العدو ، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا وانصرفوا معه صلىاللهعليهوآله. فخاطبهم الله تعالى بنفسه آمرا رسوله أن يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ،) إجلالا لهم وإيذانا بأنهم جديرون بمخاطبة الله ومخاطبة
رسوله. هذا ، والقبيلتان كانتا أقوى قبائل العرب في نصرة النبي (ص) وتقوية
الإسلام. ولذا أظهر
سبحانه عنايته بهم
حين صدرت عنهم نزعة من نزعات الشيطان ووسوسة من يهودي خبيث لا يريد بهم ولا
بالإسلام خيرا.
١٠١ ـ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ ..) هذه الشريفة في مقام التعجب من جماعة يكفرون به تعالى مع
أنه سبحانه أتم عليهم نعمة الهداية ، ومهّد لهم الأسباب المؤدية الى طريق النجاة
والايمان ، ومن عليهم بنعمة وجود النبي (ص) بينهم فهي من أعظم النعم وأجلّها ،
لأنه الدال الى الهدى والحجة على أهل الدنيا ، ومنار الصلاح وباب النجاة من
الضلالة في الدنيا والوسيلة المشفّع المنجي من الخسران في الآخرة. فكيف أيها الناس
تكفرون ، مع أنه في هذه الحال لا ينبغي أن يصدر منكم الكفر (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ
اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي تقرأ عليكم آيات القرآن ، ويبين لكم ما فيه من الدلالة
على التوحيد وعلى النبوة إضافة الى الأحكام المتعلقة بمعاشكم ومعادكم. والخطاب
ظاهر في قوم كان النبي (ص) بين أظهرهم. ولكنه يحتمل أن يكون المراد به جميع الأمة
لأن آثاره ومعجزاته الخالدة من القرآن وغيره باقية فيهم ، دالة على منزلته ، قائمة
بمنزلة كونه حيا فينا دائما يتلو علينا آيات ربه ويظهر معجزاته. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) أي من يلجأ اليه ويلوذ به في أموره ليكون في عصمته ويغمض
النظر عن حقيقة ما سواه (فَقَدْ هُدِيَ) يعني : دل بتوفيق الله (إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) طريق لا عوج فيه.
وهذا الاعتصام به لا يشمل إلا النزر القليل من عباده. وهو هو نفس الاهتداء به ،
والمشمول بعصمته هو المهتدي الى الصراط السوي في الدنيا والآخرة بلا ريب.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))
١٠٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ..) التقوى هو الخوف من الله والعمل بطاعته وتجنب سخطه فالله
سبحانه يأمر المؤمنين باتقائه (حَقَّ تُقاتِهِ) أي التقوى الحقيقة واستفراغ الجهد في القيام بأداء الواجب
واجتناب الحرام. وبعبارة أخرى : يعني كما يحق ويليق بجلاله. ويراعى هذا المعنى في
نظائره من السور المباركة كما في البقرة : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) ، وفي الأنعام والحج والزمر : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وفي الحج أيضا : (جاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) ، وفي الحديد : (فَما رَعَوْها
حَقَّ
رِعايَتِها). وقد نصب : الحق ، في هذا الموارد على النيابة عن المفعول
المطلق الذي هو المضاف اليه. وفي محاسن البرقي في الصحيح عن الصادق عليهالسلام في تفسير هذه الآية : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ،
ويشكر فلا يكفر. وقيل إن الآية منسوخة بآية : «واتقوا الله ما استطعتم» على ما روى
العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليهالسلام. ورد بأن العياشي لم يذكر الواسطة بينه وبين أبي بصير.
والمعروف أن العياشي يعتمد على الضعاف فلا يعتني بأخباره التي أسقط الواسطة فيها.
هذا والظاهر أن لا
تنافي بين الآيتين ، ولا فرق في مقام الائتلاف. فحق تقاته يعني ما يليق به جل وعلا
من التقوى كما قلنا. ومن المعلوم أن التقوى تكون من كل شخص بحسبه من حيث لياقته
وعقله وكماله وقدرته ، فهو أمر مقول بالتشكيك كما وكيفا ، أما : اتقوا الله ما
استطعتم ، فإنه أمر منه سبحانه لعباده بتحصيل التقوى بمقدار قدرتهم واستطاعتهم
البدنية وغيرها. وهذه أيضا مقولة بالتشكيك لأن مراتب التقوى منهم تكون مختلفة. فلا
فرق بين مفاديها ، بل هما متحدان مفادا ، والثانية مؤكدة للأولى فلا وجه للقول
بالنسخ حتى نحتاج الى الرد والإيراد ... (وَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وفي هذه الشريفة يؤكد سبحانه على المؤمنين أن يبالغوا في
تمسكهم بالإسلام والايمان حتى يقع الموت عليهم وهم مسلمون. أقول : والظاهر أن
المراد بهذا الإسلام الإسلام المقارن للايمان الحقيقي ، بل هو المراد لا غيره. والعياشي
عن الكاظم عليهالسلام أنه قال لبعض أصحابه : كيف تقرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ) ماذا؟ قال : مسلمون. فقال : سبحان الله ، يوقع عليهم
الايمان فيسميهم مؤمنين ثم يسألهم الإسلام؟ والايمان فوق الإسلام. قال بعض الأصحاب
هكذا يقرأ في قراءة زيد. قال عليهالسلام : إنما هي في قراءة علي عليهالسلام ، وهو التنزيل الذي نزل به جبرائيل (ع) على محمد صلىاللهعليهوآله : إلا وأنتم مسلمون لرسول الله ثم الامام من بعده.
١٠٣ ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ..) أستعير الحبل لمطلق المنجيات ، لأنه
السبب الذي يتمسك
به الإنسان للنجاة من التردي أو السقوط من شاهق. والذي نعتصم به هنا من حبل الله
تعالى هو دين الإسلام. أو الكتاب القرين للعترة لقوله صلىاللهعليهوآله في حديث الثقلين : ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب الله
، وعترتي أهل بيتي. فإذا لم يعتصم المسلم بهذا الحبل الممدود بين السماء والأرض
سقط في مهاوي الضلالة وتيه الغواية والهلكة. فالاعتصام ترشيح للنجاة والفوز ،
فتمسكوا به (جَمِيعاً) أي مجتمعين عليه آخذين به (وَلا تَفَرَّقُوا) أي لا تتفرقوا عن الصراط المستقيم والحق السّوي الذي أمرتم
به وهديتم اليه لتعتصموا به ولئلا تفرقوا كما تفرق أهل الكتاب باختلافهم. وهذه
الجملة إما أنها تأكيد لقوله تعالى : جميعا ، أو هي عطف بيان. والحاصل أن المطلوب
هو التمسك الجماعي الذي لم يتم لأنهم لم يأتمروا بأمر ربهم ولا اعتصموا بحبله
جميعا فنتج اختلاف الأهواء ولم يدفن النبي (ص) حتى عمت الفرقة المسلمين وستبقى الى
اليوم الموعود الذي يظهر فيه الإسلام على الدين كله ، ويا شوقاه لذلك الزمان
المبارك الذي تشمل المسلمين الألفة الصحيحة. إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا بإذن
الله تعالى ، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) أي نعمة الايمان فلا تنسوها لئلا تنجروا الى تركها ،
واذكروا (إِذْ كُنْتُمْ
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) أي في عصر جاهليتكم حيث كان الغزو والقتل والسلب والنزاع
الدائم ، فمنّ الله عليكم بإرسال محمد صلىاللهعليهوآله رحمة بكم وأنزل عليه القرآن الكريم ، وجاءكم بالإسلام الذي
هو خير الأديان ، فجعلكم في ظل هذا النبي الرحيم وهذا الدين الحنيف أصفياء رحماء
بينكم (فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) إذ جمع بينكم بالأخوة في الله وفي الدين التي هي الأخوة
الصحيحة التي لا تحول ولا تزول ولا تنفصم إذ يشدها الايمان الصادق. وما أقرب قصة
اختلاف قبيلتي الأوس والخزرج والحروب التي دامت بينهما مائة وعشرين سنة ، ثم جاء
الإسلام فوحد بين قلوب أبنائهما ، وجعلهم إخوانا متحابين متكاتفين (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ) بشرككم في جاهليتكم التي كادت تؤدي بكم الى النار (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي خلّصكم
وأنجاكم بمحمد (ص)
وبالإسلام من التردي في النار (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي مثل هذا البيان الذي تلاه عليكم. فهو يظهر لكم الدلائل
والحجج الساطعة (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) الى طريق الحق والثواب فتثبتون على على الهدى أو تزدادون
هدى وإيمانا.
١٠٤ ـ (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ..) إذا كانت : من ، للتبعيض ، فالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر كانا واجبين كفائيين كما هو الظاهر من الآية الكريمة. فالحكم منوط بحصول
الغرض. وإن كانت : من ، للتبيين ، فالوجوب فيهما عيني ، أي : كونوا أمة وجماعة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي يرغّبون الناس بالخير .. فالحكم عام لجميع الأمة
الاسلامية كسائر التكاليف التي كانت لطفا عاما بالناس أجمعهم. والخطاب موجه الى
المسلمين كلهم ولا يقصد به من كانوا يصغون الى الخطاب حال نزول الوحي فقط .. والحاصل
أنه موجه لكل جامع لشرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كالقوة على ذلك ،
وكالمعرفة بهما ، وكتمييز مواردهما. وتلك الشرائط لا تخرج المشروط عن كونه عاما
سامي المقام. والمراد بالخير في الآية الشريفة ، هو ما يعم الأفعال والتروك الحسنة
شرعا وعقلا. فلتكن منكم أمة ، وهم العارفون (يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهذا من عطف العام على الخاص إيذانا بفضل هذا العمل
واهتماما بشأنه عند الشارع المقدس ، لأنه من أركان الدين وفروعه الهامة وخصوصا في
هذا العصر حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الواجبات ، فالمشاهد وجدانا
أن لهما دخل في أصل ترويج الدين ونشر تشريع رب العالمين ، وهنيئا لمن وفقه الله
تعالى لإرشاد عباده وحسن لهم ما يحسنه الشرع والعرف ، وأنكر منهم ما ينكرانه ،
وأمرهم بطاعة ربهم ونهاهم عن معصيته فهدى الله الناس على يده لما فيه رضاه في
الدارين.
والحاصل أن مسألة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل المهمة التي تعم بها البلوى ، ولا
تزال واجبة على عامة المكلّفين من الرجال والنساء. وبحصول الغرض تسقط عن الكل ،
وبحدوث الموضوع وتجدده
تجب على الكل.
فعلى كل واحد من الناس إرشاد أقاربه وجيرانه بالتي هي أحسن (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والواو للاستئناف. والمشار إليهم هم الذين يدعون الى الخير
على النحو المطلوب شرعا وعقلا. والمفلحون هم الناجحون المختصون بالفلاح والفوز.
١٠٥ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
..) الضمير في : تفرقوا ، راجع لليهود والنصارى حيث تخاصموا
وتعادوا وكفر بعضهم بعضا (وَاخْتَلَفُوا) أي تنازعوا فقالت اليهود : ليست النصارى على شيء ، وقالت
النصارى : ليست اليهود على شيء من الدين. وقد كان اختلافهم في أمر دينهم من حيث
التوحيد وتنزيه الحق المتعالي عن الشرك والتجسيم ، ومن حيث البعث وغيره ، وقد حصل
لهم ذلك (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الحجج الواضحات من الأدلة المفيدة لليقين بالحق ،
الموجبة للاتفاق ، فتولوا عنها بضلال أهوائهم (وَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ) والواو للاستئناف بحسب الظاهر ، والمعنى أن لهؤلاء عقوبة
موجعة شديدة على تفرقهم عن إجابة الدعوة بعد الحجة الدافعة والدلائل البينة. وفي
الآية الكريمة تهديد ووعيد ، وفيها دليل على حرمة الاختلاف في الدين.
١٠٦ ـ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ..) نصب «يوم» على كونه ظرفا لقوله تعالى في الآية السابقة :
لهم عذاب عظيم ، ويحتمل أن يكون نصبه بالمقدر ، وهو : اذكر. والبياض يمكن أن يكون
كناية على النور والظهور البهجة والسرور في الوجوه التي تبيض هكذا وهي وجوه
المؤمنين (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) تصير سوداء داكنة للكآبة والخوف من سوء المصير ، وهي وجوه
الكافرين التي تلفحها النار وهم فيها كالحون. ويحتمل أن يكون المراد ظاهر البياض
والسواد. فإن أهل الحق يوسمون ببياض الوجوه ، وأهل الباطل يوسمون بسوادها ، ولا
يلزم من هذا الحمل أيّ محذور فمن لوازم الوجه المبيض في ذلك اليوم طفحان البهجة وتخايل
السرور عليه ، كما أن من لوازم الوجه المسود تخايل الكآبة وقتامة العبوس عليه (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ ، أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وجواب أما ، مقدر. أى فيقال للذين اسودت
وجوههم : أكفرتم؟
والهمزة استفهام للتوبيخ أو للتعجب من حالهم وعودتهم الى جاهليتهم وكفرهم المضل.
وهؤلاء هم المرتدون بعد رسول الله (ص) من أمته إلا القليل من الذين ثبتوا على عهده
المعهود كما في الرواية المشهورة أنه ارتد الناس بعد رسول الله (ص) إلا ثلاثة ،
وقيل أربعة ، وقيل سبعة. ولعل المراد من العدد المذكور المستثنى وهم الأكمل إيمانا
، إذ مما لا شك فيه أن الذين بقوا على الايمان أكثر من ذلك يوم وفاة النبي صلىاللهعليهوآله وبعدها. وقيل أن السؤال التوبيخي يكون لأهل البدع وقيل غير
ذلك مما يرجع الى من يرتد حقيقة وحكما فيقال لهم بعد هذا الاستهجان : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) وهذا الأمر إهانة وتقريع لهم وتحقير. والباء في : بما ،
سببية : وما ، في هذا المقام مصدرية. أي ذوقوا العذاب بسبب كفركم.
١٠٧ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ
وُجُوهُهُمْ ..) أي المؤمنون الثابتون على الايمان والتصديق (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي في لطفه وعفوه الدائم وغفرانه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) منعمون نعيما مقيما الى أبد الأبد. والمقام كان يقتضي أن
يقال : ففي ثواب الله هم فيه خالدون ، ولكنه سمي هنا بالرحمة باعتبار سببه الذي هو
التكليف. وتوضيحه أن باب الثواب باب استحقاق بحيث إذا منع عن أهله كان قبيحا. وباب
الرحمة باب التفضل والإحسان بلا علة ، ومنعه ليس فيه حزازة ولا قبح. أما الذين
ابيضت وجوههم فهم أهل استحقاق ، وكان الأنسب أن يقال : ففي ثواب الله هم خالدون.
لكن باعتبار أن منشأ الثواب التكليف كما قلنا ، وهذا أمر تفضلي : فقد عبر عنه
بالرحمة.
وأما عكس الترتيب
بأن قدّم قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) ، فليكون مطلع الكلام ومقطعه سواء. وهذا يعدّ من فصاحة
البيان. وقوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) : جملة مستأنفة لإفادة التأكيد. وهي جواب عن سؤال مقدر كأن
قائلا يقول : كيف هم في رحمة الله؟ .. فأجيب بأنهم مخلّدون فيها .. وفي القمي عن
أبي ذر قال : لما نزلت هذه الآية : (يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ) ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يرد علي أمتي يوم القيامة على خمس رايات. فراية مع عجل
هذه الأمة فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ .. فيقولون : أما الأكبر فحرّفناه
ونبذناه وراء طهورنا ، وأما الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه. فأقول : ردوا الى
النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم .. ثم يرد علي راية مع فرعون هذه الأمة فأقول لهم
: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ .. فيقولون : أما الأكبر فحرّفناه وخالفناه ، وأما
الأصغر فخذلناه وضيعناه ، فأقول : ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم .. ثم يرد
عليّ راية مع سامري هذه الأمة ، فأقول : ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ .. فيقولون :
أما الأكبر فعصيناه وتركناه ، وأما الأصغر فخذلناه وضيعناه ، فأقول : ردوا النار
ظماء مظمئين مسودة وجوهكم .. ثم يرد عليّ راية ذي الثدية مع أول الخوارج وآخرهم ،
فأسألهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ .. فيقولون : أما الأول فمزقناه وبرئنا منه
، وأما الأصغر فقاتلناه وقتلناه ، فأقول : ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم ..
ثم يرد عليّ راية إمام المتقين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين ووصي رسول رب
العالمين فأقول لهم : ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ .. فيقولون : أما الأكبر
فاتبعناه وأطعناه ، وأما الأصغر فأحببناه وواليناه ونصرناه حتى أهريقت فيه دماؤنا
، فأقول : ردوا الجنة رواء مرويين مبيضة وجوهكم. ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوآله الآية الى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ
..)
١٠٨ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ ..) أي التي قد جرى ذكرها سن الوعد والوعيد هي حجج الله
وبيناته وعلاماته (نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِ) نقرأها ونقصها عليك متلبسة بالحكمة والصواب (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً
لِلْعالَمِينَ) هذه جملة مستأنفة يحتمل أن يكون قد ذكرها سبحانه لينبّه
الى أنه تعالى لا زال مصدرا للأمور الحسنة ولا يصدر منه أدنى قبح أبدا ، ويستحيل
عليه الظلم لأن فاعل الظلم والقبح إما أن يكون جاهلا بقبح عمله وظلمه وإما أن يكون
محتاجا الى فعله لدفع ضرر أو جرّ نفع ، والله يتعالى عن ذلك علوا
كبيرا. ولا تنس أن
منشأ القبح من التعدي والتجاوز عن جادة الشرع وهو من شأن العبيد والمحتاجين. ومعنى
هذه الشريفة أن الله سبحانه ما خطر ولا يخطر بساحته المقدسة ظلم لأنه منزه عن ذلك.
وقد بين غناه عن ذلك بقوله عزوجل في الآية التالية :
١٠٩ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي أنه مالك لما في العالم العلوي وما في العالم السفلي
خلقا وملكا (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يعني أنه سبحانه قد ملك عباده في الدنيا أمورا وأباح لهم
التصرف فيها ، ولكن ذلك كله يزول في الآخرة ويرجع اليه الأمر كله ، كما قال تعالى
: (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ)؟ فيجاب : لله الواحد القهار.
* * *
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
لَنْ
يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ
لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
لَيْسُوا
سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ
اللهِ
آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥))
١١٠ ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ..) أي يوم آمنتم بالله ورسوله واليوم الآخر ، صرتم خير أمة.
فكان هنا بمعنى صار ، ولا تكون فيها عمومية بل تختص بزمان خاص. أو أن المراد هو
الكون في علم الله ، وإبرازه في زمان خاص ؛ أي حينما آمنتم بالله وبمحمد وبيوم
البعث. وكان تامة بمعنى وجد أي حصل : كما يقال : وجد الشيء من العدم يعني حصل
وكان. وخير أمة منصوب على الحالية.
وأما القول بأنهم
كيف كانوا خير أمة مع انهم آذوا نبيهم إذ قال صلىاللهعليهوآله : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت وما عملوا بوصاياه ، وحرّفوا
قوله ، وغصبوا حق وصيه وأخذوا حق بنته غصبا وعدوانا ثم قتلوا وصيه وأبناء النبي
وسبوا ذراريه الى جانب آلاف أنواع الأذى والهتك التي صدرت عنهم بالنسبة اليه (ص)
والى أهل بيته (ع) والى الخواص من المؤمنين؟ .. فالجواب عن هذه المقالة أن الأمور
التي من نحو الخيرية والشرية والحسن والقبح وأمثال ذلك هي إضافية. ونحن إذا قسنا
تلك الأمة المرحومة بغيرها من الأمم السابقة نرى أنها خير أمة. فلو نظرنا الى أمة
نوح مثلا فإنه عليهالسلام قد دعاهم الى دين الله والى توحيد ذاته المقدسة فما آمن في
تلك المدة المديدة ألف إلا خمسين عاما إلا قليل منهم مع كثرة أمته. وكذلك أمم
إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام فإنهم أتعبتهم وما آمن لهم إلا قليل أيضا مع طول إقامتهم
بين أظهرهم. بخلاف نبينا صلىاللهعليهوآله فإنه مع قصر زمان دعوته ـ ثلاث وعشرون سنة
فقط ـ قد أخبرنا
الله سبحانه أن أفراد أمته قد كانوا يدخلون في دين الله أفواجا. ولو مد الله تعالى
في عمره الشريف. الذي كان ثلاثا وستين سنة ـ لما بقي في المشرق ولا في المغرب أحد
إلا اتبع دينه ودخل في الإسلام ، ولكن حكم الله تعالى والمصالح الإلهية اقتضت
تقصير عمره المبارك قبل أن يظهر دينه على الدين كله ، وإن كان تعالى سيظهره في آخر
الزمان على يد ابنه الغائب المنتظر عجل الله تعالى فرجه. وهذا يدل على قابلية أمة
محمد (ص) ويكشف عن أهليتها للاهتداء والتدين بالرغم من أن قلة منها كانت غير قابلة
للتدين والهداية وآثرت البقاء على الضلالة. والحكم بخيرية أمته هنا تابع للأكثرية
لا للأشخاص المعدودين. وإن كان قد يتفق وقوع العذاب على الأمة بمعصية أفراد كما في
قضية قوم صالح عليهالسلام فإن قومه قد أهلكهم الله بسكوتهم على عقر الناقة وبرضى
الكثيرين منهم. أما لو قلنا بأن الأمة تتمثل بالحاضرين في مجلس التخاطب أي عظماء
الصحابة وعلمائهم الذين لهم الأهلية للخطاب ، فلا نحتاج الى تكلف سؤال ولا جواب.
وفي الروايات ما يرشد الى المعنى الصحيح للآية الكريمة ، ففي العياشي عن الصادق عليهالسلام أنه روى عن علي عليهالسلام : كنتم خير أمة أخرجت للناس ، قال : هم آل محمد والقمي عن
الصادق عليهالسلام أنه قرأ عليه كنتم خير أمة فقال عليهالسلام : خير أمة يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي
صلوات الله عليهم أجمعين؟ .. فقال : جعلت فداك كيف نزلت؟ .. فقال : نزلت : كنتم
خير أمة أخرجت للناس ألا ترى مدح الله لهم : تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله ، فهو لا يعني إلّا المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ
خَيْراً لَهُمْ) أي إيمانا صادقا يكشف عن موافقة ما في قلوبهم لما هو على
ألسنتهم ، فهذا إيمان يعتد به ويفوزون بسعادته ويحصل لهم شرفه وفضله ، وينجون به
في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب. وهذه الأمور بأجمعها يسمونها خيرا (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي بعضهم معترفون
بما دلت عليه
كتبهم من أوصاف نبينا والبشارة به ، كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود ،
والنجاشي وتابعيه من النصارى (وَأَكْثَرُهُمُ
الْفاسِقُونَ) وهم الخارجون عن طاعة الله. وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر
الذي هو أعظم ، لأن الكفر الحقيقي لا يتحقق في أهل الكتاب. بيان ذلك أن الكافر هو
من أنكر الألوهية والرسالة والكتب النازلة وقال : ما يهلكنا إلّا الدهر ، ويعتبر
أن الناس أبناء الطبيعة. وأهل الكتاب ليسوا كذلك ، لأنهم قائلون بالله وبرسالة
موسى وعيسى عليهماالسلام ، وهم يقبلون كتابيهما. نعم هم جاحدون لرسالة خاتم النبيين
صلىاللهعليهوآله ولكتابه إما لشبهة حصلت عند بعضهم أو لحفظ رئاساتهم فخرجوا
عن طريق الحق والصواب وهذا موجب للفسق لأنه معناه ، والكفر هنا ليس معناه ، والله
تعالى أعلم بما قال.
١١١ ـ (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ..) أي أنه لا يصل إليكم من أهل الكتاب ضرر في أموالكم ولا
أنفسكم ولا يعيبون أعراضكم ولا يشينون نواميسكم ، سوى أذى يلحقكم منهم يصدر عن
ألسنتهم كالطعن والوعيد وخلف الوعد وغمزكم باليد ولمزكم بالقول وبسائر ما قد
تتأذون منه. وهذا عرفا وعادة ليس ضررا ، ولذا قيل إن الاستثناء منقطع. نعم يمكن أن
يقال أن بعض الناس يتأثرون تأثرا شديدا من أذى الكفار ، وهذا شيء لا يعتد به لأنه
ليس من الضرر في شيء حتى في حال إطلاق الضرر على الأذى ، فإنه يعتبر ضررا يسيرا لا
يعبأ به بحسب العادة.
فمعنى الشريفة أن
أهل الكتاب لن يضروكم أبدا في ظهور دينكم أو في جامعتكم والتفافكم وشوكتكم
الاسلامية. وفي هذا بشرى عظيمة غيبية تسر قلوب المؤمنين حقا من أهل الإسلام (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ) أي حين يجاوزون الأذى باللسان الى الاعتداء والقتال
والمحاربة ، فإنهم لا يقابلونكم وجها لوجه ، بل ينهزمون أمامكم ويهربون من سطوتكم
ولا يضرونكم بقتل ولا بأسر (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يعانون عليكم ، ولا يمنعون منكم. وقد كان الأمر كذلك
في حروب المسلمين مع الكفار
والمشركين كما في
حرب يهود خيبر وقريظة وبني النضير وبني قينقاع وغيرهم وكالاستيلاء على بلاد الشام
أيضا ، فإنهم انهزموا أمامكم ، وقهرهم الله تعالى ونصركم عليهم. والجملة عطف على
الشرطية لا الجزاء ، فيكون نفي النصر مطلقا لا مقيدا بقتالهم. أما : ثم ، فهي
للتراخي في الرتبة.
١١٢ ـ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ..) فهي محيطة بهم ، ومطبقة عليهم إحاطة البيت المضروب على
أهله ، وهم أذلاء أمامكم الآن ، وقد كانوا أذلاء أيضا في قرون متطاولة كما يذكر
التاريخ في كتب العهد القديم وغيره كعهد يوسيفوس ، وطيطوس ، وملوك آشور ومصر وبابل
وغيرهم ، فإنهم مستذلون دائما لقتلهم الأنبياء ، ولوقوفهم في درجه رسل السماء ، بل
هم أذلاء (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) يعني أين وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي أنهم لا منعة لهم إلا أن يتمسكوا بذمة الله ويعتصموا
بها ، وأن يلتجئوا اليه أو الى المسلمين ليحموهم ، وإلا فلا مفر لهم من الذلّة. والاستثناء
هنا من أعم الأحوال ، أي : ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلا حال كونهم
معتصمين بذمة الله أو جيرة المسلمين. وفي المصباح عن ابن الأعرابي أن الذليل هو
المقهور. وقد ذكر التمسك بالحبل هنا كناية عن المنعة لهم من السقوط في هاوية الذل (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا والله تعالى غاضب عليهم. وقيل معناه : استوجبوا
غضب الله عليهم ، والغضب منه تعالى هو عذابه ولعنه. هذا ما يقال في معنى باءوا ،
تبعا وتقليدا للقوم مع إضافة مضمون حمل الظرف على الحالية. والتحقيق في المقام أن
يقال : إن باء إذا تعدى بإلى كان معناه : رجع ، كما يقال : بؤت إليه أي رجعت إليه
، وإذا تعدّى بالباء كما فيما نحن فيه ، كان معناه : أقرّ ، إذ يقال : باء بالحق
أي أقرّ واعترف به. فالمقام من هذا القبيل لأنه تعدى بالباء. فالمناسب أن يقال :
أقروا باستحقاقهم غضب الله لسوء أعمالهم ، سواء كان اعترافهم بالاستحقاق بلسان
حالهم أو بمقالهم ، حيث إن بعضهم لا يبعد أن يقر بذلك لشدة الذل والهوان وطول مدة
المسكنة والذلة ، إذ ربما ينصف الإنسان ويقر بما هو الواقع ولو على نفسه لوقوعه في
ضيق الخناق .. والحاصل أن الرجوع لا معنى له في المقام لأنه متفرع
على دخول عملي أو
قولي في الإسلام أو ما في حكم ذلك ثم الرجوع عنه. واليهود كانوا ثابتين على ما هم
عليه وما رجعوا عن مذهبهم وطريقتهم إلّا بعض من عرفنا ممن اعتنقوا الإسلام ولم
يرجعوا الى اليهودية حتى يصدق عليهم هذا المعنى.
نعم يمكن أن يقال
بأن اليهود في أول بعثة نبينا (ص) قد أرسلوا أحبارهم ، وأرسل النصارى رهبانهم أيضا
للاستفسار والاستخبار ، ثم لما رأوا علائم نبوته وصدق دعوته في كتبهم قبلوا الدعوة
وآمن كثير منهم به وبما جاء به. ولكنهم حين رأوا خطر رجوع أممهم اليه ومتابعته ؛
خافوا على رئاساتهم فتولوا عنه وأنكروه وحرفوا ما في كتبهم من علاماته والبشارة به
، ورجعوا عن الايمان به وأرجعوا الناس عن ذلك فباؤا بغضب من الله أي كان رجوعهم
مصاحبا بغضب الله تعالى ، لأن الباء تعني المصاحبة ، والله أعلم.
(وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي الفقر والضعف وقد تدور حول معنى الخضوع وأمثال هذه
المعاني التي لا زمت اليهودية لانكسار شوكتهم وتفرّق قوميتهم وانحلال جامعتهم. ولا
يعتبر غناهم المالي كافراد عكس المسكنة ، فإن مسكنتهم لا تعني ناحية المال بمقدار
ما تعني غيره لأن اليهود محتقرون مطرودون من سائر الناس تنفر منهم طباع سائر الناس
، وهذا كاف في خزيهم وذلهم (بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بسبب كفرهم بها (وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كما هي سيرتهم الغادرة الكافرة (ذلِكَ) أي الكفر وقتل الأنبياء (بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي بسبب عصيانهم واعتدائهم وتجاوزهم على الدعوة الإلهية
وعن حدود الشرع وما سنّه الله تعالى لعباده. ولو كانوا من أهل طاعة الله ومن أهل
الايمان والتصديق بالله وبرسوله محمد صلىاللهعليهوآله ، فما كانوا ليكفروا بآيات الله ولا كانوا يقتلون أنبياءه
بغير حق. والتقييد هنا في قوله سبحانه : بغير حق ، يدل على أنه لم يكن حقا بحسب
اعتقادهم أيضا ولذلك سجل عليهم قبح أفعالهم لأن قتل الأنبياء كله بغير حق. وقد
تكررت الاشارة الى
ذلك تأكيدا لبيان
الجهات التي يستوجبون بها النكال العاجل والانتقام في العاجل والآجل. والله هنا
يتكلم عن شأن النوع من أهل الكتاب ولا يعني أن الأفراد كلهم كذلك ، ولذا قال
سبحانه في الآية التالية :
١١٣ ـ (لَيْسُوا سَواءً ..) أي ليسوا جميعهم
على شاكلة واحدة في الضلالة والجهالة ، بل (مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي أن منهم جماعة مستقيمة عادلة. وذلك مأخوذ من : أقمت
العود فقام ، أي أصلحت ما به من عوج. وهؤلاء الجماعة هم الذين أسلموا منهم.
والجملة استئناف لبيان نفي استوائهم وكونهم جميعا على شاكلة واحدة ، فمنهم جماعة (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ) وقد عبر سبحانه عن تهجّدهم بتلاوة آيات القرآن ، أي
قراءتها ، وبسجودهم تعظيما لله عزوجل. ويحتمل أن يكون المقصود بالتلاوة والسجود هنا صلاة العشاء
، لأن أهل الكتاب ما كانوا يصلّونها قبل إسلامهم ، لكنهم بعد إسلامهم صاروا
يصلّونها. والظاهر أن جملة يسجدون عطف على يتلون ، لا أن الواو حالية ، فإنه لم
يعهد بين المسلمين أنهم كانوا يتلون القرآن في سجودهم كما هو من لوازم كون الواو
للحال .. كما أنه يحتمل في معنى لفظة : قائمة أن يكون معناها قائمة للعبادة : وعلى
هذا الأساس يصح أن يكون قوله تعالى : (يَتْلُونَ آياتِ
اللهِ) الى آخرها .. بيانا لقوله : قائمة «للعبادة». والآناء جمع
أنى أو إني بمعنى الزمان والوقت والفرق بين الزمان والوقت أن الطويل من الأنى يقال
له : زمان ، والقصير منه يعبّر عنه بالوقت. وهذا الفرق يتضح لمن يتأمل ويمعن النظر
في كلمات الفصحاء وأهل الدقة. ونحن نرى أن الناس يستعملون كل واحد منهما مكان
الآخر ، فلا بد أن يحمل ذلك على المجاز لأن الاستعمال أعم من الحقيقة.
١١٤ ـ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ ..) هذه صفة ثانية للأمة القائمة التي مدحها الله تعالى ، وهم (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فقد وصفوا بصفات ليست في اليهود المعروف انحرافهم عن الحق
وشركهم به تعالى وتغييرهم صفة الخيرات (وَأُولئِكَ)
أي الموصوفون
بالصفات الطيبة (مِنَ الصَّالِحِينَ) لأن هذه الصفات صفات ثابتة للصالحين والخيرين وهي ناشئة عن
ملكات راسخة فيهم ، فمن كان متصفا بها فهو منهم.
١١٥ ـ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ..) أي ما يعملوا من طاعة وامتثال (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين. وقرأ
الباقون إلا أبا عمرو بالتاء. ووجه القراءة بالياء لكي يكون الكلام شاملا لمن تقدم
ذكره من أهل الكتاب وحتى لا يكون الكلام على وتيرة واحدة. أما وجه القراءة بالتاء
فلخلطهم بغيرهم من المكلفين فيكون الخطاب للجميع ويكون الحكم واحدا للجميع لأنهم
مشتركون فيه. والمعنى أن أهل الكتاب وغيرهم ، ما يفعلون من شيء من الأمور الخيرية
والطاعات وغيرها مما يصدق عليه الخير ، فإنه لا ينقص من أجورهم وثوابهم شيء ، بل
يوفيهم الله ثوابه كاملا. وهكذا فإنه لما أستعير للثواب الشكر أستعير لنقيضه من
منع الثواب الكفر (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ) أي هو عالم جدا بهم ، وهو يوفيهم أجرهم وجزاء أعمالهم.
وهذه الجملة بشارة لهم وإيذان بأنه لا يفوز عنده تعالى إلا أهل التقوى ، والدليل
هو اختصاصهم بالذكر. ولعل السر هو ما ذكرناه ، والله أعلم.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
بِطانَةً
مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(١١٩) إِنْ
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ
بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))
١١٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ ..) أي لن تنفع ولن تكفي الكافرين ولن تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من خسران نعمة رضاه عنهم في الدنيا وحرمان ثوابه في
الآخرة (شَيْئاً ، وَأُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي هم ملازموها ومحشورون فيها الى أبد الآبدين يتجرعون
عذابها.
١١٧ ـ (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ ..) أي أن ما يصرفونه من أموالهم رياء أو سمعة أو قربة بزعمهم
في عداوة الرسول صلىاللهعليهوآله حيث لا يرونه مبعوثا من عنده تعالى ، ويحسبون أن إنفاقهم
لوجه الله وهو ليس لوجهه تعالى لأنهم كفروا بآياته وأشركوا به ووصفوه بما يجلّ عنه
من الصفات ، فمثل ما ينفقونه من ذلك (فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي مثل ريح باردة بردا شديدا تذرو ما أنفقوا ، تماما كما
لو أن هذه الريح الصرصر
(أَصابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ضربت زرعهم لأنهم ظلموا أنفسهم بالمعاصي وهذا من التشبيه
المركب الذي يبين حال كفرهم مع إنفاقهم ، ويبين إحباط ما جنوه على أنفسهم. ولذا
صدر المثال ببيان تلك الريح العاتية المتلفة للحرث ، ليروّع الكافر بعنوان كفره
الذي يبعثر عمله كما تبعثر الريح زرع القوم الكافرين. وبعبارة أخرى شبه الله تعالى
ضياع ما ينفق الكفار ، بضياع حرث الظالمين وجعله حطاما. وهذا هو التشبيه المركب (فَأَهْلَكَتْهُ) أتلفته وأبادته عقوبة لهم وسخطا عليهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بضياع نفقاتهم وإتلاف زرعهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) بارتكابهم ما استحقوا به الإحباط والإهلاك ، حيث لم
ينفقوها في مواقع مشروعة يعتد بها. فإنفاق الكافر أو المشرك كزرع على صخر صلد عليه
طبقة تراب خفيفة يجرفها مطر وابل ويجعلها جفاء وتصير بلا نتيجة.
١١٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ..) نهاكم الله تعالى أيها المؤمنين عن مخالطة الكفار والميل
إليهم خوف الفتنة ، وأمركم أن لا تختاروا لأسراركم أحدا من غير أهل ملتكم ولا
تفشوها عندهم. والبطانة هو الذي يعرّفه الرجل أسراره ويثق به. وهذا تشبيه
لبطانة الثوب الذي هو خلاف الظّهارة ، وتطلق على أخصاء الإنسان ومواضع سرّه من
الذين يستبطنون أمره ويطلعون على أسراره. وهذه الشريفة نظير قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ،) إلا أن بينها فرقا وهو أن ما نحن فيه يشير الى حالة دنيوية
، بينما الآية الكريمة الثانية تعني في ظاهرها الحالة الأخروية ، ولكنهما متحدان
في الاشتمال على النهي عن مخالطة الكفار والاختلاط بهم ويستفاد من مجموعهما أن في
ذلك خسرانا على المؤمنين في الدنيا والآخرة ونظائرهما من الآيات والأخبار في حد
الكثرة حتى ليكاد الأمر يقرب من التواتر ، ومع ذلك لم نسمع قول ربنا ولم نتأثر
بالآيات ولا بالروايات فكانت النتيجة أن تسلط الكفرة علينا بتأييدنا لهم وتقويتنا
إياهم ، فتحكموا بأموالنا وأعراضنا وتعدوا على نواميسنا. ويعز على رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يرانا أسراء في أيدي الكفرة ، أذلاء منهزمين
خائفين لعدم العمل
بقول ربنا عزوجل. ولذا يجيء النداء من قبل الله تعالى لمن كان هذا حاله : «فذوقوا
الخزي بما كسبت أيديكم» ، ولذا أيضا لا يستجاب دعاء الأبرار ولا يسمع نداء
الأخيار. فقد رفعتم ـ أيها المسلمون ـ الكفار على كواهلكم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) أي لا يبطئون في إفساد آرائكم المستقيمة وأفكاركم السامية
بدسائسهم الشيطانية. والخبال فساد الرأي أو مطلق الفساد. والألو هو التقصير
والإبطاء في الأمر. وحاصل المعنى أنه عزوجل ينبهنا الى أن الكفار لا يتأخرون عن إدخال الفساد الى
آرائكم وهو ليل نهار يترقبونكم ويرغبونكم في غير ما فيه صالحكم ويوقعونكم في مفاوز
الخطر وتيه الهلاك (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) أي تمنوا وأحبوا أن يصيبكم الضرر والمشقة والعنت ونحو ذلك
من الأمور الكريهة التي لا يحبها الإنسان. والظاهر أن هذه الجملة صفة للبطانة ،
ولو كانت مستأنفة فالأنسب في العربية أن يقال : قد ودّوا كما في الجملة التالية. (قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي ظهرت العداوة في مقالاتهم وكلماتهم ، لأنهم. لكثرة
بغضهم لكم وفرط عداوتهم ـ لا يتمالكون أنفسهم ولا يقدرون على صيانة فلتات منطقهم
وبياناتهم في ناديهم ودار ندوتهم (وَما تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) يعني أن أكبر من بغضائهم التي تظهر ، هو ما يخفونه من
عداوتهم التي يسرّونها في قلوبهم. فهل يصح ـ مع هذا كله ـ أن يتخذ المؤمن المدافع
عن دين الإسلام ، والناهض لإعلاء دعوة الحق ، بطانة من الكافرين دون المؤمنين؟ ..
وهل يقبل عاقل ذلك حتى لو أغمضنا عن الفرق بين الايمان والكفر ، فإنه لا يعقل
اتخاذ بطانة بين طائفتين مختلفتين ، والله تعالى يقول : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي أوضحنا لكم العلامات الدالة على وجوب موالاة أولياء
الله ومعاداة أعدائه (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) أي تدركون ما أوضحناه بالبيان الشافي والمنطق الوافي .. وقد
قيل إن الجمل الثلاث مستأنفات ، في موضع التعليل ، والجملتان الأولتان نعت
للبطانة.
١١٩ ـ (ها أَنْتُمْ أُولاءِ ..) الهاء : للتنبيه. وأنتم : مبتدأ ، خبره : أولاء.
فإنه سبحانه نبهنا
رحمة منه ورأفة ، الى أن هؤلاء هم الذين (تُحِبُّونَهُمْ) وهم يبغضونكم لما بينكم من المخالفة في الملة (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) تصدقون به ، أي بجنسه. والواو للحالية ، أي لا يحبونكم
والحال أنكم تؤمنون بكتبهم جميعا. فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم؟ ..
وفي الشريفة توبيخ للمؤمنين ، لأن الكافرين مع باطلهم أصلب من المؤمنين في حقهم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) نفاقا ومخادعة لأنهم يقولون : نحن معكم ومنكم (وَإِذا خَلَوْا) أي إذا انفردوا بأنفسهم وابتعدوا عنكم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أي رؤوس الأصابع يعضونها بأسنانهم (مِنَ الْغَيْظِ) وهو كثرة الغضب والحقد ، لأن صدورهم امتلأت بنار الحسد
والتحسر حيث يرون ائتلافكم واتحاد كلمتكم ، ولم يجدوا سبيلا للتشفي إلّا عض
الأصابع. (قُلْ : مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ) أي : يا محمد ، قل للكافرين : موتوا بحسرتكم وغضبكم مما
ترون من علو كلمة الإسلام (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) عارف شديد العلم والمعرفة بما في صدوركم من النفاق وشدة
العداوة والبغضاء للمسلمين ..
١٢٠ ـ (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ..) أي إذا أصابتكم نعمة. وقد ذكر هذا المعنى على سبيل الاستعادة
للتذكير ، فإن كل نعمة من الله تعمكم (تَسُؤْهُمْ) تصيبهم بسوء أي ضيق خلق وحنق وحقد على المؤمنين (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي إذا وقعتم في محنة أو غلبة عدوّ عليكم ، أو فاجأتكم
كريهة من مكاره الدهر وأسوائه (يَفْرَحُوا بِها) يستأنسوا بما يضركم. وفي هذه الشريفة بيان لاشتعال نار
حسدهم لفرط بغضهم وتناهي عداوتهم ، وإيذان بأنهم أعدى عدوكم فاحذروهم حذر الغنم من
الذئب (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم وأذاهم (وَتَتَّقُوا) تتجنبوا موالاتهم ومخالطتهم واتخاذهم بطانة ، فإنه (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) والكيد : المخادعة والمماكرة. ووجه عدم التضرر من كيدهم
لما وعد الله تعالى الصابرين والمتقين من الحفظ والنصر على أعدائهم في كل أحوالهم (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي أنه تعالى محدق بأعمالهم عالم بها ومطلع على ما في
ظواهرهم وضمائرهم
، يعلمها من جميع جوانبها ولا يخفى عليه تعالى شيء من أمورهم الظاهرية والباطنية.
* * *
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦)
لِيَقْطَعَ
طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(١٢٩))
١٢١ ـ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ..) يعني اذكر يا محمد حينما أصبحت وسافرت من وطنك ومحل إقامتك
في المدينة. والمراد هنا سفره الى موقعة أحد على ما نقل عن جماعة كابن عباس ومجاهد
وغيرهما من المفسرين ، وهو المروي عن أبي جعفر عليهالسلام. وقيل إنه يوم الأحزاب ، وقيل يوم بدر ، والأول هو الأولى
بالقبول لأنه معتضد بالمروي عن الباقر عليهالسلام وابن عباس حبر المفسرين. فاذكر يا محمد خروجك (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ
لِلْقِتالِ) أي تهيأ المؤمنين للحرب في مواطن الموقعة وتعطيهم مراكزهم.
والجملة حالية من فاعل غدوت (وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) يسمع أقوالكم ويعلم ما تنطوي عليه ضمائركم ويعرف ما يصدر
عنكم لأنه معكم أينما كنتم يسمع ويرى ، فلا تخافوا الأعداء ما دمتم كذلك. وهذا
الذيل جاء تسلية للنبي (ص) وهو تجرئة من الله سبحانه وتقوية له على أعدائه.
١٢٢ ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ ..) أي أذكر أيضا حين حاولت طائفتان من المسلمين (أَنْ تَفْشَلا) إذ كادتا أن تقرران عدم الخروج من المدينة الى الحرب حينما
تشاور الأصحاب بأمر المشركين الذين خرجوا من مكة لحرب النبي (ص) وأصحابه. والطائفتان
هما بنو سلمة وبنو حارثة ، حيان من الأنصار على ما هو المنقول عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (ع) وابن عباس وجماعة كجابر بن عبد الله والحسن وقتادة والعمدة لنا هنا
قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام.
أما الفشل فجاء
هنا لمعان منها التراخي والابتعاد عن الحرب ، وهو الأنسب من الجبن في المقام إذ
الجبن أيضا من معانيه كما لا يخفى وحاصل المعنى أن الطائفتين المذكورتين بعد أن
تشاور معهما النبي (ص) في أمر المشركين يوم أحد ، توانتا وتراختا عن الخروج بل
نهتا النبي (ص) عن ذلك وقالتا إن البقاء في المدينة أصلح لحالنا لأننا محتمون
بحصوننا ، والمهاجمون خارج المدينة مكشوفون ليس لهم حصن يدفع عنهم ، ونحن نظفر بهم
ونردهم على أعقابهم مطرودين مغلوبين. هذا في حين أن جميع
المهاجرين
والأنصار ـ ما عدا الطائفتين ـ اتفقوا على العكس واجتمعت كلمتهم على الخروج ، لأن
في الخروج حفظا لهيبة المدينة وصيانة لأهلها. وهذا الخلاف كان سببا لتقاعد
الطائفتين وتأخرهما عن الخروج في الزحف لا خوفا من الحرب بحسب الظاهر بل عملا
برأيهما ، ولكن النبي صلىاللهعليهوآله قدم قول الأغلبية وخرج بمن خرج معه (وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فقد قال الله تعالى : أنا ولي الطائفتين وولي تبديد فشلهما
وتخذيلهما وناصرهما مع المسلمين. وفي هذا دلالة على أن الله عصمهما عما همتا به.
وقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يدل على تشجيع المؤمنين في كل حال كما يتبادر الى الذهن ،
ويكون المعنى أن الإنسان المؤمن لا بد وأن يخاف من غيره كما يخاف غيره منه ، ولكن
عليه أن لا يخاف وأن يطرح الفشل وراء ظهره وأن لا يتقاعد عن طاعة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأن يكون تمام توكله على الله تعالى ، ولا سيما بعد أن
يعلم أن الله هو وليه وناصره في جميع أحواله وفي حرب أعداء الله بصورة خاصة. ويؤيد
ما استفدناه من هذه الآية الكريمة ما يعقبها من الآية التالية لها ، وهو قوله جل
وعلا :
١٢٣ ـ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ ..) فإنه سبحانه يذكرهم الحرب في موقعة بدر ، ونصره لهم فيها.
وبهذا تذكرة ملازمة لتهييجهم وتحريكهم لحرب المشركين في معركة أحد. بيان ذلك أن
النبي صلىاللهعليهوآله قد كان معه يومئذ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا ، وكان عدد
المشركين ألف رجل. فنصر الله المسلمين بثلاثة آلاف من الملائكة ، وتغلب النبي (ص)
على أعدائه ببركة ملائكة النصر. وفي هذه الغزوة ـ يوم أحد ـ أخذ يذكرهم بتأييده
لهم في بدر ، ويشجعهم ليطمئنوا الى الظفر فيها أيضا مع كون عدتهم قليلة ، ومع كون
جيش المشركين في غاية الكثرة من العدد ، لكنهم أين يفرون من جند الله وحزب الله هم
الغالبون ، بدليل أنه نصركم (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ولفظ : أذلة ، يحتمل فيه قويا أنه من ذل يذل ذلا البعير : أي
انقاد وسهل انقياده فهو ذلول ، وجمعه أذلة وذلل. كما أنه يقال : ذلت له
القوافي : أي سهلت
وانقادت. ويؤيد هذا المعنى الروايات الواردة في المقام. فمنها ما عن القمي
والعياشي عن الصادق عليهالسلام : ما كانوا أذلة وفيهم رسول الله. وإنما نزلت وأنتم ضعفاء.
وفي العياشي أيضا عنه عليهالسلام وقد قرأ أبو بصير الآية فقال له : مه ، ليس هكذا أنزلها
الله ، إنما أنزلت وأنتم قليل. وفي رواية أخرى : ما أذل الله رسوله قط ، وإنما
أنزلت : وأنتم قليل. ومن هذه الروايات ـ مجموعة ـ نستفيد أن لفظة : أذلة ، إمّا أن
لا تكون نازلة ، وإما أن تكون مشتقة من ذل يذل ذلة كما ذكرنا آنفا. وحاصل المعنى
أنه سبحانه يمدحهم هنا بانقيادهم وتسليمهم وكونهم شجعانا في حرب أعدائه ، ولو لا
ذلك لما أقدموا على وقعة بدر مع قلة عددهم وكثرة عدد عدوهم ، ولكن لولا نصر الله
لهم لكانوا مغلوبين مهزومين. فلا تخافوا إذا من العدو ما زال نصري معدا لكم أينما
كنتم.
وبدر ماء بين
الحرمين سمي باسم صاحبه. ووقعة بدر لم تكن أمرا عاديا ، بل كانت من خوارق العادات
لعدم تكافؤ الجيشين بالعدد والعدة ، فقد كانت في المشركين الخيل والنعم والسيوف
والدروع والرماح والسهام ، في حين أن المسلمين لم يكن معهم سوى فرسين وكان بعض
سلاحهم من جريد النخل وإبلهم كانت بضع أباعر معدودة يتعاقب عليها الرجلان والثلاثة
، وأكثرهم مشاة ، ولم يخرجوا بأهبة حرب ولا عزة محارب بل كانت بنظرهم مجرد غزوة ،
ومع ذلك كتب الله تعالى لهم النصر والغلبة على الأعداء (فَاتَّقُوا اللهَ) وتجنبوا سخطه بنصرة دينه والثبات على إعلاء كلمته والتوكل
عليه فإن ذلك من شأن كل مؤمن (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي افعلوا ذلك لغاية أن تشكروا الله على ما منحكم من جزيل
النعمة وباهر النصر.
١٢٤ ـ (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ..) قيل إنها ظرف والتقدير : أذكر حين كنت تقول للمؤمنين (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) ألا يعد كافيا لكم في الثبات والاطمئنان للنصر (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ) أي يعطيكم مددا ومعونة للنصر ، ويساعدكم (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) هم ملائكة النصر الذين يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم ،
فانتصرتم على أعدائكم مع قلة عددكم وعدتكم
وكمال عدتهم وكثرة
عددهم بأولئك الملائكة الذين كانوا (مُنْزَلِينَ) من السماء لمساعدتكم. والاستفهام هنا للإنكار أن لا يكفيكم
ذلك! أي : نعم يكفيكم. وقد جيء بلفظة : لن ، إشعارا بأنهم مع ضعفهم وقوة عدوهم
كانوا يائسين من النصر.
١٢٥ ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا ..) هذا ردّ على مضمون النفي في جملة : ألن يكفيكم ، وإيجاب
لمنفي لن. أي : بلى يكفيكم بقيد ما قال سبحانه ، وهو : إن تصبروا (وَتَتَّقُوا) أي تثبتوا على ما يأمركم به النبي (ص) مع التزام التقوى في
تجنب مخالفته (ص) لنصر الدين وعدم الفرار من الزحف (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ) الفور : هو العلو والرفعة. ويقال : فارت القدر أي غلت
وارتفع ماؤها بقوة الحرارة بحيث يفيض ما فيها من جسم مائع على جوانبها. ويقال أيضا
: فارت الفوارة أي علت ونزلت. فيحتمل قويا أن يكون معنى الشريفة : يأتوكم من فورهم
: أي يهجم عليكم أعداؤكم من ناحية علوهم وارتفاعهم عليكم بقوة العدد والعدة ، وذلك
كناية عن غلبتهم للمسلمين واستيلائهم على أسلابهم لو لم يكونوا مؤيدين بنصر الله. فحينئذ
، وفي (هذا) الزمان أو الوقت (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) سواء كانت نفس الملائكة التي نزلت ببدر مع إضافة ألفين
جديدين أو غيرهم وفي العياشي عن الباقر عليهالسلام : أن الملائكة الذين نصروا محمدا صلىاللهعليهوآله يوم بدر ما صعدوا بعد ، ولا يصعدون حتى ينصروا صاحب هذا
الأمر عجل الله تعالى فرجه.
وإنما جزنا عن
اتّباع المفسرين في حملهم الفور على معناه المتعارف ، أي الفورية والسرعة التي هي
ضد التراخي والامهال ، لأن ذلك لا يناسبه المقام لأن المسلمين إذا وقعوا في ناحية
المغلوبية فإن النصر من الله وإمداده تعالى لهم لا بد وأن يجيئهم منه تعالى لطفا
بهم ، لأن نصر المشركين على المسلمين فيه مفسدة عظيمة لأن فيه إفناء المسلمين
والقضاء على الإسلام وإماتة الحق وإحياء الباطل ، ولا يرضى بذلك الشارع الأقدس
أبدا. ويؤيدنا في ذلك حديث : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
هذا مضافا الى أن
بعض المفسرين قالوا : من فورهم : أي من جهتهم ، أو من سرعتهم أو من ساعتهم وأمثال
ذلك مما يعد غريبا إذ لا تساعد عليه اللغة ولا ينهض بالمعنى المقصود في المقام ،
وقد وقعوا في هذا التفسير ولم يفطنوا الى أن الأعداء لم يأتوهم من ساعتهم بل بعد
زمان متراخ ، أي بعد استراحتهم يوما أو يومين ثم أتوهم بالسطوة والغلبة ، فكان على
الله نصرهم وإمدادهم بالملائكة وغير ذلك من أسباب إهلاك الكفر لرفع معنويات
المؤمنين ، ولئلا يستولي الكفر وينطفئ نور الإسلام في حال أنه سبحانه شاء أن يتم
نوره. واقتضت حكمته أن تعلو كلمته. فالله تعالى يمددكم بملائكة (مُسَوِّمِينَ) أي معلمين بعلامة يعرفون بها قد وسموا بسيماء الحرب. وقيل
كانت عليهم عمائم بيض لها طرفان مرسلان واحد من الوراء وآخر من الامام كما عن
الباقر عليهالسلام. (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما قدر نصركم هذا بملائكة الحرب والنصر (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) سوى بشارة سارة لكم بأنكم الغالبون (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي لترتاح قلوبكم وتسكن الى هذا الأمداد بعد خوفها وبعد ما
أصابها من الروع (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولعله سبحانه وتعالى أراد أن يقوي مقام توكلهم عليه تعالى
ويفهمهم بأنه هو تعالى الناصر الحقيقي ولا يكون النصر إلا من عنده ، وأن الملائكة
من جملة أسباب مرحلة جلب الاطمئنان لقلوب المسلمين وتهدئة خواطرهم والاستبشار
برؤيتهم ومعرفة وجودهم في معركتهم مع الكفار ، وبذلك ينشطون على الهجوم ولا يبالون
بالموت. فلا نصر إلا من الله (الْعَزِيزِ) الذي لا يغلب في قضيته (الْحَكِيمِ) الذي ينصر ويخذل على مقتضى حكمته.
١٢٧ ـ (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا ..) مطلع هذه الشريفة علة لقوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ). والقطع هو الجزّ والابانة والمعنى أنه سبحانه ينصر رسله
على الطوائف التي تناوئهم لقطع دابر الذين كفروا ولم يؤمنوا بالله. ويهلكهم حتى لا
يفسدوا في الأرض تدريجيا وقد استعمل سبحانه قطع الطرف أي العضو الفاسد منهم لئلا
يسري الفساد
الى سائر الأعضاء
فيفسدها ، وهكذا الإنسان الفاسد قد يصير مفسدا لغيره فلا جرم أن يفنيهم ويستأصلهم
عضوا عضوا وطائفة طائفة ، حتى يطهّر الأرض منهم. فإمداد المؤمنين ونصرهم يكونان
منه تعالى لاستئصال شأفة الكفر وإن كان جل وعلا قادرا على إهلاكهم دفعة واحدة في أقل
من طرفة عين ، ولكنه يفعل ذلك مع طرف ليعتبر الطرف الآخر ، ويفني طائفة لتتعظ
الطائفة الأخرى وتثوب الى الرشد رحمة منه بالعباد ، وليتذكر اللاحق ما فعل
بالسابق. وإن في الامهال أيضا فسحة لرجاء التوبة فيما لو اتفق أن أحتك الكافر بولي
من أولياء الله فاختار الهدى على العمى فوفقه الله تعالى للايمان والانابة اليه.
كما أنه يحتمل قويا أن لا يهلك الكافرين دفعة واحدة إذ جرت قدرته الكاملة واقتضت
حكمته البالغة أن يخرج مؤمنا من صلب كافر ، فيمهل لإجراء مقدوره في الأمور ، وهو
أعلم بما يفعل حين يهلك الكافرين (أَوْ يَكْبِتَهُمْ
فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) والكبت هو الاهانة والاذلال وإبقاء الغيظ والحقد في الصدر.
وكبته لوجهه : صرعة. والكبت أيضا خزي ، وحمله على كل واحد من هذه المعاني يناسب
المقام ، وقد يقال : يكبتهم أي يخزيهم ويغيظهم غيظا شديدا بالهزيمة والهلاك ،
فينقلبوا ، أي : يرجعوا بالانقطاع عما أملوا ، بالخيبة والخسران في الدنيا والآخرة
، كمثل ما حدث لهم في موقعة بدر إذ قتل منهم سبعون من صناديدهم وأسر منهم سبعون
بطلا من أكابرهم وأخذت منهم الفدية التي هي جزية أرغمت أنوفهم وأذاقتهم الذل
والهوان.
١٢٨ ـ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ..) هذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، فإن قوله
سبحانه : (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على ما قبله. وقد جاء نصب الجملتين بالعطف على ما
قبلهما من قوله تعالى : ليقطع طرفا إلخ .. والاعتراض ليس أمرا مبتدعا ، بل هو
متعارف ، وإن كان يأتي غير بديع كما في قولهم : علّمتك فافهم وزيدا. وحاصل معنى
هذه الآية المعترضة أنه : ليس لك يا رسول الله أن تتصرف في أمر هؤلاء فإن الله هو
مالك أمرهم ، فإما أن يهلكهم ويخزيهم ، وإما أن
يتوب عليهم إن
تابوا وأقلعوا عما هم فيه ، أو يعذبهم إن أصروا .. ويستفاد من مضامين هذه الآية
الشريفة ونظائرها ، أنها في مقام تنبيه النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وتأديبه بأدب الله تعالى الذي يؤدب به أنبياءه ، ويجعلهم
متعلمين بتعاليمه ، ويجعل خلفاءه متعلمين بتعاليم أنبياءه ، ويجعل الأمة متأدبة
بآداب الخلفاء الذين هم حجة عليها. فهو سبحانه حريص على أدب نبيه العظيم بأدب
الرحمة الربانية وتزويده من نور حكمته الالهية حتى في الأمور العرفية لطفا به
ورحمة به وبجميع أنبيائه ورسله الذين أدبهم بأدب السماء وأفاض عليهم من الخلق
العظيم والرحمة الواسعة. وبنظرنا أن الآيتين الكريمتين ، وإن كان لهما مضمون عام ،
قد نزلتا بخصوص ما أحاط بواقعة بدر بعد غلبة النبي صلىاللهعليهوآله للمشركين وقتل سبعين وأسر سبعين ، وأنه (ص) قد استشار
القوم الذين هم أهل الاستشارة في أمر الأسارى! وأنهم اتفقوا على أخذ فدية منهم
لتقوية جيش المسلمين الضعيف بالعدة والعدد ، فاستحسن النبي (ص) رأيهم وأخذ في
إطلاقهم وأخذ الفداء منهم ، فخاطبه الله تعالى تسلية له إذ ربما كان في نفسه أن
يقتلهم ويتخلص منهم ، فطيب الله خاطره وهو أعلم بالمصالح ، فلم يزجره ولا خطأ عمله
لأنه ما كان ليفعل شيئا إلا إذا كان مأمورا به كليا سواء في الأمور الدنيوية أو
غيرها. وقد قال له سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، ورسم له بذلك دستورا يتمشى عليه ، وهو ما فعله في
المقام. فأزاح الله تعالى عنه الضيق النفسي الذي عاناه حين إطلاق الأسارى
بالمفاداة ، فقال له وإن أمرهم يعود إليّ أولا وأخيرا وستنفذ فيهم مشيئتي على كل
حال (فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ) وجزاء الظالم مرصود له عندي. وعبارة : فإنهم ظالمون هي في
ظاهرها تعليل لحالهم ولكون مآلهم اليه سبحانه فهو يتوب عليهم أو يعذبهم بحسب
الشروط التي يستحق بها العبد قبول التوبة أو العذاب.
١٢٩ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ..) أي هو مالك أمورها جميعا ، وبيده زمام الموجودات التي فيها
طرا ، وليس للسماوات ولا للأرض
ولا لما فيهما من
اختيار ، بل كلها مسخرات بقدرته (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) لمن يذنب من المؤمنين إذا تاب وصلح (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن لم يؤمن ولم يتب من الشرك أو الذنوب. والغفران
والتعذيب من مظاهر قدرته تعالى ومن مصاديق عجز البشر وذلهم بين يديه جل وعلا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولو لا مغفرته ورحمته لما قبل توبة تائب ولما ترأف بمذنب
لأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)
وَأَطِيعُوا
اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
أُولئِكَ
جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))
١٣٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) كثيرا ما تتوجه الخطابات السماوية الى أهل الايمان أي
المصدّقين لشرف منزلتهم وكرامتهم عند الله تعالى. ولكن مفاد تلك الخطابات مشترك
بينهم وبين غيرهم من الناس ، ولا سيما في مراحل جعل الأحكام ، فإنها لا تختص بشخص
دون شخص ، بل لمطلق إنسان واجد للشرائط ، وفيما نحن فيه وهو أكل الربا حرمته لعامة
المكلفين الواجدين لبقية الشرائط ، وكذا غيره من التكاليف. فالأمر موجه لسائر
الناس : (لا تَأْكُلُوا
الرِّبَوا) أي الزيادة على أصل المال ، وذلك بأن يضاعف بالتأخير الى
أجل بعد أجل ، بحيث يزاد كلما أخر زيادة بعد زيادة. ولعل هذا هو ربا عصر الجاهلية
الذي كان شائعا عندهم كما عن عطا ومجاهد ، أو هو كل الزيادة المحرمة في المعاملة
التي قد يصير المال بها أضعافا مضاعفة. ووجه النهي عن الربا هو لنحو من جهات
المفسدة فيه. بيان ذلك أن الربا بحسب طبعه وطبيعته يترتب عليه جور وتجاوز لحدود ما
يقتضيه العدل والإنصاف المحبوبان من الشارع ، ولذلك أمر بهما وجعلهما من أركان
نظام الاجتماع في العالم ، فلا بد من رعايتهما حتى لا يوجد في المجتمع البشري فساد
كالفساد الذي يحدثه الربا فإن فيه استنزاف واستهلاك مال المديون بما يؤخذ منه
تباعا فيبلغ أضعافا مضاعفة بالنسبة لما استدانه. وأي فساد أعظم من هذا ، بل أي ظلم
هو أكبر من ذلك؟ فلا تتعاملوا بالربا أيها الناس (وَاتَّقُوا اللهَ) والتقوى هي التي يقوم بها النظام ويستقيم بها الاجتماع ،
ويزهق بها الفساد ، ويقضى بها على المحرمات بجميع أشكالها ، وينتشر لواء العدل
ويزول الجور عن المؤمنين ، وتحل النصفة وتهيمن روح المجتمع الصالح. وقد اهتم
سبحانه بالتقوى اهتماما لم يرد في غيرها لأنها تبرهن عن العمل بالواجبات ،
والاجتناب عن المحرّمات ، وأعلى مرتبة فيها هي أن يعمل المؤمن بما هو مأمور به ،
وأن يترك ما هو منهي عنه.
وقد ذكر الأكل في
النهي عن الربا ، لكون معظم الانتفاع يعود للأكل وإشباع الحواس ، وإن كان غيره من
التصرفات منهيا عنه أيضا ، واختص
بالذكر لأن
الإنسان يهتم أكثر ما يهتم ببطنه وفرجه. ولن يفوتنا أن في تحريم الربا مصالح لا
يعلمها إلا الله غير ما ذكره لنا وغير ما ذكرناه ، لأن الزيادة في البيع مثلا أي
الربح قد أحلها الله تعالى لأن العبد المحتاج قد لا يشتري إلا حاجته الضرورية نقدا
، في حين أنه قد يستدين بالربا الى أجل فيقدم على التوسعة ثم لا يحس إلا وقد وقع
في حلول الأجل قبل الوفاء ، فيقع في زيادة ربا على ربا من أجل زيادة التأجيل ، ثم
لا يعتم أن تتضاعف ديونه وتتكاثر وقد تستوعب كل ما يملكه. فامتنعوا عن أكل الربا
أيها الناس (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) وعسى أن تكونوا من الفائزين برضى الله الناجحين بنيل
ثوابه.
١٣١ ـ (وَاتَّقُوا النَّارَ ..) تجنبوها ، واحذروا من نار جهنم وما يوجب دخولها من الأقوال
والأفعال السيئة التي تؤدي إليها ، إذ ما أخس مقامها ، وما أشد عذابها ، فهي ترمي
بشرر كالقصر ، فكيف بلهبها ، وكيف بجمرها ، وكيف بحرّها الذي لا يقاس بحر نار
الدنيا ، فإنها النار التي سجرّها الله لغضبه و (الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) أي هيئت سلفا لاستقبالهم وزجّهم فيها. وقد خصص سبحانه
الكافرين بالذكر ، وذكر إعدادها لهم ، لأنهم معظم أهلها ، فهم العمدة وإن كان
غيرهم من الفسقة والفجرة يدخلونها ، ولكن على وجه التبع لا الأصالة كالكفرة الذين
هم المخلدون في النار لأنه قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.) وقوله جل وعلا هنا يشبه قوله عن الجنة : أعدت للمتقين ، مع
أنها يدخلها غيرهم من الأطفال والمستضعفين والمجانين وغيرهم. والحاصل أن تخصيص شيء
بالذكر ، لا يدل على أن ما عداه بخلافه ، والتخصيص به أعم من تقييد شيء بشيء.
١٣٢ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ..) يمكن أن يقال في وجه ارتباط هذه الآية الكريمة بما قبلها ،
أن هذه الآية جواب عن سؤال مقدر في المقام ، وهو أن اتقاء النار المعدة للكافرين
أصالة ولسائر العاصين تبعا كيف يمكن أن يتم؟. فيقال : بإطاعة الله فيما أمر به ،
والرسول فيما جاء به من عند ربه من
الشرع. فإذا
أطعتموهما وعملتم بما أمرا به وانتهيتم عما نهيا عنه ، فإنكم تصيرون موردا لرحمته
سبحانه ولا تمسكم النار ، بل تكونون من الناجين منها (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) بذلك وتفوزون بمرضاة الله تبارك وتعالى.
١٣٣ ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ ..) أي بادروا بوجه السرعة الى ما يوجب المغفرة من صالح
الأعمال وحسن الأقوال والتوبة والاستغفار ، لتنالوا المغفرة (مِنْ رَبِّكُمْ) والتجاوز منه سبحانه عن ذنوبكم. فأسرعوا الى ذلك ، والى (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ) أي مقدار عرضها كمقدار عرضهما معا. وقد ذكر العرض مبالغة
في السعة ، لأن العرض يكون دائما أقل من الطول. فقد يكون طولها مثلا كطول سبع
سماوات وسبع أرضين لو تواصلت فيما بينها ، ويكون كل من عرضها وطولها حينئذ ما لا
يقدر الناس على استيعابه ولا يخطر لهم ببال ، أما وصفها الحقيقي فهو : مالا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. كما أن جميع ما في الجنة هو بوصفه الحقيقي
هكذا ، أي أن وصفه لا تدركه أفهامنا ولا تحصره أوهامنا ، من مآكلها الى مشاربها
الى ما فيها من الحور العين وغير ذلك من أنواع البهجة وألوان النعيم التي لا تحيط
بوصفه عقولنا وإن كان سبحانه قد ضرب لنا مثلا محسوسا عن قصورها وحورها وأثمارها
وأطيارها بحسب ما تدركه أفهامنا.
هذا وقد كان ديدن
العرب أن يصفوا بالعرض ما يريدون وصفه بالسعة. وقد قال امرؤ القيس :
بلاد عريضات ،
وارض عريضة
|
|
مواقع غيث في
فضاء عريض
|
وقد قيل : إذا
كانت الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض فأين تكون النار؟
والجواب هو أن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما روي قد سئل عن ذلك فقال : سبحان الله ، إذا جاء
النهار فأين الليل؟ وهو جواب إقناعي للسائل حينذاك كما يتبادر الى ذهن العصريين
والمتعلمين الذين
يعرفون أن النهار
إذا جاء على هذا السطح من الكرة الأرضية ، يكون الليل قد صار على السطح الآخر
المقابل له منها. والحقيقة أن جوابه (ص) في غاية العمق والدقة لأننا نقول : إن
القادر على أن يذهب بالليل حيث يشاء وعلى أن يجعل النهار حيث يشاء ، هو قادر على
أن يجعل الجنة دون العرش مثلا وفوق السماوات السبع ، وقادر في آن واحد أن يجعل
النار تحت الأرضين السبع وفي هاوية ليس لها قرار في العمق ...
وهذه الجنة التي
ذكر عرضها كناية عن سعتها (أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت وأحضرت للمؤمنين السامعين المطيعين العاملين بجميع
أوامره جلت قدرته. ومن هذه الشريفة يظهر أن الجنة مخلوقة ، كما يظهر من الآية
السابقة لسابقتها أن نار الجحيم مخلوقة أيضا ، بدليل ما ختمها الله تعالى به :
أعدت للكافرين
١٣٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ..) الجملة نعت للمتقين ، فهم الذين يصرفون أموالهم ويبذلونها
لوجه الله (فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ) أي في حالتي اليسر والعسر ، أو بتعبير آخر : حال كثرة
المال ، وحال قلته كما عن ابن عباس ، أو هما كناية عن جميع الأحوال ، أي أن ما
يعرض للبشر من تحولات وتقلبات لا يؤثر فيهم ولا يمنعهم عن طاعة ولا يدفعهم الى
معصية ، ولا يوقفهم عن بذل وإنفاق في سبيل الله ، لأنهم من المؤمنين الراسخين في
إيمانهم (وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ) من كظم القربة : أي ملأها وشد رأسها. فالمتقون ، مع امتلاء
أجوافهم من الغيظ والغضب من جراء بعض المآزق الصعبة العارضة عليهم في دار الدنيا
وبسبب ما يرون من الظلم والتعدي على حرمات الله ، كانوا يحبسون غيظهم في صدورهم ،
ويردونه بصبرهم ، ويمنعون هيجانه وإثارته بملكة الايمان والتسليم لله تعالى عندهم
، مع قدرتهم على الانتقام. فهم من الصابرين (وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) أي المتسامحين عن زلات غيرهم ، التاركين لمؤاخذة من جنى
عليهم أو أضرّ بهم ضررا ينبغي أن يعارضوه بمثله (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يتصفون بهذه الصفات التي هي من الإحسان ، لأن
هؤلاء الذين
يكظمون غيظهم ،
ويعفون عن المسيء إليهم ، يحسنون الى غيرهم من خلق الله تعالى ، والله تعالى محسن
يحب المحسنين. والمحسن لغة هو المنعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح ، أو
الفاعل للأفعال الحسنة من أقسام الطاعات وأعمال الخيرات المقربة من الله. وأكمل
مصاديقها هم الأئمة الإثنا عشر صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فقد روي أن
الامام زين العابدين ، علي بن الحسين عليهالسلام كانت جارية له تسكب الماء على يديه ليتوضأ ويتهيأ للصلاة ،
فسقط الإبريق من يدها فشجّه. ورفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إن الله تعالى
يقول : والكاظمين الغيظ. فقال (ع) : قد كظمت غيظي. قالت : والعافين عن الناس. قال
: قد عفا الله عنك. قالت : والله يحب المحسنين. قال : اذهبي لوجه الله ، فأنت حرة.
١٣٥ ـ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ..) الفاحشة هي ما اشتد قبحه من المعاصي والذنوب التي إذا
ارتكبوها (أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) أي حمّلوها ما لم تحمل مما هو دون الفاحشة التي هي أيضا من
ظلم النفس ، كارتكاب الزنا واللواط وأكل مال الناس ظلما وجميع ما يتعدى ضرره الى
الآخرين ونحو ذلك. أما ظلم النفس فهو عبارة عن المعاصي التي تخص الشخص العاصي
كالرياء والسمعة وشرب الخمر والحسد والبخل وجميع ما لا يترتب عليه أثر خارجي ،
وكالردة فإنها وأمثالها لا تتجاوز الى غير مرتكبها وهي مصاديق ظلم النفس. أما
العطف بأو ، فيدل على المباينة بينهما ، والتباين يحصل بما قلناه من الفرق ، مضافا
الى ظهور الظلم للنفس في ما حملناه عليه ، كما أن شأن نزول الآية أيضا يؤيدنا ،
فإنها نزلت على قول في تيهان التمّار الذي أتته امرأة تبتاع تمرا فقال لها : إن
هذا التمر ليس بجيد وفي البيت تمر أجود منه ، وذهب بها الى بيته فضمها الى نفسه
فقبّلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم. ثم أتى النبي (ص) وذكر له ذلك فنزلت
الآية. فالفاحشة فيها ظلم للغير أيضا وتصرف في سلطانه كما يتضح من شأن النزول.
أما إعراب الآية
فقيل فيه : إنها مجرورة عطفا على المتقين ، ولكنه لا
بأس بالقول أنها
منصوبة المحل عطفا على المحسنين ، لأن تبعيد المسافة بينها وبين المعطوف عليه ولا
وجه فيه ، بينما الوجه الحسن يكون في تقريبها مهما أمكن.
فهؤلاء إذا
ارتكبوا فاحشة ، أو إذا ظلموا أنفسهم (ذَكَرُوا اللهَ) تذكروه بعد النسيان. فإن من شأن العباد ، حين ثوران
شهواتهم وهيجانها ، أن تعرض لهم الغفلة وينسون ربهم ويشتغلون بالذنب عن كل شيء ،
ولا يتوجهون الى أن ما يفعلونه ذنبا. فإذا فرغوا من العمل وعادوا الى حالة
الاعتدال والاستقامة الطبيعية ، انتبهوا الى أنهم فعلوا قبيحا وتجاسروا بعملهم على
مولاهم وخالقهم ، وتعدوا حدوده. فلما ذكروا ذلك انزجروا عن المعصية وندموا على
عملهم (فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا من ربهم غفران معصيتهم وما صدر منهم (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) أي لا يتجاوز عن السيئات ويمحوها إلا هو عزوجل. وهذه هي الغاية في ترغيب العاصين ، والنهاية في تحسين
الظن للمذنبين ، فإنه جل وعلا يلفت أنظارهم الى أنه الملجأ والملاذ لمجترحي
السيئات الذين يتوبون (وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا) أي لم يقيموا عليه ويداوموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) بأنهم عاصون مقصرون ، وهم مقرون ومعترفون بالذنب وبالتجاوز
عن حدود ما شرع الله. وبذلك يتميزون عمن ذكرهم الله تعالى من فاعلي القبائح محادة
وعنادا ، فإنهم بعيدون عن التوبة والاستغفار لأنهم محسوبون في زمرة الذين سلب عنهم
التوفيق وسعادة العاقبة.
١٣٦ ـ (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ..) أولئك إشارة للمتذكرين الله بعد فعل الفاحشة وظلم أنفسهم
المستغفرين لذنوبهم ، فجزاء تذكّرهم وتوبتهم مغفرة من الله وتجاوز عن ذنوبهم وعفو (مِنْ رَبِّهِمْ) عما فعلوه في حال الغفلة. وهذا تفضل من الله عليهم وإحسان
لم ينالوه باستحقاق ولكنه لهم منه عز وعلا فضل يمنحهم إياه هو (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) عطفها على المغفرة التي منحهم إياها. وجنات : جمع جنة ،
وهي الحديقة
الناضرة ذات الأشجار الملتفة وذات البهجة التي لا تخطر في البال ، تجري في نواحيها
الأنهار ذات المياه العذبة الهنيئة. وقد عرضنا لكلمة : تحتها ، في سورة البقرة ولا
نعيد ذلك هنا خوف التكرار. وكلمة خالدين ، منصوبة على الحالية من اسم الاشارة ، أي
حال كونهم مخلّدين في الجنات (وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) أي ونعم أجر العاملين ذلك الأجر .... والمخصوص بالمدح
محذوف كما لا يخفى.
* * *
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(١٤١)
١٣٧ ـ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ..) أي قد مضت قبل زمانكم وقائع سنها الله تعالى في الأمم
السابقة المكذبة (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ) أي فتقلبوا في أنحاء الأرض ، وأطلعوا على حال من مضى من
المكذبين وما نزل بهم
من ألوان العذاب
لتتعظوا بما ترون من آثار هلاكهم والخسف بهم أو مسخهم وأمثال ذلك من الأمور
الموجبة للاعتبار كآثار عاد وثمود وقوم لوط ، وكحال المكذبين من فراعنة وملوك
وجبابرة كطواغيت بني إسرائيل وأتباعهم ، فقد صارت عاقبتهم للفناء والشتات والجلاء
عن الأوطان والديار ، مضافا الى القتل والأسر وغيره من أنواع الهوان (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) أي نهاية أمر المنكرين.
١٣٨ ـ (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ..) أي هذا القرآن الذي ننزله عليك يا محمد ، والذي يشتمل على
تلك الأخبار ، ويشرح أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء والرسل ، هو بيان
وتوضيح للناس ، وفيه عبرة لمن يعتبر ويتعظ (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) والفرق بين الهدى والبيان أن الأول بيان لطريق الرشد الذي
ينبغي أن يسلك دون سبيل الغي ، فهو إظهار لمعنى لليقين للغير كائنا ما كان. أما
الهدى فهو الدلالة الى تلك الطريق بعد بيانها. والموعظة هي النصح وإصلاح السيرة
وذكر ما يحمل الإنسان على التوبة الى الله سبحانه. فالقرآن الكريم بيان وهدى
وموعظة (لِلْمُتَّقِينَ) وتخصيصه بهم مع كونه بيانا وهدى وموعظة للناس كافة ، هو أن
المتقين هم المنتفعون به ، والمهتدون بهداه ، والمتعطون بمواعظه ونصحه دون غيرهم.
١٣٩ ـ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا ..) الخطاب للمسلمين. وقد وجهه سبحانه إليهم تسلية عما أصابهم
في يوم أحد. ووهن معناها : ضعف واستكان. وفي القاموس الوهن هو الضعف في العمل. وقد
قلده صاحب المنار. ويتراءى لي من موارد استعمال كلمة الوهن ، أنه ضعف خاصّ لا أنه
مطلق الضعف ، ولذلك عبر بقوله تعالى عن هذا المعنى الخاص : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنْكَبُوتِ) ، بحيث لا يجوز أن يقال : إن أضعف البيوت بيوت العنكبوت ،
فتأمل ...
ومعنى الشريفة :
لا تظهروا أيها المسلمون ضعفاء في نظر الأعداء
فإن ذلك موجب
للتجرؤ عليكم في حال أنهم إذا لم تظهروا لهم وهنكم يرهبونكم ولا جرأة عندهم على الاستخفاف
بكم. ولا تحزنوا أيضا ولا تظهروا حزنكم لما أصابكم من قتل من قتل منكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) المتفرقون والفائزون عليهم في كل حال. وهذه بشارة للمسلمين
بالغلبة وتأكيد لخسران عدوهم. فافعلوا ذلك (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) صادقين في إيمانكم بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله (ص).
ويتفرع على الايمان الصادق كونكم غالبين بإذن الله. لأن هذا الايمان يوجب قوة
القلب والثقة بالله عزوجل.
١٤٠ ـ (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ..) يمسسكم أي يلامسكم. والتعبير بالمسّ يمكن أن يكون لتهوين
ما أصابهم ، أي أنه مسّ لا نكأة فيه. والقرح : أثر السلاح بالبدن ، والقرح : أول
ماء يظهر من البئر حين حفره ، وأول شيء يخرج من الجروح. وقيل إن الفرق بينهما أن
القرح هو الجراحة ، والقرح هو ألمها. ونقول : القرح بالفتح والضم ، كالجرح بالفتح
والجراح ، بالضم لفظا ومعنى ، أي مصدر واسم مصدر. أما بيان معناها فيحتمل قويا أن
يكون كناية عن الغلبة والهزيمة ، ويحتمل أن يكون ما أصاب المسلمين من الأذى قبل أن
يخالفوا الرسول (ص) أي في أول الموقعة حيث كان الظفر فأصابوا من الكفرة قتلا وأسرا
ما شاء الله ، أما بعد مخالفتهم لرسول الله (ص) فقد انعكس الأمر فنال الكفار من
المسلمين أكثر مما نال منهم المسلمون فكان عليهم أشد وأصعب إذ هزم عسكره صلىاللهعليهوآله ولم يبق معه من أصحابه وأنصاره إلا أبو دجانة الأنصاري
وعلي بن أبي طالب عليهالسلام وأفراد غيرهما ، حتى كان الناس يحملون على النبي من
الميمنة فيكشفهم علي (ع) فيحملون عليه (ص) من الميسرة فيكشفهم علي (ع) ولم يزل
كذلك حتى تقطع سيفه ثلاث قطع ، فجاء الى النبي (ص) وطرحه بين يديه وقال : هذا سيفي
قد كسر وتقطع ، فيومئذ أعطاه النبي (ص) سيفه ذا الفقار. قال الصادق عليهالسلام : نظر رسول الله (ص) الى جبرائيل بين السماء والأرض على
كرسي من ذهب وهو يقول : لا سيف
إلا ذو الفقار ولا
فتى إلا علي .. ولم يزل عليهالسلام يقاتلهم حتى أصيب في رأسه ووجهه ويديه وبطنه سبعين جراحة
.. هذا ، ولكن بعض أعاظم المفسرين قال في تفسير الشريفة أن ذلك إشارة الى ما أصاب
المشركين ببدر ، وهو المروي عن الحسن البصري. والحق في نظري القاصر هو أن الآية
الكريمة أشارت الى ما مس الكافرين في أول وقعة أحد ، والى ما مس المسلمين في آخرها
، بقرينة مذكورة في الآية ذاتها وهي قوله سبحانه : مثله. فالمماثلة رمز الى ما ذكر
، لأن الحرب في بدر كانت الغلبة فيها للمسلمين بحيث لم يدعوا فرصة للمشركين تكون
لهم فيها الغلبة. إذ أعان على ذلك ملائكة النصر ، فكانت الهزيمة للمشركين من أول
الحرب الى آخرها. ففي بدر قد تكون المماثلة موجودة في وجه من الوجوه إلا انها
معدومة من حيث تقابل العسكرين ، أما في أحد فكان التماثل بين العسكرين يصح كما يستفاد
من كلمة : مثله ، ذاك أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرين في أول الأمر ونالوا
غنائم وفيرة ، ثم لما أخطئوا في حفظ وصية الرسول (ص) نال منهم المشركون قتلا كثيرا
، فصار مس بمس وقرح بقرح (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي نصرفها بينهم ونجعلها أدوارا. ولعل الأيام يقصد بها
أيام الحرب من ناحية الغلبة والظفر وضدهما بحيث نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى
لوجوه من المصالح وأمور من الحكمة .. ويمكن أن يراد بالأيام أيام الرئاسة والتسلط
والحكم والتمكن ، وتكون مداولتها أي تعاقبها في أيدي الناس بقضائنا وقدرنا لمصالح
عديدة ، منها اختبارهم ، ومنها جعلهم عبرة لغيرهم حين انتزاعها منهم وإعطائها
لغيرهم ، ومنها إعلامهم بأن أمر الرئاسة وزمامها بيده سبحانه لا بيد غيره ، فهو
المعطي وهو الآخذ ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء. وتسبيبكم الأسباب
للوصول إليها على خلاف مشيئته لا ينتج ولا يؤدي إلا الى مصائر وخيمة وعواقب عقيمة
.. وهذه المداولة سنها الله سبحانه بين خلقه قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل لحكمة
استأثر بها لنفسه ، ولا نعرف منها إلا ما هو قريب من أذهاننا مما يقتضي التأديب
والموعظة والاختبار وغير ذلك من المصالح (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي يعرفهم. وقد نصب الفعل : يعلم ، بأن المقدّرة.
وفي هذه الجملة قد
يتوهم إشكال ، وهو أنه قد يستفاد من الآية الكريمة أنه تعالى لم يكن بعالم فعلا
حال الذين آمنوا ، ويحصل له العلم بهم بعد ذلك ، مع أنه سبحانه عالم بكل شيء في كل
آن! .. والجواب : وليجد المؤمنين على الحال التي سبق بها علمه ، لأن العلم يتعلق
بالمعلوم ، فنزّل نفي العلم الفعلي في الآية الشريفة المستفاد من سياقها منزلة نفي
متعلقه لأنه ينفى بانتفاء المتعلق. فإذا قيل ، لا يعلم الله حال الحاضر في زيد
خيرا ، يراد بذلك ما في زيد خير حتى يعلمه الله. فدل عدم علمه سبحانه في الحال على
نفي الايمان في ما مضى وفي زمان الحال. فنفى العلم لكون عدم متعلقه وهو إيمان
الذين لم يؤمنوا بالفعل وإذا وجد إيمانهم وحصل فيوجد علمه تعالى به ويثبت ، وإلا
فينتفي بانتفاء متعلقه كما في كل حكم وكل قضية تحتاج الى موضوع أو متعلق ، فهو نفي
عند نفيه ، وهذا أمر برهانه معه .. بل لو قلنا إن الله تعالى عالم بإيمان الذين لم
يؤمنوا لكان كذبا إلا باعتبار كونهم مشرفين عليه. وهذا مجاز وخارج عن بحثنا. وهذه
الآية نظير قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). بيان ذلك أنه : ولما يعلم الله المجاهدين ـ ولما يجاهدوا
منكم حتى يعلم الله المجاهدين ، لأن العلم يتعلق هنا بالمعلوم ، فإذا انتفى متعلقه
ينتفي هو أيضا ، فلذا كان نفي هذا منزلا منزلة نفي ذاك. ولما هي بمعنى لم ، إلّا
أن هناك فرقا بينهما. ذاك أن لما فيها معنى من ضروب الترقب والتوقع ، فتدل في
الآية على نفي الجهاد فيما مضى على توقع حدوثه وانتظار حصوله في المستقبل بخلاف لم
، فإنها لمطلق النفي لما مضى فالنفي بلما توقعي بخلاف ما هو في لم.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) عطف على ما قبله من قوله تعالى : وليعلم ، ونصبه بأن
المقدرة كما في سابقه. وهذه العبارة وسابقتها من مصاديق العلة المقدرة في قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ
النَّاسِ). وقد بينا قبيل هذا أن علة المداولة هي المصالح والحكم
العديدة ، منها علمه سبحانه بالمؤمنين وتميزهم عن غيرهم ، ومنها اتخاذه تعالى
شهداء منهم .. وفي قوله تعالى :
ويتخذ تكريم عظيم
لمكان الشهادة وللمستشهدين ، حيث إنه سبحانه اختبرهم واجتباهم للاستشهاد والفوز
بهذه المرتبة الراقية كما هو ظاهر الآية ، لا بالتسبيب فيكشف عن سمو المقام وعلوه
وعن أهليتهم لتلك المرتبة الرفيعة فهنيئا لأرباب النعيم. ولعل المراد بالشهداء
شهداء أحد ، أو مطلق المجاهدين في سبيل الحق والحقيقة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) جملة اعتراض فيها تنبيه للمؤمنين بأنه تعالى مع أنه لا يحب
الظالمين فإنه قد يمكنهم أحيانا ويحكمهم استدراجا لهم من جهة ، أو ابتلاء للمؤمنين
من أجل رفع مقامهم على الصبر على الظلم من جهة ثانية ، أو لاستحقاقهم تحكم
الظالمين بهم عند فرارهم من الزحف ومخالفة أمر النبي (ص) كما في حرب أحد ، أو
لمصالح أخرى لا نعلمها.
١٤١ ـ (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
..) أي ليخلصهم من الذنوب حين تكون الدولة عليهم. أو المراد
أنه تعالى يختبرهم بالبلاء ويغربلهم ليعرف المؤمن من غيره كما يختبر الذهب ليعرف
الجيد من الرديء .. (وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) أي ينقصهم شيئا فشيئا حتى يفنيهم عن آخرهم بظهور الحجة
عليهم فيظهر دينه على الأديان كلها. ونشير الى أن هذا الذيل تأويل للآية ، أما
تنزيلها فهو ظاهرها.
* * *
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ
إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
وَما
كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ
يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ
قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
فَآتاهُمُ
اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))
١٤٢ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ
..) أي : بل ظننتم. والاستفهام في مقام الإنكار ، ومعناه : لا
تحسبوا هكذا ، فإن ظنكم خطأ ، لأن دخول الجنة معلول الجهاد في حال إقامته. فلن
تدخلوا الجنة (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي قبل جهادكم ، ولم تجاهدوا حتى يعلم الله وهو عالم في كل
حال كما قلنا ولكن لتكونوا في صف المجاهدين الذين يستحقون دخول الجنة (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي : ولما كان صبر الصابرين محّققا في الخارج ، فبتحققه
تعلق العلم به خارجا. والحاصل أنه إذا حصل جهاد المجاهدين ، وتحقق صبر الصابرين في
ضمن الجهاد ، فبتحققها يعلم الله المجاهدين منكم ويعلم الصابرين أي يشاهد ما هم
عليه ، وقد نصب الفعل : يعلم ، بأن المضمرة ، والواو هنا للجمع.
وتوضيح الآية
الشريفة بتعبير آخر ، هو أنه تعالى يقول مخاطبا أمة محمد
صلىاللهعليهوآله : أتعتقدون أن دخول الجنة والوصول الى تلك السعادة يحصل
بمجرد التسمي بالمسلمين وبمحض العقيدة دون الاقتران بالعمل ، وبلا اختبار وامتحان
وصبر على المكاره؟؟؟ فلو كان أمر دين الإسلام هكذا لكان في غاية السهولة ولدخل في
الإسلام عدد كبير يفوق من دخل منهم فيه. ولكن دين الله ذو حقائق معنوية لا تقاس
بالعقول ، ولا بد للوصول إليها من عقيدة راسخة مقرونة بالعمل الصالح طبق التكاليف
المقررة من عنده سبحانه والتي قدرها لتكشف عن صحة التدين بما قرر ، وحينئذ يستفيد
من تدينه ومن اعتناقه الإسلام. فلا بد أن يتميز المجاهد من غيره ، ويمتاز الصابر
عن غيره ، حتى يبدو في عين الملأ هكذا ، وليراه الله على تلك الأوصاف الفاضلة
والعقيدة الصحيحة الكاملة ويعرفه بها وهو أعرف به من نفسه بل ليعرفه الناس مستحقا
لجزيل ثواب الله تعالى وأنه من أهل جنته التي أعدها للصالحين من المؤمنين
المجاهدين الصابرين في كل حال وفي الحوادث الصعبة التي تبدو فيها جواهر الرجال.
١٤٣ ـ (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ ...) حذفت إحدى التاءين من تتمنون كما هو شائع عند العرب ،
ومعناه معروف بحيث يصبح ذكره من تحصيل الحاصل. نعم فيه شيء لا بد من قوله ، وهو
الفرق بين التمني والإرادة. فالارادة من أفعال القلوب ، والتمني من مقولة اللفظ
كقول القائل : يا ليتني مت ، وكقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا ، ويا ليت كذا كذا
... وقيل إن التمني أيضا معنى في القلب واللفظ يظهره فلا فرق بينه وبين الارادة ،
والظاهر أن الحق هو هذا لأن التمني والارادة لفظان قد يترادفان معنى ، يؤيد ذلك أن
الارادة من معاني التمني على ما نقل صاحب المنجد ، وقول الترادف يؤدي الى إيراد
الطلب ، والميل والرغبة وإن كانت الارادة هي الباعث على إظهار التمني وإظهار كل
رغبة الى حيز الفعل. ومجمل القول أن كلا منهما وضع للمعنى ، واللفظان كاشفان عنه
كسائر الألفاظ المشتركة ... وأما شأن النزول ، فإنه ، بعد خاتمة حرب بدر ، كان
جماعة يتأسفون ويتحسرون على عدم توفيقهم لنيل الشهادة والوصول الى
مرتبة شهداء بدر
السامية والفوز بتلك الدرجة الرفيعة. وكانوا ـ فعلا ـ بين صادق وكاذب ، ثم دارت
الأيام والليالي فوقعت حرب أحد وفاز فيها الصادقون وسعدوا بالشهادة ونالوا الدرجة
الرفيعة ، أما الكاذبون فلما رأوا هزيمة المسلمين وغلبة المشركين أخذوا في الفرار
وآثروا الهرب على الاستقامة ونصرة الدين ، فعيرهم الله تعالى بهذه الآية ووبخهم
على فرارهم من الزحف ، وقال تعالى : كنتم تطلبون الفوز بالشهادة وتتمنون الموت في
سبيل نصرة الحق ، فلما وجدتم ذلك ورأيتم الموت بأعينكم فررتم منه وتركتم رسولكم (ص)
بين الأعداء أيها الكذبة المردة المخادعون المتظاهرون بالدين ولا دين لكم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ترون. والجملة في محل نصب على الحالية من فاعل رأيتموه ،
أي حال كونكم ناظرين اليه ، متدبرين ومتفكرين في البقاء للجهاد أو الفرار للنجاة
من الموت ، وبالتالي آثرتم الفانية على الباقية ففررتم من الشهادة التي كنتم
تتمنونها قبل أن تلقوها. وفي القمي عن الصادق عليهالسلام في هذه الآية : أن المؤمنين لما أخبرهم الله تعالى بالذي
فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك ، فقالوا اللهم أرزقنا
قتالا نستشهد فيه فأراهم الله يوم أحد إياه فلم يثبت إلا من شاء الله منهم فلذلك
قال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ،) الآية ...
١٤٤ ـ (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...) هذه الشريفة جاءت
ردا وتعبيرا لجماعة من المسلمين الذين كانوا يبطنون النفاق وكانوا في عسكر النبي (ص)
يوم أحد ، وكانت عقيدتهم أن النبي (ص) لا يقتل ولا يموت ، وأن من كان مدعيا للنبوة
ثم قتل يكشف عن كونه غير نبي ويكون كاذبا في دعواه. يدل على ذلك قول بعض الفساق في
ذلك اليوم ـ حين هزيمة المسلمين وغلبة المشركين ـ ألا إن محمدا قد قتل ، ولعل
الصارخ كان شيطانا ، بل قيل إنه عبد الله بن قمية ـ وهو من المشركين ـ ظن حين قاتل
مصعبا بن عمير وقتله أنه قد قتل النبي (ص) لأنه كان من أصحاب النبي (ص) ويشبهه
كثيرا فصرخ بصوت عال : قتلت محمدا. فلما سمع
النداء قال
المنافقون : لو كان نبيا ما قتل فارجعوا الى دينكم. ويؤيد هذا أن أناسا من الذين
كانوا يتقربون من الرسول دائما كانوا يحملون هذه العقيدة الباطلة بلا مدرك وبلا
روية. بيان ذلك أنه حين وفاة الرسول (ص) كان أهل المدينة من المهاجرين والأنصار
يتوافدون لتعزية أمير المؤمنين عليهالسلام بالراحل الأعظم والنبي الأكرم فقام عمر بن الخطاب يثور
ويزمجر بأن النبي (ص) ما مات! ... ولكن أمير المؤمنين (ع) ما اعتنى بقول قائل. بل
أخذ بتجهيز النبي صلىاللهعليهوآله كما هو معلوم ... والحاصل أنه كان بين المسلمين أناس
يعتقدون ذلك أو يرجون له لمآرب شخصية ، فرد الله تعالى عليهم بأن محمدا بشر عادي ،
وهو رسول (قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي مضت وراحت وطواها الزمان ، فأين آدم ، وأين شيت
وإبراهيم وإسماعيل ونوح وموسى وعيسى وغيرهم عليهمالسلام ، فقد ماتوا جميعهم وخلوا ومضوا لأن كل شيء هالك إلا وجه
الله الكريم (أَفَإِنْ ماتَ) فإذا مات محمد (ص) ولحق بالرفيق الأعلى (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي رجعتم عن دينكم الى دين الجاهلية وقلتم ليس هذا بنبي؟
... وهذه حال ضعفاء الايمان حتى في أيامنا هذه مع الأسف (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) يرجع (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ
شَيْئاً) فلا يلحق ضررا بالله جل وعلا ، لأنه غني عن كل شيء حتى عن
إيمانكم به وعبادتكم له التي لا تزيد في عظمته ولا في ألوهيته ، ولكن الضرر يحيق
بمن يرتد لأنه يوقع نفسه في مواقع الهلاك ويخسر دنياه وآخرته (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي سيثيب المؤمنين به الذين يشكرونه على نعمة الايمان
والتصديق ، وعلى معرفة قدر هذه النعمة ، فيعظمونها ويثبتون عليها ويعلمون طبق ما
أمروا ووفق ما كلّفوا من لدنه تعالى.
فإن قيل لماذا
عبّر سبحانه بالتثنية في لفظة : عقبيه ، مع أن مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : على
عقبه؟ ... قلنا : إن من يرتد ، أي يرجع ، ينفتل عن وجهته وينحرف عن قصده ، ويعود
عن سبيله ، تماما كالذي ينفتل نحو عقبيه أي نحو المؤخر من كعبيه اللذين في رجليه ،
لأن العقب
مؤخر القدم.
فالمرتد على عقبيه هو الراجع في سيره الى عكس اتجاهه ، أي نحو الوراء ... فالله
تعالى يقول : إنا أرسلنا محمدا نبيّا وأنزلنا عليه كتابا وقد تجلى به وبدعوته نور
الإسلام وظهرت براهين الدلالة على صحة نبوته وصدق دعوته ، فإذا مات أو قتل ـ كما
هو شأن الرسل من البشر ـ ترجعون بعده كفارا وتكذبون بنبوته وبوصاياه طلبا للرئاسة
الدنيوية وطمعا في الملاذ الشخصية وفي سبيل حطام الدنيا الفانية ، وتتحملون أوزار
الكفر بالله وبالنبي وبدعوته من أجل ذلك الشيء الزائل ، في حين أن غيركم يحمد الله
تعالى ويشكره على نعمة بعثة الرسول وعلى نعمة الهداية لدينه القويم ، وقد صدقوا ما
عاهدوا الله عليه وسعدوا بإسلامهم وإيمانهم في الدنيا ، وسيسعدون بعد ذلك في
الآخرة؟ ... افعلوا ما شئتم وما حكم به طبعكم فلا يضرنا كفركم ولا ينقص من ملكنا
ارتدادكم وشرككم ، وسنجزي الشاكرين على الايمان بنا وبرسولنا أحسن الجزاء.
١٤٥ ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ...) أي لا تحسبوا أن الموت يأتيكم مصادفة وبغتة وعلى غير نظام
وبلا تقدير من الله. ولا تتوهموا ان الحذر والفرار عن موارد الهلكة والقعود عن
الجهاد ينجي من الموت ، لا ، بل ما كان ، أي : لم يثبت ولم يقدر لنفس أن تموت (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) إلا بالرخصة منه ، وبمشيئته وتقديره ، وبعلمه وإجازته. فإن
لكل نفس أجلا مسمى لا يؤخره الإحجام عن الجهاد ، ولا يقدمه الاقدام على موارد
الهلكة. والآية الكريمة تشويق للجهاد في سبيل الله وتشجيع عليه ، كان ذلك عندنا (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي مسجلا مقدرا بأجل ووقت معين ، يعني أن الموت كتب كتابا
ـ وقد نصب بالفعل المقدر وجيء به تأكيدا ، ومؤجلا صفته ـ وحاصل معناه أن موت كل ذي
حياة مكتوب وموقت بوقت خاص لا يقدم بإرادة الحي ، ولا يؤخر بميله ورغبته. وكتابا
هنا مصدر بحسب الظاهر وهي بمعنى المكتوب في اللوح المحفوظ أو غيره ، والله أعلم ...
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من يرغب ويطلب بعمله ثواب الدنيا ، نعطه منها ما أراد
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ
مِنْها) ومن يطلب بعمله ثواب الآخرة وأجرها نعطه الثواب والأجر ولا
نمنع عنه ما قدرنا له من الرزق والنعم في الدنيا. فهو ذو الحظ الوافر في الدارين
لأنه أخلص لله في عمله من أجل الآخرة ، والله تعالى كفل له رزقه في الدنيا ، فهو
ذو حظين (وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ) وسنثيب ونأجر من يشكرنا على نعمنا حسب ما يليق بحاله وشأنه
...
وقد ذهب بعض
المفسرين الى أن المراد بثواب الدنيا المرغوب فيه من الغنائم والأسلاب في الحرب
وحين الجهاد ، والمراد بثواب الآخرة هو إيثار الجهاد على كل شيء. ولكن الظاهر أن
هذه الجمل جاءت لبيان أمور كلية ، والجهاد من مصاديقها ، ومثله نيل الغنائم ، ولها
مصاديق كثيرة كما لا يخفى على المتأمل.
١٤٦ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ...) كأين لفظة مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهامية.
ومجموعهما يفيد التكثير ، أي ما أكثر ما ترى من نبي فعل كيت وكيت. هكذا قال بعض
المفسرين مع أن رأينا فيها غير ذلك. فما بالهم تعبوا في تعليلها وجعلوها اسما بعد
أن كانت في الأصل حرفا ، فنسجوا لها هذا القماش وألبسوها هذا التعريف بلا فائدة
استنبطوها من جهدهم وعمل خيالهم الى أن توصلوا الى أنها تفيد الكثرة. من غير حاجة
الى تشكيل هذا الأصل الذي لا فائدة من ورائه ولا حقيقة له لأنه سفسطة مضى عليها
بعض أرباب التفسير واتبعوا فيها أهل الأدب ، والصارم قد ينبو. اللهم إلا إذا قصد
بها حال النبي (ص) وأنها كحال أي نبي من حيث انه بشر ، ورسول ، ومقاتل للكفار مع
أصحابه المخلصين. أي : وكأي من الأنبياء وبرأيي أن كأيّن قد استعملت محل كم ، التي
تجيء للتكثير ، لا أكثر ولا أقل. فكم من نبي (قاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أي حارب معه في سبيل تأثيل دعوته الى الله تعالى ربيون :
جمع ربي ، وهو من توغل في معرفته تعالى وارتبط به ارتباطا شديدا. والرّبيون هم
العارفون بالله تعالى والعالمون به وهم العبّاد الزهاد الراغبون عن الدنيا للآخرة
المشتاقون للشهادة. والرّبي بتعبير آخر هو الرباني ، وقد كسر الراء في أوله بحسب
صيغ النسب على
رسل العرب في هذا
الباب ، فيقال في المنسوب الى الدهر : دهري وفي المنسوب الى البصرة : بصري ، وهكذا
... وهؤلاء الذين أريد بهم الكثرة في العدد قيل إنهم ألوف ، وقيل ألوف ، وقيل عشرة
آلاف كما نسب الى الصادقين عليهماالسلام في روايات ضعيفة ، فالتحديد بقدر معين لا يخلو من إشكال
لأنه من التفسير بالرأي. نعم إن القدر المتعين منه هو أن المراد عدد يعتنى به في
الحروب والمغازي بل يخاف الخصم من كثرتهم ويرهب جمعهم. ويستفاد من تنكير لفظة
ربيون ، ولا سيما وصفهم بالكثرة ، التأكيد ، والله أعلم.
وحاصل معنى الآية
الكريمة أن الله تعالى عقبها لقضايا أحد واصفا المقاتلين مع الأنبياء السابقين
واستقامة عسكرهم بحيث لو قتل النبي ـ افتراضا ـ في الموقعة الحربية بينهم وأمام
أعينهم (فَما وَهَنُوا لِما
أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ما فتروا ولا ضعفوا عن الجهاد بسبب قتل نبيهم في ساحة
المعركة ، أو بسبب ما يصيبهم من جراح ومشقات وعطش وصعوبات وصدمات غير مترقبة. فهم
مقيمون على جهادهم في كل حال ، وماضون في طريقهم التي رسمها نبيهم دون فتور أو وهن
يختل من جرائه نظام اجتماعهم ويعرض لهم خمود العزائم (وَما ضَعُفُوا) أي ما أظهروا ضعفا عن الجهاد ولا فترت همتهم ولا أثرت فيهم
روعة الحرب وجولات المعارك (وَمَا اسْتَكانُوا) أي خضعوا لعدوهم ، ولا ذلوا لهم ، ولا أصابهم ما أصاب بعض
من رافقوا نبينا (ص) يوم أحد إذ يروى أن بعضا من أصحابه حين سمع أن رسول الله (ص)
قد قتل حين سماع الصيحة ، همّ أن يتصل بعبد الله بن سلول ليطلب له الأمان من أبي
سفيان قائد جيش المشركين (وَاللهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) الذين لا يتعجلون الأمور ويحمدون الله ويصبرون في السراء
والضراء وعند كل شدة ومصيبة ، وهو ينصرهم ويرضى عنهم. وكفاهم بذلك فخرا وفضلا
وإحسانا حين يثبتون على عقيدتهم ويصبرون على أهوال المعارك وويلات الحرب والقتال.
١٤٧ ـ (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ
قالُوا ...) أي حين تمام المصائب وما
يشهدون من الوقائع
مع أعداء الدين ، ولكونهم ربانيين حقا وحقيقة ، ما كان ديدنهم (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) والذنب والإسراف في الأمر هو التجاوز عن الحد فيما لا يرضى
الله تعالى قولا وعملا. فهؤلاء يستصغرون طاعاتهم ويستعظمون هفواتهم لأنهم يريدون
أن يكونوا مبرئين منزهين من أن يقولوا أو يفعلوا غير ما يرضي الله عزوجل ، بحسب ما ينشأ عن حسن طبعهم وطيب سجيتهم. وهم دائما
يقولون ربنا اغفر لنا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا
وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) طالبين التثبيت على الدين ، والظفر في الحرب على أعداء
الدين ، لأن هذا الطلب محبوب عند الله سبحانه وهو أقرب الى الاجابة مع ما يرافقه
من الدعوات لأن الله تعالى أجلّ وأرفع شأنا من تبعيض الصفقة ، فإما أن يقبل الكل ،
وإما أن يرد الكل.
١٤٨ ـ (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا ...) أي أعطاهم جزاء بما عملوا من الصالح ثواب الدنيا الذي هو
هنا الفتح والنصر على الأعداء والغنائم والنعم التي لا تحصى ولا تعد ، وسيعطيهم (حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) أي أجرها الحسن. وفي تخصيص ثواب الآخرة بالحسن إيذان
بالفرق بينه وبين ثواب الدنيا ، لرجحان الحياة الباقية على الحياة الفانية ويكفي
بذلك رجحانا لقوم يعقلون ...
وهاتان العبارتان
جيء بهما للتأكيد على كثرة ما يعطي الله تعالى للمطيعين من نعم الدنيا ونعم الآخرة
التي لا تقاس بسواها من النعم ، لأن نعم الدنيا معدودة محصورة معروفة ، أما نعم
الآخرة فلا تخطر على بال مخلوق (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يأتون بالعمل الحسن الذي دعا اليه وندب له ويرضى
به ويجزي عليه بثواب جزيل في الآخرة. فهم المحبوبون عنده سبحانه لأنهم العاملون
لكل فعل حسن ، والله تعالى هو المحسن ويحب من أحسن عملا.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
سَنُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢))
١٤٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) نلفت النظر الى أن توجيه الخطابات الربانية في الكتاب
الكريم ـ فيما عدا مخاطبة النبي (ص) هو موجّه الى المؤمنين لأنهم ذوو الشأن وأهل
عنايته سبحانه ، فلا بد أن يوجهها الى مصداق عنايته التي ليس لها ـ بعد النبي وأهل
بيته (ع) ـ إلا المؤمنين. أما غيرهم فلا يأبه الله تعالى بهم. وفي هذه الشريفة
يقول عز اسمه لهم : (إِنْ تُطِيعُوا
الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي إذا أطعتموهم وسايرتموهم وخالطتموهم وكانت بينكم وبينهم
مودة ، لا يرفعون أيديهم عنكم حتى يدخلوكم في دينهم ويردوكم الى الجاهلية ، أي الى
عكس دينكم الحق ، ، لأن الانقلاب على الأعقاب هو الرجوع عن وجهة القصد (فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ) أي : فترجعوا خاسرين لأنهم يجرونكم الى موافقتهم في كثير
من الأمور وهذا هو الخسران. وقد نزلت هذه المباركة في قول المنافقين من أصحاب
النبي بعد هزيمتهم يوم أحد ، حين قالوا للمؤمنين : ارجعوا الى دين إخوانكم من
المشركين ، وقال لهم بعضهم : تستأمنون أبا سفيان ـ رأس الضلال ـ ... ولكن على فرض
أن نزولها كان في ذلك المورد الخاص ، فإن مفادها وما يقصد بها لا يبعد أن يكون
عاما على ما هو الظاهر منها.
١٥٠ ـ (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ ...) وهذه تكملة لسابقتها ، وتعني أن لا تتخذوا الكفار موالي
وأنصارا لتسلموا في هذه الحياة الدنيا ، فإن الله تعالى هو مولاكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فلا تحتاجون معه الى معين لأنه خير معين في الدنيا والآخرة
، وإذا لم يكن هو سبحانه معكم فما تنفعكم نصرة غيره من سائر الناس ...
١٥١ ـ (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ ...) السين للاستقبال والتنفيس ، أي عما قريب من الوقت نقذف
الرعب ـ الخوف الهائل ـ في قلوب الكافرين ، في معارك قادمة : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي : بسبب شركهم بالله وقولهم عليه تعالى بالند والشريك
دون برهان ولا حجة سوى قولهم السخيف : إنّا وجدنا آباءنا على هذا. فسنخيفهم قريبا
لشركهم وقولهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطاناً) أي ما لم ينزل به وحي يكون له سلطان الحجة إذ لا حجة عندهم
معقولة ومقبولة (وَمَأْواهُمُ
النَّارُ) أي منزلهم الذي يأوون اليه هو نار جهنم (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) والمثوى هو محل الاقامة ، فبئس ذلك المقام للظالمين من
مقام خسيس تعيس ، وقد عدل الى الظاهر ـ هنا ـ ليدل على أن العلة هي منشأ انتزاع
الوصف.
وبالمناسبة نذكر
أن الإسلام لم يأخذ سبيله في أول أمره إلا بثلاثة أمور :
أولها : جهاد أمير
المؤمنين عليهالسلام واندفاعه في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ، مع من أخلص
للدعوة.
ثانيها : خدمات أم
المؤمنين الشريفة الكريمة المطهرة خديجة الكبرى سلام الله عليها فإنها قد بذلت
المال الوفير ـ وهي من أغنى أغنياء عصرها ـ وبذلت الجهد العظيم في سبيل تقدم
الدعوة الى الله ...
ثالثها : إلقاء
الرعب في قلوب المشركين من لدن الله تعالى ، فقد قال (ص): نصرت بالرعب مسيرة شهر ،
أي بتأييد الله بملائكة النصر وغيرهم مما لا يخفى على من له اطلاع على ما جرى
أثناء بدء الدعوة ونشر الإسلام.
١٥٢ ـ (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ...) أي أنه وعدكم بالظفر والغلبة بشرائطها من الصبر في مواطن
المقاتلة وخلوص النية وعدم مخالفة رأي النبي صلىاللهعليهوآله في أوامره ونواهيه ، وعدكم بذلك وصدق وعده ، وكان وعد الله
باقيا وجاريا (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم بمشيئته قتلا ذريعا على وجه الاستئصال. والحس
هو القتل الذي وصفناه كما في التبيان والنهاية والكشاف. وقتل المشركين على أيدي المسلمين
كان بخلاف المجاري الطبيعية وبخلاف الموازين الحربية إذ عند ما تصادمت القوتان كان
العددان غير متقاربين. فنصر الله ، وقتل المشركين ، في مثل هذه الحالة ، هما
بمشيئة الله تعالى ومن تمام وعده سبحانه لنبيه (ص) بالنصر ، فإن غلبة المسلمين في
المعركتين كانت مصداقا تاما لوعده تعالى .. أما : إذ ، فهي ظرف زمان متعلق بقوله
تعالى صدقكم ، أي حين قتلتموهم بإذنه تعالى (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ) أي ضعفتم وتراخيتم في أمر الجهاد وظهر عليكم الفشل
والخسران (وَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) واختلفتم في أمر متابعة الجهاد من جراء فشلكم وتراخيكم (وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ
ما تُحِبُّونَ) أي خالفتم أمر النبي (ص) من بعد ما أراكم الله تعالى بوادر
النصر في يوم أحد ، وتركتم مراكزكم في المرتفعات ونزلتم الى ساح المعركة لجمع
الغنائم.
وقيل إن في قوله
تعالى : (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ) ، تقديم وتأخير ، والتقدير هو : حتى إذا تنازعتم فشلتم.
وهل هذا تعتبر الواو في : وتنازعتم ، زائدة ، كما في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ ، وَنادَيْناهُ) ، فتقدير الكلام :
ناديناه ، ومثل :
حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، أي : فتحت والواو فيها زائدة ، والإتيان بها مع
عدم لزومها هو تزييف سوق الكلام ، وقيل إنه من باب سد الفرج والخلل في كلام العرب
وتضميم الكلمات بعضها الى بعض ، وهو أيضا يحسب من بلاغة الكلام وما في ذلك بعد
وإلا لكان الزائد في الكلام بلا ترتب أثر عليه يعد لغوا. فكيف إذا ورد في كلام
الله تعالى الذي خلق البلاغة ... والحاصل أن التقديم والتأخير في هذه الآية
الشريفة هو المعقول باعتبار أن الفشل لا يكون إلا بعد النزاع والتواني في الحرب :
كالذي أدت اليه حادثة أصحاب عبد الله بن جبير حين اختلفوا عند ترك مواقعهم المشرفة
على المعركة ونزلت طائفة منهم طمعا بالغنائم وبقيت طائفة. وقد كان أمر من نزلوا من
أعجب العجائب يتجلى فيه عصيان أمر الرسول (ص) لأنهم كانوا يعلمون أن الغنائم
والأسلاب ستوزع وفق قانون التقسيم النبوي الكريم لو حازها واحد بعد المعركة أو
حازها سائر المسلمين ، إذ سيشملها عدل النبي (ص) وإنصافه ـ وهو الذي سن العدل ـ فكان
من نتيجة عصيانهم أن عرّضوا النبي (ص) لأزمة عظيمة مهلكة لو لا صيانة الله تعالى
له وعنايته به. فيا أيها المسلمون المشتركون في موقعة أحد : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) كهؤلاء المخالفين لأمر النبي صلىاللهعليهوآله ، الذين اندفعوا لنيل الغنائم فأطبق عليهم الأعداء من كل
صوب فتركوا ما في أيديهم وانهزموا (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ) كهذا الذي أطاع أمر نبيه ـ عبد الله بن جبير ـ وثبت عليه
مع من بقي من عسكره وقاتلوا في مركزهم حتى قتلوا رضوان الله عليهم ووقع أجر
شهادتهم الكريمة على الله عزوجل. ومورد هذا الجزء من الآية الشريفة هو ما ذكرناه ولكن ذلك
لا يمنع من كونه عاما يشمل غيره ويصدق على من يرغب في الدنيا وعلى من يرغب في
الآخرة في كل زمان ومكان.
(ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي حولكم عن جهاد المشركين بأن كف نصره ومعونته عنكم ،
ففررتم من زحفهم وخفتموهم ليمتحن ثباتكم ، وليختبركم ويظهر صبركم واستقامتكم في
حفظ دينكم فظهرتم على الحال
التي وصفها سبحانه
وتعالى. (وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ) أي صفح عمن خالف. وهذا العفو عفو تفضل وإحسان بعد أن علم
منكم الندم على المخالفة. بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي صاحب منة وإحسان عليهم.
* * *
(إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ
غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى
الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(١٥٥))
١٥٣ ـ (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى
أَحَدٍ ...) الإصعاد هو الأخذ في الصعود الى الجبل ، وهو سبحانه هنا
يصف فرارهم عن الجهاد الى البراري والتلال ، وتركهم للنبي (ص) يوم أحد (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا يلتفت أحد الى أحد من شدة الخوف والاضطراب (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْراكُمْ) أي أن النبي (ص) يناديكم بنفسه لتعرفوا أنه حي ، ويسمع
نداءه آخر طائفة من الهاربين ، والبقية الباقية منكم بعد الفرار. وهذا هو معنى
أخرى القوم في أمثال هذه المقامات (فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍ) فجازكم على غمكم وهمكم بغم آخر كتعريضكم النبي (ص)
بعصيانكم الى لقاء الأعداء فكسرت رباعيته وشجّ رأسه الشريفان ، وكذهاب أموالكم
أسلابا وغنائم لأعدائكم الى جانب ما كنتم قد غنمتم ، وكقتل بعض شجعانكم كالحمزة
سلام الله عليه وغيره. فهذه كلها حوادث مؤلمة لكم ومفجعة ، وقد كانت بسبب عصيانكم
لأمر نبيّكم من أجل أمور دنيوية ، فضلا أنكم فررتم من حوله. قد فعل الله تعالى بكم
ذلك (لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ) وهذا علة لجزاء غمهم بغمّ آخر متصلا به ليتعودوا على
الغموم والمصائب ، ثم لا يحزنون لفواجع الدهر ولا لما خسروا من غنائم ضيّعوها
وفاتهم كسبها هذا المعنى قال به جملة من المفسرين العظام وهو في غاية المتانة ،
إلا أنه خلاف ظاهر الآيات وسياقها. ذلك أنه سبحانه منذ الآية ١٥٢ الى هذه الآية الشريفة
يعني بقوله لكيلا تحزنوا ، ما جرى عليهم في موقعة أحد من تراكم الغم الذي كانت
نتيجته أن تذهلوا عن الحزن عما فاتكم من الظفر والنصر على عدوكم ، وما أصابكم من
إثم حين عصيتم الله بمخالفة رسوله (ص) والى جانب الهزيمة ووبالها ، والخوف وشماتة
العدو. فتراكم الغموم كلها كأنه صار كفارة لما فاتكم ولما أصابكم (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عالم بما تفعلون. وفي هذا ترغيب للمؤمنين
بالطاعة والابتعاد
عن المعاصي ، وترهيب للمنافقين من إتيان المعاصي وعدم مزاولة الطاعة.
ثم ذكر سبحانه ما
أنعم به عليهم بعد ذلك الجو المشحون بالتعب والجهد والكفاح والحزن فقال :
١٥٤ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً ...) أمنة : أي أمنا أنزله الله تعالى عليكم بعد الخوف والتعب ،
وذلك بأن سلّط عليكم (نُعاساً) أي نوما. وهذا بدل اشتمال من : أمنة ، فإن النوم يشتمل على
الأمن لأن فيه تعطيلا للحواس وغفلة عما يحيط بالنائم ، وهذا أمر برهانه معه ولا
يحتاج الى استدلال من الخارج. ونعاسا فيها تأكيد واضح لأمنة يعني أن النوم أخذهم
وكأن الأمن محيط بهم ، كأن ما كان لم يكن ، فعادوا نحو النبي (ص) بعد أن علموا
بمكانه فسيطرت عليهم سنة الكرى فصاروا يتساقطون على الأرض ليناموا ولو قليلا
فيريحهم الله تعالى مما كانوا قد وقعوا فيه. وقد أصابت هذه الحالة طائفة منهم ،
وهم أهل الايمان والإخلاص. أما المنافقون فبقي الخوف مستوليا عليهم وظلّوا ساهرين
مرعوبين ولذا قال سبحانه (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ) يعني المؤمنين ينزل عليهم النوم. والطائفة هي الجماعة وسبب
ذلك أن المشركين قالوا للمسلمين سنعود إليكم ونقاتلكم ، فقعد المسلمون في سفح
الجبل متهيئين للحرب فغشيهم النوم ـ وجلس المنافقون مرعوبين أزعجهم الخوف من عودة
الكفار فطار عنهم النوم. ولذا بين سبحانه ذلك بقوله : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) أي وجماعة شغلتهم أنفسهم وحملتهم على همّ جديد من الخوف ،
ذلك أنهم (يَظُنُّونَ بِاللهِ
غَيْرَ الْحَقِّ ، ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي يتوهمون أن الله تعالى لا ينصر رسوله (ص) كظنّهم السابق
في الجاهلية وظن غيرهم من الكفار والمشركين والمكذّبين بوعد الله ، ولذلك كانوا (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ
مِنْ شَيْءٍ) وهذا تفسير ظنهم ، فإنهم كانوا يتساءلون فيما بينهم : هل
لنا من النصر نصيب بعد هذه الهزيمة قالوا ذلك تعجبا وإنكارا لأنهم لا يطمعون
بالغلبة. وقيل معناه : خرجنا كرها ، ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا كما هو المروي
عن الحسن.
وكان هذا القائل
عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما كما عن الزبير ابن العوام وابن جريج (قُلْ) يا محمد : (إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) فهو ينصر من يشاء ويخذل من يريد. وربما عجّل بالنصر ، وربما
أخره لحكمة ولكن ليس لوعده خلف. والمراد بالأمر في الموضعين هو النصر ، (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
يُبْدُونَ لَكَ) أي أن المنافقين يخفون الشك والنفاق ولا يظهرونه لك و (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي من الظفر كما وعدنا النبي (ما قُتِلْنا هاهُنا) أي ما قتل أصحابنا ، يقولون ذلك شكا في وعده سبحانه لنبيه (ص)
بالاستعلاء على أهل الكفر ، وتكذيبا ف (قُلْ) يا محمد لهم في جواب ذلك : (لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ) ومنازلكم (لَبَرَزَ الَّذِينَ
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي لخرج الى القتال المؤمنين الذين فرض عليهم الجهاد
صابرين محتسبين. أي لو تخلّفتم عن الجهاد لما تخلّف المؤمنون. وقيل في معناها أيضا
: لو كنتم في منازلكم لخرج الذين انتهت آجالهم وقضى الله تعالى بموتهم في ذلك
الوقت الى أمكنة مصارعهم. فإن الأمور تصير الى ما علمه الله تعالى لا محالة ،
ولكنه لا يلزم العبد إلزاما بالسير الى الجهاد ، إذ لو ألزمه إنسان مثله لفر من
الزحف ساعة شاء .. وقد فعل الله تعالى ذلك بكم ليختبر (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي
صُدُورِكُمْ) ويمتحن نواياكم ويكشف مما في قلوبكم بأعمالكم التي تظهر
منكم وتعبّر عن نياتكم ، وهو تعالى يعلم ذلك غيبا ، ولكنه الآن يعلمه شهادة (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي يخلص ما فيها. وقيل هذا خطاب للمنافقين ، أي يأمركم
بالخروج فلا تخرجون فينكشف أمركم للمسلمين وتظهر عداوتكم للدعوة الى الدين فلا
يعدّكم المسلمون في جملتهم .. وقيل في معناها أيضا : وليبتلي أولياء الله ما في
صدوركم من الشك والنفاق. والتمحيص هو التطهير لما في القلوب ، ولا يكون إلا
للمؤمنين دون المنافقين (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) معناه أنه سبحانه لا يفعل ذلك ليعلم ما في صدوركم فإنه
عليم به ، ولكنه ابتلاكم ليكشف أسراركم التي يعلمها فيقع جزاؤه لكم على ما ظهر
منكم.
١٥٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ...) أي الذين انصرفوا وولّوا الدّبر عن قتال المشركين كما عن
قتادة والربيع ، وقيل الذين هربوا الى المدينة وقت الهزيمة عن السدي (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع رسول الله (ص) ومن معه ، وجمع المشركين وعلى رأسهم أبو
سفيان (إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) أي أزلّهم ، طلب منهم أن يزلوا فزلوا ووقعوا في المعصية
والطمع (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من معاصيهم السابقة فلحقهم تبعتها ، وقيل أغراهم بحب
الغنيمة (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ) غفر ذلك لهم. وقد أعاد ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين في
العفو ، وحتى لا ييأس المذنب ، وتحسينا لظّن المؤمنين بالله عزوجل (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) قد مرّ معناها. وذكر أنه لم يبق مع النبي (ص) يوم أحد سوى
ثلاثة عشر نفسا ـ كما عن البلخي ـ خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، وقد
اختلف الرواة في أسماء الجميع إلا في علي بن أبي طالب عليهالسلام فقد ثبت معه هو وطلحة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال :
ورأيتني أصعد في الجبل كأني أروي ـ أي ما عز ـ أما عثمان فقد طال هروبه ولم يرجع
إلا بعد ثلاث ليال فقال له رسول الله (ص) : لقد ذهبت فيها عريضة!.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (١٥٧)
وَلَئِنْ
مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
فَبِما
رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
(١٥٩)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا
الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(١٦٠))
١٥٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ...) خاطب سبحانه المؤمنين ينهاهم عن الاقتداء بالكافرين
والمنافقين ، يريد بذلك عبد الله بن أبي سلول وأصحابه من المنافقين كما عن السدي
ومجاهد. وقيل هو عام. (وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) من أهل النفاق (إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ) أي سافروا فيها للتجارة وطلب المعاش فماتوا. وقد ذكر
سبحانه الأرض لأن أكثر الأسفار كانت في البر فاكتفى عن ذكر البحر ، وذلك كقوله
تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) ، ولم يذكر ما يقي البرد لظهوره في كلمة سرابيل ، تماما
كما تفيد كلمة الأرض البرّ والبحر (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي : أو إذا كانوا غزاة مقاتلين ومحاربين للعدو فماتوا
فإنهم يقولون : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مقيمين معنا (ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا) ما أصابهم الموت في الحالين (لِيَجْعَلَ اللهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي ليوجد بقولهم ذاك حزنا وندما في قلوبهم. والحاصل أن معناه
: لا تقولوا مثل قولهم فيجعل الله مقالتكم حسرة في قلوبكم. واللام في : ليجعل ،
هنا للعاقبة ، إذ تحصل لهم الخيبة فيما أملوا لما فاتهم من عز الظفر والغنيمة (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) يفعل ذلك في السفر والحضر عند حلول الأجل ، فلا تقدم ولا
مؤخّر لما قضى في سابق تقديره ، ولا محيص ولا مهرب مما قضى وقدّر. وهذا يتضمن حث
الناس
على الجهاد فلا
يمتنعون خوف القتل والموت ، فليس كل من يتخلف يسلم من الموت ، ولا كل من يذهب الى
الجهاد يقتل ، لأن الإحياء والاماتة بيده تعالى ، فلا موت لمن قدّر له حياة ولا
حياة لمن قضى عليه بالموت (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي مبصر يرى كل ذلك بالتفصيل وهذا يتضمّن الترغيب في
الطاعة والحث على الجهاد ، والترهيب من المعصية وعدم الفرار من الجهاد وخوف الموت.
١٥٧ ـ (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ..) أيها المؤمنون إذا كتب لكم القتل (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طريق الدعوة الى كلمة الله (أَوْ مُتُّمْ) وأنتم تقصدون مجاهدة الكفار والفوز بالشهادة وأصابكم الموت
قبل إدراك ما أملتم فقد وقع أجركم على الله وكتبت أسماؤكم في ديوان الشهداء ونلتم
ما ينالون ودخلتم فيما يدخلون من رفيع الدرجات في الآخرة لمن يقتل في المعركة أو
يقتل سائرا إليها بكل جوارحه ليدحر كلمة الكفر. وقد قال تعالى في غير مكان :
ومن يخرج من بيته
مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، فهذا ينال مرتبة
الشهداء سواء بسواء. فمما ينعم به في هذه الحالة وعده بقوله : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) أي صفح عن الذنوب (وَرَحْمَةٌ) تتجسد منه في الثواب الجزيل وجنة النعيم ، وهما النعمتان
العظيمتان ، بل هما (خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا وزخرفها وزبرجها وسائر ما فيها ، لأنهم
يتعبون في جمعه ويتركونه للورثة ويتحملون تبعته ، وإذ حطام الدنيا لا يدوم لأهله
ولا يبقون مخلدين فيها ليستهلكوا ما تعبوا في جمعه ، ومقايسة الدنيا بالآخرة
كمقايسة العدم مع الوجود ، إذ نعمها مشوبة المكاره.
وفي هذه الشريفة
سدّ جواب القسم مسدّ الجزاء. وقرى : يجمعون بالتاء وسياق الآية يؤيد هذه القراءة
لأنها جاءت بصيغة المخاطبة. ولكن القراءة بالياء أبلغ لأنه وجه من وجوه الإقناع :
أي أن موتكم أيها المؤمنون وفوزكم بنعيم الآخرة ، خير مما يجمعون من اموال الدنيا
ويتركونها أو تزول الأموال من حوزتهم فلا معادلة بين حطام الدنيا وبين المغفرة
والرحمة كما أنه
لا معادلة بين
الدّرة والبعرة ، ولقد ضرب الله تعالى أسمى مثل في هذه الآية الكريمة لمن يفر من
الجهاد خوف الموت وطمعا في العيش ، وينسى مغفرة الله تعالى ورحمته وحسن جواره مع
الشهداء والصالحين.
١٥٨ ـ (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ ..) أي إذا متم في منازلكم ، أو في طريقكم الى الجهاد ، أو في
معركة القتال : أو على أي وجه كان موتكم (لَإِلَى اللهِ
تُحْشَرُونَ) فبعثكم وحشركم ونشركم الى الله تعالت قدرته ، ومرجعكم
اليه. وقد جاء وعده سبحانه لهم بذلك مؤكدا بلامي القسم ، لكيلا يكون عندهم شك
بالوقوف بين يديه ليثيب المحسن ويجازي المسيء.
١٥٩ ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ ...) حرف : ما ، مزيد هنا على قول صاحب التبيان. وقال : إنما
جاءت مؤكدة للكلام. وصدّقه صاحب مجمع البيان وقال : عليه إجماع المفسّرين. أما
الإجماع فمنقوض بقول عدّة من كبار هذا الفن. وبيان ذلك عندهم أن : ما ، في الآية
الكريمة جاءت بمعنى : أي ، أي : فبأي رحمة من الله. وحكى ابن هشام عن جماعة هذا
المعنى ولكنه لم يوافقهم. ونقل ذلك في حاشية المغني عن أبي البقاء عن الأخفش وغيره
، وحكى نقله عن ابن كيسان. وقال السيد الرضي في حقائق التأويل : ولأبي العباس
المبرّد مذهب أنا أذهب اليه وهو أنه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن إلا أن له
معنى مفيدا. ثم قال رحمهالله تعالى : إن : ما ، معناه التفخيم لقدر الرحمة التي لان بها
لهم. ومرجعه الى ما مال اليه حسين المغربي ، وما اختاره الرازي يرجع اليه أيضا.
والمقصود أن : ما ، وردت هنا لإفادة التفخيم مثل : أي ، المفيدة له أيضا كقولك :
أي رجل هذا! ... وأية نعمة هذه! ... وإن من ذكرناهم هنا من هؤلاء الأعلام قد
تقدّموا ، هم ومقالاتهم ، على مجمع البيان ، وهم أساطين الفن وصيارفة اللغة.
والحاصل أن معنى
الشريفة : فبرحمة عظيمة كائنة عندك من الله (لِنْتَ لَهُمْ) عاملتهم باللين واللطف (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي جافيا قاسي الطباع (غَلِيظَ الْقَلْبِ) شديدة وخشنه (لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ) أي تفرّقوا عنك
وانصرفوا (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) مع أنك صاحب الرأي السديد ولك الأمر والقول الرشيد والفعل
الحميد ، ومهما سموا وعلت أفكارهم فإنهم يفتقرون الى رأيك ويغترفون من فيضك ، ولكن
مشاورتهم من الخلق الكريم وحسن التدبير ، ومن باب الاطّلاع على ما عندهم. وإن ما
يجري عند وضع النّظم والدساتير وما يدور في المجالس النيابية هو من بحر هذه
التعاليم السامية في كتاب الله الكريم ... وهي تحمل أيضا معاني تطييب نفوسهم
بمشاورتهم ، واقتداء الأمة بنبيها في المشاورة بالأمور الهامة ، وإجلال أصحابه (ص)
، وامتحانهم لتمييز نصحهم أو غشهم ، والاستعانة بآرائهم في الحرب كما في حفر
الخندق (فَإِذا عَزَمْتَ) أي عقدت النية في قلبك على الفعل. ورووا عن الصادق عليهالسلام وعن جابر بن يزيد قراءة عزمت بالضم ، أي عزمت لك وأرشدتك
ووفقتك (فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) أي : ثق بالله وفوّض أمرك اليه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) أي المفوضين أمرهم اليه والمعتمدين عليه في حسن تدبيره.
وفي الآية الشريفة دلالة على علوّ أخلاق نبينا صلىاللهعليهوآله ورفيع أفعاله ، فإنه (ص) من أشرف خلق الله في حين أنه من
أشدّهم تواضعا فهو يخصف النعل ويركب الحمار ويجلس على الأرض الى جانب الكبير
والصغير ... وفي الآية أيضا ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء وحثّ على الاستغفار
وعلى مشاورة بعضهم بعضا ، ونهي لهم عن الفظاظة والغلظة ، ودعاء لهم الى التوكل على
الله عزوجل.
١٦٠ ـ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ ...) أي يجعلكم منتصرين ظافرين على من ناوأكم من أعدائكم (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي لا يقدر أحد أن يغلبكم وإن كثر أعداؤكم أو قلوا (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أي يمنع عنكم معونته ويخلّي بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم
إياه (فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) فمن غيره تعالى يجيركم ويظفركم بأعدائكم ، لأن الهاء في :
بعده ، ترجع الى اسم الله تعالى ، والمعنى مبنيّ على حذف المضاف أي : من بعد
خذلانه. ولفظة : من ، ها هنا تفيد التقرير بالنفي ، وقد جاء بصورة الاستفهام وهو
يعني : لا ينصركم
أحد من بعده. والكلام هنا تضمّن حرف الاستفهام لأن جوابه يجب أن يكون بالنفي كما
ذكرنا ، فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) هذا معناه ظاهر وقد مرّ معنا. وقد تضّمنت الآية الشريفة
الترغيب في الطاعة التي يستحق العبد معها نصرة الله ، والتحذير من المعصية التي
توجب الخذلان ، مع وجوب التوكل على الله لئلا يكله إلى نفسه فيهلك.
* * *
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ
عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(١٦٣)
١٦١ ـ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ...) أي ليس من شأن النبيّ أن يخون ، أو يخفي من المغنم شيئا ،
فإن الخيانة تنافي النبوّة. وأمانة الرسالة ، والرسول لا بد وأن يكون معتمدا
وموثّقا وأمينا بين الناس ، والمستأثر ليس بواجد شيئا من ذلك فلا يعتمد على أقواله
ولا أفعاله. وشأن نزول الآية على ما ذكره القمي في موقعة بدر إذ كان في الغنيمة
التي أصابوها يومئذ قطيفة حمراء ، ففقدت ، فمن أصحاب الرسول (ص) من قال : ما لنا
لا نرى القطيفة؟ ما أظن إلّا أن رسول الله قد أخذها ، فنزلت الآية في هذا المورد.
فجاء إلى النبيّ (ص) رجل فقال إن فلانا غلّ قطيفة فطمرها هنالك ، فأمر رسول الله (ص)
أن يحفر ذلك الموضع
فأخرج القطيفة. وعن
الصادق عليهالسلام : أن رضاء الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، ألم ينسبوه
يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره الله على القطيفة
وبرّأ نبيّه (ص) من الخيانة ، وأنزل في كتابه : وما كان لنبيّ أن يغل ـ من الغلول
، وهو أخذ الشيء خفية (وَمَنْ يَغْلُلْ
يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)
أي مصاحبا بما
اختلس ، إذ المستفاد من الباء هو المصاحبة ، وهذا أحد المعاني المناسبة للمقام. وفي
الرواية بيّن كيفية المصاحبة بأن يحمله على ظهره. وفي القمي عن الباقر (ع): ومن
غلّ شيئا رآه يوم القيامة في النار ، ثم يكلّف أن يدخل إليه فيخرجه من النار. وهذه
كيفية أخرى ، والفارق بينهما أنه على الأولى يفضحه الله من أول حشره ونستعيذ بالله
من الفضيحة في الدنيا والآخرة ... (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تجزى جزاء عملها حسنة كان أو سيئة ، إذا لم يتب من
خطيئاته (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي أن المحسن يوفّى طبق ما يستحقه ، والمسيء كذلك بلا
زيادة ولا نقيصة ، فإن المحاسب دقيق رفيق وحاكم عدل.
١٦٢ ـ (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ...)
في الحديث :
الصلاة رضوان الله ، أي سبب رضوانه. والرّضوان أو الرّضوان مصدر كالرّضى والرّضى
والمرضاة ، فكلّها مصادر باب رضي ، يرضى ، ضد سخط. والرضوان أعلى مراتب الرضا.
والرضاء اسم مصدر. وبلّغ بي رضوانك ، يعني : أبلغني منتهى رضاك. ورضوان : اسم خازن
الجنان ، ورضوى : اسم جبل بين المدينة وينبع ، وهي قرية كبيرة فيها حصن على سبع
مراحل من المدينة. والمرحلة هي ما يقطعه المسافر في يومه.
واتّباع رضوانه
جلّ وعلا هو أن الإنسان في جميع أموره ـ قولا وعملا ـ ينظر إلى رضا الله بحسب ما
يحكم به دين الحق وشرعه ، فيحاسب نفسه حتى يرى أنها خالية من الأهواء وليس للشيطان
فيها حظّ ولا نصيب ، فحينئذ يشكر الله على هذا التوفيق الحسن والنعمة العظمى التي
وهبه الله إياها ، ويكون ممن اتّبع رضوان الله سبحانه أي سار في
الطريق المؤدية
إلى ما يرضيه عزوجل ... وهنا يقول الله تعالى : هل المتّبع لرضوانه (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ)؟ ... أي كالذي لم يتّبع رضوانه ، بل باء ، أي رجع وعاد
بسخطه وبما يوجب غضبه وصار بذلك عضوا فاسدا في المجتمع. (و) هذا الشخص المغضب لله (مَأْواهُ جَهَنَّمُ) يعني مسكنه فيها ومصيره إلى النار (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وما أسوأ مصيره ذلك؟ ... وقد حمل بعض أرباب التفاسير هذه
الآية على موارد خاصة ، واستندوا إلى رواية مرسلة عن العياشي عن عمار عن الصادق (ع)
أن الذين اتّبعوا رضوان الله هم الأئمة عليهمالسلام
، لكن الرواية لا
تنهض دليلا على الحصر وإن كانوا صلوات الله وسلامه عليهم من أجلّ أفراد هذه الآية
وأعلاهم درجة.
١٦٣ ـ (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ ...) لعل المراد بالضمير : هم ، الذين اتّبعوا رضوان الله لا
الأعم منهم ، وممّن باء بسخط من الله ، لأن الله سبحانه في مقام وصف المتّبعين ،
تشويقا للمجاهدين وترغيبا لهم لا لغيرهم من أهل النفاق والشقاق. والشاهد الآخر
لذلك هو عبارة : عند الله ، فإن استعمال هذه العبارة إن لم يكن دائميّا ، فلا شكّ
عند أهل النظر والتتبّع بغلبة الاستعمال في أهل القرب والكرامة عنده تعالى
كالشهداء ومن يحذو حذوهم ، لا الّذين يبوءون بسخط من الله لأنهم أهل البعد والمهانة.
والشاهد الآخر على الاختصاص إطلاق كلمة الدرجات على مراتب العاملين. بيان ذلك أن
الدرجة اصطلاحا لا تطلق على المراتب الحاصلة من أعمال الفسقة والمنافقين. فإنها قد
يعبّر عنها بالدّرك التي جمعها دركات ، وهي بعضها أسفل من بعض. فلفظ الدرجات منصرف
عنهم وهو مختصّ بالطالبين لرضوان الله تعالى ... وأما الحمل على الغلبة فحمل بلا
وجه ولا حاجة إليه. ويؤيّد عدم العموم بالروايات الواردة في المقام ، إحداها عن
العياشي ، عن عمار عن الصادق عليهالسلام ، وقد مضت آنفا ، وفي الكافي تلك الرواية بعينها مع زيادة
قوله عليهالسلام : هم والله درجات
عند الله تعالى للمؤمنين ، وبولايتهم
ومعرفتهم إيّانا
يضاعف الله لهم أعمالهم ، ويرفع الله لهم الدرجات العلى. وزاد العياشي ، والذين
باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا حق عليّ وحق الأئمة منّا أهل البيت ، صلوات
الله عليهم ، فباؤوا لذلك بسخط من الله ... وعن الرضا عليهالسلام : الدرجة ما بين السماء والأرض. والروايات في هذا الباب
كثيرة ، ولكن ليس من دأبنا أن نستقصي بل نذكر النموذج لإثبات مدّعانا من التخصيص
دون العموم. نعم يستفاد من الروايات ـ كما أشرنا ـ أن المراد بالضمير ومرجعه ، هم
الأئمة صلوات الله عليهم. وقد قلنا إنه ليس في المقام رواية يعتمد عليها حتى
نطمئنّ إليها. ولو فرضنا وجود رواية صحيحة فإننا نقبلها ونمشي على طبقها ، أو نقول
: نحن نتكلم على التنزيل ونحمل الروايات على التأويل في هذه المباركة ، ولعل هذا
الحمل هو أحسن الوجوه ، والله سبحانه أعلم.
وأما ناحية معنى
الآية الكريمة فقيل إنه محمول على التقدير. يعني أن المقصود بقوله تعالى : هم
درجات ، هو : ذوو درجات. وذهب إلى هذا القول كثير من أهل التفسير ، ولكن التقدير
خلاف الظاهر ، ويحتمل أن يكون المقدّر حرف الجر ، أي : لهم درجات ، والكلام فيه هو
الكلام فيما قبله ، أي أنه يمكن أن يكون قوله تعالى من باب زيد عدل. أو أنهم
شبّهوا بالدرجات لما فيهم من تفاوت في القدر والمنزلة ، كما أن الدرج متفاوت مرقاة
عن مرقاة وواحدة فوق واحدة. والحاصل أنهم شبّهوا في تفاوتهم بالدرجات فأخبر عنهم
بها على نحو الاستعارة كما يقال : زيد أسد ، بلحاظ الشجاعة ، وهذا باب من أبواب
البلاغة ، وهو أولى من التقدير وأظهر. أما الرازي ـ في تفسيره ـ فقد جعل عود
الضمير على خصوص من اتّبع رضوان الله تعالى أولى ، كما اخترناه ... (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) يرى ما يعملون من اتّباع الرضوان ، أو الرجوع بالسخط ،
وسيجازيهم سبحانه وتعالى على حسب أعمالهم.
* * *
(لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥))
١٦٤ ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ ...) إن الله تعالى ذمّ في كتابه الكريم من اتّصف بصفة المنّة
في مرحلة إنفاقه على إخوانه المؤمنين حيث قال : (لا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى). والأذى كقولك : أراحني الله منك ، أو فرّق الله بيني
وبينك ، أو لا أراني الله وجهك. أو أن تعبس في وجهه ، أو كلّ ما يخجله ويؤذيه.
وقال تعالى : (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) ، والمراد : أن لا تجعل منّة على عباد الله في مقام
الإعطاء ، ولا تعدّ عطاءك كثيرا. ووجه النهي عن المنّ والاستكثار أنهما مبطلان
للصدقة كما صرح به في كتاب الله عزوجل ، ولأن صدورهما يكشف عن كون الفعل لم يقع على وجهه أي
خالصا لله سبحانه. وإذا كان الفعل كذلك لا يقبل ولا يؤخر صاحبه ، وهذا معنى
بطلانه.
والحاصل أن للمنّ
معاني الأول : كذكر ما يصنع الإنسان لغيره ، وكقوله : أنا فعلت كذا وكذا ، وأنا
أعطيت فلانا ، بل قد يصدر هذا القول في مقام التعيير والتوهين بحيث ينكسر قلب
المعطى له ، وهذا هو المنّ الذي ورد الذمّ عليه من الشرع والعقل.
والمعنى الثاني :
هو القطع. ومنه قوله تعالى : أجر غير ممنون ، أي
غير مقطوع. ومنه :
المنّة تهدم الصّنيعة أي تقطعها وتجعلها كأن لم تكن ... أما المعنى الثالث للمنّة
فهو النعمة ، إذ يقال : امنن عليه ، أي : أنعم عليه وأحسن إليه. والفرق بين امنن
وأنعم ، هو الكثرة. فبالكثرة يمتاز المنّ عن الإنعام والإعطاء ، كما أن هناك معاني
أخر للمنّ لسنا بصدد ذكرها خوف التطويل.
فالمنّ بمعناه
الأول يعدّ قبيحا ومذموما ، بينما هو بمعناه الثالث حسن شرعا وعقلا. والله سبحانه
لم يزل ولا يزال محسنا على عباده ومنعما بأجمل نعمائه وأجزل آلائه ، بل هذه هي
السنّة التي جرت منه في خلقه من بدء إيجادهم. ومنها نعمة وجودهم ، ورزقهم ،
وإيصالهم إلى منتهى ما يليق بهم من مراحل رقيّهم. ومن أعظم نعم الله ومننه على
خلقه هو ما وصف به ذاته المقدسة حين قال سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ).
وها هنا يرد سؤال
، وهو : ما الحكمة في إرسال الرّسل؟
والجواب : أن
البشر ليسوا ـ بحسب الخلقة ـ على وتيرة واحدة ، بل خلقوا فطرة في بدء الخلقة
وبمقتضى الحكمة مختلفي الطبائع والأمزجة. فاقتضت المصلحة البشرية أن يشرع لهم شرع
، وأن توضع لهم تكاليف حتى يكملوا بها بمقتضى كونهم في دار التكامل. فعلى هذا كان
مبنيّا مبدأ إرسال الرّسل. ولو لم يرسل لهم الأنبياء لهدايتهم من الضلالة الفطرية
والجهالة التكوينية لاختلفوا فيما يصنعون ولضلّوا في عبادتهم ولعاشوا في فوضى من
حياتهم. فمن فوضى في المال ، إلى فوضى في النّسل ، إلى فوضى في السلوك والمعاملات
، ومن ثم إلى جاهلية عمياء رعناء لا تفرّق بين بني البشر وبين الحيوانات الكاسرة
التي يأكل القويّ منها الضعيف ... فالتكاليف التي نزل بها الرّسل مجعولة لتكامل
البشر وتصاعدهم في مدارج الكمال ولرفعهم إلى ما فوق مراتب الملائكة ، فضلا عن
إخراجهم من تيه الظّلمة والضلالة إلى ساحة نور الهداية وسبيل الرشاد والحق
والحقيقة.
ومع قطع النظر عن
إرسال الرّسل لا بد لنا من ملاحظة أمرين هامين ولو اقتضى ذلك منّا استطرادا
وتطويلا ، وهما : الإلهام ، والوحي ، اللذان هما خفيّان عن الآخرين ليس يعرفهما
ولا يعلمهما إلّا الملهم والملهم ، والموحي والموحى إليه ... فقد يعمل الإنسان
عملا يرتضيه ، وإذا نهي عنه قال : ألهمني إياه ربي. كما أنه إذا فعل إنسان آخر
خلاف ما فعله الأول ، ثم سئل عن ذلك ، فقد يقول : بهذا أمرني ربي. فمن ـ يا ترى ـ يكون
المميّز والحاكم بأن هذا حق وهذا باطل؟ ... أو هذا صادق وذاك كاذب؟ ... فيلزم من
ذلك الهرج والمرج لا محالة ... والنتيجة لغوية التكاليف.
ولو قيل إن الله
يجبرهم على طريق الحق ، ويحفظهم عن الباطل. وهذا هو الأمر الثاني من الأمرين ـ وهو
الجبر ـ فالجواب أن الجبر خلاف حكمة الاختيار ، والجبر والتفويض كلاهما باطلان
مردودان على القائل بهما بمقتضى العقل ، وبمقتضى الروايات المستفيضة في هذا الباب
، وللبحث في ذلك مقام آخر. فلا بد للفصل بين طريق الحق وطريق الباطل من إرشاد
البشر ، ومن شخص يكون أعلم وأعرف أهل زمانه بمصالح العباد. والحكمة تقتضي أن يكون
هذا الشخص من أهل البلاد التي يبعث فيها نشأة ونموّا وتربية ، وأن يكون معروفا
بصدق القول والأمانة والعدالة والطهارة عن كل رجس ودنس ، وأن يكون كريم الأصل ،
شريف الحسب والنسب ، حتى لا يتأففّون من قبول قوله واتّباعه في أخذ معالم دينهم
الذي يجيء به ويدّعي أنه من عند ربّه ، مع شرائط أخر ستجيء في مكانها ... فإذا وجد
مثل هذا الشخص الجامع لشرائط الرسالة والنبوّة ، فعلى الله تعالى أن يرسله إلى
المجموع البشري مع كتاب جامع لكل ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر بحسبه وحسب ما
يقتضيه ، كما جرى في الأزمنة السابقة لبعثة نبيّنا صلىاللهعليهوآله. أما في عصر خاتم النبيّين فاقتضت الحكمة الإلهية ما دعت
إليه المصلحة من بعث رسول جامع لشرائط الدعوة العامّة الأبديّة إلى جميع المكلّفين
من الإنس
والجن في جميع
أنحاء العالم ، ثم اقتضت الظروف والمصالح أن يبدأ بدعوة عشيرته وقومه ، ثم يشرع
بدعوة أهل بلده : أم القرى ، ثم من حولها ، ثم تتسع دائرة الدعوة إلى أن تشمل
العالم. وقد جاء الأمر بالدعوة على هذا الترتيب من أجل الكشف عن الاهتمام بشأن
عشيرته التي هي سيدة العشائر العربية ، ثم قومه ، ثم أم القرى لأنها أكبر البلاد
وأعظمها وأشرفها لأنها قبلة العالم طرّا. فالله تعالى أراد أن يزيد بشرفها ويجعل
أهلها أول المتديّنين بأعظم الأديان التي نزلت إلى الأرض ، وهو الإسلام ، ثم شاء
أن ينتشر هذا الدّين الكريم السمح منها إلى اصقاع العالم وأنحائه على يد صاحب
الشريعة المحمدية صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين ، ثم أراد سبحانه أن
تكون انطلاقة هذا الدّين الحنيف من الجزيرة العربية التي هي على خط الاستواء في
الأرض ، أي على مستوى من الأرض يقع همزة وصل بين الحواضر والبوادي ، وبين الشرق
والغرب ، وبين الشمال والجنوب وإفريقيا والهند وغيرها وغيرها.
والحاصل أن أحسن
الطرق لهداية البشر ونجاتهم من مهالك ظلمات الجاهلية وتمييز المصلح من المفسد
والمؤمن من غيره ، منحصر بإرسال الأنبياء والرّسل ليدعوا الناس إلى الإيمان بالله
تعالى ورسله وكتبه وبشرائعه ، فيتميّز الطيب من الخبيث بالقبول أو عدمه ، وبالعمل
أو عدمه بعد القبول بما جاؤا به عليهمالسلام منذ اختار الله تبارك وتعالى هذه الطريقة من بدء الخليقة ،
واختياره سبحانه هو الخيرة في الأمور كلّها.
أما وجه اختصاص
المؤمنين بهذه النعمة العظيمة من إرسال الرّسل ، فذلك لأنهم هم المنتفعون بها ،
وإلّا فالبعثة عامة لكافة العالم من الجنّة والناس أجمعين. فقد منّ تعالى على
المؤمنين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي من جنسهم ، بعثه لهم أي أرسله منهم باعتبار العربية
والقومية ، والنشأة ، بحيث يكونون مطّلعين على أحواله ووجوه كماله وملكاته الرفيعة
الفائقة الموجبة لرغبة العامة فيه صلوات الله عليه وآله ، والمقتضية لركون النفوس
إليه ، والداعية إلى تصديقه فيما يتحدى به
كفرهم ونيّتهم
وشركهم ، ويقضي به على النخوة العربية والعصبية القومية ، والانقياد له [ص] في
أوامره ونواهيه الصادرة عن الله تبارك وتعالى. ولو كان من غيرهم لما صدّقوا قوله
ولا آمنوا به في ذلك الجوّ من الجاهلية العصبية الرعناء. فكان من عظيم اللطف
بالعرب أن سهّل الله تعالى لهم طريق الإيمان به (ص) إذ جعله منهم وأرسله من أنفسهم
، وجعل من مننه عليهم أن جعل البرهان على صدق الرسالة والمعجز عليها بلغتهم ممّا
أنزل من قرآنه الكريم الذي كان الرسول صلىاللهعليهوآله (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) فيفهمون ما يتلوه ـ أي يقرأه ـ ويدركون معاني الآيات
ورموزها وإشارتها بلا ترجمة تعسر عليهم ، وكانوا من قبل جهلة لم يسمعوا وحيا ولا
نداء حق ، ولا تلا عليهم أحد كتابا سماويّا ، فأيّة منّة هذه ، بل أيّة نعمة أن
يرتل النبيّ (ص) تلك الآيات البيّنات عليهم (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهّرهم من دنس العقائد الجاهلية وأعمالها القذرة ،
ويضرب لهم المثل بأقواله (ص) وبأفعاله وبأخلاقه الفاضلة وشيمه الطيبة وسماته
المباركة (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) بتعليم ووحي من الله سبحانه يفهمهم به كتاب ربّه وحكمته ،
ويرفعهم من مهاوي الرذيلة إلى أعلى مراتب الفضيلة (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو : للحال ، وإن : المخفّفة للتحقيق وبيان الواقع ، أي
أن حالهم وديدنهم قبل البعثة في عصر الجاهلية في غاية الضلال والعمى ، ونهاية سوء
الحال من حيث المعارف الدينية والسلوك المدنيّ ، بل من جهات الإنسانية طرّا ، إذ
كان اتّصافهم بتلك الأوصاف في ذلك الزمان كالنار على المنار.
١٦٥ ـ (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ..) يعني : لو أصابتكم من أعدائكم مصيبة واحدة في أحد (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) فإنكم قد أوردتم على أعدائكم يومئذ مصيبتين ، ومع ذلك : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي : من أين جاءتنا هذه المصيبة وقد وعدنا الله بالنصر؟ ...
فيا محمد بلسان الحال (قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أي تأمّلوا وارجعوا إلى تفكيركم الحصيف وعقلكم الرشيد ،
لتدركوا أن ذلك كان بما كسبت أيديكم من اختياركم
الفداء يوم وقعة
بدر. وبيان ذلك ـ كما في المجمع والقمي ـ أن الحكم في الأسارى يوم بدر كان القتل.
فقام الأنصار فقالوا : يا رسول الله ، هبهم لنا ولا تقتلهم حتى نفاديهم ، فنزل
جبرائيل (ع) فقال : إن الله قد أباح الفداء للأنصار ، وجعل لهم أن يأخذوا من هؤلاء
القوم ويطلقونهم ، على أن يستشهد منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منه الفداء من
هؤلاء. فرضوا بذلك ، وقالوا : نأخذ الفداء ونتقوّى به ويقتل منّا في عام قابل بعدد
من نأخذ منه الفداء وندخل الجنة ، فأخذوا منهم الفداء وأطلقوهم. ولمّا كان يوم أحد
قتل من أصحاب رسول الله (ص) سبعون فقال الباقون : يا رسول الله ما هذا الذي أصابنا
وقد كنت تعدنا النصر؟ ... فأنزل الله تعالى : (أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ)
إلخ ... أي أن هذا
هو من عند أنفسكم بما شرطتم والتزمتم به يوم بدر (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أن أنه قادر بتمام القدرة أن يصيب بكم ، وأن يصيب منكم ،
وكلتا المصيبتين تكونان على طبق المصلحة وميزان العدل والحكمة.
* * *
(وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ
ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
وَلا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))
١٦٦ ـ (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ ...) أي أن الذي حل بكم وحصل حين التقى والتحم حماة الدين ودعاة
الكفر يوم وقعة أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) بقضائه وقدره وعلمه لحكم تخفى عليكم (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) يميّز الطيب ويطّلع على المطيع. والظّرف متعلق بقوله
أصابكم التي تعني ابتلاكم.
١٦٧ ـ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ..) معطوف على سابقه ، يعني وليعرف الخبيث والعاصي ، وليمتاز
إيمان المؤمنين عن نفاق من يبطنون النفاق كعبد الله بن أبي سلول وأتباعه. وقد ضمّن
العلم هنا معنى التمييز ، لأن العلم صفة تقتضي تمييز المعلوم ، فيظهر التابعون
للنبيّ (ص) ويظهر الناكصون عنه. وقد ورد مثل هذا المعنى في القرآن الكريم بقوله
تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) ، أي لتمييز التابع من غيره ، فإن الله تعالى عالم
بالأشياء قبل كونها ولا يجوز أن يعلم عند ذلك ، أي عند حصول الشيء ، ما لم يكن
عالما به قبل ذلك ، إلّا أنه سبحانه أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازا : إذ المعنى
ـ كما قلنا ـ ليظهر المؤمنين ، وليظهر المنافقين فيمتاز هؤلاء عن هؤلاء. وهذا مثل
قوله تعالى ـ أيضا ـ : وليعلم الصابرين وغيرها من الآيات الكثيرة التي جوابها هو
هذا. (وَقِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) أي قيل للمنافقين أمضوا معنا كي نجاهد في سبيل ربّنا ، وإن
لم
تحضروا القتال
فتعالوا للمدافعة عن أنفسكم وأموالكم وحريمكم. وقد يكون معنى الدفع هنا التكثير ،
يعني لتكثير سواد المسلمين ، إذ أن تكثير عدد المجاهدين له فعل كالقتال ، بل هو
كالقتال (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فكان جواب المنافقين أنهم لو كانوا يعلمون قتالا بالمعنى
الصحيح لا تّبعوا المسلمين وشاركوهم فيه ، ولكنهم يعتقدون أنه إلقاء بأيديهم إلى
التهلكة ذاك أنهم (هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) وهم عبد الله بن أبي سلول وأتباعه كما قلنا ، فإنهم حين
قالوا هذه المقالة ظهروا أنهم أقرب للكفر من الإيمان بعد أن كانوا في ظاهر حالهم
مسلمين ومع المسلمين. واللام في لفظة : للكفر ، هي هنا بمعنى : إلى ، كقوله تعالى
: (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا) ، أي إلى هذا ، فهؤلاء قد ظهروا بعد مقالتهم منافقين رسما
لأنهم خالفوا أمر النبي (ص) إذ يستشم من قولهم الاستهزاء بالزحف والاستهتار بما
مضى إليه المسلمون ، فانخذالهم عن القتال إمارة تؤذن بالكفر. وقد عبّر الله سبحانه
هكذا مماشاة لهم في التعبير عما ظهر من حالهم لأنهم كانوا (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ) إذ يظهرون الإيمان ويسرّون الكفر. وهذا شاهد على ما قلناه
من أنه تعالى جاء بتعبير يماشي فيه الخصم ليكشف عن حقيقة أمره ، فهم الآن قد ظهروا
كافرين. وقد احتيج إلى ذكر الأفواه لفائدة تأكيد نفي تواثق قلوبهم وألسنتهم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) يعرف ما ستروا من نفاقهم ، وعدم تطابق سرّهم وجهرهم. وفي
مصباح الشريعة عن الصادق عليهالسلام في كلام له : ومن ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ، ورخّص لنفسه
بذلك ، واتّبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة .. والساعي في أمور الدنيا وجمعها
وإمساكها يقر باللسان أنه لا مانع ولا معطي إلا الله ، وإن العبد لا يصيب إلّا ما
رزق وقسم له ، والجهد لا يزيد في الرزق ، وينكر ذلك في قلبه. قال الله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ ..) إلى قوله : (يَكْتُمُونَ ..) والآية هذه وإن كانت خاصة في سبب نزولها ، إلا أنها في
معناها عامة بلا ريب.
١٦٨ ـ (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ ..) أي قالوا لأصدقائهم وخلّانهم الذين يحذون حذوهم في النفاق
وفي عدم إطاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله (وَقَعَدُوا) عن الجهاد وكالموهم في مجالسهم ومحافلهم وأثناء مصاحبتهم
وتأثروا على قتلى أحد. والواو هنا حالية ، والجملة في محل نصب على الحال من
الموصول ، أي : قاعدين في بيوتهم فرحين بتقاعسهم عن أمر النبي (ص). قالوا لإخوانهم
عن القتلى : (لَوْ أَطاعُونا) وما خرجوا إلى الجهاد (ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا) فقد أخطئوا بعصيانهم أمرنا وألقوا بأيديهم إلى التهلكة.
وهذه المقالة كشفت عن عقيدتهم الفاسدة لأنهم ظنّوا أن الموت والحياة بيد الإنسان ،
وأنه يعيش إذا أراد ، ويموت متى شاء ، ونسوا أن الله تعالى يقول : وما كان لنفس أن
تموت إلّا بإذن الله كتابا مؤجلا ، له وقت مقدّر ، فليس حفظ النفس في مظانّ
المهالك ينجيها من الموت ، كما أن ليس تعريضها للأخطار في الجهاد يحتّم موتها. فيا
محمد (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) أي ادفعوا الموت عنكم إذا كان الأمر كما تزعمون ،
واستمهلوا ربّكم ليؤجّل موتكم إذا حان حينه. ولكن لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها
كما قال سبحانه أيها الحمقى ، فردّوا الموت حين يحلّ في ساحتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم. فلا الجهاد يوجب الموت ، كما أن القعود عن
الجهاد لا ينجي منه ، وكم من قاعد في بيته يموت إذا حمّ أجله ، وكم من شجاع يقذف
نفسه في وطيس الحرب ويرجع سالما بإذن الله تعالى ، لأن الموت والحياة مخلوقان
مأذونان بإذنه سبحانه ، ومأموران بأمره ، وليس لأحد فيها خيرة : هو الذي خلق الموت
والحياة.
١٦٩ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ..) أي لا تظنّن أن المقتولين يوم الجهاد في سبيل الله أمواتا
كبقية الأموات الذين يطويهم العدم إلى يوم القيامة. وقد نزلت هذه الآية الشريفة في
شهداء بدر وإن كانت عامّة المعنى تشمل كل من قتل في سبيل الله وبذل نفسه في مرضاته
، وتغلّب على أهواء النّفس وجاهدها الجهاد الأكبر ، فهؤلاء جميعا
ليسوا بميّتين
بمعنى فقدان إدراكهم واحساساتهم ، ولا هم كالجماد المتحجّر ولا كالأجسام التي
يفنيها البلى .. والخطاب هنا للنبيّ الأكرم (ص) صورة ، لكنه موجه للناس طرّا
ترغيبا في الجهاد وتشويقا إلى ما عند الله من نعيم دائم للشهداء في سبيله لإحقاق
الحق وإبطال الباطل ورفع كلمة الله عزّ وعلا .. فالشهداء بالحقيقة ليسوا أمواتا (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) أي أنهم قد رجعوا إلى حال الحياة بعد قتلهم ، وهم يرزقون
من الطيّبات ويتنعّمون بلذائذ الخلد .. أما قوله تعالى : عند ربّهم ، فإنه لا يعني
قرب المسافة والمكان لأن هذين من لوازم الأجسام ، بل المراد أنهم مقرّبون تشريفا
لهم وتكريما ، وأنهم في درجة عالية من الجنان لا تحصل لغيرهم ، فهم يتمتّعون بأنعم
الجنة ، ويحيون سعداء في مقامهم في عالم القرب الحميد الذي يغبطون عليه من سائر
أهل الجنة.
١٧٠ ـ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ ...) فرحين منصوبة على الحال ، أي حال كون أولئك الشهداء
مسرورين بجزيل نعم الله عليهم ، وبما آتاهم ، أي : أعطاهم (مِنْ فَضْلِهِ) خيره وعطائه بعد أن منّ عليهم بشرف الشهادة والفوز بالجنّة
والحياة الأبدية السعيدة والقرب من دار كرامة الله ـ فهنيئا لهم ـ وهم (يَسْتَبْشِرُونَ) يبشّر بعضهم بعضا (بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي بقدوم إخوانهم من الشهداء الذين لا يزالون في دار
الدنيا وقد كتبت لهم الشهادة وسيكونون على منهجهم الإيماني الراسخ ، وسيقدمون على
الشهادة في سبيل الله (مِنْ خَلْفِهِمْ) ويأتون وراءهم في زمر الشهداء السعداء ، ويتشرفون بكرامة
الله كما تشريف هؤلاء الأبرار ، ثم يقولون في تباشرهم : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) لأنهم سيصيرون إلى السعادة التي ساروا هم إليها ، فلا خوف
على مصيرهم الأخروي بعد شدائد الدنيا وظلمها ونوازلها ، ولا يلحق بهم حزن لفراق
الدنيا حين يرون منازلهم في دار الكرامة بعد أن جاهدوا بين يدي نبيّهم (ص) وقتلوا
في سبيل الحق والهدى غير مبالين أوقعوا على الموت أم وقع الموت
عليهم. وجملة : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ، بدل من قوله تعالى : (لَمْ يَلْحَقُوا
بِهِمْ).
١٧١ ـ (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
..) الجملة حالية كقوله فرحين. والمراد بالمستبشرين هم الذين
قتلوا ونالوا مرتبة الشهادة. والنعمة هي الإحسان الذي منّ الله تعالى به عليهم في
نعيمهم (وَفَضْلٍ) أي إحسان آخر من دون علّة. والنعمة والفضل يكشفان عن معنى
واحد ، ولكن الفضل يبيّن زيادة الإنعام عليهم منه سبحانه لأنه متفضل يعطي أكثر من
الاستحقاق ، فليعلم الإنسان أنه تعالى لا يضيع عمل عامل (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ) بل يوفّيهم جزاءهم ولا يمهله ولا يهمله. والواو قد عطفت
الجملة على لفظة : فضل ، فتصير ـ هي أيضا ـ مما يستبشرون به. وقد قرئت : إن بكسر
الهمزة على الاستئناف.
* * *
(الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
الَّذِينَ
قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٧٥))
١٧٢ ـ (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ ..) هذه الشريفة نزلت في جرحى أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله .. بيان ذلك أنه لما انتهت المعركة وهدأت سورة الحرب بعد
هزيمة المسلمين ، وبعد
رجوعهم إلى
المدينة على تلك الحال المفجعة وهم قلة بين جريح ومحزون ضعيف متعب من وهلة الفرار
وخوف الهلاك ، نزل جبرائيل عليهالسلام وقال : يا رسول الله إن الله تعالى يأمرك أن تخرج في أثر
القوم ولا يخرج معك إلّا من به جراحة. فأمر (ص) بخروج الجرحى ، فأقبلوا يضمّدون
جراحاتهم ويداوونها ثم خرجوا على ما بهم من ألم الجراح وأوجاعها. وهؤلاء هم الذين
مدحهم الله سبحانه وأثنى عليهم أحسن ثناء ، جزاهم الله عن الإسلام وأهله أفضل
الجزاء ، هم الذين استجابوا لداعي الله تعالى ودعوة رسوله إلى مجاهدة الكفار (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) وآلمتهم الجراح ، وأتوا مطيعين لما ندب إليه الله ورسوله
يوم أحد وهم على تلك الحال ، فإن الله تعالى يقول : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بطاعة الرسول وسماع كلمته وإجابة دعوته (وَاتَّقَوْا) معاصي الله ومعصية الرسول فيما أمرهم به ، ونشطوا للجهاد
على ما بهم من قرح لهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) جزاء كبير يبلغ حدّ العظمة. والجملة مبتدأ مؤخّر لقوله
تعالى :
(لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا). وقد تقدّم الخبر للاهتمام بشأن إحسانهم فيما فعلوا حين
أريد منهم الإطاعة في مثل تلك الحال.
١٧٣ ـ (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ..) المراد بالموصول هنا : هم النبيّ (ص) والأنصار وحدهم
بقرينة الحال ؛ وبقرينة كلمة : فاخشوهم التي ستجيء. والناس الذين قالوا : هو نعيم
بن مسعود الأشجعي وقد قدم مكة معتمرا وأرجعه أبو سفيان إلى المدينة ليصرف المسلمين
عن عزمهم إلى بدر الصغرى طلبا لحرب أبي سفيان وجيشه من المشركين حيث كان الموعد
والملتقى في نهاية سنة من معركة أحد. فلما قارب المدينة وافى الرسول وأنصاره
بحمراء الأسد مجهّزين مستعدّين لطلب أبي سفيان وأتباعه حسب الميعاد الذي ضربه أبو
سفيان نفسه ، فقال نعيم المذكور : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ) يعني أن أبا سفيان وأعوانه من أهل الشرك والضلال قد جيّشوا
الجيوش وأتوا بجمع عظيم بحيث لا ينجو منكم إلا من فرّ شريدا (فَاخْشَوْهُمْ) أي احذروا منهم واتّقوهم وتجنّبوا شرّهم.
والفعل أمر من
خشي. عند ذلك كره أصحاب رسول الله (ص) الخروج في ابتداء الأمر ، وتهيّبوا الموقف ،
فقال (ص): والّذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ، وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل. فأثر
هذا المقال في القوم واجتمعوا وجمعوا أمرهم بعد أن كانوا مزعزعين ، وتأهبوا للقتال
(فَزادَهُمْ إِيماناً) قول النبيّ (ص) أو تخويف نعيم الأشجعي وترهيبه إياهم الذي
كان سببا لتحريكهم وتحريضهم على القتال والجهاد رغما لأنفه ورغما لأنف أبي سفيان
الذي علّمه على نشر هذه الفرية (وَقالُوا : حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) بأجمعهم ، تبعا لما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أي يكفينا أن يكون الله تعالى ناصرا ومعينا على جموع
الكفّار ، ونعم من يوكل إليه الأمر في المهامّ والصعوبات.
أما كراهتهم
للخروج ـ لو صحّ نقلها كما في بعض تواريخ غزوات النبيّ (ص) وسير أصحابه ـ فإنها قد
تكون حصلت لدى استماعهم الخبر الفوريّ على حسب طبعهم البشري. إذ ربما تحصل هذه
الأمور في نفس الإنسان دون اختيار ثم تنمحي وتزول بسرعة حين يسيطر العقل. وهي لا
تضر بإيمانهم لأنها أمر وجدانيّ لا يحتاج إلى تبرير وإقامة برهان. مضافا إلى أن
الشريفة ليست فيها رائحة يستشم منها معنى التقاعس والكراهة ، بل الكراهة في مثل
هذا المقام تكون كالخشية والخوف بقرينة قول الرسول الذي كلّفه أبو سفيان بإلقاء
هذه الفرية قال : فاخشوهم ، أي خافوهم على أنفسكم ، فيمكن أن يكونوا قد تخوفوا
بادئ ذي بدء ، أما كراهتهم لحرب أبي سفيان وأعوانه من تخويف نعيم فمحلّ تأمل ومنع
..
١٧٤ ـ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ ..) أي رجعوا في عافية منه سبحانه وثبات على الإيمان ، وعادوا
من بدر الصغرى التي هي سهل عند ماء لبني كنانة ، وموضع سوق لهم في الجاهلية كانوا
يجتمعون فيه كلّ عام ، بعد أن أقام النبيّ (ص) بهم ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان
وهو منصرف عن الحرب يتردد بين مجنّة ومكة. ومجنة موضع قريب من مكة
كانوا يقولون إنه
كثير الجنّ. ولما علم النبيّ (ص) انصرافه وتأخره أزمع أن يرجع بأصحابه الذين كانت
لهم تجارات باشروها لمّا لم تقع المعركة فأصابوا بالدرهم درهمين وربحوا ربحا كثيرا
وعادوا إلى المدينة (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) أي لم يصبهم في سفرهم هذا أدنى شرّ من أعدائهم. بل عادوا
بالنعم الجزيلة وبالصحة والأمن من كل مكروه (وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللهِ) بإطاعة نبيّهم وتوجههم للجهاد في سبيل الحق والحقيقة مع ما
كان بهم من حال العسر المؤلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ) ومن فضله توفيقهم لما فعلوا من الامتثال لأمر الله ،
والاستجابة لأمر رسوله ، وظهور إيمانهم الراسخ ، وكونهم عادوا بالربح الوفير ولم
يقاتلوا عدوّا.
ثم إنه لا بد من
إثبات نكتة هامّة هنا ، قد تضمّنتها الآية الشريفة ، وهي قول النبيّ (ص): حسبنا
الله ونعم الوكيل ، ذلك القول الذي يقال كلما ساء الإنسان أمر. وينبغي أن يفزع
إليه لأنه مجموع كلمات مباركات روي فيه عن الصادق عليهالسلام صحيحا قوله : عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله : حسبنا
الله ونعم الوكيل ، فإني سمعت أن الله يقول بعقبها : فانقلبوا بنعمة من الله وفضل
لم يمسسهم سوء. وروي عن ابن عباس أنه قال : آخر كلام إبراهيم عليهالسلام حين ألقي في النار كان : حسبنا الله ونعم الوكيل.
١٧٥ ـ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ ..) ذلكم : اسم إشارة للبعيد ، وهو مبتدأ. والشيطان خبره. يعني
: هو إبليس الذي يوسوس ويغري و (يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ) يعني أتباعه ، أي يفزعهم كأن يقول لهم على لسان ذلك الشخص
: إن المشركين يستعدون لقتالكم ويجمعون الحشود الكثيرة فاخشوهم واحسبوا حسابهم قبل
خروجكم للقائهم. أجل ، هو الشيطان يقصد تثبيطكم عن الجهاد ـ وقد أريد بهذا «نعيم»
المذكور سابقا وإن كانت الآية عامة ـ فانتبهوا إلى وسوسته ودسائسه وتسويلاته ، فإن
له أعوانا كنعيم وكأبي سفيان وأتباعه ، يعلّمهم المكائد ، ويلقّنهم الأضاليل
ليقطعوا سبيل الخير ، ويمنعوا طريق الجهاد بأقاويلهم الكاسدة
الفاسدة .. ويخوّف
هي من : خاف ، الفعل المتعدي. وبعد تضعيفه ـ خوّف ـ أصبح متعديا إلى مفعولين وصار
يجوز القول : خوّفتك عمرا. ولكن قد يحذف واحد من المفعولين ويستغنى عنه للقرينة
وطلبا للتخفيف المطلوب في كلام الأعراب بالخصوص كما في المقام حيث حذف المفعول
الأول لأن التقدير : يخوّف المؤمنين ، أولياءه ، أي يحذّرهم من أوليائه. فالشيطان
المجسّم بنعيم الأشجعي خوّف المسلمين بأبي سفيان وجنده الذين هم أولياء الشيطان
وجنوده وأتباع الضلالة والغواية (فَلا تَخافُوهُمْ) أي لا تفزعوا منهم أيها المؤمنون لأني ناصركم ومعينكم (وَخافُونِ) واحذروا منّي لأن السعادة الأبدية الطيبة هي في أن يخاف
العبد مولاه وربّه الذي بيده أزمّة أموره في الدنيا والآخرة ، فينبغي أن تتقوني (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي بمقتضى إيمانكم لا يجوز أن ينحصر خوفكم بغير الله تعالى
، لأن المخلوقين أمورهم بيده سبحانه وهم ضعفاء مفتقرون إليه.
* * *
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))
١٧٦ ـ (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ
فِي الْكُفْرِ ..) حزن يحزن فعل لازم كقوله تعالى : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وحزن يحزن فعل متعدّ كما هو هنا. ومن اللازم يقال حزين ،
ومن المتعدي يقال محزون. ولما كان النبيّ
صلىاللهعليهوآله يتأثر ويتأسف عند صدور بعض أعمال قومه وتصرفاتهم أحيانا ،
حتى أن التأثر يبدو على قسمات وجهه الشريف ، وتبدو علائمه على وجنتيه وجبينه
الكريم ، فقد قال له تعالى تسلية له عن ذلك : ولا يحزنك الذين يستعجلون في اقتحام
موارد الضلال ويتّبعون نزغات الغي والهوى تمردا على الله سبحانه ، ثم لا يصغون
لدعوتك ولا يهتدون بأمرك. فإنهم ـ بفعلهم هذا ـ يوقعون أنفسهم في الهلكة وتيه
الغواية ، ويخرجونها عن الأهلية لألطاف الله ومراحمه مع سعتها وشمولها لجميع ذرّات
العوالم ، فلا يحزنك انغماسهم في حمأة الكفر (إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي أنهم لن يلحقوا ضررا بدعوة الله سبحانه ولا بك ولا
بأولياء الله من جرّاء كفرهم ، بل يضرّون أنفسهم لأن الله تعالى غنيّ عن العالمين
ولا يلحق به ولا بكم ضرر كفرهم. أما لفظة شيئا فإنها تفيد العموم لوقوعها في حيّز
النفي (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا
يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا) أي نصيبا مما يقسمه بين عباده من الأجر والثواب (فِي الْآخِرَةِ) ويوم الفوز الأكبر والربح الذي ليس بعده خسارة. أما لفظة :
يريد ، فإنها إشعار ببلوغ غاية غضب الله عليهم بحيث أراد أن لا يرحمهم لشدة كفرهم
ومسارعتهم إلى اقتحام موارد غضبه ، مع أنه أرحم الراحمين ، وإرادته سبحانه لا
تتخلّف عن مراده (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) إذ أعدّ لهم أعظم المشاق وأشد الصعاب من مقاساة ما في جهنم
من موجع العذاب وقاسي العقاب ، بسبب كفرهم بأعظم نعم الله عليهم وهو أن بعث فيهم
خاتم رسله صلىاللهعليهوآله من أنفسهم ، فأية نعمة هي هذه بالنسبة للعشيرة وللبلد وللقومية؟
..
١٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ ..) أي الذين آثروا الكفر على الإيمان واستبدلوه به واختاروه
عليه خبثا وعتوّا مع أن الحق واضحة حججه ، والإيمان قائمة دلائله. فهؤلاء (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) كرّرها سبحانه آية بعد آية تأكيدا للمضمون ، ثم زاد أنه
هيأ لهم عذابا موجعا صعبا لا تنقضي أيامه ولا تنفد مدته. فإن وبال كفرهم يعود
عليهم ، ونفاقهم
يرتدّ في نحورهم ، ومفاسدهم الدنيوية تؤدي بهم إلى مهالك أبدية تتجدد مع الأبد.
ولا بد من إلفات
النظر إلى أنه سبحانه وتعالى قال : لن يضرّوا الله شيئا ، مع أن الواضح الذي لا
شبهة فيه أنه عزّ اسمه لا تجوز عليه المنافع والمضارّ ، قال ذلك على جهة سياق منطق
الناس في كلامهم ومحاوراتهم ، أي كما قال : مخالفة فلان لحكومة الوقت لا تضرّها ،
وعدم إطاعة الولد لوالده لا تضرّ والده بل تضرّ نفس الولد ونحو ذلك. فالقرآن
الكريم نزل على لسان القوم ومنطقهم ولذا ساق سبحانه الكلام هكذا. وقيل إنه جلّ
وعلا قال ذلك تسلية لقلب نبيّه الكريم صلىاللهعليهوآله لأنه كان يصعب عليه مسارعة قومه في الكفر واختياره على
الإيمان مع أنه يجب لهم عكس ذلك. ولا منافاة بين أن يكون قد سلّاه من جهة ، وأن
يكون قد ساق الكلام بحسب اصطلاح الناس من جهة ثانية.
وأما الفرق بين
الطائفتين : أي المسارعين في الكفر التي تكفلت ببيان حالهم الآية الأولى ،
والمشترين الكفر بالإيمان الذين تضمّنت وصف حالهم الآية الثانية ، فيستفاد منه أن الطائفة
الأولى ستكون أشد عذابا من الثانية رغم أن الكفر ملة واحدة. بيان ذلك أنه سبحانه
وصف عذاب الطائفة الأولى بالعظمة ، ونعت عذاب الثانية بالألم ، وكم من فرق بين
الوصفين كما لا يخفى! ...
١٧٨ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وعاصم يحسبنّ بالياء.
وتكون لفظة : الذين فاعل ، وما في حيّزه ناب مناب المفعولين. والبعض الآخر قرأ
تحسبن بالتاء. وجعل هذا الكلام خطابا للرسول (ص) من باب : إياك أعني ، ولكل أحد.
وجعلوا لفظة : الذين ، مفعولا أول.
فلا يظننّ
الكافرون (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) أن إملاءنا أي إمهالنا لهم بإطالة العمر ، وقيل تخليتهم
وشأنهم دون أن نعاجلهم بالعقوبة أو الآجال أو
الإهلاك (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) يجنون منه المنفعة. والجملة كلها بدل ناب مناب مفعولين :
أما المفعول الآخر فهو على حذف مضاف ، والتقدير : ولا يحسبنّ حال الذين كفروا ، أن
إملاءنا خير لهم. وأما ، مصدرية وحقّها الفصل خطّا ، وإنما وصلت للرسم ولإفادة
التأكيد ، ولعل هذا هو المناط في الاتصال بما اتصل به حيث أن المقام يقتضي التأكيد
كما لا يخفى ، فلا ينبغي أن يدور في خلد هؤلاء الكافرين أن تخليتهم من قبلنا خير (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً) أي ليظهر كل ما في قلوبهم من الإلحاد والخبث والحقد
بالنسبة إلى عبادنا المؤمنين ، ولتتم الحجة عليهم ، فإنهم بحسب طبائعهم السيئة
كالعقارب التي لا تزال تلسع حتى ولو أصابت حجرا ، يفعلون ذلك كله باختيارهم وعن
قصد وتصميم ويستطيعون عدم الفعل لو أرادوا كما يستطيع سائر الناس من كفار وغير
كفار. أما الإملاء من الله فسنّة جارية من عنده جلّ وعلا في عباده الكفرة وغيرهم
من المنافقين الذين يقولون مثلا : آمنّا ، فيقول تعالى ردّا عليهم : يقولون
بأفواههم ما ليس في قلوبهم ؛ فإنهم اهتموا بإجراء ما كان تحت قدرتهم بالإضافة إلى
أولياء الله من الهتك والفتك والضرب والغصب ، وكل ما دعتهم إليه نفوسهم الشريرة ،
حتى أنهم أوشكوا أن يحرقوا بيوتا على أهلها من المؤمنين الأبرار ليطفئوا نور الله
بأفواههم ، وأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وأمهلهم مع كامل
فظائعهم ليزدادوا ظلما وعدوانا ولتظهر دخائلهم على حقيقتها ، ثم أخذهم الله تعالى
أخذ عزيز مقتدر ليصبّ عليهم سوط عذاب. فإن له سبحانه سنّة جارية في عباده الكافرين
والمؤمنين يخلّي بموجبها بين العبد واختياره في دار الدنيا من غير أن يعاجل بعقاب
أو ثواب.
أما قوله سبحانه :
(إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ، فهو استئناف يعلّل به ما قبله. واللام في : ليزدادوا ،
للعاقبة ، أي لتكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم وتراكم الذنوب (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي عذاب يرون فيه هوانهم وذلّهم وخزيهم وحقارتهم بكفرهم. والعياشي
عن الباقر عليهالسلام أنه
سئل عن الكافر :
الموت خير له أم الحياة ... فقال : الموت خير للمؤمن والكافر ، لأن الله تعالى
يقول : وما عند الله خير للأبرار ، ويقول : ولا تحسبنّ الّذين كفروا إنما نملي لهم
خير لأنفسهم.
* * *
(ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ
هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢))
١٧٩ ـ (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ..) الخطاب هنا لعنوان المسلمين ، وهو يعم الطائفتين منهم :
المؤمنين والمنافقين ، أي أنه سبحانه لا يدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط
بغيرهم ، ولا يتركهم جميعا تحت عنوان المسلمين بحيث تشتبه الحال بين المؤمن
والمنافق في
الظاهر ، لا يفعل ذلك سبحانه (حَتَّى) تصدر أوامره ونواهيه ، بلطفه وحكمته ، ونشر شريعته بمختلف
سياساتها من أجل سعادة البشر ، وإكمال الدين وإتمام النعمة ، وإقامة النظام الصالح
للمجتمع ف (يَمِيزَ الْخَبِيثَ) الذي يظهر بالتمرّد والجموح في الغي (مِنَ الطَّيِّبِ) الدائب على طاعة الله واتّباع الحق ومخالفة الهوى والنفس
.. فهذا هو طريق التمييز بين المسلم المؤمن وبين المتظاهر بالإسلام مع إبطان
النفاق. كما أنه سبحانه كان يمكن أن يبيّن لرسوله بالإخبار عن أحوال المنافقين كما
جرى ذلك مرارا ، ولكن كشف حالهم يتم جهرا بوضع التكاليف الشاقة الصعبة كبذل النفس
والمال ، ليظهر ما يضمرون (وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي على ما جرت عليه عادة الله تعالى وسنّته في خلقه بمقتضى
حكمته البالغة. فما كان ليظهر على غيبه أحدا منكم فتعلمون ما في القلوب وتكتشفون
إيمان هذا أو نفاق ذاك ، لأن ذلك المقام مقام رفيع خص به ذاته المقدسة ومن له
الأهلية لذلك ، حيث قال سبحانه : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ) ، وما أنتم له بأهل إذ قد يخلّ ذلك بجامعتكم الإسلامية
ويحدث الفساد في شؤون الإسلام والمسلمين. نعم ، هذا يليق بمقام الرسالة ـ والله
أعلم حيث يجعل رسالته ـ ولذلك قال في تمام الآية : (اللهَ يَجْتَبِي مِنْ
رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي أنه يختار لهذا المقام السامي من أراد ومن كانت له
الأهلية ، وعلى حسب المصلحة الكاملة والحكمة التامة. ولا يخفى أن المتبادر إلى
الذهن من هذه الكلمة : ـ من رسله ـ أن لله رسلا موجودين مجهّزين قد اجتباهم
للرسالة ، يختار منهم لكل زمان من يوافقه ويناسبه ، وقد اختار موسى عليهالسلام في زمن السحر والشعبذة وأعطاه العصا التي كانت تلقف ما
يأفكون وتبطل ما يقومون به من سحر عظيم ، ثم اختار عيسى عليهالسلام لزمن الطب والنبوغ فيه وجعله يشفي الأبرص والأكمه ويحيي
الموتى بإذنه ، ويقوم بما يعجز عنه أطبّاء عصره. ثم كان دور الفصاحة والبيان
والإعجاز فاختار له خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، وأنزل عليه
القرآن الذي محا
ما عندهم من بليغ الفصاحة ، وغلب ما كان لهم من سحر البلاغة فوقفوا مشدوهين أمام
هذا الإعجاز الذي تذعن له العقول وتحار منه الألباب ، وظهرت دواوينهم ومعلّقاتهم
السبع وغيرها كأن لم تكن شيئا أمام سحر القرآن وعظمته ، ورأوا أنفسهم عاجزين عن
الإتيان بسورة من مثله ، حتى أنه قيل : لما نزلت الآية الكريمة : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا
سَماءُ أَقْلِعِي) ، سمعتها أخت امرئ القيس فمضت مسرعة إلى بيت الله الحرام
وأنزلت المعلّقات التي علّقها أخوها على الكعبة فخرا على العرب ببلاغته وفصاحته ثم
قالت : لا كلام ولا بيان أفصح وأبلغ من القرآن الكريم أبدا. وهكذا فإن القرآن
معجزة باقية إلى انقراض العالم وفيه ـ مع ذلك ـ تبيان كلّ شيء.
نعم ، في كل عصر
أرسل الله تعالى نبيّا ممّن اجتبى ، وأنزل عليه رسالته بعد بلوغه وظهور نبوغه
وكمال رشده ، وحمّله رسالة شرع للناس فيها دينا يضمن تكاملهم ويصلح مجتمعهم ،
وأعطاه المعجزات وخوارق العادات ليبرهن على صدق رسالته وليدفع الباطل بقوة دعوته
وصدقها ، وليؤمن به المكابرون ويرضخ له الجاحدون .. فهو سبحانه يختار من رسله
الموجودين في علمه واحدا بعد آخر كما شاء ورتّب ليصلح شأن عباده في دار الدنيا ،
وليفوزوا بثوابه الجزيل ونعيمه الدائم في دار الآخرة.
ويحتمل ـ ضعيفا ـ أن
يؤوّل الاجتباء على العباد الذين تكون لهم الأهلية للاختيار لحمل الرسالة ويكون
الكلام حينئذ من باب المجاز ، فيجتبي من الموجودين في العصر من يشرّفه بذلك ويبعثه
إلى الناس بالرسالة والكتاب والمعجزات والخوارق الأخر التي تؤيد رسالته ، كالتخلّق
بالخلق العظيم ، وكالإعراض عن الدنيا ، وإنفاق ماله في سبيل ربّه ، وإظهار الحق
الذي جاء به ..
وعلى كل حال ، ما
كان الله ليطلع على غيبه وما جرت به قدرته إلّا
(مَنْ يَشاءُ) أي من يريد ممن له قابلية حمل الرسالة من جميع الجهات (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) يعني : صدّقوا بذلك أيها الناس : بالله تعالى ، وبرسله ،
وبما جاؤا به من عنده سبحانه لأنه اجتباهم لذلك (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بإخلاص (وَتَتَّقُوا) تتجنبوا النفاق وتخافوا على أنفسكم وتحتاطوا لها (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب كثير على إيمانكم وتقواكم.
١٨٠ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
..) أي لا ينبغي أن يظن الذين يبخلون (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي أعطاهم من نعمه وإحسانه وخيراته. والبخل هو منع الشيء
وإمساكه ، فهؤلاء الذين يمسكون عن الإنفاق مما أعطاهم الله في سبيل مرضاته ، في
جميع الموارد التي تشملها لفظة : ما ، الموصولية المقتضية ، لعموم نعم الحياة من
صحة ومال وجاه ، يجب أن لا يقدّروا أن ذلك (خَيْراً لَهُمْ). ذاك أن «ما» تعمّ أفضال الله تعالى على العباد جميعها ،
تلك التي ينبغي الصرف منها وعدم البخل بها. غاية الأمر أن بعضها الصرف منه واجب ،
وبعضها الآخر مستحب ، وظاهر الكلمة في الآية تقتضي العموم ، لكن جاءت روايات
صرفتها عن ظاهرها وفسّرتها بزكاة الأموال التي تتعلق بها ، ونحن نقتصر على ذكر
بعضها تيمّنا : ففي تفسير البرهان عن الكافي في صحيحة محمد بن مسلم ، وفي مجالس
الشيخ في معتبرة أيوب بن راشد عن الصادق عليهالسلام ، كما في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام ، وعن ابن سنان عن الصادق عن آبائه عليهمالسلام ؛ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلّا وجعل في عنقه شجاع
يوم القيامة. وتلا الآية. أي جعل في عنقه ثعبان من نار ، والعياذ بالله من ذلك. ثم
جاء مث ذلك في الدر المنثور ، وصحيح الترمذي ، وابن ماجة ، والنسائي ، والحاكم
الذي صححّه عن ابن مسعود عن النبيّ صلىاللهعليهوآله.
فالتفسير للإنفاق
بالزّكاة ، جاء من الشيعة والسنّة ، في روايات كثيرة ، ولا بدّ من حمل العامّ على
الخاص. وكلمة : فضله في الآية تشير إلى ما
يعطيه سبحانه بغير
سؤال مما يكشف عن رحمته وعظمته وكمال جوده. فضلا عن بسط يده بالإنعام على العباد ،
الذي ينحصر بعلوّ وسموّ ذاته المقدسة جلّت قدرته وجلّ كرمه.
وخيرا : نصب بناء
على كونه مفعولا ثانيا ليحسبنّ ، والمفعول الأول هو البخل المدلول عليه بجملة
يبخلون. وتقدير الكلام : ولا يحسبنّ الّذين يبخلون البخل خيرا. والذين : فاعل بناء
على القراءة بالياء كما لا يخفى .. أما بناء على القراءة بالتاء ـ قراءة حمزة ـ فالفاعل
هو الذي خوطب بالكلام ، وهو النبيّ صلىاللهعليهوآله ، والذين : مفعول أول لتحسبنّ في مقام الظاهر ، لكن الواقع
أن الكلام ـ في هذه الحالة ـ مبنيّ على حذف وتقدير ، والمعنى : ولا تحسبنّ يا محمد
بخل الذين يبخلون خيرا لهم (بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَهُمْ) لما في بخلهم من خسّة الطبع ورذيلة الشّح وسوء الظن بالله
، والحرمان من الثواب وخسران فضيلة الطاعة وحسن السماحة يبذل ما يعين على إقامة
المجتمع الصالح الذي يوصل إلى كل ذي حقّ حقه. وأي عمل أسوأ ، وأي خصلة أدنى وأرذل
وأخس من صفة البخل بمال الله الذي يهبه سبحانه لعباده بغير حساب؟ .. لكنّ الذين
يبخلون بذلك (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سيجعل الله ما بخلوا به طوقا من نار يلتفّ حول أعناقهم يوم
القيامة كما نصت الرواية التي مرت آنفا. ولا يخفى على أهل الدّرية والأدب أن كلمة
: بما ، في : بما آتاهم ، تحمل معنى التبعيض ، يعني أن هؤلاء السفهاء يبخلون ببعض
ما آتاهم الله ، وهو قدر الصدقة الواجبة. فهذا هو متعلق بخلهم في المال الذي فيه
حق. فتصوّر خسّة الإنسان الذي لا ينفق هذا المقدار البسيط من فضل الله الكثير.
فالله تعالى لم يطلب منّا إنفاق كامل المال ، ولا سمّانا بخلاء لأننا لم ننفقه
كلّه ، بل قصد ذلك الجزء القليل الذي فرضه سبحانه لتزكية المال وتطهيره. ولو كان
الأمر غير ذلك لما قال سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً). فإنه جلّ وعلا عاتب نبيّه (ص) كما في التفسير ، بهذه
الآية
الكريمة ، حين
أعطى ثوبه وما بقي له ثوب يلبسه حين يذهب إلى الصلاة. فقد أمرنا أن لا ننفق كلّ
مالنا وأن نقعد في عقر دارنا مكشوفي الحال بين أفراد مجتمعنا.
فمن هذا كله
نستكشف أن البخل راجع إلى مقدار خاص أوجبه الله تعالى وألزم المكّلفين بإخراجه
لمصالح المجتمع ، ومن لم يخرجه يصدق عليه البخل والإمساك لحقّ ذوي الحقوق. وفي كون
الباء للتبعيض في هذه الآية نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، نكتفي منها بذكر :
وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، فقد سئل الإمام عليهالسلام : يا ابن رسول الله ، من أين نعرف أن المسح ببعض الرأس؟
قال (ع) : لمكان الباء. يعني أنه تعالى جاء بها لإفادة هذا المعنى ، ولو لا ذلك
لاقتضى السياق أن يقال : وامسحوا رؤوسكم.
والحاصل أن البخل
بالزكاة ـ أو بغيرها من الإنفاقات المستحبة في الأموال المتمركزة عند بعض الأثرياء
، والتي قد لا يستفيد المجتمع منها ـ سواء في ذلك زكاة المال أو زكاة الأبدان ،
ليس فيه خير ، بل هو شر كما مرّ وبينّا ، لأن ما يبخل الإنسان به سيقع طوقا في
رقبته يوم القيامة لأنه بخل به في دار الدنيا. ففي الكافي ـ أيضا ـ عن الباقر
والصادق عليهماالسلام : ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا ، إلّا جعل الله ذلك
يوم القيامة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب. وهذا
القول وإن اقتضى تجسيم الأعمال ، غير أنه يؤوّل بأن مانع الزكاة يعذّب عذابا يحسّه
كلدغ الحية المؤلم إذا جاز التأويل (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن له كل ما في الملك والملكوت أزلا وأبدا ، فلما ذا
يبخلون ببعض ما في أيديهم ، وكلّ ما في أيديهم عارية سيتركونها وراءهم لغيرهم ،
وسيتركها غيرهم لغيرهم حتى تصير ميراثا لله وحده. فهم إذا أبخل البخلاء لأنهم
بخلوا بما ليس لهم ، وفي الحديث أنه سئل (ع) عن أبخل الناس ، فقال : من بخل بمال
الغير فكيف لا يتعقّل الناس ويستشعرون أن هذا الذي يدّخرونه
ويكتنزونه ليس لهم
في واقع الحال ، لأنهم عمّا قريب يتركونه ويرحلون عنه ، فيرثه من هو وارث ما في
السماوات والأرض ، أي جميع ما يترك أهلها بعد موتهم ، إذ يرجع إليه تعالى جميع ما
خلّفوا وراءهم. وقد صرّح سبحانه بذلك ليوافق قوله مستوى فهم البشر واصطلاحهم ،
وإلّا فهو غنيّ بذاته عن كل ما سواه مطلقا. فما بيد الناس يملكون التصرف الكامل به
أثناء حياتهم. وما ينفقونه منه في طريق الحق ، هو الذي يبقى لهم أجره وثوابه ،
والله تعالى يملك النفوس والنفيس ممّا في السموات والأرض مطلقا وفي كل حال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم بما تفعلونه من إنفاق أو إمساك ، وسيجازيكم طبق
عملكم.
١٨١ ـ (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا ..) أي أنه سميع عليم عارف بقول من قال : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِياءُ) وهو فنحاص اليهودي ـ كما في الدر المنثور عن ابن عباس ، عن
طريق عكرمة ـ قال ذلك لأبي بكر لمّا دخل بيت المدراس على اليهود ، أي حيث كانت
تدرس التوراة ـ. وعن ابن عباس أيضا من طريق سعيد بن جبير أن اليهود أتوا رسول الله
لمّا أنزل سبحانه : (يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) ، فقالوا : أفقير ربّنا يسأل عباده القرض؟ .. فأنزل الله
تعالى هذه الآية المباركة لينبّه إلى أنه أدرك مقالتهم السخيفة وعلمها ، فقال : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي نأمر الملائكة الحفظة بإثبات قولهم وتسجيله عليهم
لنبرزه لهم يوم القيامة في صحف محفوظة. وهذا وعيد شديد وتهديد لهم بالعقوبة على
قولهم ، لأن ما يحفظ ينسى ، ولكنّ ما يكتب يبقى.
ثم إنه تعالى ،
لبيان عظيم مقالتهم الجريئة على الله الحق سبحانه ، والاهتمام بشأن هذا القول
الوقح ، عقّب بقوله : (وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) فجعل هذا العمل الشنيع قرينا لمقالتهم ، ودليلا على غاية
فظاعتها حيث ان قتل النفس أمر عظيم ، وقتل النبيّ أعظم ذنبا عند الله. فهذا القران
إيذان بأن الفعلين في العظم سواء ، وأن هذا ليس أول عظيمة اجترحوها ، فإن من لم
يبال بقتل الأنبياء فليس بمستبعد منه صدور هذا القول الكافر .. وعن العلا بن بدر
أنه (ع) سئل عن نسبة قتل الأنبياء
إليهم وهم لم
يدركوا ذلك ـ ولا عاصروه ـ فقال الإمام عليهالسلام : بموالاتهم من قتل أنبياء الله. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : بين الذين قالوا : إن الله فقير ، وبين القائلين
للأنبياء خمسمائة عام. وقد قال بعض أرباب التفاسير : إن هذا التقدير على سبيل
المثال في الكثرة أو أنه سقط شيء في الكتابة ، والأصل : ألف وخمسمائة عام. وعلى كل
تقدير فقد ذكر هؤلاء مع هؤلاء بالنظر إلى المعاصرين لنبيّنا صلّى الله عليه وآله
قد كانوا راضين لعمل أسلافهم بلا ريب ، فالله تعالى يكتب ما قال هؤلاء ، كما كتب
ما قال أسلافهم وقال لهم : (وَنَقُولُ ذُوقُوا
عَذابَ الْحَرِيقِ) أي عذاب نار ذات لهب شديد تحرق ، وقودها الناس والحجارة ،
بحيث يسمع لاشتعالها واحتدامها صوت موحش مرعب ، نعوذ بالله تعالى منها. والذوق في
اللغة هو اختبار طعم الأغذية ومن التذوّق : أي ذواق الشيء شيئا فشيئا ، فاستعمال
هذه اللفظة في المقام جاء بلحاظ أن عذاب أهل النار تدريجيّ الحصول لا دفعيّ ينتهي
بمرة واحدة ، فاستعمال الذوق في مورد العذاب بغاية المناسبة ونهاية اللطافة
التعبيرية ، وإن كان فيه وجه آخر ، هو في كونه من باب الاتّساع في الاستعمال ،
وعليه بعض من أرباب التفاسير ويحتمل ـ أيضا ـ أن يكون من باب الاستهزاء والهتك ،
بيان ذلك أن الذوق اختبار لطعم الأغذية المتداولة في الأكل لإدراك ما فيها من
حلاوة وملوحة وحموضة وغير ذلك. أما في الأغذية المنفّرة التي تشمئزّ منها الطبائع
، وفي الأشربة المسمومة وأمثالها ، ولا سيّما في العذاب أو ما فيه مقاساة عذاب حين
تناوله ، أما في ذلك كله فلا يقال للإنسان : ذق واختبر الطعم إلّا احتقارا
واستهزاء وانتقاما ، كمن يقال له : ذق التراب أو أضربك ، أو : ذق هذا الشيء القذر
أو أجدع أنفك .. وأظن أن قول الله تعالى محمول على هذا الوجه ، وأنه أحسن الوجوه
التي أشرنا إليها والله أعلم على كل حال.
١٨٢ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ..) أي أن إذاقتكم عذاب الحريق الشديد ، سببه أعمالكم التي
اجترحتموها ، والمعاصي التي ارتكبتموها ،
وسعيتم إليها
وباشرتموها بأيديكم وسائر جوارحكم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لم يظلمكم ولا كان عذابه لكم إلّا طبق ذنوبكم ، لأنه جلّ
عن أن يجور على عباده بل الجور والظلم من شأن العباد ، ومن ذوي النفوس الشريرة.
وظلّام صيغة مبالغة قصد بها الدلالة على كثرة اتّصاف الموصوف بالصفة. ولهذه الصيغة
أوزان معروفة منها زنة فعّال ، كظلّام : أي كثير الظلم ...
وفي الآية الشريفة
يلاحظ النفي المستفاد من كلمة : ليس ، على ما هو الظاهر راجع إلى صفة الكثرة ،
فأصل مبدأ الاشتقاق باق ، وهو الظلم ، وتعالى الله عما يقول الظالمون. وربما كانوا
يستدلون بهذه الشريفة بالبيان المذكور. والجواب أنه يمكن أن يقال بأن النفي راجع
إلى مبدأ الاشتقاق أولا فالصفة تنتفي بانتفائه قهرا ، وهذا آكد في المقام. فالحصر
لماذا في الصفة؟ ... أو نقول : إن النفي راجع إلى الصفة ومبدئها ، اللذين قابلا
النفي ، فالحصر في جهة الكثرة فقط لماذا؟ ... وأما الجواب المتقن الآخر ، فهو أنه
إذا وقعت صيغة المبالغة في حيّز النفي ، وكان النافي : ليس ونحوها ممّا يكون له
اسم وخبر ويدخل على خبره الباء الجارّة له التي هي عند أساطين علم الأدب لإفادة
تأكيد النفي ، وتظهر فائدة التأكيد في مدخوله لبيان تقوية النفي ، وجرّه للخبر
باعتبار المبدأ وإن لم يشمله النفي. ولكن هذا التأكيد الذي ذكروه لغو لأن النفي
بذاته ـ وبلا تأكيد ـ يشمل الصفة ، أي الكثرة. فالحاجة إلى الباء المؤكّدة هي لهذه
النكتة ، أي لأن يجرّ النفي إلى مبدأ اشتقاق الصفة كما فيما نحن فيه ، فلا يبقى في
المقام إلا الذات المجرّدة ، وهذا هو المطلوب. وهذا الجواب أحسن الأجوبة لأنه على
الموازين العلمية.
والآية الكريمة
عطف على : بما قدّمت ، وسببيّته أنه يستلزم العدل الموجب لمعاقبة العاصي وإثابة
المحسن ... وحاصل معناها إذاقة العاصين عذاب حريق جهنم المسبّبة من أمرين : أحدهما
: الجنايات والآثام المرتكبة ، والثاني : عدالة الحق المتعال الموجبة لذلك.
(الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ (١٨٤))
١٨٣ ـ (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا ...) يعني أخذ علينا عهدا أمرنا به في التوراة. وهؤلاء هم جماعة
من اليهود قالوا ـ كذبا وافتراء ـ إن الله أوصانا في كتابنا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أي أن لا نصدّق نبيّا في رسالته (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ
تَأْكُلُهُ النَّارُ) إلّا بعد أن يجئنا بمعجزة خاصة كانت لأنبياء بني إسرائيل ،
وهي أن يقدّم قربان إلى الله تعالى فتنزل نار من السماء فتلتهمه وهم ينظرون إليها.
وهذا على كل حال محض افتراء وباطل لأن أكل النار للقربان ليست لها خصوصية لازمة
توجب الإيمان ، إذ ليست بمجملها سوى ذبيحة أو أضحية يقصد بها وجه الله فتقبل أو
ترفض لتدل على أنها آية كسائر آيات الله التي يتيحها لأنبيائه عليهمالسلام ويجعلها معاجز لهم. فلما ذا أخذ الله عليهم العهد أن لا
يؤمنوا إلا بهذه المعجزة خاصة مع وجود معاجز أخرى كثيرة دالّة على صدق الرسالة؟ ...
إن هي إلّا من مفترياتهم ـ قاتلهم الله ـ لأنها ليست في التوراة ولا نزل بها عهد
في كتاب من الكتب السماوية. ولذا ، فإن الله سبحانه وتعالى أخذهم بافترائهم نفسه ،
وألجمهم بكذبهم وباطلهم فقال لمحمد صلىاللهعليهوآله : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني قد أتاكم أنبياء بمعاجز كثيرة تبيّن صدقهم ، وأتوكم
بمعجزة القربان
الذي تأكله النار أيضا (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولماذا ارتكبتم جريمة قتلهم مع أنهم جاؤوكم بمقترحاتكم ذاتها
أيها المنافقون؟ ... والمراد بالرّسل هم الذين جاءوهم قبل خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ، كموسى وزكريا ويحيى وعيسى عليهمالسلام جميعا ، وكغيرهم من أنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا
ببيّناتهم وعلائم رسالاتهم ، الدالّة على صدق دعاواهم.
فليست دعواهم هذه
إلّا مجرّد كذب وافتراء ، أرادوا من ورائها الفرار من الإيمان ، فأفحمهم الله
سبحانه بقوله : (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ) ، فألقموا حجرا وباءوا بالخزي.
١٨٤ ـ (فَإِنْ كَذَّبُوكَ ...) أي : إذا لم يصدّقوك يا رسول الله بعد ما بيّنت لهم من
الدلائل والحجج الدامغة الباهرة ، فليس هذا أمرا مبتدعا منهم (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ولم يصدّقهم أقوامهم ، وهذه سيرة الضالين ودأبهم مع
الأنبياء ، ولو (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) حتى مع إتيانهم بالمعجزات الموضحة لصدقهم ، ومع مجيئهم
بالزّبر : أي الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والنصائح القيّمة (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) وبرغم مجيئهم أيضا بالكتاب الذي ينير طريق دنياهم وآخرتهم
بشرائعه ومعارفه وحكمه. والمراد بالكتاب الجنس ، وهو هنا التوراة والإنجيل والزبور
وغيرها من كتبهم السماوية التي كذّبوا بها ، إلى غيرها من الصّحف غير المعروفة
التي تحتوي ـ كلها ـ على الهدى إلى الحق ، وتتكفّل كمّا وكيفا بما يقتضيه زمنها
وأهلها من فائدة نبيّها.
* * *
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا
إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً
فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))
١٨٥ ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) مناسبة هذه الشريفة وتعقّبها لما قبلها أن سابقتها كانت
تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوآله ، وجاءت هذه أيضا تختتم التسلية وتبيّن أن نهاية كل حيّ
قريبة ، فاعلم يا رسول الله أن كلّ نفس ، أي من يتنفس ويحيا في هذه الدار الفانية
، سيذوق طعم الموت ، فسبيل هؤلاء الضالين إلى الفناء القريب وسيلقون جزاءهم في
جهنم ، وبئس المصير الذي ينتظرهم (وَإِنَّما
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي تعطون أجركم الملائم لعملكم في الدنيا إن خيرا فخير وإن
شرا فشر ، تحصلون عليه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) دون ريب (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ) أي دفع عنها
وأبعد بعمله الطيب
الذي ينال عليه الثواب الجزيل (وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ) بذلك ، وكان من أهلها الراضين المرضيّين أمثالكم أيها
النبيّ وأتباعه (فَقَدْ فازَ) أي نجح إذ رجح ميزان حسناته. وليس بين أن يكون العبد من
أهل النار بمعصيته وآثامه ، أو أن يكون من أهل الجنة بطاعته وحسناته إلّا أن يذوق
الموت ، ففي المروي عنه عليهالسلام : أن المؤمن إذا مات قامت قيامته ، أي أنه يبدأ يستشعر
بالنعيم ، والعكس صحيح وما هذه (الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ) لأن هذه الدنيا يتركها الإنسان عند موته وينزعها عن جسمه البالي
كما ينزع ويترك المتاع البالي ، ولأنها إنما يتمتع المرء بلذّاتها برهة ووجيزة
فيغتر بدوامها ثم يفارقها بالموت الذي لا مفرّ منه. والمتاع لغة هو كل ما ينتفع به
من أعراض الدنيا قليلها وكثيرها. ومن ملذاتها وشهواتها وزينتها وزبرجها. الذي يغرّ
الكائن الحي. ومتاع الدنيا غرّار خدّاع ، ولكنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى
إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده. فما أحرى العاقل بالتفكّر والتبصر
والاستفادة من دنياه لآخرته لأنه سريعا ما يموت ويجد نفسه بين يدي جبّار السماوات
والأرض واقفا للحساب على الصغيرة والكبيرة.
أما قوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) ، فهو عطف بيان على من زحزح عن النار كما لا يخفى.
١٨٦ ـ (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ ...) اللام ، في : لتبلونّ : لام القسم ، جاءت لتأكيد الفعل ،
يعني : والله لتختبرنّ في أموالكم التي هي أعز شيء في دنياكم لدى سائر البشر ،
لأنها متاع الحياة ، ومجلبة كل متعة ، ورأس مال جميع المنافع الدنيوية والأخروية
أيضا حين تنفق فيما يرضي الله تعالى وفي ما يحبه لعبده الصالح ... فبالمال يتكامل
الإنسان في الدارين ، ولهذا قدّمه تعالى على الأنفس ، ثم نبّه إلى أنه لا بدّ أن
تبلوا في المال من حيث الدقة في إنفاقه بالوجوه المشروعة ، وفي الأنفس من حيث
إرهاقها في الطاعات وبذلها فيما يرضي الله ولو أدّى ذلك إلى
إزهاقها في سبيله
حين الجهاد (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أقسم أنكم ستسمعون من اليهود والنصارى الذين جاءتهم كتب
ربّهم قبل زمانكم (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) أي من منافقي العرب الذين أشركوا مع الله غيره ، لتسمعنّ (أَذىً كَثِيراً) أي ما يؤذيكم ويزعجكم من هجاء النبيّ (ص) والاستهزاء به
وبكم ، ومن إيذاء نساء المسلمين ، وحرب أتباع هذا الدين الجديد الذي نسخ أديانهم
وسفّه حلومهم ، فانتظروا من هؤلاء المنافقين الطعن في الإسلام ، والصدّ عن
الإيمان. وقد أخبر الله سبحانه نبيّه (ص) والمسلمين بذلك قبل حدوثه لئلا يرهقهم
حدوثه وقال : (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك الأذى (وَتَتَّقُوا) أي تتجنّبوا المعاصي وتتمسكوا بالطاعة لله دون أن تجزعوا
من الآلام والحوادث التي تعترض مسيرتكم في طريق الدين وإعلاء كلمة الله (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ذلك : تعني الصبر على الأذى ، والتقوى في العمل. والعزم من
العزيمة التي لا بد فيها من عقد القلب عليها والجزم الراسخ عليها ، بحيث لا تتزلزل
النية ولا تضطرب الإرادة. وعزم الأمور هو عدم الاضطراب من النوازل الشديدة ،
والحوادث الفظيعة ، والصبر على ذلك ، والبقاء في حظيرة الطاعة والتقوى ، وهذان
أمران لا بدّ فيهما من توفيق الله عزوجل ، لأنهما لا يطاقان إلّا بمعونته.
١٨٧ ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ ...) أي : واذكروا أيها المسلمون حينما أخذ الله تعالى ميثاق ـ أي
عهد ـ علماء اليهود والنصارى ـ بحسب الظاهر الواضح ـ وكتب عليهم القول المستحكم
الذي شدّد في ضرورة الوفاء به : (لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ) أي أوصاهم ـ بما منحهم من علم ومعرفة ، وبما حصره فيهم من
إرشاد وبيان ـ بأن يبّينوا أوصاف محمد (ص) وعلائمه وأنه هو خاتم النبيّين المنتظر
من قبلهم (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي : ولا تسترون بيان ذلك وتخفونه ، بل تقرأونه وتذيعونه
على الناس. (فَنَبَذُوهُ) أي العهد ، فإنهم ألقوه (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ورفضوه وتناسوه. والنّبذ وراء الظهر كناية بديعة عن الطرح
وعدم الاعتناء. فقد
فعلوا ذلك الطرح
للعهد المأخوذ عليهم (وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) أي أخذوا بكتمانه متاعا دنيئا من حطام الدنيا. والثمن على
ما هو الظاهر ، الدراهم والدنانير والرئاسة الدنيوية الزائلة التي اشتروها بالآخرة
الباقية ، فكان عملهم كالبيع بلا عوض حيث يظهر سوء حظ البائع ، ويبدو عدم فطنته
وعدم استعمال عقله في تقديراته الخاسرة. فإن الخزف الباقي خير من الذهب الفاني ،
فكيف تباع الآخرة بالثمن الأوكس؟ ... (فَبِئْسَ ما
يَشْتَرُونَ) أي ساء وشؤم ما يبتاعونه. وهذا دليل على دناءة الثمن الذي
باعوا به الآخرة ، وفيه تعيير لمن باع دينه بدنياه.
وهذه الآية
الكريمة وإن كان النظر فيها لعلماء اليهود والنصارى ، إلّا أنه متوجّه لمطلق
الروحانيّين ورجال الدين ، ينبّههم سبحانه فيها إلى أخطار كتمان الحق ، وإلى
محاذير إساءة استعمال وظائفهم الدينية ، ويلمح إلى ضرورة بيان الحق وعدم الخروج عن
خط الوظيفة الدينية مهما كان الثمن ، لأن من حاد عن جادة الصواب في أداء وظيفته
كان مصداقا لما جاء في الآية الكريمة ، وما من منجى للروحانيّين وحملة الدين إلّا
بإرشاد العالمين إلى صراط الله المستقيم ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
وخصوصا حين يكثر التجاوز عن حدود الشرع. ففي الرواية : إذا كثرت البدع فعلى العالم
أن يظهر دينه ، أي أن يعلّم الناس ويردّهم إلى طريق الهداية ، ولذا نهى سبحانه عن
كتمان العلم بقوله : (وَلا تَكْتُمُونَهُ) ، أي أنه أمر بالجهر بالحق. كما أن في الرواية عن الرسول
الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كتم علما عن أهله ، ألجم ـ أو ألجمه الله ـ بلجام من
نار ...
١٨٨ ـ (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا ...) أي : لا تظن هؤلاء الجماعة الذين يعجبون بأعمالهم التي
يعملونها سمعة ورياء ، أو تشريعا فاسدا ، يعتبرونه خيرا في الدنيا (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ
يَفْعَلُوا) يعني يرغبون بالمدح على أعمال لم تصدر منهم وينتظرون
الثناء من الناس على أمور لم يباشروها ولكنهم يصرّحون بعملها ويطلبون المدح
عليها (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ
الْعَذابِ) فلا تظن ـ يا محمد ، لأن الخطاب له (ص) ـ أنهم بمنجاة من
العذاب ، أو ببعيدين عن النار كما عن الباقر عليهالسلام بحسب ما جاء في القمي ، بل سيدخلون النار (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع لا يطاق ، يدل عليه هذا التعبير الذي يبيّن أنه في
غاية الشدة ، كما يدل على الوعيد لهم بعد أن تمت الحجة عليهم.
أما المفعول
الثاني لفعل : تحسبنّ ، فهو محذوف للتهويل ، ولأن يقدّره السامع بما يليق وما
يناسب هؤلاء الذين وهن دينهم وضعف يقينهم ، وبحسب ما ذكرنا آنفا في الآيات
السابقة. وهذا باب من أبواب البلاغة عند العرب ، وهو كثير في شعرهم ونثرهم ، كما
أن أنواع الحذف في القرآن الكريم كثيرة أيضا ، وهو عنوان الفصاحة والبلاغة.
وقيل إن هذه الآية
نزلت في اليهود ، إذ سألهم النبيّ (ص) عن شيء في التوراة ـ مع علمه بوجوده فيها ـ فأخبروه
بخلاف ما فيها ، وأروه أنهم صدقوا وفرحوا بما عملوه من الكذب والخيانة في جوابه (ص)
مع أنه يعلم ذلك ، فسلّاه سبحانه بقوله :
١٨٩ ـ (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) أي بعد الفراغ ـ والإذعان بأن للعالم صانعا وموجدا هو الله
رب العالمين يتفرّع عليه أنه مالك للسماوات وما فيها وللأرض وما فيها ، كما أنه
مالك لتدبيرها وتصريف أمورها على ما شاء من وجوه مصالحهما وما تقتضي الحكمة فيهما
، وليس لأحد أن يستشكل عليه فيما يفعل ويعمل. فأمره إذا نافذ في السماوات ومن
فيهنّ وفي الأرض ومن فيها ، وهو قادر على إهلاك أولئك الضالّين الكاذبين ... وفي
صدر هذه الآية الكريمة تهديد لهم ووعيد ، أكّدهما سبحانه بقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يستطيع عذابهم وعقابهم بأشد عذاب وأقوى عقاب ، وهو الفعّال
لما يشاء ولا يسأل عمّا يريد ويفعل.
* * *
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي
الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ
مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
رَبَّنا
إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))
١٩٠ ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ ...) يعني : إن في إيجاد السماوات والأرض ، وتكوينها من العدم
وإظهارها إلى الوجود ، بهذا الصّنع الدقيق المتقن (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وفي تعاقب الليل والنهار ـ بهذا الترتيب الدائم الذي لا
يتغير ولا يتبدل منذ بدء البدء ـ إن في
ذلك كله مما أبدع
الله تعالى (لَآياتٍ) أي علامات دالّة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول ، على موجد مكوّن ، وخالق قديم ، حيث إن
الحادث لا بدّ لحدوثه من محدث وموجد قديم وإلّا يلزم الدّور أو التسلسل. وبمقتضى
بطلانهما في محله يثبت المدّعى.
فالسماوات والأرض
ـ أيضا ـ تدلّان بوجودهما على قدرة عظيمة كاملة لقادر مقتدر غاية الاقتدار ، بحيث
لن تكون قدرة فوقها فيما سواه ، وهما علامتان بذاتهما ، لعظمتهما وكون خلقهما من
الخوارق المدهشة ، فلا يحصل لبشر أن يدعي خلقهما ولا يفر بشر من المخلوقات
السماوية والأرضية. فخلقهما يكشف عن صانع تام الاقتدار في صنعه بحيث لا يوجد له
شبيه ولا مثيل أبدا وأزلا. ومن عجيب قدرته ـ كذلك ـ خلق هذه الكرات السابحة في
الجوّ من النجوم والكواكب التي لا تحصى كمّا وكيفا وأنظمة ، وتتحيّر فيها عقول
الفلاسفة والفلكيّين في كل زمان وكل عصر ، وإلى يوم الدين ، خلقها كلها مع الكون
الهائل في ستة أيام ـ قيل إنها من أيام الدنيا ، ولا بدّ من الإذعان لهذا القول
إذا تصوّر الإنسان عظمة الله تعالى ـ ثم أعطاها وأعطى كل مخلوق فيها أمره وخواصه في
تلك المدة الوجيزة لأنه أمره تعالى يكمن بين الكاف والنون من : كن. ولأنه لا عجب
في أن يكون أمره كذلك ـ وبلا تفكير ولا روية ـ بعد أن رأينا خادما مسخّرا لنبيّ من
أنبيائه قد أعطاه قدرة على إحضار عرش بلقيس للنبي سليمان عليهالسلام من سبأ في اليمن إلى القدس في فلسطين ، قبل أن يرتد طرف
سليمان (ع) إليه ، أي بمقدار ما يلمح الشيء ويراه.
أجل إن القدرة
التي منحها لآصف بن برخيا لا يجوز أن نعتبرها أكثر من رشحة تساوي جزءا من مليارات
مليارات المليارات من القدرة الالهية. فإنه ـ جلّت قدرته ـ يستطيع أن يخلق
الموجودات كلها بأقل من ذلك الوقت ، بل بمثل طرفة العين ، لأن أفعاله تابعة
لإرادته ومنوطة بقوله كن حين يريد. فإرادته ـ مجردة ـ خالقة وموجدة للأشياء
بعناوينها وبلا قول ولا عمل بدليل الآية الكريمة : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ،
فَيَكُونُ). فقوله تعالى : فيكون ، جواب ل «إذا» الشرطية. وكيونيّة
الشيء متفرعة على الإرادة عنده ، لا على قول : كن. إذ لو كان ذلك للزم أن يكون
إيجاد الشيء موقوفا على الإرادة وعلى قول : كن. ولازمه ـ حينئذ ـ أن يكون إيجاد
الشيء الذي أوجده آصف بن برخيا ، موجودا بأسرع من إيجاد الله للشيء ، أو مساويا له
وهذا محال ، لأن نتيجته تكون إما زيادة الفرع على الأصل أو تساويهما وهذا خلف.
مضافا إلى أن الحق أن إرادته تعالى هي فعله إذ لا انفكاك بينهما ، وإلّا يلزم عدم
الفرق بين الخالق ومخلوقه فتأمل ... على أن مثل قدرة آصف بن برخيا مع قدرة الله
تعالى ، هي كمثل التراب مع ربّ الأرباب! .. فقد خلق سبحانه المكوّنات في ستة أيام
لحكم ومصالح ، لا للعجز عن خلقها في أقلّ من ذلك الوقت ، لأنه على كل شيء قدير.
ويحتمل أن يكون من المصالح أن ينبّهنا إلى أن أمر الدنيا ـ نوعا ـ تدريجيّ الحصول
لا رفعيّ الحصول ، فإن الاستعجال ليس بمطلوب فيها ، ولو لا ذلك لأوجد سبحانه جميع
الكائنات في طرفة عين ... نعم إن المسارعة مطلوبة في الأمور الفوتية كالطاعات
وموجبات الغفران ، وهي ـ في هذه الحال ـ لا مانع منها بمقتضى قوله :
وسارعوا إلى مغفرة
من ربكم ...
وقد حار بعض أعاظم
الفلاسفة وأكابر الفلكيين في أنه هل كان ـ في بدء الخلقة ـ الليل موجودا أم النهار
فقط؟. وأنه على فرض خلقهما معا ، هل المراد من الأيام في الآية المذكورة فيها خلقة
العالم في مدة ستة أيام مع لياليها أو الأيام مجردة عنها؟ ... والظاهر هو الأول.
وحاصل هذه الآية
الشريفة أن ذلك كله علامات تدل على وحدانية الله سبحانه وعلى صفاته العليا. أي
أنها تدل ذوي العقول الكاملة ، وأصحاب البصائر النافذة ، وأهل الفكر والنظر ، على
صانع حكيم قدير عليم. وقد قال النبيّ صلىاللهعليهوآله بخصوص هذه الآية : ويل لمن قرأها ولم يتفكّر!. ذلك أن
التفكير في الآيات التكوينية سبيل للهداية وطريق للإيمان والنجاة. ونحن ـ مع الأسف
ـ نرى ـ اليوم ـ أن التفكير
والتدبر من الأمور
المنسيّة بين الناس ، مع أنه صلىاللهعليهوآله يقول : تفكّر ساعة خير من عبادة ألف سنة. فإن العبادة بلا
معرفة ليس لها عنده تعالى وزن ولا قيمة ، والمعرفة لا تحصل إلّا بالتفكّر في آيات
الله وبيّناته التي تدل عليه وعلى قدرته وعظمته ، وكثيرا ما حثّ سبحانه على التفكر
: أو لم يتفكّروا في أنفسهم؟ ... أو لم يتفكّروا في خلق السماوات والأرض؟ ... إلخ.
١٩١ ـ (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ ...) وصف سبحانه ذوي الألباب بهذه الصفات الطيّبة من الذكر له (قِياماً وَقُعُوداً) كلاهما حال ، وهما جمع : قائم وقاعد. أي أنهم لا ينسون
ذكره تعالى في حال قيامهم وقعودهم ، في صلواتهم وتهجداتهم وأدعيتهم وأورادهم ،
ومقيمين ومسافرين وعاملين وفي جميع تقلّباتهم (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي حال اضطجاعهم ونومهم ، يعني : في جميع حالاتهم ، لأن
أحوال المكّلفين لا تخلو من هذه الحالات الثلاث نوعا. فهم دائبون في ذكر الله
تعالى في تمام أوقات فراغهم وعلى طبق اقتضاء أحوالهم التي يكونون عليها. فعن أمالي
المفيد وأمالي الشيخ قدّس الله روحيهما وأرواح جميع علمائنا الربانيين ، بسند لا
بأس به ، عن الباقر عليهالسلام : لا يزال العبد في صلاة ما كان في ذكر الله ، قائما أو
جالسا ، أو مضطجعا. إن الله يقول : (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) إلخ ... (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما في ذلك من عجائب الصّنع وبدائع الفطرة وآثار القدرة ،
معتبرين بذلك ، موقنين أنه من صنع إله قادر حكيم ، ثم يعترفون بوحدانيته وقدرته
فيقولون : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً) أي هذه الخلقة البديعة التي تتحيّر فيها العقول ليست باطلة
، ولا هي هذر وهدر بلا حكمة ولا مصلحة ولا غاية ، بل لها مصالح كثيرة ، منها كونها
دليلا على كمال قدرتك ، وحجة ظاهرة على وحدانيتك ، بل من أسرارها هذا الإنسان
العجيب الصّنع الذي خلقته في أحسن تقويم.
ونحن لم نذكر
الإنسان ـ بالمناسبة ـ إلّا لأن خلق السماوات والأرض
وما فيهما وما
بينهما مقدمة ومعلول لوجود أشرف ، وهو الإنسان. فهو علة غائيّة لما سوى الله
تعالى. ومن خواص العلة الغائيّة أنها في مرحلة الإيجاد متأخرة عن معاليلها في مقام
التصوّر ، مقدمة على عكس ما سواها من العلل حيث إنها مقدّمة على معلولاتها في
الصورتين وفي المرحلتين ، فلا بدّ من إيجاد عالم التكوين أولا ليترتب عليه خلق
الإنسان. ولما كان هذا الخلق يضاف إلى قادر حكيم بصير واجد لأوصاف الجلال والجمال
أتمّها وأكملها ، فينبغي أن يجعل مصنوعاته ومكوّناته على أحسن النظام وأجوده كمّا
وكيفا حتى لا يتطرّق إليه أدنى نقص وزيادة عند أعقل عقلاء عالم الوجود وأعرفهم
بالأمور المدنيّة وانتظام الجامعة التكوينية ، فيدل النظام ـ بجامعيّته وتدبير
مدبّره ـ على معرفة ذاته : القادر الحكيم ، والصانع العالم الخبير ، حيث إن هذا
الخلق ـ طبق هذا النظام البديع الدقيق ـ خارج عن طوق البشر ومن سواه. فيكشف ـ بمقتضى
الطبع السليم ، والعقل الفطري المنزّه عن شوائب الأوهام ـ عمّا قلناه بل ان الذي
قلناه يطابق الحديث القدسيّ الشريف المعروف : كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف
فخلقت الخلق لكي أعرف. ومثله في الحديث القدسيّ الآخر ، مخاطبا لنبيّه (ص) : خلقت
الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي. وهذا سرّ من أسرار الخلق ، وهو الذي فهمناه بتوفيق
الله عزوجل وحكمته ، وكم له من حكم ومصالح تخفى على خلقه ولا يعلمها
إلّا هو سبحانه أو من خوطب بكتابه ممن عرفوه حق معرفته وقالوا (سُبْحانَكَ) أي منزّه أنت عن أن تخلق شيئا عبثا ، بل جميع أفعالك على موازين
الصلاح وقواعد الحكمة البالغة ، لتكون كلها دليلا عليك ، وحجة على توحيدك.
وفي الآية إشارة
إلى أن الأفعال القبيحة ـ كالظلم ، والضلالة ، والكفر ، والشّرك ـ ليست بمخلوقة له
سبحانه ، لأنها من الباطل وهو غير مخلوق منه تعالى ...
ثم ختم الآية
الكريمة بقول المتّصفين بما ذكرنا من صفات الذاكرين
لله تعالى ، وهو
استغاثتهم لربّهم ، وقولهم : (فَقِنا عَذابَ
النَّارِ) أي جنّبنا منه. فإنهم لمّا وفّقوا لذكره تعالى في جميع
أحوالهم على ما مرّ ، وتفكرهم في خلقه ، وإذعانهم لعدم كون خلقه عبثا ، وتنزيههم
له جلّ وعلا عن العبث في أفعاله ، عقّبوا هذا التوفيق بتخضّعهم وتخشّعهم له من طلب
المغفرة والصيانة من نار غضبه ، خوفا من تطرّق العجب والزهو إلى نفوسهم ، ومن
تصوّر أن توفيقهم لتجنب النار ودخول الجنة من باب الاستحقاق لا من باب الفضل ،
فلهذا طلبوا منه سبحانه أن يقيهم عذاب النار .. وهذا نوع من الخضوع المستحب منه
تعالى ، فإن العبد الكثير العبادة إذا حسب أن عبادته لم تكن شيئا في جانب منن الله
وأفضاله ، يزيد ذلك في عبادته نشاطا على نشاط ، ويكون دليلا على توفيقه.
١٩٢ ـ (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
...) في إضافة الرب إلى أنفسهم كلام يتضمّن استعطاف الله تعالى
عليهم بالرحمة ، كيلا يخزيهم بالأمر في إدخالهم النار ـ فإن في إدخال المرء إليها
فضيحة ليس فوقها فضيحة ولا تساويها إهانة مهما عظمت. ولذلك قال هؤلاء : إنك من
تدخل النار (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) أي جعلته مطرودا من رحمتك ، مهانا ملعونا بما ظلم به نفسه
من المعاصي (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ) قد ذكر المظهر بدلا عن المضمر للدلالة على أن العمدة في
الدخول إلى النار والخزي هو الظلم. فحاصل كلامهم مع الله تعالى أنه إذا أدخلهم
النار فقد كشف عن كونهم ظالمين ، والظالمون ليس لهم ناصر ولا معين يوم الدين.
وقد فسّر بعضهم
الخزي بالخلود في النار في هذه الشريفة ، والله أعلم.
١٩٣ ـ (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً
يُنادِي لِلْإِيمانِ ...) أي سمعنا ووعينا ما نودي به من دعوة للإيمان ، وهو قوله : (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي صدّقوا به وتيقّنوا وجوده وربوبيّته. والكلام في
المنادي : هل هو القرآن كما عن بعض الأعلام من العامة الذين استدلوا بأنه ليس كل
الناس يسمع النبيّ. وهذا مدحوض ومردود بأنهم قد ظنّوا القضية قضية رؤية منه وسماع
من
فمه الشريف ، ومن
لم ير لا يسمع ، مع أن المراد بالمسموع هو ما نادى به ، وهو الذي يعمّ حكاية دعوته
وقد جاء في سورة التوبة : حتى يسمع كلام الله ، أي ما يتكلم به الله تعالى ، فإن
هذا المعنى شيء عام يستفاد منه عند كل أحد ، وفي كل وقت.
وعن ابن عباس وابن
مسعود ومجمع البيان أن المنادي هو رسول الله (ص). وبهذا فسّره القمي في كتابه ،
وهذا هو الظاهر. فإن الرسول هو الذي صدع بالأمر ، ونادى في الناس : أن آمنوا بربكم
، فقال المستجيبون لدعوته من المؤمنين : سمعنا (آمِنُوا) أي صدّقنا به تصديقا يلازم تصديق أنبيائه وكتبه ، وقد
أجبنا دعوتهم إلى الإيمان (رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا) أي تجاوز عن كبائر ذنوبنا (وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا) يعني أمح عنّا صغائر الذنوب. ووفّقنا لاجتناب الكبائر
والصغائر. فالمشهور أن السيئات على قسمين : كبيرة وصغيرة ، كما لا يخفى ، والعبد
يسأل ربّه العفو أولا عن الكبائر ، ويدعو ثانيا بمحو الصغائر التي لها آثارها كسيئات
أيضا ، وإلّا فما كان لينهى عنها ، مع العلم بأن الإصرار عليها يجعلها من الكبائر
تنزيلا ويجري عليها حكم الكبائر.
وأما حملنا
السيئات على صغائر الذنوب فلاستفادتنا ذلك من الآية المباركة في سورة النساء : إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم ، فإن السيئات هاهنا تعتبر الصغائر
بقرينة تقابلها مع الكبائر. ولمّا كانت الآيات الكريمة بعضها دليلا على بعض ، فقد
حملنا ـ نحن ـ السيئات فيما نحن فيه على الصغائر. وأما القول بأن الذنوب كلها
كبيرة بالإضافة إلى العليّ الأعلى ، فإنه اجتهاد عرفاني وهو رأي مردود إلى قائله
لأنه خلاف الآيات والروايات الكثيرة الصحيحة. وعلى فرض الإغماض عما ذكرناه ،
فالجملة الأخيرة تحمل على التأكيد بناء على هذا القول. وأما القول بأن طلب تكفير
السيئات بعد طلب الغفران لا معنى له لأنه التكفير داخل فيه ، فالجواب عليه أن
الغفران نحتمل أن يكون من باب الفضل والإحسان وإن كانا بلا علّة. وأما
التكفير فهو محو
السيئات بالحسنات. فبينهما بحسب المعنى فرق ، لأن هذا عفو مع السبب ، وذاك عفو بلا
سبب ، أي أعم من التكفير يمكن أن يكون موجبا في مرحلة التفضل ، ويمكن أن لا يكون.
وعلى كل حال
فهؤلاء السامعون المطيعون طلبوا المغفرة وتكفير الذنوب من ربهم ، ثم قالوا : (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي اقبضنا ـ حين تقبضنا إليك وتتوفانا ـ مصاحبين للأبرار
وفي جملتهم وزمرتهم. ومفرد أبرار : بر ، من برّ يبرّ ، أي أحسن وأطاع والديه ،
وأحسن إلى نفسه وغيره مع الاحتياط والورع. وجمع بار : بررة. وخلاصة معنى قولهم :
أن اجعلنا مع الصالحين المطيعين المرضيّين عندك بعد الوفاة.
١٩٤ ـ (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا ...) هذا دعاء وتذكير مهذّب لذوي الأذواق السليمة. بيان ذلك أن
سؤال العبد من ربه ، وقوله : (آتِنا ما وَعَدْتَنا) ، مع علمه بأنه يؤتيه ما وعده ، إن هو إلّا رمز للاسترحام
، والسؤال بهذه الكيفية يرمي إلى الاستعطاف وجلب توجه الله تعالى إليه. وهذا حسن
للغاية ، وهو أمر محبوب عند الموالي ، وبالأخص عند المولى الحقيقي حيث أنه يحب
خضوع العباد إليه وخشوعهم ، ويبغض المتكبرين والصّلفين. وهو طبيعيّ وجداني ، ألا
ترى أن الصغار من الأولاد يهرولون إلى الآباء حين يشاهدونهم ، ويطالبونهم بما
وعدوهم به قبل خروجهم من المنازل ، مع علمهم بأنهم يعطونهم ذلك بلا مطالبة. ولكن
لا يقع ذلك منهم إلّا على سبيل استجلاب عواطفهم واستدرار شفقتهم ، وإن كانوا قد
تعودوا العطف والشفقة دون استعطاف.
وبتوضيح آخر ، إن
ما نحن فيه هو نظير أجوبة موسى بن عمران عليهالسلام لربه جلّ وعلا زائدا على المسؤول عنه ، إذ كان يكفي أن
يجيب ربّه سبحانه بكلمتين ـ هي عصاي ـ حين سأله ـ وما تلك بيمينك؟ ومع ذلك قال عليهالسلام : هي عصاي ، أتوكّأ عليها ، وأهشّ بها على غنمي ، ولي فيها
مآرب أخرى ... فأطال الجواب ليطول مقامه بين يدي الله
تعالى. ثم يؤيد ما
ذكرناه من حبّه سبحانه لأن يدعوه عباده وأن يخضعوا له ، ليكشف عن عدم كونهم
متكبّرين ، وخصوصا حين يستفتحون دعاءهم بقولهم : ربّنا ، التي فيها مزيد استرحام
على ما يستفاد منها عند أهلها من دقيقي النظر الذين يأنسون باصطلاحات كلام العرب
وما يحمّلونها من معاني. وفي الرواية عن الصادق عليهالسلام أنه : من أحزنه أمر فقال خمس مرات : ربّنا ، نجّاه الله
مما يخاف ، وأعطاه ما أراد. ثم تلا هذه الآية المباركة. بل الظاهر أنه تلا الآيات
الأربع اللواتي تشتمل خمس مرات كلمة : ربّنا ... فهؤلاء المؤمنون المصدّقون
يبتهلون لربّهم ويقولون : ربّنا آتنا ما وعدتنا على رسلك. والموصول : ما ، يعني
الثواب والأجر على الأعمال مشروطا بالإيمان وخلوص النيّة ، أي التقوى التي لا بد
منها ، وإلّا فلا بدّ منها في ترتّب الثواب على الأعمال. وقد جيء بكلمة : على ـ على
رسلك ـ وهي تعني : ما وعدتنا على لسان رسلك ، أي بحسب الوعد الذي نزل به الوحي منه
سبحانه على أنبيائه صلوات الله عليهم أجمعين (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أي لا تفضحنا وتوقعنا في الخزي والذل والعار ، ووفقنا
للعمل الصالح الذي يعصمنا من ذلك (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) وأنت أعزّ وأجلّ من أن تخلف وعدك الذي قطعته على نفسك من
رحمة عبادك المؤمنين بك الذين يبتهلون لك ويمجّدونك ويسألونك اللطف والعفو
والتوفيق لما يرضيك.
١٩٥ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ...) قد عقّب سبحانه الآيات السابقة بهذه الآية الكريمة ،
وفرّعها عليها ، لتكون برهانا ساطعا على أن العباد الصالحين إذا دعوا ربهم بتلك
الكلمات البيّنات فان استجابته تعالى لهم لا تتخلّف ، بل تلازم دعاءهم. ثم أكدّ
ذلك بقوله جلّ وعلا : (أَنِّي لا أُضِيعُ
عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي لا أنساه ولا أهمله ـ وحاشا لطفه وكرمه ـ. بيان ذلك أن
عدم الإجابة يستلزم إهمال العالمين ، وهذا يعدّ تضييعا للعمل ، وليس من شأني ـ أنا
الله العزيز الحكيم ـ تضييع الأعمال لأي أحد منكم (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى) ومن صغير أو كبير ، أو مؤمن أو كافر. ومن
اللطيف أن نذكر
بالمناسبة أن حاتم الطائي الذي ما أدرك الإسلام ولا كان على الحنيفية ، سيكون في
النار ، ولكن دون أن يتضرّر منها جزاء جوده وكرمه ، لأن الله كريم يحب الكريم.
أما شأن نزول هذه
الآية فقيل فيه وجوه ، منها أنها نزلت في عليّ عليهالسلام حين حمل الفواطم إلى المدينة يوم الهجرة ، وهنّ فاطمة
الزهراء سلام الله عليها ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت الزبير عليهماالسلام ... فالله تعالى لا يضيع عملكم ذكورا وإناثا (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متساوون في الحساب ، وقيل في نصرة الدين ، وقيل بعضكم
من جنس بعض في صفة الإيمان والطاعة ، وقيل أيضا : يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ،
أو الإسلام. والأحسن في النظر الظاهر أن تفسّر عبارة : بعضكم من بعض ، بكون : من ،
نشئية ، ويكون معنى المباركة أن الذكر من الأنثى ، والأنثى من الذكر ، يعني أنه
نشأ ووجد كلّ واحد منهما من الآخر. ولما كان الأمر هكذا فلا فرق بينهما في عدم
تضييعي لأعمالهما العبادية سواء أكان العامل ذكرا أو أنثى لأنهما من طينة واحدة
وأصل واحد ومصير واحد.
وقوله تعالى : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) جاء بيانا للعامل ، كما أن قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في مقام العلة لعدم الفرق بينهما في قبول العمل وعدم
التضييع. (فَالَّذِينَ هاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) نقل بشأن نزولها أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : يا
رسول الله ، ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا)
: أي تركوا وطنهم
وأهلهم طلبا لرضى الله ، وتسليما لأمره ، وحفظا للدين حينما لم يمكن حفظة في الوطن
إما لوقوع الوطن في بلاد الكفر ، وإما لغلبة المعاندين والمنافقين وأهل الشّرك ،
فخرجوا ، أو أخرجوا من ديارهم : وطردوا من بيوتهم (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) لحق بهم الأذى والهوان في سبيل الله وبسبب إيمانهم به (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) أي جاهدوا الكفار وحاربوهم وقتلوا أثناء جهادهم (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) لأمحونّ الذنوب
عنهم ، وأتجاوز
عنها (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جزاء إيمانهم الراسخ ، وتحمّلهم للمشاقّ ، وصبرهم على
الأذى في سبيل دينهم (ثَواباً) لهم على ذلك (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تفضلا منه ووعدا حسنا. وقد صرّح هنا باسم الجلالة تنويها
بشرف الثواب الذي أعدّه لهم (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوابِ) أي الثواب الجميل على الأعمال الحسنة.
أما حاصل سؤال أم
سلمة (رض) عن ثبوت الهجرة للنساء كالرجال ، فالجواب عليه إجمالا أن للهجرة لوازم
وأحكاما لا تليق بشأن النساء. نعم يمكن أن يقال بثبوتها لهنّ أيضا بالنسبة إلى ما
يليق بهنّ ، إما اختصاصا ببعض كما في الفواطم اللاتي ذكرناهنّ ، وإما عموما بشرط
المساواة لهنّ كمّا وكيفا.
والإخراج من
الديار الذي سمّي هجرة ، هو إخراج المسلمين عنوة ـ على أيدي المشركين والمنافقين ـ
من وطنهم المعظّم مكة المكرّمة المباركة صانها الله تعالى عن الحوادث كلها. وقد
سبق هجرتهم أن أهانوهم ، واستهزءوا بهم ، وجرّوهم وسحبوهم على الأرض ، وبسطوهم على
رمضاء الرمال الحارة ، وعذّبوهم بوضع الحجارة الضخمة على بطونهم تحت وهج الشمس ،
وضربوهم ضربا مبرّحا ، وأذاقوهم أصعب المهانات ، ومع ذلك ظلّوا متصلّبين في
إيمانهم الراسخ ، ثم لما خافوا القتل والاستئصال هاجروا إلى يثرب فرارا من الموت
وهربا بدينهم وحفظا لرسالة ربهم ... ونشير ـ أخيرا ـ إلى وجه تقديم : قاتلوا ، على
: قتلوا ، فإن الإنسان إنما يحارب أولا ويقاتل أعداءه ، وبعد ذلك إما أن يسلم ،
وإما أن يقتل ، وإما أن يقتل.
* * *
(لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ
قَلِيلٌ
ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
لكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً
أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٢٠٠)
١٩٦ ـ (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) : الخطاب للرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله وأريد به الأمّة على مذهب إياك أعني واسمعي يا جارة ، أو
هو لكل أحد ، ويكون النهي للمخاطب في كل حال. والتقلّب : هو التحوّل والتردّد في
البلاد ، والتجوّل فيها للتجارة والكسب وتحصيل الأموال وجمع حطام الدنيا والتمرغ
في نعيم هذه الحياة الفانية. وقد روي أن بعض المسلمين كانوا يرون المشركين في رخاء
ولين عيش فيقولون : إن أعداء الله يتمتّعون في ما نرى من خير ، ونحن نكاد نهلك من
الجوع؟ فنزلت هذه المباركة تنبّههم إلى أن هذا النعيم زائل فلا يخدعنّكم ذلك لأنه
أكمل شرح حال الكفار المتنعمّين بقوله سبحانه :
١٩٧ ـ (مَتاعٌ قَلِيلٌ ...) أي أن ما ترونه من حصول تقلّب هؤلاء في رغد العيش إن هو
إلّا متاع زائل ، قليل مدته ، يسير أمده في جنب ما أعدّه الله تعالى للمؤمنين ، بل
يمكن نفي نعته بالنّعمة فعلا لأن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ما الدنيا في الآخرة إلّا بمقدار ما يجعل أحدكم
إصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع؟ أي بما يحمل من ماء هذا البحر
الخضمّ على إصبعه.
فنسبة الدنيا إلى الآخرة ـ من حيث النعيم ومن حيث الخلود الزمني ـ هي كهذه النسبة.
فهذا الحديث النبويّ الشريف تترشح النسبة التقريبية من جوانبه ، ويصوّر نعيم
الكفرة الزائل الذي هو في الدنيا متاع قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ) ومنزلهم ومآبهم يوم القيامة (جَهَنَّمُ) يدخلونها داخرين (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ما أسوأ هذا المهد الذي ينزلون فيه ، ويمهّدونه لأنفسهم
بأعمالهم السيئة.
١٩٨ ـ (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...) أي الذين خافوا الله وتجنّبوا معصيته وعملوا بطاعته. ولكن
حرف مشبّه بالفعل تنصب الاسم وترفع الخبر ـ وأصلها لا كنّ ، وقد حذفت ألفها خطّا
لا لفظا ـ ويقال : قام القوم لكن زيدا جالس ... والآية الشريفة استدراك من الذين
كفروا الذين يتقلّبون في نعيم الدنيا الفاني ، حاصل معناها أن المؤمنين المتّقين
سيلقون جزاء إيمانهم وطاعتهم وتقواهم وأنّ (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقد بيّنا تفسيرها في سورة البقرة ولا نكرّرها خوف التطويل
، وسيكونون (خالِدِينَ فِيها) إلى أبد الأبد ، لأنهم لو بقوا في الدنيا أبد الدهر لظلّوا
على إيمانهم وطاعتهم وتقواهم ، كما أن الكافرين لو ظلّوا أبد الدهر لداموا على
كفرهم ونفاقهم وإرصادهم لله وللمؤمنين به. فالله سبحانه عامل هؤلاء وهؤلاء في
الدار الأخرى بناء على علمه بحالهم لو قضوا الدهر كله في دار الدنيا. فقد أعدّ
الله سبحانه للمتّقين تلك الجنّات (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) قصورا ينزلون فيها أعدّها لهم في نعيم دائم ، تماما كما
يهيّأ ويعدّ للضيّف النّزل الجميل النظيف المرتّب. وقد نصبت لفظة : نزلا ، على
الحاليّة من جنّات والعامل فيهما اعتبار متعلقه ... (وَما عِنْدَ اللهِ) مما أعدّه من نعيم مقيم كثير وفير (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي أحسن للمؤمنين المطيعين ، من ذلك الذي يتقلّب فيه
الكفار وهو زائل فان.
١٩٩ ـ (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ ...) كلمة : من ، للتبعيض. وقد دخل اللام على اسم إنّ ، لفصل
الظرف بينهما. وقد نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود الذين
أسلموا
وقيل نزلت في
ثمانين بين نجرانيّ وحبشيّ وروميّ كانوا على دين عيسى عليهالسلام فأسلموا. كما قيل إنها نزلت في «أضخمة» النجاشي ، ملك
الحبشة ، وتعريبها «عطيّة» والنجاشي لقبه. واسمه في بعض النّسخ : «أصحمة». قيل
إنها نزلت فيه ـ وقد كان أسلم لمّا راسله النبيّ (ص) وحسن إسلامه ـ ولمّا مات نعاه
جبرائيل عليهالسلام للنبيّ صلىاللهعليهوآله فقال لأصحابه : اخرجوا بنا نصلّي على أخ لكم مات بغير
أرضكم. قالوا : ومن؟ قال : النجاشي. فخرج رسول الله (ص) إلى البقيع ، وكشف له من
المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشيّ وصلّى عليه مع صحبه ، فقال المنافقون
: انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصراني ، وهو حبشيّ لم يره قط ، وهو ليس على دينه
، فأنزل الله تعالى هذه الآية كما عن جابر وابن عباس ، وأنس ، وقتادة.
ولا ينبغي أن يدهش
الإنسان من كشف سرير النجاشيّ في الحبشة ، للنبيّ (ص) في المدينة ، بقدرة الله
تعالى. فإن الله تعالى أقدر من عباده الذين صنعوا النواظير القلّابة لجيوشهم فصار
يستطيع الجنديّ العاديّ أن يرى ما وراء الجبل أو ما وراء الحواجز الطبيعية الشاسعة
المسافات.
فمن أهل الكتاب ـ أي
بعضهم ـ لمن يصدق وذلك مؤكّد بإن وباللام ـ أي يؤمن بالله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من كتاب وسنّة محمدية إسلامية (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) في كتبهم من علامات نبيّكم (ص) أي أنه يصدّق ما جاء في أحد
الكتابين ـ التوراة والإنجيل ـ من الهداية إلى خاتم الأنبياء (ص) وإلى خاتم
الأديان (خاشِعِينَ لِلَّهِ) خاضعين له مذعنين. ولفظة : خاشعين حال من فاعل يؤمن. وقد
جاءت بصيغة الجمع نظرا إلى معنى الاسم الموصول ، أي مرجع الضمير. يعني : من أهل
الكتاب ، مؤمنون بما أنزل إليكم وبما أنزل إليهم ، يبدون خاشعين ، يظهر خشوعهم في
التوجه إلى الله بإيمانهم وفي سلوكهم وتواضعهم وهديهم وانكسار قلوبهم لذكر الله
وخضوع أبدانهم وأرواحهم ، بلا تصنّع ـ كما في
الخضوع للرئيس ـ وبلا
تدليس (لا يَشْتَرُونَ
بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا يبيعون ما عندهم من الدلائل والبراهين الدالة على
ذاته وتوحيده ورسوله الكريم خاتم المرسلين ، لا يبيعونها بالثمن الأوكس كما فعل
غيرهم من المنافقين الذين أخذوا الرّشي وكتموا الحق ، وباءوا بالخزي الأبديّ لقاء
رئاسة دنيوية زالت عنهم وزالوا عنها ليخلدوا في العذاب الدائم. فهؤلاء لا يفعلون
ذلك. ولا يقايضون الدنيا بالآخرة ، بل يزهدون بغير ما عند الله سبحانه ف (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) أي الثواب المختص بهم ، الذي وعدهم الله تعالى به في آية
أخرى بقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ
أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) : مرة حين كانوا على دين عيسى عليهالسلام عاملين به : ومرة ثانية حين أسلموا وصدّقوا عيسى (ع) في
بشارته بمحمد (ص) وصدّقوا بمحمد ورسالته من ربه وعملوا بالإسلام. فسينالون أجرهم
على ذلك (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) وسرعة حسابه لعباده تأتي من ناحية أنه عالم بأعمالهم كمّا
وكيفا ، والجزاء أو الثواب معدّان لصاحبهما لا يحتاجان إلى أدنى صعوبة ، وليس أسرع
منه سبحانه في المحاسبة في مثل هذه الحال.
٢٠٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي يا أيها المصدّقون بالله ورسوله وبما جاء به رسوله
الكريم من عنده (اصْبِرُوا) على أداء الوظائف ومشاقّ التكاليف من عبادات ومعاملات
وجهاد (وَصابِرُوا) على قتال الأعداء أثناء الجهاد في سبيل الحق وإعلاء كلمة
الله ، واستقيموا في ذلك. وليدع بعضكم بعضا للصبر على ذلك ، كما يصبر أعداؤكم على
قتالكم ويجدّون في باطلهم (وَرابِطُوا) أي أعدّوا لهم وتهيّأوا وهيّئوا ما يلزم لقتالهم وتجهّزوا
بالخيل والسلاح وتكثير الجيش ، كما يتهيئون ... وهذه الشريفة نظير قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ) إلخ ... (وَاتَّقُوا اللهَ) وحاذروا ما يغضبه ، وافعلوا ما يرضيه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تنجحون وتفوزون. وكلمة : لعلّ ، تستعمل في حالة يكون
فيها الشخص بين الرجاء واليأس ، ولذا يطلق عليها لفظ : الترجّي. واستعمالها ـ حتى
في هذه الآية الكريمة ـ لا
بأس به بالنسبة
إلى المخلوق الذي يعيش حالات العلم والجهل ، والقطع والتردد ، وقوّة الإيمان وضعفه
وما شابه ذلك. فيصحّ له الترجّي دائما وأبدا ليحتاط لنفسه. أللهم إلّا من كانت له
حالة واحدة مثلا ، وهي حالة العلم وانكشاف الأشياء له بحذافيرها بحيث لا يتصوّر
التردد في حقه مطلقا كبعض الأولياء والعارفين فإنه لا معنى لاستعمال لفظة الترجّي
في حقهم ... ويجب أن لا ننسى أنّ في هذا التعبير أسرارا ومصالح كثيرة ، منها : أن
العاملين للأعمال الحسنة قد يستزلّهم الشيطان فيبطل بذلك أعمالهم ، ومنها : أنهم
قد يقومون بالأعمال دون استكمال شروط قبولها ، ومنها أن لا يخالط عملهم غرور يذهب
بها وبثوابها ، ومنها أن لا يقعوا في حب السّمعة ، ولا أن يخالط عملهم رياء. كما
أنه يجب أن لا ننسى أن الله تعالى استعمل هذه اللفظة لا بلحاظ نفسه المقدسة لأنه «يعلم»
ولا يتردد. ولكنه في مقام ستّره العظيم على العباد ، لا يحب أن يكشف واقع أمرهم ،
ولا أن يرى سائر الناس بطلان أعمالهم ، كما أنه لا ييئس العبد ولا يجبهه لأنه أعد
لكل عمل من أعماله ثوابا أو جزاء ، بل لقد أمر نبيّه (ص) أن يقول في جدله لأهل
الكتاب : وإنّا ، أو إيّاكم ، لعلى هدى أو في ضلال مبين : لتظهر الأخلاق الإسلامية
السمحة في مقام الدعوة إلى الحق ، وليتألف صاحب الدعوة الكريمة قلوب أعدائه ،
وليمضي معهم على مستوى رفيع من الأدب قد يجرّهم إلى الإيمان بالله وبرسالة رسوله ،
ولئلا ينفّرهم من الدعوة رأفة من الله تعالى ومنه بسائر العباد. وإن نبيّنا (ص)
يعلّمنا بذلك كيفية جدال المعاندين ، ويسهّل لنا الطريق لحثّ الآخرين على قبول
دعوته ، ولمجاملتهم وعدم الفظاظة معهم ، لأن الله سبحانه خاطبه قائلا : ولو كنت
فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك. ومثل ذلك فعل النبيّ (ص) مع الكافرين في جداله
لهم في سورة الجحد حيث قال لهم : لكم دينكم ؛ ولي ديني ؛ أي أنني لا أكرهكم على
اعتناق ديني إكراها ، إذ لا إكراه في الدين قد تبيّن الرّشد من الغي ...
فلو لم يسبل الله
تعالى ستره على بواطن الأعمال ، لما مشى الكثير
الكثير في ركاب
الدعوة ونصروها بمالهم وبأنفسهم ، ولثارت العصبيّات والجاهليات ولتفرّق كثير من
سواد جيش المسلمين.
والحاصل أن
استعمال كلمة : لعلّ ، لا يكون في كلّ مورد ، بل في موارد خاصة تقتضيها الحكم
والمصالح التي ذكرنا منها شيئا هنا ، ونأمل أن يوفقنا الله سبحانه لذكر أشياء عنها
في مواردها من الآيات الآتية. ولم يعد خافيا أنه تعالى يستعملها مع عباده المؤمنين
ليدفع عنهم الغرور والطمع الزائد في استحقاقاتهم من جهة ، وليحثّهم على الإتيان
بالأحسن والأفضل من جهة ثانية ، وأنه قد يستعملها مع الكافرين من غير المعاندين
للإسلام تألّفا لقلوبهم وجرّا لنفع الإسلام وجعله في منجى من مكائدهم ودسائسهم.
أما الكافرون والمشركون المعاندون ، فإنه سبحانه دائما يفضح دخائلهم ، ويكشف للناس
ما في بواطنهم ، فقد قال في سورة اللهب : تبّت يدا أبي لهب وتبّ ، فطوّق عنقه وعنق
امرأته بلعنة خالدة ما خلد القرآن الكريم ، ثم كثيرا ما قال : ويل للمكذّبين ،
وكثيرا ما بيّن للكافرين سوء منقلبهم ، ومنازل عذابهم.
ونشير ـ قبل
اختتام تفسير هذه السورة المباركة ـ إلى أن بعض المفسّرين حملوا كلمة : لعل ، في
هذا المقام وفي أمثاله ، على كلمة : لأن ، المؤلفة من لام التعليل وأن الناصبة. أي
: واتّقوا الله لأجل أن تفلحوا ... ونحن نظن أنهم فعلوا ذلك فرارا من الإشكال الذي
تكلّمنا عنه ... على أنه لم يرد بما حملوها عليه نصّ لا في آية ولا في رواية ، ولا
رؤي في كتاب من كتب اللغة المعتبرة ، ولا يجوز التفسير بالرأي ، ونعوذ بالله من
شرّ أنفسنا.
* * *
(تمت سورة آل عمران)
سورة النساء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مدنية ، وعدد
آياتها مائة وست وسبعون آية
في هذه السورة
المباركة أنزل الله تعالى كثيرا من الآيات التي تبيّن حقوق النساء فسميّت سورة
النساء. وفيها روعي الكثير من نواحي الأمور الاجتماعية المدنية في شرع الإسلام.
ولذا تصدّى سبحانه لبيان الأحكام الراجعة لما كان يمارسه المجتمع الفاسد في العصر
الذي بدأ ينزل فيه القرآن الكريم ، بحيث كان الجور فيه مستحكما ، وكانت الأعراف
الفاسدة والتشريعات الباطلة متحكّمة ومتّبعة كسنن تدل على انحطاطهم الخلقيّ
والانساني ، إذ كانوا لا يرون لمال اليتيم حرمة ، ولا للمرأة حقا في الميراث ، ولا
للزوجة مهرا ولا كرامة ، وكانوا يعاملونها معاملة الأنعام. وقد بقي لذلك الداء
المزمن أثر في كثير من المسلمين حتى أزمنة متأخرة كانت تمليه العصبيات الجاهلية
الموروثة. لذا شاء الله سبحانه أن يطمس بدعهم ، ويسفّه أحلامهم ، ويشرع لهم شريعة
سمحة ذات أحكام قائمة على مبان محكمة ، وأصول صحيحة تصلح شأن ذلك المجتمع الفاسد
الضال في عمهه وكفره ، لينشأ مجتمع إسلامي صالح يسير وفق دستور سماويّ قويم ، فرضه
الله تعالى ليردع ذلك المجتمع عن سفاهته ويردّه إلى الدرب السويّ التي تحفظ الحقوق
والواجبات ، وتحفظ النسل والمواريث والمهور والطلاق ، والمعاملات التي فيها صلاح
شأن الناس في معاشهم ومعادهم.
فقد أدّب الله
تبارك وتعالى المجتمع الإسلامي في هذه السورة بآداب وقوانين سنّها له ، ليكبح جماح
شهواته النفسانية ، وليتمش حسب قواعد الدين الجديد الحنيف ، على نهج تقوى من الله
تعالى. ولذا قال سبحانه :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)(٤)
١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ ...) الناس : جمع إنسان ، وهو كل بشر على وجه الأرض من يوم
الخطاب الى يوم يبعثون ، يستوي فيه المسلم وغيره. نادى الله سبحانه البشر قائلا : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وقد بيّنا في آخر آية من سورة ال عمران معنى التقوى ،
ونقول هنا اختصارا : اجتنبوا سخطه وغضبه وائتمروا بأوامره. وعلّق الأمر بتقوى ربّ
نوّه بصفته إجلالا لمقام الربوبية وإظهارا لمقام القدرة ، وتخويفا للعباد ،
وتشديدا على العمل بالتقوى التي جعل سبحانه مدار الاسترشاد إليها فيه جلّ وعلا.
وتقوى الله هو المدار فيما له دخل في صيانة نظام المجتمع في كل عصر من أجل إيصال
الحقوق الى أصحابها ولحفظ تلك الحقوق من التلف والضياع والإتلاف والتضييع بحسب ما
تشير الروايات المذكورة في محلّها بالنسبة لكل موضوع.
فاتقّوا ـ أيها
الناس ـ ربكم : إلهكم (الَّذِي خَلَقَكُمْ) برأكم من العدم بقدرته (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أراد بها سبحانه نفس أبينا آدم عليه
السلام تبجيلا
لمقامه السامي بحسب الظاهر ، وتشريفا له وتعظيما. وقد جاءت النفس لمعان منها :
النفاسة التي يرغب الناس فيها ويميلون إليها. وبهذا المعنى تطلق على أي شيء يكون
مرغوبا فيه ، فيقال : جوهر نفيس ، وجارية نفيسة ، وألبسة وفرشّ نفيسة.
وعلى هذا نحتمل
قويا أن هذا التعبير جاء في هذا المورد ، ليرمز الله تعالى إلى كون هذا المخلوق
مخلوقا شريفا ، هو أشرف وأعظم مخلوقاته في سمائه وأرضه ، لأن فيه حيثية ليست في
غيره ، حتى في خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآله ، وهي كونه مخلوقا له تعالى بالمباشرة ، وقد شرحنا ذلك
مبسّطا في سورة البقرة ولذا نشير له هنا إشارة فحسب. فهو ـ سلام الله عليه ـ شخص
وحيد في نفاسته ، وخلق بديع ليس له نظير ولا مثيل ، ولذا توّجه بتاج الكرامة وقال
سبحانه في كتابه السماويّ : ولقد كرّمنا بني آدم. وهذا الوصف نعتنا به سبحانه
باعتبار أبينا آدم (ع) ، ثم لم يذكره في الآية باسمه الصريح رمزا إلى كمال تبجيله.
وإذا كان أبناؤه بهذه المرتبة السامية ، فإن أباهم أسمى وأنبل منهم بدرجات ، ولذلك
ألبسه تاج الكرامة والشرافة ...
فآدم عليهالسلام شخص شخيص ، ونفس نفيس ، ونحن ولد هذا الأب الرفيع المقام ،
فلا بدّ لنا من أن نعرف أنفسنا ، وأن نعمل بوظيفتنا المحتومة من لدنه تعالى ،
وألّا نكون كابن نوح عليهالسلام ، فإنه لا منجي لنا من غضبه إلّا بالتقوى بعد أن منحنا هذا
الشرف من عنايته الكريمة ، وما أحرانا بأن لا ينزل فينا مثلما نزل فيه والعياذ
بالله .. فلو أنه سبحانه ذكر اسم آدم في محل لفظ : نفس ، لما فهمت هذه النكتة
اللطيفة ذات المعنى الرفيع في ذلك البيان الرائع الذي توجه النداء به لعامة أفراد
البشر وجميع ذوي العقول لتهيّؤهم واستعدادهم لاستماع ما أراد المتكلّم في خطابه
الذي أراد أن يبلّغهم إياه ، والذي دعاهم فيه إلى التقوى التي لها أعظم دخل في شأن
المجتمع الإسلامي ، وأكبر أثر في تشكيل الحكومة الإسلامية
بظهور مؤثّلها
ومقيم دعائمها وأركانها ، سيّدنا ونبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله ، لتكون الحكومة الجامعة لسائر القوانين التي لها دخل في
صلاح الجامعة الإسلامية ، بحيث لا تحتاج معها إلى قوانين أخرى إلى آخر الأبد في
جميع الشؤون الدنيوية والأخروية. ولذلك قال سبحانه في مكان آخر من كتابه العزيز :
هذا كتابنا ينطق بالحق .. فأتوا بسورة من مثله .. فتحدّاهم وأفحمهم .. لأنه بعث
خاتم رسله (ص) بسّنة سهلة سمحة حلالها حلال إلى يوم القيامة ، وحرامها حرام إلى
يوم القيامة.
فهذه النفس
الكريمة على الله ، الشريفة في مخلوقاته ، خلقكم منها (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي أنه خلق من تلك النفس التي هي واحد عينيّ قصد به النوع
، أو الواحد الشخصيّ الذي هو آدم أبو البشر (ع) جميعا بما فيهم الأنبياء والأوصياء
وغيرهم ، خلق له حوّاء عليهاالسلام من فاضل طينته وزوّجها له ، أي جعلها زوجة له يسكن إليها
ونسكن إليه.
وفي عبارة : خلق
منها زوجها ، روايات كثيرة مختلفة المفاد وردت عند السنّة والشيعة ، وذكرها يقتضي
التطويل الذي لا طائل تحته ، وإليك منها ما قد تطمئن إليه النفس نوعا ما : ففي
العياشي عن الباقر عليهالسلام ، أنه سئل : من أي شيء خلق الله حوّاء؟ .. قال : أي شيء
يقولون؟ ـ قلت : يقولون : إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال : كذبوا. كان
يعجز أن يخلقها من غير ضلعه؟ .. ثم قال : أخبرني أبي عن آبائه عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه ،
وكلتا يديه يمين ، فخلق منها آدم. وفضل فضلة من الطين فخلق منها حوّاء عليهاالسلام.
وفي العلل عنه عليهالسلام : خلق الله عزوجل آدم من طين ومن فضلته وبقيته خلقت حوّاء .. وأما الرواية
التي تقول إنها خلقت من ضلعه الأيسر ، فيحتمل أن يكون المراد به طينة زائدة عن
ضلعه الأيسر وان كان هذا التأويل بعيدا. والأبعد من هذا تأويلات بعض الأكابر من
الأعلام
وكون خلقها من
ضلعه رمزا إلى أن الوجهة الجسمانية في النساء هي أقوى منها في الرجال ، وكون
الوجهة الملكوتية الروحانية بالعكس ، أي أضعف. ووجه بعد ما اعتمد عليه هؤلاء هو
أنه على فرض أنهم استندوا على روايات ، فإنه يحتمل قويا أن تكون جهة الروايات
مخدوشة أو أن يكون راويها من غيرنا والسند غير معتبر. فعلى كل احتمال نرى أن هذا
التأويل غير مرضيّ ، ويمكن أن يقال ـ بناء على ما أوردنا سابقا ـ أنه سبحانه عجن
ماء وترابا ثم خلق آدم من ذلك الطين ، ثم خلق حواء من فاضل ذلك الطين بعد خلق آدم
ونفخ الروح فيه ، وهو على كل شيء قدير في كل حال. وهذا الذي نقوله يمكن انطباقه
على بعض ما ورد في هذا الباب. ففي العلل أن الصادق عليهالسلام سئل عن خلق حوّاء. فسأل عما يقول الناس في ذلك ، ثم تعجّب
مما يقولون ، وقال (ع) : إن الله تبارك وتعالى لمّا خلق آدم من طين ... إلى أن قال
: ثم ابتدع له حوّاء .. إلى آخر الحديث. وابتدع الشيء : أي أنشأه ، وابتدع الرجل :
أتى بالبدعة. فيمكن أن يقال إنه ابتدعها يعني خلقها من طين سوّاه بيد قدرته كما
ابتدع آدم منه ، لا من ضلعه ولا من فاضل طينته ، بل من نوعية ما خلقه منه ، وإن
كانت كلمة : من دالّة بظاهرها على كون حوّاء من آدم ، أي أنها لا تلائم هذا
الظهور. وجواب ذلك أننا إذا حملناها على التبعيضية تتوهّم المنافاة ، ولكن يمكن
رفع هذا التوهم بأن يقال : إن كونها منه لا يلازم طينه ، ولا يلازم أنها من ضلعه ،
بل يصدق كونها من تراب وماء أخذ منهما تراب آدم وماءه ، فهذا أمر معقول لا محذور
فيه. مضافا إلى أن لفظة : من ، جاءت لبيان الجنس ، ومعناها : وخلق من جنسها زوجها
، كما في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُم).
ثم أشار سبحانه
إلى كيفية التناسل فقال : (وَبَثَّ مِنْهُما
رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) فلما ذا اختصّ وصف الرجال بالكثرة دون النساء؟ .. فالظاهر
أن المصلحة العامة اقتضت أن يخلق للرجال ما يكفيهم من النساء عددا حتى ولو اقتضى
أن يكون عددهنّ أقلّ من عدد الرجال ، أو أنه سبحانه قصد :
وبثّ منهما رجالا
كثيرا ، ونساء كثيرا أيضا ، واختصر الكلام لبلاغة ظاهرة فيه والله أعلم بما قال.
ثم نشرع في بيان
إحداث النسل كيفا بعد أن بيّن الله سبحانه كمّه بعبارة : كثيرا. فنقول بعونه تعالى
: إن إنشاء الأولاد وإحداثه على قسمين :
قسم منه بلا واسطة
، وقسم مع الواسطة ، ويطلق عليه أيضا النسل والأولاد ، إذ قيل : بنو أبنائنا بنونا
حقيقة. فهل يمكننا أن نحمل الولد والابن على القسم الأول وندّعي المجاز في سوى
أولاد أبينا آدم الذين من غيره وغير حوّاء ، فنقتصر في التكاليف على أولادهما
الحقيقيين ، أي على من ولد من حوّاء الذي ورد في الكتاب مكرّرا هو قوله سبحانه :
يا بني آدم. ومثله ما جاء في السنّة والأحاديث القدسية والأدعية إذ جاء بهذا
اللفظ. فلا بدّ لنا إمّا القول بأن المراد هو القسم الأول وعدم شمول التكاليف
لغيرهم ، وإمّا بشمول التكاليف لهم ولغيرهم بالملاك. وكلا القولين فيه ما فيه.
أما الأول فهو
اليوم ضرورة الدين على خلافه.
وأما الثاني
فاستفادة الملاك وتنقيحه في جميع أبواب الفقه وموارد الأحكام أمر إمّا محال أو في
حكم المحال للبشر العادي. فهذا القول ، أي الاعتقاد بأن أولاد آدم وبنيه هم الذين
ولدتهم حواء ، وما سواهم أولادهما مجازا ، قول بلا دليل. نعم قال به بعض الأصوليين
الذين ربما استندوا في قولهم إلى بعض أرباب اللغة. لكن لا يمكن الاعتماد على
الأقوال الشاذّة في الشريعة المقدسة.
فالقول الحق أن
إطلاق بني آدم على جميع البشر المنبثّ على وجه الأرض إطلاق حقيقي ، والأحكام
مشتركة فيهم حقيقة من دون حاجة إلى تنقيح الملاك ونحوه لتسرية الحكم إلى المكلّفين
كافة. والبحث في هذا الموضوع ـ هنا ـ يعتبر طفيلياّ إذ شرعنا في بحث كيفية التناسل
والتوالد أثناء شرح هذه الآية الكريمة ، ولكن الذي حدا بنا إلى ذلك هو العرض لهذه
الناحية باختصار ، وهو ـ أيضا ـ بيان ما روي عن الصادق عليهالسلام
في الفيض في كيفية
التناسل ، بأنه (ع) أكدّ تأكيدا بليغا في تحريم الأخوات على الأخوة وأنه لم يزل
الحكم كذلك في الكتب الأربعة المنزلة المشهورة ، وأن جيلا من هذا الخلق رغبوا عن
علم أهل بيوتات الأنبياء وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا إلى ما قد ترون من
الضلال والجهل. ثم عرض في آخرها إلى ما يريد أن يقول فيمن أخذوا بذلك تقوية لحجج
المجوس قاتلهم الله ، ثم قال عليهالسلام : إن آدم عليهالسلام ولد له سبعون بطنا ، في كل بطن غلام وجارية إلى أن قتل
هابيل فلمّا قتل جزع آدم عليه جزعا قطعه عن إتيان النساء ، فبقي لا يستطيع أن يأتي
حوّاء خمسمائة عام. ثم انجلى ما به من الجزع عليه ، فغشي حواء فوهب الله له شيثا
وحده وليس معه ثان. واسم شيث : هبة الله ، وهو أول وصيّ أوصي إليه من الآدميين في
الأرض. ثم ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثان أيضا فلما كبرا أدركا ما أراد الله عزوجل أن يبلغ بالنسل ، ومن جعله على ما جرى به القلم من تحريم
ما حرّم سبحانه من الإخوة على الأخوات ، فأنزل الله تعالى بعد العصر من يوم الخميس
حوراء من الجنة اسمها نزلة ، وأمر الله حينئذ آدم ان يزوجها من شيث فزوجها منه ،
ثم أنزل سبحانه بعد العصر من الغد حوراء من الجنّة اسمها منزلة ، فأمر الله عزوجل آدم أن يزوجها من يافث فزوّجها منه. ثم ولد لشيث (ع) غلام
، وولد ليافث جارية ، فأمر الله تعالى آدم ـ حين أدركا ـ أن يزوج ابن شيث من ابنة
يافث ففعل ، وهكذا ولد الصفوة من النبيين والمرسلين من نسلهما ، ومعاذ الله أن
يكون الأمر كما قالوا من أمر تزويج الإخوة بالأخوات.
وفي المقام رواية
أخرى وردت في العلل ، عن الصادق عليهالسلام بهذا المضمون ، لكنها ليست بهذا التأكيد والتفصيل الدقيق.
كما أنها توجد روايات تقول بأن الله تعالى أمره أن يزوج هبة الله ـ شيثا ـ من أربع
بنات لرجل من الجن ، بل وردت روايات تقول بتزويج بني آدم بأخواتهم وهي تقتضي
التأويل والفذلكة التي لا بد منها إذ ما أجاز الله تعالى زواج الأخ بالأخت أبدا
بحسب الظاهر ، وهو وحده أعلم في كل حال ، لأن تلك
الروايات إما أن
تكون عامية غير صحيحة السند أو أنها لم تصلنا بحقيقة لفظها ومعناها ، وإن كانت
رواية تزويج شيث (ع) بالجنّيات لا بعد فيها ، مع أنها لا تنهض دليلا في مقابل
رواية الحوراء .. والمدار هنا على كيفية بثّ النسل وانتشاره على وجه الأرض ، فإن زواج
الحوراء من الإنسيّ لا ينفيها العقل من حيث صلاحيتها للتناسل بمشيئة الله وقدرته.
فالحاصل أن ما يطمئن إليه القلب هو ما جرى به القلم كما قال به الناطق بالحق صلوات
الله عليه.
أما القول بأن آدم
(ع) زوّج بناته وأبناءه ، بأبناء وبنات آدم آخر كان قد سبقه في الوجود على وجه هذه
الأرض بآلاف السنين ، وكان نسله قد انقرض تقريبا قبل وجود آدمنا نحن ـ كما دلّت
على ذلك بعض الروايات ـ أما هذا القول فبعيد غاية البعد ولا يمكن الاعتماد عليه
لأنه لو كان لبان بيانا واضحا ولتناقلته الألسن على مرّ الزمان.
وللشيخ محمد عبده
كلام في تفسير «النفس» من هذه الآية ، نقله عن أستاذه ، ومفاده أنه ليس المراد هنا
بالنفس الواحدة آدم ، لا بالنصّ ولا ظاهرا ، ويردّ رأيه الى أن ذلك معلوم مما
تقدّم من الآيات وغيرها ومن تواتر الحديث وإجماع المسلمين. وقد بدا لنا أن نذكر
رأيه هنا لنبيّن وهمه ، وأن نورد له كلاما آخر يظهر منه بشاعة رأيه لتابعيه ، وهو
أن القرينة هنا لا تدل على أن النفس الواحدة هو آدم ، بدليل قوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً
وَنِساءً) بالتنكير ، والمناسب على هذا الوجه أن يقول : وبثّ منهما
جميع النساء والرجال. ويردّ هذا الزعم قوله تعالى : منهما ، يعني من آدم وحوّاء عليهماالسلام ، بل يردّه ما ذكر في القرآن الكريم ـ في موارد متعدّدة ـ من
أن أول البشر الذي وجد على وجه الأرض وسمّي بالإنسان هو آدم (ع) الذي هو أبو البشر
كله ، والذي زوّجه الله تعالى حواء أم البشر ، حتى اليوم وحتى قيام الساعة ،
والحقّ أحقّ أن يتّبع دون كل قول .. وثانيا : إن المناسبة لا تنحصر بما اقترحه ،
لأن ما ذكره من بث جميع الناس من آدام قد تقدم
بقوله تعالى في
خطاب : يا أيها الناس ، وقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم ضمائر الجمع التي تأبى من التبعيض من أول هذه السورة
الى آخرها وفي السّور السبع التي ذكر فيها هذه القصة. ولم يتعلق الغرض هنا بذكر ما
تقدم بعينه تأكيدا له بما ذكره ، بل ببيان معنى تأسيسيّ ؛ أي حال خلق الناس في
التدرّج من خلق النفس الواحدة ، الى خلق زوجها ، الى بثّ الكثير من نسلهما الذي هو
الناس الذين نتجوا بالتناسل التدريجيّ.
هذا ، والجواب
الأحسن الذي يفحمه فيما ارتاه وحسبه إشكالا قد أتى فيه بشيء بديع ذكره لأستاذه
مفتخرا بعبقريته ، هو أن قوله تعالى : رجالا كثيرا ، مع : وبث منهما الرجال
والنساء ، لا يفرّق بينهما في الشمول لأن : كثيرا ، لفظ مقول بالتشكيك يطلق على كل
مرتبة من مراتب العدد ، فإذا وصل بنو آدم الى مئات الآلاف أو المليار أو أزيد ،
فإنه يطلق عليهم أنهم عدد كثير ، أما ما دون ذلك بواحد فإنه يطلق عليه القليل
بالنسبة الى ما فوقه ، فالكثرة والقلة مما هو مقول بالتشكيك ، ولهما مراتب عديدة
يتدرّجان معها في العدد الى ما شاء الله. كما أن الرجال والنساء بمقتضى عموم الألف
واللام كذلك يطلقان على الرجال والنساء الى النهاية. نعم إذا لم يتّصف الرجال
بالكثرة والنساء كذلك ، فمن الممكن أن يفرّق بين الرجال ورجال ، ولكنه بعد الاتصاف
لا يفرّق الحال بينهما من ناحية الشمول. فترنّم الأستاذ بإشكالاته المقترحة تكشف
عمّا لا يحتاج الى البيان ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ..... ثم إن
ترنّم التلميذ بآراء أستاذه قد جرّه الى الترنّم بقوله أن المتبادر الى الذهن من
كلمة : النفس ، أنها هي الماهية والحقيقة التي كان بها هذا الكائن الممتاز ، أي :
خلقكم من جنس واحد وماهية واحدة ... وتقريره هذا ليس في محلّه. بيان ذلك أنه يرد
عليه بأننا لو كنّا وكلمة النفس فقط ، فإن العقل ينتزع منها عند التحليل جنسا
وماهية كلية ، إلّا أن الآثار الخارجية ـ كالخلق منها ـ لا تتعلق إلا بالفرد
الخارجيّ ، وإذا قيدت بالوحدة امتنع احتمال التعدد فيها. فالذي يفهم من النفس
الواحدة هنا ليس إلا الفرد الخارجي الواحد بالشخص. ثم نسأل هذا
الشخص : ما هو
معنى قوله تعالى ؛ وخلق منها زوجها؟ ... وما هو معنى زوج الماهية المخلوق منها؟ ...
وما هو معنى قوله تعالى ؛ وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء؟ ... هذا ، وإن لداروين
وتلاميذه ـ أيضا ـ في المقام أقوال أخر يا ليتهم لم يتفوّهوا بها لأنها دلّت على
الجهل أكثر مما دلت على العلم بسبب اعتمادهم على الفهم الشخصي والرأي الشخصي.
والتعرض لما قالوا يفضي الى تطويل بلا طائل بالرغم من أن بعض أهل العصر الحاضر
يدورون حول هذا القول بشيء من التفكير والاعتناء ، وبالرغم من أن بعض الشباب
المثقفين يحوصون حوله حوصا كأنهم يظنون باكتشاف العجب العجاب من هذا القول التافه
كقائله. فإن من أعجب العجاب أن هؤلاء وهؤلاء نبذوا المعلومات الاسلامية التي جاء
بها الكتاب الكريم والسنّة المتواترة والإجماع ، وراءهم ظهريا ، ثم أخذوا بأقاويل
المتقوّلين وأساطير الآخرين والأولين ، تقليدا لا يؤدي الى نتائج عملية ولا يغني
ولا يسمن من جوع ... فنقول لهؤلاء ، ولجميع التائهين عن الحق الذي نزل من عند الله
: عودوا الى ما نزل من عنده سبحانه في هذه الأمور (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي تتساءلون ، وقد حذفت إحدى التاءين في أمثال المقام فإن
ذلك متعارف عند العرب. وتكرير الأمر بالتقوى ـ في الآية نفسها ـ لإظهار المبالغة
في التأكيد. والمعنى أنه ـ عادة ـ يسأل بعضكم بعضا بالله. وهذه الكيفية من طرق
المكالمة معتاد ومألوف عند العرب ـ بل والعجم ـ فيما إذا أرادوا أن يهتمّ الطرف
الى سؤاله فإنه يقول : بالله عليك إلّا ما ذكرت كذا ، أو يقول : بربك لا تهملني
فيما سألتك ، وأمثال ذلك عند الاهتمام بقضاء الحاجة وإجابة السؤال. بل قد يذكر
غيره تعالى في بعض الأوقات فيقال : بالنبي أصدقني الخبر ، أو : بجدّك أو بأبيك
إلّا ما فعلت ذلك. والقرآن الكريم قد نزل على لسان القوم ، والله تعالى يتكلم معهم
بالمتعارف عندهم ، وربما أخذهم بما يتكلمون كما فيما نحن فيه. فالناس ـ بالحقيقة ـ
يستعملون هذا الأسلوب حين يريدون قضاء حاجاتهم ، ويتساءلون بالله حتى لا يتسامح
الإنسان فيما يسأله أخوه بالله (وَالْأَرْحامَ)
قرئ بالنصب عطفا
على لفظة الجلالة ـ الله ـ ومعناه : اتّقوا الأرحام بأن تصلوها ولا تقطعوها. وقد
اهتمّ الله سبحانه كثيرا بأمر الرحم وعظّمها إذ جعلها قرينا لذاته المقدسة في
الأمر بإعظامها وإكرامها ورعايتها على كلّ حال. وفي قراءة حمزة جرّها ـ والأرحام ـ
عطفا على الضمير ، والمعنى : تتساءلون بالله وبالأرحام. فما هذه المنزلة العظيمة
للرحم ، وخصوصا حين تكون ذات شأن وأهمية كالأب والأم. ولذا يقول الناس : برحمة أبيك
، أو بروح أمك ، إلّا ما قضيت لي حاجتي ، أو أعطني ما سألتك ، أو تعال لبيتي ، أو
اذهب عند فلان.
فإن الله سبحانه
وتعالى أوصى الناس بأن الرحم التي لها هذه المنزلة من القرب والجاه عندكم ، بحيث
تجعلونها وسيلة عند غيركم لنجاح مطالبكم ونوال سؤلكم كما تجعلون اسم الله كذلك ،
فاتّقوها بعدم قطعها. فهذه التوصية منه تعالى تشير الى الاهتمام بشأنها وعظمها وأن
صلتها منه تعالى بمكان.
ومما لا بد من
التنبيه إليه هنا ، أن المراد بالأرحام هاهنا ، هل هو الأقارب القريبة من الإنسان
، والتوصية منه سبحانه بالنسبة إليهم على ما هو المركوز في الأذهان والمشهور بين
الأعلام الى الآن ، ولهذا المرتكز يحملون ظواهر القرآن والسنّة والأقوال عليها؟ أو
هو المراد مطلق الأقارب؟ ... بيان ذلك أن جميع الناس على وجه الأرض من أب وأم هما
آدم وحواء ، فهم إذا أقرباء منذ نزول أبويهما الى يوم انقضاء الدهر ، وبهذه النسبة
يحكم بأن كل إنسان منبثّ على وجه الكرة الارضية ـ من أي نوع كان أو طائفة أو قوم ،
سواء الأسود والأحمر والأبيض والأصفر ، فهم ـ إذا ـ مشتركون في توصية الله ولا بد
لكل واحد أن يلاحظ أفراد المجتمع بحيث لا يقطع الرحمية بينهم جميعا ليحفظ ما أوصى
به الله تعالى في صلتهم وحفظ شؤونهم مهما أمكن ، وإننا يجب أن نلاحظ الناحية التي
أوصي بها ربّنا وأن نراعي عظمته ورحمانيته بحمل الرحم على مطلق القرابة بلا فرق
بين القريب والبعيد ، فنكتسب من صفة خالقنا الرحمان الرحيم إذ نعلم أنه عزوجل يحب أن
يتشبه عباده
بصفاته تعالى ، وأن يتخلقوا بفضائل أخلاق نبيّه صلىاللهعليهوآله الذي كان رحمة للعالمين لا يفرّق بين أبيض أو أسود ولا بين
عربي أو أعجمي لشدة ألطافه بعباد الله ... أمّا إذا أغمضنا عمّا ذكر واتّبعنا
المرتكز في أذهاننا من ظواهر الآيات والأخبار فلا بد من أن نحمل على الأقرب
فالأقرب ونأخذ بالأحسن قبل الأخذ بالحسن. ونحن نذكر رواية تؤيد ما ذكرناه من أن
البشر جميعهم أقارب يتفاوتون في القرب والبعد والتوسط ، وردت في العيون عن الامام
الرضا عليهالسلام عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهمالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لمّا أسري بي الى السماء رأيت رحما معلّقة بالعرش تشكو
رحما الى ربّها. فقلت : كم بينك وبينها من أب؟ فقالت ؛ نلتقي في أربعين أبا! ... فإذا
رأينا مثل هذا الخبر يجب أن لا نتعجّب ، بل يجب أن نعدّ الخطب سهلا لأنه سبحانه
وتعالى ـ اهتماما بصلة الأرحام ـ جعلها قرينا باسمه الأقدس كما ذكرنا ، فيبعد أن
تكون الصلة التي أمر بها محصورة في عدّة قليلة من الأرحام القريبة التي يصل عددها
الى عشرة أو عشرين أو خمسين ، لأن صلة هؤلاء لا تتناسب مع هذا التأكيد الشديد من
ذاته القدسية ؛ إذ أن صلة هؤلاء بالذات تحصل بالفطرة لو لا الموانع الشخصية التي
تحصل أحيانا ـ وإن كان الأمر بالصلة يلزم للأقرب فالأقرب بلا شك ـ وهذا يكشف عن
أمر هام وهو صلة كل واحد من أبناء النوع بما أنهم جميعا من أب واحد وأمّ واحدة.
وهذه الصفة هي الممدوحة عنده سبحانه وهي الجديرة بأن يأمر باتقائها وبأن لا يقطعها
أحد عن أحد من أفراد المجتمع ، فيصبح المجتمع حينئذ بمنزلة أهل بيت واحد وأسرة
واحدة. وهذا التفسير في غاية المتانة واللطف ، ولكننا نأسف إذ لا نجد له مصداقا
فيما بيننا إذا استثنينا ما كان من رحمة نبّينا صلىاللهعليهوآله ورحمة أوصيائه الطاهرين سلام الله عليهم ، ولن نجد مصداقا
لها إلّا حين يجيء مصداق قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) ، أي في عصر الظهور المبارك وعصر النور الذي يشرّفه صاحب
الأمر عجّل الله تعالى فرجه ، حيث يؤثر كلّ واحد الآخر على نفسه ، ويسعى كل إنسان
في إصلاح أمور
غيره ، وحيث لا
تتم راحة شخص إلا بتمام راحة من سواه ، فيكون المجتمع مجتمع أخوة ، كلّ منهم أخ
رفيق شفيق يساير الناس ، وبأية عشيرة أو قوم أو جنس كانوا. فعليكم ـ أيها البشر
بصلة الرحم التي تؤمن المجتمع الصالح (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي أنه جلّ وعلا يراقبكم في أمر صلة الرحم ، فانتبهوا لئلا
يفوتكم منها شيء. وهذا ترغيب من جهة ، وتهديد من جهة ثانية ، وهو يشير الى غاية
اهتمامه تعالى بصلة الرحم وعدم رضاه بتركها ، لأن صلتها ـ فضلا عما ذكرنا ـ تطيل
العمر وتجلب الرزق كما ورد في الأخبار الشريفة ، بل تجلب رضاه عزّ اسمه.
٢ ـ (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ .....) أي إذا بلغوا الرّشد ، وهو الاهتداء الى المنافع والمضارّ
والاستقامة على الطريق الحق والاعتدال في الأمور. وجميع هذه المعاني من مصاديق
الرشد وإن كان يفرّق بينها أو يحمل عليها بحسب الموارد ... واليتامى : جمع يتيم
وهو من فقد أبوه ، وكان لم يبلغ مبلغ الرجال ، ومن فقدت أمّه فهو : لطيم. واليتيم
أيضا يطلق على من فقدت أمه من البهائم ، وله معان آخر ، كاليتيم الذي هو المفرد من
كل شيء ، إذ يقال : بيت يتيم ، وقرية يتيمة ، وكل شيء يعزّ نظيره كالدّرة اليتيمة
أي الثمينة التي لا نظير لها. وبهذا اللحاظ كله كثيرا ما يطلق على نبينا محمد صلىاللهعليهوآله لفظ : يتيم. ولهذا المفرد جموع كثيرة :
كيتامى وأيتام
ويتمه وميتمه ويتائم.
وفي هذه الآية
الشريفة أمر بإيتاء الأيتام أموالهم إطلاقا ، أي سواء أبلغوا الرشد أم لا ، لكن
بقرينة قوله عزوجل : (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ، يقيّد الإيتاء بالبلوغ الرشدي ، فإن القرآن يفسر بعضه
بعضا. والمراد بمؤانسة الرشد هو العلم الوجداني ... والخطاب في الآية موجّه
لأوصياء اليتامى ، وهو يعني : أن لا تمنعوها عنهم فأعطوهم في حال صغرهم بالإنفاق
عليهم اقتصادا ، وفي حال كبرهم ـ مع حصول الرشد ـ بالتسليم إليهم تمام الأموال
وكمالها. وهذا باب آخر من أقسام
التقوى ، ولذا
عقّبه تعالى بما قبله من تقوى الله والأرحام. أما إطلاق لفظ اليتامى عليهم بعد
بلوغهم الرشد وبعد تسليمهم أموالهم ، فهو مجاز جاء باعتبار قربهم من حالة اليتم
التي كانوا عليها. ولذا قال صلىاللهعليهوآله : لا يتم بعد الاحتمام. ولكن ذلك كقوله سبحانه ؛ وألقي
السّحرة ساجدين ، مع عدم بقائهم سحرة حينما آمنوا وكانوا ساجدين ؛ إذ سجدوا بعد
إنكار السحر ، وبعد إيمانهم إيمانا قلبيا. وقولهم بعد سجودهم : آمنا برب العالمين
كان أخبارا عن إيمانهم قبل السجود. وفي هذا المقام نبهنا سبحانه الى أمور أخلاقية
وإنسانية وشرعية لطفا منه تعالى بنا كما أن سائر شرائعه لطف ورحمة بعباده ، وسيشرع
لليتامى أمورا غير هذه نتكلّم عنها في محلها إن شاء الله تعالى.
فقد شرع الله
تعالى لأموال اليتامى شرعا ، نظرا الى أنهم ليتمهم أحوج ما يكونون للعناية ، فيجب
صيانة أموال كل مسلم ومسلمة بحكم الشارع في كل حال. وهذا أمر يحكم به العقل
والوجدان ولا يحتاج الى إقامة برهان.
هذا أولا. والأمر
الثاني أنه يجب تسليم الأيتام أموالهم بعد بلوغهم ورشدهم ، لأن كل إنسان أولى
بماله وأكثر حفظا له من غيره. فلربما نما ماله في يده بتجارة أو صناعة أو زراعة أو
غيرها ، بخلاف ما لو كانت في يد الغير راكدة ساكنة لا تتحرّك ولا يعمل بها عملا
يدرّ الربح ، بل قد تنقص أيضا إذا صرف منها على صاحبها.
أما الأمر الثالث
فهو نهيه تعالى للأوصياء أن يخلطوا أموالهم بأموال اليتامى ، فإن أهل الجاهلية
كانوا يضيفونها الى أموالهم الرديئة وبعد ذلك قد يقسمون لليتامى وقد يأكلون
أموالهم بالباطل ، ولعل هذا هو المراد بقوله سبحانه : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) أي المال الحرام الذي حرم بالكسب أو بأكله من أموال
اليتامى (بِالطَّيِّبِ) من الأموال التي أحلّها الله عليكم. فالمراد بالخبيث
والطيب ، الحلال والحرام ، ويحتمل أن يكون المراد بهما
الرديء والجيد من
أموال اليتامى كما ذكرنا آنفا ... (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي لا تأكلوها مع أموالكم.
وهذا هو القصد
الرابع الذي منع الله بموجبه أكل مالهم مختلطا بغيره من أموالكم بناء على ما
يستفاد من كلمة : الى. فالظاهر منها هو المعّية ومن البعيد أن يكون النهي عن خصوص
الأكل ، وأبعد منه إذا حملنا النهي على صورة الانضمام. فإنّا نعلم أن أكل مال
اليتيم في غير الموارد المستثناة غير جائز سواء أكان منفردا أم منضما الى غيره.
فعلى هذا يكون حمله على مطلق التصرّفات أولى بل أقوى في النظر الصائب.
وأما ذكر الأكل
بالنسبة الى المال ، فلأنه أظهر المصاديق أو الأكثر وقوعا خارجا بالنسبة الى مصاديق
التصرف ، لأن خلط أموال اليتامى الى أموال الأوصياء أو النظّار القوّام عليهم نوعا
، يجري في موارد الأكل. ولأن التفرقة فيه بين الأيتام وغيرهم ممّن ذكر في غاية
الصعوبة وأمر مشكل جدا ، ولا سيما إذا كانوا في بيت واحد ، وأشكل منه إذا كانوا في
قبة واحدة ، وبالأخص إذا كان الأيتام لا يزالون بين سن الخامسة والعاشرة فإن
التفريق بين مالهم وغيره محلّ بلاء وإشكال لا يدركها إلّا من ابتلي بهما. فلكون
الأكل مورد ابتلاء غالبا خصّه الله تعالى بالذكر. وهاهنا سؤال ، وهو أن أكل مال
اليتيم حرام بلا مجوّز شرعي بلا فرق بين كونه وحده أو مع غيره. أم لا؟ ... والجواب
: يمكن أن يقال إن أكل ماله في صورة الاستغناء عنه أقبح ، وظاهر الآية يدل على
أنهم ذوي مال ، وأن الأولياء غير محتاجين الى ما في يدهم من أموال اليتامى ، ومع
ذلك كانوا يخلطون أموالهم الى أموال الأيتام ليستفيدوا منها ولو بزيادة ما يأكلون
منها حين يكون الأيتام صغارا وحين يكونون أقلّ أكلا ومصرفا من الكبار ، فلذا اختص
النهي بهذه الصورة. ولو لا ذلك فلا خصوصية في الانضمام.
والحاصل أن أكل
مال اليتامى بغير ميزان شرعي محرّم يقول فيه عزّ وعلا : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) والحوب هنا الذنب الموحش والإثم
العظيم. وهذا يعني
أن التصرف في أموال الأيتام ذنب كبير. وقد كان هذا التصرف في عهد الجاهلية أمرا
متعارفا بحيث لم يكونوا ليروا أن لليتيم مالا خاصا به ، وبالأخص حين تكون اليتيمة
أنثى فإنها كانت لا حرمة لها على الإطلاق. فلما أشرقت عليهم شمس الهداية ، وبعث
النبيّ الأكرم (ص) نزلت آيات كثيرة ، وفي موارد عديدة ستجيء بإذن الله ، جميعها في
موضوع الأيتام وأموالهم ومختلف شؤونهم. وقد كنيّ عن التصرف بالأكل ـ كما ذكرنا ـ لأن
الأمر كان عندهم متعارفا مرسوما بحيث لا يعدّونه تصرفا في مال الغير ولا أكلا له ،
ولذا ورد هذا الأمر التهديدي مفتتحا بقوله : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) ، ومتبعا بقوله : (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ) ، ومذيّلا بقوله : (إِنَّهُ كانَ حُوباً
كَبِيراً) ، أي إثم موحش لا يطمئن القلوب بعد ارتكابه والتوبة منه
وطلب عفو الله تعالى لعظيم شأنه كما في كبائر الذنوب التي إذا تاب مرتكبها منها
يرى نفسه دائما عند تذكّرها قد فعل إثما كبيرا ويبدو عليه القلق والاضطراب
والوحشة. فأكل مال اليتيم عند المؤمن يكون هكذا مع هذه النواهي الأكيدة للاحتراز
منه ، وقد ورد عندنا في بعض فقرات زيارة سيدنا ومولانا الامام الرضا (ع) ما يشير
الى هذا المعنى كمثل ؛ أتيتك زائرا وافدا عائذا مما جنيت على نفسي واحتطبت على
ظهري. ومثل : وذكرها ـ أي الذنوب ـ يقلقل أحشائي ، وغيره .. فالظاهر أن الإنسان لا
يكون مستريحا مما جناه من ذنوب حتى ولو تاب منها وأقلع عنها ، وخصوصا حين تكون الذنوب
عظيمة ، وإثمها كبير ، كأكل مال اليتيم وما شابهه ، فإن الأيتام ليس لهم كفيل سوى
الله عزوجل ، ولا يهتم بأمره إلّا هو سبحانه لأنهم يعدّون من عوائله
وإن كان لهم من يعولهم ظاهرا.
٣ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى .......) أي إذا خفتم الظلم والجور وعدم العدل في رعاية حقوق
اليتامى من النساء فلا تزوّجوهنّ (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ) يعني : تزوّجوا ما حلّ لكم ـ لا ما لذّ لكم وحسن في نظركم
ـ (مِنَ النِّساءِ) سائر النساء اللائي من غير اليتامى أو منهن. فقد كان الرجل
يرى اليتيمة ذات جمال ومال فيتزوّجها فلربما اجتمع
عنده عشر يتيمات
يقصّر في حقوقهن عما يجب عليه نحوهن ، فنزلت الآية الكريمة بالنهي عن تزوّجهن مع
تضييق حقوقهن. وإن الأمر بنكاح ما طاب ـ أي ما حلّ ـ متضمن للنهي في مفروض الكلام
عن نكاح الإناث من الأيتام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. فبعد أن أصبح البعض
مسلمين أمرهم الله بحفظ مال اليتيم أو اليتيمة وصيانته ، ثم أمر بإعطاء المال الى
صاحبه بعد الرشد ، ثم وصّى الأوصياء بالنهي عن التزوّج بيتامى النساء ورخّص
بتزويجهن لغير أنفسهم حفظا للنظام وبقاء للنوع.
فان قلت : بمقتضى
عموم العلة لا يجوز لهم تزويجهنّ لغيرهم ، فإن عدم تكلفّهم وتعهّدهم بإيتائهن
حقوقهن علة لعدم التزويج مطلقا سواء الأيتام الإناث أو غيرهن ، لأنهم كانوا ممّن
يستبيح البضع مجّانا ، وهذا كاشف عن عقد قلبهم من أول الأمر على هذا ، وهو تزويج
محرّم شرعا لأن البضع لا يحلّ مجّانا؟ ... والجواب أن لغير اليتامى أولياء وأصحاب
يتكفّلونهم ويدبّرون أمورهم ، ولا يرضون بتزويج بناتهم من كل شخص إلّا الذي يرون
فيه الكفاءة والصلاح ، وذلك بخلاف اليتامى فإنهم لا أولياء لهم إلّا الله سبحانه.
ولذا أمر بشيء في أمورهنّ ونهى عن شيء حتى يستقيم أمرهنّ في المجتمع الاسلامي ، ثم
شرع لهنّ حكما يحفظ لهنّ كرامتهن ويعيد إليهن اعتبارهن ، فقال انكحوا ما حلّ لكم (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي إذا لم تكتفوا بواحدة فانكحوا من غير اليتامى الى أربع
لا أزيد بالنكاح الدائم. وأمّا المؤقّتات اللواتي ينكحن بالمتعة فلكم الخيار في
عددهن الذي يكون حسب استعدادكم واستطاعتكم البدنية والمادية.
وأما الأعداد بهذه
الصّيغ فمعدولة عن أعداد مكرّرة ، وهي غير منصرفة للعدول والوصف. وهي في الواقع
بدل عن المكرّرات. فمثنى بدل عن اثنين اثنين. ولكن هل البدلية والعدول لمجرد
التخفيف كما هو ديدن العرب في الكلام وحروفه التي تركّب منها ، أم لها جهة اخرى
غيره؟ .... والظاهر أن الوجه هو هذا ، والله أعلم بما قال. ومعناه الإذن لكل ناكح
يريد الجمع بين الزوجات لا بين الأعداد هذه إذا كان يريد أن لا يقتصر
على الواحدة ،
فينكح ما شاء من العدد المذكور. متفقين فيه ، أو مختلفين. ونظيره ما يقال : قسّم
المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة. ولكن لماذا عدل سبحانه الى هذه الصّيغ ولم
يذكر المعدول عنه مفردا ، أي : اثنين ، وثلاثا ، وأربعا ، فيحصل الترتيب والتخفيف
المطلوب؟ ... قلنا ؛ لكنه ـ حينئذ ـ يترتب عليه جواز الجمع بين الأعداد بمقتضى
الواو التي ـ مفادا ـ تفيد الجمع بين هذه الأعداد التي تصير تسعا كما يقال : أكرم
زيدا وحسنا وحسينا ، أي أكرم الثلاثة معا ... ولو قيل ؛ أو ، لمنع الاختلاف ، لأنه
يدل على عدم جواز الجمع بين بعض هذه الأعداد مع الأخر حتى لا يترتب على ذلك الجمع
بين أزيد من أربع. مثلا ؛ لا بأس بالجمع بين الإثنتين والاثنتين ، وبين ، الواحدة
والثلاث ، أو بين الواحدة والاثنتين. وإذا أتي بأو ، لمنع هذين الجمعين وانحصر
الجواز بالصّيغ الثلاث ، أي بكل واحدة منها بحدودها الثلاثة بلا زيادة ولا نقيصة.
فأحسن الأقسام ما أتى به الملك العلّام. وإن قلت : كيف يكون أحسن مع أن محذور الذي
ذكرت في المعدول عنه موجود أيضا هاهنا ، فإن الواو ، إذا كان بمعناه يجيء محذور
الجمع ، وإذا كان بمعنى أو ، عاد محذور الامتناع. والكلام هنا ، هو الكلام هناك ،
فأيّ حسن فيه؟ ... قلنا ؛ حسنه من جهة أنها أنما جاءت الواو هنا ولم تأت أو ، لأنه
على طريق البدل ، كأنه قال : وثلاث بدلا من مثنى ، ورباع بدلا من ثلاث. ولو جاء
بأو لكان لا يجوز لصاحب المثنى ثلاث ، ولا لصاحب الثلاث رباع.
وقوله سبحانه ؛
مثنى وثلاث ورباع ، نصبت بناء على الحالية من الموصول ؛ ما ، في : ما طاب ... (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي حذرتم (أَلَّا تَعْدِلُوا) أي ؛ أن لا تقدروا على الجمع بين هذا العدد مع العدل بهن (فَواحِدَةً) تنكحونها وحدها واتركوا الجمع حينئذ خوف عدم العدل وثقل
المسؤولية. ويحتمل أن العدل المشار اليه هنا هو الفرق بين خوف العدل في التزويج
الراجع الى اليتامى وغيرهنّ ، أي للأول في النفقة وللثاني في الحب والمودّة ، لأن
أسبابها خارجة عن الاختيار ، فإن النساء مختلفات في الجمال والقبح
وحسن الأخلاق
ورداءتها ... (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) سوّى بين الحرة الواحدة والإماء العديدة بأي مقدار كنّ
لقلّة مؤونتهنّ وخفة مصرفهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ وفي حكمهنّ المتعة. ففي
الكافي عن الصادق عليهالسلام ـ في روايات كثيرة ـ أنها ليست من الأربع ولا من السبعين ،
وأنهنّ بمنزلة الإماء لأنهنّ مستأجرات (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) أي أن اختيار الواحدة أو التسرّي أحوط وأقرب من أن تميلوا
الى الجور والنقص في نفقة ذات النفقة وهذا خلاف العدل ، أي إنقاص النفقة الذي هو
جور على المستحقة لها والله تعالى امر بالعدل. وبالأخص في مهور النساء ، ثم
بالنفقة. ويستفاد أيضا أنه سبحانه حين نهى فيما سبق عن تزوّج يتامى النساء وقال إن
التعدد في ذلك ينبغي أن يجري وفقا لما حلّ للإنسان ، لا بحسب هواه ورغبته ، قد لا
حظ سبحانه في النهي معنى مشقّة العول في النفقة أيضا. وقد قال القمي في ذيل قوله
سبحانه ؛ ذلك أدنى ألّا تعولوا ، يعني لا يتزوج المرء من لا يقدر أن يعول ، أي :
يموّن ويقدم بالكفاية الشرعية.
٤ ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ
نِحْلَةً .....) جاء الخطاب هنا بالنظر الى الحكمة التي ينبغي أن يتّبعها
الأزواج بالنسبة الى صداق زوجاتهم ـ أي مهورهن ـ فإن الحكمة في تشريع الصّداق ، هي
من أجل انتفاعهنّ به ، لا لمجرد الجعل بما هو موضوعية فقط وإن لم يعطوها ، بل المراد
على الإعطاء ، لأن المرأة بمنزلة الأسير عند زوجها ، وربما قضى عليها زمان تحتاج
فيه الى صداقها بحسب تغيرّ الزمان وتبدّله وحوادثه. فتشريع المهور لهنّ لطف من
الله سبحانه عليهنّ.
والصدّقات جمع
صدقة ، وهو اسم لمهر المرأة. والنحلة ؛ هي العطية من الله والتفضّل منه عليهن إذ
فرض لهنّ ذلك على الرجال ... وظاهر الآية أن يكون الخطاب للأزواج. وفي الفقيه عن
الصادق عليهالسلام : من تزوّج امرأة ولم ينو أن يوفيها صداقها ، فهو عند الله
زان. وعن أمير
المؤمنين عليهالسلام : أن أحقّ الشروط أن يوفى بها ، ما استحللتم به الفروج ...
وقيل أيضا إن الخطاب للأولياء ، فإن الرجل منهم إذا زوّج أيّمة كان يأخذ صداقها
ويحرمها منه. فنهاهم الله عن ذلك. وفي المجمع أن هذا القول نسب الى الباقر عليهالسلام ، والعهدة عليه وإن كان القول ليس ببعيد وإن كان في بدء
الأمر خلاف الظاهر كما هو الظاهر من صدر الآية وذيلها ، فإن الأوامر الخطابية لا
ينكر ظهورها في الأزواج ... (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) أي : إذا أعطينكم شيئا من مهورهنّ عن طيب نفسهنّ لا عن خوف
ولا عن إكراه ، ولا عن حياء أو نحو ذلك (فَكُلُوهُ) يعني ؛ خذوه واستحلّوا أكله ، والأمر للإباحة (هَنِيئاً) أي نعمة حال كونها جاءت بلا تعب وبلا نكد (مَرِيئاً) سائغا سهلا يستلّذ به أكلا وشربا.
* * *
(وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))
٥ ـ (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ
...) إن الله سبحانه لما قدّم ـ أولا ـ وجوب حفظ أموال اليتامى
، وأكّده بعدم التصرف فيها إلّا بما تقتضيه مصالحهم بلا إسراف ولا تبذير ، ثم أمر
بدفعها إليهم بعد البلوغ والعلم
برشدهم ، ثم أمر
بوظائف تخص كيفية تزويج نساء اليتامى وجعل المهور لهنّ وإعطائهنّ حقوقهن ، عقّب
على ذلك بعدم دفع الأموال للسفهاء ، وأمر بصيانتها عن التلف والإتلاف لجامع اشتراك
السفهاء مع الأيتام بحاجتهم إلى من يتولّى أمورهم ويدبّرها وينظّم كافة شؤونهم ،
فقال عزّ من قائل : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) أي التي جعل لكم الله الحق في القيام عليها لحفظها
وصيانتها. وقياما أصلها : قواما وقد بدل الواو ياء لمناسبة كسر ما قبله ، ويمكن أن
يكون مفعولا لفعل مقدّر أي : لتقوموا قياما ، أي لتنهضوا بمسؤوليتها نهضة
اعتداليّة. والسفيه من السفه وهو الخفة في العقل والطيش. والسفيه هو الذي لا يقصد
في أموره وجها واحدا صحيحا ، ويتصرّف لا عن ملاك ورويّة صائبة ، ولذلك يضع الأمور
في غير مواضعها. فقد يصرف المال في الحرام والملاهي وما أشبه ذلك ، وقد يبذّره وهو
يظن أنه لم يفعل شيئا. وفي المراد من السفهاء أقوال ، منها قول ابن عباس المؤيد برواية
أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام ، وهو أن الرجل إذا علم أن امرأته سفيهة مفسدة للمال ، أو
علم أن ولده سفيها لا يؤمن على المال ، لم ينبغ له أن يسلّم أحدهما مالا ولا أن
يأمنه على تصرّف في مال. وهذا القول ، بمقتضى ظاهر الأحوال أقوى الأقوال. بيان ذلك
أنه جاء في بعض الأقوال أن السفيه مطلق النساء لنقصان عقولهنّ ، فهنّ بحكم السفيه
، وهذا غير وجيه. ومن الأقوال أن السفيه عامّ في كل سفيه من صبيّ أو مجنون أو
محجور عليه لتبذيره وإسرافه في المال وفي بقية الأمور. هذا ، ولكن الذي هو محل
ابتلاء الإنسان العادي هي زوجته وأولاده. فيحتمل قويا أن الإنسان مع علمه بخفّة
عقول هؤلاء ، قد يسلّطهم على ماله أحيانا مع علمه بإسرافهم ، يفعل ذلك بدافع الحب
المفرط لهم ولا سيّما إذا كانت الزوجة متسلّطة أو الولد وحيدا ، فإنهما يفعلان ما
يريدان. فالله تعالى منع ذلك ونهى عنه منعا شديدا. أما الأغيار فلا يحتمل أن
يسلّطهم الإنسان على ماله قطعا ، فكيف إذا كانوا سفهاء؟ ...
ومحصّل الآية
الكريمة أنه لا يحسن بذوي العقل والرشد أن يعرّضوا أموالهم التي جعلهم الله قوّاما
عليها من أجل تدبير أمور معاشهم ، لا يجوز لهم أن يعرّضوها إلى التلف بوضعها في
أيدي السفهاء الذين لا يعرفون وجوه صرفها فيما يرضى الله. وقيل إن المراد بالقيام
هو الاعتدال الذي يفسّر بالنسبة للأموال بأن لا يعطى للسفيه الذي لا يقدّر أبواب
الصرف تقديرا رشيدا ، فلا يجوز أن يعطى من نفقته الواجبة إذا كان من ذوي النفقة ما
لا يعرف إدارته ، كما أنه لا ينبغي التضييق عليه في معاشه سواء كانت الزوجة أو
الولد أو الأبوان أو غيرهم ممّن يتولّى الإنسان أمورهم ويدير أموالهم لمصلحتهم.
فعليه أن يراعي ذلك كله بالعدل ، وأن لا يسلّمهم المال ما داموا غير أمناء على حسن
التصرف به ، ولا أن يقتّر عليهم ، بل يتّبع الأمر بين الأمرين في النفي والإثبات ،
لا النفي المطلق ولا الإثبات المطلق.
ولا يخفى على ذوي
الألباب أن آيات هذه السورة المباركة مشحونة بالمسائل والأحكام الشرعية والأخلاقية
والاجتماعية والسياسية بين الناس ، ولذا نرى أن أكثر آياتها تتكفّل لجهات من هذه
النواحي ، ولذا نرى أنها من أولها إلى آخرها وصايا من الله تعالى لمن هو عرضة
لأمور العائلات مثلا كالأب أو الولي والكفيل والناظر قريبا كان أو غير قريب.
ثم لا بد من
الإشارة هنا إلى نكتة هامة من النكات ، وهي أنه سبحانه ما اكتفى في قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) ، بل عقّبها بقوله وصفا : التي جعل الله لكم قياما ، أي
أعطاكم سلطة وقيمومة تعمّ الأموال الشخصية ـ لأن الإنسان مسلّط على أمواله ـ والأموال
التي تحت يده بعنوان من العناوين الشرعية كأموال القاصرين والغائبين. فكما أنه
منهيّ عن إيتاء الأموال الشخصية للسفهاء ، فكذلك لا يجوز التفريط بأموال القصّر
والغيّب وغيرهم ممّن يتولّى أمورهم. فقد أفهمنا سبحانه ـ بعد صدر الآية ـ أن الحكم
يعمّ كل مال عليه ولاية شرعية. ولذا ذيّل الله تعالى الآية بقوله :
(وَارْزُقُوهُمْ فِيها
وَاكْسُوهُمْ) أي لا تمنعوهم عن الارتزاق بأموالهم من تبلّغ الطعام
والشراب والاكتساء ، بالثياب والإيواء في المساكن ، وباشروا ذلك بالحكمة ولا
تدعوهم يتصرّفون كما يشاءون (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي قولا حسنا جميلا مقبولا شرعا ، ولا تؤذوهم بقولكم ، بل
عالجوا أمورهم بشكل يقنعهم عقلا.
٦ ـ (وَابْتَلُوا الْيَتامى ...) أي اختبروهم بتتبّع أحوالهم حتى يتبيّن لكم أمر بلوغهم
ورشدهم في إصلاح المال وصرفه في مواضعه ووضعه في محلّه المشروع ، ولاحظوا جميع
تصرّفاتهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ) رمز إلى البلوغ الشرعي من نبات العانة والاحتلام أو إكمال
خمس عشرة سنة للذكر وتسع سنوات للأنثى. على أن البلوغ وحده لا يكفي في دفع الأموال
إليهم بل لا بد من معرفة الرشد فيهم ، فقد علّق سبحانه أمر دفع الأموال عليه إذ
قال : (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فعن الصادق عليهالسلام : إيناس الرشد حفظ ماله. يعني إذا اطمأننتم إلى أنه حافظ
لماله بعد أن جرّبتموه في كيفية الحفظ وحسن التصرف وعقلائيّة المنهج ، فحينئذ لا
تسامح في الدفع إذا طلبوا مالهم ، لأن جواز تسلّطهم عليه متفرّع على البلوغ والرشد
، فعند تحقّقهما لا وجه للتأخير ، فلا تبقوها معكم حينئذ (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) والإسراف تجاوز الحد في كل شيء وعدم الاعتدال فيه. وهو هنا
وضع الشيء في غير موضعه ، وهو كمن يعطي من لا يستحق ويحرم من يستحق. فالله تعالى
منع أولياء الأيتام من أكل مال اليتيم بلا مجوّز شرعيّ ، ونهى عن منعه ما له
إسرافا وتفريطا بوقت استحقاقه له (وَبِداراً) أي مبادرة إلى أكل أموال اليتامى قبل (أَنْ يَكْبَرُوا) ويبلغوا ويصبحوا راشدين يطلبون قطع أيديكم لسرقة مالهم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا) بماله عن مال اليتيم (فَلْيَسْتَعْفِفْ) بأن يأكل من ماله ويوفّر مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) لا مال له يقوم بأود عيشه ولا قوّة له على تحصيل ما يكفيه
، وهو ـ في الوقت نفسه وليّ على مال يتيم (فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) أي يأخذ من مال اليتيم بمقدار الحاجة وسدّ
الجوع على سبيل
القرض ثم يردّ عليه ما أخذه إذا وجده وتمكّن من أدائه. وقد أسندت هذه الكيفية من
الحكم إلى مولانا الباقر عليهالسلام والقول بأن الوليّ إذا عمل لليتيم عملا يوجب أجرة فله أن
يأخذ من ماله أجرة عمله لأن عمل المسلم محترم. وهذا لا يكون بعنوان القرض ولا يقع
تحت العهدة ، ولا تبعد صحته. على أنه يمكن الجمع بين القولين بأن يحمل الأول على
صورة عدم العمل في مال اليتيم ، والثاني على ما إذا كان ماله يحتاج الى عمل من أجل
نمّوه وإصلاحه. وهذا التوضيح هو أحسن الأقوال في المقام .. (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ) أي إذا أعطيتموهم أموالهم بعد حصول الشرطين المذكورين في
الآية الكريمة (فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ) ادفعوها إليهم أمام شهود يشهدون بأنهم تسلّموها ، دفعا
للتهمة فيما بعد ، وخوفا من التخاصم ولزوم الضمان. وهذا الأمر إرشاديّ استحبابيّ
يمنع ما ذكر (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أي محاسبا على كل ما أوصى به هنا وفي الآيات الماضية ، فلا
تتعدّوا حدوده فيما شرع لأنه يحاسب بدقة على كل شيء.
* * *
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))
٧ ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) نصيب : أي حظ وسهم وقسمة فرضها الله تعالى للرجال في أموال
والديهم إذا ماتوا ، وفي أموال أقربائهم أيضا إذا تركوا مالا وانحصر إرثهم فيهم ..
(وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وكذلك للنساء حقّ من أموال والديهنّ وأقربائهنّ في حال
موتهم عن تركة ومال (قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ) أي سواء كان المال قليلا أو كثيرا وسواء كانت التركة قليلة
أو كثيرة ، لا فرق في ذلك ، فانهنّ يرثن بمقدار ما فرض الله لهنّ (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي سهما وحظا فرض تسليمه إلى مستحقيه ومستوجبيه. ومن الآية
المباركة نستفيد أن القول بالعصبة باطل في شرع الإسلام. وقد كان من بدع الجاهلية
فنسخ. فإن الله عزوجل فرض الميراث للنساء في شريعة العدل والإنصاف ، كما فرض للرجال
، رداّ على أهل الجاهلية الذين لا يرون لهنّ حقاّ في تركة الميّت ، أيّ ميّت كان.
٨ ـ (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ...) أي إذا شهد وكان حاضرا عند تقسيم التركة (أُولُوا الْقُرْبى) الذين ليسوا ممّن يرث ، ويكونون فقراء ومن أقرباء الميّت
والفقراء (وَالْمَساكِينُ) أي حضر القسمة أيضا يتاماهم ومساكينهم الذين يرجون أن
تعطوهم شيئا (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) أي أعطوهم من تركة الميّت قبل تقسيمها بين الورثة.
وقد ألقوا هاهنا
إشكالا ، وهو أن هذا التقسيم لا يجوز قبل قسمة التركة بين الورثة إذا كان فيهم
قاصر أو معتوه أو غائب ، ولا بعدها أيضا فيما يرجع من المال إلى الورثة ، فإنهم
يملكون ولا يجيبون أحدا.
والجواب أن عدم
إجراء الحكم في مورد لمانع ، لا يوجب نفي الحكم مطلقا. وثانيا ، على القول بوجوب
الحكم ، فنستجيز من الحاكم الشرعيّ الجامع للشرائط ، ونأخذ مقدار حق الأقرباء
الذين لا يرثون ، فإن له الولاية على القاصر والمعتوه والغائب إذا لم يكن لهم
أولياء ، وإلّا فمن أوليائهم في حال وجودهم؟ وأما بناء بالقول على الاستحباب ففي
موارد المنع نتوقّف ،
وفي غيرها نجري
الحكم. وأما على القول بعدم الوجوب ، فيرجع أيضا إلى الحاكم المطلق فإذا رأى وحكم
نأخذ لأولي القربى واليتامى والمساكين ، وإلّا فلا .. وفي الموارد التي لا مانع
فيها فالحكم يجري ، والله تعالى هو الهادي إلى سبيل الرشاد.
وقد قيل إن «فارزقوهم»
أمر ندب ، وقيل واجب ، وقد اختلف في المخاطبين بقوله تعالى : فارزقوهم. وفي ذلك
قولان ، أحدهما أن المخاطب بذلك هم الورثة حيث إن المال لهم ولا يجوز لغيرهم
التصرّف فيه كما عن ابن عباس وأكثر المفسرين على ما نقل وهو الظاهر. والثاني أن
هذا التكليف متوجه إلى من حضرته الوفاة بأن يوصي لمن لا يرثه من المذكورين بشيء من
ماله ، وقد اختاره الطبري. كما أنه اختلف بنسخ هذا الحكم بآية : يوصيكم الله ، وقد
قال به القمي. وكذلك نقل العياشي عن الباقرين عليهماالسلام بأن نسخته آية الفرائض. وورد الجمع بين القول بالنسخ وعدمه
أيضا كما عن الباقر عليهالسلام في رواية إذ سئل عنها (ع): أمنسوخة هي؟ .. قال : لا ، إذا
حضروك فأعطهم. ومن السهل بأن يقال : إن نسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز ولو في
ضمن الاستحباب ، وله نظائر في الموارد. وفي المقام نكتة وهي أن المستفاد من مناسبة
الحكم والموضوع ، أنه لا بد من كون المتوفّى من أهل الثروة والملاءة في هذه الحال
، وإلّا فإن العشيرة لا تتوقع منه شيئا ، ولا أرحامه ولا اليتامى ولا المساكين ..
ثم لا يخفى أن القول باستحباب العطاء هو الأظهر بل الأقوى في النظر. ولنا شواهد
على ذلك مثل قول الباقر عليهالسلام في مقام السؤال عن نسخ الحكم إذ قال عليهالسلام : لا ، إذا حضروك فأعطهم شيئا. فإن هذا الأمر إذا كان
للوجوب فالتعليق على حضورهم لا معنى له ، فإنه لا بدّ من إعطاءهم سواء حضروا أم لم
يحضروا. ومنها قوله تعالى : فارزقوهم ، الذي يعني إعطاءهم شيئا غير مقدّر بنصيب
مفروض. فإن عدم تعيين رزقهم من الموروث : يدل على عدم الوجوب. وذلك مثل قولك إذا
جاءك عند تصفية تجارتك أو زراعتك فقير فإنك لا تحرمه بل تعطيه شيئا. ثم من القرائن
الجلية قوله تعالى
: (وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ) ، فإنهم إذا كان لهم حصة واجبة كالوارث فلا يتوقف على
كونهم حاضرين ، بل تفرز لهم عند تقسيم التركة حصتهم كأيّ وارث آخر. فهذه الأمور
خير شاهد وأقواه على ما اخترناه ، عند من له علم بأساليب القرآن واصطلاحاته ، وكان
حاذقا بصناعته ... (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) لعل هو الدعاء لهم بالرزق واليسار ، والاعتذار إليهم ، أو
يمكن أن يكون المراد بالمعروف هنا القول المشتمل على ما استحسنه الشرع ورجّحه ،
وما استحسنه العقل ممّا لا يردّه الشرع ولا يأباه. فهو إذا ضدّ المنكر الذي ينكره
الشرع ويقبّحه ، والله العالم.
٩ ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ...) هذا أمر بأن يخاف الله تعالى ويتّقيه ، كلّ من ترك حين
وفاته ذرّية : أولادا ، ضعافا : وهي جمع ضعيف ، الذي ـ بمقتضى عموم إرشاد الآية ـ يدل
على أن المراد بالضّعاف ما يعمّ المعتوهين الكبار والنساء الضعيفات والكبار المرضى
أمراضا مزمنة تمنعهم من تحصيل مؤونة أنفسهم وعائلتهم ـ أجل ، فليخف من الله من
يترك مثل هؤلاء ، وليقدّر لهم نصيبهم من ماله وتركته حين وفاته ، ناظرا إلى عجزهم
وسوء حالهم .. والحاصل أن الشريفة ظاهرة في غير ما حملها عليه أكثر المفسرين ، إذ
أن شأن نزولها أنهم كانوا إذا حضرت الوفاة الرجل ، جاءه كثير من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يقعدون عنده ويقولون له : انظر لنفسك فإن أولادك لا يغنون
عنك شيئا في الآخرة ، فيحملونه على إنفاق جلّ ماله في سبيل الله تعالى بحيث لا
يبقى للورثة شيء. فنزلت الآية الكريمة تخويفا ومنعا لتلك الوصية التي فيها إجحاف
بحق الورثة الضّعاف. وهي ـ أيضا ـ تتضمّن الأمر لمن حضر وفاة الرجل لاستماع وصيته
بأن لا يحثه على حرمان ورثته ، وأن لا يمنعه من تخليص نفسه من الحقوق الواجبة لله عزوجل ، إذ لو كانوا هم الموصين لأحبّوا أن يحثّهم الشهود على
حفظ مالهم لورثتهم ولا يدعوهم عالة على المجتمع. فالأخوة الإسلامية تفرض على
الواحد منّا أن يحب لأيتام غيره ما يحبّه لأيتام نفسه ، لا أن يروا لأنفسهم ، ثم
يرون لغيرهم شيئا آخر فيضيع
الضّعفاء عن
أيديهم وبآرائهم التي قد لا يرضاها الله سبحانه وتعالى. وقد اختار هذا المعنى ابن
عباس وجماعة كسعيد بن جبير وقتادة وأمثالهما من مشاهير العامة.
فينبغي للمتوفين
الذين يتركون ذرّية ضعافا (خافُوا عَلَيْهِمْ) الضياع من بعدهم ، والحاجة إلى الناس. والجملة في مورد نصب
على الحاليّة من الذين تركوا ذرّية ضعافا ، أي حال كونهم يخافون عليهم العول
والمؤونة والضياع (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فليخافوه حين الوصية ممّا زاد عن الثلث لأنفسهم ، بل يجب
عليهم إبقاء المال بتمامه إلى الورثة إذا لم يكن عليهم واجب ماليّ ، أي واجب يحتاج
إلى صرف المال. والجملة جواب : لو .. (وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً) أي صوابا عدلا موافقا للشرع والحق. أو أن المراد في المقام
، فليخاطبوا اليتامى بخطاب حسن وقول جميل ، وكلّ من القولين يعني ما في كلّ منهما
كما لا يخفى على من يتأمل. والخطاب إمّا إلى أولياء اليتامى أو المرضى والمقعدين ،
أو أنه لشهود حال الوصية الذين يقعدون عند أطراف المريض ويتكلّمون بشأن ميراثه
وورثته كما أشرنا سابقا ، ولا مانع من الجمع تأكيدا بمقتضى المقام. وأما وجه الأمر
بالقول السديد لليتامى والضّعاف فيمكن أن يكون لأنهم يطمئنون كمال الاطمئنان بأن
المتوفين لا يتسامحون في شؤونهم ، ويحفظونهم ولا ينسونهم. فإن الألطاف اللّفظية
طريق إلى التوجّهات القلبية. مضافا إلى أن هذا القول مصداق من مصاديق قوله تعالى :
(وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ). ولهذا ، فإنه لا يبعد تفسير القول السديد المأمور به هنا
، بالاعتذار من الورثة بعد إبقاء المال وعدم الوصية بالزائد عن الثلث ، فإن
الاعتذار يكشف عن عدم المنّة.
١٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً ...) تكلّم سبحانه عن أهمية أكل مال اليتامى في الآيات السابقة
، وبيّن أنها أموال مقدسة هو وليّها قبل الوليّ من الناس لأنه سبحانه أب لكل يتيم
، ثم لمّا كان رحيما بعباده لا يريد لهم إلّا الخير والنجاة في الآخرة. وكلمة :
ظلما ، تعني أنه لا بلحاظ أجرة عملهم ، ولا باستقراض سائغ ، ولا بجهات شرعية أخر. ولذا
عاد ينبّههم أن
الذين يأكلون أموال اليتامى بالباطل (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي أنهم يأكلون في بطونهم شيئا يجرّهم إلى النار ، بحيث
تتجسم صورة أكلهم المحرّمة النوعية في بطونهم ، بالنار التي ستشتعل منها أفئدتهم
وتتلهّب أحشاؤهم .. وقد ذكر الأكل وقصر الحكم عليه من باب أن الأكل من أعظم منافع
المال كما قلنا فيما مضى. وإلّا فإن جميع منافع مال اليتيم غير المجوّزة للولي ،
محرّمة عليه. وكلمة : إنّما ، تعنى الحصر ، وتدل على مؤدّى واحد يصل إليه آكل مال
اليتيم في زمان قريب ، إلى تبدّل صورة نوعية المال المأكول بالنار. فهم كأنهم ـ منذ
الآن ـ يأكلون في بطونهم النار!. وهذا مثل قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ). فلذا عبّر سبحانه بهذا التعبير كأنه يصور آكل مال اليتيم
يأكل نارا ستظهر وهي تلتهب في بطنه ، ويخرج لهبها من فمه يوم المحشر بحيث يعرف
جميع أهل القيامة أنه آكل مال اليتيم (وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) أي سيدخلون وسط لهب جهنم وحرارتها الشديدة ، وسيشوون كما
يشوى اللحم على النار. وقد جاءت لفظة : السعير ، بمعنى المسعور أي المحمى لدرجة
حراريّة هائلة ، وهي النار الحريصة على إحراق جميع ما يلقى فيها ، بحيث يكون
الدخول فيها يوم القيامة من أشد العذاب ، فنسأل الله تعالى أن يعيذنا منها بكرمه
وعفوه.
* * *
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ
اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ
اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
وَمَنْ
يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها
وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))
١١ ـ (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) أي يبلّغكم بلاغا يتضمّن الأمر به ، ذلك أنه سبحانه يشرع
ويفرض عليكم في أولادكم ، يعني في إرثهم منكم ، إذ يبيّن لكم شأن ميراثهم. والبلاغ
في صدر الآية الشريفة إجمال يجيء تفصيله بعد ذلك.
والكلام الآن في
أن الولد هل يشمل من تولد من الإنسان بواسطة أو بوسائط كما هو الظاهر من رواية
حذيفة عن النبي (ص): بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة ، ورواية أم سلمة عن رسول الله (ص):
المهديّ من عترتي ، من ولد فاطمة عليهاالسلام
، ورواية بريدة أن
رسول الله (ص) رأى الحسن والحسين يمشيان ويعثران فنزل عن المنبر وأخذهما ووضعهما
بين يديه وقال : صدق الله ورسوله ، إنّما أموالكم وأولادكم فتنة. رأيت هذين فلم
أتمالك أن نزلت فأخذتهما وقد صححّ الروايات ، مضافا إلى الأكابر من الخاصة ، كثير
من مشايخ العامة كالبيهقي وأحمد ومسلم وابن ماجه وأمثالهم من أعلام الرواية
والصحاح والفتيا. كما أنه ورد عن وائلة عن رسول الله (ص) في حديث : اصطفى من ولد
إسماعيل بني كنانة. فهذه الروايات ونظائرها مما ورد في إطلاق الود على ذوي الوسائط
الكثيرة تدلّ على المدّعي من شمول الولد مطلقا ، أي على ذوي الوسائط وغيرهم على
السواء. وأما التخصيص بالولد بلا واسطة ، أو بذوي الوسائط الكثيرة ، فموكول إلى
القرائن. فقد يقتضي المقام ومناسبة الحكم أن يراد من الولد الذي بلا واسطة ، كما
قد يقال : ولدي ذكيّ ، عالم ، مهذب ، فلذا أحبه وقد أعطيته كذا وكذا. فالقرينة
القائمة تدل بأنه ولده بلا واسطة ، لأننا ندري بأنه لا ولد له غيره.
وقد يكون القائل
في مقام بيان الطبقية في الولديّة فيقول : هذا ليس ولدي بل ولد ولدي. فإن النفي
بلحاظ رتبة من رتب الولديّة لا بلحاظ أصل الولدية. وقد يراد النّص على العموم كما
يقال : أنا أبو أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن.
والحاصل أن قوله
تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) ، هو إجمال ، والتفصيل جاء في الميراث ، وهو هذا : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) أي للذكر من الأولاد في حال الاجتماع مع نوع الإناث في
الطبقة الواحدة نصيب ، يوازي نصيب اثنتين من الإناث من الميراث. يعني أنه قد ضوعف
حظّ الصبيّ عن حظّ البنت وفضّله الله تعالى عليها فأعطاه مثلي سهمها. وقد سئل
الإمام عليهالسلام عن الحكمة في تفضيل الذكر بالحظّ على الأنثى فأجاب بأن
الرجال يعولون ويعطون مهورا للنساء وعليهم جهاد ونفقات ومعقلة في الدّيات ،
والمرأة تكون عالة وتأخذ مهرا وتصبح عند زوجها واجبة النفقة. وقد ذكرت روايات في
هذا الموضوع في تفسير البرهان عن الصادق والرضا عليهماالسلام كما ذكر مثلها بعض المعتمدين من المفسرين.
ثم قال تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي المولودات للوارث قد افترض سبحانه كونهنّ نساء خلّصا
ليس معهنّ ذكر. وفوق اثنتين محلّه خبر ثان ويحتمل كونه صفة للنساء. ففي حالة كون
المولودات كلهنّ نساء (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) أي ما خلّف الميّت الذي هو معلوم من القرائن المقامية. وقد
أجمع المسلمون عدا ما يحكى عن ابن عباس ، على أن حكم الاثنتين حكم الأكثر. فقد قال
ابن عباس : حكم الاثنتين حكم الواحدة لأن الثلثين لما فوق الاثنتين بنص الآية
الشريفة ، فدار أمر الاثنتين بين أن لا يكون لهما حكم ، أو حكمهما حكم الواحدة ،
والأول خلاف الإجماع ، فثبت الثاني ..
والعجب من ابن
عباس كيف جهل الحكم وخفي عليه إرث البنتين
مع كونه منصوصا في
الكتاب. بيان ذلك أن الله جعل حظ الاثنتين الثلثين بقوله تعالى : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) ، وهو الثلثان ، وذلك إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل
حظّ الأنثيين ، وهل هذا إلّا الثلثان؟ .. فحظّ الأنثيين الثلثان ، وإنه تعالى
اكتفى بما يستفاد من هذه الآية الشريفة من أن ميراث الأنثيين هو الثلثان. وهذا
بيان قد خفي على الناس طراّ حتى على ابن عباس الذي يعبّر عنه بحبر الأمة ..
وقد ذكر سبحانه
الثلثين ليبقى المجال لمن يتفق معهنّ في الميراث كالأبوين أو أحدهما ، أو كالزوج
أو الزوجة ، وليكون الثلثان ميزانا للرد مع الأب أو الأم (وَإِنْ كانَتْ) الوارثة من الأولاد بحسب الأقربيّة من المتوفّى بنتا (واحِدَةً) في تلك الحال (فَلَهَا النِّصْفُ) وقد ذكر النصف هنا ليبقى مجال لسهم من يتّفق معها كالأبوين
أو أحدهما أو الزوج أو الزوجة ، وليكون ميزانا للرد إذ كان معها الأبوان أو أحدهما
(وَلِأَبَوَيْهِ) أي والدي الموروث ، ولا يتعدّى الحكم إلى الأجداد والجدّات
لأن الإجماع قائم على عدم تعدّيه لهما ، مضافا إلى أن شمول لفظ الأب للجد غير
معلوم بحسب معنى الأبوّة الحقيقية. فالأب هو الذي ولد الإنسان منه حقيقة بلا
واسطة. فهذان الأبوان (لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ) المتوفّى الموروث. فإن كل واحد من أبويه يأخذ في تلك
الحالة سدس ما ترك (إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ) أي إذا كان للميّت ولد وإن نزل ، ذكرا كان أو أنثى ،
متعدّدا أو لا. لكنهما يشاركان البنت في الباقي بعد السهام فيقسّم أخماسا. ولعله
يرفع بما ذكرناه ما قيل من أنه كيف قال تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) ، مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟ .. فنقول : إن
الآية وردت في بيان الفرض لا في التعصيب والرد ، وليس للأب مع البنت بالفرض إلّا
السدس ، والزائد عن السدس يصل إليه بالرّد كما لا يخفى. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ،
وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ممّا ترك أجمع ، ولو مع أحد الزوجين عندنا. وثلث ما بقي
بعد نصيبه عند العامة. ولم يذكر سبحانه ما للأب لظهور أن له الباقي مما ترك
الموروث ... (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ) أي أنه كان للميّت إخوة (فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) أي كما أن الولد يحجب الأم عن الثلث الى السدس ، فكذلك
إخوة الميّت يحجبون أمّه عن الثلث الى السدس إذا كان هناك أب بصراحة أصحابنا. وكل
ذلك مما ذكرناه في السهام والرد (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها ، أَوْ دَيْنٍ) فعبارة : من بعد ، متعلقة بجميع ما تقدّم من قسمة المواريث
الى تلك الحصص الخاصة بالورثة وكلمة. أو هي للإباحة فتفيد تساويهما في وجوب
التقديم على القسمة انفرادا أو اجتماعا. وقدّم سبحانه الوصية على الدّين مع تقدّمه
شرعا عليها ، لعله من باب الاهتمام بشأنها حيث إنها شاقة على الورثة لشبهها بالإرث
من جهة ولأن فيها تخليص الموصي من جميع ما عليه من حقوق من جهة ثانية ، فكانت
مظنّة للتفريط ، بخلاف الدّين فإنه محلّ اطمئنان برأي الورثة ، ولكنه ليس له نفس
الثقل على أنفسهم فهم يرون إنكاره قبيحا عليهم لأنه مظنّة لفضيحتهم كما لا يخفى ،
بخلاف الوصية التي إن هي استهلكت قسما كبيرا من المال والتركة ، فإنما يذهب ذلك من
سهامهم مع ما يذهب من الدّين ... (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي أنتم لا تعلمون من من الآباء أو الأمهات أو الأولاد
يكون أقرب نفعا لكم بعد مماتكم أو في حياتكم ، ولذلك فالتزموا بما فرضناه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أوجبها وعيّنها وقدّرها لصالح الأفراد والمجتمع الاسلامي (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) عارفا عظيم المعرفة بأحكامه ، حكيما مدّبرا أحسن تدبير حين
وضع هذه الأمور في مواضعها ومواردها.
١٢ ـ (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ
...) خاطب سبحانه بها الأزواج فقال لهم ؛ إن لكم نصف ما تترك
زوجاتكم من الأموال والميراث (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُنَّ وَلَدٌ) بحيث لم يلدن لا ذكرا ولا أنثى وإن نزل ، منكم أو من غيركم
من زوج آخر ... (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من الميراث من سائر تركتهن (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) مرّ شرحه (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ) ولو كان الولد من غيرهنّ فإنه يحجب عنهنّ الرّبع (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) منهنّ أو من سواهنّ
(فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) وفي هذا السهم تستوي الزوجة الواحدة وغيرها في الأعداد
منهن في الرّبع وفي الثمن (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً) جملة : يورث ، صفة للرجل ، أي موروث. وكلالة : منصوبة على
أنها خبر كان الناقصة. وقيل إنّ كان ، تامة ، ونصبت : كلالة ، بناء على الحالية.
واختلف في معنى الكلالة ، فقيل هو الإخوة والأخوات من طرف الأم ، وقيل هو الوارث
غير الوالد والولد ، وقيل غير ذلك. وحاصل المعنى أن الرجل إذا مات ولم يكن له وارث
غير كلالة ، وكذلك المرأة بناء على أنها معطوفة على الرجل (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) أي من الأم ، ويؤيّده قراءته هكذا ، مضافا الى الإجماع
والأخبار بذلك (فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) ممّا ترك الميّت عن غير وارث سواهما (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يستوي الذكر والأنثى في القسمة بلا خلاف بين الأمة أن
الإخوة والأخوات من قبل الأم متساوون في الميراث. وذلك يكون (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ
دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) ولفظة : غير ، حال من فاعل يوصى بالبناء للفاعل ، أي حال
كون الدين غير مضارّ بورثته بالزيادة على الثلث ، أو بالنقيصة في حقهم في الوصية ،
كالإيصاء بدين لا يلزمه قصدا للإضرار على الورثة لا قصدا للقربة ... (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) وصية ؛ مصدر مؤكّد منصوب بيوصى : أي إيصاء ، مفعول مطلق ،
صرح سبحانه بأنها من الله تأكيدا عليها من جهة ، وتعظيما لشأنها وتحذيرا من مخالفتها
من جهة ثانية. والحاصل أن هذه هي أحكام الله وفرائضه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمطيع له في أوامره بها ، وبالعاصي الذي يتعدّى حدوده (حَلِيمٌ) لا يعاجل في عقوبة العاصين ، بل يؤخّرها فاسحا المجال
للتوبة والاستغفار لتشملهم رحمته التي تسع كل شيء سبحانه وتعالى.
وهنا لا بدّ أن
نتكلم في هل ان مسألة الإرث تختص بدين الإسلام أم شرعها الله تعالى في الأديان
الأخرى وكانت رائجة قبله ومجعولة في تلك الأديان وفق أسس معيّنة ..؟ .. وقد قيل
بأن الإرث كان مجعولا في دين
موسى عليهالسلام على طريقة خاصة يستفاد منها انحصاره بالأنساب فقط على ما
في بعض أسفار التوراة. فإنه لو مات شخص وكان له ابن فهو الوارث لا غيره. وإن لم
يكن له ابنّ فالميراث لبنته ، وإذا لم تكن له بنت فما تركه يكون لأخيه ، وإذا لم
يكن له أخ فللأقرب فالأقرب ممّن ينتسب للميّت. وفي الأقرب فالأقرب يدور الميراث ـ على
دين موسى عليهالسلام ـ مدار النسب. أما في عصر الجاهلية وقانون الإرث قبل
الإسلام ، فكان الإرث أولا منحصرا بواحد من الأمور الثلاثة التي أحدها النسب أي
الأولاد الذكور والرجال دون الأطفال والنّسوان. ولذا نرى أن النبىّ (ص) اهتمّ غاية
الاهتمام بأمر إرث الأطفال والنساء وعلى الأخص إرث الأطفال. وقد قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) ، تركيزا على حفظ إرث الأولاد الذي كرّسه سبحانه وتعالى.
والثاني هو التبنّي وهو أن يولد الطفل من أبيه ثم ينسب الى غيره فيسمّيه هذا الغير
ابنا له بالعناية والمجاز. وقد كان هذان يتعاهدان على أن يورّث كلّ منهما الآخر ،
أي أن الابن المجازي يرث الأب المجازي ، والأب المجازيّ يرث الابن المجازي ...
والثالث كان التعاهد والقرار بين النفرين بأنّ كل واحد منهما ... ما دام في الحياة
ـ يدفع عن الآخر الأضرار والحوادث ، وإذا مات كان ميراثه لذلك الآخر منهما .. وهذه
الأمور في باب الإرث أمور أحدثوها وأبدعوها بآرائهم واتّبعوا فيها أهواءهم ، وما
أنزلت في صحيفة من الصّحف السماوية ولا في خبر صحيح من الأخبار الأرضية ، بل هي
مختلقات ومخترعات شهوانيّة نفسانية نعوذ بالله منها.
والحاصل أن
الشريعة الإسلامية قد جاءت في عصر أرخى فيه الجهل سدوله على العالم من أطرافه ،
بحيث ضلّ الناس في تيه الشهوات ، وخبطوا في ظلمات الغيّ ، وساروا وفق شريعة الغاب
الوحشية ، فكانت الدنيا كلّها في ضلالة وجهالة ، ومن ثم كانت في أشد الاحتياج الى
مصلح ربّانيّ روحاني ، فبعث الله تعالى رسوله محمدا (ص) بشيرا ونذيرا ، وهاديا الى
طريق الحق والرشاد ، فأخرج البشر من حمأة الكفر وظلمة بيداء الجهل ،
وأضاءت شمس هداية
الإسلام على الجامعة البشرية ، وسطع نور هذا الدين السهل السمح الذي حمل للناس دستورا
للمعاش والمعاد ، وقانونا للإرث منّزها عن شوائب الأوهام ، ومبرّأ عما يخالف
الفطرة والبرهان ، خاليا عن الخرافات التي عقدوها للتفريق بين الذكور والإناث ،
وبين الكبار والصغار ، والرجال والنساء والعول والتعصيب ، فطهّر باب الإرث ما
كانوا قد دنّسوه وجاء بقانون بديع أسسه الله تعالى لعباده خاليا ممّا لا يليق بشرع
الإسلام وجعل مناط الإرث منحصرا في ثلاثة أشياء هي : النسب ، والسبب ، والولاء.
والمراد بالنسب
الارتباطات التي تنشأ من ناحية التولّد والتوليد مع شرائطهما نفيا وإثباتا.
والمراد بالثاني
هو ما يوجد من ناحية الأزواج والارتباطات السببيّة.
والمقصود من
الثالث أمور ثلاثة ، هي : ولاء العتق ، وضامن الجريرة ، والإمامة. ولهذه الطبقات
أحكام وشرائط ذكرها هنا يأتي خارجا عما نحن فيه فليطلب في مظانّه المبسوطة من
الكتب الفقهية في أبوابها الخاصة بالمواريث ، رضوان الله على علمائنا الصالحين
الأبرار الذين أتعبوا أنفسهم المخلصة في جمعها وتقريرها وتحريرها ونشرها الى أن
وصلتنا صافية مصفّاة مشروحة شرحا صافيا وافيا. ومثلها لم يكن مدّونا قبلها في بقية
الأديان : فجاء الإسلام الشريف الحنيف يسدّ باب تضييع تلك الأحكام ، ويرفع الإجحاف
من جميع الجهات.
وبالمناسبة لا بدّ
أن نذكر أمورا هامة : أولها أن الكافر لا يرث المسلم ولا يحجب وارثه ، وعلى ذلك
إجماع المسلمين قديما وحديثا. وثانيها أن المسلم يرث الكافر ، وعليه إجماع الشيعة
تبعا لأهل بيت الوحي عليهمالسلام وتبعا لحديثهم وقد تبعهم على ذلك جمع من التابعين كسعيد بن
المسيّب ومسروق ونحوهما ، ومن الصحابة كمعاذ بن جبل وعبد الله بن دغفل ، ومن أكابر
السنة كأحمد والبخاري ومسلم والحاكم وغيرهم ، فقد
صحّحوا كلّهم عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ... فإنّ حجب المسلم بالكافر
عن ميراثه علّو على الإسلام ، وهذا غير جائز. كما أنه يستفاد هذا المعنى من قول
الله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). فحجب الكافر للمسلم في الإرث علو كما لا يخفى على أهل
الدّربة ، وهو غير جائز في شرعنا الكريم وهناك جمع من العامة مائلون الى أن الكافر
لا يرث المسلم ، وإن المسلم لا يرث الكافر ، واستدلّوا على ذلك بما أخرجه أحمد
وأصحاب الصحاح الستة عن أسامة ، والحاكم عن جابر ، عن رسول الله (ص): لا يرث
الكافر المسلم ولا المسلم الكافر. ويدفع هذا الاستدلال الذي احتجّوا به كون الرواية
مخالفة لنفي السبيل في الآية التي ذكرناها ، ولكون الإسلام يزيد ولا ينقص ، وأنه
يعلو ولا يعلى عليه. هذا أولا ، وثانيا إن روايات الجوامع ـ وإن وصفوها بالصّحة ـ لا
تجديهم نفعا ولا تغني شيئا بعد الإجماع من أهل بيت النبوّة الطاهرين الطيّبين
وإجماع أتباعهم قديما وحديثا على خلافها وإن كانوا قد احتجّوا أيضا بما عن ابن
ماجة عن ابن عمر ، عن النبي (ص): لا يتوارث أهل ملّتين ، إذ يدفع هذا الاحتجاج أن
مدلول هذا الحديث نفسه هو أن أهل الملّتين ليس بينهما تبادل بالميراث عادة ، ولا
يرث أهل ملّة من أهل ملّة أخرى شيئا ، في حين أنه لا ينفي أن إحدى الملّتين ـ كالإسلام
ـ يرث من الكافر ولا عكس. وهذا ليس من التوارث المنفيّ في شيء. وكم من فرق بين ما
نحن فيه وبين مورد الرواية.
والثاني من الأمور
المرتبطة بما نحن فيه أن العبد لا يرث مع وجود الوارث الحر ولو كان الحر في
الطبقات البعيدة والعبد في القريبة. نعم إذا انعتق قبل القسمة فيشارك الورثة في
التراث أو انفرد بالميراث ، كما أن الحكم في الكافر إذا أسلم كذلك. وعلى ذلك إجماع
الإمامية وحديثهم.
والثالث أن ولد
الزنا لا يرث ممّن تولّد منه بالزّنا أبا أو أمّا ، ولا ممّن يتقرب إليه بهما.
وهؤلاء لا يرثون منه ، وعليه إجماع الإمامية أيضا ، وذلك أن الشارع قد قطع فوائد
علقة النّسبيّة من الزّنا بقوله صلىاللهعليهوآله ؛
الولد للفراش ،
وللعاهر الحجر ... وعن الترمذي عن عمرو بن العاص عن رسول الله (ص): أيّما رجل عاهر
فجر بحرة أو أمه فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث ، لأن الزنا مانع من الإرث مطلقا.
والرابع أن القاتل
ظلما وعمدا لا يرث من مقتوله ، وعليه إجماع الاماميين وحديثهم عن رسول الله (ص)
وعن الباقر والصادق (ع) وعليه جلّ الجمهور. والمشهور عند الامامية فتوى ورواية أنه
يرث في قتل الخطأ ، لكن الشهرة أنه لا يرث من الدّية. ووافقنا على ذلك مالك
وأصحابه.
ونختم كلامنا هنا
عن الميراث ونحيل على كتب الفقه المبسوطة ، والحمد لله وحده.
١٣ ـ (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ...) أي أن هذه الأحكام المزبورة في اليتامى والوصايا والمواريث
هي حدود شرعها الله لكم ، وسنّها لمصالحكم وهي كالحدود المضروبة الممنوع تعدّيها
واجتيازها والخروج عنها ... (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي يعمل طبق ما امر به سبحانه وبلّغه رسوله للناس ، ويمشي
على الطريق السويّ مما شرع ، ولا يتعدّى ما وضع من أحكام (يُدْخِلْهُ) الله تعالى (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) مرّ تفسيرها في سورة البقرة (وَذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) أي الربح والنجاح والظفر برضى الله ونعيمه لعدم تجاوزه
حدود الله ، ولنجاته من المهالك في اليوم الآخر.
١٤ ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ....) أي يخالف أمر الله وأمر رسوله الذي جاء به عن ربه (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) ويخرج على أحكامه وشرائعه التي أمر بالالتزام بها (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) يؤويه الى النار ويزجّه زجا ويخلّد فيها فلا يموت فيها
فيقضى عليه ، ولا يحيا فيها حياة يحس معها الراحة (وَلَهُ) فيها (عَذابٌ مُهِينٌ) أي عذاب ترافقه إهانة وحقارة واستهزاء ، تزيد كلّها في
عذابه النفسيّ والجسديّ.
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))
١٥ ـ (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ ...) أي أن النساء اللواتي يأتين بفاحشة الزّنى (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ) فراقبوهنّ حتى إذا فعلنا شهد عليهنّ أربعة رجال عدول
بالوقوع فيها وبمباشرتها فعلا ورأي العين ـ وقد شدّد سبحانه في الاستشهاد على هذا
الأمر العظيم ، لأنه منكر كبير من جهة ، ومحافظة على سلامة النسل وطهارة المولد في
الإسلام من جهة ثانية (فَإِنْ شَهِدُوا) إذا شهد هؤلاء الأربعة بحصول الزّنى فعلا وبمرأى منهم (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) فاحبسوا الزانيات في بيوتهنّ لا يفارقنها ولا يخرجن منها
ولا يدخل عليهنّ أحد (حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ)
يمتن على تلك
الحالة من الحبس عن الناس (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً) بموتهن أو موت أزواجهن أو غير ذلك من أبواب الخلاص.
والحاصل أن هذا هو
الحل الذي كانت تجري فيه العقوبة على الزانيات من المسلمات قبل ان ينسخها الحد ـ حدّ
الزّنى ـ وقد كان الله سبحانه شرع هذا الإمساك الصّعب حتى تخافه المرأة وتوجل منه
فيقضى على موبقة الزنى المخزية. أما بعد نزول آية الحد فقد وضح السبيل الذي شرعه
الله ولذا قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قد جعل الله لهنّ سبيلا.
١٦ ـ (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ...) أي اللذان يزنيان ويفعلان هذه الفاحشة منكم ـ رجلا كان أو
امرأة ـ (فَآذُوهُما) وبّخوهما على تلك الفعلة الشنعاء ، واستقبحوا ذلك منهما
واشتموهما عليه وأقيموا النكير ليظهر قبح عملهما وسوء فعلهما. إذ قد يزني الشيخ أو
الشيخة ويكون زناهما أقبح من زنى من لا زوجة له ، وكذلك زنى الرجل الذي عنده امرأة
حسناء ، أو زنى المرأة ذات البعل ، فإنه كله زنى يقتضي الإيذاء والشتم والضرب أيضا
، ولذا شرع الله سبحانه حدّ الضرب. (فَإِنْ تابا) أي إذا أقلعا عن ذلك إقلاعا تاما وتجنّبا هذا الذنب العظيم
(وَأَصْلَحا) ما كان فاسدا من أمورهما واصطلح حالهما فعلا (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي كفّوا وأمسكوا عن أذاهما (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً) منذ كان سبحانه فإنه يتوب ويرحم من أناب اليه وتاب من ذنبه
، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فينبغي لكم أيها العباد أن تحذوا حذو مولاكم وخالقكم
وأن لا تؤذوا من فعل ذنبا وتاب منه توبة نصوحا.
أما لفظة :
واللّذان التي في صدر الآية الكريمة فقد أتت بصيغة المذكّر مع أن المراد بها
المذكّر والمؤنّث ، وقد كان ذلك باعتبار شرافة الذكورة على الأنوثة على ما هو
الغالب بحسب الخلقة.
١٧ ـ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ...) أي أن الله سبحانه يبيّن ويؤكد ويحصر بأنه أخذ على نفسه أن
يقبل التوبة (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أي الذين يقعون في
الإثم ويباشرون الخطيئة ، ويفعلون القبيح ـ الذي هو السوء ـ قولا أو فعلا وهم
يجهلون ـ أي لا يعلمون ـ بالمسؤولية الأخروية ولا بآثار ذلك القبيح الذي نهى
سبحانه عنه ، إما تقصيرا في معرفة الحكم ، أو قصورا ـ إن هؤلاء يحتاجون الى توبة
وإقلاع تامّ عن الذنب ـ وخصوصا في حال التقصير ـ وإن كانت التوبة حسنة في كل حال (ثُمَّ يَتُوبُونَ) ويعلنون توبتهم بينهم وبين أنفسهم (مِنْ قَرِيبٍ) ملازم لزمان اقتراف الذنب. ويمكن حملها على الأقرب فالأقرب
منه لأن الإنسان معرّض للحوادث التي منها الموت الذي لا ينبغي معه تأخير التوبة ،
إذ لو أخّر العبد توبته حتى يدركه الموت يحسب ذلك ذنبا آخر عليه (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي الذين يتوبون من قريب ولا يعودون لمثل ما وقعوا فيه
البتة ، فإن الله يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنبهم (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً) عارفا بما في النوايا وبجميع حوادث الدهر ، حكيما في ما
يعامل عباده به بالعدل.
١٨ ـ (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ...) يعني لا تقبل توبة من يرتكبون الذنوب ويجنون الآثام ،
ويؤخرون توبتهم منها ، ثم يعاودونها ويقعون في مثلها (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي صار مع الموت وجها لوجه ولم يتب قبل ذلك : فلا يقبل
الله توبته الآن لأنه أعلنها عن عجز وكان قد أخّرها عمدا وعند القدرة عليها حتى
إذا جاءه الموت (قالَ إِنِّي تُبْتُ
الْآنَ) لأنه وقع في الفخ ووزر المعصية لا يزال على ظهره ، فلا
تقبل توبته (وَلَا الَّذِينَ
يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) لا تقبل لهم توبة أبدا ، لأن هذين الصّنفين أصرّا على
الذنوب و (أُولئِكَ أَعْتَدْنا
لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي هيأنا لهم العذاب الموجع سلفا وهو معدّ لهم يوم القيامة
جزاء إصرارهم على الكفر والمعاصي.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً (٢١))
١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ....)
يخاطب سبحانه
الرجال من المؤمنين بأنه لا يحل لهم أن يرثوا النساء كرها. وكرها : فيها لغتان ،
بالضم وبالفتح. والكره بالفتح معناه المشقة ، وبالضم القهر ، وكلاهما يناسب
المقام. وقد نسب الى الزجاج قوله : كل ما في القرآن من الكره يجوز فيه الفتح والضم
إلّا : كتب عليكم القتال وهو كره فإنه بالضم .. بيان ذلك أنه كان الرجل في عصر
الجاهلية إذا مات أبوه أو أخوه أو أحد أقاربه ، ألقى ثوبا على رأس زوجة الميت وقال
: أنا أحق بها ، فإن شاء تزوّجها بصداقها الأول ولا يدفع لها مهرا جديدا ، وإن شاء
زوّجها غيره وأخذ صداقها لا يعطيها منه شيئا ، لأنه بإلقاء الثوب عليها يملكها. فقال
تعالى : لا يحلّ لكم أن تأخذوا النساء على سبيل الميراث ، فإن الحرة لا تصير إرثا
لأحد بأية كيفية ، فلا تكرهوهنّ على قبول ذلك فإن فيه إكراها
ومشقّة عليهنّ.
والنهي متوجّه لمن كان يقوم بمثل هذا العمل ، وهو منع عن جعلهنّ مكرهات أي ملزمات
بما هو كره لهن ، وأي كره أشد عليهن ممّا ذكر. (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ
لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) أي لا تمنعوهنّ من النكاح والتزوج ، والعضل : هو التضييق.
فقد كان الرجل يمسك امرأته ولا يطلّقها مع عدم ميله إليها ، إضرارا بها ، ولتفتدي
بما لها من المهر وسائر ما تملكه ، فنهى الله سبحانه عن ذلك (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) أي إلا في حال مجيئهن بعمل قبيح كالنشوز وعدم إطاعة
أزواجهن مثلا ، وكأيّة معصية تقوم بها مع زوجها أو مع غيره بشرط كونها ظاهرة واضحة
ثابتة (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) أي عيشوا معهن بالإنصاف في القول وفي الفعل وأجملوا لهن في
القول واسلكوا معهن سبيل المتعارف والمرسوم بين أهالي البلد والمصر من حيث الأكل
والشرب والملبس والمسكن والمعاشرة العامة بتمام معانيها (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) مالت أنفسكم عنهنّ واشمأزت من بعض أفعالهن (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) فمن المحتمل أن تكرهوا شيئا من الأشياء (وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً
كَثِيراً) ويكون لكم فيه خير كثير مقدّر في علم الله تعالى ، فان
الأمور الغيبيّة لا تنكشف لكم إلا حين حدوثها. فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ،
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. فاصبروا على كرهكم لهن لأنكم لستم مطّلعين على
حقائق الأمور وبواطنها ولا تفارقوهنّ فلربما كنّ يحملن لكم خيرا مؤجلا لا تعرفونه.
٢٠ ـ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ
مَكانَ زَوْجٍ ...) أي إذا رغبتم في مفارقة زوجة وفي نكاح زوجة أخرى. والزوج
إطلاقا الصنف والقرين والجنس. فإذا أردتم استبدال هذه حين تركها ، بغيرها ممن
تنكحون (وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) وأعطيتم مهرا لكل واحدة منهن عند عقد النكاح يساوي قنطارا
من المال ، أي مالا كثيرا (فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً) عند مفارقة أية واحدة منهن ... (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً
مُبِيناً) أي كيف تأخذون ذلك المال من الواحدة بالبهت والإثم؟ فقد
كان الرجل إذا أراد أن
يتزوج امرأة جديدة
بهت امرأته القديمة الّتي تحته بفاحشة ورماها بسوء حتى يلجئها الى أن تفتدي نفسها
بما أعطاها من مهر ليتزوّج به غيرها. فالله سبحانه نهى عن ذلك البهتان أي الكذب ،
وعن ذلك الإثم أي ارتكاب الذنب والرمي بالفاحشة ، ثم قال مستهجنا ومستعظما هذا
العمل :
٢١ ـ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ...) أي بأية حال من الجرأة تأخذون مال المرأة أو مهرها أو حقها
(وَقَدْ أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أي انتهى الإفضاء والتباسط بينكما الى حد الزوجية ، فلم
يعد بينكما مانع من المعاشرة والمباشرة ، ولا حاجز عن النكاح والجماع. ويقال :
أفضى الرجل الى جاريته : أي جامعها. والمفضاة من النساء التي يصير مسلكاها واحدا ،
أي مسلك البول ومسلك الغائط. فكيف تأخذون مهورهن بعد هذا الإفضاء والمكاشفة بينكم (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا ، وهو حق الصحبة والمعاشرة والمضاجعة. أو هو
قول الوليّ : أنكحك على ما في كتاب الله وسنّة رسوله من إمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان أي تطليق ومفارقة مع أداء مهورهنّ وسائر حقوقهن ...
* * *
(وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً
وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ
وَرَبائِبُكُمُ
اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ
بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما
عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))
٢٢ ـ (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ...) وإن علوا فلا يجوز نكاح الأم ولا نكاح الجدة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي ما مضى قبل الإسلام في عصر الجاهلية ، فإن ما كان قد
وقع أثناءها عفا الله عنه للمسلم ، وهذا معنى : الإسلام يجبّ ما قبله. فلا تتزوجوا
أزواج آبائكم (إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً) أي زنى (وَمَقْتاً) بغضا شديدا. وهو هنا بمعنى : ممقوتا بشدة (وَساءَ سَبِيلاً) وهو طريقة سيئة مبغوضة منكرة.
٢٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ..) أي حرّم عليكم نكاح أمّهاتكم فهنّ من محارمكم (وَبَناتُكُمْ) كذلك محرّم عليكم نكاحهن (وَأَخَواتُكُمْ) أيضا (وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ) فانهنّ بمنزلة الأمهات (وَبَناتُ الْأَخِ
وَبَناتُ الْأُخْتِ) اللواتي هنّ كالبنات في التحريم (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ) حليبهن وأنتم صغار رضاعة محرّمة تنبت اللحم وتشد العظم (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) لأنهن كأخواتكم اشتركن معكم في الحليب (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) كأمهاتكم (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أي البنات اللائي تربونهن في حجوركم : أي بيوتكم (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَ) أي نكحتموهن وجامعتموهن (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي لم تجامعوهن (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) فلا مانع من نكاح أولئك الربائب في حال عدم نكاح أمها. فقد
حرّم هؤلاء جميعهنّ (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) أي النساء اللواتي يتزوّجهن أبناؤكم فإنهن محرّمات عليكم (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي لا يجوز التزويج بامرأة ، وبأختها معا (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قبل الإسلام (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) يعفو عمّا سلف قبل نزول هذه الأحكام الشريفة ... وقد كان
الجاهليون يتزوجون الأختين بعقد واحد ، أو بعقدين قبل مضي عدة الأخت الأولى. فلما
جاء الإسلام عفا عمّا سلف وأمر بالتفرقة بين المرء
والمرأة إذا أسلما
، أو أسلم أحدهما قهرا لأن زوجيتّهما تفسد بموجب هذه الأحكام الربانية. وفي ما
ذكرناه اتفاق على الظاهر والله أعلم.
٢٤ ـ (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ ..) كذلك حرّمت عليكم المحصنات ، أي ذوات الأزواج اللاتي هن في
عصمة غيركم. فكل ذات بعل موجود على قيد الحياة لا يجوز نكاحها ، وكذلك من كانت في
عدّة بعل مطلّق أو متوفى. ففي العياشي عن الصادق عليهالسلام : هنّ : ـ أي المحصنات ـ ذوات الأزواج (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من السبايا والكفّار ولهنّ أزواج فإن بيعهنّ ـ كسبايا ـ هو
طلاقهن كما في الكافي عن الصادق عليهالسلام
(كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) كتاب : مصدر جيء به تأكيدا لإثبات الحكم. ومعناه : كتب
الله عليكم تحريم هؤلاء كتابا (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) يعني أحل لكم نكاح غير جميع هؤلاء المحرّمات التي ذكرهنّ
سبحانه في الآيتين الكريمتين : ٢٣ و ٢٤ .. نعم بقي شيء لا بد من قوله ، وهو الجمع
بين المرأة وخالتها أو عمتها بغير إذنها فهو غير جائز أيضا. ولا جناح عليكم (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي أن تطلبوا النساء ببذل أموالكم لهن صداقا مشروعا لهن
بشرط كونهنّ مصونات عفيفات لا يزنين ، ولا أنتم تزنون بهن بل على السنّة والشريعة (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) فقوله تعالى : استمتعتم يعني تمتّعتم به منهن من لذة ..
وقيل إن المراد به هو المتعة بدليل قراءة أبيّ وابن عباس وابن مسعود : فما
استمتعتم به منهنّ الى أجل مسمّى. ولا خلاف في مشروعيّة المتعة عندنا وعند غيرنا
من الصحابة فإنهم عملوا بها حتى عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله بل وفي زمن أبي بكر وعمر الذي منعها ونسب المنع لنفسه
فحرّم ما أحلّ الله تعالى ، وقابل قوله سبحانه بقول نفسه. وقد سئل عبد الله بن عمر
: ما تقول في قول أبيك وما تفعل؟ قال عبد الله : قال أبي : متعتان كانتا على عهد
رسول الله ، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما. فأنا أقول بأول قول أبي وأترك آخره. أي
أنه يعترف بوجود المتعة على زمن رسول الله (ص) ولا يعترف بتحريم أبيه.
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي لا مسئولية تترتب على ما تجدونه وتتفقون عليه بعد أداء
الفريضة ودفع ما اتفقتم عليه (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) مطّلعا على تصرفاتكم ، وقد شرع لكم ما فيه الحكمة.
وليعلم أن
المحرّمات على قسمين : قسم تثبت حرمته بالكتاب وهو ما نصّت عليه الآيات الكريمة ،
وقسم يثبت بما في الروايات عن أهل بيت النبي صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو ما ثبت
بالسنّة. فعن الصادق عليهالسلام أنه سأله أبو حنيفة عن المتعة فقال : عن أي المتعتين تسأل؟
قال : سألتك عن متعة الحج ، فأنبئني عن متعة النساء أحقّ هي؟ فقال (ع): سبحان الله
، أما تقرأ كتاب الله : فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة؟ فقال أبو
حنيفة : والله لكأنّها آية لم أقرأها قط .. وفي الفقيه : ليس منّا من لم يؤمن
بكرّتنا ويستحل متعتنا. والكرّة هي رجعتهم عليهمالسلام الى دار الدنيا مع جماعتهم من شيعتهم في زمن القائم الحجة
المنتظر عجّل الله تعالى فرجه كما ثبت عنهم.
٢٥ ـ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ ..) أي الذي يواجه الفقر ولا يقدر أن يبذل المال لنكاح
المحصنات لفقدان الطّول أي المال واستطاعة دفعه (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) أي من الشابّات المملوكات المؤمنات يعني ينكح بالحلال من
الإماء. وفي الكافي عنه عليهالسلام أنه سئل عن الرجل يتزوج الأمة؟ قال : لا ، إلّا أن يضطرّ
إليها. وعنه عليهالسلام : يتزوج الحرة على المملوكة ، ولا يتزوج المملوكة على
الحرة ، ونكاح الأمة على الحرة باطل. وإذا اجتمعت الحرة والمملوكة عندك فللحرة
يومان ، وللأمة يوم. ولا يصلح نكاح الأمة إلّا بإذن مولاها .. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) أي ربما كان إيمان بعض الإماء أقوى وأزيد وأتقن من إيمان
الحرائر ، فذلك شيء لا نعلمه والله وحده أعلم بإيمان عباده لأنه علّام الغيوب ،
والايمان أمر مخفيّ
لا يعلمه إلّا هو (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أن أبوكم جميعا آدم عليهالسلام وأمكم حوّاء عليهاالسلام ، وإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ، فلا فرق بين من
تزوج بالحرة وبين من اكتفى بالأمة ، فلا تستنكفوا من نكاح الإماء فإنهن منكم وأنتم
منهن (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي بإذن مالكهنّ. وإن لم يكن لها مالك بأن مات المالك ولا
وارث له فبإذن الحاكم الشرعي لأنه المالك المال لا مالك له ، وإن لم يكن فبإذن
جماعة من المؤمنين الذين يرون صلاح الأمة في تزويجها قطعا (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأنهنّ مستأجرات وقيمتهن بمنزلة مهورهن ، وكما أن مهور الحرائر
من النساء هو حقهنّ فكذلك قيمتهنّ حقّهن فلا بدّ وأن تعطوهن الحق فإن اختيارها
بيدها ، ولذا أمر سبحانه وتعالى بإعطائهن مهورهن ، أي أجورهن بيدهن (بِالْمَعْرُوفِ) أي بلا نقيصة ولا مماطلة ، وهذا هو المعروف بين من يكون
عليه دين لمؤمن وهكذا يكنّ (مُحْصَناتٍ) مربيّات على العفاف وذوات حصانة (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) غير فاعلات زنى ولا معلنات فجور (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) أي غير مرتبطات بأحباب وخلّان يزنون بهن سرّا (فَإِذا أُحْصِنَ) أي ارتبطن بحصانة هذا النكاح المذكور (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) أي إذا اقترفن زنى في هذه الحال (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أي فعليهن نصف حدّ الزنى الذي على الحرائر ، فإن الأمة
عليها نصف حد الحرة متزوجة كانت أو عزباء ، أللهم إلّا حد الرّجم فإن الأمة لا
ترجم لأن هذا الحد لا ينصّف (ذلِكَ) أي نكاح الإماء الذي فصّلنا الحديث عنه (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) يعني لمن خاف الوقوع في الزنى. والعنت هو انكسار العظم بعد
الجبر ، وقد أستعير للمشقّة ولا مشقة كالإثم حين الوقوع فيه (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء وتمتنعوا عنه للحوق العار بكم مثلا ، أو
بالولد إذا حملن منكم ، أو لعدم صلاحهنّ في البيوت ، أو لعدم الرغبة بهن بعد
بلوغهن الثلاثين أو ما فوقها (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر الذنب ، ويقبل التوبة ، ويمنّ بالإحسان ، ويرحم عباده
..
* * *
(يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)(٢٨)
٢٦ ـ (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ..) أي أنه يريد أن يوضح لكم أحكام دينكم ومصالحكم (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) ويدلكم ويرشدكم إلى طرق الهدى التي سار عليها من قبلكم من
السابقين من أهل الحق الذين امتثلوا لأمر الله ومشوا وفق شرائعه (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) فإنه تعالى يقبل التوبة وقد فتح بابها للعباد برحمته ،
ويعفو عن الكثير من أفعال العباد. والتوبة هنا هي من الله ، وهي إرشاد عباده لما
يمنعهم عن المعاصي بما أحلّ لهم من المناكح الميسورة التي ذكرها لهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بما يرشدنا إليه ، وحكيم تتجلّى حكمته في كل ما شرعه
لنا في المنع عن المعاصي. وفي بعض التفاسير : إنه حكيم فيما دبّر.
٢٧ ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ ..) كرّر هذه الإرادة الكريمة سبحانه مرة ثانية للتأكيد بأنه
يحب أن تشملنا رحمته ومغفرته ، وذكرها ثانية للمقابلة بإرادة مخالفي الحق ، لأنه
هو يريد لنا ذلك (وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) ويسيرون مع أهوائهم النفسية المنحطّة (أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) أي أن تنحرفوا عن طريق الحق وتشاركوهم في شهواتهم لتقترفوا
ما يقترفون وليشيع الفساد في الأرض وهم يحبون الفساد.
٢٨ ـ (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
..) أي أنه بمقتضى لطفه بعباده المؤمنين خاصة ، يريد أن يخفف
عنكم ـ أيها المؤمنون ـ مشاكل النكاح
والزواج
والاستمتاع بالنساء ، ولذا رخّص لكم في هذا المجال بنكاح المتعة وبنكاح الإماء حين
تقعد بكم الحال عن التمكن من الزواج حسبما ترغبون (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) ولذا فإنه لا يصبر عن ممارسة شهواته ولا يتحمّل مشاقّ
الطاعات ، فشرع له سبحانه ما يلائم ضعفه في حال وجود الضعف ، كرما منه وتفضلا ..
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ
كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
(٣٣))
٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ..) أي لا
تأكلوها بالوجوه
التي حرّمها الله تعالى من قبيل السرقة والرّبا والقمار ومطلق الظلم سواء كان من
النفس أو بواسطة الغير (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) أي سوى في مجال التجارة الصادرة عن رضا المتبايعين فانها
غير منهيّ عنها بوجه من الوجوه .. (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) أي لا تلقوا بأنفسكم في مواطن هلاكها في الدنيا والآخرة ،
ولا تفعلوا ما يوجب سخط الله في مواطن هلاكها في الدنيا والآخرة ، ولا تفعلوا ما
يوجب سخط الله في مجال المعاملات المالية وغيرها. ولا يجوز قتل النفس في حال من
الأحوال إلا في ما شرع من الدفاع والجهاد المأذون. ففي القمي كان الرجل إذا خرج مع
رسول الله صلىاللهعليهوآله في الغزوة يحمل على العدوّ من غير أن يأذن له رسول الله (ص)
فربما قتله العدو ، فنهى الله سبحانه أن يقتل الإنسان نفسه بلا أمره (ص) (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي عطوفا على الناس لفرط محبّته لعباده الصالحين كما تشهد
به هذه الآية المباركة وغيرها.
٣٠ ـ (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ..) أي أن من يعمل هذه المنهيّات عنها من الله تعالى (عُدْواناً) اعتداء منه على سنن الله وإفراطا في التجاوزات غير
المشروعية (وَظُلْماً) لنفسه ولغيره (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ
ناراً) أي سوف نحرقه بنار أعددناها للمعتدين والظالمين (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) سهلا غير عسير عليه سبحانه ولو بمقدار جناح بعوضة أن يزجّ
المعتدي والظالم في النار.
٣١ ـ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ ..) أي إذا حدتم عن طريق المعصية واجتنبتم الذنوب الكبيرة التي
نهاكم سبحانه عنها (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) نعفو عن صغائر ذنوبكم ونمحوها من صحائفكم ونتجاوز عنها
لطفا ورحمة وكرما (وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) نرفعكم في عالم الآخرة إلى مقام سام وندخلكم الجنة التي
فيها دار الكرامة والغبطة. فمن مفاد هذه الآية الشريفة تلك البشارة العظيمة
بألطافه التي تنال عباده المطيعين الذين بشّرهم بالعفو عن الصغائر إن هم اجتنبوا
كبائر المعاصي. وفي العياشي أن الباقر عليهالسلام سئل عن الكبائر فقال : كلها أوعد عليها
النار. وفي رواية
: الكبائر سبع : قتل النفس المحترمة ، وعقوق الوالدين ، وأكل الرّبا ، والتعرّب
بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف.
٣٢ ـ (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ..) نقتصر في بيان معناه على ما قاله الصادق عليهالسلام : لا يقل أحدكم : ليت ما أعطي فلان من المال ، والنعمة ،
والمرأة الحسناء ، كان لي ، فإن ذلك يكون حسدا. ولكن يجوز أن يقول : أللهم أعطني
مثله .. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) أي لكل من الرجال والنساء حظّه وفضل ما ربحه بجهده وتعبه
وعمله الشخصي ، ولا يجوز لهذا أن يقول تعبك لي ، ولا لهذه أن تدّعي تعب الآخر
وتستثمر جهده (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) أي من عطائه ومنّه وخزائنه التي لا تنفد (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيماً) فهو عارف ما يستحق كل واحد ، وهو تعالى يعطيه ما يلزمه
بلطفه ، بل فوق ما يريد العبد حتى لا يكون لديه موجب لطغيانه وضلاله ، ولا يحجب
عنه عطاء إلّا لمصلحة تخفى عليه ويعلمها الله سبحانه وتعالى.
٣٣ ـ (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ..) أي لكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة هم أولى بميراثه
من غيرهم ، يرثون مما ترك الوالدان ـ الأب والأم ـ والأقربون علوا أو نزلوا مما
شرع الله سبحانه وتعالى. قال الصادق عليهالسلام : عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث ، ولم يعن أولياء
النعمة. فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجرّه إليها .. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) الأيمان : جمع يمين ، بمعنى اليد وبمعنى القسم. وهي هنا
تعني حلفاءكم الذين عاهدتموهم على النّصرة والإرث (فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ) أي أعطوهم حظّهم وسهمهم. وهذا تأكيد للجملة المتقدمة. وقيل
كان الرجل يعاقد الرجل يقول له : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك
، وإرثي إرثك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. وقد نسخ هذا بقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ.) وعند أصحابنا أنه باق عند عدم الوارث النّسبي
والسّببي ، وهو
المسمّى بضمان الجريرة (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي مطّلعا على ما تفعلونه في هذا الشأن وفي غيره. وفي هذه
الشريفة تهديد على منع نصيبهم في مورده ، كما أنها حكم عام لما تنص عليه.
* * *
(الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما
حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً
خَبِيراً)(٣٥)
٣٤ ـ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ
...) القيمومة هي ولاية الأمر والتسلط عليهن في سياسة أمورهن
وتدبير شؤونهن ، كما أن الولاة يقومون على سياسات الرعايا وتدابير أمورهم. وليعلم
أن ذلك علل بأمرين :
أحدهما أمر
موهوبيّ من الله تعالى ، وهو أنه سبحانه فضّل الرجال عليهنّ بأمور كثيرة ـ من كمال
العقل ، وحسن التدبير ، وزيادة القوة في الأعمال والطاعات ومعالجة أمور الحياة ،
ولذا خصوا بالولاية والإمامة وإقامة الشعائر والجهاد وقبول الشهادة الكاملة وكلها
أمور موهوبية.
والثاني هو ما
يقوم بإزاء منح الله تعالى من أمور عرفية أيضا كالعمل والكسب وتعمير البلاد وتحصيل
المعاش وحفظ الأسر وتحمّل أعبائها ، وكالشغل في الأرض والتجارة وغيرها من الأمور
الاكتسابية التي تتعدد بتعدد مشاكل الحياة داخل البيت وخارجه ... فقد جعل تعالى
هذه القوامة للرجال على النساء (بِما فَضَّلَ اللهُ
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) مما ذكرنا بعضه (وَبِما أَنْفَقُوا
مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي بما يدفعونه من مهور ونفقات زوجية ، ونفقات أخرى على
الأسرة بكاملها. وفي العلل عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنه سئل : ما فضل الرجال على النساء؟ فقال (ص) : كفضل
الماء على الأرض. فبالماء تحيا الأرض وبالرجال تحيا النساء. ولو لا الرجال ما خلقت
النساء ، ثم تلا الآية ، ثم قال : ألا ترى إلى النساء كيف يحضنّ ولا يمكنهنّ
العبادة من القذارة ، والرجال لا يصيبهم شيء من الطّمث! ... (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) في القمي عن الباقر عليهالسلام يقول : مطيعات (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي حين تغيبّ رجالهنّ يحفظن أنفسهن عما نهيت عنه ، ويحفظن
أموال رجالهن من التلف. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة
مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها
وماله بما حفظ الله ، (وَاللَّاتِي
تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي النساء اللاتي تخافون عصيانهن وترفّعهن عن مطاوعتكم (فَعِظُوهُنَ) فوجّهوا لهن الموعظة بالقول الليّن والإقناع (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي ابتعدوا عنهنّ في المراقد ولا تدخلونهن تحت اللّحف. ولا
تجامعوهن. أو على الأقل ـ ولوّ هن ظهوركم ولا تقبلوا بوجوهكم عليهن عند النوم.
فهذه كلها من مصاديق قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ) بغية إصلاح شأنهن (وَاضْرِبُوهُنَ) إذا لم ينفع الهجر وحده ضربا غير شديد وغير مدم ، أي لا
يقطع لحما ولا يكسر عظما. وفي المجمع أنه الضرب بالسّواك ، أي بتلك العودة الصغيرة
التي يستاك بها الإنسان وينظّف أسنانه وهي من شجر الأراك. وهذا تأكيد على عدم شدة
الضرب (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) وكنّ حسب رغبتكم ووفق مصلحة الزوجية (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) فلا توبّخوهن
ولا تؤذوهن لأن
التائب من ذنبه كمن لا ذنب له (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه لأنه تعالى أقدر عليكم من قدرتكم على نسائكم ، وهو
مع علو شأنه وعظيم قدرته تعصونه ويقبل توبتكم فاقبلوا توبتهن ولا تقفوا منهن موقف
بغي.
٣٥ ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ...) أي إذا خفتم خلافا يقع بينهما ، وأصله إن حذرتم شقاقا ـ أي
نزاعا يجرّ إلى صعوبة حياتهما ـ وقد أضيف إلى الظرف اتّساعا ، والضمير يعود
للزوجين المدلول عليهما بذكر الرجال والنساء ... في حالة خوف الخلاف (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) يعني أرسلوا للصلح بينهما رجلين عدلين صالحين لإجراء
الحكومة فيما يشجر بينهما من خلاف. وقد اختار سبحانه حكما من أهلها لأن الأقارب
يكونون أعرف بحالها وبما يصلحها والمشهور أن هذا يكون على الأغلب ، فلو كان
الحكمان من الأجانب الواجدين للشروط المذكورة صحّ ذلك. والأظهر أن بعثهما يكون
للتحكيم لا للتوكيل ، فلا يشترط رضاهما إلّا في التفريق ، وقيل لا يشترط مطلقا ، ف
(إِنْ يُرِيدا
إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) والضمير في قوله تعالى : أرادا ، راجع إلى الحكمين ،
والتوفيق من الله يكون بتوجيه الأسباب نحو المطلوب من الخير للزوجين. فبالنتيجة
إنه سبحانه يعيّن الحكمين على قصدهما الإصلاح بأن يلقيا المحبة بين الزوجين فيتم
ذلك بحسن نيّتهما وإرادتهما له وبلطف منه تعالى وبحسن توفيقه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بكل شيء ، يعلم كيفية رفع الشقاق التي يباشرها الحكمان ،
وخبير بإيقاع الوفاق الذي يجريانه ، وعارف بما في الظواهر والبواطن.
* * *
(وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ
وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ
وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا
جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا
يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))
٣٦ ـ (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً ...) أمر سبحانه بعبادته لأن العبادة منحصرة بذاته عزوجل ، لا بشيء غيره من الأشياء في السماوات ولا في الأرض ، إذ
ليس فيهما كائن قابل لأن يشاركه في الألوهية ، بل كلّ شيء مخلوق له ومفتقر إليه (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي اعبدوا الله تعالى عبادة ، وأحسنوا للوالدين إحسانا
وترفقوا بهما في المعاملة (وَبِذِي الْقُرْبى) أي أصحاب القرابة فأحسنوا إليهم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) لا تنسوهم من
إحسانكم والرأفة
بهم (وَالْجارِ ذِي
الْقُرْبى) ومثل أولئك جميعا قريبك الذي قرب جواره فينبغي معاملته
بالإحسان أيضا (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي الذي يجاور في المسكن ويكون بعيدا في النسب فلتكن
معاملته كمن ذكرنا في صدر الآية الكريمة. وعن الباقر عليهالسلام : حدّ الجوار أربعون دارا ، من كل جانب. وقد قال الصادق عليهالسلام : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : كلّ أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه
وعن شماله. وعنه عليهالسلام : حسن الجوار يزيد في الرزق. وفي رواية : يعمر الديار
ويزيد في الأعمار. وفي رواية : حسن الجوار صبرك على الأذى. فأحسنوا الجوار مع من
يشمله تعريف الجوار (وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) يعني الذي يجاورك من جهة ، ويصاحبك في الحضر والسفر ،
كالزوجة والرفيق الذي غالبا ما يسافر معك ، وككل من يصاحبك في السراء والضراء (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر الذي يسرق ماله أو يضيع منه ، أو يضل عن الطريق ،
أو ينزل ضيفا على الإنسان وأمثال ذلك ، فإنكم مطالبون بالإحسان إليهم جميعا (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يعني : أرقاؤكم من العبيد والإماء والخدم الذين تجب
معاملتهم بالحسنى (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) والمختال هو المتكبّر الذي يتعالى ويأنف من أقاربه وأصحابه
وجميع من ذكرهم سبحانه من أصحاب الحاجة إلى حسن المعاملة ، والذي يفتخر عليهم ويرى
علوّ شأنه عنهم ، فإن الله تعالى لا يحبه لتكبّره وتفاخره على عباده.
٣٧ ـ (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ ...) أي يبخلون بما أنعم الله عليهم من الأموال والأولاد والجاه
بين الناس ونحو ذلك ، ثم لا يرضون بما أعطى الله لعباده بل يأمرون الأغنياء بالبخل
والشّح كما يبخلون هم ويشحّون. وفي الفقيه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : ليس البخيل من أدّى الزكاة المفروضة من ماله وأعطى
البائنة في قومه ، إنما البخيل حق البخيل من لم يؤدّ الزكاة المفروضة من ماله ،
ولم يعط البائنة في قومه وهو يبذّر فيما سوى ذلك ... وقد فرّقوا بين الإسراف
والتبذير بأن التبذير هو الإنفاق فيما لا ينبغي ، والإسراف هو الصرف زيادة على ما
ينبغي. وأما
البائنة ـ البائنة
ـ فقد سمّيت بذلك لأنها تبان عن المال ، أي تبعد عنه. وعن الصادق عليهالسلام : البخيل يبخل بما في يده ، والشحيح يبخل بما في أيدي
الناس ويضنّ ويحرص على ما في يديه حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلّا تمنّى أن
يكون له بالحل والحرام ولا يقنع بما رزقه الله. وفي حديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : خصلتان لا يجتمعان في المسلم : البخل وسوء الخلق
... هذا ، وإن الذين يبخلون ، ثم يأمرون الناس بالبخل (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ) ويسترون نعمه من الغنى والعلم والأولاد وجميع ما يحتاج
إليه وينبغي أن يظهر ويشكر ، فهؤلاء يعتبرون كافرين بأنعم الله وأفضاله ومنكرين
لها ومانعين لأن تسير في طريقها الذي يشرعه الله (وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) هيأنا ـ سلفا ـ للكافرين عذابا تكون لهم في المهانة
والسوء. وقد وضع الظاهر هنا موضع الضمير إشعارا بأن من كان هذا شأنه فهو كافر بنعم
الله وله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل بها والشح والإخفاء.
٣٨ ـ (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ
رِئاءَ النَّاسِ ...) عطف سبحانه على أولئك البخلاء الأشحّاء ، هؤلاء الذين
ينفقون أموالهم فعلا ، ولكنهم يفعلون ذلك رياء وسمعة ، وحبّا بالشهرة. فهم يشاركون
البخلاء في استحقاق الذم وعدم الأجر لاشتراكهما في صرف المال على ما لا ينبغي. فإن
البخيل يصرف ماله على نفسه قليلا قليلا وبشح ولا يعطي منه الفقراء شيئا من حقوقهم
التي شرعها الله تعالى لهم ، وهؤلاء يصرفون أموالهم رياء وسمعة فتقع أموالهم في
غير مواردها ، فإنهم ـ جميعهم ـ لا يعترفون بما أوجب الله عليهم من حق (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) بدليل أنهم لا يسمعون كلامه ولا ينفّذون أوامره (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لا يؤمنون أيضا بيوم البعث والحساب ولا يدينون بدين الحق
ولا يسيرون على الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى لهم بوسوسة تقع في آذانهم من
الشيطان الرجيم (وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) بل ويل لمن كان قرينه ومرافقه وجليسه وأنيسه إبليس! ...
ذاك يوسوس في صدور الناس لعنه الله فهو أسوأ قرين للإنسان.
٣٩ ـ (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) أي أيّ ضرر يتوجه إليهم ويقع عليهم إذا صدّقوا بالله
واعتنقوا عقيدة الإسلام له والتسليم لأوامره ، وصدّقوا ـ كذلك ـ بالبعث والحساب في
اليوم الآخر يوم القيامة؟ ... والآية الشريفة توبيخ لهؤلاء الجهلة على جهلهم
بموارد نفعهم ، وفيها تنبيه إلى أن الدعوة لأمر لا ضرر فيه ينبغي أن تجاب من قبل
المدعوّ ولو احتياطا لأمره. فكيف إذا تضمّنت المنافع وأطاع هؤلاء أمر الله (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) وأدّوا حقوق أموالهم لمستحقّيها (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) عالما حق العلم ، يجازيهم وفق أعمالهم. ولا يخفى ما في
الآية من وعيد خفيّ إلى جانب التوبيخ.
٤٠ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ ...) أي أنه سبحانه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب بمقدار
زنة الذّرة ، أي الجزء الذي لا يتجزأ من الهباء والأشياء ، فإنه تعالى غنيّ عن
الظلم ، ولعلمه بقبحه فيستحيل عليه حكمة لا في القدرة (وَإِنْ تَكُ) أنّث الضمير لتأنيث الخبر أو لإضافة المثقال إلى مؤنث.
فإنها إن تكن الذرة (حَسَنَةً يُضاعِفْها) وقرئ يضعّفها ، أي يزيدها بمقدار المثل أو أكثر (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) يعطي في الآخرة عطاء كثيرا لفاعل الحسنة.
٤١ ـ (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ...) أي فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة إذا أحضرنا شاهدا من
كل أمّة يشهد عليها بأفعالها (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (عَلى هؤُلاءِ
شَهِيداً) تشهد على هؤلاء الذين يسمعون الدعوة ولا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ، أو تشهد على أمّتك أو على جميع الخلائق. ففي الكافي عن الصادق عليهالسلام : نزلت في أمة محمد صلىاللهعليهوآله خاصة. في كل قرن منهم إمام شاهد عليهم ، ومحمد صلىاللهعليهوآله شاهد علينا. وتمام الكلام قد مضى في سورة البقرة عند قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...)
٤٢ ـ (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ ...) يومئذ ، يعني : يوم القيامة ، والحساب ، ذلك اليوم المذهل.
فعن الصادق عن جدّه أمير
المؤمنين عليهماالسلام ، أنه قال في خطبة يصف فيها أهوال يوم القيامة : ختم على
الأفواه فلا تكلّم ، وتكلّمت الأيدي ، وشهدت الأرجل ، ونطقت الجلود بما عملوا. ففي
ذلك اليوم الرهيب يتمنّى الذين كفروا بالله ولم يطيعوا رسوله في ما جاء به (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي يتمنّون لو لم يبعثوا وكانوا ترابا ، هم والأرض سواء ،
حتى لا يقعوا في مثل هذا اليوم الحق (وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) قال القمي : يتمنّى الذين غصبوا حقّ أمير المؤمنين عليهالسلام أن لو كانت الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على
غصبه ، إذا لكانوا نجوا من هذا الموقف الرهيب.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))
٤٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) أي لا تقوموا إلى الصلاة حال كونكم في سكر من شرب الخمر أو
أي شيء من المسكرات التي تذهب بالعقل وتفقد الوعي. فلا تقفوا في الصلاة وأنتم في
هذه الحال (حَتَّى تَعْلَمُوا ما
تَقُولُونَ) لتنتبهوا إلى ما تخاطبون به البارئ عزوجل ، ولتعوا ما تقرأونه وما تؤدونه من أفعال الصلاة ، وفي
الكافي عن الباقر عليهالسلام : لا تقم إلى الصلاة متكاسلا ومتثاقلا فإنهما من خلال
النفاق ، أي من صفاته وحدوده وقد نهى الله تعالى عن القيام
إلى الصلاة وأنتم
سكارى ، وقال عليهالسلام : سكر النوم. وهذا البيان يفيد التعميم فإن المؤمن لا يشرب
المسكر ولا يسكر. ولو كان ذلك لما خاطبهم سبحانه بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) لا تقربوا الصلاة على تلك الحال (وَلا جُنُباً) والجنب من أمنى ويستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع ، فلا
يجوز للجنب أن يقرب الصلاة (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) استثناء من عامة الأحوال. أي لا تدخلوا المساجد في حال
الجنابة إلّا اجتيازا من باب إلى باب وهو مقيد بما عدا المسجدين. وعن الصادق عليهالسلام : الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين .. فلا
تفعلوا ذلك (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) من الجنابة أو الحيض (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) تشكون من علة وتخافون على أنفسكم من استعمال الماء للوضوء
أو الغسل (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في حال سفر مع فقدان الماء وعدم المانع (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغائِطِ) كناية عن الحدث ، فإن الغائط هو ـ بالحقيقة ـ المكان
المنخفض من الأرض ، كانوا يقصدونه للحدث يتغوّطون فيه أي يتوارون عن العيون في
الأمكنة المنخفضة التي تغيب فيها أشخاصهم عن الرائين. فإذا كنتم كذلك (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أي جامعتموهنّ. وهي كناية لطيفة عن الجماع قال الصادق عليهالسلام : هو الجماع لكنّ الله جلّ وعزّ ستّير يحب السّتر ولم يسمّ
كما تسمّون. فإذا فعلتم ذلك (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) لتغتسلوا من الجنابة إما لفقده أو لعدم تمكّنكم من
استعماله. وهذا الفرد لعدم الاستفادة منه نتيجة ، بمنزلة العدم ، فلذا دخل في قوله
تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي باشروا التيمّم بالتراب النظيف الطاهر ، والكيفية : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ) بالأثر الباقي من ذلك التراب بعد ضرب أيديكم عليه ونفضها
مما علق بها (إِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا غَفُوراً) فهو سبحانه متجاوز عن التقصير وعاف عن الذنوب بعد التوبة.
وقد بيّن سبحانه حكم التيمم في هذه الآية الشريفة عند تعذّر استعمال الماء ، ودخول
وقت الصلاة ، فأمر بضرب اليدين مفتوحتين في الأرض الطاهرة وامسحوا بهما الوجه من
منبت شعر الرأس إلى أول شعر الحاجبين طولا ، وإلى الصّدغين عرضا. وواضح أن هذا
المقدار من الطول
والعرض هو الجبين
الذي لا بدّ من مسحه أثناء التيمم بدأ بوضع الكفّين مفتوحتين في وسط الجبهة وذهابا
بالمسح نحو اليمين حتى الصّدغ الأيمن ، وعودة بالمسح نحو الشمال حتى الصدغ الأيسر
، ثم رجوعا الى وسط الجبهة مع إنزال المسح حتى أرنبة الأنف ، ثم يمسح ظاهر اليد
اليمنى بباطن اليد اليسرى ، وظاهر اليد اليسرى بباطن اليمنى فيكون تمام التيمم.
وفي رواية تكون ضربتان على الصعيد ، واحدة للوجه ، وأخرى لليدين اللتين حدودهما
ظاهرهما من الزند الى طرف الأصابع. أما اشتراط علوق شيء على اليدين مما يتيمم عليه
فليس في الآيات منه أثر وإن كان بعض الفقهاء قد نقل عن بعض شرطيّته ، وعن بعض عدمه
وهذا هو الأقوى ، وإن كان اشتراطه هو الأحوط. وأما النفض أيضا فلم تعرض له
الروايات في الباب ، نعم في رواية عن الصادق عليهالسلام في كيفية التيمم هكذا ، ثم رفعهما ـ أي يديه ـ ففضهما. وهذا
محمول إما على الأفضلية لأن غالب التيمم على التراب الذي يعلق باليدين ، وإمّا أنه
من باب الوظيفة.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ
هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا
وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي
الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦))
٤٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ...) ألا تنظر يا محمد الى هؤلاء الكفرة برسالتك من اليهود
الذين أعطوا حظاّ قليلا من علم التوراة؟ فقد قيل أنها نزلت في أحبار اليهود الذين
كانوا يعرفون شيئا ولكنهم (يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ) أي يستبدلون الكفر بالإيمان بعد حصوله لهم بالمعجزات
الدالّة على صدق محمد (ص) وأنه مبشر به في توراتهم على ما هو واضح عند أحبارهم
ورهبانهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ
تَضِلُّوا السَّبِيلَ) ويحبون أن تكونوا في صفّهم مع الكفار وأن تتيهوا عن طريق
الحق وتضيعوا عنه مثلما ضاعوا.
٤٥ ـ (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ...) أي : هو سبحانه أعرف بهم منكم ، ولذا عرّفكم بهم ، وأخبركم
بعداوتهم وكذبهم فاحذروهم لأنهم لا يريدون بكم خيرا ، فلا تتولّوهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) لأموركم يرشدكم فيها جميعا الى ما هو خير ، ويجنّبكم مزالق
الكفر والضلال (وَكَفى بِاللهِ
نَصِيراً) أي أنه يغنيكم عن كل أحد دونه ، فاكتفوا به عن غيره وهو
ينصركم عليهم. وقد زيدت الباء في أول لفظ الجلالة للتأكيد ، أي كفى به وحده عزوجل.
٤٦ ـ (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ...) أي إن اليهود المصرّين على العناد والكفر يحرّفون ما جاء
في التوراة ، ويصرفونه عن وجهه الصحيح ، ويميلونه عن موضعه للإضلال والتضليل. فقد
بدّلوا بعض صفات النبيّ (ص) الواردة عندهم إذ وضعوا محل : أسمر ، أدم جمع إدام ،
وعبثوا بما في أيديهم من علاماته وكان ديدنهم التحريف والتبديل (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) كفرا وعنادا وإصرارا على ما هم عليه ، ثم يقولون بوقاحة
العدوّ المناصب لله ورسوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ) أي اصغ لكلامنا غير مسموع منك قولك ، ولا مجاب لك فيما
دعوتنا اليه. وليس هذا بغريب عليهم من عناصر الشر عنهم مصادر الفساد في الأرض ، بل
قالوا له (ص) : (وَراعِنا لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ) فقد قال المفسّرون : إن اليهود قالوا للنبيّ (ص) راعنا ،
وهم لا يريدون المعنى الظاهر من هذه الكلمة ، أي ما كانوا يطلبون مراقبتهم
والإصغاء إليهم ، وإنما أرادوا بها
كلمة كان اليهود
يتسابّون بها في لغتهم أخزاهم الله وهي من الرعونة والحمق ، وهذا هو الّليّ الذي
كانوا يستعملونه بألسنتهم قاتلهم الله على كفرهم وعنادهم للحق ، فإنهم كانوا
يسمعون المسلمين يقولون للنبيّ (ص) : راعنا يا رسول الله وانتظر حتى نفهم كلامك
ونستوعبه ، فاستعملوا اللفظة على ما تعني لغتهم من الشتم استهزاء بدعوة الرسول (ص)
(وَطَعْناً فِي
الدِّينِ) أي إنكارا له وتهويشا عليه (وَلَوْ أَنَّهُمْ
قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي أنه كان من الخير لهم ـ لو عقلوا ـ أن يسمعوا ويطيعوا ،
ويستمهلوا الرسول حتى يفهموا كلامه ويعقلوه ويهتدوا بهداه (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي أبعدهم من رحمته وأخزاهم بسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) وهو تعالى أعلم بهم من أنفسهم فإنه لا يصدق بك يا محمّد
منهم إلّا قليل كابن سلام وأصحابه ، أو الّا إيمانا قليلا ضعيفا لا إخلاص فيه ولا
قوة.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ
نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧)
إِنَّ
اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠))
٤٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ..) خطاب لليهود والنصارى
فيه إنذار ليوم
شديد بأن يصدّقوا بما انزل سبحانه : أي القرآن (مُصَدِّقاً لِما
مَعَكُمْ) حال كونه يعترف بما سبقه من كتب كالتوراة والإنجيل ، وقد
أنذرهم بأن تصديقكم به مقبول (مِنْ قَبْلِ) اليوم الموعود الذي ينتهي به قبول الايمان والتصديق ، وهو (أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها
عَلى أَدْبارِها) أي تنزل آية العذاب منّا على الكافرين والمنكرين ، حين
نردّ وجوها الى أقفيتها فيمشي أصحابها القهقرى إذ تصير وجوههم وعيونهم الى أدبارهم
أي خلفهم ، فتصير مقدّمتهم مؤخرة. وذلك يوم يحل الخسف بجيش السفيانيّ الذي يتوجّه
لحرب صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه ولهدم مكة والكعبة المقدسة فيها. وعن الباقر عليهالسلام أن المعنى نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها في ضلالتها
بحيث لا تفلح أبدا. وهو معنى عام لا ريب فيه فإنه تعالى يطبع على قلوب المتكبّرين
والمتجبرّين ويرين عليها حين يرغبون عن الحق الى غيره ، ولكنه في هذه الشريفة
يتحدث عن آية سماوية لا يقبل الله تعالى بعدها توبة ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل بحيث ننزل هذه النقمة بهم (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) نخزيهم ونقصيهم عن رحمتنا (كَما لَعَنَّا
أَصْحابَ السَّبْتِ) مثلما أخزينا الذين خانوا الله بيوم السبت من اليهود
فمسخناهم قردة وقصتهم مشهورة في كتب التفاسير (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) أي أن إرادته تقع لا محالة إن لم تؤمنوا ، وايمانكم هو
توبتكم حقا وحقيقة وإقلاعكم عمّا أنتم عليه.
٤٨ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ ..) أي أنه تعالى غفار للذنوب ولكن الشّرك به لا يغفره مطلقا
وقد حكم على المشرك به بالخلود في عذاب النار ، لأن أثر هذا الذنب لا ينمحي ولا
يشمله العفو إلّا أن يتوب المشرك ويرجع الى الإسلام والتسليم لله تعالى بالوحدانية
والربوبية فتجبّ توبته ما قبلها من شرك (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ) أي ما سوى الشرّك من المعاصي وصغار الذنوب فإنه يغفرها بلا
توبة (لِمَنْ يَشاءُ) للذين يريد لهم المغفرة والتجاوز تفضلا منه وكرما لأن
مقتضى هذه الحالة هو الوقوف بين الخوف والرجاء فلا إغراء فيه بعدم التوبة ، وتقييد
المعتزلة إياه بالتوبة لا حجة له بل الحجة
عليهم ، لأنه بناء
على قولهم لا يبقى فرق بين الشرك وغيره حيث إن الشرك يغفر بالتوبة : وغيره لو كان
غفرانه يحتاج الى التوبة لكان الأمر سيّان وهذا خلاف ظاهر الشريفة والروايات
وأقوال العلماء الكبار (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) افترى : أي ارتكب فرية واجترح إثما : ذنبا عظيما : كبيرا
بالافتراء عليه سبحانه وجعل الشريك له .. والافتراء يقال للفعل والقول كالاختلاف.
٤٩ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ ..) وهم أهل الكتاب الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ولن
يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى. بل هذا الإلفات لنظر النبيّ (ص) ونظر غيره
، يعمّ كل من كان يزكّي نفسه ويمدحها ، وهو هنا ـ سبحانه ـ يستهزئ بمزكّي أنفسهم (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهّر وينزّه من الرذائل من يحبه ويريده ويكون أهلا
للتزكية (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) والفتيل هو القشر الذي يكون داخل النّواة أو بين شقيّها ،
وهو تافه يمثّل به في حقارة الشيء ، وقد قصد هنا أنه تعالى لا يظلم أحدا ولا يبخسه
شيئا من حقه واستحقاقه ولو كان عمله حقيرا تافها كذلك الفتيل ..
٥٠ ـ (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ ..) وهذا استهزاء آخر بالمشركين من أهل الكتاب ، يلفت الله
تعالى نبيّه (ص) الى افترائهم الكذب عليه بزعمهم الشرك وبزعمهم التزكية لأنفسهم من
عندهم زورا وبهتانا (وَكَفى بِهِ) أي بكذبهم هذا وافترائهم ، يكفيهم هذا وحده (إِثْماً مُبِيناً) ذنبا كبيرا ظاهرا واضحا يتجلّى في نسبتهم اليه جلّ وعلا ما
هو بلا مدرك وبلا مستند ، ولذا ذمّهم على قولهم وسمّاه افتراء.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ
كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً
حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ
ظَلِيلاً (٥٧))
٥١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ..) كرّر سبحانه ليبيّن أنه لا فائدة من أن يكون الإنسان يملك
بعض المعرفة من الكتاب السماوي ـ وقصد هنا التوراة والإنجيل ، أو أقل قليل من
القرآن الكريم أيضا ـ وعنده أقل قسط من العلم ، ما زال أمثال هؤلاء عندهم حظّ من
المعرفة وهم مع ذلك (يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أي بالأصنام. وقيل إن الجبت والطاغوت صنمان كانا يعبدان في
عصر الجاهلية ، ويكنّى بهما عن بعض أهل الجاهلية وبعض أهل الإسلام من الذين أظهروا
التصديق وأبطنوا التكذيب والنفاق. وقيل هما كل من عبد غير الله. والعابد لغير الله
كافر بلا شك. وقد نزلت هذه الشريفة في (حي وكعب) حين
خرجا في جمع من
اليهود من المدينة الى مكة ليحالفوا قريشا على محاربة النبيّ (ص) فقالوا : أنتم
أقرب الى النبيّ منكم إلينا لأنهم جيرانه في المدينة من جهة ، ولأنهم أهل دين
وكتاب من جهة ثانية. فلا نأمن من مكركم بنا ، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ،
ففعلوا. قاتلهم الله على ذلك المكر والعداء ، فإنهم مع ذلك (يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) فإن قريشا سألتهم ، وقالت : أنتم أصحاب كتاب وأهل علم فهل
نحن على حقّ في عبادة الأصنام ، أم محمد على حق في دعوته الى الإله الواحد ..
فقالوا ـ أخزاهم الله ـ : بل أنتم على حقّ في عبادة ما كان يعبد آباؤكم ومحمد غير
صادق في دعوته ، وصفاته ليست مذكورة في كتبنا. فهؤلاء إشارة لكفره من قريش. وقد
قال اليهود ذلك ليؤلّبوا قريشا على حرب النبيّ (ص) لأن اليهود من أهل المدينة ،
ومحمد (ص) موجود فيها وهو يهدد وجودهم وبقاءهم ، فكذبوا على قريش وعلى أنفسهم ، بل
كذبوا على الله تعالى ليربحوا مساعدة قريش في حرب النبيّ (ص) فشهدوا لقريش ، بأنها
أهدى سبيلا من المؤمنين بمحمد (ص) وأرشد طريقة.
٥٢ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ..) أولئك : إشارة لليهود الذين جاؤوا يحزّبون قريشا والأعراب
ويؤلّبونهم على حرب النبي (ص) والخلاص منه ليصفو لهم جوّ المدينة ، فقد أخزاهم
الله (وَمَنْ يَلْعَنِ
اللهُ) يخزيه ويطرده من رحمته (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
نَصِيراً) فإنه لا معين له يدفع عنه عذاب الله في الآخرة لأنه مبعد
عن الرحمة والمغفرة.
٥٣ ـ (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ..) كلمة : أم ، منقطعة ، والهمزة فيها للإنكار. والمعنى أنه
ليس لهم نصيب ولا حظ من ملك الدنيا. وعلى فرض أنه كان لهم نصيب منه فإنهم حريصون
على الدنيا وعلى المال وعلى الملك (فَإِذاً) وحالة كونهم كذلك (لا يُؤْتُونَ النَّاسَ
نَقِيراً) أي لا يعطونهم شيئا زهيدا مهما بلغ في الحقارة. والنّقير
هو الخيط الحقير الذي يكون ملتصقا بظهر النواة وهو يرمى لتفاهته. وقد شبّه سبحانه
بخلهم بمثل
هذا النّقير
الحقير لفرط صغره وحقارة قيمته ، حتى ولو كان لهم ملك الدنيا.
٥٤ ـ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ..) أم هنا بمعنى : بل. فهم يحسدون الرسول وأهل بيته صلوات
الله عليهم على ما تفضّل سبحانه به عليهم من الفضل والكرامة في الدنيا والآخرة.
لأنهم هم الناس المحسودون والمقصودون بهذه الآية الشريفة ، وقد قال الصادق عليهالسلام : نحن المحسودون. وقال الباقر عليهالسلام : والله نحن الناس في هذه الآية ونحن المحسودون .. وما زال
هؤلاء الكفار على هذه الحال ، فإننا نخبرهم سلفا (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ) أي أعطينا أسلاف محمد صلّى الله عليه وآله ، ومحمدا ، وأهل
بيته ـ فهم آل إبراهيم ـ أعطيناهم (الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة والعلم والولاية (وَآتَيْناهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً) من افتراض طاعتهم على جميع الناس ، أو ملك يوسف وداود
وسليمان ، والملك الذي يعطيه لآل محمد (ص) في آخر الزمان بحيث تدين الدنيا من
أطرافها لحكومة العدل الالهي التي يقيمها الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه. فالملك
في آل إبراهيم ليس أمرا حادثا جديدا بل أمر محدث في الأنبياء وأولادهم قبل ذلك ،
وسيكون لخاتم الأوصياء عليهالسلام في آخر الزمان إن شاء الله تعالى ..
٥٥ ـ (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ..) أي من اليهود وغيرهم من صدّق برسول الله (ص) كابن سلام
وأتباعه وغيرهم ، ومن هؤلاء وهؤلاء طوائف صدّت أي منعت غيرها عن الايمان به بعد أن
أعرضت هي عنه كمنافقي اليهود ممّن ذكرنا وككفار قريش (وَكَفى بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً) يعني يكفي لهؤلاء ما في جهنم من سعير وشدة لهب وحرارة
محرقة ، أعددناها لهم ، واوقدناها وجعلناها تضطرم بانتظارهم حين يفارقون الدنيا
فنعذّبهم في سعيرها المضطرم.
٥٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ..) يؤكد سبحانه وتعالى بأن الذين كفروا بجميع ما قدّم لهم من
الآيات ، سوف يطرحهم في
النار تشوي وجوههم
وأجسادهم بلهبها المحرق ، ولكنهم لن يموتوا فيها بل (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ) أي احترقت وتهرّأت (بَدَّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيْرَها) نخلفها مكانها وتعود لما كانت عليه لتعاود الاحتراق والنضج
في النار (لِيَذُوقُوا
الْعَذابَ) ليتطعّموا صعوبة العذاب من جديد بتجديد جلودهم ، لأن
جلودهم إذا احترقت لا تعود تحسّ مسّ العذاب فيجدّها سبحانه لهم لمزيد تذوّق العذاب
ومقاساة شدته (إِنَّ اللهَ كانَ
عَزِيزاً حَكِيماً) أي هو تعالى مقتدر عزيز الجانب لا تنفعه إطاعة من أطاعه
ولا تضره معصية من عصاه ، وأعماله على موازين الحكمة.
٥٧ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ..) ذكرهم عزّ وعلا ليظهر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، فقال
مستأنفا الكلام : والمصدّقون بالله وبما جاء به رسول الله ، والعاملون بما أمر
والمنتهون عما نهى عنه (سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) مرّ شرحها وبيان ما أعده الله تعالى فيها من نعيم لعباده
الصالحين الذين يظلّون (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) يعيشون ويتقلّبون في ملذّاتها الى أبد الأبد (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) لهم نساء مطهّرات من كل دنس وقذارة من البول أو الغائط أو
الدم (وَنُدْخِلُهُمْ
ظِلًّا ظَلِيلاً) أي نجعلهم ظل رحمتنا الظلّيل ، الذي هو مشتق من الظل
للتأكيد كليل أليل.
* * *
(إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))
٥٨ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ..) لا يخفى أن هذا الأمر يشمل كل أمانة لكل مكلّف ، حتى
الأمانات التي ائتمنها الله تعالى من
أوامره ونواهيه ،
أو أمانات العباد مع بعضهم البعض. ومن ذلك ما روي عن أهل البيت عليهمالسلام : أنه أمر لكل واحد من الأئمة أن يعلم الأمر الى الإمام
الذي من بعده. وقيل أمر النبيّ (ص) برد مفتاح الكعبة أعزّها الله الى عثمان بن
طلحة حين قبضه منه يوم فتح مكة ، فأرجعه اليه قبل أن يغادر مكة الى المدينة ..
فالله عزّ اسمه
يأمركم بردّ كل أمانة الى صاحبها (وَإِذا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) وهذا أمر موجه للأمراء والحكّام والقضاة ليحكموا بالقسط
بين الناس وليعاملوهم بالسوية (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ) كلمة : ما ، هنا موصوفة منصوبة بنعم وقد أدغمت فيها ،
والمخصوص بالمدح محذوف ، وتقدير الكلام : نعم شيئا يعظكم الله تعالى به ، وهو
العدل وأداء الأمانة (إِنَّ اللهَ كانَ
سَمِيعاً) لما تقولون (بَصِيراً) بأفعالكم وأعمالكم ، فكونوا عاملين بما وعظكم به وأرشدكم
اليه ..
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً (٥٩))
٥٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ ..) في هذا الخطاب للمؤمنين أمرهم سبحانه بإطاعته أمرا وجوبيا
يترتب عليه الالتزام بأوامره ونواهيه.
وبعد إطاعته تعالى
قال : (وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) محمدا (ص) نبيّكم ومبلّغ رسالة ربكم ، فقرن طاعته عزوجل بطاعة رسوله (وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) ثم قرن طاعته وطاعة رسوله أيضا بطاعة أولياء أمور الناس
الذين هم آل محمد أي الأئمة من أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين. وبهذا لم يوجب
إطاعة أحد على الإطلاق إلّا إطاعته وإطاعة رسوله وإطاعة أئمة
الهدى سلام الله
عليهم واللعنة الدائمة على أعدائهم (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ) أي إذا اختلفتم في شيء من أمور الدين (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) يعني أرجعوا فيه الى الكتاب والسنّة بسؤال من جعل القيّم
عليهما ، وهو رسول الله صلىاللهعليهوآله في حياته ، ثم عترته وأوصياؤه الحافظون لشريعته من بعده ،
فقد قال (ص): إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن
يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. والكتاب والسنّة لا يرفعان نزاعا بدون قيّم ، فكيف
وكل فرقة من فرق المسلمين الثلاث والسبعين تحتج بهما لمذهبها؟ .. فإذا كنتم تبحثون
عن الحق حين الاختلاف في شيء فارجعوا الى ما يحكم به كتاب ربكم وسنّة نبيكم كما
يفسّرهما أولوا الأمر فيكم (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا. ومن أبى ذلك فلا إيمان له (ذلِكَ) يعني : ذلك الرّد والرجوع الى الله ورسوله فيما وضعا بين
أيديكم (خَيْرٌ) من التنازع والاختلاف والقول بالرأي وبحسب الشهوات (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي وأجمل تفصيلا وتفسيرا لما يشتبه عليكم.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١)
فَكَيْفَ
إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ
إِحْساناً
وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ
فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣))
٦٠ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا ...) ألا تنظر ـ يا محمد ـ الى الذين ادّعوا أنهم صدّقوك وآمنوا
(بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) من التوراة ، ومع ذلك إذا شجر بينكم خلاف معهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ) أي أن يجعلوه حكما في النّزاع. والمقصود بالطاغوت هنا كعب
بن الأشرف ، فإنه قد اختلف مسلمون منافقون مع يهودي فدعا اليهوديّ المسلمين الى
محمد (ص) ليحاكمهم عنده ، فقال المنافقون بل ندعوك الى كعب وهم يعلمون أن كعبا
ممّن استزلّهم الشيطان وأنه طاغوت جبّار لا ينبغي التحاكم اليه ككل طاغوت لا يحكم
بالحق ـ فعلوا ذلك مع أنهم عرفوا كفره ونفاقه وحربه للمسلمين (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) أمرهم النبيّ بعدم تصديقه لأنه مناصب للدعوة الاسلامية فهم
يريدون أن يتحاكموا اليه نفاقا في دينهم وميلا عن تحكيم محمد (ص) (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالاً بَعِيداً) وينحرف بهم عن الحق لأنه عرف فيهم النفاق فعرف أنهم من
أتباعه.
٦١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما
أَنْزَلَ اللهُ ...) يتابع سبحانه الحديث عما في قلوب هؤلاء المنافقين الذين
إذا دعوا الى المحاكمة وفق ما أنزل الله من القرآن والأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) الذي يعلم أحكام الله ويطبّقها ويحكم فيما بين الناس (رَأَيْتَ) يا محمد هؤلاء (الْمُنافِقِينَ) الذين أظهروا الإيمان بك وأبطنوا النفاق (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) يعرضون عنك ويحملون غيرهم على الإعراض ، ويحولون بين الناس
وبينك ...
٦٢ ـ (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
...) أي : فكيف تكون حالهم ، وماذا يصنعون إذا حلّت بهم نكبة
وعرضت لهم عقوبة (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي
بسبب ما يفعلونه
من النفاق والصدّ عنك (ثُمَّ جاؤُكَ) أتوا إليك بعد وقوعهم في المصيبة (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) يقسمون الإيمان بالله ـ كذبا وزورا (إِنْ أَرَدْنا) أننا ما كنّا نريد ونطلب (إِلَّا إِحْساناً
وَتَوْفِيقاً) وما رغبنا في المحاكمة عند غيرك إلّا طلبا للتوفيق فيما
بيننا وتخفيفا عنك نحسن إليك به ، وإبعادا لك عما يثير الضغائن والأحقاد ... فنحن
نطلعك يا محمد على ما لا ينبغي أن يخفى عليك من نفاقهم ولقلقة ألسنتهم وأعذارهم
الواهية الكاذبة.
٦٣ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما
فِي قُلُوبِهِمْ ...) أولئك : يشير بها سبحانه الى المنافقين الذين تكلّم عنهم
في الآيتين السابقتين ، فهو تعالى يعرف ما في قلوبهم من النفاق والعناد لك ولدعوتك
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أشح بوجهك عنهم ، ولا تعاقبهم على فعلهم لمصلحة استبقائهم
في صف دعوتك ، فلربما حملوا ذلك على خوفك منهم (وَعِظْهُمْ) فإن الموعظة تدل على عدم الخوف من تصرفاتهم ومنهم ، بل هي
دليل على السّلطة عليهم باعتبار أن الواعظ أكمل من الموعوظ كما لا يخفى (وَقُلْ لَهُمْ) تلك الموعظة (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حال كون المجلس خاليا من الأغيار ، بحيث يكونون وحدهم
إذ النّصح يكون سرّا فيكون أشدّ تأثيرا من القول جهرا ، وربما أنتج القول جهرا
خلاف المقصود ، والسرّ ينتج (قَوْلاً بَلِيغاً) أي قولا قويا في بلاغته ، يبلغ قلوبهم ويؤثر فيهم ،
كالموعظة البالغة ، أو كتخويفهم بالقتل والاستئصال أن ظهر منهم نفاق فيما بعد ،
وكغير ذلك.
* * *
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ
حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ
ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ
بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً
لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨))
٦٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
لِيُطاعَ ..) هذه الآية الشريفة إشارة الى أن من يتخلّف عن حكم رسول
الله صلىاللهعليهوآله فهو محكوم بالكفر والارتداد ، وهي تنبيه لأولئك المنافقين
الذين يريدون أن يتحاكموا في خلافاتهم الى غيره (ص) إذ ما بعث الله تعالى نبيّا
إلّا ليكون مطاعا (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمر محتوم مقضيّ مجاز منه تبارك وتعالى ... (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) فلو أن هؤلاء القوم لما ظلموا أنفسهم بالنفاق (جاؤُكَ) مذعنين قد تابوا (فَاسْتَغْفَرُوا
اللهَ) مما بدر منهم وأتوا مخلصين ، لكانت ظهرت توبتهم للرسول (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) أيضا بعد أن
اعتذروا اليه فنصب نفسه شفيعا لهم ـ وهو شفيع الأمة صلوات الله وسلامه عليه ـ لو
فعلوا ذلك (لَوَجَدُوا اللهَ
تَوَّاباً رَحِيماً) أي متفضلا عليهم بقبول التوبة ، وبالرحمة ...
٦٥ ـ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ ...) الفاء لتفريع الكلام على سابقه وربطه و : لا ، زائدة
لتأكيد القسم أي : فو ربّك لا يصيرون مؤمنين بمعنى الإيمان الصحيح (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) يتقاضون إليك ويرضون بكل ما تحكم به (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي في اختلافاتهم ، وشجر : أي اختلط واختلف ، ومنه الشجر
لتداخل أغصانه بعضها ببعض. فيكونون مؤمنين
حقيقيين حين تقضي
أنت في خلافاتهم (ثُمَّ لا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) أي لا يحصل لهم ضيق مما حكمت به ولا تبرّم (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وينقادوا لك انقيادا راضيا بظاهرهم وباطنهم.
٦٦ ـ (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...) أي لو حكمنا عليهم بقتل أنفسهم إمّا بالعرض للجهاد ، أو
كما أوجبنا على بني إسرائيل من قتل أنفسهم قصاصا. فلو قضينا عليهم بذلك (أَوِ) خيّرناهم أن (اخْرُجُوا مِنْ
دِيارِكُمْ) الى التيه والفلوات والهجرة كبني إسرائيل أيضا (ما فَعَلُوهُ) ولا عمله ونفّذه (إِلَّا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ) باستثناء بعضهم اليسير من المؤمنين الطائعين. وقليل : بدل
من الواو في : فعلوه ، يعني : فعله قليل (وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) أي لو أنهم عملوا بتوجيهاتك لهم ونصائحك (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكانت إطاعتك خيرا لهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) أي أقوى قرارا وثباتا لإيمانهم بحيث يصير إيمانا لا يتزعزع
وتديّنا صحيحا متينا. وقيل أشد ثباتا في ولاية عليّ عليهالسلام فإن الآية نزلت فيه.
٦٧ ـ ٦٨ ـ (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا
أَجْراً عَظِيماً ...) أي في حالة امتثال أوامرك واتّباع مواعظك كنا نعطيهم من
عندنا أجرا كثيرا لا يتصوّرون عظمته ، (وَلَهَدَيْناهُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً) ولتولّينا إرشادهم الى الطريق السويّ الذي لا يضل من
اتّبعه وسلكه.
* * *
(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى
بِاللهِ عَلِيماً(٧٠))
٦٩ ـ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ...) أي من يعمل بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله ولا يعصي لهما
أمرا ولا يخالف لهما طريقة (فَأُولئِكَ) المطيعون لهما ، نحشرهم يوم القيامة (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) أعطاهم من نعمه وفضله ومنّ عليهم (مِنَ النَّبِيِّينَ) أي الرّسل الذين بعثهم بالنبوّة (وَالصِّدِّيقِينَ) المصدّقين لرسلنا ، الصادقين في القول والعمل (وَ) مع (الشُّهَداءِ) الذين بذلوا أنفسهم ومهجهم في سبيل الله ، وَفي جوار (الصَّالِحِينَ) الذين صلح ظاهرهم وباطنهم. ـ نجعل المطيعين يوم القيامة في
الجنة مع هؤلاء الرفاق الكرماء (وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً) ونعم الرفاق هم في الآخرة ... والرفيق كالصديق لفظا ومعنى
، يستوي فيه الواحد والجمع. وهو هنا تمييز.
٧٠ ـ (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ ...) ذلك : إشارة الى ما ينعم به تعالى على المطيعين يوم الدين
من مرافقة الرّسل والصدّيقين والشهداء. فهو فضل منه سبحانه يعرّفنا عنه في الآية
الكريمة (وَكَفى بِاللهِ) يكفي بالله عزوجل (عَلِيماً) عارفا حق المعرفة بهذا الأمر وبكل أمر.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ
فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ
مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣))
٧١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا
حِذْرَكُمْ ..) خطاب منه تعالى خاصّ
بالمؤمنين بدعوته
يدعوهم فيه لأخذ الحذر والكون في المرابطة الدائمة لجهاد الأعداء ودوام الاحتراز
من العدوّ (فَانْفِرُوا) أي هبّوا الى الحرب وأعلنوا نفير الجهاد (ثُباتٍ) أي ثابتين ، وهي من ثبت واستقرّ في المكان ، يعني كونوا
ثابتين في مواقف الجهاد ومتحرّكين في النّفر حين تسيرون لمختلف النواحي والجهات في
سبيل الله والدين ، فافعلوا ذلك ، كأفراد يثبتون للجهاد والصعاب (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي توجّهوا اليه جماعات ... قال الصادق عليهالسلام لأبي بصير : يا أبا محمد ، لقد ذكركم الله في كتابه ، ثم
تلا الآيات وقال : قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : نحن الصّدّيقون والشهداء ، وأنتم الصالحون. فاتّسموا
بالصلاح كما سمّاكم الله .. وفي العيون عن النبيّ (ص): لكل أمّة صدّيق ، وصدّيق
هذه الأمة وفاروقها علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.
٧٢ ـ (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ
...) يؤكد سبحانه بإنّ واللّام المكرّرة أن بين المسلمين
الموجودين جماعة معروفة من قبلنا يبطّئون : يتثاقلون ويصرفون همم غيرهم ويثبّطونهم
عن النفر للجهاد لأنهم منافقون (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) أي حلّت بكم كارثة كهزيمة أو قتل (قالَ) المنافق المبطئ : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيَ) وشملتني رحمته فمنّ عليّ بالبقاء (إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي حاضرا في الحرب فيصيبني ما أصابهم من الهزيمة أو القتل.
وفي القمي والعياشي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : لو قال هذه الكلمة أهل الشرق والغرب لكانوا بها
خارجين عن الايمان .. والعياذ بالله من ذلك ..
٧٣ ـ (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ
...) أي في حال نزول فضل ونعمة عليكم من الله تبارك وتعالى كأن
يمنّ عليكم بفتح ونصر وغنيمة (لَيَقُولَنَ) ذلك المنافق المعاند يقول مؤكدا : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) يقول بتحسّر من باب حديث النفس : كأنها لم تكن بيني وبين
هؤلاء محبة وصداقة (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
مَعَهُمْ) فلو رافقتهم في جهادهم وشاركتهم في نصرهم وغنيمتهم (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) أي أربح ربحا كثيرا.
(فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ
يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ
فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))
٧٤ ـ (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ
الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ ...) يأمر سبحانه في هذه الآية بالقتال كلّ من يبتغي أن يشتري
آخرته وما فيها من نعم جزيلة ، بالدنيا وما فيها من أوصاب وأتعاب ، ويعد المجاهدين
بالحسنى على كل حال : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) ويكون شهيدا يفوز بكرامة الشهادة (أَوْ يَغْلِبْ) أي ينتصر ، فهو يظفر بالنّصر وأجر الجهاد ، ونحن نكرمه على
كل حال : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) نعطيه في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا كثيرا.
٧٥ ـ (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ ...) أي : وأيّ عذر لكم ـ في هذه الحال من كرامة الشهداء
والمجاهدين ـ (لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) تجاهدون في سبيل مرضاته ، أي في طاعته سبحانه وإعزاز دينه
وإعلاء كلمته (وَ) في سبيل (الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) أي لحمايتهم والذبّ عنهم ، وصونهم دون الأسر ، ومنعهم من
العدوّ الذي لا يرحمهم إذا ظفر بهم. وسبيل الله تعالى يعمّ كل خير ، وحفظ الديار
والذمار
والثقل من أعظم
الخير ، فكيف وهؤلاء المسلمون المستضعفون حال كونهم (يَقُولُونَ) بصدق وإيمان : (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي نجّنا بالخروج من مكة (الظَّالِمِ أَهْلُها) التي ذقنا مرارة ظلم أهلها من كفرة قريش ، فخلّصنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي من يتولى شؤوننا ويدبّر أمورنا. وقد قالها المسلمون
الذين بقوا في مكة المكرّمة بعد هجرة النبيّ (ص) منها وذاقوا مرارة صدّ قريش لهم
عن إيمانهم ، وعذاب الكفار لهم ، وضيق الحال بهم ، وتمنّوا الخروج الى المدينة
المنوّرة ليجعل الله تعالى لهم وليا ، وهو النبيّ (ص) فدعوا بذلك وقالوا : (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) أي ناصرا على هؤلاء الكفرة المردة ..
٧٦ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ ...) فالمؤمنون يقاتلون الكفرة في السبيل التي توصلهم الى مرضاة
الله عزوجل لأنه يكره الكفر وأهله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي في السبيل التي توصلهم الى إرضاء الشيطان وكل صاحب له
من الطواغيت والجبابرة (فَقاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِياءَ
الشَّيْطانِ) أتباعه وأشياعه ، ف (إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي أن مكره ضعيف واه فتشجعوا على قتالهم. وفي الآية تنبيه
الى ضعف كيد الشيطان وأوليائه لأنهم لا يحاربون بعقيدة ، وفيها ترغيب للمؤمنين
بالجهاد وإلفات نظر الى أنهم هم أولياء الله جلّ وعلا وهو ناصرهم.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا
قَلِيلٌ
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما
لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا
مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ
ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢))
٧٧ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ...) ألا تنظر يا محمد إلى من قيل لهم امتنعوا عن القتال
واقعدوا عن الجهاد (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) اشتغلوا بها وبإقامة شعائرها (وَآتُوا الزَّكاةَ) ادفعوها إلى مستحقّيها واعملوا بما أمرتم به ، وذلك حين
كانوا بمكة وكانوا يتمنّون أن يؤذن لهم بالقتال. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : كفّوا أيديكم يعني : كفّوا ألسنتكم ، قال : أما ترضون أن
تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتكفّون ألسنتكم وتدخلون الجنة؟ وعن الباقر عليهالسلام : أنتم والله أهل هذه الآية ..
فقد قيل لهم ذلك «ولما
كتب عليهم القتال» فرض ووجب (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) جماعة من هؤلاء المأمورين (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) يخافون الكفار ويخشون أن يقتلوهم فيموتون (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي تماما كخوفهم من الله حين ينزل عليهم بأسه أو يقضي
بموتهم (أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً) أو : هنا بمعنى بل ، يعني أنهم يخافون أن يقتلهم الكفار
أكثر من خوفهم من غضب الله وسخطه مع علمهم بأنه يميتهم على كل حال (وَقالُوا) معترضين ـ فيما بينهم وبين أنفسهم ـ على فرض القتال عليهم
: (رَبَّنا) يا إلهنا : (لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ) لماذا أوجبت علينا الجهاد والحرب ثم يلتفتون ويصرّحون
بقولهم : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا) يا رسول الله (إِلى أَجَلٍ) وقت مؤخّر ولو (قَرِيبٍ) غير بعيد! يقولون ذلك استمهالا وتهرّبا من حرب الكفار وخوف
الموت ف (قَلَ) يا محمد : (مَتاعُ الدُّنْيا
قَلِيلٌ) أي أن ما فيها من نعم قليل بالنسبة لنعم الآخرة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) خير من الدنيا وما فيها لمن التزم تقوى الله وتجنّب معاصيه
، فلا تخافوا أن يفوتكم نعيم ، أو أن تحرموا مضاعفة أجر (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ولا يصيبكم ظلم قليل حتى لو بلغ مثل الفتيل الذي هو القشر
الرقيق التافه الذي يكون في بطن النواة ، ولا ينقص من ثواب تقواكم شيء أبدا.
٧٨ ـ (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ ...) يعني أن الموت يلحق بكم ويصل إليكم أينما تكونون ، حتى (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) أي في حصون ومنازل (مُشَيَّدَةٍ) قوية محكمة الصّنع والبناء ، بل في أعلى درجات الإحكام ...
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) أي نعمة وبركة ونماء يستحسنونه (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعدّونها تفضّلا من الله ومنّة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي ما يسوؤهم كالجدب والقحط والغلاء وسوء الحال (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يعني يطّيرون بك ويقولون هذه بسببك ومن جراء وقوفك في وجه
قريش وسائر الكفار والمشركين (قُلْ) يا محمد : (كُلٌ) هذه وهذه وما سواهما (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تعالى فهو يقبض ويبسط ويمسك ويعطي حسب إرادته ووفق مصلحة
عباده (فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ) ما بال هؤلاء الجماعة ـ وفي
الجملة استهزاء
بهم وازدراء لشأنهم فإنهم كأنهم يتصرفون في الكائنات على حسب أهوائهم ـ فما لهم في
هذا الزعم وفي غيره (لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) كأنهم لا يفهمون قولا ولا استفادوا من خبر من أخبار ما
يجري في الحياة وما يحدث في إطار نشر الدعوة إلى الدين! ...
٧٩ ـ (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
....) أي إن كل ما يصل إليك من نعم وفضل فهو منّة من الله عليك
وهدية منه تعالى لك يا محمد ، بمعنى إياك أعني واسمعي يا جارة ، لأنه عزّ اسمه
يخاطب محمدا صلىاللهعليهوآله ويقصد الجميع (وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ) يعني ما لحق بك ممّا يسؤك (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي من عندك وقد لا ندفعها عنك لأنك جلبتها بيدك. فقل للناس
ذلك ليفقهوه ويمعنوا النظر فيه ، ولا تدار أهواءهم كثيرا ولا تذهب نفسك عليهم
حسرات فإننا في مقام الشهادة لرسالتك التي تحملها منّا إلى الناس نقول : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بعثناك نبيا مفترض الطاعة ولا ينبغي لأحد من المخلوقات أن
يخرج عن طاعتنا وطاعتك لأنك رسولنا لكل أحد ، ونحن نشهد لك بذلك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك وعلى كل شيء ، وليكن معلوما لدى سائر الناس أنّ
:
٨٠ ـ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ ...) لأن إطاعته تبارك وتعالى مقرونة بإطاعة رسوله ، وعلى كل
عاقل أن يفهم ذلك ويعيه لأننا ما أرسلنا رسولا إلّا ليطاع بإذن الله (وَمَنْ تَوَلَّى) أي انصرف بوجهه عن هذا القول ، وصعّر خدّه ، ومال عنه (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) فلم نبعثك إليهم لتحفظ أعمالهم وتحاسبهم على الكبيرة
والصغيرة ،
فاترك حسابهم
علينا فإن لدينا من يحصي عليهم القليل والكثير ، وإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
٨١ ـ (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ...) يعني إذا أمرتهم بأمر يظهرون الطاعة ، وهم في كل حال
يتظاهرون بالامتثال أمامك (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ
عِنْدِكَ) أي خرجوا ولم يكونوا تحت نظرك ومراقبتك (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ
الَّذِي
تَقُولُ) أي دبرّوا بياتا وتبيينا ـ في الليل ، وخفية عنك ـ خلاف ما
يقولون لك من قبول أمرك وضمان طاعتهم لك (وَاللهُ يَكْتُبُ ما
يُبَيِّتُونَ) فهو سبحانه يسجّل في صحائفهم ما يدبّرون من الخلاف ، من
أجل مجازاتهم يوم القيامة على ما يضمرون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) انصرف بوجهك عنهم واقطع النظر (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) اجعله وكيلا عنك في مراقبتهم ومحاسبتهم ، وفي كل أمورك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) عنك ، يكفيك شرّهم وشرّ ما يبّيتون من الخلاف عليك.
٨٢ ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ...) أما يتأملون في معاني القرآن وما فيه من مواعظ وتهديد ووعد
ووعيد وحكم وأمثال وتشريع ، ويتبصّرون بما يحوي من كشف لسرائرهم الخبيثة ، ويرون
ما اشتمل عليه من إعجاز وبلاغة وقوة تذهب بأحلامهم وتأخذ بألبابهم وتقوى على
فصاحتهم وسجاجتهم ، ويعتبرون بأنه الكتاب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه ، فيذعنون لما فيه من حق وصدق؟ ... (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) أي من تصنيفك أو تأليف غيرك من البشر (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) يظهر في تناقض المعاني واختلاف المواضيع وتباين الأحكام ،
ويبدو في اختلال النظم وفي خطأ سرد الأخبار ، أو في الخروج عن حدود الفصاحة
والبلاغة وغير ذلك من الأمور التي يعلمها الله تبارك وتعالى ولا يعلمها غيره.
* * *
(وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ لا
تُكَلَّفُ
إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦))
٨٣ ـ (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ ...) يعني أن هؤلاء الذين نتكلم لك عن دخائلهم إذا بلغهم أمر من
شأن الإسلام ونبيّ الله (ص) وتحرّكات جيش المسلمين ، ومن سائر ما يتعلق بمخاوف
المسلمين من جيرانهم الكفرة ، ومن تدابيرهم التي يريدون اتّخاذها لتوفير الأمن لهم
(أَذاعُوا بِهِ) نشروه وأعلنوه على الملأ ولم يكتموه ، فتكون إذاعتهم له
مفسدة تضر بما يفعل المسلمون لسوء تعليلهم له وقبح تصرّفهم في عدم الكتمان (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) أي لو رجعوا إليه لأخذ رأيه (ص) فيما يجب أن يتّخذ (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أي أئمتهم وأصحاب الرأي والحكم فيهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) أي لعرف أولو الرأي والأمر كيف يستخرجون وجه الصواب وأحسن
التدبير وأجمل التعليل لما يدور في أفكارهم ، وذلك بفضل تجاربهم وخبرتهم ، وبفضل
ما منحهم الله تعالى من سداد الرأي (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) يعني لو لم تكن رحمة الله وفضله العميم شاملين لكم
ومتعهدين لحالكم ولما أنتم عليه أيها المؤمنون ، إذا (لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطانَ) في الكفر وفي كل ما يوسوس به لكم (إِلَّا قَلِيلاً) سوى القليلين من أهل البصائر النافذة وممّن عصم الله
تعالى.
٨٤ ـ (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...) يا محمد جاهد الكفار والمشركين ولو كنت وحدك وتخلّى عنك
الكل وتركوك ، لأنك (لا تُكَلَّفُ إِلَّا
نَفْسَكَ) أي
لست بمسؤول إلّا
عن نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد ، فإن الله تعالى ناصرك لا كثرة الجنود ولا
قلّتهم ، وبعبارة أخرى ، لا تكلّف إلا فعل نفسك وإنه لا ضرر عليك في فعل غيرك ،
فلا تهتمّ بتخلّف المنافقين عن الجهاد فإن ضررهم يعود عليهم. وفي الكافي عن الصادق
عليهالسلام : أن الله كلّف رسول الله صلىاللهعليهوآله ما لم يكلّف أحدا من خلقه ، كلّفه أن يخرج على الناس كلّهم
وحده بنفسه إن لم يجد فئة تقاتل معه ، ولم يكلّف هذا أحدا من خلقه أن يخرج على
الناس كلّهم وحده بنفسه قبله ولا بعده ، ثم تلا الآية .. وروي أن أبا سفيان لما
رجع يوم أحد وأعد رسول الله (ص) لموسم بدر الصغرى ، فكره الناس وتثاقلوا حين بلوغ
الميعاد فنزلت هذه الآية الكريمة ، لأن النبيّ (ص) خرج وما معه غير سبعين ، ولكنه
لو لم يتبعه أحد لخرج وحده .. وقد قال الله سبحانه لرسوله (ص) بعد أن رفع عن كاهله
مسئولية غير نفسه : (وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ) على القتال وحثّهم عليه ، وليس عليك أكثر من ذلك بالنسبة
إليهم سواء حضروا لحرب الأعداء بتشويقك إلى ثواب الجهاد أم تقاعسوا عن الحضور
بدافع الخوف (عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قريش ، فعسى أن يمنع قوّتهم وتجييشهم لحربك. وهذا ما
حدث إذ بدا لأبي سفيان أن يقول : هذا عام مجدب لا يصلح للحرب. فانصرف عن موافاة
المسلمين وذهب بتجارة إلى الشام ، وعاد رسول الله (ص) بأصحابه إلى المدينة سالمين
ودفع الله عنهم ويلات القتال ونجّاهم منها (وَاللهُ أَشَدُّ
بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي أكثر قوة وأقوى عذابا وأشد إيقاعا بالأعداء.
٨٥ ـ (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ
لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ..) الشفاعة هي ما يراعى به حق المسلم ، كمن يدفع عنه شرا أو
يوصل له نفعا. فمن فعل ذلك مع المسلم كان له حظّ من الثواب على شفاعته بأخيه (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) وهذا ضد للشفاعة الحسنة ، أي أنه فعل بخلاف مصلحة المسلم
كأن دعا عليه بلا مجوّز شرعي على الأقل (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
مِنْها) أي نصيب أيضا وحصة وقسمة من وزرها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتاً)
أي حفيظا وقادرا ،
وذلك من القوت الذي يحفظ النفس وفي الخصال عن الصادق عن آبائه عليهمالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآله : من أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، أو دلّ على خير أو أشار
به ، فهو شريك. وفي الكافي عن السّجاد عليهالسلام : إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب
ويذكره بخير قالوا : نعم الأخ أنت لأخيك ، تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره
بخير. قد أعطاك الله ـ لك ـ مثل ما سألت له ، وأثنى عليك مثلما أثنيت عليه ، ولك
الفضل عليه ..
٨٦ ـ (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ...) أي إذا ألقي عليكم سلام ، وقال عليهالسلام ـ كما في القمى ـ : هو السلام وغيره من البر. وفي الخصال
عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : إذا عطس أحدكم قولوا : يرحمكم الله ، ويقول هو :
يغفر الله لكم ويرحمكم ، قال الله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ) ، الآية .. وعن رسول الله صلىاللهعليهوآله : القليل يبدءون الكثير بالسلام ، والراكب يبدأ الماشي
بالسلام إلخ .. وفي رواية : يسلّم الصغير على الكبير ، والمارّ على القاعد ..
ويسلّم الواحد على الجماعة. وعن الباقر عليهالسلام : إن الله يحب إفشاء السلام ، أي تعميمه وإلقاءه على كائن
من كان. وعن الصادق عليهالسلام : ثلاثة يردّ عليهم ردّ الجماعة وإن كان واحدا : عند
العطاس يقال يرحمكم الله وإن لم يكن معه غيره ، والرجل يسلّم على الرجل فيقول :
السلام عليكم ، والرجل يدعو للرجل فيقول عافاكم الله وإن كان واحدا فإن معه غيره
أي الملائكة وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام أيضا ، قال : السلام عليكم ، فهي عشر حسنات ، ومن قال :
السلام عليكم ورحمة الله ، فهي عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته ، فهي ثلاثون حسنة. وعنه عليهالسلام : من تمام التحية للمقيم المصافحة ، ومن تمام التسليم
للمسافر المعانقة. وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : لا تبتدئوا أهل الكتاب بالتسليم ، وإذا سلّموا عليكم
فقولوا : وعليكم. وفي الخصال : لا تسلّموا على اليهود والنصارى إلى أن يقول : ولا
على الذي في الحمّام ، ولا على الفاسق المعلن بفسقه.
فالتحية ـ أي
السلام ـ التي شرع الله تعالى إفشاءها بين المسلمين ، والتي فصلّنا عنها ، يأمرنا
سبحانه بردّها على قائلها بأحسن منها ، أي أن نجيب من يقول : السلام عليكم ،
بقولنا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقد دلّل على وجوب ردّ تحية الإسلام
بقوله عزّ اسمه : (أَوْ رُدُّوها) هي بذاتها على الأقل إذا لم تحيّوا بأحسن منها لأهمية ردّ
التحية عنده سبحانه (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي محاسب بدقة وحفظ. والحسيب من أسمائه تعالى. ويقال :
الله حسيبه : أي ينتقم منه ، والأول أصحّ المعاني في المقام.
* * *
(اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ
مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي
الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ
اللهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ
آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))
٨٧ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..) جملة : لا إله إلا هو ، إمّا خبر المبتدأ ـ الله ـ وإمّا
اعتراض ، والخبر : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي : ليحشرنكم جميعا بالتأكيد (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وهو يوم قيامهم من القبور للحساب (لا رَيْبَ فِيهِ) لا شكّ ولا شبهة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) أي خبرا ووعدا لا خلف فيه. والاستفهام هنا إنكاري ، يعني :
ليس أصدق منه سبحانه حديثا ولا أحد أصدق منه خبرا.
٨٨ ـ (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ ،
فِئَتَيْنِ ..) أي ما لكم تفرّقتم فيهم فرقتين ولم تتّفقوا على كفرهم
واختلفتم في شأنهم. وفي المجمع أنها نزلت في قوم قدموا من مكة وأظهروا الإسلام ثم
سافروا إلى اليمامة ، فاختلف المسلمون في غزوهم لاختلافهم في إسلامهم وشركهم .. (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي قلب أولهم على آخرهم وردّهم إلى الكفر لأنهم منافقون
فارتكسوا بما كسبوا يعني وقعوا في أمر كانوا قد نجوا منه فخذ لهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللهُ) أي : أترغبون ـ أيها المؤمنون ـ في جعل الضالّ مهتديا وفي
جملة المهتدين وقد حكم عليه من الله بالضلال لأنه اختاره لنفسه؟ .. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلاً) فالضالّ لا تجد طريقة لجعله من المهتدين. ثم أخبرهم سبحانه
عن دخيلة نفوس هؤلاء المنافقين بقوله تعالى :
٨٩ ـ (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا
..) يعني : تمنّوا أن تكفروا ووصلت أمانيهم إلى أن يجرّوكم إلى
الكفر (فَتَكُونُونَ سَواءً) فتصبحون في
مثل ما هم عليه من
الضلال وتصيرون شرعا سواء. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام في حديث : إن لشياطين الإنس حيلة ومكرا وخدائع ، وهي وسوسة
بعضهم إلى بعض ، يريدون ـ إن استطاعوا ـ أن يردّوا أهل الحق عمّا أكرمهم الله به
من النّصرة في دين الله (فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أي : لا تتولوهم ولو أظهروا الإيمان (حَتَّى يُهاجِرُوا) هجرة صحيحة هي لله لا لغرض من أغراض الدنيا ، بل (فِي سَبِيلِ اللهِ) والطريق التي ترضيه وتعلي كلمته. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة وانصرفوا عن ذلك (فَخُذُوهُمْ) أي صادروهم واقبضوا عليهم وخذوهم بالسيف (وَاقْتُلُوهُمْ) كسائر المشركين والكفرة (وَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ وَلِيًّا) أي صاحبا وحبيبا ولو بذلوا لكم الولاية ، ولا تتخذوا منهم (نَصِيراً) أي معينا وناصرا ، ولو بذلوا لكم النّصرة فلا تقبلوا ذلك
منهم.
٩٠ ـ (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ..) استثنى سبحانه من المنافقين المذكورين في الآية الشريفة
السابقة من يتّصلون ويدخلون في جماعة بينكم وبينهم عهد بحسن الجوار والموادعة (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت صدورهم. والجملة حالية ، ويمكن أن تكون معطوفة على
صفة قوم ، كأنه قيل : إلّا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو ممسكين عن القتال. فهم
لا عليكم ولا لكم ، وما ينبغي ـ في رأيهم ـ (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) مع قومهم (أَوْ يُقاتِلُوا
قَوْمَهُمْ) معكم. وهذا وما بعده نسخ بآية السيف. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ) وهذا إخبار عن مقدوره تعالى ، فلو أراد فانه يفعل ويجعلهم
يقاتلونكم. وفي هذا تقوية لقلوب المؤمنين. ولو فعل تعالى (فَلَقاتَلُوكُمْ) ولكنه لم يشأ بل قذف في قلوبهم الرعب .. (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقاتِلُوكُمْ) أي وقفوا جانبا وتحايدوكم وكفّوا عنكم (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) يعني استسلموا وانقادوا لكم (فَما جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم ..
٩١ ـ (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ
يَأْمَنُوكُمْ ..) قيل إنها نزلت في
جماعة كانوا يأتون
النبيّ (ص) فيسلمون رياء ثم يعودون إلى قريش ويرتدون إلى عبادة الأوثان ، يبتغون
بذلك أن يأمنوا جانبكم أيها المسلمون بإظهار الإسلام (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) بإظهار موافقتهم لهم في كفرهم ، وهؤلاء (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي كلّما دعوا إلى العودة إلى الشّرك رجعوا و (أُرْكِسُوا فِيها) والإركاس الرّد والانتكاس (فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ) يعني إذا لم يدعوا قتالكم (وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ولم يستسلموا لكم ويصالحوكم ويرضخوا لأمركم (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) يقبضوها ويمنعوها عن قتالكم ـ فإذا لم يفعلوا ذلك (فَخُذُوهُمْ) أي اقبضوا عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أين وجدتموهم وأصبتموهم فاقتلوهم لنفاقهم وذبذبتهم وعدم
إعطائكم السلم (وَأُولئِكُمْ
جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة ، وعذرا واضحا يبيح تسلّطكم
على قتلهم. وقد سمّيت الحجة هنا سلطانا لأنها تسلّط على الخصم كما يتسلّط السلطان.
واللفظة قد جاءت بصيغة المصدر.
* * *
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))
٩٢ ـ (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ..) الخطأ خلاف الصواب. وهي في محل استثناء منقطع من الأول ،
يعني : ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلّا أن يخطئ المؤمن خطأ ، فما أذن الله
تعالى ولا أباح لمؤمن فيما عهد إليه في شرعه أن يقتل مؤمنا ، إلّا عن غير عمد ودون
سابق تصوّر وتصميم ، لأن الخطأ في هذا المورد وغيره أن يريد شيئا فيصيب غيره ، كما
يجري أثناء الصيد وما شابهه (وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً) وقع في هذا الجرم (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فعليه إعتاق رقبة أي إعتاق عبد من الرّق إلى الحرّية (مُؤْمِنَةٍ) من ماله خاصة على وجه التكفير وكحقّ لله عزوجل.
والرقبة المؤمنة
هي التي آمنت وصلّت وصامت. (وَ) عليه أيضا وعلى عاقلته (دِيَةٌ) فدية وثمن دم (مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ) مدفوعة إلى أهل القتيل تامة غير منقوصة ، تدفع إليهم بحسب
سهام وارثيه (إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا) يعني إلّا أن يتركها الورثة صدقة على القاتل وعاقلته (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي إن كان القتيل من جماعة يناصبونكم الخصومة والحرب ولكنه
في نفسه مؤمن ولم يعرف قاتله بإيمانه فقتله ظاناّ شركه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يجب عليه إعتاق رقبة (مُؤْمِنَةٍ) كفارة ، وليس عليه دية كما عن ابن عباس وقتادة والسدي
وغيرهم لأن أهله كفّار لا يرثونه وهو مؤمن (وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي عهد وذمة وهم ليسوا بحرب لكم (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تجب على عاقلة قاتله (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) كفارة لقتله. وهذا هو المروي عن الصادق عليهالسلام كما في المجمع. وقد اختلفوا في كون المقتول كافرا أم مؤمنا
فقيل إنه كافر ، ولكن ديته تلزم قاتله بسبب العهد والذمة التي لقومه مع المسلمين
وإن كان أهله مشركين
كما عن الحسن
وإبراهيم ، وهو أيضا رأي أصحابنا إلّا أنهم قالوا : تعطى ديته لورثته المسلمين دون
المشركين. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي لم يقدر على عتق الرقبة لأنه لا يملك ثمن عبد أو لأنه
لم يجد عبدا (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) فعليه وجوبا صيامهما (مُتَتابِعَيْنِ) متصلّين (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) يعني ليتوب الله تعالى عليه وقيل : إن التوبة هنا تعني
التخفيف والعدول عن العتق إلى الصيام (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) أي لم يزل عليما بكل شيء (حَكِيماً) فيما يأمر به وينهى عنه.
أما الدية الواجبة
في قتل الخطأ فمائة من الإبل إن كانت العاقلة من أهل الإبل وإن اختلفوا في أسنانها
فقيل هي أرباع : عشرون بنت مخاض ، وعشرون أبن لبون ذكر ، وثلاثون بنت لبون ،
وثلاثون حقّه ، وقيل غير ذلك. وأمّا من الذهب فألف دينار ، ومن الورق عشرة آلاف
درهم وهو الأصح.
ودية الخطأ تؤدّى
في ثلاث سنين ، وهي على العاقلة بالإجماع. والعاقلة هم الأخوة وبنوهم والأعمام
وبنوهم ، وأعمام الأب وأبناؤهم ، والموالي ، والله أعلم.
٩٣ ـ (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
.....) أي من قتل المؤمن عن قصد عالما بإيمانه وحرمة قتله وعصمة
دمه ، وقال عكرمة وجماعته : يقتله على دينه ، وهو ما رواه العياشي عن الصادق عليهالسلام .. وقد نزلت في رجل من بني كنانة وجد أخاه مقتولا بين
منازل بني النجار ، فشكا أمره إلى النبيّ (ص) فأمرهم بدفع قاتل أخيه له ليقتصّ منه
أو أن يدفعوا له ديته. فدفعوا له الدية وعاد مع رسول النبيّ (ص) الذي هو قيس بن
هلال الفهري ، فوسوس له الشيطان بقتله والهرب بالدية والعودة الى الكفر ، ففعل
وهرب إلى مكة ، فعلم النبيّ (ص) بأمره فقال : لا أؤمّنه في حلّ ولا حرم. ثم قتل
يوم الفتح.
أما قاتل المؤمن
بالشكل العمديّ الذي ذكره الله تعالى (فَجَزاؤُهُ
جَهَنَّمُ) أي أنها عقابة في الآخرة (خالِداً) مقيما أبدا (فِيها ، وَغَضِبَ
اللهُ عَلَيْهِ) سخطه عليه (وَلَعَنَهُ) طرده من رحمته وحرمه من عفوه (وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً) هيأه له. ولا فرق بين القتل بالسلاح أو الخنق أو الحريق أو
الإغراق أو الضرب حتى الموت. والدية هنا تلزم القاتل خاصة في ماله دون العاقلة.
وفي الشريفة وعيد شديد لمن يقتل مؤمنا متعمدا. ولكنه لا بدّ من إيضاح نكتة دقيقة
لطيفة ، وهي أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فهل
هذا القاتل لا يناله العفو بعد التكفير والإيمان وعدم الشّرك بالله؟ .. والجواب
أنه قيل : إن جزاءه جهنم خالدا فيها إنه جازاه الله تعالى. ذلك أن هذه الآية
اللّينة نزلت بعد تلك الآية الشديدة ، وهو المرويّ عن الصادق عليهالسلام كما في العياشي. فالآية مخصوصة بمن لا يتوب لأن التوبة
تخرجه من عمومها. وقد قال بعض أصحابنا إن قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))
٩٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...) خاطب سبحانه المؤمنين الذين إذا ضربوا في سبيل الله ، أي
سافروا وساروا في جهاد وغزو للمشركين فقال : (فَتَبَيَّنُوا) أي ميّزوا بين الكافر والمؤمن. وقرئ : فتثبّتوا ، يعني
تأنّوا وتوقّفوا حتى تعرفوا مستحقّ القتل قبل أن تقتلوه ، ولا تعجلوا بقتل من أظهر
السلام ظنا منكم بأنه يخادعكم. وقيل إنها نزلت
بأسامة بن زيد
وأصحابه حين بعثهم رسول الله (ص) في سرية فلقوا رجلا في غنمه قد انحاز إلى جبل
وكان قد أسلم ، فقال لهم : السلام عليكم ، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأن
محمدا رسول الله ، فبدر إليه أسامة فقتله واستاق غنمه ، وقيل نزلت في غيره. فقد
نهى سبحانه عن القتل قبل التثبّت وقال : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) أي حياكم بتحية الإسلام ، أو من استسلم لكم وأظهر نفسه أنه
من أهل ملتكم ، فلا تقولوا له : (لست مؤمنا) أي ليس إيمانك صحيحا ولكنك خفت من
القتل (تَبْتَغُونَ) أي تطلبون بذلك. وهي في محل نصب على الحال من الواو في :
تقولوا ، وتريدون (عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) يعني الغنيمة ومتاع الحياة الذي لا دوام له (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي أن في مقدوره نعم وأفضال ورزق كثير لمن أطاعه ، وقيل
معناه : ثواب جزيل (كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ) قيل في معناه : كذلك كنتم أنتم مستخفين بإيمانكم خوفا من
قومكم وحذرا على أنفسكم. وقيل : كما كان هذا المقتول كافرا فهداه الله ، كذلك كنتم
أنتم كفّارا فهداكم الله تعالى. والكاف في كذلك ، في موضع نصب بكونه خبر كان ، من
كنتم. (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْكُمْ) بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم إسلامكم ، وقيل فتاب
الله عليكم ومنّ بقبول التوبة (فَتَبَيَّنُوا) كرّرها سبحانه للتأكيد بعد ما طال الكلام ليلفت نظرهم إلى
فوائد التثبّت (إِنَّ اللهَ كانَ) أي لم يزل منذ كان (بِما تَعْمَلُونَ) تفعلون (خَبِيراً) عليما قبل أن تعلموه أنتم.
* * *
(لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
عَلَى
الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ
وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))
٩٥ ـ (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...) غير : صفة القاعدون عند سيبويه ، وقرأها خلف والكسائي
وغيرهما : غير بالنّصب على الاستثناء. فلما حثّ سبحانه على الجهاد وبين ثوابه قال
إن المؤمنين الذين يتخلفون عن الجهاد لا يتعادلون مع المجاهدين من أهل الإيمان بأموالهم
وأنفسهم ، لإعلاء كلمة الله. لأن القاعدين آثروا الراحة والدّعة على الجهاد ،
اللهم إلا من قعد عن الجهاد لعلّة في الجسم أو النظر أو غيره (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لا يساوون بأولئك المتخلفين ، إذ قد (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ميّزهم وأعطاهم (دَرَجَةً) أي منزلة أعلى وأفضل (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) الجنة. وهذا دليل على أن الجهاد فرض كفائي لا عينيّ ولو لا
ذلك لما استحق المتخلّفون عنه أجرا. ولكن مدح الله تعالى المجاهدين ووعدهم ثوابا
أكثر (وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) بدليل ما نوّه به من الدرجات فيما يلي :
٩٦ ـ (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً
وَرَحْمَةً ...) درجات ، أي : منازل. وهي منصوبة على البدلية من : أجرا
عظيما ـ ختام الآية الشريفة السابقة ـ وهي تفسير للأجر العظيم والثواب الجزيل الذي
نوّه سبحانه به. وهذه الدرجات هي منازل تكون في الجنة بعضها فوق بعض ، كدرجات
الأعمال فقد قيل : الإسلام درجة ، والفقه درجة ، والهجرة درجة ، والجهاد ، والقتل
في الجهاد وغيرها درجات ...
أما لفظتا :
ومغفرة ورحمة ، فهما لبيان أن النعيم لا يشوبه غمّ بما كان قد اقترف العبد من
صغائر الذنوب ، بل غفر الله تعالى له ذلك ورحمه
وكرّمه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) لم يزل غفارا عفوّا عن عباده ، رحيما بهم متفضلا عليهم.
وقد يسأل سائل :
كيف قال في أول الآية : فضّل الله المجاهدين .... على القاعدين درجة ، ثم قال في
آخرها : وفضل الله المجاهدين .... أجرا عظيما ودرجات أيضا؟ وهذا متناقض بحسب
الظاهر .. وأجيب عن ذلك بجوابين :
أولهما : أنه في
أول الآية فضّل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة ، وفي آخرها فضّلهم على
القاعدين غير أولي الضرر درجات. فلا تناقض إذ وعد الكلّ بالحسنى.
وثانيهما : قاله
الجبائي : أراد بالدرجة الأولى علوّ المنزلة على وجه المدح ، كما يقال فلان أعلى
درجة عند الخليفة. وأراد بالثانية الدرجات في الجنة حيث يكون التفاضل بين المؤمنين
.. وقد جاء في الحديث أن الله فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة ، بين كل
درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمّر ..
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى
اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ
اللهِ
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))
٩٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ....) قرئت شاذّا : توفّاهم الملائكة ، والتوفي هو القبض للأرواح
، والوفاة الموت ، فعلى قراءة توفّاهم : تكون فعلا ماضيا مبنيّا على الفتح ، أو
فعلا مضارعا مرفوعا على معنى : تتوفّاهم ، حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين. و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) نصب على الحال ، وحذفت النون من ظالمين استخفافا ، وتثبت
في التقدير كما قال سبحانه : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) ، فإنه يقال : ظالمين أنفسهم. ومعناها : تتوفّاهم الملائكة
في حال هم فيها ظالمون لأنفسهم بالتقصير ، فقد بخسوها حقها من الثواب وأدخلوا
عليها العقاب بالكفر ف (قالُوا) أي الملائكة الذين قبضوهم بأمر الله : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من دينكم على وجه التقرير وعلى وجه
التوبيخ والاستهزاء بهم (قالُوا) يقصد الظالمين لأنفسهم (كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بقوّتهم وكثرة
عددهم وقد حالوا بيننا وبين الإيمان. ولكن هذا الاعتذار نقضه الملائكة إذ (قالُوا) مرة ثانية : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟) أي فتخرجوا من
أرضكم وتفارقوا من يمنعكم عن الإيمان بالله ورسوله ، إلى أرض الله الواسعة حيث
تعاشرون من لا يمنعكم من التصديق والعبادة والطاعة. وقد قال سعيد بن جبير : إذا
عمل في أرض بالمعاصي فاخرج منها. وقد قال الله تعالى عن هؤلاء الظالمين لأنفسهم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) والمأوى المرجع ، من أوى إلى منزله : يأوي اليه ويرجع.
فأولئك مسكنهم جهنّم (وَساءَتْ) أي كانت سوءا وشرا و (مَصِيراً) أي محلا يصير إليه أهلها. ثم استثنى من حكم هؤلاء قوما
فقال تبارك وتعالى :
٩٨ ـ ٩٩ (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ
وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ ...) أي الذين استضعفهم المشركون من الذين يعجزون عن الهجرة
بسبب عسر حالهم وقلة حيلتهم لأنهم عذرهم سبحانه وبيّن حالهم إذ (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا
يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) فهم لا يقدرون على الخروج من مكة من بين المشركين لقلة
سعيهم ، ولجهلهم بالطريق (فَأُولئِكَ عَسَى
اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فلعلّه يغفر لهم ويتفضّل بالصّفح عنهم في تركهم الهجرة من
بين الكفار لأنهم لم يمتنعوا عنها اختيارا (وَكانَ اللهُ
عَفُوًّا) أي لم يزل ذا صفح عن ذنوب عباده بفضله (غَفُوراً) ساترا لذنوبهم ، ، ومتجاوزا عن معاصيهم. وقيل إن النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يدعو عقيب صلاة الظهر بتخليص ضعفة المسلمين من أيدي
المشركين.
١٠٠ ـ (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ ....) ومن يهاجر أي يفارق أهل الشرك ويهرب منهم بدينه ، ويفرّ من
وطنه إلى موطن الإسلام ، وهذا معنى : في سبيل الله ، فإنه (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) في غير وطنه (مُراغَماً) أي متحوّلا ، وهي من الرغام أي التراب. ويقال : راغمت
فلانا أي هاجرته وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب. فالمراغمة في الأرض هي الاضطراب
فيها والتجوّل والتحوّل من مكان الى مكان حيث يجد الإنسان فرجا (وَسَعَةً) توسعا في الرزق وحسن الحال والتخلص من الضيق السابق .. (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي يفرّ بدينه من المشركين لئلا يلزموه بطريقتهم (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي يلحق به الموت وهو في بطريقه ، قبل الوصول إلى دار
الهجرة ووطن المسلمين (فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي حصل له الثواب وجزاء هجرته في سبيل الله ، وأخذ الله
تعالى له على نفسه الأجر وحسن الثواب (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) متجاوزا عن ذنوب عباده بكرمه وعفوه (رَحِيماً) بهم شفيقا رفيقا.
فعن النبيّ (ص):
أن من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنة وكان رفيق
إبراهيم ومحمد عليهماالسلام ، وروى العياشي بإسناده عن محمد بن عمير أن زرارة بن أعين
وجّه
ابنه عبيدا إلى
المدينة ليستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام وعبد الله ، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد ابنه. قال محمد بن
عمير : حدثني محمد بن حكيم قال : ذكرت لأبي الحسن (ع) زرارة وتوجيهه عبيدا ابنه
إلى المدينة فقال : إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال الله فيهم : ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ، الآية ..
* * *
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ
عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً
وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣))
١٠١ ـ (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ....) يعني إذا سافرتم وسرتم في الأرض (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : حرج أو اثم (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ) وفي قصر الصلاة ثلاث لغات ، فيقال : قصرتها ، وقصّرتها ،
وأقصرتها ، والأولى هي لغة القرآن الكريم. وفي التقصير ثلاثة أقوال :
أحدها : قصر عدد
الركعات ، فتصلّون الرباعيات ركعتين كما عن مجاهد وجماعة من المفسرين. وهو مذهب
أهل البيت عليهمالسلام. وقيل هو قصر صلاة الخائف من صلاة المسافر ، وهما قصران :
قصر الأمن من أربع إلى ركعتين ، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة واحدة ، وهو
المرويّ عن أصحابنا أيضا.
وثانيها : القصر
من حدود الصلاة ، كما عن ابن عباس وطاووس. وهو الذي رواه أصحابنا أيضا في صلاة
الخوف الشديد ، وذكروا أنها تصلّى إيماء ، والسجود أخفض من الركوع ، فإن لم يقدر
على ذلك فالتسبيح المحفوض يكفي عن كل ركعة.
وثالثها : المراد
بالقصر : الجمع بين الصلاتين ، والصحيح هو الأول.
والحاصل أنه لا
جناح عليكم من قصر الصلاة (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خفتم فتنتهم لكم في أنفسهم أو في دينكم. وقيل : إن خفتم
أن يقتلوكم أثناء الصلاة ، وهو مثل قوله تعالى : (عَلى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) ، أي يقتلهم. (إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة وشدة الحقد والكره.
وظاهر الآية
الشريفة يقتضي عدم جواز القصر من الصلاة إلّا عند الخوف الشديد. لكننا عرفنا ـ قطعا
ـ جواز القصر في حال الأمن ببيان
النبيّ صلىاللهعليهوآله. وأما ذكر الخوف في الآية فيحتمل أن يكون قد خرج مخرج
الأعم الأغلب في الأسفار. فإن المسلمين كانوا ـ على الأغلب ـ يخافون الكفّار في
عامة أسفارهم ، ومثلها في القرآن الكريم كثير.
ولا غرو من ذكر
نكتة لا بدّ منها هنا. فقد اختلف الفقهاء في قصر الصلاة ، وقال الشافعي : هو رخصة
، وتبعه الجبائي في الاختيار. وقال أبو حنيفة : هو عزيمة وفرض. وهذا مذهب أهل
البيت صلوات الله وسلامه عليهم. فعن المجمع : قال زرارة ومحمد بن مسلم : قلنا لأبي
جعفر : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي ، وكم هي؟ قال : إن الله يقول: (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.
قالا : قلنا : إنه قال : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ، ولم يقل : افعل.
فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟ قال : أو ليس قال تعالى في الصفا والمروة : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما). ألا ترى أن الطواف واجب مفروض لأن الله تعالى ذكرهما في
كتابه ، وصنعهما نبيّه؟ وكذا التقصير في السفر ، شيء صنعه رسول الله وذكره الله في
الكتاب. قال : قلت : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : إن كانت قرئت
عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها
فلا إعادة عليه. والصلاة في السفر كلّ فريضة ركعتان إلّا المغرب فإنها ثلاث ليس
فيها تقصير ، تركها رسول الله في السفر والحضر ثلاث ركعات ..
وقد روي عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله ـ كما في المجمع ـ أنه قال : فرض المسافر ركعتان غير قصر.
فهو إذا فرض وعزيمة .. وأما حدّ السفر الذي يجب عنده القصر فعندنا ثمانية فراسخ
وهو مسيرة ثلاثة أيام بلياليها عند أبي حنيفة وأصحابه. وستة عشر فرسخا وأربعين ميلا
عند الشافعي.
١٠٢ ـ (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاةَ ...) شرع سبحانه وتعالى ببيان كيفية صلاة الخوف فقال لرسوله (ص)
: (وَإِذا كُنْتَ) يا محمد (فِيهِمْ) يعني في أصحابك الخائفين من عدوّهم حين الضرب في الأرض
أو حين الجهاد (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بتمام الحدود من ركوع وسجود وغيرهما ، وأنت تؤمّهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قسم منهم يقف (مَعَكَ) في الصلاة وليبق أكثرهم مترصدين للعدو طبعا وإن كان لم
يذكره سبحانه لدلالة الكلام عليه وبدليل أمره تعالى : (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) كما عن ابن عباس ، والصحيح أن المعنيّ بهذا القول هم
المصلّون ينبغي أن يتقلدوا بالسيف مثلا ، وأن يتمنطقوا بالخنجر ويبقوا الدروع
والسكاكين وغيرها تأهبا لما قد يحدث (فَإِذا سَجَدُوا) يعني فرغوا من سجودهم للركعة الأولى (فَلْيَكُونُوا) أي المصلّين الذين اختتموا هذه الركعة (مِنْ وَرائِكُمْ) فليصبروا بعد فراغهم وراءكم مواجهين للعدوّ ومتيقّظين كحال
الطائفة الأولى من أصحابهم الذين اختلف في حالهم ماذا يفعلون بعد إنهاء الركعة
الأولى. فعندنا يتمون ركعة ثانية ويتشهدون ويسلّمون والإمام قائم في الركعة
الثانية ، وهم في مواقف أصحابهم بإزاء الأعداء في حين يجيء الآخرون ويستفتحون
الصلاة ويصلّي بهم الإمام الركعة الثانية فحسب ، ثم يطيل تشهدّه حتى يقوموا
فيصلّوا بقية صلاتهم التي هي ركعتان ، ثم يسلّم بهم الامام. فيكون للطائفة الأولى
تكبيرة الافتتاح وللطائفة الثانية التسليم. وتبعنا في ذلك الشافعي. أما بقية
الفقهاء فيرون صلاة الخوف ركعة واحدة. وقيل : يصلّي بهم الإمام بكل طائفة ركعتين ،
فيصلّي بهم مرتين. وقيل ـ أيضا ـ : إذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة ، مضت هذه
الطائفة إلى وجه العدو ، وأتت الطائفة الثانية وكبّرت وصلّى بها الإمام الركعة الثانية
ويسلّم الإمام ، فتأتي الطائفة الأولى فتقضي ركعة بغير قراءة لأنها لاحقة للائتمام
وتسلّم وترجع إلى مقابلة العدو ، وتأتي بعدها الطائفة الثانية فتقضي ركعة أيضا
بدون قراءة لأنها مسبوقة بصلاة جماعة. وهو مذهب أبي حنيفة الذي أسنده إلى ابن
مسعود. (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ
أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) وهم الذين كانوا في مواجهة العدوّ (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) فيبقون متأهبين للعدو مسلّحين بجميع آلات الحرب التي معهم (وَدَّ) أي أحبّ ورغب (الَّذِينَ كَفَرُوا) من الأعداء فإنهم يتمنون (لَوْ تَغْفُلُونَ) تعتزلون وتسهون (عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) وتشتغلون عنها (وَ) عن (أَمْتِعَتِكُمْ)
التي بها بلاغكم
في أسفاركم (فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي يحملون حملة واحدة ويزحفون عليكم وأنتم متشاغلون
بالصلاة فيقضون عليكم وأنتم ساهون عن كل ذلك.
والحاصل أنه لا
ينبغي التشاغل بالصلاة في مثل هذا الموقف ، بل يجب التيقّظ والاحتياط .. (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي لا بأس عليكم ولا حرج (إِنْ كانَ بِكُمْ
أَذىً مِنْ مَطَرٍ) داهمكم وأنتم وجها لوجه مع العدوّ (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) يعني معلولين أو جرحى ، لا إثم عليكم (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) أي تلقوها عنكم إذا ضعفتم عن حملها. لكن احترسوا (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لئلا يميلوا عليكم في غفلة (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) هيأ لهم عذابا مذلّا مخزيا .. وفي هذه الشريفة دلالة على
صدق النبيّ صلىاللهعليهوآله وهي من أعلام نبوّته : ذلك أنها نزلت والنبيّ (ص) وأصحابه
بعسفان والمشركون بضجنان. فتواقفوا وتصافّوا فصلّى النبيّ (ص) بأصحابه صلاة الظهر
بتمام الركوع والسجود ، فهمّ المشركون بالإغارة عليهم فقال بعضهم : لا تزحفوا فإن
لهم صلاة ثانية أحب إليهم من هذه ـ يعني صلاة العصر ـ فأنزل الله تعالى على رسوله (ص)
هذه الآية فصلّى بأصحابه العصر صلاة الخوف.
وعن موضوع المطر ذكر
أبو حمزة في تفسيره أن النبيّ (ص) غزا محاربا بني أغار فهزمهم الله وأحرز المسلمون
منهم الذراري والمال. فنزل رسول الله (ص) ومعه المسلمون فلم يروا من العدو واحدا.
فوضعوا أسلحتهم ، وخرج النبي (ص) ليقضي حاجته وقد وضع سلاحه وواعد أصحابه أن
يلقاهم في الوادي. وصارت السماء ترشّ فحال الوادي بين رسول الله (ص) وبين أصحابه
فجلس في ظل شجرة يتّقي المطر ، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال لأصحابه :
قتلني الله إن لم أقتله. وانحدر من الجبل ومعه السيف ، فلم يشعر رسول الله (ص)
إلّا وهو قائم على رأسه ومعه سيفه مسلولا من غمده ، وقال : يا محمد من يعصمك مني
الآن؟ فقال النبيّ (ص) : الله .. فانكبّ عدوّ الله لوجهه. فقام رسول
الله (ص) وأخذ
السيف من يده وشهره عليه وقال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ قال : لا أحد. قال :
أتشهد أن لا إله إلّا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال : لا ، ولكني أعهد أن لا
أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوّا. فأعطاه رسول الله (ص) سيفه فقال له غورث : والله
لأنت خير مني. قال (ص) : إني أحقّ بذلك. وخرج غورث إلى أصحابه فعاتبوه على ما رأوا
منه فقال : منعني منه الله ، أهويت بالسيف عليه فما أدري من وكزني بين كتفيّ فخررت
لوجهي ووقع سيفي فسبقني إليه محمد وأخذه. ثم سكن الوادي ، فقطع محمد (ص) إلى
أصحابه وقرأ عليهم الآية الكريمة.
١٠٣ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا
اللهَ ...) أي إذا صلّيتم وفرغتم من صلاتكم أيها المؤمنون ، وأنتم
مواجهون لأعدائكم (فَاذْكُرُوا اللهَ) سبّحوه واحمدوه ومجّدوه (قِياماً) يعني في حال قيامكم وقعودكم (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) حين تكونون مضطجعين. وعبارة : على جنوبكم ، في موضع نصب
على الحال لأنها معطوفة على : قياما. فادعوا الله في جميع هذه الأحوال ، واستنصروه
على عدوكم ليظفركم به. وعن ابن عباس وكثير من المفسّرين : هي من قبيل قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.) أما ابن مسعود فقال إنها تعني : صلّوا قياما إذا كنتم
أصحّاء ، وقعودا إذا كنتم مرضى لا تقدرون على الوقوف ، وعلى جنوبكم إذا كنتم لا
تستطيعون القعود ، ثم عقّب بقوله : لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب
على عقله .. (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) أي هدأتم وسكنتم ، فالأرض المطمئنّة هي الأرض المستوية
الساكنة ، أي عند اطمئنانكم (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) باشروها وصلّوها. وقيل أريد به أنكم إذا استقريتم في
أوطانكم فأتّموا الصلاة ، وهو بعيد ، والأصلح أنه إذا اطمأننتم بزوال خوفكم من
الأعداء فأتموا حدود الصلاة ، لأنه إنما يتكلم سبحانه هنا عن موضوع صلاتي : القصر
، والخوف (إِنَّ الصَّلاةَ) بحد ذاتها ، وبجميع أشكالها وحالاتها (كانَتْ) فرضت وجعلت (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتاباً مَوْقُوتاً) أي واجبة مفروضة ، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهماالسلام. وعن ابن مسعود وغيره أن معناها : فرضا تؤدونه في أوقاته ،
والقولان متقاربان.
(وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً)(١٠٤)
١٠٤ ـ (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ
...) تهنوا من : وهن ، أي ضعف في الأمر : يهن وهنا. فقد عاد
سبحانه وتعالى لموضوع الحثّ على الجهاد ، ليوصي المؤمنين بألّا يضعفوا حين (ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي حين طلب العدوّ ومنازلته في الحرب. مع أعداء الله فإنكم
(إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ) تتوجعون ، لأن الألم هو الموجع من الجراح أو المرض (فَإِنَّهُمْ) يعني المشركون الذين تقاتلونهم (يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) يتوجعون من جراحهم كما تتوجعون ، مع فرق واضح بينكم وهو
أنكم تجاهدون في سبيل الله تعالى (وَتَرْجُونَ مِنَ
اللهِ) في العاجل ، والثواب في الآجل بجهادكم للكفار ، وهذا (ما لا يَرْجُونَ) لأنهم لا يطمعون بثواب من أصنامهم وأوثانهم. فأنتم موقنون
تقاتلون بعقيدة وإيمان ، وهم يقاتلون بدافع العصبية ونزوات الشيطان والعناد. ولذا
كان الأحرى بكم أن تصبروا أكثر من صبرهم على الأذى في حربهم وقتالهم لأنكم متأكدون
من الثواب الجزيل (وَكانَ اللهُ) لم يزل منذ الأزل إلى الأبد (عَلِيماً) بمصالح خلقه (حَكِيماً) في تدبيره وتقديره لجميع أحوالهم.
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥)
وَاسْتَغْفِرِ
اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً
أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))
١٠٥ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ ...) ثم عاد سبحانه إلى مخاطبة نبيّه (ص) فقال : إنّا أنزلنا
إليك يا محمد الكتاب :
يعني القرآن
الكريم (بِالْحَقِ) أي ناطقا بحق الله الذي يجب له على عباده. وقيل معنى
الكلام : إنك به أحقّ (لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ) تفصل بينهم في مختلف قضاياهم (بِما أَراكَ اللهُ) أعلمك وعرّفك في كتابه. فلا تدع كتاب ربّك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) ينهاه أن يكون لمن خان مسلما أو معاهدا ، في نفسه أو ماله
، خصيما : يدافع من طالب المسلم بحقّه الذي خانه فيه ويخاصمه. وجلّ نبيّ الله صلىاللهعليهوآله عن جميع المعاصي والقبائح ، وإن كان قيل في تعليلها : إنما
همّ النبيّ (ص) بذلك في مناسبة فعاتبه الله تعالى ، وهو بعيد عليه (ص) وقد ذكر في
المجمع أنها نزلت في حادثة حصلت لبني أبيرق حين اتّهموا يهوديّا بسرقة طعام وسيف
ودرع من بيوت أحدهم. فجاء اليهودي إلى رسول الله (ص) وكلّمه وذكر له أن السيف رمي
في داره وأن السارق غيره ثم جاءه بنو الأبيرق أيضا وكلّموه ليجادل عنهم في حقهم مع
أن السارق
منهم فهمّ صلىاللهعليهوآله أن يفعل وأن يباشر حلّ المسألة ، فنزلت الآية الكريمة. ثم
ذكر غيرها أكثر من قصة ، ومعناها واضح على كل حال لأنه دستور مستقيم للنبيّ (ص)
ولأمته جمعاء. فقد أمر سبحانه نبيّه وغيره ممّن يهمّ بمثل هذا الأمر بقوله :
١٠٦ ـ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ ، إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) أمر سبحانه بالاستغفار عند محاولة المخاصمة عن الخائن ،
وبالتوبة منها إذا حصلت ، بل بعدم فعلها. والخطاب في ظاهره موجّه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ولكنه يراد به كلّ مسلم وتراد به الأمة كلها على وجه
التأديب ووضع الحكم في هذا الموضوع (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً) يصفح عن ذنوب عباده المسلمين ويترك مؤاخذتهم على معاصيهم (رَحِيماً) شفوقا عطوفا عليهم يرأف بهم أكثر مما يرأفون بأنفسهم.
١٠٧ ـ (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ...) أي : ولا تناظر وتخاصم دفاعا عن الذين يخونون أنفسهم
ويظلمونها بارتكاب المآثم والمعاصي. والخطاب له (ص) والمراد قومه وأمته. وقيل بل
هو : لا تجادل أيها الإنسان مطلقا. وقيل : هو نهي للمسلم الذي مشى مع سارق الدرع
وهو كقتادة بن النعمان الذي كان بدريّا ـ مشى إلى النبيّ (ص) ليشهد ببراءته ، وقيل
: هو موجّه لمن مشى مع السارق من قومه المشركين لأنهم يختانون أنفسهم بعد اختيان
غيرهم وقد ظلموا أنفسهم بذلك .. وفي كل حال من هذه الأحوال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ
خَوَّاناً) يبغض الخّوان وهو على وزن : فعّال ، من الخيانة وسوء
الائتمان ، فلفظة خوان تعني ـ إذا ـ كثير الخيانة ، الذي ألفها واعتادها ، فالله
تعالى لا يحبّ من كان خوّانا (أَثِيماً) أي فاعل إثم. وقال ابن عباس في معنى الآية : لا يجادل عن
الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة ويردون بها غيرهم فيأثمون في كلا الحالتين.
١٠٨ ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ...) أي يتستّرون ويكتمون الخيانة عن الناس (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ) ولا يتستّرون من الله الذي يطّلع عليهم لأنه معهم يراهم
حين ارتكاب الجرم. فهم يخفون أمرهم عن
الناس حياء من
الناس ، ويطلبون ممّن يعرفه أيضا أن يخفيه حياء ممّن لم يعرف ، ثم لا يستحيون من
الله تعالى الذي علمه لأنه معهم شاهد لأعمالهم ، وعارف بما يفعلون (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ) أي يدبّرون في الليل عند بياتهم ، قولا يكرهه الله لأنهم
يغيّرون الحقيقة ويهيئون عند مبيتهم كذبا يبررون به أفعالهم وقيل عنى به سبحانه
قولا قاله ابن الأبيرق في نفسه ليلا وهو : أرمي بهذه الدرع في دار اليهوديّ ثم
أحلف أني بريء من السرقة فيصدّقونني لأنني مسلم على دينهم ، ولا يصدّقون اليهودي (وَكانَ اللهُ) ولا زال منذ كان (بِما يَعْمَلُونَ
مُحِيطاً) حفيظا عالما لا يخفى عليه شيء من فعلهم ومن أفعال الناس.
وفي هذه الآية
الشريفة تقريع بليغ لمن يمنعه الحياء من الناس عن ارتكاب المعاصي واجتراح السيئات
، ولا تمنعه خشية الله تبارك وتعالى عن فعل تلك القبائح ، وهو سبحانه أحقّ أن
يراقب ، وأجدر أن يتّقى ويحذر. كما أن فيها أيضا توبيخا لمن يعمل القبيح ويرمي به
غيره كما لا يخفى ، سواء كان ذلك الغير مسلما أو غير مسلم ..
١٠٩ ـ (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ
عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) الخطاب هنا للمدافعين عن سارق الدرع المذكورة في شروح
الآيات الكريمة السابقة ، وهو يعمّ كل من يجادل عن مسيء. و : ها ، للتنبيه. وقد
أعيدت في : هؤلاء أيضا ، والمعنى : ها أنتم الذين جادلتم عنهم ، لأن هؤلاء وهذا ،
يكونان في الإشارة للمخاطبين إلى أنفسهم بمنزلة الذين. وقد يكونان لغير المخاطبين
بمنزلة الذين أيضا كمثل قولهم : أمنت وهذا تحملين طليق ، أي والذي تحملين.
فهؤلاء الذين (جادَلْتُمْ) أي خاصمتم ونازعتم بشأنهم ، ودافعتهم (عَنْهُمْ) عن كونهم خائنين (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) أثناء هذه الحياة على الأرض (فَمَنْ يُجادِلُ
اللهَ) ويدافع بين يديه عنهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولا شاهد ببراءتهم يمثل أمامه سبحانه وتعالى؟ .. ولا يخفى
أن الاستفهام يراد به النّفي ، يعني أنه لا مدافع عنهم يومئذ ، وهو في معنى
التوبيخ والتقريع. ولذا كانت هذه الشريفة نهيا عن الدفاع عن الظالم ونهيا عن
المجادلة لتبرئته من
ظلمه. فالله
المطّلع على الحقيقة يتعجّب من تصرّفات عباده السخيفة ويتابع استنكاره قائلا
باستهزاء : (أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي من يتولّى معونتهم؟ يعني أنه لا وكيل يقوم بأمر الدفاع
عنهم يوم القيامة ، ولا أحد يخاصم عنهم. والوكيل ـ أصلا ـ من جعل اليه القيام
بالأمر ، وسميّ الله سبحانه وكيلا لأنه هو القائم بكل أمر ، والمدبّر لكل شأن ،
والحافظ في كل حال. ولكن لا يقال : إنه وكيل لنا ، بل هو وكيل علينا.
* * *
(وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما
يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢))
١١٠ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ...) بدأ سبحانه ببيان طريق التوبة في حال وقوع المرء في
المعصية ، فعطف على ما تقدّم بقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً) أي قبيحا مكروها يربأ به عن مواجهة الناس لقبحه ولذا دعيت
المعصية سيئة في مقابل الحسنة التي تصلح المواجهة بها والمباهاة لحسنها. فمن يعمل
ذلك القبيح (أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ) باجتراح السيئات وارتكاب المعاصي والجرائم. وقيل معنى
السوء هنا : الشّرك ، ومعنى الظّلم : ما دون الشّرك. فمن يتب (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) أي يقلع عن ذنبه ولا يعود لمثله البتة ، ويطلب المغفرة من
الله تعالى (يَجِدِ اللهَ) يلقه ويظهر له من عفوه (غَفُوراً رَحِيماً) يمحو السيئات ويرحم العباد. ولفظة : يجد ، من الوجدان ،
وهو الإدراك كمن يجد الضالّ والضائع ويدركه بعد ضياعه عنه. ووجد وجودا : علم.
والوجود ضدّ العدم لأنه
يظهر بالوجود
كظهوره بالكسب والإدراك. وهو فعل يؤدي الى إيجاد نفع أو رفع ضرر ولذلك لا يوصف
سبحانه به.
١١١ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما
يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ ...) هو واضح أن من يأثم لا يضرّ إلّا نفسه ، نظير : لا تكسب كل
نفس إلّا عليها ، ونظير : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما يكسبه هذا الآثم (حَكِيماً) في عقابه له لا يظلمه ولا يؤاخذه إلّا بمقدار ذنبه.
١١٢ ـ (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ...) أي : ومن يرتكب خطأ عن غير عمد ، أو يعمل ذنبا عمدا. وقيل
ـ أيضا ـ : الخطيئة هي الشّرك. والإثم هو ما دون الشّرك. فمن يفعل ذلك ثم يرم به
بريئا أي أنه ينسب ذنبه الى برىء لم يفعله (فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتاناً) أي كذبا عظيما يبلغ الغاية في عظمه (وَإِثْماً مُبِيناً) يعني ذنبا ظاهرا واضحا.
وفي هذه الآيات
دلالة على أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يخلق أعمال العباد ثم يعذبهم عليها ،
لأنه إذا كان خالقا لها فهم براء منها.
* * *
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما
يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
ابْتِغاءَ
مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))
١١٣ ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ ...) قيل : فضل الله على النبي (ص) هو إنعامه عليه بالنبوّة
ورحمته : هي نصرته بالوحي. وقيل : فضله : هو تأييده بألطافه السّنية ، ورحمته هي
نعمته عليه ، ثم قيل : هما النبوّة والعصمة. فلو لا تلك الأفضال عليك يا محمد (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من الذين كفروا وتقدّم ذكرهم من بني الأزيرق أو غيرهم.
وقيل بل نزلت بوفد من ثقيف قدموا على النبيّ (ص) وقالوا : جئناك لنبايعك على أن
نكسّر أصنامنا بأيدينا على أن نمتّع بالعزّى سنة ، فلم يجبهم الى ذلك وعصمه الله
تعالى منهم ... وهمّت من الهم ، وهمّ يعني قصد وأضمر. فيكون المعنى : لو لا فضل
الله عليك لقصدت هذه الطائفة أي الجماعة من الناس (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي : يزيلوك عن الحق إمّا بشهادتهم للخائنين من بني
الأبيرق ، وإمّا بالتماس وفد ثقيف ما لا يجوز لك أن ترضاه من بقاء صنمهم العزّى
ومبايعتك على ذلك ، وإمّا أن المراد بالإضلال هو القتل والإهلاك ـ كما في قول أبي
مسلم ـ والمقصود هم المنافقون الذين همّوا بقتل رسول الله (ص) كما في معنى قوله
تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ) ، أي هلكنا وقتلنا ، ومثله تماما ، وهمّوا بما لم ينالوا.
وحاصل المعنى أنه
لو لا فضل الله عليك لأضلّك المنافقون والكفّار (وَ) بالحقيقة (ما يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ) أي : وما يزيلون عن الحق إلّا أنفسهم ، ولا يهلكون إلّا إياها
، فيكون وبال ما همّوا به إضلالك وإهلاكك عائدا عليهم ليستحقوا العذاب بمحاولتهم
حربك وحرب الله تعالى (وَما
يَضُرُّونَكَ
مِنْ شَيْءٍ) يعني أن كيدهم ومكرهم لا يلحقان ضررا بك لأن الله حافظك
منهم وناصرك عليهم ومسدّدك بقوته ومؤيّدك بجنده. فعل ذلك بك منذ اختارك لنبوّته (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (وَالْحِكْمَةَ) أي السنّة الشريفة. ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها هو
أنه كيف يضلّونك وهو نزّل عليك القرآن وأوحى إليك بالأحكام (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) يعني ما لم تكن تعرفه من الشرائع وأنباء الرّسل والأوّلين
وغير ذلك مما تعلمه (وَكانَ فَضْلُ اللهِ) إنعامه عليك (عَظِيماً) كبيرا لأنه شملك به منذ أن خلقك الى أن بعثك ، ثم جعلك
خاتم النّبيين وسيد المرسلين ومنحك الشفاعة في يوم الدين. وبذلك كان الفضل عليك (ص)
عظيما.
١١٤ ـ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ
...) النجوى : هي الإسرار ، وهو الحديث السّريّ الذي لا يتمّ
إلا إذا كان بين اثنين يتسارّان به أو أكثر من اثنين. فلا خير فيما يتهامسون به
فيما بينهم (إِلَّا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ) فإن نجواه تكون خيرا (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي ببرّ وإحسان. وقد سمي معروفا لاعتراف العقول بصوابه
وحسنه (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ) أي تأليف بين قلوبهم بمودة تشدّ بعضها الى بعض.
وفي : إلّا من أمر
... يجوز أن تكون من ، في موضع جر ، ويكون المعنى : إلّا في نجوى من أمر بصدقة.
ويجوز أن يكون استثناء من الأول ، ويكون موضعها نصبا ويكون المعنى : لكنّ من أمر
بصدقة ففي نجواه خير .. وفي المجمع عن حماد عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إن الله فرض التجّمل في القرآن. فقال : قلت : وما
التجّمل في القرآن جعلت فداك؟ قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له. وهو
قوله : (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) ، الآية. وقال عليهالسلام : حدثني أبي رفعه الى أمير المؤمنين عليهالسلام ، أنه قال : إن الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم
زكاة ما ملكت أيديكم ... (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) يعني من يعمل ما تقدم ذكره من
الفضائل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لما يرضيه سبحانه وتعالى. وقد نصب لفظ : ابتغاء
لأنه مفعول لأجله (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) أي نعطيه في الآجل (أَجْراً عَظِيماً) مثوبة عظيمة في كثرتها ومنزلتها وصفتها ، لأنها دائمة ،
عظيمة الشأن ، غير مشوبة بما ينغصها من الهم والألم. وفي الآيات الشريفة دلالة على
أن فاعل المعصية يضرّ بنفسه ، وأن الذي يدعو الى الضلال هو المضل ، وأن الضّال
مضلّ لنفسه بسوء اختياره للضلال وللإضلال. كما أن فيها ذمّا للنجوى إلا في خير ..
١١٥ ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ ..) قيل إنها نزلت في صاحب بني الأبيرق فإنه لما نزلت الآيات
الكريمة بتقريعه وتقريع قومه من بني الأبيرق ، غضب وارتدّ الى الكفر ولحق
بالمشركين في مكة ، وزاول السرقة كعادته فنقب حائطا ليسرق فوقع عليه الحائط فقتله.
فمن يشاقق الرسول : أي يخالفه ـ والشقاق هو الخلاف مع العداوة ، وشقّ العصا هو
مفارقة الجماعة ـ فمن يخالف محمدا ويظهر له العداوة من بعد ما تبين (لَهُ الْهُدى) أي بعد أن ظهر له الحق وقامت الحجة ، ووضحت البيّنة وصحّت
الأدلة على صدق نبوّته ورسالته (وَيَتَّبِعْ) يسلك طريقا (غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) غير طريقهم الذي هو الإسلام (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) يعني نكله الى من وكل نفسه اليه وانتصر به من الأوثان
واعتمده من دون الله. وقيل : نخلّي بينه وبين ما اختار لنفسه في دار الدنيا (وَنُصْلِهِ) أي نحرقه ونلزمه بدخول نار (جَهَنَّمَ) عقوبة على ما اختار من الضلال بعد الهدى ومن مشاقّة الرسول
(وَساءَتْ) جهنم : كانت سوءا و (مَصِيراً) مآلا صار اليه في نهاية المطاف لا يغادره الى أبد الأبد.
وقد استدلوا بهذه
الشريفة على أن إجماع الأمة حجة ، لأنه توعّد على مخالفة سبيل المؤمنين كما توعّد
على مشاقّة الرسول. وهذا وهم ، والصحيح أن إجماع الأمة ليس حجة ، لأن ظاهر الآية
يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا ، لأن من أظهر الإيمان لا
يوصف بأنه مؤمن إلّا مجازا ، فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان ،
وليس كل من أظهر
الإيمان مؤمنا. ومتى حملوا الآية على بعض الأمة حملها غيرهم على من هو مقطوع
بعصمته عنده من المؤمنين وهم الأئمة من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
على أن ظاهر الآية ـ كما في المجمع ـ يقتضي أن الوعيد إنما يتناول من جمع بين
مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين. فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله
الوعيد ونحن إنما علمنا يقينا أن الوعيد يختص بمشاقة الرسول بانفرادها بدليل غير
الآية؟ فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين الى دليل آخر.
* * *
(إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً
(١١٩)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))
١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ ...) قد مرّ تفسيرها فيما تقدّم ، وقد بينّا أن الشّرك بالله
أمر عظيم ، وأنه ـ برحمته ـ يغفر ما دون الشّرك من
الذنوب لمن يشاء
من المذنبين الذين تقبل أعمالهم. والمقصود بضلال من يشرك بالله ضلالا بعيدا ، هو
ذهابه عن طريق الحق ، وضياعه عن الصراط السويّ الذي يؤدي إلى ثواب الله عزّ وعلا
بطاعته. فالغرض المطلوب في الآخرة هو نعيم الجنّة الدائم ، ومن لم يصل إلى ذلك
النعيم فقد ضل طريق الوصول إليه ، وأبعد الطريق عنه هو طريق الشّرك والعياذ بالله
منه. ومن هذه الشريفة ومن روايات الباب ، يستفاد أن الشّرك أبعد أنواع الضلال عنه
تعالى.
١١٧ ـ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِناثاً ...) كلمة : إن ، نافية. أي : ما يدعون من دون الله تعالى غير
إناث ، وهو جمع : أنثى ، ضد الذكر. وقد سمّيت أصنام الجاهلية إناثا لأنهم كانوا
ينحتونها ويصنعونها قريبة من صور الإناث ، ويلبسونها أنواع الحلل التي تتزيّن بها
النساء ، ويسمّونها ـ غالبا ـ بأسماء نسوانهم وبناتهم ، نحو : اللات ، والعزّى ،
ومناة. والشيء قد يسمى أنثى لتأنيث اسمه. أو أن ذلك أطلق عليها لكونها جمادات
والجماد لا يعقل ويدعى بالتأنيث حسب قواعد العربية الفصيحة من حيث إنه منفعل غير
فاعل. بل لعله تعالى ذكر أوثانهم وأصنامهم بهذا الاسم تنبيها الى أنهم يعبدون ما
يسمّونه إناثا لأنه منفعل وغير فاعل ، ومن حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ،
ليكون ذلك دليلا على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم. ويحتمل ـ أخيرا ـ أن يراد بالإناث
الملائكة فإن من المشركين من يعبد الملائكة ويعتقد أنهم بنات الله ، وقد قال تعالى
: (لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى). وفي تفسير أبي حمزة الثمالي قال : كان في كل واحدة من تلك
الأصنام شيطان أنثى تتراءى للسدنة وتكلّمهم وذلك من صنع إبليس الذي ذكره الله في
كتابه ولعنه ... (وَإِنْ يَدْعُونَ) أي : وما يدعون ويسمّون من معبوداتهم (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) هو إبليس اللعين الذي في جوف تلك الأصنام أو هو أحد جنود
الشيطان الذي يتجسد في كل معبود لهم. فمعبودهم شيطان مريد ، أي : خبيث شرّير ، قال
الله تعالى فيه :
١١٨ ـ (لَعَنَهُ اللهُ ، وَقالَ ...) أي أخزاه وسبّه وأبعده من الخير ومن رحمته
التي تشمل
مخلوقاته ، لأنه عصى أمره (وَقالَ :
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) بالإضلال وبتزيين الكفر وتحسين المعاصي ودفعهم الى ما لا
ترضاه لآخذن الى جانبي (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي حظا يكون طبق ما قدرّت لي وسائل إطغائي لهم ، فكل من
أطاعه فهو من نصيبه وفي حزبه ومن أتباعه والسامعين لوسوسته وإعوائه. أمّا اللام في
لأتخذنّ ، وفي ما بعدها ، فهي كلها لامات القسم ، جيء بها للتشديد والتأكيد على
تنفيذ مدّعاه ، وقد تجرأ ـ لعنه الله ـ على ذلك التأكيد وأقسم عليه لأنه اطمأنّ
الى طول عمره بعد أن أعطاه الله ذلك وهدّده بعذابه وعذاب من يطيعه ، وهو مطمئنّ ـ بالتالي
ـ الى حيله ومكائده وبطشه في ضعفاء العقول والنفوس ، فإن أحابيل الشيطان يقع فيها
الذكيّ والأحمق ويهوي بنفثه ونفخه عرش السلطان ، كما يهدم بذلك كوخ الفقير وقصر
الغنى. ولذا أقسم ـ أخزاه الله ـ على ذلك بعد أن رأى غضب الله عليه لمعصيته الكبرى
، فجادل الله وتحدّى بالإطغاء والإغواء بنفسه وبجنده ، وما أكثر أتباعه من الناس :
.. فقد جاء في المجمع عن تفسير الثماليّ عن النبيّ صلىاللهعليهوآله في هذه الآية : تسعة وتسعون من بني آدم في النار. وواحد في
الجنة. وفي رواية أخرى : من كل ألف واحد لله ، وسائرهم للنار ، لإبليس! .. ثم
يتابع الشيطان أيمانه بقوله :
١١٩ ـ (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ،
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ، وَلَآمُرَنَّهُمْ ...) فهو يحلف ويؤكّد بأنه سيضلّهم عن طريق الحق وعن الهداية
والرشاد بوسوسته ، وأن يخادعهم بالأماني الكاذبة كالتكاثر بالأموال والأولاد ،
وكطول العمر وطول الأمل ، وكالإلقاء بأن لا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ، بل
بأن يوقع في نفس العبد أن لا ربّ ولا نبيّ ولا كتاب ، فافعل ما شئت دون وهم
وارتياب ، فيصطاد بهذه الأقاويل الباطلة حزبا كبيرا من الذين يعتمدون على الكلام
ولقلقة اللسان. ثم وعد ـ مؤكّد أيضا ـ بأن يأمرهم (فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذانَ الْأَنْعامِ) أي بقطع آذان الأنعام من الدواب. والبتك هو قطع الشيء من
أصله ، وإذا أخذ بعضه فهو قطع. ويمكن أن يقال إن القطع أعم ، ولا بعد فيه اصطلاحا
، والبتك كالبتر. والحاصل أن الشيطان الخبيث يأمر الناس
ببتك آذان أنعامهم
لأن البتك مثله وهو منهيّ عنه في شرعنا ، بل لعله المثلة منهيّ عنها في سائر
الشرائع. وقد نهى النبيّ صلىاللهعليهوآله عن المثلة ولو بالكلب العقور. فإن الحيوان يخرج بالمثلة عن
خلقته الأصلية ويرى قبيح المنظر. فالمثلة من أعظم التغيير في خلق الله عزوجل ، ولذا يبغضها الله تعالى ويحرّمها ، ولذا كان المتعارف
بين أصحاب الإبل والبقر والغنم أن تشق أذن الحيوان في محلّ معين كعلامة له ، لا أن
يقطع شيء منها. فالبتك ـ كما قلنا ـ من المثلة ولذا أكدّ إبليس اللعين بالإغراء به
والأمر بفعله ، أعاذنا الله تعالى من شر الشيطان وشر أعوانه بكرمه ومنّه. والدليل
على ما قلناه من الفرق بين القطع والبتك ، أن البتك يجيء أيضا بمعنى الصرّم الذي
هو القطع الشديد الذي تتميّز شدته بقطعه من أصله. بل الدليل الأقوى هو ما وجدناه في
المجمع عن الصادق عليه وعلى آبائه وأبنائه المعصومين السلام في رواية يفسّر فيها :
فليبتّكنّ بقوله : ليقطعنّ الآذان من أصلها. فالبتك إذا قطع مخصوص شنيع يصل الى حد
المثلة كما بينّا. وقد تابع الشيطان في بيان مكائده التي سيغوي فيها الناس بقوله :
(وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)
ففي المجمع أيضا ،
عنه عليهالسلام : يريد دين الله وأمره سبحانه. ويؤيده قوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ.) وقد فسّروا عليهمالسلام فطرة الله بالإسلام ، وهو الدين. ويحتمل أن إبليس لعنه
الله أراد بتغيير خلق الله ، تبديله عن وجهه صورة وصفة. أمّا الصورة فإنها كإعماء
الفحل أي الحامي الذي طال مكثه وكثر عمره ، فقد كانت العرب إذا بلغت إبلهم الألف
أو قريبا منه ، عوروا عيني الفحل وسمّوه بالحامي ، وتلك سنّة سيئة جاءتهم من وساوس
إبليس ، ومثلها خصاء العبيد الذي هو من بدعه وتزيينه وهذه كلّها محرّمة منه سبحانه
وتعالى ، ومشروعة عند الجهلة من أتباع إبليس. وأمّا التغيير صفة ومعنى فمنه ،
وأهمّه الكفر بالله ورسوله وبما جاء به قلبا ولو نطق بها لسانا. فكثيرون شهدوا
بذلك بألسنتهم وأضمروا عكسه في قلوبهم فكانوا منافقين في عقائدهم ينتج عن نفاقهم
ضرر كبير ومفاسد عظيمة. فقد فطر الله تعالى الخلق على استعداد للتحلّي بحلية
الإيمان والطاعة ، ومن
كفر وأظهر العصيان
فقد أبطل فطرته بدافع نفخ الشيطان ونفثه بدليل قوله صلىاللهعليهوآله : كل مولود يولد على الفطرة إلّا أنّ أبويه يهوّدانه
وينصّرانه. فكل تغيير في خلقة الإنسان التي خلقه الله عليها صورة وصفة هو من
اختراعات الشيطان اللعين نعوذ بالله منه ومن إملائه.
والحاصل أن تغيير
الخلق أعمّ من تغيير الظواهر والبواطن ، وقد حلف اللعين على تغيير الخلق مطلقا (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) أي يرتضيه لنفسه وكيلا وقائدا ، مؤثرا ما يدعو اليه لعنه
الله على ما أمر الله تعالى به ، ومتجاوزا طاعة الله الى معصية (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) إذ استبدل الآخرة الباقية بالدّنيا الزائلة ، والجنّة التي
يعجز عن وصفها الواصفون بالنار التي ترمى بشرر كالقصر ، فكيف بجمراتها ولهبها
وحرارتها ، أجارنا الله تعالى منها وأعاذ منها عباده المؤمنين. فمن اتبع الشيطان
ضيّع باتّباعه رأس ماله ، وأي خسارة توازي خسارة رأس المال؟
١٢٠ ـ (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ...) الشيطان عليه لعائن الله يعد الناس بالأكاذيب وبما لا
ينجّز ، ويمنيّهم بالأماني الوهمية وبالأباطيل التي لا تتحقق ولا يجنون منها خيرا (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا
غُرُوراً) والغرور هو إيهام النفع فيما فيه ضرر ، وهو الغش والخداع.
فمواعيد الشيطان الرجيم للناس تغرير بهم ، وإيقاع لهم في المهالك في الدنيا وفي
الآخرة. وفي رواية : أن الموكّل على إيقاع الأماني في قلب الإنسان هو الوسواس
الخنّاس. بيان ذلك أنه قد ورد في المجالس ، عن الصادق عليهالسلام : لمّا نزل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ ...) صعد إبليس جبل ثور بمكة فصرخ بأعلى صوته بحيث ملأ الدنيا
بحذافيرها ، فاجتمعت اليه عفاريته فقالوا : يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال : نزلت هذه
الآية فمن لها؟ فقام عفريت فقال : أنا لها. قال : بماذا؟ قال : بكذا وكذا. قال :
لست لها. فقام آخر فقال له مثل ذلك. فقام الوسواس الخنّاس فقال : أنا لها. فقال :
بماذا؟ قال : أعدهم وأمنّيهم حتى يواقعوا
الخطيئة فأنساهم
التوبة والاستغفار. فقال : أنت لها ، فوكّله بها الى يوم القيامة. نعوذ بالله من
أمانية وغروره.
١٢١ ـ (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ...) أي منزلهم الذي يؤويهم ، ومقرّهم الذي يخلصون اليه في
شدائد العذاب وعظائم الجحيم (وَلا يَجِدُونَ) ولا يلاقون (عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا ومهربا وملجأ يلوذون به ويحاولون الفرار اليه.
واسم الاشارة في أول الآية راجع إلى إبليس وأتباعه من الأولين والآخرين.
* * *
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً
(١٢٣)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً
(١٢٤))
١٢٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) بعد الكلام عن الشيطان وأتباعه وسوء مصيرهم المؤكد ،
استأنف سبحانه الكلام عن المصدّقين القائمين بصالح الأعمال ووعدهم بقوله عزّ اسمه
: (سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) فنؤويهم الى ذلك المقام السامي ، ونغدق عليهم تلك النعمة
التي ما بعدها نعمة ، تكون طبق عدلنا الإلهي وكرمنا على المطيعين ، ونعطيها
للمؤمنين لعظمة شأنهم وعلوّ مرتبتهم التي نالوها
بامتثالهم وطاعتهم
، ونجعلهم (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) يحيون فيها الى أبد الأبد كما يخلد الشيطان وأتباعه في
النار بالعدل فيهم وطبق مخازيهم ... ثم أكّد الجملتين بقوله عزوجل : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) وقد نصبت لفظة : وعد ، على المصدر ، والتقدير : وعد الله
بذلك وعدا. فوعدا مصدر دلّنا الكلام على فعله الناصب له. وحقّا أيضا مصدر من حقّ
يحق حقّا ، ومعناه : ثبت ووجب ولا خلف فيه. وجملة : وعد الله وعدا مؤكّدة لنفسها
لأن مضمونها سبقه وعد من الله ، كما أن جملة : حقّ ذلك حقّا ، مؤكّدة لغيرها كما
لا يخفى وجهه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً) استفهام إنكاريّ ، أي : لا أحد أصدق منه تعالى في جميع
العوالم قيلا : يعني قولا حين يقول عزّ اسمه. وغير خاف على اللبيب أن في الكلام
تأكيدا بليغا وبلاغة عظيمة تتجلّى في تضمّن الآية الشريفة معارضة وعد الشيطان
الكاذب لأتباعه ، بوعد الله الصادق لسامعي أمره ومطيعيه.
١٢٣ ـ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ ...) هذه الشريفة تذييل وتفسير لما سبقها ، أي لا يكون ما وعد
الله به من الثواب تابعا لتمنّياتكم أيها المؤمنون ، ولا تابعا لتمنّيات أهل
الكتاب من اليهود والنصارى بأنهم لا يعذّبون بأفعالهم. بل الله فعّال لما يشاء من
التعامل معكم ومعهم عاجلا أم آجلا وبأية كيفية شاء ، وقد قدّر أنّ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) وهذا هو العدل الربانيّ الذي لا يدانيه عدل ، ففي العيون
أن إسماعيل قال لأبيه الصادق عليهالسلام : يا أبتاه ، ما تقول في الذنب منّا ومن غيرنا ...؟ فقال عليهالسلام : ليس بأمانيّكم الى قوله : يجز به .. وفي المجمع عن أبي
هريرة قال : لمّا نزلت هذه الآية بكينا وحزنّا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه
الآية من شيء. فقال : أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا
وسدّدوا ، إنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر الله بها خطيئته حتى الشوكة
يشاكها أحدكم في قدمه.
وقيل في شأن نزول
الآية أنه وقع تفاخر بين أهل الكتاب والمسلمين ، فقال أهل الكتاب : نبيّنا وكتابنا
قبل نبيكم وكتابكم ، فهما أقدم عليكم
ونحن أولى بالله
منكم. وقال المسلمون : نحن أولى منكم لأن نبيّنا خاتم الأنبياء ، وكتابنا خاتم
الكتب السماوية ، فهو يقتضي على الكتب الماضية وينسخها بأجمعها ، فنزلت الشريفة
لفصل المقاولة. فمن يعمل السوء يلق جزاءه بالسوء (وَلا يَجِدْ لَهُ
مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لا يجد لنفسه غير الله سبحانه ، إذا جاوز موالاته
ونصرته ، إذ ليس من وليّ ينجيه ولا نصير يحميه من العذاب. والوليّ والناصر والمنجي
هو الله تعالى وهو خير الناصرين.
١٢٤ ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ...) هذه الشريفة تتمة لسابقتها فإن المسيء يجازى بسوء عمله ،
ومن عمل الأعمال الصالحة ، ذكرا كان أو أنثى ، وهو مؤمن بالله ورسله وكتبه
وملائكته وبما جاء من عنده (فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) باستحقاقهم وبحسب وعد ربّهم لهم (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي ولا ينالهم ظلم ولو بمقدار النقير يعني الشيء القليل ـ والنقير
هو الحفيرة الصغيرة غاية الصغر في ظهر النواة. والمراد أنه لا ينقص من أجر المحسن
في عمله بمقدار ما يملأ تلك الحفيرة من الشيء الزهيد الذي هو في غاية الصّغر. وهو
سبحانه يعبّر مرة بالذرة ، ومرة بالنقير ، نفيا للظلم عن ساحته المقدّسة ، ونفي
الظّلم بمقدار ما يملأ النقير ، تشبيه في غاية البلاغة لأن ما يملأ النقير لا يوزن
ولا يكال ولا يقدّر ، إذ لا يقع تحت إمكان الوزن والكيل والقياس ، فكأنه ليس بشيء
في واقع التقدير ، فهو ـ إذا ـ آكد في نفي الظلم عنه سبحانه نفيا باتا بمقدار
النقير أو الذّرة أو بأكثر أو بأقل منهما. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. هذا
ما نورده ببياننا القاصر لهذا التعبير الشريف ، وندع زيادة الدقة في فهمه لمن نوّر
الله قلبه بنور الإيمان وفتح عليه مغاليق الفهم لأسرار كتابه الكريم ...
* * *
(وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))
١٢٥ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ ...) أي ليس أحسن من الذي آمن بالله وأخلص في عمله له ، فهو
أحسن دينا ـ عقيدة وطريقة ـ من غيره إذ أسلم (وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ) الى جانب إيمانه ، مما يجعله أفضل ممن سواه. والجملة
حاليّة أي في حال كونه محسنا بين عباد الله قولا وعملا. فالمحسن الذي يفعل الإحسان
للناس ، وهو الذي لا يقول إلّا الحسن. فالله سبحانه مدح من آمن وأخلص وأحسن (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي شريعته في الدين قبل الإسلام. فإن شرع إبراهيم عليهالسلام كان متفقا عليه في عصره مميّزا عن بقية الشرائع ممدوحا
بحنيفيّته وسائر جهاته. وقد بقي كذلك تدخل الحنيفية منه في كل شرع أتى بعده الى أن
جاء الإسلام فأكمل نواقصها وأتمّ الشرع الاسلامي وفرض أحكاما تبقى الى يوم ينفخ في
الصور. فمن تمسّك بالإسلام فقد تمسك بالعروة الوثقى.
ولا يخفى أن ملّة
نوح عليهالسلام مثلا ، قد كانت بمقدار ما يحتاج اليه عصره ، وكذلك في أيام
إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام جميعا كانت شريعة كل واحد منهم تلائم عصره ، فاتّباع ملّة
إبراهيم من قبل المسلمين معناه الأخذ بما نزل به جبرائيل الأمين سلام الله عليه من
حنيفيته التي كرّسها شرع الإسلام ... وقد أشرنا الى ذلك في غير هذا المقام ـ فهو
إذا بأمر من الله تعالى. فمن اتبعها كان (حَنِيفاً) أي مستقيما ، مائلا عن سائر الأديان المنسوخة ، سائرا على
منهج إبراهيم عليهالسلام ، فإن منهجه محبوب من الله تعالى كما أن إبراهيم محبوب
ومقرّب منه سبحانه لأنه أرضاه بسيرته وبدعوته فأكرمه (وَاتَّخَذَ اللهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي حبيبا ألبسه ثوب الخلّة دون سائر الرسل ونصره على من
أراد به سوءا وأنقذه من نار النمرود
وجعلها عليه بردا
وسلاما ، وجعله للناس إماما يقتدون بفكره وعقله وإيمانه الراسخ وبكثير من تعاليم
شريعته الغراء.
والخلة هنا بمعنى
المحبة والصداقة كما قلنا. ويحتمل أن تكون من الخلة بمعنى الفقر والاحتياج
والانقطاع الى الله تعالى والتوكل عليه. فإن إبراهيم عليهالسلام لمّا رماه النمرود اللعين بالنار ، قال ربّ العزة : يا
جبرائيل أدرك خليلنا. فقال جبرائيل لإبراهيم (ع) : هل لك حاجة؟ قال : أمّا إليك
فلا .. فنادى الربّ عزّ وعلا : (يا نارُ كُونِي
بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، فنجّاه الله ونصره في أشد أوقات ضيقه كما المحنا في غير
هذا المكان. وهذا يكشف عن كمال انقطاعه لله تبارك وتعالى ، وعن تمام اتكاله عليه ،
وعن عميق اعتقاده بأنه ناصره ومؤيده. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : إن إبراهيم كان أبا الأضياف ، وكان إذا لم يكونوا عنده
خرج يطلبهم ، وأغلق بابه وأخذ المفاتيح يطلب الأضياف. وإنه رجع الى داره فاذا هو
برجل في الدار ، فقال : يا عبد الله بإذن من دخلت هذه الدار؟ فقال : دخلتها بإذن
ربّها ـ يردّد ذلك ثلاث مرات ـ فعرف إبراهيم عليهالسلام أنه جبرائيل. فحمد ربّه ثم قال : أرسلني ربّك الى عبد من
عبيده يتّخذه خليلا. قال إبراهيم : أعلمني من هو أخدمه حتى أموت. قال : أنت. قال :
وبم ذاك؟ قال : لأنك لم تسأل أحدا شيئا قط ، وحين سئلت عن حاجتك قلت : لا.
وفي القمي عن
الصادق عليهالسلام : إن إبراهيم هو أول من حوّل له الرمل دقيقا. وذلك أنه قصد
صديقا بمصر في قرض طعام ، فلم يجده في منزله ، فكره أن يرجع بالحمار خاليا. فألهم
أن يملأ جرابه رملا لئلا يخجل من زوجته سارة. فلما دخل المنزل خلّى بين الحمار
وبين سارة استحياء ودخل البيت ونام. ففتحت سارة الجراب عن أجود دقيق يكون. فخبزت
وقدّمت اليه طعاما طيّبا ، فقال إبراهيم : من أين لك هذا؟ فقالت : من الدقيق الذي
حملته من عند خليلك المصري. فقال إبراهيم : أمّا أنه خليلي فنعم ، وليس بمصري.
فلذلك أعطي الخلة ، فشكره وحمده وأكل. وفي
الصافي عن بعض
الرواة : أن الملائكة قال بعضهم لبعض : اتّخذ ربّنا من نطفة خليلا ، وقد أعطاه
ملكا عظيما جزيلا. وكأن الله سبحانه أراد أن يكشف لملائكته ما خفي عنهم من خلة
إبراهيم عليهالسلام ، فأوحى إليهم أن اعمدوا الى أزهدكم ورئيسكم ، فوقع
الاتفاق على جبرائيل وميكائيل ، فأنزلهما الله على إبراهيم عليهالسلام في يوم جمع فيه غنمه. وكان لإبراهيم (ع) أربعة آلاف راع
لأربعين ألف غنمة ، وما شاء الله من الخيل والجمال. فوقف الملكان في طرفي الجمع
فقال أحدهما بصوت رخيم : سبّوح قدّوس. فجاوبه الثاني : ربّ الملائكة والروح. فقال
إبراهيم (ع) : أعيداهما ولكما نصف مالي. ثم قال : أعيداهما ولكما نصف مالي وولدي
وجندي ..! فنادت ملائكة السماوات : هذا هو الكرم ، هذا هو الكرم! .. فسمعوا مناديا
من العرش يقول : الخليل موافق لخليله.
١٢٦ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) لللام في : لله ، يمكن أن يكون للملك الذي هو أحد معانيها.
ومعنى الملك ، هو ما يملكه الإنسان ويتصرّف به. ومن معانيه العظمة والسّلطة ، وكلّ
ذلك يناسب المقام ، فإن السماوات والأرض ومن فيهن وما فيهن ملكه تعالى يتصرف فيه
كيف يشاء بلا معارض ولا منازع. وهو العظيم الواحد ذو السلطان والجبروت عليهنّ بمن
فيهن وما فيهن». وجميع المخلوقات العلويّة والسّفلية محتاجة اليه عزّ وعلا ، وهو
غنيّ عنها ، فله ملك السموات والأرض بهذه المعاني جميعها (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما من حيث العلم والقدرة ، فهو
عالم قادر على جميع ما في الكائنات ، داخل فيها وليس فيها بتماسّ أو مخالطة ، وليس
فيها شيء خارجا عن علمه وقدرته ، وإحاطته تكشف عن غاية عظمته وكبريائه ، فسبحان من
هو مالك كل ملك وينتهي ملك كل شيء إليه.
* * *
(وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ
كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))
١٢٧ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ ...) يعني يطلبون منك الإفتاء بشأنهن ويسألون عن الحكم في
ميراثهن ، فقل الله تعالى يعطيكم الفتوى (فِيهِنَ) ... وفي القمي عن الباقر عليهالسلام : سئل النبيّ صلىاللهعليهوآله عن النساء ما لهنّ من الميراث ، فأنزل الله الرّبع والثمن.
فبيان حكمهنّ راجع اليه تعالى في مسائل ارثهن وفي غيره من
سائر شؤنهنّ. بل
إن بيده تعالى بيان الأحكام في جميع الأمور إثباتا ونفيا ، وجعلا وعدما ، لأنه
صاحب الشريعة والدين في جميع الأعصار منذ آدم عليهالسلام الى عهد رسوله الكريم نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله (وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) أي ما يبيّن ويفسّر في القرآن المجيد حينما يقرأ ويشرح لكم
وتتعلّمون منه ـ وهو أعلم بما فيه ، وبما قاله بشأن النساء و (فِي يَتامَى النِّساءِ) خاصة ، من (اللَّاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي ما كتب من الحكم لهن في اللوح المحفوظ. والمراد بيتامى
النساء هنّ البنات اليتيمات اللواتي كان يمنع عنهن ارثهن ، ويمنعن من التزوّج
بالغير لأكل ما لهنّ وحقهن. فالله سبحانه أمر بردّ أموالهن إليهن ، وإخلاء سبيلهن
ليتزوّجن باختيارهن ، فإنكم قد سلكتم معهن طريقة الجاهلية حيث كان ديدنهم أن لا
يورّثوا الصغير ولا المرأة ، وكانوا يقولون لا نورّث إلا من قاتل ودافع عن الحريم
فأنزل الله تعالى آيات الفرائض في هذه السورة منذ قوله جلّ وعلا : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ونحوها ...
والحاصل أنكم
تمنعون النساء واليتيمات منهن عن ارثهن ، وتمنعونهن عن التزوج حسب اختيارهن (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوّجوهن. فقد كان الرجل الذي يضم اليتيمة الى بيته إن
كانت جميلة تزوّجها وأكل مالها ، وإلّا عضلها ومنعها من الزواج بغيره وحبسها حتى
تموت ليأكل إرثها ويحرمها مالها. وقد كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا بهذا التصرف
الغبيّ ، الى أن نهاهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بعد نزول هذه الشريفة
التي تقدّس حق اليتيمة وتمنحها الحرّية ، فمشوا الى رسول الله صلىاللهعليهوآله وشكوا اليه الأمر ، فقال (ص) : بذلك أمرت. فقد حفظ الله
سبحانه حقهن وضمن حريتهن ، هنّ (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ) أي الصبيان الصغار الذين كانوا يحرمونهم حقهم وإرثهم لعدم
دفاعهم وقتالهم في سبيل الحريم ، فقد عطفهم سبحانه على يتامى النساء اللاتي كانوا
يفعلون بهن ما ذكرنا. فأمر سبحانه بإنصاف هؤلاء وهؤلاء (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى
بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فأوجب إيصالهم جميعهم الى حقوقهم بتمامها كما
شرع لهم حين
يصيرون أهل رشد وتكليف ، أو إعطاءه الى وليّهم إن كان لهم وليّ ، وإن لم يكونوا
تحت ولاية أحد فالى القيّم الذي يعيّنه الحاكم الشرعي الذي يحفظ أموالهم ومواريثهم
(وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) أي ما تصنعوا من إحسان الى هؤلاء اليتامى ـ صبيانا وبنات ـ
(فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً) عالما بالخير الذي تصنعونه وبكل شيء. وفي ختام الآية بهذا
الشكل يرمز سبحانه الى أنه لا يتسامح في تضييع شيء من حقوق الأيتام ، لأنه عليم
حسيب يراقب بدقة.
١٢٨ ـ (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها
نُشُوزاً ...) النشوز من الرجل هو الإعراض عن الزوجة ، والنشوز منها هو
عدم رغبتها في مساكنته. والنشوز من النشز الذي هو ما ارتفع من الأرض. وهو من
الزوجين كراهية أحدهما للثاني وترفّعه عليه. فإن خافت المرأة أن يعرض عنها زوجها
ويجفوها فلا ينام معها في مضجعها ، ويضيّق عليها في مأكلها وملبسها ، أو يضرها
بإدخال ضرّة ـ زوجة ثانية ـ عليها فيصير أمرها معه أصعب بحيث لا تتحمل مشقة ذلك (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا
بَيْنَهُما) فلا جناح : هنا : ينبغي ، بل يجب الصلح بينهما لأنه الأجدى
والأحسن لكل منهما. وفي الكافي والعياشي عن الصادق عليهالسلام في تفسير هذه الشريفة : هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها
، فيقول : أريد ان أطلّقك. فتقول له : لا تفعل ، إني أكره أن يشمت بي ، ولكن انظر
ليلتي ـ أي دورها في وجوب مضاجعتها ـ فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شيء
فهو لك ودعني على حالتي. وهو قوله تعالى : (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) هذا هو الصلح. ويستفاد من قولها : دعني على حالتي ـ كما في
الرواية ـ أن لها أن تهب جميع حقوقها التي كانت لها على زوجها حتى لا يطّلقها ومن
أجل أن تدفع الشماتة عن نفسها والاتهام لها ، ولحفظ شؤونها على كل حال. وإذا فرض
أنها تصالحه على جميع حقوقها عليه في عوض عدم الطلاق ، وبقاء علقة الزوجية في
الجملة ، فيعلم أنه لا يلزم أن يكون عوض الصلح مالا كما قد يتوهّم ، بل قيل بذلك.
بل يصح أن يكون حقا
من الحقوق على ما
يستفاد من رواية الكافي عن الإمام عليهالسلام ، وظاهر الكلام أن المرأة بقولها : دعني ، أرادت أن
تصالحه. والإمام عليهالسلام يقول في ذيل الرواية : هذا هو الصلح.
أما المراد بالصلح
الذي يدل عليه فعل : يصلحا ، فهو من قبل الرجل وزوجته نفسهما ، أي أن الضمير ـ الفاعل
ـ في : يصلحا ، عائد للزوجة والبعل ، لا لغيرهما ممن قد يتولى الإصلاح. ففي هذه
الحالة فرض الله سبحانه إمّا أن يتنازل الزوج عن بعض حقوقه على زوجته ، وإمّا أن
تغمص الزوجة عن بعض حقوقها أو جميعا ، ولا سيّما إذا كان الكره صادرا عن الزوج
فإنها تهب له ذلك مستعطفة ولو بأن تترك له مهرها أو تبذل له شيئا من أموالها إذا
كانت ذات مال ، تفعل كل ذلك بغية استمالة قلبه إليها بأية كيفية تتمكن من جلبه
نحوها. ومما لا شك فيه أن ذلك أحسن من البينونة (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الطلاق والفراق أو الجفاء على الأقل. وقد وقعت هذه
الجملة في مورد الاعتراض ، وهي كقوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) أي جعل الشحّ حاضرا لها لا يغيب عنها إذ النفوس مطبوعة
عليه. وهي هنا تعني البخل بالشيء القليل ، والغرض من إيرادها هو كون المرأة لا
تسمح لنفسها بصرف النظر عن حقها وقسمها ، والرجل ـ كذلك ـ يضن بأن يسمع لها
ويتعبها في بيتها ولا سيّما إذا أحبّ غيرها وكرهها ، وفي تلك الحالة لا بد من
الافتراق ... والفرق بين الشح والبخل أن الشح بخل مع حرص ، بخلاف البخل الذي هو
مجرد بخل. فالشح إذا أشد من البخل ، وهو يكون في المال وفي كل معروف ، ومنه قوله
تعالى : أشحّة على الخير. وفي حديث : إن البخيل يبخل بما في يده ، والشحيح يبخل
بما في أيدي الناس مع بخله بما في يده ، ثم لا يرى في أيدي الناس شيئا إلّا تمنى
أن يكون له ، ولا يقنع بما رزقه الله سبحانه. وفي رواية : لا يجمع الشحّ والإيمان
في قلب أحد أبدا. بيان ذلك أن الشح حالة غريزية جبل عليها الإنسان الشحيح ، فهي
كالوصف اللازم له ، ومركزها النفس. فاذا انتهى سلطان الشح الى القلب واستولى عليه
، عري
القلب عن الإيمان
لأنه يشح بالطاعة ولا يبذل الانقياد لأمر الله جلّ وعلا. وقد قال بعض العارفين :
الشح في نفس الإنسان ليس بمذموم لأنه طبيعة ، خلقه الله تعالى في النفوس كالشهوة
والحرص والحسد لابتلاء البشر ولمصلحة عمران الكون. وإنما المذموم أن يستولي سلطانه
على القلب فيطاع ... (وَإِنْ تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا) أي تفعلوا فعلا حسنا من حيث المعاشرة والاختلاط ـ وهو هنا
سبحانه يتكلم عن الزوجات وأزواجهن ـ فاذا فعلوا ما هو ممدوح شرعا وعرفا فيما بينهم
، ثم اتّقوا النشوز وما يجرّه من أضرار الظلم بالزوجة أو الزوج ، وتجنّبوا الخصومة
الزوجية التي تحصل في مثل هذه الظروف (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) عارفا عالما يميّز الأعمال الحسنة من الأعمال القبيحة
السيئة مما يجّره النشوز بين الزوجين.
١٢٩ ـ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ ...) أي لن تقدروا على التعامل معهن بحيث يرضين كلهنّ من
أزواجهنّ إذا كان عند الرجل الواحد منكم زوجات متعددات. وقد كان صلىاللهعليهوآله يقول. حينما يقسم بين نسائه فيعدل : هذا قسمي فيما أملك ،
فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك. مخاطبا ربّه عزّ اسمه الذي ينشئ العاطفة عند
الإنسان ، ويملك كل ميل أو إحساس أو شعور. فالنبيّ (ص) كان يضيق في هذه الحالة
ويرى صعوبة العدل بين النساء من حيث الميل القلبي ومن حيث العاطفة التي يملكها
الله تعالى ، وكان يعتذر من نسائه بعد القسمة بينهنّ مع أن قسمته (ص) في غاية
العدل لأنه هو مطبّق العدل الذي سنّة الله تبارك وتعالى ، ومع شديد احتياطه (ص)
كان منهنّ من لا ترضى بقسمته ويخطر لها الاعتراض بل تفعله مع مرسي العدل على وجه
الأرض صلىاللهعليهوآله ، فكيف هي حال غيره من الرجال المتعددي الزوجات؟ ... ويؤيد
القول بأن الله سبحانه نفى استطاعة العدل بين النساء الضرائر من ناحية الميل قائلا
للرجال : (لَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل القلبي وبذلتم كل جهد عقلي ، فلا بدّ من ميل
لواحدة أكثر من ضرتها. فهو سبحانه أعلم بحال الناس ، وأعرف بقلوب الرجال ، وأدرى
بشؤون النساء ـ وهو خالق
كل ذلك ـ ولذا نفى
العدل وأكد بلفظة : لن ، التي تفيد التأييد وشبه الاستحالة الواقعية من غير أن
يستثني أحدا حتى الأنبياء الكرام والرّسل العظام. فلن يقدر رجل على الميل لزوجاته
المتعددات بالتساوي ، كما أنه لا يمكن أن يحصل على ميلهنّ كلهن اليه بالتساوي
والنسبة الواحدة ، ولا يحصل على رضاهن كما أنه لا يستطيع إرضاءهن بقسمة الليالي
مهما تكلّف من التصنع ... فأنتم ـ أيها الرجال ـ مكلّفون بالعدل بمقدار استطاعتكم
للعدل الذي تملكون أمره ، بالحرص على العدل ممّا أنتم مجبولون عليه من عاطفة الحب
والكره ، أي الميل القلبي. نعم (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) أي لا تعرضوا تمام الإعراض عن واحدة منهن ، ولا تقبلوا كل
الإقبال على أخرى ، بحيث تنعدم استطاعتكم في محاولة العدل بين نسائكم ، وبحيث تقع جفوة
للمرغوب عنها. والله تعالى لا يرضى بذلك لأنه ظلم وهو سبحانه لا يحب الظالمين ،
فاعلموا أن ما لا يدرك بتمام مراتبه ، لا يترك بتمامه ، أي ما لا يدرك جلّه لا
يترك كله. وإنكم إذا ملتم عن واحدة وصرفتم وجهكم عنها ، تكونون قد جفوتموها (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أي أنها ذات بعل وكأنها ليست بذات بعل ، أو أنها لا بعل
لها ولكنها ليست أيّما. وهذه الحالة هي أعظم عليها من ميلكم نفسه ومن طلاقها.
فحاذروا ذلك قدر المستطاع إذ روي أن عليا أمير المؤمنين عليهالسلام كان له امرأتان ، فكان (ع) إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في
بيت الأخرى (وَإِنْ تُصْلِحُوا
وَتَتَّقُوا) تصلحوا أنفسكم بعدم ميلكم التام ، فتطبّعون أنفسكم على
مقاومة هواجس النفس ووساوس الشيطان ، وتتجنّبون الميل الكلّي امتثالا لأمر الله
تعالى بحفظ الجميع ، وبإعطائهن جميع حقوقهن حتى في المبيت عند كل واحدة بنوبتها ،
فتكونون قد فعلتم ما هو مشرّع بمقدار قدرتكم وبحسب تمكّنهم ، لتحصلوا على رضاهن
الى حدّ يقع من جرّائه العطف والرحمة فيما بينكم بعون الله جلّ وعلا. فهذه
المحاولة تبلغكم درجة من الإصلاح والتقوى اللّذين مدحهما الله (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يعفو عن التقصير السالف غير المتعمّد في حقهن ، ويرحم
محاول العدل يوم لا راحم غيره.
١٣٠ ـ (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا
مِنْ سَعَتِهِ ...) والمراد من التفرّق هنا : الطلاق والمفارقة : فإنه تعالى ـ
منة على العباد ـ أخبر الزوجين أن لا يخافا ولا يحزنا حين تنافر القلوب ، فهو
متكفل بحياة كل مخلوق وبرزقه ، فإذا وقع الطلاق بين زوجين لا يمنع ذلك الطلاق عن
أحدهما رزقا ولا عناية منه سبحانه ، بل رحمته تسع حاجتهما وإغناء كل واحد منهما
لأنه واسع الفضل كريم على المتزوج والمطلّق والأعزب (وَكانَ اللهُ) أزلا وأبدا (واسِعاً) جزيل الفضل ، غنيا كثير العطاء (حَكِيماً) في تدبير خلقه على وفق حكمته. ولا يبعد أن تكون هذه الجملة
علة لما قبلها من الصلح والجمع أو التفرّق. يعني لا فرق عنده تعالى بين أن يقع
الصلح مع التراضي أو أن يقع الفراق والتسريح بالمعروف والإحسان .. وفي الكافي أن
الصادق عليهالسلام شكا اليه رجل الحاجة فأمره بالتزوج. فتزوج فاشتدت به
الحاجة فعاد بالشكاية اليه (ع) فأمره بالطلاق ، فطلّق. ثم أثرى الرجل بعد ذلك وحسن
حاله فجاءه فقال له الامام الصادق عليهالسلام : أمرتك بأمرين أمر الله بهما. قال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) ، الى قوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وقال : وإن يتفرّقا يغن الله كلّا من سعته .. فسبحان
مقسّم الأرزاق الذي لا ينسى من فضله أحدا ، وله الحمد على كل نعمة أنعم بها علينا.
* * *
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢)
إِنْ
يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ
أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)
مَنْ
كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))
١٣١ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ..) هذا بيان لكمال سعته التي تكلم عنها سبحانه في ختام الآية
السابقة ، وهو غنيّ بذاته يملك جميع الأكوان العلوية والسّفلية ، وكلها تحت يد
قدرته. فذاته العظيمة تهيمن على ذلك الملك العظيم من الذّرة الى الدّرة ، وتملك
وتتصرف في كل شيء كما تشاء ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممّن يشاء ...
والشريفة بيان لكمال قدرته أيضا ، وتفصيل لما نحن فيه من ملكه والكبير وسعة عطائه
الكثير ، بعد هذه القدرة والإحاطة بملكية العوالم والكائنات طرّا من الهباء
والهوام الى السماوات والأرض والكواكب والمخلوقات الجسام ، فهو تعالى ، لا يتعذّر
عليه الإغناء بعد الفراق والطلاق ، ولا يصعب عليه الإيناس بعد تلك الوحشة إذ بيده
مقاليد الأمور ولا يحصل شيء إلا بقدرته ، ولذا قال مفصّلا : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا) أي أمرنا مؤكّدا (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى وغيرهم في كتبهم المنزلة على أنبيائهم عليهمالسلام. واللام في : الكتاب ، للجنس ، لأن اللفظة تتناول الكتب
السماوية بأجمعها. وكلمة : من ، تتعلق بوصّينا أو بأتوا. فلقد أمرنا أصحاب الكتب
السماوية (وَإِيَّاكُمْ) أي أمرناكم أنتم ، وهي عطف على الذين ، إذ وصّيناكم ـ يا
أمة محمد ـ في كتابكم ، وأمرنا الكل (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) تجنبوا مخالفة ما يأمر به. يعني وصّى الجميع بالتقوى ، لأن
: أن ، مصدرية وقد حذف من أولها حرف الجر. فإياكم وترك التقوى (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تجحدوا وتنكروا ما نقول ولا تتّبعوا أمرنا (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) له ملكا وخلقا وحياة ومماتا ووجودا وعدما ، ولا يضره كفركم
كما أنها لا تنفعه تقواكم ولا يزيد في ملكه وعظمته إيمانكم كما أنه لا ينقص منها
كفركم.
فهو ـ جلّ وعلا ـ إنما
وصّانا بالتقوى وبالإيمان هنا وفي موارد متعددة ، رحمة منه ولطفا بنا ، لا لأنه
يحتاج إليهما ، ولذا قرر ذلك بقوله : (وَكانَ اللهُ
غَنِيًّا) يعني أنه غني عن الخلق وعبادتهم. لا تنفعه الطاعة ولا تضره
المعصية ، منزّه عن جميع ما تتصورون ممّا سواه ، لا تعلّق له بسواه لا في ذاته ولا
في صفاته ، كان ولا يزال أبدا غنيا (حَمِيداً) مستحقا للحمد حمد أم لم يحمد. وقيل إنه حميد لحمده لنفسه
أزلا ، ولحمد عباده له أبدا.
١٣٢ ـ (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ ...) هذه الآية الشريفة تكررت ثلاث مرات ولكن ليس تكرارها
مستهجنا. بيان ذلك أن الكلام إذا ذكر بحسب مناسبة وجدت واقتضته ، لا يكون ذكره
وتكراره لغوا ، ولا يحسب مستهجنا ولو تكرر ألف مرة. وإن سور القرآن الكريم الذي هو
في غاية البلاغة والفصاحة قد حوى تكرارا كثيرا لبعض الجمل والعبارات كما في سورتي
الرحمن والمرسلات مثلا. فمطلق التكرار ليس بقبيح بل لقد اعتبره الفصحاء ضربا من
التأكيد. نعم إذا تكرر دون اقتضاء أو بلا فائدة ، فإنه حينئذ يكون لغوا واللغو
قبيح ، وقد جلّ القرآن ـ أمّ اللغة العربية وحافظها ـ عن ذلك .. فإن الله سبحانه
كرّر الجملة وهو يقصد في كل مرة بيانا جديدا. ولن نطيل في بيان ذلك بل نكتفي بذكر
المناسبة الأخيرة لإقامة الدليل على ما قلناه : قال تعالى : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) ، ثم بين غناه بأن له ما في السماوات والأرض. ومثلها غيرها
، فتأمل.
والحاصل أن من كان
يملك السماوات والأرض غنيّ ذاتا عمّن سواه من جميع الجهات ، لا شبهة في ذلك ولا
ريب عند العقلاء ، فخذ وقس على ذلك ما تقدم من الموارد التي تكررت فيها الآية
الشريفة (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) بعد ما ثبت أن المكوّنات طرا تحتاج بذاتها الى مكوّنها
وخالقها في جميع شؤونها وسائر أحوالها ، وفي تدبيرها أيضا فلا مندوحة لها عن
التوكل عليه وهو خير وكيل يكفي عن كل وكيل ، وهو في كل حال نعم الوكيل لأنه القادر
على تقدير أمورها دون أن ينازعه أحد قدرته ، مهما كانت مراتب الكائنات والمخلوقات
التي تكل أمورها اليه.
١٣٣ ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ ..) أي أنه إذا أراد سبحانه أن يفنيكم ويخليّ الأرض منكم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يجيء بغيركم بدلكم ، ويخلق سواكم من الناس ـ فلا مانع يحول
دون إرادته ومشيئته (وَكانَ اللهُ عَلى
ذلِكَ قَدِيراً) أي قادرا على التبديل والتغيير. يعني يفنيكم ويخلق غيركم
لأنه في غاية القدرة على ذلك ، لا يمنعه عن ذلك مانع. وإنه تعالى ـ حين يبقيكم على
ما أنتم عليه من العصيان والتمرد ـ إنما يدعكم لكمال غناه عن طاعتكم ، لا لعجزه
سبحانه عن إفنائكم وإيجاد بديل عنكم ، وتعالى الله علوّا كبيرا عن الاتّصاف
بالعجز. والآية الكريمة تدل على تمام قدرته وكمال تمكّنه ، وعلى غاية صبره عن العصاة
الذين لا يعجل في مؤاخذتهم لأنه لا يخاف الفوت. وفي الحديث : لا أحد أصبر من الله
على الأذى. إنه تعالى يشرك به ويجعل له الولد ثم هو تعالى يعافيهم من البلايا ،
ويرزقهم في الجدب والمحل.
١٣٤ ـ (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا ..) كالمجاهد الذي يطلب الغنيمة من وراء جهاده مثلا فهو يرغب
بالكسب المعجّل في الحياة. فمن كان يريد ذلك يقول الله تعالى له : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا) يعطيه إياه (وَ) عنده ثواب (الْآخِرَةِ) أيضا. فثواب الدارين بيده سبحانه فليطلبهما منه فذلك أحسن
عنده لأن الله يحب أن يطلب منه الكثير ، ولا ينبغي أن يطلب منه إلّا الكثير لكرمه.
وهو ـ جلّ وعلا ـ يطلب منه الأشرف والأبقى والأكثر والأرفع لا الأخسّ ولا الأدنى.
وقد قال تعالى في مكان آخر : من كان يريد حرث الدّنيا نزد له في حرثه ، يعطيه
ويزيده بمقدار ما يصون كرامته ويزيده ونلفت النظر الى أن طلب الدنيا غير ممنوع على
المؤمن ولا محرّم عليه. بل ينبغي له أن يطلب من الله تعالى ، ليعطيه ما يصون
كرامته ويحفظ حرمته بين الناس ، لأن المؤمن عزيز على الله وهو سبحانه يحب له
الكرامة بين الناس. يدل على ذلك ما في الكافي عن الصادق عليهالسلام ، حيث قال : من كانت الآخرة همته ، كفاه الله همته في
الدنيا. ومن أصلح سريرته ، أصلح الله علانيته. ومن أصلح فيما بينه وبين الله ،
أصلح الله فيما بينه
وبين الناس .. ولعل
المراد بالإصلاح بينه وبين الناس ، هو أن يجعل الله قلوبهم تميل إليه ، ونفوسهم
تعطف عليه ، فإن كان في أمر دنياه نقص أكملوه بلا طلب منه وبلا توّجه بالسؤال
إليهم (وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً بَصِيراً) يسمع وساوس الصدور ، ويسمع جميع المسموعات طبعا لأنه يطلّع
على خطرات النفوس ، ويبصر ما في ظلمات البر والبحر وما في القلوب ، ويعرف أغراض
الناس ورغباتهم ، ويعلم من يطلب حرث الدنيا كالمجاهد للغنيمة ، ومن يريد ثوابها
كالطامع بالجاه والمدح ، ويعلم المجاهد لإعلاء كلمة الدين والفوز بثواب الجهاد ،
كما يعلم نيّة فاعل الخير وصدقة السرّ طمعا بالثواب يوم المعاد. وقد قيل إن الآية
في مقام تهديد المنافقين والمرائين. وروي أن في جهنم واديا تتعوّذ من حرّها جهنم
بالله ، أعدت للقرّاء المرائين ..
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥))
١٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ..) أي قائمين بالعدل مجدّين في إقامته وإشاعته ، عاملين به لأن
العمل بالشيء أفضل طريقة لترويجه ، فكيف إذا كان كالعدل الذي هو خير ما يتعامل به
الناس للإنصاف وإيصال الحقوق الى ذويها؟ فكونوا دعاة للعدل بغير ألسنتكم ، وقولوا
الحق دائما وكونوا (شُهَداءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي أقيموا الشهادة الصادقة خالصة له عزوجل سواء كانت لكم أو عليكم. والجملة إما خبر ثان لكونوا ، أو
هي حال أي اشهدوا شهادة خالصة ، والأول
أصح. فاشهدوا
بالحق ولو كانت الشهادة عليكم (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) فإن أداء الشهادة واجب لا تمنعه الرحميّة ولا تحول دونه
القرابة ، بل تجب الشهادة ولو كانت على الأب أو الأم أو القريب ومما خصّص به في
غير هذا المقام قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهادَةَ) ، الذي هو نهي مطلق صريح. نعم في بعض الموارد ـ كأن يترتب
على الشهادة فساد عظيم كالقتل ، أو كشق عصا المسلمين أو الثلم في الدين وأمثال ذلك
من الأمور العظام ـ فقد قيل بجواز تأدية الشهادة بما يناسب المقام أو بأن لا تودّى
مطلقا إذا لم يكن في كتمانها محذور.
والحاصل أن أداء
الشهادة واجب (إِنْ يَكُنْ) الشاهد أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً) إذ لا الغنى يجيز كتمان الشهادة على الغني ، ولا الفقر
يمنع الفقير عن إقامة شهادته حين الإدلاء بها. فلا بد من إقامتها في جميع الموارد.
أما الغنى والفقر (فَاللهُ أَوْلى
بِهِما) وهو سبحانه مقدّرهما وأحق بهما ، وهما من عطائه ومنعه لكل
أحد ، وليس لأحد أن يلاحظ فقر فقير فيتقاعس عن الشهادة له على الغني إذا كان الحق
على الغني ، أو أن يشهد للغني لغناه إذا كان الحق للفقير. فليس للفقر ولا الغنى
دخل في باب الشهادة ، بل يجب أن تجيء على وجهها الصحيح ، وأن تؤدّى بصراحة تامة
وكما هي عليه. وحرمة كتمانها مؤكدة إذ الفقر والغنى أمران واقعيّان هما بيد الله
الذي يعطي لمن صلاحه في الغنى ، ويمنع عمّن إصلاحه وصلاحه بالفقر ، وبذلك يتمّ
انتظام الكون إذ لا غنى للغني عن الفقير ، ولا غنى للفقير عن الغني في مجال الحياة
الاجتماعية ، ولو لا هذا وذاك لاختل نظام المجتمع وتوقف الازدهار في العالم كما لا
يخفى على ذوي الألباب والبصائر ..
والحاصل أن أداء
الشهادة على وجهها الحق ، يجب ولو كان على النفس أو الأهل أو الأقرباء أو الفقير
أو الغني ، ولو لا وجود المصلحة في ذلك لما أمر الشارع الأقدس بإقامتها عليهم. وفي
الحديث : أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقيل : يا رسول الله ، كيف ينصره ظالما؟ قال
صلّى الله عليه
وآله : بأن يردّه
عن ظلمه ، فإن نصره معناه منع الظالم عن ظلمه ، أي إعانته على ما فيه مصلحة دينه
ودنياه وآخرته .. (فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوى) في شهاداتكم وجميع أموركم ويجب أن لا يمنعكم هوى نفوسكم (أَنْ تَعْدِلُوا) تكونوا منصفين تقولون الحق وتقيمون العدل. فالعبارة تعني :
لا تكتموا الشهادة لأجل أن تعدلوا في الأداء أو في الكتمان لتحفظوا عقيدتكم
الشريفة بين الناس ، فإن متابعة الهوى مخالفة لأمره تعالى. أو أن المعنى : لأن
تعدلوا عن الحق تعالى ، أو عن الحقيقة وواقع الأمر ، وتعرضوا عنه ميلا مع هواكم
ومخالفة لمولاكم. والحاصل أن الشريفة تنهى عن متابعة الهوى في إقامة الشهادة أو في
عدمها ، ولا بد للعباد من اتّباع أمر المولى عزوجل الذي هو وليّ أمرهم في جميع أحوالهم. أعاذنا الله من وسوسة
الشيطان وهوى النفس.
(وَإِنْ تَلْوُوا) أي تميلوا وتحرفوا ألسنتكم عن الشهادة بالحق وعن أدائها
على وجهها (أَوْ تُعْرِضُوا) تمتنعوا عن أدائها وإقامتها ، بأن لا تشهدوا رأسا لا على
المتداعيين ولا لهما ، فإن الإعراض مسوّغ لكتمانها ، فانتبهوا لمغبة ذلك (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) يعلم ليّ ألسنتكم ، ويرى إعراضكم ، ويعرف جميع أعمالكم
وأقوالكم. وفي الكافي عن الباقرعليهالسلام : إن تلووا : أي تبدّلوا الشهادة ، أو تعرضوا : أي تكتموا.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩))
١٣٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) الخطاب لكافة المسلمين الذين أظهروا الإسلام بألسنتهم ،
وبدوا مسلمين بظاهرهم. يقول لهم تعالى : (آمَنُوا) صدّقوا بقلوبكم وآمنوا إيمانا حقيقيّا بحيث يتطابق ما في
قلوبكم مع ما في ألسنتكم ، ويثبت الإيمان ويترسخ في جميع جوارحكم فتؤمنوا حقيقة (بِاللهِ) ربكم (وَرَسُولِهِ) نبيكم (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) قرآنكم (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ) الله تعالى (مِنْ قَبْلُ) على رسله وأنبيائه السابقين.
فالمراد بالكتاب
الأول : القرآن ، وبالكتاب الثاني : الجنس كالتوراة والإنجيل وغيرهما. والفرق بين
نزّل وأنزل ـ أي بين التنزيل والإنزال ـ أن الأول يقال في النزول التدريجي ،
والثاني يقال في النزول الدفعي. فإن كتب الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام
كان نزول كلّ منها دفعة واحدة ، بخلاف القرآن الذي نزّله الله تعالى منجّما أي
أجزاء وبمناسبات كما أشرنا فيما مضى. ونحن نرى أن هذا الفرق من نسج بعض مخيّلات من
يفسرون تفسيرا شعريّا لأن اللفظتين ـ نزّل وأنزل ـ وردتا بخصوص نزول القرآن الكريم
وبخصوص بقية الكتب السماوية الأخرى ،. فلا مدرك لهذا الفارق بالحقيقة حتى في كتب
اللغة التي تعتبر اللفظتين مشتركتين في المعنى يستعملان في القرآن وفي غيره وفي
كتب السلف الصالح على السواء ، ولو كان من فرق لبان. وببالي أن هذا الفرق نسبوه
للغزالي ، ولا بعد في نسبته إليه لأنه كثيرا ما أورد مثل هذه الأفكار في إحيائه
وفي غيره من كتبه.
(وَمَنْ يَكْفُرْ) أي ينكر ويجحد ، ولا يؤمن (بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لم يصدق بكل واحد من هذه الخمسة المسمّيات (فَقَدْ ضَلَ) أي تاه عن الحق وضاع (ضَلالاً بَعِيداً) غير قريب ، ضاربا في البعد ، لأن إنكار واحد من هؤلاء يرجع
بالحقيقة إلى إنكار وجود الصانع تبارك وتعالى ، فهو الذي أمر بالإيمان بهم بعد
الايمان به سبحانه ، وهو حد الكفر به تعالى وتقدّس ، والكفر بالله أشد أنواع الكفر
، ويكون أشد عذابا من كل ذنب ، وأبعد من كل بعد عن رحمته عزوجل.
وأما ذكر الرسول
تلو ذكر الجلالة في موضوع مراحل الإيمان ، ثم ذكر الملائكة تلو ذكره جلّ جلاله في
مقام الكفر ، فلعله يرمز إلى أن في مراحل الايمان تكون مرحلة أصول العقائد.
فالترتيب في ذلك هو ما ذكر : أي معرفة الصانع تعالى ، فإنه يجب على كل إنسان السعي
في سبيل معرفته سبحانه ، وتحصيلها بالدليل والبرهان ، لأن إيمان المقلّد ومعرفته
لوجود الصانع وإن كانت صحيحة عنده ، لكنه آثم من حيث تركه النظر في الأدلة
والبراهين والحجج. فالمعتمد أولا ، هو تحصيل المعرفة بالحجج والبراهين والدليل
المقنع ، حتى يبلغ الايمان به جلّ وعلا وبوجوده كمن يراه. فقد قال مولى الموالي
أمير المؤمنين صلوات الله عليه في هذا المقام : عميت عين لا تراك .. ثم ينبغي
للإنسان أن يجتهد في ذلك حتى يصل إلى درجة الفناء في ذات الله عزوجل ، كما حصل لموسى عليهالسلام مثلا في طور سيناء ، وكما جرى لنبيّنا صلىاللهعليهوآله ليلة الإسراء إذ رفعه الله تعالى فيها إليه فوصل إلى مقام
ما وصل إليه نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب ، وشاهد ما شاهد فحصل له من المعارف ، وكشف
له من الحقائق ما لا يمكن لغيره من الخلق لا قبله ولا بعده .. فالفناء في الله
أعلى مرتبة من مراتب الإيمان الشهوري الخاص بالخواص. أما غاية معرفة العوامّ فهي
الإيمان العادي ـ الغبي ـ الذي لا يترقى في المراتب التي تعمّق الإيمان وترسّخه ..
وأما الكفر فهو مرتبة واحدة ، إذ يكفي للإنسان أن يكفر بواحد مما ذكر في الآية
الشريفة ليكون كافرا ، سواء كفر بالله أو برسله أو بملائكته ، إلخ .. فمن أنكر
الأول هو مع من
أنكر الثاني سيّان ، وبذلك يظهر وجه ذكر الملائكة تلو ذكر الجلالة في الآية
الثانية والله أعلم .. وهذا الذي ذكرناه في مسألة الكفر في باب أصول العقائد ، قد
ذكره الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام في باب الولاية إذ يقول الإمام عليهالسلام : من أنكر واحدا منّا كان كمن أنكرنا .. ووجه ذلك معلوم
فإن من أنكر الذي أمرنا الله تعالى بولايته والإيمان به ، كالأنبياء وكتبهم ، أو
الملائكة ، أو البعث ونحو ذلك فإن إنكاره يرجع إلى إنكار قوله عزوجل. وهذا يكشف عن عدم معرفته ، ويكشف ـ بالتالي ـ عن بطلان
عقائده ، فهو في حد الكفر أعاذنا الله تعالى منه.
١٣٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ..) يقصد بهم اليهود الذين آمنوا بموسى عليهالسلام ، بل هم وجميع المنافقين ، الذين آمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآله في الظاهر (ثُمَ) عادوا ف (كَفَرُوا) كاليهود الذين ارتدّوا وعبدوا العجل ، وكالمسلمين بالظاهر
الذين ارتدوا في زمن النبيّ (ص) وبعده ، إذ قيل : ارتدّ الناس بعد رسول الله إلّا
سبعة (ثُمَّ آمَنُوا) كمرتدّي اليهود الذين رجعوا عن عبادة العجل بعد عودة موسى عليهالسلام ، وكجميع من ندم على ارتداده وعاد إلى الإسلام والإيمان ـ خلا
المؤمنين الذين بقوا على دينهم وإيمانهم كالطّود الراسخ وكانوا هداة الناس إلى
الصراط المستقيم وأعادوا ـ مجدّدا ـ كثيرين إلى حظيرة الإسلام (ثُمَّ كَفَرُوا) يعني بهم اليهود الذين كفروا بعد موسى بعيسى عليهماالسلام وكانوا مأمورين بالإيمان به ، كما أنه يعني أيضا من رجع
إلى الكفر من المسلمين مرة أخرى (ثُمَّ ازْدادُوا) هؤلاء جميعا (كُفْراً) وإنكارا بعنادهم ، ومنهم اليهود والنصارى والمنافقون الذين
تكرر منهم الكفر والارتداد عن الإسلام وعن الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوآله ، ثم ماتوا جميعا على الكفر وصاروا إلى جهنم وبئس المصير
بدليل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ) أي لا يعفو عن كفرهم وعنادهم وارتدادهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ولا يدلهم على طريق تنجيهم من عذاب السعير جزاء كفرهم.
ومن البديهي أن
الإنسان إذا عدل عن دين إلى دين آخر من الأديان ،
أو ترك مذهبا
وتمسّك بمذهب آخر ، ينازع كثيرا ويسأل عن سبب عدوله ويحاجج ويخاصم ، فيعادي أصحاب
الأديان الأخرى ، وخصوصا إذا بحث وجدّ واجتهد في الفحص وتبين خطأ ما كان عليه ،
ودخل فيما دخل فيه عن فهم وعلم واقتناع. فينبغي لأهل ذلك الدين أو المذهب أن
يتقبّلوه ولا يعيبوه ، وأن يكرموه ويزيدوا في إفهامه الحقائق ويعملوا على ترسيخ عقيدته
، فإن الرجوع عن الخطأ فضيلة والإصرار عليه رذيلة. أما من يعدل كل يوم من دين إلى
دين ، ومن طريقة إلى طريقة ، فذاك هو المستهتر المتلاعب الذي يجب طرده ومعاقبته
بأقسى العقوبات. فإن أهل السياسة ـ مثلا ـ لا يغفلون عن ذلك ، ولا يقبلون المتقلّب
المتردد من مذهب سياسي إلى مذهب آخر ، ومن مبدأ عقائدي إلى مبدأ ، بل لا يستأمنونه
على شيء ، ولا يطلعونه على سر ، وإنما يخشون تجسسه ودسائسه لأنهم يعتبرونه من
الذين آمنوا بمبدئهم ثم كفروا به ، ثم آمنوا بغيره ثم كفروا بما آمنوا به ،
فيعدونه مذبذبا مدلّسا دجالا. فمن كان هذا شأنه بالنسبة إلى الدين الإسلامي ،
والعقيدة المحمدية فلا يغفر الله له ذنبا ولا يهديه إلى طريق صواب ، لأنه اختار
لنفسه طريق الدجل والمواربة ، وعمي بصره عن الحق فما ثبت عليه ، ولذا لا يتأتى له
الرجوع إليه بعد أن فارقه.
١٣٨ ـ (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) : أي أخبرهم. وقد قال الرازي وقرناؤه من المفسرين : إن
البشارة بالعذاب تستعمل تهكما بأهله ، كما يقول العرب : تحيّتك الضرب ، وعتابك
السيف. لكن قيل أيضا بأن القرآن العظيم يأبى أسلوبه التهكم ، فالأقرب أنها تستعمل
في الإخبار ، نعم لا بعد أنها أكثر استعمالا في الأمور السارة والتبشير بالخير ،
والله أعلم .. ومهما كان معنى اللفظة فإنها هنا لا تخلو من الاستهزاء ، فليكن
معلوما بأن الله تعالى أعد للمنافقين في دينه عذابا موجعا لا تنتهي أيامه ولا
تنقضي حسراته ، والمنافقون هم في الآية الكريمة التالية :
١٣٩ ـ (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ ..) لفظة : الذين ، بدل من المنافقين في الشريفة السابقة ،
وهذه تتمة لها. فالمنافقون هم الذين مالوا إلى
الكافرين وتولّوهم
وأخلصوا الود لهم وفارقوا المؤمنين ورضوا بالكفار (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) ، فاستهزأ الله تعالى بهم وسخر منهم مرة ثانية بقوله : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ؟) يعني هل ينشدون ويطلبون عند الكفار العون والنّصرة والشرف
، والسؤدد ومنعة الجانب؟ أم يحسبون أن لليهود قوة وغلبة وهم الأذلّاء في حكم الله
ومنطوق القرآن الكريم؟ فليعلموا (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) فهو العزيز الجبار الذي أولياؤه بعزته يتعززون ، وبنصره
ينتصرون ، وإلى وارف ظله يفيئون ، لأنه ذو العزة والجبروت والشرف والقوة كلها.
* * *
(وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ
وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ
اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى
هؤُلاءِ
وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))
١٤٠ ـ (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ ...) أي أوحى وأنزل في القرآن أمرا أنشأه سبحانه بقوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ
يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) أن هذه : مخفّفة إنّ. ويكفر ويستهزأ : جملتان حاليتان من :
آيات الله. والأمر الرباني هو أنكم إذا كنتم بين أناس يسخرون من آيات الله ،
ويتشدقون بتلاوتها ويلوون ألسنتهم بها ، ويستهزئون بما جاء من عنده (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) ولا تجالسوهم فضلا عن أن تشاركوهم في قولهم. فلا تقعدوا ،
ولا تسمعوا لهم إذا دعوكم للجلوس (حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي حتى يتناولوا الحديث في غير القرآن وآيات الله جلّ
وعلا. ولفظة : حتى ، غاية في النهي. فما ينبغي لكم القعود مع الخائضين في آيات
الله وبيّناته حتى يدخلوا في غير هذا الكفر وينصرفوا عن هذا الاستهزاء الدالّ على
كفرهم ونفاقهم. والنهي ـ هذا ـ والإجازة التي تعقبه ، يدلّان على ان الإعراض عنهم
لا يكفي ، ولا الإشاحة بالوجه عنهم تعبّر عن رفضكم لمجالستهم ، بل لا بد من إظهار
القدر الكافي للمعارضة والمخالفة ولو بالقيام من مجلسهم ، وإن لم تفعلوا ذلك (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) لا فرق بينكم وبينهم إذ شاركتموهم المجلس وأقررتموهم على
استهزائهم بسكوتكم. والجملة جاءت مستأنفة ، أوردها لله سبحانه لتعليل النهي. ثم
عقب ب (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) يجمعهم يوم القيامة في أشد العذاب من نار جهنم ، كما
اجتمعوا في دار الدنيا على أذى المؤمنين وعداوتهم والمظاهرة عليهم ، وكما اجتمعوا
على المجاهرة بالكفر وعلى الاستهزاء بآياته جلّ وعلا ، يزجّهم فيها جميعا ولا يترك
منهم أحدا .. وقد بيّنا سابقا أن المنافق أسوأ حالا من الكافر ، لأنه ـ في واقعه ـ
كافر يظهر بلباس الإيمان ، وهو ذو لسانين يعمل لأمر دنياه ولا يفكر بآخرته ، وتكون
أسراره مع الكفرة وظواهره مع المؤمنين ، ويكون ضرره على المؤمنين أكثر من ضرر
الكافرين عليهم لأنه يعرف من أمورهم ما لا يعرفه الكافرون. وقد كان المنافقون
معروفين عند النبيّ صلىاللهعليهوآله ، بل عند الخواصّ من الصحابة ،
وأمرهم واضح
كالشمس في رابعة النهار ، فالّلهم العنهم لعنا كبيرا وعذّبهم عذابا أليما بما جنوا
على مسيرة الرسول الكريم ، وبما أخرّوا من انطلاقة الدين بين سائر العالمين.
١٤١ ـ (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ...) هذه الكريمة تفسير لما سبقها ، وتفصيل لحال المنافقين.
والذين : بدل من المنافقين والكافرين ، أولئك الذين يترصّدون أموركم ، وينتظرون
نتائج وقائعكم وحروبكم مع الكفار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
فَتْحٌ) نصر وغلبة (مِنَ اللهِ) شاءها الله ومنحكم إياها ، فعدتم ظافرين منصورين (قالُوا) لكم : (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) ولو في قلوبنا وهوى نفوسنا ، فأعطونا من الغنائم حقّنا وإن
كنّا لم نستطع مرافقتكم في المعارك .. (وَإِنْ كانَ) حصل (لِلْكافِرِينَ) الذين حاربوكم (نَصِيبٌ) من النصر في الحرب وكسب الغنيمة (قالُوا) أي قال المنافقون لهم : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ؟) يعني : ألم نمنعكم من المؤمنين ونجعلكم تغلبونهم بما زيّنا
لهم ، وأحطنا بكم لننجيكم من وقيعتهم (وَنَمْنَعْكُمْ) نحفظكم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وبأسهم. فقد دفعناهم عنكم بنصرتنا هذه ، وأعنّاكم عليهم.
فإن قلت : لماذا
عبّر سبحانه عن نصر المؤمنين وظفرهم بكلمة : فتح ، وعن ظفر الكفّار بكلمة : نصب؟
قلنا : إن ظفر المؤمنين هو للحق ، وفي سبيل الحق ، وهو يدوم ويبقى بدوام الحق.
أمّا ظفر الكفار فهو للباطل ، وفائدته خسة دنيئة ، تتجلّى بغنيمة دنيوية تزول ،
وبكسب صوري يفنى ويضمحل بفناء أصحابه واضمحلالهم ولذا قيل : دولة الباطل ساعة ،
ودولة الحق إلى قيام الساعة. فالباقي يعتد به والفاني لا يقوّم ولا يحسب له حساب
بأكثر من أنه نصيب ينقص كلّما جاء صبح وذهب ليل ، (فَاللهُ يَحْكُمُ) بعدله (بَيْنَكُمْ) وبين هؤلاء الكافرين والمذبذبين ممّن أظهروا الإسلام
وأبطنوا النفاق. وسترون حكمه العادل (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما هو عليه من حق إذ لا يظلم ربّك أحدا .. ثم يسرّي
سبحانه عن قلوب المؤمنين ، ويزف إليهم بشارة أبدية تعطيهم الزخم في المضيّ بطريق
جهادهم وإيمانهم بقوله عزّ اسمه : (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولو من
طريق الحجة
والبرهان إن لم يكن من ناحية القوّة والغلبة. ولكنّ : لن ، تريح القلوب وتهدّئ
النفوس ، فإنه وعد سبحانه بأن لا يكون للكافرين على المؤمنين طريق يبطلون بها
عقائدهم ، أو يفرضون عليهم تركها ونسيانها وعدم ممارستها ، بل لا بدّ لهذا الدين
أن يحفظه ربّ العالمين إلى أن يرث الأرض ومن عليها.
وفي العيون أنه
قيل للإمام الرضا عليهالسلام : إن في الكوفة جماعة يزعمون أن النبيّ صلىاللهعليهوآله لم يقع عليه السهو. فقال : كذبوا ، لعنهم الله. إن الذي لا
يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو. قيل : وفيهم قوم يزعمون أن الحسين بن علي صلوات
الله وسلامه عليه لم يقتل ، وأنه ألقي شبهة على حنظلة بن سعد الشامي ، وأنه (ع)
رفع إلى السماء ، كما رفع عيسى بن مريم عليهماالسلام ، ويحتجّون بهذه الآية : ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا؟ فقال (ع) : كذبوا ، عليهم غضب الله ولعنته ، وكفروا بتكذيبهم
النبيّ صلىاللهعليهوآله في إخباره بأن الحسين سيقتل. والله لقد قتل الحسين بن عليّ
صلوات الله عليهما ، وقتل من كانوا خيرا من الحسين : أمير المؤمنين ، والحسن بن
علي عليهماالسلام. وما منّا إلّا مقتول. وإني والله لمقتول باغتيال من
يغتالني ، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله ، أخبره به جبرائيل عن رب
العالمين .. فأما قوله عزوجل : (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ
لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، فإنه يقول : لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة.
ولقد أخبر سبحانه عن كفّار قتلوا نبيّين بغير حق ، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله
لهم على أنبيائه سبيلا من طريق الحجة.
١٤٢ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ
...) المراد بالمخادعة استعمال الخدعة ، والخدعة : هي إظهار
خلاف ما يخفي الإنسان. فالمنافقون الذين كانوا يظهرون الإيمان مع المؤمنين في
مجالس المؤمنين ، كانوا يخفون في قلوبهم الكفر الذي يظهرونه في مجالس الكفار.
وكانوا يقولون للكفار : نحن معكم ، إنما نحن مستهزءون بالمسلمين. فالمنافقون الذين
يخادعونكم هكذا ،
إنما يخادعون الله
بزعمهم ، ويظنّون أن الحيل تنطلي عليه كما تنطلي على الناس ، ولكنه سبحانه عالم
بتصرفاتهم ، مطلع على نواياهم ، عارف بما في قلوبهم وبما تكنّ نفوسهم (وَهُوَ خادِعُهُمْ) بأن أمهلهم حتى يظهروا كل مكرهم وكيدهم في دار الدنيا ، ثم
هو مجازيهم بالعقاب الشديد بالرغم من أنه عصم مالهم ودماءهم في الدنيا ، وتكفّل
بأرزاقهم ، ولكنه أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة. ولو لوحظ هؤلاء
المنافقون لرأيتموهم غير شديدي الاندفاع في إيمانهم (وَإِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ) ليؤدّوها (قامُوا كُسالى) أي متثاقلين يجيئون إليها لا عن رغبة بها ، بل (يُراؤُنَ النَّاسَ) يقصدون بصلاتهم الرياء والسّمعة ولا يصلّون إلّا ليقال :
صلّوا ، (وَ) هم (لا يَذْكُرُونَ اللهَ
إِلَّا قَلِيلاً) أي لا يصلّون إذا كانوا غائبين عن أعين المسلمين ، ولا
يجاهرون بذكر الله إلا في مناسبات قليلة وخصوصا بما يختص بالتسبيح والتحميد ، لأن
عملهم رياء يحبون أن يراه المسلمون فينالون استحسانهم لا أكثر من ذلك ولا أقل ...
والحاصل أن الذكر القليل هو ذكره تعالى بحضرة من يراءونه ، وهم لا يؤجرون عليه لا
لقلّته بل لعدم كونه لله سبحانه ، لأنهم يذكرونه ابتغاء الربح الدنيوي الذي
ينالونه من قبل المؤمنين.
١٤٣ ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ...) أي متردّدين تارة إلى هؤلاء ، وتارة أخرى إلى هؤلاء ، فهم
متحيّرون غير مستقرّين عند طائفة لئلا ينكشف أمرهم عندها أو عند الطائفة الثانية (لا إِلى هؤُلاءِ) فلا هم مع المؤمنين كمؤمنين (وَلا إِلى هؤُلاءِ) ولا هم مع الكافرين كمجاهرين بالكفر ، بل هم إلى منافعهم
ومطامعهم أقرب ، لأنهم عبيدها لا عبيد الله جلّ وعلا ، وقد ذبذبهم الشيطان وصيّرهم
متردّدين بين الكفر والإيمان يذبّون من ها هنا وها هنا. ولفظة : مذبذبين ، منصوبة
على الحال ظاهرا ، وفي المجمع : منصوبة على الذم وهو الأحسن والأقوى .. (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يضيعه عن طريق الهدى والرشاد (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلاً) فمن المستحيل أن تجد له طريقا يوصله إلى الهدى والخلاص من
غضب الله تعالى.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥)
إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً)
(١٤٦)
١٤٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ ...) يخاطب سبحانه المؤمنين لعنايته بهم ، وما نراه خاطب
الكافرين في القرآن مرة واحدة لأنهم ليسوا أهلا لشريف عنايته وكريم القمامة ، سوى
مرة واحدة كلّف فيها نبيّه صلىاللهعليهوآله أن يخاطبهم متبرئا منهم ومن دينهم ، في سورة الحجر : قل يا
أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون .. فهو سبحانه يأمر المؤمنين أن لا توصلهم
علاقتهم بالكافرين إلى جعلهم (أَوْلِياءَ) لهم يتولّون شؤونهم وحلّ مشاكلهم ومباشرة قضاياهم ،
فيتودّدون لهم ويتولّونهم (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي أن تتجاوزوا المؤمنين في مقام أخذ الولي إلى الكفار ،
فتكونوا مثلهم ، لأن الإنسان يحشر مع من يتولّاه كائنا من كان من الناس ، فقد قال صلىاللهعليهوآله : من أحب حجرا حشره الله يوم القيامة معه! ... فكيف بالولي
الذي يؤثر في من تولّى عليه ، والحجر أصم أبكم؟ .. وبعد هذا النهي عن تولّي
الكافرين والأمر بعدم موادّتهم هدّد سبحانه وتوعّد وقال : (أَتُرِيدُونَ) تبتغون بملء إرادتكم (أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة واضحة بموالاتكم لهم وهم حرب على الله ورسوله. فإن
في ذلك دليلا على نفاق من يخالف أمر الله ، وسبيلا لله عليه قد يؤدي به إلى غضب
الله في الدنيا ، وعذابه في الآخرة.
١٤٥ ـ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ ...) الدّرك لها معان. منها : أقصى قعر الشيء ، إذ يقال : بلغ
الغوّاص درك البحر. ويقال : الدركة : الدرجة إذا اعتبر النزول لا الصعود ،
ويقابلها الدرجة للصعود لا للنزول. وقيل : هو الطبق الذي في قعر جهنم ، والنار سبع
دركات كما أن للجّنة درجات ـ فهو سبحانه ينذر المنافقين بما أعدّ لهم من العذاب في
تلك المنزلة الشديدة العذاب حيث يكون المنافق في أسفل طبقة منها لقبح عمله. فقد
روي عن ابن مسعود وغيره ـ كما في المجمع ـ : أن المنافقين في توابيت من حديد مغلقة
عليهم في النار. ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن بلوغ الغاية في عقاب المنافقين (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ولا تجد ـ يا محمد ـ ناصرا لهؤلاء المنافقين ولا معينا
ينقذهم من عذاب الله إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار.
ثم استثنى سبحانه
بقوله :
١٤٦ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ ...) تابوا من نفاقهم وأقلعوا عن ذنوبهم بطريقة تكشف عن حقيقة
حالهم وتدل على أنهم متأثرون بمظاهر التوبة قولا وعملا ، ونادمون على ما فرط منهم
فيما مضى ، وجازمون على رفع اليدين فيما يأتي عن نفاق الماضي ومصاحبة الكفرة ،
والمضيّ مع ركب الدين ومسيرة المؤمنين. وهؤلاء هم المستثنون من المنافقين ،
استثنوا لأنهم تابوا فعلا ، وأصلحوا سيرتهم وجميع ما فسد من حالهم أثناء النفاق
والذبذبة ، وأتوا بما أمر الشارع وحسّن من جميع أفعال الجوارح والقلوب ، واعتصموا
بالله تعالى وتمسّكوا بحبله ولا ذوا إليه ووثقوا به (وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ) فصاروا لا يبتغون في أعمالهم وأقوالهم إلّاه سبحانه وتعالى
(فَأُولئِكَ) يعدّون حينئذ (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ويحسبون منهم مع هذه الشرائط ، ويكونون معهم في الدارين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً) أي يعطيهم ـ يوم القيامة ـ ثوابا كثيرا كثيرا نوّه الله
تعالى بعظمته.
وفي هذه الشريفة المباركة
بشارة للمؤمنين بأجمعهم : للتائبين
وغيرهم. فإن
التائب من الذنب كمن لا ذنب له من أول أمره. فهنيئا لمن وفقه الله تعالى للتوبة
النّصوح ، فإنه سبحانه يحب التائبين ويحب المتطهرين. وبعقيدتي أن التائب أعلى
مقاما وأجل شأنا من غيره من المؤمنين ، لأن التائب ذاق لذائذ الشهوات ومتع الحياة
وأطايب المأكل والمشرب والملبس ، وزوال الأعمال والأقوال الفاسدة القبيحة ، وعاش
على طيّته غائصا في الشهوات والمفاتن والملاهي. ومع ذلك جاهد نفسه الأمّارة بالسوء
، وحارب الشيطان ، وخالف هواه ، وتغلّب على أقوى عدوّين لدودين للإنسان : الشيطان
والنفس ، فأعانه الله ـ لما رأى صدق نيّته وصفاء طوّيته ـ على مغادرة حجر الشيطان
لباحة مرضاة الرحمان ، ورفض وسوسة النفس الخبيثة وأسلم نفسه لعقيدة اطمأنّ إليها
وركن إلى واحتها الظليلة السمحة فكان ممّن عناهم النبيّ صلىاللهعليهوآله بقوله حين استقبل صحابته العائدين من الجهاد والنصر بقوله (ص):
مرحبا بقوم جاؤوا من الجهاد الأصغر ، وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقالوا : يا رسول
الله ، وما الجهاد الأكبر؟ قال : هو جهاد النفس.
أجل ، فالتائبون
قد جاهدوا وانتصروا في معاركهم مع أنفسهم ، وخرجوا من الكفر أو النفاق لينعموا في
ظل الإيمان بالله تبارك وتعالى. فلا عجب إن قلنا بأن الآية الكريمة تشمل التائبين
والمؤمنين ، بل لا غرابة إذا ترقّينا وقلنا : إنها تشمل التائبين أولا ، وغيرهم
ثانيا ، بناء على قول النبيّ الكريم صلىاللهعليهوآله ، وليس موقف الحر بن زيد الرياحي مع الحسين عليهالسلام عنّا ببعيد ، فإنه في لحظة تفكير صادق خالف هواه ، وباع
نفسه إلى خالقه ومولاه ، وفاز بمرتبة الشهادة في كربلاء ، وهي مرتبة لا ينالها
مؤمن بإيمان ولا عامل بعمل.
* * *
(ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
لا
يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ
اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)
إِنْ
تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))
١٤٧ ـ (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ ...) لفظة : ما ، استفهامية. والباء في : بعذابكم ، سببيّة
متعلقة ب : يفعل والعذاب هنا جاء بمعنى التعذيب والمعنى هو : ماذا يعمل الله
بتعذيبكم وإيلامكم إذا كنتم مطيعين؟ وهل من شأنه أن يعذبكم إن أنتم آمنتم بقوله
وعملتم بأمره ، وأقمتم دينه وشرعه ، وذلك خلاف المعقول وخلاف عدله الإلهي .. فلا
يعذبكم الله تبارك وتعالى (إِنْ شَكَرْتُمْ) بعد الإيمان ، وحمدتموه على نعمه وأفضاله ، وصدّقتم رسوله
، وعملتم بكتابه ، وشكرتم جميع آلائه ـ أي إذا عملتم بسائر وظائف العبودية بتمامها
لا يعذبكم سبحانه لأن عذابكم لا ينفع إلا المفتقر للنفع وهو غني في كل حال. أفبعد
الإتيان بهذه الوظائف كلها يعذبكم؟ ولأية جهة من الجهات؟ أيتشفي ولم تغيظوه
والإنسان العادي لا يتشفى إلا ممن يسيء اليه؟ فلن يفعل سبحانه ذلك لنفع ولا لثأر
ولا لدفع ضرر كما هو شأن حكام الجور ، وكلّ ذلك محال عليه وهو منّزه عنه لأنه غنيّ
بذاته عن الحاجة لمخلوقاته المفتقرة اليه.
وبعبارة أخرى : إن
الله تعالى يعاقب المصرّ على الكفر ، لأن إصراره عليه هو بمنزلة الكفر أيضا ، ولا
أقلّ من أن الكفر مع الإصرار أبدا معناه الكفر الأبدي لا من باب التنزيل بل من باب
الحقيقة. والكفر الأبدي موجب للعقاب الأبدي بمقتضى عدله على ما بينّ في الكلام.
وهذا إجمال ما في المقام ، مع العلم أن تعذيب الكفار العصاة ليس لمصلحة تعود اليه
سبحانه ، بل على ما قيل لا لاستدعاء حال المكلّفين منهم كاستدعاء سوء المزاج للمرض
، والحقّ أن يقال في هذا المقام : إنكم إذا شكرتم (وَآمَنْتُمْ) لا يعذبكم الله تعالى بل يثيبكم (وَكانَ اللهُ شاكِراً) يشكر القليل من
أعمالكم ويكافئ
بما تستحقونه ، أو أن معناه : مجاز لكم على شكركم ، وقد سمّى الجزاء باسم المجزيّ
عليه ، فالشكر منه تعالى مجازاة وثناء جميل ومكافأة ومن العبد اعتراف بالنعماء
وشكر بالطاعة والامتثال والعمل. وكان الله (عَلِيماً) بما تستحقون لا يخيسكم مقدار ذرة .. وقد قيل في وجه تقديم
الشكر على الإيمان في هذه الآية الشريفة : إن الإيمان لا يسمن ولا يغني من جوع إذا
لم يترجم إلى مظاهر عملية مرئية. فالناظر إلى نعمة يدركها أولا بحاستي البصر
والعقل. ثم يشكر بينه وبين نفسه شكرا يبقى في إطار رضاه وسروره بها. ثم يمعن النظر
فيها ، ويقدّر عظمتها ويعرف المنعم عليه بها فيؤمن به وبمنّه.
هذا ما قيل في
توجيه ذلك. ولكن الحق أن يقال في المقام : إن الواو تأتي على أوجه ، منها أنها حرف
عطف ، ومنها أنها واو الحال التي تدخل على الجملة الاسمية نحو : جاء زيد والشمس
طالعة ، وعلى الفعلية نحو : جاء زيد وقد طلعت الشمس. وفي كلا الحالين نعلم ـ بالبديهة
ـ أن طلوع الشمس مقدّم على مجيء زيد ، لأنه جاء في حال كونها طالعة. وكذا الحال
فيما نحن فيه حيث إن الشكر إنما يكون في حال إيمان الشاكر أي كان الشكر حاصلا في
حالة كان فيها الشاكر مؤمنا. فهو بعد الإيمان في واقع الأمر ، والواو في : وآمنتم
، للحالية ، والسياق هو : إن شكرتم حالة كونكم مؤمنين. ولا حاجة بعد هذا للتكلف
وتوجيه المطلب بمسائل عرفانية قد لا تؤدي المطلوب ، وقد لا تصيب الواقع. فمحصّل
الشريفة أن العباد ٧ ن شكروا بعد إيمانهم لا يعذبهم الله ، لا على عدم إيمانهم
لأنه كان حاصلا ، ولا على عدم شكر المنعم لأنه صار حاصلا ، فلا مورد لتعذيبهم.
١٤٨ ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ ...) يعني أنه سبحانه يكره كلام السوء يقال علنا. وعن الصادق عليهالسلام : الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه .. ومعنى
ذلك أنه تعالى يكرهه ولو كان ينطق بحقيقة. وورد في تفسيرها : إن جاءك رجل وقال فيك
ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح ، فلا تقبله منه وكذّبه فقد ظلمك. وقد
ذكر
في المجمع ـ عن
الصادق عليهالسلام ـ : أنه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته. فلا جناح عليه
أن يذكر ما فعله. وإن صحّت هذه الرواية فإنها إنما تبيّن ما يجب للضيف على المضيف
من إكرام ، وقد قصّر هذا الرجل بضيافته فأجيز له ذكر ما فعله ليلتفت المضيف وكل
إنسان الى أهمية وضرورة إكرام الضيف. فهي إذا من باب (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي من لم يصل إلى حقه وابتز منه حقه. فقد استثنى الله جلّ
وعلا من الجهر الذي لا يحبه جهر المظلوم ، وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه
من السوء عند من يقدر عليه ويعينه في دفع ظلامته ، أو من يشتم فيرد على الشتيمة
لينتصر لنفسه.
ثم أراد الله
تعالى أن يرفع العبد ظلامته لربّه بدل أن يرفعها للناس فقال : (كانَ اللهُ) دائما منذ كان (سَمِيعاً) للأقوال ، ومنها الجهر بالسوء ودفع الظّلامات (عَلِيماً) عارفا بالأحوال والأعمال والأقوال ، يجازي كلّا بقوله
وعمله.
١٤٩ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ
...) أي إن تظهروا عمل خير أو قولا حسنا ، أو نيّة طيبة ، أو
تخفوا ذلك وتستروه عن الآخرين (أَوْ) إن (تَعْفُوا) وتتجاوزوا (عَنْ سُوءٍ) في قول أو فعل (فَإِنَّ اللهَ) يرى ما تبدون ويطّلع على ما تخفون ، ويشهد ما تعفون عنه من
الإساءة إليكم ، وهو سبحانه (كانَ) ولا زال (عَفُوًّا) غافرا لما يصدر عن العباد (قَدِيراً) على العفو ، وعلى الانتقام ، لأن من شأنه العفو والمغفرة ،
وهو يحب أن يكون عباده كذلك ، يعفون عند المقدرة ويحتسبون ذلك عند الله سبحانه.
وبقوله ذلك رمز الى ما يحب ، وحثّ المظلوم على العفو بعد رخصته تعالى بالانتصار
والانتقام. فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن السنة والشرع. على أنه ورد عنه عليهالسلام : اذكروا الفاسق بما فيه ... وذلك من أجل أن يحذره الناس.
وفي بعض الآثار أن ثلاثة ليست لهم غيبة : الإمام الجائر ، والفاسق المعلن بفسقه ،
والمبتدع الذي يدعو الناس الى بدعته. وورد أيضا : أن اللسان صغير الجرم كبير
الجرم.
والحاصل أن الجهر
بالسوء للمظلوم له موارد لا ينبغي نسيانها وتناسيها ، فقد يوصل خطأ المظلوم
المظلوم الى ما لا تحمد عقباه ، كما جرى لابن السكّيت حيث سأله المتوكل وقد مثل
بين يديه ابناه المعتز والمؤيد : أيّما أحبّ إليك ، ابناي أم الحسن والحسين؟ فقال
: والله إن قنبر خادم عليّ عليهالسلام خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكّل : سلّوا لسانه من قفاه ،
ففعلوا قبّحهم الله ، فمات رضوان الله عليه حين جهر بالحق أمام الحاكم الجائر.
فينبغي للمظلوم أن يعرف كيف يجهر بظلامته ..
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))
١٥٠ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ
وَرُسُلِهِ ...) أي ينكرونه تعالى ولا يصدّقون رسله ، ثم ـ من شدة كفرهم
وعنادهم ـ يجادلون في كل أمر سماوي (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي يرغبون أن يتكلموا في وجود الصانع جلّ وعلا بجهة منفردة
، وفي رسله وأنبيائه في جهة ثانية مستقلة عن الأولى. ذلك أن الكافرين أصناف :
فمنهم من يكفر بالله وبجميع
الأنبياء ولا
يعتقد بشيء من الشرائع السماوية مطلقا ، ومنهم من يقول بوجود الله سبحانه ولكنه لا
يصدّق بإرسال الرّسل كأولئك الوثنيين الذين قالوا عن أصنامهم : إنما نعبدهم
ليقرّبونا الى الله زلفى. فهم بحسب الظاهر يعتقدون بوجوده سبحانه ، وغرضهم من
التفرقة هذه نابع من الإيمان المبدئي بوجود الإله ، والتكذيب للرّسل بدافع الميول
النفسية التي تأبى الانصياع للحق بسهولة. فهؤلاء الذين يفعلون ذلك (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) كما فعل اليهود حين آمنوا بموسى عليهالسلام وبمن قبله ، ثم كفروا بعيسى وبمحمد صلوات الله عليهما ،
وكما فعل النصارى حين آمنوا بعيسى عليهالسلام وأنكروا نبوّة محمد صلىاللهعليهوآله مع أنه بشرهم به. فالذين ينكرون الله أو نبيا من أنبيائه ،
ويؤمنون بهذا ويكفرون بذاك (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي بين الإيمان ببعض ، والكفر ببعض. وهو طريق ثالث من طرق
الضلالة والتضليل. فهؤلاء سها عن بالهم أن إنكار واحد يوازي إنكار الجميع لأن طريق
الحق واحد ، وهو أن نؤمن بالكل كما يؤمن بواحد منهم ، إذ ليس بعد الحق إلّا
الضلال.
فيا محمد ، إن
الذين يسلكون هذه التفرقة بين الإيمان بالله والإيمان برسله مجموعين ومنفردين هم
كافرون ، بل :
١٥١ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ...) الذين يمثّلون حقيقة الكفر. فلا ينبغي لهم أن يتصوّروا
أنفسهم من الناجين لأنهم آمنوا بالله وكفروا برسله ، أو لأنهم آمنوا بالله وبرسول
ثم أنكروا بقية الرّسل ، لأن كفرهم ثابت محقق لا شبهة فيه ولا ارتياب إلّا عند
المبطلين الذين يظنون أن القول : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ينجي. فإن ذلك لا يخرجهم
عن كونهم كافرين (وَ) نحن (أَعْتَدْنا) هيأنا وأعددنا (لِلْكافِرِينَ) منهم ومن أمثالهم (عَذاباً مُهِيناً) يوجع ويحقّر ويذل صاحبه في نار الجحيم. وفي القمي أن هؤلاء
هم لذين آمنوا برسول الله صلىاللهعليهوآله وأنكروا أمير المؤمنين عليهالسلام ، أيضا.
١٥٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
...) أي صدقوا ، بخلاف الذين كفروا فقد اعترفوا (وَلَمْ يُفَرِّقُوا) كالكافرين (بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ) أي آمنوا جميعا. وقد جاز دخول ـ بين ـ على : أحد ، لأنه
عامّ في الواحد المذكّر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما. إذ تقول : ما رأيت أحدا فتقصد
العموم. والمعنى : ولم يفرّقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
أُجُورَهُمْ) نعطيهم ثوابهم المستحق بإيمانهم بجميع ما أمروا به. وتصدير
الجملة بسوف ، يدل على أن إعطاء الأجر ثابت ولو تأخر ، وهو كائن لا محالة. ووجه
التعبير عن الثواب بالأجر للإفهام بأن ذلك مستحق لهم كما أن الأجير تستحق له
الأجرة من المؤجر بعد عمله (وَكانَ اللهُ) ولم يزل ولا يزال سبحانه (غَفُوراً) عافيا عن المعاصي والزلّات (رَحِيماً) عطوفا عليهم متفضلا بالرأفة وأنواع الرحمة.
* * *
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً
(١٥٣)
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ
اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨))
١٥٣ ـ (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ
تُنَزِّلَ ...) أي : يطلب منك أهل الكتاب ، وهم اليهود هنا إذ روي أن
جماعة منهم مثل كعب بن الأشرف وأمثاله قالوا : يا محمد إن كنت نبيّا فأتنا بكتاب من
السماء ينزل جملة مثلما نزل كتابنا على موسى جملة واحدة. فيا محمد ، تحمّل ما سئلت
ولا تغضب لذلك (فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى) وطلبوا منه بتمام الوقاحة (أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) أهمّ وأعظم ممّا طلبوا منك (فَقالُوا أَرِنَا
اللهَ) دعنا ننظر اليه ونراه (جَهْرَةً) أي عيانا وعلنا. فلا يعظمنّ عليك سؤالهم إنزال الكتاب من
السماء دفعة واحدة بتمامه وكماله ، لأن سؤالهم هذا بالنسبة الى سؤال أصحاب موسى
ليس بشيء ، فقد كان سؤال هذا بالنسبة الى سؤال أصحاب موسى ليس بشيء ، فقد كان سؤال
أصحاب موسى مخالا ، بخلاف سؤال أصحابك. ولذلك غضب الله تعالى عليهم ـ يومذاك ـ وأهلكهم
بنار نزلت من السماء أو برعدة شديدة وصيحة وبرق (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ) المحرقة المهلكة ، فأحرقتهم (بِظُلْمِهِمْ) أنفسهم وبسبب تعنّتهم الذي هو أعظم ظلم للنفس. وسؤالهم
قاتلهم الله يكشف عن كونهم مجسّمة ، ظنّوا ان الله تعالى يرى وزعموا بجهلهم إمكان
رؤيته ، ولذلك ضل من بقي مع هارون بعد ذهاب موسى الى الطور لحمل الألواح وأضلهم
السامري (ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ) أي أخذوه معبودا
كالصنم وعبدوه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) وبعد رؤية المعجزات الظاهرة والدلائل الباهرة التي أقامها
موسى بقدرة الله ليدل على أنه لا إله إلّا هو تبارك وتعالى. وهل شيء يكون أبين
وأظهر دلالة على القادر سبحانه من انشقاق البحر ، وإجراء اثنتي عشر عينا من صخرة
صمّاء في قلب الصحراء القاحلة على يدي نبّيه ورسوله لهم ، وما أشبه ذلك من الغرائب
والعجائب التي تدل أنها لا تجري إلا بقدرة خالق قادرة .. ومع ذلك يقول سبحانه
وتعالى : (فَعَفَوْنا عَنْ
ذلِكَ) وتسامحنا به لطفا منّا بالعباد مع تمام القدرة على
الانتقام ، لأن سعة رحمتنا اقتضت العفو وترك الاستئصال (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي سلطة ظاهرة عليهم إذ أطاعوه بقتل أنفسهم لمّا أمرهم
بذلك للتكفير عن ذنبهم العظيم. وقد قال بعض المفسرين : هي الحجة البيّنة على صدق
مدّعاه ، ولا بعد فيه أيضا. ويمكن أن يكون موسى عليهالسلام جامعا لكلا الوصفين بل أزيد من الإمكان نقول : إنه (ع) كان
واجدا للمقامين وأقوى الدليل على الشيء وقوعه.
١٥٤ ـ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ ...) وتابع عزّ اسمه الكلام عن قضايا اليهود التي ظهر فيها
عنادهم وتمردهم على ما جاءهم به نبيّهم سلام الله عليه ، فقال : ورفعنا جبل الطور
فوق رؤوسهم. وهو جبل معروف بصحراء سيناء من أرض فلسطين. ففي بعض روايات العامة أن
موسى (ع) لمّا جاءهم بالتوراة بعد نزوله من جبل الطور رأوا فيها التكاليف التي
فيها شاقة فكبر الأمر عليهم وأبوا قبولها ، فأمر الله عزوجل جبرائيل (ع) بقلع الطور ورفعه فوق رؤوسهم يظللهم ويجعله
آية تخوّفهم ليقبلوا بما جاء في التوراة ، بعد ردّهم أمر الله ...
والحاصل أنه
سبحانه رفع جبل الطور فوقهم (بِمِيثاقِهِمْ) يعني بعهدهم المأخوذ عليهم. والباء سببيّة متعلقة برفعنا ،
أي لأجل أن ينظروا الميثاق لقبول الدين الذي شرعه الله تعالى لهم ، وليخافوا ـ عند
هذه الآية المخوفة ولا ينقضوا العهد (وَقُلْنا لَهُمُ) أي بلّغناهم على لسان موسى والجبل مطلّ عليهم ، مشرف فوق
رؤوسهم يرعبهم منظره : (ادْخُلُوا
الْبابَ) أي باب القرية التي هي أريحا ، على ما نقل فإنهم قد دخلوها
في زمن موسى عليهالسلام ولم يدخلوا بيت المقدس في حياته. أو أنه قال لهم : ادخلوا
باب القبة التي تصلّون فيها ولا تعصوا أمر ربكم فيحل عليكم غضبه بدليل ما تهددكم
به ، وليكن دخولكم إليها (سُجَّداً) أي منحنين خاضعين كأن رؤوسكم تكاد تلامس الأرض دليل خشوع
التوبة. وسجدا : جمع ساجد ، والسجود على الجبهة يمثل غاية الخضوع. (وَقُلْنا لَهُمُ) في جملة ما أمرناهم به على لسان موسى (ع) : (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي لا تتعدّوا ما أبيح لكم يوم السبت ولا تتجاوزوه الى ما
حرّم عليكم فيه. وكان السبت يوم عيدهم ويوم عبادتهم كما أن يوم الجمعة هو اليوم
المبارك الذي تستحب فيه العبادة والطاعات والصدقات عند المسلمين. وكان اليهود قد منعوا
عن اصطياد الحيتان من البحر في ذلك اليوم وحرّم الله تعالى عليهم ذلك ، فاعتدى
منهم أناس فيه واصطادوا الحيتان عنادا وعصيانا. وأصل تعدوا : تعدووا ـ بواوين ،
لأنه من : عدا ، يعدو. فالواو الأول هو لام الفعل ، والثانية هي ضمير الفاعل ، وقد
صار بالإعلال على وزن : تفعوا ـ لا على وزن تفعلوا. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ
مِيثاقاً) وأخذنا العهد منهم على الامتثال والطاعة فيما كلّفناهم به
من عدم الاعتداء على محرمات السبت ، وكان الميثاق (غَلِيظاً) أي عهدا مؤكدا غاية التأكيد.
١٥٥ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ...) ما : هنا مزيدة للتأكيد. والباء سببّية أي بسبب عدم الوفاء
بما وعدوا ، وبسبب نقضهم لقولهم في العهد المأخوذ عليهم ، عملنا بهم ما عملنا من
اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات التي نزلت بهم (وَبِكُفْرِهِمْ) أيضا (بِآياتِ اللهِ) الدالّة على صدق رسوله كالكتاب السماوي والمعجزات الصادرة
عنه ، المثبتة لنبوّته ورسالته فقد فعل الله تعالى باليهود وما فعل بسبب كفرهم
بذلك كله (وَ) بسبب (قَتْلِهِمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريّا ويحيى عليهماالسلام وأمثالهما من الرّسل ، فقد اشتهر اليهود بذلك حتى بالغوا
في قتل أنبياء الله تعالى مبالغة عجيبة ... وفي القمي قال : هؤلاء ـ اليهود ـ لم
يقتلوا الأنبياء وإنما قتلهم أجدادهم ،
فرضي هؤلاء بذلك
فألزمهم الله القتل بفعل أجدادهم ، وكذلك من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعله ...
وقد استرسل سبحانه في ذكر مخازيهم فقال : (وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي مغشّاة بأغشية بحسب خلقها لا يكاد يصل إليها ما جاء به
محمد صلىاللهعليهوآله لأنها مغلقة مقفلة ، فلا نفقه ما يقوله. وقيل : غلف ،
مخفّف غلف التي هي جمع غلاف. وهم يعنون أنها أوعية للعلوم وهم مستغنون بما عندهم
عمّا عند غيرهم مما ينادى به بالحق ... هذا قولهم قاتلهم الله الذي أجاب عليه الله
سبحانه سلفا بقوله : ليست قلوبهم غلفا (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) أي ختم ختما يغطيها عن كل دعوة الى الحق ، فلا هي تعي ولا
هم موفّقون للتفكر والتدبر في الآيات ، ولا التذكر بالمواعظ لأنها محجوبة عن ألطاف
الله تعالى ومواهبه التي يخص بها السامعين المطيعين ، أما هم (فَلا يُؤْمِنُونَ) بما يجيء من عند الله (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلّا أفرادا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين لا
يعتبرون إلا قليلين بالنسبة الى أمة ضالة عن أمر ربها ... ثم عطف سبحانه على ما
فعلوه من المخازي قوله تعالى :
١٥٦ ـ (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى
مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ...) أي بكفرهم بعيسى عليهالسلام وإنكارهم لنبوّته مع ما عندهم من الوعد به ، وبرمي مريم عليهاالسلام بالبهتان : الافتراء ، وتهمتها ـ والعياذ بالله ـ بالزنى
وهي فرية عظيمة يهتز لها عرش الرحمان ، وقد نعتها الله سبحانه بالعظمة. وفي
المجالس عن الصادق عليهالسلام : أن رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط. ألم ينسبوا
مريم ابنة عمران الى أنها حملت بعيسى (ع) من رجل نجار اسمه يوسف ... ثم يستمر
تبارك وتعالى في ذكر أقوالهم الكاذبة التي تنم عن كفرهم وضلالهم وإضلالهم ، فيقول
:
١٥٧ ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا
الْمَسِيحَ ...) هذه وما قبلها عطف على : فبما نقضهم أو هي معطوفة وحدها
على : وبكفرهم. فإنهم قالوا : إنا قتلنا المسيح (عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ) وصلبناه ونكّلنا به ولو كان نبيّا ما تيسّر لنا قتله ، ثم
أكملوا تبجحهم بقولهم (رَسُولَ اللهِ) استهزاء بنبوّته ورسالته
وبقوله سلام الله
عليه إنه رسول من الله. فرد سبحانه فريتهم هذه وحكى حكاية الحال فقال : (وَما قَتَلُوهُ) والواو حالية قطعا ، فإنهم في واقع الأمر ما قتلوه حين
فعلوا فعلتهم الشنعاء (وَلكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ) أي وقع الأمر وصار مشتبها عليهم. بيان ذلك أنه لما مسخ
الله الذين كفروا بعيسى ونسبوا أمه عليهماالسلام الى الفحشاء على ما أشرنا ـ مسخهم قردة وخنازير بدعائه (ع)
عليهم ، فاتفق اليهود المنافقون على قتله. فأخبره الله تعالى بنيّتهم وبرفعه الى
السماء حين محاولتهم قتله. وقد قيل إنه قال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى شبهي عليه
فيقتل ويصلب وله الجنة؟ فقام أحدهم وأعلن رضاه بذلك ، فألقى الله عليه شبهه فقتل
وصلب. وهذا القول غير معقول ولا هو لائق بالقبول ، لأن الله تعالى وعده برفعه الى
السماء ، أي أن أيدي القتلة والطواغيت والجبابرة لا تصل اليه. فلا معنى لأن يستدعي
شخصا بلا رخصة منه تعالى ظاهرة لإلقاء شبهه على واحد من أصحابه فيقتل ويصلب بلا
مبرر وبلا احتياج الى تقديم أحد الحواريين المؤمنين للقتل. والقول المعقول هو أنه
سلام الله عليه أخبر أصحابه بالأعداد لقتله ، ثم أخبرهم برفعه الى السماء وبأنهم
لا ينالونه بسوء. فعرفوا ذلك فقام أحدهم ـ ممن يبطن الكفر والنفاق ويظهر الإيمان ـ
بترصّده وبإبلاغ القتلة مكان وجوده في كل لحظة من لحظات حياته إبّان تلك الأزمة ،
وتعريفهم مختلف تقلباته ليقع في أيديهم بأهون سبيل عند محاولة القتل ، ثم لمّا
جاؤوا قاصدين قتله ، نجّاه الله سبحانه من كيدهم ، وألقى شبهه على من نافق ودلّ
عليه فأخذوه معتبرين أنه هو عيسى بذاته ، فقتلوه وصلبوه ...
هذا هو الواقع
الذي حصل (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في عيسى عليهالسلام ، من ناحية قتله وصلبه ، ومن ناحية رفعه الى السماء ، إذا
قالت طائفة بهذا القول ، وقالت طائفة بذاك. ثم قال آخرون بل قتل وصلب الناسوت منه
ورفع اللاهوت ، وتردد آخرون فقالوا : الوجه وجه عيسى ، والبدن بدن صاحبنا. فقد
ذهبت كل طائفة مع قول وظلموا
متحيرين مبهوتين
لا يتيقنون أمرا مائة بالمئة. وإنهم (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي في ريب من أمره. وقد أريد بالشك ما يقابل العلم ترجّح
أحد طرفيه أم لا (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) وقطع ويقين (إِلَّا اتِّباعَ
الظَّنِ) والاستثناء منقطع ، يعني : لكنهم يتّبعون الظن ، وإن الظن
لا يغني من الحق شيئا ، فلم يعد مقطوعا عندهم بقتله أو صلبه بذاته ، بل الحق ما
قاله الله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً) إذ نفى قتله بقطع وجزم ويقين في مقابل سيرهم مع الظن
والريب والشك :
١٥٨ ـ (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ...) هذا استدراك يوضح الحق لمن تردد في ظلمات ظنه ، أي أنهم ما
قتلوه يقينا ، بل رفعه الله تعالى الى السماء ، والى حماه الربّاني ومنزل الكرامة.
وهذا هو الحق والصدق الذي صرح به أصدق القائلين (وَكانَ اللهُ) ولم يزل منذ كان (عَزِيزاً) منيع الجانب قادرا قاهرا لا ينال له وليّ عند الشدائد (حَكِيماً) في تدبيره ، يفعل ما يشاء وطبق مصالح العباد ووفق صالح
أمورهم. وفي العياشي عن الصادق عليهالسلام ، قال : رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن
نسجها ومن خياطتها ، ولما انتهى الى السماء نودي : يا عيسى ، ألق عنك زينة الدنيا.
* * *
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً
(١٦١)
لكِنِ
الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً
عَظِيماً (١٦٢))
١٥٩ ـ (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ...) إن مخففّة إنّ المؤكّدة. والمراد بأهل الكتاب هم الذين
يكونون موجودين في عصر نزول عيسى عليهالسلام من السماء أيام ظهور القائم المنتظر عجّل الله تعالى فرجه.
فما من أحد من أهل الكتاب يشهد نزوله حينئذ إلّا يؤمن به مؤكدا (قَبْلَ مَوْتِهِ) سلام الله عليه ، لأنه ما زال حيا منذ رفعه الله تعالى
ونجّاه من كيد الكافرين. فسينزل في عهد دولة الحق في آخر الزمان ويصلّي خلف المهدي
سلام الله عليهما. وسيقتدي عيسى بالإمام في صلاته صلوات الله عليهما ، لأنه يدعوه
الى الصلاة فيقدّمه عيسى عليهالسلام ليأتمّ به ويقول : إنما أقيمت الصلاة لك ، وأنا إنما بعثت
وزيرا ولم أبعث أميرا ويصلّي خلفه. وقد قال بعض العامة بل المهدي يصلي خلف عيسى
وهو وهم باطل لأن الدين دين الإسلام الذي نسخ ما قبله من الأديان ، والمسيح حين
ينزل سيقوم بشعائر الإسلام الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوآله الذي بشر به عيسى (ع) في كتابه.
والحاصل أنه بعد
بيعته للمهدي (ع) يقتدي به كثير من اليهود والنصارى ـ أهل الكتاب ـ ويبايعون
للمهدي ويسلمون. وقيل يؤمن به كل كتابيّ والحقيقة أن بعض اليهود فقط لا يسلمون
فيقتلهم ويستأصلهم ولا يبقى يهودي على وجه الأرض وتكون الملة واحدة وينتشر الأمن
والعدل وترعى الأنعام مع السباع ببركة وجوده لأنه خاتم الوصيين في الأرض وخير أهل
الأرض في ذلك الزمان ... وقيل إن عيسى عليهالسلام يلبث في الأرض أربعين سنة بعد نزوله ثم يتوفاه الله ويصلّي
عليه الخضر (ع)
والمسلمون. وقيل
إنه يتزوج بعد نزوله وقيل غير ذلك ... أما كيفية كونه في السماء من حيث الأكل
والشراب وغيرهما فيحتمل قويّا أن يكون رزقه يأتيه من الجنة كما يأتي لإدريس
وأمثاله عليهمالسلام ، ومن حيث حركاته وسكناته ونومه ويقظته وما سوى ذلك هناك ،
فلا نعلم عنها شيئا ولا يبعد أن نقول انه يعيش كما تعيش الملائكة من الروحانيين ،
كما أن من نزل من السماء الى الأرض قد عاش كأهل الأرض أمثال هاروت وماروت اللّذين
ركّبت فيهما الشهوات كالناس سواء بسواء. فليس عجيبا على قدرة الله تعالى أن يقدّر
للأجسام اللّاهوتيه ما قدّره للأجسام الناسوتية ، والعكس بالعكس ، وأكبر دليل على
ذلك هو عيش أبوينا آدم وحواء عليهماالسلام في الجنة مرة وعلى الأرض مرة أخرى. فأزمّة الأمور بيده
سبحانه وهو على كل شيء قدير.
وفي القمي عن شهر
بن حوشب قال : قال لي الحجّاج : يا شهر ، آية من كتاب الله قد أعيتني : فقلت :
أيّة آية هي؟ فقال : وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته. والله لإنّي آمر
باليهوديّ والنصرانيّ فيضرب عنقه ، ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتى يخمد!
... فقلت : أصلح الله الأمير ، ليس علي ما تأوّلت. قال : كيف هو؟ قلت : إن عيسى عليهالسلام ينزل قبل يوم القيامة الى الدّنيا فلا يبقى أهل ملة ،
يهوديّ ولا غيره ، إلّا آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي عليهالسلام. قال : ويحك أنّى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟ .. فقلت : حدثني
به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين. فقال : جئت
بها من عين صافية ... وفي العياشي عن الصادق عليهالسلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذه نزلت فينا خاصة ... إنه
ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام وبإمامته كما أقر
ولد يعقوب ليوسف حين قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا.
فسيؤمن بالمسيح (ع)
أهل الكتاب أكثرهم بتأكيد من الله العزيز الكريم تكرّر بإنّ واللام والنون في هذه
الآية الشريفة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ
عَلَيْهِمْ
شَهِيداً) أي أنه يشهد يوم القيامة بكفر اليهود الذين كفروا به
وقالوا إنه متولد من طريق غير مشروع والعياذ بالله ورموا أمه (ع) بالبهتان ، ويشهد
أيضا على كفر النصارى بغلوّهم فيه حيث إنهم دعوه ابن الله (وَ) هو يشهد أيضا (بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ كَثِيراً) لأنهم كفروا وسدّوا طريق الإيمان على غيرهم ومنعوا الناس
من الإيمان.
١٦٠ ـ (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ....) أي بسبب صدور ظلم اليهود لأنفسهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ) ما كان حلالا من (طَيِّباتٍ) الأكل التي كانت (أُحِلَّتْ لَهُمْ) كأجزاء كثيرة من لحوم البقر والغنم والإبل وكل ذي ظفر مما
ذكر في غير هذا المكان. (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) فهذه الشريفة معطوفة على ما سبق ، وهي تعني أنه بسبب منع
اليهود لأناس كثيرين من عباد الله عن طريق الحق :
١٦١ ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا ...) الذي يتعاملون به (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) لأنه استقراض محرّم لما يشترطون فيه من زيادة فاحشة «و»
بسبب (أَكْلِهِمْ أَمْوالَ
النَّاسِ بِالْباطِلِ) لأن الرّبا زيادة حرّمتها التوراة ، فبسبب ذلك كله : لعنّاهم.
وهذا هو الجواب الذي تتعلق به الباء الجارّة في : بصدّهم (وَأَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلْكافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا مهينا سيقاسون أوجاعه وأوصابه. وهذا العذاب هو أقلّ
القليل بحقهم ، ونسأل الله تعالى أن يضاعف عليهم العذاب وأن يزجّهم في أشدّه
وأوجعه لأننا إذا تصوّرنا سيرة اليهود من قديم الأيام نراهم في عصر موسى وعيسى
ومحمد صلوات الله عليهم قد أمعنوا في الضلالة والفساد ، وبالغوا بالكفر والعناد
لله ولرسله ، فهم أعداء الإنسانية حتى أن الخبث والمكر السيء واللؤم قد صارت لهم
طبيعة أصيلة لا تنفك عنهم ولا ينفكّون عنها تماما كالأفاعي والعقارب التي من
طبيعتها اللّدغ واللّسع ، فهم أهل الشر والفساد في كل زمان ومكان لعنهم الله لعنا
خالدا أبدا.
١٦٢ ـ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ ...) الراسخون بالعلم هنا هم المتفقّهون بالتوراة ؛ الواعون
لتعاليم ذلك الكتاب المقدس ، الثابتون على ما فيه من عقائد ، كعبد الله بن سلام
وغيره ممن اعترف بالحق منهم ، ـ فهؤلاء استثناهم سبحانه من اليهود المغضوب عليهم.
وقوله : منهم متعلق بالراسخين الذين ذكرناهم ، وضمير الجمع راجع الى أهل الكتاب
الذين حكى سبحانه وتعالى حالهم. ثم عطف عليهم من آمن من غير الراسخين في العلم ،
كبعض من اتّبعهم في إيمانهم بمحمد صلىاللهعليهوآله ، أو كالمهاجرين والأنصار ، بقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ) وهذا كله مبتدأ ،
خبره جملة : (يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يسلمون مع إيمانهم بالله وبك وبما نزل عليك من ربك وبما
نزل على غيرك من الرسل ، ثم (الْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) التي هي إما منصوبة على المدح أو هي عطف على ما أنزل إليك
، ويراد بهم الأنبياء والأئمة المعصومون صلوات الله عليهم (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف ما سبقه : (وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معطوف على ما سبقه أيضا ، أو هو مبتدأ خبره : (أُولئِكَ) الذين (سَنُؤْتِيهِمْ) نعطيهم (أَجْراً عَظِيماً) ثوابا على أعمالهم كبيرا يكون جزاء للجميع لأنه خبر لبعض
الفقرات السابقة. وسبب كون أجرهم عظيما هو أنهم ذوو إيمان صحيح وأعمال صالحة صدرت
عن عقيدة راسخة ، والمعطي كريم جليل يعطي الكثير ولا عجب أن يجعل أجرهم أكثر من
استحقاقهم.
* * *
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ
وَآتَيْنا
داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً
(١٦٥)
لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))
١٦٣ ـ (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ...) هذه الآية الكريمة احتجاج قاطع وحجة دامغة تبطل قول
المقترحين على النبيّ (ص) أن ينزّل عليهم كتابا من السماء ، يبيّن فيها سبحانه بأن
أمره في الوحي إليه كأمره في الوحي لغيره من الأنبياء الماضين الحذو بالحذو من هذه
الجهة ، وهم جميعا بأمره ووحيه يعملون ، من نوح الى سائر المرسلين من بعده ك (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) فقد أنزلنا عليهم جميعا من وحينا (وَآتَيْنا) أعطينا (داوُدَ زَبُوراً) أي كتابا مثل كتبهم وصحفا مثل صحفهم ... والأسباط هم أولاد
ولد الرجل وأولاد بنته كالحسن والحسين عليهماالسلام اللذين هما سبطا رسول الله صلىاللهعليهوآله. وهم هنا أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر الذين هم من ولد
يعقوب عليهالسلام ، وقد سمّوا بذلك للتفريق بينهم وبين أولاد إسماعيل وأولاد
إسحاق (ع) وقد بعث منهم عدة رسل كيوسف وداود وسليمان وموسى وعيسى (ع) وقد يطلق
السبط على الأمة من الأمم ... والزّبور قرئ بضم الزاي أيضا.
١٦٤ ـ (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
...) أي : بعثنا رسلا كثيرين حدّثناك عنهم (مِنْ قَبْلُ) أن نرسلك الى الناس «و» أرسلنا أيضا
غيرهم (رُسُلاً) كثيرين (لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ) وما حدثناك عنهم «و» قد كان من إكرام بعض الرسل وكرامتهم
عليه سبحانه أن (كَلَّمَ اللهُ مُوسى
تَكْلِيماً) حكى معه وخاطبه بغير آلة ولا لسان ، وأعلى مراتب الوحي هو
أن يكلم الله تعالى رسولا من رسله بلا واسطة ملك. وقد ذكرهم ـ أكثرهم ـ بأسمائهم
تعظيما لهم وتكريما لشأنهم صلوات الله عليهم ... أما نصب : رسلا ، فقد جاء بناء
على المدح ، وإما بتقدير : وأرسلنا.
وإنه سبحانه
وتعالى يبيّن في هذه الشريفة كرامة الأنبياء والرسل عليه ، وفضلهم عنده ، وقدرهم
وعظيم منزلتهم بدليل قوله. وكلّم الله موسى تكليما ، الدالّ على ما يدفع سوء عقيدة
اليهود برسل الله ، لأنه تبارك وتعالى كلّمه بذاته القدسية على جبل الطور تكليما
بحيث سمع الصوت كما وصفنا ووعى القول. وهذا غاية إكرام الرسول من الله الجليل
المحتجب عن نور الأبصار البعيد عن أن تدرك كنهه البصائر وخواطر الظنون. وقد فضّل
سبحانه وتعالى محمدا صلىاللهعليهوآله بأن أعطاه مثل ما أعطى جميعهم ، بل أجزل له في العطاء ،
ورفعه فوق ما رفع أي نبيّ وفوق ما يبلغ أي ملك مقرّب ، وكلّمه من تحت عرشه الكريم
وهو فوق سبع سماوات وفوق حأب لم يبلغها أحد كان قبله ولا يبلغها أحد يجيء بعده ،
في مقام سام شامخ وصل اليه ليلة الإسراء المبارك ...
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات فقال في حديث
تناول فيه كلامه سبحانه وتعالى : .... وكلام الله ليس بنحو واحد. منه ما كلّم به
الرّسل ، ومنه ما قذفه في قلوبهم ، ومنه رؤيا يراها الرّسل ، ومنه وحي وتنزيل يتلى
ويقرأ. ومنه تبلّغ رسل السماء ورسل الأرض. فهو كلام الله ، فاكتف بما وصفت لك من
كتاب الله.
وفي الإكمال
والعياشي عن الباقر عليهالسلام : كان بين آدم ونوح عليهماالسلام من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ، ولذلك خفي ذكرهم في
القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله عزّ
وجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ ، وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ.)
أي : يعني لم يسمّ
المستخفين كما سمّى المستعلنين من الأنبياء ... وهذا يفسر قوله سبحانه ، ويدل على
أنه كما ذكر لمحمد صلىاللهعليهوآله بعض الأنبياء وقصّ ذكرهم عليه ، فإنه قد أرسل أنبياء غيرهم
كثيرين لم يذكرهم له ولم يتحدث عنهم لشبه حالهم مع أقوامهم ، بحال الذين ذكرهم مع
أقوامهم وأممهم ...
١٦٥ ـ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ...) رسلا : بدل مما سبقها. أرسلناهم ليبشروا السامعين المطيعين
من المؤمنين برحمة الله ورضوانه وبالجنة ، ولينذروا ويخوّفوا العاصين والمعاندين
من الكافرين برسالات الله ، بغضبه وسخطه وبجهنم ، بعثناهم للناس (لِئَلَّا) من أجل أن لا (يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فلا يبقى لأحد عذر ، ولا يقول أحد يوم القيامة لم يرسل لنا
الله من يدلنا على طريق الهدى فنتّبع قوله ونؤمن برسالته ونسير على منهاجه. فعلنا
ذلك كله رأفة بالعباد ، وحجة على من بقي على العناد. وكلمة : لئلا ، متعلقة بأرسلنا
المضمرة التي قدّرناها في بياننا. وحجة : اسم كان. وللناس : خبرها ، وعلى الله :
حال (وَكانَ اللهُ) أزلا وأبدا (عَزِيزاً) قويا غير مقهور (حَكِيماً) في تدبيره وتقاديره.
١٦٦ ـ (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ ...) هذه الآية الشريفة تشير الى شيء منطو في ضمن الحديث عن
الوحي والأنبياء وكتبهم ، فكأنه قيل : إن هؤلاء المعاندين لا يعترفون بهذا الوحي
ولا يصدّقون بما نزل على محمد صلىاللهعليهوآله ، فاستدرك الله بجواب كاف شاف بأنه جلّ جلاله هو بذاته
القدسية يشهد بما أنزله إليك ، وشهادة الله تعالى تكفيك ولا تحتاج معها الى شاهد
واحد ، وأحر بشهاداتهم التي لا قيمة لها ولا تقدير ، فاحتجاجه سبحانه بما أوحى
إليك والى من قبلك وأنه (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) المكنون في خزائن غيبه وسرّه الكاشف عن مصالح تكمن وراء
إنزاله هذا الكتاب الكريم ، فقبول قومك أو عدم قبولهم بكون القرآن نازلا من عالم
الوحي ، غير مسئول عنه ولا اعتبار له في عالم التقييم. والقرآن بما فيه من
تأليف بليغ وتركيب
بديع ونمط يعجز عنه كل بيان ويكل دونه كل لسان ، يشهد بكونه صادرا عن عالم القدس
والربوبية ، بل (وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ) بذلك وبرسالتك يا محمد وبأن كتابك من عند الله عزوجل ومن فيض علمه وكلماته المقدسة وقوله الشريف الكريم (وَكَفى بِاللهِ) وحده دون غيره من سائر مخلوقاته (شَهِيداً) لك ، وشهادته سبحانه تتجلّى بما نصب من الدلائل والحجج
والبراهين والمعجزات التي تحدت إمكان البشر ، فلا تبتئس من إنكارهم ، والله وحده
ناصرك ومؤيدك لأنه خير الشاهدين لك وفي كل حال.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩))
١٦٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) أي الذين لم يؤمنوا بالإسلام ، ومنعوا غيرهم عن هذه الطريق
الموصلة الى معرفة الله وعن الجهاد في سبيل نشرها ، مع أن الإسلام أحسن الأديان
وأكملها وأتمها لأنه دين الهداية الذي لم تتطرق اليه شائبة نقص في حكم من الأحكام
، يصلح لمعاش الإنسان ونظام حياته الى يوم الدين ، ومع علمهم بأنه نسخ الأديان
السابقة وجاء بما هو أكمل وأشمل لسائر الشؤون الإنسانية حتى ينفخ في الصور ، فبذلك
(قَدْ ضَلُّوا) تاهوا وانحرفوا عن طريق الحق ، وضاعوا فضلّوا (ضَلالاً بَعِيداً) ووجه بعد ضلالهم أنهم قد ضلّوا وأضلوا
غيرهم بقرينة صدر
الشريفة لأنهم قد صدّوا غيرهم عن الإيمان والجهاد وفي سبيل الله. وهذا أشدّ أنواع
الضلال وأبعدها عن الهدى.
١٦٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ...) هؤلاء الكافرون هم طائفة تكون أعظم خسرانا وأسوأ عاقبة من
الأولى ، لأنهم جمعوا بين الكفر والظلم. فلم يؤمنوا وظلموا بذلك أنفسهم ، ثم ظلموا
غيرهم بصرفه عن الإيمان بتزييف الحق له وبإنكار الدين أمامه وتكذيب الرسول. والكفر
والظلم من أخبث الأوصاف التي يكرهها الله سبحانه وتعالى ، فمن هذه الجهة (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأنهم لا يتوبون عن كفرهم وظلمهم ، ولا الله تعالى يوفقهم
للتوبة ، ولم يكن ليرحمهم لأنهم كفروا بدينه وبرسوله ، ولم يكن (لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) ولا ليدلهم على طريق التوبة والرجوع عن كفرهم وغيّهم. والظاهر
أنه هذا هو السبب لعدم شمولهم بالغفران لأن التوبة هي الوسيلة الوحيدة لنيل مرضاته
سبحانه وتعالى. فذيل الآية الكريمة تفسير لصدرها ؛ وهذه هي سيرة القرآن الكريم
فآياته يفسّر بعضها بعضا.
١٦٩ ـ (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أَبَداً ...) استثنى سبحانه ، بل حصر سيرهم على طريق تؤدي بهم الى نار
جهنم. فقد خلّى سبحانه بينهم وبين سوء اختيارهم وكانت لهم طريق جهنم (وَكانَ ذلِكَ) أي إيصالهم الى جهنم وعدا (عَلَى اللهِ) أمرا محتوما جزاء كفرهم وظلمهم وصدهم (يَسِيراً) سهلا عليه سبحانه إبلاغهم إياها ليكونوا خالدين فيها الى
أبد الأبد. وفي الكافي والعياشي عن الباقر عليهالسلام قال : نزل جبرائيل (ع) بهذه الآية هكذا : إن الذين كفروا ،
وظلموا آل محمد (ص) حقّهم ، الآية ....
* * *
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))
١٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ
الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ...) الخطاب لعامة الخلق. والمراد بالرسول هو محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جاء بالحق ، أي بقول : لا إله إلّا الله ، محمد رسول
الله ، وهذا حقّ ثابت لا ريب فيه. أو أن الحق هو القرآن المعجز الذي شهد إعجازه
على حقيقة قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من عند ربكم عزوجل. والجارّ متعلق بجاء. فهو مبعوث مرسل من الله غير متقوّل
له (فَآمِنُوا) به وصدّقوا بالحق الذي جاء به (خَيْراً لَكُمْ) أحسن لصالح دنياكم وآخرتكم. والفاء في : فآمنوا ، تدل على
إيجاب ما قبلها لما بعدها. ونصبت لفظة : خيرا بناء على أنه مفعول لفعل واجب
الإضمار ؛ أي اقصدوا أو أتوا خيرا لكم مما أنتم عليه من الكفر. أو هي صفة لمصدر
محذوف ، والتقدير : آمنوا إيمانا خيرا ، وهو الإيمان باللسان وبالجنان (وَإِنْ تَكْفُرُوا) تنكروا الحق الذي جاء به الرسول (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فهو مالكهما بما فيهما ، وهو غنيّ عن إيمانكم وعنكم ، لأنه
الغني ذاتا وصفة عمّا سواه (وَكانَ) منذ كان ولا يزال (اللهُ) تعالى (عَلِيماً) بمناشئ جميع الأشياء ومصادرها وأسبابها ومبادئها بمقتضى
خلقه لها. ومن كان بهذه الصفة وبهذه القدرة لا يتصور أن يكون محتاجا الى خلقه ولا
الى إيمانهم به أو كفرهم ، وقد كان ويبقى (حَكِيماً) في تدبيره لهم.
* * *
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا
بِاللهِ
وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ
إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا
الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)(١٧٣)
١٧١ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ ...) الخطاب شامل لليهود والنصارى غالبا لأن النصارى غلت في
المسيح عليهالسلام بإفراط ، واليهود غلت فيه بتفريط وبهتوا أمه عليهاالسلام إذ قالوا : ولد لغير رشدة أو : رشدة ـ وهي صحة النسب.
والغلّو هو مجاوزة الحد على كل حال ، فهؤلاء أنكروه ، وأولئك جعلوه ابن الله
وألّهوه وعبدوه. فقد نهى سبحانه أهل الكتاب جميعا عن هذه المبالغة في اتّباع طرفين
متناقضين «و» قال لهم : (لا تَقُولُوا عَلَى
اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بتنزيهه عن الشّرك والولد والتثليث ، والحق أنه إله واحد
لا إله إلّا هو ، و (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) بعثه عبدا له ورسولا من عنده يهدي عباده الى الحق والى
طريق مستقيم «و» هو ـ أي المسيح (ع) ـ (كَلِمَتُهُ) أي أمره وإرادته التي نجسّدها نحن بكلمة : كن (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أوجدها وأحدثها في بطن مريم سلام الله عليها بقدرته
الكاملة. أو أن : كلمته ، هي عبارة عن قصده
سبحانه إحداث
المسيح وتكوينه بإرادته جلّ وعلا. وهذه مرتبة أعلى من مرتبة التلفظ والتكلم بكن.
وكل ذلك متفرع عن إرادته تعالى على كل حال. وكلام الله تعالى صفة قديمة قائمة
بذاته ، وعيسى عليهالسلام مخلوق حادث أطلقت عليه : كلمة الله كناية عن إرادته سبحانه
«و» هو (رُوحٌ مِنْهُ) أي روح صدرت من عند الله تعالى وقد خلقها بقدرته الكاملة
كما في الكافي عن سيدنا الصادق المصّدق صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه حينما سئل
عن ذلك قال : هي روح مخلوقة خلقها الله وسلامه عليه ، فإنه حينما سئل عن ذلك قال :
هي روح مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى عليهماالسلام. وفي التوحيد عن مولانا الباقر عليهالسلام : روحان مخلوقتان اختارهما واصطفاهما : روح آدم وروح عيسى عليهماالسلام. وهاتان الروايتان صريحتان في ما اخترناه. وليعلم أن حقيقة
الروح مخفيّة على البشر طرّا من آدم الى خاتم الأنبياء صلوات الله عليهما ، وعلم
الروح مختص بذاته تعالى (فَآمِنُوا) صدّقوا يا أهل الكتاب (بِاللهِ وَرُسُلِهِ) جميعا (وَلا تَقُولُوا
ثَلاثَةٌ) أي لا تجعلوا الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم كما
هو ظاهر قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ ... أو أن المنهيّ عنه هو الإله المركّب من الثلاثة
الأقانيم : الأب ، والابن ، والروح القدس ، كما هي عقيدة النصارى. فقد كرر النهي
سبحانه عن ذلك وقال : (انْتَهُوا) عن التثليث بكلا معنييه انتهاء يكون (خَيْراً لَكُمْ) وقد مرّ سبب نصب : خيرا ، في الآية الكريمة السابقة ،
فاتركوا الشّرك بالله (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ
واحِدٌ) بوحدة حقيقية لا تتجزأ كما تتجزأ الوحدات ، ولا تتطرّق
إليها شائبة الكثرة ، ولا يدخل فيها ما ليس منها بأي معنى من المعاني ، فوحدانيته
ذاتية لا شريك له (سُبْحانَهُ) تقديسا له وتنزيها (أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ) أو مماثل أو معادل أو مشاكل لأنه لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفؤا أحد (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا وتربية وتدبيرا ، فمن كان كذلك لا يحتاج الى
شريك وولد وصاحبة لأنه غنيّ عمّن سواه وغيره محتاج اليه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إشارة بليغة الى عدم حاجته الى الولد أو الى غيره مما
يحتاج الإنسان اليه في حياته وبعد مماته كالأب والابن والكفيل والوكيل ونحو ذلك من
القيمومة والتدبير في الأمور.
فهو سبحانه مكفيّ
ومستغن عن مخلوقاته بأسرها لأن كل شيء ما سوى الله باطل ، وسواه محتاج اليه وجلّ
وعلا أن يحتاج هو الى أحد.
١٧٢ ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ...) أي لن يستكبر ولن يترفع ، بل لن يتقاعس عن العبودية لله ،
بل العبودية له تعالى هي فخر الأنبياء والرّسل وكل عارف به تعالى حق المعرفة.
والتذلل اليه في الطاعة عزّ أيّ عز. وقد نزلت هذه الآية المباركة حين جاء وفد
نجران الى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقالوا له : لم تعيب صاحبنا؟ قال : وأيّ شيء قلت فيه؟
قالوا : قلت : إنه عبد لله. قال صلىاللهعليهوآله إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله. قالوا : بلى ، فنزلت الآية
... فما من نبي ولا مخلوق مؤمن يستنكف عن عبادة الله جلّ وعلا (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) يتكبرون ويتأنفون عن شرف العبودية له ، بل ينالون بها
التشريف والقربى. وقد ذكرهم لعظيم شأنهم وشرف قربهم من حظيرة القدس ، ولعلوّ
منزلتهم بين سائر مخلوقاته ... (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) يمتنع (عَنْ عِبادَتِهِ) والتذلل اليه بالطاعة شكرا لنعمائه (وَيَسْتَكْبِرْ) يترفّع عن ذلك استكبارا وعنادا وتأنّفا (فَسَيَحْشُرُهُمْ) يجمعهم اليه يوم المحشر في القيامة (جَمِيعاً) لا يترك منهم أحدا من المطيعين والعاصين ليجازي كلّا
بمقتضى حاله ، وكما فصل في ما يلي :
١٧٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ ...) أي المؤمنون المصدّقون الذين قدّموا بين أيديهم عملا صالحا
وزادا حسنا للآخرة (فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ) يعطيهم الحق الموازي لعملهم من الثواب (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي أنه يضاعف الإنعام عليهم بأضعاف ما يستحقونه من الأجر
وبما شاء من تلك الأضعاف الدّالة على كرمه وفضله على المطيعين ... (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا) من المعاندين والمتكبّرين عن عبادته (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) موجعا يؤلمهم ألما شديدا لم يذوقوا مثله في دار الدنيا
لأنه لا تخطر شدته ببال أحد منهم (وَلا يَجِدُونَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) أي لا يلاقون من يتولى أمر الدفاع عنهم ليحميهم من العذاب
الذي ينزل بهم
وينزلون فيه (وَلا نَصِيراً) يأخذ بعضدهم ويطلب لهم المغفرة والتجاوز ويخلّصهم من عذاب
الله وينجيهم من غضبه لأنهم ليسوا أهلا لسوى غضبه وعذابه.
* * *
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))
١٧٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ...) خطاب لجميع الناس بلا استثناء أحد ، ختم به سبحانه جميع
الآيات البيّنات التي سبقت ، لينذرهم الإنذار الأخير إذ وصلهم من عند الله برهان
أي حجة واضحة من عنده سبحانه ـ وهو رسول الله صلىاللهعليهوآله (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) أي القرآن الكريم الذي هو النور الساطع والبرهان القاطع. وعن
الصادق عليهالسلام : إنه ولاية علي عليه الصلاة والسلام.
فلا عذر لكم أيها
الناس بعد البرهان الذي هو الدين الحق أو الرسول الصادق (ص) وبعد النور المبين
الذي نشره النبيّ والكتاب الكريم ، فقد أنزل الله إليكم من عنده ما يكفي لأن يدلكم
الى طريق الهدى ويجنّبكم مزالق الكفر والضلال. وهذا بيان نهاية أمركم نختصر لكم
بعد هذا الإنذار بقولنا :
١٧٥ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَاعْتَصَمُوا بِهِ ...) أي صدّقوا رسولنا وصدّقوا بما جاء في كتابنا وبما جاء من
عندنا ، وتمسكوا بإيمانهم ونبيّهم وقرآنهم واحتموا
بهم (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
وَفَضْلٍ) والرحمة هي عطفه ولطفه تعالى وأنه يأجرهم على الإيمان
والاعتصام بالبرهان وبالرسول والقرآن ويتفضل عليهم بإحسان زائد على ما يستحقونه (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) أي يدّلهم على نفسه ببراهينه ، فيسلكون بهدايته وتوفيقه
الطريق المستقيم الذي هو دين الإسلام وولاية علي عليهالسلام ... وقد سكت سبحانه عن تكرار ذكر الكافرين استخفافا بهم
ولأنه كرر مصيرهم الى النار وبئس المصير.
* * *
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))
١٧٦ ـ (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...) يستفتونك ، أي : يسألونك ويطلبون منك الفتوى التي هي عبارة
عن تبيين المبهم وتوضيح المشكل كما يقال. فالناس يستفتونك يا محمد بشأن الكلالة
بقرينة ما بعده (قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والكلالة لغة : التعب ، لأنها مصدر من كلّ يكلّ كلّا
وكلالا وكلالة وكلولة. وكلّ : معناه : تعب .. وقد تجيء كلّل بمعنى : أحاط ، مثل ،
كلل السحاب السماء. هذا المعنى هو اللغوي. أما معنى الكلالة عند الفقهاء وفي
اصطلاحهم ومحاوراتهم ، فهم قرابة الإنسان ما عدا الوالدين والأولاد ، كالإخوة
والأعمام ونظائرهم. وهذا المعنى لا
يبعد أيضا عن
المعنى اللغوي الذي فيه : الكلّ : أي الذي يعيش عالة على غيره كقوله تعالى : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ). فهؤلاء الذين عناهم الاصطلاح الفقهي لا يبعدون عن المعنى
اللغوي أيضا لأنهم سمّوا باسم مورّثهم لأن الكلّ لغة : من لا ولد له ولا والد.
وأما إذا كان الآباء والأولاد موجودين فلا تصل التوبة الى من عداهم من الورثة حيث
إن رتبتهم قبل رتبة غيرهم ... والحاصل أن هذا الاصطلاح مشهور في باب المواريث. وقيل
إن الآية آخر ما نزل من أحكام الدين ، فقد كان جابر بن عبد الله مريضا فعاده رسول
الله صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله ، إن لي كلالة فكيف أصنع في مالي؟ ...
فنزلت : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي إن مات إنسان (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يعني أنه كلّ (وَلَهُ أُخْتٌ) لأم وأب ، أو لأب فقط كما صدر عن الإمام الصادق عليهالسلام (فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ) تملك هذا النصف إرثا بالفرض ، وترث النصف الآخر بالرد بحسب
مذهبنا الشيعي أما السنّة فيعطونها النصف ، ويعطون النصف الآخر للعقبة ، ولا تأخذ
النصف الأخير ـ عند هم ـ إلا إذا لم يكن للميت عقبة. فتركة الميّت تقسم في هذه
الحالة كما ذكرنا ، وإذا كان الميّت هو الأخت عن كلالة تنحصر في أخيها فقط ف (هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها
وَلَدٌ ...)
وتقسم تركته
تنصيفا بين الأختين لقوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) تأخذانه بالفرض وتأخذان الباقي تنصيفا بالرد. هذا إذا لم
يكن له ولد ، ولا والد. وقد سكت سبحانه عن هذه اللفظة بالذات لأنها يشملها تعريف
الكلالة .. والنص الشريف يعني الأختين لأب وأم ، أو الأخ والأخت لأب وأم أو لأب
فقط كما قلناه في أعلاه ... هذا كله في حال إذا مات الرجل. أما إذا ماتت المرأة ،
فالرجل يرث عنها تمام المال فرضا إن لم يكن لها ولد ولا والد ، حيث إن الكلام في
إرث الكلالة. (وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً ، رِجالاً وَنِساءً) قد جاءت لفظة : إخوة بالتذكير باعتبار التغليب. ولفظتا :
رجالا ونساء يمكن أن تكونا بدلا من إخوة ، أو حالا منها أو صفة لها. فاذا كانت
الكلالة للميت مؤلفة من رجال ونساء (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) أي يعطى للذكر سهمان وللبنت سهم كما هو مقرر شرعا في غير
حالة الكلالة.
وفي القمي عن
الباقر عليهالسلام وقد قيل له : إذا مات الرجل وله أخت تأخذ نصف ما ترك الميت؟
.. قال (ع) : نصف الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت ، والنصف الباقي يرد
عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها. فإن كان موضع الأخت أخ ، أخذ
الميراث كلّه بالآية لقول الله : وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانت أختين
أخذتا الثلثين بالآية ، والثلث الباقي بالرحم. وإن كانوا إخوة رجالا ونساء ،
فللذكر مثل حظّ الأنثيين. وذلك كلّه إذا لم يكن للميت ولد وأبوان أو زوجة .. وبهذا
المعنى تجد كثيرا من الأخبار في الكافي وغيره .. وفي هذه الآية الكريمة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام ويظهرها (أَنْ تَضِلُّوا) مخافة أن تضلوا ولا تعرفوا وجه تقسيم الموارث في هذه
الحالة (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي عالم بجميع الأشياء وبسائر ما فيه صلاح العباد ، وبكافة
أمور معاشكم ومعادكم.
انتهت سورة النساء
،
والحمد لله رب
العالمين
* * *
سورة المائدة
وهي مدنية وآياتها
١٢٠ آية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ
إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا
الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))
١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ ...) العقد هو الاتفاق الذي يحصل بين طرفين أو أكثر لغاية تحقق
مصالح المتعاقدين. وقد اختار سبحانه العقد على العهد لأنه آكد على المطلوب من قبل
المتكلّم. وهو تعالى يقصد به هنا العبادات والمعاملات وجميع ما يتعاقد عليه الناس
والمؤمنون في مقاصدهم وبعد محاوراتهم ، وفيما كلّفهم الله وألزمهم به من الإيمان
به عزّ
اسمه وبملائكته
ورسله وحلاله وحرامه وجميع فرائضه وسننه .. وقيل في شأن نزول هذه السورة الشريفة
كما في القمي ـ عن جواد الأئمة صلوات الله عليه وعليهم : أن رسول الله صلىاللهعليهوآله عقد عليهم لعلىّ بالخلافة في عشر مواطن ، ثم أنزل الله :
يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليهالسلام ... وربما استشكل بعض من لا شأن له ولا درية في العلم
مطلقا ـ وبالقرآن الكريم خاصة ـ فقال بأن الكثير من الآيات لا ربط بينها ، بل
بعضها أجنبيّ عن بعض. ثم يرى أن هذا الإشكال ـ بنظره القاصر ـ إشكال متين وحلّه
عويص ، فيكشف بقوله هذا عن قصر باعه في العلم وعن كونه متلبّسا بزيّ أهل الفهم ،
وينسى أن قوله تافه لا يستحق الرد ويضيع به الجواب ، ذلك أن الرد في مثل هذا
الموضوع تضييع للوقت وهدر لقيمة بلاغة القرآن وقوّته وعمقه. ولكن لا بأس أن نقول
له ـ فلا نطيل ـ بأن مثل القرآن مثل أي كتاب يكتب الإنسان فيه خاطراته ومحاضراته
والحوادث التي مرّ بها في مدة عمره. فهل يشكل عاقل على ذلك الإنسان بعدم ارتباط ما
في كتابه من مواضيع وأفكار ، في حين أنها هي بحد ذاتها لا تجيء مرتبطة قهرا ،
لأنها تدوّن مواضيع لا يجمعها إلا أنها شريط حياة فرد من الأفراد؟ ... إنه قد يكون
بين بعض ما في ذلك الكتاب ربط ، ولكنه ليس شرطا في صحة تأليف الكتاب ، ولا هو شرط
في أن ما في الكتاب ليس ذا قيمة جليلة.
أما قرآننا العظيم
فنزل نجما نجما ، وآيات كانت توحى إلى النبيّ (ص) في كل وقت يقتضي إيحاءها
ونزولها. ووقائع نشر أحكام الإسلام ، وجميع ما نزل من القرآن ، كانت نوعا مختلفة
المواضيع ، ومختلفة الأحكام ، ولذا صارت القضايا متفرقة قهرا ، وأصبح الإشكال
واهيا والقول فيه سفسطة وتزويق كلام وتضليل ، لا منشأ له يقتضي عناية العقلاء ..
وأما ما نحن فيه
من شرح هذه الآية الشريفة التي قد توحي بعدم الربط الذي يتوهمه ضعفاء العقول ،
فاننا نلفت النظر إلى أنه سبحانه
خاطب المؤمنين
مطالبا إياهم بالوفاء بالعقود في صدر كلامه القدسيّ ، ثم أخذ يورد الآيات المشتملة
على الأحكام الكثيرة التي كلها عقود وعهود بين الله تعالى وبين عباده لأنه لا يتم
إسلامهم وتعبّدهم بهذا الدين العظيم إلّا بالإيفاء بعقوده وعهوده ، وبالقيام
بأوامره ونواهيه ، يدلّك على أن الأحكام والأوامر والنواهي عهود وعقود ، قوله
تعالى مثلا : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ)؟ فعبادة الشيطان منهيّ عنها بعهد منه سبحانه ، والنهي
تحريم ، فهو حكم عبّر عنه بالعهد. ومثل ذلك قوله جلّ وعلا : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ـ (وَعَهِدْنا إِلى
إِبْراهِيمَ) ـ فالمعهود في هذه الموارد كلها ، أحكام سماها تعالى عهودا
، والعهود هي العقود بمعناها اللغوي والعرفي.
فهو سبحانه بعد أن
أمر بالإيفاء بالعقود بدأ بإيراد الأحكام التي سنّها في شرعه المقدس لعباده فقال :
(أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وهذا شروع ببيان عقوده تعالى وأحكامه. والبهيمة ـ لغة ـ كلّ
حيوان لا يميز لما في صوته من الإبهام ، أو هي كل ذات أربع. وقد أضيفت إلى الأنعام
للبيان كما يقال : ثوب قطن لتمييزه. وقد جاءت اللفظة مفردة بلحاظ الجنس ، والمراد
بها الإبل والبقر والغنم ، والذكر والأنثى على السواء. وبهذا الاعتبار قال الله
تعالى : (مِنَ الضَّأْنِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) كما في سورة الأنعام مع فرق أوضحه سبحانه في قسمي الغنم
اللّذين هما : الضأن والمعز. وقد ألحق بالأنعام الظّباء وبقر الوحش وأمثالهما من
البهائم البرّية. ويظهر مما في بعض الأخبار أن المراد بالبهيمة الأجنّة التي تكون
في بطون الأنعام ، لا بيان حكم نفس الأنعام الذي يجيء في آيات أخرى وأخبار أخر. ففي
الكافي والتهذيب والفقيه والعياشي عن أحدهما عليهماالسلام في تفسيرها : الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته
ذكاة أمه. وزاد في الكافي والقمى : فذلك الذي عنى الله عزوجل به. وفي العياشي عن الباقر عليهالسلام : هي الأجنّة التي في بطون الأنعام. وفيه أيضا عنه عليهالسلام : إن عليا عليهالسلام سئل عن الدب وأكل لحم
الفيل والقرد ،
فقال : ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل .. وفي قوله هذا سلام الله عليه
احتمالان : فهل يمكن أن يكون قد أراد الأجنّة ، أو نفس الأنعام؟ ونقول : لا مانع
من أن يراد من الشريفة أن البهيمة أعم من نفس الأنعام وأجنّتها.
فقد أحلّ سبحانه
للمؤمنين أكل البهيمة من الأنعام واستثنى منها بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي سوى ما يذكر لكم منعه وحرمته في آيات أخرى كقوله تعالى
: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ، الآية .. التي تجيء في هذه السورة ، وكغيرها من الآيات
الدالة على المحرّمات والمستثنيات التي يتلو ذكرها سبحانه على الناس ، وقد بدأها ب
(غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فهذا بعض ما تلا علينا حرمته. فإنه يحرم على الإنسان كلّ
ما يصطاده في حال الإحرام سواء كان من الأنعام الأهلية أو الوحشية ، أو كان
المصطاد من غير هذه الأنواع ، ومما يصطاد. وسيجيء تفصيل ذلك في آخر هذه السورة
الكريمة إن شاء الله تعالى (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) من تحليل المحلّلات ، وتحريم المحرّمات ، على ما توجبه
الحكمة وما تقتضيه المصلحة الإلهية ، يحكم بذلك كله بحسب ذلك ، ولا راد لحكمه ولا
مانع لما يريد ، لأنه لا يريد إلا الخير.
٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) تحلوا ، من أحلّ : أي تصرّف بالأمر على أنه مباح وكان حرا
في مباشرته كيف شاء ، فاحترموا شعائره تعالى ولا تتهاونوا بها. والشعائر جمع شعيرة
، وهي ما كان شعارا وعلما ، وقد عرّفوها بالفريضة التي سنّها الله ، وهي هنا مناسك
المواقف والطواف والسعي والعمرة والمواقف وسائر أفعال الحج. والمراد بالنهي عن
التحليل هو النهي عن تحريفه والتصرف فيه لا خراجه عن وجهه ، فلا ينبغي إحلال شيء
من فرائض الله ، لا كالتي ذكرنا (وَلَا الشَّهْرَ
الْحَرامَ) أي الشهر الذي حرّم فيه القتال. وأريد من الشهر الجنس
فيشمل النهي مجموع الأشهر الأربعة التي حرم فيها القتال ، والتي هي : ذو القعدة ،
وذو الحجة ،
ومحرّم ورجب ..
فلا تتعاملوا حسب تحليلكم : لا بشعائر الله ، ولا الأشهر الحرم (وَلَا الْهَدْيَ) أي الحيوان الذي يهدى إلى بيت الله من الإبل أو البقر أو
الغنم ، فإنه إذا أهدي إليه ليس لأحد أن يتعرض له بسوء ما دام مسوقا إليه ولم يصل
إليه ، فلا يؤخذ غصبا أو عدوانا ، ولا يمنع من بلوغه إليه ، ولا يمس هو (وَلَا الْقَلائِدَ) أي الشيء الذي يقلّد به علامة على أنه هدي كالنعل الذي
يحلّى به والحبل المزركش في العنق وغيرهما مما يعلّق عليه من علامة تميّزه فيعرف
فلا يتعرض له أحد حتى يصل سالما إلى محل ذبحه وتضحيته .. أما القلائد فجمع قلادة ،
وهي ما يزّين به العنق من الزينة. وقد ذكر سبحانه القلائد بعد الهدي مع أن ذكر
الهدي كان يغني عنها ، ليبيّن أنه لا يساء إليه في جسده ولا في قلائده وزينته.
وذلك دليل اهتمام منه جلّ وعلا كقوله : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ ، وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ، فإن عطفها يرشدنا إلى تمييزها وشرفها .. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ) أي قاصدين إياه ، وهي من : أمّ يؤمّ فهو آم وجمعها آمّون ،
يعني : لا تتهاونوا بحرمة ذلك أثناء قصدكم بيت الله الحرام ولا تضيعوا منها شيئا ،
ولا يجوز أن يحال بينها وبين المتنسكين ولا أن يحدث في شهر الحج ما يصد الناس عن
الحج فإن في ذلك تعديا على حرمتهم وحرمة البيت .. فلا تحلوا وتمنعوا أيّها
المؤمنون قوما قاصدين المسجد الحرام (يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنْ رَبِّهِمْ) أي يطلبون إحسانا وثوابا منه تعالى (وَرِضْواناً) وأن يرضى عنهم. والجملة في محل نصب على أنها حال مما هو
مستكن في آمّين ، فلا تتعرضوا لقوم هذه حالهم (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) يعني إذا حللتم الإحرام وشئتم التصيّد فاصطادوا فلا جناح
عليكم عند ذلك ولا جرم ، لأن حرمة الاصطياد مشروطة بأمرين : الإحرام ، والكون في
الأرض الحرام. فبعد الإحلال يجوز أكل ما تصطادونه بشرط أن لا يكون الاصطياد في
الأرض الحرام فإنه لا يجوز فيها مطلقا سواء كان الإنسان محرما أم غير محرم ،
فالحرم من دخله كان آمنا ، بنص القرآن ، وبالروايات التي تدل على أن لفظة : من ـ هنا
ـ أعمّ من ذوي العقول (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ
قَوْمٍ) أي ولا يحملنّكم بغضاء قوم. وجرم مثل كسب في تعدّيه إلى
مفعول واحد وإلى مفعولين إذ يقال : جرم ذنبا ، وجرمته ذنبا ، وأول المفعولين في
الآية الشريفة هو ضمير المخاطبين ، والثاني (أَنْ تَعْتَدُوا) أن صدوكم أي الاعتداء بصدكم ومنعكم. فلا يكسبنّكم بغض
هؤلاء القوم الاعتداء عليهم بسبب صدّكم عن المسجد الحرام ، وهو منع النبيّ صلىاللهعليهوآله والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة. ومعنى الاعتداء هنا هو
الانتقام منهم وإلحاق الضرر والمكروه بهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي تعاضدوا واتّفقوا على العفو وتجنّب الهوى (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) أي لا تتساعدوا على ما فيه جرم وذنب واعتداء وانتقام (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعني أنه يجازي من يخالف قوله أعظم جزاء ، وفي ذلك تهديد
ووعيد لمن عصاه سبحانه وتعالى.
* * *
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣))
٣ ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ...) هذه الشريفة بيان لعبارة : ما يتلى عليكم ، التي في الآية
الأولى. فقد تلا سبحانه علينا من المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها ـ أي دون
ذبح وتذكية ، فقد كانوا يأكلونها فحرّمها هي والدم المسفوح عند الذبح وقد كانوا
يجمعونه من الذبيحة بعد فصدها ويجعلونه في الأمعاء ويطبخونه ويقدمونه للضيف كطعام
عزيز ، ثم حرم ما لا يقبل التذكية ، كالخنزير الذي يحرم أكل أي شيء منه. وقد اختص
الله تعالى اللحم بالذكر في الآية لأنه كثير النفع ولأن الحيوان يستفاد من جلده
وشعره ونحوهما. ولو سئل ـ مثلا ـ عن اختصاص الخنزير بالذكر دون الكلب مع أنهما من
باب واحد في الحرمة ، لقلنا إن الكلب ليس بكثير اللحم ولا اعتاد الناس على أكل
لحمه بخلاف الخنزير السمين القابل للتربية والاستفادة بلحمه بزعم من يأكل لحمه ،
ولذا عبّر سبحانه عن حرمته بحرمة لحمه مع أنه حرام ونجس بجميع ما يستفاد منه.
«و» حرّم أيضا (ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ما ذكر عند ذبحه غير اسمه تعالى كقول أهل الجاهلية :
باسم اللات ، أو بالعزّى ، أو غيرهما من أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها.
والإهلال هو رفع الصوت ، ومنه يقال : أهلّ الصبي عن الولادة أي بدا صوته مرتفعا ..
«و» حرمت (الْمُنْخَنِقَةُ) أي التي خنقت وشدّ الحبل في عنقها حتى تختنق وتموت ، سواء
أخنقوها عمدا أم اختنقت وحدها (وَالْمَوْقُوذَةُ) التي ضربت حتى ماتت فإذا ماتت أكلوها ، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التي تردّت ، أي وقعت عن صخرة أو سطح أو في بئر ثم ماتت من
التردّي (وَالنَّطِيحَةُ) التي نطحها كبش أو بهيمة مثلها فماتت من النطح. وقد كانوا
يناطحون بين الكباش ويأكلون الكبش النطيح (وَما أَكَلَ
السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) والمراد به فريسة السّباع من الحيوانات المفترسة ، فقد
كانوا يأكلون ما فضل عن السبع بعد قتلها وأكله منها. فقد نهى الله تبارك وتعالى عن
أكلها إلا بشرط تقع فيه الحلّية إذا كانت قابلة للتذكية التي أناطها بها وحدّدها
بأنواع يجمعها أن ندرك
تذكيتها وهي تضطرب
اضطراب المذبوحة أو أنها تشخب أوداجها. وقد أوضحها الفقهاء في الكتب. أما التذكية
الشرعية فتقع على الحيوان الحي. والعلامات التي ذكروها للحياة هي أمور ، منها :
حركة أذنه أو ذنبه أو تحرّك عينيه بالنظر وغير ذلك مما يكون دليلا على الحياة. وفي
أقوال بعض الفقهاء اشترطوا الحياة بكونها مستقرة ، ولا بدّ أن نحمل قولهم على بعض
مقدار وقت الذبح بحيث إذا مات ولم يتم ذبحه ـ أي في وسط التذكية زهقت روحه ـ فهو
حرام لأنه غير مذكّى شرعا. وليس المراد باستقرار الحياة ما يتبادر إلى الذهن من
بقائه إلى أجله المحتوم ، لأن هذا المعنى مخالف لما مثّلوا به من العلامات التي
تدل على قرب زهوق الروح. ولذا قال أهل التفسير : إلا ما ذكيتم : يعني ما أدركتم
ذكاته ، وهذا يؤيد بظاهره ما قلناه.
والحاصل أن ما سطا
عليه السبع وجرحه محاولا افتراسه ، يحرم إلّا ما ذكّي حسب الأصول «و» كذلك (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جمع نصاب. وهي أحجار كانت حول الكعبة يهل عليها ويذبح
عندها لغير الله وينضح دم الذبيحة على وجهها المقابل للكعبة. والفرق بينها وبين
الأصنام ، أنها أحجار والأصنام تماثيل كانت تعبد ، والأنصاب لا تعبد وإن كانت
محترمة عندهم. وقد كان بعض القرشيين يذبحون لبعض الصخور والأشجار أيضا مما كانوا
يعبدون. فحرّم أكل ما ذبح على النّصب (وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام هي جمع : زلم ، وهي القداح أو هي سهام كان مكتوبا
على بعضها : أمرني ربي ، وعلى بعضها الآخر : نهاني ربّي. والاستقسام بالأزلام هو
طلب معرفة ما يقسم له مما لا يقسم له بالأزلام. وقيل هو الميسر ، أو قسمتهم الجزور
على القداح. العشرة : فالفذّ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسيل له ثلاثة أسهم ،
والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستة أسهم ، والمعلّى
سبعة أسهم ، والسفيح والمنيح والوعد لا أنصباء لها. وكانوا يدفعون القداح إلى رجل
يجيلها. وكان ثمن الجزور على من يخرج لهم هذه الثلاثة التي لا أنصباء لها ، وهو
القمار الذي حرّمه الله وهو كالشطرنج والنّرد وغيرها (ذلِكُمْ) هذه كلها
(فِسْقٌ) أي خروج عن طريق الحق والصلاح ، ويحتمل أن يكون معناه الذنب.
والإشارة ـ ذلكم ـ هي إلى الاستقسام وإلى تناول ما حرم عليكم .. (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ) أي لم يعد لهم أمل أن يبطلوا دينكم أو أن ترجعوا فتحلّلوا
هذه المحرمات وأن تعودوا مشركين مثلهم ، فالله تعالى وفي بعهده من إظهار دينه وغلبهم
فخابوا وانقلبوا مغلوبين (فَلا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِي) أي لا تخافوهم وخافوا معصيتي ومخالفة أمري فتحل عليكم
عقوبتي ، فأخلصوا لي الخشية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) أتممت ما تحتاجون إليه في تكليفكم من الحلال والحرام
والفرائض والأحكام (وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أكملت فضلي عليكم بولاية علي بن أبي طالب عليهالسلام. ففي المجمع عن الباقر والصادق عليهماالسلام أنه إنما أنزلت بعد أن نصب النبيّ صلىاللهعليهوآله عليا عليهالسلام علما للأنام يوم غدير خم حين منصرفه من حجة الوداع ، وهو
آخر فريضة أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة.
ويلاحظ أن : اليوم
أكملت لكم دينكم ، قد وقعت في غير موردها المعقول ، فلما ذا وقعت بين المحرّمات من
اللحوم ، وبين المستثنى والمستثنى منه ، أو المتفرع والمتفرع عليه؟ فلما ذا كان
هذا؟
والجواب أن سور
القرآن وآياته ليست مرتبة ولا مجموعة طبق زمان نزولها ولذا نرى كثيرا من السور
التي نزلت في المدينة تشتمل على آيات نزلت في مكة ، وعلى العكس نرى آيات نزلت في
المدينة واشتملت عليها السور المكية. وما نحن فيه نحتمل أن يكون من هذا القسم ،
لأن سورة المائدة بالإجماع مدنية ، والآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) كانت مكية لأنها نزلت في حجة الوداع كما قلنا في غدير خم ،
وغدير خم من توابع مكة ولواحقها وهو بعيد عن المدينة غاية البعد. فأمر جمع السور ،
والترتيب قام به الصحابة ، ولذا جاء بعضها غير مناسب لبعض كالذي نحن فيه ،
والإشكال يرد على الجامعين والمرتّبين لا على الله تعالى الذي أنزل الآيات ، ولا
على النبي (ص) الذي ما تعرض للترتيب مع علمه بأن عليا (ع) يجمع
ويرتب بإملائه (ص)
فينبغي أن تكون هذه الآية في ذيل آيات غدير خم لمناسبة الحكم وموضوعه لا أن تكون
معترضة بين آيات اللحوم والمحرمات وبلا مناسبة لذكرها سوى الأغراض الشخصية الفاسدة
التي سلكت طريق الضلالة والغواية ، أعاذنا الله من أن نضل أو أن نضل ، وهدانا إلى
صراطه المستقيم .. ونحن لا نقول هذا بزعم التحريف والعياذ بالله ، ولكنه من باب
وضع الشيء في غير محلّه لصرفه عن وجهه الصحيح بتغيير وضعه المكاني تماما كالذي حدث
بالنسبة لآية التطهير التي نزلت في أهل البيت (ع) ثم وضعت بين آيات نساء النبيّ
وهي لا تمت لنسائه (ص) بصلة .. (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ). فإن الذين قصدوا تغيير هذه الآيات عن محالّها ومواضعها ،
هم ذوو أغراض فاسدة لم تخف على أحد ، لأن الآيات كلها ـ كلها ـ قد ظهرت معانيها
وقد صدق قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ..) فليس ها هنا مكان هذه العبارة الشريفة كما يعلم الله
تعالى. يدل على ذلك أنه ـ كما قلنا ـ قد عاد إلى بيان ما أحل وما حرّم من اللحوم
فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ) أي من حكم عليه الاضطرار في مخمصة : أي مجاعة بحيث لم يجد
سوى هذه المحرّمات لسد جوعه وحفظ حياته من الهلاك (غَيْرَ مُتَجانِفٍ
لِإِثْمٍ) يعني غير مائل لإثم ، وفي القمي عن الباقر عليهالسلام : غير متعمد لإثم ، أي أنه لا يأكلها التذاذا ولا لهوى في
نفسه ، بل انحصر قوام حياته وسدّ جوعته بها فأكل بقدر الحاجة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عاف عن ذلك الذنب في تجاوز حدّ من حدود الله ، لأنه تعالى
يرحم عباده ويقدّر حالات اضطرارهم فلا يؤاخذهم بذلك.
* * *
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا
مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٥))
٤ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ...) أي يسألونك يا محمد مستفهمين بعد ما مرّ من تحريم وتحليل
اللحوم في الآية الشريفة السابقة ف (قُلْ) لهم : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ) وهي جمع طيّب : ضد الخبيث. والخبيث القذر الذي تشمئز منه
النفوس وتستقذره ، وبتعبير فقهيّ هو ما نص الشارع على حرمته. أما الطيبات فهي ما
تشتهيها النفوس وترغب فيها الطّباع وتميل إليها كل الميل لأنها تستلذّها وتحبها.
فقد ذكر منها سبحانه لحوما أخرى بقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي أحل لكم أكل لحم ما تحمله لكم الكلاب التي علّمتموها
حمل ما تصطادونه من الحيوانات بطريقة علّمكم الله تعالى إياها لتعتبر لحوما مذكّاة
إن هي ماتت حين حملها وقبل وصولها إليكم. وسبب نزول هذه الآية الكريمة أن نفرين من
أصحاب رسول الله (ص) هما زيد الخير وعدي بن حاتم تشرفا بحضرته وقالا له : نحن
جماعة نمشي إلى الصيد ومعنا كلاب معلّمات نتصيّد بواسطتها لأنها تنفّر الصيد وتحمل
لنا الطريدة التي قد تختنق أو تموت من جراحها قبل وصولها إلينا ، أو لعل الكلاب
تأكل بعضها فما هو تكليفنا في هذا الحال؟ ... فنزلت الآية الكريمة بحلّية الطيبات
وبحلّية ما تنقله
الجوارح المعلّمة
التي إذا أمرتها تأتمر وإذا زجرتها تنزجر ، سواء وصل الصيد إليكم حيا أو ميتا
بشروط ذكرها الشارع في باب الصيد ، إلّا إذا لم تمسكه هذه الكلاب بل أخذته وأكلت
بعضه وأبقت الباقي فان الباقي حرام لأنه داخل تحت حكم : وما أكل السبع. ومن أهل
السّنة من يقول بحلّيته إذا سمّى عليه ، والحق أنه حرام قرأ عليه التسمية أم لا ،
فإن نصّ الآية يشترط الإمساك أي الإبقاء عليه وحمله إليكم ، فكيف إذا أكل بعضه؟ إن
الكلب في هذه الحالة لا يكون معلّما ولا يجوز الاصطياد بواسطته ، فما أخذه غير
حلال إلا إذا لم يخنقه وأوصله حيا ولم يمت بين فكّيه فيذبحه الصياد حينئذ ويذكّيه
بالذبح لا بحمل الكلب المعلّم وإمساكه ، لأن الكلب المربّى تربية صالحة للصيد لا
يأكل صيده في حال ، بل يمسكه ويحمله إلى صاحبه ولو بعدت المسافة بينهما وطالت مدة
نقله إليه. وهذه الصفة هي بالحقيقة ميزة الكلب المعلّم.
فما أمسك هذا
الكلب المعلّم على صاحبه من الصيد حلال لصاحبه بشرط ذكره سبحانه بقوله : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي اذكروا اسم الله حين ترسلون الكلب لجلب الطريدة وتطلقون
النار لصيدها. فقولوا : بسم الله حتى يصدق أنكم ذكرتم اسمه عزوجل لتتاح لكم الحلّية بالكيفية التي ذكرناها دون غيرها. وفي
القمى عن الصادق عليهالسلام ، أنه سئل عن صيد البزاة والصّقور والفهود والكلاب فقال (ع)
: لا تأكل إلّا ما ذكّيت ، إلّا الكلاب. قيل : فإن قتله؟ قال : كل ، فإن الله يقول
: (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ) ، وقرأ الآية إلى قوله : عليكم ، ثم قال : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ). ثم قال : كلّ شيء من السّباع يمسك الصيد على نفسه إلّا
الكلاب المعلّمة فإنها تمسك على صاحبها ، وقال : إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر
اسم الله عليه فهو ذكاته ..
(وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا مخالفته في هذا الموضوع وانتهوا عما نهى عنه
واعملوا بما أمركم به (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) أي حساب أعمال عباده وأقوالهم. وجزاؤها إمّا ثواب أو عقاب
يتم بأسرع ما يكون وبشكل يخرج
عن قوة تصوّرنا
يوم تجد كلّ نفس ما عملت محضرا ، ولا حول ولا قوة إلّا به تعالى ...
٥ ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
..) أراد سبحانه بكلمة : اليوم ، الزمان الحاضر ، أي الوقت
الذي نزلت فيه الآية الشريفة وما يتصل به إلى يوم لقائه لأن حلال محمد حلال إلى
يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فسائر أحكامه لا تنسخ إذ شريعته أبدية
فهو خاتم النبيّين ولا نبيّ بعده يجيء بشرع يخالف شرعه لا بتمامه ولا ببعضه. فمنذ
ذلك اليوم وإلى يوم القيامة أحلّت لكم الطيبات أي جميع ما يستطاب وجميع الملاذّ
التي لم يردع عنها الشارع الأقدس ولا منع الاستفادة بها بأي نحو من الأنحاء ، ولم
تستخبثها الطباع السليمة. أحلّت هي (وَطَعامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى والمجوس على فرض أنهم
أصحاب كتاب. واختلف في الطعام ما هو وما المراد به؟ ... أما معناه اللغوي بشكل عام
، فهو ما يؤكل. أي كل ما يحتاج إلى الأكل. ولكن الامام الصادق عليهالسلام ـ كما في المجمع ـ قال : هو مختصّ بالحبوب وما لا يحتاج
فيه إلى تذكية .. ونحن واللغة وظاهر الآية الشريفة ـ لو لا هذه الرواية ـ نحكم
بحلّية مطلق الأكل نظرا إلى ظاهر الآية واللغة. وأما ما ورد في بعض الروايات من
النهي عن ذبائحهم معلّلا بعدم ذكر اسم الله عليها ، فعلى فرض صحة الرواية لا بد من
تخصيص عموم طعام الكتابي بالبقول والحبوب والفواكه دون اللحوم لعدم التسمية ،
وذكاة اللحم بالتسمية. ولذلك قد ورد في بعض الروايات أنه إن أتاك رجل مسلم فأخبرك
أنهم سمّوا فكل. وفي بعض آخر لا تأكله ولا تتركه ، وتقول إنه حرام ، لكن تتركه
تنزها عنه فإنهم يضعون في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير وغيرهما من النجاسات والخبائث
..
ويستفاد من هذه
الروايات مسألة مهمة ، وهي طهارة أهل الكتاب ذاتا ، ونجاستهم عرضا لأنهم لا
يحترزون من النجاسات. فطعامهم مما
ذكرنا ومن سائر ما
لا يحتاج إلى تذكية حلّ لكم (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ) فلا جناح عليكم أن تطعموهم وأن تتعاملوا معهم بالأطعمة
وغيرها وفق ما شرع الله .. «و» كذلك (الْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ) أحلت لكم ، وهن العفيفات والحرائر من نسائكم المؤمنات.
وإنما خصّهن بالذكر تشجيعا للمؤمنين على أن يتخيروا العفائف الكريمات لنطفهم ،
وإلّا فإن غير العفائف يجوز نكاحهن ، وكذلك الإماء المسلمات (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وفي المجمع قال أصحابنا : هن اللواتي أسلمن من محصنات أهل
الكتاب وذلك أن قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من أسلمت عن كفر فلذلك أفردهنّ
سبحانه بالذكر. وفي الكافي عن الباقر عليهالسلام : إنها منسوخة بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ، وبقوله سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ). وإذا لم تصح روايات هذا الباب فإن سورة المائدة آخر ما
نزل من القرآن ، وما أحل فيها فهو حلال ، وما حرم فيها فهو حرام. والآيتان
الواردتان في الرواية السابقة هما في سورة البقرة ومنسوختان بما في المائدة ، وقد
نزلنا في صدر الإسلام وكان الحكم حرمة مناكحتهنّ. لكن بعد غلبة الإسلام وقدرة
المسلمين وشوكتهم وجعل الجزية على أهل الكتاب نسخت الحرمة ، وربما تصير المناكحة
موجبة لدخول اليهودية أو النصرانية وبعض أقاربهما في الإسلام بعد المخالطة مع
المسلمين ومعرفة حسن أخلاقهم واستقامة معاملاتهم ، وإحسانهم إلى من عاشرهم ،
وعدلهم معه ، فإن عدل الإسلام يظهر لكل منصف .. والحاصل أنه لا وجه للقول بعدم
الجواز ، وما يرى من الروايات المانعة قد يحمل على أوائل أيام ظهور الإسلام وضعف
المسلمين. وقد ورد في بعض الروايات أن الصادق عليهالسلام قال : إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير. وبقوله
(ع) : إن فعل ، إشارة إلى جواز التزوج بهن. فقد أحل لكم ـ أيها المؤمنون ـ نكاح
المحصنات الكتابيات (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) أي إذا دفعتم ما قرّرتم لهن حتى يرضين بزواجكم ، بشرط أن
تكونوا (مُحْصِنِينَ) أعفّاء (غَيْرَ مُسافِحِينَ) لا
زانين بهنّ زنى
محرّما (وَلا مُتَّخِذِي
أَخْدانٍ) وغير متخذين أصدقاء وصديقات يزنون بالسرّ ، فإن المصاحبة
والمعاشرة السرّية محرّمة. والأخدان مفردها : خدن ، وهو الصديق. فالحلّية تتأكد
بكونهن محصنات غير مسافحات ، وبكونهم أعفاء محصنين غير مسافحين ، وبدفع مهورهن ،
وبعدم كونكم أو كونهن أخدانا. والخدن يطلق على المذكّر والمؤنّث (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي يجحد الايمان ويتنكّر له ويترك العمل به (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي ذهب سدى لأنه فاسد فهو يذهب هباء منثورا .. ونشير إلى
أن الفرق بين الجاحد وتارك العمل ، هو أن الجاحد لا يعتقد بالشرع ولا بالشارع فهو
فاسد العقيدة. أما تارك العمل فهو معتقد بالشرع وشارعه الأقدس ، ولكنه مهمل قد لا
يصلّي ولا يصوم ، وقد يفعل المنكرات كأمثال بعض الشباب المتهاونين وبعض الشابات
المستهترات بالتكاليف ، لأن هؤلاء وهؤلاء حديثو عهد بالعمل ويرون الالتزام بالشرع
أمرا عسيرا ، هداهم الله تعالى لما فيه رضاه لأنهم على عقيدة أسلافهم وإن كانوا
متهاونين ، ولكنّ من يكفر بالايمان يذهب عمله أدراج الرياح (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) أي الهالكين لأنهم لم يجنوا ثمرة عمل عملوه ولا اكتسبوا
ثواب خير فعلوه.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ
عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ
ما
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))
٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) في هذه الآية الكريمة يبيّن الله سبحانه كيفية كلّ من
الوضوء والتيمم وموردهما ، ويعلّم كل واحد منهما فعلا فعلا فيقول جلّ من قائل :
إذا قمتم إلى الصلاة (فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ) والوجه معروف وهو في اللغة ما يبدو للناظر من البدن وفيه
العينان والأنف والفم فيجب غسله للوضوء ، وحدّ غسله من قصاص الشّعر إلى آخر الذقن
طولا ، وما دارت عليه السبابة الوسطى عرضا ، فاغسلوه بإراقة الماء عليه من يدكم
اليمنى وتكرير الفرك والغسل إلى أن تصل المياه إلى كل جزء منه (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فاغسلوها ، وحدّ غسلها كما بيّن سبحانه من آخر المرافق ،
أي ما يرتفق عليه أي يتكأ ، وهو مذهب أهل البيت عليهمالسلام من المرافق إلى أطراف الأصابع بحيث يتخلل الماء إلى كل جزء
منها ويتخلل ما بين الأصابع فلا يبقى قسم لا تصل إليه مياه الغسل. وقوله تعالى ورد
في بيان حد المغسول ، لا في مقام بيان كيفية الغسل حتى يفهم من الآية ويستفاد منها
بقرينة أن غسل اليدين يكون من رؤوس الأصابع إلى آخر المرافق كما استفاد فقهاء
الجمهور فقد اجتمعت الأمة على أن من بدأ في غسل اليدين من المرفقين صح وضوءه
وأصحابنا يوجبونه. هذا إذا لم نقل بكون : إلى ، بمعنى : مع ، وإلّا فلا نحتاج إلى
التأويلات. فقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) ، يعني إذا أردتم القيام للصلاة. مثل : فإذا قرأت القرآن
فاستعذ بالله ، فقد عبّر سبحانه بمسبّب الارادة عنها ، وذلك أمر شائع ذائع. «و»
بعد ذلك الغسل للوجه كما حدّدناه ، ولليدين كما بيّن الله تعالى (امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) وقد ذكر الرؤوس والأرجل مع بعضها لمكان الباء في الكلام
على ما في الرواية ، ونصب : أرجل ، هو مردود عندنا ، وقد قرئت أيضا بالكسر وهو
الأصح فإن الجر بسبب عطف اللفظ على اللفظ ، والنصب عطف للّفظ على المحل فكأنه قال
سبحانه : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) ومسح الرأس عندنا هو أقل ما يقع عليه اسم المسح على مقدّم
الرأس ولو بالأصابع الثلاث : السبابة والوسطى والبنصر ، ومسح الرجلين من طرف
الإبهام إلى الكعب من كل رجل ، أي كامل قبة القدم حتى المفصل لأن الكعب هو العظم
النابت في القدم عند معقد الشراك.
والحاصل أن غسل
الوجه واجب بحيث تصل الرطوبة إلى البشرة وإلى الشعر النابت عليها إذا كان خفيفا
ترى البشرة من تحته فيجب تخليله حتى يغسل وإن كان كثيفا وطويلا فإنه يغسل ظاهره
كأجزاء الوجه ، وقد ورد عن الباقر عليهالسلام : كل ما أحاط به الشّعر فليس على العباد أن يطلبوا ولا أن
يبحثوا عنه ، لكن يجري عليه الماء.
وأما المسح على
الخف فلا يجوز. والقول بأن رسول الله صلىاللهعليهوآله مسح على الخف ليس له سوى مدارك ضعيفة لا وجه لها ولا يعتنى
بها. نعم كان الرسول (ص) يلبس الخف وقيل إن سلطان الحبشة أهدى إليه في جملة ما
أهدى خفا ربما كان قد لبسه أثناء الحرب. أما مسحه (ص) فكان على ظاهر القدمين لا
على الخف كما رووا عن رؤيتهم له في روايات سخيفة ضعيفة ... هذا ما يمكن توضيحه هنا
ونترك التفصيل لكتب الفقه المختصة. فقد أمرنا سبحانه بالوضوء للصلاة على الشكل
المبيّن وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) استعدادا للصلاة وقبل مباشرتها. فاطّهروا : جواب الشرط
لازالة الجنابة التي يتم زوالها بالتطهر والاغتسال. أما الجنابة وتحققها ، وكيفية
الغسل منها فهما معروفان ومفنّدان في كتب الفقه العملية (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) لا تستطيعون الوضوء أو الاغتسال (أَوْ عَلى سَفَرٍ) بحيث لم تكونوا في مواطنكم ولا يتيسّر لكم الماء الكافي
والمكان المهيأ ، ولا
النزول في محل
تتوفر فيه اللوازم للغسل (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) أي رجع من قضاء حاجته الطبيعية في الغائط الذي هو الجزء
المنخفض من الأرض يتوارى فيه الإنسان عن أعين الناس لقضاء حاجته وقد كنّى سبحانه
باسمها عن الفعل الذي يتغوّط فيها من أجله (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) هي كناية لطيفة عن مباشرتهن ومجامعتهن. فإذا كنتم في حالة
من تلك الحالات : المرض ، والسفر ، والتغوّط ، وملامسة النساء التي تؤدي إلى خروج
المني أو إدخال الفرج بالفرج أو هما معا (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والصعيد الطيب : هو التراب النظيف الطاهر ، والتيمم هو ـ لغة
ـ القصد إلى الشيء. والتيمم للصلاة هو مسح اليدين والوجه بالتراب وبمطلق وجه الأرض
وإن كان حجرا أملس ، واشتراط وجود الغبار على ما يتيمم به لا صحة له. والتيمم
بكامل كيفيته تكلّمنا عنه في سورة النساء وهو مفصل في الكتب العملية الفقهية ومن
شاء فليرجع إليها (ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما فرض الله عليكم هذه الطهارات ليوقعكم في ضيق وتعب (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي يأمركم ويندبكم لتلك الطهارات الظاهرية من أجل تزكية
أبدانكم وتنظيفها من الأوساخ وإزالة الخبث عنها وإزالة جميع الأقذار والأدران التي
قد تعلق بالأيدي وتفرزها الأجسام. ومن جرّب الاغتسال من الجنابة وأزال تلك الأوساخ
في حينها يحس فورا بنظافة جسمه ونقاء نفسه ونورانية قلبه لتخلّصه من أوساخ كانت
تسد منافذ بدنه وتلطّخ أجزاءه. ففرض الوضوء والغسل من جانبه تعالى لم يكن لا يجاد
الحرج والضيق ، بل للتطهير والإخراج من ظلمات الجهل إلى نور الايمان ، وللتخلص من
الوسخ والقذر إلى نظافة الأبدان. وقد ورد في الحديث أن الوضوء يكفّر ما قبله ، وأن
الطهارة كفّارة للذنوب كما هي رافعة للاحداث ، وقد سنّها الله سبحانه لكم ليزكّي
أبدانكم ويطهر نفوسكم (وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بما ذكر لكم من التشريع في هذه المواضيع (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون نعمه ، فإن
النعمة ـ أصلا ـ موجبة
للشكر ، وإتمامها موجب لمزيد الشكر.
* * *
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))
٧ ـ (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ
...) أي لا تنسوا فضل الله عليكم وليبق هو (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) نصب أعينكم ، فهو العهد الذي أخذه عليكم بالايمان به
وبرسوله وأوصيائه وتمت المواثقة ، أي التعاهد والتعاقد ، عليه بين يدي ربكم. فاذكر
تلك النعمة التي هي من أفضل النعم وأعلاها من الإسلام لله والايمان بأوامره ـ وقد
نصب ميثاق ، بعطفه على : نعمة الله ـ ولا تنسوا وتنقضوا معاهدتكم وبيعتكم للنبيّ صلىاللهعليهوآله يوم بيعة الرضوان. وقيل يراد بها بيعة الحديبية التي هي كسابقتها
تجديد عهد له (ص) عليهم ، وتشديد ميثاق على الأخذ بما أمر والعمل بما جاء به ، فلا
تنسوا (إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وعينا ما قلت ،
ونطيعك فيما تأمر
وتنهى. فاذكروا ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) لاحظوا جانب تقواه سبحانه في الكفران بنعمه وترك العمل بميثاقه
(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما فيها من أسرار وبما يختلج فيها من أفكار ، وبما
تحوي من رموز ، فكيف بظواهرها والأمور الجليّة فيها؟ ...
٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ ...) أي اجعلوا قيامكم وانبعاثكم إلى العمل لله ، يعني خالصا له
تعالى ، ومحضا لما يرضيه. ولفظة قوّامين التي هي على وزن : فعّالين ، تدل على
المبالغة. فينبغي لكم أن تكونوا شديدي القيام والمسارعة للأمور التي يطلبها الله
تعالى منكم (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) تشهدون بالحق والصدق والعدل ولا تكتمون شيئا من شهاداتكم (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي لا يحملنكم بغض الكفار لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) أي على المواربة في الشهادة وغيرها وترك العدل. وقد عدّي
بعلى ، لتضمّنه معنى الحمل كما قلنا. ف (اعْدِلُوا) في جميع أموركم وفيما بينكم وبين غيركم ، فالعدل (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) لاتّقاء ما يغضب الله عزوجل (وَاتَّقُوا اللهَ) تقوى حقيقية قد طلبها سبحانه مكررا حيث (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) عالم عارف (بِما تَعْمَلُونَ) إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وقد مرّ تفسير مثل هذه الآية
الكريمة التي كررها جلّ وعلا لمزيد التركيز على العدل وطلب التقوى ، والله هو أعلم
بحقائق الأمور.
٩ ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) فعل : وعد ، له مفعولان. أحدهما : الذين آمنوا ، والثاني :
لهم مغفرة. وكلاهما منصوبان محلّا. وهناك قول بأن المفعول الثاني محذوف وموقعه بعد
قوله : (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) ، وتقديره : الجنة. ولكن هذا القول لا يمكن التسليم به
لأنه له لازمه الذي لا بدّ منه وهو أن دخول الجنة يكون هكذا قبل غفران الذنوب
وإعطاء الأجر العظيم ، مع أن دخول الجنة يكون بعد ذلك وهذا من توضيح الواضحات ..
فقد وعد الله تعالى المؤمنين العاملين الصالحات بأن
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي عفو وثواب جزيل .. والجنة.
١٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا ...) فبعد ذكر وعد المؤمنين بالمغفرة والجنة ، عقّبه سبحانه
بالوعيد للكافرين المكذبين بآيات الله ، وصرّح بتهديد أن (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي أهل نار السعير وأصحابها ، فإنها معدّة لهم ، وهم فيها
ماكثون لأنهم أصحابها المعدّون لها.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا
اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))
١١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ ...) يذّكر الله تعالى المؤمنين بنعمة خاصة منّ بها عليهم (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي حاول جماعة (أَنْ يَبْسُطُوا
إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) أي أن يبطشوا بكم ، إذ يقال بسط إليه يده إذا بطش به ،
ومعنى بسط اليد هو مدّها إلى المبطوش به. وحين أرادوا الفتك بكم ، رأف سبحانه بكم (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي منعها وجعلها مكفوفة منقبضة قصيرة عن أن تنالكم بسوء.
وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أتى بني النضير من اليهود ليستقرض قيمة دية قتيلين قتلهما
أحد أصحابه وهما في أمانه فلزمته ديتهما ، فقالوا نعطيك المال ولكن اجلس لنطعمك
وندفع إليك ما سألت ، ثم تشاوروا فيما بينهم وهمّوا بأن يفتكوا به ويقتلوه ،
فأخبره جبرائيل عليهالسلام بنيّتهم فخرج قبل أن يحضروا المال ، وكانت إحدى معجزاته
صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين. فالله تعالى يذكّر
المؤمنين بهذا
الفضل العظيم عليهم ويقول : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اخشوه وتوكلوا عليه في أموركم فهو يتولاها عنكم (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) لأنه كاف من توكل عليه وهو حسبه. وقيل أيضا أنها نزلت يوم
نزل رسول الله (ص) منزلا وعلّق سيفه على شجرة وجلس يستريح في ظلّها فجاء أعرابيّ
كافر واستلّه عليه (ص) وقال من يمنعك مني يا محمد؟ فقال (ص) مع كامل الاطمئنان :
الله ، فوكز جبرائيل (ع) الأعرابيّ فسقط على وجهه فأسرع النبيّ وأخذ السيف من يده
وقال : من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي الكافر : لا أحد ، ثم سأله العفو عنه فعفا ،
فأسلم على يده لما رأى من رفيع خلقه (ص).
(وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً
وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ
تَطَّلِعُ
عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
وَمِنَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))
١٢ ـ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) أي أنه تعالى عاهد بني إسرائيل ، أي اليهود ، على الوفاء
منهم بما أخذ عليهم من عهد. ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال : (وَبَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيباً) بعدد أسباط بني إسرائيل جعل لكل عشيرة نقيبا هو الذي يفحص
عن أحوال جماعته وتكون له عليهم السيادة والزعامة. فالنقيب هو الرئيس. وقد قيل إن
هؤلاء النقباء كانوا في عصر موسى (ع) وكانت لهم الوزارة في زمنه ، ثم كانوا أنبياء
من بعده. وبنظرنا أنهم من آل يعقوب النبيّ صلوات الله عليه ومن فروعه المباركة.
وهو المشهور بإسرائيل بالعبريّة أو بالسريانية ومعناه : عبد الله. وقيل أيضا إنهم
أوصياء ولكنه قول لا يعتد به ، والله سبحانه لم يذكر شيئا يكشف حقيقة حالهم
فالسكوت عمّا سكت عنه تعالى أحسن وأولى.
فقد كان الله
تعالى أمر بني إسرائيل بعد اجتياز البحر وهلاك فرعون أن يسيروا إلى أريحا من بلاد
الشام ، وكان يسكنها الجبابرة ، فقال سبحانه لهم إني جعلتها قرارا لكم فجاهدوا
أهلها وادخلوها فإني ناصركم. ثم أمر موسى عليهالسلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا
به ، فأخذ عليهم
الميثاق واختار النقباء وسار بهم حتى قاربها. وبعث النقباء يتجسسون ويترصدون أهلها
، فرأوا ناسا ذوي أجسام عظيمة وقوّة عجيبة وشوكة ، فرجعوا وأخبروا موسى بأمرهم
فنهاهم أن يخبروا قومهم بالأمر ، فأخبروهم به سوى كالب من سبط يهوذا ويوشع من سبط
يوسف .. فقد أمرهم سبحانه بدخول أريحا (وَقالَ اللهُ إِنِّي
مَعَكُمْ) أعينكم عليهم. ومن أعطاه الله القول بالمعية وكان معه ،
نصره على عدوّه وسهّل له كل أمر. ولكنه تعالى اشترط ـ لرعايتهم ـ خمسة أمور :
أولها : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ) أي بشرط أن تقيموا الصلاة وتحافظوا عليها. وهذا جواب قسم
مقدّر : ـ والله إني معكم إن أقمتم الصلاة ـ. وثانيها : (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي أنفقتم زكاة أموالكم. وثالثها : (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) فصدّقتموهم. ورابعها : (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي احترمتموهم. وخامسها : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي تصدقتم وبذلتم في سبيل الله تعالى من أموالكم بلا منّة
ومن غير رياء بل خالصا لوجهه سبحانه. وهذا معنى القرض الحسن ..
أما وجه تقديم
الصلاة والزكاة على الايمان بالرّسل ، فهو اهتمام بشأنهما دون غيرهما ، وتقديم ما
شأنه أن يظهر إيمانهم وحفظهم للميثاق ويعطيهم صبغة الايمان بالمحافظة على مظاهر
التعبد والطاعة لله تعالى.
ثم ما وجه تسمية
القرض بلا عوض في كتاب الله باسم إقراض الله ، مع أنه خلاف الظاهر ، باعتبار أن
القرض هو ما تعطيه إلى غيرك من المال بشرط أن يعيده لك بعد أجل معلوم ومدة معينة ،
في حين أن الإعطاء بلا عوض ليس هو بقرض على ما بينّاه ، وهو إلى البذل والإنفاق
أقرب ، بل هو من نوع الإحسان وما شابهه؟ والجواب : أن الإنفاق ـ نفسه ـ مع انتظار
العوض يكون قرضا اصطلاحا ، ولذا كان لا يمكن التفريق بين هذه الأمور لأن العبد
المؤمن ينتظر التعويض من الله ولو بزيادة الرزق أو الأجر والثواب ، وهذا هو الذي
عناه الله سبحانه بإطلاق لفظ القرض عليها كلها ، لأنه تعالى يقيّد ما ليس له عوض
بالحسنة وإن كان قد قال : من جاء
بالحسنة فله عشر
أمثالها ، لتقدير العوض تقديرا حسابيا يثبت في أذهان المؤمنين ... ثم لماذا أسند
القرض الحسن إليه تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)؟ ... ونقول : هذا وجهه ظاهر. لأن القرض مع العوض بذل في
مقابل ما هو عليك ، وواجب عند انقضاء المدة المشروطة أن تؤديه كالّدين بلا تأخير ،
بل تأخيره حرام بلا عذر يرضاه الدائن. وهذا بخلاف البذل بلا عوض ، فإنه محض خالص
لوجهه تعالى ، فقد قيل في دفع الصدقة إذا دفعتها للفقير فخلّ يدك تحت يد الفقير
لأن الصدقة تقع بيد الله أولا ، وينبغي أن تكون يد الله فوق كل يد. فقابض الصدقة
هو الله سبحانه ، ولذا نسب الإعطاء والاقراض اليه تعالى.
وهكذا فقد واثق
الله تعالى بني إسرائيل أنهم إذا آمنوا وقاموا بجميع مظاهر الايمان (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فأعفو عن ذنوبكم (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جزاء وثوابا للشروط التي أخذتها عليكم. تم ألفتهم سبحانه
إلى تهديد هامّ فقال : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ مِنْكُمْ) أي بعد الميثاق (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) يعني ضاع عن طريق الهداية ولم يمش عليها باستقامة.
١٣ ـ (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
لَعَنَّاهُمْ ...) ما : هنا زائدة ، وقد مرّ التعليق عليها وتفسيرها. فقد
لعنّا اليهود وأبعدناهم عن رحمتنا وعذّبناهم بالمسخ وغيره ، بسبب نقضهم : إخلافهم
لميثاقهم : أي عهدهم (وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) فلم ندخل فيها من رحمتنا لتلين ، ومنعنا عنها ألطافنا فقست
وتحجرّت. وقرأها بعضهم : قسيّة ، مبالغة في قساوتها ورداءتها ، بحيث صاروا (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) أي يزوّرون الأحكام ويغيّرون الأوامر والنواهي وما يجيء من
عند الله. وهذه الجملة بيان لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا
قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ، أي أنهم يتجرءون على التغيير والتحريف ، وهذا منتهى الذم
لهم قاتلهم الله ، لأنهم فعلوه (وَنَسُوا حَظًّا) أي تركوا نصيبا وافرا جزيلا (مِمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ) ونهتهم أو أمرتهم به التوراة كوجوب اتّباع محمد صلىاللهعليهوآله واستماع قوله.
ونشير هنا إلى
عناد اليهود وشراسة طباعهم ، فإنه هنا يبيّن سبحانه نقضهم لميثاقهم بصلافة وطمعا
في الرئاسات الدنيوية فذمّهم ولعنهم على ذلك العناد وأوضح سوء عاقبتهم ، ثم عيّرهم
بركضهم وراء الدنيا الذي أوردهم موارد الهلكة وأوقعهم في سخطه وغضبه لأن القليل
منهم ثبت على الايمان ، بخلاف النصارى فإن كثيرا منهم بقوا على حكم الإنجيل وآمنوا
بمحمد (ص) بعد بعثته لأنهم عرفوه بذاته وبصفاته فصدقوه وكانوا مسلمين ... فاليهود
ماكرون منكرون (وَلا تَزالُ
تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي لا يزال ينكشف لك ـ يا محمد ـ خيانة جماعة منهم تكون
الخيانة شأنهم وسجيّتهم وديدنهم (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) لا يكونوا خائنين ، استثناهم سبحانه لأنهم هم الذين آمنوا
واتّبعوا النبي (ص) وهم الذين أوصاه الله تعالى بالكف عنهم وبرعايتهم ليثبتوا على
الايمان فقال له : (فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ) أي تجاوز عن بعض سقطاتهم ، وتسامح عما يبدو منهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنه محسن غاية الإحسان ، ورؤف بعباده غاية الرأفة ، ولذلك
يحب المحسنين إلى عباده.
١٤ ـ (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا
نَصارى ...) هذه الشريفة معطوفة على سابقتها. أي : ومن الذين سمّوا
أنفسهم بهذا الاسم مدّعين أنهم أنصار الله (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) وشرطنا عليهم عهدا كما شرطنا على اليهود من قبلهم (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) يعني : غفلوا وتركوا نصيبهم وقسمتهم الوافرة التي كانت
مكتوبة لهم في حال الوفاء بالعهد واتّباع محمد صلىاللهعليهوآله ، فجازيناهم على تناسيهم (فَأَغْرَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أي : أوقعنا في قلوبهم عداوة بعضهم لبعض في الأمور
الظاهرية ، وكره بعضهم بعضا في القلوب وفي الأمور الباطنية ، يدوم ذلك بينهم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فالوصفان باقيان ـ كما هو ظاهر الآية الشريفة ـ ويدومان
فعلا حتى يبقيا إلى عصر ظهور الامام الحجة عجّل الله تعالى فرجه ، ولا يمكن أن
يزول الخلاف بين فرقهم إلا يومذاك. فالمستفاد من الأخبار الصحيحة الصريحة أن حكومة
العدل في آخر الزمان ستشمل سائر الأرض المعمورة ،
وسيعم الإسلام
جميع الأنام بحيث لا يبقى كافر ولا مشرك على وجه البسيطة إلا أسلم أو قتل. وهكذا
لا يبقى يهودي ولا نصراني ، ولا غيرهما. فالعداوة والبغضاء وصفان ثابتان يبقيان
بين طوائف النصارى ببقاء موضوعهما ، وموضوعهما محصور ببقاء الطوائف ، والطوائف
سيزيلها سيف صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه وسيظهر الإسلام على الدين كله ولو
كره الكافرون والمشركون .. فيمكن أن يكون المراد بالقيامة عصر الظهور إذ أطلق على
ذلك العصر عصر القيامة الصغرى لأنه يمتاز بقيام صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه
بعد موت ذكره في قلوب الناس ، وبقيام المسيح بالأمر معه بعد أن اعتبره الناس
مقتولا ومصلوبا. فطوائف النصارى تخلو قلوبها يومئذ من البغضاء والعداوة لأن الكل
يصيرون مسلمين متآخين متحابّين في ظل دولة العدل الكبرى التي يسيطر فيها الإسلام
وتنادي فيها كلمة لا إله إلا الله بكرة وعشيا في كل بلدة من بلدان العالم الأرضي
إن شاء الله تعالى ... أما يوم القيامة الكبرى ، وبعث الناس بعد موتهم ، فسيحاسب
الله النصارى العاصين لأوامره (وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنه تعالى يخبرهم يومئذ بما عملوا وبما فعلوا ، حين
تنكشف السرائر وتتّضح الضمائر ، وحين يجزيهم جميعا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.
* * *
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ
مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ
مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ
وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٦))
١٥ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا ...) الخطاب عام لأن المراد به الجنس ، أي أهل الكتاب من اليهود
والنصارى الذين ما زال سبحانه يتحدث عنهم ويقول لهم : قد بعثنا رسولنا الذي
وعدناكم به (يُبَيِّنُ) يوضح (لَكُمْ) ويكشف (كَثِيراً مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) أي صفات وأوصاف نبيّ آخر الزمان وخاتم الأنبياء صلوات الله
عليه وآله ، وكثيرا مما كتمتم وأخفيتم عن العوامّ الذين سألوكم فأنكرتم وخبّأتم
معلوماتكم الموجودة في التوراة والإنجيل. وهذا الرسول كريم يتسامح معكم حين يبيّن
الكثير (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) مما تخفونه لعدم باعث دينيّ لإظهاره ، أو أنه يعفو عن كثير
منكم من المزوّرين الذين لا يحب كشف حالهم ولا بيان ما في ضمائرهم. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) هو هذا النبيّ محمد صلىاللهعليهوآله (وَكِتابٌ) هو القرآن الكريم. وقيل إن النور أيضا هو القرآن وأيّدوا
القول بتوحيد الصفة الواردة في لفظة : (مُبِينٌ) أي واضح في معانيه وإعجازه ثم أيدوه أيضا بإفراد الضمير في
قوله عزوجل :
١٦ ـ (يَهْدِي بِهِ اللهُ ...) أي : يرشد ويدل (مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) أي : الذي سلك السبيل المؤدية إلى رضاه (سُبُلَ السَّلامِ) يعني طرق الرضى والتسليم ... أما نحن فنصر على أن النور هو
محمد (ص) وأن الكتاب هو القرآن ، وأنه لا داعي لتثنية الصفة التي هي تابعة للكتاب
فقط. كما انه لا ضرورة لتثنية الضمير إذ المراد هو الافهام بغاية الوحدة والاتصال
بينهما كأنهما شيء واحد ، فإن نبي الإسلام مبين بالقرآن ، وهو يهدي به الله الناس
، تماما كما أن القرآن مبين عن حقيقته وحقيقة النبي الذي
أرسل به ، وهو
يهدي به الله الناس. فهما نازلان منزلة الشيء الواحد لا يفترق أحدهما عن الآخر ما
دام هو (ص) في دار الدنيا ، وما زال أحد خلفائه عليهمالسلام فيها من بعده إلى قيام الساعة. وأوصياؤه الذين نصّ (ص)
عليهم هم بعدد نقباء بني إسرائيل كما دلت الأخبار الكثيرة الصحيحة عند الخاص
والعام. فالصفة في الآية لكل واحد منهما ، والضمير أيضا كذلك ، وبهذا البيان يرتفع
الإبهام إن شاء الله تعالى.
فهذا النور
المنبعث من النبيّ (ص) ومن كتابه يهدي الله سبحانه به من اتبع طريق مرضاته ،
فانقاد لأوامره وانتهى عن نواهيه وأطاعه بسلوك صراطه المستقيم (وَيُخْرِجُهُمْ) أي المتّبعين لرضوانه (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الجهل والكفر والعناد والإلحاد (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان وضياء الحقيقة المتجلّية بالإسلام. يفعل ذلك
بهم (بِإِذْنِهِ) أي بإجازته وتوفيقه ولطفه (وَيَهْدِيهِمْ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى الطريق المستقيمة التي توصلهم إلى الجنة ورضوان الله
عزّ وعلا.
* * *
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (١٧))
١٧ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا ...) أكدّ سبحانه بحرف التحقيق كفر جميع الّذين قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ) لأن المسيح عليهالسلام عبد مخلوق مرزوق ، خلقه بقدرته ، وجعله معجزة للتدليل على
عظمته ، وجعله نبيّا في المهد ليكون دليلا على أمره ورسولا إلى عباده. فما هذا
القول الجريء منهم على الله تبارك وتعالى؟ ... ف (قُلْ) لهم يا محمد : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ
اللهِ شَيْئاً) أي من عنده وله قدرة تفوق قدرة الله تعالى ، وتحول دون
أمره ، وتمنعه (إِنْ أَرادَ) وشاء (أَنْ يُهْلِكَ) يميت ويفني (الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ) الذي اتّخذتموه ربّا ، ويهلك (أُمَّهُ) مريم سلام الله عليها وعليه ، بل ويهلك (مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ويفنيهم بأسرهم؟ ... فهل من أحد يقف في وجهه تعالى ويحول
دون إرادته؟
هذا ، والمسيح
وأمه عليهاالسلام سيّان مع بقيّة الأشياء والكائنات بالنسبة للوجود. فهما
مقهوران له تعالى كغيرهما ، وكيف يكونان معبودين وقد أوجدا ويمكن أن يموتا ويفنيا
، وهما محتاجان للأكل والنوم ، ومفتقران لرحمة الله كسائر الأحياء والموجودات ،
ولا يملكان لنفسيهما ضرا ولا نفعا (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يملكهما مع ما فيهما من كائنات «و» يملك (ما بَيْنَهُما) من شموس وكواكب ومجرّات ، وهو ـ جلّت قدرته ـ : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كيف يشاء وحين يشاء بلا منازع ولا حاجة لمعين ولا شريك (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء مهما عظم في عالم الإيجاد.
فكيف يكون عيسى (ع)
ربّا وهو مخلوق من المخلوقات ، وموجود قابل للفناء كالموجودات ، خلقه بقدرته من
غير ذكر كما خلق بقدرته آدم (ع) من غير ذكر وغير أنثى. فهذان دليلان على كمال قدرة
الله تبارك وتعالى وتمام عظمته الدالة على أنه على كل شيء قدير.
* * *
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ
تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))
١٨ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ
أَبْناءُ اللهِ ...) أي : وادّعى هؤلاء أنهم أبناء الله والشعوب المدلّلة ،
وأنه تعالى يحبهم وأنهم ليسوا كغيرهم من الناس. فأنت يا محمد (قُلْ) لهم موبّخا ومستهزئا من قولهم : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ويزج المذنب منكم في النار؟ فلو كان الأمر على ما تقولون
ما آخذكم بمخالفاتكم ولا كنتم موضع غضبه تعالى وعقابه! ... والأب الشفوق يرحم
أبناءه ولا يعاقبهم ، فكيف إذا كان يحبّهم؟ لقد عذبكم الله في دار الدنيا قبل
الآخرة بالقتل والمسخ وابتلاكم بمهالك لم يبتل بها القرون الأولى ، مما يكشف عن
كذبكم وعن تكذيب ما في كتبكم ، لأنه سبحانه يعذب العاصين ويرحم المطيعين. لقد
خسئتم بما قلتم وافتريتم على الله كذبا (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) كبقية البشر (مِمَّنْ خَلَقَ) لا تزيدون على الناس بقرابة ولا تتمتعون بأفضلية ، بل على
العكس قد أخزاكم حين عصيتم وأنزل بكم أشد العذاب في دار الدنيا ، ويوم القيامة
يذوق العاصي منكم عذابا أليما ، فكل واحد من البشر مسئول عمّا جناه ويحاسب بحسب ما
قدّم ، والله (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) من الكفرة والمشركين وجميع العاصين ،
كلّ بحسب وزره (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) وهم المؤمنون المطيعون (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) يتصرف في ملكه ذاك كيف يشاء بلا معارض ولا منازع (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي مرجع الموجودات بأجمعها علوية وسفلية ، يردّها إليه
بقدرته ، ويجازي كل عامل طبق عدالته.
١٩ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا ...) أي : محمد صلىاللهعليهوآله الذي بعثناه للناس كافة وقد جاءكم أنتم خاصة (يُبَيِّنُ لَكُمْ) يوضح لكم الدّين الصحيح كيف كان في كل عصر طبق اقتضائه لا
كما زوّرتموه وغيّرتموه. وقد جاء (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ
الرُّسُلِ) أي حين انقطاع الوحي مدة طويلة ، فبعث نبيّنا صلىاللهعليهوآله حيث لم يكن نبيّ ولا وصي يبيّن للناس ما اختلفوا فيه. وقد
قال الصدوق في إكماله : معنى الفترة أن لا يكون نبيّ ولا وصيّ ظاهر مشهور ، وقد
كان بين عيسى (ع) ونبيّنا (ص) أئمة مستورون خائفون يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عليهالسلام : لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهر مشهور ، أو
خائف مستور. كما هي حالنا اليوم في ظل سيدنا ومولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى
فرجه. ومما لا شك فيه أنه كان ـ في الفترة الواقعة بين المسيحية والإسلام ـ نقباء
وأوصياء كانوا يعرفون الحق وينتظرون بعثة محمد (ص) إذ لو لم تكن حجة الله في الأرض
لساخت بأهلنا وخسفت بمن فيها. وقد كانت مدة تلك الفترة خمسمائة وتسعا وستين سنة
على ما ذكرت بعض كتب التفسير وبحسب ما نجد من الفرق بين التاريخين : الهجري
والميلادي فبعثته (ص) امتنان على البشر لأنها كانت حين اندراس الكتب وانقطاع الوحي
، قد جعلها الله هكذا مخافة (أَنْ تَقُولُوا) غدا يوم القيامة : (ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ) أي نبيّ يبشرنا برحمة الله ويدلنا على صراطه المستقيم (وَلا نَذِيرٍ) يخوّفنا من المعاصي وينذرنا من سخط الله (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) هو محمد (ص) واعتذاركم بعد ذلك غير مقبول وغير مسموع (وَاللهُ) ينذركم بقدرته عليكم لأنه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) أي مستطيع
لإرسال الرّسل ،
ولإنذار عباده سواء أكان رسله ظاهرين أم مستورين ، وهو مقتدر على كل أمر كما تشهد
بذلك مخلوقات الله حتى جوارح الإنسان المفتقرة إليه تعالى ...
* * *
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى
إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا
مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ
فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي
لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))
٢٠ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ...) أي : اذكر يا محمد لهؤلاء المعاندين الذين كانوا يعصون أمر
نبيّهم موسى (ع) الذي كان يذكّرهم بألطاف الله تعالى بهم ويقول لهم : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي فضله (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ) اختارهم لهدايتكم ، يقال إن عددهم بلغ ألف نبي في مدة ألف
وسبعمائة سنة كانت بين موسى وعيسى عليهماالسلام (وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً) وسلاطين كطالوت داود وسليمان الذين نالوا ملكا عظيما ،
فكنتم عزيزي الجانب ذوي ثروة وجاه ، (وَآتاكُمْ ما لَمْ
يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي أعطاكم ما لم يعط غيركم في عالمي زمانكم ، كفلق البحر ،
وتظليل الغمام ، والمنّ والسلوى ، وحجر الماء ، والعصا وغيرها من الآيات البيّنات التي
لم يشكروا الله عليها بمقدار ما اغتّروا بها وطغوا وازدادوا طغيانا.
٢١ ـ (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ ...) أي أن موسى عليهالسلام قال لقومه : إن الله يأمركم أن تدخلوا ـ بعد هذا التيه
الذي كتبه عليكم ـ إلى أرض بيت المقدس التي باركها سبحانه وتعالى بالأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ، وطهّرها بوجودهم واستقرارهم فيها. وهذه هي الأرض (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي قدّر وكتب ذلك في اللوح المحفوظ بشرط الطاعة والامتثال
وإذا عصيتم حرمت عليكم. فأدخلوها (وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ) لا ترجعوا مدبرين ، ولا تعودوا القهقرى منهزمين خوفا (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي فتبوؤوا بالخسران وتصبحوا هالكين في الدنيا بعدم دخولها
، وفي الآخرة بمعصيتكم.
٢٢ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً
جَبَّارِينَ ..) فأجابوا بأن فيها جماعة قوية ذات بأس شديد وبطش ولا تتأتى
لنا مقاومتهم ولا نستطيع دحرهم وهزيمتهم والتغلّب عليهم ، و (لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا
مِنْها) أي لن ندخلها ما دام هؤلاء الجبابرة فيها. ونحن خائفون
منهم لأنهم قوم من العمالقة الذين لا قبل لنا بهم. والعمالقة أو العماليق قوم من
أبناء لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليهالسلام. وقد كانوا يسكنون بالشام ، وهم من بقية قوم عاد. وفي
الحديث أنه كان
حول مكة ـ يوم قدوم إبراهيم وهاجر وإسماعيل (ع) ـ ناس من العماليق بعيدا عن الحرم
إذ صان الله تعالى بيته الحرام ومكة من الآفات وهؤلاء أهل شغب وتعدّيات. وقيل إنهم
من ولد عمليق ، وقد كانوا في فلسطين خاصة وتفرق بعضهم في البلدان .. وهكذا ، عصى
قوم موسى أمره واعتذروا بضعفهم عن مقاتلة العماليق قائلين : (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا
داخِلُونَ) إذ لا طاقة لنا بالكون معهم ، ولا نقدر على معايشتهم ولا
على حربهم.
٢٣ ـ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ
...) قيل إن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا. وفي
العياشي عن الباقر عليهالسلام : كانا أبني عمّ موسى عليهالسلام. وهذان الرجلان (أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمَا) بالإيمان الصادق ، والتوفيق الخالص ، والطاعة لله ولرسوله.
قالا لبني إسرائيل (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
الْبابَ) أي فاجئوهم بدخول باب قريتهم ولا تخافوا منهم ولا تخشوهم
فإنهم أجساد كبيرة وقلوب ضعيفة ، وسيسلّمون لكم بمجرّد رؤيتكم إن أنتم فتحتم الباب
ودخلتم منه (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ
فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) أي منتصرون. وقد علما ذلك من إخبار موسى (ع) وتصديق قوله
حين قال : كتب الله لكم ، في الآية السابقة. فادخلوا عليهم باب قريتهم (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي انقطعوا إليه في ما تأملون ، وسلّموا الأمر إليه ،
وفوّضوا ذلك له تعالى إن كنتم مصدّقين بقوله ووعده.
٢٤ ـ (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها
....) أي : لم يعتنوا بقول الرجلين المؤمنين ولم يرضخوا لقول
الله تعالى ولا لأمر رسوله ، وامتنعوا عن دخول القرية أبدا مستعملين النفي بلن ،
فقالوا : لن ندخلها (ما دامُوا فِيها) أي العمالقة. فلا تجادلنا لأننا لا نمتثل أمرك. وإذا شئت (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) الذي أوحى لك بهذا الأمر (فَقاتِلا) العمالقة وحدكما .. أما نحن ف (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) لا نشترك بحرب معكما بل ننتظر نصركما
وغلبتكما! وتظهر
من هذه الآية الشريفة رائحة توهينهم لساحة الله المقدسة جلّ وعلا ، ورائحة توهينهم
لقوله وأوامر رسوله ، وعدم مبالاتهم بما ينزل من السماء وعنادهم الذي يصل إلى حد
الكفر كما لا يخفى .. وهذا منتهى النفاق.
٢٥ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا
نَفْسِي وَأَخِي ...) فعند موقف أولئك المنافقين الشنيع ، تأثر موسى عليهالسلام من صلافة قومه ووقاحتهم ، وشكا بثّه إلى ربه جلّ وعلا بعد
عصيانهم وعنادهم وإعطاء رأيهم الوقح ، فلم يطمئنّ إلى أحد سوى نفسه وأخيه هارون عليهماالسلام ، فقال مناجيا ربّه تعالى بقوله : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ) أي : افصل بيننا وبين هؤلاء المنافقين الخارجين عن أمرك ،
واحكم بيننا يا أحكم الحاكمين .. وهذا الدعاء ـ كما يبدو ـ قد صدر عن قلب رسول
كريم وسع حلمه عناد قومه مرارا وتكرارا حتى ضاق بهم ذرعا. وقد سمّاهم فاسقين لأنه
ليس أعظم فسقا من جماعة يعصون أمر ربّهم ونبيّهم وجها لوجه بتمام الجرأة على الله
تعالى وعلى رسوله (ع) .. وقد فعل الله سبحانه ، واستجاب لرسوله حالا بقوله عزوجل :
٢٦ ـ (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً ...) فقد حرّم الله سبحانه عليهم دخول الأرض المقدسة مدة أربعين
سنة بسبب عصيانهم ، وجعل دخولهم إليها ممتنعا من عنده جلّ وعلا ، جزاء عنادهم
وجعلهم (يَتِيهُونَ) أي يضلون ويضيعون ولا يهتدون سبيلا توصل إليها ، فهم على
ذلك ضائعون (فِي الْأَرْضِ) التي هم فيها ـ وهي صحراء التيه من سيناء ـ لا يستطيعون
إلى النجاة من ضلالهم سبيلا ، ولا يزالون متحيّرين لا يصلون إلى مقصدهم ، ولذا
كانوا يضربون في الأرض طيلة النهار ، ثم يجدون أنفسهم عند غروب الشمس قد عادوا إلى
مكانهم الأول طيلة تلك المدة المريرة ، وهذا من أعظم البلاء على من عصى الله عزوجل.
وعن أبي جعفر عليهالسلام : كان قوم موسى ستمائة ألف : فقالوا : يا
موسى إن فيها قوما
جبّارين ، إلى آخر الآيات. فعصوا إلّا أربعين ألفا .. وقد حكي أن موسى عليهالسلام فتح أريحا مع من كان معه من بني إسرائيل وأقام فيها مع
الفاتحين إلى أن قبض (ع) وقيل قبض في التيه وفتح أريحا وصيّه يوشع بن نون عليهالسلام من بعده ، وقد قاتل من فيها إلى أن غربت الشمس فردّها الله
تعالى عليه بقدرته حتى أتمّ فتحها. وفي القمي عن الباقر عليهالسلام : مات هارون قبل موسى ، وماتا جميعا في التيه .. وقيل : إنه
لم يدخل الأرض المقدّسة كل من قال : لن ندخلها إلخ .. وماتوا في التيه وحرمهم الله
منها ، وفتحها ذراريهم. وقيل إن التيه الذي لبثوا فيه أربعين سنة مساحته ستة فراسخ
من مبدأ حدوده إلى منتهاها. وكانوا يسيرون فيه من البكرة إلى غروب الشمس فتنزل
المائدة عليهم ، فإذا فرغوا منها ينامون من تعبهم وطول سيرهم في اليوم ، فيقول
الله تعالى للأرض : دوري بهم ، فإذا سحروا يرون أنهم في مكانهم الذي كانوا فيه
بالأمس ، وكان الغمام يظللهم من الشمس ويضيء لهم بالليل عمود نور ، وطعامهم المنّ
والسلوى ، وماؤهم من الحجر. والمشهور أن موسى وهارون عليهماالسلام كانا معهم في التيه وأن ذلك التيه كان عليهما روحا ودعة ،
وكان لبني إسرائيل غضبا وحبسا .. أما موقع التيه فكان في الوادي المجاورة لجبل
الطور ، وهي قطعة من صحراء سيناء .. وقد قال الله تعالى مواسيا نبيّه محمدا (ص)
بعد أن عرّفه حقيقة اليهود المعاندين : (فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي فلا تحزن عليهم ولا تأخذك الرحمة بهم لأنهم فاسقون :
يستحلّون الحرام ، ويخرجون عن أوامر ربهم عزوجل.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما
يَتَقَبَّلُ اللهُ
مِنَ
الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ
يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ
أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))
٢٧ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ
آدَمَ بِالْحَقِّ ...) نقدّم لبيان ارتباط هذه الآيات الشريفة بما قبلها فنقول :
إن اليهود فيهم خبث طبيعة تدل عليها الآيات والروايات والتواريخ الواردة فيهم.
وكانت تلك الطبيعة منشأ لأكثر الرذائل إن لم تكن لتمامها. وهو سبحانه وتعالى يبغض
تلك الطبيعة ويكره من كانت فيه لأنها تترتب عليها مفاسد كثيرة ومنها قتل النفس
المحترمة التي سيتحدث عنها سبحانه بعد هذه الآيات. فاليهود حسدة حقدة مرقة ، مثّل
سبحانه لحسدهم بحسد ابن آدم (ع) قابيل لأخيه هابيل ، ذلك الذي أوصله حسده إلى قتل
أخيه فكانت جريمته أول جريمة في الأرض كما أن جرائم اليهود من أفظع جرائم أهل
الأرض. لذا قال سبحانه لرسوله موسى : اقرأ على هؤلاء الحسدة خبر ابني آدم (ع)
ليعتبروا ويتّعظوا ، وبيّن لهم عنهما (إِذْ قَرَّبا
قُرْباناً) وهو ما يتقرب به العبد إلى الله عزوجل فيبذله في سبيله كالضحيّة وغيرها وهو مصدر على وزن كفران (فَتُقُبِّلَ)
أي قبله الله
تعالى ورضيه (مِنْ أَحَدِهِما
وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) بل رفضه لأن قابيل الذي قرّبه لله حاسد لم يقصد به وجه
الله تعالى.
وقد قيل في وجه
هذه القرعة في القربانين بين هابيل وقابيل ـ كما في تفسير محيي الدين الهمداني
وتفسير الكاشاني بفرق بسيط ـ أن الله تعالى قد أمر آدم (ع) أن ينكح كلّا من
الأخوين توأم الآخر. فأبى قابيل ذلك لأن توأمه كانت أجمل من توأم أخيه هابيل ،
فقال لهما آدم (ع) : قرّبا قربانا. يعني أنه أمرهما بالقرعة التي تكون فاصلا
للأمور المشكلة. ولا يخفى أن هذا ـ إن صح ـ يكون بناء على جواز نكاح الأخت في شرع
آدم (ع) كما قيل. وقيل بعدم جوازه في أي شرع من شرائع الله تعالى. وقد فصّلنا ذلك
في سورة البقرة على ما ببالي. ويؤيد هذا القول المنكر ما روي في العياشي عن الإمام
الصادق عليهالسلام ، إذ قيل له : إنهم يزعمون أنه إنما قتل هابيل قابيل
لأنهما تغايرا في أختهما. فقال (ع) : تقول ذلك؟ أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ
الله آدم عليهالسلام؟ ... فقيل : فيم قتل قابيل هابيل؟ فقال : في الوصية. ثم
قال : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى
هابيل ، وكان قابيل أكبر عمرا. فبلغ ذلك قابيل فغضب وقال : أنا أولى بالكرامة
والوصية. فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من الله إليه ، ففعلا ، فتقبّل الله قربان
هابيل. فحسده قابيل وقتل أخاه هابيل ..
وعلى كل حال فإن
هابيل كان صاحب ماشية ، فأخرج منها أحسن غنمه وأسمنه. وكان قابيل ذا زرع فأخرج منه
أدونه. ثم صعدا فوضعا القربانين على الجبل ، فأتت النار فأحرقت قربان هابيل ، وبقي
قربان قابيل أعلى ما كان ، وكانت علامة القبول هذه النار التي يرسلها الله تعالى
على القربان دليل رضاه. لذا غضب قابيل على أخيه وحسده وحلف على قتله فقال : (لَأَقْتُلَنَّكَ) مؤكدا ذلك باللام والنون. مع أن قبول قربان أخيه لم يكن
بيده ، بل هو بإرادة الله تعالى الذي يعلم إيمانه وصدق نيّته. ولكن الحسد أكل قلب
قابيل وحرّكه على قتل أخيه الذي قال : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ) يرضى القربان والعمل (مِنَ الْمُتَّقِينَ) الذين يخافونه ويطلبون رضاه ، وأنت ـ يا قابيل ـ لست منهم
، ولذا رفض قربانك .. ثم تابع قائلا :
٢٨ ـ (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ...) أي إذا كنت قد حضّرت نفسك وتهيأت لقتلي وأردت أن تتلبّس
بهذا الجرم الشنيع ، وأردت أن تخسر الدنيا والآخرة بأن تمدّ يدك نحوي لتقتلني (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ) وقرئ بسكون الباء (إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ) فإني لا أمدّ يدي لقتلك يا أخي (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وأخشى غضبه وسخطه. ذاك أن هابيل فيه خالص الإيمان ونفحة
النبوّة ، فهو يتلطف بأخيه ويعظه وينصحه حتى ينصرف عما صمّم عليه من العمل القبيح
الذي خلف عليه وأكّده ، فسدّ عليه بقوله هذا باب كل اعتراض ، وقطع عليه كل عذر
أمام الله تعالى وأمام أبيه آدم (ع) وأوحى إليه أن يخاف الله كما يخافه هو ، وأن
يخشاه كما يخشاه هو ، وأن لا يقدم على قتل عبد صالح لله رب العالمين الذي يخلق
العباد ويرزقهم ولا يرضى بقتلهم والتعدي عليهم ، فلا تجترى على هذه الجريمة
النكراء التي لا عذر لك عليها عند ربك .. ثم أتمّ هابيل إعذار أخيه وإنذاره بقوله
:
٢٩ ـ (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ ...) وكلامه هذا يدل على أنه هو أيضا قادر على قتل قابيل الذي
هو أكبر منه سنا ، ولكنه لا يريد أن يفعل ذلك مع أنه أرشد وأقوى وأحسن جسما وأمتن
جثة ، فقال : أريد أن ترجع من فعلتك هذه آثما مضاعف الإثم تحمل ذنبي وذنبك لأنك
تتعدّى عليّ بلا جرم جنيته عليك ولا تقصير بدر مني إليك ، فتلقى الله بدمي (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) التي أعدّها الله تعالى للعاصين. وفي ثواب الأعمال عن
الباقر عليهالسلام : من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب ، وبرّأ
المقتول منها ، وذلك قول الله عزوجل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ).
والحاصل أن عدم
إقبال هابيل على قتل أخيه قابيل الذي حلف على قتله ، معلول لعلّتين ؛ الأولى هي
الخوف من الله ، والثانية هي تحميل وزره وإثمه لأخيه ووضع دمه في عنقه. وأي إثم
أعظم من قتل الرحم بلا سبب سوى الحسد وحقد القاتل لعنه الله؟! ... وكيف إذا كان
وصيّ النبيّ ووليّ الله؟ ...
٣٠ ـ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ ..) طوّعت : من مزيدات : طاع ، ويقال : طاع المرتع إذا اتّسع
وسهل. والمعنى أن نفسه الخبيثة سهلّت له قتل أخيه وجعلته هيّنا بنظره ، وبمستطاعه.
مع أن قتل النفس التي حرّم الله صعب ، فكيف إذا كان قتل أخ وتصوّره الإنسان؟ فإن
النفس تنفر منه نفورا عظيما ، ولا تقدم عليه إلا إذا ثارت النفس الحيوانية والغضبة
السبعية فيصير ذلك الفعل سهلا عليها. وهكذا رأى قتل أخيه طوع يديه (فَقَتَلَهُ) وقيل إن قابيل لم يدر كيف يقتل أخاه لأنها أول قتلة في
تاريخ الإنسانية على الأرض فتمثّل له إبليس اللعين بصورة إنسان وأخذ طائرا ـ وقيل
حية ـ فوضع رأسه على حجر ثم ضربه بحجر آخر فشرخ رأسه فمات وقابيل ينظر إليه. عندئذ
تعلّم قابيل شكل الجريمة ، وجاء أخاه هابيل وهو نائم قرب غنمه في البرية ، فاغتاله
بنفس الطريقة وأغنامه ترعى من حوله عند جبل ثور من ضواحي مكة المكرّمة. وهذا الجبل
هو الذي فيه الغار الذي بات فيه النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا هاجر إلى المدينة هربا من كيد قريش والمشركين. وقيل
إنه قتله في منطقة سرنديب في الهند وهي أول مكان نزل فيه آدم عليهالسلام على الأرض. وقيل في أول عقبة حراء ، ولعله مكان إحدى
الجمرات التي يرميها الحجاج. ثم قيل في موضع مسجد في البصرة والله أعلم. وهكذا ،
فإنه قتله (فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخاسِرِينَ) فخسر دنياه وآخرته لأنه عاش تعيسا ومات معذّبا نادما ،
وسيجازى يوم القيامة بالنار وبئس المصير ..
٣١ ـ (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ ...) هذه الآية الشريفة
معطوفة على ما
قبلها. فإن قابيل لمّا قتل أخاه ورآه ميتا وقف متحيّرا لا يدري ما يصنع؟ وماذا
يفعل ليخفي هذه الجثة عن والديه وأخواته وعن السباع؟ وكيف يسترها ويواريها عن
الأنظار؟ فوقع نظره على طائر ـ هو الغراب ـ (يَبْحَثُ) أي يحفر الأرض (لِيُرِيَهُ كَيْفَ
يُوارِي) يستر (سَوْأَةَ) أي جثة (أَخِيهِ) الميت. فتأمله وهو يعمل في الحفر بمنقاره وبمخالبه إلى أن
أوجد حفرة تتسع لجثة الطائر ، وحمله فوضعه فيها ثم طمره بالتراب وستره عن الأعين.
فتعلّم طريقة دفن أخيه وقال : (يا وَيْلَتى) أي له الويل والحزن والتعب (أَعَجَزْتُ) ما قدرت (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ
هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) وأستر جثته وأدفنه كما دفن هذا الغراب أخاه؟ ... ثم دفن
أخاه ، وحزن وباء بالخزي وتوبيخ الضمير (فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ) حين لا ينفع الندم .. وحين عرف آدم عليهالسلام بكى على هابيل أربعين يوما وليلة ، فأوحى الله تعالى إليه
: إني واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل. ثم ولدت حواء سلام الله عليها غلاما
مباركا زكيا هو شيت عليهالسلام. ولما كان يوم السابع أوحى الله إلى آدم (ع) : إن هذا
الغلام هبة مني فسمّه : هبة الله .. وقال طاووس اليماني رحمهالله لأبي جعفر الباقر عليهالسلام : أي يوم مات ثلث الناس؟ فقال عليهالسلام : يا عبد الله لم يمت ثلث الناس قّط ، «إنما مات ربع
الناس. قال : وكيف ذلك؟ قال عليهالسلام : كان آدم وحواء وهابيل وقابيل. وقتل قابيل ، فذلك ربع.
قال : صدقت. قال أبو جعفر : هل تدري ما صنع بقابيل؟ قال : لا. قال : علّق بالشمس ،
ينضح بالماء الحارّ إلى أن تقوم الساعة.
* * *
(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعاً
وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ
رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي
الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣٤))
٣٢ ـ (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ ...) يعني من أجل قصة هابيل وقابيل ، فإن اسم الإشارة : ذلك ،
يشير إليها. فقد صارت هذه الحادثة الاعتدائية سببا لأن كتبنا : أي فرضنا وقدّرنا
وقضينا ، على بني إسرائيل ، وغيرهم طبعا ، ولكنه ذكرهم لأنهم أهل شغب وفتن
واعتداءات. فقد كتبنا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من غير قصاص ، بحيث يقتل القاتل بمن قتله (أَوْ) بغير (فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي فتن وشغب موجب للقتل كقطع الطريق والشرك والارتداد
والتمرد على سنن الله تعالى. ولا يخفى أن مورد النزول وإن كان خاصّا ببني إسرائيل
كما قلنا ، فإنه حكم
عام يشملهم ويشمل غيرهم. فمن فعل ذلك (فَكَأَنَّما قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعاً) وهذا الحكم تنظير ظاهري ، لكنه بالنسبة إلى الواقع واقعي
بمقتضى أخبار الباب التي دلّتنا على ذلك وهكذا في الآية الآتية بعدها .. بيان ذلك
أن من قتل إنسانا بلا موجب من الموجبات المجوّزة لقتل النفس ـ مثلما بين في الآية
الكريمة ـ كقتل نفس محترمة ظلما وصبرا ، وكالإفساد في الجامعة الإسلامية كقطع
الطرق لأخذ الأموال وتهويل الناس وقتل الأبرياء ، وكالرّدة والكفر الأوّلي وغيره
مما يخرج النفس عن حرمتها ، أقول : إن كل ذلك حكمة في محكمة العدل الإلهي حكم من
قتل الناس جميعا ، ومكانه في العذاب ، وعذابه ، مثل مكانه وعذابه. ففي الفقيه
والعياشي عن الصادق عليهالسلام : أنّ في جهنم واديا لمن قتل الناس جميعا. أقول : ولعلها
تكون أشد حرارة من جميع الأمكنة في جهنّم والله أعلم. وإن قتل النفس المحترمة أمر
منكر عظيم في نظر الشارع. ولهذا ـ وسداّ لهذا الباب ـ جعل الله سبحانه عذاب القاتل
أشد وأعظم ومساويا لقاتل جميع البشر. وهذا الحكم ـ لهذه الجهة ـ حكم إلزاميّ سياسي
، بل هو مدني شرعي ، وهو أحسن حكم في المقام يردع عن القتل والاستهانة بالدماء
البريئة ، وليس لأحد من الناس أن يستشكل بأنه خلاف العقل والعدالة ، لأن أحكام
الله تعالى لا تصاب بالعقول القاصرة ولا بالقياس السفسطائي المعتمد على لقلقات
اللسان وزخرفة الكلام. وفي الرواية الصحيحة «دين الله لا يصاب بالعقول والقياس.
فليس ـ إذا ـ فيما يحكم ويريد أن يسأل : لم؟ وبم؟ ولماذا؟ وهو سبحانه لا يسأل عمّا
يفعل وهم يسألون. على أنه قد ورد في رواية أخرى : في النار مقعد لو قتل الناس
جميعا لم يزدد على ذلك المقعد. فقيل للإمام : فإن قتل آخر؟ قال عليهالسلام : يضاعف عليه. وفي العياشي تجد مما يقرب من هذه الرواية
ومن التي سبقتها. ففي ذلك المقعد من الجحيم يكون من قتل ـ على الفرض ـ جميع الناس.
والمقصود بلفظة : جميع ، هو : جميع الناس في عصره ، لا جميع الناس من أول الدنيا
إلى آخرها كما لا يخفى. فلا بد من حمله على ما قلناه وإن كان الأمر مقولا
بالتشكيك كحمله
على أن جميع الناس يكونون في دور من الأدوار نفرين كآدم وحواء عليهماالسلام. ويكونون في عصر كعصرنا يبلغون المليارات. فقتل الجميع
أعمّ من التسبيب والمباشرة ، كما لو أمر السلطان بهدم المدينة وقتل أهلها ، فإننا
إذا قلنا بأن الآمر أقوى من المباشر فقتل الجميع تصوّره أسهل شيء. وبالجملة فلا بد
من أن قتل النفس صعب أمره ، وقد جعله الله تعالى كذلك حتى لا يتجرأ أحد على
الإقدام على قتل النفس الزكية .. وفي مقابل ذلك قال تعالى عن النفس المحترمة : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) وهذا في مرحلة الإقدام على حفظ الدم ، فثواب الحافظ له في
الآخرة كثواب من حفظ جميع الدماء ، وتصوّره كتصوّر ما قبله ، وكلاهما مثلان ، إلّا
أن الأول مثل على الإفناء ، وهذا مثل على الإحياء. وأما كيفية إحياء النفس فقد ضرب
الإمام عليهالسلام مثلا لها ، ففي الكافي عن الباقر عليهالسلام في تفسير الشريفة : من أحياها ، قال : من حرق أو غرق. قيل
فمن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال : ذلك تأويلها الأعظم. وفي الكافي أيضا والعياشي
مثله عن الصادق عليهالسلام ، وعن الباقر عليهالسلام : من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنما أحياها ، ومن أخرجها
من هدى إلى ضلال فقد قتلها. وفي الفقيه عنه عليهالسلام : من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة
، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه ماء كان كمن أحيى نفسا ، ومن أحيى نفسا
فكأنما أحيى الناس جميعا. وهذه الروايات بأجمعها تدلنا على معنى قوله سبحانه : «ومن
أحيى نفسا إلخ ...»
ومختصر الكلام أن القتل بلا علة ولا
ملاك أمر فظيع يجازي الله عليه أعظم جزاء ، وأن إحياء النفس بالمعاني كلها يثيب
عليها أجزل ثواب. وفي الآية وعيد ووعد ، وترغيب وترهيب لحفظ النفوس البشرية ، وقد
نزلت هي وشبيهتها للوقوف في طريق الهرج والمرج اللذين استحكما منذ عصر بني إسرائيل
حتى عصر الجاهلية الرعناء في زمن ظهور نبيّنا الأعظم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فالملاك في الآيتين صار معلوما إلى حدّ لا استهجان
فيه ولا استغراب ،
وأصبحنا مع ذلك لا نحتاج إلى تأويلات ربما لم يرضها منزل القرآن الذي قال الله عزوجل فيه : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ
رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالبراهين لا تمام الحجة على بني إسرائيل وعلى جميع
الناس سيّما بعد إنزال الكتب السماوية عليهم. فإن هذه التخويفات منه سبحانه بما
أعدّ للكافرين بقوله ، تجنّب الجناة وتمنع العقلاء عن ارتكاب الجرائم (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل المستهزئين بقول ربهم ، والمتمرّدين على
أحكامه (بَعْدَ ذلِكَ) الذي كتبناه عليهم من القصاص الشديد في الآخرة ، هم (فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) أي متجاوزون عن الحق وعن حدود الشرع على وجه أرض الله
تعالى. وفي المجمع عن الباقر عليهالسلام : المسرفون هم الذين يستحلّون المحارم ويسفكون الدماء.
٣٣ ـ (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ ...) أي أن الله وضع حدا لمن يحاربون الله : أي يحاربون أولياءه
والمؤمنين ، ولمن يحاربون النبيّ أو أتباعه ، وهو (أَنْ يُقَتَّلُوا ،
أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ...
والمحاربون لله
ورسوله ـ على ما روي عن أهل البيت عليهمالسلام ـ هم : كل من شهر السلاح وأخاف الطريق كاللصوص سواء كانوا
في المصر أو خارجه. إلّا أن الباقر عليهالسلام قال : من حمل السلاح بالليل فهو محارب إلّا أن يكون رجلا
ليس من أهل الريبة. وجزاء المحارب والساعي في الأرض بالفساد ، على قدر استحقاقهما
الذي ذكر في الآية الشريفة ، فإن قتل فعليه القتل ، وإن زاد عليه بأخذ المال
فجزاؤه مضافا إلى القتل أن يصلب للفضيحة والعبرة ، وإذا أخذ المال فقط فجزاؤه أن
تقطع يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط بأن يرمي البنادق ـ يطلق الرصاص ـ في
الجو ، أو يعلق سيفه على عاتقه بلا تجاوز إلى أحد لكن الناس يخافونه بحيث لا
يمرّون من الطريق التي هو فيها خوفا منه ، فإنما عليه النفي من بلده إلى بلد آخر ،
ومنه إلى آخر ، وهكذا حتى
يتوب حقيقة أو
يموت أو يخرج من بلاد الإسلام. وهذا القول قال به الصادقان عليهماالسلام ، وقال به من العامة سعيد بن جبير وقتادة والسديّ والربيع
، وقال به ابن عباس أيضا ، وفي التفاسير أقوال لأئمة العامة من شاء فليراجعها في
تفاسيرهم (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيا) أي أن ما ذكر من الأعمال الشاقة والشنيعة هو لفضيحتهم
وهوانهم في الدنيا (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) والإبهام في عذابهم يشير إلى شدته وعظمه. وفي هذا دلالة
على بطلان قول من ذهب إلى أنّ إقامة الحدود تكفير للمعاصي ، لأنه سبحانه بينّ أن
لهم في الآخرة عذابا عظيما مع أنه أقيمت عليهم الحدود. نعم ، قد استثنى سبحانه
الذين عناهم بقوله التالي :
٣٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ...) هؤلاء هم الذين يتوبون عن معاصيهم وأفعالهم قبل القبض عليهم
وأخذهم واقتداركم عليهم ـ فإن القبض عليهم بمنزلة نزول البلاء عليهم إذ صاروا تحت
رحمة الشرع ـ وبعد نزول العذاب والهلاك لا تقبل التوبة ، نعم ، قبله لا بأس بها
بالنسبة إلى حق الله سبحانه ، وحق العباد يبقى كأخذ الأولياء للدية ، وكالتعويض عن
النهب وغير ذلك.
فالتوبة بعد الأخذ
والقبض على الجاني إنما تسقط العذاب دون الحد ، إلّا أن تكون عن الشّرك فالإسلام
يجبّ ما قبله. ونحن لا نعلم توبتهم بقولهم تبنا خوفا من القصاص ، بل لا بد أن تثبت
التوبة بشهادة عدلين كما في الأمور الأخر. وهذا ممكن بمعاشرتهم وبتسليم سلاحهم
وتركه ، وبحسن سلوكهم وعدم ظهورهم في أمكنة التخويف ونحو ذلك من الإمارات .. (فَاعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يقبل التوبة ، ويعفو عن المذنبين ويرحم عباده .. وهذا يؤيد
كون الاستثناء جاء بالنسبة إلى حق الله تعالى فقط ، فيسقط الواجب حداّ ، ويبقى الجائز
قودا. وتقييد التوبة بكون حصولها قبل القدرة يفيد أنها بعد القبض على الجاني لا
تسقط الحد وإن أسقطت العذاب.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا
فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ
لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧))
٣٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ ...) أي حاذروه وتجنّبوا ما يغضبه (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ) اطلبوا واسطة تقربكم إلى رحمته ورضاه فذلك العمل هو الشفيع
لكم ، لأن التقوى وحدها هي مخافة الله ، فلا بد معها من العمل بطاعته لأن العمل هو
المقرّب منه سبحانه ، وهو الوسيلة. وقد قال الشاعر فأجاد :
آل النبيّ
ذريعتي
|
|
وهم إليه وسيلتي
|
أرجو بهم أعطى
غدا
|
|
بيد اليمين
صحيفتي
|
فابتغوا القربى
إليه بالعمل (وَجاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ) وحاربوا الأعداء لرفع كلمة الله .. وحاصل ما مضى من
الشريفة أنه تعالى وظّف أهل الإيمان بوظائف ثلاث هي : تحصيل التقوى الذي بيّنا
معناه ، وتحصيل الوسيلة في الأمور المشروعة التي يحتاجون فيها إلى وسائل وشفعاء ،
ثم الجهاد في سبيله وسبيل دينه الحق لرفع كلمة التوحيد وإعزازها (لَعَلَّكُمْ) أي عساكم أيها المؤمنون (تُفْلِحُونَ) أي تفوزون وتظفرون بنعمائه وآلائه الأبدية.
وقد سبق أن فصّلنا
القول في استعماله جلّ وعلا كلمته : لعلّ ، في كتابه ، مع أنه أعلم وأعرف بكل شيء
من كل ذي حياة. وهنا نقتصر على واحد من معاني : لعل. ألا وهو رفع الإعجاب عن خلقه
، حيث إنه لو قال : من عمل هذه الأمور الثلاثة فقد فاز بالوصول إلى مرضاة الله
وظفر بكرامته ، فربما أعجب العبد بعمله فيفسده الإعجاب. لكن إذا قال سبحانه ، لعله
يفوز ، فإن العبد يعمل ويبقى بين الخوف والرجاء ويزداد في العمل خوف التقصير ،
وهذا كله ممدوح من العبد عنده تعالى ..
٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ
لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...) أكّد سبحانه مكررا أنه لو ملك الذين كفروا كل ما على وجه
الأرض من الأموال (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ
مَعَهُ) بحيث يصير ضعفي ما على الأرض ـ يضاف إليه بمقداره ـ وجاؤوا
بكل ذلك (لِيَفْتَدُوا بِهِ) أي ليجعلوه فدية لأنفسهم ، تقيهم (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) وتدفعه عنهم (ما تُقُبِّلَ
مِنْهُمْ) ما قبل منهم فدية ، وبقي غضب الله نازلا عليهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مهيأ حاضر لا يدفع عنهم. وفي جملة : ما تقبّل ، يقع جواب
الشرط كما لا يخفى ، كما أن قوله سبحانه : ومثله معه تأكيد شديد للزوم العذاب
وثبوته حتما ، بحيث لا يزول قضاء هذا الحكم عنهم ، ولا سبيل لهم إلى الخلاص منه ،
وهو موجع مفزع.
٣٧ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ ...) أي أن الكفار يتمنّون ويرغبون في الخروج من النار يوم القيامة
(وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنْها) إلى الأبد إذ لا وسيلة للخروج مهما حاولوا بدليل هذا النفي
من الله. وفي العياشي عنهما عليهماالسلام أنهم أعداء عليّ سلام الله عليه وعلى أبنائه الطاهرين. فما
الكافرون بخارجين يومئذ من النّار (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُقِيمٌ) دائم ، مستقر ، مقيم معهم ، لا ينفكّون منه.
* * *
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))
٣٨ ـ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) لو قيل أية مناسبة بين هذه الآية وما قبلها؟ نقول : إنه
سبحانه منذ قصة ابني آدم حتى هذه الآية يتكلّم عن الذنوب والعقوبات ، وهذه الآية
تتناول حداّ من الحدود التي فرضها الله على معصية معينة. مضافا إلى أننا قلنا
سابقا ، ونكرر ، بأن الربط بين سائر الآيات لا ينبغي الاهتمام به كثيرا ، فهو
أحيانا لغو يوصل إلى محاولات ليست ضرورية ، لأن الآيات نزلت نجما نجما بمناسبات ما
عالجت من مواضيع ، ووفق الحاجات حتى تمّ جميع ما أنزل ممّا فيه تبيان كل شيء.
وهكذا ، فقد قال
سبحانه اقطعوا يد السارق أو السارقة إذا ثبت جرمهما شرعا ، وجعل لهما هذا القصاص
المخصوص (جَزاءً بِما كَسَبا) عقابا موافقا لما جنياه من الإثم ، و (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي انتقاما منه (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) فهو قوي منيع الجانب ، ذو حكمة فيما يقدّر ويحكم .. وجزاء
ونكالا هما إما مفعول لأجله ، وإمّا مصدر نصب على المفعول المطلق.
أما أصل الحكم في
هذه الشريفة ، أي القطع ، فهو إجماعي بين
المسلمين بلا فرق
بين الرجل والمرأة. وإنما الفرق بين أعلام الشيعة وعلماء السنّة في كمية القطع
وكيفيته. فقد قال فقهاؤنا : في المرة الأولى تقطع أربع من أصابع اليد التي غير
الإبهام. والأصابع التي لا بد من قطعها تقطع من أصولها التي تصلها بالكف مع حفظ
الكف بتمامه ، فإن الكف والإبهام تعلّق بهما حقّ الله تعالى ، وحقّه سبحانه أولى
بأن يحفظ ويقضى بتقديسه. والمراد بحقه هنا هو الصلاة التي لا تتأتّى إلّا بالطهارة
ـ أي الوضوء ، أو التيمم ـ وهما لا يتأديّان إلّا بالكف ولا أقلّ من الإبهام التي
تدور في كل اتّجاه بقدرة الله. وفي الوضوء والتيمم نجد للكف والإبهام دخلا تامّا
وهاماّ كما لا يخفى ، كما أن للكف أهمية بالنسبة إلى السجود الذي لا يتحقق إلّا
به. فهما لله تعالى ، ولا يشاركه فيهما أحد ، وهو لا يشاركه في عبادته أحد.
أما الموجب لقطع
اليد ومقداره ، ففيه خلاف أيضا بين الشيعة والسنّة. فقد قال الشيعة ربع دينار وما
زاد ، وبه قال الشافعي والأوزاعي وأبو الثور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقطع
في عشرة دراهم ، وذهب مالك إلى أنه يقطع بثلاثة دراهم ، وقال بعضهم بقطع الخمس في
خمسة دراهم كالجبائي. أما الخوارج فذهبوا إلى قطع يد السارق أو السارقة في قليل
السرقة وكثيرها. ولكلّ من أرباب الأقوال دليل ومدرك ضعيف لا يعبأ به ، إلّا القائل
بأربعة دراهم وهذا هو المختار لأنه واصل إلينا من منابع الأئمة الأطهار صلوات الله
عليهم ما دام الليل والنهار.
وأما القول في
ناحية الكيف فقال أكثر الفقهاء إن يد السارق تقطع. وهذا الكلّي لا كلام فيه ،
وإنما الكلام في كيفية القطع. وقد قالوا بأن القطع لا بد أن يكون من الرّسخ ، وهو
المفصل بين الزند والساعد ، ويعنون به المرفق. وتوضيحا لقولهم نذكر أن اليد عندهم
تنقسم أعضاؤها إلى أربعة أقسام : الأول : الكف التي تحتوي الأصابع الخمس إلى الزند
وهو أول مفصل من طرف الأصابع. والثاني : الساعد ، ويطلق على ما بعد الزند إلى
المرفق ، بحيث تكون الغاية داخلة في المغيّا. والثالث : المرفق ، وهو المفصل الذي
يبدأ به عند التوضّؤ بحسب مباني الشيعة بين الزند
والعضد. والرابع :
العضد ، وهو بين المرفق ومفصل الكتف.
فالمراد باليد عند
الشيعة هو هنا معناها الخاص الذي بيّنا أنه الأصابع الأربع سوى الإبهام من أصولها
، ويترك الكف لأنه من المساجد ، والمساجد لله عزّ وعلا ـ وأنّ المساجد لله كما قال
سبحانه ـ. فيترك هو والإبهام التي تعين في الحوائج كالأكل والشرب والتطهير من
الخبائث للصلاة وغيرها كالسجود الذي لا يتحقق بدونها لتتم الأعضاء السبعة. أما
غيرنا فقال : تقطع اليد من الزند. وأكثر فقهاء السنّة ذهبوا إلى القطع من المرفق ،
وعند الخوارج تقطع من مفصل الكتف إذا أخذوا بإطلاق اليد على المجموع. وقد خفيت على
الجميع الحكم والمصالح التي تتلخص بإقامة الحد والتنكيل لا بالانتقام والتشويه
والتعطيل. وفي العياشي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه كان إذا قطع السارق ترك له الإبهام والراحة. فقيل له :
يا أمير المؤمنين تركت عامّة يده؟ فقال : فإن تاب فبأي شيء يتوضأ؟ يقول الله : فمن
تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ، إن الله غفور رحيم .. وقال سيدنا
الجواد عليهالسلام فيما قال في هذا الموضوع : القطع يجب أن يكون من مفصل
الأصابع ، فيترك الكف. والحجة في ذلك قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : السجود على سبعة أعضاء إلخ .. فإذا قطعت يده من المرفق
لم يبق له يد يسجد عليها. وقال الله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ...) ولفظة : أنّ ، تدل على إنشاء حكم منه سبحانه ، فلا ينبغي
أن يمسّ ما هو له تبارك وتعالى. وفي الكافي عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال في حديث طويل : إذا سرق قطعت يمينه ، فإذا سرق مرة
أخرى قطعت رجله اليسرى من أصل الساق ويترك العقب. ثم إذا سرق مرة أخرى سجن مخلّدا
وتركت رجله اليمنى يمشي عليها إلى الغائط ، ويده اليسرى يأكل بها ويستنجي بها.
وقال : إني لأستحي من الله أن أتركه لا ينتفع بشيء ، ولكن أسجنه حتى يموت في
السجن. ونلفت النظر إلى أن المراد بالأيدي هو الإيمان : جمع يمين بشاهد روايات هذا
الباب وكما رأيت في الرواية التي سبقت عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، والحمد لله أولا وأخيرا.
٣٩ ـ (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ
وَأَصْلَحَ ...) أي ندم على سرقته وظلمه لنفسه ولغيره ، وأصلح ببراءة ذمته
وردّ ما سرقه إلى صاحبه ، وبإبعاد نفسه عن تلك التبعات والمهانات والهتك والضرب
ونحوها من لوازم السرقة. فمن فعل ذلك وأقلع عن السرقة بإخلاص (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) أي يقبل توبته. وكل ذلك قبل إرجاع أمره إلى الحاكم بحسب
مذهبنا. أما إذا تاب بعد الرجوع إلى الحاكم وبعد إثبات السرقة ، فلا بد من إجراء
الحكم عليه. وإذا كانت التوبة عن ندامة حقيقية فإن العقاب من الله مرتفع تفضلا منه
وكرما. أما إذا كانت بباعث الخوف من القطع والمهانة والهتك فلا تفيد مطلقا سواء
صدرت قبل وقوعه في يد الحاكم أو بعده ، وهي ـ هكذا ـ لا تسقط الحد ولا العذاب ..
أما عند غيرنا فالحد لا يرتفع سواء أتاب قبل رفع أمره إلى الحاكم أمر بعده. نعم ،
قليل منهم يوافقنا في الفرق الذي اخترناه في أعلاه .. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير الغفران والتجاوز عن السيئات ، عظيم الرحمة واللطف ،
ستار الذنوب ، والرحمة هي رقة القلب والانعطاف الذي يقتضي الإحسان .. وبمقتضى جرأة
السارق ينبغي أن لا يتوب الله سبحانه عليه ، ولكن غفرانه للذنوب ، ورحمته للعباد
يمنعان اليأس عن بابه الكريم ، ولا يعيدان التائب خائبا من عفوه جلّ وعلا.
ويمكن أن يقال :
إنه يستفاد من الآية أن تلك الرحمة الواسعة والمغفرة الشاملة ، تشملان السّراق
التائبين مطلقا سواء رفع أمرهم إلى الحاكم أم لا ، غاية الأمر أن رفع أمر السرقة
إلى الإمام يحفظ حقوق الناس وتعاد السرقة من السارق ، وتبقى حقوق الله تعالى التي
أمرها بيده يفعل بها ما يشاء إذا ثبتت التوبة بالإقرار الصادق وبالشهادة ونحوهما
من القرائن المثبتة لها ، والله هو وحده العالم الحاكم ..
وقبل طيّ هذا
الموضوع لا بد من أمور تقتضي البيان كشرط قطع يد السارق الذي لا يكون في أقل من
ربع دينار كما قلنا. والدينار مثقال شرعي من الذهب الخالص المسكوك وهو يعادل ثماني
عشرة حمّصة من الحمّص
المتعارف ، وربع
هذا المقدار يصير أربع حمصات ونصف الحمصة. فما زاد عن هذا المقدار أوجب إقامة
الحد.
هذا أولا. وثانيا
: لا بد من أن يكون المسروق في حرز ومحفظة ، بمعنى أن صاحبه غير متهاون به.
وثالثا : لا بد من
كونه في غير قحط ولا غلاء ويكون حفظه لنفسه مع الحيطة وعدم تعريضه للسرقة.
ورابعا : لا بد من
كون السارق بالغا عاقلا مختارا.
وخامسا : لا بد من
كونه غير أب لصاحب المال ، ولا موردا للشركة ، فليس هذان الموردان من حد السرقة في
شيء.
وسادسا : لا بد من
كون المسروق غير مورد شبهة بين مال الغير ، ومال الشخص ، حيث إن الحدود تدرأ
بالشبهات.
ولا يخفى أن بعض
الناس يعترض ويقول : إن مسألة السرقة مسألة خشنة صعبة من حيث حكمها ، لأن من سرق
ربع دينار فما فوق ، تقطع أصابع يده اليمنى من أصولها في المرة الأولى ، ثم تقطع
رجله اليسرى في المرة الثانية من قبة القدم ، وفي المرة الثالثة يحبس حتى يموت.
والناس في عصرنا الحاضر يلزم أن تقطع أيدي وأرجل أكثرهم وأن يحبس حتى الموت قسم لا
يستهان به. ومعنى ذلك أنه تتعطل جماعة كثيرة عن العمل وتصبح مهملة لا تقدر على
مزاولة أعمالها في كل حقل وتشل حركة الأسر ويختلّ وضع المجتمع وتصير فيه فئة كبيرة
مثارا للإهانة يشار إليها بالبنان وتصاب بما فعلته ويعرض عنها الناس. أما إذا حبست
هذه الفئة فالأمر أصعب ، الأمر الذي يحدو بالناس إلى الفرار من الدين الإسلامي
لأنهم لا يتحملون ، هذه المهانة ولا ذلك التشهير المعيب.
ألا إنه قد سها عن
بال أمثال هذا المعترض أن يتكلم عن مجتمع سرّاق ترك أعماله وتفرّغ لمزاولة هذه
المهنة القبيحة حتى اقتضى الأمر إقامة
الحدود على
الأكثرية الساحقة. فمثل هذا الإشكال الفاسد لا يعتدّ به لأن الحد إنما شرعه الله
سبحانه ليكون رادعا أي مانعا للغير عن السرقة بما يجرّه للسارق من نكال ومهانة
وتعطيل. ولو قد أقيم ذلك الحد على الأفراد لما طغت الجماعات ، ولأدّب الحد الآخرين
وحال بينهم وبين مزاولة هذا العمل المشين. وإن أهل عصرنا صار ينبغي إقامة حد القطع
على أكثرهم ، بسبب تعطيل الحكم ، وعدم مزاولته من قبل الحكّام المسلمين ، فإنهم
تغاضوا عن السرقات ، بل أكثرهم سرق أموال الأمة ، فوصلت الأمة الى هذه الحال
المخزية. فالإشكال إذا يردّ على المعترض ويقال له : لو قد أقيم الحد على الأفراد
لارتدعت الجماعات. ولو قد قطعت يد حاكم واحد لاصطلح أمر رعّيته بكاملها.
فالدين الإسلامي
الذي شرع هذا الحد ، قصد ردع الناس عن عمل سوء تأباه أنفة الإسلام وشرفه. ولو سيطر
الإسلام على نفوس الحكّام وزاولوا حدوده لدخل الناس في دين الله أفواجا ، ولما فرّ
منه إلّا كلّ ذي نفس خبيثة من اللصوص والسرّاقين والمعتدين الذين يريدون أن يعيشوا
عالة على الآخرين.
فمثل هذه
الإشكالات هي الفاسدة ، وهي لا تصدر إلّا عن الجهلة والمرقة والملفّقين والمزوّرين
المزوّقين للكلام المضلّلين للأنام الذين ذرّ قرنهم منذ صدر الإسلام وما زال
أتباعهم يعيشون بيننا في هذه الأيام. فالقطع لليد على السرقة قد ردع الأعراب الذين
كانوا بجملتهم يعيشون على السطو والنهب ، وقد اعتدلوا وارتدعوا وامتنعوا حتى صرت
لا ترى أعرابيا مقطوع اليد إلا في القليل النادر.
فما ذا على
الإسلام إذا انحرف أهله وتسّموا به ولم يعملوا بحدوده؟.
٤٠ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) في هذه الشريفة يتوجه خطابه سبحانه لنبيّه الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم تعقيبا
على ما في السابق
، ثم يقول له : ألم تعلم وتتيقّن ـ يا محمد ـ بأن ربك يملك السماوات والأرضين وأنه
قادر على التصرّف فيهن لأنه مستول عليهن تمام الاستيلاء ، وأنه يقضي فيهن بمشيئته
وحكمته ، وهو (يُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) من عباده العصاة الجناة على أنفسهم وعلى غيرهم ، طبق ما
يستحقون ، وقد أنذرهم بذلك في دار الدنيا تربية للناس وحفظا للنظام بين مخلوقاته (وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من التائبين النادمين المنيبين إليه ، لأنه رغّبهم بذلك في
دار الدنيا فامتثلوا أمره وخافوا عقابه وطمعوا بثوابه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذو قوة تقهر كل شيء ولا يقوم لها شيء. تبارك الله وتعالى.
فهو يعفو لمن كان في السماوات والأرض أهلا للعفو ، ويجازي من كان فيهما مستحقا
للجزاء بقدر ما يستحق ، وأمر العباد بيده يتصرف فيهم بما يشاء وكيف شاء بلطفه
وبعدله.
* * *
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ
قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))
٤١ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ...) الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله يقول له تعالى فيه : لا تحزن لاستعجال من يرمي نفسه في
الكفر من هؤلاء المنافقين ، ولا لتظاهرهم بإعلانه حيث وجدوا فرصة لذلك ، ونحن
نطلعك على حقيقة أمرهم ، فهم «من المنافقين الذين قالوا آمنا ولم تؤمن قلوبهم»
فإيمانهم لم يتجاوز حدود القول باللسان دون العقيدة القلبية الصادقة. وكفرهم لا
يضّرك بشيء بل العاقبة لك ولمن اتّبعك من المؤمنين ، وهم الخاسرون في الدارين ..
وبهذه الشريفة يهوّن سبحانه على رسوله خطب المنافقين عليه لئلا يتطرق إلى قلبه
الشريف حزن ولا غم ولا كدر. وإن من شأن المنافق الميل إلى الزندقة والكفر ، وقد
أثبتنا ـ في سورة البقرة بحسب الظاهر ـ أنهم أخبث وأنجس من الكفرة بمراتب ولذا قال
سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
أمّا عبارة : من
الذين آمنوا ، فإن لفظة : من ، جاءت فيها بيانيّة لما قبلها من المسارعين للكفر.
فلا يحزنك يا محمد هؤلاء المنافقون ، ولا الفئة الثانية (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود المعاندون فهم (سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) أي : كثيرو الاستماع إلى الكذب ، لأن سمّاع على صيغة فعّال
، للمبالغة ، فهم يحبون استماع الكذب ويستغرقون وقتهم فيه ، و (سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ
آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) وأكدّ سبحانه كثيرة استماعهم لكلام وآراء طائفة أخرى من اليهود
لم يحضروا إليك ـ يا محمد ـ بغضا لك وتأنّفا عن الإسلام ، لأنهم كفرة فجرة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَواضِعِهِ) أي يغيّرون المقصود به ، ويميلونه عمّا أراد الله له ،
ويحملونه على غير المراد (يَقُولُونَ) أي المحرفون يقولون للمنافقين الذين يستمعون إليهم : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) أي إن أفتاكم محمد صلىاللهعليهوآله بهذا الحكم المحرّف فاقبلوه (وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) وإن حكم لكم بخلاف ذلك فكونوا حذرين ولا تقبلوا فتواه على
ما هي عليه. وقيل إن هذه الآية نزلت بمناسبة أن رجلا وامرأة محصنين زنيا وهما من
خيبر ، وثبت عليهما الزّنى ، ولكن يهود خيبر كرهوا أن يرجموهما. فبعثوهما إلى بني
قريضة ليسألوا النبيّ صلىاللهعليهوآله عن حكمهما ، وقالوا لبني قريضة : إن أمركم بجلدهما فاقبلوا
بفتواه ، وإن أمركم بالرّجم فلا. وقد أمرهم (ص) بالرّجم لأنه الحد الذي شرعه الله
سبحانه ، فأبوا ، وحدثت مشكلة ونشأ خلاف في المسألة ، فحكّموا ابن صوريا بين
النبيّ (ص) وبينهم. فأنشده النبيّ الله تعالى قائلا : هل في كتابكم رجم من أحصن؟
قال : نعم. فوثب اليهود عليه يخاصمونه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب.
ثم أسلم ابن صوريا وأمر النبيّ (ص) برجم الزانيين (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ
فِتْنَتَهُ) أي اختباره لفضيحته وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تقدر أنت ولا أحد أن ينجيه من الفضيحة والفتنة
المهلكة غير الله سبحانه وتعالى لأنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن
يشاء. والمنافقون الذين يسارعون في الكفر ، واليهود السمّاعون للكذب (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لأنهم اختاروا تدنيسها بالكفر والنفاق ، فالله تعالى يكلهم
إلى أنفسهم باختيارهم ذلك حين وجد أنهم ليسوا أهلا لرحمته كما هو شأنه سبحانه مع
المؤمنين. وهؤلاء (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) بدفع الجزية ، وبإجلائهم عن المدينة ، وبظهور الإسلام
عليهم ، وبكسر شوكتهم وطردهم من معاقلهم وحصونهم (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)
ينتظرهم ، وهو
مهيأ لهم وسيخلّدون فيه إلى أبد الأبد.
٤٢ ـ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ ...) كررّ سبحانه كونهم سمّاعين للكذب ليبيّن أن غاية اهتمامهم
كانت منصبة على الكذب والاستماع الكثير إليه. وهم إلى جانب ذلك كثير والأكل
للحرام. وأكّالون صيغة مبالغة تدل على كثرة أكلهم للحرام. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام أنه سئل عن السحت ، فقال : الرّشى في الحكم ، وثمن الميتة
، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغيّ ، وأجر الكاهن. وفي رواية : ثمن العذرة
سحت. وبالجملة مصاديق السحت في الأحكام كثيرة ، وما مثّلنا به من قول الإمام (ع)
كاف واف (فَإِنْ جاؤُكَ) أي : إذا أتاك هؤلاء المتجرئون على الله يا محمد للتحاكم (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ) ولك الخيار بالحكم بينهم ، أو بالإعراض عنهم وعدم الحكم
بينهم. والآية عامة لكل متحاكمين إلّا أن رواية في التهذيب عن الباقر عليهالسلام تنص على أن ذلك مختص بأهل التوراة والإنجيل ، وقال (ع):
إذا أتاه أهل التوراة والإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه ، إن شاء حكم بينهم ،
وإن شاء تركهم. ويمكن الجمع بأن ما ذكر في الرواية بيان مصداق من المصاديق
لأهميتها لا للحصر حتى يرد الإشكال. فافعل ما تختاره ـ يا محمد ـ إذا تحاكموا إليك
ولا تخش منهم (فَلَنْ يَضُرُّوكَ
شَيْئاً) لا يمكن أن يحصل لك أذى من جرّاء الحكم ولا من جرّاء عدم
الحكم لأن الله تعالى يعصمك من جميع البشر ومن كل ما يخاف منه.
وقيل إن آية
الخيار في الحكم أو عدمه ، منسوخة بالأمر بالحكم في قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ). ويمكن الجواب بأن الأمر في هذه الآية الكريمة ، مختص
بموارد كانت مصلحة الحكم فيه أهم وأولى من عدمه. أما الشريفة التي نحن بصددها فقد
كان موردها حالة معيّنة كان النبيّ (ص) يعاني أثناءها من نفاق المنافقين ، وكيد
الكافرين ، وحرب اليهود وسائر أعداء الدين. ولذا خيّره سبحانه ليرى المناسب لظرفه
ذاك. ثم قال سبحانه لنبيّه الكريم من باب تحصيل الحاصل الذي لا يحيد عنه (ص) في
حكم : (وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل وكما هو شأنك ودينك
ولا تخش لومة لائم
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) الذين يعدلون مع الناس في قولهم وفعلهم.
٤٣ ـ (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ...) هذه الآية الشريفة تعيير لليهود واستهزاء بهم وتعجب من
كذبهم وتحريفهم لأحكام الله تعالى ، إذ كيف يتحاكمون عندك وهم لا يعتقدون بنبوّتك
وغير مؤمنين برسالتك ، في حين أن الحكم الذي يطلبونه منك منصوص في كتابهم التوراة
التي فيها حكم الله. أفكانوا يريدون أن يتصيّدوا من عندك حكما أهون من حكم توراتهم
ظنوا أنه قد نزل في القرآن؟ لا ، فإنهم ما أرادوا معرفة الحق من تحكيمك لأنهم لا
يعترفون بك ـ قاتلهم الله ـ بدليل أنهم كانوا يستمعون إلى حكمك (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي يعرضون عن الحكم الحق حتى ولو طابق حكم كتابهم السماوي.
فما أولئك بصادقين في تحكيمك (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) أي ليسوا بمصدّقين بما في كتابهم ، ولا بحكمك المطابق له ،
والموافق لما جاء في التوراة.
* * *
(إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ
قِصاصٌ
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))
٤٤ ـ (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها
هُدىً وَنُورٌ ..) يؤكد سبحانه أن في التوراة ما يهدي الناس إلى الحق ، وما
ينير لهم طريق الرشاد ، مثلها مثل القرآن الكريم بالنسبة لكفالة ما يحفظ البشر من
الضلال والحكم بهوى النفوس ، فمن تمسك به نجا من الهلكة ومن تركه هلك. وهكذا
التوراة التي أنزلها الله فإنها كان (يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي أنبياء بني إسرائيل ومن أسلم على أيديهم واهتدى بهداهم.
والمراد بهم موسى ومن بعده عليهمالسلام كانوا يحكمون بالتوراة (لِلَّذِينَ هادُوا) أي لليهود المصدّقين بالله وأنبيائه. «و» كذلك (الرَّبَّانِيُّونَ) أي الروحانيون (وَالْأَحْبارُ) الرؤساء الدينيون ـ جميعهم كانوا يحكمون (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) أي بما كانوا متعاهدين بحفظه من التوراة التي أنزلها الله
كتابا إلهيا (وَكانُوا عَلَيْهِ
شُهَداءَ) أي شاهدين على تطبيق أحكامه ، وعلى عمل الناس بأوامره ونواهيه
.. (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ) أيها الكهنة والرؤساء فلا تخافوا الناس (وَاخْشَوْنِي) خافوا جانبي وقدرتي فإن القوة بيدي لا بيد غيري ، فقولوا
الحق ولو على أنفسكم. وواضح أنه سبحانه يخاطب هنا علماء اليهود الذين كانوا
يحرّفون ما في التوراة ويأخذون الرّشى ويحكمون بغير ما أنزل الله تعالى ، وهو
ينهاهم عن ذلك ويأمرهم بأن لا يغيّروا ولا يبدّلوا لقاء خوف الناس ولقاء الثمن
البخس الذي يقبضونه قائلا : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تبيعوها بالثمن الزهيد عنادا وجهلا ، لأن آياتي لا
يقابلها ثمن عند أهلها ، فاحكموا على طبقها (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) وغيّر وبدّل حسب هواه (فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) وفي الكافي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآله : من حكم بدرهمين بحكم جور ، ثم أجبر عليه كان من أهل هذه
الآية.
٤٥ ـ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..) أي أثبتنا وقضينا ، وألزمنا اليهود بما فيها ، من أن من
قتل نفسا محترمة بغير جرم موجب للقتل فلا بدّ من قتله لأن قتل
القاتل المعتدي
قصاص مثبت في التوراة. فالنّفس المحترمة تقتل بالنفس المحترمة (وَالْعَيْنَ) إذا فقئت عدوانا ، تفدى (بِالْعَيْنِ) أي عين الجاني «و» كذلك (الْأَنْفَ) يفدى بالأنف حين جدعه ظلما (وَالْأُذُنَ) التي تشرط أو تجتذّ (بِالْأُذُنِ) يفعل بها ما فعل بغيرها فتقلع إذا قلعت (وَالْجُرُوحَ) إذا حصلت ظلما فهي (قِصاصٌ) أي ذات قصاص ينظر بشأنه أهل الحكم ويقدّرون أرشه أو جزاءه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي عفا وتنازل عن حقه صدقة على الجاني وقربة إلى الله
تعالى (فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ) أي صدقة عنه وتكفير لذنوبه. وفي الكافي عن الصادق عليهالسلام : يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح غيره (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من القصاص أو العفو ، وكما أمر الله في هذه الأمور (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنفسهم ولغيرهم ، وهم بحكم الجبت والطاغوت لأنهم غووا
وأغووا غيرهم وحادوا عن حكم الله عزوجل. أما الوجه في إتيان اسم الإشارة : أولئك : بصيغة الجمع ،
فإنه لكون المرجع ـ وهو : من ـ مفرد أشرب في معناه معنى الجمع. فكل جملة مصدّرة
بمثل هذا الاسم الموصول ، أو بكل ، يمكن أن تتضمّن المعنى الجمعيّ فيشار إليها
بلفظ يدل على الجمع ، كما فيما نحن فيه.
* * *
(وَقَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما
يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
(٥٠))
٤٦ ـ (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ...) يعني وأتبعنا على آثار النبيّين ـ وهي من اقتفى أثره : أي
سار على الطريق التي سلكها سلفه ـ فقد أمضى الله سبحانه وسيّر عيسى بن مريم على
آثار رسله ، وبعثه (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مؤيدا لما سبقه (مِنَ التَّوْراةِ) كتاب اليهود (وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ) أعطينا عيسى عليهالسلام كتابه السماوي الذي (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) كبقية الكتب السماوية يهدي الناس إلى الحق وينير لهم طريق
رشادهم «و» قد جعلنا إنجيله (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) كما أن عيسى (ع) صدّقها وأثبت ما فيها من أحكام. وقد كرر
سبحانه العبارة لأنه تحدث مرة عن عيسى (ع) وأخرى عن الإنجيل الذي أنزله عليه «و»
جعل فيه (هُدىً وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) يهتدي به الناس ويستفيدون من مواعظه وآياته وبيّناته. أما
الملاك في تخصيص المتقين بالذكر مع عموم الموعظة لسائر الناس ، فلأن المتقين
واجدون لجميع الصفات الكماليّة ، ومرتبتهم أعلى وأنبل من مراتب غيرهم من المؤمنين.
ذاك أن العبد المتقي هو المتورع عن محارم الله تعالى
والمتجنّب لجميع
ما يكرهه. فالتنويه بهم دون غيرهم يدل على أن جميع أوصاف التسليم والتصديق
والإيمان ينتهي إلى التقوى بما في ذلك التائبون والمنيبون ولعله لا يفوق المتقين
إلّا الصدّيقون الذين يعرضون عن غير الله في قولهم وفعلهم ، خوفا من ضياع ساعة من
العمر ينفقونها فيما لا فائدة منه. فأولئك يلتزمون بما أوجب ، وبما أحب ، وبما ندب
إليه من الطاعات ، ومنهم الأولياء المطيعون ، والأبرار الأتقياء ، والله أعلم.
٤٧ ـ (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ ..) في الشريفة أمر تهديدي منه جلّ وعزّ لأتباع عيسى (ع) بأن
لا يتجاوزوا الإنجيل في أحكامهم ، وأن يلتزموا بما فيه. ثم أنذرهم بقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وهذا تنديد ووعيد وتعريف لمن حكم بغير ما أنزل الله بالفاسق
: أي الخارج عن طريق الحق والصلاح. فالفاسق من خرج عن طريق الرحمان ومشى في طريق
الشيطان لعنه الله ، ومعناه أنه يتّبع هواه ويعصي مولاه.
ففي الآية الكريمة
أمر سبحانه النصارى بالحكم بما في الإنجيل كما أمر اليهود بالحكم كما في التوراة ،
ثم هدّد كلّ من غيّر وبدل ونعته بالكفر والفسق.
٤٨ ـ (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً ..) ثم لمّا تكلم عن اليهود والنصارى وذكر كتابيهما المقدسين ،
خاطب نبيّه الكريم محمدا صلىاللهعليهوآله يبيّن له أنه أنزل عليه الكتاب : أي القرآن المجيد ، بالحق
: يعني بدين الحق الذي لا ريب فيه ، وجعله (مُصَدِّقاً) مكرّسا وموافقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة والإنجيل وما سبقهما من الكتب السماوية. ولفظة
: الكتاب ، تعني الجنس والكتب جميعا. فالقرآن الكريم جاء موافقا على الحق الذي في
كل كتاب سماوي (وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ) أي متسلطا عليه ومحتويا له ، ومراقبا ، ومحافظا ، وشاهدا
عليه وعلى أصله غير المحرّف إما بالنصّ وإما بالتفسير والتأويل والتقديم والتأخير.
وقد حصل ذلك لها كلها ، باستثناء القرآن المحفوظ عن التغيير في جميع الجهات بشهادة
منزله تبارك وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ..) فيا محمد أن كتابك بهذه المنزلة السامية (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ) لك فيه من أحكام دون خوف من
أحد من الكافرين (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي لا تملّ مع ميولهم الفاسدة (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) فقد أصبحت ـ كقرآنك ـ مهيمنا عليهم ، ومختارا في حكمك ،
فاحكم بما أمر الله تعالى به «ولكل منكم جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» الخطاب عام
للأمم طراّ ، بأن الله قد قرّر لكل امة نظاما وأحكاما وطريقة. والشريعة لغة ـ هي
الطريق إلى الماء ، وقد استعملت في الأحكام الشرعية لمناسبة أنها مجموعة سنن للبشر
، وكما تؤدي الشريعة إلى الماء الذي يحيي الأجسام وينعش الأرواح لأنه سبحانه جعل
من الماء كل شيء حي ، فكذلك شريعة الأحكام تحيي القلوب وتريح الأبدان بما تجلبه
لها من الاطمئنان للدنيا والآخرة.
ولا يخفى أن تنوين
لفظة : كلّ ، جاء عوضا عن مضاف إليه محذوف مقدر ، وهو : أمة. فالله عزّ وعلا ، قد
جعل لكل أمة شرعة تنير لها درب حياتها وتجعلها على بصيرة من أمرها في عاجل دنياها
وآجل آخرتها .. أما الفرق الذي قال به ابن عباس ، وهو أن الشرعة هي القرآن ،
والمنهاج هو ما في الروايات النبوية ، ففرق غريب فيه غلط واضح وإسناده إلى ابن
عباس غير صحيح.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) يعني لو أراد لجعلكم متفقين على دين واحد ، لا ينسخ أبدا (وَلكِنْ) جعلكم أمما مختلفة الأديان (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم ويعرف المطيع من العاصي (فِي ما آتاكُمْ) أنزل إليكم من الشرائع المختلفة التي أرادها سبحانه ـ بكرمه
ورحمته لعباده ـ مختلفة لتلائم كلّ شريعة عصرها التي نزلت فيه ، فيعرف عزّ اسمه
المصدّق من المكذّب في كل زمن وكل أمة (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) أي بادروا ـ أيها المؤمنون ـ وسارعوا إلى مزاولة كل ما هو
خير لكم من عند ربكم ، وقوموا بالأعمال الصالحة كلّها من الواجبات والمندوبات ،
وانتهزوا فرصة العمر وتزوّدوا بالخير ، لأن (إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) معادكم وحسابكم وثوابكم وعقابكم (جَمِيعاً) بلا استثناء أحد. وفي هذا حثّ على التسابق إلى عمل الخير
ومزاولة العمل الصالح ، إذ مرجع الكل إليه تعالى ، والفائز هو من ينجح في الامتحان
عند البعث والنشور ، يوم يجمعكم الله بأمره (فَيُنَبِّئُكُمْ) يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) أي بحقيقة ما كنتم تتنازعون بشأنه من اختلاف العقائد ،
واختلاف الأعمال.
فهو سبحانه وتعالى
ينبّهنا ـ في هذه الشريفة ـ إلى أن أقوالنا وأعمالنا من الخير أو الشر مضبوطة عنده
، وعما قريب يخبرنا بها كلها ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة
شرا يره. فيجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ..
وقد قال الإمام
الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ
مُخْتَلِفِينَ) : أي في إصابة القول ، وكلّهم هالك إلّا من رحم ربّك وهم
شيعتنا ، ولرحمته خلقهم .. وإن قوله هذا ـ سلام الله عليه ـ لبشارة عظيمة للشيعة ،
فنسأل الله من فضله أن يجعلنا من شيعتهم.
٤٩ ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ ..) قد مرّ تفسير شبيهتها باللفظ والمعنى قبيل صفحات من هذه
السورة المباركة ، ولن نذكر هنا إلّا تأكيده سبحانه على النبيّ (ص) أن احكم
بالقرآن بمقابل الكتب المحرّفة دون أن تخشى أي خطر من المشركين «و» لكن (احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي انتبه إلى مكرهم وغدرهم ومحاولاتهم في اختبارهم إياك
لتحويلك (عَنْ بَعْضِ ما
أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) أي عن أي شيء مما أوحى به تعالى إليك من الأحكام (فَإِنْ تَوَلَّوْا) انصرفوا عنك وعن أي حكم تحكم به (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فإنهم ذوو ذنوب كثيرة ، وتيقن يا محمد أن تولّيهم سيكون
سببا لأن يفجأهم ويضربهم فيؤذيهم ببعض تلك الذنوب (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي خارجون عن طريق الحق والصلاح ومنغمسون في الكفر
والفساد. ويستفاد أن هذه الفئة كثيرة بين الناس بدليل تأكيد هذه الآية الشريفة
مكرّرا ..
ولن يفوتنا إلفات
النظر إلى أن الجملة : وأن أحكم بينهم ، يحتمل أن تكون عطفا على الكتاب ، أي :
أنزلنا إليك الكتاب للبيان لهم ، والحكم بينهم. وقيل إنها مستأنفة ، أي بتقدير :
أمرنا أن احكم بينهم.
أما جملة : أن
يفتنوك ، فجملة مصدرية ، وهي بدل اشتمال من هم. أي : احذر أهواءهم وفتنتهم إياك.
وقيل في وجه نزول
هذه الشريفة : ولا تتّبع أهواءهم إلخ .. أن أحبار اليهود
أرادوا خدعته (ص)
فقالوا : لو اتّبعناك اتّبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا منافرة وخصومة ،
فاحكم لنا عليهم فنؤمن بك. فأبى. فنزلت : فإن تولّوا ، أي عن الحكم المنزل إليك.
٥٠ ـ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟
..) صدر هذه الآية استهزاء بهم وبأهوائهم الضالة ، وتسفية
لأحلامهم. أفيريدون حكم الجاهلية ويطلبونه ، وكل حكم جاهلي ليس في صلاح ولا مصلحة
لأنه مبني على الأهواء والآراب والعصبيات الرعناء .. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً) أي : ليس أحسن منه تعالى حكما صالحا لمصالح الناس و (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) يصدّقون ويؤمنون تمام الإيمان فلا أحد أحسن منه حكما لأهل
اليقين. والاختصاص بهم لأنهم هم الذين يتدبرون الأمور وينظرون إليها بمنظار الدقة
والعدل لإصابة الحقيقة الدقيقة.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ
تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ
لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)
٥١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ..) في هذه الشريفة يخاطب سبحانه المؤمنين ، وينهاهم عن أخذ
اليهود والنصارى (أَوْلِياءَ) وهي جمع
مفردها : وليّ ،
أي من يقوم مقام الشخص في جميع أموره عند الحاجة لشدة ما بينهما من محبة وإخلاص
وثقة. فليس هؤلاء ولا هؤلاء محل اعتماد لذلك الولاء المتبادل ، وخاصة اليهود فإن
عداوتهما شديدة للمسلمين ولؤمهم وحقدهم ذاتيان ، وهم يرون الحق ويغمضون أعينهم عنه
بل يحاربونه لأنه يحول بينهم وبين صفاتهم الفاسدة وأعمالهم المعاندة .. فاليهود
والنصارى (بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فلا ينبغي للمؤمنين أن يتولّوهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي من يخلص لهم الولاء ويلقي إليهم بولاية أمره فإن حكمه
كحكمهم وهو منهم سواء بسواء ، ويكون بذلك قد ظلم نفسه كما ظلموا أنفسهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) لأنهم اختاروا لأنفسهم ظلم أنفسهم وظلم غيرهم والله لا
يتولّى هداية الظالمين.
لكن إذا كفّ
اليهود والنصارى أذاهم عن المسلمين ، فالمسلمون يبسطون لهم يد البر والإحسان
لعدالة قانونهم الإسلامي الشريف ، عملا بما يشير إليه قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
نعم قال سبحانه
وتعالى بعد الآية السابقة ؛ (إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ..) فالله سبحانه وتعالى رسم لنا الطريق ، وبيّن تكليفنا مع
اليهود والنصارى بهاتين الآيتين الشريفتين .. ولا يخفى أنه تعالى نهانا عن تولّيهم
لأنهم متحدون في الكفر ، ومجتمعون على حرب الحق الذي جاء به الإسلام.
وتولّيهم ـ كما لا
يخفى ـ يؤدي إلى حبهم وموادّتهم ، وإلى العمل بعملهم ، ومن أحب حجرا حشره الله معه
.. فالتولّي ذو أهمية لأنه يقرّب بين المولى ووليه. وقد قال إبراهيم عليهالسلام كما نصّ القرآن الكريم : ومن تبعني فإنه منّي. وفي العياشي
عن الصادق عليهالسلام : من تولّى آل محمد صلوات الله عليهم وقدّمهم على جميع
الناس بما قدّمهم من قرابة رسول الله صلىاللهعليهوآله فهو من آل محمد صلوات الله عليهم ، بمنزلة آل محمد (ص).
٥٢ ـ (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ ..) والمراد بالمرض هو النفاق وعدم سلامة القلب منه. والنفاق
مرض أشد من مرض الكفر ، والمرضى به كانوا كثيرين في أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله وهم الذين كانوا يضمرون النفاق والخبث ، ولكن المراد به
هنا خاصة هو عبد الله بن أبيّ وأضرابه ممن أظهروا نفاقهم فحكى كتاب الله عنهم ،
ووصفهم بأنهم كانوا (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي يبادرون ويجدّون في معاونة اليهود وموادّتهم والتقرب
منهم و (يَقُولُونَ نَخْشى) أي نخاف (أَنْ تُصِيبَنا
دائِرَةٌ) والدائرة أصلها من الدّور الذي هو التحرك إلى ما كان عليه
أو إلى حيث كان ، ولذا نرى الملك والقدرة في طول الدهر يدوران فنقول : هما من
الأمور الدوّاريّة :
فيوم عند فخار
|
|
ويوم عند بيطار
|
ويوم عند فهّام
|
|
ويوم عند علّام
|
ولذا يعبّر عن ذلك
بالدائرة. فقول أصحاب النبيّ الذين يضمرون النفاق : نخشى أن تصيبنا دائرة ، يعني
نخاف أن تحلّ بنا مصيبة ، وأن يجيء زمان صعب يعيد أمر الإسلام إلى العكس ، لأن
الملك كان يومئذ بيد اليهود فأظهروا أنهم خافوا من ذلك ورأوا المصلحة في عدم قطع
ارتباطهم بهم. وهذا الاعتذار كان نفاقا وتسويلا وتضليلا لبقية المؤمنين من أصحاب
رسول الله (ص) بقصد إضعاف إيمانهم واندفاعهم مع دعوة الرسول (ص) ولكن الله سبحانه
كشف أمرهم ، وسفّه رأيهم وخاطب المؤمنين المخلصين بقوله المقنع : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ) لرسوله (ص) .. وهذه بشارة بالفتح تحملها لفظة : عسى ، التي
تتضمّن منّا معنى الدعاء ، وتحمل منه سبحانه معنى التنويه بالفتح (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) أي : أمر يكون فيه إعزاز المؤمنين وإذلال المشركين .. فيها
أيها المنافقون ، إذا كنتم مع الكافرين والمشركين باطنا ، وحملتم هذه الأفكار
الخبيثة من جهة ثانية ، فإن القضية ذات وجهين ، فلما ذا رجّحتم طرف اليهود وطرحتم
جانب المؤمنين؟ .. ويا أيها المؤمنون : انتظروا الفتح أو أيّ أمر آخر يذل اليهود
ويقهر المنافقين ويخذلهم (فَيُصْبِحُوا) يصيروا (عَلى ما أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) ما أضمروه من الخبث
والنفاق (نادِمِينَ) متحسّرين على الشك الذي يخامر نفوسهم في أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وعمّا قريب .. وفي العياشي عن الصادق عليهالسلام ، في تأويل هذه الآية المباركة : أذن في هلاك بني أمية بعد
إحراق زيد بسبعة أيام. وبتأويله هذا قد يعني نفاق أعوان بني أمية الذين كان لسان
حالهم كلسان حال المنافقين الأوائل ، ففعلوا ما فعلوا ، وسارعوا إلى إرضاء بني
أمية بحجة خوف تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، التي اجتثت من الأرض.
٥٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي أن المؤمنين يقولون متعجبين ومنكرين ومستهزئين : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا) حلفوا (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) حلفا مغلظا (بِاللهِ) تعالى : (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) وواضح أن هذا الاستفهام إنكاري ، أي ليس الأمر كذلك بل
المنافقون مع اليهود باطنا ، ومع المسلمين ظاهرا ، ولذلك (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت لأنهم عملوها رياء فذهبت هباء منثورا (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) للدنيا والآخرة بنفاقهم وأعمالهم الريائية.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))
٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ..) الارتداد هو الرجوع عن الإسلام بعد اعتناقه ، كقوله القائل
أنا بريء من الله ورسوله ودينه مع القصد والعقيدة. فهذا القول يكشف عن الكفر بعد
الإسلام ، أي عن الارتداد. والمرتد على قسمين : مرتد عن ملّة ، ومرتد عن فطرة.
وحكم
كل واحد منهما
موكول إلى محله من الكتب الفقهية.
وقد قرأ نافع وابن
عامر بفك الإدغام ، أي : من يرتدد ، والباقون من القراء قرءوا بالإدغام. أما جواب
الشرط فمحفوظ تقديرا ، أي لا يضر الله بشيء ، وهو معبّر عنه بالفاء في (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ) أي يستبدلهم بقوم آخرين (يُحِبُّهُمْ) الله (وَيُحِبُّونَهُ) فلا يخالفونه (أَذِلَّةٍ) أي عاطفين ، ليّني الجنب (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأذلة : جمع : ذليل ، وهي نعت لقوم. والذّل هنا اللين وليس
هو الذّل الذي يعني الهوان. فهم يعاملون المؤمنين بلطف وتذلل ورقة قلب ، ولكن (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أي أشداء عليهم ، من عزّه أي غلبه. وهم (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني يقاتلونه لإعزاز دينه وإعلاء كلمته عزوجل (وَلا يَخافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ) فهم يعملون في سبيل مرضاته ، ولا يعيرون سمعهم لمن يلوم
قسوتهم في الحق. وفي المجمع عن الباقر والصادق عليهماالسلام : هم أمير المؤمنين عليهالسلام وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين
والمارقين. ويؤيد هذا القول ما جاء عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقد قال يوم البصرة : والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى
اليوم. وتلا الآية الكريمة.
والحق الذي أريد
من هذه الآية المباركة هو ما قاله أمير المؤمنين عليهالسلام في تتمة حديثة السابق إذ قال بعد المقدمة التي ذكرناها :
.. ولقد شهدنا اليوم ـ أي حضرنا ـ قوم في أصلاب الرجال لم يرعف الزمان بمثلهم. وهم
قوم يكونون في آخر الزمان يقاتلون مع المهديّ من ولدي.
فالأذلّة على
المؤمنين ، الأعزة على الكافرين ، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. هم أيضا
أصحاب سيدنا ومولانا صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه ، وهم الذين يقاتلون بين
يديه ويمكّنون له سلطانه في المشرق والمغرب ، ويقيمون أركان دولة العدل الإلهي في
آخر الزمان إن شاء الله تعالى. فهنيئا لهم ، ونسأله تعالى أن يجعلنا في زمرتهم
وبخدمتهم وخدمة قائدهم صلوات الله وسلامه عليه (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي هذا الشيء
المذكور والتوفيق
لكونهم كذلك (يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ) أي يعطيه من هو أهل لذلك ويشاءه أن يكون كذلك (وَاللهُ واسِعٌ) موسّع في عطاياه وجوده لأنه لا يخاف نفاد ما عنده (عَلِيمٌ) عارف تمام المعرفة وكل المعرفة بمواضع عطائه لأولئك
الأنصارى الأبطال الأبرار الميامين الذين ينصرون إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه
وسهّل مخرجه كما نصر أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام إمامهم من قبل.
* * *
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))
٥٥ ـ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) الوليّ هو الأولى بكم ، والمتولي لأموركم فيا أيها الذين
آمنوا ، إنما حصر الله سبحانه وتعالى ولايتكم به ، وبرسوله وبالمؤمنين. فمن هم
المؤمنون الذين دعاكم إلى تولّيهم؟ وما قصد الله تعالى بالولي؟ ..
نستعرض نصّ الآية
أولا ، ثم نتكلم عن الولي ، ثم عن المؤمنين الذين حصر سبحانه التولي بهم : فإفراد
لفظة : الولي إشعار بأن ولاية الله أصيلة ، ثم لرسوله ، ثم لمن ينوب عن رسوله بفرع
ولاية الله التي ميّزها وخصّصها بتبعيّة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كصفة : للذين
آمنوا أو كبدل عنه إذ قال عزّ وعلا : (وَلِيُّكُمُ اللهُ ،
وَرَسُولُهُ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا) ووصفهم بقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) في حال نزول الآية الكريمة بدليل لفظة : يقيمون التي هي
فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال ، ومثلها : (يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يتصدقون حينئذ ، أي حين نزول الآية الكريمة ، ثم زاد
تبارك وتعالى تعريف
أولئك المؤمنين
ووصفهم بأنهم يؤتون الزكاة (وَهُمْ راكِعُونَ) فانحصرت الولاية بعد الله تعالى ، وبعد رسوله الكريم (ص) بمن
كان ساعتئذ يفعل الصدقة وهو راكع دون غيره من سائر العالمين في ذلك الوقت.
ثم نلاحظ أن جملة
: الذين يقيمون الصلاة ، بيان لقوله : والذين آمنوا. وجملة : وهم راكعون في محل
نصب لأنها حال من فاعل : يؤتون الزكاة. ولو قيل إنها حال من الفعلين ـ يقيمون ،
ويؤتون ـ على معنى : وهم متخشّعون في صلاتهم وفاعلين لزكاتهم ، لقلنا : إن إطباق
المفسّرين من الشيعة والسّنة والأخباريين الخالين عن العصبية ، على نزول هذه الآية
الكريمة في عليّ عليهالسلام ، يأبى أيّ اعتراض إذ يدحضه : تركيب الآية اللغوي ، وسبب
نزولها الذي ذكره سائر الرواة وبيّنوا أن النزول كان حين كان علي راكعا في صلاته
في المسجد وحين سأله سائل ـ وهو على تلك ـ الحال ـ فأومأ إليه بخنصره فأخذ خاتما
كان يلبسه في خنصره الشريف ذاك. ونزولها في ذلك الحين بالذات هو المرويّ باستفاضة
كاملة شاملة ، وهو المرويّ أيضا عن أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ،
فهذه الآية نصّ صريح على ولايته من قبل الله عزوجل على المؤمنين. وهي خير شاهد على إمامته ، لأنها نصّ من
الله سبحانه في كتابه الكريم قد نزل وحيدا كريما على رسوله الكريم ، والله خير
الشاهدين في كل حال من الأحوال.
أما الإتيان بصيغة
الجمع ، فلأنه لو كان بصيغة الإفراد لأخذ من القرآن وطرح ، مضافا بأنه لا يحتاج
إلى صيغة للأفراد لأن من أفراد الجمع الذي كان واجدا لهذه الشرائط الأربع :
الإيمان ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والركوع حينئذ ـ لم يكن غير عليّ عليهالسلام. فالإتيان بصيغة الجمع جامع للجهات الأولى الأربع التي
أشرنا إليها به عليهالسلام في تلك اللحظة من الزمان.
ثم إن تعقب ولايته
(ع) لولاية الله وولاية رسوله ، دليل على أنه وليّ
بعد الله وبعد
الرسول بلا ريب ، وإمام للخلق طرا كما هو الظاهر من أسلوب الآية الشريفة ، أي وقوع
ولاية المؤمنين التي تراد منهم بعد ولاية الله ورسوله. وإنما الكلام في أن ولايته عليهالسلام هل هي ثابتة بالفعل ، أي في حال الحاضر ، كما هي ثابتة في
ولاية الله وولاية رسوله ، أو أن تأثير ولايته شأنيّ ، وفي المآل فقد قيل بامتناع
تصرّف النائب والمنوب عادة وعرفا ، فانحصر تأثير إمامته (ع) بعد النبيّ (ص) فهل
نحمل إمامته على إكمال الإمامة ، أي تكميل استعداده لها في حال حياة النبيّ (ص)
وترتب آثارها عليها في المآل؟ هذه هي خلاصة ما قبل لرفع إشكال عدم جواز تصرف
النائب والمنوب في حال واحد في شيء واحد. وهذا على فرض ثبوته لا يدفع إشكالا حين
نتكلم في ولاية الله عزوجل ، وولاية رسوله وفي تصرف النائب والمنوب.
وهذا يردّه قول
النبيّ (ص) حينما أشكل عليه جماعة من صحابته وقالوا : يا رسول ، إسلام علىّ ليس
بصحيح لأنه أسلم حين صباوته. فقال صلىاللهعليهوآله : مثل عليّ مثل عيسى (ع) ويحيى (ع) كما هما ولدا نبيّين ،
كذلك عليّ ولد وليّا .. وهذا لا يمكن حمله على كونه وليّا مآلا ظاهره الفعلية.
غاية الأمر ، في موارد التعارض في أمر على الفرض ، فالمقدّم يقدّم ، كما لو فرض
التعارض محالا بين الله والرسول ، فالله مقدّم بعنوانين : الأصالة والفرعية ، ولكونه
تعالى أعلم بالمصالح والمفاسد في الواقع ونفس الأمر ، ولذا لا تصير النّوبة إلى
المعارضة في أعمال الولاية بينه تعالى وبين ولاة أمره من آدم (ع) إلى خاتم
النبيّين (ص) ومن دونه ، إنما الكلام في مراحل أخر من الأنبياء وخلفائهم ، فولاية
الخلفاء بالنسبة إلى الأنبياء طولية فلا تصير النوبة إلى المعارضة. هذا في غير
خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه وخليفته. وأما فيهما فولاية عليّ عليهالسلام من يوم ولد كانت مع ولاية الرسول صلىاللهعليهوآله عرضيّة بمقتضى الروايات وبالأخص قوله صلىاللهعليهوآله المتقدم منذ سطور إذ صرّح أن ولاية عليّ منذ ولد وهي كنبوة
عيسى
ويحيى عليهماالسلام. فهذه الرواية الشريفة وحدها تكفي للدلالة على أنه ولي مع
وجود رسول الله (ص) وبعده ، وولايته في مرحلة وجود النبيّ (ص) عرضيّة ، لكنها كانت
في مقام العمل ـ أي إثباتا ـ طوليّة. فإنه عليهالسلام ، ما زال رسول الله صلىاللهعليهوآله موجودا ، كان يحذو حذوه ويعمل بعمله ولا يخرج عن سيرته قيد
أنملة. وكان سلما لرسول الله كالعبد في يد مولاه. فولايته ـ في مرحلة العمل ـ طوليّة
بحسب ما عندنا وبحسب الواقع.
وقد نقل صاحب
المجمع عن جمهور المفسرين أن المتصدّق به كان خاتمه الشريف ، إلّا أن رواية في
الكافي ذكرت أن المتصدّق به حلّة. على أنه ـ إن لم نهمل هذه الرواية ـ يمكن الجمع
بتعدّد القضية مرة بالخاتم ومرة بالحلة. والآية ـ على كل حال ـ نزلت حين التصدق
بالخاتم. وقد روي عن ابن الخطاب أنه قال : والله إني تصدّقت بأربعين خاتما وأنا
راكع لينزل فيّ ما نزل في عليّ عليهالسلام فما نزل. فما كان لله ينمو ، وما كان للرئاسة والافتخار
يذهب هباء تذروه الرياح.
هذا وقد أمّن
سبحانه المطيعين لأمره السامعين لقوله ، الممتثلين لوحيه وعزائم أمره بقوله جلّ
وعلا في الآية التالية :
٥٦ ـ (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) ومن : شرطيّة. فإن الذي يتّخذ الله تعالى ، ورسوله (ص)
والّذين آمنوا ـ وهم من ذكرنا في الشريفة السابقة ـ (فَإِنَ) وهذا جواب الشرط ، وقد جاء مؤكّدا أن من يتّخذ هؤلاء
أولياء يكون من حزب الله ، و (حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْغالِبُونَ) المنتصرون بالتأكيد السابق من الله سبحانه وتعالى.
وقد كانت القاعدة
أن يقال : من يتّخذ هؤلاء أولياء ، فإنهم الغالبون. إلّا أنه تعالى إيذانا بأنهم
حزبه ، وإشعارا بتفخيم شأنهم ، وتعريضا بأن أضدادهم حزب الشيطان ، حزب عبّر سبحانه
وتعالى تصريحا بالاسم الظاهر : ـ حزب الله ـ مكان الضمير : ـ هم ـ لرفع الشبهة في
المرجع ..
أما الحزب فاسم
لجماعة يجتمعون لإصلاح أمر حزبهم ولتحسين شأن أفراد الحزب. والمحاورة الدائمة فيما
يحقق أهدافه.
وفي التوحيد عن
الصادق عليهالسلام : يجيء رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم القيامة آخذا
بحجزة الله ـ ربّه ـ ونحن نأخذ بحجزة نبيّنا ، وشيعتنا آخذون بحجزتنا. فنحن
وشيعتنا حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ
أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْقِلُونَ (٥٨))
٥٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا ..) يأمر سبحانه عباده المؤمنين الموالين الذين عرّفهم في
الآيتين السابقتين أن ابتعدوا عن (الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) أي : الذين يستهزئون بدينكم ، ويتلاعبون ويسخرون بعقيدتكم
، وهم (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي اليهود
والنصارى «و» هم أيضا (الْكُفَّارَ) عبدة الأصنام. والجملة كلها بيان للذين اتّخذوا دينكم هزوا
ولعبا. فهؤلاء جميعهم لا زالوا أعداء دينكم ، وبالملازمة أعداءكم ، فكونوا عقلاء
ولا تتخذوا أعداءكم (أَوْلِياءَ) بجميع معاني التولّي من الحب والنّصرة والتحالف والحفاظ
والطاعة والولاية وغير ذلك. فارفضوا ولايتهم كلها لأن عداوة الدين أشد من كل عداوة
، والأمر منه سبحانه إرشاديّ للمؤمنين ينفّرهم فيه من تولّي أعدائهم فانتهوا ـ أيها
المؤمنون ـ عن
كافة طاعتهم (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا ما يغضبه واعملوا ما يرضيه ، فترك ولاية حزب
الشيطان من التقوى ، ومن علائم الإيمان فاتّقوه سبحانه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدّقين بما جاء من عند الله تبارك وتعالى.
٥٨ ـ (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوها هُزُواً ..) المناداة للصلاة تكون برفع الأذان الذي يدعو إلى الصلاة.
وهذا الذي كان يذكّر المشركين والكفار بصلاتكم أيها المؤمنون ، فيهزءون بصلاتكم
ويظنّونها لعبا يقام به وسخرية مضحكة.
وتفيد هذه الشريفة
مشروعية الأذان بقرينة السياق ، وقد يقال : فعلى هذا يكون واجبا لأن الصلاة واجبة.
ونحن نقول : نعم ، لو لا روايات الباب التي دلّتنا على استحبابه.
أما سبب نزول هذه
الآية الكريمة التي صرّحت باستهزائهم من النداء للصلاة برفع الأذان ، فهو أن
نصرانيّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال :
أحرق الله الكاذب. وقد دخل خادمه ذات ليلة إلى البيت يحمل نارا وأهل بيته نيام ،
فتحرّكت ريح وتتطاير الشّرار في البيت فأحرقه وأحرق أهله (ذلِكَ) أي هذا الاستهزاء ، كاشف (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَعْقِلُونَ) لأن العقل بذاته ـ يهدي إلى نور الحقيقة ، ويجنّب الإنسان
ظلمة الغواية والضلالة. ومن مشى في الضلالة كشف عن أنه فاقد للعقل ، وأنه لا يريد
ان يزن الأمور بميزانها الصحيح ، فيضيع بجهله ، ويجحد العقيدة بعقله القاصر ، ولا
يقوم بالعمل المرضيّ فيكون في غاية الخسران.
وقبل أن نختتم
تفسير هذه الآية الكريمة ، نقول كلمة لا بد منها في الأذان : ففي كل عصر وزمان كان
المرسوم والمتعارف بين أهل ملله وأديانه أن تحرّك عواطف وإحساسات أفراد الملّة
بدعوتهم إلى ممارسة وظائفهم الفردية ـ دينية كانت أم اجتماعية ـ بشعار يتوسلون به
للوصول إلى تلك
الغاية. فقد كان
شعار النصارى ضرب الناقوس ، وكان لليهود شعار آخر ، وصار للمسلمين شعار للإعلام
بأوقات صلواتهم هو الأذان. وهذا الشعار ـ خاصة ـ كان يحرك التهيؤ بتأثيره العجيب
إذ كان يجذب المسلمين ، ويؤثّر في غير المسلمين أيضا كما نقل صاحب المنار من أن
جماعة من متعصّبي النصارى كانوا يعترفون بعظمة هذا الأذان وتأثيره في أعماق نفوس
البشر ، بحيث يميل كل إنسان يكون في مستوى البشرية الحقة إلى استماعه واستشفاف
معانيه السامية حتى أن بعض المسيحيين ـ كما قال صاحب المنار ـ كانوا يمشون إلى
مساجد المسلمين في أول أوقات صلواتهم لمجرّد الاستماع لنداء المنادي بالأذان
للصلاة ، وكانوا يحبون هذا النداء حبا شديدا وينتشون لتلك النغمة السماوية التي
تعلن ذلك الشعار الكريم الذي يبتدئ بأعظم أسمائه جلّ وعز ، ثم تعقبه الشهادة
بالرسالة الصادرة عنه تعالى ، فتتلو ذلك الشهادة بالولاية في غير أماكن التقية ،
ثم الدعوة إلى الصلاة والدعاء ، والفلاح ، والصلاح ، وخير الأعمال ، ويختم ذلك
بكلمة الوحدانية التي هي المبتدأ والمنتهى.
فما أشرفه من نداء
، وما ألطفه من ترنيم ، وما أعذبه من لفظ سهل هين على اللسان والأذن!. وكم للمؤذن
الذي يرفعه من أجر وثواب!.
أما مشروعية
الأذان والإقامة للصلاة ، فقد جاءتنا بوحي إلهي نزل على قلب نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآله ـ كما قال الإمام الصادق عليهالسلام ـ حينما نزل جبرائيل عليهالسلام بالأذان والإقامة ، وكان رأس النبيّ (ص) في حجر عليّ عليهالسلام ، وكان بين النوم واليقظة فعلّمهما النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقام النبيّ (ص) ورفع رأسه من حجر عليّ وسأله : يا علي
هل سمعت صوت جبرائيل بالأذان والإقامة؟ فقال : نعم يا رسول الله. فسأل : هل
حفظتهما؟ قال : نعم. قال : علّمهما لبلال فإنه جهوريّ الصوت. فأطاعه عليّ عليهالسلام وفعل .. وهذه هي أحسن رواية وردت في المقام من روايات
تشريع
الأذان والاقامة
اللّذين أول من رفع صوته الرخيم الرنّان بهما كان جبرائيل عليهالسلام.
* * *
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ(٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ
قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))
٥٩ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ
تَنْقِمُونَ مِنَّا ..) يأنف سبحانه وتعالى من مخاطبة أهل الكتاب الذين يحملون
كتابه وينكرون دعوته ، فيأمر نبيّه (ص) أن يقول لهم : لم ثارت نقمتكم علينا ،
وتأجّج غضبكم ونفّرتم بعضكم منّا؟ وهل يثيركم (إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِاللهِ) ربّنا وربكم ورب جميع الكائنات (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن الكريم (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ) على الأنبياء السابقين؟ وهذا ليس من التقصير في شيء حتى
يستحق النقمة لأنكم أنتم مأمورون بذلك
مثلنا ، وما من أحد
من ذوي العقل يحسب ذلك مدعاة للنقمة ، إلّا أنتم فإنكم نقمتم لأننا مؤمنون (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) فلا ينتظر منكم إلّا ذلك لأن الفاسق خارج عن المبادئ
الدينية والخلقية لا يبالي بما يقول ولا بما يفعل ولا بما يقال فيه لأنه يطلق لهوى
نفسه العنان.
وبعد هذا التساؤل
والتعجب أمر سبحانه نبيه (ص) أن يفضح ما هم عليه من الخرق والحمق والكفر ، ويكشف
أمثولتهم وسيرتهم في الدنيا والآخرة ، وأن يقول لهم مظهرا حقيقة ما هم عليه :
٦٠ ـ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
ذلِكَ ..) أي إنكم تنقمون علينا إيماننا بالله ورسله وكتبه ، فهل
أخبركم بأسوأ من هذا (مَثُوبَةً) وأجرا (عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة؟ وقد وضع المثوبة سبحانه مكان العقوبة هنا ،
للتهكّم عليهم والسخرية منهم ، لأن المثوبة تختص بالخير كاختصاص العقوبة بالشر ،
وهذا الأسلوب متعارف بين بلغاء العرب والعجم ، إذ يقال للزنجىّ كافور ، ويقال
للكافور فحم ، من باب المبادلة للتهكّم أو للتعجب. فالله تعالى أقام القرينة على
أن المراد بالمثوبة هو العقوبة. ولفظة : مثوبة ، منصوبة على التمييز.
فقل لهؤلاء الكفرة
يا محمد : إن أسوأ من الكل مثوبة ، وأعظم عقوبة (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أخزاه وأبعده من رحمته (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) أي : سخط عليه لكفره وسوء سريرته .. ثم بيّن سبحانه ذلك
الملعون إذ عنى به اليهود الذين لعنهم وغضب عليهم (وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) حين مسخ أصحاب السبت منهم ، كما عنى كفرة المسيحيين إذ مسخ
الكفار بمائدة المسيح خنازير. فذلك هو الذي يكون أقسى عقوبة لأنه كفر (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي الشيطان والجبابرة والظّلمة و (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأنهم من أهل جهنم (وَأَضَلُّ عَنْ
سَواءِ السَّبِيلِ) وأكثر ضياعا عن طريق الحق .. وصيغتا التفضيل : ـ شر ،
وأضلّ ـ لم تقعا للزيادة بالنسبة للمؤمنين ، بل هما للزيادة مع الكافرين
والجاحدين.
٦١ ـ (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا ..) يتكلم عزّ اسمه عن منافقي اليهود ،
كعبد الله بن أبي
وأمثاله الذين أظهروا الإسلام باللسان وكتموا كفرهم ونفاقهم ، وكانوا يقولون لكم
إذا حضروا عندكم آمنّا «و» حالة كونهم (قَدْ دَخَلُوا
بِالْكُفْرِ) واعتنقوه وأشربته قلوبهم (وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا) حين أتوكم (بِهِ) فلا يؤثر فيهم ما سمعوا منك يا محمد من المواعظ والنصائح ،
ولا استفادوا من تشرفهم بحضرتك شيئا لأنهم يكتمون الكفر والنفاق (وَاللهُ أَعْلَمُ) وأعرف منك ومن جميع الناس (بِما كانُوا
يَكْتُمُونَ) من خبث طينتهم وسوء سريرتهم .. والفرق بين الإثم والعدوان
أن الإثم هو الجرم الذي يكون مع النفس أو مع الغير ، أما العدوان فهو الاعتداء على
الغير دائما.
ولا يخفي ما تطوي
هذه الآية الشريفة من تهديد ووعيد لهم شديدين لأنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين.
٦٢ ـ (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ
فِي الْإِثْمِ ..) الواو : للحاليّة هنا ، فأنت ـ يا محمد ـ ترى أكثر اليهود
يتهافتون على الإثم ويتسارعون إلى ارتكاب الذنوب مثل قولهم : عزير بن الله «و»
يتراكضون إلى (الْعُدْوانِ) على الناس وارتكاب ما لا يرضى الله من الجرائم وما لا
يرضاه رسوله من التعدي على حدود الله تعالى التي رسمها في شرعه. فهم معروفون
بمسارعتهم للإثم والعدوان (وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ) أي أموال الناس بغير رضاهم كالرشوة والسرقة والرّبا ،
ولذلك ذمهّم سبحانه بقوله : (لَبِئْسَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) فعملهم ذاك بئس العمل ، وقبحا وسوءا لما كانوا يسارعون
فيه.
٦٣ ـ (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ ..) كلمة : لو لا ، إذا دخلت على المضارع تفيد التحضيض
والتأكيد في مدخوله. والتحضيض هو الحرص على الشيء والحمل عليه كما فيما نحن فيه.
فهو سبحانه وتعالى يحرّض ويحمل الربّانيين أي علماء اليهود وأحبارهم على نهي
اليهود ومنعهم (عَنْ قَوْلِهِمُ
الْإِثْمَ) وتكلمهم في كل ما فيه معصية وذنب (وَ) عن (أَكْلِهِمُ السُّحْتَ) وهو كل مال حرام ، وبنفس الوقت يذمّ سبحانه أولئك العلماء
المقصّرين المزوّرين لأنهم لا يزاولون وظيفتهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
التي
هي وظيفة الرّباني
في كل زمان وكل مكان ، ونعوذ بالله من تقصير العلماء الذين يوردهم ويورد الجهلاء
معهم موارد الهلكة ، ولذا كرّر عزّ اسمه ذمّهم وذم عملهم وقال ثانية : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) كتأكيد لسوء عمل أولئك الأحبار الذين تركوا وظيفتهم وعملوا
بعكسها.
وفي الآية الكريمة
نكتة لطيفة ، وهي أن الصّنع هو العمل مع الإشعار بالجودة والحسن ، فيقال : صنع
فلان لفلان ، إذا أحسن إليه وقدّم له صنيعا جميلا ، والله تعالى يهزأ بربّانييهم
بقوله : لبئس ما كانوا يصنعون ، لأنهم أساؤا لقومهم بدل أن يحسنوا .. أما الفرق
بين الربّانيّ والحبر ، فهو أن الربّاني هو العالم العامل المرشد لغيره ، في حين
أن الحبر هو العالم المتبحّر في العلم فقط. أما الراهب فهو العابد المنعزل عن
الناس في عصر عيسى عليهالسلام. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : إنما قيل للفقيه ربّاني ،
لأنه يربّ العلم أي يقوّمه. وفي الكشاف : الربّاني : يعني شديد التمسك بدين الله
وطاعته ، وهو العالم الكامل في العلم والعمل.
* * *
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤))
٦٤ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ ..) قيل : إن غلّ اليد كناية عن البخل والإمساك وبسطها كناية
عن الجود والبذل. وقد قال سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ
يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً) ، مع أنه صلىاللهعليهوآله لا يحتاج إلى مثل هذا النهي الذي ضربه الله تعالى مثلا
لغيره ، وهو من الباب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، ومن أجل إصلاح شأن الأفراد
والمجتمع. وهذا ـ على كل حال ـ نهي تنزيهيّ لا تكليفي ، لأنه (ص) أنفق أموال
السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها ـ على الفقراء والمساكين وفي مصالح الإسلام
بعد أن وهبته إياها قربة إلى الله وإليه (ص).
هذا ، والكلام يجر
إلى الكلام أحيانا من أجل الإيضاح والبيان ، فقد قالت اليهود ـ وبئس ما قالت ـ إن
يد الله مغلولة فردّ الله سبحانه ردا يخزيهم : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وهو يقدّم ويؤخّر ويزيد وينقص وله المشيئة والقضاء ، وله
البداء في كل حال. وحاصل كلام اليهود هو عدم قبولهم البداء وأنه سبحانه يفعل ما
يشاء ، دون تقدير سابق ، فقال مستدركا : بل يداه مبسوطتان ينفق من خزائنه التي لا
تنفد ما يشاء ، ويفعل ما يريد حين يريد وكما يريد ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
.. وفي العيون عن الرضا عليهالسلام ، في كلام له مع سليمان المروزي في إثبات البداء لأنه كان
ينكره ، قال : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب؟ قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما
قالت اليهود؟ قال (ع) ، قالت يد الله مغلولة ، يعنون أن الله قد فرغ من الأمر فليس
يحدث شيئا ، إلخ ...
أجل ، قالوا ذلك
بجرأتهم الوقيحة على الله تعالى ، فأتبع الله سبحانه قولهم بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، وَلُعِنُوا بِما
قالُوا) وهذا دعاء عليهم منه تعالى بالبخل والتقتير والنكد ، ولذلك
كانوا من أبخل خلق الله. ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة ـ في الدنيا
فهم أسارى منبوذون مشرّدون لا يستقرّ لهم أمر ولا سلطان ـ وفي الآخرة بالأغلال في
النار. كما أنه يجوز أن يكون إخبارا بأنهم ألزموا البخل ولعنوا من جانب الذات
القدسية وأبعدوا من رحمته لقولهم الوقح : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وتثنية اليدين في الآية الشريفة بالنسبة إليه تعالى ،
ليكون الإنكار أبلغ وليدل على إثبات غاية السخاء ، إذ غاية الكرم أن يعطي المرء
بيديه ، وحاشا الله سبحانه عن اليد والعضو والجسم ، وهو (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) طبق
ما يراه لصلاح
عباده ، ووفق حكمته فيهم ، ولكن اليهود كفرة متجاسرون على الله جلّ وعلا وعليك يا
محمد (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي اعلم أن الآيات تنزل عليك من عند ربّك ، هي موجبة لمزيد
طغيان اليهود وكفرهم لأنهم أهل حقد على الحق وكره لما ننزله عليك لؤما منهم وحسدا
، فهم أعداؤك الحقيقيون ، وَقد (أَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فهم لا يجتمعون على أمر واحد ، وليسوا سبطا واحدا ولا أمة
واحدة ، ولن ترتفع العداوة بينهم إلى أبد الآبدين ، ولذا كتبنا في سابق علمنا
وقضينا بأنهم (كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) أي أننالهم بالمرصاد ، وفي أي حين وفي أي مكان يشعلون فيه
نارا للحرب والفساد والعدوان بينهم وبين المسلمين فإن الله سبحانه يخمدها بمنّه
ولطفه بالمسلمين ، ويخذلهم ويدمر عدوانهم ويرغم أنوفهم ويردهم خاسئين خاسرين. فأين
بنو قريضة ، وبنو النضير ، وأهل خيبر وغيرهم في سابق الزمان ، وأين اعتداءات
اليهود في أيامنا التي ما إن تذرّ قرنها حتى يضربهم الله على قرنهم ويكسر شوكتهم
ويطفئ نار حقدهم حتى لا يعيشوا يوما واحدا إلّا خائفين مرعوبين حتى يدمّرهم ويقوّض
بنيانهم سيف صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه. وَهم دائما وأبدا (يَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) أي يعملون ويدأبون على نشر الفساد ويجدّون في إذاعته
وإشاعته ، وأكبر دليل هو جملة ما يفعلونه معك يا محمد بن إفساد أمرك في ترويج
الدين وإعلاء كلمة رب العالمين ، وأقلّها محو ذكرك من كتبهم (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يكرههم ويعاقبهم أشد عقاب وسيجزيهم أسوأ جزاء.
* * *
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما
يَعْمَلُونَ (٦٦))
٦٥ ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا ..) الكلام الضمنيّ يدل على أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ،
لأنهم هم الذين كانوا في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله في الجزيرة العربية ومن حولها. فهؤلاء لو آمنوا : أي
صدّقوا برسالة النبيّ (ص) وبما جاء به من عند ربّه تعالى من القرآن والسنن ،
واتّقوا : أي أطاعوا الله ولم يعصوه وأحسن ما قيل في التقوى : أن يطاع الله ولا
يعصى ، وأن يشكر ولا يكفر ، ويذكر ولا ينسى كما روي عن مولانا وإمامنا الصادقعليهالسلام .. فلو أن الكتابيّين فعلوا ذلك (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترنا عنهم ذنوبهم وتجاوزنا عنها ومحوناها ، فلا
نؤاخذهم عليها لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، ولأن الايمان يطهرهم ويجعلهم أهلا
للمغفرة (وَلَأَدْخَلْناهُمْ
جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بعدلنا ورحمتنا.
٦٦ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ ..) أي لو أنهم عملوا بهما وبما فيهما من أحكام (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ) من الكتب التي سبقتهم ، ومن كتابيهم ، ومن القرآن العظيم ،
فلو كانوا يعملون بما هو محل ابتلائهم من الإيمان بالله ورسوله وبالولاية التي هي
المكملة للدين والإيمان لكل بشر على وجه الأرض كما روى عن الأئمة الهداة الأطهار ،
يقول سبحانه : لو فعلوا ذلك (لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني : لوسّع الله عليهم الرزق ولأفاضه عليهم من جميع
جوانبهم ولشملتهم البركات والرحمة. ذاك أن مناشئ الرزق عمدتها من السماء ـ من
فوقهم ـ ومن الأرض ـ من تحت أرجلهم ـ فاختصّتا بالذكر مع العلم أن الرزق يأتي من
جوانب أخر بالعرض والمجاز ، وكل ما بالعرض والمجاز ينتهي إلى ما بالذات. وهكذا قال
القمي : من فوقهم المطر ، ومن تحت أرجلهم النبات. وهؤلاء الكتابيون (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي معتدلة لا تغالي في الكفر والعناد بل بحثت عن الحقيقة ،
وهم من آمنوا
بالرسول صلىاللهعليهوآله. وقد قال القمي : هم قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسمّاهم
الله : مقتصدة. (وَ) لكن (كَثِيرٌ مِنْهُمْ
ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي أن أكثرهم أقام على الكفر والجحود وجعلهما له شعارا ،
وبئس ما عملوه.
* * *
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))
٦٧ ـ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ..) خطاب للرسول الكريم صلىاللهعليهوآله بأن يبلّغ : أي يخبر الناس ما أنزل إليه منه. وروي عن ابن عباس
وجابر بن عبد الله وغيرهما أن الله تعالى أمر نبيّه أن ينصّب علياّ للناس ويخبرهم
بولايته ، فخاف (ص) أن يحمله الناس على محاباة ابن عمه ، وخشي أن يصعب ذلك على
جماعة من أصحابه. لكن إنذار ربّه عزّ اسمه خوّفه أكثر إذ قال له : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ) إذ وازن سبحانه بين هذا البلاغ وبين الرسالة برمّتها ،
فقال عزّ من قائل إن كتمت ذلك كنت كأنك لم تؤدّ من الرسالة شيئا قط لأن كتمان
بعضها ككتمانها كلها سواء بسواء فبلغها ولا تخف أحدا (وَاللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ) أي يحفظك ويمنعهم عنك ويحميك. وهذا وعد لك بالحفظ والكلاءة
منه تعالى فلا عذر مقبولا بعد عصمتك من الناس الأمر الذي شجعه فصعد المنبر وأخذ
بيد عليّ عليهالسلام ورفعها حتى بان بياض إبطيهما ثم قال : أيها الناس ، ألست
أولى منكم بأنفسكم قالوا : بلى. قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، إلى أخر الخطبة
المشهورة التي ألقاها على مسامع عشرات الألوف في غدير خم ، يوم رجوعه من حجة
الوداع التي لم يمض بعدها سوى سبعين
يوما ثم لحق (ص)
بالرفيق الأعلى ، فعمّت الأرض الوحشة بعد غروب قمرها المضيء الذي كشف للناس صراط
الحياة المستقيم ، وطريق الجنّة والنعيم (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يمكّنهم من رسوله الكريم ولا يستطيعون أن ينزلوا به
مكروها من جرّاء ذلك البلاغ الذي عبّر سبحانه عن المتنكرين له بلفظ : الكافرين ،
وإن كانوا قد أظهروا الإسلام.
والذي يلفت النظر
إلى أهمية ذلك البلاغ أنه حصل في آخر حياة النبيّ (ص) الحافلة بالجهاد للدعوة ،
وعن ثلاث وعشرين سنة قضاها (ص) في الدعوة والتبليغ ، فما معنى أن يقول الله تعالى
له : وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته؟ .. أليس هذا أكبر دليل على أن الأمر جليل صدر
عن جليلّ ، وجعل الولاية عدل القرآن وجعل الإمامة امتدادا للنبوّة والرسالة؟! ..
* * *
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٦٩))
٦٨ ـ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى
شَيْءٍ ..) خطاب لليهود والنصارى يبيّن الله سبحانه فيه : أنكم لستم
على الطريقة الشرعية التي سنّها
الله (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) فإنهما الكتابان المقدّسان ، والله لا يعتبركم متمسكين
بشيء من أوامره إذا لم تعملوا بما فيهم من تعاليم ومن دعوة للإيمان ومن الأمر
بالتسليم لربكم في جميع أموركم ، ولا مندوحة لكم عن إحياء ما بهما (وَ) بجميع (ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الكتب السماوية ، ومن البشارة بمحمد صلىاللهعليهوآله ، خاتم النبيّين وسيد المرسلين ، الذي وعدكم به ربكم في
كتابيكم : التوراة والإنجيل .. وقد أنزلها الله تبارك وتعالى تطييبا لقلب رسوله ،
وبيّن أن الطائفتين ليستا على شيء ، ونوّه له (ص) بأنهما كأصحاب نوح عليهالسلام الذين كلّما دعاهم كلما ازدادوا فرارا منه وبعدا عنه فقال
: (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) فالقرآن العظيم الذي نزل عليك كان سببا في ازدياد كفرهم
وطغيانهم ، وتعاظم حقدهم ونفاقهم ، فلا ينبغي لك ـ يا محمد ـ أن تهتمّ كفرهم
وعنادهم فإنهم اختاروا الضلال على الهدى (فَلا تَأْسَ عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي لا تتأسف عليهم ولا تحزن لأجلهم فإنهم ليسوا أهلا
للشفقة والرقة لأنهم اختاروا لأنفسهم الكفر.
٦٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى ..) يؤكد سبحانه أن جميع هؤلاء المذكورين (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) فكان موحّدا مؤمنا بالبعث والنشور للحساب والثواب والعقاب (وَعَمِلَ صالِحاً) وهذا شرط ثالث هام ، لأن الثواب يكون أجرا للعمل (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) إذ تشملهم النجاة من غضب الله وتنالهم الرحمة .. وقد مرّ
بيان ذلك في سورة البقرة ، والصابئون قال عنهم إمامنا الصادق عليهالسلام سمي الصابئون لأنهم صبأوا ـ أي مالوا وذهبوا ـ إلى تعطيل
الأنبياء والرسل والشرائع ، وقالوا : كل ما جاؤوا به باطل .. فهم بلا شريعة ولا
كتاب.
والصابئون : رفع
على الابتداء ، وخبره محذوف ، والنيّة به التأخير عمّا في حيّز : إنّ. أي :
والصابئون كذلك. من آمن : مبتدأ ، وخبره : فلا خوف
عليهم. وتقديره :
من آمن منهم .. والجملة كما هي خبر إن. ويمكن أن يكون : من آمن ، منصوبا على البدل
من اسم إن وما عطف عليه ، أو من المعطوف عليه والله أعلم.
* * *
(لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ
تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا
وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١))
٧٠ ـ (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ ..) أي أخذ الله تعالى عليهم عهدا ـ في كتابهم ـ بالتوحيد
وبالبشارة بمحمد صلىاللهعليهوآله وبنبوّته وولاية وصيّه عليهالسلام (وَأَرْسَلْنا
إِلَيْهِمْ رُسُلاً) ليطلعوهم على الأوامر والنواهي وليكونوا مبشّرين ومنذرين
ومعلّمين لشرائع الله تعالى بحدودها. ولكنهم (كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ) من عندنا ـ والجملة شرطية وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله
: (فَرِيقاً كَذَّبُوا ،
وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ). وتقديره : كلما جاءهم رسول من تلك الرسل ـ خالفوه أو
قتلوه ، لأنه يأمرهم (بِما لا تَهْوى
أَنْفُسُهُمْ) أي بما لا تحبه نفوسهم الخبيثة من التكاليف الإلهية ، فترى
(فَرِيقاً كَذَّبُوا) أي كذبوا بعض تلك الرسل (وَفَرِيقاً
يَقْتُلُونَ) يقتلون بعضهم كفرا وعنادا. أما قوله تعالى : فريقا ، فكأنه
جواب سائل يسأل : كيف فعلوا برسلهم. ولفظة : يقتلون ، حكاية حال ماضية استحضارا
لتلك
الحال الشنيعة
ليتعجّب الناس منها ، فبنو إسرائيل كانوا يكذّبون فريقا من رسلهم ويقتلون فريقا
بدافع طبعهم الخبيث المعاند للحق.
٧١ ـ (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ..) أي أنهم ظنّوا أنه لا يصيبهم من الله فتنة : أي بلاء
اختباريّ وعذاب في الدنيا والآخرة بتكذيب رسلهم وقتلهم (فَعَمُوا) أصابهم العمى عن محجّة الحق (وَصَمُّوا) ضرب على سمعهم فلم يستمعوا إلى حجة (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي تجاوز عنهم لمّا تابوا وتدينوا (ثُمَّ عَمُوا) عن الدين (وَصَمُّوا) مرة أخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي أكثرهم. ولفظة : كثير ، بدل من واو الضمير وهو على
قولهم : أكلوني البراغيث. والمعنى أن كثيرين منهم عادوا كما كانوا عميا وصما
وداموا على ذلك (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) يرى أعمالهم ويؤاخذهم بها.
وفي الكافي عن
الصادق عليهالسلام : وحسبوا أن لا تكون فتنة ، قال : حيث كان النبيّ بين
أظهرهم ، فعموا وصمّوا حيث قبض رسول الله (ص) ثم تاب عليهم حيث قام أمير المؤمنين (ع)
ثم عموا وصمّوا إلى الساعة.
* * *
(لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ
واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
أَفَلا
يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤))
٧٢ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ..) في هذه الشريفة احتج الله سبحانه على النصارى الذين كفروا
بقولهم : إن الله هو عيسى (ابْنُ مَرْيَمَ) عليهماالسلام بذاته ، كاليعاقبة وسائر القائلين بالثالوث والاتحاد. ذلك
أنه (ع) لم يأمرهم بذلك بل أنكره (وَقالَ الْمَسِيحُ) لهم : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فلم يفرّق بينهم وبين نفسه في أنه عبد مربوب مثلهم ، وقال
إني لست بإله و (إِنَّهُ مَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) لأنها دار الموحّدين إذ قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) والقائل بالشرك يحرّم الله عليه الجنّة (وَمَأْواهُ النَّارُ) التي هي دار الكافرين والمشركين (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي ليس لهم من أحد يخلّصهم من عذاب الله. وهم ظالمون لأنهم
عدلوا عن طريق الحق فيما تقوّلوه على عيسى عليهالسلام. وهذا إيذان بأن الشّرك ظلم ، ويحتمل أنه من قول عيسى (ع)
كما أنّه يحتمل أن يكون من كلام الله عزوجل.
٧٣ ـ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ..) وهؤلاء طائفتان من النصارى يسمّون بالنسطورية والملكانية ،
يقولون بأن الله أحد ثلاثة يتكوّن من الثالوث ، أو من الله وعيسى ومريم ، ويقول
الله عزوجل : إنهم كفرة (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس في عالم الوجودات لا ذات واجب الوجود الذي يستحق
العبادة ، وحيث إنه مبدأ جميع الموجودات فالألوهيّة موصوفة بالوحدانية ، والله
سبحانه متعال عن قبول الشركة :
كلمة : من ، في
الجملة زائدة ، وكأنه تعالى قال : إله إلّا إله واحد ، أعني : ما إله قطّ معروف
بالوحدانية إلّا الله ، وهو لا ثاني له. والجملة جاءت بهذه الصيغة للاستغراق
والعموم بحسب هذا التقدير .. (وَإِنْ لَمْ
يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) به من الشّرك (لَيَمَسَّنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عذاب
موجع شديد يصل
وجعه إلى قلوبهم ، وقد وضع الموصول : الذين ، مكان الضمير المتصل ولم يقل :
ليمسنّهم ، ليختص العذاب الأليم بالذين كفروا منهم وبقوا كافرين فقط.
٧٤ ـ (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ...) أي : ألا يتركون تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة
ويقلعون عنها تماما بحيث لا يعودون إليها ، ثم يطلبون العفو من الله عمّا مضى منهم؟
والهمزة للإنكار والتعجب من إصرارهم على هذا الزعم الواهي ، فما بالهم لا يوحّدون
الله سبحانه وينزهونه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي كثير الرحمة والمغفرة وهو يمنحهما للتائبين
والمستغفرين.
* * *
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
قُلْ
أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قُلْ
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا
أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ
سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧))
٧٥ ـ (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا
رَسُولٌ ..) يعني ليس عيسى بن مريم
صلوات الله عليه
سوى نبيّ مرسل (قَدْ خَلَتْ) أي مضت (مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) فهو (ع) من جنس الأنبياء المبعوثين قبله ، وقد أرسل كما
أرسلوا لهداية البشر وإرشادكم إليه سبحانه (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) من أعظم المصدّقين بالله والقانتين العابدين المتبتلين له
، فهي إذا منزّهة عن كل عيب وعن كل ما يشين الإنسان ، فاسألوها ـ لأنها مصدّقة ـ عن
ابنها وكيف حملت به وكيف ولدته لتعلموا أنه بشر مثلها. فإذا ثبت عندكم أن لعيسى عليهالسلام أمّا ولدته فكيف تعتبرون البشر إلها ومعبودا والله عزوجل لم يلد ولم يولد ، وهو منزّه عن لوازم البشرية من حمل ووضع
وتولّد ورعاية أو حاجة إلى غيره لأنه مستغن بذاته ، بينما عيسى وأمه عليهماالسلام (كانا يَأْكُلانِ
الطَّعامَ) كبقية الناس لأنهما محتاجان إلى الأكل والشرب كبقية ذوي
الأجسام القابلة للتغذية ، وهذا يعني ـ بكناية رفيعة المعنى والمبنى ـ أنهما
يحتاجان لتخلية البطن من ثقل فضلات الطعام ، ومضطران للتغوّط ، وتعالى الله عن ذلك
علوّا كبيرا ، ف (انْظُرْ كَيْفَ
نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أي نوضح لهم العلامات ونظهرها ، فنبطل زعمهم بالبرهان (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فانظر وفكّر كيف نهديهم ، وانظر وتفكر كيف يقولون الإفك
والباطل ويقولون شططا ، وقابل بين هذين الطرفين المتضادين ، وتعجّب من هذا التصرف
الأخرق!
٧٦ ـ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ..)
أي قل يا محمد لهؤلاء : كيف تؤلّهون غير الله وتقصدون بعبادتكم (ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)
وهو عيسى عليهالسلام
فليس بيده أن ينزل المحن والبلايا ولا أن يهب الصحة والسعة من ناحية ذاته أولا
وبالذات ، وخارجا عن ذات الله المقدسة ، أو عرضا وبغير تمليك من الله سبحانه لأنه
المالك بذاته .. وقد قدّم ذكر
الضرر لأن الخوف أدعى إلى الطاعة ، ودفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.
وقيل : لماذا أتى
بلفظة : ما ، في قوله تعالى : (ما لا يَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، ولم يقل : من لا يملك ، لأن : ما ، تستعمل لغير العاقل؟
.. وعيسى
عليهالسلام هو المقصود هنا ..
وقد أجاب صاحب روح
البيان بقوله : نظرا لما هو عليه في بدء خلقه ، فإنه في ذاته لا يوصف بعقل ولا
بشيء من الفضائل .. وهذا الجواب غير وجيه مطلقا ، وبالأخص في المراد بالآية وهو
عيسى عليهالسلام الذي تكلم بعد ولادته مع من عيّروا أمّه وقال : إني عبد
الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا ، وجعلني مباركا أينما كنت .. والذي يفعل ذلك لا
يقال إنه لا يكون عاقلا في بدء ولادته ، ولا يقال إنه كان غير عاقل حتى أنيبت عنه
: ما .. وأحسن مما سبق هو ما قاله صاحب المجمع في جوامع الجامع : المراد بقوله : (ما لا يَمْلِكُ) : عيسى عليهالسلام ، أي شيئا .. وهذا يعني أنه سبحانه كأنه قال : أتعبدون من
دون الله شيئا لا يستطيع أن يضركم أو ينفعكم بمثل ما يفعل الله تعالى؟ .. (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) شديد السمع للأقوال لأنه يسمع وساوس الصدور ولا يصمّ سمعه
صوت ، وواسع العلم بالأفعال ومطّلع على النوايا وخطرات القلوب.
٧٧ ـ (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ ...) أي لا تتجاوزوا الغاية ولا تصلوا إلى المغالاة في عقيدتكم
ولا تتصلّبوا وتعتنقوا (غَيْرَ الْحَقِ) وهذه العبارة صفة للمصدر ، أي : لا تغلوا غلوّا غير الحق ،
يعني غلوا باطلا بتخطّي الحق (وَلا تَتَّبِعُوا
أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) ولا تسلكوا طريق رؤسائكم الذين ضلّوا قبلكم وقبل مبعث
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وذهبوا مع هوى نفوسهم (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) أي ضيّعوا الكثيرين من الذين اتّبعوهم على التثليث والشرك
لمّا بعث محمد (ص) بالإسلام (وَضَلُّوا عَنْ
سَواءِ السَّبِيلِ) تاهوا عن الطريق السويّ المستقيم حين كذّبوه (ص) وبغوا
عليه.
* * *
(لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى
ابْنِ
مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١))
٧٨ ـ (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ ..) أي : طرد من الرحمة ، وأبعد عن مرضاة الله ، الذين كفروا
حال كونهم من بني إسرائيل. وقد حصل لعنهم سابقا (عَلى لِسانِ داوُدَ
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) عليهماالسلام. فقد دعا داود (ع) على أهل أيلة لما اعتدوا في السبت ـ وأيلة
على شاطئ البحر الأحمر من فلسطين قرب خليج العقبة ـ وقيل إن داود (ع) قال : اللهم
العنهم واجعلهم في بلادك آية ومثلا لخلقك ، فمسخوا قردة. أمّا عيسى (ع) فقال عليهالسلام : اللهم عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لا تعذبه
أحدا من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فصاروا خنازير ، وكانوا خمسة
آلاف رجل ليس بينهم امرأة ولا صبيّ (ذلِكَ) أي هذا اللعن كان (بِما عَصَوْا) بسبب عصيانهم (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) على الأنبياء ويخالفون أوامر الله ونواهيه.
٧٩ ـ (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ ..) يعني أنهم كانوا يفعلون المنكرات والمحرّمات ولا ينهى
بعضهم بعضا لأنهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. وهذا الكلام جاء في مقام
التعجب من حالهم المستهترة ومن أفعالهم
القبيحة (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : والله لبئس ما كانوا يعملونه من الأعمال المنكرة وهذا
قسم موكّد لذمّ عملهم. وفي القمّي عن الصادق عليهالسلام أنه سئل عن قوم من الشيعة يدخلون في أعمال السلطان ويعملون
لهم ويحبّون لهم ديوانهم. قال عليهالسلام : ليس هم من الشيعة ، ولكنهم من أولئك ، ثم قرأ : لعن
الذين كفروا إلخ ..
٨٠ ـ (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي يجعلون الكافرين أولياء لأمورهم ، ويوالونهم ويحبّونهم
بغضا لك يا محمد وعداوة للحق الذي جئت به ، و (لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم من هواها الذي اتّبعوه فأدى
بهم إلى (أَنْ سَخِطَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) أي غضب عليهم غضبا شديدا في الدنيا (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) في الآخرة. وعن الباقر عليه وعلى آبائه وأبنائه المعصومين السلام
: ـ أولئك الذين ـ يتولّون الملوك الجبّارين ويزيّنون لهم أهواءهم ، ليصيبوا من
دنياهم.
٨١ ـ (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ ...) أي أن الذين حكى عنهم سبحانه في الآية السابقة من الذين
يتولّون الكفار والجبّارين ، لم يتولّوهم إلّا أنهم غير مؤمنين بالله ورسوله وما
أنزل على رسوله ، ولو كانوا مصدّقين (مَا اتَّخَذُوهُمْ
أَوْلِياءَ) فلا أحبّوهم ولا أخلصوا لهم. ذلك أن حب أوليائه سبحانه ،
وحب أعدائه ، لا يجتمعان في قلب واحد ، لأن النقيضين لا يجتمعان ، فإمّا أن يكون
الإنسان محبا لله وأوليائه وإمّا أن يكون متّبعا لهوى نفسه ومحبا للشيطان وأعوان
السلطان .. فلو كان هؤلاء مؤمنين ما والوا عدوّا لله ورسوله (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طريق الهداية وحائدون عن جادة الإسلام
المستقيمة.
* * *
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ
عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ
بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا
نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ
بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ
جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))
٨٢ ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً
لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ..) يؤكد سبحانه وتعالى باللام والنون المشدّدة والحروف
القويّة أن اليهود ـ لعنهم الله ـ أكثر عداوة للمؤمنين ، هم (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) وذلك لتضاعف كفرهم وإفراطهم في البغض للحق ، ولشدة حسدهم
ومعاداتهم للنبييّن صلوات الله عليهم (وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) أي أن النصارى ـ بعكس اليهود ـ قريبون من الاستماع إلى
الحق لطباعهم الليّنة وسهولة دعوتهم وسرعة عودتهم عن الجهل إذا تبيّن لهم الحق.
فهم ليسوا
ذوي عداوة شديدة
للمؤمنين بل يميلون إليهم ويذعنون للعلم والحجة القاطعة والبرهان المقنع ، وقد كان
رهبانهم وقساوستهم وعبّادهم يقصدون أئمتنا المعصومين عليهمالسلام ويسألونهم عن الكثير الكثير.
وقد قيل إن المراد
بالنصارى هنا ، هم النجاشيّ وأهل الحبشة فإنهم كانوا حسب هذه الأوصاف فالنصارى على
كل حال قريبون من المؤمنين كما قال عنهم خالقهم والعالم بسرائرهم (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) أي رؤساء في العمل ومرشدين (وَرُهْباناً) علماء عبّادا زهادا (وَأَنَّهُمْ) جميعا ـ رؤساء وسوقة ـ و (لا يَسْتَكْبِرُونَ) وليس عندهم عجرفة اليهود ولا صلفهم لأنهم يخضعون للحق
ويتخيّرون سبل الهداية إذا انكشفت لهم الحقيقة.
٨٣ ـ (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ ...) أي إذا وعوا بكامل سمعهم ما أنزله الله من آيات القرآن
وبيّناته (تَرى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي يسيل الدمع منها ، ويبكون بدمع غزير (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي من أجل أنهم توصّلوا إلى معرفة الحق و : من : بيان ل :
ما ، الموصولية في قوله : ما عرفوا. ثم (يَقُولُونَ) مختارين ومقتنعين : (رَبَّنا آمَنَّا) أي صدّقنا وأسلمنا لك وأيقنّا برسولك وبكتابك الذي يشتمل
على دينك. (فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ) أي : سجّلنا مع من شهدوا بنبوّته ومن أمته الشاهدة على
الأمم يوم القيامة.
وهذه الشريفة ،
والتي سبقتها ، من قوله سبحانه الذي يخاطب به رسوله وينتهي عند : وذلك جزاء
المحسنين ، كلها نزلت في النجاشي وأصحابه حينما هاجر إليهم جعفر بن أبي طالب عليهالسلام وأمره النجاشي بقراءة شيء من القرآن الذي نزل على محمد صلىاللهعليهوآله ، فقرأ عليهم الآيات التي نزلت في عيسى ومريم عليهماالسلام ورفعت من قدرهما ونزّهتهما ، فبكى النجاشي وأصحابه جميعا.
٨٤ ـ (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما
جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ..) قوله تعالى : وما ،
استفهام إنكاريّ ،
أي أنها إنكار لعدم الإيمان مع وجود موجبه وهو يدل على شدة رغبتهم ومزيد ميلهم
للدخول في ما دخل فيه المؤمنون ، بدليل قولهم : (وَنَطْمَعُ أَنْ
يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) فإن طمعهم يفسّر رغبتهم الشديدة بأن يكونوا في صف صالحي
العباد ، فقال جلّ كرمه عنهم :
٨٥ ـ (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا
جَنَّاتٍ ..) الفاء عاطفة تدل على ترتيب الأثر من جانب ساحته القدسية
على إيمان هؤلاء ، فقال تعالى بأنه كتب لهم ثواب خلوص نيّاتهم في توحيدهم
وامتثالهم لأمر رسوله ، وما وعد به الصالحين ، إذ أعدّ لهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) يدخلونها بإيمانهم الصادق ، ويكونون (خالِدِينَ فِيها) إلى أبد الأبد ، يتنعّمون برحمته (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) من عباده الموحّدين المخلصين في القول والعمل.
ثم بيّن سبحانه
الفرق الذي لا تصح فيه المقابلة بينهم وبين الكافرين والمعاندين بقوله :
٨٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا ..) قد ذكر سبحانه حال المصدّقين في الآيات السابقة ، ثم
عقّبها حالا بذكر حال المكذبين الذين أصرّوا على الكفر فقال عنهم : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي سكان النار الموقدة المسعّرة التي أعدت للكافرين. وفي
هذا ترغيب وترهيب لمن كان يلقي السمع ويعمل الفكر ، ويخشى سوء العاقبة ويطمع في
حسن الثواب.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (٨٨))
٨٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ..) أي لا تكفّوا وتمنعوا أنفسكم عن المستلذّات التي جعلها
الله حلالا لكم (وَلا تَعْتَدُوا) تتجاوزوا حدود الله من الحلال والحرام فتستصوبوا ما شئتم
بحسب تقديراتكم (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) بل يكره من يتعدى حدود ما أنزله على عباده.
وقيل في شأن نزول
هذه المباركة أن النبيّ صلىاللهعليهوآله وصف القيامة وصفا بليغا ، فهمّ قوم من أصحابه أن يلازموا
الصيام والقيام ويجانبوا الفراش والنساء واللحم ويتعبدوا ليلا ونهارا. فبلغ ذلك
النبيّ (ص) فقال لهم : إني لم آمركم بذلك. إنّ لأنفسكم عليكم حقا. فاني نبيّكم ،
أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأكل اللحم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس مني.
فنزلت الآية : ولا تعتدوا : أي لا تتجاوزوا ما سنّ لكم النبي الكريم (ص) لأن عدم
حبّ الله للمعتدين يعني بغضه لهم ومعاقبتهم على اعتدائهم فإن تغيير الحكم بدعة ،
وكل بدعة ضلالة على ما هو المراد في المقام.
٨٨ ـ (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ
حَلالاً طَيِّباً ..) [حلالا : نصبت على
أنها صفة لمصدر محذوف ، أي كلوا أكلا حلالا مما رزقكم الله ، أو هي حال من : ما ،
مبيّنة لا مقيّدة إذ الرزق الذي أعطاه الله لعباده كله حلال ، وفائدتها أن الحلال
لا معنى لاجتنابه. نعم لو كان ما رزقه الله قسمين ، فلهم أن يجيبوا النبيّ (ص)
بأننا ظننّا أن الرزق قسمان ، وأن الرزق الذي اجتنبناه حرام ، ولكنهم قبلوا اعتراض
النبي (ص) ورجعوا عن طريقتهم فورا بلا كلام إذ يعلمون أنه محلل لا حرام فيه ، عملا
بسنّته الشريفة وبأمر الله تعالى أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيّبا : أي طاهرا من
كل شبهة زاكيا مستلذا تميل إليه النفس وتهواه] (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي اعملوا بأوامره ونواهيه لأنكم مؤمنون به.
* * *
(لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (٨٩))
٨٩ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ ..) اللّغو : هو الكلام الخالي عن القصد والهدف ، والذي لا
يعتد به لأنه يصدر دون عقد القلب عليه. واللغو في الإيمان هو ما يقوله الناس كثيرا
في محادثاتهم «بلا والله ، ولا والله ، وبظنّ وقوع الأمر كذلك. فالله تعالى ـ رحمة
منه ـ لا يؤاخذ عباده على تلك الأيمان اللاغية التي يستعملونها في كلامهم
ومحادثاتهم ، ويقول لهم (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) أي أنه يحاسبكم على الأيمان المقصودة الصادرة عن عقد القلب
والنيّة بجزم تام. فالحنث باليمين في مثل هذه الحال الصادقة ، يؤاخذ العبد عليه (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ
مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي أن تطعموا هؤلاء العشرة المساكين ممّا تأكلونه في
بيوتكم عادة لا من رديئه. وفي المجمع عن الصادق عليهالسلام أنه قرأها : من أوسط ما تطعمون أهاليكم. وفي الكافي عنه عليهالسلام أن الوسط هو : الخل والزيتون ، وأرفعه الخبز واللحم. فذلك
كفارة الحنث باليمين ، إطعام ذلك العدد من المساكين (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي إعطاؤهم اللباس الوسط مما تلبسون. والكسوة ثوبان ، وفي
رواية : ثوب يواري به عورته. ولعل الثوبين في الرواية السابقة يعنيان حال عدم ستر
العورة بثوب واحد إما لقصر الثوب أو لطول القامة وما أشبه (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)
أي عتق عبد أو أمة
أو مولود منهما كما في الكافي عن الصادق عليهالسلام
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أي أن الذي لا يقدر على الإطعام ولا على الكسوة ولا على
العتق ، يصوم ثلاثة أيام. وقال في
الكافي : إن
الكاظم عليهالسلام سئل عن كفارة اليمين ، ما حدّ من لم يجد ، وأن الرجل يسأل
في كفّه وهو يجد؟ فقال : إن لم يكن عنده فضل عن قوت سنته وعياله فهو ممّن لا يجد
.. وعن الصادق عليهالسلام : كلّ صوم يفرّق فيه ، إلا ثلاثة أيام في كفارة اليمين
متتابعات لا يفصل بينهنّ (ذلِكَ) أي ما ذكره سبحانه وتعالى (كَفَّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) يعني : إذا حلفتم وحنثتم ، أي أخلفتم موضوع اليمين (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) أي لا تبتذلوا فيها ، ولا تنكسوها ما لم تروا خيرا من
المحلوف عليه ، ولا تحنثوا إذا لم يكن الداعي إلى الحنث ظاهر الخير ، واصبروا لأنه
سبحانه يكره حنث اليمين إذ هو هتك لاحترام اسمه العظيم.
أما إطعام
المساكين فهو إعطاء مدّ من الطعام لكل واحد. ولا يجزي إعطاؤه من أدون الأطعمة
ويجزي الأعلى منها. كما أنه لا يجزي دفع طعامهم إلى مسكين واحد .. والمدّ مكيال
كانوا يكيلون به أجناس حبوبهم في الأزمنة القديمة في الحجاز ونواحيها حتى عصر
النبيّ صلىاللهعليهوآله بل إلى عصر الأئمة سلام الله عليهم أجمعين. وهو بحساب
الكيلوغرام المستعمل في أكثر الأقطار والأمصار ، يبلغ ثلاثة أرباع الكيلوغرام
تماما والله أعلم.
(يُبَيِّنُ اللهُ
آياتِهِ) يوضح معالم دينه وحدود ما أنزل على رسوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بأمل أن تحمدوه وتكونوا من الشاكرين .. ونلفت النظر إلى أن
الآية تعني العلامة ، وأن آيات الله هي أن جميع ما سوى الله علامة لذاته المقدسة ،
وعلامة على وحدانيته :
وفي كلّ شيء له
آية
|
|
تدلّ على أنّه
واحد
|
وتأتي الآية ـ ومعانيها
كثيرة جدا ـ بمعنى النعمة. فهو هنا يبيّن لنا نعمه وآلاءه لنشكرها لأن النعمة
تقتضي الشكر ، كما أن دلائله وأحكامه سبحانه توجب الشكر على ما حبانا به من عناية.
ونشير بالمناسبة
إلى قول إمامنا الصادق عليهالسلام في الموضوع : من حلف
على يمين فرأى
غيرها خيرا منها فأتى بذلك ، فهو كفّارة يمينه. وإلى قوله (ع) الذي في الخصال : لا
حنث ولا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلما على نفسه. وإلى قول أمير المؤمنين
عليه آلاف التحيات : لا يمين لولد مع والده ، ولا لا مرأة مع زوجها.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما
عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣))
٩٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) رأفة منه تعالى بالمؤمنين ، يأمرهم بسلوك الطريق التي
تنجيهم ، وباجتناب ما يدنّسهم ويحبط أعمالهم ويذكر في رأس المفاسد الخمر التي يراد
بها كل مسكر مائع أو غير مائع كثير أو قليل ، يخامر العقل أو لا ، لعلة من العلل
كالإدمان. نعم لا بد وأن يكون من شأنه التخمير طبخ طبخا كاملا أولا ، فقد دعي خمرا
لهذه العلة ولأنه يخامر العقل بطبعه وفي ذاته وبحسب العادة والأعم الأكثر ، مع قطع
النظر عن الجهات الأخرى الخارجية. والخمر يدخل فيها كل مسكر ولو لم يسمّ بالخمر ،
دخولا حكيما. ثم يذكر
سبحانه الميسر
الذي هو القمار كله ويدخل فيه الشطرنج والنّرد والأربعة عشر والكعب وغير ذلك مما
يتقامر به الناس ومما يعرف في كل زمان ومكان. (وَالْأَنْصابُ) عدّها سبحانه في جملة ذلك ، وهي جمع : نصب ، بمعنى الصنم ،
أي المنصوب للعبادة الشيطانية الجاهلية بيد أعوان الشيطان (وَ) كذلك (الْأَزْلامُ) جمع : زلم ، وهي السهام كتب على بعضها : أمرني ربّي ، وعلى
بعضها : نهاني ربّي ، يطلبون بها معرفة ما قسم لهم من الخير والشر في الغزو والسفر
والتجارة وغير ذلك. وقد فصّلنا القول في هذا الموضوع فيما سبق من الكلام عن
القداح. فقد اعتبر الله تبارك وتعالى أن هذه المذكورات (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ) فهي نجسة دنسة ملازمة للحرمة كلها. وكون الرجس من عمل
الشيطان هو أن عمله يرمي إلى ما يجر إلى غضب الرحمن لأنه أخذ على نفسه إضلال الناس
وجرهم إلى المعاصي والمفاسد .. والله عز اسمه يحرص على المؤمنين به ويريدهم مخلصين
من كل شائبة ويقول : دعوا هذا الرجس الدنس النجس فإنه من عمل الشيطان (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي رجاء فوزكم ونجاحكم وصلاح أمركم في الدنيا والآخرة.
٩١ ـ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ ...) أي أن الشيطان يقصد إثارة العداوة بينكم (وَ) يريد زرع (الْبَغْضاءَ) في قلوبكم ، وهي العداوة الشديدة (فِي) تعاطيكم (الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ) الملازمين لإثارة العداوة والبغضاء كما يعرف ذلك الشاربون
للخمر واللاعبون في القمار وجميع من يزاولون هذه المفاسد التي تؤدي في كثير من
الأوقات إلى الشتم والضرب والقتل وارتكاب الجرائم العظيمة. فالملازمة بين هذه
المفاسد وبين العداوة والبغضاء ، ملازمة كأنها نوعية بحيث ترى هذه مع هذه في كل
حال. وعبارة : في الخمر متعلقة ب : يوقع ، أي الشيطان. والشارب يعلم أن البذاءة
والتلاعن والأذى والعربدة والمشاجرة كلها لا بد منها أثناء السكر والمقامرة
والمراهنة وغيرها ، وليست قصة الأنصاري الذي شجّ سعد بن أبي وقاص بلحي. الجمل في
حال سكرهما ، بغريبة عن أذهان المطّلعين .. أما المقامر فيقامر على ماله وعلى بيته
، وبنته ، وزوجته .. أفلا يثير ذلك العداوة والبغضاء بين المرء وصاحبه ، وبين
الأسرة والأسرة ،
ثم تنشر المفاسد في المجتمع كله؟ ...
وقد خصّ سبحانه
الخمر والميسر بالذكر ـ عند عرض المفاسد ـ مع أن العناوين المحرّمة أربعة في صدر
الآية ، لأنهما أكثر ابتلاءات العامة وهما الأشدّان ، فذكرهما تأكيدا وترهيبا ،
لأن الشيطان يبتليكم بهما وبغيرهما (وَيَصُدَّكُمْ) يمنعكم منعا شديدا ويقف في وجهكم ليحولكم (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن تذكره في كل حال لتنصرفوا عن المحرّمات عند ذكره
تعالى (وَعَنِ الصَّلاةِ) يحول بينكم وبينها بدافع السّكر أو لانشغالكم بالمقامرة ،
أو لاستهتاركم بأوامر الله بعد اتّباعكم لخطى الشيطان (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أي : هل أنتم تاركون لهذه المفاسد بعد بيان ما فيها من
الصوارف عن الطاعات. وهذا الاستفهام إنكاري أبلغ وآكد في المقصود من جملة : فانتهوا
، كما لا يخفى على اللبيب الأديب. وغير خفيّ أيضا أن ذكر الصلاة جاء هنا للإفهام
بأنها من أكبر الأذكار وأعظم الأوراد ، وما من عمل صالح يوازيها لأنها عمود الدين.
٩٢ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ ، وَاحْذَرُوا ...) أي امتثلوا أمرهما ، واحذروا : أي خذوا الحذر وخافوا
وتجنّبوا عصيانهما ، ولا تخالفوهما فيما يأمران به فإن بلوغ ذروة الصلاح وكمال في
الدنيا والآخرة في طاعتهما وطاعة أولي الأمر من قبلهما. ففي ذيل بعض الروايات التي
في الكافي عن الصادق عليهالسلام : والله ما هلك من هلك حتى يقوم قائمنا ، إلّا في ترك
ولايتنا وجحود حقّنا. وما خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله من الدنيا حتى ألزم رقاب هذه الأمة حقّنا. فاحذروا (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم وانصرفتم عن ذلك وتركتموه لا تضرّون إلا
أنفسكم (فَاعْلَمُوا أَنَّما
عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فاعرفوا جيدا أن رسولنا محمد (ص) ليس عليه إلّا الدعوة إلى
الدين وتعريف الناس ما يرضي رب العالمين ، وإيضاح المحجة البيضاء التي تجعلهم
يسلكون الصراط المستقيم.
٩٣ ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ....) يعني ليس على المؤمنين الصالحين مؤاخذة أو إثم (فِيما طَعِمُوا) أي : أكلوا وشربوا ، من
طعم الشيء أي ذاقه
، وهو يشمل الأكل والشرب. وقيل في شأن نزول هذه الآية الشريفة ، أنه لما نزل تحريم
الخمر قال الصحابة : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وكانوا يشربون الخمر
ويأكلون ما يحصّلون من الميسر وغيره ، فنزلت : ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا (إِذا مَا اتَّقَوْا) أي (عَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) في زمانهم ذاك ، وتجنّبوا اليوم الخمر والميسر وغيرهما من
المحرّمات. ففي أيام من ماتوا لم يكن قد نزل التحريم ، أما بعد النزول فما من إثم
على الذين آمنوا (ثُمَّ اتَّقَوْا) أي تجنّبوا ذلك (وَآمَنُوا) صدّقوا بما نزل من التحريم (ثُمَّ اتَّقَوْا) كررّها سبحانه لأهمية الأمر وخطر حرمة تلك المفاسد (وَأَحْسَنُوا) إلى أنفسهم وتقبّلوا أوامر ربّهم (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يفعلون الخير لأنفسهم ولغيرهم.
فقد اتفق فقهاؤنا
أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي. وحاصل الشريفة أنه لا إثم على من عمل عملا لم ينه
الشارع الأقدس عنه ، ثم نهى عنه فامتنع .. أما التقوى فهي على ثلاثة أوجه : التقوى
في الله ، وهي ترك بعض الحلال فضلا عن الشبهة وهي تقوى خاص الخاص .. والتقوى من
الله ، وهي ترك الشبهات فضلا عن الحرام ، وهي تقوى الخاص .. ثم التقوى من خوف
النار والعقاب ، وهي ترك الحرام ، وهي تقوى العام.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ
أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ
اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ
ذَوا عَدْلٍ
مِنْكُمْ
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))
٩٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ...) نزلت هذه الآية المباركة عام الحديبية وقد خاطب سبحانه بها
المؤمنين مؤكّدا في قوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ) أي يختبركم ويمتحنكم (بِشَيْءٍ مِنَ
الصَّيْدِ) كناية عن مطلق الصيد صغيرا أو كبيرا ، وقليلا أو كثيرا ،
ولكن لا بد أن يكون صيد برّ في الحديبية البعيدة عن البحر ، وأن يكون في الحرم حال
الإحرام (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِماحُكُمْ) تدليل على كثرة الصيد بحيث يمكن أخذه بغاية السهولة ، إذ
كان القريب يقنص بالأيدي ، والبعيد يؤخذ بالرمح. وعن الصادق عليهالسلام : حشر لرسول الله صلىاللهعليهوآله في عمرة الحديبية ، الوحوش ، حتى نالها أيديهم ورماحهم ..
ويقال إن الله
تعالى كثّر الصيد يومئذ كانت لإكرام الرسول (ص) ولاختبار المسلمين. وهذه الحالة
تشبه حال بني إسرائيل وحرمة صيد السمك عندهم يوم السبت مع أن الحيتان كانت بمرأى
منهم. والملاك في كلا الحالين واحد ، وهو تمييز الإنسان الطيّب من الخبيث ،
والمطيع من العاصي سرا وعلانية.
(لِيَعْلَمَ اللهُ
مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي : يعرف سبحانه من يخشاه فعلا
وبينه وبين نفسه
فيثيبه ويأجره على إتّباع أمره (فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) أي تجاوز الحكم بعد نزوله ولم يعمل به (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع يكون مما شق من شدائد يوم القيامة والعياذ بالله
منها.
٩٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...) أي : لا تصطادوا في حال الإحرام. وحرم : جمع حرام بمعنى
محرم. وعن الصادق عليهالسلام : كلّ ما أخاف المحرم على نفسه من السّباع والحيّات
فليقتله ، وإن لم يردك فلا ترده (وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) أي عن قصد وعمد وتصميم ، ومثله الناسي والمخطئ ، وقد ذكر
المتعمد لنزولها فيه. فمن فعل ذلك (فَجَزاءٌ) يفرض عليه جزاء فعله ، ويقدّم كما أمر الله ويكون (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي : يقدّر الجزاء ويحكم به مسلمان عادلان عارفان بالمثل
والمماثل في الخلقة بحسب ما عندنا ، لا المماثل بالقيمة كما قال أبو حنيفة.
وفي التهذيب عن
الصادق عليهالسلام في تفسيرها : في الظّبي شاة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي
النعامة جزور ، إلخ ...
وهذا الجزاء يؤخذ (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) بالغ الكعبة : صفة هديا. والمعنى أنه يساق كبقية الهدي
الذي يضحّى ، ويذبح في الحرم ويتصدّق به. وهو عندنا يذبح بفناء الكعبة ويتصدّق به
على المعترّ ، وبمنى يعطى كذلك وللحجاج. فالمصطاد يفعل ذلك (أَوْ) يعطي (كَفَّارَةٌ) أي صدقة. وذلك (طَعامُ مَساكِينَ) وكفارة : عطف على جزاء. وطعام : عطف بيان ، أي كفّروا
بإطعام مساكين بقيمة تساوي ثمن الهدي (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ) أي ما يساوي ذلك الطعام (صِياماً) فيصوم من لا يقدر على الإطعام ، عن إطعام كل مسكين يوما. وفي
الفقيه والقمي عن السجاد عليهالسلام في حديث الزهري : أتدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟
قال : لا أدري. قال عليهالسلام : يقوّم الصيد قيمة تفضّ تلك القيمة على البرّ ـ أي القمح
ـ ثم يكال ذلك البر أصواعا ، فيصوم لكل نصف صاع يوما
(لِيَذُوقَ وَبالَ
أَمْرِهِ) يعني أنه يتحمل ثقل فعله ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة
الإحرام ، أي ما نقض وخرّب من شعائر دينه (عَفَا اللهُ عَمَّا
سَلَفَ) أي سامح الذين فعلوا ذلك في الماضي ، أي قتلوا صيدا أول
مرة وتحمّلوا الجزاء (وَ) أما (مَنْ عادَ) واصطاد محرما مرة ثانية (فَيَنْتَقِمُ اللهُ
مِنْهُ) أي يجازيه جزاء تعدّ مقصود ، وعوض جزاء الصيد. والعبارة
تهديد وترهيب (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقامٍ) أي قوي منيع الجانب لا يعجزه شيء. وهو صاحب انتقام من
العاصين يعادل جرأتهم على مخالفة أمره. وفي الكافي عن إمامنا عليهالسلام في قوله عزوجل : (وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) ، قال : إن رجلا انطلق وهو محرم فأخذ ثعلبا فجعل يقرّب
النار إلى وجهه ، وجعل الثعلب يصيح من شدة ألم النار ويحدث من استه. وجعل أصحابه
ينهونه عما يصنع فأرسله بعد ذلك. فبين الرجل نائم إذ جاءت حية فدخلت في فيه ، فلم
تدعه حتى جعل يحدث كما أحدث الثعلب. ثم خلّت عنه. فهذا من انتقامه تعالى ، وقد
ذكرنا الرواية لتكون عبرة لأولى الأبصار.
٩٦ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعامُهُ ..) الضمير في : طعامه ، عائد للبحر ، وقد ذكر سبحانه طعام
البحر لأن في البحر ، غير الصيد مما يؤكل ولكنه غير طعام محلّل. فما أحلّه تعالى
من صيد البحر ، جعله (مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي طعاما تستمتعون به وتلتذّون أنتم والسّيارة : أي
المسافرون غير المحرمين (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي في حال إحرامكم. ومدة إحرامكم. وقد قال الصادق عليهالسلام : لا تستحلّ شيئا من الصيد ـ أي البرّي ـ وأنت حرام ، ولا
أنت حلال في الحرم. ولا تدلّن عليه محرما ولا محلّا فيصطاده ، ولا تشر إليه
فيستحلّ من أجلك فإن فيه فداء لمن تعمّده (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فلا بد للإنسان من طلب مرضاة ربه إذ ليس للإنسان إلّا ما
سعى حين يحشر يوم القيامة ويبعث حيّا كما كان ، ويجمع مع غيره للحساب. فحصّلوا
الزاد ليوم المعاد ، والطريق بعيد بعيد ، والزاد قليل قليل بالنسبة إلى ما في
الآخرة من نعيم.
والتقوى التي
عناها سبحانه في ذيل هذه الشريفة هي الزاد للآخرة ، وخير الزاد التقوى في كل حال
..
* * *
(جَعَلَ اللهُ
الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ
وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ
إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ
يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))
٩٧ ـ (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ..) سمّيت الكعبة بهذا الاسم لأنها قريبة الشكل من الجسم
المكعّب الذي يتساوى طوله وعرضه وارتفاعه ، ودعاها الله البيت الحرام لشرافتها
وحرمتها عند الله تعالى وعند كل مسلم ومسلمة ومؤمن بالله ومؤمنة ، ولجهات أخر لسنا
في مقام ذكرها. والبيت الحرام : عطف بيان في مقام المدح. وقياما للناس : أي يقيمون
عندها شعائر دينهم كحجهم وعمرتهم وغيرهما من عباداتهم وأضحياتهم وصلواتهم
وأدعيتهم. وجعلها سبحانه وما حولها حرما آمنا لمن دخله في حجّ أو تجارة أو ما سوى
ذلك. وقرئ : قيما بلا ألف مصدر قام. (وَالشَّهْرَ
الْحَرامَ) أي الأشهر الحرم الأربعة لأن : أل ، للجنس ، كذلك جعلها
محرّمة
فيها بعض الأمور
كالقتال وغيره (وَالْهَدْيَ
وَالْقَلائِدَ) وهو ما يهدى إلى الكعبة أعزها الله ويقلّد بالعلامات ، وقد
ذكرنا ذلك مفصلا في أوائل هذه السورة المباركة ، جعلها أيضا أمورا تعبدية وحرّم
فيها أشياء (ذلِكَ) أي : كل هذا الجعل (لِتَعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : لتعرفوا أنه تعالى عالم بجميع ما كوّنه وأجراه بقدرته من
الذرّة إلى الدرّة علويّا وسفليّا ، ولتعرفوا أيضا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا تخفى عليه خافية لأنه يعلم وساوس الصدور وما يجول في
الأفكار.
ولن يفوتنا أن
نذكر أن هذه الآية المباركة والتي تليها تشتملان على علوم ثلاثة بالنسبة إلى ذاته
المقدّسة.
الأول : أنه يعلم
ما في السماوات والأرض ، أي أنه يعلم بذوات المكوّنات من حيث أجناسهم وفصائلهم
وأعدادهم وكل ما يختص بهم مما خلقه فيهم ، مما يرى بالعين وما لا يرى لغاية
لطافته.
والثاني : أنه
يعلم أسرار خلقه ، وحكمته التي لا يعلمها غيره كالروح والنفس والأعمال الفكرية وما
سواها ممّا عرّفنا عن شيء سطحيّ منها رسله وأنبياؤه وهداة خلقه ، فلا علم لأحد
بحكمة إيجاد الممكنات ولا بعلة خلق الموجودات ، والله تعالى ليس له شريك في ذلك
ولذا قال تعالى : (بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ) ، بصيغة المبالغة كناية عن صعوبة علم ذلك ، وصعوبة أفراده
لأن أفراد الموجودات لا يحصيها غيره تبارك وتعالى.
والثالث : هو
العلم بما في ضمائرهم سواء أظهروا ذلك أم أخفوه. فإنه تعالى عالم بما في صدورهم وبما يجول في أنفسهم ويدور
في خواطرهم. فسبحان من وسع كل شيء علما ..
٩٨ ـ (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ ..) أي : قوي العذاب يجازي أشد جزاء لمن يستحق فاعرفوا ذلك
جيدا (وَ) أعلموا أيضا (أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) أي متجاوز عن السيئات وكثير التجاوز ، لأن غفور على وزن :
فعول الدال على الكثرة ، وهو رحيم واسع الرحمة لعباده. وإن تعقيب : شديد العقاب ،
بغفور رحيم ، بشارة بأن برد رحمته يخمد نار غضبه ، ويطفئ لهيب جحيمه ويخفف من سخطه
سبحانه. وفي كتاب التوحيد عن الصادق عليهالسلام ، عن آبائه سلام الله عليهم ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، عن جبرائيل ، سلام الله عليه ، قال : قال الله تعالى :
من أذنب ذنبا ، صغيرا كان أو كبيرا ، وهو يعلم أن لي أن أعذبه وأن أعفو عنه ، عفوت
عنه .. فالحمد لله على عفوه بعد غضبه ، ونسأله رحمته الواسعة.
٩٩ ـ (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
..) أي ليس عليه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، سوى أنه
بلغ رسالة ربه للناس ، وقبولهم وعدمه ليس عليه لأنه أمرهم بأيديهم ، وما هو تحت
قدرته ولا قدرة أحد سوى الله سبحانه الذي قال : ولو شاء الله لهدى الناس جميعا .. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما
تَكْتُمُونَ) أي : ما تظهرونه من قول أو عمل ، وما تسرونه من ذلك. فهذا
علم مختصّ بذاته المقدسة كما بيّنا منذ سطور.
وحاصل الآية
المباركة أن الأنبياء والرّسل ينحصر تكليفهم في القيام بإبلاغ ما أرسلوا به إلى
الناس من ربهم. أما تأثير الدعوة في الناس فأمر بيد الله وحده جلّ وعلا ، وهو
توفيق يشمل البعض دون البعض الآخر.
أما السؤال عن سبب
شمول ذلك التوفيق لبعض دون بعض يقول : لماذا؟ ولم؟ وبم؟ وكيف كان ذلك؟ .. فجوابه
الإجمالي أن هذا قد تمّ بمقتضى الأمر بين الأمرين ، فلا جبر في الهداية كما هو
منطوق الآية التي أوردناها سابقا ، لأن الهداية الجبريّة لا اعتبار لها عند أحد
ولا عند الله تعالى إذ تقتضي أن يجبر الله العبد على الذنب ثم يعاقبه عليه ، كما
يجبره
على الهدى ويثيبه
عليه دون استحقاق ، والموضوعان خلاف عدل الله تعالى .. كما أنه لا تفويض كما هو
شأن الحيوانات والوحوش البرّية حيث لا تكليف عليهم ولا مؤاخذة ، فهم أحرار يأكل
قويّهم ضعيفهم ، وتسيطر عليهم شريعة الغاب.
فالله سبحانه قد
أتمّ الحجة على البشر بإرسال الرّسل ، وإنزال الكتب ، ووضع السنن الكريمة لتمامية
الحجة البالغة ..
١٠٠ ـ (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ
وَالطَّيِّبُ ..) أي أبلغهم يا محمد أنه لا يتساوى الحرام والحلال ، ولا
العمل الصالح مع العمل الطالح (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها الإنسان المخاطب (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) بين الناس ، فإنّ قليل الطيّب خير من كثير الخبيث مهما بلغ
انصراف الناس إلى الشهوات والمعاصي ، فالعبرة بجودة الشيء أو رداءته ، لا بالكثرة
ولا بالقلة .. ولو تعمّق الإنسان في النظر بما حوله ، لوجد أن الخبيث بين الناس
أكثر من الطيّب بمراتب مع أن الإنسان من أشرف الموجودات ، ومن المؤسف أن يتنزّل
إلى هذا الدرك من الانحطاط ، ويحمل المتأمل على العجب من ترامي الأكثرية الساحقة
في بؤرة الفساد (فَاتَّقُوا اللهَ) وتجنّبوا سخطه (يا أُولِي
الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول الكاملة (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي : طمعا بأن تكونوا من المفلحين الناجحين.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ
عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها
قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))
١٠١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ..) الأصل في لفظة : أشياء ، عند الخليل وسيبويه ، شيئاء ، أي
على وزن فعلاء من مادة شيء. وهمزتها الثانية للتأنيث ، وهي مفردة في اللفظ ومعناها
الجمع ، مثل : قصباء ، وطرفاء ، ولأجل همزة التأنيث منعت من الصرف. ثم إن الهمزة
الأولى التي هي لام الفعل ، قدّمت فجعلت قبل الشين ـ أشياء ـ كراهة وجود جمع
الهمزتين اللّتين بينما ألف ، فصارت : أشياء. وهي اسم جمع انقلب وزنه إلى لفعاء
بدل فعلاء .. فيا أيها المؤمنون لا تسألوا الرسول عن أشياء مسكوت عنها ، وهي (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) أي إذا بينها لكم وأوضحها (تَسُؤْكُمْ) يعني تغمّكم ولا ينفعكم إظهارها لكم. والجملة الشرطية صفة
لأشياء (وَإِنْ تَسْئَلُوا
عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) كناية عن عصر الرسول (ص) وأثناء حياته الكريمة الشريفة
المباركة. فلو سألتم عنها حينئذ (تُبْدَ لَكُمْ) أي تظهر ، مع أنها تسوؤكم على كل حال (عَفَا اللهُ عَنْها) أي تجاوز عمّا سلف فلا تعودوا إليه. ففي المجمع عن أمير
المؤمنين عليهالسلام ، قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : إن الله كتب عليكم الحج ، فقال عكاشة بن محصن :
يا رسول الله في كل عام؟ فأعرض عنه حتى عاد مرّتين أو ثلاثا فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ويحك ، ما يؤمّنك أن أقول : نعم؟ فو الله لو قلت نعم
لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتم كفرتم. فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من
كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما
استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
وقيل في شأن نزول
هذه الآية المباركة ـ كما في القمي عن الباقر عليهالسلام ـ أن صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها ، فأقبلت فقال لها
عمر : قطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئا. فقالت له : هل رأيت قرطا
يا عمر؟ .. ثم دخلت على رسول الله (ص) فأخبرته بذلك وبكت. فخرج رسول الله (ص)
فنادى : الصلاة جامعة. فاجتمع الناس.
فقال (ص) : ما بال
قوم يزعمون أن قرابتي لا تنفع؟ لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم. لا
يسألني اليوم أحد من أبوه إلّا أخبرته. فقام إليه رجل فقال : من أبي يا رسول الله؟
فقال : أبوك غير الذي تدعى إليه. أبوك فلان بن فلان. فقام آخر فقال : من أبي يا
رسول الله؟ فقال : أبوك الذي تدعى إليه. ثم قال رسول الله (ص) : ما بال الذي يقول
قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟ فقام إليه عمر فقال له : أعوذ بالله يا رسول
الله من غضب الله وغضب رسول الله. أعف عني عفا الله عنك. فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ..) إلى قوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) أي : كثير المسامحة وترك العقوبة. يحلم عند الغضب ويرحم
الخاطئين.
١٠٢ ـ (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ
..) أي سألوا عن تلك الأشياء التي لا يجوز إظهارها لأنها تسيء
للسامعين والسائلين ، فهي من مخزون علم الله جلّ وعلا ، والضمير في : سألها ، عائد
للأشياء المسكوت عنها من لدن الله والعالمين بها (ثُمَ) إن الذين سألوها (أَصْبَحُوا) أي صاروا (بِها كافِرِينَ) منكرين لها إذ لم يكن لهم صلاح في تفصيلها وبيانها ، وقد
أوقعتم معرفتها في مشاكل لم يتحمّلوها ، كمثل الذين سألوا موسى عليهالسلام قائلين : أرنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وحلّ بهم
العذاب بظلمهم. ومثل الذين سألوا النبيّ (ص) ـ كما ذكرنا ـ فكان جوابه لهم مرة بلا
ومرة بنعم فلم يتحمّلوا كلامه (ص) .. لهذا ، نهى سبحانه عن المسائل التي لم يبينها
للناس لأنها ليست محلّ ابتلائهم ولا افترض معرفتها عليهم ، ولا كلّفهم بحصحصتها.
(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا
حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))
١٠٣ ـ (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا
سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ ..) كلمة : من ، زائدة ، وقد جيء بها لتزيين الكلام. والبحيرة
هي النّاقة التي شقت أذنها. وكان من دأب الجاهليين أن الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن
ـ وقيل عشرة ـ وكان الأخير ذكرا ، يشقّون أذنها ويدعونها بحيث لا ينتفع أحد من
لبنها ولا ركوبها ولا حمل شيء عليها حتى من قبل صاحبها. أما السائبة فكان الرجل
منهم يقول : إن قدمت من سفر أو ربحت من تجارة فناقتي سائبة ويتركها سائبة وتحرّم
منافعها كالبحيرة. والوصيلة هي أنه إذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا
كان لإلاههم ، وإن ولدتهما معا لم يذبحوا الذكر إذ وصلته أخته .. فهذه كلها أشياء
جعلوها شططا ، وما أقرّها الله ولا جعل من (حامٍ) أي فحل إذا أنتج عشرة أبطن حرموا ظهره وقالوا : حمى ظهره
وترك فلا يمنع من ماء ولا مرعى ..
وبالجملة ، هذه من
جعولات العصور الجاهلية ومفتريات المخرّفين والوثنيين ، وما جعل الله تعالى في
الدين شيئا منها (وَلكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وافتراؤهم هو كذبهم بنسبة تحريم الأمور المذكورة في صدر
الآية الكريمة إليه سبحانه ، إذ قالوا : ما حرّمناها إلّا بتحريم منه تعالى ، وهذا
هو الكذب والزور من قوم كافرين (وَأَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) لأنهم لم يفكّروا بل قلّدوا بذلك كبراءهم لعدم تعقّلهم.
١٠٤ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما
أَنْزَلَ اللهُ ..) يعني أن هؤلاء الكفرة المفترين لو دعوا إلى معرفة ما أمر
الله تعالى به وما نهى عنه لمعرفة معالم الدين الصحيح (قالُوا حَسْبُنا) أي يكفينا من عقائد ومحللات
ومحرّمات (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي ما رأينا آباءنا يفعلونه. فما بالهم ـ قاتلهم الله ـ يتابعون
آباءهم؟ فقد استهزأ سبحانه منهم وتعجب قائلا : (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) يعني أنهم يقلّدون آباءهم حتى ولو كان آباؤهم جهلة متوغلين
في الضلالة والغواية؟ وإنّ ذمّه سبحانه لآبائهم هذا الذمّ المستهزئ بعدم علمهم
وعدم اهتدائهم يكفي في ردّهم وردعهم لو كانوا يعقلون.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (١٠٥))
١٠٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ..) أنفسكم نصبت بكلمة : عليكم التي هي هنا : اسم فعل ، بمعنى
: الزموا ، وهو يعمل عمل فعله فيما لا بدّ منه. فالله جلّت قدرته له عناية خاصة
بالمؤمنين ، وهو هنا يأمرهم مرشدا إياهم إلى الاهتمام بأنفسهم قبل أي أحد في مجال
هدايتها وإصلاح شأنها وجعلها في مستوى رضاه سبحانه وتعالى ، وقال لهم : (لا يَضُرُّكُمْ) أي لا يؤذيكم في دنياكم ولا آخرتكم (مَنْ ضَلَ) أي ضاع عن الحق (إِذَا) أنتم (اهْتَدَيْتُمْ) وسرتم في طريق الصلاح. ذلك أن على المرء أن يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر كما أوجب الله تعالى ، فإن أثر أمره ووعظه فذلك هو المطلوب ،
وإلّا فقد أدّى ما عليه ، ولا يضرّه ضلال من ضلّ واستحوذ عليه الشيطان ، لأن
المأمور هو المسؤول عن ضلاله وعماه عن الحق. وفي هذا تسهيل من الله تبارك وتعالى ،
وعناية يشمل بهما الآمر بالمعروف فلا يحمّله مسئولية غير نفسه.
فالآمر بالمعروف
لا يترك مهما أمكن ـ على ما يستفاد من مضمون الآية ـ ولو لا ذلك لما أشار سبحانه
إلى من لا يمتثل ويبقى على الضلالة. فالعارف مطلوب به في حال الإمكان ، ولكن قيل
بأنها تدل على عدم الوجوب لأن ظاهر قوله تعالى أن كل شخص عليه أن يكون ملزما بنفسه
فقط ، ولا يتحمّل أمر غيره البتة. ولكن لا يفوتنا التنبيه إلى أن كلمة : أنفسكم ـ في
مجال خطاب المؤمنين عامة ـ تعني : أهل دينكم ، أي نفوس من هم منكم ، وذلك كقوله
تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) ، لأن الإنسان لا يقتل نفسه بنفسه عادة حتى ينهى عن ذلك.
فالمراد هنا هو أهل الدين : فلا يقتل بعضكم بعضا. والأخ في الدين كنفس الإنسان على
كل حال ، ولذلك وجب أن يرشد الأخ أخاه في الدين.
فلا تأسوا ـ أيها
المؤمنون ـ ولا تحزنوا لعدم إيمان الآخرين ، ففي يوم القيامة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم (جَمِيعاً) يحييكم ويبعثكم للحياة بعد موتكم ، كلكم (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) في دنياكم ، ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ، ومن يعمل
مثقال ذرّة شرا يره.
* * *
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ
الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ
أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى
أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ
شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ (١٠٨))
١٠٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ
بَيْنِكُمْ ..) شهادة : مبتدأ ، وخبره : اثنان. والتقدير : شهادة بينكم
شهادة اثنين. والبين : هو الفراق ، ويعني به هنا سبحانه فراق الدنيا. والإشهاد
الذي شرعه لكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ) أي إذا بدت أماراته وعلاماته (حِينَ الْوَصِيَّةِ) التي لا بد أن توصوا بها فليشهد على الوصية (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي اثنان موثوقان عدلان منكم أي من أقاربكم أو جيرانكم
الجامعين لصفات العدل (أَوْ آخَرانِ مِنْ
غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب أو أهل الذمة عند الضرورة ، وفي غير الضرورة
لا يجوز عند أكثر الشيعة الإمامية ، ولا بد أن يكونا أمينين صادقين مصدّقين عند
المسلمين وعند أهل مذهبهم. فهذان لا مانع من إشهادهما عند الوصية (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في طلب الرزق وتركتم بلادكم وأهل ملّتكم (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي جاء أجلكم وحلّ بكم الموت ولم يكن معكم رجلان عدلان من
المسلمين. وهذان الشاهدان الأجنبيّان عن ملّتكم (تَحْبِسُونَهُما مِنْ
بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر العامة التي يقوم بها المسلمون (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (بِاللهِ) العظيم (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي ارتاب الوارث ، وظننتم عدم صدقهما وشككتم بشهادتهما ،
يحلفان أننا (لا نَشْتَرِي بِهِ
ثَمَناً) به : أي بتحريف شهادتنا ، أو أننا لا نستبدل بالقسم بالله
عوضا ولا نرجو نفعا (وَلَوْ كانَ ذا
قُرْبى)
أي : ولو كان من نقسم
له قريبا منّا (وَلا نَكْتُمُ
شَهادَةَ اللهِ) أي ولا نخفي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها على وجهها
الصحيح (إِنَّا إِذاً) أي : إننا لو فعلنا ذلك (لَمِنَ الْآثِمِينَ) المذنبين.
١٠٧ ـ (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا
اسْتَحَقَّا إِثْماً ..) أي فإن اطّلع مطّلع على كونهما آثمين خائنين في أداء
شهادتهما ـ والكلام عن الشاهدين من غير أهل الدين ـ (فَآخَرانِ يَقُومانِ
مَقامَهُما) أي : فشاهدان آخران يقومان مقامهما باليمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْأَوْلَيانِ) أي من الذين استحق عليهم الإثم وجني عليهم وهم أهل الميت
وعشيرته. والأوليان : هما الأحقّان بالشهادة (فَيُقْسِمانِ) يحلفان (بِاللهِ لَشَهادَتُنا
أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي أصدق (وَمَا اعْتَدَيْنا) ما تجاوزنا الحق بذلك ، ولو فعلنا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسنا ولغيرنا بجعل الباطل حقّا والحق باطلا.
وحاصل المعنى :
يجب أن يشهد المحتضر عدلان من أهل دينه يسمعان وصيته ، وإن كان في سفر ونحوه ولم
يكن أحد من أهل دينه فاثنان من غير أهل دينه معروفان بالصدق ، فإذا ارتاب الوارث
بشهادتهما يحلّفهما بعد صلاة المسلمين الجامعة ، وإذا نسب لهما خيانة أو اطّلع على
تبديل يحلف عليه ، والأمر للحاكم العارف بالموازين ، والله أعلم.
وبشأن نزول هذه
الآية الشريفة ، قيل إن مسلما خرج مع نصرانيّين في تجارة ، فمرض وكتب وصية ودسّها
في متاعه وقال : أبلغاه أهلي ، ومات. ففتّشا متاعه وأخذا منه إناء فضة منقوشا
بالذهب. وسلمّا متاعه إلى أهله ففتّشوه فوجدوا الوصية فيه. فطالبوهما بالإناء
المذّهب فأنكرا. فترافعوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فنزل القسم الأول من الآية. فأحضرهما بعد صلاة العصر
وأحلفهما على براءتهما ثم وجد الإناء عندهما فادّعيا أنهما ابتاعاه منه ولا بيّنة
لهما ، فرفعوهما إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فنزل القسم الأخير ، فأحلف (ص) رجلين من أولياء الميت.
١٠٨ ـ (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا
بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها ..) ذلك : أي
الحكم المذكور في
الآية السابقة ، أدنى : أقرب إلى أن تكون الشهادة على وجهها الحقيقي الذي لا تحتملون
فيه التحريف أو التغيير أو الخيانة (أَوْ يَخافُوا) يعني يخاف المقسمان (أَنْ تُرَدَّ
أَيْمانٌ) فتصبح الأيمان مطلوبة من الورثة (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فيحلف الورثة على كذب الشاهدين فيفتضح أمرهما بظهور
الخيانة واليمين الكاذبة (وَاتَّقُوا اللهَ
وَاسْمَعُوا) قوله وما أمركم به (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الذين يخرجون عن أمر الله وطاعته ويتّبعون الباطل.
والحاصل أن الوصية
تكون على ثلاثة وجوه بحسب النصوص الثلاثة الواردة في الآيتين الكريمتين :
الأول : إذا أحسّ
قرب موته وأراد أن يوصي بما عليه وما له فليستحضر اثنين عدلين من المسلمين يشهدهما
على وصيته التي يبين فيها حقوق الله تعالى وحقوق الناس ، فيكون الشاهدان سامعين
للوصية فيما لو ضاعت أو أتلفت ، وأصل الوصية سنّة.
والثاني : أنه إذا
سافر من بلده إلى بلد آخر ومرض وأصابته علائم الموت ، فإذا لم يكن معه مسلمين ،
يجوز له أن يختار من أهل الكتاب رجلين موثقين بحسب ملّتهما حتى ولو كانا مجوسيّين فقد
قال الصادق عليهالسلام : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية. وإذا مات المسلم
يكون هذان الشاهدان إمّا محل ثقة الورثة فينتهي الأمر ، وإما محل ريبة فيحلّفونهما
أمام جماعة المسلمين بعد صلاة العصر أو يوم جمعة لأن الشارع الأقدس اختصّ هذه
الأوقات لوجود أكثر الناس فيمتنع الشاهدان عن الكذب وينزّهان النفس عن اليمين
الكاذبة.
والثالث : أنه إذا
شك أهل الميت وورثته بصدق الشاهدين الأجنبيّين عن الدين ، وظنّا أنهما استحقّا
إثما ، يقوم اثنان من أهل الميت وورثته فيحلفان بالله أنهما أصدق من المتّهمين ..
ومن أراد التفصيل وزيادة
الوضوح فليرجع إلى
الكتب الفقهية فقد اقتصرنا على إجمال باب الوصية بغاية الاختصار.
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ
عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها
فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ
إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))
١٠٩ ـ (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ
فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ..) لفظة : يوم ، منصوبة على أنها ظرف ، ونصبها بما يتعلق
بالظرف ، وهو : اتّقوا يوم ، أو : أذكر يوم. وذلك يوم القيامة حيث يجمع سبحانه
جميع رسله إلى البشر
ليكونوا شهداء على
أممهم ، ويسألهم بماذا أجابتكم أممكم وكيف تلقّت رسالات ربها؟ وماذا : تعتبر كلمة
مفردة معناها : أي شيء. والجارّ ـ وهو حرف الباء ـ مقدّر ، أي : بماذا أجبتم؟ (قالُوا) أي : فقال الرّسل الكرام تشكّيا مؤدّبا وردا للجواب إلى
علمه سبحانه لأنه مطّلع على ما بدا من جميع الأمم تجاه الرّسل ـ قالوا : (لا عِلْمَ لَنا) أي : لا علم لنا أحسن وأولى بالدقة من علمك لأنك تعلم
السرائر وما تخفي الصدور. فهم صلوات الله وسلامه عليهم يعلمون يقينا ، ولكنهم
قدّموا علمه الشامل على علمهم وزادوا بقولهم : (إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي أنك تعلم ما في الضمائر ونحن لا نعلم إلّا الظواهر ،
فأين علمنا من علمك ، وإنه ليس بشيء في جانبه ، فلا حاجة لشهادتنا.
وهذه المباركة
بمنزلة الإعلان الذي ينبّه البشر عامة إلى كونهم مسئولين يوم القيامة عمّا بدر
منهم ، حتى أن رسل الله تعالى يقفون بين يديه تعالى في ذلك اليوم ، فنعوذ بالله من
شرّ ذلك اليوم وأهواله ..
ويمكن أن يكون
قولهم عليهم الصلاة والسلام : لا علم لنا ، كناية عن استكثار الأجوبة بحيث أنهم لا
علم لهم بعدّها وإحصائها ، والله تعالى أعلم بها منهم ، لأن من يعلم الغيوب لا
تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ويعلم ما هو في مقدورهم وما هو فوق
مقدورهم .. كما أنه يحتمل أن تكون للأمم جملة أجوبة ومعاذير ، منها ما يعلمها
الرّسل ، ومنها ما كانت تكنّه الأمم وتخفيه ، فهم ـ إذا ـ لا يعلمون كل شيء
بالتفصيل ولا يطّلعون على محصّلات الصدور ، فقولهم : لا علم لنا ، أي بكل الأجوبة
وصدقها وكذبها .. والله أعلم.
١١٠ ـ (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي ..) لماذا اختصّ سبحانه وتعالى عيسى من بين جماعة الأنبياء
صلوات الله عليهم بالذكر ، واستفرده من الرسل للتحقيق والسؤال؟ ..
ذكروا في تعليل
ذلك أشياء : منها أنه كان واجدا لأمور محبوبة عند الله
تعالى ، إذا لم
يعتن بالدنيا طيلة عمره ولم يضع لبنة على لبنة ، ولم يتّخذ لنفسه ولا لأمّه بيتا
مع حاجة الإنسان إلى مسكن لأنه مدنيّ بالطبع. وهو لا أب له ، ولا زوجة ، ولا ولد ،
وكان يشبع يوما ويجوع أياما ، وقوته من نبات الأرض وشربه من مياه الغدران تواضعا
لله تعالى. ولذا كان محبوبا من الله سبحانه وهو الذي وهبه هذه النّعم المحبّبة
إليه ، فأورد ذكره ـ خاصة ـ دون غيره في هذه الآية وما يليها ، ليطلع رسوله الكريم
محمدا صلىاللهعليهوآله أنه تعالى هكذا يفعل يوم القيامة ويقول : يا عيسى اذكر
للناس نعمي الجزيلة (عَلَيْكَ وَعَلى
والِدَتِكَ) التي جبلها على هذه الطبيعة الشريفة من التبتّل والعفة
والزهد والعبادة ، وبما وهب لها من نعمة كالمسيح عليهالسلام الذي تكلم في المهد وكان نبيّا يفعل العجائب ويخترق
المعجزات. فأثبت بذلك براءة أمه سلام الله عليها وعليه ، وعفتّها وشريف مقامها ،
ومنحها سبحانه وولدها فضائل لا تعد ولا تحصى ولذا يذكّر ، تعالى بذلك كله ويقول له
: اذكر ـ مع ذلك كله ـ (إِذْ أَيَّدْتُكَ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني جبرائيل عليهالسلام (تُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ) أي تحكي وأنت طفل حين ولادتك (وَكَهْلاً) أي وقت أشد البلوغ حيث أبقيتك مؤيّدا دائما (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) الكتاب : أي الكتابة دون أن تتعلّمها من أحد ، والحكمة :
أي الكلام المحكم ، وجعلتك عارفا بكتب الله السماوية كالتوراة والإنجيل اللذين
تحاجّ بهما اليهود. ولا يخفى أن الكتاب جاء لمعان كثيرة بعضها يناسب المقام دون
بعض. ومما يناسب حمله عليه هو صحائف الأعمال التي تعليمها مهم كأهمية تعليمه
التوراة والإنجيل. وعن الصادق عليهالسلام : الكتاب الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كل شيء ، وهو الذي
كان مع الأنبياء. فاذكر يا عيسى هذه النعم (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي) أي : حين تصوّر من الطين ـ التراب المجبول بالماء ـ هيئة
طير بإجازة مني ، ثم تنفخ في تلك الصورة التي شكّلتها فتصير طيرا ذا روح بأمري
وإجازتي وقدرتي ، فاجعلها قادرة على الطيران في جو السماء (وَتُبْرِئُ) تشفي (الْأَكْمَهَ) الأعمى الذي ولد من أمه كذلك ، وتشفي (الْأَبْرَصَ)
المريض المبتلى
بالبرص الذي يظهر بياضا في بشرة الإنسان وسائر جسمه ويسبّب حكّا مؤلما ، وهو من
أخطر الأمراض وأصعبها شفاء ، فتفعل ذلك كلّه (بِإِذْنِي) ورخصتي (وَإِذْ تُخْرِجُ
الْمَوْتى بِإِذْنِي) أي تدعوهم فيقومون من قبورهم ويخرجون منها إجابة لك بإذن
الله وقدرته ومشيئته.
ولا بد لنا من
التنبيه على أمر علميّ هامّ جاء في أربعة موارد من موارد تعداد نعمه تعالت قدرته
على نبيّه عيسى عليهالسلام ، حيث ذكر أمورا فعلها عيسى (ع) ثم أسندها توفيقه فيها إلى
ذاته المقدسة فقال : تخلق كهيئة الطير بإذني ... فتكون طيرا بإذني .... وتبرئ
المرضى بإذني .... وتخرج الموتى بإذني. فمثل هذه الأمور الخارقة لا تصدر إلّا عن
الله عزوجل ، ولذا أسندها إلى ذاته المقدّسة المتعالية كيلا يقال
بألوهية عيسى عليهالسلام. وقد صرّح سبحانه بها في قرآننا الكريم مكرّرة ليسدّ باب
احتجاج من ألّهوه ، بقرآننا العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
.. فإسناد هذه الخوارق إليه تعالى يقطع جهيزة كل خطيب ، ويجعله يعدّ هذه الخوارق
من نعم الله تعالى على عيسى بن مريم عليهماالسلام التي يتابع تعدادها سبحانه بقوله : (وَإِذْ كَفَفْتُ) أي منعت وحجزت (بَنِي إِسْرائِيلَ
عَنْكَ) فحجبتك عن اليهود لمّا أرادوا قتلك (إِذْ) حين (جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وأظهرت لهم البراهين الحجج القاطعة الدالّة على نبوّتك
ورسالتك من الله (فَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) من اليهود الكفرة المعاندين (إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) ليس هذا سوى سحر واضح لا يحتاج إلى جدال.
١١١ ـ (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا ...) أوحيت ، يعني : ألهمت إلهاما ، وقد قال سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) ، أي : ألهمناها وألقينا في قلبها. ومثله قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) : أي : وحي إلهام بلا كلام .. وهذا من باب عناية الله
تعالى بأنبيائه عليهمالسلام فقد ألهم الحواريين أن صدّقوا (بِي وَبِرَسُولِي) وآمنوا بربوبيّتي وبرسالته وبكونه نبيّا (قالُوا) وهم الحواريون : (آمَنَّا) صدّقنا بما أمرتنا به (وَاشْهَدْ)
علينا (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي : مسلّمون ومنقادون لأمرك ، وأنت خير الشاهدين.
وفي العياشي عن الباقر
عليهالسلام في قول الله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوارِيِّينَ) ، أي : ألهموا ... والحواريون كانوا اثني عشر رجلا من خواص
أصحاب عيسى عليهالسلام ، وكانوا لا يفارقونه ليلا ولا نهارا. واسمهم هذا يطلق على
أخصّاء كل نبي وكل رسول.
* * *
(إِذْ قالَ
الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ
يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ
نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا
وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ
لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي
مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ
عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))
١١٢ ـ (قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ..) أي خاطبه سلام الله عليه حواريّوه قائلين : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) أي : هل يقدر (أَنْ يُنَزِّلَ
عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي طعاما وشرابا مهيأ من عنده.
ويمكن أن يكون
المراد بالاستطاعة القوّة أو القدرة التي قاسوها بقدرة البشر أو استطاعتهم أو أنها
فوق ذلك لتعلّقها بالله تعالى وهي فيه سبحانه أشد وأقوى. وإنّ فهم الناس وإدراكهم
في ذلك العصر المعاند للأنبياء والرسل لا يقتضي أكثر من قولهم هذا. وقد قيل إن هذه
الأسئلة من الحواريين كانت في أوائل عهد إيمانهم وبدء ملازمتهم لعيسى عليهالسلام ، وقبل أن تستحكم معرفتهم بالله عزوجل. ولذلك أساؤا الأدب مع الله تعالى ومع نبيّه في قولهم : هل
يستطيع ربك .. فهذا لسان إساءة عند أهل الأدب والفصاحة لأنه يدل على التحدي نوعا
ما. بل البلاغة والأدب كانا يقتضيان أن لا يقولوا له : يا عيسى بن مريم ، بل يا
نبيّ الله أو يا روح الله ، أو يا رسول الله بدلا من نسبته إلى أمه. فالتعبير الذي
أثبته الله سبحانه في هذه الآية بسائر أجزائها يدل على أنه سجّل عليهم شدة في خطاب
نبيّهم بدليل قول نبيّهم عليهالسلام : اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين. وعيسى عليهالسلام من أولي العزم وما كان ينبغي أن يخاطب بهذه اللهجة ولا أن
يجيب بهذه القساوة لو لا ما ذكرناه في أعلاه ، ولو لا أن بين الحواريين من يشك في
إيمانه وإخلاصه كما تصرّح الآيات الأخرى الواردة في موضوع الحواريين رضوان الله
عليهم.
والحاصل أن هذه
التعابير تكشف عن قصور الإيمان ، أو قصور الفهم لمعاني الربوبية والنبوّة ، أو
العناد من مؤمنين هم في أولى مراتب إيمانهم وأول عهد تديّنهم. والأولى بنا أن نحمل
معنى الاستطاعة المسؤول عنها هنا ، على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، أي أن سؤالهم
في الحقيقة أنه : هل تقتضي حكمة ربك النوعية ـ عقلا ـ أن ينزّل علينا مائدة من
السماء تكون إعجازا يظهر قدرة من هو على كل شيء قدير؟ ... وهذا الحمل هو أحسن ما
يرد لحفظ قداسة الحواريين .. ولذلك قد قرئت : هل تستطيع ربّك ، أي هل تقدر أنت على
سؤال ربك .. وجملة ينزّل في محل نصب بناء على كونها مفعولا به ليستطيع.
والمائدة : من ماد
يميد ، أي : تحرّك واضطرب ، وجاء بمعنى : أعطى. والمائدة هي خوان عليه طعام ، أي سفرة
أكل تامة ، فعند ما طلب الحواريون من عيسى (ع) أن ينزل عليهم مائدة طعام مرتبة على
خوانها (قالَ) لهم : (اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا من غضبه لهذا السؤال غير المناسب بشأنه تعالى ،
وتجنّبوا سخطه (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) ومصدقين به. وقد جاء هذا التحذير بلحاظ هذا السؤال الذي
طلبوا به إنزال مائدة للاختبار ، دون حاجة إلى مائدة وطعام. ولذا طلب روح الله عليهالسلام أن يتقوا الله إن كانوا مؤمنين بقدرته تعالى وبنبوّته ،
وأن يمتنعوا عن مثل هذا الطلب إن لم يكونوا شاكّين بربّه أو به. فأصرّوا على طلبهم
كما ترى فيما يلي :
١١٣ ـ (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ...) قال الحواريون ـ مصرّين ـ إن سؤالنا لرفع الحاجة لا
للامتحان حتى يقرح ذلك في إيماننا بالله تعالى أو في التصديق بنبوّتك ورسالتك ،
فإن الإنسان إذا اطمأنّ بوصول رزقه إليه بحيث لا ينقطع ، يسكن قلبه ويستريح من
ناحية هي أمّ نواحي حياته. ولذلك قالوا : نريد أن نأكل منها (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي ترتاح وتهدأ من هذه الناحية الحياتيّة. وهذا يزيد في
ترسيخ إيماننا عند مشاهدتها تنزل من السماء (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ
صَدَقْتَنا) أي يحصل لنا العلم بأنك صادق في رسالتك من عند رب العالمين
، بدليل سرعة استجابة دعائك في هذا الموضوع الذي اقترحناه (وَنَكُونَ عَلَيْها) أي على المائدة (مِنَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين الذين يرونها نازلة من السماء ، ويشهدون على ذلك
أمام من لم ير نزولها ولا أكل منها ، وتكون ـ هي ـ شاهدا لهم بوحدانية الله وقدرته
، وعلما من أعلام رسالتك.
فلمّا انتهى القوم
من تفصيل سبب طلبهم للمائدة ، واطمأنّ إلى صدق نيات حواريّيه وأنهم لا يريدون
الاختبار الكاشف عن عدم الإيمان ، بل طلب المائدة للاحتياج وسدّ الجوع :
١١٤ ـ (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : اللهُمَّ
رَبَّنا ...) فبعد ما تبينّت النّيات ،
توجّه عيسى (ع)
إلى الله ، وكان من شأنه أن يناديه بقوله : اللهم ، ثم استدرك سلام الله عليه أنه
يستدرّ عطف الله ورحمته باستنزال مائدة على عباده فقال ثانيا : ربّنا ، لأن الربّ
هو المربّي ، وهذا أعمّ من تربية الأبدان أو النفوس : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ
السَّماءِ) حسب طلبهم (تَكُونُ لَنا عِيداً
لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي نجعل يوم نزولها يوم عيد ، منذ يوم نزولها في عصرنا
ولأهل زماننا ، وللّذين يأتون من بعدنا. وقيل إن نزولها كان يوم الأحد من أيام
الأسبوع ، ولذا اتّخذه النصارى يوم عيد لهم .. (وَآيَةً مِنْكَ) أي علامة معجزة دالة على قدرتك الكاملة وعلى صدق نبوّتي
ورسالتي (وَارْزُقْنا) هذه المائدة (وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ) ووجه كونه سبحانه خير الرازقين ، هو أن رزقه سرمد أبديّ لا
ينقطع ما زال المرزوق موجودا. وهذا بخلاف الارتزاق من غيره تعالى فإنه لا يكون
دائما بدوام المرزوق ، بل
الارتزاق من
المخلوق قرين المنّة كما نعلم بالبديهة.
(قالَ اللهُ إِنِّي
مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ...) أي أجاب سبحانه بشاهد الحال الذي هو إنزال المائدة ، ثم
شرط عليهم بقوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بَعْدُ مِنْكُمْ) أي : ينكر شيئا يتعلق بربوبيّتي وبرسالة رسولي ، وباستجابة
دعائه ، وبآيتي هذه ، فمن يكفر بعدها منكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ
عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) فقد توعّد الكافر بعد ذلك بعذاب شديد يكون أشد من عذاب أي
أحد من الناس ، والتصريح منه تعالى ، وما في تصريحه من تخويف يدل على عظيم العذاب.
وقيل إن الملائكة
نزلوا بالمائدة وكان عليها سبعة أرغفة ، وسبعة حيتان ـ من كبار السمك ـ فأكلوا
منها جميعا وشبعوا ، فرفعت المائدة. وبقي أمر نزولها يجري على هذا المنوال وفي
الموعد المقرّر من جانبه تعالى ، مدة طويلة من الزمن. ثم انقطع نزولها حين صار
المترفون وأهل الثروة يمنعون الفقراء والمساكين من الحضور والجلوس إلى الخوان
للأكل مع الناس. عندها قطع الله سبحانه نزولها عنهم ، ومسخ المكذّبين بها وبرسوله
خنازير.
ذلك أن عيسى عليهالسلام سأل وأجيب بحسب طلبهم وتمّت عليهم الحجة فكذّبوا فمسخوا ،
وكانوا ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون رجلا ، باتوا من ليلتهم على فرشهم ومع نسائهم ، في
بيوتهم ، فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات ويأكلون من الكناسات والأقذار. فلما رأى
الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليهالسلام وبكوا وبكى هو (ع) لحال الممسوخين الذين عاشوا هكذا ثلاثة
أيام ثم أهلكهم الله.
وفي تفسير أهل
البيت عليهمالسلام : كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثم
ترفع. فقال كبراؤهم ومترفوهم : لا ندع سفلتنا يأكلون منها ، فرفع الله المائدة
ببغيهم ، ومسخ كبراؤهم ومترفوهم قردة وخنازير لأنهم بغاة طغاة.
* * *
(وَإِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ
مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا
أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ
إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ
الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا
يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ
جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))
١١٦ ـ (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ ...) أي اذكروا يا أتباع عيسى قول الله سبحانه وتعالى لعيسى (ع)
: (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) من أمّتك : (اتَّخِذُونِي
وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ .. وهذا استفهام إنكاري متضمّن لتوبيخ أمته ما عدا
الحواريين والمؤمنين بربّهم وبرسوله ، لأنهم وحدهم عبدوا الله تعالى ، وغيرهم عبد
عيسى وأمّه عليهماالسلام وادّعى ـ كذبا ـ بأن عيسى أمرهم بذلك .. وبعد هذا السؤال
الذي يفضح كذب المكذّبين على عيسى وأمّه يقول سلام الله عليه مجيبا ببراءة العبد
الصالح البريء : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها وتقديسا لك يا رب إنني بما تعرفه فيّ (ما يَكُونُ) أي : ما ينبغي لي (أَنْ أَقُولَ ما
لَيْسَ لِي بِحَقٍ) وأدّعي الربوبيّة التي لا حق لي فيها ولا لأحد من دونك.
وأنت بمقتضى ربوبيّتك وعلمك (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) لهؤلاء (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) واستوعبته معرفتك بالظواهر والبواطن ، لأنك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) تطّلع على السرائر وتعليم معلوماتي وجميع ما عندي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وأنا لا أعرف شيئا من معلوماتك.
وإنما قال : في
نفسك ، سلوكا بالكلام طريق المشاكلة. ولذا يقال في الدعاء : اللهم علمك بحالنا
يكفي عن مقالنا. (إِنَّكَ) يا رب (أَنْتَ عَلَّامُ
الْغُيُوبِ) أي شديد المعرفة بجميع ما غاب عن خلقك وما استأثرت به
لنفسك. وهذا تقرير للجملتين معا ، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ، ولا
ينتهي علم أحد إلى ما يعلمه سبحانه.
وفي العياشي عن
الباقر عليهالسلام في تفسير هذه الآية الشريفة : إن
الاسم الأكبر
ثلاثة وسبعون حرفا ، فاحتجب الربّ تعالى بحرف ، فمن ثمّت لا يعلم أحد ما في نفسه عزوجل. أعطى آدم اثنين وسبعين حرفا ، فتوارثها الأنبياء .. إلى
آخر الحديث الشريف.
والحاصل أن عيسى عليهالسلام بعد أن يتبرّأ من كذب المكذّبين وهو بين يدي ربه عزّ وعلا
، يكمل بيان براءته ممّا رموه فيه ، لا ليزيد الذات الإلهية معرفة ببراءته ، بل
ليكشف افتراء المفترين فيقول سلام الله عليه :
١١٧ ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي
بِهِ ..) وهذا تأكيد لكلامه السابق : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي
بحق. ومعناه : ما أمرتهم إلّا بما أمرتني به (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وهذه الجملة القصيرة مبيّنة للفظة : ما ، الموصولية في
مطلع قوله عليهالسلام. فقد أمرتهم بعبادة الله تبارك وتعالى الذي هو ربّي وخالقي
ورازقي ، وربّهم بجميع معاني الربوبية وبسائر معاني استحقاق العبادة. قلت لهم ذلك
وأنا بينهم (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً) أي شاهدا ورقيبا ناظرا في أحوال عبادتهم وسائر أقوالهم
وأفعالهم كيلا يفعلوا خلاف ما أمرتهم به. أراقب ذلك (ما دُمْتُ فِيهِمْ) أي مدة بقائي بينهم (فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني وأخذتني بالموافاة إليك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الناظر والمراقب بتمام المراقبة لأقوالهم وأفعالهم (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم شاهد على ظواهر الأشياء وبواطنها.
١١٨ ـ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
عِبادُكَ ...) أي إن عذّبتهم فإنهم عبادك الذين عرفتهم عاصين مكذّبين
لرسلك ، منكرين لبيّناتك ، والعبد وما في يده لمولاه ، وأنت حاكم عادل (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : وإن تسامحهم وتعفو عن سيئاتهم ، وكان ذلك ضمن عدلك في
معاملة المذنبين ، فإنك أنت القادر القاهر المنيع الجانب ، الحكيم في ثوابك
وعقابك. تفعل كل شيء بحكمتك. والمعنى : إن غفرت لهم مع كفرهم فالمغفرة حسنة في
العقل لكل مجرم ـ كما جاء في المجمع ـ وكلما كان الجرم أكبر ، كان العفو أحسن ..
والحاصل أن عذابه عدل ، وغفرانه فضل.
١١٩ ـ (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ ..) كلمة : يوم : قرئت تارة بالرفع بناء على أنها خبر لهذا ،
وطورا بالنّصب إمّا على أنه ظرف لقال ، وإمّا على أن : هذا مبتدأ ، والظرف خبر ..
والمعنى أن هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى عليهالسلام سيقع في يوم ينتفع فيه الصادقون بصدقهم. وهو يوم الحساب
وكشف الأستار ونبش الأسرار ، حيث يثاب الصادق ويجازى الكاذب .. والصادقون الذين
صدّقوا بأمر الله وبرسله في دار التكليف تكون (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً) يتنعّمون بفضل الله عليهم بلا انقطاع لمدة ولا زوال لنعمة
، إذ (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ) لقولهم الحق وعملهم الصالح. ويكفيهم في مدحهم هذا الرضا
الرضا منه تعالى (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنهم كانوا في الدنيا يحمدونه على السرّاء والضرّاء ، وفي
الآخرة أعطاهم أجزل العطاء مما لم يكن ليخطر لهم في بال (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي : هذا هو الفلاح والنجاح ويكفي فيه أن البارئ سبحانه قد
قال في مدح ما أعطاه للصادقين : وذلك هو الفوز العظيم.
١٢٠ ـ (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما فِيهِنَّ ...) وبهذا البلاغ نزّه الله سبحانه نفسه عن قول النصارى ، إذ
له ملك السماوات والأرض وما فيهن من موجودات علويّة وسفلية ودنيوية وأخروية ، وقد
شملت المسيح عليهالسلام عبارة : وما فيهنّ كما شملت غيره من الكائنات التي ليس
متصرّف إلّا الله عزّ وعلا (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء. والحمد لله ونسأله العفو عن كل خطأ في فهم
آياته وإيضاح بيّناته ..
تمّت سورة المائدة
،
وتمّ الجزء
الثاني.
|