بين يدي الكتاب

الحمد لله الذي شرح صدورنا بكتبه السماوية ، ونور قلوبنا بلوامع آياته المنزلة وكرمنا برسالة المحمدية ، وشرفنا بتقبل ولاية العلوية ، والصلاة والسلام على من دنا فتدلى ، وعلى وصية الذي قرب إليه قاب قوسين أو أدنى : وعلى آله الهداة المهتدين بهداية العلي الأعلى.

والحمد له إذ أنزل الكتاب الكريم ، على النبي ذي الخلق العظيم الذي جعله نبيا وآدم بين الماء والطين ، والسلام عليه وعلى أهل بيته الطبيين الهداة المطهرين ، معادن علوم الأولين والآخرين ، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين ، ورحمة الله وبركاته.

محمد بن حبيب الله

المعروف بالسبزواري النجفي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال النبي صلى الله عليه وآله :

إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى ، فتعلموا مأدبته ما استطعتم ..

سورة الفاتحة

*

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

آ ـ فضلها :

لا يخفى أن أفضل سور القرآن سورة الحمد.

ذلك أن أفضل الطّاعات هو الصلاة التي عبّر عنها بعماد الدّين في قوله عليه‌السلام : الصلاة عماد الدين ، إن قبلت قبل ما سواها ، وإن ردّت ردّ ما سواها. وأمثال هذه الرواية كثيرة في فضلها. وقد جعل الله تعالى سورة الحمد جزءا من الصّلاة (٢) ، بحيث لا يسدّ مسدّها شيء من سور القرآن (٣).

__________________

(٢) قال عليه‌السلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. كما أنه قال : لا صلاة إلا بطهور ، ولا صلاة إلا إلى القبلة ، إلخ ..

(٣) طوالها وقصارها.

بخلاف سورة الإخلاص ، فإن المصلّي مخيّر بينها وبين غيرها من السّور. وهذا يكشف عمّا ذكرناه.

ب ـ نزولها :

هي مكّية ، وعلى قول أنها نزلت في المدينة ثانيا. (١) ولها أسماء :

١ ـ فاتحة الكتاب : لأنها مفتتحه أو مفتاحه.

٢ ـ وأمّ الكتاب : لاشتمالها على جمل معانيه ، أي على خلاصة ما فصّل في الكتاب.

وبيان ذلك : أنها مشتملة على معاني القرآن بصورة اللّف ، من الثّناء على الله بما هو أهله ، ومن التعبّد بالأمر والنّهي ، والوعد والوعيد (٢). فكأنّ الكتاب نشأ وتكوّن منها بالتفصيل بعد هذا الإجمال. أو أنها كمكّة التي سميّت أمّ القرى ، لأن الأرض تكوّنت ودحيت منها. والعرب من شأنهم أن يسمّوا ما يحتوي على أشياء ، أو هو جامع لمطالب وأصول ومقاصد ورؤوس مطالب : أمّا ، كما يسمّون الجلدة الجامعة للدّماغ بمختلف حواسّه : أمّ الرّأس.

ونذكر في المقام رواية واحدة عن عظمة فاتحة الكتاب :

ففي مجمع البيان ، روي عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن النبيّ صلوات الله عليهم : لما أراد الله عزوجل أن ينزل فاتحة الكتاب ،

__________________

(١) هذا القول يجيء بنظري ساقطا ، لأن نزولها ثانيا لا يترتب عليه إلا التكرار ولا وجه له ، ففي المدينة جرى تحويل الوجوه في الصلاة نحو البيت الحرام بعد ان كان التوجه نحو بيت المقدس وقد كان المسلمون يصلّون بقراءة الفاتحة قبل الهجرة الى المدينة. ولم يحصل في الصلاة أي تبدل أو تغير في سورة الفاتحة أو في غيرها من أجزاء الصلاة ، فلا حاجة الى الأخذ بقول لم نقع فيه على آية أو رواية.

(٢) وهذه الأمور أصوله وأركانه.

وآية الكرسيّ ، وآية شهد الله ، وقل اللهمّ مالك الملك ، إلى قوله : بغير حساب ـ تعلّقن بالعرش وليس بين الله وبينهنّ حجاب وقلن : يا رب ، تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ، ونحن معلّقات بالطّهور والقدس؟. قال : وعزّتي وجلالي ، ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة ، إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه ، ونظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة ، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلّا أعذته من كل عدوّ ونصرته عليه ، ولا يمنعه عن دخول الجنة أن يموت.

٣ ـ الحمد : وهو من أسمائها لذكره في ابتدائها (١).

٤ ـ السبع المثاني : الأول ، لكونها سبع آيات اتّفاقا في جملتها ، إلّا أن هناك خلافا بين عدّ البسملة آية ، أو «أنعمت» دون البسملة.

والثاني ، لأنها تثنّى في الفريضة ، ولنزولها في مكة أولا ، وفي المدينة ثانيا. نزلت في مكة حين افترضت الصّلاة ، وفي المدينة ـ كما قيل ـ حين حوّلت القبلة لمناسبة خفي مقتضاها علينا ، فإن أفعال الله كأقواله قد تصدر عن مصلحة مكنونة ، كما تصدر عن مصلحة مكشوفة.

٥ ـ لها أسماء أخر ، كالشافية ، والكنز ، والوافية. والأشهر ما ذكرناه أولا.

ج ـ التفسير :

__________________

(١) وقد يقال بأن ابتداءها البسملة ، والأوجه تسميتها بها لورودها في أولها. والجواب : أن البسملة جزء من كل سورة ، بل آية منها. ولو تسمّت بها سورة لتسمّت بها جميع السّور ما عدا براءة. فأسماء السور أمر تعبديّ ، لا علاقة له بورود الاسم في الأول أو الوسط أو الآخر.

١ ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) :

هي آية من كلّ سورة عدا براءة بإجماعنا (١) وغيرنا ، بين موافق لنا ومخالف. وذكر الموافق والمخالف ليس فيه كثير فائدة.

والباء للاستعانة ، ويترجّح ذلك بأن الإنسان في جميع أموره يطلب الإعانة منه سبحانه ويشعر بكثرة مدخليّة اسم الله تعالى في تسهيل أعماله. فكأنّه جعل اسمه تعالى آلة للفعل مشعرا بزيادة مدخليته فيه حتى كأنه لا يوجد بغيره.

أو للمصاحبة ، والحجة فيه التبرّك باسمه تعالى ، أدخل في أدب الإسلام من أجل الرّد على المشركين الذين كانوا يتبرّكون بأسماء آلهتهم كاللات والعزّى وغيرهما. والحق أن التبرّك يحصل بكلّ من الاستعانة والمصاحبة ، ولا فرق بينهما عند النظر الدقيق.

والسورة مقولة على ألسنة عباده على ما هو الرائج بينهم في محاوراتهم تعليما للتبرّك باسمه وحمده ومسألته. ومتعلّق الظّرف فعل مقدّر مؤخّر ، لأهمية اسمه تعالى وقصر التبرك عليه سبحانه. هكذا : «بسم الله أتلو». حذف المتعلّق لدلالة الحال عليه ، أو لأن كل فعل يضمر له ما يناسبه المقام ، مثلا في الذبح والحلّ والارتحال : «كأذبح ، وأحلّ ، وأرتحل». أو يقدّر من الإبهام العام : «كأبدأ ، وأعمل ، وأفعل.» من الأفعال العامة المبهمة ، ما يناسب كل فعل وفعله.

__________________

(١) ويدل عليه روايات نذكر منها ما جاء في تفسير العيّاشي عن يونس بن عبد الرحمن ، عمّن رفعه ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) إلخ .. قال : هي سورة الحمد ، وهي سبع آيات منها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ». ولا يخفى أن المناسبة تقتضي أن يكون ذكر هذه الرواية عند قولنا في بيان وجه تسمية السورة المباركة بالحمد.

والاسم من السّمو : بفتح السين وسكون الميم ، وهو مصدر (١) فمعناه جعل الاسم. فحذف عجزه وسكن أوّله وزيدت همزة مبتدأ بها ، يشهد بمبدإ اشتقاقه التكسير والتصغير اللذان يردّان الأشياء إلى أصولها.

أو من السّمة : وأصله أي مصدره : وسم ، معناه العلامة بالكيّ ونحوه. وحذفت الواو ، وعوّض عنها الألف.

ولم يقل سبحانه : «بالله» لأن التبرّك باسمه أدخل في الأدب مضافا بأن التبرّك بالاسم يلازم التبرّك بالذّات بالأولى بخلاف العكس وليعمّ كل أسمائه.

الله : أصله إله. حذفت الهمزة وعوّض عنها أداة التعريف فصار مختصّا بالمعبود بالحق بالغلبة ، بخلاف الإله فإنه كان لكل معبود ، ثم غلب في المعبود بالحق. وهو من : أله بالفتح ، بمعنى : عبد أو تحيّر ومعنا هما عام. وبالكسر (أله) بمعنى سكن أو فزع أو ولع لأنه معبود تتحيّر فيه العقول وتطمئنّ بذكره القلوب ويفزع إليه ويولع بالتضرّع لديه. وقيل أصله لاه (مصدره : ليها ولاها) بمعنى احتجب وارتفع. وأدخلت عليه الأداة فصار علما شخصيّا للذّات المقدّس الجامع لكل كمال ، لا اسما لمفهوم واجب الوجود ، وإلّا لم تفد كلمة شهادة التوحيد ، لاحتمال اعتقاد قائلها تعدّد أفراد ذلك المفهوم العام ، وعورض بأنه لو كان كذلك لم يفده (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لجواز علميّته لأحد أفراد الواجب مع عدّهم السورة من أدلة التوحيد. ويجاب بأن ذيلها يفيد الواحديّة ، وصدرها الأحديّة ، أي نفي قبول القسمة بأنحائها.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : صفتان مشبّهتان من رحم بكسر عين الفعل ، كغضبان من غضب ، وعليم من علم. والرحمة هي رقّة القلب المقتضية للإحسان. واتّصافه تعالى بها باعتبار غايتها التي هي فعل ، لا مبدئها الذي هو

__________________

(١) سما يسمو سموا الرجل زيدا ، أي جعل اسمه زيدا.

انفعال. والرّحمن أبلغ لاقتضاء زيادة البناء زيادة المعنى. وهي هنا باعتبار «الكمّ» حسب كثرة أفراد المرحومين وقلّتها. وعليه حمل : يا رحمان الدنيا لشمول المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لاختصاصه بالمؤمنين. وأما باعتبار «الكيف» فيصير الأمر في الأبلغيّة بالعكس لجسامة نعم الآخرة فتنخرط القاعدة.

وملخص القول أن معنى الرحمن أي البالغ في الرحمة غايتها ، ولذا اختصّ به سبحانه.

قال الصادق عليه‌السلام : «الرّحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ، والرّحيم اسم عام بصفة خاصة» على ما رواها عنه أصحاب التفاسير في كتبهم. وإنما قدّم في البسملة وغيرها من موارد اجتماعهما على الرحيم ، لصيرورته بالاختصاص كالواسطة بين العلم والوصف ، فناسب توسيطه بينهما وخصّت البسملة بهذه الأسماء الثلاثة إعلاما بأن التحقيق أن يستعان به تعالى في جميع الأمور ، دنيوية وأخروية ، لأنه المعبود الحقيقيّ البالغ في الرحمة غايتها ، المولي للنّعم الجسيمة كلها. ولعلّ وجه التقديم ـ مضافا إلى ما قلناه آنفا ـ كون الرحمانيّة دنيوية ، وهي مقدّمة على الأخروية. فالذي يدل عليها طبعا مقدّم (١) على الذي يدل على صفة أخروية. ولا منافاة بين الوجهين.

٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) :

الحمد : هو الثناء على أمر جليل جميل صدر عن اختيار نعمة وغيرها. وحمده تعالى على صفاته ، حمد على الآثار الاختيارية الصادرة عن ذاته المقدّسة كما هو الحق. ونقيضه : الذّم ، ويراد منه المدح. وقيل يعم غير

__________________

(١) ولا يخفي أنه تعالى أردف اسمه الذي هو علم لذاته ، المستجمع للقهر والرحمة ، بصفة الرحمة دون القهر ، تنبيها للعباد بأن «رحمتي غالبة على غضبي وقهري» وهذا سرّ من أسرار البسملة. يا من سبقت رحمته غضبه : أي غلبت.

الاختياري ، والحق هو الأول من القولين أما الشكر فهو ما قابل النعمة من قول أو عمل أو اعتقاد. ومن الشكر الحمد على النعمة وهو أظهر أفراده وشعبه دلالة عليه ، لخفاء الاعتقاد ، واحتمال عمل الجوارح. ولذا قال (ص): «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله من لم يحمده» فجعله كأشرف الأعضاء ، فكأن الشكر منتف بانتفائه. ونقيضه الكفران.

والحمد مبتدأ وخبره الظرف ـ أي لله ـ وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة. فأصله النصب ، وعدل إلى الرفع ليفيد الثبات دون التجدد والحدوث. ولامه يحتمل أن يكون للجنس أو الاستغراق أو العهد ، أي حقيقة الحمد أو كلّ أفراده أو أكملها ، أي المعهود من الحمد بين العبد ومولاه هو أكمل أفراده ثابت له تعالى على وجه الاختصاص كما تفيد اللام ولو بمعونة المقام.

ربّ العالمين : مالكهم وسائسهم ، أي مدبّر أمورهم على ما ينبغي.

والرب مصدر ، بمعنى التربية ، وهي تبليغ الشيء كماله المقدّر له تدريجيّا ، وصف به سبحانه للمبالغة على ما قيل. بيان ذلك أنه لا يقدر أحد تبليغ الموجودات طرا إلى كمالها ـ كلّ على حسبه تدريجيّا ـ إلّا الله. فهذا من أوصافه الخاصة به جلّ وعلا التي تدل على أن قدرته فوق ما يتصوّر من القوى ، ولا يطلق على غيره تعالى إلّا مضافا : كربّ الدار ، أو مجموعا : كالأرباب. لكنه فيه تعالى كما يطلق مفردا يستعمل مضافا كقوله (ص): «ربّ الماء والتراب واحد».

والعالم : اسم لما سوى الله ، أو اسم لما يعلّم به كالطابع ، غلبت في كل جنس مما يعلم به الصانع تعالى من الجواهر والأعراض ، كما يقال : عالم الأرواح ، وعالم الأفلاك ، وعالم العناصر. ويطلق على مجموعها أيضا

كالماء يطلق على القليل كالقطرة وعلى الكثير كالبحر. وهذا شأن كل اسم جنس لا يختصّ ببعض دون بعض.

ولا يجمع إلا بالإطلاق الأول فيتعيّن هنا. وإنما جمع ليشمل مسمّاه كلّ الأجناس وأفرادها. ويجمع بالواو والنون لتغليب جانب العقلاء. وأما وجه أنه جمع مع كونه معرّفا بالألف واللام الاستغراقية وهي تفيد الشمول ، فللدلالة على كون العالم أجناسا مختلفة الحقائق كما عدّدنا آنفا المشهور منها. وهذا المعنى لا يستفاد من حرف التعريف وإن كان مفيدا للشمول الاستغراقي».

٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : كرّرا في مفتاح الكتاب الكريم إشعارا بشدة اعتنائه سبحانه بالرحمة ، وتثبيتا للرجاء بأن مالك يوم الجزاء هو البالغ في الرحمة غايتها فلا يقنط من عفوه وغفرانه المذنبون. والوجه الثالث لتكرارهما ، هو أنهما بيان لعلة تخصيص الحمد به تعالى.

٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) :

مالك : بالألف على قراءة عاصم والكسائي ، ويؤيّده : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ..) وقرأ الباقون : «ملك يوم الدين» ويؤيّده : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). وهذه أدخل في التعظيم وأنسب بالإضافة إلى يوم الدين ، ولوصفه تعالى بالملكية بعد الربوبية في سورة مباركة خاتمة للكتاب ليوافق الافتتاح الاختتام.

والفرق أن المالك من له التصرّف فيما في حوزته وتحت يده ، والملك من له التصرف في الأمور كلها أمرا ونهيا للسلطة والغلبة على الناس وما في يدهم وتحت تصرفهم طرّا.

والدّين : هو الجزاء ، ومنه : «كما تدين تدان». وعن الباقر عليه‌السلام : «أنه الحساب» وتخصيص اليوم بالإضافة ، مع أنه تعالى مالك وملك

لجميع الأشياء في كل الأوقات ، لتعظيم ذلك اليوم ، أو لتفرّده تعالى بالملك والسلطان فيه ، لأن ما حصل منهما لبعض في الدنيا ظاهرا ، يزول ويفنى ، فينفرد سبحانه بهما على ما يستفاد من قوله جلّ وعلا : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وفي التعبير باسم الذات الدالّ على استجماع جميع الكمالات وتعقيبه بالصفات المنتفية عمّن سواه ، دلالة على انحصار استحقاق الحمد فيه ، وقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى ، وإرشاد إلى المبدأ والمعاد ، وتنبيه على أن من يحمده الناس إما لكماله الذاتي ، أو لرجائهم إحسانه في المستقبل ، أو لخوفهم من كمال قهره. فكأنه تعالى يقول : أيها الناس ، إن كنتم تحبّون أن تحمدوا للكمال الذاتي فأنا المستجمع له ، أو للإنعام والتربية فأنا «ربّ العالمين» أو للرجاء في المستقبل فأنا «الرّحمن الرّحيم» أو للخوف والسطوة فأنا «مالك يوم الدّين».

فالله تعالى سدّ طرق العباد في عباداتهم من جميع الجهات التي يتصوّر أن تكون عباداتهم لها ، وحصرها بذاته المقدّسة جلّ وعلا ، فما بقي للعباد عذر في عبادة من سواه سبحانه .. وبعد ذكر الأوصاف الثابتة لذاته المقدّسة التي لا تعلم ولا تعرف إلّا بعد انكشافها من ناحيته عقّبها بقوله : («إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلخ ...» تعليما للعباد طرق المخاطبة له حين تخضّعهم وتخشّعهم لربّهم ، وتربية لهم حينما يدعونه تعالى على كيفية الدعوة.

٥ ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) :

إيّا : ضمير منفصل منصوب ، ولواحقه من الهاء ، والكاف ، والياء ، والنون ، حروف لبيان الغيبة ، والخطاب ، والتكلّم ، لا محلّ لها من الإعراب ، نحو كاف «ذلك» على أصحّ الأقوال. وهو منصوب على المفعولية. وانفعاله وتقدّمه على فعله لإفادة الحصر ، لأن تقديم ما هو حقه التأخير يفيد الحصر. أي قصروا العبادة والاستعانة عليه.

والعبادة أعلى مراتب الخضوع والتذلّل ، لا يستحقها إلّا المنعم لأعظم النّعم من الوجود ، والحياة وتوابعهما.

والاستعانة طلب المعونة في الفعل ، ويراد هنا طلب المعونة في كل المهمّات ، ولذا أبهم المستعان فيه ، أو في أداء العبادة بوظائفها المقرّرة بقرينة توسّطها بين : «نعبد واهدنا» فحذف اختصارا للقرينة. وتقديم المفعول لقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى.

وأما وجه الاقتصار أنه تعالى بيّن صغرى وكبري بذكر أوصافه الخاصة له ، وعقّبها باسمه الخاصّ الذي يدل على ذاته المستجمعة للكمالات بأجمعها من المذكورات وغيرها ، فيستفاد منه أنه سبحانه واجد لوصف الرحمانية في الدنيا ، والرّحيمية والملوكيّة في العقبى ، حيث إنه «ملك يوم الدين» أي هو الذي أزمّة الأمور طرّا بيده ، هذه صغرى. وكل من كان هذه الصفات وهذه القوة والقدرة صفته ، فهو الذي يستحق أن يعبد ويستعان به لا غيره. فنستنتج أنه جلّ وعلا مستحقّ للعبادة والاستعانة من دون غيره ، فلا معنى لقصر العبادة والاستعانة عليه تعالى إلّا هذا. فثبت الحصر ووجهه ظهر. والحصر حقيقيّ ثبوتا ، وأما إثباتا فإضافيّ بالنسبة إلى المؤمنين بالله ، والوجه الآخر لتقدّم المفعول ، تقدمه سبحانه في الوجود ، وللتّنبيه على أن العابد والمستعين ينبغي

أن يكون نظرهما بالذات أولا إلى الحق المتعال ، ثم منه إلى أنفسهم ، لا من حيث ذواتها بل من جهة أنها وسيلة إلى لحاظه تعالى ، ثم إلى عبادتهم ونحوها ، لا من حيث صدورها عنهم ، بل من حيث أنها وصلة بينهم وبين الخالق جلّ وعلا.

وتكرير الضمير : «إيّاك وإيّاك» للتنصيص على التخصيص بالاستعانة ، فينتفي احتمال تقدير مفعول لها غيره تعالى مؤخرا. ولبسط الكلام مع المحبوب كآية : (هِيَ عَصايَ).

وتقديم العبادة على الاستعانة ليتوافق الفواصل في متلوّ الآخر ، ولأن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة. ولمناسبة تقديم مطلوبه تعالى من العباد على مطلوبهم منه. ولأن المتكلّم ، لما نسب العبادة إلى نفسه ، كان كالمعتدّ بما يصدر منه ، فعقّبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إيذانا بأن العبادة لا تتمّ إلا بمعونته ،

وإيثار صيغة المتكلّم مع الغير ليؤذن بحقارة نفسه عن عرض العبادة وطلب المعونة منفردا على باب الكبرياء ، فلا بد من انضمامه إلى جماعة تشاركه في العرض والطلب كما يصنع في عرض الهدايا ورفع الحوائج إلى الملوك. وفي الجمع يمكن أن يقصد تغليب الخلّص على غيرهم ، فيصدق : «وليدرج عبادته وحاجته في عبادة المقرّبين وحاجتهم ، ولعلها تقبل وتجاب ببركتهم».

والعدول من الغيبة إلى الخطاب : أولا من عادة العرب العدول من أسلوب إلى آخر تفنّنا في الكلام ، وثانيا لأن في العدول من الغيبة إلى الخطاب تطرية وتنشيطا للسامع ليس في غيره ، فإن في الخطاب اعتناء بشأن المخاطب بل لطف وإحسان إليه ، ولا سيّما إذا كان من شخصية سامية : فكيف بذات

رفيعة مقدّسة جامعة لجميع الكمالات والأوصاف العظيمة التي لا توجد في غيرها.

على ان مواقع العدول وتختصّ بنكت ورموز :

فممّا اختصّ به هذا الموضع أن العبادة والاستعانة ينبغي كتمانها عن غير المعبود المستعان لتكون أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرّياء. فالمناسب له طريق الخطاب ، فلذا عدل إليه. ومنه التلويح إلى ما في الحديث : «أعبد الله كأنك تراه». إذ العبادة الكاملة هي ما يكون العابد حال اشتغاله بها مستغرقا في الحضور كأنه مشاهد لجناب معبوده. فظنّ أنه وصل إلى مقام المقرّبين ، فقال :

٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : بيان للمعونة المطلوبة ، كأنه قال : «كيف أعينكم؟» فقالوا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

والهداية : الدلالة بلطف إلى المطلوب. وقيل هي الموصلة ، وغيرها إراءة الطريق. ويدفعه قوله تعالى : (فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ويرفع الدفع أنّه من الممكن أن يوصل الإنسان شخصا إلى مطلوبه ومع ذلك يصير المطلوب مبغوضا له ويرفع اليد عنه ويؤثر الغير عليه لسبب من الأسباب. والحاصل أن الآية مصداق من مصاديق المعونة ، وآثره الطالب إيذانا على أنه أسماها وأعلاها ، ثم إنّ أصناف هدايته جلّ وعلا وإن لم يحصرها العدّ على أربعة أوجه :

الأول : إفاضته القوى والحواسّ لجلب النفع ودفع الضّرر ، يدل عليه : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

الثاني : نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل ، يدل عليه (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

الثالث : إرسال الرّسل وإنزال الكتب : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ). أي

بالإرسال والإنزال.

الرابع : إزالة الغواشي البدنية وإراءة الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام أو المنام الصادق أو الاستغراق في ملاحظة جماله وجلاله بحيث تقشعرّ جلودهم من الخشية ثم يرغبون في ذكر ربهم ويعرضون عمّا سواه ، قال تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ). وهذا يختص به الأنبياء والأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). هذه الآية الشريفة بالنسبة إلى غير الواصلين وهو الهداية في المرتبة الرابعة. وبالإضافة إلى الواصلين يراد مزيد الهداية : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). فإنها ذات مراتب كما تدلّنا على ذلك هذه الشريفة. وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : «اهدنا : أي ثبّتنا».

والصراط : هو الجادّة ، والطريق. من سرط الطعام أي ابتلعه. فكأنه يسترط السابلة. كما يسمّى لقما ، كأنه يلتقمهم. وجمعه سرط ككتب. وأصله السين قلبت صادا لتطابق الطاء في الإطباق. والصراط ـ بالصاد ـ لغة قريش.

والمراد بالصّراط المستقيم : دين الحق أو دين الإسلام أو كتاب الله عزوجل.

٧ ـ (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) :

هذه الجملة بدل كلّ من الصّراط المستقيم ، ونتيجته التأكيد أو التّنصيص على أن الطريق الذي هو علم في الاستقامة هو طريق المنعم عليهم لأنه جعل كالتفسير له. والمراد بهم : المذكورون في كتابه : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ...) الآية». وقيل أراد بهم

المسلمين ، حيث إن نعمة الإسلام أصل كلّ النّعم.

والإنعام : إيصال النّعمة. وهي في الأصل مصدر بمعنى الحالة المستلذّة ككون الإنسان مليّا عليما خطيبا بليغا مثلا. ثم أطلقت على نفس الشيء المستلذّ به تسمية للشيء باسم مسبّبه. ونعمه سبحانه كثيرة بحيث تعذّر حصرها وعدّها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

وهي إمّا دنيويّة كإفاضة الوجود والعمر والقوى البدنية والنّعم الظاهرية الأخر. أو باطنية. ومن أسماها العقل وسائر القوى ، والتوفيق للتّخلية من الرّذائل والتّحلية بالأخلاق الفاضلة الزكية ، والإيمان بالله والتصديق بالرسالة وبما جاء به النبيّ (ص).

وإما أخروية ، وهي روحانيّ «كغفران الذنوب» وجسماني «كأنهار العسل والشراب الطّهور». وإجمالهما ما ذكرناه مما «تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين» ، «مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) :

والغضب : ثوران النّفس لإرادة الانتقام تشفّيا. فإن أسند إليه تعالى فباعتبار الغاية كما في الرّحمة ، والعدول عن إسناده إليه تعالى إلى صيغة المجهول وإسناد عديله إليه تعالى ، تأسيس لمباني الرّحمة. فكأنّ الغضب صادر عن غيره تعالى ، وإلّا فالظاهر أن يقول : «غير الّذين غضبت عليهم». ومثل ما نحن فيه في التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد كثير في الكتاب ، ومنه قوله سبحانه : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). والمقابل لقوله : «لأزيدّنكم : لأعذّبنّكم».

(وَلَا الضَّالِّينَ) : من الضّلال ، وهو العدول عن الطريق السّويّ ولو خطأ.

وشعبه كثيرة ، بشهادة قوله (ص): «ستفترق أمّتي ثلاثا وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار.».

وتفسير (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) باليهود و (الضَّالِّينَ) بالنصارى ، مشهور. وقيل : المراد بهما مطلق الكفرة لأنهم واجدون للوصفين. وقيل : مطلق من كان معنونا بالعنوانين من الكفار وغيرهم.

«و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ..) الآية» بدل كلّ من (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

والمعنى أن المنعم عليهم هم الذين صينوا وحفظوا من الغضب والضلال. فالفائدة فيه التأكيد والتّنصيص كما مرّ.

وروي عنه (ص) أنّ «أفضل سورة أنزلها الله في كتابه هي الحمد أمّ الكتاب وأنها شفاء من كل داء (١)». وعن الصادق عليه‌السلام : «لو قرئت سورة الحمد على ميّت سبعين مرة ثم رددّت في الروح ما كان عجبا». وعنه عليه‌السلام : «اسم الله الأعظم مقطّع في أمّ الكتاب». وفي العيّاشّي عن النبيّ (ص): «أن أمّ الكتاب أفضل سورة أنزلها الله في كتابه ، وهي شفاء من كلّ داء إلّا السّام». أي الموت. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : «من لم يبرئه الحمد لم يبرئه شيء».

(قد تمت السورة المباركة الحمد ، وتتلوها سورة البقرة).

* * *

__________________

(١) ونحن أثبتنا أيضا ـ بالبرهان الاجتهاديّ ـ أفضليّتها في أول افتتاح ترجمة السورة المباركة عن كل سورة.

سورة البقرة

*

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

آ ـ فضلها : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ سور القرآن أفضل؟ قال : البقرة. قيل : أيّ آي البقرة أفضل؟. قال : آية الكرسي. وقال الصادق عليه‌السلام : من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين.

ب ـ نزولها : مدنية وآياتها مائتان وستّ وثمانون آية. كلّها نزلت بالمدينة إلّا آية منها نزلت بمنى وهي قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ...)

ج ـ التفسير :

١ ـ (الم) : قيل : هذا وما يأتي من الألفاظ المتهجّى بها : أسماء ، مسمّياتها الحروف التي منها ركّبت الكلم. والدليل صدق حدّ الاسم عليها ، مع قبولها لخواصّ الاسم. ولعل السرّ في النطق بهذه الألفاظ هو إشارة منه

تعالى إلى أن «كتابنا» هذا ركّب من هذه الحروف الهجائية التي تنطقون بها نهارا وليلا. فإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بمثله وأنتم عرب.

وحاصل هذه الألفاظ التي افتتحت السّور القرآنية بها ، أن القرآن وإن كان محصولا من هذه الحروف ، كما أن كتبكم وأشعاركم وخطبكم وكلامكم محصولة منها إلّا أن نظم القرآن ، وكيفية تركيبه جاء معجزا ، حيث إن أفصح فصائحكم ، وأبلغ بلغائكم عاجزون عن أن يأتوا بسورة من مثله فكيف بغيرهم مع غاية الجد ونهاية الاجتهاد بأن يأتوا بمثله. فيكشف أن هذا من فعل غير المخلوق ، وعمل من هو وراء الطبيعة ، فينبغي أن يتحدّى به كما تحدّى بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) إلخ ...

وقيل : هي أسماء للقرآن. وقيل إنها أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وعظمتها لكونها مباني كتبه وأسمائه وصفاته ، لأنها مركّبة منها هي وأصول كلام الأمم كلّها.

ومنها : إن كل حرف منها رمز ، وإشارة إلى مدة بقاء قوم وآجال آخرين بحساب الجمّل الذي كان في سابق الزمان علما معروفا بينهم ، ولا سيما في الرّوميين على ما نقل. والنبيّ لما بعث إلى جميع البشر فينبغي أن يكون كتابه واجدا للرموز وهو عالم بها ، حتى يتحدّاهم بكتابه هم وغيرهم.

وورد عن أئمتنا عليهم‌السلام أنها من المتشابهات التي استأثر الله نفسه بعلمها ولا يعلم تأويلها غيره. وفي بعض الأدعية ورد أن عليّا عليه الصلاة والسلام كان يدعو الله ويقول : يا كهيعص وحمعسق. وبناء على صحة الاستناد يظهر أن هذه الفواتح المفتتح بها السور أسماء له تعالى. وعلى المفروض ، لا يبعد أن نقول بكون بعضها اسما له سبحانه ، والبعض الاخر اسما لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يستفاد من الدعاء المرويّ عن السجّاد سلام الله عليه ، المذكور في كتاب مستدرك السفينة في المجلد الثالث منه ، تأليف

بعض الأعلام من المعاصرين. ولكننا لا نعتمد على صحة سندها ، وإن كانت القرائن المقامية تعضدها ، حيث إن تلك الألفاظ ، أكثرها ـ إن لم نقل جميعها ـ صدرت في مقام التخاطب بحيث لو قلنا إنها ليست بأسماء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا بدّ أن نقدّر من قبلها اسما من أسمائه (ص). فنفس الخطاب يدعونا إلى كونها اسما له صلوات الله عليه وآله حتى لا نحتاج إلى التقدير الذي هو خلاف الظاهر. بل الآيات المباركات الواقعة بعد المفتتح بها ، تقضي كونها أسماء له (ص) بأجمعها. فانظر إلى قوله سبحانه :

(طه : ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ..

(كهيعص : ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) ..

(حم عسق : كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) ..

وهكذا ، فالآيات المذكورة بعد المقطّعات ، كاشفة ـ من حيث الخطاب ـ عن كونها أسماء له (ص) لكمال تناسبها لما ذكرنا .. نعم ، إن في تسميته (ص) بتلك الأسماء أسرارا وألطافا لا يعلمها إلا من خوطب بها والراسخون في العلم من أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم .. ولا منافاة بين أن يكون بعضها مشتركا بينه تعالى وبين نبيّه اشتراكا لفظيا ، فيصحّ دعاء عليّ عليه‌السلام لله سبحانه ، بقوله : يا كهيعص وأمثاله.

وأما مسألة إعرابها : فهي متفرّعة على المراد منها. فإن جعلت أسماء لله تعالى ، أو للسورة ـ على ما قيل ـ أو للقرآن ، فمحلّها الرفع على الابتداء أو ال خبر. أو النّصب بتقدير : أتل ، أو فعل القسم ، أو الجر بإضمار حرف القسم ، وإن جعلت اسما للنبي صلّى لله عليه وآله فالنّصب ، لأنها مناديات ، والتقدير : أدعو ، أو نظيره ، وإلّا فلا محلّ لها.

٢ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ) (١) : يحتمل أن يكون «ذلك» إشارة إلى القرآن ، أي الكتاب الذي أخبر به موسى بن عمران ، أو عيسى بن مريم فهما أخبرا بني إسرائيل. بهذا الكتاب الذي أفتتح بالم. وحيث شابه المعهود البعيد لتضيّه أتى بصيغته ، أو إلى الكتاب. فيكون الكتاب موصوفا ، أي الكتاب ، الموعود به. (لا رَيْبَ فِيهِ) من رابه يريب ، إذا حصل فيه الرّيبة أي الشك. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها. والريب مصدر. والمعنى أنه ـ من وضوح دلالته ـ لا ينبغي أن يرتاب فيه عاقل ، فإنه لا مجال للريبة فيه. و (رَيْبَ) هاهنا مبنيّ لأنه اسم لا النافية للجنس و (فِيهِ) خبره. (هُدىً) مصدر. وهو الرشاد ، والبيان ، والدلالة. يقال هداه الله إلى الإيمان ، أي : أرشده إليه. وهداه الطريق أو إليه : بيّنه له ، ودلّه إليه ، وعرّفه. وهو ضد : أضلّه. وتوصيف

__________________

(١) لا يخفى أن «ذلك» اسم إشارة وضع للدلالة على البعيد. والكتاب الذي بين أيدينا هو الذي كان في عصر النزول بين أيدي الناس ، أي قريبا جدا منهم ، سواء أنزل في مكة أم في المدينة ، فلما ذا لم يقل سبحانه : آلم ، هذا الكتاب لا ريب فيه .. ولماذا استعمل : ذلك الكتاب لا ريب فيه؟. وما نحن فيه من الموضوع يشير إلى القرآن دون أي شك. أي إلى جميع أقسامه التي كانت قد نزلت قبل سورة البقرة وقبل هذه الآية الكريمة أو بعدها والتي كان النبيّ (ص) يتلوها على الناس ويعطيهم إياها فيكتبونها ويحفظونها. فالإشارة إلى تلك الأقسام بلفظة «ذلك» لأهل ذلك الزمان ـ ولغيرهم ـ قد يتراءى أنها في غير موردها. فممّا لا شك فيه أن الإشارة تعني القرآن جملة ، أي الكتاب المذخور في اللوح المحفوظ ، الذي يطابقه القرآن المنزل وهي بالتالي دلالة على النّسخة الملكوتيّة التي بعد أن نزل القرآن على محمّد (ص) صورة تامة عنها ، أملى محمّد (ص) صورتها على أمير المؤمنين (ع) ثم تناقلها الأئمة المطهّرون من أهل بيت النبوّة واحدا بعد واحد إلى أن صارت بيد صاحب العصر عجّل الله تعالى فرجه. وهي التي يخرجها للناس بعد ظهوره الشريف للعمل بها دون النسخة التي بين أيدي الناس ، ولهذا أشار الله سبحانه إلى القرآن بقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) وهو وحده العالم بكل شيء ، ونستغفره من الزّلل والخطل ..

الكتاب به للمبالغة ، كزيد علم. وتنكيره للتعظيم. و (لِلْمُتَّقِينَ) اختصاصه بالمتّقين وإن كان هدى للبشر طرّا إلى آخر الدهر ، لأنهم المهتدون به ، أي لهم كفاية الاهتداء على ضوئه. ولعل المراد زيادة قابلية الاستضاءة والاهتداء ، وثباته لهم. وإلّا فكثير من الناس يهتدون به ، والمراد بهم المشارفون للتقوى.

والمتّقي : اسم فاعل من وقاة فاتّقى. والوقاية فرط الصّيانة ، وشرعا من وقى نفسه الذنوب. وفسّر المتّقون بالذين يتّقون الموبقات. وهذا التفسير أعمّ من سابقه ، لأن الموبقات تشمل الذنوب وغيرها. هذا ، ويظهر على حسب الوجوه الإعرابية ، أن الآية المباركة أربع جمل متناسقة ، تقرّر كلّ لاحقة سابقتها ، ولذا لم يتخلّلها العاطف. فآلم جملة للتحدّي وذلك الكتاب ثانية تقرّر وجهة التحدّي ، أي أيّ كتاب من كتبكم كان مبتدأ بالحروف المقطّعات قبل كتابي هذا. ولا ريب فيه : ثالثة تسجّل كما له. وهدى للمتّقين : رابعة تقرّر كونه يقينا لا شكّ فيه. ويظهر أن السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن صدّرت بذكر المرتضين عباد الله وهم المتقون (١) هي هذه السورة.

٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : هذه الآية الشريفة إما محلّها الجرّ بناء على كونها صفة للمتّقين ، أو النّصب بتقدير : أعني ، بناء على كونها بيانا للمتّقين. فإن

__________________

(١) عن كعب الأحبار : سئل عن : ما حقيقة التقوى؟ فأجاب : هل وقعت في أرض ذات أشواك بحيث لا تقدر الخروج منها إلا بأن تجمع ذيلك وتخرج مع غاية الاحتراز منها ، حتى لا تتشوّك ثيابك بها؟. وهذا هو التقوى. ونعم ما قال الشاعر :

خلّ الذنوب كبيرها

وصغيرها ، فهو التّقى

واصنع كماش فوق أر

ض الشوك يحذر ما رأى

لا تحقرنّ صغيرها

إن الجبال من الحصى!.

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة ، عن الصادق عليه‌السلام : المتّقون شيعة عليّ.

الآيات يفسّر بعضها بعضا. أو الرّفع على تقدير كون الموصول خبرا لمبتدأ مقدّر ، أي : هم الذين .. ويحتمل أن تكون منقطعة عما قبلها. وكانت مبتدأة وخبرها : أولئك على هدى ..

والإيمان إفعال ، من أمن ، بمعنى صدّقه ، وضد التكذيب. وحقيقة الإيمان شرعا هو المعرفة بالله وصفاته ، وبرسله وبما جاؤوا به ، ويلازمه التصديق بهم. وإلّا فالتصديق بلا عرفان لسانيّ لا يترتب عليه أيّ أثر واقعي كالإسلام اللساني. بل هما مترادفان. وقيل : الإيمان الحقيقي هو القبول الجنانيّ والتصديق بما جاء به النبيّ قلبا ، وعمل الأركان. فهذا الإيمان هو الذي له دخل في ارتقاء الإنسان مرتقى ساميا إلى سماء الرّوحانية والملكوتية القدسية ، بحيث يستضيء بضوء أهلها ، فيتخلّص بذلك عن مرتبة الدنيّة البهيمية التي إذا مات الإنسان عليها أو حيي فموته وحياته جاهلية ظلماء ، أعاذنا الله منها.

والغيب : مصدر ، بمعنى الغائب والمغيّب ، أي ما يستتر عن الحواسّ الظاهرية. بل يمكن أن يقال : إن المراد به : الخفيّ الذي لا يعلمه العباد إلا بإرشاد الله تعالى وهدايته ، كوجود الصانع سبحانه ، وصفاته ـ يا من دلّ بذاته على ذاته ـ وكالنبوّة ، والولاية ، والشرائع السابقة ، وغيبة المهديّ عليه‌السلام وخروجه ، والقيامة وأحوالها ، والجنّة والنار وكيفيّاتهما ، وكالحساب ، والوعد والوعيد ، إلى غير هذه من الأمور المخفيّة عن إدراك البشر.

ويحتمل أن يكون المراد بالغيب هو الحجة الغائب عجّل الله تعالى فرجه ، والشاهد عليه قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ، فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.) فأخبر عزوجل أن الآية هي الغيب ، والغيب هو الحجة. وتصديق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) ، أي حجّة.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) من أقام العمود إذا قوّمه واستقامه. والمراد هنا هو أن يعدّلوا أركان الصلاة ، ويأتوا بواجباتها على أصولها ومقرّراتها المشروعة حتى لا يقع فيها زيع ولا يتطرّق إليها باطل. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) عطف سبحانه على الإيمان إقامة الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية ، ثم عطف على ذلك العبادة الماليّة التي هي الإنفاق في سبيل الله على ما هو المقرّر شرعا من الواجب والمستحبّ. والرّزق لغة الحظّ والنّصيب ، وعرفا إعطاء الله تعالى للحيوان ما ينتفع به كلّ بحسبه ، فبالإضافة إلى الإنسان هو الأموال ، والقوى ، والأبدان السالمة ، والجاه ، والعلم ، وفي رأس هذه النّعم التوفيق لصرف كل واحدة منها في محلّه وفيما خلق لأجله. وعن محمد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : هو العلم الذي منّا يأخذون ويعلّمون غيرهم. وعن ابن عباس أن المراد به زكاة المال التي يؤدّون إلى مصارفها. ومن إسناد الرزق إلى نفسه سبحانه ، ومدحهم بالإنفاق ، نستفيد أن الحرام خارج عنه وليس منه لتنزّه ساحته السامية وارتفاع مقامه العالي جلّ وعلا عن القبائح ، وعدم قابلية الحرام لمدح منفقه. والإتيان (بمن) التبعيضيّة رمز إلى أنهم في الإنفاق منزّهون عن الإسراف والتبذير. وتقديم المفعول لمزيد الاهتمام به لكونه حلالا ، ولكونه مما به تعيش الحيوانات طرّا. ولذا أسنده جلّ وعلا إلى ذاته المتعالية. وعن الصادق عليه‌السلام : وممّا علّمناهم يبثّون. وهذا قريب مما ذكرناه سابقا عن محمد بن مسلم عنه (ع).

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : إما عطف على الذين يؤمنون بالغيب ، فالمراد بالمعطوف هو أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله وبما جاء به ، كعبد الله بن سلام وأشباهه ، فيشاركونهم في صفة التقوى. وإما عطف على المتّقين ، كأنه قيل : هدى لهؤلاء الذين يؤمنون بما أنزل إليك إلخ .. وهؤلاء هم الأوّلون بأعيانهم. وتوسيط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين

تلك الصفات وهذه. والمراد بما أنزل : هو القرآن ، والشريعة بأسرها (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب السماوية الماضية والشرائع السابقة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي يعلمون تمام العلم من غير شك وترديد .. وتقديم الظّرف وتقدّم الضمير وانفصاله تعويض على غيرهم من أهل الكتاب ، وحصر للإيقان بالمؤمنين بمحمّد وبما جاء به ، وبالأنبياء السابقين وكتبهم وشرائعهم. وتحصيل اليقين بالآخرة له طريقان : الأول بإخبار الصادق المصدّق ، والثاني بالمعجزة. ولليقين ثلاث مراتب :

الأولى علم اليقين ، وهو يحصل لسالك طريق الحق من الاستدلال ، أو المكاشفات ، وكشف الشهود ، وإدراك باطنيّ يحصل به اليقين.

والثانية عين اليقين وهي فوق مقام علم اليقين ، لأن علم اليقين قابل للزوال بل سريع الزوال ولو بتشكيك مشكّك أو الإتيان ببرهان أتقن وأدلّ ، ينقض البرهان الأول وهذا بخلاف من أتي ببراهين حصل له منها عين اليقين ، فهذه المرتبة السامية ولو كانت متفرعة إلى حدود تقوم على مقدّمات المقام الأوّل ، إلا أنها بعد وصول السالك إليها ، يصل إدراكه الباطنيّ ، وتوصله رياضته النّفسية ، إلى حدّ لا يؤثّر فيه تشكيك المشكّك ، ولا يختلج بباله من إرابة المريب ريب ، بحيث يصير لو أن أهل الدنيا بأسرهم اجتمعوا على خلاف معلومه ومتيقّنه لا يتأثر بهم ولا يهتم بمخالفتهم له أبدا ، لأنه يرى معلومه كما يرى الشمس في رابعة النهار ، ويمشي على ضوء متيقّنة بكمال الاطمئنان ، ويرى معلومه مجسما عنده مقرّرا لا يرقى إليه شكّ.

والثالثة حق اليقين. وهي أرقى من السابقتين. فالسالك بعد إكمال المرتبة الثانية ، وارتقائه في يقينه بنتيجة رياضاته النفسانية ، يصل إلى مقام يصير فيه بصره حديدا وسمعه شديدا ، فيرى ما لا ترى عيون غيره من الناس ، ويسمع ما لا تسمع آذانهم ، ويدرك ما لا يخطر على قلوب أقرانه ، إذ ترتفع

الحجب ، وتزول الأغطية ، فيرى الأشياء على ما هي عليه بحقائقها وبواطنها وكما يرى ظواهرها سواء بسواء ، فيصل إلى هذا المقام الجليل المسمّى بحق اليقين. وكم من العباد وفّقوا لإدراك هذه المرتبة من اليقين كالشابّ الأنصاريّ الذي سئل : كيف أصبحت؟ قال : على يقين إلى آخر قصته .. وكالبشر الحافي ، ونظائرهما كثيرون في الأمم السابقة والحاضرة. وقد قال بعض الزهّاد : الطّرق إلى الله كثيرة ، والهداية من الله موجودة حاصلة. لكنّ الذي يقدر أن يجد الطريق ويهتدي به إليه سبحانه ، ويثبت ويتمكّن أن يكون في الطريق قليل قليل ..

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : قوله : أولئك ، إشارة إلى الصّنفين من المؤمنين ، أو القسمين المذكورين آنفا في عطف الآيات السابقة. وكلمة (عَلى) في هذه الآية للاستعلاء ، ومعناه تشبيه تمسّكهم بالهدى أو ثباتهم عليه باعتلاء الراكب مركوبه وتسلّطه عليه ولصوقه به. فالمؤمنون كذلك ملازمون للهدى لزوم الراكب لمركوبه ولا يفارقونه أبدا بل يمضون على ضوئه. ونكّر (هُدىً) هاهنا للتعظيم ، ووصفه بقوله (مِنْ رَبِّهِمْ) تأكيدا لتعظيمه لأنه ممنوح منه ، وليس هو إلّا اللّطف والتوفيق. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تكرير الإشارة لفائدة اختصاصهم وتميّزهم بالمزيّتين عن غيرهم. وإدخال العاطف لاختلاف الجملتين مفهوما خلافا لقوله سبحانه : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ، أي ليس ما نحن فيه كهاتين الآيتين ، فإن الثانية منها مقدّرة ومبيّنة للأولى فلا يحسن العطف هاهنا لأنه يعدّ من باب العطف على النفس. نعم لو قلنا بأن الجملة الثانية ـ في ما نحن فيه ـ أيضا بيانيّة للأولى ، فلا بدّ أن نحمل الواو فيها على الاستئناف لا العطف.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... : لما ذكر سبحانه أولياءه بصفاتهم الموجبة لهم الهدى والفلاح ، أتبعهم بأضدادهم : أي الكفرة العتاة الذين لا يتناهون عن منكر ولا ينتفعون بالتبشير والإنذار. والوجه في فصل قصتهم عن قصة المؤمنين للتباين بينهما من حيث الغرض ، لأن قصة المؤمنين في بيان كشف شأنهم وأوصافهم الجميلة ، بخلاف قصة العتاة والمردة فإنها لبيان تمرّدهم وإظهار أوصافهم السيئة الخبيثة وكشف سوء سريرتهم. فالقضيّتان في طرفي النقيض مفهوما. (وسترى بيان ذلك في ما يلي) (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) سواء : اسم بمعنى الاستواء. والإنذار هو التخويف من العقاب مطلقا. والمراد منه هنا التخويف من عقاب الله تعالى. (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مؤكّدة لما قبلها فلا محلّ لها من الإعراب ، أو هي حال من ضمير عليهم أيضا مؤكّد. وهذا الإخبار منه تعالى لا ينافي قدرتهم على الإيمان ، لأنه سبحانه يخبر عن علمه بحالهم وعاقبة أمرهم. وعلم الله بعدم إيمان شخص لا يسلب قدرة الشخص ، كما أن علمه بإيمانه لا يجبره عليه ، فلا يكون تكليفهم به تكليفا بما لا

يطاق. وهذا إخبار بالغيب منه تعالى ، وإعجاز عن النبيّ (ص) ، لأنه أمر يعجز عن الإتيان بمثله الإنسان الأمّي إلّا بوحي أو إلهام منه تعالى. وهذا الطريق منحصر بالأنبياء والرّسل عليهم‌السلام.

٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) ... الختم أخو الكتم ، إذ في مقام الاستيثاق بالشيء يضرب الخاتم عليه ، فهو كتم له. وعن الرضا عليه‌السلام : هو الطّبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ). ولا يتوهّم شبهة أن الطبع ينفي قدرتهم. فتكليفهم ـ مع عدم القدرة ـ تكليف بالمحال ، لأن الله سبحانه ـ لمّا علم تصميم الكفرة وإلزامهم أنفسهم بأن لا يؤمنوا ولو أبقاهم الله أبد الدهر جحدا وعنادا ـ ختم وطبع على قلوبهم ، على كفرهم وعنادهم الأبدي ، وهم ـ مع ذلك ـ مكلفون بالأصول والفروع ، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار. ولعزمهم على كفرهم أبد الآبدين وجزمهم على ذلك. فهم مخلّدون في النار دهر الداهرين مع عصيانهم مدة قليلة. وهذا التخليد في العذاب على قصدهم لا على مجرّد عصيانهم.

فالإشكال على مسألة التخليد من بعض الجهلة مرتفع أيضا. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي غطاء ، من غشّاه أي غطّاه. وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وقصرّوا فيما أريد منهم ، جهلوا ما لزمهم الإيمان به ، فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر أمامه ، فهم لا يبصرون الحق والحقيقة (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) والعذاب كالنّكال زنة ومعنى ، ثم سمّي به كلّ ألم فادح وإن لم يكن نكالا أي عقابا. و (العظيم) نقيض الحقير ، كالكبير نقيض الصغير. والعظيم فوق الكبير ، والحقير دون الصغير ، والتنكير إشارة إلى قسم من العذاب لا يعلم كنهه إلّا الله عزّ اسمه.

* * *

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

٨ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) ... وهم الذين زادوا على كفرهم وعنادهم النّفاق. أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان ، وهم أخبث الكفرة لخلطهم كفرهم بالإيمان تمويها. (بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) تكرّر الباء لادّعاء الإيمان بكل واحد على الأصالة (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) تكذيب لقولهم : آمنّا ، على ما حكى عزوجل في صدر هذه الآية (١).

(وَمِنَ النَّاسِ) ... أصل الناس أناس ، حذفت الهمزة وعوّض عنها لام التعريف. وهي اسم جمع ، ولامه للجنس ، أي : ومن الناس ناس. والمراد (بمن) الموصولة : ابن أبي سلول وأضرابه كمعتب بن قسمين ، وجماعة أخرى كانوا مع هؤلاء ، أخبث وأنجس منهم بدرجات ، من الذين كانوا في الأصل يهودا وآمنوا خوفا أو طمعا. وقد قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ) وما قال ومن المؤمنين لأن إخراجهم عن جملة المؤمنين أبلغ في توهينهم وعدم الاهتمام بهم وبشؤونهم ، وتأكيدا لنفي الإيمان عنهم رأسا.

٩ ـ (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ... الخدع (بالفتح والكسر) الختل ، وهو أن يظهر للغير خلاف ما يخفيه ، وما يريد به من المكروه ، وأصل معناه الإخفاء. ومعنى المخادعة أن يعملوا معهم معاملة المخادع من إبطان كفرهم وإظهار الإسلام لديهم. وإنما أضاف مخادعة الرسول إليه تعالى لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، وكما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). والمخادعة مع المؤمنين هو إيذاؤهم بخديعتهم (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يضرّون بتلك الخديعة أحدا وإنما يرجع وبال ذلك عليهم دنيا وآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي : وما

__________________

(١) تنبيه : أخذ سبحانه ابتداء بتوصيف كتابه بآية ، وثنّى بذكر خلّص المؤمنين بأربع آيات ، وثلّث بأضدادهم المحّضين للكفر سرّا وجهرا بآيتين بعدها ، ثم بثلاث عشرة آية نزلت في المنافقين المذبذبين بين الفريقين كما أشرنا في أعلاه.

يحسّون. وقد جعل لحوق ضرر انخداعهم كالمحسوس. فهم لفرط غفلتهم كفا قد الحس لا يشعر بألم خدعتهم وضررها عليهم لأنهم كمن لا شعور له. والحاصل أن الله تعالى يطلع نبيّه على كذبهم وأنهم منافقون في أصحابه ، وهم أكفر الكفرة وأخبثهم.

١٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ... أي شك ونفاق. ووجه تسمية الشك بالمرض أن الشك تردّد بين الأمرين ، والمريض مردّد بين الحياة والممات. أو لأن قلوبهم كانت في اضطرابها تغلي على النبيّ والوصيّ حسدا وحنقا ، كما أن المريض يكون دائما عرضة للاضطراب والتزلزل والخوف من الموت ، ورجاء العافية والصحة والسلامة .. والجملة تقرير لعدم شعورهم ، أو مستأنفة لذكر سببه وكون قلوبهم مريضة ، تارة تحمل على الحقيقة ، وأخرى على المجاز. أما الأولى فلأن قلوبهم كانت متألّمة ومتأثرة ، وهي في قلق وانزعاج حنقا على النبيّ والمؤمنين ، وهذا أشد الأمراض وأصعب الآلام ، بحيث ربما يموت الإنسان منه. وأما الثانية فبناء على أن المراد بالمرض هو الكفر أو الغلّ أو حب العصيان والتمرّد ، مما هو آفة شبيهة بالمرض ، فإطلاق المرض عليها مجاز أو كناية عن الرعب الذي سلّطه الله تعالى عليهم حين رأوا شوكة المسلمين وقوّتهم فقذف في قلوبهم الرعب ... ويحتمل أن تكون هذه الجملة في مقام إنشاء الدعاء عليهم تنبيها للناس على أن الدعاء على المنحرفين عن طريق الشريعة الإسلامية الحقة لازم. ويمكن أن تكون إخبارا بأن القلوب المريضة ـ بطبعها ـ يزداد المرض فيها لضعفها ولكونها مستعدة له كالأمزجة الضعيفة إذا ابتلت بالمرض. فلما لم يكن فيها استعداد لمقاومة المرض ينمو فيها المرض ويصير مزمنا ثم يؤدي إلى الموت. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بحيث تاهت قلوبهم وكادت أن تذوب في الدنيا ، وفي الآخرة (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع غاية الإيلام (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

بمقالتهم آمنا. ولفظ (كان) للاستمرار. ويستفاد من الآية حرمة الكذب وأنه من الكبائر العظام التي وعد الله عليها النار (١). وغير حمزة وعاصم من القرّاء قرءوها بالتشديد أي لتكذيبهم الرسول (ص) بقلوبهم دائما ، وفي جميع أخباره ومقالاته.

١١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) : بإظهار الشّقاق والنفاق بين المسلمين لتشويشهم في دينهم ، وإضلالهم في مذهبهم ، وإثارة الفتن والحروب بين المستضعفين بخداعهم ، فإن ذلك يؤدي إلى الفساد في الأرض. والقائل هو الله تعالى أو الرسول. (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي ليس شأننا إلّا الإصلاح. وقد حصروا أمرهم في الإصلاح لتصوّرهم الفساد إصلاحا ، بل أرادوا أن يصوّروه إصلاحا لمرض قلوبهم.

١٢ ـ (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) .. ردّ لدعواهم الكاذبة. وقد بالغ في الرّد بألا المنبّهة على تحقيق ما بعدها ، وأن الذي وضع التأكيد مدخوله ، وتوسيط الفصل بتكرير الضمير والاستدراك (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بكونهم مفسدين مع غاية ظهور فسادهم الذي هو كالشيء المحسوس ، ولكنّ حبّ الشيء يعمي ويصم.

١٣ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : آمِنُوا) .. وقد نصحوا بأمرين مكمّلان لإيمان العبد ، الأول : ترك الرذائل في قوله سبحانه : ولا تفسدوا. والثاني : اكتساب الفضائل بقوله تعالى (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) ولفظة (ما) مصدريّة ، وجملة المشبّه به في محل نصب على المصدرية (آمنوا إيمان الناس) ولام الناس للعهد ، يراد به النبيّ (ص) ومن آمن من أصحابه الخلّص ، كسلمان وأبي ذر وعمار والمقداد

__________________

(١) أجيز الكذب في الشرع الإسلامي في ثلاثة موارد ، الأول : في الحرب ، كما قيل : الحرب خدعة. والثاني : في مقام الإصلاح بين نفرين أو أزيد ممن يكون بينهم نزاع وكراهة. والثالث : بين الزوج والزوجة لجذب كلّ واحد قلب الآخر وللتأليف بينهما.

رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (قالوا) في الجواب أو فيما بينهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). استفهام إنكاري. ولام السفهاء للعهد. والمعهود هم الناس الذين آمنوا مع الرسول (ص) المذلّون أنفسهم لمحمد (ص). وإنّما سفّهوهم لاعتمادهم سوء رأيهم في إيمانهم بمحمد وبما جاء به ، أو تحقيرا لهم لفقر أكثرهم ولكون بعضهم موالي. وكان أذل الناس عندهم في ذلك العصر الموالي. بحيث يعاملون معهم معاملة الأنعام. والسفه هو ضعف الرأي والخفّة في العقل. (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم سفهاء ، أي أخفّاء العقول أراذل ، إذ عرفوا بالنفاق بين الطائفتين. وهذا ردّ بليغ عليهم لتجهيلهم بجهلهم الراسخ فيهم. وقد فصّلت جهالتهم الشديدة بقوله سبحانه (لا يعلمون) أي يجهلون سفاهتهم. ومن نفي عنهم العلم والشعور فأولئك كالأنعام ، بل هم أضلّ.

١٤ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... هذا البيان تثبيت لكونهم منافقين ، لأن صاحب اللسانين هو الذي يقال له المنافق ، وحاصل صدر قصّتهم بيان لمذهبهم ، وهذه بيان لصنعهم مع المؤمنين والكفّار ، أي إذا رأوا المؤمنين (قالُوا آمَنَّا) بما آمنتم به (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي إخوانهم من المنافقين الذين يكذّبون الرسول مثلهم (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بمحمد وأتباعه. وقولهم : إنما نحن ... تأكيد لقولهم : إنّا معكم. ومعنى : إذا خلوا ، أي إذا انفردوا بالذين هم كالشياطين في التمرّد والعتوّ ـ وهم رؤوس الكفر والضلال ـ أي قسسهم ورهبانهم. قال الضحّاك : كان في عصر الجاهلية ، لكل قبيلة من قبائل العرب ، من يدّعي أنه يعلم الغيب : فكعب بن أشرف كان في بني قريظة ، وأبو بردة كان في نبي أسلم ، وعبد الدار كان في جهينة ، وعوف بن عامر كان في بني أسد. والسبب في أنهم كانوا معروفين في قبائلهم ومسمّين بالشياطين أن الأعراب كانوا يعتقدون أن الذي يخبر عن الغيب يكون معه قرين من الشيطان

يعلّمه طريق تداوي المرضى ومعالجاتهم ، ويعرّفه مكان الضالّة والسارق ونحو ذلك من الأمور الخفية والأسرار المجهولة. فلذلك يطلق على رهبانهم وقسّيسيهم وكهنتهم لفظ الشياطين مجازا بعلاقة القرينة ، والله تعالى أنزل كتابه بلسان أهل عصر نبيّه صلوات الله عليه وآله ، لإتمام الحجة عليهم. فقال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) ... أي قرناء الشياطين.

١٥ ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ... أي يعاملهم معاملة المستهزئ ، أو يجازيهم على استهزائهم. وقد سمّى جزاءه باسمه كجزاء سيئة سيئة. ويمكن أن تكون مجازاتهم على استهزائهم أنهم لمّا كانوا مظهرين للإسلام الظاهر ، فالناس كانوا موظّفين أن يعاملوهم معاملة المسلمين بحسب الظاهر. لكنهم كانوا محرومين من المزايا المعنوية الإسلامية كالإيمان والرحمة وطيبة القلب وصدق النيّة والكرم والشرف ونحو ذلك مما يمتاز به الإنسان المسلم الواقعيّ عن غيره. (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) من مدّ الجيش وأمدّه أي زاده لا من المد في العمر فالمعنى أنه يزيد في فسخ المجال لطغيانهم ، لإصرارهم وازدياد عتوّهم ، ونفاقهم من أجل شق عصا المسلمين وتفرقتهم وتفريقهم فهم (يعمهون) يتحيّرون ويتردّدون ، والعمه هو التحيّر في البصيرة كالعمى في البصر. وإسناد ذلك إليه تعالى إسناد الفعل إلى المسبّب ، حيث إنه منعهم ألطافه لإصرارهم على الكفر والعمه فازدادت قلوبهم رينا ، ففعل الله مصدره فعلهم ، وهو يتولّد منه.

١٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) ... أي استبدلوا الهداية بالضلالة. يعني باعوا دين الله واعتاضوا به الكفر بالله. والاشتراء إعطاء بدل وأخذ آخر ، وهو الاشتراء حقيقة. وفي المقام هو ترك الهداية التي جعلت لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها ، وأخذ الضلالة. فالشراء هنا لم يكن مبادلة ، أي أخذا وعطاء ، بل هو ترك وأخذ (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيح مجاز لما ذكر. فإن الاشتراء أتبعه ما يشاكله تصويرا لما فاتهم بصورة خسارة التجارة. والتجارة طلب الربح

بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس المال ، وأسند إلى التجارة لتلبّسها بالفاعل. فهؤلاء المنافقون ، الذين هم أخبث من الكافرين الممحّضين بالكفر بدرجات ، استبدلوا الهداية بالضلالة ، والطاعة بالمعصية ، والاتحاد بالاختلاف ، والسنّة بالبدعة والربح بالخسارة! .. فأيّة جهالة أسوأ من هذا؟ .. أعاذنا الله من ذلك ، لأن الاستبدال هو استبدال الجنّة بالنار ، ولا يفعل ذلك إلا رأس شجرة النّفاق الذي يقول ، النّار ولا العار. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق الحق والصواب ، أي للتجارة التي فيها الربح الوافر ، بل أضاعوا رأس مالهم باشترائهم الضلالة بالهدى فلا ربح لمن ضيّع رأس المال.

* * *

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

١٧ ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) : أخذ سبحانه في بيان صفتهم العجيبة بأوضح بيان. أي بضرب مثلهم وتشبيه حالهم بحال من هو أوضح حالا منهم. فإنّ ضرب المثل والتشبيه أوقع في النّفس وأقمع للخصم اللّجوج ، فإنّه ألدّ الخصام لأنه يجعل المتخيّل كالمحقّق والمعقول كالمحسوس. والمثل في الأصل النظير ، ثم أطلق على القول السائر. ولا يضرب إلّا لما فيه غرابة ، ثم أستعير لكل قصة أو صفة لها شأن ، نحو : مثل الجنّة التي وعد المتّقون .. ومعنى الآية الشريفة : حالتهم العجيبة كحال من استوقد نارا أي طلب إشعال النار لارتفاع لهبها وسطوع نورها ، ليبصر بها ما حوله (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أي انتشر نورها حول مستوقدها ليستضيء مع وهطه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أطفا نارهم فذهب النور ووقعوا في الظّلمة. والإطفاء يكون بسبب ريح ، أو إنزال مطر ، أو وضع شيء عليها ، أو نفاد مادّتها.

وتوضيح التشبيه أن المنافقين بظاهر إيمانهم رأوا الحقّ وشاركوا المؤمنين في أحكام الإسلام. فلما أضاء نور الإيمان الظاهر ما حولهم ، وأبصروا فوائد الإسلام من حقن الدم وسلامة المال والعرض وحفظ النواميس ، ظلوا على عنادهم وعاشوا في ظلمة ضلالهم ، ثم أماتهم الله فصاروا في ظلمات عذاب الآخرة لا يجدون منها مفرّا ولا مناصا (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) لا يرون بعيونهم. وعن الرضا عليه‌السلام : إن الله لا يوصف بالتّرك كما يوصف خلقه ، ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، منعهم المعاونة واللّطف ، وخلىّ بينهم وبين اختيارهم. وهذا معنى تركه تعالى لهم. وقوله سبحانه : لا

يبصرون ، لعله إشارة الى أن هؤلاء المنافقين أسوأ حالا من البهائم والحشرات ولأن بعضها يبصر في ظلمات اللّيل ، فابتلاؤهم بظلمة النّفاق في الدنيا أعمى أبصارهم في الدنيا والآخرة.

١٨ ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : صمّ طرش عن سماع الحق ، بكم : عييوّن عن النّطق به ، عمي : مكفوفو البصر عن رؤيته. وقد حمل الأصحاب الآية على الآخرة. والحال أنه خلاف الظاهر ، لأن قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، في مقام الذّم إذ يدلّ على أنّهم مكلّفون بالرجوع عن الضلالة إلى الهدى ، وحيث لم يرجعوا ذمّهم الله. فالآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يناسبهم فيها الذّم بعدم الرجوع. فالآية تصف حالهم في الدنيا ظاهرا ، والله تعالى أعلم بما قال. نعم لما كانوا في الدنيا هكذا فسيحشرون على تلك الأوصاف يوم القيامة. قال سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ..)

١٩ ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) (١) ... عطف على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ). أي كمثل ذوي صيّب ، لقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ). و (أو) للإجابة. والمعنى أن قصة المنافقين مشبهة لكلّ من هاتين القصتين. فلك التمثيل بهما أو بواحدة منهما. والصيّب المطر الذي يصوب أي ينزل بشدة ، ويقال : السحاب مطلقا ، وكلاهما محتملان هنا. والتنكير للتهويل ، لأن المراد به هنا نوع خاص من المطر

__________________

(١) ذكر بعض أرباب التفاسير في كتبهم بشأن نزول هذه الآية الشريفة ، ما نقله عبد الله بن مسعود من أنّ نفرين منافقين خرجا من المدينة في عصر النبيّ صلوات الله عليه فرارا ، فابتليا ليلا في البادية بالمطر الشديد والرعد والبرق المتوالي الكثير. بحيث كادا أن يموتا من أهوال الظلمات وأصوات الرعد الهائلة ، وخوف الصواعق المحرقة. فكانا يجعلان أصابعها في آذانهما. فلما لمع البرق مشيا ، ولما خمد ابتليا بالظلمة فوقفا متحيرين ولم يدريا ما يفعلان. فقال أحدهما : يا ليت نخلص هذه الليلة فنرجع إلى المدينة ونتشرف بخدمة النبيّ ونتوب. فلما أصبح الصباح جاء إلى خدمة الرسول (ص) وأسلما إسلاما حقيقيّا وصارا من المؤمنين. وقد شبه المنافقون بهذين النفرين في أول حالتهما.

الهائل. ولام السماء للجنس ، لتطبيقها على جميع آفاقها لا على أفق واحد ، والسماء يراد بها العلاء. ووجه الشّبه هو أن ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر ، وكما أن الأرض تحيا بالمطر ، فإن القلوب تحيا بالحق والهدى. فالتشبيه كان بلحاظ الحياة التي فيهما.

(فِيهِ ظُلُماتٌ) أي في الصيّب الذي أريد به المطر. والظّلمات : ظلمة تكاثفه ، وظلمة غمامة ، وظلمة الليل. وإذا أريد به السحاب فالظّلمات : سحمته (١) ، وتطبيقه مع ظلمة الليل (وَرَعْدٌ) أي الصوت الذي يسمع حين يتولّد من احتكاك وتماسّ الذرات المؤلّف منها السحاب بعضها مع بعض حين تحرّكها بسرعة ، وهو مثل للتخويف والوعيد (وَبَرْقٌ) وهو ما يلمع منه ، ويتولّد من كهربة الاحتكاك. وهو من الآيات الباهرة الدالة على قدرته القاهرة المتضمّنة تبصير العباد. (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) الصاعقة نار تنزل من السماء عند قصف الرعد الشديد وومض البرق الخاطف. والجملة استئناف ، فكأنه قيل : ما حالهم مع هذا الرعد والبرق؟ .. فأجيب به .. والضمائر لذوي الصيّب. واختيار الأصابع على الأنامل مع مناسبة الأنامل ، هو للمبالغة (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوف الموت لئلا تنخلع أفئدتهم ، وخشية أن ينزل عليهم البرق بالصاعقة فيموتوا. وقد كان المنافقون يخافون أن يعلن النبيّ (ص) عن نفاقهم وكفرهم ـ وهو أعلم بهم من أنفسهم ـ ويخشون أن يقتلهم ويستأصلهم. فحينما كانوا يسمعون منه لعنا أو وعيدا لمن خالف الإيمان أو نكث البيعة كانوا كأنّهم يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا فيشاهد تغيّر حالهم أو تغيير ألوانهم فيعرف المؤمنون أنهم المعنيّون بذلك. وقوله : حذر الموت : مفعول له. والموت هو زوال الحياة أو عرض يضادّها. وللصاعقة صفتان

__________________

(١) السحمة : السواد ، والسحاب المتراكم يظهر كذلك نوعا.

كلتاهما متضادّتان مع الحياة. إحداهما شدة الصوت المزعج التي إن لم تهلك بعض الأمزجة فإنها تخيفها وترعبها ، والثانية الإحراق. وصعقته الصاعقة : أهلكته بشدة الصوت أو الإحراق. (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) مطوّق لهم لا يفوتهم لأنه غالب ، ومقتدر عليهم. فإن المحاط لا يفوت المحيط. والجملة اعتراضية للترهيب ...

٢٠ ـ (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) : كأنه قيل : فما حالهم مع هذا البرق الخاطف؟. فأجيب بما في الآية الكريمة. وقد وضعت لفظة (يكاد) لمقاربة الخبر من الوجود. والمعنى : قريب بأن يختلس البرق أبصارهم ، أي يذهب بها سريعا!. فالله سبحانه شبّه المنافقين بقوم ابتلوا ببرق فنظروا إليه ولم يغضّوا عنه أبصارهم لتسلم من وميضه ولا نظروا إلى الطريق الذي أرادوا أن يتخلّصوا من وعورته بضوء ذلك البرق. والمنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة التي يشاهدونها ثم ينكرونها ، يكاد أن يبطل عليهم كلّ ما يعرفونه ويعملون به. فإنّ من جحد حقّا أدىّ به جحوده إلى أن يجحد كلّ حق ، فصار جاحدا ـ على الباطل ـ سائر الحقوق لأن قلبه يعمى وبصره يعشى كما لو نظر إلى نور الشمس رأد الضحى.

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) مع الإضاءة جاء بلفظة (كلّما) ومع الإظلام جاء بلفظة (إذا) بسبب حرصهم على المشي. فكلما صادفوا من البرق فرصة وميض انتهزوها ومشوا ، وإذا هبط الظلام وقفوا وتحيّروا. فكلما أضاء أي ظهر لهؤلاء المنافقين البرهان والحجة على ما يعتقدون (مَشَوْا فِيهِ) أي في نوره لمّا رأوا ما في دنياهم مما يحبّون ففرحوا بإظهار طاعتهم وبيعتهم له (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) وقفوا متحيّرين لا يرون سبيلا يسلكونه إذا رأوا في دنياهم ما يكرهون ، فيقفون متشائمين ببيعتهم وبمتابعتهم من تابعوه (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) يذهب سمعهم بقصف الرعد أو ظهور صوت الدعوة

الكريمة ، ويذهب بصرهم بومض البرق وسطوع نور الإسلام. و (لو) حرف شرط تدل على انتفاء الثاني عند انتفاء الأول وتسمّى الاستدلالية كما في هذه الآية الشريفة. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والجملة في موضع العلّة لقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) إلخ .. والشيء ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه وهو يعمّ الواجب ، والممتنع ، والممكن. وخصّصه العقل هنا بالممكن. والقدير هو القويّ الفعّال لما يشاء على ما يشاء. والله تعالى لا يعجزه شيء عن شيء.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

٢١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ... إن الله تعالى عدل عن الغياب إلى الخطاب تنشيطا للسامع. ولفظة (يا) لنداء البعيد ، وربما استعمل في القريب منزّلا منزلته ، وإما لعظمته أو للاعتناء بشأن المدعوّ أو لغفلته. وكلمة (أي) وصلة إلى نداء المعرّف باللام لتعذّر دخول (يا) عليه. وقد أقحمت ياء التنبيه تأكيدا واهتماما بما خوطب به. وغير خفيّ أن المخاطب هم الموجودون من المكلّفين لقبح خطاب المعدوم ، وكل من وجدوا بعد ذلك فهم يدخلون في الخطاب. ووجه الدخول فيه للعلم بالمشاركة إلّا ما خرج بالدليل عقليّا أو نقليّا. وقيل إن الخطاب يشملهم بدليل خارجي آخر. هذا هو المعروف والمشهور بين الأعلام ، ولكن فيه كلام (١) لا يصدّق بإطلاقه ، والخطاب مختلف فيه بالنسبة إلى المخاطبين ، بالإضافة إلى الكفّار والبالغين المكلّفين جديدا بإحداث العبادة بشرائطها المتوقفة عليها. وأما بالنسبة إلى المؤمنين فزيادة وتثبيت.

(الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الذين خلقهم من قبلكم من الأمم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يستفاد من الآية الشريفة أن العبادة مقدّمة لتحصيل التقوى التي هي أعلى مراتب العبادة ، أو هي ترك المحرّمات والإتيان بالواجبات. والحق أن المعنى الثاني لها هو عبارة أخرى عن المعنى الأول. كما أنه يستفاد من قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أنه ينبغي أن يكون العبد بين الرّجاء والخوف لا مغترّا بعمله وفعاله.

٢٢ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) : أي مبسوطة تفترشونها تقعدون عليها وتنامون ، كالفراش. وهذا لا ينافي كرويّة الأرض ، فإن حجمها العظيم لا يمنع من وجود السهول والمنبسطات على ظهرها. (وَالسَّماءَ بِناءً) أي قبة

__________________

(١) أي كلام المشهور.

مضروبة عليكم (والبناء مصدر سمّي به المبنيّ من بيت أو نحوه) يدير فيها شمسها وقمرها وسائر كواكبها مع أنظمتها الدقيقة التابعة المختصة لكل واحد منها ، ومع المنافع المترتبة على كل واحد. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني ماء المطر فإنه ينزل إلى الأرض من جهة السماء سحابا ، أو مما فوق السحاب. والحكمة في جعل نزول الماء من الأعلى هي من أجل وصوله إلى قلل الجبال وتلال الأرض وجميع أقسامها : عاليها وسافلها. كما أن الحكمة في علة تفريق المطر إلى أنواع مختلفة ، من الضعيف كالطّل ، الى الشديد كالوابل والهيطل ـ هي من أجل ريّ الأرض وإشباعها ، ومن أجل مدّها بالماء الذي يجري فتغنى منه الأنهار والعيون والينابيع وتمتلئ الخزانات الأرضية الجوفية. ولو كان المطر كله غزيرا في مختلف مداراته فان ذلك يفسد الزرع والثمار ويتلف الأشجار وقد لا تستفيد منه الينابيع لأنه يجري سيولا تحدث الانهيارات وتجرف الأتربة وتؤدي إلى الزلازل. فعن النبي الأكرم (ص) أنه قال : ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي أمره به ربه عزوجل. فجميع تلك الأمور تتمّ وفق نظام دقيق خاصّ ، جعله الله تعالى لمنافع العباد ومن ثم لمنافع سائر الموجودات.

(فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) أي بسببه. بأن جعله سببا في حياة الأرض. بما فيها من إنسان وحيوان ونبات ، ومن غلال وخضار وثمار ـ مع قدرته جلّ وعلا على إبداع الأشياء بتمامها بلا سبب ومادة كما أنشأ نفس الأسباب والمواد ، ولكن له ، في إجراء الأسباب لإيجاد الماء تدريجا ، حكما ومصالح قد لا تتحقق في إنشائها دفعة. (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) بعد ما عرفتم أنه تعالى وليّ نعمكم وخالقكم ومنشئ الموجودات بأسرها من العدم الأزليّ إلى الوجود الأبديّ ، بالإضافة إلى ذوي الأرواح ، فلم جعلتم له شركاء وأندادا؟ والندّ : المثل. والجملة معطوفة على (اعبدوا ..) إي إذا استحق ربكم العبادة لما ذكر ـ وأساسها التوحيد ـ فلا تجعلوا له مثلا وشبيها. والندّ

فعلا هو المثل المخالف. فكيف تسمّون أيها المشركون ما تعبدونه أندادا مع زعمكم بأنها تخالفه. فإنكم بترككم لعبادته بعبادتها ، وبتسميتكم لها آلهة قد شابهتموه تعالى بها ، ولذا سمّيتموها أندادا له. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تعرفون أن هذه الأصنام لا تقدر على شيء ، لأنها في واقعها موجودات مثلكم تفتقر إلى الموجد ، بل إنكم تشعرون وتعقلون وتمتازون عنها لأنها جمادات ، فأنتم أولى بالمعبودية منها لو كانت المعبودية جائزة لغير الله سبحانه. والجملة منصوبة على أنها حال من فاعل تجعلوا لله.

٢٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) : عبده ، تعالى : هو النبي (ص). وقد تحدّاهم بما نزّله عليه من القرآن الكريم ، أولا بقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ). ثم تدرّج وزاد في توبيخهم بقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ.) ثم عمد إلى استثارة كامن همّتهم وماضي عزيمهم فقال : فأتوا بسورة من مثله! .. وأنّي لهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة من القرآن الذي أعجز البلغاء وأخرس الفصحاء! .. ولا ينبغي أن ننسى العصر الذي صدر فيه هذا التحدّي ، فإنه عصر بلغت فيه الفصاحة والبلاغة غايتيهما يوم علّق أرباب الفصاحة والبلاغة صحفهم ودواوين شعرهم على الكعبة المكرّمة إعلانا لإنتاج أبلغ ما صاغت قرائح البلغاء من العرب ، وأوسمة بل مداليات عملية عالمية بمعلّقاتهم المختارة. فلما بعث نبيّنا صلوات الله عليه وآله بكتابه الناطق بالحق المنزل من عند ربه عزوجل ، وكان في الفصاحة والبلاغة في مرتبة شامخة فاقت بلاغة العرب ونسخت فصاحتهم بأسرهم ـ لأنه أنسى من قبله وأتعب من بعده ـ لمّا كان ذلك نزعت صحفهم المعلّقة على البيت الحرام ورميت إلى خارجه اعترافا من أربابها ورواتها بأنها دون بلاغة القرآن وفصاحته ، بل وقف يومها جميع فصحاء العرب مكتوفي الأيدي ، ناكسي الرؤوس لا يستطيعون أن يحيروا جوابا على التحدّي ولا

يقدرون على التقليد ، بل لم ينبسوا ببنت شفة. ولذلك قال عزّ من قائل (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي استعينوا بكل من بحضرتكم يعاونكم في الإتيان بسورة مثل سور القرآن ، فإنه تعالى ـ وحده ـ قادر على أن يأتي بمثل هذا القرآن وبأزيد منه بمراتب ، فهاتوا ما عندكم إن كنتم صادقين بأنه (ص) قد تقوّله وجاء به من عند نفسه. وقيل إن المراد بالشهداء أصنامهم التي يعبدونها بالنسبة الى المشركين ، والشياطين بالنسبة إلى اليهود والنصارى ، والقرناء الملحدون بالنسبة إلى المسلمين من النّصّاب لآل محمد الطيّبين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

والحاصل أنه سبحانه ، لما أثبت وحدانيته ، وعلّم الطريق إلى معرفة ذلك ، عقّبه بما هو الحجة على نبوّة محمّد (ص) وهو القرآن ، وجعله معجزا لرسالته ، وأنه من عند الله ، وعلّمه طريق إثباته على البشر بأسرهم بأن تحدّى به الناس بأجمعهم ، فكأنه (ص) قال لهم : لو كان من عندي ومن تقوّلاتي على ما زعمتم فلا أقول : ائتوني بسورة من مثله وهو بلسانكم ولغتكم وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة ، مما أخر سهم وجعل قلوبهم في أكنّة.

٢٤ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا) ... إن لم تعملوا الذي تحدّيتكم به (ولن تفعلوا) لعجزكم ، فلن تقدروا على معارضته وأنتم عاجزون حقّا ، وأنا أعرف بكتابي وأدرى بمعجزي وما نزل في بيتي ، فيجب التصديق به لمن كان يعقل. أما وقد عجزتم ، ولم تمتثلوا لما جاء من عندي (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) جنّبوا أنفسكم النار التي تستحقونها بمخالفتكم وإصراركم بعد أن تمّت عليكم الحجة ، واحترزوا منها. فإنها نار أجّجها الله تعالى للعصاة من خلقه ، و (أعدّها) جعلها حاضرة للكافرين ، وجعل وقودها ـ حطبها ـ الناس والحجارة! ..

والآية الكريمة في مقام الوعيد والتهويل للعباد. وقيل إن الحجارة هي

من نوع حجر الكبريت الأشد حرارة من سائر الأجسام. وقيل أيضا هي الأصنام التي نحتوها من الأحجار كما في قوله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). والقمّي عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم. وقد أطفئت سبعين مرة بالماء ثم التهبت. ولو لا ذلك ما استطاع آدميّ أن يطفئها. وإنها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع على النّار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا جثا على ركبتيه فزعا من صرختها. هذه النّار الشديدة (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي خلقت وهيّئت لهم. وقد دلّت الآية بظاهرها على نار مخلوقة لا أنها تخلق فيما بعد. إلّا أن يقال إن التعبير بالماضي عن الأمر الذي سيوجد ، كناية عن كونه يوجد محقّقا كقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، أي ينفخ فيه مسلّما. وحينئذ فلا تدل على أنها مخلوقة وموجودة الآن قبل يوم القيامة.

* * *

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ

ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

٢٥ ـ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... عطف وصف ثواب المصدّقين على وصف عقاب المكذّبين كما هو شأنه تعالى من ذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطا لاكتساب ما يزلف ، وتثبيطا عن اقتراف ما يتلف. قال تعالى بشّر المصدقين (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) والجملة بيان للمبشّر به ، رتّبت فيها البشارة على الإيمان والعمل إيذانا بأن السبب في الاستحقاق مجموع الأمرين. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي كلّما منّ الله تعالى بثمرة يجتنونها ، أو يأتيهم بها الغلمان أو الملائكة ، فأكلوها (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا. لأن الله تعالى جعل ثمر الجنّة من جنس ثمر الدنيا لإشباع الطبائع التي تميل الى ما تألف ، فأسماء أثمار الجنّة كأسمائها في الدنيا وإن كانت في غاية اللطافة ولذّة الطعم إلى جانب أنها لا تترتّب عليها لوازمها الدنيوية من الأحداث والفضلات والخبائث والعوارض الأخر كالأخلاط الأربعة ليظهر فضلها وميزتها على ما في الدنيا (١).

وجملة (كلّما رزقوا ..) صفة أخرى للجنّات. وكلّما : منصوب ظرفا. ورزقا : ثاني مفعولي رزقوا. و (من ثمرة) بيان أو بدل من الظرف أي (منها). و (جنّات) جمع جنّة ، وهي الحديقة الكثيرة الأشجار. وجريان

__________________

(١) ورد في تعليلها أقوال ، ليس في إيرادها والتعرّض لها من فائدة تذكر.

الماء يكون تحت أشجار الجنة ومساكنها ، وروي أن أنهار الجنة تجري من غير أخدود في الأرض. والنهر مجرى الماء الكبير الواسع ، وهو فوق الجدول ودون البحر ، كدجلة والفرات والنيل وغيرها. وإسناد الجري إلى النهر من باب المجاز في الإسناد لأن الجري صفة الماء. فالمراد بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يعني مياه الأنهار. ويمكن أن يكون الإسناد من باب الإضمار فيكون حقيقة.

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ... أي جيئوا بالثّمر يشبه بعضه بعضا في الاسم الناشئ عن المشابهة في النوع واللون ، ولكنه مخالف في الطعم اللّذيذ والرائحة الزكية. قال ابن عباس : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلّا الاسم.

فمناط التشابه في الاسم والصورة ـ إذا ـ لا أكثر. (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) منظّفة أبدان الأزواج من الحيض والأقذار والأدناس الظاهرية والمعنوية.

ونقية أخلاقهن من السوء كالحسد والنفاق وشكاسة الطبع وغيرها من الصفات المكروهة. ولم يقل طاهرة ، بل استعمل لفظة أبلغ إذ جعلها مطهّرة بالطّبع قد برأها الله تعالى كذلك. والزوج يقال للذكر والأنثى (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون. والخلود هو الثبات الدائم. وبهذا الوعد تتمّ النعمة على المؤمنين ويزول من نفوسهم خوف نقصانها أو احتمال زوالها.

٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) ... نزلت ردّا على الكفرة والمنافقين الذين قالوا : أما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذّباب والعنكبوت؟ .. فنزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) ، لتوضيح الحق لعباده المؤمنين. وفي التمثل فوائد كثيرة ككشف المعنى ، وزيادة الإيضاح ، وإزالة الوهم ، وترسيخ الحقيقة ، ولذا كثرت الأمثال في الكتب السماوية كلّها ، وفي كلام الحكماء والبلغاء.

ولفظة (ما) إبهامية (١) لأن النكرة تزيد إبهاما كقولك : أعتق عبدا ما. أي أيّ عبد كان. وحاصل معنى الآية الشريفة أن الله لا يستحيي : يترك حياء وخجلا ، من ضرب المثل بالبعوضة مع حقارتها. وبما فوقها كالذّباب والعنكبوت مع هوانهما وضعفهما ، لفوائد هامّة يدركها الراسخون في العلم ويعطونها من هم دونهم ليبثّوها في أقرانهم. فلا عجب إذا لم تستطع أذهاننا جلاء الحقيقة المتوخّاة بداهة. وقد قال الامام الصادق عليه‌السلام : إنما ضرب الله المثل بالبعوضة ، لأنها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين (٢) ، لينبّه بذلك المؤمنين إلى لطيف خلقه وعجيب صنعه! .. فهذا المخلوق العجيب ، مع صغر حجمه ، يدلّ على خالق تظهر قدرته في هذا الجرم الصغير ، ويكشف عن توحيده وعظمته ومنع الاختلاف فيه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أما : حرف تفصيل فيه معنى الشرط وتأكيد لمدخوله. والقول يعني أنه مهما يكن من شيء فإنّ المؤمنين يعلمون أنه الحقّ البتّة. ففي تصدير الجملتين مدح بليغ للمؤمنين واعتداد بعلمهم ، وذمّ شنيع للكافرين على حمقهم. والضمير في (أنّه) عائد للمثل أو نضربه. والحق : هو الأمر الثابت الذي لا يجوز إنكاره. (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) يقولون : أيّ شيء أراد وقصد بهذا المثل. يريدون بذلك هتك كتاب الله والاستهزاء به وبرسوله (ص). وفي قولهم (بهذا) تظهر شائبة الاستحقار بوضوح. ومثلا تمييز. (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) الضلالة والهداية متفرعتان عن الجملتين المتصدّرتين بأمّا. فإن

__________________

(١) أي أنها بنفسها فيها إبهام ، تنكيرها يزيد في إبهامها.

(٢) لعل هذين العضوين الزائدين ، جناحا البعوضة اللذان تطير بواسطتها.

العلم بأن الأمثال حقّ ، هداية ، والجهل بأنها في غير موردها ضلالة. أما كثرة المهديّين فباعتبار أنفسهم مع أنهم إذا قيسوا إلى غيرهم قليل. وأما إسناد الإضلال إليه تعالى فينظر إلى السبب : فإنّ الكفرة لمّا اعترضوا على ضرب هذه الأمثلة حدث سبب الضلالة ، فأجابهم الله تعالى بقوله (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن القصد. والفاسق هنا الخارج عن دين الله ، والجاني على نفسه بترك أوامره والإتيان بنواهيه. وقد عرّف انه سبحانه الفاسقين في الآية التالية إذ قال :

٢٧ ـ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ... حدّد صفة فسقهم فهم (ينقضون) أي يردّون ويرفضون (عهد الله) ما أخذه عليهم من الميثاق له بالربوبية ، ولمحمد (ص) بالنبوّة ، ولعليّ (ع) بالولاية ، ولشيعتهما بالكرامة. وقيل : عهد الله : الحجة على التوحيد وتصديق الرّسل (ع). فالعهد هو ما أخذ في عالم الذّر ، و (من بعد ميثاقه) ذاك ، لأن الضمير في الميثاق عائد للعهد. أي بعد إحكام العهد وتوثيقه وإبرامه. (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) صفة ثانية للفاسقين الذين (يقطعون) ينكثون الصلة بالنبيّ والوصيّ والمؤمنين ، أو الأرحام والقرابات ولا سيما مودة ذوي القربى. (ويفسدون في الأرض) صفة ثالثة من أوصافهم القبيحة المذمومة. فهم (يفسدون) ينشرون الفساد ويدعون إلى الكفر والزّندقة ، وقطع طريق المسلمين للسرقة والتخويف والقتل والوعيد ، وإلى الوقوف في وجه ما فيه نظام العالم وصلاحه (أولئك هم الخاسرون) لأنهم فقدوا رأس مالهم : عمرهم وهو أعظم الأشياء عندهم ، صرفوه في كل ما يترتب عليه الضرّر في الدنيا والآخرة. وأيّة خسارة أعظم من استبدال نقض العهد بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، والعقاب بالثواب؟. فهم كمن ضيّع رأس ماله باختياره وكان عاقبة أمره الخسران الذي ألزمه عذاب الأبد وحرمه النعيم السرمد.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

٢٨ ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) ... استفهام إنكاريّ في مقام تعجّب. والخطاب لكفّار قريش واليهود. كيف تكفرون بالله ، تنكرونه ، وكنتم أمواتا : أي عناصر وأخلاطا وأغذية ونطفا في الأصلاب قبل خلقكم ، إلى أن ولج الروح فيكم (فَأَحْياكُمْ) أثناء وجودكم في أرحام أمهاتكم. والعطف هنا بالفاء لتعقّبه بالموت بلا فاصل. أما العطف في باقي الآية الكريمة فجاء بثمّ للتراخي (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد خروجكم إلى دار الدنيا وعند حلول آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور عند السؤال أو يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعودون للحشر من القبور إلى الحساب والثواب أو الجزاء.

٢٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ... خلق ، أي أوجد لكم الأشياء لانتفاعكم في كل ما تحتاجون إليه في حياتكم من المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ونحوها. قال مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه : خلق لكم ، لتعتبروا به ، وتتوصّلوا إلى رضوانه ، وتتوقّوا من عذاب نيرانه. فقد أشار عليه‌السلام إلى أنه خلق جميع ما في الأرض لأجلكم ، ولكن لا لمجرّد انتفاعكم به في دار الدنيا ، بل لتستفيدوا منه أيضا في إصلاح

أموركم الأخرويّة ، ولتكونوا بواسطته على بصيرة من دينكم ، فتعملون لما فيه الرّضوان ، وتتركون ما يؤدي إلى عذاب النيران.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي وجّه قدرته وإرادته لخلقها بعد خلق الأرض وبثّ ما فيها (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي جعلهن مستويات طبق النظام الأحسن والأصلح. وهذه الجملة مفسّرة لقوله تعالى : ثم استوى .. أو بدل منه (١). (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عارف خبير ، لأن خلق هذه المذكورات على النهج المتقن الأكمل لا يمكن إلا من العالم بكنه الأشياء وحقيقتها.

* * *

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ

__________________

(١) القول بالتّسع ممنوع لكفاية السّبع في نظام الأحسن لصريح الآية. ولو كان لازما بأن كان له دخل فيه لخلق ، ومن عدمه نستكشف العدم. وعلى فرض الدخل وثبوته فبضمّ العرش والكرسي الى السماوات السبع.

وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ... إنه تعالى لمّا ذكر نعمة خلق الأرض والسماوات وبني آدم بكيفية مذكورة ، وخلق ما ينتفعون به في الدارين ، أخذ بالتّنبيه إلى نعمة أخرى عليهم ، وهي نعمة خلق أبيهم آدم عليه‌السلام وإكرامه وتفضيله على الملائكة. فليني آدم الفخر بأن خلق عزوجل هذا الأب بيد قدرته بالمباشرة ولم يخلق غيره هكذا لا قبله ولا بعده فيما نعلم. فهذه خصوصية له لا لغيره حتى من الأنبياء (ع) ومن دونهم من الأولين والآخرين.

الملائك : جمع ملأك ، كالشمائل والشّمأل. والتأنيث للجمع. قال جمع كثير من أهل الإسلام إنهم أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة.

وقال البعض إنهم مجرّدون مخالفون للنفوس الناطقة في الحقيقة. وعند بعض النصارى أنهم النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان.

وقيل إن الملائكة الذين كانوا طرفا عند قصة خلق آدم والأمر بالسجود له ، وحصل معهم الحوار ، هم خلق بعثوا مع إبليس لمحاربة الجنّ الذين أسكنوا الأرض ـ قبل آدم (ع) وبنيه ـ فأفسدوا ، فأجلوهم وسكنوها بعدهم. هؤلاء قال تعالى لهم (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وهو من يخلف غيره ، والمراد هنا آدم (ع) فإنه خليفة الله في أرضه ، أخبرهم بذلك إظهارا لفضل المخلوق البديع ، أو لتعليم المشاورة في الأمور كما علّم نبيّه (ص) بقوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) أي كما فعل الجنّ من قبل إذ نشروا الفتن وأراقوا الدماء!. وقد قالوا ذلك سؤالا لا اعتراضا عليه سبحانه ، وفي هذا دليل أن خطاب الله جلّت قدرته كان موجّها إلى من سكن الأرض في ذلك اليوم من الملائكة وإبليس بعد أن طردوا الجنّ وخلفوهم فيها ، ولذا قالوا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي نفعل ما تريد من آدم من التسبيح والتحميد والتقديس ، أي التنزيه والتطهير عما لا يليق بجنابه تعالى ويكرهه. (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أعرف ما لا تدركونه من الغاية. وإرادتي من خلق آدم هي غير ما تبادر إلى أذهانكم وخطر ببالكم.

فالملائكة لمّا كان شغلهم التسبيح والتقديس ، راحوا يقيسون على أنفسهم ، وظنّوا أن المقصود من إيجاد كلّ مخلوق هو التسبيح والتحميد ، والقياس إلى النّفس طبيعي عند كل ذي حياة. ولذلك أفهمهم الله تعالى أن وراء خلق آدم أسرارا لا يعرفونها وأنه ليس محتاجا إلى من يسبّحه ويزيد في عظمته وجلاله.

٣١ ـ ٣٢ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ... أي أظهرها ثم طلب منهم بلين ورفق قائلا (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) أي أخبروني

بأسماء هذه الأشباح التي ستتكوّن من آدم ـ وبعده ـ حال كونهم محدقين بعرشي ، وهم الذين خلقت الكون لأجلهم ، وخلقتهم لأجلي (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم بأنكم أولى بالخلافة في الأرض من آدم؟ (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) إذا أحسّوا بأنه تعالى كره جوابهم الذي جاء على مقتضى خلقهم وأنهم لا يعرفون إلّا ما علّمهم بعد خلقهم. فحصروا العلم بذاته القدسية ، واعترفوا بحكمته التي لا يدركونها ، وأكّدوا ذلك بصيغة المبالغة ، وتأدّبوا في إظهار جهلهم أمام (العليم) العارف (الحكيم) المتقن في أفعاله المصيب في أقواله.

٣٣ ـ (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ... أي أخبرهم بالأسماء ، وعرّفهم المسمّيات في مقاماتها الراقية ومنازلها السامية ، فكيف لا يعرفون تلك المسمّيات وهي في أعلى الدرجات من الكائنات؟ وكيف لا يعرف الناس إذا رأوا الملك وحاشيته ، أنّ من يحدق بالملك يمينا ويسارا هم إجمالا من أعيان المملكة ورجال الدولة وأقرب الناس إلى الملك؟. إنهم بعد تحصيل هذا العلم الإجمالي يحبّون أن يعرفوا أسماءهم ليميّزوهم تفصيلا فيسألون من يعرفهم فيقال مثلا : هذا الذي عن يمينه هو خليفته ، والذي عن يساره رئيس وزرائه ، والذي يليه وزير بلاطه وهكذا .. فمعرفة الأسماء هي المقدّمة في مثل هذه الحال وهي العمدة ، أمّا المسمّيات فتعرف بالقرائن. وما نحن فيه من هذا القبيل. والضمائر في الآية الكريمة معهودة ومعروفة عند الملائكة ، ولو لا ذلك لكان تعليم أسماء المسمّيات المجهولة غير ذي فائدة ، حتى مع الوعد بتعريفها فيما بعد. وليس المقام من هذا الباب. وأما التأويل بالمسمّيات والقول بالمجاز في الإسناد فتأويل بلا طائل ، والقول بالحقيقة أولى مهما أمكن. وغيره ـ فيما نحن فيه ـ على ما بيّناه لا يجوز.

وقد قال بعض أعاظم المفسّرين إن المراد بتعليم الأسماء هو تعليم

المسمّيات ، معلّلا بأن تعليم الأسماء مرجعه إلى تعليم اللغة ، وهو لا يصلح لأن يتفاخر به على الملائكة. وهذا مما لا ينبغي أن يصدّق. مضافا إلى أن إطلاق قوله محلّ تأمّل لأن الأسماء على قسمين :

٨ ـ قسم منها له آثار وخواص مكنونة ، وبذلك صارت ذات شرافة وسموّ ، لأن شرافتها ذاتيّة (١). ولذا نرى أنه تعالى اختصّ ذاته القدسية بأسماء خاصة دون غيرها ، وآثر أولياءه بأسماء ، ثم أمرهم بأن يسموا أولادهم بها. تماما كما أمر نبيّه (ص) بأن يسمي سبطيه (ع) حسنا وحسينا ، وبنته الزهراء البتول : فاطمة (ع). وقد أمر الصادق (ع) بعض أصحابه بأن يغيّر اسم بنته ويسميها فاطمة ، لا لأنه اسم أمّه (ع) فقط ، بل لأنه لا بد أن يكون في الاسم خصوصيّة ذاتية. وكذلك الاسم الأعظم وأسماء الله الحسنى فإن فيها خواصّ وآثارا صارت بها ذات شرافة أو كانت فيها الشرافة الذاتية بمقتضى وضعها ، ولو لأنّ واضعها هو الله سبحانه بالمباشرة وهو الذي جعل فيها تلك الخواصّ والآثار.

فعلى التقديرين ، نرى أن تعليم وتعلّم هذه وأمثالها من الأسماء الشريفة المباركة ليس من باب تعليم وتعلّم اللغة فقط ، بل من أجل تعليم وتعلّم الأسرار المكنونة فيها ، والرموز المحتجبة المستورة عن البشر إلّا عن الأولياء ومن له أهليّة تعلّمها فالملائكة وأمثالهم من الروحانيين.

أما القسم الثاني من الأسماء المتعارفة ـ كزيد وأمثاله ـ فإن تعليمها تعلّم لغة ولا تصلح لشيء مما كنّا فيه. والقول بأن شرافة الأسماء اكتسابية من مسمّياتها قول يرجع لعدم الفرق بين الأسماء ، مع أنه لا شبهة بوجود الفرق بين الاسم الأعظم وأسماء الله الحسنى وبين هذين وسائر الأسماء. والقول بالإطلاق لا يعبأ به إلا كموجبة جزئية كأن يقال : إن حسن المسمّيات وقبحها

__________________

(١) نرى أن لبعض الأسماء شأنا في ذاته ، كما وقع كثير منها في مورد القسم واليمين في القرآن الكريم.

يؤثّران في الأسماء ، وهو أيضا محلّ تأمّل وإشكال.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أخبرهم بها فعرفوها بتطبيق الأسماء على المسمّيات ، وعلموا بأن المسؤول عنهم هم أفضل الخلائق وأقربهم إليه سبحانه ، وأنّهم المفضّلون عليهم وعلى سائر المخلوقات ، لمّا كان ذلك ، كشف الله تعالى للملائكة أن تفضيل آدم عليهم كان بسبب أنّ ذوي الأسماء هم من ولده. فاعترفوا بتفضيل جميع الأنبياء والأولياء عليهم ، وآمنوا بهم ، فقال تعالى (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أعرف مكنوناتها وأسرارها وجميع ما ستر فيها عن خلقي (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وأعرف ما تظهرون من ردّكم عليّ ، وما تخفون في ضمائركم بأنه ليس أحد أفضل منكم. والهمزة في قوله (ألم) للإنكار وإثبات المنفيّ. وقد دلّت الآيات الكريمة على شرف الإنسان وفضله الذي يناله بالعبودية الصحيحة ، وعلى توقّف الخلافة عليه ، وعلى أن آدم أفضل من الملائكة لأنه أعلم منهم ..

٣٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ... أخذ سبحانه في بيان نعمة أخرى على بني آدم وفضيلة ثانية ، إذ أمر الملائكة بالسجود لأبيهم. والأمر ضمنا أمر اختبار للملائكة ، ليظهروا مضمرهم ، إذ كان إبليس من أعبد الملائكة في عصره ، وفسق عن أمر ربّه ، والله تعالى يعلم في سابق علمه أن إبليس يضمر المعصية.

والظرف في الآية عطف على الظّرف السابق (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ). وإذ : نصب بمضمر ، أي : اذكر يا محمد. بل العطف عطف قصة على قصة. والمأمورون هم الجميع لعموم اللّفظ ولقوله تعالى في مورد آخر : فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلا إبليس. فالتخصيص بطائفة منهم لا وجه له .. والسجود ، لغة : التذلل والخضوع ، وشرعا : وضع الجبهة على الأرض

بقصد العبادة. وسجود الملائكة كان تعظيما لله وتكرمة لآدم عليه‌السلام ، كالتكرمة بالسجود على التربة والأفضلية بأن يكون على تربة قبر الحسين سلام الله عليه تكرمة لها كما روي عن أئمة هداة الأمة صلوات الله عليهم أجمعين .. وقيل إن اللام في (لآدم) بمعنى إلى. فجعل آدم قبلة لهم. وهذا خلاف ظاهر الآية الكريمة.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الذي إنما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء. ولم يكن من جنسهم لأنه (كان من الجنّة ففسق ..) (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) عما أمر به ، وترفّع على آدم ، وامتنع عن تعظيمه والتخضّع له مع علمه بأن آدم أفضل منه ومن الملائكة ، وأعلم وأجلّ شأنا وأرفع درجة ، وأسمى مقاما ، وكان ينبغي له أن لا يمتنع عن امتثال امر مولاه في السجود لآدم. ولكنه حسده وخالف أمر ربّه (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) وصار منهم باستكباره واحتقاره لنبيّه عليه‌السلام!. وعن القمّي عن الصادق عليه‌السلام : الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها إذ قال إبليس : ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنه أول من كفر وأنشأ الكفر لعنه الله.

٣٥ ـ (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ... أنت : تأكيد للمستكن ليعطف عليه (الجنّة) اللام فيها للعهد ، والمعهود هو هذه. وقيل هي من جنان الدنيا تطلع وتغرب فيها الشمس والقمر. وبناء عليه يحمل الهبوط ـ أي النّزول ـ الذي أمروا به على الانتقال كما في قوله : (اهبطوا مصر) ، في قضية موسى (ع) وبني إسرائيل. ولكنّ الظاهر من الآيات ومن لفظة (اهبطوا) وخلق آدم في السماء كما هو ظاهر كثير من الروايات ، بل صريحها. أنّ الجنة هي جنة سماوية ، أكانت جنة الخلد أم غيرها. أمّا استبعاد إخراج من دخل جنّة الخلد فجوابه أنه ليس الخروج منها بمحال عقليّ ولا شرعيّ. نعم

المعروف والمشهور هو هذا لأنه يخالف كونها خلدا ، فيقال : إن خروج اثنين أو ثلاثة فيها لا ينافي الخلديّة إذا قوبل بخلود الكثيرين فيها من أول الدهر إلى آخره. وإذا فرضنا أن الخروج غير جائز بأي وجه كان ، فإن ذلك يصحّ لمن دخلها جزاء بما عمل من الصالحات ، لا بالنسبة لمن بدئ خلقه فيها ، أو أدخل فيها لمصلحة اقتضت ذلك موقّتا. فدخول آدم وحواء (ع) من هذا النوع ، مضافا إلى أنهما عصيا الله فيها وخالفا تكليفهما. فهما خارجان من القول بعدم الخروج ، لأن الجنّة ليس فيها مكان للعاصين ، ولا سيما إذا حصلت المعصية فيها.

والعصيان هو الخروج عن طاعة المولى. ويكون تارة بمخالفة أوامره الواجبة ، وطورا بترك أوامره المندوبة. والأول محرّم دون الثاني. ومرادنا من العصيان الذي تكلّمنا عنه النوع الثاني ومن المعروف أن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، فكيف بترك الأولى ، وصدور أمر كان لا يحبّ الله صدوره عن عبده المحبوب ، فأخرجه تأديبا ، لا غضبا كإخراج إبليس لعنه الله.

(وَكُلا مِنْها رَغَداً) أي أكلا واسعا وافرا بلا عناء من أي مأكول تريدان فأنتما في سعة منها (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أي شجرة الحنطة على ما هو المشهور والمعروف. وهذا النّهي تنزيهيّ لا تحريميّ. وقد علّق النهي فيه على الاقتراب من الشجرة ، لأن القرب من الشيء يغري به ويكون مقدّمة لفعله. والنهي عن المقدمة نهي عن ذيها أكيدا ، ولذلك قال سبحانه (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسيكما بالإقدام على ما ليس فيه صلاح لكما. وبعبارة أخرى : تظلمان نفسيكما الثواب بترك المندوب واتّباع الأمر الأحسن وهو الكفّ عن الأكل من الشجرة. والظّلم هو النقص في الحظّ والنّصيب ، فكأنهما أنقصا حظّهما الذي قدّر لهما في حال عدم الأكل من الشجرة. ولمّا أكلا منها حرما من الوصول إلى حقهما ومنعا منه فوقع في نصيبهما ـ الذي هو الثواب على

الأحسن ـ خسران ونقصان كان يترتّب على الكف. والمعنى الآخر للظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه. وهذا ينطبق أيضا على المقام لأنهما وضعا الأكل في موضع الكف ، فتركا الأولى

٣٦ ـ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) : أي حملهما على عدم الثبوت في أمرهما وأزاحهما عن فكرة الكف ، وأوقعهما في المزلقة إذ تركا المندوب الذي كان إتيانه أحسن عنده سبحانه وتعالى. فتمّت خديعة إبليس وأوقعهما في ما نهاهما عنه ربّهما بتغرير آدم أو بإغراء حواء عليهما‌السلام فغلطا وتناولا الطعام من الشجرة بخداع إبليس اللعين (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من النّعم الجزيلة والمواهب السنيّة (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) والخطاب من الله تعالى ، صدر بنزول آدم وحواء (ع) والحية. أما إبليس فقيل إنه لم يكن في الجنّة لأنه رجيم أي ملعون مطرود. يحرم دخوله فيها فكان حواليها. ويقال إن دخوله لم يكن ظاهرا بل تخفّى في فم الحية أو تمركز بين لحييها ليدلّيهما بغروره. وكانت الحية من أحسن دوابّ الجنة ، وكان آدم وحوّاء يظنّان أن الحية هي التي كانت تخاطبهما ، ولم يعلما أن إبليس بين لحييها ولكن لا يمكن القول بأنه قد اختفى على خزنة الجنّة ، إلّا أن يكون ذلك قد تمّ بقضاء الله وقدره. وهكذا أصبح آدم وحواء وما ولدا من الذّرية ، أعداء لإبليس وذريته ، وهو وذريته لهم عدوّ. وهم جميعا والحية وما ولدت أعداء إلى الوقت الذي حدّد تعالى بقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فالأرض هي مكان بقائكم وموضع سكنكم ومنافعكم ومتعكم ومعاشكم ومعادكم ، وأنتم فيها إلى وقت آجالكم ، أو إلى يوم قيامتكم. فلما نزل آدم إلى الأرض ورأى نفسه وحده تذكّر الجنّة فهاج به الحزن فبكى حتى ابتلّت الأرض بدموعه.

٣٧ ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) : أي استقبلها وأخذها بالقبول.

والكلمات يحتمل أن تكون قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية. أو الأسماء الطيبة الخمسة لأهل الكساء (ع) ففيها أقوال عرضت لها التفاسير المفصّلة (فتاب عليه) قبل الله توبته (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير القبول للتوبة. وتكرير الضمير وصيغة المبالغة للتأكيد في أن العباد لا بدّ وأن يكثروا التوبة إليه فرغّبهم بها ، لأنه تعالى يحبّ رجوع المذنبين إليه وسؤال العفو بع الندم ، فهو (الرَّحِيمُ) الواسع الرحمة والإشفاق على العباد. وقد قرنت رحمته هنا بالتوبة وعدا منه للتائب بالعفو والإحسان لطفا منه وكرما.

إلفات نظر : هل كان تلقين الله الكلمات لآدم في السماء أم في الأرض؟. الظاهر أنه كان في السماء لأن آية (تلقّى) محفوفة بآيات كلّها بصورة الخطاب ـ إلّا صدر الآية ٢٦ ـ وكلّها كانت في السماء ، وكان طرف الخطاب ـ آدم وحواء ـ فيها أيضا فبقرينة احتفافها بتلك الآيات كانت هذه الآية المشتملة على جمل خبرية حينما كان المخاطبون في السماء ، وكان التلقّي والتلقين أيضا هناك. هذا مضافا إلى أن التلقين والتلقّي يحملان معنى التفهيم المشافهي. بله أن علة هبوط آدم إلى الأرض كانت من أجل أن يكون خليفة لله فيها ، بل خلق من أجل هذا. وخليفة الله تعالى لا يجوز أن يكون مذنبا فتمّت التوبة والتطهير قبل أن تخلع عليه حلية الخلافة وأعباء الرسالة.

ونستنتج أن الهبوط الأول كان الأمر بالانتقال من الدرجة العالية التي كانوا يتنعّمون فيها إلى درجة دنيا تليها أو تنزل عنها درجات ، من سماء إلى سماء أو من درجة في الجنّة إلى درجة أدنى ، أو أنه انحطاط مقامهم المعنوي ، وهبوطهم الشأني ، أما الهبوط الثاني فهو قوله تعالى :

٣٨ ـ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) : انزلوا من السماء إلى الأرض كلكم ، بعد تلقّي الكلمات وبعد التوبة ، نزولا وهبوطا حقيقيا فعليا تكليفيا إثباتيّا. والفرق بين الهبوطين واضح ، وهو يدل على أسرار هذا الكتاب الكريم. والضمير في

(منها) راجع إلى السماء أو الجنّة وفي التقديرين يكون المراد الجنس لا الفرد الخاص. والجميع : تعني المخالفين للنهي ، والساعين لهما في المكيدة ، وهي حال مؤكّدة ، ولا تفيد نزولهم مجتمعين دفعة واحدة كما صدر عن بعض الأعاظم في سهو قلم على ما يظهر. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) لفظة (ما) زائدة تؤكد إن الشرطية ليحسن تأكيد الفعل وإن لم يتضمّن طلبا وجواب شرط جملة. أي إن يأتكم منّي هدى على لسان رسول أو بكتاب (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فمن اقتنع ومشى بحسب هداي وطريقتي نجا وفاز ولا خوف ولا حذر عليه ، ولا يصيبه ما يحزنه ويكدّره. وقوله (فلا خوف) جواب الشرط الثاني.

٣٩ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) ... أي جحدوا ولم يصدّقوا بآياتي ، وضلّوا عن طريق هدايتي عنادا منهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فهم أهل النار ، وسأخلّدهم في جهنّم خلودا سرمديا جزاء استكبارهم وكفرهم.

* * *

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ

وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

٤٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ... يا أولاد يعقوب الذي هو إسرائيل ، ومعنى إسر : عبد. وإيل : هو الله وإسرائيل : هو عبد الله ، باللغة العبرانية ، وقيل : صفوة الله. قال سبحانه لمن تحدّر من نسل يعقوب (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.) فبعد ان أثبت عزّ وعلا الوحدانية والرسالة والحشر ، وعدّد نعمه العامّة كما مرّ ، خاطب أهل الكتاب وأمرهم بذكر نعمه عليهم وشكرها ، وطلب إليهم الوفاء بعهده والوفاء بميثاقه من معرفة محمد (ص) وكونه قد بعث وأصبح في مدينتكم ، وقد وضحت لديكم دلائله وظهر صدقه في حمل رسالة السماء فلا يشتبه حاله عندكم ، ولا تنسوا أبدا نعمي التي أهمّها إنجاء آبائكم من فرعون والغرق (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أوفوا بميثاقي عليكم في عالم الذّر ، من الإيمان بي وبرسلي وكتبي المنزلة إليكم ، وبما فيها من الشرائع والأحكام ، وببعث محمّد في آخرهم ، والإيمان به وبشريعته ، فإنه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب السماوية وناسخ الكتب السالفة. فإذا وفيتم بهذه المذكورات وفيت بما عاهدتكم عليه من

الأجر والثواب (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافوني. وإياي منصوب بمضمر يفسّره المظهر ، وهذا آكد من قوله تعالى وتقدّس «فارهبوني» في إفادة التخصيص ، والرهبة خوف التحرّز. فعن القميّ : قال رجل للصادق عليه‌السلام : يقول الله عزوجل : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، وإنّا ندعو فلا يستجاب لنا. فقال عليه‌السلام : إنكم لا تفون لله تعالى بعهده ، فإنه تعالى يقول : أوفوا بعهدي أوف بعهدكم. والله لو وفيتم لله بعهده لوفى لكم!

٤١ ـ (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً) ... صدّقوا بالقرآن الذي أنزلت على محمد (ص) فهو يصدّق كتبكم السماوية من التوراة والإنجيل وغيرهما ، ويطابقها جميعا في الدعوة إلى التوحيد والإقرار بمحمد (ص) والأمر بالعبادة وإطاعة المولى والنهي عن مخالفته (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) فهو يحذّرهم إنكار ما أنزل ، ويعرّض بهم خاصة ، لأنهم أهل كتب والواجب عليهم أن يكونوا أول المؤمنين به ، لكونهم عارفين به وبصفاته وبكيفية بعثته. قد قرءوها في كتبهم ، وأخبرهم بها أحبارهم ورهبانهم. فهذا الذي كان مترقّبا منهم ، لا أن يكونوا أول الكافرين به من أهل الكتاب فعلا ، إذ سبقهم إلى الكفر به مشركو قريش. وصدر الآية شاهد على أن الخطاب لأهل الكتاب. في تفسير الأمام عليه‌السلام : أن هؤلاء هم يهود المدينة ، جحدوا نبوّة محمد (ص) وخانوه وقالوا : نحن نعلم أن محمدا نبيّ ، وأنّ عليّا وصيّ ، ولكن لست أنت ذاك ولا هذا ، ولكن يأتيان بعد وقتنا هذا بخمسمئة سنة!. (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لا تستبدلوا حججي برئاسة دنيويّة موقّتة هي لكم في قومكم ، تنالون فيها الرّشى والتحف والهدايا على تحريف الحق وكتمانه. ففي المجمع عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية : أن حيّ بن أخطب وكعب بن أشرف وآخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبيّ (ص) ،

فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره. فذلك الثمن الذي أريد به في الآية. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) تجنّبوا بطشي باتّباع الحق ومجانبة غيره.

٤٢ ـ (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ... أي لا تجعلوا الحق الواضح مشتبها بالباطل ومختلطا به ، كما تفترون وتظهرون في كتبكم من أن محمدا نبيّ منتظر موصوف عندكم ، وتنكرون مجيئه وتعدون بمجيئه بعد مدة انتهاء رئاستكم (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) تخفوا نعوت محمد الموجودة في كتبكم المنزلة من عند ربّكم ، وتخفون الحق (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تعرفون ذلك. فالكتمان منكم بعد العلم أشد خزيا عليكم. والجملة عطف على قوله ولا تلبسوا. أي لا تجمعوا بين لبس الحق وبين علمكم وكتمانكم ، فإن الكتمان مع العلم أقبح ، ولا عذر للعالم .. أو هي منصوبة بإضمار أن.

٤٣ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ... والخطاب في هذه الشريفة لأهل الكتاب كالآيات السابقة ، أي أقيموا صلاة المسلمين وادفعوا زكاتهم. وهي صريحة بأن الكفّار مخاطبون بالفروع كالأصول ، والإنكار من بعض الأكابر عجيب لأنه اجتهاد في مقابل صريح الكتاب مع عدم ناسخ فيما بأيدينا ، ينافي خصوص المورد!. والظاهر في خصوص الزكاة في خصوص المورد وأمثاله أنها الزكاة المالية ، وقيل هي الفطرة ، وفسّرت : بالأعم من الأموال إذا وجبت ، ومن الأبدان إذا لزمت. وفي الكافي عن الكاظم عليه‌السلام ، أنه سئل عن صدقة الفطرة أهي مما قال الله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)؟. فقال : نعم. وفي رواية أن الآية نزلت وليس للناس أموال ، وإنما هي الفطرة.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). ذكر سبحانه الركوع بعد ذكر ما تشتمل عليه الصلاة ، لأنه يرمز إلى الافتقار وانحطاط الحال. فهو مع الانحناء وانخفاض الرأس ، يكشف عن الخضوع الخاصّ الذي ليس في غيره ، ولذا خصّه تعالى

بالذّكر. ويحتمل أن يكون الأمر بالصلاة أمرا بالصلاة الانفرادية ، والأمر بالركوع مع الراكعين كناية عن الصلاة مع جماعتهم ، أي صلّوا مع جماعة الراكعين. فبكلا الخصوصيّتين آثر سبحانه ذكر الركوع. وقيل إن صلاة اليهود ليس فيها ركوع ولذا أمرهم به ، والله أعلم بما في كتابه.

٤٤ ـ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) ... جاءت في مقام التعجّب والتوبيخ. والبرّ العطاء ، والصدق ، وإطاعة الوالدين ، وطاعته تعالى ، والمراد هنا كلّ خير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) تتركونها معفاة من ذلك؟ .. فقد كان الأحبار والرّهبان يرشدون بعض من استنصحهم سرّا إلى اتّباع محمد (ص) ولا يتّبعونه هم أنفسهم ، ويأمرونهم بالصدقات وفعل الخيرات ولا يفعلونها. فالآية موجّهة إلى علماء أهل الكتاب ، ولذا جاءت بسياق التوبيخ والتعجّب ، لأن العالم إذا علم بشيء ولم يعمل طبق علمه فعل قبيحا ، وينبغي أن يوبّخ .. وبعد أن تعجّب سبحانه من فعلهم هذا ، قال : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) تقرأون التوراة الآمرة بفعل الخيرات ، الناهية عن المنكرات ، المبيّنة لصفات نبيّ آخر الزمان (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ألا تدركون إيّ قبح يترتّب على عدم امتثالكم وتناسيكم أنفسكم؟. فهو توبيخ بليغ لمن يعظ غيره ولا يتّعظ ، فكأنّه لا عقل له ولا حكمة عنده!. ولا يخفي أن في الآية حثّا للواعظ على تكميل نفسه قبل أن يطلب كمالها في غيره ، فقد قال الصادق عليه‌السلام ... ويقال للناسي نفسه : يا خائن!. أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك؟! ...

٤٥ ـ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) ... أطلبوا العون لأنفسكم بالصّبر على اتّباع الحق ورفض المال والجاه ، وبكف النفس عن مشتهياتها وميلها إلى المعاصي ، وضعفها عن الطاعات. وقيل إن الصبر في الآية هو الصيام ، فعن الصادق عليه‌السلام فيها : إن الصبر الصيام ـ وعنه (ع): إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم ، فإن الله تعالى يقول : استعينوا بالصبر والصلاة ،

يعني الصيام. وفي المجمع عن العياشي عن الصادق (ع) أيضا : ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما؟ .. أما سمعت الله يقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)؟. (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أي الصلاة عن القمّي. ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الاستعانة. والمراد بكبرها كونها ثقيلة شاقة كما في قوله سبحانه : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) إلخ ... أي صعب وشقّ. (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) المتواضعين الخاضعين لله تعالى. لأن نبيّنا (ص) الذي يعلن : قرّة عيني الصلاة ، ويقول في أوقاتها : أرحنا يا بلال. أي عجّل في الأذان لها فإنها أحسن مواقفي وأحوالي ، كيف يتصوّر في حقه وحقّ من يشابهه ، أن تكون الصلاة ثقيلة عليه؟. لا ، بل فيها لذّة له لا يذوقها أحد غيره أبدا.

٤٦ ـ (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ... يظنّون هنا : يعتقدون لقاء الله وحسابه. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفسيرها : اللقاء : البعث ، والظنّ : اليقين.

فتوقّعهم ثابت لعلمهم بلقاء ثواب ربّهم. وفي هذه الشريفة بيان وتفسير لما قبلها من المستثنى. وعلى هذا فالظنّ هنا : العلم ، لأن الخاشعين بعيدون غاية البعد عن الظّن بلقاء ربّهم وبالبعث والنشور والثواب والعقاب ، بل هم العالمون بذلك علما يقينا ، وخشوعهم يكشف عن علمهم الذي ذكرناه. (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) معادون يوم القيامة للنّعيم والجنان والجزاء الأوفى. ولكن ، قال الإمام عليه‌السلام في تفسيره : وإنما قال (يَظُنُّونَ) لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم ، لأن العاقبة مستورة عنهم. لا يعلمون ذلك يقينا لأنهم لا يأمنون أن يغيّروا أو يبدّلوا. وقال رسول الله (ص): لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ، ولا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

٤٧ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ... كرّر الخطاب لتنشيط السامع وترغيبه بلذة المتابعة. فقد روي أن لذّة النّداء أزالت مشقّة التكليف. فالخصم يتنزّل عن مقام عناده وحسده قهرا ، ويتأثّر بمخاطبته وتكرير اسمه. فالتكرار هنا ليس مستهجنا ، بل له فوائد جليلة ، وتترتّب عليه آثار كثيرة. فعلى هذا الأساس قال سبحانه (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) حيث إني بعثت منكم نبيّا ـ موسى (ع) ـ وخلّصتكم من ظلم فرعون وقومه ، وأنزلت عليكم المنّ والسّلوى (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي فضّلت أسلافكم على عالمي زمانهم

تفضيلا دينيّا لأنهم آمنوا برسلي وأجابوا دعوتي ، وجعلت منكم ملوكا دنيويّين ورزقتكم من الطيّبات.

٤٨ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) : أي تجنّبوا يوم عذاب لا ينقضي ، ولا تتحمّل فيه نفس عن نفس شيئا ولا تقضي عنها حقّا ولا تخفّف عن كاهلها جزاء. شيئا : مصدر ، وقد نكّر هو ونفسان ، إذ ترفض شفاعة نفس عن نفس. والشفاعة من الشّفع ، وهو الزّوج من العدد ، فكأن المشفوع له (الفرد) يصير شفعا (زوجا) بضمّ الشفيع نفسه إليه. (وَلا يُؤْخَذُ) منها (عدل) أي لا تقبل عنها فدية تعدل الجرم وتوازنه ... والآية مخصوصة باليهود. إذ لا شفاعة بعد ظهور الإسلام إلّا لنبيّنا (ص) ولأئمتنا عليهم‌السلام والأبدال من المؤمنين. أما اليهود المعاندون فلا تنجيهم شفاعة ، ولا تقبل عنهم فدية (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولا ينجحون وينجون من العذاب بإعانة معين ولا بنصرة ناصر ، بل يبقون فيه أبد الأبد. والضمير للنفس النكرة في سياق النفي. والمراد بها النفوس الكثيرة الدالة عليها لفظة (نفس) المفيدة للجمع.

٤٩ ـ (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ... الجملة معطوفة على (نِعْمَتِيَ) في الآية السابقة من باب عطفه الخاص على العام. وأصل الآل : أهل ، لأنه يصغّر على أهيل. وفرعون : لقب كل ملك من العمالقة في مصر ، كقيصر وكسرى لملكي الرّوم والفرس. وفرعون موسى (ع) هو مصعب بن الرّيان أو ابنه وليد. وفرعون يوسف (ع) الرّيان. وبينهما أكثر من أربعمائة سنة. والآية تفصيل لما أجمله في قوله (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ). و (يَسُومُونَكُمْ) أي يهينونكم ويذلّونكم ويذيقونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أشدّه وأسوأه (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) يقتلون الذكور من أولادكم إمّا ببقر بطون الحوامل وإخراجهم وقتلهم ، وإمّا بذبحهم بعد الولادة. والجملة تفسير لسوء العذاب.

(وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقونهن إماء للخدمة والنكاح ، وسبب ذلك أن فرعون رأى في منامه نارا شملت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل. فهاله ذلك فذكره للكهنة فقالوا : سيولد فيهم من يكون هلاكك على يده. فشرع في الفتك ببني إسرائيل ، ولكنه لم ينجه تحفّظه من قدر الله. (وَفِي ذلِكُمْ) أي في صنيعهم معكم ، وإنجائكم منهم (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) محنة واختبار صعب كبير.

٥٠ ـ (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) ... اي اذكروا حينما فصلنا البحر فرقا وجعلنا فيه مسالك تعبرون منها للخلاص (فَأَنْجَيْناكُمْ) خلّصناكم من كيدهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أطبقنا لجج الماء عليهم وقد ذكر فرعون ونسب قومه إليه لأولويته في المحنة .. فعلنا بهم ذلك (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ترون إغراقهم .. وروي أنه تعالى أمر موسى (ع) أن يسري ببني إسرائيل ليخرجهم من مصر ليلا. فلحق بهم فرعون وجنوده ، فصبّحوهم على شاطئ البحر ، فصار بنو إسرائيل بين البحر وعدوّهم. فأوحى الله الى موسى (ع) أن اضرب بعصاك البحر ، فانفلق عن اثني عشر طريقا بعدد الأسباط. فسلكوها بعد أن قالوا لموسى نخشى أن يغرق بعضنا ولا نعلم ، ففتح الله لهم كوى (١) فتراءوا فيما بينهم حتى عبروا البحر. ولمّا وصل فرعون ورأى انفلاق البحر اقتحم المسالك هو وجنوده فأطبق الماء عليهم فغرقوا جميعا. وهذه من أجلّ النّعم على بني إسرائيل ، ومن آيات الله الباهرة ومن أعلام نبوّة موسى عليه‌السلام التي تحدّث بلادة من لا يمكنه الاستدلال بالآيات الخفية والبراهين العقلية والمنطقية. لذا قضت حكمة الله تعالى بمثل هذه الآية لقوم بلغ من عنادهم وحمقهم أنهم ـ بعد أن عبروا البحر ـ رأوا جماعة يعبدون الأصنام فقالوا لموسى : اجعل لنا إلها كهؤلاء. بل بلغ بهم ضعف

__________________

(١) كوى : جمع كوّة ، وهي الخرق في الحائط. وهي هنا الفتحات بين مسالك الماء ، كالنوافذ.

الإيمان إلى اتّخاذ العجل معبودا كما صرّح القرآن الكريم ، فهم بخلاف أمّة نبيّنا محمد (ص) من حيث الذكاء والفطنة وقوّة البرهنة والاستدلال ، لأنهم كانوا يتمكّنون من البرهنة على وجود الصانع عزوجل بوسائلهم البسيطة الساذجة ـ كالبعرة تدلّ على البعير وغيرها ـ ويؤمنون بصدق الرّسل والكتب والملائكة بدون آية مخيفة أو برهان عملي ...

٥١ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ... واعده : ضرب معه موعدا وجعل له ميقاتا بأن ينزل عليه التوراة بعد هلاك فرعون بثلاثين يوما ، هي ليالي تمام ذي العقدة وعشرة من ذي الحجة. وقد عبّر عن الفترة بالليالي لأنها غرّة الشهور ، وفي الليالي يستهلّ القمر الذي يحدّد الشّهر بمنازله يوما بعد يوم. وقيل إن موسى استاك فذهب طيب فمه الشريف فأخّر عشرا. (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أخذتموه إلها تعبدونه بتسويل السامريّ (مِنْ بَعْدِهِ) بعد مضيّ ميقات عودة موسى بالتوراة. فعلتم ذلك (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بشرككم.

أما السامريّ فهو من خيار قوم موسى ولكنه من قوم كانوا يعبدون البقر فبقيت عبادة البقر في نفسه. وقد كان على مقدّمه الزحف يوم هرب بنو إسرائيل وأغرق الله فرعون وقومه. وقد اختصه موسى (ع) فنظر إلى جبرائيل (ع) وهو على فرس له ، كانت كلما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرّك موضعه (١) فجعل السامريّ يتفرّس بذكائه ، فأدرك أن ما يمسّ حافرها تحلّه الحياة ، وصار يأخذ التراب ـ من تحت الحافر ـ ثم صرّه في صرّة حفظها وراح يفتخر بها على بني إسرائيل. فلما ذهب موسى إلى ربّه قال هرون للقوم : تطهّروا مما تحملون من زينة آل فرعون فإنها نجس. وأوقد لهم نارا يقذفونها بها

__________________

(١) يقال إنّ من خواصّ حيوانات الجنة أنها لا تمسّ شيئا ـ ولو جامدا ـ إلا صارت له حياة أبدية لو خلّي وطبعه. شأنها في ذلك شأن ماء الحياة الذي في الدنيا ، والذي من عثر عليه وشرب منه لا يموت أبدا كالخضر عليه‌السلام ولو سقي منه الميّت لحيي حياة أبدية.

فقذفوها فقال السامريّ الذي أشرب حبّ البقر : يا نبيّ الله ، ألقي ما في يدي؟ قال هرون : نعم. فوسوس له إبليس باتخاذ العجل وهو يرمي التراب. ، فصارت الزينة بشكل عجل يسمع له خوار وينبت له الوبر والشّعر. فسجد له إبليس علنا فسجد السامريّ لنجاح معجزته بعد أن استغواه الشيطان ، كما سجد له معهما سبعون ألفا من بني إسرائيل؟.

٥٢ ـ (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) : غفرنا لكم عبادة العجل بعد التوبة وتجاوزنا عن جرمكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله الذي عفا عنكم.

٥٣ ـ (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أعطيناه التوراة (وَالْفُرْقانَ) آياته ومعجزاته المفرّقة بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أملا بأن ترشدوا ، ولكي تهتدوا بما فيه.

* * *

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

٥٤ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ) ... أذكر يا محمّد يوم خاطب موسى قومه قائلا (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) أي ارجعوا إلى عبادة خالقكم ، وأقلعوا عن ذنبكم العظيم. والبارئ من برأ : خلق من العدم ، ومنه البريّة أي الخليقة وجمعها البرايا. ولعلّ وجه التعبير بالبارئ بدلا عن الخالق أنه أراد أن يفهمهم بأنهم كانوا معدومين والله هو الذي صيّرهم موجودين ، فلما ذا لا يشكرونه على نعمة الإيجاد. والعجل هو مخلوق ضعيف محتاج إلى غيره مثلكم ، بل هو أضعف منكم ، فأي ترجيح له عليكم حتى تؤثرونه على أنفسكم وتعبدونه. بل الترجيح لكم لأنكم أرباب عقل ومعرفة ونطق ، أفلا تتفكّرون وتتوبون؟ .. فتوبوا (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) إظهارا للتوبة وفرط النّدم. والظاهر أن التائب كان يقتل نفسه إمّا بأن يباشر المرء قتل نفسه ، وإمّا بأن يتقاتل العبدة فيقتل بعضهم بعضا حتى يجيء أمر الله بقبول التوبة فيرفعوا اليد عن المقاتلة بعدها (ذلِكُمْ) أي قتل أنفسكم توبة وندما (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أحسن بنظر خالقكم من بقائكم أياما قليلة في الدنيا تموتون بعدها فتخلّدون في النار. فما أقسى توبة بني إسرائيل إذا قيست بتوبة أمّة محمّد (ص) التي يكفي فيها الصدق في الإقلاع عن الذنب ، والنّدم على الوقوع في المعصية ، والاستغفار والعزم على تركها فيما بعد! فسبحان الله الحليم الكريم الرؤوف الرحيم. فقد قال سبحانه يا بني إسرائيل : إن توبتكم أفضل عند بارئكم من دنس الشّرك وعبادة العجل. وإذ فعلتم ذلك (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ويحتمل أن تكون هذه الجملة من قول موسى عليه‌السلام. والتقدير : ما زلتم قد فعلتم ما أمركم ربكم فقد تاب عليكم. وهذه الجملة المقدرة متفرّعة عن الجملة المذكورة. فإذا قلنا إنها من كلامه تعالى ـ وإن كان سياق ما قبلها يأبى هذا ـ يكون موضعها مبنيّا على الالتفات ، وتكون متعلّقة بمحذوف كأنّه قيل : ففعلتم ما أمرتم به ، فتاب عليكم. وفي

ذكر لفظة (بارِئِكُمْ) مرة ثانية تقريع لبني إسرائيل وتوبيخ لهم على تركهم عبادة الخالق البارئ إلى عبادة حيوان مثل في البلادة فقد أوقعوا أنفسهم في هلكة لا يطهّرهم منها إلا سورة قتال لإفناء بعضهم بعضا ، يقتلون أنفسهم بأيديهم ليتوب عليهم ربّهم (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) القابل للتوبة مرة بعد مرة والمبالغ في رحمة التائبين والإنعام عليهم بالمغفرة.

٥٥ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ... لن نصدّقك ونعترف بنبوّتك وبأن الله تعالى أرسلك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ننظر إليه عيانا وعلنا ، لنسأله عما تدّعيه من أنك نبيّ وصاحب كتاب وشريعة منزلة من عند الله! .. وجهرة : مصدر منصوب على أنه حال من المفعول المطلق ـ رؤية جهرة ـ أو من نرى الله : ويقال جهر بصوته في القراءة : رفعه وعرّضه للسّماع ، وهنا استعيرت للمعاينة. (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ذلك أنهم سألوا أمرا عظيما عنده سبحانه إذ طلبوا رؤيته مع أن المرئيّ ينبغي أن يكون مواجها وأن يكون جسما وهذا محال بحقه تعالى. وقد صدرت الآية عن تعنيف لهم على طلبهم فأخذتهم الصاعقة السماوية بغتة لخطورة ما رغبوا فيه ، فأحرقتهم بلا مهلة حريق استئصال. أو أنها كانت صيحة عذاب ، أو قصف رعد مهلك ، فماتوا في الحال التي هم عليها وهم ينظرون إلى الصاعقة تنزل عليهم. فما أحرى المسلمين بأن ينظروا إلى تعنّت اليهود وعنادهم حيث يرون العذاب ينزل عليهم ونبيّهم فيهم ، ثم لا يتوبون ولا يرعوون لقساوة قلوبهم التي طبع عليها بالكفر بل لا يتوسّلون بنبيّهم لرفع العذاب!. في حين أنّ الله تعالى كرّم المسلمين تكرمة لسيّد المرسلين إذ قال عزّ من قائل : وما كنت معذّبهم وأنت فيهم!.

٥٦ ـ (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) .... أي أحييناكم. وآثر لفظة «بعثناكم» على لفظة «أحييناكم» لأنّ فيها حجة على صحة البعث والرجعة بعد الموت. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تحمدون الله على إحيائكم بعد إماتتكم

بالصاعقة. وفي العيون عن الرضا عليه‌السلام : أنهم السبعون الذين اختارهم موسى وصاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له : إنك قد رأيت فأرناه كما رأيته. فقال لهم : إني لم أره. فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ...

٥٧ ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) ... بسطنا عليكم ظلّ الغمام في صحراء التّيه ، وجعلناه فوق رؤوسكم ليقيكم حرّ الشمس وبرد القمر (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) يقال إنه كان كالصّمغ يسقط على الأشجار. وهو ألذّ من الشّهد وأنصع من الثلج (وَالسَّلْوى) الطير الدّسم المعروف ، وهو من أطيب الطيور. وقيل إنه كان ينزل عليهم مشويّا عند العشاء فاذا أكلوا وشبعوا منه رفع. (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) يعني قلنا لهم. كلوا من هذا المباح اللذيذ. (وَما ظَلَمُونا) لم يلحقوا بنا ظلما بكفرهم هذه النّعم وتبديل الكفر بالشكر (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) يضرّونها ويجحفون بحقّها.

* * *

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

٥٨ ـ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ... أي بيت المقدس بدليل قوله تعالى في مكان آخر : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وقيل هي أريحا ، القرية القريبة من القدس التي كان يسكنها بقايا العمالقة برئاسة عوج بن عنق. قال لهم بعد الخلاص من التّيه : ادخلوها (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) كلوا ما أردتم من أنواع

الأطعمة أكلا رغدا : واسعا هنيئا. وقد نصب إما على كونه حالا من ضمير «كلوا» أو على أنه صفة للمقدّر : «أكلا». (وَادْخُلُوا الْبابَ) مدخل القرية أو القبّة التي كانوا يصلّون إليها (سُجَّداً) خاضعين ساجدين شكرا لله (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي سجودنا حطّة : أي إنزال لذنوبنا ، من حطّ الحمل عن ظهر الدابّة : أنزله. يعني : قولوا حال سجودكم : نرجو أن يكون فعلنا سببا لحطّ ذنوبنا وكفّارة لخطايانا. فإذا قلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) تجاوز عن ذنوبكم السالفة ، ونزيل أوزاركم عن ظهوركم (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) مع المغفرة زيادة أجر ، ونكثر لمن أطاع وأحسن منكم. وهذه الجملة جاءت في مقام تشويق للتائبين وترغيب لممتثلي أوامر الله المصدّقين بدعوة داعيه. وهو سبحانه أعرف وأعلم بما قال.

٥٩ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً) ... أي غيّروا ، ووضعوا مكان الدعاء بحطّ الذنوب قولا غيره كقول بعضهم : حنطة ، استهزاء بالتكليف!. وقيل إن بعضهم وضع مكان السجدة الزحف على استه نحو الباب ، سخرية واستخفافا بأمر الله عزوجل!. وفي تفسير الإمام علي عليه‌السلام أنهم قالوا : «ما بالنا نحتاج أن نسجد عند الدخول؟. ظنّنا أنه باب متطامن أي منخفض لا بدّ من السجود فيه ، وهذا باب مرتفع. إلى متى يسخر بنا هؤلاء ـ يعنون الأنبياء والرّسل ـ يسجدوننا في الأباطيل!. وجعلوا استاهم إلى الباب وقالوا خلاف ما أمروا به.» ألا إنهم جهلة جحدة كفرة ، يصدق فيهم قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). كيف لا ، وقد أنزل الله عليهم الآيات الباهرات التي لم ينزلها على الأمم من قبلهم : كصيرورة العصا ثعبانا ، وكانفلاق البحر ونجاتهم وإغراق آل فرعون ، وكإنزال المنّ والسلوى عليهم ، وإماتتهم وإحيائهم وإجراء الماء من الصخرة وغيره وغيره .. فإن واحدة من هذه الآيات كانت كافية لغيرهم من الأمم. ومع ذلك أصرّوا على العناد وكفروا برب العباد ونبيّ الرشاد!. أعاذنا الله من شرّهم ومن ضلالهم الذي استحقوا به قول الله عزوجل (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) عتوا ولم ينقادوا لموسى عليه‌السلام في الأقوال ولا في الأفعال (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا مقدّرا ، قيل إنه الطاعون الذي مات فيه

أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة ، وقيل مائة وعشرون ألفا!. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم الذي كانوا لا يرجعون عنه ولو عاشوا أبدا الدهر ..

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

٦٠ ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) ... تذكّر يا محمد حين سأل موسى قومه الماء لّما عطشوا في التّيه (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) عصاه. هي العصا التي دفعها إليه شعيب عليه‌السلام ، وكانت من آس الجنّة أهبطها آدم معه. طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتّقدان في الظّلمة. و «الحجر» : حجر طوريّ مربّع تنبع من كل وجه منه ثلاث أعين ، فلكلّ سبط تسيل عين في جدول يستقون منه ، وهم ستمائة ألف يقيمون على أرض سعتها اثنا عشر ميلا.

وقيل إن الحجر أيضا أهبطه الله مع آدم (١) ، وصار إلى شعيب فأعطاه إلى موسى عليهما‌السلام مع العصا. (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكل سبط عينه (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) نعمه الجزيلة كالمن والسّلوى وماء الحجر (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) لا تطغوا فيها وتظهروا الفساد كما هي عادتكم من عدم الانقياد لأوامر الله سبحانه ونواهيه.

٦١ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ... أي لا صبر لنا على نوع واحد من الطعام الذي هو المن والسّلوى دون غيرهما. فنحن على وتيرة لا تتغيّر ولا تتبدّل ، ولا بدّ من التنويع ومزج هذا الطعام مع غيره لترغب فيه النفوس. فإن تكرار النوع الواحد ينفّر الطبع ولو كان في غاية اللذة (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) اطلب منه لأجلنا (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) أي خضرها وأطايب أنواعها. ومن : للتّبيين. (وَقِثَّائِها) النبات المعروف الذي ثمره يشبه ثمر الخيار (وَفُومِها) الفوم هو الثوم في لغة. وقيل إنه الحنطة ، والذّرة. وسائر ما يخبز (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) وهما معروفان (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أتطلبون تغيير الطعام الأقرب مكانة ، والأسهل تناولا ، والأقل كلفة؟ ، وقيل أستعير هنا للخسّة والدناءة إذا قيس بالمنّ والسلوى ، مع ما به من تعب التحصيل. أتستبدلون الذي (هُوَ خَيْرٌ) أحسن وأرفع منزلة ، وأطيب طعما ، وأبعد عن الكدّ والتعب بسبيله؟. (اهْبِطُوا مِصْراً) اي انزلوا مصرا من الأمصار : أي بلدا من البلدان ، لا مصر فرعون التي خرجوا منها (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) حيث تجدون ما

__________________

(١) في المجمع عن العيّاشي عن الباقر عليه‌السلام : نزلت ثلاثة أحجار من الجنة : حجر مقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل. والحجر الأسود. وفي الكافي عنه عليه‌السلام : إذا خرج القائم عليه‌السلام من مكّة ، ينادي مناديه : ألا لا يحملن أحد طعاما ولا شرابا ، وحمل معه عليه‌السلام حجر موسى ، وهو وقر بعير ، ولا ينزل منزلا إلا انفجرت منه عيون ، فمن كان جائعا شبع ، ومن كان ظمآنا روي ، ورويت دوابّهم ، حتى ينزل النجف من ظهر الكوفة.

طلبتم من تغيير النعمة بأدونها وأخسّها ، فاضربوا في الأرض وكلوا منها بدل ما كان ينزل عليكم من السماء (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) جملة خبريّة مستأنفة ، معلّلة بما سيأتي من قوله تعالى : ذلك بأنهم إلخ .. وهذه من الأخبار الغيبيّة التي ظهرت آثارها على اليهود من زوال ملكهم حتى أيّامنا هذه ، وستبقى إلى الأبد بلا ريب. فاليهود مع كثرتهم ووفرة أموالهم وكونهم أكثر الناس عملا وكدّا في سبيل الدنيا ، ما استقرّت لهم دولة مستقلّة حرة آمنة مطمئنّة ، ذلك أن ضارب الذلّة (أي : الهوان) هو الله سبحانه ، وجاعل المسكنة عليهم هو هو ، فهم محتاجون لغيرهم أبد الأبد. وأيّ ذلّ (أي حقارة) وخزي هو أعظم من حاجة دولة إسرائيل المسخ التي تحتاج دوما للدّعم الخارجي ، والتي هي ولاية ـ بالحقيقة ـ أقامتها أميركا هنا لتضرب المصالح العربية والإسلامية ، ولتبقى المنطقة ـ شرقيّ البحر المتوسط ـ تحت رحمتها وفي قبضتها ، تولّي من تولّي وتعزل من تعزل ، ومع ذلك لم تنم إسرائيل ـ المدّعاة دولة ـ لم تنم ليلة واحدة قريرة العين ، وشغلها الشاغل يتلخّص في زرع الشّقاق والنّفاق أينما كان ، لئلّا يتفرّغ المسلمون لها ويزيلوها من الوجود. وضربتها القاضية التي تمحقها منتظرة منصوص عليها في كتبهم وأخبارهم وفي كتبنا وأخبارنا ، وهي تتراءى في الأفق القريب بإذن الله تعالى عجّل الله فرج من يزيل الوجود اليهوديّ عن وجه الأرض ..

أما لماذا ضرب الله تعالى على اليهود هذه الذلّة وابتلاهم بهذه المسكنة ، فذلك أنهم قوم كفرة فجرة ، ليس أحد في الناس أشدّ منهم خصومة للأنبياء وعنادا لربّ السماء .. جرّعوا موسى وهرون عليهما‌السلام الصّبر ، وقتلوا الأنبياء قتلات نكر ، وجحدوا نبوّة محمد (ص) مع أن كتبهم نصّت عليه بالصراحة والجهر. وهم أهل لجاج وعناد وخبث ومكر ، ولذا لعنوا أكثر من مرة (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا بعد صفاتهم هذه كلّها مغضوبا عليهم ملعونين مستحقّين

للغضب واللّعن ، ولذلك قال تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) : الأول (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) ينكرونها ، والثاني أنّهم كانوا لا يتورّعون عن الوقوف في وجه دعوة الله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريّا ويحيى ، وهذا عمل تقشعرّ منه الأبدان!. فإن قتل كائن من كان جرم كبير ، فكيف بقتل النبيّ الّذي هو من أعظم الكبائر على الأرض وأجلّها عند الله تعالى؟.

(ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ذلك : إشارة إلى ما ذكر من كفرهم وعصيانهم وتعدّيهم حدود الله ونيلهم من مقدّساته ونواميسه ، واستهزائهم بالله وملائكته ورسله وكتبه. وفي الكافي والعيّاشي عن الصادق عليه‌السلام ، أنه تلا هذه الآية فقال : والله ما ضربوهم بأيديهم ، ولا قتلوهم بأسيافهم ، ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها ، فأخذوا عليها فقتلوا. فصار قتلا باعتداء ومعصية .. ذاك أن حكّام الجور ـ في كلّ عصر ـ يتحرّون المصلحين ويلاحقونهم ويحبسونهم أو يقتلونهم ليتخلّصوا من دعوة الخير التي تزلزل عرش الظّلم. وما أكثر الوشاة الذين يشتركون في مثل هذه الجرائم ، لتصير لهم زلفى عند حاكم الجور!.

أما ما روي في بعض المصادر من أنهم كانوا يقتلون بين الطّلوعين ـ من الفجر إلى بزوغ الشمس ـ سبعين نبيّا من أنبيائهم ، ثم يعودون إلى بيعهم وشرائهم وكأنهم لم يفعلوا شيئا

ـ أما مثل هذا القول فلا قيمة له ، لأن الوقت هذا لا يتسع لقتل نبيّ وإرسال غيره ، فكيف بإرسال سبعين وقتل السبعين؟. نعم ، إنهم بدافع أرواحهم الشريرة ـ كانوا لا يتأخرون عن الوشاية بالرسول ، وبكل فرد آمن به ، وبجميع الصّلحاء ، ويوغرون صدور الحكّام على الطيّبين من المؤمنين ، فيؤدي عملهم هذا إلى الأسر والسجن المؤبّد والقتل لكلّ روحانيّ يحمل شيئا من دعوة السماء.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

٦٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ممّن حولك يا محمّد من المسلمين ، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا لما عقّبه سبحانه بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إلخ ... (وَالَّذِينَ هادُوا) دخلوا في اليهودية. وهاد بمعنى رجع إلى الحق وتاب. وسمّوا يهودا لتوبتهم ورجوعهم عن عبادة العجل. أو هو معرّب من يهوذا بن يعقوب الأكبر (وَالنَّصارى) جمع نصران ، كسكارى وسكران. دعوا بهذا الاسم إمّا لأنهم تناصروا فيما بينهم ، أو لانتسابهم الى قرية الناصرة التي كان يسكنها عيسى (ع) بعد عودته مع أمّه من مصر كما في العيون عن الرضا عليه‌السلام. أو هو مأخوذ من قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟. قالَ الْحَوارِيُّونَ : نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ). (وَالصَّابِئِينَ) وفي قراءة : الصابين. وهم جيل صبوا الى دين الله أي : مالوا ، وهم كاذبون في دعواهم. وقيل هم قوم بين المجوس واليهود والنصارى لا دين لهم في الواقع. وفي القمّى أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولكنهم يعبدون الكواكب أو الملائكة ، من : صبأ إذا خرج. أو أنهم من صبا : مال ، وقد مالوا عن جميع الأديان (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صدّق بالله وبالبعث يوم القيامة ، ونزع عن كفره من هؤلاء (وَعَمِلَ صالِحاً) فعل ما أمره الله به خالصا عن الشوائب ، لا يبغي إلّا رضى الرّب (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لهم ثوابهم الذي يستوجبونه على الإيمان

الكامل الخالص من كل ما كرهه الله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا خوف عليهم في الأخرى ولا يحزنون على الدنيا ، وينجون من هذين الأمرين الّذين قد يعرضان لكل أحد. فالاطمئنان من العتاب والأمن من العقاب من أعظم النّعم وأجلّها. وفي هذه الآية بشارة أيّة بشارة لأمّة محمّد (ص) وكرامة أيّة كرامة. و «من» هي مبتدأ وخبره فلهم أجرهم وهي في موضع الجزم ، والجملة خبر إنّ وإنّما رفع : لتكرير «لا».

* * *

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

٦٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي اذكروا العهد الذي أخذناه عليكم بالعمل بما في التّوراة من التكاليف ، ومن الاعتراف بنبوّة محمّد (ص) والوصاية لعليّ والطيّبين من ذرّيتهما (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وهو جبل في صحراء التّيه بسيناء ، قيل إن موسى (ع) لمّا جاءهم بالألواح رأوا أنّ ما فيها من

التكاليف شاقّ ، فكبر عليهم ذلك ورفضوا قبولها ، فأمر الجليل سبحانه جبرائيل (ع) فاقتلع جبل الطّور من أصله وجعله فوق رؤوسهم. تهديدا لعنادهم. فقال لهم موسى (ع) إمّا أن ترضوا بما فرض الله وتعطوا العهد على العمل به ، وإمّا إن يلقى الجبل عليكم ـ وكان الجبل بسعة معسكرهم ـ وقال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) اقبلوه. و «ما» موصول يعني التوراة. والجملة في محلّ نصب بتقدير : قلنا : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ ... (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ وإيمان صادق. وفي العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية : أقوّة في الأبدان ، أم قوة في القلوب؟. فقال : فيها جميعا .. أي بجدّ ويقين من الجوارح وعزيمة من الجوانح. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) والضمير في «فيه» يعود إلى «ما» في قوله : ما أتيناكم : يعني التوراة التي جاءهم بها. أي لا تنسوا ما فيها واعملوا بموجبها ولا تغفلوا شيئا منها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لكي تتجنّبوني وتتّقوني وتخافوا عقابي.

٦٤ ـ (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ... أي : أعرضتم عن العهد والميثاق والوفاء بهما (بَعْدِ ذلِكَ) بعد أخذكم ما عاهدتم عليه (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لو لا تفضّله عليكم بقبول التوبة ، وإمهاله لكم بعد أن راجعتموه فيما فرض عليكم ، ورحمته التي شملتكم بإنعامه عليكم بالإسلام لو لا ذلك (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) مع من خسر من الذين لم يوفّقوا للتوبة ولا للإقرار بمحمّد (ص) بعد ظهور دعوته ، ولا خسارة كتلك الخسارة. ولفظة «لو» في لولا : لانتفاء الشيء بانتفاء غيره .. وتلحقها «لا» فتنفيه لثبوت غيره. والاسم بعدها مبتدأ ، خبره واجب الحذف.

٦٥ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ) ... علمتم : عرفتم الذين اعتدوا : تجاوزوا حدود ما شرع لهم من النهي عن صيد الأسماك يوم السبت. والذين اعتدوا في موضع نصب مفعول به لعلمتم أمّا أمر أصحاب السبت فمسطور في التوراة وسائر كتب الأولين. ولذا خاطبهم سبحانه فقال : لقد

علمتم من خالف الأمر ولم يمتنع عن صيد الحيتان في ذلك اليوم. وكان ذلك في عهد داود عليه‌السلام كما في بعض التفاسير المعتمدة حيث شرعوا بالمخالفة في قرية كانت على ساحل البحر فجعلوا فيها أحواضا وشرعوا لها جداول تدخلها الحيتان في النهار أثناء المدّ الذي يصيب البحر ، ثم لا تستطيع الخروج منها حيث يكون للبحر جزر في الليل ، فيأخذونها صباح كل يوم أحد بعد أن يستحلّوا اصطيادها يوم السبت. لذلك غضب الله تعالى عليهم وقال : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) فجعلهم ـ بالمسخ ـ قردة مبعدين عن رحمته في الدنيا والآخرة. فابتلوا بخزي المسخ وخزي الخسوء. وفي هذا إخبار عن سرعة فعله ذلك بهم ، لا أنه أمر اصطلاحيّ بل معناه سرعة الفعل كقوله جلّ وعلا : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، حالا. فلم يكن هناك أمر ، أي قول ، وإنما هو إخبار عن سهولة الفعل عليه تعالى. ولا بدّ أن نحمل الأمر ـ فيما نحن فيه ـ على الإخبار ، لأن متعلّق الأمر لا بدّ وأن يكون مقدورا للمأمور ، وهاهنا ليس المأمور به تحت قدرة المأمورين بمقتضى الطبيعة البشرية. قال ابن عباس : فمسخهم الله عقوبة لهم. وبقوا ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ، ولم يتناسلوا فأهلكهم الله. وجاءت ريح فهبّت بهم وألقتهم في الماء. وما مسخ الله أمّة إلّا أهلكها. والقردة والخنازير المعروفة ليست نسل هؤلاء. بل هم أنفسهم مسخوا على صورتها. وإجماع المسلمين أنه ليس في القردة والخنازير من هو من أولاد آدم والعياذ بالله من ذلك.

فمنذ قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ... ـ بعد قصة خلق آدم ـ حتى هذه الآية الشريفة ، نجد قوله تعالى كلّه احتجاجات منه على اليهود بنعمه المترادفة التي قابلوها بالعناد للرّسل ، ولا سيما موسى بن عمران عليه‌السلام ، وبالكفران والعصيان رغم ظهور الآيات والمعجزات الدالّة على صدق الرّسل والدعوات ، فعل سبحانه ذلك كلّه تعزية لنبيّنا (ص) ، وتثبيتا لقلبه

الشريف ، وتسلية عمّا كان يقاسيه من مخالفة اليهود وجحودهم ، وليكون ذلك تنبيها لهم وحجّة عليهم تدمغ إخلادهم إلى الضلالة وبقاءهم على الإلحاد بأوامر الله ، وتحذيرا لهم من أن يحلّ بهم ما حلّ بأسلافهم.

٦٦ ـ (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) : الضمير في جعلنا يعود إلى الأمة التي مسخت قردة. وهم أهل أيلة ، القرية التي على شاطئ البحر كما هو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. وقيل إنه قصد المسخ والقرديّة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) لمن حضرها وشاهدها (وَما خَلْفَها) ولمن يأتي بعدها من الأمم ومن ذوي العقول ـ بقرينة المقام ـ فإن قضية المسخ كانت وما زالت عبرة لكل معتبر من الأوّلين والآخرين (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي أنها نصح وتذكير لمن كان متّقيا منهم أو من غيرهم.

* * *

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩)

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

٦٧ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ... اذكروا ـ يا بني إسرائيل ـ يوم قال موسى ليهود عصره : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وسبب الأمر بذبحها كما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا عليه‌السلام : أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ، ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثم جاء يطلب بدمه. فقالوا لموسى : سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله. فقال عليه‌السلام : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ائتوني ببقرة ، (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي تستهزى وتسخر منّا؟. (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) استعاذ به تعالى من أن يسخر ويستهزئ. ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأهم ، ولكن شدّدوا فشدّد الله عليهم.

٦٨ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سل ربّك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) وما صفتها لنمتثل أمره (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ) بعد ما سألته (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي أنها لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بينهما. وفي تفسير الإمام (ع) أنها لا كبيرة ولا صغيرة. (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) فنفّذوا ما أمركم الله تعالى به.

٦٩ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) ... سألوا عن لونها (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ

إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) صفراء شديدة الصّفرة حتى قرنها وظلفها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) ترتاح نفس الناظرين إليها. فعن الصادق عليه‌السلام : من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها.

٧٠ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ... سألوه أن يسأل ربه (يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) تكريرا لزيادة الاستيضاح وبيانا لكثرة لجاجهم وشدة خصومتهم مع نبيّهم (ع) وتماديهم في غيّهم الذي بلغوا فيه مداه ، وعنادهم وإلحاحهم في المخالفة ، فقالوا : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي اشتبهت صفته التي أمر الله بها ، فإذا تمّ وصفها الدقيق سنأتي بها للذبح (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفتها بتعريف الله.

٧١ ـ (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) ... أجاب موسى (ع) أن الله تعالى يقول إنها (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لم تذلّل بحراثة الأرض وقلبها بالفلاحة وبأظلافها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) وليست من النواضح التي تدير النواعير فتسقي الزرع والفعلان صفتان لذلول ، فكأنّه قال : لا ذلول مثيرة وساقية. لا ، الأولى : نافية. والثانية : مزيدة لتوكيد الأولى. والبقرة الموصوفة (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) سليمة من العيوب ، لا وضح فيها ولا لون يخالط لونها. (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي ظهرت حقيقة صفاتها.

والبقرة قد طلبوها من أول الأمر فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل قال : لا أبيعها إلّا بملء مسكها ذهبا. فوجدوا ثمنها باهظا فأخذوا يتردّدون في السؤال ، وضيّقوا على أنفسهم فضيّق الله تعالى عليهم. وقد سئل رسول الله (ص) : إنّ هذه البقرة ما شأنها؟. فقال : إن فتى من بني إسرائيل كان بارّا بأبيه ، وإنّه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه فوجده نائما والإقليد تحت رأسه فكره أن يوقظه ، فترك ذلك. واستيقظ أبوه فأخبره ، فقال له : أحسنت ، خذ هذه البقرة

فإنها لك عوض لما فاتك. فقال رسول الله (ص) : انظروا إلى البرّ ما بلغ بأهله.

أما القتيل فقال عنه ابن عباس : كان شيخا مثريا ، قتله بنو أخيه وألقوه على باب غيرهم كما مرّ فسألوا موسى وأمروا بذبح البقرة ليضرب القتيل ببعضها فيعود إلى الحياة ويخبر عن قاتله ..

فلمّا تمّت صفات البقرة اشتروها (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي فعلوا ذلك ببطء وكانوا يريدون أن لا يفعلوا ذلك : إمّا لغلاء ثمنها. وإمّا خوف فضيحة القاتل ، وإمّا لجاجا في العناد كما هي عادتهم.

* * *

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

٧٢ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ... خوطب الجميع لوجود القتل فيهم أو لمداهنة غير المباشرين معهم ، الكاشفة عن رضاهم بفعلهم ، لكون القاتل معلوما عند أكثرهم من القرائن ، غير أن المصلحة اقتضت إظهاره بهذه الكيفية. (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي اختلفتم وتخاصمتم ، وأصل الفعل تدارأتم فأدغمت التاء بالدال

ووصلت الهمزة بالمدغم لاستحالة النّطق بالساكن ، أي تدافعتم فدفع كلّ متّهم التّهمة عن نفسه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي مظهره ومبرزه ، وكاشف عمّا تسرّون في أنفسكم من كتمان المعلومات.

٧٣ ـ (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ... أي خذوا جزءا من البقرة التي ذبحتموها ، كذنبها أو فخذها أو لسانها ، ثم اضربوا القتيل به فإنه يحيا ويخبر بقاتله. وهكذا فعلوا ، فإنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما وقال : قتلني ابن عمي ، ثم قبض وعاد إلى نومته. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي يعيد لهم الحياة ، كما أحيا ميّتا بملاقاة ميّت آخر في الدنيا ، وكما يبعث الحياة في مخلوق يتلاقى فيه ماء صلب الرجل بماء ترائب المرأة ، وكما يلبس ثوب الحياة لكل مخلوق بنفس الطريقة ، ويخرج منه مثل نوعه ووفق نظام دقيق عجيب. أما في الآخرة فإن الله سبحانه ينزّل ـ بين نفختي الصور ـ من دوين السماء مطرا على الأرض ـ لعلّ فيه أرواح الموتى ـ فتنبت أجساد الخلائق ويعودون إلى الحياة للحساب. وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) ، خطاب من سبحانه لمشركي قريش وغيرهم يبيّن فيه سهولة البعث. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائل قدرته وأعلام الدلالة على صدق محمّد (ص) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تفكّرون وتستعملون عقولكم كيلا تكونوا كمن لا عقل له.

ولو قيل : لم لم يحي الله القتيل ابتداء وبدون هذه الوسيلة؟. قلنا : المصالح تخفى حقيقتها ، وإن كان ظهر منها : المعجزة النبويّة التي تتجلّى فيها قدرة الله جلّ وعلا ، ونفع الولد البارّ بأبيه ، وإظهار الحق بعد ظهور العناد ، وإحراز توبة المكابرين ، وجعل هذه القصة عبرة للمعتبرين بآيات الله من بني إسرائيل ومن المسلمين.

٧٤ ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ... ثم : لاستبعاد القسوة التي هي الصلابة وذهاب اللين والرحمة (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد إحياء القتيل ، وبعد تلك الآية

الموجبة للّين ، فعادت قلوبكم بعدها بقليل إلى القسوة (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في صلابتها وعدم لينها (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) من الحجارة ولم يقل سبحانه : أقسى ، بل قال : أشد لأنها أبلغ في إظهار القسوة ، وقد بيّن تلك الأشديّة بقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) أي من الحجارة ما هو أنفع للناس منكم لأنفسكم. فمن الحجارة ما ينبع منه الماء وتفيض العيون كحجر موسى (ع) وحجارة الجبال. (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) يهبط : ينزل ويتردّى من أعالي الجبال خشية وانقيادا وخضوعا وخوفا في الله وقلوبكم يا معشر اليهود لا تنفعل ولا تتأثّر بشيء ولا تنقاد لأوامر الله ولا تخشاه (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيّها المكذّبون بآياتي ، الجاحدون لنبوّة خاتم رسلي محمد (ص).

فإن قيل : لم قال سبحانه : (مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ...) وكلاهما بمعنى واحد. فما فائدة الثاني بوجود الأول؟. قلنا : التفجّر يدلّ على الكثرة والقوة في الدفع ، والخروج في الثاني يدلّ على القلّة والجريان بالسّح. فهما متغايران ، يرمزان إلى القلوب التي تكون مرة عامرة بالايمان والإخلاص والرحمة ، ومرة فيها شيء من الإيمان على الأقل ، في حين أن قلوب هؤلاء لا من هذا الصنف ولا من ذاك.

* * *

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا

خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(٧٨)

٧٥ ـ (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) ... الخطاب للنبيّ (ص) ، ولصحبه. يعني : هل أنتم تحرصون وترغبون بأن يؤمن لكم هؤلاء اليهود ، ويصدّقوا بالنبيّ وكتابه ويقبلوا ما فيه (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) أي في حال أن فريقا : فئة ، منهم ـ أسلافهم ـ كانوا يسمعون كلام الله تعالى على لسان نبيّه موسى (ع) في طور سيناء ، وكانوا يفهمون أوامره ونواهيه وجميع مواعظه ونصائحه ، (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يغيّرونه ويحوّلونه عن حقيقته ، ويؤوّلونه وفق ميولهم ، وينقلون إلى من يليهم من بني إسرائيل قولا محرّفا. فإن موسى (ع) كان قد اختار سبعين من صلحاء قومه ، واجتبى الأخيار منهم ليحضروا نزول التوراة ويكونوا شهداء على الحق لدى قومهم ، ثم كان منهم التحريف والتأويل والتغيير والتبديل ، مع أنهم ذوو العقول والأفهام ، بل هم المقدّمون ، فكيف تطمعون ـ والحالة هذه ـ بهؤلاء السفلة الجهال من اليهود الذين يعاصرونكم ويقفون من الوحي موقف الإنكار (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) علما وجدانيّا أنهم مفترون كذبة فيما ينقلونه لأصحابهم من صفات محمّد (ص) وموعد بعثته. فإذا حرّف هؤلاء الخلف ، فقد حرّف من قبلهم سلفهم المعاند لآيات الله تعالى.

٧٦ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) ... كسلمان وأبي ذرّ والمقداد ونظرائهم (قالُوا) أي قال هؤلاء المنافقون : (آمَنَّا) صدّقنا بأن محمدا (ص) على الحق وأنّه المبشّر به في التوراة ، وأنه هو المعرّف فيها بنعوته الخاصة (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) جمعتهم خلوة مع أقرانهم من منافقي اليهود ـ بعيدا عنكم ـ قال المنافقون لأندادهم ممّن قابلوا المؤمنين : لم حدّثتم المؤمنين بمحمّد بما بيّن الله لكم في التّوراة من صفاته؟. ولم أخبرتموهم بذلك وفتحتم لهم باب الاحتجاج عليكم وعلينا ـ اليوم وفي يوم القيامة ـ حين أظهرتم لهم ما نطق به كتابكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتدركون أن الذي اعترفتم به لهم ، صار حجة في يدهم علينا جميعا عند ربّنا!. فانظر إلى عناد اليهود وكفرهم ، فقد رأوا ـ بجهلهم ـ أنهم إن لم يحدّثوا المؤمنين بما في التوراة من أوصاف النبيّ (ص) لا يكون لدى المؤمنين حجة أخرى غيرها ، أو أنه لا يحدّثهم بذلك غيرهم ، أو أنّ ما في التوراة يخفى عليهم!. ونسوا أنّ الله سبحانه قد أخبر نبيّه بما في التوراة وبما في غيرها من الكتب السّماوية من أوصافه وعلاماته ، وأنه لم يكن عند أصحاب الكتب أيّ شك في أنه هو النبيّ الموعود ، وأنه خاتم النّبيين والمرسلين.

٧٧ ـ (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ... أفلا يعرف اليهود القائلون لإخوانهم : أتحدّثونهم بالحقّ ليحاجّوكم به (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) يعرف (ما يُسِرُّونَ) ما تحكونه في سرّكم ، وما تضمرونه من عداوة محمّد (وَما يُعْلِنُونَ) من إيمانكم الكاذب لأنكم تظهرون الإيمان وتبطنون الكفر ... والاستفهام تقريريّ ، أي : نعم إنه يعلم جميع ذلك.

٧٨ ـ (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) ... جاهلون للقراءة والكتابة (١) (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أي التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) جمع : أمنية ، وهي التعليل بالكذب ، فهم لا

__________________

(١) لعلّ وجه التسمية بالأميّ تعني النسبة للأم ، أي أنه كناية عن أنه لا يزال كما خرج من بطن أمّه لا يقرأ ولا يكتب.

يعرفون من التوراة إلّا أكاذيب أحبارهم المختلقة ، ولا يفهمون النّصوص ـ حين يسمعونها منهم ـ ويتّبعون قولهم ولو كان على خلاف ما في التوراة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) بما يقلّدون به رؤساءهم ، مع أنه يحرم عليهم تقليدهم. قال رجل للصادق عليه‌السلام : إذا كان عوامّ اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوامّ اليهود إلّا كعوامّنا يقلدون علماءهم؟ ، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء. فقال عليه‌السلام : بين علمائنا وعوامّنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة ، وتسوية من جهة ، أما من حيث استووا فإنّ الله قد ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذمّ عوامّهم. وأما من حيث افترقوا فلا .. قال : بيّن لي ذلك يا ابن رسول الله (ص). قال : إن عوامّ اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّريح وأكل الحرام والرّشى ، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات. وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم. وعرفوهم يقارفون المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله. فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ، ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه. ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله (ص) ، إذ كانت دلائله أوضح من أن يخفى ، وأشهر من أن لا يظهر لهم. وكذلك عوامّنا إذا عرفوا عن فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة ، والتكالب على حطام الدّنيا وحرامها وإهلاك من تعصّبوا عليه. إلى أن قال عليه‌السلام : فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد .. وفي آخر الرواية

قال عليه‌السلام :

فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا لهواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه. وذلك لا يكون إلّا عند بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.

* * *

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

٧٩ ـ (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ... الويل : حلول الشّر. والهلاك. وأدنى وأسوأ بقاع جهنم ، أو شدة العذاب فيها. وكلمة تلهّف وتحسّر. وهو مصدر لا فعل له. وهو هنا مبتدأ نكرة ، لأنه دعاء ، ولا بأس به فيها. والمراد بالذين يكتبون الكتاب : اليهود. أي الذين يكتبون التوراة المحرّفة ، بأيديهم ـ تأكيدا ، كما يقال : رآه بعينه ، وسمعه بأذنه. فهذه

التأكيدات مصطلح وارد في كل اللغات واللهجات ، وقد نزل القرآن عليها ترغيبا فيه. ويمكن أن يجاب عن ذكر الأيدي بأن في ذكرها فائدة تدلّ على بيان مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم ، مما يزيد في تقبيح عملهم ، فإنه قد يقال : كتب فلان كذا ، وإن لم يباشر الكتابة بنفسه كمن يكون عند كاتب. فهؤلاء كانوا يحرّفون أحكام التوراة (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وذلك أنهم كتبوا صفات النبي (ص) عن التوراة بعد ما حرّفوها ، ثم نسبوها إلى التوراة المنزلة ، كقولهم للمستضعفين : إنه يظهر في آخر الزمان ، وأنه طويل القامة ، ضخم الجثة ، بطين ، أصهب الشّعر أشقره. ونحو ذلك من الصفات الكاذبة التي ليس فيه (ص) واحدة منها (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي ليعتاضوا بما يأخذونه من أعراض الدنيا. كالهدايا والرّشى والوجاهة ، وغير ذلك مما هو قليل زائل مهما كان جليلا. (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الحرام ، والمعاصي بإزاء هذه المقالات الكاذبة.

٨٠ ـ (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) ... هذا جوابهم لذوي أرحامهم حين سألوهم : لم تفعلون هذا النفاق مع أنكم تنالون غضب الله وسخطه وستخلدون في النار؟. فأجابوا قائلين : ليس الأمر كما تزعمون ، ولن يعذّبنا الله بالنار (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) كمقدار ما عبدنا العجل ـ أربعين يوما ـ ثم نصير إلى الجنان. والمسّ هو اتصال الشيء ببشرة الجسم حيث يتمّ الإحساس. (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي : يا محمّد قل لهؤلاء المنافقين : بأي برهان تستدلّون على دعواكم الباطلة؟. هل عقدتم مع الله سبحانه عهدا بأن لا يعذّبكم إلّا بمقدار ما عبدتم العجل؟. (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أم تدّعون الكذب وتفترون على الله؟. أي بأيّ الأمرين تقولون ، فأنتم كاذبون. همزة أم عديلة ، ويمكن أن تكون منقطعة ، بمعنى : بل تقولون على الله ما ليس لكم به علم.

٨١ ـ (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ... بلى : إثبات لما يتفوّه به. وهي ردّ عليهم ، أي : نعم قد تمسّكم النار ، أنتم وكل (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) عمل عملا قبيحا وفعلا شنيعا (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) طوّقته من جمع نواحيه. وذلك كمن أشرك بالله أو أنكر وجوده عزوجل ، فإنه ليس بعد الكفر ذنب كما يقال ، فالآية الشريفة تشير إلى عظم الخطيئة التي من شأنها أن تحيط بمرتكبيها كإنكار الصانع والعياذ بالله (فَأُولئِكَ) أي المرتكبون للسيئات ، الذين تحيط بهم خطاياهم ، هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ففي الكافي ، ورد في ذيل هذه الآية أن الصادق عليه‌السلام قال : لأنّ نيّاتهم في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، فبالبيّنات خلّدوا. وفي التوحيد ، عن الكاظم عليه‌السلام قوله : لا يخلّد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود والضّلال والشّرك. وهذه الرواية تؤيّد ما قلناه من أن السيّئة الموجبة للخلود في النار هي الكفر. وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : السيئة المحيطة هي الشّرك بالله تعالى ، والكفر به. وفي الكافي عن أحدهما (ع) قال : إذا جحدوا إمامة أمير المؤمنين (ع) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

٨٢ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... لما توعّد الله المسيئين الخاطئين بالنار ، ثنّى بوعده الكريم لمن يعملون الأعمال الصالحة ، أي يأتمرون بما أمر به ويتركون ما نهى عنه وقابل الوعيد بالوعد ليرى الناس ثوابه ويخشون عقابه ، ثم عطف العمل على الإيمان لإخراجه عنه ولتغايرهما ، وقال : إن المؤمنين الذين يفعلون الواجبات ويلتزمون بالتّروك (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

* * *

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ

إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

٨٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ... واذكر يا محمد حيث ألزمناهم إلزاما مؤكدا (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) إخبار معناه النّهي ، وهو أبلغ من صريحه فكأنّه قد سورع إلى امتثاله فأخبر عنه ، ويؤيّده قراءة : لا تعبدوا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

أي تحسنون لهما إحسانا. ففي الكافي أن الصادق عليه‌السلام سئل : ما هذا الإحسان؟. قال : أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه ، وإن كانا مستغنيين (وَذِي الْقُرْبى) أي بذي القربى ، تصلونه وتحفظون قربه منكم (وَالْيَتامى) أن ترأفوا بهم وتعطفوا عليهم وتعاملوهم بالشفقة (وَالْمَساكِينِ) وأن تؤتوا المساكين حقوقهم المشروعة لهم. والمسكين بوزن مفعيل من السكون. فكأنّ الفقر أسكنهم في بيوتهم أو قعد بهم عن الطّلب وأخجلهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) يعني قولا حسنا ، بأن تعاملوهم بالخلق الجميل ، وقد وصف القول بالمصدر مبالغة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في أوائل أوقاتها لأنها فيها تكون موجبة لرضوان الله تعالى ، وفي أواخرها تقتضي عفوه. وفي ذلك إيماء إلى عدم رضاه سبحانه لتأخيرها ، غاية الأمر العدم الذي يعقبه العفو والتجاوز ، ويتضمّن الأمر بإقامتها : إتيانها بجميع شرائطها التي لها دخل في صحتها وكمالها (وَآتُوا الزَّكاةَ) التي هي كفء قرينة للصلاة في الاهتمام بشأنها ، لإخراجها وإيصالها إلى أهلها على ما فرضه الله سبحانه في كتابه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم أيها اليهود عن الوفاء بالعهد (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) أي من أسلم منكم (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) منصرفون ، مستمرّون في الإعراض ، ومستبدّون بعدم الوفاء! وقد قيل في تعليل ذلك :

فإن قلت : إن التولّي والإعراض واحد ، فما فائدة الجميع بينهما في الآية؟. قلنا : معناه أنكم تولّيتهم عن الوفاء بالعهد والميثاق ، وأنتم معرضون على التفكير والنظر في عاقبة ذلك. وهو جواب لا بأس به. أما الخطاب في الآية الكريمة ، فللموجودين منهم ، من عهد رسول الله ، وسلفهم ـ على التغليب ـ.

٨٤ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي : يا بني إسرائيل اذكروا حين أخذ الميثاق على أسلافكم وعلى من يصل إليه هذا الأمر من الإخلاف الذي أنتم

فيه (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يريق بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) فيه احتمالان : أحدهما : أن يكون المراد أن لا تفعلوا ما يبيح قتلكم وإخراجكم عن بلادكم وأوطانكم. وقد جعل غير الرجل نفسه لاتّصاله به أصلا أو دينا. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) اعترفتم بذلك الميثاق كما اعترف به أسلافكم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على إقرار أسلافكم.

٨٥ ـ (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ... أيها المنافقون الناكثون المخاطبون (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) بفعلكم ما يكون سببا لقتلكم ، أو أن المراد : قتل بعضهم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) تظاهرون : تتظاهرون اي تتعاونون عليهم بما هو إثم : أي قبيح يستحقّ فاعله اللّوم عليه. والعدوان : هو الإفراط في الظّلم والتعدّي ، وذلك محرّم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) يعني أن الذين تخرجونهم من ديارهم ، وتتعاونون على ذلك وعلى ظلمهم وقتلهم ، إن أسرهم أعداؤكم أو أعداؤهم تدفعون عنهم فدية للأعداء ، من أموالكم ، وتأخذونهم من أيديهم بكلّ قيمة وبكل وسيلة كانتا (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) كرّر سبحانه تحريم إخراجهم من ديارهم لئلّا يتوهّم تحريم المفاداة. والضمير في قوله (وَهُوَ) للشأن. هذا على قراءة (مُحَرَّمٌ) بصيغة اسم المفعول ورفع قوله (إِخْراجُهُمْ). أما على قراءة (مُحَرَّمٌ) بصيغة اسم الفاعل ، فالضمير راجع إلى الله تعالى بقرينة المقام ولا بدّ من نصب (إِخْراجُهُمْ) في هذه الحالة.

(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) فالذي أوجب المفاداة هو الذي حرّم القتل وإخراج العباد عن ديارهم. فما بالكم تطيعونه في بعض وتعصونه في الآخر؟. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) أي يا معاشر اليهود : ما قصاص من يعمل عملكم (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ذلّ بضرب الجزية عليهم ، وقيل هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النّضير. هذا ولمّا كان

ديدن اليهود ـ جنسا ـ هو العمل بآرائهم السخيفة ومخالفتهم لشرع الإسلام خلفا عن سلف ، فلذا يمكن أن يقال إن المراد من الخزي هو الذلّ والهوان الدائمان في الدنيا بأن قدّر ذلك عليهم بلا اختصاص بعصر دون عصر ولا زمان دون زمان (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) يرجعون إلى عذاب في الآخرة يتفاوت على قدر مراتب معاصيهم ومخالفتهم له سبحانه وتعالى. وهو تأكيد للوعيد المذكور آنفا.

٨٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) : ابتاعوا حظّ الدنيا الفانية وحطامها الزائل ، بنعيم الآخرة الباقية الخالدة (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لانّهم باعوا آخرتهم بدنياهم ، فما لهم في الآخرة إلّا النار (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعانون ويساعدون بدفع العذاب عنهم ورفع العقوبات.

* * *

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)

وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ... أي التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) قفّينا : أتبعنا به وأرسلنا على أثره الرّسل : الأنبياء ، واحدا بعد واحد (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الواضحة : كإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، والإخبار بالمغيّبات. أو أن المراد بالبيّنات هو الإنجيل. وعيسى بالسّريانية هو (إبشوع) الذي معناه : المبارك.

ولعلّ لغته كانت السريانية ، ومريم معناه : العابدة أو الخادمة ، لأنها كانت متبتّلة تشتغل في العبادة وخدمة الهيكل .. ثم قال سبحانه عن عيسى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قوّيناه به. ويقال إن روح القدس هو جبرائيل عليه‌السلام. وقيل إنه ملك موكّل بحراسة الأنبياء من الحوادث ، وبحفظهم عن الشّبهات وتسديدهم وإلهامهم العلوم والمعارف ، والإفاضة عليهم بما يليق بشؤونهم السامية آنا بعد آن اختصاصا من الله تعالى لهم ، ولا يكون مع غيرهم. وقيل أيضا هو الاسم الأعظم الذي به يحيي الموتى وبه يحصل تنفيذ سائر الأمور الخارقة للعادة كالمعاجز وغيرها.

والروح القدس هو الذي رفع عيسى عليه‌السلام من روزنة داره إلى السماء ، وألقى شبهه على من وشى به وأراد قتله وصلبه ، فقتل هو وصلب مكانه. وقيل إن الذي رفعه وألقى شبهه على رجل آخر هو جبرائيل عليه‌السلام. وعن الباقر عليه‌السلام : ألقى شبهه على رجل من خواصّه ليقتل

فيكون معه في درجته. (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) يا معشر اليهود : ما لكم كلّما أرسلنا نبّا لا يجيئكم بما تحبّون (اسْتَكْبَرْتُمْ) أي : أخذتكم الكبرياء عن اتّباعه وإطاعته فيما يأمر به أو ينهى عنه (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كموسى وعيسى عليهما‌السلام (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كما فعل أسلافهم ، مضافا إلى أن الحاضرين عهد محمّد (ص) راموا قتله وقتل وصيّه عليّ (ع) فخيّب الله سعيهم وقطع رجاءهم ، كما فعلوا ليلة العقبة وليلة المبيت. بل كانوا ـ في الحرب ـ يترصّدون دائما قتله صلوات الله وسلامه عليه.

٨٨ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (١) ... أي مغشاة بأغطية تحول دون وصول ما تقوله يا محمّد لنا ، ولا نعرف لك فضلا مذكورا في كتب الله ، ولا على لسان أيّ نبيّ من أنبيائه. فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي أبعدهم من الخير والرّحمة ، وأخزاهم لكفرهم ، إذ ليست قلوبهم غلفا بطبيعة خلقها فيصير تعذيب الله سبحانه لهم ظلما حيث لم يصدّقوا بمحمّد (ص) ولا عرفوه ، بل هي كقلوب سائر العباد مخلوقة على الفطرة ، قابلة لمعرفة كلّ شيء ، ولكنّ الأمر هو غير ذلك ، فقد لعنهم الله بسبب كفرهم (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فإيمانهم : تصديقهم في غاية القلّة بدليل أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ... أما كلمة (ما) فمزيدة ، وفائدتها التأكيد لما تدخل عليه.

٨٩ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ... أراد بالكتاب القرآن المقدّس (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي : التوراة ، فإنّ القرآن يصدّق بأنها كتاب سماويّ نزل من عند ربّ العالمين (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل ظهور محمّد (ص) بالرسالة والدّعوة ، كانوا (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يطلبون الفتح والظّفر والنّصر على المشركين ويقولون : ألّلهم انصرنا بالنّبيّ المبعوث في آخر

__________________

(١) الغلف : بفتح الألف وسكون اللام ، معناه : الغشاء.

الزمان ، الذي نجد وصفه ونعته في التّوراة ، وكان الله تعالى يفتح عليهم وينصرهم على أعدائهم من مشركي العرب بفضل محمّد (ص) وكرامته (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) أي : حين أتاهم ما عرفوا من الحقّ المذكور في كتابهم ، وهو نعت محمد (ص) وأوصافه الدّالة عليه وعلى نبوّته (كَفَرُوا بِهِ) أنكروه وجحدوه عنادا وكفرا وطلبا لبقاء رئاستهم (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) المنكرين الذين صاروا ملعونين : مطرودين من رحمة الله ومرضاته بإنكارهم وبغيهم لعنا أبديّا. وقد كانت الفصاحة تقضي بأن يقول : فلعنة الله عليهم. لكن جيء بالظّاهر ليدلّ على أنهم لعنوا لكفرهم. فاللام للعهد ، وهذا يجعل النّص القرآنيّ أبلغ. وقيل بل اللام للجنس فاللعن يشملهم لعمومه.

* * *

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

٩٠ ـ (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) ... أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم. و «ما» في بئسما : نكرة موصوفة بجملة ما بعدها ، ومفسّرة لفاعل بئس المستكنّ

فيها. أي بئس الشيء (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) الجملة بيان ل (ما) الموصولية التي في (بِئْسَمَا) وهذه هي المخصوصة بالذّم. فالله سبحانه ذمّ اليهود وعابهم لكفرهم بما أنزل على موسى بن عمران (ع) من التوراة التي تصدّق محمدا (ص) وتبيّن أوصافه وعلاماته ، واليهود قد عرفوا ذلك وجحدوه (بَغْياً) أي عدولا عن الحق والحقيقة وميلا لظلم النبيّ (ص) وحسدا (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي لأن ينزّل القرآن على محمّد (ص) حيث أبان فيه نبوّته ، وأظهر فيه ، أو به ، آيته التي هي معجزته الباقية إلى الأبد. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : بما أنزل الله في عليّ بغيا (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي رجعوا خائبين مستحقّين لغضب فوق غضب ، الأول حين كذّبوا بعيسى عليه‌السلام فجعلهم قردة خاسئين ، والثاني غضب مرادف لكفرهم بمحمّد (ص) وبغيهم عليه بعد تكذيب سلفه ، فسلّط عليهم السيف ، أي سيوف أصحاب محمّد (ص) .. (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي مذلّ. أقيم الظاهر مقام الضمير أي عليهم ، ليدلّ أنهم لعنوا بكفرهم الذي هو السبب الوحيد لذلك. والإتيان بالظاهر في المقام ينبئ عن السبب ، وهذا له نظائر كثيرة في القرآن الكريم.

٩١ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ... أي صدّقوا بما أنزل على محمد (ص) أو بكل كتاب أنزله على الرّسل. والظاهر من الشريفة العموم (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) ينكرون ما دونه من الكتب السماوية كالإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) الصادق الثابت الناسخ لما قبله. وجملة : يكفرون بما وراءه ، حال من فاعل قالوا. والضمير في قوله : وهو الحقّ ؛ راجع إلى الموصول : بما وراءه مع أن القرآن الذي جاء وراء كتابهم جاء (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ومصدقا : حال مؤكدة من مرجع الضمير في : وهو الحق ، وردّ لمقالتهم ، لأنّ كفرهم بما يوافق التوراة ويصدّقها ـ أي القرآن ـ كفر بها أيضا. ووجه الملازمة أن القرآن لا يصدّق التوراة إلّا بعد أن

تكون فيها أوصاف نبيّنا وشمائله وعلائم نبوّته. فإذا أنكروا القرآن ومن أنزل عليه نستكشف أنهم ينكرون التوراة ، وأنهم كاذبون في مقالتهم الفاسدة.

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي قل يا محمّد لليهود : لو كنتم مؤمنين بالتوراة وبما فيها ، لما كنتم في مقالكم تقلّدون أسلافكم وترضون بأفعالهم كما تأخذون بأقوالهم .. فلم تقتلون أنبياء الله في الأعصار الماضية مع أن صريح التوراة حرّم قتل النّفس المحترمة فكيف بالنفوس المقدّسة ، كنفوس النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين؟. فقد أسند القتل إليهم لرضاهم به ولرؤيتهم أنه صواب. فهم منهم ، وهم كاذبون في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا. بل ليسوا بمؤمنين بالتوراة بالجهتين المذكورتين آنفا ، ولا بما وراء ذلك.

* * *

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

٩٢ ـ (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) ... البيّنات هي الآيات التّسع التي من أعظمها جعل العصا حيّة ، واليد البيضاء. جاءكم بهذه الآيات الواضحات (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أي جعلتم العجل إلها بعد انطلاقه وصعود جبل الطور ليأتيكم بالتوراة ويأخذ الألواح من عند ربّه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم بعبادة العجل. والجملة اعتراضية : أي أنتم ـ معشر اليهود ـ عادتكم الظّلم وسجيّتكم البغي والعناد.

٩٣ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) ... أي : ألزمناكم بالعهد على أن تفوا به ولا تعبدوا إلّا الله ولا تشركوا به شيئا. يعني أن الله تعالى أمر محمدا (ص) أن يقول لليهود : قد أخذ الله عليكم العهد أن لا تشركوا به (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) : هذه الجملة حكاية خطاب الله سبحانه لأسلافهم ، وفيها بيان لأمر الله الشديد ، ولسمعهم وعصيانهم لما أمروا به ، لأن عبادة العجل جرت في قلوبهم مجرى الماء والدماء. وفائدة ذكرها لهؤلاء أنها تشملهم حيث كانوا مقلّدين لأسلافهم ، فما يتوجّه على أسلافهم من التهديد والوعيد يتوجّه عليهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي قلنا لهم : خذوا ما آتيناكم من الدين وأحكامه وفروضه بعزم وثبات ، وبلا شك ولا ريب (وَاسْمَعُوا) ما أمرتم به سماع طاعة (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي سمعنا ما دعانا إليه محمّد (ص) وما أطعناه. ويستشمّ من قولهم (سَمِعْنا) أنهم قالوا ذلك استهزاء وهتكا لمقامه السامي ، ولو لا ذلك لسكتوا. وهذا التجرّؤ هو من صلفهم وعنادهم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي دخل حبّ العجل في أعماقهم كما يدخل الصبغ الثوب فيتخلّله بكافة أجزائه ، وتغلغل في قلوبهم كتغلغل الشّراب في جوف الظمآن (بِكُفْرِهِمْ). يعني أن الإشراب كان بسبب كفرهم ، ولذلك ترسّخ في أحشائهم. وأيّ كفر هو أعظم من أن يجسّد الإنسان الله ، ثم يتمثّله في عجل حقير قذر؟. خصوصا وإن كفرهم هذا قد حملهم على إنكار رسالة النبيّ (ص) بل أنكروه

بشخصه وزعموا أنه ليس هو المبشّر به في التوراة ، ولا الموصوف في الكتب السماوية مع علمهم بأنه هو الموعود المنتظر؟. فهم أكفر الكفرة وأفسق الفسقة.

وفي العيّاشي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : لما ناجى موسى ربّه أوحى الله تعالى إليه : أن يا موسى قد فتنت قومك. قال : بماذا يا رب؟. قال : بالسامريّ. قال : وما السامريّ؟. قال : قد صاغ لهم من حليّهم عجلا. قال : يا رب إن حليّهم لا يحتمل أن يصاغ منها غزال أو تمثال أو عجل. فكيف فتنتهم؟. قال : إنه صاغ لهم عجلا فخار. قال : يا رب ومن أخاره؟. قال : أنا. فقال عندها موسى : إن هي إلّا فتنتك ، تضلّ بها من تشاء ، وتهدي من تشاء. قال فلمّا انتهى موسى إلى قومه ورآهم يعبدون العجل ألقى الألواح من يده فكسرت. قال أبو جعفر عليه‌السلام : كان ينبغي أن يكون ذلك عند إخبار الله تعالى إياه. قال : فعمد موسى فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ، ثم أحرقه بالنار فذرّه في اليم. قال : فكان أحدهم ليقع في الماء وما به إليه من حاجة ، فيتعرّض لذلك الرماد فيشربه. قال : وهو قول الله : فأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم!. (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي التوراة فإنها ليس فيها عبادة عجول ولا أمر بالكفر بالله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بموسى وكتابه كما تزعمون .. والتعبير بالجملة الشرطية يعني التشكيك بإيمانهم ويقدح في دعواهم ، قاتلهم الله!.

* * *

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً

مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

٩٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ... أي الجنّة ونعيمها (عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) أي مختصة بكم كما زعمتم. واللفظة حال من الدار (مِنْ دُونِ النَّاسِ) أي ليست لأحد غيركم من الناس. واللام للعهد ، وهم المسلمون ، أو للجنس فتشمل النصارى وغيرهم من سائر الأمم السابقة واللاحقة ، لأنهم قالوا : لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى. ولعل ذكر النصارى كان من باب إسكاتهم وجعلهم غير تابعين للمسلمين ، لا من باب اعتقاد اليهود بأنهم من أهل الجنّة. إن كنتم تعتقدون ذلك (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) إن كنتم في دعواكم (صادِقِينَ) فإنّ من أيقن أنه من أهل الجنّة يأنس ويشتاق إليها أكثر من أيّ شيء ويتمنّى الموت آنا بعد آن ليخلص من دار العناء والفناء ، ويصير إلى دار النّعيم والبقاء. قال أمير الموحّدين عليه‌السلام : والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه!. فقد جل الله سبحانه وتعالى اختيارهم بتمنّيهم الموت ، لأنهم ادّعوا أنهم أولياء الله وأحبّاؤه كذبا وبهتانا. ففي التوراة مكتوب : إنّ أولياء الله يتمنّون الموت ولا يرهبونه.

٩٥ ـ (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ... جملة نفي وتأبيد. فهم لا يتمنّونه إلى الأبد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما أسلفوا من المعاصي وأسباب دخول النار حتما ، بتحريف التوراة ، وتكذيب القرآن ، وعدم تصديق محمّد (ص). وإسناد فعل القلب والنفس إلى اليد هو أنها مصدر عامّة الصنائع والأعمال الظاهرية ، فكأن الأفعال القلبية تصدر عنها كما في قوله سبحانه : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، مع أن أكثر موجبات الفساد لا ربط لها باليد خاصة دون غيرها : كالكذب ، والخيانة ، والغيبة وأمثالها. والجملة إخبار بالغيب. وهو كما أخبر تعالى ، عنه صلوات الله عليه : لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان ـ أي يهودي ـ بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي .. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) : هذه جملة تضمّنت الوعيد لهم لكونهم من الطاغين لما في دعواهم مما ليس لهم. والكاذب ظالم لنفسه ولغيره.

٩٦ ـ (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ... أي : يا محمّد إنهم ـ مضافا إلى أنهم لن يتمنّوا الموت ـ هم حريصون على حياة متطاولة. وتنكير الحياة لإرادة حياة مخصوصة طويلة عريضة في المقام بقرينة الحكم والموضوع. واللام في الناس للعهد ، والمراد غيرهم من الفرق أو الحرصة على الحياة كالعصاة والكفرة الذين يئسوا من الجنة ونعيمها .. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إذا قيل فيها : ما فائدة قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، وهم جملة من الناس؟. قلنا : إنما خصّوا بالذّكر بعد العموم لأن حرصهم على الحياة أشد من غيرهم ، لأنهم لا يؤمنون بالغيب ، ويكفرون بالبعث ، ولا يرون غير الدنيا دارا أخرى ففيها توبيخ شديد لليهود خاصة لأنّهم يدّعون الإقرار بالجزاء. فحرصهم أشدّ من حرص المنكرين ، فهو إذا يدل على علمهم بأن مصيرهم إلى النار!. (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) أي أنّ منهم من يحب أن يعيش ألف سنة. وفي ذلك تلويح بكذبهم في قولهم إن الجنّة لليهود ، فإنّ

تمنّي الموت في دار الدنيا الملوءة بالعناء والآلام ، المحفوفة بالمكاره ينافي علمهم أنهم من أهل الجنّة وأنّها لهم خاصة. ولكن التعمير ألف سنة لا ينجي الكافر (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) ليس بمبعده عنه (أَنْ يُعَمَّرَ) يعيش كثيرا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) يراهم ويطّلع على أعمالهم ، وسيجزيهم طبق آثامهم وهو لا يظلم مثقال ذرّة.

* * *

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠))

٩٧ ـ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) ... جبرائيل ، كسلسبيل. وقرئ بكسر الجيم وتسكين الباء وكسر الرّاء وسكون الياء مع حذف الهمزة ، كقنديل. وهو الأمين على الوحي لجميع رسل الله صلوات الله عليهم. نزلت حينما قال اليهود ـ أو واحد منهم قيل إنه عبد الله بن صوريا ـ لو كان الذي يأتيك ميكائيل آمنّا بك فإنه ملك الرحمة. أمّا جبرائيل فملك العذاب ، وهو عدوّنا ، فلا نؤمن بك. والحاصل أنه تعالى يأمر نبيّه أن يقول لليهود الذين عادوا

جبرائيل أنهم ظالمون لأنه عليه‌السلام هو الذي أنزل القرآن على قلبك (بِإِذْنِ اللهِ) ومن عنده (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أن القرآن يصدّق ما قبله من الكتب السماوية ومنها كتابهم التوراة. وقد كان ينبغي لليهود أن يحبّوا جبرائيل (ع) ويمدحوه لأنه حمل كتابا يصدّق كتابهم ، لا أن يذمّوه ويعادوه. فقوله : فإنه .. إلى آخرها : جواب للموصول بإقحام ما هو الجواب حقيقة بين الفاء ومدخوله ، وهو غير متّصف بقرينة المقام ومدخول الفاء. أي أن جملة : نزّله ، تقع في مورد التعليل : لأنه نزّله ...

ومن المحتمل كون الموصول استفهاما ، تهديديّا ، وجملة : فإنه نزّله : حاليّة وبيان لعظمة جبرائيل (ع) والله أعلم .. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) هدى من الضلالة ، ومبشّرا بمحمّد (ص). وهما حالان من مفعول نزّله. وقد قلنا : إن جملة : نزّله في مورد الحال وجزاء ظاهرا للشرط ، فحذف الجزاء الواقعي وأقيمت علّته مقامه.

٩٨ ـ (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ) ... المراد بالعداوة لله مخالفة أوامره ونواهيه ، والعناد في إنعامه على المقرّبين من عباده. أمّا الملائكة فلعلّهم ملائكة النّصر المبعوثون لنصرة أولياء الله وإعانتهم في موارد الحاجة (وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) أفردا بالذكر مع دخولهما في الملائكة لفضلهما ، فكأنّهما من جنس آخر ، أو لأن النزاع كان فيهما. فإذا كنتم أيها اليهود أعداء لهؤلاء (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أتى بالمظهر موضع الضمير ليفيد أنه تعالى عاداهم لكفرهم ، وسيفعل بهم ما يفعله العدوّ بالعدو.

٩٩ ـ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ... في المجمع ، عن ابن عباس أنه قال : جاء عبد الله بن صوريا وجماعة من اليهود إلى النبيّ (ص) ـ وكان ابن صوريا من علماء يهود فدك ـ فقالوا : يا محمّد ، ما جئتنا بشيء تطمئنّ به قلوبنا

بأنك الذي أخبرتنا التوراة بظهوره في آخر الزمان ، وما عرفنا هذا الأمر بعلامة ولا برهان جئتنا بهما ، وما أنزل عليك من آية فنتّبعك ، فنزلت هذه الآية الكريمة : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا) .. الآية) فقل يا محمّد لحبر يهود فدك وجماعة الذين يقولون هذا القول : قد أنزل الله آيات بيّنات ، واضحات من حيث الدلالة على صدق دعواي بأني نبي مرسل إليكم من عند الله ، وهي هذا القرآن الذي يحتوي على ما كان من قصص الأنبياء وأممهم الماضية ، وكيفية دعوتهم وعدم إجابة أكثر الناس ، وكيفية العذاب الذي نزل عليهم ، فانظروا في هذه الآيات (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) المتمرّدون الخارجون عن دين الله وطاعته طلبا للرياسة في الدنيا : كاليهود ، وكأشباههم ممن يكونون في أمّتي من المرتدّين الذين يكونون مثلهم حذو النّعل بالنّعل والقذة بالقذة ، فإنّهم ـ وإيّاهم ـ الفاسقون الذين يكفرون بهذه الآيات.

١٠٠ ـ (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) ... الهمزة للاستفهام الإنكاريّ. والواو عاطفة على مقدّرة ، أي : اكفروا بالآيات وانبذوا العهود وليكوننّ لمحمد (ص) سامعين ومطيعين. فما بالهم كلّما واثقوا ميثاقا (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طرحوه وألقوه. وقد قال «منهم» لأن بعضهم لم ينقض العهد (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني لا يؤمنون بالتوراة وما جاء فيها ، ولا يبالون بنقض العهود في آتيهم ومستقبل أيامهم.

* * *

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)

وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

١٠١ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ... أي جاء إلى اليهود. والرسول هو محمّد (ص) الذي صدّق التوراة ومن جاء بها. وقيل : هو الكتاب ـ أي القرآن ـ المرسل من عند الله تصديقا للتوراة ونبوّة موسى عليه‌السلام. ويقوّي هذا القول قوله سبحانه : نبذ فريق كتاب الله وراء ظهورهم ، مع أنه (مُصَدِّقٌ) لما معهم من التوراة ، ومع ذلك (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) والفريق يقال لجماعة أكثر من الفرقة ، ويطلق على الطائفة. والمراد به هنا جماعة اليهود الذين طرحوا القرآن وراء ظهورهم ولم

يقبلوه ولا عملوا به. وبما أنهم نبذوا المصدّق لتوراتهم فقد نبذوا التوراة معه. ولذا قال بعض المفسرين : الكتاب المنبوذ هو التوراة.

وأما وجه عدم قبول القرآن ، ونبذه ، فقد كان حسدا لمحمّد (ص) وطلبا للرئاسة الباطلة المضلّلة. والنّبذ وراء الظّهر معناه التّرك وعدم الاعتناء (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بحيث يتراءى لمن يلاحظهم أنهم لا يعرفون أن هذا الكتاب كتاب الله ، مع أنهم علموا ذلك وعاندوه ، بل عاندوا رسول الله ورفضوا دعوته وكتابه.

١٠٢ ـ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ... هذا عطف على : نبذوا. والمراد ب (ما) الموصولة : كتب السّحرة والكهنة التي كانت تقرأها الشياطين في عهد سليمان النبي (ع) وزمان سلطانه. وعلى : بمعنى في ، كما في قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها). فاليهود قد زعموا أن سليمان (ع) نال ما نال بالسّحر والكهانة ، فقالوا نحن أيضا نتعلّمها ونسخّر الناس بأن نسحرهم ونجعلهم ينقادون لنا فنستغني عن الانقياد لمحمد (ص) وطاعته هو وأصحابه. بل زعموا أن سليمان (ع) كان كافرا ، وساحرا ماهرا استطاع أن يسخّر بسحره الإنس والجنّ والهواء والطير ، وكان ملكا عليهم ، متسلّطا بحيث لا يستطيع أحد أن يعصي أمره أو يخرج من سلطانه ، بل يعملون وفق أمره ونهيه. وفي القمّي والعياشي عن الباقر (ع): لما هلك سليمان عليه‌السلام وضع إبليس السّحر ، ثم كتبه في كتاب فطواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. من أراد كذا ، فليفعل كذا وكذا. ثم دفنه تحت السرير ، ثم استثاره لهم ، فقرأه فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان إلّا بهذا. وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه. فقال الله تعالى في كتابه : واتّبعوا ما تتلو

الشياطين (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) كما ادّعى اليهود الذين قالوا : إنّ محمدا يسمّي سليمان نبيّا مع أنه كان ساحرا يركب الريح ويسخّر الجنّ بسحره ، فنفى الله سبحانه قولهم وكذّبه وقال : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بما كتبوه من السّحر وبما زادوا في تدوينه من الشعوذة التي علّموها للناس. ويحتمل أن تكون الآية الكريمة قد عنت شياطين الإنس والجنّ الذين كانوا (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) والجملة حال من الواو في : كفروا ويمكن أن تكون علة لكفرهم ، أي : كفروا بتعليمهم الناس السّحر. والمراد بالسحر هو ما يستعان به على التقرّب إلى الشياطين ليطلعوا الناس على بعض ما يخفى من أسباب مظاهر الحياة (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على السحر أو على ما تتلو الشياطين. وهذان الملكان أهبطا إلى الأرض ليعلّما الناس السحر إظهارا للفرق بينه وبين المعجزة ، وليعلموا أنّ ملك سليمان ، وما كان فيه من مظاهر العظمة والخوارق الطبيعية والسلطان العجيب لدى الإنس ومردة الجنّ ، لم يكن قائما على السّحر والشعوذة ، بل على كرامات ومواهب ربّانيّة. وما كان سليمان ساحرا بل كان رسولا نبيّا عظيما مكرّما ، وإلّا فأين السحر من تكليم الطير ، وفهم لغة النمل ، وتسخير الهواء والماء وسائر الجمادات؟. ومن يعرف السحر يعرف الفرق بين هذه المواهب الرّبانية وبين السحر ، تماما كما عرف سحرة فرعون أن عصا موسى لم تكن سحرا ، بل أمرا خارقا للعادة البشرية ، ومخالفا لمقتضى ما عرفوا من الشعوذة والسحر ، وأن جميع أعماله الإعجازية ذات حقيقة من عند من هو فوق الطبع والطبيعة ، ولذا أنزل الله الملكين لبطلا سحر السحرة ، لا ليسحر الناس ، أنزلهما الله تعالى (بِبابِلَ) وهما (هارُوتَ وَمارُوتَ). وقوله : ببابل ، ظرف للملكين. وهي مدينة تقع في سواد الكوفة. وتسميتها عطف بيان للملكين ، وقد منعت من الصرف للعلمية والعجمة. قال الصادق عليه‌السلام : كان بعد نوح قد كثر السحرة

والمموّهون ، فبعث الله تعالى ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة ، وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم ، فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزوجل ، وأمرهم أن يقفوا به على السحر وأن يبطلوه ، ونهاهم أن يسحروا به الناس. وذلك كمن يدلّ على السّم ما هو ، ويدلّ على ما يدفع غائلته ، ثم يقال له : إياك أن تقتل أحدا بالسّم .. قال : وذلك النبيّ أمر الملكين أن يظهرا للناس بصورة بشرين ويعلّماهم ما علّمهما الله من ذلك ، ويعظاهم. فشرعا في التعليم والوعظ والنّصح كما أخبر الله عن ذلك (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) فينصحان من يعلّمانه ويخبرانه أنهما ابتلاء من الله واختبار ، ثم ينهيانه عن التعلّم إذا كان يريد أن يعمل بما تعلّمه ويقع في الامتحان والاختبار.

ولمّا كان الله قد أنزل علم السحر على الملكين ، فإننا نستكشف عدم حرمة تعلّمه ، والمحرّم هو العمل به حين يستعان في تحصيله على التقرب من الشياطين وتسخير الجنّ ، واستعمال الحيل والمكر وإتيان الباطل وإظهاره بصورة الحق مخادعة للناس وتمويها عليهم ، وإبرازا له بشكل المعجزة التي تغيّر الواقع شعوذة وخيالا. والحاصل أن تعلّم السحر كتعلّم كتب الضلال. فإن تعلّمها وشراءها وبيعها لا يحلّ إلا في في حالة واحدة تتلخّص في فهمها والردّ عليها ودحض مطالبها.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) مما تتلو الشياطين ومما أنزل على الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي سحرا يكون سببا للتفريق بينهما ، كأن يدفن كتاب في مكان كذا وكذا ، أو يوضع تحت عتبة باب الرجل «مثلا» كتاب يؤدي مفعوله إلى الفراق بينه وبين زوجه ، أو على العكس. (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) أي أن الذين يفعلون ذلك لا يلحقون ضررا بأحد (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ومشيئته ورخصته. وإنه «تعالت قدرته» لو شاء لمنع حدوث ذلك قهرا وجبرا ،

ولو شاء لخلّى بين ذلك وبين حدوث الفعل ووقوع الضّراء بتقديره وقدرته (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) لأنهم يقصدون به الشرّ ، والشّرّ ليس بنافع لهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) أي أن اليهود علموا أن من استبدل السحر بدينه أو بكتاب الله ، ورهن عقيدته الدينية بالسحر (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باعوها بالحقير (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أنهم قايضوا الدين بالسحر ، والآخرة بالدنيا!.

فإن قيل : في قوله سبحانه : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ... إلى قوله : لا يعلمون .. كيف أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم ، ثم نفاه عنهم حين قال : لو كانوا يعلمون؟. فيقال في الجواب : المثبت لهم أنهم علموا علما إجماليّا أن من اختار السحر ما له في الآخرة من نصيب. لكنّ المنفيّ عنهم هو أنهم لا يعلمون علما عن تفكّر وتدبّر فالمنفيّ غير المثبت ، ولا تنافي بينهما كما أنه لا تنافي بين الإجمال والتفصيل.

١٠٣ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) ... أي اليهود أو السحرة ، لو أنهم آمنوا بمحمد (ص) ، وبكتابه المنزل عليه ، وتجنّبوا المعاصي التي يرتكبونها كتاب الله ، واتّباع السحرة ، وتكذيب الرسول ، لو فعلوا ذلك (لَمَثُوبَةٌ ، مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) من السّحر. وإنما كان يستقيم أن يقال : خير من ذلك ، إذا كان في كل واحد من ذلك خير ولا خير في السّحر ، ولكن الله تعالى خاطبهم على اعتقادهم أن في تعلّم السّحر خيرا ، نظرا منهم إلى حصول مقاصدهم الدنيوية حين يعملون بالسحر .. وجواب لو : أي لو فعلوا لأثيبوا مثوبة وقد أتى بالجملة الاسمية للإشارة إلى الدوام والثبات الذي هو شأنها. وحذف الفعل للقرينة المقامية أو المثوبة. وتنكير المثوبة رمز إلى عظيم الثواب الذي ينال من عند رب العالمين ، ورمز للاهتمام بشأنه عند أرباب العلم ، لما اختصّه سبحانه وعلّقه بقوله (خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يدركون حقيقة الأمر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

١٠٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) ... خاطب سبحانه المؤمنين بقوله (لا تَقُولُوا راعِنا) إذ كانوا عند ما يعلّمهم رسول الله (ص) شيئا يقولون : راع أحوالنا وتلطف بضعف إدراكنا حتى نفهم ما تقول وتأمرنا به. فقلّدهم اليهود وخاطبوا النبيّ بقولهم : راعنا ، واللفظة بلغتهم العبرانية (راعينا) تعني سبّا وشتما ، ففطن لذلك سعد بن معاذ الأنصاري فلعنهم وأوعدهم بضرب أعناقهم إن هم أعادوها وسمعت منهم. ولذلك نهي المؤمنون عن قولها واستبدلت بقول (انْظُرْنا) أي أمهلنا وانتظرنا. ثم أمرهم سبحانه بقوله (وَاسْمَعُوا) حين يأمركم رسول الله بأمر وأطيعوه ، سماع طاعة لا كسماع اليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا (وَلِلْكافِرِينَ) المتهاونين بالنبيّ ، الشاتمين له (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : شديد الألم والوجع لا يتحمّله الإنسان العادي.

١٠٥ ـ (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) ودّ : أحبّ. أي لا يحبّ الكفّار ولا أهل الكتاب يعني أتباع التوراة والإنجيل ، لأنهما الكتابان الوحيدان الموجودان في عصر الفترة إلى ظهور النبيّ الأكرم (ص) ، فلا يحبّ هؤلاء الكفار من أهل الكتاب (وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) حسدا منهم وكيدا. و «لا» في قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) لتأكيد النفي. وجملة أن ينزل عليكم ، في محل نصب مفعول ليودّ. والمراد من الخير هو الوحي أو القرآن. و «من» للتبيّن ، وتفيد الاستغراق فيشمل كذلك الحجج والمعجزات الدالّة على النبوّة (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من النبوّة والتوفيق والهداية لدين الإسلام (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يختار لرسالته بالرحمة والهداية والتوفيق من يشاء. وهذا من أعظم الفضائل وأحسنها كما يدل قوله عزّ وعلا ، وليس بعد قوله قول.

١٠٦ ـ (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) ... النسخ هو الإلغاء. وهذه الشريفة جاءت في مقام الردّ على اليهود حيث طعنوا في أن النبيّ يقول بنسخ شريعته لكل شريعة سبقتها. فالله تعالى يصدّق قول رسوله (ص) ، وتصديقه رد لاعتراضهم. و «ما» مفعول لننسخ وقد جزمته شرطا. وقد قرأ ابن عامر بضمّ النون وكسر السين : ما ننسخ من باب إفعال أي : أمرنا جبرائيل (ع) بالنسخ. وقوله ننسها ، إما من النّسء بالهمز ، أي التأخير ، أو من الإنساء (مصدر أنسي : ينسى) بمعنى إذهابها عن القلوب ومحوها منها. ونسخ الآية يكون إمّا برفع التقيّد بقراءتها ، أو برفع الحكم المستفاد منها ، أو هما معا. فالمتحصّل أن كلّ آية نرفع حكمها أو نمحوها من الأذهان بحيث كأنها لم تكن (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) للعباد في أمور دينهم ودنياهم (أَوْ مِثْلِها) فلا يفوتهم شيء بسبب النسخ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والخطاب هنا للنبيّ (ص) والمراد به الأمة. أي اعلموا أنه تعالى يقدر على النسخ والتبديل والإتيان بما هو

خير مما كان لمصالح العباد ومنافعهم.

١٠٧ ـ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... الخطاب للنبيّ (ص) والأمة لقوله سبحانه : وما لكم. ولا يخفى أنه لا فرق بين هذه الآية وسابقتها ، والقول فيهما واحد. والتعليل بلكم هنا أن الخطاب للنبيّ والأمة عليل كما لا يخفى ، فلذا جزنا عن الفرق. ومفاد الشريفة بناء على كون الاستفهام للتقرير : لا بدّ أن تعلموا أنّ الله سبحانه يملك أموركم ، ويجريها على ما فيه صلاح دينكم ودنياكم من النسخ وغيره ، كما أنه تعالى مالك السماوات والأرض ومدبّر أمرهما وأمور من فيهما وما فيهما بأجمعهما ؛ ولا مؤثر في الوجود إلا هو عزوجل. يؤيّد هذا ويؤكّده ما يستفاد من الكريمتين ، قوله بعدهما (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) أي أن من يتولّى أموركم ويقوم بإصلاحها ودفع مضارّها ومفاسدها هو من أزمّة الأمور طرّا بيده ، وكلّها مستمدّة من مدّه وعونه (وَلا نَصِيرٍ) أي لا ناصر قويّا ينصركم في الشدائد ويعينكم في المهالك وينجيكم من الحوادث ، قادرا على ذلك كله ، غير الله تعالى.

* * *

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ

بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

١٠٨ ـ (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ... أم : منقطعة ، بمعنى : بل ، ولذا لا بد وأن تكون بعد كلام ، يقال : إنها لإبل أم شاة ، فيجاب بل شاة. وأم المتصلة بمنزلتها أو لتفريق ما جمع ، فيقال : اضرب أيّهم شئت زيدا أم بكرا أم عمرا ، كما يقال : زيدا أو بكرا أو عمرا. فالمعنيّ بقوله أم تريدون : بل تريدون ، أي تقصدون أن تطلبوا من النبيّ اقتراحاتكم ومختلقاتكم المستحيلة أيها الكفار واليهود المعاندون ، (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ

قَبْلُ) أي كما طلب يهود عصره واقترحوا عليه من عند أنفسهم أشياء مستحيلة كرؤية الله جهرة وأمثالها (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي من ترك النظر فيما أقامه الله سبحانه من الحجج والبراهين الساطعة الدالة على نبوّة محمد (ص) في القرآن وفي التوراة ، وجحدها عنادا وأنكرها طلبا لحطام الدنيا ، فإنه قد تبدّل الكفر بالإيمان وضل ووقع في تيه الخسران وانحرف عن طريق الحق الموصلة إلى رضوان الله وجنانه ، وصار أمره إلى النار وبئس المصير.

١٠٩ ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ... ودّ : أحب كثير منهم ، كمثل يحيى بن أخطب ، وعبد الله بن صوريّا ومن أشبههما من أحبارهم (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً). رغبوا في إرجاعكم إلى الكفر من بعد الإيمان (حَسَداً) لكم ورغبة في زوال هذه النعمة عنكم. لو : هنا حرف مصدري بمنزلة : أن ، إلا أنها لا تنصب. وهي تقع أكثر ما تقع بعد : ودّ ، يود. وكفارا : نصب بناء على أن مفعول ثان ليردونكم.

فهؤلاء المعاندون من أهل الكتاب يحبون أن تضلّوا كما ضلّوا حسدا لكم (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) أي منبعثا عن أنفسهم الضالة ، لا من جهة ميلهم إلى الحق أو من جهة تديّنهم ، لأنهم يتمنون لكم ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) أي أنهم عرفوا أنكم على الحق وأنهم على الباطل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) واسلكوا معهم سبيل العفو وترك العقوبة أو الملامة أو التقبيح لما كان من جهلهم وعداوتهم ، (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) من قتل بني قريظة ، وراء جلاء بني النضير ، وإذلال من سواهم من اليهود ، وكضرب الجزية عليهم وعلى سائر أهل الكتاب (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو مؤكدا ـ قادر على الانتقام منهم عاجلا كما أنه قادر على كل الأمور.

١١٠ ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ... عطف على قوله : واعفوا

واصفحوا. ولما كان العفو والصفح عن اليهود أمرين شاقّين على النبيّ (ص) ، وشاقّين على أصحابه مع ما بيّن من سوء سجيّة اليهود وفساد أخلاقهم ، فقد عقّبه بقوله : أقيموا الصلاة .. للاستعانة على مشقة الأمر بالعفو والصفح ، كما قال واستعينوا بالصبر والصلاة. (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من صلاة أو صدقة أو فعل حسن (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) أي تجدون ثوابه عند الله سبحانه (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء لأنه يرى الأعمال ، فلا يضيع عنده شيء. ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنه تعالى يريد أن يسلي قلب نبيّه عن صعوبة الصبر على العفو ومشقّة الصفح عن اليهود. وفي ذيل الآية بشّره تلويحا بانتقامه عزوجل من اليهود بقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) ، أي حتى ينزل قضاؤه فيهم. وتقدّموا ، وتجدوه : مجزومان ب : ما.

١١١ ـ (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ... عطف على قوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : (إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) هود : جمع هائد من هاد يهود هودا : أي تاب ورجع إلى الله تعالى ، فهو هائد كعائد وعود. وقيل معناه إلا من كان يهودا وحذفت الياء الزائدة. والضمير في قالوا عائد لأهل الكتاب : أي قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلّا من كان نصارى ، لكن (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) تلك إشارة إلى الأماني المذكورة : من أن لا ينزّل عليكم خيرا ، وأن يردّوكم كفارا ، وأن لا يدخل الجنة غيرهم ، وهي أماني : جمع أمنية وآمال باطلة. والجملة معترضة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجتكم على مقالتكم الفاسدة من اختصاصكم بالجنة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم وقولكم ، إذا ما لا دليل عليه فهو باطل.

١١٢ ـ (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ... بلى : كلمة تصديق تختص بالإيجاب سواء أوقعت بعد نفي أو إثبات. وفي المقام جاءت لإثبات ما نفاه

اليهود من عدم دخول غيرهم إلى الجنة. والمعنى : نعم سيدخلها من أسلم وأخلص نفسه لله حينما سمع الحق فلم يشرك به غيره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله ، يقابل نعم الله تعالى بالإحسان حين يقابلها غيره بالإساءة (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي ثوابه الذي يستحقّه بحسب أعماله الطيّبة التي تقتضي الثواب. ويجوز أن يكون : من أسلم مبتدأ ، ومن تتضمّن معنى الشرط ، وجوابه : فله أجره ، معطوفا على : يدخلها. (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ليس عليهم خشية ولا وحشة حينما يخاف الكافرون مما يشاهدونه يوم الفزع الأكبر من العذاب والعقوبات الشديدة المعدّة للعصاة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بل يفرحون لأنهم مبشّرون عند موتهم بالجنة قد أتتهم بالبشارة ملائكة الرّحمة ففرحوا بها وبرؤية المبشّرين بها فرحا عظيما ، بخلاف الكفار الذين تأتيهم ملائكة العذاب عند نزع أرواحهم وتستقبلهم بوجوه لو لم يكن لهم عذاب إلّا رؤيتها لكفتهم عند فراق الدنيا ، فكيف بأحوالهم يوم يبعثون وفي النار يسجرون؟.

١١٣ ـ (قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) ... أي ليسوا على عقيدة يعتدّ بها ويعتنى بشأنها ، فكيف بادّعائهم أنهم أهل دين أو كتاب أو شريعة ، وفي هذا القول مبالغة عظيمة (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) نزلت هذه الآية الشريفة حين قدم وفد نجران على الرسول (ص) ، ومن بعض الطّرق أن أحبار اليهود أتوهم وتقاولوا بذلك (١) عنده (ص). فالله سبحانه يحكي

__________________

(١) قال الحسن السّبط عليه‌السلام : إنما نزلت لأن قوما من اليهود وقوما من النصارى جاؤا إلى رسول الله (ص) فقالوا : يا محمد اقض بيننا. فقال عليه‌السلام : قصّوا قصتكم عليّ. فقالت اليهود : نحن المؤمنون بالله الواحد الحكيم وأولياؤه. وليست النصارى على شيء من الدين والحق. وقالت النصارى : بل نحن المؤمنون بالله الواحد الحكيم وأولياؤه ، وليست اليهود على شيء من الحق والدين. فقال رسول الله (ص) : كلّكم مخطئون مبطلون فاسقون كافرون بدين الله وأمره. فقالت اليهود : كيف نكون كافرين وفينا كتاب الله التوراة نقرأه؟. وقالت النصارى : وكيف نكون كافرين وفينا كتاب الله ـ

مقاولتهم في كتابه الكريم حتى يعرف العالم بإقرار كل واحد من هذين الصّنفين على الآخر بأنه لا دين له ولا مذهب ولا شرع. فإذا نفى المسلمون الدين والشريعة عن الصنفين فلا يكون ذلك أمرا مبتدعا يتعجّبون منه وينكرونه (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي يقرءون هذا الكتاب أو الكتب السماوية مطلقا. والجملة حاليّة ، واللام ـ في الكتاب ـ للجنس ، أي قالوا ذلك والحال أنهم من أهل العلم والقراءة للكتب السماوية بحسب ظنّهم وزعمهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الذي سمعت من تقاول الفريقين ، وعلى منهاج قول أهل الكتاب والتلاوة ، قال الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب : كعبدة الأصنام والدّهريّين ، قالوا لأهل كل دين : ليسوا على شيء!. ولا يخفى أن في هذه الآية الشريفة تلويحا بتوبيخ أهل الكتاب خاصة ، لأنهم نظموا أنفسهم في سلك الجهلة وفي سلك من لا يعلم قراءة وليس له كتاب (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : يحكم بين الهود والنصارى ـ يوم الفصل والقضاء ـ ويريهم الحق والحقيقة ، ويبيّن لهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار.

* * *

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ

__________________

ـ الإنجيل نقرأه؟. فقال رسول الله (ص) : إنكم خالفتم أيها اليهود والنصارى كتاب الله ولم تعملوا به ، فلو كنتم عاملين بالكتابين لما كفّر بعضكم بعضا بغير حجة ، لأن كتب الله أنزلها الله شفاء من العمى وبيانا من الضلالة ، يهدي العالمين بها إلى صراط مستقيم. وكتاب الله إذا لم تعملوا به كان وبالا عليكم. وحجة الله إذا لم تنقادوا لها لكنتم والله عاصين ولسخطه متعرّضين.

يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥)

١١٤ ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) ... قيل إن موردها الروميّون لما غزوا بيت المقدس وخرّبوه وقتلوا أهله وأحرقوا التوراة ، وقيل إنها نزلت في المشركين. وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام ، والقمّي : أنهم قريش ، منعوا رسول الله (ص) دخول مكة والمسجد الحرام. وعلى التقديرين فليست الآية الكريمة بمختصّة بمورد معيّن ، بل هي عامة من جهة الحكم ، كل مسجد منع ظالم ذكر الله تعالى فيه أو سعى بخرابه وهدمه (أُولئِكَ) أي المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) من المؤمنين أن يبطشوا بهم ويفتكوا بهم ، ويأخذونهم بشدة وصولة في مقابل منعهم. وقد روي أن رسول الله (ص) أمر أن ينادى : ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان. فالمعنى بهذا الكلام أن أولئك المانعين ما كان لهم في حكم الله أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين لأن الله تعالى قد حكم وكتب في اللوح أن يعزّ الدين وينصر المؤمنين. والكافرون (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي قتل وسبي وإبعاد أو ذلّة بضرب الجزية عليهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في نار جهنم بكفرهم وظلمهم.

١١٥ ـ (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ... أي ناحيتا الأرض حيث يبدو شروق الشمس وحيث يبدو غروبها. وليس المراد بها بذلك هذين المكانين فحسب

بل جميع أطراف الكرة الأرضية ، وجميع الكرات التي تحت الشمس والتي تشرق الشمس عليها وتغرب. وهذا المعنى أقرب للمراد من القول الكريم كما لا يخفى على أولي الأفهام (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فلما منع المشركون من قريش دخول النبي (ص) إلى مكة والبيت الحرام ، صعب ذلك عليه وعلى المؤمنين ـ ولعل ذلك قد كان في عام الحديبية ـ فنزلت الآية الكريمة تسلّيهم وتقول : إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أية بقعة من بقاعها شئتم ، وولّوا وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) يريد التوسعة واليسر على عباده ولا يريد بهم العسر والتضييق ، لأنه عالم بمصالحهم بجميع جهاتها. وقوله : عليم ، يدل بصيغته على كثرة علمه بذلك وبغيره.

وقد قيل إن هذه الآية نزلت في الصلوات النّفلية للمسافر على الراحلة ، وقيل إنها في صلاة التطوّع مطلقا ولا تختص بمسافر ولا براكب. وعلى القولين ، دلّت الروايات ، وعلى الحمل على التطوّع لا يشترط التولية لجهة القبلة لأنه عليه‌السلام قال : تومئ إيماء أينما توجّهت دابتك وسفينتك. وفي التوحيد ، عن سلمان رضوان الله تعالى عليه : سأل الجاثليق أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل منها أنه قال : أخبرني عن وجه الرّب تبارك وتعالى. فدعا عليّ عليه‌السلام بنار وحطب فأضرمه. فلما اشتعلت قال عليّ عليه‌السلام : أين وجه هذه النار؟. قال النصرانيّ : هي وجه من جميع حدودها قال عليّ عليه‌السلام : هذه النار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها. وخالقها لا يشبهها ، وتلا الآية الكريمة : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) إلى قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ...

وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨)

١١٦ ـ (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ... نزلت حين قال النصارى : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : عزير ابن الله ، وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تقديسا له وتنزيها ، وهو تعالى يتعجّب من قولهم : اتّخذ ولدا ، وينزّه ذاته المقدّسة عمّا يقول السفهاء ويردّهم بعنف قائلا : سبحانه. فهو منزّه عن التولّد والولادة التي هي من لوازم وشأن الممكنات والجسمانيات اللّاتي تحتاج إلى ذلك ولا تكون بغيره ، وهو تبارك وتعالى غنيّ عمّا سواه (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو عزوجل مالك ذلك كلّه ، وهو مختص به تعالى اختصاص المملوك لمالكه ، ومن جملة ما في السموات الملائكة لأن الموصول عام ، ومن جملة ما في الأرض المسيح وعزير. والمولود لا يكون مملوكا لوالده. فلا بد لليهود والنصارى من إنكار مالكية الحق سبحانه إما رأسا وإما اختصاصا ويسألون من هو المالك والخالق للسماوات والأرض وما فيهن غيره تعالى أو أن يلتزموا بمملوكية المولود لوالده!. وكلا الأمرين ليس عندهم عليه جواب ، بل هم مقرّون بخالقية الله عزّ وعلا ومالكيته. وإنّ ولد المملوك

مملوك لمالك والده ، وولد الحر حرّ بالتبعية له ، والوالد لا يملك من ولده إلا بعض فوائده الحاصلة منه في موارد قليلة. فالسماوات والأرض ومن فيهن (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مطيعون متواضعون أذلّاء أمام عظمته ، تكوينا وتشريعا بالإضافة إلى ذوي العقول من المتشرّعة الذين يوجبون شكر المنعم.

١١٧ ـ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... أي منشئهنّ لا من شيء (وَإِذا قَضى أَمْراً) قدّره وحتمه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) بعد أن يريده ويقصد إحداثه. وهذا كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ، أي إذا أردت أن تشرع في قراءته فاستعذ بالله. وقوله سبحانه : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، جاء لتمثيل حصول ما تعلّقت به إرادته ، بلا مهلة في الخارج بطاعة المأمور وبلا توقّف ، لا أنّها كانت هناك حقيقة أمر وامتثال لأن خطاب المعدوم غير معقول ، لأن المعدوم لا يصحّ أن يؤمر. والحاصل أن المراد بالقضاء هو إرادته سبحانه وهي فعله خارجا ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكّر سابق عليه.

١١٨ ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ... أي جهلة المشركين ومتجاهلو أهل الكتاب (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) وهذه المقالة منهم تشبه مقالتهم التي يحكي عنها في سورة المدّثر حين يقول عزّ من قائل : يريد كلّ امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشّرة. والمقصود : هلّا يكلّمنا الله كما كلّم موسى (ع) أو يوحي إلينا أنك رسوله. وقد قالوا ذلك استكبارا وعنادا بل طلبوا أن تأتيهم آية تدل على صدقك في دعوى أنك رسول من عند الله كالتي جاء بها موسى (ع) : كالعصا ، ويده البيضاء ، وكما جاء عيسى : بإحياء الموتى وشفاء الأبرص والأعمى ، قالوها جحودا واستهانة بما جاءهم من الآيات ، واستخفافا بما أخبر موسى وعيسى (ع) في كتابيهما من العلامات والأوصاف الدّالة على صدقه في جميع ما يدّعيه ويتحدث به عن نبوّته (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في الأيام الماضية ، قالوا مثل قولهم وطلبوا أن يكلّمهم الله أو أن تأتيهم آية ، بل قال

اليهود لنبيّهم موسى (ع) : أرنا الله جهرة!. وقال النصارى للمسيح (ع) : هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟. لذلك (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أنّ قلوب اللاحقين أشبهت قلوب السابقين في العمى والضلالة وعدم قبول الحق (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي أظهرناها وجعلناها غاية في الوضوع لأرباب اليقين ، ولمن يصدّق ولا يعاند الحقائق.

* * *

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

١١٩ ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) ... أي : يا محمد أنت في كلّ حال متلبّس بالحق ، وأنت مع الحقّ والحقّ معك ، وقد بعثناك بوظيفة تبشير للمؤمنين السامعين المطيعين ، وإنذار وتحذير لمن عصاك من المخالفين

والعاصين. وليس عليك أن تجبرهم على الإيمان ودين الإسلام ، ولا تحزن إن هم أصرّوا على الكفر والجحد والاستكبار (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) أي لا تتحمل مسئولية أحد منهم يوم القيامة ولا يقال لك : لم لم يؤمن هؤلاء بدعوتك بعد تبليغك ، فإنهم من أهل النار المحرقة وهم يتحمّلون مسئولية أنفسهم. وفي الآية المباركة تسلية للنبيّ الأكرم (ص) ، إذ كان يغتمّ لإصرارهم على الكفر ويتأذى من نفاقهم بمقتضى كونه نبيّ الرحمة ولا يرضى لأحد أن يعذّب بالنار ويكون من أهلها.

١٢٠ ـ (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) ... أي أنّ أهل الكتاب من الملّتين لا يقبلون منك دعوة ما زلت متديّنا بدين الإسلام ولا يرضون عنك (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فتترك عقيدتك وتلتحق بدينهم. وفي هذا إقناط له (ص) منهم ومن إيمانهم به ، ومبالغة في عنادهم وبعدهم عن الحق ، من أجل أن يقطع كلّ أمل بإسلامهم ويرتاح ولا يغتمّ بعد ذلك. وفي هذا بيان لأمرهم حكاه الله تعالى عن لسان حالهم أو عن إسرارهم فيما بينهم ، ولذلك قال له : (قُلْ) مجيبا لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ) أي دلالته إلى الطريق المستقيم الذي هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) وهو الصراط القويم الموصل إلى الحق والحقيقة ، لا ما تقولون بألسنتكم الكاذبة ، ولا ما تضمرون بقلوبهم الكافرة المتحجرة ، ولا ما تسرّون بأنفسكم الخبيثة بلا برهان ولا حجة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) فإذا اتّبعت ميولهم النفسية الفاسدة المرموز إليها بالأهواء التي هي بدع من عند أنفسهم (١) (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بعد دين الحق الذي علمت صحته وكونه

__________________

(١) نستفيد من هذه الآية الشريفة أن التكليف قبل التعليم ، أي قبل الإرشاء والهداية بالحجة ، غير جائز. وجعل البالغ الرشيد مسئولا غير صحيح وليس بموجّه .. ولعلّ الحقّ معهم في الاستفادة ، لأن الآية ظاهرة في تعليق نفي الولاية والنّصرة لا على التبعية المطلقة كيفما اتّفقت ، بل على التبعية بعد العلم بحقّانية الإسلام وأنه دين الحق الذي ـ

حقا بالدلائل والبراهين الواضحة ، لئن فعلت ذلك والعياذ بالله (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي لا يكون لك وليّ أمر يحفظك ويحرسك ، ولا معين يساعدك في دفع العقاب عنك إذا شاءه الله والعياذ به. وهذا من باب إياك أعني واسمعي يا جارة.

١٢١ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... أي المؤمنون من أهل الكتاب (يَتْلُونَهُ) يقرءونه ويرتّلونه (حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي الوقوف عند ذكر الجنة والنار ليسألوا الفوز بالأولى ، وليستعيذوا بالله من الأخرى. أو أنّ المراد بحق تلاوته ، أنهم لا يحرّفونه ولا يغيّرون ما فيه من نعت رسول الله (ص) والدلائل عل نبوّته (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) بالكتاب أو بما فيه من النعت والدلائل (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والدنيا بالآخرة ، وأية خسارة أعظم من هذه؟.

١٢٢ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) ... قد تقدّم تفسيرها في الآية رقم ٤٧ ولكنه لمّا بعد ما بين الكلامين فإلفات النظر مفيد في حسن التبليغ والتّنبيه والاحتجاج ، وفيه تأكيد للتذكير. مضافا إلى أنّ الله تعالى كان سابقا في مقام الوعظ والنّصح وتأديب عامة عباده بآدابه المسنونة المشروعة ، كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكنه تعالى ـ هنا ـ يتوعّد ويهدّد ويوبّخ بني إسرائيل على أقوالهم الواهية وبدعهم الفاسدة ـ كمقالتهم أنه سبحانه اتّخذ ولدا ، وكاختصاصهم بالجنة ، وكترقّبهم دخول النبيّ الأكرم في ملتهم ونحو ذلك مما ذكره عزوجل ـ فبهذه الاعتبارات واختلاف المقامات كرّر بعض الآيات الكريمات تكرارا غير مستهجن يذمّ فاعله كما يجري في محاوراتنا ، فقد اقتضى التكرار مورد التهديد والوعيد والتوبيخ كما قلنا.

__________________

ـ ينبغي أن يتّبع في عصره (ص) .. أقول : هذه الجملة من الجمل التي تقال في مقام تهييج إحساسات الناس ، وإلّا فلا يتوّهم أحد بأنه (ص) يتّبع دين اليهود أو النصارى مع علمه بأن دينهم البدع والأهواء.

١٢٣ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) ... مرّ تفسيرها في الرقم ٤٨ سابقا.

* * *

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

١٢٤ ـ (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ... فسّر بعض الأكابر ابتلاءه بذبح ولده والإتمام بتسليمه وعزمه على الذبح ، فلمّا عزم وهيأ نفسه لما أمره الله ، قال تبارك وتعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) أي قدوة وسيدا يأتمّ بك الناس ويتابعونك في راسخ إيمانك (قالَ) إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي ومن تجعل من ذرّيتي أئمة؟. (قالَ) سبحانه وتعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فإن ميثاقي هذا لا أضعه في عهدة ظالم لنفسه ولغيره لأنه أسمى وأرفع من أن يحمله الظالمون .. أقول : وهذا التعليل لا يكاد ينطبق على المقام لصعوبة الرّبط بين هذا المعنى وبين الكلمات ، فإن لفظة (بِكَلِماتٍ) تعلّقت بابتلى كما هو ظاهر. وفي الخصال عن الصادق عليه‌السلام قال : هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربه فتاب عليه ، وهو أنه قال : يا رب أسألك بحق محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم إلّا تبت عليّ ، فتاب عليه ، إنه هو التوّاب الرّحيم. فقيل له : يا ابن رسول الله (ص) ، فما يعني بقوله عزوجل : فأتمّهن؟. قال : يعني أتمّهن إلى القائم. اثنا عشر إماما : تسعة من ولد الحسين عليه‌السلام. وأقوال المفسّرين بشأن «الكلمات» في غاية الاختلاف ونهاية التشويش ، ومن شاء فليراجع ، فإننا ذكرنا الثابت عندنا ، والله أعلم ..

والعامل في : إذ ، مضمر ، نحو : أذكر يا محمد إذ ابتلى إبراهيم : أي اختبره ربّه بكلمات : أي بأوامر ونواه. واختبار الله عبده هو تمكينه من اختيار أحد الأمرين : ما يريده الله ، أو ما يشتهيه العبد ، كأنّه يمتحنه ليرى أيّهما يختار العبد ، حتى يجازيه على حسب ذلك. وقوله (فَأَتَمَّهُنَ) أي أكملهنّ. فإن رجع الضمير في الفعل إلى إبراهيم (ع) فلعل المراد بالإتمام هو قيامه بهنّ حقّ القيام والإتيان بهنّ حقّ الإتيان من غير تفريط وتقصير. أما إذا رجع الضمير إلى الله تعالى فيحتمل أن يكون المراد بإتمامهنّ هو بيانهنّ وتفسيرهنّ. (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بعد أن ابتلاه ربّه بكلماته أي بتكليفه ببعض الأوامر

والنواهي ، ولا سيّما التكليف الشاق على كل واحد كذبح ولده إسماعيل الذي كان رشيدا يتمتع بأوصاف كمالية تجعله يحتلّ مرتبة تهيّؤه للنبوّة والإمامة ، فقام بامتثالها بلا فتور ولا تردّد ولا تقصير ، فلمّا أتمّها وأدّى امتحانه ناداه ربّه : يا إبراهيم قد أدّيت ما عليك إذ صدّقت الرؤيا ، وصرت قابلا لأن أجعلك من الآن إماما لعبادي في بلادي. فسرّ إبراهيم بذلك وعرف أن ربّه راض عنه غاية الرّضا ؛ فلذا طلب منه أن يجعل الإمامة في نسله جيلا بعد جيل ، فأجابه تعالى : أمّا من كانت له أهليّة لها فنعم ، وأما من كان ظالما فلا ينال عهدي الذي عاهدتك ـ أي مقام الإمامة والولاية المطلقة ـ. ومن هذا ظهر أن الشرط في الإمام وخليفة المسلمين أن يكون معصوما من أول زمان تكليفه إلى أن يفارق الدنيا ، إن لم نقل بشرطية العصمة فيه من حين تمييزه ، لأنه إن كان قبل تكليفه ظالما فانه يصدق عليه أن يقال بعده كان ظالما ، والآية الكريمة تعني ذلك ، حتى ولو أن الظالم تاب وعلمنا بتوبته.

فلا يجوز أن ينصّب أو أن يرشّح نفسه للخلافة والإمامة. مضافا إلى أن الإمامة أمانة الله وأنها منصب سام لا يجوز أن يتلبّس به من ظلم ، تاب أو لم يتب ، إذ لا بد أن يكون الإمام والخليفة منزّها عن ارتكاب الصغائر. لأنه بناء على القول بأنه لا صغيرة إلّا بالإضافة إلى ما هو أكبر منها يعني أن كل الذنوب بالإضافة إليه تعالى كبيرة وما أردنا بيانه صار واضحا.

أما بالنسبة إلى الإمام والخليفة فنحن نقول بأن لا صغيرة له إلّا وتعدّ كبيرة بالإضافة إليه عليه‌السلام وإلى الله عزوجل. لأنه إذا كانت حسناتنا سيّئات الأبرار ، وحسنات الأبرار كانت سيّئات المقرّبين ، فهل يتصوّر أولا أن يصدر عن الإمام ذنب ولو كان صغيرا؟. وعلى فرض صدوره فهل يتصوّر أن يكون ذنب الإمام صغيرا؟. حاشا ثم حاشا .. فلو وجد قائل به فإنه يكشف عن عدم معرفته بالنبيّ والإمام ، وعدم معرفتهما ليس أمرا بدعا حتى يستغربه الإنسان.

بل العارفون بهما قليلون من قديم الزمان إلى حديثه ، وهم أندر من الكبريت الأحمر (١). فالإمام يجب أن يكون معصوما بحكم الآية الشريفة. ولا ينال مرتبة الإمامة ظالم ، وويل لمن أشرك ولم تثبت توبته وتحمّل أعباء الخلافة وحمل مقاليد الإمامة ، وتكلّفهما بالقهر والافتراء!.

١٢٥ ـ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) ... عطف على قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) ، وذاك معطوف على قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ). والبيت هو بيت الله الحرام ـ الكعبة أعزّها الله ـ وروي في وجه تسميته بالبيت الحرام ، أنه حرّم على المشركين أن يدخلوه وسمّيت الكعبة هكذا لأن من معانيها : المربّع. وبيت الله مربّع فلذا سمّي : الكعبة. وقد صارت مربّعة لأنها بحذاء البيت المعمور ، وهو مربّع بحذاء العرش الذي هو مربع. وقد صار العرش مربّعا لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع ، وهي : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. فهذا البيت المحرّم ، المقدّس ، جعله الله (مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي مجمعا يحجّون إليه ويرجعون عند التوبة واللّجأ إلى الله ، ويثابون بحجّهم في كل مرة يوفّقون للتشرّف به (٢) ، وقد جعله الله تعالى أيضا (أَمْناً) أي موضع أمن ، كقوله : حرما آمنا. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ من دخل الحرم من الناس مستجيرا به فهو آمن من سخط الله عزوجل .. والبيت قد جعل الله له في نفوس العرب تعظيما ، وقد كانوا لا يتعرّضون لمن فيه ، حتى أنّ الرجل منهم ـ قبل الإسلام ـ كان يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له بسوء. وهذا شيء توارثوه من دين إسماعيل عليه‌السلام وبقوا عليه إلى عصر نبيّنا

__________________

(١) قال النبيّ (ص): يا عليّ ، لا يعرفك إلّا الله وأنا .. الحديث.

(٢) عن ابن عباس ، وقد ورد في الخبر : أنّ من رجع من مكة وهو ينوي الحجّ من قابل ، زيد في عمره ، ومن خرج من مكة وهو لا ينوي العود إليها فقد اقترب أجله.

(ص) ، ثم أمضاه نبيّنا (ص) ولم ينسخه بأمر من الله تعالى الذي كرّس حرمته مكرّرا.

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قرئ بكسر الخاء بتقدير : قلنا لهم وأمرناهم : اتّخذوا. وقرئ بجملة خبريّة ، أي أن الناس اتّخذوا لهم مصلىّ في مقام إبراهيم عليه‌السلام ، يعني مكان صلاة تبركا بالمقام وموقعه وتبركا بصاحب المقام .. وكلمة : من ، يحتمل أن تكون زائدة ، وأن تكون تبعيضية بناء على سعة مقام إبراهيم واستيعابه لأكثر من مصلّ في موضع عبادته ومقامه عليه‌السلام. والمقام ، أيضا ، يحتمل أن يكون مكان قيام إبراهيم (ع) لعبادة أعمّ من الصلاة ، ويحتمل أن يكون موضع الحجر الذي قام عليه حين ندائه ودعوته الناس للحج على ما روي ، أو حين بنى البيت عند ما أمر هو وابنه ببنائه ورفع قواعده ، كما أنه يحتمل أن يكون حجر النداء والبناء واحدا ، وهو الذي تأثّر من قدمه الشريف فبقي رسمه عليه إلى الآن. وفي ذلك معجزة ظاهرة دالة على نبوّة إبراهيم عليه‌السلام. فإن الله تعالى جعل الحجر تحت قدميه كالطين حتى أثّرت قدمه الشريفة فيه. وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه قال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنة ، مقام إبراهيم ـ الحجر الذي قام عليه ـ وحجر بني إسرائيل ، والحجر الأسود استودعه الله إبراهيم حجرا أبيض ، وكان أشدّ بياضا من القراطيس ، فاسودّ من خطايا بني آدم .. إلخ ...

وفي موضوع المصلّى هنا أقوال. والمرويّ عن أئمتنا (ع) أنه موضع صلاة فريضة الطواف ، وهي واجبة مثله لأن الله تعالى أمر بها. وقد قال بعض الأكابر من الأعلام : هذا لا خلاف فيه. (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) والمراد بالتطهير هنا هو اختصاص البيت بهذه الطوائف الثلاث ، أي جعله للطائفين والعاكفين والمصلّين ، وتنحية المشركين عنه وإبعادهم منه أشدّ إبعاد. وليس المراد بالتطهير تنظيفه عن الأخباث الظاهرة فقط ، كما يظن ، بل التطهير يعني تخصّصه بالأنفس الطاهرة الزكية من

الأبرار ، في قبال الأنفس الخبيثة القذوة من المشركين والكفار!. وقيل إن المراد بالتطهير تطهيره عن الأصنام التي كانت معلّقة على باب الكعبة وفي جوفها ، وهذا بعيد ، لأن ذكر الطوائف الثلاث في الآية الكريمة ، قرينة على صحة ما قلناه وبعد غيره من الاحتمالات لأن الأصنام ـ مثلا ـ وضعت بعد بناء البيت وبعد مضيّ إبراهيم وإسماعيل بزمن طويل .. والطائفون : هم الذين يطوفون حول البيت ويدورون سبعة أشواط تعبّدا ، والعاكفون : هم المعتكفون فيه ، أي المقيمون ليلا ونهارا للعبادة وتلاوة كتاب الله ، والرّكّع السجود : هم المصلّون ، واللفظتان جمع راكع وساجد. ولفظة : عهدنا ، لعل المراد بالعهد هو أمرهما بتطهير البيت الحرام عمّن ذكر ، أو معناه : شرطنا عليهما تطهير البيت من الأدناس ووكلنا ذلك إليهما ليبعدا عنه دنس الشّرك والكفر .. والدليل على التعميم هو ما في العلل والعياشي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل : أيغتسل النساء إذا أتين البيت؟. قال : نعم ، إن الله يقول : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ، فينبغي للعبد أن لا يدخل إلا وهو طاهر .. وورود مثله في كتاب الكافي الشريف.

١٢٦ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) ... كلمة : إذ ، متعلقة بالمقدّر أي : اذكر إذ. ولعل صدور هذا القول وهذه الدعوة كان بعد إتمامه عليه‌السلام بناء البيت وعمارته ، فقال (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) هذا : إشارة للبيت الحرام باعتباره وما حوله ، سأل ربّه أن يجعله موضع أمن وأمان لكلّ من دخله فعل ما فعل أو قال ما قال. لكن لو كان دخوله استعاذة والتجاء به ، يحتمل أن يكون آمنا مما ذكر من سخط الربّ لأن دخوله حطّة للذنوب أيضا ، ولا بعد في ذلك حيث إن شأن هذا البيت وفضله عند ربّه أجلّ وأعظم مما يتصوّر. والروايات ناطقة بذلك وبأن زيارته كفّارة للذنوب. فقد قال إبراهيم عليه‌السلام هنا : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ، وقال في سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ما حكى الله تعالى :

(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ، فجاء بلفظ «البلد» معرّفا. لذا يمكن أن يقال : إنه في الدعوة الأولى كانت حول البيت أمكنة قفرا فطلب من ربّه أن يجعله بلدا معمورا وآمنا لمن دخله من كل ذي حياة نامية حتى النبات فلا يجوز قلعه وحصاده لأشخاص معيّنين كالحجاج والمعتمرين في حال الإحرام ، أو لعلّ المسألة خلافية ولسنا في مقام فقه الآية الشريفة على كل حال .. أما في الدعوة الثانية فكان بلدا معمورا بالأهالي غير آمن كليّة ، فعرّفه وأشار بتعريفه إليه ، وطلب له الأمن وربما كانت الدعوة الثانية قد صدرت في الوقت الذي كانت قبيلة جرهم تسكن حول البيت ، فدعا ولو كان البلد أثناء ذلك آمنا ـ فرضا ـ فلا عجب إذا دعا مكرّرا لثبات الأمن ودوامه ... وأما القول بأن الدعوة الأولى كانت في السور المدنية ، والثاني في المكيّة ، فلا ينافي ما ذكرنا ، لأن الواقع الصادر عن إبراهيم عليه‌السلام بلغته ، كان على الترتيب الذي قلناه. مضافا إلى أنه ليست كل أية مكيّة متقدّمة كما أنه ليست كل آية مدنيّة متأخّرة. بيان ذلك أن بعض الآيات المكيّة نزل قبل الهجرة فالمدنيّة متأخّرة عنه ، ولكن من الآيات ما نزل ـ بعد فتح مكة وبعد الهجرة ـ في مكة ، فيكون المدنيّ متقدّما عليها ، فلا قاعدة ثابتة بين الآيات المكيّة والمدنية في التقدّم والتأخّر .. (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) أي : أنعم عليهم بها. وفي العلل عن الرضا عليه‌السلام : لمّا دعا إبراهيم ربّه أن يرزق أهله من الثمرات أمر بقطعة من (الأردنّ) فسارت بثمارها حتى طافت بالبيت ، ثم أمرها أن تنصرف إلى الموضع المسمّى (الطائف) ولذلك سميّ طائفا. فإبراهيم (ع) دعاه أن يرزق من أهل مكة (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : وفي العياشي عن السجّاد عليه‌السلام : إيّانا عنى بذلك ، وأولياءه وشيعة وصيّه ، قال الله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ) أرزقه أيضا ، كما هو لطفه المعهود بعباده ، فقد نبّه تعالى إلى أن الرزق يعمّ المؤمن والكافر. أو أنّ : ومن كفر ، مبتدأ يتضمّن معنى الشرط ، وخبره (فَأُمَتِّعُهُ) أحييه زمانا ، أو أهبه متاعا ونعيما (قليلا) مقصورا على أيام قلائل

في الدنيا ، وما له في الآخرة من خلاق ، كما قال في مورد آخر : قل متاع الدنيا قليل (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) أي ألزمه به وأسوقه إليه عنفا لاستحقاقه له (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لأنه مصير سّيء قبيح وعذاب لا ينقطع. قال السّجاد عليه‌السلام : عنى بذلك من جحد وصيّه ولم يتّبعه من أمّته ، كذلك والله هذه الأمة.

١٢٧ ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ... القواعد : جمع القاعدة ، وهي من البيت أساسه الذي يبنى عليه. وقاعدة التمثال ما يقوم عليها. وفيما نحن فيه يراد به الأساس الذي كانت عليه القبة ، أي البقعة التي نزلت بها على آدم عليه‌السلام ، وكانت لا تزال قائمة إلى أيام الطوفان أيام نوح عليه‌السلام ، فلما غرقت الأرض رفع الله تعالى تلك القبة وبقي موضعها لم يغرق. ولهذا سمّي البيت البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق. وقد بعث الله يومئذ جبرائيل عليه‌السلام فخطّ موضع القبة المرفوعة وعرّفها لإبراهيم وحدّ البيت طولا وعرضا وارتفاعا في الفضاء تسعة اذرع. ثم إنه دلّه عليه‌السلام على موضع الحجر الأسود فاستخرجه إبراهيم عليه‌السلام ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن. وقد جعل إبراهيم (ع) للبيت بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب ، والمغربيّ يسمّى المستجار. وجميع ما ذكرناه في شرح هذه الآية الكريمة استفدناه من الروايات. وفي بعضها قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : فنادى أبو قبيس إبراهيم : إنّ لك عندي أمانة ـ وديعة ، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه. فلا يبعد أن تكون الملائكة قد نقلته إلى جبل أبي قبيس حين الطوفان واستودعته هناك حين رفعت القبة الشريفة من طريق الماء ولا منافاة بين هذه الروايات وبين ما ذكرناه سابقا من أن جبرائيل (ع) دلّه على كونه في أبي قبيس أو في محل وجوده ... والبيت الحرام بحيال القبة المرفوعة إلى السماء ، والقبة هي المسماة بالبيت المعمور ، وهي مطاف الملائكة ومزارهم في السماء .. وقوله : (مِنَ الْبَيْتِ) بيان للقواعد.

وأبهمت القواعد أولا ثم أضيفت للبيت لأن في التّبيين بعد الإبهام تفخيما وإجلالا لشأن المبيّن كما لا يخفى على من له دربة وحذاقة بصناعة اللغة .. (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) : يستفاد من طلب القبول إعطاء الأجر والثواب لا على ما بنياه من الكعبة أعزّها الله مسجدا لا مسكنا ، وإنما الأجر والثواب على الطاعات (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السميع لدعائنا العليم بجميع أمورنا ظاهرة وباطنة.

١٢٨ ـ (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ... أي : صيّرنا خالصين لك مصفّيين من كل ما تكرهه ولا ترضاه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي : اجعل بعض نسلنا ـ أنا وابني إسماعيل ـ مخلصين لك. وقد جاء بلفظة : من ، لأنه إنما خصّ البعض ، لأنه تعالى عرّفه بأن الظّلمة من نسلهما لا ينالون عهد الله ولا يفوزون بميثاقه ، فدعا للبعض من الذّرية بالتوفيق لمرضاة الله والطاعة وخلوص النية وحسن العمل والتنزّه عن الشّرك والضلال (وَأَرِنا مَناسِكَنا) أي عرّفنا مناسك الحج وعباداته الموظّفة المقرّرة في الأماكن المعهودة في الشرع الإلهي ، وعرّفها لكل نبيّ في عصره بحسب شرعه. وقد صار إكمال المناسك كلّها في عصر خاتم الأنبياء سيدنا ونبيّنا محمد (ص). فبعد أن دعا إبراهيم عليه‌السلام أن يعرّفه الشارع الأقدس وظائف الحج وأمكنتها قال : (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي اقبل توبتنا وندمنا على ما قد يحصل منّا من قصور أو تسامح في الوظائف ، فاعف عنّا. ذلك أن المقرّبين يعدّون قصورهم ذنبا عند ربهم وتسامحا ، حتى ولو حصل الأمر سهوا فإنهم يعتبرونه تعمدا وأنهم مؤاخذون عليه ومسئولون عنه. فطلب التوبة في محلّه لأنه يعني ـ على الأقل ـ توبة تعبّد يقتدي بها المؤمنون التائبون. وقيل إن طلب التوبة كان لذريّتهما وهو احتمال على خلاف الظاهر. وتكرار ضمير الخطاب تأكيد ومبالغة ، والتوّاب كثير القبول لتوبة التائبين ، وكثير الرحمة بهم ، وكثير التجاوز عنهم وعن سائر عباده ، والرحيم مبالغة في صفة رحمته الواسعة ، فإنه تعالى يغفر يوم القيامة ويفتح باب الرحمة بحيث لا يبقى مشرك ولا كافر إلّا

ويطمع بالرحمة ـ بل قيل إن إبليس ليمدّ إليها عنقه ، لمغفرة الله الواسعة ورأفته بعباده ، سبحانه فقد وعدنا بقوله : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ..)

١٢٩ ـ (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) ... فبعد بناء الكعبة ، وإحياء ما اندرس من معالم البيت ، وبعد أمر الله بتطهيره لعباده المنقادين المطيعين ، واطلاعه على معالم المناسك ، وقف إبراهيم (ع) يدعو لنفسه ولذرّيته وأمّته ، وتمنّى على ربّه أن لا يقطع نعمة الهداية عن الأجيال القادمة في ذريّته ، ثم طلب إليه أن يبعث ـ يرسل ـ رسولا : نبيّا مرشدا ، كيلا تنقطع عنهم هذه النعمة العظمى من النبوّة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي يقرأ عليهم دلائل التوحيد ويعلّمهم كتبك السماويّة. وقيل إن الكتاب أريد به الجنس ، وقيل إنه القرآن ـ على ما أخذ به بعض المفسّرين ـ وهو قريب إلى الصواب بناء على أن إبراهيم كان يعلم أنه لا يبعث من نسله إلّا محمد (ص) ، وهو صاحب القرآن ، يدل على ذلك ـ أيضا ـ أنه قال صلوات الله عليه : أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى .. (وَيُزَكِّيهِمْ) ويطهّرهم من دنس الشّرك ومن العقائد الباطلة والأخلاق الرذيلة والأفعال الفاسدة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز : المنيع الذي لا يغلب على ما يريد ، ولا يقهر على ما يراد به ، والحكيم الذي يحكم ما يعمل ، ويفعل طبق المصالح ونظام النوع ، أي يضع الأشياء على ما ينبغي ..

* * *

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى

لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

١٣٠ ـ (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) ... كلمة : من ، ، للاستفهام الإنكاري ، أي : لا يرغب عن ملة ـ دين وطريقة وشريعة ـ إبراهيم إلا السفهاء ، لأن ملّته هي الحنيفية السمحة السهلة التي أخذ منها الإسلام عشر خصال كريمة. فلا يعرض عنها (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أي كان في عقله خفّة وفساد. وفي المحاسن عن السّجاد عليه‌السلام : ما أحد على ملّة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا ، وسائر الناس منها براء. (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) اخترناه في الدنيا للرسالة والنبوّة وهداية الخلق (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) القائمين بما عليهم من الحقوق التي شرعها الله تعالى ، المبادرين إلى امتثال جميع أوامره ونواهيه ، المطهّرين المقرّبين. فهو من الفائزين مع آبائه وأبنائه من الرّسل الكرام. في هذه الآية الشريفة بيان لكون الشريعة التي كان عليها إبراهيم عليه‌السلام جديرة بأن يؤخذ بها ، بدليل ثناء الله تعالى عليها وعلى حاملها ومبلّغها والقائم بها : أبي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه. وقد مدحه الله تعالى بأعظم

مدح إذ أمرنا في أعلى وأعظم مظاهر عبادتنا ـ أي الصلاة التي هي عماد ديننا ـ بأن نسلّم على عباده الصالحين بعد أن نصلي على خير خلقه وخاتم رسله ، مما يدل على أن مقام الصالحين هو قرين لمقام المقرّبين أو هو أعظم. ومن قال بغير ذلك فقد توهّم ..

١٣١ ـ (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، قالَ أَسْلَمْتُ) ... إذ : ظرف متعلق بقوله : اصطفيناه ، ومحلّه نصب بتقدير : أذكر ذلك الزمان لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي بادر إلى ما أمره الله تعالى به من الإسلام ، وقبله وأظهر الرغبة فيه عاجلا وبدون استمهال ، فأسلم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بارئ المخلوقين ورازقهم ومالك أمرهم. واختلف في أنه : متى قيل له ذلك؟. وقيل إنه كان حين أفول الشمس ، فإنه حين رأى إبراهيم تلك الآيات وتلك الدلائل على التوحيد ، كان ذلك طريقا لهدايته إلى وحدانية الله تبارك وتعالى ، فقال : يا قوم إني بريء مما تشركون ، إني وجّهت .. الآية .. وأنه أسلم حينئذ .. وهذا يدل على أن ذلك كان قبل نبوّته وبعثته ، وأنه كان إلهاما حين دعي إلى الإسلام فأسلم وأذعن فورا لمّا وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات ، ولا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه ، لأن النبوّة حالة إجلال وإعظام ولا تنال رتبتها قبل الإسلام .. قال ابن عباس : إنما قال ذلك إبراهيم حين خرج من السرّب ـ ولعل المراد بالسّرب ، الجماعة الذين خرجوا يوم عيدهم. أو أنه السّرب : أي الغار معتزلا فيه. وخرج يتأمّل آيات الله ودلائل عظمته ـ وقيل إنما كان ذلك بعد النبوّة ، ومعنى : أسلم : أخلص دينك واستقم على الإسلام واثبت على التوحيد.

١٣٢ ـ (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) ... أي وصّى بملّته الشريفة الحنيفية أبناءه الأربعة : إسماعيل ، وإسحاق ، ومدين ، ومدان. وأصل التوصية الوصل ، كأنّ الموصي يصل أموره بالوصيّ (وَيَعْقُوبُ) أي : ووصّى بها يعقوب بنيه الاثني عشر وهم الأسباط المعروفون ، وصاهم بالملّة كما وصّى إبراهيم بها

بنيه حين قال : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بل قالا جميعا بهذه المقالة لبنيهما. ولقائل أن يقول : إن الموت ليس تحت مقدور الإنسان ، ولا في وسعه أن يختار الشكل الذي يكون عليه ، فكيف يصح الأمر بأن يكون على صفة معيّنة ، والنهي بأن يكون على غيرها ، فجاز القول : ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون؟. والجواب أن معنى ذلك : اثبتوا على دين الإسلام إلى آخر رمق من الحياة ، وداوموا عليه دواما لا يتطرّق إليه زوال بحال من الأحوال. وقيل إن اليهود قالوا لرسول الله (ص) : أليس تعلم بأن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات؟. فنزل قول الله تعالى :

١٣٣ ـ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ... و : أم : منقطعة بمعنى بل ، وهمزة الاستفهام هنا للجحد والإنكار ، أي : أبل كنتم؟. فالله سبحانه خاطب أهل الكتاب فقال : أم كنتم شهداء : حاضرين ناظرين ، إذ : حين ، حضر يعقوب الموت : جاءه ونزل به. أي : ما كنتم حضورا (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) فيا أهل الكتاب : إنكم بشهادة وجدانكم لم تكونوا حاضرين في ذينك الزمنين فمن أين تدّعون على أنبيائي ورسلي هذه الأباطيل؟. فحين سأل يعقوب بنيه (قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وقد عدّوا إسماعيل عليه‌السلام من آبائه لأن العرب تسمّي العمّ أبا كما تسمّي الجدّ أبا أيضا لوجوب تعظيمها كتعظيم الأب. وجاء في الحديث : عمّ الرجل صنو أبيه. والصّنو الأخ الشقيق. وجاء بمعنى العم ، وبمعنى الابن. وقد قال النبيّ (ص): ردّوا عليّ أبي، يعني العباس عمّه وقد قال بنو يعقوب نعبد إلهك (إِلهاً واحِداً ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي نعبد الله الواحد الأحد ونحن له مذعنون مقرّون بالعبودية ، أو أنه يراد بقولهم أنهم خاضعون منقادون لأوامره ونواهيه وداخلون في الإسلام الذي يشمل كل ذلك. وهذا يدلّ على أن الدين عند الله الإسلام كما ورد في آيات كثيرة من القرآن

الكريم تدل ـ صراحة ـ على إعلان كل نبيّ أنه مسلم وأن رسالته هي الإسلام ، أي التسليم لله تعالى.

١٣٤ ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... تلك : اسم إشارة ، يشير بها تعالى إلى إبراهيم ويعقوب وبينهما ، فهم أمّة أي جماعة قد خلت : مضت إلى سبيل ربها وماتت ولحقت برحمته تعالى. ويمكن أن يقال باستفادة الفرق ما بين التّخلية والمضيّ من موارد الاستعمال. بيان ذلك أننا نرى الفصحاء إذا أرادوا أن ينسبوا الارتحال إلى أشخاص كانوا من أعاظم رجال الدين والإلهيين ، فإنهم يستعملون لفظة خلوا ، ولا سيّما إذا كان ارتحالهم إلى عالم البقاء ، وقد قال تعالى في كتابه الكريم : قد خلت من قبله الرّسل ، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة والخطب الصادرة عن الفصحاء. ويقال قد خلت القرون ومضت الأجيال. والمراد بالأمة التي خلت هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهما من الأنبياء والصلحاء وهم كثيرون عظيمون كمّا وكيفا ، باعتبار كثرة الرّسل عليهم‌السلام وباعتبار سموّ مقاماتهم.

أما المضيّ فإنه إمّا أنهم لا يستعملونه في الموارد المذكورة ، أو أنّ استعماله من أهل الفصاحة نادر ، ومن أراد التّتبع فالمجال أمامه مفتوح .. تلك الأمّة الصالحة (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) أي لكلّ أجر عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يا معشر اليهود لا تؤاخذون بالأعمال السيئة الصادرة عن غيركم ولا تستفيدون من الأعمال الحسنة الصادرة عن الغير ..

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

١٣٥ ـ (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) ... أي قالت اليهود : كونوا هودا ، وقالت النصارى : كونوا نصارى ، تهتدوا. (قُلْ) يا محمد : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) بل نتّبع ملّة : عقيدة ، الحنيفية السهلة التي جاء بها إبراهيم عليه

السلام حتى نهتدي إلى الحق. وحنيفا : حال من إبراهيم ، أي مائلا عن الباطل إلى الحق. قال الصادق عليه‌السلام : الحنيفية هي الإسلام الذي كان إبراهيم بموجبه حنيفا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله يشرك معه غيره جلّت قدرته أبدا منذ بدء خلقه ، فان الله سبحانه نزّهه من الشّرك كذلك بمقتضى قوله : ما كان ، فهو ـ ينفي الشّرك عنه أزلا وبالفحوى أبدا. أي كان هكذا منذ كان ، فدينه أولى بالأخذ والاتّباع. وذيل الآية ردّ على اليهود والنصارى وسائر المشركين. وتعريض بأديانهم الباطلة. فقد بهتهم الله ، وحصر دينه الحقّ بملّة إبراهيم (ع) التي هي الحنيفية والإسلام.

١٣٦ ـ (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) ... خطاب للمسلمين بأن يجهروا بعقيدتهم ويظهروا ما تديّنوا به. وقد بدأ أولا بالإيمان بالله لأن الإيمان بوحدانيته أول أصول العقائد والواجبات الدينية ، (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) ثمّ ثنّى بالإيمان بالقرآن وسائر الكتب السماوية والصّحف النازلة من عند الله عزوجل على هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام. أمّا الأسباط فهم حفدة يعقوب عليه‌السلام وذراري أبنائه الاثني عشر. ومفرد اللفظة : سبط وهو الحفيد من البنت كالحسن والحسين عليهما‌السلام فإنهما سبطا الرسول (ص). وبمقتضى بعض الروايات : ما كان في الأسباط نبيّ ولا كتاب منزل. ففي العياشي عن الباقر عليه‌السلام أنه سئل : هل كان ولد يعقوب أنبياء؟. قال : لا ، ولكنهم كانوا أسباطا ، أولاد أنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء. تابوا وتذكّروا ما صنعوا ، أي ندموا على ما فعلوا ثم تابوا .. فقولوا أيها المسلمون : آمنّا بذلك كله (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى) أي التوراة والإنجيل ، فإنهما كتابان من عند الله (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) المرسلون من المذكورين في الآية الكريمة أو غيرهم. وخصّ موسى وعيسى عليهما‌السلام بالذكر لأن الاحتجاج موجّه على أهل الكتابين. ونحن (لا

نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ولا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كأصحاب الكتابين. وقد أضيف لفظ : بين إلى لفظ : أحد ، لعمومه في سياق النفي (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) خاضعون لله تعالى مطيعون منقادون لأوامره.

١٣٧ ـ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ... فإذا آمن وسلّم هؤلاء الكفرة والمشركون مثل إيمانكم وتصديقكم بالله ورسله وكتبه (فَقَدِ اهْتَدَوْا) سلكوا طريق الهدى والرشاد ونجوا من الضلالة والعناد. والباء زائدة في : بمثل ، كما في قوله سبحانه : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) : أي هزّي جذعها. وما : مصدرية. فان قيل إنه أريد به الموصول هنا ، أي آمنوا بمثل الذي آمنتم به ، فالجواب أن الله تعالى لا مثل له ، والإسلام لا مثل له كذلك لأن دين الحق واحد ولا نظير له. ومثل : هنا زائدة كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي : وإن أعرضوا وانصرفوا فإنما هم في خلاف للحق وعداوة للمسلمين ، ولا تخف يا محمد (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) سيردّ كيدهم ويكفيك أمرهم ، فلا تهتمّ بشأنهم ولا تخش أذاهم. وفي هذا تسلية للنبيّ (ص) ، وتسكين لمخاوف المسلمين جاء من عند الله عزّ وعلا (وَهُوَ السَّمِيعُ) لدعائك (الْعَلِيمُ) بنيّتك وما يخطر ببالك من خلوص النيّة للدعوة.

١٣٨ ـ (صِبْغَةَ اللهِ) ... صبغة : مصدر مؤكّد لآمنّا بالله ، التي تقدّمت. وهو منصوب بمقدّر ، أي : صبغنا الله بالإيمان صبغة. وهي من صبغ ، على وزن فعلة ، كجلسة من جلس. وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ. وشأن نزول هذه الصّيغة بهذا النّص أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه ماء المعمودية ويقولون : إنه تطهير لهم ورسم ووسم بالنّصرانية ، فأمر المسلمون أن يقولوا آمنّا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وطهّرنا به لا مثل تطهيركم ، بل جبلنا عليه ووسمنا هو تعالى به وفطرنا على دين الإسلام الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أي لا

صبغة أحسن من صبغة الله (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) مطيعون وسامعون ومنفّذون. والجملة عطف على آمنّا بالله ، وهي أيضا جملة مؤكدة.

١٣٩ ـ (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) ... يعني أتناقشونا وتجادلوننا في أمر الله عزوجل واصطفائه؟. فقد قال أهل الكتاب : إن الأنبياء كلهم منّا لا من العرب عبدة الأوثان ، فلست بنبيّ. فنزل قوله تعالى ردّا وتوبيخا لاعتراضهم على مشيئته فكيف تجادلون في تقديره (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا اختصاص له بقوم دون قوم ، وهو ـ وحده ـ يختار رسوله من أية عشيرة كانت وكيف شاء ، فاذهبوا أي مذهب شئتم (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) وسينال كلّ منّا جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) ونحن موحّدون لله نخلص له في الإيمان والإيقان ، بل إيماننا منحصر به وحده ..

١٤٠ ـ (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ) ... إلى قوله : والأسباط .. القراءة المشهورة : أم تقولون ، بالتاء وأم : يمكن أن تكون منقطعة ، ويمكن أن تكون متّصلة عديلة همزة ما قبلها. وهي هنا منقطعة بمعنى : بل ، أي : بل أتقولون. والاستفهام للإنكار. وعلى قراءة : أم يقولون ، بالياء ، لا تكون أيضا إلا منقطعة وهمزتها للإنكار. ومعنى ذلك : كيف تقولون ، يا أهل الكتاب (كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) فإن اليهود كانوا يدّعون كون هؤلاء الرّسل يهودا ، والنصارى كانوا يدّعون أنهم نصارى. فيا محمد (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) بأحوال هؤلاء وحقيقة أمرهم (أَمِ اللهُ) الذي خلقهم وأرسلهم إليكم. وهذا يعني أنه سبحانه شهد لهم بملّة الإسلام ونفى عنهم اليهوديّة والنصرانيّة بما هما فيه ، يشهد أيضا قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) ، كما مرّ آنفا .. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أي لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا : أخفوا وستروا أمرا ثابتا ، محقّقا عندهم ، وهي شهادة الله سبحانه وتعالى لإبراهيم (ع) بالحنيفية والإسلام ، وتنزيهه عن

اليهودية والنصرانية. أما : من ، في قوله تعالى : من الله ، فمثلها كمثل قولك : هذه شهادة منّي لفلان إذا شهد له بشيء فيه اختلاف (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذه وعيد لهم، لأن الله تعالى مطّلع على ما يفعلونه من الكيد لرسول الله (ص) ، وهو غير غافل عنهم ، وجلّ وعزّ عن أن تأخذه سنة أو نوم. والباء في : بغافل زائدة. والتقدير : وما الله غافلا عن عملكم.

١٤١ ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ... مرّ تفسيرها في الآية ١٣٤ من هذه السورة. وقد كرّرت تأكيدا للزّجر عن الاتّكال على فضائل الآباء والماضين ، أو أريد بالأمة في الآية السابقة الأنبياء ، وأريد هنا أسلاف أهل الكتاب. أو أن الخطاب كان هناك موجها إلى طائفة. وهو هنا موجّه إلى طائفة أخرى. وعلى كل حال فالقرآن لا اختصاص له بطائفة دون أخرى ، والآية التي تنزل في طائفة أو عشيرة ربّما أعيدت فيها أو في غيرها من الطوائف حين يأتي الموجب لذلك ، فلا عجب من مثل هذا التكرار في القرآن الكريم لأن المواضيع المتشابهة كثيرة وأسباب النزول منوطة بالمواضيع.

* * *

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ

شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)(١٤٥)

١٤٢ ـ (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) ... السفهاء : خفاف الحلوم والعقول ، المنكرون لتغيير القبلة من منافقي اليهود والنصارى وسائر المشركين. وهي جمع : سفيه. وقد قدّم الجملة الإخبارية توطينا للنفس وإعدادا للجواب. فسيقول هؤلاء : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي : ما صرفهم وجعلهم يعرضون عن قبلة بيت المقدس التي كانوا يتوجّهون إليها في عبادتهم ، فما الذي حدا بهم ليتّجهوا نحو الكعبة؟. فيا محمد (قُلْ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وقد مرّ تفسيرها ، فله الأرض كلّها ولا يختصّ به مكان دون آخر ، وهو (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يدلّ من يريد على

الطريق السّويّ حسبما توجبه حكمته من توجيه عباده مرة نحو بيت المقدس ومرة نحو الكعبة المعظّمة زادها الله شرفا.

١٤٣ ـ (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ... أمة وسطا : أي مقتصدة في الأمور جميعا ، أو عدلا ، أو خيارا. وقد روى يزيد ابن معاوية العجلي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : نحن الأمّة الوسط. نحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه. وروى الحسكاني في شواهد التنزيل عن سليم بن قيس الهلاليّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تعالى إيانا عنى بقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجته في أرضه. ونحن الذين قال الله تعالى : (كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). ولعل المراد هو توسيطهم بين الرسول والناس ، والخطاب يكون حينئذ للمعصومين سلام الله عليهم خاصة.

(لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) في أعمالهم المخالفة للحق ، في الدنيا والآخرة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) بما عملتم من الأعمال الصالحة. والخطاب ـ بظاهره ـ يشمل جميع الأمّة من الإمام وغيره ، ويحتمل أن يكون المراد منه الأئمة فقط لما ذكرنا ، ولقراءة أهل البيت ، فعن الباقر عليه‌السلام : النبيّ (ص) يشهد لله على الأئمة بأنّ الله أرسله إليهم ، وأنّهم أطاعوه ، والأئمة يشهدون لله على الأمم بأن الله أرسل النبيّ (ص) إليهم ، وللنبيّ (ص) بأنه بلّغهم ، وأنّ منهم من أطاعه ومنهم من عصاه. وكذلك يشهد نبيّنا (ص) لسائر النبيّين على أممهم .. إلخ ... (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي وجهة بيت المقدس ، ما أمرناك باستقبالها أولا ، والتولّي عنها أخيرا (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) أي لنمتحن الناس فنرى التابع لك في التوجه نحو الكعبة أثناء الصلاة ، ولنميّز المطيع (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي ممن يرتدّ ويرجع إلى قبلة آبائه تقليدا لهم ، ومعصية لأمرنا ، فكثير من أسلافهم قال : إنّا وجدنا آباءنا

على أمة وإنّا على آثارهم لمقتدون. (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) أي صلاتهم إلى الكعبة ، فإنها صعبة عليهم ، شاقّة على الذين يخالط إيمانهم الشّرك بدليل ارتداد قوم عن الإسلام استعظاما منهم لترك القبلة الأولى ، وجهلا منهم بحكمة الله جلّ وعلا. وقيل إن المراد بمن انقلب على عقبيه ، هم الذين استقاموا على كفرهم بعد تحويل القبلة. وبالجملة فإن التحويل كان امتحانا صعبا ، لأنّ جماعة من المسلمين ارتدّوا بعد تغيير القبلة بعد أن كانوا يصلّون ويصومون ، فالدار دار امتحان واختبار على كل حال ، فنسأل الله أن يثبّتنا على دينه الذي ارتضى.

وإن قيل : كيف قال سبحانه : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ ..) إلى قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) ، مع أنه تعالى لم يزل عالما بذلك؟ قلنا : إن المراد بالعلم هنا هو معرفة العباد وتفهّمهم. لأن من المعلوم عند كل أحد ـ حتى المشركين ـ أنه تعالى لم يزل عالما بجميع الكائنات ولا يزال كذلك .. وهذا البيان قسم من الدعوة والمقالة الحسنة ومما شاة الخصم حتى لا ينزجر من المخاطبة والتكلم ، بل يمكن أن يؤثّر فيه المقال الليّن فيدخل فيما يدعوه المتكلّم إليه. ولذا قال النبيّ (ص): وإنّا ، أو إيّاكم ، لعلى هدى ، أو في ضلال مبين. وهذه الكيفية من الدعوة هي «التي أحسن» من طرق الجدال ، وهي من تربية الله تعالى لنبيّه (ص). والله جلّ وعلا أولى وأحقّ بأن يراعي في مقام العمل هذه النكتة اللطيفة. ولذلك قال : لنعلم ـ مع سابق علمه ..

وقد يقال : إن المراد بالعلم هنا هو التمييز للعباد فيما بينهم ، لا لزيادة علم الله تعالى فيهم ، كقوله جلّ وعزّ : ليميز الله الخبيث من الطيّب. ووجه تفسير العلم ، ومناسبته ، هو أن العلم إدراك الشيء بحقيقته ، والتمييز بين الأشياء لا يحصل إلا ببيان ما يمتاز به الشيء عما عداه ، أي ببيان حقيقة تستلزم العلم بواقعها من حيث هما ، أو بإدراك حقيقتهما على ما هما عليه بأيّ كيفية

حصل الإدراك. فإذا انكشف الواقع يحصل التمييز قهرا بين الحق والباطل ، وبين الصالح والطالح والزّين والشّين. فترجع حقيقة التمييز إلى إدراك واقع الشيء ، وإلا فلا يحصل التمييز بين الخبيث والطيب ، والحسن والقبيح ، والمؤمن والكافر. فتبيّن أن بين العلم والتمييز كمال المناسبة ، والتفسير هكذا على ما ينبغي.

هذا والصلاة إلى الكعبة بعد هذا التحوّل كبيرة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) من الذين دلّهم إلى حكمه وأرشدهم إلى المصلحة في تحويل القبلة ، ووفّقهم لاتّباع الرسول (ص) والتسليم له (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أيها المطيعون إنه سبحانه لا يبطل تصديقكم وتسليمكم لرسوله بكل ما أمر به ، بل يقبله ويثيبكم عليه بمقتضى لطفه ثوابا وافيا ، ويجعل صلاتكم السابقة إلى القبلة المنسوخة صحيحة مقبولة كالصلاة إلى القبلة الناسخة ، فإيمانكم بالقبلتين ـ السابقة واللّاحقة ـ مصحّح للأعمال. وقد قيل إنه لما تحوّل المسلمون إلى الكعبة وقع جماعة في كيت وكيت فقالوا : كيف بأعمالنا التي قبل التحويل؟. كيف بمن مات قبل ذلك؟. ونحو ذلك من المقالات الكاشفة عن ضعف الإيمان وضعف العقول ، فنزلت الآية تطمينا لهم ولطفا (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ ، رَحِيمٌ) والرأفة أشدّ الرّحمة ، فهو سبحانه رحيم بعباده ، أكّد رأفته الشديدة بلام التأكيد ليكشف عن غاية لطفه بهم.

١٤٤ ـ (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ... يؤكّد سبحانه أنه يرى تقلّب : تحوّل وجه رسوله من جهة إلى جهة في الآفاق ، كأنه يترقّب نزول الوحي ، أو يتأمّل في ملكوته ، أو ينتظر أن يحوّله في الصلاة نحو الكعبة التي كانت قبلة أبيه إبراهيم (ع) وأقدم الكعبتين ، وأقرب إلى دعوة العرب للإيمان فإن عدم الرغبة في الصلاة إلى بيت المقدس تكمن في نفوسهم لأنها قبلة اليهود المعاندين للإسلام المكايدين له ، فكأنّ الرسول (ص) كان يرغب في ذلك

وينتظره فنزل عليه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي فلنحوّلنّك نحو قبلة تقنع بها لأنك تحبّها وترغب فيها لمصالح دينيّة ووفقا لحكمتنا ومشيئتنا. والآية الشريفة كانت بمثابة بشرى للنبيّ الأعظم بعد طول تقلّب وجهه الكريم في السماء ، فقال له الله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حوّله في صلاتك نحو الكعبة المشرّفة مع سائر مقاديم بدنك. وقد استعمل لفظ الوجه ليكنّي عما هو موسوم في المحاورات العامة والنّطق الرائج بين الناس ، فحين يقال : تواجه الرجلان يكون المقصود أنهما تقابلا كلّ بجميع بدنه لا بالوجه فقط ، وقد اختص الوجه بذلك لأن من يقابل بالوجه لازم مقابلته التفات جميع البدن لصعوبة التحوّل بالوجه وحده. والشطر : هو الجهة والناحية والتّلقاء ، والتعبير به يرمز إلى أنه يكفي قصد الجهة ـ أي لمن هم خارج مكة وبادون عنها ـ بمقابل الحاضرين فيها الذين تكون قبلتهم المسجد بل نفس البيت على ما هو المستفاد من روايات الباب وأقوال العلماء الذين يجيزون للبعيد استقبال الجهة ولو كان خطّ الاتّجاه يخرج في الواقع ونفس الأمر بعض الشيء عن البيت. وسميّ البيت الحرام هكذا ، كما سبق وقلنا ، لأنه محرّم فيه القتال ، وممنوع عن تعرّض الظّلمة ، ولأنه آمن بدعوة بانيه ، خليل الله إبراهيم عليه‌السلام.

أما وقت نزول آية التحويل هذه فقد كان ، والنبيّ (ص) يصلّي في مسجد بني سلمة ، وقد صلّى من الظّهر ركعتين ، فأتاه جبرائيل (ع) وأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه الآية من عنده سبحانه فتحوّل الرجال مكان النساء وبالعكس ، فأتمّ الصلاة وسمّي مسجد بني سلمة مسجد القبلتين. والتحويل هذا من علائم نبوّته (ص) عند اليهود وهي معدودة وموعودة عندهم في التوراة لنبيّ آخر الزمان الذي هو خاتم الأنبياء الذي وصف بأنه يصلّي إلى القبلتين. وعلماء اليهود كانوا يحتجّون قبل التحويل بأنه ليس بالنبيّ الموعود لأنه لم يزل يصلّي إلى قبلتهم. فحينما نزلت الآية وتحوّلت

القبلة إلى الكعبة تمّت الحجة عليهم ولم يعودوا يستطيعون القول بأن التحويل جاء من عند نفس الرسول (ص) لا من عند ربّه. ذلك أن هذا التحوّل لو كان من عند غير الله ، فلا داعي لأن يصبر النبيّ هذا الوقت الطويل (١) مع تعيير اليهود للمسلمين بأنهم لا قبلة لهم تخصّهم فاحتاجوا للتوجه إلى قبلة اليهود أولا .. وثانيا أن مقتضى الطبيعة والعادة أن يحوّل القبلة من أول صلاة لو كان التحويل باختياره ، بل لو كان ذلك لحوّلها من أول الصلاة التي تمّ التحوّل فيها حين نزول الآية لا في أثنائها وأثناء الوقوف بين يدي الله تعالى في منتصف الفرض من الصلاة حيث لا يجوز التحوّل بسائر البدن! ألا إن هاتين الكيفيتين تحكمان بأن التحويل بحد ذاته ، وبكيفيته وواقعه ، حجتان على اليهود تدعمان نبوّة محمد (ص) بحكم التوراة التي تنصّ على ذلك وهي بين أيديهم.

فإنه سبحانه بعد أن قال : قد نرى تقلّب وجهك في السماء ، وبعد قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ، خاطب رسوله الكريم بالآية الكريمة وعنى المسلمين معه في مكة ، مختصّا إيّاه بالذّكر لشرفه وعظم شأنه ، وجوابا على رغبته (ص). أما قوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فقد عمّم التصريح بعموم حكم التحويل لجميع الأمّة وسائر أهل الآفاق ، مشيرا إلى أن ذلك معلوم لدى اليهود والنصارى بقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) فتحويل القبلة مذكور عندهم ، وهو حق ثابت لديهم من عند الله تعالى ، بل هو علامة منه على صدق أوصافك لأنّك تصلّي إلى القبلتين. فإذا جحدوه وأنكروه فلا يكون ذلك إلا عنادا وظلما ، ولذلك يتوعّدهم عزّ وعلا بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وهو حاضر ناظر لما يفعلونه. وقد قرئ

__________________

(١) صلّى المسلمون متّجهين إلى بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا : ستة بمكة ، وسبعة بالمدينة.

«تعملون» بالتاء خطابا لأهل الكتابين ، و (يَعْمَلُونَ) للحزبين من المسلمين والكافرين.

١٤٥ ـ (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) ... اللام في : لئن ، موطّئة للقسم المقدّر : أي والله إن جئت بأي برهان وحجة قاطعة لدعواك في تحويل القبلة إلى الكعبة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) ما امتثلوا ولا تحوّلوا إلى قبلتك. والجملة جواب القسم وقد سدّ مسدّ جواب الشرط. ووجه ذلك أن عدم قبولهم الحجج بصدق التحوّل إلى قبلتك ليس لشبهة تزيلها الحجة ويرفعها البرهان ، بل هو العناد والمكابرة اللذان لا يزيلهما إلا السيف. (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) بعد تحوّلك من قبل الله تعالى ، لأنك مأمور بالتحوّل حسما لأطماعهم السخيفة إذ قالوا : لو ثبت محمد على قبلتنا لكنّا نرجو ونطمع أن يرجع إلى ديننا (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) لأنهم ـ ولو اتّفقوا على مخالفتك ـ هم مختلفون فيما بينهم بشأن القبلة ، لأن اليهود يستقبلون بيت المقدس ، والنصارى يتّجهون نحو مطلع الشمس (١) وكلّ منهم ثابت على قبلته ، ولا يرجى توافقهم كما لا ترجى موافقتهم لك ، لتصلبّ كلّ طائفة فيما هي عليه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي بعد ما جاءك من الحق في أمر قبلتك. واللام موطّئة للقسم المقدّر الذي جوابه سدّ مسدّ جزاء الشرط بقوله تعالى : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وقد حمل أرباب التفسير هذه الآية المباركة على سبيل الفرض والتقدير ، أو على باب إياك أعني واسمعي يا جارة ، وعلى وجوه أخر. لكنه يمكن أن يقال إنّ لها وجها آخر غير ما ذكروا ، وهو أن هذا التعبير نظائره

__________________

(١) هذه القبلة من مخترعات (بولس القسيس) قال بعد مضيّ المسيح عليه‌السلام : أنا رأيت المسيح وقال لي : أحبّ الشمس لأنها كلّ يوم تبلغ سلامي إلى الناس. فقل أنت لأمتي أن تجعلها قبلة عند العبادة. فتبعه من تبعه من المسيحيين وجعلوا قبلتهم الشمس ، أي مكان طلوعها.

في كتاب الله كثيرة قد صارت موجبة لوقوعهم فيما وقعوا فيه. وأحسن ما يقال فيها هو أنه تعالى يريد أن يذكّر كل إنسان وينبّهه إلى أنه في كلّ مرتبة أو مقام سام كان من المراتب والمقامات الإمكانية ـ لا بدّ أن يتوجّه ويلتفت إلى نفسه ، وأن له شأنيّة التحوّل والتغيّر لأنهما من لوازم ذاته الإمكانية ، فلا يفرّنّ بمقامه السامي الذي أعطاه الله إياه ، ويقع في زلّات ومزالق مهلكة ، وخطرات موبقة ، وأن الحق الثابت ، الذي لا تتطرّق إليه النقائض أزلا وأبدا ، هو ذاته تعالى ، الواجب الوجود بالذات. أما الذّوات الإمكانية كلّها ، فهي في معرض الحوادث والتغيّر والتبدل وفي حال التعرّض للزلّات إلّا أن يعصمهم الله منها فيخرجون من صفّ غيرهم بالامتياز. فهذه التنبيهات والتذكيرات والخطابات المخوفة كلّها ألطاف إلهيّة للأنبياء ولمن لهم الأهلية لها ، ولذا فإن استعاذات المعصومين ، وبكاءاتهم واستغاثاتهم ليست كلها في مقام تعليم الأمّة فقط ، بل هم يرون أنفسهم محتاجين إلى الإفاضات الإلهية في كل آن ، فلا يزالون مستعيذين به سبحانه سائلين منه العصمة والحفظ. ولذا كان العارفون بالله في خطر عظيم ، لأن قصورهم يعد بنظرهم تقصيرا ، لأن عليهم تكاليف غير تكاليف الجهلة ، وحسابهم غير حساب القاصرين ، وإنما يجزى الإنسان على قدر معرفته وعمله بما عرف.

والحاصل أنّ حمل تلك الآيات على خلاف ظاهرها حمل بلا وجه ، بل لعل التفسير لا يرضى عنه صاحبه ، ولكن لا ينافي حملها على ظاهرها لمقام العصمة على ما بيّنا ، لأن مرحلة الثبوت غير مرحلة الإثبات ، حيث إنهم في مرحلة الإثبات معصومون بألطافه جلّ وعلا. بل حتى في مرحلة عالم الظاهر قد تصدر عنهم بعض الأمور قصورا في بعض الأوقات بحيث يقعون في معرض الخطاب الاعتراضيّ لمصلحة اقتضت وقوعهم فيه ، وبعد الخطاب ينتبهون إلى ما صدر منهم فيندمون عليه. وقد قال أرباب تاريخ الأنبياء : إن موسى بن

عمران (ع) لما نزلت عليه الألواح خطر بباله أنّه ليس في الأرض أعلم منه. فابتلاه الله باتّباع الخضر وسؤاله عن تفسير أحداث ووقائع قام بها الخضر وخفي وجه حكمتها على موسى عليهما‌السلام كما ترى في سورة الكهف فيما يلي. أمّا يوسف عليه‌السلام فقال : وإلّا تصرف عنّي كيدهنّ أصب إليهنّ : يعني بمقتضى طبيعتي البشرية. أما إذا شملتني الإفاضات العاصمة الحافظة لي من ميول الطبع البشريّ الإمكانيّ ، فأنا في حصن العصمة من الزلل ، والأمن من كل سوء. فهو مع كونه نبيّا استعان بالله واستعصمه حين رأى نفسه في ضيق المزلقة يخشى الوقوع في بيداء الهلكة بوجوده الإمكانيّ البشري لو لا أن ينجيه ربّه .. وبحكم اتّحاد الملاك في الأنبياء نحكم بأنهم جميعا هكذا. فالآيات المذكورات بهذا الشأن تدلّنا على سرّ من أسراره ، وترشدنا إلى كثير من ألطافه بعباده ، حيث ينبّههم ويذكّرهم بما فيه الهلاك ليحترزوا منه .. فقد صرف الله عن يوسف كيد النساء ، وعصمه من الزّلل في عالم الإثبات ..

نعم ، إن مراتب الأنبياء مختلفة ، فيمكن أن يقال : إن بعضهم في عالم الثبوت متنعّمون بنعمة العصمة كنبيّنا (ص) ، أو أنّنا نعمّ بهذا لحكم أولي العزم من الرّسل. لكن ليس لنا دليل غير الاحتمال. لكن ثبتت هذه النسبة إلى خاتم الأنبياء (ص) لأنه قال : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين ، فقولنا فيه محقّق ظاهرا لأنه أشار إلى عالم غير عالمنا الذي نعبّر عنه بعالم الإثبات وبتعبيرنا نسمّيه بعالم الثبوت. فلا يمكن أن يكون نبيّا وغير معصوم!. وأما في غيره فليس عندنا دليل إلا الاحتمال العقلي. والعصمة الموهوبة حتى في عالم الثبوت لا تنافي ما قلناه من أنهم من حيث البشرية والإمكانية سواء (١) في صدور

__________________

(١) نشير بهذه المناسبة إلى ما صدر عن نبيّنا صلوات الله عليه من قضية تحريم العسل على نفسه الشريفة حين تآمرت عليه المرأتان ـ زوجتاه ـ وادّعتا بأنهما تشمّان من فمه الشريف ريح المغافير لأنه شرب عسلا من عند زوجته التي تكرهانها ، فحرّم العسل على نفسه مع ـ

ترك الأولى عنهم. الذي يعدّونه عندهم معصية لربّهم لمقام معرفتهم له سبحانه ، ولذا يستغفرونه فيخافون منه حقيقة وواقعا .. والتنبيهات التوعّدية المعلّقة على أشياء غير مرضية لله تعالى ليست أمرا مخالفا للعقل حتى تعدّ من المستبعدات العقلية بحيث نحتاج إلى التأويلات غير المعلومة التي هي على خلاف الظاهر والمراد ، والله أعلم.

والحاصل أن الله تعالى أكّد الوعيد لنبيّنا صلوات الله عليه لطفا به وبالأمة السامعة المطيعة ، وتحذيرا لنا من اتّباع الهوى ، وتحريضا لنا على الثبات على الحق في مناسبة الصلاة إلى الكعبة المشرّفة.

* * *

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ

__________________

ـ أن أفواه الأنبياء جميعا دائما معطّرة طيّبة الرائحة لأنهم يخاطبون الناس بها ، حتى نزل في ذلك وحي من الله فضح فيه المؤامرة وعاتب فيه النبيّ عتاب الحبيب.

بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

* * *

١٤٦ ـ (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ... من اليهود والنصارى ، وبالأخصّ الفريقين (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) أي يعرفون خاتم الأنبياء كمعرفتهم لأولادهم. أو هل يشتبه على الإنسان أولاده أو صديقه الذي يعيش معه ليلا ونهارا؟ .. فمعرفة الرسول الأكرم (ص) هكذا ، بل أكثر وأظهر من الشمس المنيرة في رابعة نهارها (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب ، والمعاندين منهم (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) يجعلون الحق سرّا فيما بينهم ولا يظهرون معرفة محمد (ص) ولا ينشرون صفاته المذكورة في التوراة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي مع علمهم بها حيث قرءوها في كتبهم النازلة على نبيّهم.

١٤٧ ـ (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ... الحقّ مبتدأ ، وخبره : من ربّك. أي الذي

يكتمونه ـ وهو الحق ـ كان من ربك ، يعني من عنده أو من أمره. فبكتمانهم لا يخفى ولا يكتم ، بل يظهر ويكشف كالنّار على المنار. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ولكن هيهات من ذلك فالله متممّ نوره (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكّين فيما تكون عليه من دينك وكتابك وقبلتك ، قبلوا منك واتّبعوك أم لا. فاثبت أنت على ما أنت عليه فإنه الحق وخلافه الباطل.

١٤٨ ـ (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) ... أي لكلّ أهل شرعة من الأنبياء ، أو لكل قوم من المسلمين جهة من القبلة. منهم من كان وراء القبلة ، ومن كان قدّامها أو عن يمينها أو عن شمالها. والضمير (هو) مرجعه إلى الله ، أي أنهم مأمورون بأمره بالتوجّه إلى تلك الجهة (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) يعني : اسبقوا غيركم من أهل الكتاب وسائر الفرق الذين عندهم خيرات من الطاعات التي منها التوجّه إلى الكعبة في الصلاة. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام : الخيرات : الولاية (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي في أيّ موضع يدرككم الموت يحشركم الله إليه يوم الجمع بأجمعكم. وعنهم عليهم‌السلام : أن الآية في أصحاب القائم (ع) يفتقدون من فرشهم ليلا فيصبحون بمكة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قادر على كل شيء ، ومنه جمعكم يوم القيامة.

١٤٩ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ... أي أثناء السفر في البلاد (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فعرّض وجهك وأدره نحوه ، إلى ناحية الكعبة ، في صلاتك (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي التوجّه إلى الكعبة هو الأمر الثابت من عنده تعالى ، والمقرّر لك حينما تصلّي وأينما تصلّي (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وفي هذا الكلام تهديد ووعيد بالعقوبة كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

١٥٠ ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِ) ... قيل : كرّر تأكيدا لأمر القبلة وتثبيتا

للقلوب عن فتنة النّسخ ثانيا ، حيث إنّ بعض المؤمنين وعدّة من أهل الكتابين لم يكونوا مطمئنّين بأنه (ص) ستبقى الكعبة قبلته ، بل يحتملون النّسخ والرجوع إلى الصخرة في بيت المقدس. ويمكن أن يوجّه التكرار على الاختلاف بحسب المواطن والأوقات التي نحتاج إلى هذا المعنى فيها ، فنقول : إن الأولى نزلت في النبيّ (ص) وأهل المدينة ، والثانية نزلت لبيان أن هذا الحكم ليس بمقصور عليهم بل يعمّ أهل الآفاق في مختلف الجهات .. أبو الفتوح ، عن براء بن العازب ، قال : كنا نصلّي على بيت المقدس صلاة الظّهر ، وكنّا في ركوعها ، فتحوّل النبيّ (ص) عنها إلى الكعبة ، فنحن اتّبعناه. ثم نادى المنادي من قبل الرسول (ص) في رساتيق المدينة وشوارعها وأسواقها بالتحوّل إلى الكعبة ، بحيث وصل الحكم إلى أهل المدينة بأجمعهم. ثم نزلت الآية ثانية لبيان الحكم لجميع الناس في أي جهة كانوا ، وفي أي ناحية من النواحي .. فعلى هذا يكون التكرار ليس بمستهجن ، بل صدر من أهله ووقع في محلّه ، والقصور من فهم القاصرين لا من بيان الصادرين. فالخطاب في أولى الحالتين موجّه للنبيّ (ص) تشريفا وتكريما له ، وفي الثانية هو موجّه لأهل المدينة خاصة وللأمة عامة ، وهي قوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ولا يخفى أن التحويل علّل بعلل أربع :

الأولى تعظيم الرسول طلبا لمرضاته.

والثانية جري العادة والسنّة الإلهية على أن يولّى أهل كل ملّة ، وصاحب كل دعوة حقة وجهة يستقبلها ويتميّز بها ، والثالثة دفع حجج المخالفين كما يأتي قريبا في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ) الآية ...

والرابعة رفع أطماع أهل الكتابين بدخوله (ص) في ملّتهم ، ودفع غائلة المخالفين من المشركين والمفسدين الآخرين ، حيث كانوا يتكلمون عنه (ص) بأنه

يخالف ملّتهم ويوافق قبلتهم ، فيرجى أن يدخل في منهاجهم ودينهم .. وعلى كل حال فقد كان التكرار (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) وبهذا يردّ احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة تكون قبلته الكعبة ، ثم تردّ مقالة المشركين بأنه يخالف قبلة إبراهيم (ع) أو يدّعي أنه على ملّته ، فيطعنون بذلك عليه ويستهزئون (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وظاهر الاستثناء أنه من الناس فيكون متّصلا. ومعناه أن التحوّل ليس بأمر من الله تعالى بل برأي المسلمين ومن عند أنفسهم تعصّبا عربيّا وطنيّا!.

وإنما سمّي قولهم حجة ـ مع أن الظالم لا يكون له حجة ـ لأن ما يوردونه هو باعتقادهم حجة وإن كانت باطلة ، كما قال تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، أي ليست بحجة عنده سبحانه. بل حجة عندهم باعتقادهم الفاسد. وإطلاق الحجة على ما يورد الخصم الظالم هو نوع من المماشاة حتى يسمع قول داعي الحق فلعلّه يتأثّر به .. أما الظالمون (فَلا تَخْشَوْهُمْ ، وَاخْشَوْنِي) فلا لا تخافوهم فإنّ مطاعن الظّلمة لا تضرّكم أبدا ، وأقوالهم تردّ عليهم ، وخافوني ولا تخالفوا أوامري ونواهيّ إن كنتم مؤمنين حقّا (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على : لئلّا يكون. فإن في تولية الوجوه نحو الكعبة فوائد كثيرة ، منها ردّ غائلة الناس ، ونفي حجتهم ، كما أن منها إتمام النعمة فإن الصلاة إلى الكعبة أفضل من غيرها ، وإلّا لما وقع التحوّل ، أو أنه يحوّل تبعيضا زمانيا حتى يجمع بين دفع قائلة أهل الكتابين والآخرين من الذين يشاركونهم في حججهم الداحصة. فانحصار القبلة بالكعبة أقوى دليل على الأفضلية التي تتم بها النعمة.

أمّا التأخير في التّولية نحو الكعبة ثلاثة عشر شهرا (ستة في مكة وسبعة في المدينة) فلمصالح عديدة قد أشرنا إلى بعض منها ، كقول المشركين أن التحوّل من رأيه لا من ربّه (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى أن التحويل إتمام للنعمة ، فلا بدّ من شكر المنعم بإطاعته فيما أراد منكم. وعن النبيّ (ص): تمام النعمة دخول

الجنة. وعن عليّ (ع) ، تمام النعمة الموت على الإسلام. ولا منافاة بين الخبرين ، كما أنه لا تنافي بينهما وبين ما ذكرناه فتدبّروا ..

١٥١ ـ (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) ... أي كما أتممت عليكم نعمتي بتحويل قبلتكم ، كذلك أتممتها عليكم بإرسال رسول منكم إليكم. كيف لا ، وهو رسول لا مثل له ولا نظير ـ كما أنه سبحانه لا مثل له ولا ندّ ولا شبيه ـ فهو ، لعظم شأنه ختمت النبوّة به (ص) وهذه من أجلّ صفاته لأنها من خصائصه (ص) ولا شبيه له فيها. ومن أوصافه (ص) أنه (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) يقرأها لكم ويفسّرها (وَيُزَكِّيكُمْ) أي يطهّركم من أدناس الجاهلية ويصلح أموركم ويعرّفكم ما تكونون به أزكياء (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) والكتاب هو القرآن الكريم ، والحكمة هي الوحي الذي هو السنّة الشريفة. أما تقديم التزكية على التعليم ، مع أنها متفرعة عنه ، فباعتبار القصد ، وكذلك تأخير التعليم كان باعتبار الفعل. وبعبارة أخرى : إن التزكية علة غائيّة مقدّمة في التصوّر ومؤخّرة في الوجود. فمن حيث كونها متصوّرة قبل وجودها قدّمت. (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي الذي لا سبيل لكم إلى العلم به إلّا من طريق الوحي. ولا يفيدكم إعمال الفكر فيه ولا إمعان النظر فإنهما لا يتطرّقان إليه ، وتكرير الفعل للدلالة على تخالف الجنس ..

فإن قيل : ما المراد بالموصول الذي يعلّمنا إياه النبيّ الأكرم (ص)؟ قلنا : يحتمل أن يكون المراد به الأحكام التي لا تستفاد من ظاهر الكتاب ، أو كيفيّاتها التي لا يتكفّلها القرآن. أو يكون المراد به الأخبار الغيبيّة التي لم ترد في القرآن أو لا تصل إليها أفهامنا لأنها قاصرة عن فهمها منه لتدركها عقولنا. ويمكن أن يقال : إن المراد به هو الآية التي عقّبها بقوله سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، بتقدير القول : يا محمد قل لأمتك : قال الله : اذكروني أذكركم. وهذه المقالة لا يتطرّق إليها فهم البشر حتى تنحلّ من طريق الفكر وإعمال النظر ، بل ينحصر كشفها بطريق السمع عمّن يوحى إليه صلوات الله عليه وآله. وهذا الذي قلناه

ليس أمرا مبتدعا حتى يكون بعيدا ، فإن تفسير بعض الآيات لبعض المجملات من الآيات أمر متعارف مستفاد من الروايات ..

١٥٢ ـ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ... عن عبد الله المبارك قال : سنة من السنوات كنت ماشيا إلى حج بيت الله ، فرأيت في الطريق غلاما مراهقا لبس ثيابا مخفّفة ، لا زاد معه ولا راحلة ولا أنيس. فلما قرب مني سألته : يا غلام أمنقطع عن الرفقة مثلي ، أم كنت وحيدا من ابتداء سفرك؟ .. قال : ما كان لي رفقة من أول حركتي. قلت : أين زادك وشرابك وطعامك وراحلتك؟ .. فأشار إلى السماء. فأردت أن أمتحنه فقلت : أنا عطشان. فرفع يده إلى السماء فإذا بقدح مملوء من الماء المثلّج ، فأعطاني ، فتعجّبت وقلت : يا غلام من أين حصّلت هذا المقام؟ .. قال : أذكره في الخلوات يذكرني في الفلوات ..

وعن كعب الأحبار ، قال : ناجى موسى (ع) ربّه : أقريب أنت من عبادك حتى يناجوك سرّا ، أم بعيد حتى ينادوك جهرا؟ .. فأجيب : يا موسى أنا مع من يذكرني. قال الكليم : يا رب أنا في حالة لا أحبّ أن أذكرك. يعني حالة التخلّي أو الجنابة) ـ فقال سبحانه : اذكرني على كل حال.

وفي تفسير البرهان عن العياشي عن جابر عن الباقر عليه‌السلام عن رسول الله (ص) أنه قال : إن في كلّ صباح ومساء ينزل ملك ومعه قائمة يكتب فيها أعمال الناس. فاعملوا أول النهار وآخره عملا حسنا حتى يعفو الله عنكم عما صدر عنكم غفلة ، لأنه سبحانه قال : اذكروني أذكركم .. فلا ينبغي أن ينسى الإنسان ذكر ربّه في كل حال ، لأن ذكره حسن على كل حال. وذكره تعالى : طاعته وتحصيل مراضيه. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : أن الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلّا ذكره بخير ، فأعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته. وذكره سبحانه لنا هو عطفه وشفقته ورحمته بنا وغفرانه لنا (وَاشْكُرُوا لِي) أي على نعمائي وآلائي التي أنعمت بها عليكم. وعن السجّاد عليه

السلام : من قال : الحمد لله ، فقد أدّى شكر كل نعمة .. والعياشي عن الصادق عليه‌السلام : أنه سئل : هل للشكر حدّ إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ .. قال : نعم. قال : وما هو؟ .. قال : الحمد لله على كلّ نعمة أنعمها عليّ ، الحديث ..

وقد قال الله سبحانه : واشكروا لي ، وما قال : واشكروني ، لأن الأول هو الشكر على النّعم ، وهذا شكر أصحاب الهداية وأهل الظاهر. أما الثاني فهو شكر على مشاهدة الذات إلى حدّ الإمكان ، فإنّ معرفته عزوجل بكنه ذاته غير مقدورة لأحد من الممكنات ، وهذا الشكر خاصّ بأرباب الغيب والشهود وأهل النهاية. ولمّا كان هذا الشكر غير ميسور لمعظم العباد ، فقد أمرهم بما هو الميسور ، وعفا عن المعسور فقال : واشكروا لي. (وَلا تَكْفُرُونِ) قيل : ما فائدة قوله تعالى : ولا تكفرون ، بعد قوله : واشكروا لي ، والشكر نقيض الكفر ، ومتى وجد الشكر انتفى الكفر؟ .. والجواب أن الأول أمر به ، والثاني أمر بالثبات عليه. وبعبارة أخرى : الأمر علة محدثة ، والنهي علة مبقية يؤوّل بالأمر بإثباته.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)

وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

* * *

١٥٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ..) على المجاهدات النفسانية في تحصيل حظوظها (بِالصَّبْرِ) عن الشهوات ، أي بالتجلّد الذي هو صبر مع كلفة ومشقّة. أو أن المراد به الصيام إذ يقال شهر الصّبر ، أي شهر الصوم ، فإن الصيام من أعظم العبادات ، وهو قرين الصلاة في الرّفعة (وَالصَّلاةِ) وهي أمّ العبادات ومعراج المؤمن ، ومقام مناجاة العبد مع مولاه إذ يصير بها كليم الله تعالى (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي أنه معهم بالنصر والتوفيق.

١٥٤ ـ (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) ... أي أنهم ماتوا وفاتوا (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) يعني أنهم أحياء (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) لا تدركون ذلك ، ولا تفهمون كيف تكون حياتهم. وقيل إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الرّوح والفرح ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون فيصل إليهم الألم والوجع. وعن الصادق عليه‌السلام : أن أرواح المؤمنين في الجنّة على صور أبدانهم ، فلو رأيته لقلت فلان. وعنه (ع): أنها تصير في مثل قوالبهم ويعرفون القادم عليهم بصورته. وعلى هذا

فتخصيص الشهداء بالحياة لمزيد قربهم منه تعالى. وكلما كان العبد أقرب إلى سيّده ومولاه ، كلما كشف ذلك عن قربه المعنوي : فحظّه ولذّته أكثر ، ودرجته أرفع. والآية الشريفة نزلت في شهداء بدر وكان عددهم أربعة عشر رضوان الله تعالى عليهم.

١٥٥ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) ... لما بينّ سبحانه ما كلّف به عباده من العبادات ، عقّبه ببيان ما امتحنهم به من المشقّات فقال : ولنبلونّكم ، أي لنختبرنّكم فنعاملكم معاملة المختبر حتى يظهر المعلوم لدينا منكم. والخطاب وإن كان ظاهرا مع النبيّ (ص) وأصحابه ، لكنّ المراد به جميع البشر لعموم العلة ، أو لاشتراكهم فيها جميعا بشيء قليل من خوف السلطان بل مطلق الظّلمة أو مطلق ما يخاف منه كالزلازل والصواعق ونحوهما من سائر الآيات المخوفة (وَالْجُوعِ) الذي كان ينشأ من ناحية تشاغلهم بالجهاد وعدم اكتسابهم المعاش ، أو الذي يتولّد من القحط أو الجدب ، أو أن المراد به جوع الصوم (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) بإخراج الزّكاة ودفع سائر الحقوق من الفرض والنّدب أو التلف من الحوادث السماوية والأرضية (وَالْأَنْفُسِ) بالأمراض العارضة والموت الذريع (وَالثَّمَراتِ) التي قد يكون المقصود بنقصانها النقص الوارد عليها من ناحية الحوادث أو عدم نزول الأمطار وذهاب ما يزرع الناس وقلّة الأثمار. وقيل : نقص الثمرات موت الأولاد لأن الولد ثمرة القلب. والشاهد على هذا القول وقوع لفظة الثمرات عقب لفظة الأنفس ، ولو كان المقصود منها غير هذا المعنى لكان الأنسب وقوعها بعد لفظة الأموال كما لا يخفى على ذوي الإدراك لأسرار ورموز أقوال الفصحاء ، وقوله عزّ وعلا أفصح قول (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) الذين يتحمّلون تلك المشاقّ والشدائد الكريهة على الطّباع البشرية. وقد أخبرهم بما لهم من الأجر الجزيل والمثوبة الجميلة والعاقبة الجليلة. والخطاب مع النبيّ (ص) وكلّ من له الأهلية ويصدق أن يبشرّ ..

١٥٦ ـ (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) ... في الأثر : كلّ شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة ، أي نكبة. فالمؤمنون إذا أصابتهم أيّة بليّة (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) والجملة هذه إقرار من العبد بوجود الصانع تعالى : واعترف له بالمالكية ، واعتراف بالبعث والحشر للجزاء في يوم القيامة. وهذا الاعتراف يدل على إيمانهم بأنهم مبعوثون كما كانوا قبل الموت ، لا كما يقول الطّبيعيون من أن الإنسان إذا مات فات وانعدم كالنّبات الذي يذهب بعد يباسه ولا يكون له حشر ولا نشر ولا سؤال ولا جواب ، لأن هؤلاء يقولون : وما يهلكنا إلّا الدهر كما كان قد أحيانا!!

ولا يخفى أن الدهريّين إذا كانوا يعتقدون أن للدهر والطبيعة هذه القوّة والقدرة ، بحيث تخلق الإنسان وتحييه وتميته ، وتوجد موجودات أخرى : من ذوي الحياة على اختلافها ، ومن الجمادات مع اختلاف آثارها وخواصّها ، وتميّز كل واحد من هذه الأجناس والأنواع ، وتتكفّل بالأرزاق وتنبت وتتلف ، وتخلق وتعدم ، وتحيي الإنسان وتهلكه ، نقول إذا كان للطبيعة أو الدهر هذا الإدراك وهذا التنظيم وهذه القدرة ، فإن هذه الطبيعة أو هذا الدهر ، هو الله تعالى باصطلاحنا. والفرق بيننا وبينهم لا يأتي إلا من ناحية الاسم لا في المسمّى ، فهم قائلون بوجود الصانع من حيث لا يشعرون ، ومنكرون للبعث والمعاد كنظرائهم من الوثنيّين والفلاسفة الملحدين ، وغيرهم من أرباب الأديان الذين يعترفون بالصانع وينكرون المعاد مع كونهم موحّدين على ما هو مسطور في كتب أرباب الكلام والفلسفة الماورائية .. وقضية إبراهيم عليه‌السلام ـ على ما حكاها الله تعالى ـ شاهد صدق على ما قلناه من أن الكثيرين من الناس موحّدون ومع ذلك أشكل عليهم أمر المعاد أو أنهم أنكروه. لأن إبراهيم عليه‌السلام على ما هو عليه من الإيمان ـ إذا لم يكن قلبه مطمئنا ، فلا عجب إذا شكّك غيره أو ضلّ ، حاشا رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.

وفي الخصال والعياشي عن الباقر عليه‌السلام عن النبيّ (ص) أنه قال : أربع خصال من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم :

من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ،

ومن إذا أصابته مصيبة قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ،

ومن إذا أصاب خيرا قال : الحمد لله ،

ومن إذا أصابته خطيئة قال : أستغفر الله وأتوب إليه.

١٥٧ ـ (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) ... أي من كانوا على تلك الحال فإن لهم من ربّهم مغفرة وثناء جميلا. وتفيد هذه الشريفة أن الصلاة ليست من خصوصيات النبيّ (ص) فيجوز أن يصلّى على غيره بانفراد ، وعلى آله بطريق أولى. فالذين خسروا أنفسهم بترك الصلاة على آله (ص) والقول باختصاص النبيّ (ص) بها ، قول بلا وجه ، وهو مردود بقوله سبحانه وتعالى إذ أجاز على هؤلاء صلوات (وَرَحْمَةٌ) أي لطف وإحسان ، وقال عنهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي المصيبون طريق الحق أو طريق الجنة في الاسترجاع.

* * *

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ

الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))

١٥٨ ـ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ... الصّفا والمروة مرتفعان بمكة بجانب المسجد الحرام يجري بينهما عمل وهو السّعي بكيفية خاصة مسطورة في الفقه. وشعائر ، مفردها : شعيرة ، وهي العلامة. والمراد من شعائر الله هنا شعائر الحج ، أي مناسكه وأعماله ومعالمه. أو أن المراد بالشعائر أعلام مناسكه ومعالمه التي جعلها الله مواطن العبادة ، وكل معلم يكون لعبادة خاصة به من دعاء أو صلاة أو ذكر. فالصّفا والمروة معلمان للعبادة المخصوصة بهما. وفي الكافي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام : أنه سئل عن الصّفا والمروة فريضة أم سنّة؟ .. فقال : فريضة. قيل : أو ليس قال الله عزوجل : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ قال : كان ذلك في عمرة القضاء .. الحديث. فيظهر من هذا الخبر العمل المتعلّق بهما فرض ، فإنهما من مواطن العبادة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) أي قصد زيارة بيت الله ، سواء أقصده بأعمال مخصوصة تسمّى حجّا أو بأعمال أخرى تسمّى عمرة. والحجّ لغة هو القصد ، والاعتمار هو الزيارة ، فغلّبا شرعا على قصد البيت وزيارته

على الوجهين المخصوصين (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي لا حرج عليه أن يسعى بينهما. قال الصادق عليه‌السلام : كان المسلمون يرون أن الصّفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية فأنزل الله هذه الآية. وإنما قال لا جناح عليه مع أن السعي واجب ـ وعلى قول على خلاف فيه ـ لأنه كان على المرتفعين ضمنان يمسحها المشركون إذا سعوا ، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصّنمين فنزلت الآية. ومرجع رفع الجناح عن الطواف بهما جاء من ناحية التحرّج لأجل ذينك الصّنمين ، لا من جهة أصل الطواف حتى ينافي بظاهره القول بالوجوب ، كما لو كان الإنسان يصلّي في حجرة متجها إلى بابها وهي مفتوحة ، أو أنه كان مواجها لإنسان ، فيقال له : لا جناح عليك في الصلاة في هذا المكان. فإنّ رفع الجناح لا يرجع إلى عين الصلاة لأنها واجبة ، وإنما يرجع إلى التوجّه فيها ومقابلة ما يكره التوجّه إليه ، كالباب المفتوح ؛ أو الإنسان المواجه للمصلّي. هذا مضافا إلى ما ذكرناه من رفع الجناح نظرا إلى عمرة القضاء على ما روي عن الصادق عليه‌السلام. (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي تبرّع بزيادة على الواجب بعد إتمامه ، أو من تطوّع بالحجّ والعمرة بعد أداء الواجب منهما ، أو من تطوّع بالخيرات وأنواع الطاعات. وعند من قال بعدم وجوب السعي ، قال : معناه من تبرّع بالسعي بين الصّفا والمروة (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه مجاز على ذلك ومثيب عليه ، وعليم بما يفعلونه إذا لا يخفى عليه شيء.

١٥٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) ... يعني أحبار اليهود ورهبان النصارى ، فإنهم علموا أنّ محمدا ووصيّة على الحق ، وكتموا ذلك طلبا للرئاسة ، وقد يكون المراد أعمّ من أهل الكتاب ، بحيث يشمل كلّ من كتم شيئا (مِنَ الْبَيِّناتِ) أي الدلائل والبراهين الكاشفة لأمر محمد (ص) ، أو الأعمّ من ذلك (وَالْهُدى) قيل : البيّنات هي الحجج المنزلة في الكتب ، والهدى هي

الدلائل. فالأول هو الأدلّة الثابتة في الشرع ، والثاني هو الأدلّة العقلية ، فالوعيد يعمّ الجميع. وقيل : الأول ما دلّ على نبوّته ، والثاني ما يؤدّيه إلى الأمّة من الأحكام وسائر الشرائع. ولعله أريد بهما شيء واحد والاختلاف في اللفظ جاء تفنّنا كما هو الموسوم في الألسن ، والمشاهد في المقالات والخطب من أهل الفصاحة والكلام ، والقرآن قد نزل على لسان قومه (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي بعد إيضاحه لهم إتماما للحجة (فِي الْكِتابِ) اللام للجنس ، فيشمل الكتب السماوية ، أو يحتمل أن يكون المراد بقوله : (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) ، في الكتب المتقدّمة ، ويكون المراد بالكتاب هو القرآن فتكون اللام للعهد (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) أي يبعدهم الله عن رحمته وغفرانه ، فإن اللّعن من الله هو الإبعاد من الرحمة وإيجاب العقوبة ، ومن غيره ممّن يتأتّى منه اللعن عليهم ويتأهّل لأن يلعن. من الملائكة والثّقلين : الإنس والجن ، يكون معنى اللعن : الدّعاء عليهم باللعن.

١٦٠ ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ... أي أقلعوا عن كتمان ما أنزل الله ، وعن المعاصي (وَأَصْلَحُوا) أي صحّحوا ما أفسدوا ، بأن أظهروا أنّ هذا الذي يدّعى أنّه هو الذي بشّر موسى وعيسى (ع) بظهوره في آخر الزمان ، وهو صادق في دعواه ومصدّق بشهادة التوراة والإنجيل ، وأن كتابه صدق ، ونحن نؤمن به وبكتابه فإذا أعلنوا هذا واستنّوا بسنّته واتّبعوا شريعته وساروا على منهاجه ، وتركوا ما كانوا عليه ، فهذا توبتهم وإصلاح ما أفسدوا بهذه الكيفية من التدارك (وَبَيَّنُوا) أي أوضحوا ما بيّنّاه. وهذه الجملة في الواقع بيان لما قبلها من قوله : أصلحوا ، كما أن جملة : وأصلحوا بيان لتوبتهم في الجملة ، لأن التوبة قائمة بأمرين : أحدهما الندم على ما وقع وصدر ، والثاني العزم على عدم الإتيان بما هو نادم عليه من العصيان ، وإصلاح مفاسد ما صدر عنه بما هو المقدور .. فلو عملوا بما قلناه لأنه ضدّ ما عرّفوا به النّبي (ص) في أول دعوته وبعثته إذ أنكروه

وكذّبوه .. إذا فعلوا ذلك كاملا (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) وأقبل منهم وأعفو عمّا قد سلف منهم (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي البالغ في العفو والإحسان غاية العفو والإحسان.

١٦١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... وجه كفرهم هو ردّ نبوّة محمد (ص) فكفروا ماتوا بلا توبة (وَهُمْ كُفَّارٌ) ولم يؤمنوا بما آمن به الناس. والجملة حاليّة تبيّن وصفهم الذي كانوا عليه وماتوا عليه (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فإن قيل : إن أهل ملّتهم ودينهم لا يلعنونهم إذا ماتوا على دينهم «فالناس» بعمومه لا يصحّ .. قلنا : إن المراد به هو من يتأتّى منه اللّعن ويقبل منه بقرينة المقام. أو يحتمل أن يكون المقصود بالناس أعمّ ، بحيث أن أهل دينه يلعنونه في الآخرة لأنه ضلّ وأضلّ غيره. قال الله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، كما أن في القرآن الكريم آيات أخر تشهد بذلك. واللعن الأول في الآية ١٥٩ راجع إلى الكاتمين للشهادة على ما أنزل الله من البيّنات والهدى. واللعن الثاني هو للكفرة الذين ماتوا على الكفر بلا توبة ، سواء كانوا من الكاتمين أم لا. والأول لعن ينالهم أحياء ، والثاني هو لعن لهم وهم أموات .. والإتيان بالجملة الاسميّة في الجملة الثانية ، وبالفعلية في الجملة الأولى ، أقوى شاهد على ما قلناه ، لأن الاسميّة ـ أعني في خبر الجملة الأولى ـ دالة على الدوام والاستقرار ، فهو يناسب عالم الآخرة ، بخلاف عالم الدنيا حيث إن عمرها قصير وإن كان أملها طويلا ، ولذا جيء بالجملة الفعلية التي لا دوام لها ، والتي تناسب القصر في اللعن.

١٦٢ ـ (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) ... أي باقون أبدا ومخلّدون في جهنّم ، بقرينة المقام ، وقيل في اللّعنة التي ترافقهم ، وهذا من باب الجمود على ظاهر اللفظ ويأباه الطبع السليم بدليل أنه (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ

الْعَذابُ) فيكون على وتيرة واحدة أو يشتدّو (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي أنهم لا يمهلون لكي يتعذروا ، وقد قال سبحانه : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) ، يعني لا يؤخّر عنهم العذاب ولو بمقدار وقت يسع الاعتذار.

١٦٣ ـ (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ... عن ابن عباس أن كفّار قريش قالوا : يا محمد صف لنا ربّك وبيّن لنا نسبه ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص .. أما هذه الآية فللدّلالة على انحصار الألوهية فيه ، وأنه لا إله غيره ولا مثل له ولا ندّ في صفة الألوهية. بل إنه واحد في جميع صفاته التي يستحقها ، لنفسه كالقديم والقدير والخالق والرازق ، التي هي مختصة به سبحانه ولا يشاركه فيها أحد ، ولا تطلق على أحد إلا بالعناية ، فإن قدرة كل قادر ، ورزق كل رازق ، ليس إلّا من ناحيته وألّطافه. ولو لا فيضه الخاصّ على العباد في كل آن ، بل فيضه العامّ على جميع الكائنات لأطبقت السماء بأهلها ، واندكّت الأرض بعمّارها ، فأزمّة الأمور كلها بيده وطوع قدرته.

ويستفاد من الآية ما يستفاد من كلمة التوحيد التي هي : لا إله إلّا الله. ولا يخفى أن الآية الكريمة والكلمة المباركة تدلّان على التوحيد في مرحلة الصفات كما قلنا آنفا. وأما التوحيد في مقام ذاته تعالى فلا يستفاد منهما ، ولا ملازمة بينهما ، لأنّ ربّ كل شيء يكون واحدا في صفاته ، لكنّه ذاتا ذو أبعاض كثيرة ، كزيد الذي يمكن أن يكون فردا واحدا في صفة خاصة به ، لكنّه في ذاته قابل لأن يقال : رأس ، ويد ، ورجل ، وبطن ، وظهر ، إلى غير ذلك من أجزائه. فالواحدة في مكان الصفة ، أي لا يكون له شريك في هذه الصفة وتسمّى الوحدة العدديّة ولا تلازم الوحدة الذاتية وأنه بسيط ذاتا.

ففي ما نحن فيه ، حتى ولو كنّا لا تكفينا هذه الآية الكريمة ولا كلمة التوحيد في القول بأنه تعالى واحد في صفاته الخاصة وفي ذاته ، بحيث ليس بذي أبعاض ، ولا يجوز عليه الانقسام ، ولا يحتمل عليه التجزئة ، فقد قلنا في

مقام شأن نزول الآية الشريفة إنها نزلت وسورة الإخلاص لتدلّ الآية على التوحيد الصفاتيّ ، ولتدلّ الإخلاص على الوحدة الذاتية .. بيان ذلك أنه فرق بين الواحد والأحد ، حيث إن الأول يدل على الوحدة العدديّة إذ يقال : لزيد ولد واحد ، أي ليس له ثان ، أو زيد واحد في تحصيله ، أي فرد لا ثاني له ولا نظير ، ولكن لا يقال زيد أحد ، أي فرد في ذاته بذاته ولا يتطرّق إليه التبعيض ولا التجزئة ولا التقسيم. وبعبارة اصطلاحية من الفلاسفة وتابعيهم : هو سبحانه بسيط من كلّ ما يتصوّر في غيره من مخلوق من جميع الجهات. وهم يعبّرون عنه بقولهم : بسيط الحقيقة. وقد سمّيت السورة سورة الإخلاص لأنها تدل على تنزيهه تعالى عن شوائب الأوهام كلّها في مقام ذاته من أول السورة إلى آخرها .. والعمدة هو قوله عزوجل : (اللهِ أَحَدٌ) ، وما قال : الله واحد ، لما ذكرنا من الفرق. حتى أن السائلين لو اختصروا في مقام السؤال على قولهم : صف لنا ربّك ، أي حقيقته ما هي؟ أمن ذهب أم من فضة أو من غيرهما من الفلزّات والأحجار الكريمية لكان تعالى يجيبهم : الله أحد ، أي منزّه ومتعال عن أن يكون مما يتصوّرون ، فهو حقيقة بسيطة ، لا يعرف بكنه ذاته .. لكنهم لمّا قالوا : صف لنا ربّك وبيّن لنا نسبه ، جاء جوابهم : لم يلد ولم يولد ، إلى آخرها .. وكلّ هذه المذكورات كانت مطويّة في : أحد ، إلّا أنهم لا يفتهمون ذلك ولا يفقهونه ولا يقبلون من النبيّ (ص) إذا فسّر لهم ، فلا بد من الصراحة والتفصيل في الجواب منه سبحانه. فسورة الإخلاص إنما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته ونفي ما يقوله النصارى من أنه واحد والأقانيم ، أي الأصول ثلاثة ، كما أن زيدا واحد ، وأعضاؤه متعدّدة.

وقيل في جواب من سأل أنه : ما فائدة قوله تعالى : إله ، في : وإلهكم إله واحد ، مع أن عبارة : إلهكم واحد ، كانت أخصر وأوجز :

إذا قيل : إلهكم واحد ، كان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في

الألوهية ، أي لا إله إلّا هو ، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته. بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله ، فإن إلها يدل على أحديّة الذات والصفة. وهذا الجواب يساعدنا ويؤيدنا في مقولتنا بأن الآية لا تدل على أحديّته الذاتيّة ، بل هي إخبار عن وحدته الصفاتيّة. نعم هو يدّعي بأن تكرار الإله يتكفّل للوحدة في مقام الذات أيضا. ونحن لا نقبل منه هذه الدعوى ، فإنّ تكرار الإله للمبالغة في إثبات وحدته في الألوهية ونفي الشريك ، والتأكيد في التوحيد الصفاتيّ. نعم قيل بأن الواحد يطلق ويستعمل بمعنى الأحد كما جاء في اللغة ، وكذا العكس ، لكنه قول غير مربوط بمقامنا فإنّا في مرحلة بيان الفرق بين معنيي اللفظتين بحسب الواقع ، لا في مقام الاستعمال والإطلاق فإنهما أعمّ من الحقيقة ، والمجاز وقول اللّغويّ بما هو ، ليس بحجة. والحقّ ما عليه المحقّقون من الأعلام مما ذكرناه .. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو تثبيت لصفة الألوهية المستفاد من قوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، وإزاحة شبهة أنّ في الوجود إلها آخر. فإن الظاهر من الخطاب هو الاختصاص فلذا يتمشى هذا التوهّم فيحتاج إلى دفعه ، وهو (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي المتصف بصفة الرحمانيّة جزئية وكليّة ، أصولا وفروعا ، ولا يكون في عالم الوجود سواه ، لأنّ كلّ ما سواه إمّا أن يكون نعمة ، وإمّا أن يكون منعما عليه .. وقد روي أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمئة وستون صنما ، فلمّا سمعوا هذه الآية (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) قالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف صدقك ، فنزلت الآيات الكريمة التالية:

* * *

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

١٦٤ ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ... الآية الأولى كانت في توحيد الصفات ، وهذه الآية في توحيد الأفعال ، وقد كانت الأولى مقدّمة رتبة

على الثانية ، كما أن ما يدل على توحيد الذات مقدّم عليهما رتبة.

ولمّا كان فهم توحيد الذات والصفات مشكلا على نوع البشر ، فقد جاء سبحانه بوسيلة توحيد الأفعال ليسهل أمرهما .. أما بيان أنّ خلق السموات والأرض كيف يدل على وحدة الإله؟ .. فذلك أنّ الموجودات السماوية لها أشكال مختلفة ، ولكل واحد منها نظام خاصّ وحركة مخصوصة به ، حيث لا يوجد في نظامه وطريقته نقص ولا عيب ، ولا يضادّ نظام كل واحد منها نظام الآخر ، ويترتّب على حركاتها ونظامها آثارها وخواصّها في عالم الوجود من الأزل إلى الأبد ، فمن هذه الأنظمة البديعة الدقيقة ، والطّرق المخترعة العجيبة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ندرك ونستكشف بأنها صادرة عن إرادة المريد الفرد وعن خالق واحد بلا شريك.

وبنظير هذا الاستدلال نقول عمّا في الكرة الأرضية من هذا الطراز العجيب والنّمط الغريب ، في خلقها ببرّها وبحرها ، وإيجاد ما فيها من عجائب الصنع وبدائع التدبير ، في مخلوقاتها ومختلف موجوداتها حيوانا ونباتا وجمادا ، مع ما في كل واحد منها من المنافع والمصالح المترتبة عليه والمستفادة منه بكيفيّاتها المخصوصة بلا اختلاف ولا تغيير ، فهذه تدل على إيجادها من لدن موجد واحد وخالق فرد وصاحب رأي حكيم ..

قال بعض المفسرين : إن عامة المؤمنين : بالنظر إلى المصنوعات : يعرفون الصانع. وخواصّهم يعرفون الله بالنظر إلى الصفات ، فيعرفون الموصوف والأنبياء. وخاصّ الخاصّ ينظرون إليه تعالى فيعرفونه به ، كما قال تعالى مشيرا إلى هذا المعنى : ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظّل ، وما قال : أنظر إلى الظّل فتعرفني ، بل قال : أنظر إليّ فتعرف صنعي وقدرتي كيف أمدّ الظّل وكيف أبسطه ، وكيف أطويه وأجزره (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهو يعقّب بهذه

الآية العجيبة لآية خلق السماوات والأرض لإفهامنا أنّ هذا الاختلاف من آثار تقابل الشمس مع الأرض وحركتها بمحاذاتها ، ليرى وجه التماثل أو التخالف بينهما ، وتترتّب آثارهما على التقابل والمواجهة التامّة أو الناقصة كإحداث اللّيل والنّهار ، وطولهما وقصرهما ، وتشكيل الفصول الأربعة وترتيب آثارها العرفيّة عليها ، وكإيجاد أمور أخر من المنافع والمضارّ إلى غاية النهاية من الأمور الغريبة والصنائع البديعة التي تحيّرت بها عقول ذوي الأفهام ، وبهتت أفكار المفكّرين العظام ، وتحيّر ذوو الألباب بإحداث هذه الآثار وغيرها ، وترتّب بعضها على بعض وفق نظام واحد يدلّنا على مبدع لا مثيل له ولا شريك ، لأنه لو كان له في تلك الأمور مشارك لاختلّ نظامها ولفسدت السماوات والأرض وما فيهن .. فمن بقاء نظامهما أزلا وأبدا نستكشف وحدة الصانع وموجد العالم (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) هي أيضا تدل على وحدانيته يعني السفن التي تمخر عباب البحار ـ فهي تدل على ذلك من ناحيتين :

الأولى : هو الاهتداء إلى كيفية صنعها وإعطائها شكلها. فإن الفلك إذا صنعت مدوّرة لا تصلح ، مع أنه ثبت في علم الهندسة أن الشكل التدويري هو أحسن الأشياء. وهي بغير شكلها البيضيّ لا تعطي الفائدة التامة من حيث حفظ التوازن في الركوب وحمل الأثقال. فإنه تعالى لمّا أمر نوحا عليه‌السلام بأن يعمل السفينة ألهمه اصطناعها بالشكل البيضيّ لا بالشكل التدويري. وقد صرنا ندرك بالوجدان أنّ المراكب المائيّة لا بدّ وأن تكون بأجمعها على ذلك الشكل ووفق النمط الخاص ، سواء أكانت سفنا تجاريّة أم سفنا حربية ، فإنها لا غنى لها عن سكّان تشقّ به الماء لتسرع في السير ، ولا بدّ أن يلاحظ طولها وعرضها وعمقها في البحر ، وأن تلاحظ نقطة ارتكاز الثقل فيها وغير ذلك من الأمور الفنيّة المتعلقة بصناعة السفن.

والثانية : هي جهة إجرائها في البحار مع مختلف شؤونها الكبرى

والصغرى ، طولا وعرضا وعمقا وجزرا وقدا ، ليلا ونهارا ، في الظّلمة وفي الضياء ، في حركة البحر وفي سكونه ، بالتجذيف أو بالشراع الهوائي أو بالبخار أو المحرّك الكهربائي ، وغير ذلك مما يعرفه قباطنة السفن وأرباب الغوص الذين يهتدون بالشمس مرة وبالنجوم ثانية ، وبالبوصلة أو إبرة الملّاحين مرة أخرى .. والآية العجيبة في ذلك أن تلك السفن لم تخضع في شكلها لتغيير ولا لتبديل ، بل بقيت على وتيرة واحدة آلاف السنين ، إذ لم يتيسّر لصنّاعها أحسن ولا أتمّ مما هو عليه!. فوحدة الصناعة ، ووحدة الأجزاء ، ووحدة القواعد الثابتة التي تسير السفن بموجبها ، هذه كلّها تدلّ على وحدة ملهمها بلا إشكال لأنه هكذا ألهمها لعباده لتجري في البحر (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي بالذي يفيدهم من السفر والتجارة والصيد وغير ذلك مما يذهب إليه السامع بنفعها (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) ذكر الماء ، مع أنه ينزل من السماء كثيرا مما يفيد أو يهلك ، لأن المطر لعلّه أنفعها إذ به يحيي الأرض وما فيها وما عليها. قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

والمطر بأقسامه من الآيات الباهرات الدالة على التوحيد ، وابلا كان أم طلّا ، رذادا أم هطلا ، فهو بنفسه دالّ على حكمة حكيم ، وبكيفية نزوله يبرهن على عظمة عظيم ، يجعل طلّه أجزاء صغيرة تكاد لا ترى ، ويجعل وابله نقطا تكاد تكون بحجم واحد ، ويجعل هطله متدفقا كأنه ينصبّ من أفواه القرب ، فقد لا ينزل دفعة واحدة لئلّا يضرّ بالمزروعات ويغرق الأرض ، وقد يهطل ويتفرّق حتى يعمّ ويشمل الأمكنة العالية والسافلة ، وقد يسير مع الريح الغربية أو الشرقية أو القبلية ، وقد يختصّ ببلد دون بلد ، وقد يزيد هنا وينقص هناك. فهل يكون كذلك إلا بأمر مدبّر منظّم واحد بغير شريك؟. فإنه لذلك من قديم الأزمنة إلى حديثها وإلى الأبد بالقياس إلى ما سبق من وحدة الملاك ، وإن العلّة المحدثة مبقية ، والمعلول باق ببقاء علّته أو كما شئت فقل في وصف هذه الآية

الربّانيّة والنعمة السماوية ... فقد قدّر سبحانه لعباده نزول هذا الماء (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وذلك بإخراج نباتاتها وتثمير أشجارها ، وتفجير أنهارها ، وانشقاق عيونها وقنواتها ، فكل ذلك بنتيجة الأمطار والثلوج وما ينزل من السماء من هذه الآيات السماوية حسب ذلك الإحكام وذلك التقدير والإتقان ، على نسق واحد يدلّ على قدرة وحيدة لقادر واحد ، فعل ذلك لخير الأرض (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أي نشر وفرّق كل نوع من الدوابّ ، أي الكائن الذي يدبّ ويتحرّك على وجه الأرض أو فوقها أو تحتها. ولكلّ من الدوابّ التي بثّها فيها ، خواصّ وآثار ، بعضها نعرفه ، والبعض الآخر لم نعرفه إلى الآن ولا أدركنا سرّ وجوده ، فهو سبحانه لم يخلق خلقا عبثا ، ولا برأ شيئا من الموجودات بلا تقدير حتى في عالم الجماد فكيف بذوات الأرواح (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي تسييرها وتحويلها من جهة إلى جهة ، ودفعها من وجه إلى آخر للمصالح ومقتضياتها نفعا وانتفاعا للكثير الكثير من المخلوقات ، ولا سيّما الرياح اللّواقح التي لها آثار غريبة بالنسبة للأشجار المثمرة. فهل هذا إلّا صنع عالم قادر وحيد حكيم في كلّ ما قدّر؟ .. عميت عين لا تراه ، وصمّت أذن لا يدخلها صوت الحق ، بل زاغ قلب لم تصله أصوات جميع الممكنات التي تنادي على نفسها بنفسها أنها لا تكون بلا إله ولا توجد بلا خالق ، تعالى الله في سلطانه ، فانّ له في كل شيء آية تدلّ على أنه واحد.

أما تخصيص هذه الأمور بالذكر في هذه الآية الكريمة ، فلأنها براهين ساطعة لكل عاقل مدرك مكلّف. ومن هذه الشريفة استنبطنا أن مسألة التقليد في وجود الصانع جلّ وعلا غير جائزة مطلقا في أصول العقائد. ولا تقبل من أحد من المكلّفين ، بل لا بد لكل واحد من تحصيل العلم ، والوصول إلى المعرفة ، بواسطة الآيات التكوينية الطبيعيّة. وقد نبّه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في كتابه الكريم ـ في هذه الآية وفي غيرها ـ كما أن قوله صلّى الله عليه

وآله : عليكم بدين العجائز ، فيه إشارة إلى ما ذكرنا من تحصيل المعرفة عن طريق مطالعة حقائق هذه الموجودات وفطرتها ، للتوصل إلى معرفة صانعها ومدبّرها .. ثم كرّر سبحانه عظمة هذه الآية بقوله : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ليشير في هذه الآية الكبرى إلى أن ذلك مسخّر ومأمور ، أي متذلّل خاضع للنواميس التي أبدعها له الله ، سواء كان واقفا أو متحرّكا ، فليس له اختيار في وقوفه ولا في حركته ، ولا في حمل الماء من منابعه التي أمره الله سبحانه أن يأخذ منها ويحمله إلى أرجاء المعمورة ، كما أنه لا شأن له في اختيار الأمكنة ، ولا بالكميّة ولا بالكيفيّة ولا في غير ذلك من الجهات المرتبطة به. هذا ، وليس السحاب وحده مسخّرا بحسب جبلته التكوينيّة ، بل جميع آياته عزّ وعلا بين يدي قدرته فيما هو راجع لها ، لأنها بذاتها مفطورة من لدنه على ذلك. فهذه الجهة الدقيقة في تسخير السحاب بين السماء والأرض حسب مشيئة الصانع ، هي أدلّ دليل على الصانع وتوحيده ، وأعظم حجة على وجوده ، فتعالى الله عما يقول الجهلة الظالمون عليهم لعائن الله ، فإن في ذلك (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي أنها كلّها دلائل واضحة وبراهين ساطعة على صانع وحيد ، لكنها ليست كذلك لجميع البشر ، بل لطائفة خاصة وقوم موفّقين للتعقّل والتأمّل في الكون والكائنات ، فإنهم وحدهم يعرفون الصانع الخالق ، وهذا ما يسمّى بالدليل اللّميّ.

١٦٥ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ) ... من ، هنا للتبعيض ، أي أن بعض الناس يتّخذ غير الله أمثالا له من الأصنام والرؤساء الضالّين المضلّين فيتّبعونهم ، بدلالة قوله تعالى في الآية اللاحقة : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا). وقال الباقر عليه‌السلام : هم أئمة الظّلمة وأشياعهم (يُحِبُّونَهُمْ) يوادّونهم ويعظّمونهم ويخضعون لهم وينقادون لأوامرهم ، وحبّهم لهم (كَحُبِّ اللهِ) أي كما يحبّ الله ، وقد استغنى عن ذكر الفاعل لكونه معلوما.

وقيل : معنى كحبّهم الله ، أي أنهم لا يفرّقون بينه وبينهم في محبّتهم. وهذا بناء على كونهم يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وغيرهم لا يقول بذلك. وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام : هم والله أولياء فلان وفلان ، اتّخذوهم أئمة من دون الإمام الذي جعله الله للناس إماما. فلذلك قال : ولو يرى الذين ظلموا .. الآية. ثم قال : والله هم أئمة الظّلم وأشياعهم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي أن المؤمنين أشد حبّا لله من متّخذي الأنداد مع الله ، لأن المؤمنين لا يعدلون عنه إلى غيره بخلاف المشركين فإنهم لا يعدلون عن أندادهم إلى الله تعالى إلا عند الشدائد. فمحبّة المؤمنين خالصة له سبحانه. والعياشي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : هم آل محمد عليهم‌السلام ، أي الذين آمنوا .. (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم بالشّرك وترويج الكفر (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) حينما يبصرونه يوم القيامة ويرون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيعلمون أن القدرة له تعالى. وجواب لو ، محذوف ، أي : لو رأوا ذلك لندموا أيّ ندم إذ لا مفرّ لهم من العذاب (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) نعوذ بالله من شدة عذابه للكافرين والعصاة. والجملة وقعت على الاستئناف ، أو بتقدير يعلمون ..

١٦٦ ـ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) ... هذه الجملة بدل من : إذ يرون العذاب ، وقد مضت آنفا. أي إذ تبرّأ المتبوعون ، ـ وهم الرؤساء ـ من أتباعهم ، أي (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية ، أي : إذ تبرّأوا من أتباعهم حال رؤيتهم العذاب (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) عطف على تبرأ. والأسباب هي الوصل والروابط التي كانت بينهم ، يتواصلون بها كالأرحام فيما بينهم وكغير ذلك من روابط الحب والصداقة. والحاصل أنه يزول من بينهم كلّ سبب يصل القريب بقريبه والحبيب بحبيبه فلا ينتفعون بشيء ، من ذلك.

١٦٧ ـ (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ..) أي الأتباع ، تحسّروا وقالوا (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ) في الدنيا منهم (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) في الآخرة! .. ومجمل الكلام أن التابعين على الضلال ، يتمنّون الرجوع إلى الدنيا مع المتبوعين ، لينتقموا منهم بعدم الاعتناء بشأنهم ، وبالتبرّؤ منهم جزاء تبرؤ التابعين حين رؤية العذاب (كَذلِكَ) أي مثل ذلك يكون شأنهم (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) يعني أن أعمالهم في الدنيا تنقلب عليهم ندامات في الآخرة ، فالحسرات بدل الحسنات ، والنّدامة في الآخرة نتيجتها النار ، كما قال سبحانه (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ندموا أم لم يندموا ، إذ لا تنالهم شفاعة نبيّ ولا توسّل وحيّ ولا وساطة أحد من الأخيار الأبرار. وفي الكافي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ...) : هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ، ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو معصية الله. فإن عمل به في طاعة الله رآه ـ صاحبه الذي تركه ـ في ميزان غيره حسرة وقد كان المال له ، وإن كان عمل به في معصية الله عزوجل قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصيته عزوجل.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

١٦٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) ... لما قدّم سبحانه ذكر التوحيد وأهله ، والشّرك وأهله ، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه تعالى على الفريقين من النّعم والإحسان ، ثم نهاهم عن اتّباع الشيطان لما في ذلك من جحود النّعمة والكفران بالفضل ، فقال سبحانه يخاطبهم جميعا : كلوا ممّا في الأرض .. والخطاب عامّ لجميع المكلّفين من الإنس والجنّ. وكلوا : لفظة أمر ، ومعناها الإباحة. ولفظة «من» للتبعيض ، لأنه ليس جميع ما في الأرض قابلا للأكل إمّا خلقه وإمّا شرعا ، كلوه (حَلالاً طَيِّباً) لا مانع منه ، هنيئا لكم إذا أطعتم ربّكم. حلالا : مباحا ، وطيّبا لذيذا أو طاهرا من الشّبه (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) واتّباع الخطى هو الاقتداء به والاستنان بسنّته ، ولعلّه هنا كناية عن الاقتداء به في وساوسه ، فكأنّه في كل وسوسة يقود الإنسان نحو معصية فيترسّم الإنسان خطاه ويتّبع أوامره وما يزيّن له (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فالشيطان واضح العداوة للإنسان منذ نفخ الله تعالى الروح فيه. وهذه الجملة

هي علّة النّهي عن اتّباعه والاقتداء به ، لأن الإنسان إذا اقتدى به ، اقتدى بأعدى عدوّ له ، فالشيطان أول عدوّ للإنسان ولا يترقّب منه إلّا الشرّ

١٦٩ ـ (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) ... هذه الشريفة بيان لوجوب الكفّ عن اتّباع الشيطان وظهور عدواته ، فهو لا يأمركم بخير قط ، وإنّما يأمركم بالسوء : أي الأمر القبيح ، وبالفحشاء ، وهي ما تجاوز الحدّ في القّبح. وقيل العكس ، أي أن السوء ما لا حدّ فيه ، والفحشاء ما فيه الحدّ في القباحة. بهذا يأمركم الشيطان وبغيره من الموبقات (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كأن يقول للإنسان : هذا حلال ، وهذا حرام ، من دون علم بهما. وفي الآية الكريمة دلالة على المنع من اتّباع الظّن في المسائل الدّينية رأسا ، بل الطريق منحصر فيها بالعلم. فإن القول في الأمور الدينية بلا علم يحسب في عداد السوء والفحشاء ، وكما أن الشيطان يأمر بالفحشاء والسوء فكذلك القول بلا علم .. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك. إياك أن تفتي الناس برأيك ، وتدين بما لا تعلم. وعن الباقر عليه‌السلام أنه سئل عن حق الله تعالى على العباد ، قال : أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون. فوا حسرة على بعض العباد يوم المعاد كيف يلقون وجه الله ، وبما ذا يجيبون لو سئلوا عن حقه عليهم وقد الّفوا رسائل عملية بوجود من هو أعلم منهم وأفتوا الناس بما لم يتوصلوا إليه عن دليل قطعيّ ، مع أن الأعلم به كفاية؟ ..

١٧٠ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) ... الضمير في (لَهُمُ) راجع إلى الناس. والمراد بما الموصولية هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى والعدول عن مخاطبتهم إلى الغيبة لبيان ضلالتهم وكفرهم وليبيّن عدم قابليتهم للتوجه والالتفات إليهم ، ولا سيّما للمقلّدين منهم فإنه لا ضالّ أضلّ منهم. فمفاد الآية

الكريمة أنه إذا قيل لهؤلاء المشركين : أطيعوا كتاب الله واسمعوا قول النبيّ محمد (ص) واتّبعوه فيما يدعوكم إليه من الهدى (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي نحن نقلّد آباءنا فيما وجدناهم عليه من الدين فإنهم أبصر منّا وأرسخ إيمانا ، ولو كان دينهم فاسدا وطريقتهم باطلة ما استقاموا على ذلك طول الزمان بلا مانع يمنعهم. فوبّخهم الله جلّ وعلا بقوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) والهمزة للردّ والتعجّب ، والواو للحال ، وحاصل معنى الجملة الكريمة : أن هؤلاء الحمقى لا يرجعون عن دين آبائهم ، والحال أن آباءهم كانوا فاقدين للعقل المميّز الحقّ من الباطل والصحيح من الفاسد ، وإلّا لما خضع أشرف المخلوقات ـ وهو الإنسان ـ لأدون الجمادات من الأصنام التي صنعوها بأيديهم! ... فمن عبد الجماد الفاقد للعقل ، كان أفقد منه للعقل وأجمد منه على الباطل. فآباؤهم عبدة أصنام لا تسمع ولا تعقل ، وهم مقيمون على عبادتها وتقديسها ، وهؤلاء يعتقدون بهم ويقلّدونهم في طريقتهم ، ويصمّون آذانهم عن أن يستشمّوا روح الحق والصواب من الدين الحنيف الذي جاء به محمد بن عبد الله (ص). ويستشعر من هذه الكريمة أنه لا بد للإنسان من إعمال عقله وفكره ونظره ليتعمّق في البحث عن مقلّده فلا يقلّده إلا بناء على بصيرة نافذة ورويّة تامّة بعد أن يراه أهلا للتقليد وجامعا لكل الشرائط المعتبرة.

١٧١ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... الآية ... أي مثل داعي الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) فهم في ادّعائهم كمثل الناعق من البهائم التي لا تسمع إلا تصويتها ولا تفهم مرادها ولا معنى نعيقها ، فهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لا يسمعون ولا يتكلّمون ولا يرون الهدى وطريق الحق. والألفاظ الثلاثة إمّا أنها خبر لمبتدأ محذوف ـ أي هم صمّ بكمّ عمي ـ وإمّا أنها مبتدأ لخبر محذوف وقد فسّرناه (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لعلامات التوحيد والبراهين الساطعة على وجود الصانع

تعالى والحجج على النبوّة لتركهم النظر فيها بتاتا

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

١٧٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) : مستلذّات (ما رَزَقْناكُمْ) من النّعم الطيبة السائغة غير الخبيثة. فإن الأمر بأكل الطيب للاحتراز عن الخبيث لا عن الحرام ، لأن ما رزقه الله ليس بحرام ، والحرام هنا قد خرج بقوله تعالى : ممّا رزقناكم. وأمّا التقيد بالطيّبات فلإخراج ضدّها ـ وهي الخبائث ـ والخبائث

تطلق على كل نجس ، وعلى كلّ رديء وكلّ مستكره ، أي عمّا ينفر منه الطبع بالفطرة ، وعلى الفاسد وكلّ حرام بنظر الشّرع. فكلوا الطيّبات فقط (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) احمدوه على ما رزقكم من نعمه الطيبة (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) قدّم المفعول ـ إياه ـ وفصله لإفادة الحصر ، كما في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). ومعنى ذلك إن كنتم تخصّون الله بالعبادة وتقرّون بأنه المنعم الحقيقي فأتمّوا عبادتكم له بأداء الشّكر الذي لا يحصل تمامها إلا به.

١٧٣ ـ (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) ... أي التي تموت بلا ذباحة حسب إذن الشارع المقدّس ، فإنها حرام أكلها ، حرّمها هي (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ما ذكر اسم الصنم أو أيّ اسم آخر غير اسم الله عليه عند الذّبح كالّذي تتقرّب به الكفار من أسامي أندادهم ... (فَمَنِ اضْطُرَّ) دفعت به الحاجة في مخمصة أو مجاعة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) غير عاص وظالم لإمام المسلمين وغير معتد بالمعصية على طريق المحققّين وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام، ويحتمل أن يكون غير ظالم ولا جان على أحد من المسلمين ، وغير متجاوز لحدود الشّرع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي لا حرج في أكل تلك المحرّمات ، في تلك الحال فقط (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) متجاوز عن معاصي عباده ، فكيف فيما رخّص به هو لعباده ، فهو رحيم بالتوسعة على العباد ، ورفع الحرج عنهم عند الاضطرار. وبهذه المناسبة نورد بعض الروايات التي تناسب المقام. ففي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : الباغي : الذي يخرج على الإمام ، والعادي : الذي يقطع الطريق ، لا يحلّ أكل الميتة ، والعياشي عنه عليه‌السلام : الباغي : الظالم ، والعادي : الغاصب. وفي التهذيب والعياشي عنه عليه‌السلام : الباغي : باغي الصيد ، والعادي : السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين وفي رواية عبد

العظيم عن الجواد عليه‌السلام : هي حرام عليهما في حال الاضطرار ، كما هي حرام عليهما في حال الاختيار. وليس لهما أن يقصّرا في صلاة أو صيام. وفي سفر الحديث في الفقه عن الصادق عليه‌السلام : من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر. ولعلّه من حيث أنه لم يعتن برخصة الشارع من أجل حفظ نفسه ، وفي عدم الاعتناء ، بترخيص الشارع المقدّس وهن لحكم الشارع تعالى ، وهن الحكم وهن للحاكم والعياذ بالله ...

١٧٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ) : المراد بهم اليهود فإنهم كتموا ما أنزل الله تعالى على موسى (ع) (مِنَ الْكِتابِ) أي التوراة التي فيها أوصاف محمد (ص) وعلائمه ودلائل نبوّته ، بحيث أيقنوا أنه هو الذي أخبر به موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما‌السلام ، وكتموه وأخذوا في مقابل كتمانهم ثمنا قليلا كما أخبر به الله تعالى في كتابه إذ قال (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا أو رئاساتها الزائلة بعد أيام قلائل (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) أي الكاتمون لنعوت محمد (ص) الذي أخذوا عوضا من المال وأكلوا به لقاء الكتم ، فإن أكلهم لها يوجب النار ، فهو نار تجري في بطونهم (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم غير أهل لكلامه بلا واسطة ، وهذا متضمّن لغاية غضبه عليهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ولا يطهّرهم من ذنوبهم بالمغفرة لأنهم لا يستحقونها ، ولا يثني عليهم ويمدحهم لأنهم عصاة (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع لا يطاق ألمه .. ولا منافاة بين قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، وقوله في سورة الحجر : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أولا لما أشرنا إليه من أن الأول ـ أي المنفي ـ هو التكليم بلا واسطة والمثبت مع الواسطة كما هو الظاهر في المقامين. أما الثاني فإن المنفيّ ربما يكون المراد به كلام التلطّف والإكرام ، والمثبت سوء التوبيخ والإهانة.

١٧٥ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) : الإشارة لعلماء اليهود

والنّصارى ، أو مطلق أهل الضلال الذين كانوا من رؤسائهم ، لأنهم المقدّمون لاختيار الضلالة واشترائها (بِالْهُدى) أي اشتراؤهم الكفر بالإيمان لحفظ رئاساتهم وحطام الدنيا الفانية (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) أيضا اشتروه بكتمان الحق لأغراض فاسدة باطلة ، كأخذ الرّشى وجمع الأموال من أي طريق ولو بقتل النبيّ أو الوصي ، وغير ذلك من موبقاتهم ، عليهم لعائن الله (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) أي ما أشد صبرهم على عمل يصيّرهم لا محالة إلى النار ويجرّهم إليها.

١٧٦ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) : أي أن تصييرهم وجرّهم إلى النار بسبب أنه تعالى نزّل إليهم كتابا حقا ثابتا فرفضوه وكذّبوه وكتموا ما فيه جحدا للحق وعنادا للنبيّ محمد (ص) (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) أي القرآن فقالوا عنه سحرا مرة ، ورموه بالتكذيب والابتداع مرة ثانية ، ووصفوه بأنه تعليم بشر مرة ثالثة ، وبأنه أساطير الأوّلين وغير ذلك. أو أن المراد بالكتاب الجنس ، أي كتب الله التي آمنوا منها ببعض وكفروا ببعض. فعلى كل حال إن هؤلاء (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف بعيد عن (الحق والحقيقة ، لأنّ من أوقع نفسه في الطّرق المختلفة مع وضوح الطريق الموصلة إلى المقصود ، يبعد طبعا عن المقصد ويزيغ عن طريق الحق.

* * *

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا

وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

١٧٧ ـ (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) : أي ليس الفعل المرضيّ والعمل الحسن أن تتوجّهوا (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) في الصلاة ـ والخطاب لأهل الكتاب الذين خاضوا كثيرا في تغيير القبلة ـ قال تعالى لهم : ليس البر منحصرا في الصلاة نحو الشرق كما هو ديدن النصارى ؛ أو نحو الغرب كما هي طريقة اليهود ـ أي نحو بيت المقدس ـ. فما هذا هو البرّ والطاعة التامة والعمل الحسن المقبول .. ذلك أنه تعالى لمّا بينّ دلائل التوحيد ، وأوضح الطريق إلى معرفته تعالى ، وأقام البراهين على صدق قول النبيّ (ص) المبعوث من عنده عزوجل إلى البشر كافة ، وبعد أن أظهر غضبه على الجاحدين والمنكرين ـ بقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ـ عيّر أحبار اليهود ورهبان النصارى ووبّخهم بقوله : ليس البرّ كله بالصلاة إلى هذه الجهة أو تلك (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي أن البرّ هو برّ من آمن بالله واستمع له وأطاعه. وهذا كما يقال : السخاء حاتم : أي سخاء حاتم : أو الفقاهة زيد : أي فقاهة زيد. ويمكن أن يكون البرّ بمعنى البارّ أو بتقدير ذو البر من آمن بالله أي صدّقه ، فتصديقه ملازم لجميع ما لا تتم معرفته إلّا به ، كمعرفة حدوث العالم مثلا ، ومعرفة ما يستحيل عليه ـ كصفاته السلبيّة ـ وكعدله

وحكمته وسائر صفاته الثّبوتيّة .. فهذا هو البرّ والتصديق به (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن فيه الاعتراف بالبعث والحساب والأجر والعقاب (وَالْمَلائِكَةِ) وفيه التصديق بوجودهم وأنهم عباد مكرمون ينزّهون الله ويسبّحونه (وَالْكِتابِ) أي جنسه ، يعني الكتب السماوية بأجمعها ، أو القرآن خاصة (وَالنَّبِيِّينَ) وفيه الاعتراف بصدق الأنبياء وعصمتهم عن جميع المعاصي ، فقولهم صدق ولا بدّ من قبوله واتّباعه ، ومنه إخبارهم بأنّ سيّدهم وخاتمهم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فالبرّ هو عمل من آمن بذلك كله (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي أنفق المال في موارده الواجبة والمحلّلة مع حبّ المال لأنه وسيلة عيشه في حياته ، أو أنفقه على حبّ الله ، أي لحبه سبحانه لأنه يكون قد أعطاه كإحسان ، أو أنه أيضا على حبّ الإيتاء إذا كان الشخص سخيّا بالطبع ومعتادا للإعطاء ، والأوسط أظهر في النظر. ويكون الإيتاء إلى (ذَوِي الْقُرْبى) أي أقرباء المعطي وذوو رحمه. قال (ص): إيتاء الصدقة والإحسان على الأقرباء له حسنان : صلة الرّحم ، والصدقة. وروي عن الصادقين عليهما‌السلام : المراد ذوو قربى (الرسول (ص) (وَالْيَتامى) أي المحاويج ممن مات آباؤهم فإنهم اليتامى في عرف العرب (وَالْمَساكِينَ) الذين لا يجدون نفقة سنتهم ولا يسألون الناس ولا يطلبون لعفّة نفوسهم يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف ، لا الذين يدورون البلدان ويلجون الدور والقصور ، ويلحفون في السؤال ويقضون حياتهم في الطلب والسؤال (وَابْنَ السَّبِيلِ) أي المسافر المنقطع عن أهله إذا لم يبق معه نفقة ولم يجد طريقا لها ، فهو الذي سمّي ابن السبيل لملازمته ، ولانقطاعه عن متابعة طريق الرجوع ، وقيل المراد به الضيف (وَالسَّائِلِينَ) الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال ، وهؤلاء يعتبرون أعفّاء بحسب طبعهم ، لكنّ الضرورة اقتضت منهم السؤال ، ولذا عدّ إعطاءهم من البر. جاء أعرابيّ إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأحسّ أنّ له حاجة ، فقال عليه‌السلام : هل لك أن تخطّ؟ قال : نعم. قال : خطّ حاجتك على الأرض حتى لا

نرى ذلّ السؤال في وجهك. فكتبها عليها ، فقضاها سلام الله عليه. (وَفِي الرِّقابِ) لعل المراد به العبيد تحت الشدة والضيق والتعب ، فيستحب أن يشتروا ويعتقوا. وقيل هم المكاتبون منهم ، فيستحب أن يعانوا ليؤدّوا مال الكتابة فيعتقوا ويتخلّصوا من العبوديّة. ولا يبعد أن يكون الأعمّ مرادا (وَأَقامَ الصَّلاةَ) صلّاها مستجمعة لجميع شرائطها (وَآتَى الزَّكاةَ) دفع الزكاة المفروضة ـ المالية والبدنية ـ بشرائطها كما وكيفا ومصرفا ، على ما هو المبيين في محلّه (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) يحتمل أن يكون عطفا على : من آمن ، كما يجيء هذا الاحتمال في موارد أخر من هذه الآية ، كقوله : (وَآتَى الْمالَ) ، وقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) وتاليه في الجمل السابقة مسلّم ولكنه في المقام احتمال. ويمكن القول بأنها مبتدأة ، وخبرها : أولئك الذين .. وستجيء الآية بتمامها. وقيل إن المراد بالعهد أعمّ من أن يكون مع الله أو مع النبيّ أو مع سائر الناس. وفي الجملة السابقة قد أتى بالجملة الفعلية (نحو : آمن ، وآتى ، وأقام) ، بلحاظ صلات الموصول. أمّا في هذه الجملة فأتى بالاسميّة لأنّ الإيمان والصلاة وإعطاء المال أمور لا بد من التكرار فيها لأنها أمور حادثة تذكر عند وجود مقتضياتها وتتجدّد وتحدث ، بخلاف الوفاء بالعهد فإنه حالة ثابتة دائميّة ، لأن الإنسان لا بد وأن يكون ثابت العزم جازما على بقاء عهده والوفاء به أبدا. لذا أتى بالجملة الاسميّة الدّالة على الدوام .. ولكن الحق أن الايمان بمعناه الحقيقي من الأمور الثابتة المستمرة ، ليس فيه تجدّدّ وتلوّن ولا تغيير ولا تبديل ، مثل الوفاء بالعهد ، بل هو أثبت وأدوم وأتقن. وما فيه تجدّد وتغيير هو الإسلام لا الإيمان على ما أخبر به الله سبحانه بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ؛ وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) الصابرين منصوب على المدح ، والبأساء : المجاهدات النفسانيّة ، والضرّاء : الفقر والشدّة والمرض (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي عند شدّة القتال ، وهي من أهمّ مراتب مجاهدة النفس لحملها على

الصبر على مرارة الحرب والتعرّض للموت (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم بالله وبرسوله وبكتابه وما فيه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الذين يعملون ما فرض الله عليهم ، وينتهون عمّا نهوا عنه ، فتحلّوا بحلية التقوى وتزيّنوا بزينة الهدى ، فهم الذين أخذوا بمبدإ التكامل البشري. والآية الكريمة جامعة لشروط الكمالات الإنسانية وتبليغ البشر أعلى مراتب البشرية السامية. بيان ذلك أنها تدل على أمور ثلاثة فيها وبها يتم التكامل :

الأول صحة الاعتقاد ، وقد أشار اليه سبحانه بقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) ، إلى قوله : (وَالنَّبِيِّينَ ..)

والثاني حسن المعاشرة ، وأشار إليه عزوجل بقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) إلى قوله : (وَفِي الرِّقابِ).

والثالث تهذيب النفس وقد أشار إليه بقوله جلّ وعلا : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) إلى آخر الشريفة فمن استجمع هذه الأوصاف الفاضلة فهو ممّن ينبغي أن يوصف بالصدق والتقوى. وإليه أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ... وقال أصحابنا رضوان الله عليهم : المعنيّ بالآية هو أمير المؤمنين عليه آلاف صلوات المصلّين ، إذ لم يجمع هذه الخصال غيره إجماعا.

١٧٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) : أي فرض عليكم التعويض (فِي الْقَتْلى) أي المقتولين ، وهو جمع مقتول وذلك بأن يفعل بالقاتل ما فعل بالمقتول إذا كان القتل عن عمد. وليس للقاتل الامتناع لو اختار وليّ المقتول ذلك. فجواز أخذ الدّية أو العفو بلا شيء ينافي القصاص لوليّ الدم. وقد روي أنه كان في الجاهلية بين حيّين دماء ، وكان لأحدهما طول على الآخر ـ والطّول هو الترفّع والسيادة ـ فأقسموا : ولنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد ، والذكر بالأنثى .. فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت هذه

الآية الشريفة فأمرهم أن يتكافئوا (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) أي يقتصّ للحر بحر (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أي لا بدّ من التساوي عند القصاص. ومفهومه نفي ما كان مرسوما في الجاهلية من الترفّعات والتطاولات ، إذ كانوا يقتصّون للأنثى برجل ويقتلون بالعبد حرا.

وفي باب القصاص وردت أحاديث أخرى تعضد مفهوم الوصف ـ ولو لم نقل بمفهومه ـ وأيضا يعضده سبب النزول كما قلناه قبيل أسطر. فهذه وغيرها من المعاضدات الأخر التي لسنا بصدد ذكرها طرّا هاهنا. فإن قيل : كيف قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) : أي فرض ، مع أن القصاص ليس بفرض على وليّ الدم بل هو مخيّر فيه ، بل المندوب تركه بقرينة ذيل الآية حيث جعل العفو إحسانا وعدلا له ـ وقد أشرنا إلى هذا الإشكال آنفا؟ .. والجواب عنه :

أولا : أن القصاص هو جزاء الذّنب. فله حيثيّتان : أحدهما جهة الأخذ ، والثانية جهة الإعطاء. والجهة الأولى راجعة إلى أولياء الدم ، والثانية راجعة إلى القاتل. فلو طلب أولياء الدم القصاص ـ أي جزاء الذنب الصادر عن القاتل ـ ففرض على القاتل التمكين لهم من نفسه ليأخذوا جزاء ثأرهم وعوضه. ومعنى إعطاء القاتل الجزاء ، أي التمكين والتسليم. فيمكن أن يكون الكتب راجعا إلى القاتل ، لأنه في فرض المطالبة لا مفرّ له من تمكينهم من نفسه. والخطاب لا قصور له من شموله لوليّ الدم وللقاتل كما هو ظاهر هذا.

ثانيا : كتب ، أعمّ من الواجب العيني والتخييري. فحمله على التخييري لا محذور فيه. وهو جواب آخر عن الإشكال بأسره. نعم العدل في القصاص واجب على وليّ الدم إذا اختاره.

وفي التهذيب ، قال الصادق عليه‌السلام : لا يقتل حرّ بعبد ، بل يضرب ضربا شديدا ، ويغرم دية العبد. وقال : إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه ، أدوا نصف ديته الى أهل الرجل. وهذه هي حقيقة المساواة ، فإن نفس المرأة لا تساوي نفس الرجل ، بل هي على النّصف منها. فيجب إذا أخذت النفس

الكاملة بالنفس الناقصة أن يردّ فضل ما بينهما. وكذلك رواه الطبري في تفسيره عن علي عليه‌السلام .. وقيل بجواز قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر إجماعا ، وليس في الآية ما يمنع عن ذلك ، لأنه لم يقل : ولا تقتل الأنثى بالذكر ، ولا العبد بالحر. فما تضمّنته الآية معمول به ، وما قلناه مثبت بالإجماع ، وبقوله سبحانه : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..) وأما القول بأن آية القصاص مفسوخة فليس بثابت (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) أي الجاني الذي أعفاه وليّ الدم. والتعبير بالأخ جاء به ليعطف عليه ـ أي على الجاني ـ بالعفو من القصاص ، وأخذ الدية.

والمراد بالشيء : شيء من العفو ، وهو العفو من القصاص (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي على العافي أن يتّبع المعروف بأن لا يشدّد في طلبه الدية ، ولا يظلم الجاني باستزادة تعنيفه ، وفي ذلك توصية للعافي (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهذه توصية للجاني بأن لا يبخس حق الوليّ بأداء الدية ، ولا يماطله ، بل يشكره على عفوه والرضا بالقود ، ويحسن إلى العافي مهما أمكن ويقدّر عفوه بما هو مقدور له (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) أي أن تشريع هذا التخيير تسهيل فيه نفع كثير من ربّكم لكم جميعا فاشكروا آلاء الله ونعمه عليكم ولا تكفروها .. فلينظر الإنسان إلى ألطاف الله وإحسانه إليه. فمن ذلك أن الإنسان حال كونه قاتلا وجانيا لا تكون له الأهليّة بالترحّم والعطف ، ولا بدّ من تشريع القود وجعله واجبا عينيا عليه ، ومع ذلك جعل الواجب تخييريا تسهيلا للقاتل العمدي ، ثم أوصى العافي بأن يتّبع طريق المعروف معه فوا عجبا من هذا الكرم ، وهذا الجود وهذا اللطف وتلك المنّة على العباد! .. فيا من سبقت رحمته غضبه ، إن هذا الوصف لا ينبغي لأحد غيرك لأنك الحليم الكريم المنّان ... وفي كتاب العوالي روي أن القصاص في شرع موسى كان حتما ، والدية كانت حتما في شرع عيسى عليهما‌السلام ، فجاءت الحنيفيّة السّمحة بتسويغ الأمرين معا (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن يقبل الدّية والعفو عن القود ثم يعتدي بالقتل أو التمثيل حين القتل (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي

نوع من العذاب شديد ألمه ، موجع بحيث لا يدرك ولا يوصف بأزيد مما في الآية ، ولذا أبهم ، والله وحده عالم بكميّاته وكيفيّاته.

١٧٩ ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) : بيان ذلك أن من أيقن بأنه إذا قتل نفسا محترمة في الإسلام بلا جرم فإنه يقتل بجرم المقتول ، فهو ينزجر طبعا ويندم عمّا عزم عليه ، وينصرف عن قصده ، فحينئذ يسلم كلّ من الجاني والمجني عليه ، ويعيشان إلى أجلهما المسمّى ، وفي ذلك حياة لكليهما. فقوله سبحانه واضح الصدق ، ولكنه ـ وا أسفا ـ لا يعمل به في أكثر الأحكام في هذه الأيام مع ما فيه من مصالح النوع. وهذه الآية الكريمة من أوجز الكلام وأفصحه وأبلغه. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا ذوي العقول المفكّرة. وقد نادى تعالى من له قابليّة التأمل والتدبّر في حكم القصاص وفوائده ومصالحه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي من أجل ان تتجنّبوا القتل مخافة القصاص.

* * *

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

١٨٠ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...) أي إذا قرب الموت ودنا منه ، وليس معناه إذا وقع وحصل ، لأن معنى وقع عليه يعني أنه مات فلا يبقى موضوع للوصية. ولذا جاء بلفظ : حضر لما بينهما من الفرق الواضح ،

فلا حاجة إلى تأويلّ حضر بظهور الأسباب وأمارات الموت فإنه خلاف معناه الوضعي.

(إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا يعتنى به. وعبّرت عنه بعض الروايات بمال كثير. ففي المجمع روي عن عليّ عليه‌السلام أنه دخل على مولىّ له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة فقال : ألا أوصي؟ فقال عليه‌السلام : لا ، إنما قال الله سبحانه : إن ترك خيرا ، وليس لله كثير مال .. وقيل هو مطلق المال ، وهو الموافق لعدم تقييد الأصحاب بالكثير. هذا ولكن الحق في المقام ما في الرواية. بيان ذلك أن التعبير في الآية إذا كان بلفظ المال فإن المال اسم جنس يصدق على القليل والكثير ، ولكنه سبحانه أتى بقول : «خيرا» وليرمز إلى ما في الرواية من أن المراد به هو المال الكثير دون القليل ، لأنه لا خير فيه مثلا إذا ترك عشرة دراهم أو أقل ، مع أنه يصدق ترك المال لكن لا يصدق أنه ترك خيرا ، حث لا ينفع بما تركه لا الورثة ولا الميّت نفسه. إذ أيّ خير يصل إلى الورثة بعد أن يعطى للميت ثلث ما له أي ثلاثة دراهم وثلث كافي هذا المثال مع أن العلّة في الوصية هي استفادة الورثة ونفس الميت بماله؟ وهذه العلة لا تحصل إلا حين يكون له مال كثير ، فيصدق أنه أوصى بخير وترك خيرا ، فقرينة المقاميّة تؤيد ما قلناه. (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) والوصية رفعت بكتب ، وهي متعلقة به ، وأما وجه تذكير الفعل فقيل للفاصل ولأنها بمعنى أن يوصي ، وفي الوجهين نظر. والحق في الجواب أن يقال إن التذكير والتأنيث في الفعل اعتبارهما فيه إذا نسب الفعل إلى فاعله لا مطلقا. وفي ما نحن فيه : الفاعل هو الله سبحانه ، ولكنه ظاهرا نسب إلى مفعول ناب عن الفاعل لنكتة. وفي مثل تلك النّسب لا تلاحظ القواعد الأدبية. وفي عطف الأقربين على الوالدين مع أنهما أقرب الأقربين إشكال. وهو أن العطف يقتضي المغايرة وليس هنا مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه؟ ... والجواب أولا أنهما بحسب المصطلح ليسا

من الأقربين ، ولفظ الأقارب ينصرف عنهما اصطلاحا لأن القريب من ينتسب إلى غيره بواسطة كالأخ والأخت والعم والخال وأمثالهم. وثانيا على فرض كونهما منهم لكان التخصيص بالذّكر تشريفا لهما كما في غير هذا المورد وكذكر جبريل وميكال بعد الملائكة. والآية الشريفة كأنّ ظاهرها الوجوب ، لكنه قام الإجماع على عدمه. وأما القول بالنسخ بآية المواريث فمردود لكونها لا تنافيها بل تؤكّدها لقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ). وذكر في المقام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله أعطى كلّ ذي حق حقّه ، الا لا وصية لوارث. وهذه الرواية على فرض صحتها فإن الآحاد لا تنسخ الكتاب ، مضافا إلى أن النسخ راجع إلى ناحية الوجوب وهو لا يلازم العدم ، فالجواز باق. أو أننا نبقي الآية على ظاهرها ونحمل الرواية على صورة تجاوز الثّلث. ويؤيد عدم النسخ قول الباقر عليه‌السلام حين سئل : هل تجوز الوصية للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا الآية. وهذا السؤال والجواب يكشفان عن أن المسألة كانت خلافيّة من عصر الأئمة (ع) إلى الآنّ ، ولم تنحلّ بعد (بِالْمَعْرُوفِ) أي الوصية بالكيفية التي يعرفها أهل التمييز من العقلاء بأنه لا جور فيه ولا حيف من حيث قدر ما يوصى به. فإن صاحب المال الكثير إذا أوصى بدرهم لأحد أقاربه فقد جاد عليه ، وقد يكون في الأقربين من هو في غاية الفقر ، والموصي إمّا أنه لا يوصي له بشيء أو أنه يوصي بأقل القليل مما لا يناسب شؤونه ولا يغنيه من جوع. وفي مقام الوصية قد لا يكون الموصي من أهل تمييز المعروف فيجور على نفسه أو يظلم غيره فلا يوصي لبعض الأقارب مع شدة حاجته ، ويوصي لمن لا يحتاج إلى المال بكثير منه ، فيضع المال في غير موضعه ويحرم من هو في مورده. والحاصل أن الموصي لا بدّ من أن يعرف المعروف في وصيته فلا يجور على نفسه ولا على غيره ، بحيث لا يوصي لنفسه بأكثر من الثلث ، ولا يغفل أحد الورثة ، ولا يحرم المال من له استحقاق به. ففي المجمع والعياشي عن الصادق عليه‌السلام ،

عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.

١٨١ ـ (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) ... أي غيّر الإيصاء بعد ثبوته وتحققه ، وهما المراد بقوله تعالى : بعد ما سمعه ، فإن السماع علّة لكون الشيء المسموع محقّقا عند السامع بعد سماعه بنفسه ، لأن حكاية الغير هي سماعه له بإخبار ، والمحكيّ له يحتمل الصدق والتحقّق ، لا أنه محقّق عنده. فقوله تعالى : بعد ما سمعه ، من باب ذكر العلّة كناية عن إرادة المعلول (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي لا يكون إثم التبديل إلّا على المبدّلين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سميع لمقالة الموصي من العدل أو الظّلم لبعض أقاربه في الإيصاء ، عليم بعمل الوصيّ من التغيير والتبديل أو العمل على طبق ما أوصى به الموصي. نعم إذا أوصى الموصي جنفا على بعض الورثة ، وعمل الوصيّ بالعدل لرفع الغائلة والفساد عن الورثة فلا بأس بهذا التبديل ، فإنه من باب تغيير الباطل إلى الحق ، وتبديل الإساءة بالإحسان. وفي عدّة من الأخبار أن الوصيّ يغرم المال إذا خالف الوصية ، ولكنها منصرفة عمّا قلناه.

١٨٢ ـ (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ... أي الوصيّ الذي يخاف أن يقع من الموصي جنف ، أي ميل عن الحق إلى الباطل خطأ (أَوْ إِثْماً) أي عدلا عن الحق متعمّدا. وهذا الفرق روي في المجمع عن الباقر عليه‌السلام. ويحتمل أن يكون المراد بالخوف هو العلم ، لأنه الوحشة فيما يعلم الإنسان بوقوعه. ومنه قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ). وأما إذا لم يعلم فلا يخاف ، ولكن الحق في المقام أن يقال إن الخشية لا تختص بصورة العلم بل إذا ظنّ بما يخاف منه ، أو يحتمله فيخافه. وهذا أمر وجدانيّ لا يحتاج إلى البرهان فإن الخوف هو الاضطراب القلبيّ الناشئ عمّا يخاف منه ، وهو حاصل في جميع حالات

الإنسان ما دام سبب الخوف باقيا إلى أن يعلم بارتفاعه فيرتاح القلب وتذهب الوحشة. وقوله : من موص يتعلّق بمحذوف ومحلّه النّصب على الحال من جنف ، والتقدير : فمن خاف جنفا كائنا من موص. وذو الحال قوله جنفا. فحاصل المعنى : لمّا تقدّم الوعيد منه سبحانه لمن بدّل الوصية ، بيّن في هذه الآية أن ذلك يلزم لمن غيّر حقّا بباطل ، فأمّا من غيّر باطلا بحق فهو محسن ولا بأس عليه. وهل الخوف من الجنف ما إذا أوصى حال مرضه الذي يوشك أن يموت فيه أو الأعمّ؟ .. قيل بالأوّل. ومعنى الوصية جنفا هو أن يعطي بعضا ويضمر لبعض. فلا إثم على الوصيّ أن يشير عليه بالحق ويردّه إلى الصواب ويصلح بعمله بين الموصي والورثة والموصى له إذا كان من غير الورثة أو منهم في حال كون الوصية جنفا بحقه. وعمل الوصي هذا ، هو الذي أراد سبحانه بقوله (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي في التغيير والتصرف في الوصية ، لأنه من تبديل الظلم وردّه إلى العدل كما أشرنا سابقا فإن ذلك من باب إزالة المفسدة ، وقوله تعالى : فأصلحوا بين أخويكم بالعدل ، مصداق لذلك. والمشهور بين المفسّرين هو أعمّ من أن يكون خوف الجنف حال مرض الموصي أو غيره (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور للمذنب ، رحيم به ، فكيف لمصلح مستحقّ للأجر والثواب العظيم؟ وفي القمّي عن الصادق عليه‌السلام : إذا أوصى الرجل بوصية ، فلا يحلّ للوصيّ أن يغيّر وصيته بل يمضيها على ما أوصى ، إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم ، فالموصى إليه جائز له أن يردّها إلى الحق. مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضهم ، فالوصيّ جائز له أن يردّها إلى الحق ، وهو قوله تعالى : جنفا أو إثما. فالجنف الميل إلى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم أن تأمر بعمارة بيوت النيران واتّخاذ المسكر ، فيحلّ للوصيّ أن لا يعمل بشيء من ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ

مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

١٨٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ... أي فرضه الله عليكم وألزمكم عليه بحيث لو تركتموه عمدا في غير موارد الإجازة والرّخصة تعاقبكم عليه وآخذكم به. فالله تعالى قد فرض على الذين آمنوا من الناس بالله ورسوله فريضة أخرى «غير الصلاة» وهي الصوم. وقد عدل عن الغيبة إلى الخطاب لأن في المخاطبة لذة يذهب بها خطب التكليف وكلفته. وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : لذّة ما في النداء ، أزال تعب العبادة والعناء. ونقل عن أبي الفتوح أنه قال : لو نادى سيد عبده باسم شخص حر ، فهو في مذهب الفقهاء حر. فالله تعالى نادانا باسم مخصوص لنا ، فنرجو أن تكون علامة عتقنا من نار غضبه .. وإنما خصّ المؤمنين بالخطاب تشريفا لهم ، وترغيبا للغير بقبولهم الإسلام ، وهو لا ينافي وجوبه على غيرهم كما أنه كذلك .. وأما وجه قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، ففيه أقوال ، أحسنها على ما هو الظاهر من الكريمة تشبيه فرض الصّوم علينا بفرض الصّوم على من تقدّمنا من الأنبياء عليهم‌السلام وأممهم من عهد آدم عليه‌السلام إلى عهدنا. وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : أوّلهم آدم. يعني أن الصوم عبادة قديمة ما أخلى الله أمّة من إيجّابها عليهم. فالله تعالى لم يوجبها عليكم وحدكم ، وفي ذلك ترغيب بالفعل وتسهيل على النفس المنزجرة عنه بطبعها. فإن الشيء إذا عمّ طاب. وهذا هو وجه تنظير الصوم بصوم الأمم الماضية. وفي المقام سؤال يقدّر ، وهو أنه لماذا قال سبحانه : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، مع عدم الحاجة إلى هذا التنظير ، فإن وجوب الصوم علينا لا يتوقّف على وجوبه على

الأمم السالفة كما هو الشأن في بقية أحكامنا التي لا تقتضي التشبيه بما كانت عليه أحكام غيرنا ... والجواب أن الصوم لمّا كان أمرا شديدا شاقّا لا تتحمّله النفوس بسهولة ولا تتفهّمه العقول بيسر ، أراد الله تعالى من المؤمنين أن يعرفوا أنّ فرض الصوم ليس أمرا مبتدعا على المسلمين ، بل كان كذلك عي الأمم السابقة ، فيسهل على المؤمنين الأمر (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لعلكم تتجنّبون به المعاصي ، فإنه يقمع الشهوة. وقد قال عليه‌السلام في رواية : من لم يستطع مقاومة الباه فليصم فإن الصوم له (أي قاطع له). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خصاء أمّتي الصوم. هذا ، مضافا إلى أن الصوم شعار الزهد والتقوى في كل زمان. ويكفي في عظمته أن الله تعالى قال : ... أنا أجزي به (أي أثيب عليه) وما سمع منه سبحانه هذا الكلام في عبادة حتى في الصلاة التي هي عمود الدين!!.

١٨٤ ـ (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ... موقّتات بعدد معلوم ، أو قلائل كقوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، والأصل أن المال يقدّر بالعدد ، وكذلك الأيام القليلة تحدّد وتحصر. والكثير يحثى حثيا ، والحثي ما غرف باليد من التراب والأرزّ ونحوه ، كناية عن الكثرة أي ما ليس له ضبط وحدّ معلوم لكثرته. ونصب أياما بالفعل المقدّر ، يدل على ذلك قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، أي صوموا أياما. وفي الطبري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه قال : لمّا ورد النبيّ المدينة فصام عاشوراء ومن كل شهر ثلاثة أيام .. واليهود يصومون يوم غرق فيه فرعون تبرّكا. لكن عبده يقول : يصوم اليهود يوم تخريب أورشليم أسبوعا ذكرى له. أما النصارى فأشهر أيام صيامهم الذي بقي لهم من قديم الأيام ، وهو قبل عيد المسيح (ع). ويقولون إن موسى بن عمران صام في هذا اليوم وكذا المسيح والحواريون كان ديدنهم على صوم ذلك اليوم ، وبعد ذلك الرؤساء والأحبار عيّنوا أياما أخر كلّ على كيفه ولذا تراهم مختلفين في صومهم ، فإن بعضا عيّن شهر رمضان فلمّا رأى وقوعه في حرّ شديد حوّله إلى الربيع وزاد

عليه عشرين يوما كفّارة للتحويل فصارت أيام صيامهم خمسين وبعض آخر يقول إن الصوم هو كفّ النفس عن أكل اللحوم مدة ، وبعضهم يخصّه بلحم السمك ، وغيره بالكفّ عن أكل بيض الدجاج ، وغيره ترك ذلك من نصف الليل إلى نصف النهار. والحاصل أن هذا الاختلاف بين الأحبار ناشئ عن تشريع الصوم من عند أنفسهم وقد تركوا الصوم المشروع من لدن الشارع الأقدس. أما نحن ، فبعد نزول الآية وتعيين شهر رمضان ، قد استرحنا وأخذ بالتشريع من يوم نزول الآية إلى يوم ينفخ في الصّور.

أمّا وجه أنه سبحانه أوجب الصوم أولا فأجمله بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ، ولم يبيّن أنه يوم أو يومان أو أكثر. ثم بيّن أنها أيام معلومات وأبهم ، ثم بيّنه بقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). فيمكن أن يقال فيه : إن الصوم تكليف شاقّ على غالب الناس ، وهو أشدّ كلفة من الصلاة التي قال تعالى في وصفها : وإنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين ، حيث أن الصوم مانع عن المشتهيات ، وقامع للشهوات وهو رياضة جسمانية ونفسانية ، ولا يقبله الناس حتى يهيئهم له تدريجا ، وأحسن طرق تهيئتهم هي هذه الكيفية التي استطرقها الله سبحانه. ويدل على التوجيه المذكور أنه تعالى قبل تعيين وقت الصوم وقبل استقراره استثنى جماعة المرضى والمسافرين من الحكم حتى يسهّل على الناس صعوبة الحكم ، لأنه إذا كان واجبا في الموردين كان أصعب فلا يتحمّلونه. وأدلّ على ما ذكرنا من الدليل الأول ، جعل التخيير في بدء التشريع أي تشريع الصوم الذي يطيقونه بين الصوم والإفطار بلا عذر مع الفدية لكل يوم نصف صاع عند أهل العراق ، وأما عندنا فمدّان إن كان قادرا وإلّا فمدّ واحد لكل يوم. وقد كان التخيير لأنهم لم يتعوّدوا الصوم وكان شاقّا عليهم نشرع له التخيير لتسهيل الأمر ولتعويدهم عليه .. ولمّا تعوّدوا نسخ التخيير بآية : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ... (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يضرّ به الصوم ، أو أنه لا يطاق معه الصوم إلّا بالمشقّة الشديدة والعسر المرتفع بقوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على قوله : مريضا والمعطوف عليه اسم ،

والمعطوف ظرف ، ولا يعطف الظّرف على الاسم على ما ذكر في محلّه ، ومع ذلك عطف هنا لأن الظرف بمعنى الاسم ، والتقدير : فمن كان منكم مريضا أو مسافرا ، أو راكب سفر. والإضافة اختصاصية كغلام زيد. والأحسن أن يقال : إنّ «على» من معانيها الظرفية كونها بمعنى «في». وفي المقام هي كذلك فلا نحتّاج إلى كلفة التقدير ولا التأويل .. (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي أن المفطر للمرض والسفر عليه صوم أيام في غير رمضان توازي عدد الأيام التي أفطرها فيه ، وهذا صريح في وجوب القضاء ، وأمّا القول بإضمار (فأفطر) وأخذ نتيجة الرّخصة ، فالحقّ أنه خلاف الظاهر ولم يدل عليه دليل ، بل الدليل على خلافه. وعن أئمتنا عليهم‌السلام كثير بهذا المعنى حتى أنهم قالوا : الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر. وفي حديث الزهريّ عن السجّاد عليه‌السلام : من صام في السفر أو المرض فعليه القضاء ، لأن الله تعالى يقول : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر. وروى يوسف بن الحكم قال : سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال : أرأيت لو تصدّقت على رجل صدقة فردّها عليك ألّا تغضب؟ فإنها صدقة من الله تصدّق بها عليكم. وعن ابن عباس أنه قال : الإفطار في السفر عزيمة. وعن الصادق عليه‌السلام أنه قال : لو أن رجلا مات صائما في السفر لما صلّيت عليه. وعنه عليه‌السلام : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وفي العياشي بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصوم في السفر تطوّعا ولا فريضة حتى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير «أي صلاة الظّهر» فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا. فقال قوم : قد توجّه النهار ولو تمّمنا يومنا هذا؟ فسمّاهم رسول الله العصاة ، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول الله! .. أقول : من هذا الحديث الشريف يستفاد أن رسول

الله بشخصه قد كانت سيرته أن يفطر في السفر ولا يصوم فيه ولو تطوّعا ، لكنّ الناس كانوا يصومون في شهر رمضان سفرا كما في الحضر إلى أن نزلت الآية فأظهر (ص) عادته عملا ، فأمر بإحضار الماء وشرب ، وأشرب القوم إلّا الجماعة الذين سمّاهم العصاة ..

وسئل عن حدّ المرض الذي يجوز فيه الإفطار ، فقال عليه‌السلام : إذا لم يستطع أن يتسحّر. وفي الفقيه عنه عليه‌السلام : الصائم إذا خاف على عينيه من الرمد أفطر (١) .. وأمّا حدّ السفر الذي يفطر فيه فقد حدّد وعيّن في الكتب الفقهية وينبغي الرجوع إليها (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) أي على القادرين على الصوم ، فلهم الخيار بين الصوم ، والفدية ، لكل يوم مدّ ، أو مدّان إذا كانوا قادرين على إعطاء المدّين ، وقيل مدّ مطلقا قادرين كانوا أم لا. وهذا الحكم كان ثابتا للمطيقين بلا عذر وكان ذلك في بدء الإسلام حينما لم يتعوّدوا فاشتدّ عليهم الصوم ، فرخّصهم الله سبحانه بالإفطار امتنانا منه وكرامة وأمرهم بالفدية (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي زاد على مقدار الفدية (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي أن الزيادة في الفدية خير على خير (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون للصوم فهو (خَيْرٌ لَكُمْ) يعني أن الصيام خير من الفدية والتطوّع فيها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فضيلة الصوم وما يترتّب عليه من الآثار الدنيويّة. من صحة البدن ، وطيب رائحة الفم ، وراحة الجسد والنفس وغير ذلك من الفوائد ، إلى جانب الفوائد الأخرويّة ومما هو مذكور في محلّه. ثم بعد اعتياد المسلمين على الصوم ، وذهاب وحشة الإمساك ، نسخ حكم التخيير عن المطيقين بلا عذر وثبّت عليهم الإمساك في شهر رمضان بقوله سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ ..) الآية. وقد روى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن معناها : وعلى الذين

__________________

(١) هذا لا خصوصية فيه دون غيره من العلل ، وإنما هو كناية عن الضّرر مطلقا.

كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر وعطاش أو شبه ذلك ، فدية لكل يوم مد من الطعام. وعلى هذا فلا نسخ ، ولكن ظاهر الآية خلاف ما في الرواية.

١٨٥ ـ (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي) ... رمضان : مصدر : رمض ، أي احترق من الرّمضاء ، أضيف إليه الشهر وأصبح علما. وهو مبتدأ خبره : الذي أنزل فيه ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف يرجع إلى الأيام المعدودات. والجملة عطف بيان على قوله أياما معدودات ، أو بدل من الصيام في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) في الشهر الذي (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) جملة إلى السماء الدنيا ، ثم نجوما إلى الأرض في طول عشرين سنة (١). أو ابتداء أنزل فيه ، وكان ذلك في ليلة القدر. والقرآن هو (هُدىً لِلنَّاسِ) نصب على الحال من القرآن ، أي أنزل هاديا للناس إلى الحق (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) أي آيات واضحات مما يهدي إلى الطريق العدل السّويّ الذي لا عوج فيه (وَالْفُرْقانِ) أي مما هو فارق بين الحق والباطل.

فإن قلت : ما فائدة قوله تعالى : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) ، بعد قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ)؟ ... فيقال : ذكر سبحانه أولا أنه هدى ، ثم ذكر أنه بيّنات أي حجج واضحة وهو من جملة ما يهدي به الله عباده إلى الحق ومما يفرّق بين الحق والباطل أو بين المحكم والمتشابه من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال ، فلا تكرار فيه .. ويحتمل أن يكون المراد بالأول الهدى من الضلالة ، وبالثاني الهداية إلى الحلال والحرام ، فلا تكرار أيضا .. (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي حضره وكان غير مسافر ولا مريض ، سواء كان

__________________

(١) الثعلبي عن أبي ذري الغفاري رضوان الله عليه عن النبيّ (ص) أنه قال ؛ أنزلت صحف إبراهيم لثلاث مضين من شهر رمضان ، وأنزلت توراة موسى لست مضين من شهر رمضان ، وأنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ، وأنزل زبور داود لثماني عشرة من رمضان ، وأنزل الفرقان على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لأربع وعشرين من (شَهْرُ رَمَضانَ) وفي بعض الروايات لثلاث وعشرين منه ، وفي بعضها في ليلة القدر.

حضوره في بعض الشهر أو كلّه. (فَلْيَصُمْهُ) أي فليصم فيه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي في سفر وعلى غير استقرار وإقامة (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) كرّر تأكيدا لوجوب الإفطار والقضاء ، وأن الإفطار عزيمة ، وقد مضى تفسيرها. ولا يجب التتابع في قضاء أيام المرض والسفر ، بل هو على التوسّع عندنا ، وإن كان الظاهر استحباب التتابع بمقتضى قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ ...) الآية. أما مستمرّ المرض من رمضان إلى رمضان الآخر فيكفّر عن كل يوم بمدّ ولا قضاء عليه للأخبار المخصّصة للآية الشريفة. فإن فرّط الذي يقضي الصوم في القضاء حتى دخل رمضان آخر لزمه الفدية والقضاء (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) أي في أكثر أموركم إن لم يكن في جميعها ، ومن جملة ذلك ما أمركم بالإفطار في المرض والسفر ، وما رخّص به للشيخ والشيخة من الإفطار ولذوي العطاش كذلك ، ونفى الحرج في الدّين ، ونفى الضرر فيه وأمثال ذلك من التسهيلات الكثيرة بحيث سمّي ديننا بدين السمحة الحنيفية (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) هذه الجملة علّة للأمر بمراعاة عدّة ما أفطر في شهر رمضان من أيام المرض والسفر وقضائها بعد البرء والإقامة (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) يمكن أن تكون علة لتعليم كيفية القضاء ، أي لتعظّموه وتبجّلوه بالثناء عليه لهدايتكم إلى العلم بكيفية العمل. أو تكون علة لما هداكم إليه من تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات : المغرب والعشاء الآخرة والغداة وصلاة العيد على مذهب الخاصة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعم الله ، من إسقاط الصوم عن العجزة الذين ذكرناهم ، ومن إرادته اليسر عن عباده دون التكاليف العسرة الشاقّة. ومن اليسر تنقيص صلاة المسافر مع أنه قادر على التمام بلا شك.

١٨٦ ـ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ... سأل أعرابيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقريب ربّنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ .. فنزلت الآية : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب. وقربه كونه مع الإنسان ، بل مع كل شيء. فلذا نقول

أنه قريب لكل شيء. قال سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ). فقربه ليس باجتماع كقرب بعضنا مع بعض. وبعده ليس بافتراق كبعدنا بالفرقة والبينونة. ومعيّته مع الأشياء ليس بالممازجة أو المداخلة ، كما أن مفارقته ليس بمباينة ولا مزايلة. والحاصل أن معنى الآية الشريفة : أني قريب أسمع دعاءهم كما أن القريب يسمع من يناجيه (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وفي هذا تقرير للقرب ووعد للداعي بالإجابة وأثبت الياء بشر وأبو عمرو ، وفيهما وصل (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي يجب أن يجيبوني فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) هذه الجملة أمر بإحداث الإيمان والثبات عليه ، أو أمر بالتصديق بقدرته تعالى على إعطاء سؤلهم (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي : يهتدون إلى إصابة الحق والدين المستقيم ، ويعترفون بأني مجيب لدعوتهم على تقدير صلاحهم فيما دعوني. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنّ : من سرّه أن تستجاب دعوته فليطيّب مكسبه. وعنه عليه‌السلام : إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئا إلّا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم ولا يكون له رجاء إلّا عند الله عزوجل ، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلّا أعطاه. والقمّي عن الصادق عليه‌السلام أنه قيل له : إن الله تعالى يقول : ادعوني استجب لكم ، وإنّا ندعوه فلا يستجاب لنا. فقال : لأنكم لا تفون بعهد الله ، وإن الله يقول : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ). والله لو وفيتم لله لوفى لكم!!

١٨٧ ـ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) ... الرّفث هو الإفصاح أي الإظهار والإيضاح. وهو هنا كناية عن الجماع بمعنى الوطء ، لأنه قلّما تخلو المواقعة عن الإفصاح وظهور ما يكنّى عنه بالرّفث. وأما شأن نزول هذه الآية فهو ما قاله الصادق عليه‌السلام من أن الأكل كان محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار. وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقال له مطعم بن جبير نام قبل أن يفطر،

وحضر حفر الخندق فأغمي عليه. وكان قوم من الشبّان ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان ، فنزلت الآية الكريمة ، فأحلّ النكاح بالليل ، والأكل بعد النوم .. الحديث. فالآية الشريفة في مقام الامتنان على الأمّة والإحسان إليها ، ونعم الإحسان والمنّة منه عزوجل على العباد!. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام كراهية الجماع في أول ليلة من كل شهر ، إلّا أول ليلة من شهر رمضان فإنه يستحبّ ذلك لمكان الآية. ويحتمل أن يكون المراد به ليالي الشهر كله ، فإن الليلة اسم جنس يدل على الكثرة ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدا لأنه شبيه بالاجتهاد في مقابل النّص على ما بيّنّاه في الرواية عن الإمامين عليهما‌السلام.

(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) أي هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهن. والمراد هو تسكين قلب كلّ واحد بالآخر من وحشة التجرّد والفردية ، فإن الإنسان حيث إنه مدنيّ بالطبع ، فهو طبعا استئناسيّ يحب أن يختار لنفسه أنيسا ، ويكره ويتنفّر من الانفراد ، ويستوحش من التوحّد. والزوجة هي أحسن من كل أنيس للإنسان على ما يستظهر من الآية الشريفة. بيان ذلك أنه سبحانه يبيّن سبب إحلال الرّفث في شهر رمضان بسبب صعوبة الصبر عن النساء لشدّة الملابسة والمخالطة التي هي وجه تمثيل كلّ منهما باللباس لصاحبه. فإن الإنسان كما يستأنس بلباسه استئناس الحاجة إليه لحفظ شؤونه الفردية والاجتماعية من ناحية كرامته وشرفه ، ومن ناحية دفع المضرّات وما يحدث له من جرّاء الحرارة والبرودة ونحوهما مما يتّقيه باللباس ويدفعه به ، فكذلك يحتاج الزوج إلى الزوجة للاستئناس بها والملابسة والمخالطة معها ، وللمحافظة على شؤونه من جميع نواحيه ، ولا سيّما من ناحية شهواته الجنسية ودفع المضرّات التي تنشأ عن الكبت الجنسيّ ، مضافا إلى أن الزوجة تعين الرجل على دفع وحشة الانفراد ، وتقيم معه نظام العالم من ناحية التوالد والتناسل. هذا وقد ثبت بالتجربة أن من لا يتأهّل (يتزوج) يعيش بذلّة وخذلان حتى من ناحية أهله

وعشيرته ، فلا يهتم أحد في إصلاح أموره ولو كان له من الغنى ما كان ، ولا سيّما إذا كان له من الورثة من يطمع في الإرث ، وكان هو يشارف على انقضاء العمر ، فينتظر الوارث والناس ـ حينئذ ـ موته وتصبح حياته تافهة ، بل ربما مات وحيدا في منزله ، وإن كان يعتبر ميّتا يعيش في الأحياء. وبذلك رمز إلى أنه تعالى ما أراد من خلقه التجرّد والحياة الانفرادية ، بل لا بدّ للناس من التناكح والتناسل حتى يحفظ كلّ نصيبه من ناحية نظام عالم الدنيا المتوقّف على التناسل المتوقّف على التعيّل وتنظيم الأسرة.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لمّا حرّم الله الجماع في شهر رمضان ، والأكل بعد النوم ، وخالفوا في ذلك نزلت الآية تبيّن أنه سبحانه علم خيانتكم أنفسكم بالمعصية المؤدّية إلى العقاب وتنقيص الحظ من الثواب. والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب والكسب (فَتابَ عَلَيْكُمْ) غفر لكم وعاد عليكم بفضله وإحسانه (وَعَفا عَنْكُمْ) أي أزال تحريم ذلك عنكم. وذلك عفو عن تحريمه عليكم أو محو أثره عنكم (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) أي بعد ذلك العفو ، باشروهن في المضاجع ، وهو كناية عن الجماع. وأصل المباشرة إلصاق الجسم بالجسم. أي البشرة بالبشرة ولذا عبّر سبحانه عنهنّ باللّباس فإنهن كاللّباس حين ذلك الإلصاق الجسدي. أما بعض المفسّرين فقال : هن لباس لكم : أي فراش لكم وأنتم لحاف لهنّ ، ولعلّه تفسير ذوقيّ لا أنّه مرويّ ، وهو نعم التفسير لو لا أنه بالرأي (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي في أمر التناكح اطلبوا بغيتكم للتناسل لا لإطفاء ثائرة الشهوة فقط ، فإن إطفاء تلك الثائرة قد يتم بممارسة رياضة معيّنة وببعض الأدوية الباردة بالطبع والمؤثّرة لهذا الأثر بالخصوص وغير ذلك مما يثبته علم الطب ، ولكن التناسل هو السبب الأهمّ في الأمر بالمباشرة التي يتمّ معها ـ قهرا ـ إطفاء الشهوة الجنسية .. وقيل : وابتغوا ما كتب الله لكم من إباحة ما نهى عنه ، فإنه تعالى يحب أن يؤخذ برخصه بعد حظره ، كما يحب العكس لأنه الفعّال لما يشاء من مصلحة العباد ، ولذا يريد أن يطيعوه ويأتمروا بجميع أوامره ، وينتهوا عن جميع

نواهيه ، فينالوا مقام الصالحين الأبرار (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) فلمّا منّ الله سبحانه برفع الحظر عن المؤمنين بالنسبة لمباشرة النساء ، أراد أن يتم النعمة عليهم بامتداد رخصه في تمام الليل فقال : وكلوا واشربوا حتى يظهر ويتميّز لكم الفجر على التحقيق. والخيط الأبيض يعني هنا بياض النهار وتميّزه من الخيط الأسود أي سواد الليل ، بحيث لا يشك فيه أحد من النّظّار. والتعبير بالخيط جاء للاحتراز عن توهّم اشتراط انتشار ضوء النهار ، فإن القدر المحرّم للإفطار من البياض يشبه الخيط الأبيض الممتدّ على الأفق في أول ظهور الفجر ، فيزول بظهوره قهرا مثله من السواد. ومن هذا يستفاد أنه لا يعتبر الانتشار للدلالة على الفجر. وقوله : من الفجر ، يعني البياض الواضح الذي يبدو صباحا. وقيل هو البياض المعترض في الأفق الذي لا شك فيه. وهذه التعابير كلّها ترجع إلى أمر واحد وهو وضوح الفجر الصادق لكل ناظر إلى الأفق. وهذا هو معنى التبيّن. وحرف «من» الجارّ فيه يحتمل أن يكون للتبعيض ، أي أن الخيط الأبيض الذي يبدو منه ، وهو بعض الفجر لا الفجر كلّه حين انتشاره في الأفق بتمامه. ويمكن أن يكون للتبيين ، أي أن الخيط الأبيض هو الفجر لا كما توهّمه عديّ بن حاتم حين قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني وضعت خيطين من شعر : أبيض وأسود ، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بدت نواجذه ثم قال : يا ابن حاتم ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل ، فابتداء الصوم من هذا الوقت. واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله من الفجر ، وعن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام عن رجلين قاما في رمضان فقال أحدهما : هذا الفجر ، وقال الآخر : ما أرى شيئا. قال عليه‌السلام : ليأكل الذي لم يستيقن الفجر ، وقد حرم الأكل على الذي زعم أنه رأى الفجر ، لأن الله تعالى يقول : كلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم .. الآية (ثُمَّ أَتِمُّوا

الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وهذا بيان لختام الصوم بعد بيان بدئه. فقد جعل انتهاء رخصه في الأكل والشرب ومباشرة النساء وكلّ ما ينافي الصوم الفجر الثاني الصادق ، فليلزمه الإمساك عزيمة من ذلك الوقت كبدء للصوم. أما ختام الصوم فهو أول الليل ، أي الغروب الشرعي (١). فالآية الشريفة تنفي الوصال وصوم السكوت ونحوهما من الصيام الذي لم يثبت بدليل عندنا.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قيل إن المراد بالمباشرة هنا الجماع ، وقيل هو ما دونه من الاستمتاعات. ونحن مع ظاهر الآية وهو القول الأول إذ لا يستفاد العموم منه. نعم لو قال سبحانه : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) إلخ .. لكان ذلك يؤيّد القول الثاني. أمّا الاعتكاف فهو حبس الإنسان نفسه في المسجد للعبادة مع الشرائط الأخر المذكورة في الكتب الفقهية. وأما مساجد الاعتكاف فقد قال عنها بعض الأعلام من مفسّرينا : هي المساجد الأربعة : المسجد الحرام ، ومسجد النبي (ص) ومسجد الكوفة ومسجد البصرة ، ونسب القول إلى علماء الشيعة بقوله : عندنا ، مع أنه لم يثبت الانحصار ، وقيل : يجوز الاعتكاف في كل مسجد جامع للبلد وقيل بجوازه في كل مسجد إطلاقا ، وكذا اختلف في عدد أيامه. والحقّ أنه ثلاثة أيام بلياليها. ثم اختلف في كونه مشروطا بالصوم أم لا ، والحقّ أنه مشروط به (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي أحكامه التي ذكرت. ولمّا كانت الأحكام في هذه الآية الكريمة أكثرها منهيّات ، لذا سمّيت حدودا ونهي عن القرب منها لأنه يوشك الوقوع فيها. وحدود الله هي حرمات الله ومناهيه (فَلا تَقْرَبُوها) بمخالفتها. والنهي عن قربها مبالغة في وجوب عدم التعدي وتجاوزها ، فإن لكل ملك حمى

__________________

(١) وعلامة الغروب الشرعيّ الدالّ على مغيب الشمس ، هي ذهاب الحمرة التي تبدو في المشرق حين سقوط قرص الشمس وغيابها عن الأفق. ويبدو ذلك جليا في آفاق الأرض المنبسطة التي لا يواري المشرق فيها مانع من جبل أو ربوة أو غيرها ، حيث تنتشر حمرة قاتمة سرعان ما تتبدّد إذا غابت الشمس فعلا ، وتزول فتظهر زرقة السماء من جديد.

وحمى الله تعالى محارمه فمن وقع حول الحمى يوشك أن يقع في (كذلك) أي مثل ذلك البيان (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) يوضح حججه وبراهينه لعباده (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتجنّبوا التجاوز لحدوده والتّعدي على حقوقه.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

١٨٨ ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ..) أي لا تتصرّفوا في مال الغير إلّا بإذنه ورضاه. والأكل هنا كناية عن التصرّف والتقلّب. والمراد بالباطل هو عدم المجوّز الشرعي. وفي الفقيه والعياشي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل : الرجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به ـ أي يعيش ـ وعليه الدّين ، أيطعمه عياله حتى يأتيه الله بميسرة فيقضي دينه ، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان وشدة المكاسبة ، أو يقبل الصدقة؟. فقال عليه‌السلام : يقضي بما عنده دينه ، ولا يأكل أموال الناس إلّا وعنده ما يؤدّي إليهم. إنّ الله عزوجل يقول : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهيّ ، أي ولا تلقوا أمرها إلى الحكّام (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) لأنهم يأكلون حصة كاملة من المال إثما وبلا مجوّز شرعيّ باسم التحاكم والرشوة وشهادة الزور واليمين الكاذب أو

الصلح مع علم القاضي بأن المقضي له ظالم ، وغيرها من العناوين غير المشروعة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تدرون بأنكم مبطلون في دعواكم ، وارتكاب الإثم مع العلم به أقبح وأسوأ. ـ أو أن المراد بالحكّام أعمّ من الجائر ، والنهي عن الذهاب إليهم والمحاكمة عندهم هو المراد بالإدلاء ، من باب أن الناس يجعلونهم وسيلة لمحكوميّة مدّعيهم مع علمهم بأنهم على الباطل والمدّعي عليهم على الحق. فلذا نهى عن إلقاء الدعوى إلى القاضي لأكل مال الناس بحكم الحاكم ، لأن المدّعي إذا لم يكن عنده شاهد مع أنه على الحق فقد يحلف المنكر ، والحاكم يحكم بسقوط دعوى المدّعي طبق ميزان الدعاوي ، فيصير المنكر حاكما مع أنه باطل في إنكاره ، وحلفه كذب ، والحاكم ليس في حكمه آثما. هذا ولكنّ في المقام رواية تدل على الاحتمال الأول ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : علم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكّام يحكمون بخلاف الحق ، فنهى تعالى المؤمنين أن يتحاكموا إليهم وهم يعلمون أنهم لا يحكمون بالحق. فهذا الحديث يدل على أن الإقدام على العصيان مع العلم أو مع التمكن من العلم أعظم حرمة ، فيستفاد أن مقدّمة الحرام حرام.

١٨٩ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ... الظاهر بقرينة صيغة الجمع أن السؤال عن أحوال الهلال والكيفيّات العارضة عليه من الكمال التدريجيّ والنقص ، لا عن ماهيته وحقيقته بما هو هو ، وإلّا لكان بمقتضى الفصاحة أن يحكي الله تعالى عن سؤالهم بقوله : يسألونك عن الهلال أنه ما هو؟ .. فإن الاصطلاح جرى على أن السؤال عن الحقيقة يكون بما هو ، أي بما الحقيقة. وعلى هذا فإن الإتيان بصيغة الجمع جاءت بلحاظ الأحوال العارضة عليه والإشارة وإليها. أي عن كل حال من نقصه على اختلاف منازله وكماله التدريجي بالنسبة لمنازله أيضا ، وكيف يكون هلالا ثم كيف يكون لاحقا أو يصير سابقا. ولو أتى بصيغة المفرد لكان حسنا ويحصل المقصود ، إلّا أنه لا يترتّب عليه ما ترتّب على الجمع لكونه رمز إلى أشياء لا تفيدها صيغة الإفراد.

أما نتيجة العوارض التي رمز إليها ، فإنه ربما يعرف أيام الهلال بزيادته ونقيصته عند أهل البوادي والصحاري الذين جرّبوه بتلك الاختلافات وعلموا عدد أيامه ولياليه بها. ولو كان على وتيرة واحدة لما ترتبت عليه تلك النتيجة وغيرها من المصالح والحكم التي ذكرت في نفس الآية أو لم تذكر. ومن المحتمل أن سؤال السائلين كان عن الهلال وحقيقته ، وهل هو بسيط أم مركّب ، وعلى فرض التركيب ، من أي أجزاء ركّب ، إلّا أن الله تعالى ما أجابهم عن سؤالهم وترك جوابهم بمقتضى الحكمة. وبترك الجواب نحّاهم عن فكرتهم ، لأن السؤال كان مما يكره سبحانه كشفه وإظهاره للخلق ، واختصّ علمه بذاته المقدّسة كثير من العلوم والمعارف ، واكتفى بذكر الآثار والخواصّ لأن بيان الحقيقة كان خارجا عن وسعهم وفهمهم ، إذ كانوا لا يستطيعون تصوّرها وتعقّلها ، والله تعالى أعلم.

ويحتمل احتمالا قويّا أن السؤال متوجّه إلى ناحية عدد الأهلّة من حيث الزمان. أي ما فائدة كون الشهور متعدّدة أي اثنا عشر شهرا. وقد جاء الهلال هنا بمعنى الشهر فقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ، يعني الشهور الإثني عشر من المحرّم إلى ذي الحجة مثلا. وهنا جاء الجواب مطابقا للسؤال بلا حاجة إلى توجيه ولا تأويل. فقد سألوه تعالى : ما الحكمة في التعدّد. وما وجه التحديد بهذه الحدود الخاصة ، فعلّمه تعالى الجواب بقوله : قل يا محمد (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) أي معالم وعلائم لهم يوقتون بها ديونهم ومطالباتهم وعدد نسائهم ، وصيامهم وفطرهم وصلاتهم للعيد ، ومعالم الحج بحيث يعرف وقته من أوله إلى آخره وجميع مناسكه. وأما وجه اعتباره بهذا الحد فذلك أنه سبحانه علم أن الزيادة على الحد المذكور غير محتاجة إليها ، والنقيصة غير كافية بأمورهم. وقد روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ .. ألا يكون على حالة واحدة؟ .. فنزلت الآية الكريمة بالمواقيت .. فلو ثبت الخبر فهو

حاكم على الاحتمالين الآخرين ، وإلّا فإن ما احتملناه لا يخلو من وجه والله أعلم.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) ففي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : كانوا ـ أي أهل الجاهلية ـ إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ، ولكنهم كانوا ينقبون في ظهور بيوتهم ـ أي مؤخرها ـ نقبا يدخلون ويخرجون منه ، وكان هذا العمل سنّة وبرّا عندهم ، فنهوا عن التديّن به فأمرهم تعالى بالتقوى بقوله (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) لا من اتّبع عادات آبائه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وباشروا الأمور على وجهها الذي ينبغي أن تباشر عليه ، ومن ذلك أخذ أحكام الدين من أهلها ، أي من محمد وأوصيائه صلوات الله عليهم أجمعين ، فهم أبواب الله والوسيلة إليه ، والدّعاة إلى الجنّة ، والأدلّاء عليها إلى يوم القيامة. وقد قال النبيّ (ص): أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، ولا تؤتى المدينة إلّا من بابها.

ووجه اتّصال قوله عزوجل : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) بقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ، أنه لمّا بيّن أنّ الأهلّة مواقيت للناس والحج ، وهو يعلم أنهم يقومون بأعمال تقليدية يزعمون أنها برا وسنّة حسنة ، نزلت الآية ردّا لبدعتهم ومخترعهم وبيانا أن البر يكون في اتّقاء معاصي الله تعالى ، وتجنّب غضبه ، والعمل بطاعته. ولذلك كرر ذكر الاتّقاء فقال (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع أموركم وأحوالكم وفي عدم تغيير أحكامه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تنجحون في الوصول الى ثوابه ونيل درجاته الرفيعة التي ضمنها للمتّقين ووعدهم بها ، وتظفرون بالهدى والعمل لما يجعلكم صالحين مفلحين.

* * *

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

* * *

١٩٠ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... قيل إن هذه الآية أول آية نزلت لبيان أمر الجهاد ، فقال تعالى مخاطبا النبيّ (ص) والمؤمنين : قاتلوا الكفار في سبيل ترويج دين الله وتبليغ أحكامه. والتعبير بالسبيل للدلالة على أن ذلك هو الطريق البيّنة للعباد الذي يجب أن يسلكوه ليعملوا بما أمرهم به وينتهوا عمّا نهاهم عنه. وقيل نزلت في صلح الحديبية وبيان ذلك ان مشركي قريش وتابعيهم صالحوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن يرجع عن الحج من عامه ويعود في القابل ، وهم يخلون له مكة ثلاثة أيام يطوف في البيت ويفعل ما يشاء ، فرجع الى المدينة. ولما كان العام المقبل تجهّز مع أصحابه لعمرة القضاء وساروا الى أن قاربوا مكة ، فخافوا أن لا تفي قريش بوعدها ، وأن يمنعوهم من الدخول الى بيت الله الحرام ، وينتهي الأمر الى المقاتلة.

وكره رسول الله (ص) القتال في الشهر الحرام والبيت الحرام لئلا تهتك حرمة بيت الله واحتراما للشهر الحرام ، فنزلت الآية وكانت إجازة ورخصة لهم في جهاد الكفار إذا اعتدوا على المؤمنين وبادروهم بالحرب. ثم نبّههم جلّ وعلا وقال (وَلا تَعْتَدُوا) لا تتجاوزوا قتال من هو من أهل القتال إلى التعدّي على النساء والمتقاعدين من الرجال والأطفال. وقيل معناه : لا تبدأوا بقتال من لم يبدأكم به (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين حدوده المتعدّين على غيرهم.

١٩١ ـ (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ... يعني اقتلوهم إذا أدركتموهم وظفرتم بهم. وقيل هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) ـ كما في المجمع عنهم عليهم‌السلام. (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) إشارة الى ما فعلوا بالنبيّ (ص) والمؤمنين في بدء الإسلام من الأذى والتفسير والتهجير ، بحيث خرج النبيّ (ص) من مكة خائفا يتكتّم ، كما أخرجوا الكثيرين ممّن آمن به من أهل مكة الذين تركوها بعد مقاساة الظّلم والاضطهاد والتعذيب. ولذا أمر سبحانه بأن يعامل النبيّ (ص) والمؤمنون الكفّار والمنافقين وكلّ من لا يؤمن بالله بمثل ما فعلوا بهم. ثم قال سبحانه منّبها (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) فكأنّ قائلا يقول : لم أمر الله النبيّ (ص) بإخراج من لم يسلم ولم يأمره بقتله .. فقال تعالى دفعا لهذا : إن بلاء الإخراج والتفسير أشدّ من القتل ، ولا سيما حين يكون الإنسان في بلده ومن أشرافها وأعيانها ، فإنه إذا قتل قد يستريح من همّ الدنيا وفضيحة التهجير والإبعاد. لكنه إذا أخرج مع عائلته من وطنه ، ودار في البلدان غريبا بلا عشيرة وبلا مأوى ولا إعاشة ، أو وحيدا بلا أهل ولا عيال ، فإن ذلك يكون أصعب عليه من القتل إذ ربما يتمنّى الموت في كل يوم يمضي عليه فلا يجده (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي لا تبادروهم بالقتال ولا تبدأ وا بحرب الكفرة وهتك الحرم (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي حتى يفتتحوا هم القتال ويبدءوا به (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ولا بأس عليكم حينئذ بالقتال بعد أن يهتكوا ـ هم حرمة البيت

(كذلك) أي مثل هذا العمل (جَزاءُ الْكافِرِينَ) عقابهم أن يفعل بهم كما فعلوا بكم.

١٩٢ ـ (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي : فإن تركوا الشّرك والقتال وتابوا ، فالله تعالى يغفر لهم ويرحمهم. والرحمة هي العطف الذي يقتضي الغفران والإحسان منه سبحانه على العباد.

١٩٣ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ... أي شرك وفساد كما في المجمع ، فعن الباقر عليه‌السلام أنه فسّرها بالشّرك. ولعلّ ذلك بلحاظ أنّ بإفنائهم ينتفي الشّرك والفساد بالملازمة (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي الإسلام خالصا عن الشّرك والجحد له تعالى لانتفاء موضوعهما حينما يقتل المشركون والجاحدون ، نعم (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشّرك والفساد والإفساد وأذعنوا للإسلام (فَلا عُدْوانَ) لا عقوبة قتل ، وهم في أمن وأمان بحكم شرع الإسلام (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) المستمرّين على الكفر والنّفاق. وقد سمّى القتل عدوانا لأنه عقوبة على العدوان وهو الظّلم من باب ازدواج الكلام. والمماثلة في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ) إلخ ... وتقدير ما نحن فيه هو : فإن انتهوا عن العدوان فلا عدوان أي فلا عقوبة عليهم ، وإما العقوبة على الكافرين فقط.

١٩٤ ـ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) ... أي لمّا كان صدّ المشركين إياكم ، وأذاهم لكم ، في الشهر الحرام ـ ذي القعدة في عام الحديبية ـ فإذا ذهبتم في العام القابل لزيارة البيت وصادف رواحكم في الشّهر المذكور ، ثم لم يفوا بعهدهم وقولهم في السنة الماضية بأن يخلوا البيت لكم ثلاثة أيام ولياليها ، وبنوا على صدّكم ومنعكم ومقاتلتكم ، فاقتلوهم ولو كان الشهر حراما فيه القتال ، لأن هذا الشهر بذاك الشهر السالف. فاللّام في قوله : بالشهر ، للعهد الذهنيّ. والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة منها سرد وهي : ذو القعدة وذو الحجة ، ومحرّم. وواحد فرد ، وهو : رجب. وقد كانوا يحرّمون فيها القتال في الجاهلية حتى لو ان رجلا لقي قاتل أبيه لا يتعرّض

له بسوء احتراما للشهر. وإنما سمي ذو القعدة بهذا الاسم لقعودهم فيه عن القتال (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) يعني أن لكل حرمة وهي ما يجب أن يحافظ عليها ـ فيها قصاص ، أي يجري فيها الجزاء. فلمّا كانوا قد هتكوا حرمة شهركم في السنة السالفة ، فافعلوا بهم مثلما فعلوا ولا تبالوا (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فجازوه بمثل فعله. وهذه جملة مؤكدة لما قبلها (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) يعينهم ويصونهم من جميع الحوادث ويصلح أمورهم الدنيويّة والأخرويّة. وهذه الجهات هي المراد بمعيّته سبحانه وتعالى وكونه «مع» المتقين لا زمانيا ولا مكانيّا ، ولا بمعنى أنه يجلس معهم ويقعد إليهم في مكان أو زمان. والحاصل أن قربه ومعيته لا يكونان باجتماع ولا بممازجة ؛ كما أن بعده لا يكون بافتراق ولا بمباينة. وبذلك نشير الى معيّته تعالى إجمالا وضدّها آثار بعده وبينونته.

١٩٥ ـ (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... الإنفاق إخراج الشيء عن ملكه إلى ملك غيره. والمراد هنا هو الإنفاق من المال الشخصي في وجوه البرّ ، ومنها الجهاد وسائر أبواب الخير (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وفيها بيان للمنفيّ لا للنّفي. بيان ذلك أنكم إذا بخلتم ولم تصرفوا أموالكم في تهيئة مقدّمات الحرب مع الكفرة ، كشراء أجهزة الجهاد من المراكب ، وكإعداد الجنود ، وكالبذل في كل ما يعود على ترتيب الجيش في العدّة والعدد ، فإنّ أعداءكم يتسلّطون عليكم وتصبحون مغلوبين مقهورين ، ومقتولين أو أسراء ، ولا تنجيكم الندامة ولا التأسف من الهلكة والهزيمة. فقوله جلّ وعلا : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ...) في غاية الربط مع سابقتها : وأنفقوا .. والباء في : بأيديكم ، للتّعدية الى المفعول الثاني. وتقدير الكلام ظاهرا : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلخ ... فحينئذ لا تكون الباء زائدة كما صدر عن بعض الأعلام من المفسّرين والله سبحانه أعلم. وفي المجالس ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : طاعة السلطان واجبة ، ومن ترك طاعة

السلطان فقد ترك طاعة الله ودخل في نهيه ، إن الله يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

والتهلكة : مصدر من هلك. وقيل : ما جاء في المصادر على وزن : تفعلة فهو بضمّ العين إلّا هذا. ويجوز في لامه الحركات الثلاث. ولا يكون إلّا في : ميتة سوء .. والآية تدلّنا على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس ، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف والخطر ، بل ظاهرها الحرمة ، لأنّ فيه الإلقاء إلى التهلكة المنهيّة. وتدل أيضا على جواز الصّلح مع الكفار والعتاة المردة إذا كان يخاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وبيضة الإسلام بناء على ما فعله النبيّ (ص) عام الحديبية ، وما فعله أمير المؤمنين (ع) بوقعة صفين مع طاغية زمانه لما رأى تشتّت أمر جيشه وخاف على نفسه وشيعته.

أما الحسين عليه‌السلام ، حيث إنه قاتل وحده ، فقد قال شيخ الأعلام والأعاظم ، شيخنا الطوسيّ إنّ أمره يحتمل وجهين : أحدهما أنه عليه‌السلام ظنّ أنهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والآخر انه غلب على ظنّه أنه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا كما فعل بابن عمّه مسلم. فكان القتل مع عزّ النفس وجهاد الظالمين أهون عليه ... لكن مقالتنا في نهضته ـ أرواحنا فداه ـ أن قضيته أمر سماويّ ، وعقيدتنا أنه إمام مفترض الطاعة ، عالم بما كان وما يكون وما هو كائن بمشيئة الله سبحانه وتعالى وتعلّمه (ع) منه عزوجل ، فهو أعلم بما فعل ، والكلام حول نهضته خارج عن وظيفتنا هنا ، ولا سيما مع شتات الروايات ومختلف الأقوال ، فتفويض الأمر وعلمه إليهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أحسن (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه الشريفة يحتمل أن تكون محدّدة للإنفاق المأمور به. وبيان ذلك أن الإنفاق يكون على قسمين : فتارة يبسط الإنسان يده في الإعطاء بحيث لا يبقى عنده شيء من المال لإعاشته وإعاشة عيالاته ، وهذا مذموم شرعا لأن الله سبحانه نهى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه بقوله : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ، أي لا

تنفق جميع ما في يدك ، بل أحسن إلى المحتاجين واقتصد في الإعطاء ، وتارة اخرى يكون بأن تعطي قدرا وتبقي قدرا آخر لنفسك ولعائلتك ، وهذا معنى الإحسان في المقام ويعبّر عنه بالعدالة والاقتصاد ، وإنه تعالى يحب المقتصدين.

وفي الكافي والعيّاشي عن الصادق عليه‌السلام : قال : لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ما كان أحسن ولا وفّق للخير. أليس يقول الله : وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين ، يعني المقتصدين .. وعنه عليه‌السلام : فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله. والمراد بالإحسان في هذه الفقرة من الرواية ، هو كون العمل نقيّا من الدنس على ما بيّنه عليه‌السلام. ويمكن القول بأن النقيّ من الإنفاق الذي هو الإحسان ، هو الاقتصاد والسير على طريق عدل. وأما الإحسان بتمام ما في يديه فهو دنس بمعنى كونه مذموما لا يرغب فيه الشارع الأقدس. وهذا هو المعنى العام من الدنس ، لأنه ـ لغة ـ تلطّخ الشيء بأمر مكروه أو بشيء قبيح. والإحسان الذي لا يرغب فيه الشارع هو أمر ملطّخ بمكروه إن لم نقل إنه ملطّخ بالقبيح عنده تعالى.

* * *

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢))

١٩٦ ـ (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ... أي إذا حججتم فتوقوا ما يحرم عليكم في حجكم وعمرتكم ، لأن كل عمل يعمله الإنسان لله يحب أن يكون تاما كاملا من جميع جهاته المشروعة وخصوصا حين يكون فرضا كالحج ، لأن العمل لا يصلح أن يكون لله إلّا بالإتيان به هكذا ، ولا يليق به تعالى إلّا كون العمل خالصا لوجهه. والآية الشريفة دالّة على وجوب العمرة كالحج. وفي الكافي والعياشي : سئل الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : هما مفروضان. والروايات الدالّة على وجوبها كثيرة. وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام ، قال : تمام الحج لقاء الإمام. وعن الصادق عليه‌السلام : إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا لأن ذلك من تمام الحج. ويستفاد من بعض الأخبار أنّ في عصر الغيبة تنوب عن زيارتهم زيارة قبورهمعليهم‌السلام.

ولمّا بيّن سبحانه فريضة الجهاد ، وأمر بقتل الكفار ومشركي مكة حتى لو وجدوا في الحرم وفي الشهر الحرام ، لتطهير البيت والحرم منهم ، ولقطع مناشئ الفساد ، عندها أمر بفريضة الحج والعمرة وقطع دابر الكفرة لطهارة البيت الحرام وجعله بلا مزاحم ولا مانع. ثم قال تعالى (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي منعتم وحبستم عن الذهاب الى الحج وأنتم محرمون بحجّ أو بعمرة (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يعني قدّموا ما تيسّر من الهدي للذبح والنّحر. والهدي ثلاثة أنواع : إمّا جزور أو بقر ، أو شاة. وأيسرها الشاة على ما هو المرويّ عن عليّ عليه‌السلام. هذا إذا أردتم الإحلال من الإحرام (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) أي لا تتحلّلوا ما دام الهدي لم يصل الى محلّه لذبحه أو نحره. ومحلّه على مذهبنا في المحصر بالمرض الحرم ، أي منى يوم النّحر ، وهذا للحاجّ. وأمّا المعتمر فيذبح في مكة. وفي الممنوع بالعدوّ هو الموضع الذي يصدّ فيه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما منع في عام الحديبية من الحج ، نحر في محلّ الإحصار وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك .. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا محوجا للحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كقمل أو جراحة أو حلّ أو غيرها (فَفِدْيَةٌ) أي

فليحلق وتجب عليه حينئذ فديّة (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ) والصيام في هذه الحالة ثلاثة أيام ، والصدقة على ستة مساكين ، وروي أنها على عشرة ، نصف صاع لكلّ مسكين (أَوْ نُسُكٍ) جاء بمعنى الدّم الذي يهراق ، وبمعنى الذبيحة جمع نسيكة وهي الذبيحة والذبيحة هنا شاة أو جزر أو بقرة ، والناسك مخير فيها وإن كان الجزور أفضل ، وبعده البقرة (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الصّدد الحصر (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) أي استمتع بعد التحلّل من عمرته باستباحة ما كان حراما عليه إلى أن يحرم بالحج ، أو انتفع بالتقرّب بها الى الله قبل انتفاعه بالتقرّب بالحج في أشهره (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليه ما تيسّر له من الهدي فإنه من فرضه أن يذبح بمنى يوم النحر. وفي الكافي ، عن الصادق عليه‌السلام شاة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي ولا ثمنه (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) أي يوم السابع من ذي الحجة والثامن والتاسع ، فإن فاته فيها شيء فبعد أيام التشريق من ذي الحجة (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فإذا عدتم الى أوطانكم وبلدانكم فصوموا هناك هذا العدد ، وهذا هو الصحيح عندنا. وقيل إذا رجعتم من منى فصوموا في الطريق. فإن بدا له الإقامة بمكة فلينظر مقدم أهل بلاده فإذا ظنّ أنهم وصلوا فليشرع بصوم السّبعة فيها. هكذا ورد الخبر في الكافي عنهم عليهم‌السلام (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) أي لا تنقص عن الأضحية الكاملة إذا وقعت بدلا عنها في استكمال الثواب. وفي التهذيب عن الصادق عليه‌السلام أنه سأله سفيان الثّوري : أيّ شيء يعني بكاملة؟ .. قال : سبعة وثلاثة. قال عليه‌السلام : ويختلّ ذا على ذي حجى أن سبعة وثلاثة عشر؟. قال فأي شيء أصلحك الله .. قال : انظر. قال : لا علم لي ، فأيّ شيء أصلحك الله؟. قال الكاملة كما لها كمال الأضحية ، سواء أتيت بها أو لم تأت بها .. ولا مجال لتوهّم ان الواو بمعنى أو كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). نذكر ذلك لدفع اللّبس ، ونلفت النظر إلى أن إثبات المعنى الأول بقوله عليه‌السلام لا ينفي غيره ، لأن إثبات الشيء لا يلازم نفي غيره إذا لم يكن بينهما مضادّة ومانعة في الجمع كالذي نحن فيه (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ

حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أن ما ذكر من التمتّع بالعمرة الى الحج للنائي. وهو من يكون بينه وبين مكة أكثر من اثني عشر ميلا من تمام الجهات. ومن كان دون ذلك فلا متعة له ولا عمرة عليه ، بل فرضه القران أو الإفراد (وَاتَّقُوا اللهَ) بالمحافظة على حدوده من أوامره ونواهيه سيّما الحج (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالفه تعالى في حدوده ولم يراعه فيها.

١٩٧ ـ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ... أي أن وقته في شهور معروفة لدى الشارع الأقدس ، وهو شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كما عن الباقر والصادق عليهما‌السلام. ومن أحرم للحج في غير هذه الشهور فلا حجّ له (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) والمراد بفرض الحج على ما في الكافي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام ، هو أنه قال : الفرض التّلبية والإشعار والتقليد ، فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحج. والمعنى أن من أوجب على نفسه الحج بأن البّ أو أتى بأحد أخويه المذكورين آنفا في الأشهر المذكورة (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) في الكافي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام : الرفث : الجماع ، والفسوق : الكذب والسّباب ، والجدال : قول الرجل لا والله ، وبلى والله. هذا ولعلّ نظر الإمام عليه‌السلام في هذا التفسير هو بيان أحد مصاديق كيفية الجدال ، والّا فإن الجدال هو التخاصم والتنازع ، وهو أعمّ من هذا ، والله أعلم. والمراد بنفي الثلاثة هو النّهي والّا يلزم كذبها إذ بالوجدان هذه الثلاثة موجودة في الأشهر الثلاثة في الموسم : أي في وقت الحج بين الحجيج. وأمّا اختصاص الحج بالنّهي عنها مع كون بعضها حرّا لا مطلقا ، فإنه في الحج أقبح وأسمج كما أن لبس المغصوب قبيح مطلقا وهو في الصّلاة أقبح. ولو فعلها الحاجّ فعليه في الرّفث فساد الحج ، وفي الفسوق بقرة ، وفي الجدال شاة وكل ذلك في حال العمد (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) فلا يضيعه بل يثيب عليه. والآية الشريفة حاثّة على البر في الأمور العاديّة والاتفاقيّة (وَتَزَوَّدُوا) أي حصّلوا الزاد لآخرتكم بتقوى الله والأعمال الصالحة

الأخرى (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) هذه الجملة علّة لكون التزوّد للآخرة يكون بتقوى الله. وقيل إن أهل اليمن لا يحملون معهم الزاد ، ويقولون : نحن المتوكّلون ، ويكونون كلّا وثقلا على الناس فنزلت فيهم (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا أصحاب العقول تجنّبوا غضبي. وقد اختصّ ذوي العقول بتقواه لأن اقتضاء العقل هو الخشية وتجنّب المعاصي.

١٩٨ ـ (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ...) أي ليس عليكم بأس ولا أيّ مانع من أن تطلبوا رزقا من الله في زمن حجّكم. وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام : فضلا من ربكم : يعني الرزق ، إذا أحلّ الرجل من إحرامه وقضى نسكه فليشتر وليبع في الموسم (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) أي اندفعتم من جبل عرفات بعد الموقف وسرتم نحو المشعر بكثرة وتفرّقتم (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) يعني إذا خرجتم من عرفات إلى المزدلفة وهي المشعر الحرام. وسمّي مكان المزدلفة بالمشعر لأن جبرائيل (ع) قال لإبراهيم سلام الله عليه وهو بعرفات : ازدلف إلى المشعر الحرام ، أي تقدّم منه وتقرّب إليه ، فسمّى مزدلفة ، وسمّي المشعر جمعا ، لأنه يجمع به بين صلاتي المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين. كما أن منى سمّي منى لأن إبراهيم عليه‌السلام تمنّى هناك أن يجعل الله مكان ابنه كبشا يأمره بذبحه فدية له. ولعلّ المراد بتمنّيه هو لسان الحال لا المقال ، لأنه ليس في أخبارنا شيء ظاهر يدلّ على أنه تمنّى ذلك من ربه وسأله بمقالته. والحاصل من الآية الكريمة : فإذا نزلتم من عرفات (١) فاذكروا الله عند وصولكم للمزدلفة والذكر هو الثناء والشكر على نعمة الهداية والنجاة من الضلالة وهذا الذكر واجب للأمر به ، وظاهر الأمر هو الوجوب. والذكر فيه يلازم الكون فيه ، ولذا يقول علماؤنا الأكابر : إن الوقوف فيه واجب ... فمجمل القول صار : انفروا للمشعر

__________________

(١) عرفات اسم مفرد لمكان معيّن ، وهو في لفظ الجمع فلا يجمع معرفة لأن الأماكن لا تزول فصارت كالشيء الواحد.

الحرام وكونوا فيه بعد عرفات واحمدوا الله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي على هدايته إياكم. ولا يخفى أن الكاف في كما ليست للتشبيه ، بل المراد به تعليل الطّلب به أي بمدخوله ، أي اذكروه لهدايته إياكم (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) كلمة : إن ، مخفّفة من : إنّ الثقيلة. أي وإنه كنتم قبل الهدى على طريقة غير مستقيمة ، على دين الجهلة ، لا تعرفون كيف تذكرونه ولا كيف تعبدونه. وبعد أن شملتكم نعمة الهداية إلى دين الإسلام عرفتم طرق العبادة وكيفية الذّكر حقّ المعرفة.

١٩٩ ـ (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ... والخطاب لقريش. أي يا معشر قريش أفيضوا من الجهة التي أفاض الناس. وحيث : ظرف مكان مبنيّ على الضمّ ، وترد للزمان أيضا. والإفاضة : هي الاندفاع بشدّة. وكانت قريش وحلفاؤها من الحمس (١) يقفون بجمع أي المزدلفة ولا يقفون مع سائر الناس بعرفات ترفعا عليهم ، فأمروا بمساواتهم ومشاركتهم في الخروج الى عرفات أولا ، ومنها الى المشعر الحرام ، ومنه الى منى. وقد كانوا يخرجون الى المشعر كما أسلفنا ويقفون فيه كراهة أن يجتمعوا مع العرب استعلاء عليهم ، ومنه كانوا يخرجون الى منى فيتركون بذلك موقف عرفات أو يأتون به بعد مناسكهم في منى على خلاف الترتيب ، فأمرهم الله تعالى بمتابعة سائر النّاس كما تقدّم.

وأما لفظة : ثمّ ، فلتفاوت ما بين الوقوفين إذ الوقوف بجمع حرام وفي عرفات واجب ، فالترتيب في الرّتبة في غير وقته. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : كانت قريش وحلفاؤهم لا يقفون مع الناس بعرفات ، ولا يفيضون منها. ويقولون : نحن أهل حرم الله تعالى فلا نخرج من الحرم ، فيقفون في المشعر ويفيضون منه الى منى ، فأمرهم الله بأن يقفوا بعرفات أو لا

__________________

(١) الحمس : جمع : أحمس ، وهو الرجل الشجاع ، ولعلّ المراد بالحمس : الرجال الأقوياء ، أو هو اسم طائفة من الناس. وجمع اسم غير منصرف لأن فيه التعريف والتأنيث وتنوينه للمقابلة. ومنع الصّرف إنما يذهب بالتنوين لا مطلقا.

لأنها من الحرم ، وأن يفيضوا منهما الى جمع. وعن الصادق عليه‌السلام : يعني «بالناس» : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ومن بعدهم ممّن أفاض من عرفات. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) اطلبوا المغفرة منه تعالى يا معشر قريش لما كان يصدر منكم في عصر الجاهلية من التغيير والتبديل في مناسككم ، أو من ذنوبكم طرّا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوب التائبين ويرحمهم ، حيث انه يحب التائب من الذّنب.

٢٠٠ ـ (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) ... إذا أدّيتم فرضكم وفرغتم من أعمال الحج. والمناسك مفردها : منسك ؛ وهو موضع النّسك ، أي موضع العبادة ، أو نفس العبادة ، ولذا يقال : مناسك الحج : عباداته المقرّرة في الشرع للحجاج. (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي فأكثروا ذكر الله كما كنتم تفعلون في ذكر آبائكم وتعداد مناقبهم ومفاخرهم في جاهليتهم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) أي بالغوا في ذكره وشكره سبحانه وزيدوا في ذكر آلائه وشكر نعمائه. وقد كانوا قديما إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد الجبل المعروف هناك ، يعدّدون فضائل آبائهم ، ويذكرون مفاخرهم ، ويعدّون أيامهم ، فنّبههم إلى ذكره عزّ وعلا وقال : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) مذكّرا لنا بأن المخلوقّ البشريّ بين مقلّ لا يطلب من الله تعالى مدة حياته إلّا الدنيا ، وبين مكثر يطلب بذكر الله خير الدارين. فالله تعالى يحب أن نكون من المكثرين لأن المقلّين ليس لهم في الآخرة من نصيب ، أمّا المقلّ فقد يعطيه الله الدنيا (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) بخلاف المكثر الذي يحوز حظّ الدنيا والآخرة كما قال سبحانه في الآية التالية : ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة الآية ... والخلاق ، كسحاب هو النّصيب الوافر من الخير.

٢٠١ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) ... وهو قول الطائفة الثانية التي ذكرناها في الآية السابقة ، منهم يسألونه تعالى الحسنتين ويقولون (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فهؤلاء لا يقصرون مطلوبهم على حظوظ الدنيا الفانية ، ولا يحرموا أنفسهم من طلب النّعيم الباقي.

والله تعالى يقول : إنّي أنا الله الرّحمن الرّحيم ، أحبّ أن يطلب عبادي رحمتي. ولعلّ المراد بالحسنة الدّينويّة الصّحة والأمن وسعة الرزق وحسن الخلق. أما الحسنة الأخرويّة فهي رضوان الله تعالى. وعن مولانا عليّ عليه‌السلام كما في المجمع : هي في الدنيا الزوجة الصالحة ، وفي العقبى الآخرة الحوراء. وعذاب النار امرأة السّوء.

٢٠٢ ـ (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) ... إشارة إلى الداعين بطلب الحسنتين. ويجوز أن تكون الإشارة للطرفين ، فلكلّ نصيب (مِمَّا كَسَبُوا) أي من سنخ ما طلبوه قولا أو عملا. وإنّما سمّي الدّعاء هنا كسبا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قادر على محاسبة الناس في قدر لمحة عين كما ورد في الخبر. بل قيل : يوشك أن تقوم القيامة وحساب المحشر مفروغ منه ، إذ يعطى كل واحد كتابه فيرى أعماله فيه بلا زيادة ولا نقصان ، فيقال للناس : إنما هي أعمالكم تردّ إليكم فلا يقدر أحد أن ينطق بشطر كلمة لأن الملائكة كانوا ينسخون ما يعمل كلّ واحد ويسجّلونه في كتابه. ويعضد هذا الاحتمال معنى آخر لسرعة الحساب وهو أنه تعالى يحاسب العبد في الدنيا ، في كل آن ولحظة ، فيجزيه على عمله في كل حركة وسكون ، ويكافئ طاعاته بالتوفيقات ، ويجازي معاصيه بالخذلانات ، فالخير يجرّ الخير ، والشّر يجلب الشرّ ويدعو إليه. ومن حاسب نفسه عرف هذا المعنى ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.

* * *

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) وَمِنَ النَّاسِ

مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

٢٠٣ ـ (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ... يعني أيّام التّشريق. والمراد بالذّكر هو التكبيرات والتّهليلات وغيرهما من الأدعية والاذكار التي ذكرت كيفيّتها كتب الفقه. وهذا الذكر عقب خمس عشرة صلاة في منى وعشر في غيرها. أولها مطلقا يوم النّحر. والمشهور عندنا هو الاستحباب وبعض منّا قال بالوجوب (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) أي أسرع في الخروج من منى بعد يوم النّحر ، في ثاني أيّام التّشريق بعد فراغه من رمي الجمار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ) وبقي حتى رمى في اليوم الثالث من أيّام التّشريق (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ولو قيل : كيف قال الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، مع أن المتعجّل تارك لبعض الأعمال وهو رمي اليوم الثالث. فإذا لم يكن آثما فبالأولى أن يكون من أتى بالرّمي كاملا لا إثم عليه فلا يحتاج إلى ذكره؟.

والجواب أن أهل الجاهليّة كانوا بين فريقين : فمنهم من جعل المتعجّل آثما لتركه الرّمي يوم الثالث ، ومنهم من عدّ المتأخّر آثما لأنه ترك الرّخصة بعقيدتهم ، مع أن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه. لذا أخبر الله تعالى بعدم الإثم في كلا الأمرين. فالنتيجة هي التّخيير بينهما كما هو الظاهر من الآية الشريفة ، أو معناه أن انتفاء الإثم

عنهما موقوف على التقوى لا على مجرّد الرّخصة أو العزيمة في الرّمي ... فهل المراد هو اتّقاء المعاصي في الحج ، أو بعد الحج في بقيّة العمر ، أو كلاهما ، أو مطلق المعاصي كما يعطيه النظر في ظاهر الآية (لِمَنِ اتَّقى)؟. ففي الفقيه عن الباقر عليه‌السلام : لمن اتّقى الله. وهذا التفسير يؤيّد ما استفدناه من ظاهرها ، وهو أن التخيير في التعجيل والتأخّر لمن اتّقى الله وتجنّب معاصيه وهو الحاجّ على الحقيقة .. (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر ثان بتجنّبه في مجامع الأمور ، جاء بعد قوله سبحانه : لمن اتّقى ، لبيان زيادة الاهتمام بأمر التقوى بمقابل تسهيلاته وأفضاله وكرمه على العباد (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) اعرفوا وتيقّنوا انكم تجمعون إلى ربكم يوم القيامة للحساب والثّواب والعقاب.

٢٠٤ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) ... نزلت في المرائي ، أو في أخنس بن شريف الذي كان حسن المنطق ، ويدّعي الإسلام ومحبّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان كاذبا منافقا. وقيل هي في المنافقين مطلقا. وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام هي في اثنتين معروفين. ولا منافاة بين شمول الآية لعامّة المنافقين وبين نزولها خاصّة لكون من نزلت فيه رأس النفاق. فإن الملاك موجود في الكلّ. فقد قال سبحانه عن المرائي أنه يعجب (قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وتبهر السامع حلاوة منطقه وفصاحة لسانه ، مظهرا اعتناقه للدّين الحنيف ، ومتظاهرا بتقديسه في حضرتك يا محمد ، ومتصنّعا الورع والتقوى (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) يستشهد به ويحلف به أنه صادق في دعاواه ، وأن لسانه وقلبه واحد ، فيعجبك منطقه وقد تتصوّره صادقا فيما يقوله وتستبعد أن يكون مدلّسا في مقالته (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) وأعدى الأعداء. وهذا إخبار من الله تعالى عمّا في قلبه من أنه شديد الخصومة للدين. هذا بناء على أن الخصام : جمع خصم ، أما إذا اعتبرت اللفظة مصدرا فيكون المعنى : شديد المخاصمة والجدال. والأول أصح والله أعلم.

٢٠٥ ـ (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) ... أي إذا انصرف من

عندك وبعد عنك ، أو صار واليا وملك الأمر فعل بظلمه وسوء سيرته ما يفعله ولاة السوء والجور وسار في الأرض بسيرتهم (لِيُفْسِدَ فِيها) يبغي ويظلم (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) بحيث يقتل ويخرب حتى يمنع الله بسوء أعماله قطر السماء وتمنع الأرض بركاتها فيحدث القحط والغلاء وهذا نوع آخر من إهلاك الحرث والنّسل. وفي المجمع والقمّي عن الصادق عليه‌السلام : الحرث في هذا الموضع : الدّين ، والنسل : الناس. (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فهو منزّه عن أن يرضى بأعمال المفسدين بين عباده ، بل هو يأمر بقمع مناشئ الفساد ومصادره بناء على ما في الروايات ، ومعنى قوله : (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) : أنه يبغضه ويمقته مقتا شديدا.

٢٠٦ ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) ... أي إذا قيل له : تجنّب غضب الله وسخطه ودع صنيعتك التي يتولّد وينشأ منها الفساد (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) استولت عليه أنفته وكبرياؤه وعصبيّته الجاهليّة ، وحملته على ارتكاب اللّجاج في مضاعفة فساده ، مما يزيد في إثمه ويزيد في عذابه يوم القيامة ولذا قال سبحانه : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي كفته عقوبة وأغنته عن كل عذاب وجزاء على سوء عمله (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) وجهنم بئس الفراش المهّد له ، المبسوط لإقامته فيها. والمهاد بالحقيقة هو فراش الطفل الذي ينام فيه ويستريح ويترفّه. وقد ذكره الله تعالى هنا تهكما واستهزاء بالمفسد.

٢٠٧ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) ... أي يبعها طلبا لمراضي الله تعالى. نزلت في عليّ عليه‌السلام حين نام على فراش النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوم هرب من المشركين الذين تآمروا على قتله ، وصار الى الغار الذي حجبه الله فيه عن أعين الكفرة ، وبات عليّ مكانه وفداه بنفسه في تلك الليلة المهولة ، وتلقّى فيها الحصب وضربات الحجارة غير مبال بذلك ما دام فيها نجاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلبا لتحصيل رضاه وحفظا لنبيّه. ولذا قام جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه يحرسانه ، ونادى جبرائيل : بخ بخ. من مثلك يا عليّ بن أبي طالب ، يباهي الله الملائكة بك (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) رحيم

بهم. وهذا الجملة مترتّبة على صدر الآية ، فإن العبد إذا كان بتلك الصفة فالله تعالى كان ولا يزال رؤفا به. وقد أتى بالجملة الاسميّة لكونها تقضي الثبوت والدوام. والرأفة هي المرتبة الشديدة من الرحمة ، ولذا آثر الرأفة في هذه الآية الكريمة.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

٢٠٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) ... أي في المسالمة لدين الإسلام. وفي العياشي عن الصادق عليه‌السلام : الدخول في السلم : ولاية عليّ عليه‌السلام والأوصياء من بعده ، وخطوات الشيطان ولاية أعدائه وهناك رواية عيّنت بعضهم. وفي بعض التفاسير : السلم : الاستسلام وهو الصّلح ، أي اجتنبوا البغضاء والشحناء ، وادخلوا في ذلك (كَافَّةً) بأجمعكم (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ولا تسلكوا طريقه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة والخصومة.

٢٠٩ ـ (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ ..) أي إذا انزلقتم وانحرفتم عن الحق وطريق الصواب ؛ أي السّلم الذي أمر به الله بعد أن ظهرت

لكم البيّنات : الدلائل الواضحة والبراهين على أن الدخول في السّلم صلاح لكم ، وخلافه مفسدة (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) غالب لا يعجزه الانتقام منكم ، وحكيم لا يبطش إلا بالحق ولا ينتقم إلّا بالعدل.

٢١٠ ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ... الاستفهام معناه النّفي بمقتضى الاستثناء ، أي لا ينتظرون ولا يترقّبون إلّا أن ينزل الله عليهم العذاب (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وهي السحاب الأبيض المتراكم كالمظلّة ، والغيوم التي يظنّون بها الرحمة فإذا صبّ منها العذاب عليهم كان أصعب وأشقّ على نفوسهم ، كما أن النّعمة غير المتوقّعة تكون ألذّ وأشهى ، وبعكسها النقمة غير المنتظرة فإنها تكون أتعب وأشد. فهل ينتظرون أن يأتيهم أمر ربك (وَالْمَلائِكَةُ)؟. واللفظة إن قرئت بالرّفع فهي معطوفة على لفظة الجلالة أي تأتي الملائكة. وإن قرئت بالجرّ فهي معطوفة على ظلل ، أي في ظلل من الغمام والملائكة. فإن لفظة : في ، تجيء مرادفة للباء الجارّة على ما في بعض كتب اللغة المعتمدة. وفي العيون والتوحيد عن الرضا عليه‌السلام : إلّا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام ، وقد قال عليه‌السلام : هكذا نزلت (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي جرى قلم القضاء في لوح المقدّرات حينئذ بتدميرهم وإهلاكهم ، بحيث لا يغيّر ذلك ولا يبدّل ، ولذا عبّر بالماضي ليدل على هذا المعنى (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي أن كل الأمور مصيرها إليه. فإن قيل : كيف قال : وإلى الله .. وهذا يدل على أنها كانت لغيره ، كقولهم : رجع الى فلان عبده أو منصبه؟. فيقال : هو خطاب لمن كان يعبد غير الله ، وينسب أفعاله إلى غيره تعالى. فأخبرهم أنه إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة يعرفون ان الأمور بأجمعها ترد إليه سبحانه ولا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ، وله الملك والسلطان. هذا ويمكن أن يجاب بأن معنى رجع : أتى ، بمعنى صار ووصل. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال في تأويل هذه الآية قولا يبيّن أنها تعني المهدي عليه‌السلام في آخر الزمان إذ قال : ينزل في سبع قباب من نور ، ولا يعلم في أي منها هو ، حين ينزل في ظهر

الكوفة. وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام قال : كأنّي بقائم أهل بيتي علا نجفكم ، نشر راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا نشرها انحطّت عليه ملائكة بدر. وقال في تتمة التأويل : وأمّا : قضي الأمر ، فهو الوسم على الخرطوم يوم يوسم الكافر لتمييزه عن المؤمن ، فقد قضي الأمر بكفره وجرى قلم التقدير عليه لعناده.

* * *

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ

اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

٢١١ ـ (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) ... هذا الأمر ليس موجها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله. بل هو عامّ لكلّ أحد. والسؤال تقريع لهم ، وفي مقام إفحام الخصم ، فإنه مع الحجة والبرهان. ولفظة : كم ، تكون تارة للاستفهام عن العدد كقولهم : كم درهما معك؟ .. وتارة تكون خبريّة تشير الى كثرة العدد لا إليه نفسه وهي الاستكثارية نحو : كم عبد ملكت ، وكم عبيد حرّرت ، أي كثيرا. وهنا تصلح لكلا المعنيين ، فيمكن أن تكون استفهاميّة عن عدد الآيات ، كما يمكن أن تكون استكثارية خبرية. وإذا كانت استفهامية فهي تقريريّة ، والإفحام يحصل على كل حال. ومحلّها النّصب بناء على المفعولية. فاسألهم كم آتيناهم (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي من البراهين والحجج الظاهرة التي أبديناها على أيدي رسلنا وأنزلناها في الكتب السماويّة كالتوراة والإنجيل دالّة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فما أثّر شيء منها فيهم ولا استفادوا من تعاليمها ، وإن كان بعضهم قد آمن ولكنّ أكثرهم قد جحد وبدّل وأخذ عوضا عمّا بدّله وحرفه من نعت محمد ومن صرف الآيات عن وجهها ، أو تغيير مواضعها ، أو إسقاط بعض آياتها من التوراة (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) أي آياته التي هي أجلّ نعمه تعالى لأنها أسباب الهدى والفوز بالجنّة والنّجاة من النار. فمن غيّرها (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي بعد إنزالها عليه ومعرفتها ، وجحدها وإنكارها حفظا لرئاسته (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وخصوصا بعد تمام الحجة عليهم ، فالله يوردهم أشد العذاب لكون جريمتهم أعظم جريمة.

٢١٢ ـ (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ... أي جملت وحسنت الحياة

الدّنيا بنظر الكفّار وأشربوا حبّها في أعماقهم. والظاهر أن المزيّن هو الشيطان. ويمكن أن يضاف التزيين إليه تعالى بخلق المشتهيات فيها ، وإيجاد الشهوات فيهم ، فإنّ الدار دار تكليف واختبار ، وهما لا يتمّان إلا بخلق ذلك. لكن من اتّبع شهوته وآثر زينة الحياة الدنيا على عمل الآخرة يكون ذلك باختياره ، ولا جبر للمكلّف في اختيار الطاعة أو المعصية ، ولا منافاة بين أن يكون هو سبحانه خالقهما والمكلّف بأحسنهما ، وبين أن يكون هو المعاقب للمقصّر والمخالف. فالكفّار يفتنهم الشيطان ويستهويهم بزينة الحياة (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وتصدر سخريتهم الشنيعة عنهم بنتيجة حبّهم للدّنيا وزينتها ، ولو كانوا عقلاء لما استهزءوا بمؤمن يحبّه الله ورسوله وسائر المؤمنين. ووجه استهزائهم بالمؤمنين إمّا لفقرهم ، وإمّا لزهدهم في الدنيا ، أو لعدم مجانستهم معهم ، لأن المؤمن يعيش في نور الإيمان وهم في ظلمة الكفر والباطل يعمهون (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم في علّيّين وفي دار الكرامة من الجنّة ، والكفّار في سجّين وفي دار الهوان والندامة. وسيسخر المؤمنون منهم في الآخرة كما سخروا هم في دار الدّنيا ، وكما تدين تدان. وقد عبّر الله سبحانه عن المؤمنين بالمتّقين إشارة إلى أنهم هم الوحيدون الذين تجنبوا معاصيه واتّبعوا مراضيه لذلك يسكنهم دار النعيم الدائم (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعطي الكثير الذي لا يحصره حساب. فإن قيل : اي وجه ومناسبة لهذا الذّيل بعد صدر الآية المتقدّم؟. قلنا : يمكن أن يقال في وجه مناسبته أن تزيين الحياة الدنيا وجاءوها في أعين أهلها الراغبين فيها ، كاشف نوعا عن السّعة والاستغناء عمّا في أيدي غيرهم لأنهم يتقنون شؤون دنياهم ويستزيدون رزقها ومتعتها ، كما يشاهد بالعيان ويحس بالوجدان أن أبناء الدّنيا متنوّعون في السّعة والرفاهية ، وأهل الآخرة يبتلون بالضّيق والتّقتير ، فهؤلاء كأنهم معدمون محرومون غير مستأنسين ، وأولئك يعيشون في ثراء ونعيم مستسلمين إلى زينة الحياة الدنيا بشغف الطفل إلى ثدي أمّه .. وفي أذهان عامّة الناس ، ولا سيما التّالين للقرآن ، أنه لماذا وسّع سبحانه على الكفرة

والمنافقين وقتّر على المؤمنين المتّقين مع أنّ بيده التوسيع والتقتير!. ولكن لا يسهو عن بال العاقل أنّ الكفّار مبتلون بالدنيا ورزقها وزينتها ونعيمها ، وأنّ السّعة كانت سببا لتعلّقهم بها ، وأنّ التقتير وإن كان منه تعالى ، ليس وقفا على المؤمن الذي مهما بلغت به السّعة لا تفتنه زينة الحياة. فدفعا لهذه الشّبهة المقدّرة قال سبحانه : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). أي أنّ أمر الرزق بيده تعالى ، يقتّر على بعض ويوسّع على آخرين استدراجا تارة ، وابتلاء أخرى ، وكلاهما ناشئان عن الحكمة والمصلحة اللّتين لا يعلم بهما المخلوق. فلا حقّ لمن لا يعلم ، أن يتكلّم على من يعلم بجميع الأمور من الذرّة الى الدرّة.

والحاصل أنّه ليس المثرى مجبورا على إقباله على زينة الحياة ومغرياتها لسعته ، ولا غيره ملزما بأن يدبر عنها أو يقبل على الآخرة لقلّة ذات يده ، بل كلاهما يفعلان ما يفعلان بالاختيار. وقوله سبحانه : بغير حساب ، يعني بشكل لا يعرف حسابه المخلوق البشريّ ولا غيره ، ولا يعرفه غير الخالق الرازق الذي كلّ شيء عنده بمقدار في الدّنيا والآخرة ، ولا يغرب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرّة.

٢١٣ ـ (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ... أي أن أولاد آدم كانوا أهل دين واحد وملّة واحدة بعد آدم عليه‌السلام ، وهو دين الله الذي بعث به آدم واتّبعه صالحو ذرّيته. فلمّا توفّاه الله أوصى إلى ابنه شيث عليه‌السلام ليقوم مقامه. ولكنه لم يقدر أن يعمل بوصاياه كاملة ، لأن هابيل كان حسودا فهدّده بالقتل وتوعّده بأن يفعل به ما فعل بقابيل حين قتله وارتكب أول جريمة على وجه الأرض. لذا سار شيث بالمؤمنين بالتّقية وكتمان أمر نبوّته بعد أبيه عن بعض من هم على شاكلة أخيه ، ثم لما مضت عليه برهة من الزمان على هذه الكيفية لا يستطيع الأمر بالمعروف ولا النّهي عن المنكر ، ولا يسمع له قول ، لحق بجزيرة في البحر وأقام يعبد الله فيها إلى أن مات ... وبمرور الزمن صار دين الله نسيا منسيا وصار الناس في ضلال وحيرة ، فلا هم مؤمنون ، ولا هم كافرون ولا مشركون ، ولكنهم

كانوا يعيشون فطرتهم الأولى التي ولدوا عليها ، ممّا جعلهم قابلين لأيّ دين وأيّة ملّة تعرض عليهم ، فبدا لله تعالى أن أرسل الرّسل وأنزل الكتب لإرشاد البشر وهدايتهم الى الدين الحق ، ولتخليصهم من تيه الحيرة والضلال. وكان ذلك قبل نوح عليه‌السلام كما يستفاد من رواية العياشي عن الصادق عليه‌السلام ومن غيرها (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) مبشّرين بالجنّة لمن أطاعهم في أمر الله ، ومنذرين بالنّار لمن عصاهم (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) وظاهر الآية المباركة أنه أنزل مع كلّ نبيّ كتابا ، ولكنّ الأعلام من المفسّرين قالوا : إن الكتاب اسم جنس ، والمعنى أنه أنزل مع بعضهم ولم ينزل مع كلّ نبيّ كتاب. وقد قيل إن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا ، وأنّ الرّسل منهم ثلاثمئة وثلاثة عشر ، والمسمّون منهم في القرآن ثمانية وعشرون فقط ... وقوله سبحانه : بالحق ، حال من الكتاب ، أي متلبّسا بالحق (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) أي الله تعالى يحكم ، أو الكتاب من باب التوسعة في المجاز كقوله : هذا كتابنا ينطق بالحق. فيحكم (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). فإن قلت : إن المستفاد من قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) إلخ ... يدل على انّ الاختلاف كان موجودا بين الناس قبل بعث الرّسل وإنزال الكتب ، وذلك بحكم مضارعيّة «ليحكم» وماضويّة «اختلفوا» وإذا عرف ذلك تعرف المناقضة ظاهرا مع قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) ، إذ صريحه أن الاختلاف إنما كان بعد بعث الرّسل وإنزال الكتب؟. قلنا : إن الجواب عن المناقضة المستفادة تمكن بأمور :

أمّا أولا ، فكثيرا ما يكون مفاد الماضي الذي بعد المضارع مضارعا ، ومع ذلك يستعمل بصورة الماضي لنكتة نشير إليها فيما يأتي. وهذا دائر ورائج في العرف والعادة فتقول : اذهب ، أو تقول : تذهب. وأنا جئت وقد تزيد كلمة الآن. فليس كون كلّ جملة ملبّسة بلباس الماضويّة دليلا على كونها ماضية حقيقة.

وثانيا ، إذا كان مفاد المضارع محقّق الوقوع ، يقع في صورة الماضي. فيستفاد وقوعه حتما كأنه وقع وخلص. وفي القرآن استعمل الماضي بدل المضارع كثيرا ، وأوضح مثل هو قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، مع أن النّفخ يكون يوم البعث. وهذا التعبير تأكيد لوقوع مفاد الجملة ، حيث إن المضارع يحتمل الوقوع وعدمه.

وثالثا ، صراحة الجملة الأخيرة قرينة كاشفة عن أن المراد هو من الجملة الأولى لا من الأخيرة. فالأخيرة بصراحتها تصرف الأولى عن ظاهرها لو قبلنا ظهورها في القبليّة ، فإنّ آيات القرآن الكريم قرينة بعضها على بعض ، وتفسير بعضها لبعض لصراحته أو أظهريّته ..

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي أعطوا العلم به إذ جعلوا المزيل للاختلاف سببا له ، أي لحصوله ، كاليهود فإنهم كتموا صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما أعطوا العلم به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الأدلّة والحجج الواضحة ، وقيل التوراة والإنجيل (بَغْياً بَيْنَهُمْ) يعني : ظلما وحسدا وطلبا للرئاسة (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) بيان لما قبله ، هداهم لذلك (بِإِذْنِهِ) أي برخصته ولفظه وأمره (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي يرشد إلى سبيل الهدى والنّجاة في الدّنيا والآخرة من يشاء ، أي من له القابلية لذلك.

٢١٤ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ...) ولمّا ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم تسلية للنبيّ عليه الصلاة والسلام ، وتشجيعا للمؤمنين على الصّبر على عنت مخالفيهم ، التفت إليهم بالخطاب وقال : لا تظنّوا دخول الجنة سهلا ، ونحن نعرض عليكم ذكر من سلف .. وأم منقطعة وهمزتها للإنكار ، ومعناها هنا : بل حسبتم ، أي : لا تحسبوا ولا تتوقّعوا ذلك .. وقيل : «أم حسبتم» استبعاد للحسبان ، وإنكار عليهم. والحاصل أنه بل حسبتم دخولكم الجنّة (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : هل تتوقّعون دخولها أو تترقّبونه قبل أن تمتحنوا وتبتلوا بمثل ما امتحنوا وابتلوا

به ، ولم يصبكم مثل الذي أصاب من خلوا مضوا من النبيّين والمؤمنين وأممهم الّذين كانوا قبلكم؟. فلا بدّ لكم من الصبر على الشدائد .. وقد ذكر سبحانه ما أصاب من قبلهم فقال : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) والبأساء ضدّ النّعماء ، والضرّاء ضد السّراء. وقيل : الأول هو القتل ، والثاني هو الفقر. وفي المقام أقوال أخر لا تنافي بينها على الظاهر ، وكلّ إلى ذلك الجمال تشير ، أي إلى المعنيين الأوّلين .. (وَزُلْزِلُوا) أي اضطربوا وأقلقوا من شدّة ما أصيبوا به من أنواع البلايا وأشكال المصائب التي يشق على البشر الاصطبار عليها. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه كان يقرأ : وزلزلوا ثم زلزلوا ، أي أصابتهم الزلازل متعاقبة بحيث سلبت عنهم الراحة في اليوم والليلة .. (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) عند تطويل مدة المصائب والحوادث وعدم تناهي الشدّة ، وذهاب الطاقة على الاصطبار ، يقولون : (مَتى نَصْرُ اللهِ) معناه : طلب النّصر وتمنّيه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) لفظة : ألا ، للاستفتاح ، وتدل على تحقّق ما بعدها كما في قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ). والجملة فيما نحن فيه على إرادة القول ، أي قيل لهم ذلك إجابة لطلبهم : عاجل النّصر ممّن النّصر بيده. ويستفاد من الآية أن الوصول إلى مقام القرب والفوز بالدرجات السامية ، لا يتيسّر إلّا برفض المشتهيات ومخالفة النفس ومقاساة الآلام في سبيل الطاعة ، والصّبر لشدائد الدهر ، وممارسة الرياضات الشاقّة. وقد قال عليه‌السلام : حفّت الجنّة بالمكاره. وفي الخرائج عن السّجاد عليه‌السلام قال : فما تمدّون أعينكم؟. ألستم آمنين؟. لقد كان من قبلكم ممّن هو على ما أنتم عليه يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة ...

٢١٥ ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) ... أي أيّ شيء ينفق في سبيله تعالى؟ .. وكان عمرو بن جموح شيخا ذا مال ، وصاحب ثروة ، قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بم أتصدّق ، وعلى من أتصدّق؟. فنزلت الآية. (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي ما تصدقتم به وبذلتموه من

مال ، فهذا بيان السّبل التي ينفق بها : (فَلِلْوالِدَيْنِ ، وَالْأَقْرَبِينَ ، وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ) فهؤلاء ينفق عليهم كجواب عمّا سأله عمرو .. واختصاص هؤلاء لبيان أكمل مصارف النفقة وأتمّها. ويمكن أن يحمل على الإنفاق أو المندوب فقط أو كليهما. بيان ذلك أنّ نفقة ذوي الأرحام لا تجب عندنا. وأما نفقة الوالدين إذا كانا فقيرين إليها فواجبة ، وكذلك الأولاد ، وتفصيل ذلك خارج عن موضوعنا .. ولا يخفى ان الآية بقرينة بيان مصارف الزكاة الواجبة ، ظاهرة في الصدقة الواجبة. وأمّا الوالدان فلا مانع من أن يأخذا الزكاة من الولد إذا لم يكن مثريا أو إذا كان عاصيا (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) ما تعملوا من عمل صالح يقرّبكم الى الله ، هو شرط ، جوابه : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) يعرفه ويجازيكم عليه ويحاسبكم به لأنه سبحانه محيط علما بظواهركم وضمائركم.

* * *

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ

هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

٢١٦ ـ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) ... وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها هو أن الآية الأولى فيها دعوة الى الصّبر على المكاره والأمور الشاقة على النفس والرياضات المكملة لها لجعلها حرّية بنيل الدرجات الرفيعة ، وهو أن فيها أيضا بيان لإنفاق المال في مواقعه التي فيها رضى الله ورسوله ، وهذا أيضا صعب على الطّباع البشرية. ولذلك عقّب الأمرين بفرض الجهاد البدنيّ الذي هو جهاد للنفس أيضا كالالتزام بالبر والطاعات ، فالاتصال في غاية التناسب والوجاهة ، لأن كلّ ذلك من واد واحد يرمي الى تكميل النفس بإطاعة امر المولى. وكتب عليكم القتال أي فرض عليكم الجهاد في سبيل الله امتثالا لأمره ولو كان هذا الأمر ثقيلا وشاقا (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي أنه إلزام لكم بما هو مكروه من نفوسكم تنفر منه طباعكم ، ولكنكم لا تعلمون المصالح والمفاسد الواقعية في الأوامر والنواهي جميعها على وجه الدقة والحقيقة. والكره يجوز أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف تأكيدا ، ويجوز أن يكون بمعنى المكروه كالخبز بمعنى المخبوز والشّرب بمعنى المشروب. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لعلكم تكرهون شيئا في الحال وهو خير لكم في المآل ، كالقتال الذي تكرهونه لما فيه من الخطورات في حال أنه خير لكم لأن فيه إحدى الحسنيين : فإمّا الظفر والغنيمة ، وإمّا الشهادة والجنّة (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) كالقعود عن الجهاد حبا للحياة وفيه الشرّ لكم إذ فيه الذلّ والفقر في الدنيا ، وفيه حرمان الأجر والثواب في العقبى (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعرف ما فيه صلاحكم ومنافعكم ، وأنتم لا تعرفون ذلك. كما أنه يعلم ما فيه ضرّكم وخسرانكم في الدنيا والآخرة ، وأنتم

تجهلون ذلك. ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن البشر لا بدّ لهم من أن يكونوا مطيعين لأوامر الله ونواهيه ولو خفي عليهم وجه الحكمة والصواب ، لأن من لا يميّز الخير من الشر في الواقع والنتيجة ، فليس له أن يؤثر هذا على هذا ، ولا أن يختار ذاك دون ذاك ، لأنه ربما أحب شيئا وكان المكروه خيرا له ، وربما كره شيئا وكان المحبوب شرّا خالصا كما أخبرنا الصادق المصدّق.

٢١٧ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) ... عرفت الأشهر الحرم سابقا ، وعرفت أن القتال فيها حرام في الإسلام كما كان حراما قبل الإسلام. وقد بعث النبيّ (ص) سريّة بقيادة ابن عمته عبد الرحمن بن جحش في جمادى الآخرة ليترصّدوا عير قريش وفيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين وساقوا العير وفيها تجارة الطائف. واتّفق أن كان القتال في غرّة رجب وهم يظنونه من آخر جمادى. فاعترضت قريش بأن محمدا (ص) قد استحلّ القتال في الشهر الحرام ، فنزلت الآية الكريمة تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتبريرا لعمله المبارك. وحاصل الموضوع أنهم يسألونك يا محمد عن القتال في الشهر الحرام ، أي رجب : (قتال فيه؟.) هل فيه قتال؟. واللفظة بدل اشتمال من الشهر الحرام (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فأجبهم أن القتال في الشهر الحرام ذنب عظيم ومنع عن اتّباع صراط الله المستقيم وعن طريق هداية البشر وما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة. والواو في لفظة : وصدّ ، استئنافية وهي ظاهرا ليست بعاطفة. أما عبارة (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فهي في سياق الكلام الذي يقتضي كونها عطفا على سبيل الله ، أي منع عن سبيل الله وعن المسجد الحرام. كما أن سوق ظاهر اللفظ قد يناسب في عطف «صد» و «كفر» على «قتال كبير» كما لا يخفى .. والصدّ عن المسجد الحرام هو مثل عمل قريش والمشركين حين منعوا النبيّ (ص) والمؤمنين معه عن زيارة بيت الله الحرام وعن دخول مكة. وقد استعظم الله تعالى صدّهم له وقال : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) أي أن تهجير النبيّ والمؤمنين من مكة أعظم وزرا

عند الله من القتل والقتال ، وخصوصا حين يقع القتل على من هو مثل ابن الحضرميّ الذي لم يكن نفسا محترمة لأنه لم يؤمن بالنبيّ (ص) واصرّ على الكفر والعناد (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي أن إيقاع الاختلاف بين الناس ، وإضلالهم عن طريق الحق ومنعهم عن الدخول في الإسلام أكبر عند الله من قتل الحضرميّ الذي اشتبهوا أنه حصل في الشهر الحرام. فإن أفعال المشركين ، بل كلّ فعل منها ، هو أفظع وأشنع من بمراتب كثيرة من قتل واحد من المشركين الذين يحاربونكم بشتّى الوسائل (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) .. وبهذا أخبر الله سبحانه نبيّه (ص) بدوام عداوة كفار مكة التي تستمرّ وترمي الى إرجاعكم عن دينكم وصرفكم عن الإسلام لتعودوا الى الجاهلية والكفر (إِنِ اسْتَطاعُوا) .. ويستشم من هذا التعليق بأنهم لا يوفّقون إلى ذلك ، أي أن الأمر لا يحصل وفق مرادهم. وهذا من قبيل : أن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات .. فالتعليق كان على أمر محال عادة وهم لا يقدرون عليه (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) أي أن من انصرف عن دين الحق وصراطه السويّ وأعرض عنه ومات على الرّدة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي فسدت وهذا صريح في ثبوت الإحباط والخسران بالرّدة حين يموت المرتدّ عليها إذ الموافاة بالإيمان شرط في استحقاق الثواب كما عليه الأصحاب. فالمرتدّون تحبط أعمالهم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لأن كثيرا من الفوائد الدنيويّة تترتّب على الإسلام عدّتها كتب الفقه وفصّلتها فهي تحبط بالرّدة ، مضافا الى خسران الأجر الجزيل والثواب الجميل الذي يخسرهما في الآخرة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ووجه الخلود بالنّار قد تكلّمنا عنه سابقا بالنسبة لسائر الكفّار ، والمرتدّ إذا مات على الرّدة يكون كافرا ويلحق بهم في الخلود بالعذاب.

وبعد ذكر حال الكفّار وحال من يرتدّ عن الدين ويموت بلا توبة ، أخذ سبحانه في شرح حال المؤمنين ، واختص بعضهم بالذّكر لعلوّ شأنهم

ورفعة درجاتهم وذكر الخاصّ بعد العامّ كثير في القرآن الكريم كما قلنا في ما سبق قال سبحانه وتعالى :

٢١٨ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... نزلت في قصة عبد الله بن جحش وأصحابه التي مرّت قريبا ، فقد قال قوم : إنهم وإن سلموا من إثم القتل والأسر ، ليس لهم أجر ولا ثواب بما صدر عنهم. فقال تعالى : ليس الأمر كما تظنّون ، بل الذين آمنوا ، وصدّقوا الله ورسوله بعد ما عرفوهما حقّ معرفتهما (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) وتركوا أوطانهم وعشائرهم وأقاربهم ، بل خلّفوا عوائلهم وأهاليهم وبيوتهم ومن كان يلوذ بهم ، وتركوا أموالهم وتركاتهم وكلّ ما كان عندهم (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وقاتلوا في إحياء دين الله الذين هم عليه ، وهو سبيله تعالى المشروعة لعباده ويستفاد من الجمع بينها أن استحقاق الثواب يترتّب عليها جميعها لا على واحد منها منفردا إن المؤمنين ، والمهاجرين ، والمجاهدين (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) أي يأملونها. والتعبير بالرجاء للتنبيه على أن العبد لا بدّ وأن يكون في جميع أحواله وأعماله بين الخوف والرجاء ، لا يغترّ بأعماله العباديّة ولا ييأس من رحمة الله ولا صدرت منه كبيرة لغلبة نفسه الأمّارة بالسوء نستعيذ بالله من شرها .. ولعلّه سبحانه أراد إيجاب الرجاء والطمع على المؤمنين لأن رجاء رحمة الله من أركان الدين ، كما أن اليأس من رحمته كفر. وقد قال تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). والأمن من عذابه أيضا خسران. فقد قال سبحانه : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ). فمن الواجب على المؤمن أن يرجو رحمة ربّه ، وأن لا يأمن عقوبته ، وأن يدعو ربّه خوفا ، وطمعا. فاليأس من أكبر الكبائر لأنه ينتج عن سوء ظنّ به جلّ وعلا .. وقوله تعالى : يرجون ، وإن كان في الظاهر جملة خبريّة ، إلّا أنّها في مقام الأمر. وقد أتى بها لأنها آكد في المراد على ما بيّن في محلّه ، ولذا قلنا : أراد الله سبحانه إيجاب الرجاء والأمل (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ويحتمل أن تكون هذه الجملة في مقام ردّ سوء ظنّ بعض الكفرة الذين قالوا في ابن جحش وأصحابه : ليس لهم أجر ولا ثواب ، فقال سبحانه :

إن الله تعالى غفور لما فعلوه خطأ ، رحيم بإجزال الثواب عليهم وإكثار الفضل والكرامة ، يعاملهم كما يعامل المجاهدين ، رغما للقرشيين والكفرة منهم ومن غيرهم. ويمكن أن تكون الآية عامّة وتشملهم بعمومها.

* * *

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

٢١٩ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) ... أي عن شربه وسائر أشكال تعاطيه (وَالْمَيْسِرِ) أي لعب القمار وبقية أنواع اللعب ومعاملاتها ، وعن أحكامهما

لأنهما كانا محلّ ابتلاء الناس ، وهم لا يسألونك عن حقيقتهما فهي لم تكن محلّ الحاجة أو أنها معلومة عندهم ، فالسؤال عن الحقيقة لغو محض في هذا المورد. فالمسألة إذا عن تعاطيهما ، وعن بيعهما وشرائهما والتعامل بهما بكيفيات اخرى كالهبة التي تدخل في الحكم.

والخمر مصدر من خمره خمرا : إذا ستره وغطّاه ، وسمي به كلّ شراب مسكر مغطّ للعقل والتمييز للمبالغة والميسر أيضا مصدر من يسر وييسر ، واشتقاقه من اليسر وقيل من اليسار. وسمي به كل قمار ولعب يؤخذ به مال الرجل بلا وجه مشروع ، فكأنه أخذ المال بيسر ومن غير تعب وكد ، أو أنه سلب يساره. هذا بناء على قول القيل. وهذه التسمية بالمصدر أيضا للمبالغة.

أما تعاطي الخمر والميسر مطلقا ، فهو حرام بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب أولا فبنصّ الآية الشريفة التي نبحثها : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) والذنب إذا كان موبقا يعبّر عنه بالإثم الكبير كقوله : (كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ.) والذنوب الكبيرة موبقات وحرام بلا ريب .. وبنصّ الآية الكريمة : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ..) الى قوله : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ). وهي أشدّ وأغلظ في التحريم من الآية الأولى. والآيات الدالّة على التحريم كثيرة تصريحا وتلميحا.

وأمّا السنّة ثانيا فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم وهاتين اللّعبتين المشومتين ، فإنهما من ميسر العجم. فالتحذير «إياكم» والذمّ «المشومتين» والاختصاص بالأعاجم ، كل ذلك يدل على أنهما ليستا مشروعتين في الإسلام. يضاف الى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة للخمر قد لعن فيها عشرة : بدءا بزارعها وجانيها وعاصرها ، وانتهاء ببائعها وشاريها وساقيها وشاربها ، كما في الوسائل وبقية كتب الحديث. وهذه وغيرها من الروايات الكثيرة الكثيرة تدل على حرمة الكثير والقليل ، في الروايات التي وصلت الى حدّ التواتر. بل لعل التحريم صار من ضروريّات الدّين ..

وأما العقل ـ ثالثا ـ فإن كل عقل سليم يحكم بأن كل ما يغطي العقل والشعور ويذهبهما ويسلب الإنسان منهما ويدخله في عداد البهائم ولو موقّتا فهو حرام عليه ، لأنه من أشرف مخلوقات الله عزّ وعلا. هذا بالنسبة الى السّكر والخمر. أما القمار وكافة أنواع الميسر فإنها تجرّ كثيرا الى خسائر وأرباح غير مشروعة ، وتؤدي الى خصومات ، وتجرّ الى منازعات وقتال وارتكاب جرائم. وكلّ ما حكم به العقل السليم حكم به الشرع.

أما الدليل الرابع وهو الإجماع فقد أجمعت الأمة الإسلامية بكافة فرقها على تحريمهما ، كما أن الأديان السماوية السابقة فعلت ذلك ولم يرد فيها تحليل لكثير ولا لقليل ، حتى أن ما يشاع ويذاع عن ان النصارى يقولون : قليل من الخمر يفرّح قلب الإنسان ، هو لغو وباطل ولم ينطق به إنجيل من الأناجيل الأربعة .. والإجماع على الجهة لا شبهة في منقوله إن لم نقل في محصّله أيضا من صدر الإسلام إلى الآن.

فيا محمد (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي وزر عظيم لأنهما مفتاح الشرّ ، ومنشأ المفاسد .. ففيهما إثم (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) دنيويّة : ككسب المال وتحصيل الطّرب والالتذاذ والتقوية وغيرها مما يتصوّر أنها منافع (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لأنهما من الكبائر التي توجب النّار. بيان ذلك قول الصادق عليه‌السلام : الخمر رأس كلّ إثم ، ومفتاح كلّ شر. وقوله أيضا : إن الله جعل للشر أقفالا ، وجعل مفاتيحها الشراب. فلا يأمن من يشرب أن يثب على أمّه أو أخته إلخ .. وقوله (ع): ما عصي الله بشيء أشدّ من الشراب. فهذه المضارّ والمفاسد الدنيويّة يعقبها عذاب أخروي دائم. ومنافعها الدنيوية المتوهّمة زائلة ، وعظم الإثم وكونها من الكبائر المؤدية الى سخط الله وعذابه الدائم واضح. فأين الزائل من الدائم ، وأين اللذة الفانية العابرة من اللذة الأبدية السرمدية؟. وقد روي أن تحريم الخمر قد نزل في أربع آيات ، كانت كلّ لاحقة منها أشدّ وأغلظ من سابقتها. والآية التي نحن بصدد شرحها هي الأولى منها ..

(وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) .. أي يسألك أهل الإنفاق عن موارد الإنفاق ، من نفقة الجهاد ، الى الصدقات ، فنفقة العائلة. وقيل إن السائل كان ابن الجموح (قُلِ الْعَفْوَ) أي ما يفضل عن النفقة عفوا وبلا عسر على صاحبه في إعطائه. أو أن المراد ما هو خيار ماله وأطيبه بناء على أن السؤال عما ينفق. وأمّا إذا كان السؤال عن قدر ما ينفق فالجواب هو الوسط بين الإقتار والإسراف ، أو ما سهل إنفاقه ولم يكن فيه كلفة على المنفق (كَذلِكَ) أي مثل ما بيّن أمر الخمر والميسر والنّفقة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) يعني يوضح لكم الحجج في سائر الأحكام وشرائع الإسلام (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) لكي تتدبروا وتتأملوا في أموركم ، وتدركوا أنّ الدنيا دار بلاء وعناء وفناء ، وأنّ الآخرة دار جزاء وثواب وبقاء. فلا بدّ من الزّهد في الدار الفانية والرّغبة في الدار الآخرة.

٢٢٠ ـ (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ.) وقد ذكرنا عنهما ما يناسب المقام. والآية الكريمة متصلة بسابقتها وكأنها تمام لها (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) وأحكامهم. قال ابن عباس : لما نزلت : ولا تقربوا مال اليتيم .. ونزلت : وإن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما .. انطلق كلّ من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه وشرابه من شرابه ، فاشتد ذلك عليهم ، فسألوا عنه ، فنزلت : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي إصلاح أموالهم بلا أجر ومداخلتهم ومعاشرتهم أحسن من إبعادهم ومجانبتهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي إن تشاركوهم الحياة بجميع مظاهرها خير لهم وخير لكم وثواب. لأنهم إخوانكم في الدين ، ومن حقّ الأخ على أخيه حسن المعاشرة وجميل المخالطة. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، والعياشي عن الباقر عليه‌السلام ، قالا : تخرج من أموالهم قدر ما يكفيهم ، وتخرج من مالك قدر ما يكفيك ، ثم تنفقه. (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ولا يخفى عليه أن معاملتكم للأيتام ومعاشرتكم لهم ، والمحافظة على أموالهم تكون لحراستها وحفظها أو لإفسادها وإتلافها ، فهو يعلم في كلا الحالين ، والإنسان على نفسه بصيرة ، فكيف به جلّ وعلا وهو

واقف على اعمال العباد؟ .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي لو أراد لأوقعكم في التعب والمشقة في أمر الأيتام بعدم الإجازة في الدخول في شؤونهم والتصرف في أموالهم (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على ما يشاء (حَكِيمٌ) فاعل على مقتضى الحكمة والتدبير لما فيه صلاح العباد.

فإن قيل : كيف قال سبحانه يسألونك ، ثلاث مرات بغير عطف بالواو : يسألونك ماذا ينفقون ، يسألونك عن الشهر الحرام ، يسألونك عن الخمر والميسر. ثم جاءت «يسألونك» ثلاث مرّات أخر بالواو : ويسألونك ماذا ينفقون ، ويسألونك عن المحيض ، ويسألونك عن اليتامى؟.

قيل في الجواب : إن السؤال عن الحوادث الأول ، وقع على الأمور الثلاثة في موارد متفرقة ومجالس عديدة ، وعن الثلاثة الأخيرة وقع السؤال في مجلس واحد فجاء معطوفا بالواو ، لأن واو العطف معناها مطلق الجمع بين العاطف والمعطوف. فالواو عطفت جميع ما كان من المسائل في مجلس واحد ، ولم تدخل في غيرها من المسائل المتفرّقة حين لم يكن من مبرّر لدخولها ، فتدبّر .. وقال بعض المفسّرين إن تكرار السؤال عن الإنفاق محمول عليه في حالتي فقر وغنى المنفق ، وحمله على مقدار الوسط بين الإقتار والإسراف أيضا ، بناء على ما في الرواية عن الصادق عليه‌السلام.

أما بالنسبة لتكرار : يسألونك ماذا ينفقون ، مرّتين وفي آيتين. فذلك يدل على أن السؤال كان من نفرين في وقتين مختلفين والله أعلم.

٢٢١ ـ (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) ... نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، بعثه رسول الله (ص) إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويّا شجاعا ، فدعته امرأة الى نفسها فأبى ، فقالت : هل لك أن تتزوّج بي؟. فقال : حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فاستأذنه. فنزلت الآية بالنهي عن التزوّج من المشركات (حَتَّى يُؤْمِنَ) ويصدّقن بالله. والنكاح اسم وضع في الأصل للوطء ويطلق على العقد أيضا فيقال : نكح : إذا تزوّج وعقد. وأنكحه : زوّجه. أما النّهي فهو

عندنا عام في تحريم جميع الكفّار من الكتابيّة وغيرها ، وإن كانت المسألة خلافيّة ومحلّ تحريرها الفقه (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) أي أن المملوكة المؤمنة خير من الحرة الكافرة (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) واستعظمتم حسنها وجمالها أو كثرة مالها أو وجاهة عشيرتها ونحو ذلك. ولو هنا بمعنى : إن ، والفرق بينهما أنّ «لو» للماضي ، و «إن» للاستقبال. وأعجب من العجب الذي هو غير التعجّب. (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) أي لا تزوّجوا نساءكم المؤمنات للمشركين (حَتَّى يُؤْمِنُوا) بغير فرق بين الكتابيّ وغيره. وقد ورد الخطاب طبق العادة والمتعارف إذ أنّ المرأة كان يزوّجها الولي وإلّا يحرم على المؤمنة أن تزوّج نفسها من المشركين كما هو مبيّن في الفقه (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) حرّ (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) جماله وماله وعنوانه وغير ذلك مما هو معجب. وقد بيّن سبب ذلك بقوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إشارة الى الكفرة طرا. فهم يدعون الى الرّدة ويرجعون الناس إلى الجاهلية العمياء. (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) أي إلى فعل ما يوجب الجنّة. يعني الى دين الإسلام. والإيمان به جلّ وعلا وبرسوله (ص) وبما جاء به الرّسل جميعا من الشرائع الحقّة الإلهية (وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي بما يأمر به ويرخّص فيه من الأحكام والأعمال الصالحة التي توجب المغفرة التي تعقبها الجنّة أيضا (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) ويوضح حججه وبراهينه الدالّة على التوحيد وصدق الرسالة برمّتها ، أو أن المراد : يبيّن أوامره ونواهيه وما فيه هدى (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) على أمل أن يتنبّهوا ويتدبّروا ويتّعظوا.

* * *

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ

حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

٢٢٢ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ... المحيض : مصدر من حاضت ، تحيض ، نحو : جاءت مجيئا ، وبات مبيتا. وهو خروج دم الحيض في عادة المرأة الطبيعية (قُلْ هُوَ أَذىً) أي فيه ضرر يسير ، كما في قوله تعالى : أو به أذى من رأسه. والضمير : هو راجع للمحيض. وكون المحيض أذى يحتمل أن يكون بلحاظ حال المرأة ، لأنها يعرض عليها ضعف حال خروج الدم ويعتريها فتور ، وتلاقي منه مشقّة وضيقا كثيرا ، بخلاف ما لو احتبس الدم حين تكوّن الولد فإنها ترى قوية سمينة لا يعتريها الضعف إلّا قبيل الوضع. ويحتمل أيضا أن يكون بلحاظ كون الدم نتنا ونجسا ، فقد يتنفّر منه الرجل وتتأذّى المرأة ولو أذية روحيّة فإنها أشدّ من الأذية الجسمية. ووجه النزول يؤيّد هذا الرأي. وقد كان ديدن اليهود أن يتجنّبوا الحيّض ولا يؤاكلوهنّ ولا يساكنوهنّ ولا يعاشروهنّ بأية كيفية ، وكان الجاهليون كذلك أيضا ، ولذلك كانت المرأة عند الطرفين في أشد انزعاج. وقيل إن أبا الدحداح ، وبعض الرجال ، سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن

المحيض ، وعن حكم الرجال مع النساء في فترة الحيض ، فأجاب سبحانه ببعض آثاره ، وبيّن تكليف الرجال معهنّ وقال (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي اجتنبوا مجامعتهنّ من ناحية الوطء بالخصوص ، وأما النواحي الأخر فلا .. ومعنى هذا أن شريعة الإسلام جاءت متوسطة بين شريعة النصارى الذين يطأون النساء في المحيض مطلقا ، وبين اليهود الذين يتجنّبونهنّ تماما في عادتهنّ المخصوصة. فنحن الأمة الوسطى ذات الشريعة الوسطى المعتدلة ، لأن شريعتنا تقول بحرمة وطء الحائض ولكنها تبيح معاشرتها بجميع وجوهها ، كما أنها تجيز ملاعبتها ومداعبتها وكل ما هو دون الوطء ، وهي بعد دون تفريط هؤلاء وإفراط أولئك ، لأنها خيرة الشرائع وأكملها منذ عهد آدم عليه‌السلام فما دونه .. (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع فقط (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي ينقطع الدم على قراءة التخفيف. وهي قراءة أولى بالنظر وأدق في المعنى. بيان ذلك أن الله تعالى نهى عن مجامعة النساء في المحيض فترة جريان الدم وخروجه لأن المحيض مصدر ميمي ومعناه ما ذكرنا. فإذا كان النهي عن وطئهنّ في وقت مخصوص ، على وجه مخصوص لا مطلقا ، يكون هذان الشرطان قيدين داخلين في المحيض ، أي في حال خروج الدم فعلا. فإذا انقطع الدم نهائيا ، بحسب عادة المرأة الخاصة ، فلا مانع من مجامعتها حسب ظهور الآية الكريمة بل صريحها ، بدليل تنبيهه تعالى على هذا المعنى : فلا تقربوهنّ توطئة لقوله : حتى يطهرن ، أي إلى انقطاع الدم. ولو لا ذلك لما كنا نحتاج الى هذا النهي بعد قوله : فاعتزلوا ، لأن عدم القرب من لوازم الاعتزال ، إذ الاعتزال بحد ذاته هو التنحي الذي لا يتيح القرب أصلا .. فمن الواضح أن القراءة بالتخفيف هي المتعيّنة ، وأن الوطء بعد العلم بانقطاع الدم جائز ، لأن انقطاع الدم هو الطّهور المجوّز للوطء حتى قبل الغسل ، والله أعلم.

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) أي تنزّهن من الأدناس وأزلن الأقذار وأوساخ دم الحيض بعد انقطاع الدم. وقد جاء التطهّر هنا بمعنى الاغتسال ؛ أي غسل

البدن من الحدث والخبث ، ولا ينحصر في الحدث حتى ينافي ما ذكرناه ، ولا هناك قرينة تجعلنا نحمله على الحدث بالخصوص. ولعل ظهور التطهر في معناه الأوّلي يصير قرينة لحملة عليه ، أو لو حملناه على الاغتسال فإن شهرة قراءة التخفيف في : يطهرن ، تصرفه عن حمله على الاغتسال الحدثي. (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي من مكان أجاز سبحانه وطأهنّ فيه. وفي ما يأتي نبيّن إن شاء الله أن المأمور به للإتيان والقرب منهنّ ، هو أيّ مكان وموضع منهنّ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) من الذنوب كبيرها وصغيرها ، وكثيري التوبة من كل ذنب. ولعلّ في الآية الشريفة إشارة إلى أن من أتى زوجته في المحيض ثم تاب وأقلع وعزم ألّا يرجع إلى هذا العمل يتوب الله تعالى عليه ، بقرينة وقوع هذا الوعد هنا وتعقّبه لأحكام الحيض (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) العاملين للصالحات الموجبة لتطهيرهم من الذنوب والآثام. أو أننا نحملها بقرينة التعبّ أيضا ، فهو يحب المتنظّفين بالماء المغتسلين لتنقية أبدانهم وأثوابهم من الأوساخ والأخباث. فإنه تعالى يحب هؤلاء لأن النظافة من الإيمان. وعن الصادق عليه‌السلام : كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار الثلاث ، لأنهم كانوا يأكلون البسر فكانوا يبعرون بعرا. فأكل رجل من الأنصار الدباء فلان بطنه واستنجى بالماء ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه. فجاء الرجل وهو خائف ان يكون قد نزل فيه أمر يسوؤه في استنجائه بالماء. فقال : هل عملت في يومك هذا شيئا؟ .. فقال : يا رسول الله إني والله ما حملني على الاستنجاء بالماء ، إلّا أني أكلت طعاما فلان بطني ، فلم تغنني الحجارة شيئا فاستنجيت بالماء. فقال رسول الله : هنيئا لك ، فإن الله عزوجل قد أنزل فيك أية فأبشر : إن الله يحب التوّابين ويحبّ المتطهّرين .. فشأن النزول يؤيد المعنى الثاني ، ويؤيد ما قلناه في تفسير : تطهّرن آنفا.

٢٢٣ ـ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ... موضع الحرث هو الأرض التي تحرث للزرع ، والحرث هو شقّ الأرض بالأدوات الزراعية. وقد شبّه سبحانه النساء بها لما يلقى في أرحامهن من النّطفة التي تنتج الأولاد ، كما يلقى

البذر في الأرض. فهنّ كذلك ينتجن كما تنتج الأرض المحصولات. وقد جعلهنّ حرثا للرجال من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مكانه أي أنهنّ مكان الحرث ـ. وهذا من أحسن التشابيه ، والتعبير من أبلغ التعابير وأوجزها وأدقّها لأداء المعنى بأفضل مبنيّ من التعبير العربي والكناية اللطيفة ، ولذلك تابع الله تعالى إدراج هذا التشبيه وقال : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي باشروا ذلك بأيّة كيفية أردتم وأحببتم ، بحيث لا يكون بالمباشرة إيذاء ولا ضرر عليهن. إلّا أن ذلك يكون في موضع الحرث لا في موضع الفرث (الدّبر) لأن عمل وطئهنّ شرعه سبحانه للاستنتاج لا للإفراز. وفي العياشي والقمي عن الصادق عليه‌السلام في تفسيره هذه العبارة : أي متى شئتم ، في الفرج. وقد صرّح عليه‌السلام بما اخترناه ، ثم صرّح في غير هذه الرواية بقوله : (أَنَّى شِئْتُمْ) : من قدّامها ومن خلفها ، في القبل. وفيها أيضا قال عليه‌السلام موضحا بأنه يجوز إتيان المرأة من خلفها لكن الوطء لا بدّ أن يكون في القبل .. وفي التهذيب عن الرضا عليه آلاف التحيات والثناء ، ان اليهود كانوا يقولون : إذ أتى الرجل المرأة من خلفها خرج الولد أحول (١) ، فأنزل الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) إلخ ... من خلف أو قدّام ، خلافا لقول اليهود ، ولم يعن في أدبارهنّ. وهذه الرواية مؤيّدة لما قلناه أيضا .. نعم قيل بالجواز ، أي جواز مباشرة النساء في أدبارهنّ مع الكراهة. لكن لا يبعد أن يستفاد من قوله تعالى : واتّقوا الله ، إما عدم الجواز ، أو الجواز مع الكراهة الشديدة التالية للحرمة. وسنبيّن ذلك بعد تفسير الآيتين المتعقّبتين لقوله تعالى فأتوا حرثكم أنّى شئتم. الأولى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي ما يفيدكم في الدارين من الأعمال الصالحة ، ومنها التسمية عند الجماع حتى لا يكون الولد شرك الشيطان ، بقرينة وقوعها بعد الآيات المتعلقة بالرفث وكيفيته. ومن هذه القرينة نستفيد أن منها أيضا طلب الولد الصالح على الوطء حتى تكون

__________________

(١) يقصد اليهود أنه إذا أتاها من خلف ، في قبلها لا في الدّبر

المواقعة وفق ما شرعت له على ما يستفاد من الآيات والروايات. والثانية : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي تجنّبوا معاصيه ، وأن تكون مجامعتكم لمحض الشهوة والالتذاذ واللعب مع النساء بما هو مهيّج للشهوة ومقدّمة لها. وفي الرواية عن الصادق عليه‌السلام عبّر عن المرأة بلعبة الرجل مرة ، وبقوله : هي لعبتك مرة ثانية.

ونرجع الى مقصودنا فنقول : إن المستفاد من قوله : واتّقوا الله إما عدم جواز الوطء في الأدبار ، أو الجواز مع الكراهة الشديدة ، أي أن الاحتياط بتركه واجب ، لأن تعقّبها لمسائل المجامعة والفرث في حال دون حال ، وكيفيّة دون أخرى يدلّنا على أن المراد هنا من التقوى هو شيء يناسب المقام. والذي يتبادر الى الذهن هو أنّ من التقوى هنا مجانبة الوطء في الأدبار ، كما أن من الواجب مجانبة مجامعتهن حال الحيض الذي هو أيضا من مصاديق التقوى.

أما الوجه في التجنّب عن مباشرتهن في الأدبار ، فهو أن هذه الكيفية من العمل هي شهويّة محضا ، ولا منشأ لها سوى الشهوة واللذة ومتابعة هوى النفس بدون أن تكون فيها شائبة أمر النهي ، وهي كيفية مذمومة مبغوضة. ومعلوم ان مسألة المزاوجة والتناكح للتناسل ، بمقتضى روايات الباب لا لغيره ، نعم يلازمه هيجان الشهوة والالتذاذ القهريّتين اللّتين هما غير مذمومتين كمقدمة للوطء الشرعي. وأما الإدخال في غير موضع التناسل فخارج عن دائرة تشريع النكاح ، بل هو عمل يستقبحه العقلاء لأنه يشبه وطء الحيوان بل هو أسوأ وأقبح ، لأن الحيوان يضع الشيء في محلّه بالغريزة ولو كان يأتي أنثاه من الخلف ، إذ لا يتمكن من وطئها من غيره ، أما الإنسان فيحاول الوطء في موضع الفرث على خلاف الخلقة. فلا بدّ من تجنّب هذا الأمر المذموم عند العقلاء والمبغوض عند النساء لأنه يوجب أذيّة اكثرهنّ. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في مشهد يوم القيامة ، وسترون جزاء أعمالكم ، فإن كانت طبق ما شرعت له جزيتم بالخير ، وإن كانت على خلاف ما شرعت جزيتم بحسب مخالفتكم. وقد قال صلّى

الله عليه وآله : تناكحوا تناسلوا .. إلخ ... أي تناكحوا للتناسل ، فإن الحكمة التي اقتضت شرع التناكح رمت الى التناسل. وأما القول بأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ، فهو كلام سطحي يفيد في مقام الجدل والمخاصمة ، كقول لم يرد في أثر في الكتاب ولا في السنّة ، ولو اتّبعناه لصلّينا الصبح ثلاث ركعات مع أنها ركعتان ، ثم إذا قيل لماذا تصلّونها ثلاثا وهي ركعتان على ما أمر به ، لقلنا : الأمر بالركعتين لا ينفي الزائد ، وهي مغالطة واضحة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين آمنوا بي حقّ الإيمان وصدّقوك فيما جئتهم به حقّ التصديق ، بقرينة تذييلها لما قبلها من الآيات الراجعة إلى أحوال النساء وأحكامهنّ في تلك الأحوال ، والمبيّنة لتكاليف الرجال بالإضافة إليهنّ في تلك الأحوال. ونحتمل أن الله سبحانه أشار بهذه البشارة الى الذين اتّبعوا مرضاته وانتهوا عمّا نهاهم عنه من عدم قرب النساء في عادتهنّ ، وإتيانهنّ في انقطاع الدم ، وفي موضع الحرث والنسل ، لا في موضع آخر مما لم يشرع له التناكح والزواج.

وأما القول بكون الأمر بإتيان الحرث عامّا ، يشمل القبل والدّبر ، فمردود بأن من له الباع الطويلة في فهم لغة القرآن الكريم ، والمعرفة الواسعة باصطلاح العرب الذين نزل القرآن على لسانهم ووفق قواعدهم وقوانينهم في مخاطباتهم ، يعرف أن هناك فرقا بين قول القائل : أكرم زيدا الضارب عمرا ، وأكرم زيدا. فإن الأمر في الثاني عامّ من حيث أوصاف زيد وجهاته ، بخلاف الأمر الأول المقيّد بوصف الضرب لزيد ، لأن تعليق الحكم على المصدر أو على وصف دالّ مشعر بأن نفس المصدر في الأول ، ومنشأ اشتقاقه في الثاني علة للحكم ، كما في قوله سبحانه : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟. الذي جوابه : كرمك يا كريم. فإذا كان قانون مخاطبات العرب هكذا ، وكان قرآننا الكريم وفق قوانينهم كما ذكرنا ، تعرف أن الأمر فيما نحن فيه مقيّد بعلة هي كون النساء حرثا ، وأنه قال سبحانه : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، معلّقا حكمه على عنوان حرثيّتهن. فإذا انتفت العلة قهرا ينتفي المعلول. وإلّا فتكون التعليقات على الأوصاف والمصادر

مع الاستناد إلى الذوات في الكتاب الكريم هذرا ، والكتاب منزّه عن النقائص طرّا وكلّ جهاته مصونة عن النّقض والإبرام ، وإذا وجد شيء من ذلك فيه ، فإنه يحمل على قصور أفهامنا عن إدراك حقيقته .. وهكذا يكون قد تحصّل ما ذكرناه من أول أخذنا في مسألة الوطء في الدّبر إلى ما ذكرناه أخيرا مما استفدناه من نفس الآية الشريفة المباركة ، أن الدليل على الجواز عليل ، والمختار هو عدم الجواز ، كما أن الوطء قبل الغسل والغسل جائز بلا احتياج الى الوضوء والتيمّم ، وإن كان ذلك بعد الغسل والغسل أحسن لتحصيل النظافة التي هي من الإيمان وحسنها أمر طبيعي ، والله أعلم بأحكامه وبما في كتابه.

٢٢٤ ـ (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ... كان دأب العرب في الجاهلية وديدنهم في الموضوعات العامة وغيرها الحلف بما يعتقدون به ويقدّسونه ويعظّمونه كاللات والعزّى وغيرهما. وقد صار المسلمون يكثرون من قول : لا والله ، وبلى والله ، فنهاهم الله عن ذلك وأدّبهم لأنهم ابتذلوا اسم الله تعالى بكثرة حلفهم وهتكوا جلاله ، فنهوا عن جعل اسمه سبحانه معرضا للإيمان. ويؤيّده قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) في مقام ذمّ كثير الحلف بالله ، فإن الحلّاف مجترئ على الله ومستخفّ بعظمته ، ولا يكون برّا ولا متّقيا ولا متّبعا لما يصلح أمور البشر مما نحن مكلّفون به ، لأنه عزّ اسمه قال : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي لأن تبرّوا ، وقد حذفت اللام للتخفيف. والجملة في مورد العلّة للنّفي ، وهي متعلّقة ب : ولا تجعلوا. واللام في : لأيمانكم متعلّق بها أيضا أو ب : عرضة. ويستفاد من اللام أن الحلف على المرجوح لا ينعقد كما تدل عليه الأخبار (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع أقوالكم الجهريّة والخفيّة. ولعل الآية تدلّ على أنكم لو حلفتم في الخفاء على كل موضوع بعد النّهي عن ذلك. فإنه تعالى يسمعه ، ويعلم ما في ضمائركم وسرائركم ، لأنه يعلم ما تخفي الصدور ولا يخفى عليه شيء.

٢٢٥ ـ (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ... في المجمع عنهما عليهما

السلام : اللّغو في الأيمان لا عقد معه بل يجري على عادة اللسان لقول العرب : لا والله ، وبلى والله ، لمجرّد التأكيد. وقيل : اللّغو فيها كالملفوظ بسبق اللسان به أو للجهل بمعناه ، كالمثال الذي ورد في الرواية الشريفة آنفا ، أي لا يؤاخذكم الله بما لا قصد معه أولا وفاء له ، فهو لغو أي لا فائدة فيه ولا كفّارة (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بما قصدت قلوبكم وانعقدت عليه ، فإن عقد القلب هو كسبه ، وكسب كلّ شيء بحسبه (وَاللهُ غَفُورٌ) للذنوب. وأحتمل أن يكون معناه هنا أنه لو حلف شخص ثم لم يف ، أو حلف كذبا ، ثم تاب فالله سبحانه كثير الغفران يعفو ويصفح عن التائب المنيب الذي ينبغي أن لا ييأس من رحمته ، فإنه لا ييأس منها إلّا من لا يعرفه ولا يعتقد أنه غفّار منّاح ، فهو (حَلِيمٌ) يمهل العقوبة على الذنب ولا يجعل بها ، وهذه من صفات الأعاظم والأكابر الذين لا يخافون من شيء ، فكيف به تعالى وهو لا يخاف الفوت.

* * *

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

٢٢٦ ـ (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ... لمّا بيّن سبحانه أحوال النساء وما يحلّ منهنّ وما لا يحلّ عقّب بذكر الإيلاء ، وهو اليمين الذي تحرم الزوجة به. فابتدأ بذكر الأيمان وما يتعلق بها من الآداب والنصائح وما ينبغي أن يكون من شؤون المسلمين المؤمنين المتّقين ، ثم ذكر أقسام اليمين وبيّن أقسامها مقدّمة لتأسيس حكم الإيلاء.

والإيلاء مصدر من باب الإفعال. ويقال : ألى يؤلي إيلاء ، بمعنى الحلف ، وذلك بأن يقسم يمينا على ترك وطء زوجته إيذاء لها وإضرارا ، أكثر من أربعة أشهر. وتعدية الإيلاء ب : على. ولكن لمّا ضمّن هذا اليمين معنى البعد ، عدّى ب : من. أي للّذين يحلفون على عدم مجامعة نسائهم أزيد من أربعة أشهر ضرارا عليهنّ ، فلهم الإمهال إلى أربعة أشهر ، ثم إذا رفعت المرأة بعد ذلك أمرها الى الحاكم الجامع لشرائط الحكومة ، فإنه يأمر بإحضاره ليحكم عليه إمّا بالرجوع إليها مع كفّارة الحنث بيمينه ، وإما بطلاقها (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا إليهن وجامعوهنّ مع القدرة على الجماع ، أو راجعوا بالقول مع العجز عن الجماع ، وينبغي أن يشهد على فيئه حينئذ ، وتجب عليه كفّارة الحنث ، قادرا كان على الجماع أو عاجزا عنه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يتبعهم بعقوبة على عملهم مع استحقاقهم لأن الإيذاء والإضرار موجبان للعقوبة ، ولكنه تعالى يعطف برحمته ويعود بمغفرته.

٢٢٧ ـ (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ... أي أرادوا الطلاق إرادة مؤكدة جازمة. بحيث عقدوا النيّة في قلوبهم عليه (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي لتلفّظه ، فلا بدّ من التلفّظ حين إجراء صيغة الطلاق مع شرائطه الأخرى ، وفي تذييله بقوله تعالى : سميع ، رمز إلى اعتبار الصيغة وعدم قصد الطلاق عزيمة. فإنه إذا لم يتلفّظ بالطّلاق على الوجه المشروع فإن الزوجة لا تبين منه عندنا ، وإذا لم يوقع الطلاق ولم يفعل الرجوع فإن الحاكم يحبسه أبدا الى ان يفعل أحد الأمرين. وقيل إنه إذا امتنع من

الأمرين فللحاكم أن يطلّقها لأنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وهذا القول سديد عند المحقّقين وأهل النظر. والله (عَلِيمٌ) بما في الضمائر من أن الطلاق عن عزم وجزم ، أو انه يراد به الأذى للمرأة الى أن تحصل الإفاءة الى أمر الله. وهذا الطلاق لا يجوز بل يعاقب عليه لتضمّنه الأذى.

وفي القمي عن الصادق عليه‌السلام : الإيلاء أن يحلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها. فإن صبرت عليه فلها أن تصبر ، وإن رفعته إلى الإمام أنظره أربعة أشهر ، ثم يقول له بعد ذلك : إمّا أن ترجع الى المناكحة ، وإمّا أن تطلّق. فإن أبى حبسه أبدا.

فإن قيل : كيف قال : وان عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ، وعزمهم الطلاق ممّا يعلم ، لا ممّا يسمع ... فالجواب أن العزم هو حديث النّفس. وحديث النّفس ممّا لا يسمعه غيره تعالى ، فهو (السَّمِيعُ) شديد السّمع ، الذي يسمع همزات الشيطان ووسوسته وإن كان الشيطان ليس له صوت مسموع في حال لأنه خلا عن الصوت المسموع. هذا مضافا الى أن العزم على الطلاق مساوق لوقوعه وإجراء صيغته.

٢٢٨ ـ (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) ... أي المخلّيات عن أحبال الرجال بالطّلاق ، المدخول بهنّ من ذوات الأقراء ، لأن حكم غيرهنّ خلاف ذلك على ما دلّت الأخبار. والآية الشريفة دلّت على حكمهنّ من حيث العدّة لا على حكم غيرهن ، فإن حكم غيرهن ذكر في موارد اخرى من الآيات والروايات. هؤلاء المطلّقات المدخول بهنّ من ذوات الأقراء (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي ينتظرن ويتوقّفن عن التزوّج (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). وقوله تعالى بعث لهنّ على الصّبر عن التزويج. لقمع ميولهنّ وهوى نفوسهنّ إلى الرجال. ومعنى الفعل : يتربّصن ، هنا للأمر. والإتيان بالخبر للتأكيد. والقروء : جمع كثرة ، ولكنه في المقام للقلّة وصيغتها الأقراء ، وقد أوثرت الكثرة لكونها أكثر استعمالا .. وعن الصادق عليه‌السلام : عدّة التي لم تحض ، والمستحاضة التي لم تحض ، والمستحاضة التي

لم تطهر ، ثلاثة أشهر. وعدّة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء. والقرء جمع الدم بين الحيضتين (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) أي لا يجوز ستر ما خلق الله في أرحامهنّ من الولد ، أو من خروج دم الحيض ، أو من حالة الطّهر ، فينبغي عدم كتمان ذلك حتى يعرف مضيّ عدّتهنّ بالأطهار الثلاثة كما يعرف بالحيض أيضا. لأن المدار على جواز رجوع الزوج بزوجته المطلّقة في العدّة هو الأطهار الثلاثة التي أولها الطهر الذي وقع الطلاق فيه. وهذا هو مذهبنا ، وعلى عقيدة الشافعي ، هكذا. وقال القمي لا يحلّ للمرأة أن تكتم حملها أو حيضها أو طهرها ، وقد فوّض الله الى النساء ثلاثة أشياء : الطّهر ، والحيض ، والحبل. ثم نبّه الى أن هذا يفيد بأن قولهنّ مسموع فيها بلا بيّنة. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يصدّقن بيقين ، فإن الإيمان الواقعي مانع عن الكتمان والكذب ، بل وعن كل عمل غير مشروع ، فنعمة الإيمان أعظم نعمة على الإنسان لأنه يصونه عن مهالك الدنيا والآخرة. ونقل عن الطبري أنه قبل الإسلام كان يتّفق أن يطلّق النسوان في حال الحبل ، وكنّ يكتمن ما في أرحامهنّ من الولد ، فتتزوج المرأة من رجل آخر وتنسب الولد إليه بغضا بالرجل الأول وعنادا ، فنزلت الآية الشريفة : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ ،) إلخ ... وأكّدها بقوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ ...) أي أن اللواتي يكتمن ما في أرحامهنّ لسن من المؤمنات. فالعامل الوحيد للصيانة عن المعاصي كلّها هو الإيمان الحقيقيّ الذي يتعقّبه العمل الصالح ، ولذا علّق هو تعالى إظهار ما في أرحامهن على الإيمان به والتصدق باليوم الآخر والحساب. ومن فوائد حرمة الكتم أن الولد الذي يكون في الرّحم يحفظ نسبه وتحفظ عواطف أبويه نحوه إذا لم تكتم الزوجة ذلك ، أما إذا كتمته فينتفي هذان الحظّان ، فإن الزوج الثاني ينكشف له أن الولد ليس منه ولا له ، فلا يعطف عليه ولا يحبّه ، كما أن أمّه تتحيّر في تربيته ، وقد تدفعها عاطفة كره أبيه الى إهماله ، وقد تثير عندها إحساسا بكرهه فينشأ محروما من عاطفة الأبوين ومن لذّة حنوّ الأمّ وحدب الأب وعنايتهما معا. كما أن من فوائد

العدّة وثبوت حقّ رجوع الزوج الى الزوجة في ضمنها ، وأولويته من غيره الى زمان معيّن ، أنه لا يضيع حقّ كلّ واحد منهما. ذلك أن الأمد إذا كان أزيد من ثلاثة قروء كان موجبا لتضييع حقّ الزوجة ، وإذا كان أقلّ فإنه لا يعلم أولا كونها ذات ولد من الزوج المطلّق أم لا ، لا سيّما إذا كانت المدة قليلة ، وثانيا يمكن للروابط والإحساسات أن تتجدّد بين الزوج والزوجة في هذه الفترة ، وربما أدّى ذلك إلى ألفة وحسن عشرة. ولهذا شرع الله تعالى العدّة وجعلها في مدة جامعة للمصالح ورادعة عن المفاسد ، بل جميع ما قرّر في باب الزواج والطلاق كان طبق المصالح والحكم .. (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أي في أيام التربّص وفترة العدّة (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يعني إذا اتّفقا على حسن الزوجية فإنهما يعودان إلى سيرة الأزواج الصالحين .. وهذه الشريفة ردّ على جماعة كان دأبهم وديدنهم الإضرار والأذى بزوجاتهم ، إذ كانوا يطلّقون نساءهم فإذا كانت العدّة في شرف الانهدام يراجعونهنّ ، وبهذا لا يخلّينهنّ حتى يتزوّجن بعولة غيرهم ، ولا يصاحبونهنّ بمعروف ، فنزلت الآية الشريفة نهيا لهم عمّا يفعلون من الأذى بزوجاتهم والإضرار بهنّ بتكرار الطلاق وتكرار الرجوع. فيستفاد من الآية أن حق الرجوع في صورة كان المطلّق يريد الإصلاح برجوعه ، أي أن يعيد زوجته كما كانت. أما إذا أراد الأذى والضرار كما قلنا فإنه لا يجوز له الرجوع إذ لو رجع بهذا القصد فلا يترتب على رجوعه أثر الزواج ، وقد لا تطيعه المرأة حتى تنقضي المدة ، فتختار زوجا غيره وترغم أنفه إذا عرفت لعبه ولهوه بأحكام الشرع وقوانينه المحكمة المتقنة. هذا بناء على قاعدة : لا ضرر. ولعل مقتضى العدل وقاعدة اللطف أيضا تقتضيان ما ذكر. لكن ادّعي إجماع الأمّة على أن مع إرادة الإضرار إذا رجع تثبت أحكام الرجعة. ولذا اشتهر بينهم القول بأن شرط الإصلاح في إباحة الرجعة لا في ثبوت أحكامها. هذا ولكنّ الذي يظن ظنّا قويا أن معقد الإجماع والقدر المتيقّن منه غير مورد الرواية ونزول الآية الذي أشرنا إليه من أنّ دأبهم كان تكرار الطلاق والرجوع ، بحيث كانوا يضيّعون عمر النسوان وحقوقهنّ في أكثر

عمرهنّ ، وكان عملهم سفها وجهلا محضا يشبه اللهو واللّعب بالأحكام إن لم نقل هو عين اللهو واللعب. ومثل هذا العمل لا يترتّب عليه أثر عند العقلاء ، فكيف بالشارع الأقدس الذي يمضي ويقرّر في مرحلة إثبات الحكم على أعمال السفهة الجهلة اللّاهية بالأحكام المؤذية بإماء الله الأسراء في أيدي الرجال. فلا بدّ من حمل معقد الإجماع على صورة واحدة وقع الطلاق والرجوع فيها ولو للإضرار لحكمة ومصلحة عقلائية ، فلا مانع لإمضاء الشارع ، فوقع مورد الإجماع ولو كان الطلاق والرجوع للإضرار بها ، مع كون هذا الإجماع منقولا وفيه ما فيه. هذا مع أن نفس الآية المباركة بمفهومها الشرطي الذي هو حجة كالمنطوق يدل على ما ذكرناه ، وذلك لأنه سبحانه علّق الرجوع والردّ على قصد الإصلاح. فإذا قصد الإفساد برجوعه فلا يجوز له الرجوع ، إذ لو انتفى الشرط ينتفي المشروط ، وهذا المفهوم كالمنطوق صريح في المدّعى ـ والتشبيه في ناحية الصراحة ـ والله أعلم بما أراد بكلامه المتعالي. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) أي أنّ للنساء على رجالهنّ حقوقا كما هو مبيّن ومفصّل في الفقه ، ولا بد للرجال من الإتيان بحقوقهن كما أن لهم عليهن حقوقا لا بد من أدائها إليهم. وهذا في الوجوب والاستحقاق لا في الجنس. (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالطريقة المشروعة وبالوجه الذي هو من عادات العقلاء وعرفهم في معايشهم ومعارفهم في أمور الدنيا والآخرة ، كلّ واحد من الرجال والنساء بحسب حالهم وكما هو شأنهم في أنفسهم ومع الآخرين في عالم التناكح والتناسل ، فلا يكلفونهنّ بما ليس لهم ، ولا النساء يكلّفنهم بما ليس لهن. والحاصل أن كلمة : بالمعروف ، عجيبة جامعة لفوائد جّمة مما يرجع لحسن المعاشرة وترك المضارّة والتساوي في الحقوق بين الزّوج والزوجة وفق ما شرع لهما بلا إفراط ولا تفريط ولا إجحاف ولا تبذير (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي رفعة وعلوّ وتفوّق من حيث أفكارهم الراقية وعقلهم الكامل وتدبيرهم الحصيف وأنظارهم الصائبة. ولذا جعل الله تعالى نفقات النساء من جميع نواحيها على الرجال ، وجعل اختياراتهنّ بأيديهم ،

وطلاقهنّ بنظرهم. ولو كان أمر الطلاق بيدهنّ لما وجد في جامعة البشر رجل يعتبر نفسه صاحب امرأة دائمة ، ولاختلّ نظام الأنساب فوق ذلك ، بل نظام العالم البشري برمّته!. ولذا نرى أن الملل التي جعلت أمر الانفصال بيد النّسوة ، وجعلت للنساء على الرجال درجة كما في أوروبا وأميركا وغيرهما قد صار حال الرجال الغيورين مع نسائهم يرثى لها ، فلا معاش هنيء ، ولا معاد مؤمّن ولا راحة بال إلا بالموت والانتحار إذا وقعت عين الزوجة على غير زوجها!. أعاذنا الله من تلك القوانين الجائرة وتلك البلاد الضالّة. ويا ويلتا ويا حسرتا على المسلمين حيث لم يقدّروا عظمة أحكام الإسلام ، ولا يعرفون قوانين الملل الضالّة المشؤومة التي سلبت شرف النساء والرجال على السواء ، ومزّقت الأسرة وهدمت كيان العائلة وأضاعت الأصل وهتكت الحرث والنسل!.

والحاصل أن هذا الذي ذكر في تفسير الدرجة كان إجمالا من تفصيل ، وقليلا من كثير. وقد ذكر في فضيلة الرجال على النساء جهات أخر ، ومن أرادها فليراجع كتب التفسير ، وخصوصا في الآيات التي عرضت لحقوق الرجال عليهن. ونحن نورد رواية واحدة في المقام عن كتاب من لا يحضره الفقيه ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت : يا رسول الله : ما حقّ الزوج على المرأة؟ .. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لها : أن تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق بشيء من بيتها إلّا بإذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلا بإذنه ، ولا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب أي على ظهر بعير راكبة ـ ولا تخرج من بيته إلّا بإذنه ، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء ، وملائكة الأرض ، وملائكة الغضب ، وملائكة الرحمة حتى ترجع الى بيتها!. فقالت : يا رسول الله : فمالي من الحق عليه مثل ماله من الحق عليّ؟ .. قال : لا. ولا من كلّ مائة واحدة. فقالت : والذي بعثك بالحق لا أملّك رقبتي رجلا أبدا!. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كنت أمرت أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة ان تسجد

لزوجها .. (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب على أمره ، وفاعل لما تقتضيه الحكمة البالغة.

٢٢٩ ـ (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ... أي الطلاق الذي له قابلية الرجوع اثنان. في كل واحد منهما لا بد من الرجعة والدخول. لكن الرجوع بعد مضيّ العدّة يكون بعقد جديد. وإذا قصد في المرة الثالثة أن يرجع فلا بدّ له من المحلّل كما سيأتي بيانه. فالمراد بالمرّتين طلاقان حسب السنّة ، أي قابلان للرجوع بلا احتياج إلى المحلّل. وفي المجمع عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انه سئل : أين الثالثة؟ .. فقال : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي بعد قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بالرجوع وحسن السلوك. والإمساك هو القبض والضّبط. والتسريح هو الإرسال والإطلاق ، أي تخلية الزوجة عن قيد الزواج وإبانتها عن زوجها بحيث لا يبقى له عليها من سلطان بعدها لأنها طالق ومرسلة بالطلقة الثالثة وعدم الرجوع في العدّة حتى تبين عنه .. ولعل المراد بكلمة : بإحسان : هو إعطاؤهنّ مهورهنّ بلا نقيصة ، وعدم إيذائهنّ بالإبطاء والتسامح في إيصال حقوقهنّ إليهن. ولذا قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) من المهر والهبات المملّكة لهن ، بل وغير المملوكة وبعناوين أخر مما هو المتعارف بين الزوج والزوجة في حال الائتلاف. فلا يحل أخذ شيء منها على ما هو مقتضى إطلاق الآية الشريفة (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وهذا عدول من الخطاب إلى الغيبة ، ومنها إليه ، لاقتضاء سياق الآية وعبائرها من حيث بلاغتها وفصاحتها وجهات أخرى تعرف بالتأمل. وقد جاء العدول بعد خطاب الأزواج في : لكم ، وتأخذوا منقلبا الى الغيبة لأن الكلام أصبح مع الحكّام وهذا لا يخفى على ذوي الأفهام. وأما تفويض أمر الأخذ والإعطاء إلى الحكّام فبلحاظ أن الزوج والزوجة يقعان بحكمهم وإجازتهم. فبعد أن بيّن سبحانه عدد وقوعات الطلاق ، وما يجوز فيه الرجعة ، وما لا يجوز ، وبيّن أنه لا يجوز أن يؤخذ منهنّ شيء مما أعطي لهنّ حال الإبانة والفرقة ، لا عوضا ولا بعنوان آخر وهي كارهة ، استثنى

سبحانه الخلع فقال : إلّا أن يخافا ألّا يقيما حدود الله ، يعني وظائفهما المقرّرة لكلّ منهما بسبب ما بينهما من التباغض والمعاندة بحيث لا يمكن حصول التآلف والتحابّ بينهما. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا قالت المرأة : لا أغتسل لك من جنابة ، ولا أبرّ لك قسما ، ولأوطئنّ فراشك ، ولأدخلنّ عليك بغير إذنك ، إذا قالت له هذا حلّ له أن يخلعها ، وحلّ له ما أخذ منها. وظاهر الآية ، أي الاستثناء فيما يعطي. وإذا أمعنا النظر فيه نرى أن الله سبحانه أراد أن يبيّن حكم المباداة فإن فيها النشوز من الطرفين كما لا يخفى. ولكنّ الرواية في مورد الخلع اقتصر فيها الإمام على بيان نشوز الزوجة فقط. إلّا أن يحمل خوف الزوج في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا ،) على عصيان المرأة بارتكاب محظور مما أوجبه الله عليها ، أو إرادة ضرر على الزوج ، أو ارتكاب فعل حرام مما عدّ في الرواية المتقدّمة. وبالجملة فإنه يخاف أن تعصي الله إذا لم يخلّعها. وهذا هو السبب حتى ولو كان لا يبغضها أو يحبّها ، فالنشوز من ناحية الزوجة فقط ، ولا تنافي بين الآية والرواية على كل حال ، وكلتاهما في بيان الخلع. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي الوظائف المقرّرة في الزوجية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي لا بأس بأن يأخذ الزوج الفدية في عوض طلاقه إيّاها. وهذا استثناء من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ..) ولا بأس بإعطاء الزوجة فدية مقابل تطليقها. وظاهر الآية اقتضى أن يخصّ الزوج بالذكر ، فإن قوله : لا جناح يفيد الإباحة للزوج في أخذ ما افتدت به الزوجة. واستناده إليهما لعلّه لاقترانهما كمثل قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) ، وقوله : نسيا حوتهما مع أن الحوت لموسى عليه‌السلام. ومن هذا القبيل كثير في الكتاب والسنّة ، ووجه جوازه للاتّساع. (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة الى ما حدّد وشرّع من الأحكام والتكاليف الإلهية (فَلا تَعْتَدُوها) أي لا تخالفوها ولا تتجاوزوها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) هذه الآية مبالغة في التخويف بعد النهي. ومن يتعدّ حدوده سبحانه يكون ظالما لنفسه أو لزوجته.

٢٣٠ ـ (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) ... والمراد بهذا الطلاق هو الذي يقع بعد الطلاقين الاثنين. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : يعني الطّلقة الثالثة. ولذا لا تحل الزوجة بعد هذه الطّلقة الثالثة أي المطلّقة ثلاثا (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي بعد أن ينكحها زوج آخر غير زوجها الذي طلّقها (فَإِنْ طَلَّقَها) أي الزوج الجديد ، فإنه إن طلّقها بعد دخوله فيها ومجامعتها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) أي لها ولزوجها السابق أن يرجع كل واحد منهما الى الآخر بزواج جديد (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إذا اعتقدا أنهما قد يلتزمان بما شرعه الشارع لهما من لوازم الزوجية. وقد فسّر الظنّ بالعلم ولا وجه لهذا التفسير إذ لا يعلم العواقب إلّا الله سبحانه وتعالى (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي ما ذكر من الأحكام ، أو أنها إشارة إلى الأمور التي بيّنها في النكاح والطلاق والرّجعة. والمراد بحدود الله هو طاعاته وشرائعه التي ذكرت قبل هذه الجملة ، لا مطلق الأحكام وإن كانت كلها حدود الله عزوجل (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعني يفصّلها ويوضحها للعلماء. وقد خصّهم بالذكر لأنهم أهل لأن ينتفعوا ببيان الآيات ، وغيرهم لا يعتدّ به لانتفاء أهليته. أو أنهم خصّوا بالذكر تشريفا لهم كما يذكر جبرائيل وميكائيل من بين الملائكة في بعض المقامات.

٢٣١ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ... هنا بيّن سبحانه حكم ما بعد الطلاق وخاطب الأزواج بقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) يعني قاربن انقضاء عدّتهنّ فإنه بعد انقضائها ليس للأزواج حكم فإذا بلغن هذه الفترة (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي ردّوهنّ للزوجية (بِمَعْرُوفٍ) مما يتعارف عليه الناس من القيام بما يجب لهنّ من النفقة المناسبة لشأنهنّ اللائق بحالهن وبأمثالهنّ ، ومن حسن العشرة معهنّ ومن غير طلب الإضرار عليهنّ بإرجاعهنّ وإمساكهنّ (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) خلّوا سبيلهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ فيكنّ أملك لأنفسهنّ ، بلا ضرار عليهنّ بإمساك حقوقهنّ ومهورهنّ ، أو بالإبطاء في أدائها من أجل إيذائهن ، أو بغير ذلك مما هو مذموم وغير مشروع (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) أي لا تراجعوهنّ

للإضرار بهنّ وبلا رغبة بهنّ ولا حاجة إليهنّ (لِتَعْتَدُوا) أي لتجوروا وتتجاوزوا ما هو المشروع في حقهنّ من الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان. وأما الإمساك الضّراريّ فهو من الاعتداء والظلم لهنّ ، لأنه يقتضي تطويل المدة عليهن في حبال الرجال ، أو يلجئهنّ الى الافتداء والبذل للخلاص. وفي الفقيه عن الصادق عليه‌السلام أنه قال في هذه الآية : الرجل يطلّق حتى إذا كادت المرأة أن يخلو أجلها راجعها ، ثم طلّقها ، يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عن ذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي الإمساك الضّراري والاعتداء عليهنّ (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأن الاعتداء على المسلم موجب للعقاب ، وتعريض النفس للعقاب ظلم لها. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي اجتهدوا في رعاية آياته والعمل بها ، ولا تتهاونوا فيها. ويقال لمن لم يجدّ في أمر إنما أنت متهاون بالأمر وهازئ به ساخر منه. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي نعمة الأزواج ونعمة الأموال التي تصلون بها الى الزوجات. الى جانب الصحة والعافية ، والهدى للإسلام والإقرار بالرسول المكرّم (ص) بقرينة قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) أي القرآن الذي دلّ على الحلال والحرام والعلوم الجمّة. ولعل المراد بالحكمة : السنّة ، أي الشرائع المبيّنة لكم (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بما أنزل لتتّعظوا (وَاتَّقُوا اللهَ) وإياكم أن لا تتّعظوا ولا تتأثروا بمواعظ الله ونصائحه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عالم عارف بالعمل بمواعظ القرآن وحكمه ، وبعدم العمل ، وبجميع ما يصدر منكم قولا وعملا حتى ما في ضمائركم. وفي الجملة تهديد صريح وتأكيد واضح.

٢٣٢ ـ (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ... المراد بالبلوغ هاهنا هو غير البلوغ في الآية السابقة ، لأن البلوغ في السابقة بلوغ مقاربة كما قلنا ، أما هنا فهو بمعنى الانقضاء والانتهاء. أي فإذا انتهت عدّتهنّ وتمّت (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي لا تمنعوهنّ من التزوّج بغيركم. وقيل إن الخطاب عام ، أي ليس لأحد ذلك. أو أنه موجّه للأزواج يعني أن تطلّقوهنّ سرا ولا

تظهروا طلاقهنّ كي لا يتزوّجن بغيركم ، أو جهرا فلا تمنعوا نساءكم المطلّقات عن التزوّج بعد انقضاء العدّة ظلما وحميّة. وقد نزلت هذه الآية المباركة نهيا للرجال عن ذلك بل الظاهر للأزواج خاصة بقرينة : وإذا طلّقتم ، في صدر الآية ، لأن الطلاق بأيديهم ، وبقرينة أخرى هي الآية السابقة التي خوطب بها الأزواج ، ومحطّ الكلام في سائر آيات الطلاق الآنفة الذكر واحد ، ولا فرق دالّا في البلوغين. والتوالي في الآيتين متفرعة على الموضوعين من البلوغين ، والفروق الأخر التي في ذيل الآيتين ليست بفروق ذات بال كما لا يخفى على المتأمل. والحاصل أنه ليس للأزواج على زوجاتهم سلطة بعد الطلاق وانقضاء العدّة ، وليس لهم حقّ في منعهن أن يفعلن بأنفسهنّ ما شئن ، بل الخيار لهنّ في اختيار أيّ زوج أردنه (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني إذا حصل التراضي بين المطلّقات ومن أراد التزوّج بهنّ بالمعروف : أي بأداء الحقوق والنفقات وحسن العشرة. (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والإشارة بذلك ، هي للأحكام المذكورة آنفا. واختصاص الوعظ بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالوعظ. (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي أن العمل بما ذكر خير لكم وأنفع وأسلم من دنس الذنوب والعصيان (وَاللهُ يَعْلَمُ) يعرف ما فيه الصلاح (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ولا تعرفون وجوه الحكمة لقصور علمكم وفهمكم.

* * *

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا

فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))

٢٣٣ ـ (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) ... بعد أن بيّن سبحانه حكم الطلاق أردفه بحكم الصّغار وما يخصّهم من الرضاع والتربية ، وما يجب من الكسوة والنفقة .. وهل المراد ب : الوالدات ، المطلّقات كما قيل إذ الكلام فيهنّ ، أم أن الكلام يعمّ غيرهنّ؟ .. أما التخصص فبعيد لأنه خال عن الدليل. وأما تعقيب حكم الصّغار لأحكام الطلاق فلا يدل على الاختصاص بواحدة من الدّلالات لأن الوالدات أعمّ من المطلّقات. هذا وقوله تعالى : يرضعن ، قيل فيه إنه خبر. ولكن المراد به الأمر والمبالغة ، أي : ليرضعن. وهو أمر للنّدب. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : لا تجبر الحرّة على إرضاع الولد ، وتجبر أمّ الولد يعني : الأمة فلعلّ معنى الآية أن الإرضاع حقّ الأمّهات فلا يمنعن منه إن أردنه. وفي الكافي والفقيه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما من لبن رضع منه الصبيّ أعظم بركة عليه من لبن أمّه. وقد يجب الإرضاع على الأمّ فيما إذا لم يقبل الرضيع ثدي غير أمّه أولا يعيش إلّا بلبنها بإخبار طبيب عادل خبير يوثق بقوله مثلا ، أو إذا لم يوجد غيرها حين يتعّذر إيجاد غير الأم. و (حَوْلَيْنِ) يعني سنتين ، تحديد لأقصى مدة الرضاع ، ولرفع احتمال التسامح في الحولين بتجويز النقص عن الحولين نعتها سبحانه بقوله :

(كامِلَيْنِ) أي تامّين ، تأكيدا (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي أن هذا الحكم لمن رغب في إتمام الرضاعة. أو أنه متعلّق ب : يرضعن ، أي أنه موجّه للأمّهات فمن شاءت منهن أن تتمّ الرضاعة فلها أن تجعلها حولين ، وإلّا فبمقدار ما يجري الاتفاق عليه ، لأن الإرضاع واجب على الأب ، وهو مكلّف بنفقة الولد ، فأمر الرضاع بيده والأمّ لا تستحقّه ، لأنه سبحانه وتعالى علّق ذلك على إرادة الأب بدليل قوله عزوجل أيضا : وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الأب الذي أولد المولود ، وفي ذلك إشارة إلى أن الولد للأب ، ولهذا نسب إليه. وإنما لم يقل على الزوج لأن أب الولد قد يكون غير الزّوج كحال أب الولد من الزوجة المطلّقة التي تزوّجت بآخر .. فعلى الأب (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) يعني أن مؤونة المرضع وتكاليفها على الأب (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالكيفية المتداولة المعروفة بين الناس بالنسبة للمرضعات ، فإن كل شخص يبذل بمقدار وسعه وميسوره ، ولذا قال سبحانه : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) بقدر استطاعتها. وإذا لم ترض أمّ الرضيع بميسور أبيه فترضع له أخرى. وقد جعل حقّ الحضانة للأم ، وجعلت النفقة على الأب بحسب مقدوره.

وقيل إنه أراد برزقهنّ وكسوتهن : نفقة الزوجات ، وليس كذلك ، لأن النفقة هنا يقابلها الرضاع ، بخلاف نفقة الزوجة التي تجب بسبب الزوجية.

أما علّة تحديد مؤونة المرضعة التي تجب على الأب للمرضع ب : المعروف ، فذلك كيلا تكون النفقة المطلوبة فوق طاقة الأب. والتكليف بما لا يطاق مرفوع في الشرع. ولذا نبّه عليه سبحانه بقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها). وفي الآية على كل حال بيان لقاعدة كلّية تشمل جميع التكاليف الشاقّة على النفوس ، ومنها ما نحن فيه. وقد ذكر عزوجل في جملة الأحكام أن (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) فعلى قراءة من يقول : أصلها : تضارر ، يكون المعنى : أن لا تضرّ الأمّ ولدها بالتفريط في حضانته ، وعدم رعاية شؤونه والمحافظة على ما يحتاج إليه الرضيع من

نظافة وأكل وشرب وكسوة. وعلى قراءة فتح الرّاء : تضارّ ، يكون الفعل بصيغة نهي أي على أن : لا تضارر ولا يلحق بها إجحاف. أما بناء على قراءة الرفع : لا تضارر ، فهي حينئذ خبر ، وبولدها : صلته أي متعلق به على النهي ، والباء سببيّة ، وإضافة الولد إلى أمّه تارة وإلى أبيه أخرى من باب الاستعطاف لهما عليه ، ولتشديد حرصهما وعدم تقصيرهما في حقه. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) أي الأب فإنّ عليه أن لا يضر بولده في تسامحه بدفع النفقات ، أو بتأخير شيء مما يجب عليه ، أو أن يأخذه من أمّه بلا عذر ، وبالأخص إذا صار الولد يعرف أمّه وأصبح يأنس بها ويستوحش من غيرها ، فإذا أخذه منها قهرا يؤذيه ويضرّه. هذا بالحقيقة ظاهر الآية. وأمّا الحمل على أن الوالد والوالدة عليهما أن لا يضارّ أحدهما الآخر بسبب الولد الرضيع ، فخلاف الظاهر ، فتفطّن وتأمّل ، بالرغم من أن الروايات التي تدل على القول الأخير متعدّدة ، في حين أن الروايات التي تدل على الظاهر الذي قلنا به قليلة ، والله العالم على كل حال.

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أي مثل ما على الوالد في حين وفاة الأب. والجملة معطوفة على : وعلى المولود له ... وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام : أنه سئل عن ذلك فقال : النفقة على الوارث مثل ما على الوالد. وفي الفقيه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ أنه قضى في رجل توفّي وترك صبيا استرضع له ، أنّ أجر رضاع الصبيّ ممّا يرث من أبيه وأمّه. (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) أي المرضعة والوالد وإن كان جدّ الرضيع ، فإذا قصد فطم الطفل عن الرضاع قبل الحولين. ورد هكذا في المجمع عن الصادق عليه‌السلام (عن تراض منهما) أي عن اتّفاق وبرضى الطرفين (وَتَشاوُرٍ) ومقاولة بينهما حول فطامه وقرار رأيهما على ما هو صلاحه لأن الوالدة أبصر بما فيه مصلحة رضيعها لأنها تعلم من حاله ما لا يعلمه الأب. ولذا قيّد سبحانه الفطام قبل الحولين بالتشاور حتى تنجلي لهما مصلحة الولد ، وعند ذلك (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي لا مؤاخذة تلحق بهما

لذلك الفطام المبكر إذا كانت فيه مصلحة الرضيع. وإذا لم يتفقا على جهة ، ولم يستقر رأيهما عليها وانجرّا الى التشاجر والتنازع فإنهما يرجعان الى الحولين الكاملين. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الخطاب للآباء لأن النفقة عليهم. فإذا لم ترد الأمّ أن ترضع ولدها ، سواء لجفاف اللّبن أو لأيّة جهة اخرى كقلّة الأجرة وقلّة النفقة ، فللأب أن يطلب مرضعة ثانية مكانها بالرغم من أن الأم لها حق التقدم في الرضاع والحضانة لأن لبنها أوفق لمزاج ولدها بعد أن ربي في بطنها واغتذى بدمها. ولذا قيل إنه لا بدّ أن يكون عمر ولد المرضعة مناسبا لعمر الرضيع الذي تأخذه ، إذ لو كان عمره أكثر أو أقلّ فلا يناسب لبنها مزاجه. ويشترط في المرضعة أيضا صحة المزاج وحسن الأخلاق وصباحة المنظر فإن ذلك كلّه يؤثّر في الرضيع. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : الأمّ أولى برضاع ولدها. وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنظروا إلى من ترضع أولادكم ، فإن الولد يشبّ عليه. أي أنه ينشأ ويصير شابا على الرضاع ، بمعنى أنه يعتاد ويتخلّق بما طبعته عليه صاحبة اللّبن. وفي حديث جاء أن : الرضاع يغيّر الطباع. فليراع من المراضع أحسنها خلقا وخلقا ، وشرفا ونسبا ، وصحة وسلامة. ولهذا عاد أبو محمد الجويني الى منزله يوما ، فرأى طفلا له يرضع من امرأة ، فأخذه وقلبه ـ أي جعل أسفله أعلاه ـ وأدخل إصبعه في حلقه ، وعصر بطنه حتى قاء ما شربه من اللبن. وكان يقول : لو مات هذا الرضيع لكان ذلك عندي أحسن من أن يرضع من غير أمّه فتفسد فطرته وطبيعته! .. وكان أبو المعالي يلكن في وعظه فيقول : هذا من أثر لبن شربته من غير أمّي. وهذا هو ابن أبي محمد الجويني صاحب القضية التي ذكرناها سابقا.

(فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي أن ما ذكرناه يتمّ بشرط تسليم ما قصدتم إعطاءه إلى المراضع. وقوله : بالمعروف ، متعلّق بسلّمتم. يعني أعطوهن نفقاتهنّ بما هو المتعارف بين المؤمنين والمستحسن عندهم ، وبكيفية مشروعة حسنة (وَاتَّقُوا اللهَ) بالمحافظة على حدوده

وبالأخص في ما شرع لكم من أمر المراضع والرّضعاء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذا الجملة بعد الأمر بالتقوى ، جاءت تنبيها للمسترضعين وتوعّدا لهم ، حتى لا يقصّروا في أمر المراضع ولا في حق أطفالهم ، فإنه سبحانه محيط بأعمالهم وأسرارهم. وهو بصير عليم بما يعملون ، لا يخفى عليه تقصيرهم في الإنفاق ، كما أنه لا يخفى عليه تقصير المرضعات أثناء حضانتهنّ للأطفال.

٢٣٤ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) ... لمّا بيّن سبحانه عدّة المطلّقات ، وعرض للرضاع ، أخذ في بيان عدّة المتوفّي عنها زوجها. فالرجال الذي يموتون ويذرون ، أي يتركون ، أزواجا خوالف من النساء ، من عادتهنّ الحبل ، فعلى هؤلاء النساء أن (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي يصبرن ويحبسن أنفسهن عن الرجال والزواج ، معتدّات (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) أي عشر ليال وعشرة أيام بعد الأربعة الأشهر ، فهذه عدّة المتوفّي عنها زوجها. ولعلّ هذا التحديد الدقيق بلحاظ أنّ الحمل يعرف في هذه المدة ، بل قيل إن الجنين يتحرّك في ثلاثة أشهر أحيانا إن كان ذكرا ، وفي الأربعة إن كانت أنثى. فاعتبر الله تعالى أقصى الأجلين ، وزاد عليه العشرة للاستظهار. وما ذكرناه من التحرّك عهدته على قائله. وفي العلل عن الرضا عليه‌السلام : أوجب عليها إذا أصيبت بزوجها وتوفّي عنها ، بمثل ما أوجب عليها في حياته إذا آلى منها. واعلم أن غاية صبر المرأة أربعة أشهر في ترك الجماع ، فمن ثم أوجب عليها ولها. (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) انتهت مدة عدّتهنّ وانقضت التي ذكرناها سابقا. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فلا مؤاخذة أيها الأولياء أو الحكام أو المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) في الخروج من بيوتهنّ ، والتزيّن بما هو جائز لهنّ عرفا وشرعا ، لا بما هو منكر وغير مناسب من مثلهنّ. ولعل هذا معنى قوله تعالى : بالمعروف ، أي حسب المتعارف ، أو معناه بما كان حراما عليهن في العدّة وصار لا بأس بالإتيان به بعدها ، ومنها تعريض أنفسهن للنكاح والتزويج (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم بأعمال عباده من حيث الخروج

عن حدود ما شرع لهم ، أو الالتزام به ، يجازي العاصي ويثيب الطائع. والآية ترغيب وترهيب.

* * *

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

٢٣٥ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) ... لمّا قدّم سبحانه ذكر عدّة الخوالف ، وجواز الرجعة فيها للأزواج ، جاء بهذه الآية

الكريمة تعقيبا لما سبق ، من أجل بيان ما لغير الأزواج بالنسبة للمطلّقات إذا رغب هذا الغير في الزواج من مطلّقة ما.

فالخطاب هنا للأجانب من الرجال الذين يريدون خطبة النساء المطلّقات غير الرجعيات أو المتوفى عنهن أزواجهنّ بعد انقضاء العدّة ، يقول لهم فيه جلّ وعلا : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ). والتعريض لغة خلاف التصريح وضد الكناية ، وهو في الاصطلاح الكلام الذي له معنى مطابقيّ ومعنى تضمّني ، وأنت تريد معناه التضمنيّ كأن تريد أن تتزوج امرأة ، ومن أجل اختبارها ومعرفة رضاها تقول لها مثلا : أنا أحب مجالستك ومصاحبتك أو تقول لها : إن جمالك يفوقه حسن أخلاقك وأدبك .. فإن لهذا الكلام دلالتين : مطابقيّة في معناه الظاهريّ الذي لا يريده المتكلّم بل يريد معناه ، وتضمّنية وهو الذي قصده من كلامه وهو أنه يريد أن يتزوّجها وينكحها. وهذا الذي أريد به التعرض.

وأما كون التعريض غير الكناية فذلك أن الكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه نحو : كثير الرماد ، للمضياف. فدلالة الكناية على المقصود بالالتزام. والحاصل أنه : لا بأس عليكم أيها الخطّاب من الرجال إذا عرّضتم تعريضا قبل خطبة النساء استعلاما لرضاهنّ ، فإذا علمتم الرضى منهنّ فاستنكحوهنّ من أهلهن. فلا مانع إذا فعلتم ذلك (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أي أضمرتم وأخفيتم ولم تعرّضوا ولم تصرّحوا ، ولكن خطرت الرغبة في نكاحهنّ في أنفسكم بعد انقضاء عدّتهن ، وعزمتم على ذلك ، فلا بأس ولو كان العزم والخطور أثناء عدّتهن حين وفاة أزواجهنّ كما يدل نظم الآيات الكريمات ولقوله سبحانه : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ،) وعليه الاتفاق حتى ولو كانت الآية صالحة للعموم لبعض المعتدّات ، والتفصيل موكول الى الفقه. (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) بألسنتهم وبكلامكم حين إبداء الرغبة في نكاحهنّ ، مخافة أن يسبقكم غيركم إليهن. وذلك لا يدل على التوبيخ ، لجواز أن تقصدوا في ذكرهن وجها صحيحا راجحا ، كتطييب قلوب المؤمنات المنقطعات ذوات الأيتام ، إذ

تطمئن قلوبهن لوجود الكافل (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) لأنهنّ أجنبيّات ، والمواعدة بالسرّ تدعو الى ما لا يحلّ وتجرّ إلى الحرام ، ولا أقلّ من خوف الوقوع في ذلك ، ولعل هذا مناط المنع ، وقيل إن السرّ هو الدعوة الى الجماع الذي يعبّر عنه بذلك ، والنهي عنه لأنه خلاف التعريض والاحتشام. ومعنى الدعوة الى الجماع كأن يصف الرجل نفسه بأنه كثير الباه كثير الجماع ليهيجها ويحرّك إحساساتها لا أن يدعوها إلى الحرام. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) ولعله القول الكنائيّ والتعريضيّ لا القول بما هو صريح في الزواج والنكاح. وعلى هذا يحتمل قويّا أن يكون المنهيّ عنه هو القول الذي لا يجوز أن يتكلم به الرجل مع الأجنبية إلّا في السرّ مما يستقبح أو يستهجن ذكره علانية معها. وليس المراد بالسرّ هو المكان الخالي من الناس والمخفيّ عن الأنظار والله أعلم .. والاستثناء في الآية منقطع لرفع ما يتوهّم من المنع عن كل ما يدل على التزويج لأن التزويج يدل على الجماع ويؤول إليه. لكن يجوز القول بالمعروف الموافق للحياء والحشمة كالتعريض وكريم الخطاب كقوله مثلا : لا تسبقيني بنفسك إذا انقضت عدّتك ، أو : إنني أكرم النساء وأحبّهنّ وأحترمهنّ ، وأحب فيهنّ من كانت أوصافها كذا وكذا ، ثم يعدّ ما ينطبق عليها بحيث تعرف أنه يقصدها ، ونحو هذه من معاريض الكلام التي وردت به روايات عن ابن عباس في الدر المنثور .. ولأن الاستثناء منقطع فإن حرف الاستثناء جاء بمعنى : لكن ـ وبل. والمعروف هو التعريض المرخّص به في السرّ. والتصريح بالمواعدة منهيّ عنه : فلا تواعدوهنّ بالصراحة سرا ، بل قولوا لهنّ في الخلوة قولا فيه تلميح (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعني : ولا تقصدوا قصدا جازما عقد النكاح قبل انقضاء العدّة ، ولكن العزم عليه بعد العدّة لا مانع منه بقرينة قوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) ، أي إلى بلوغ ما كتب وقدّر من مدة العدّة المفروض انتهاؤها وغايتها.

ويستفاد من مجموع هذه الآيات المباركات الاهتمام التامّ بأمور :

الأول : صون الرجال أنفسهم بالنسبة للأجنبيّات لئلا يقعوا فيما حرّم الله تعالى.

والثاني : صيانة الفروج عن اختلاط المياه واختلاط النّطف والنسل.

والثالث : حفظ النساء أنفسهنّ عن الأجانب من الرجال ، والتجنب منهم تماما ليتحصّنّ من الزّلل والخطل. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) وهذه الشريفة تنبيه وترهيب من العزم على ما لا يجوز شرعا ، فلا بدّ من الحذر منه ، ولذا قال تعالى : (فَاحْذَرُوهُ) بما نهاكم عنه ، وبمخالفة ما أمركم به ، وبارتكاب مالا يرضاه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) عبارة شريفة جاء بها سبحانه للترجّي بعد الترهيب والتحذير. أي لا تيأسوا من روحي ورحمتي فإني غفّار لعبادي إذا فعلوا عملا غير مرضيّ عندي وخالفوني في بعض أوامري ونواهي فلا أعاجلهم بالعقوبة وأمهلهم حتى يتوبوا إليّ فإني حليم أرأف بهم وأغفر لهم حتى كأنهم لم يذنبوا ولم يفعلوا شيئا إذا تابوا توبة نصوحا.

٢٣٦ ـ (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ... أي لا تبعة ولا جرم. والمقصود من هذه الشريفة هو رفع التوهم من منع الطلاق في الصورتين المذكورتين ، لأنه فراق قبل النتيجة المطلوبة شرعا من النكاح ، وقطع لما كان يؤمل من ألفة الزواج وأفراحه ، إذ لم يكن ينتظر سوء صحبة من المرأة ولا أهلها ، بل المجاملة وحسن المعاشرة يدل على ذلك الاتفاق على الزواج وعدم المضايقة في تقديم الصّداق وفرضه في العقد ، وهذا كله كاشف عن كمال مساعدة المرأة لخاطبها في المزاوجة ، وعن رغبتها في هذا القران. فالتوهّم في محلّه ، ولذا دفعه الله تعالى ورفعه بقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) أي قبل أن تدخلوا بهنّ وقبل فرض الفريضة أي الصداق (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) عطف على : تمسّوهنّ ، ولذا جزم بحذف نونه. وقد جاء العطف بأو ، لأنها تنبئ عن أنّ الجمع غير معتبر في نفي الجناح بخلاف الواو فإنها لو أتي بها لدلّت على

اعتباره ، وهو خلاف في حكمه سبحانه فيما نحن فيه. وهذا الحكم ثابت قبل الوطء وبعد فرض الصّداق. وغاية الأمر ، أنه بعد فرضه يكون على المطلّق نصفه ، أي نصف ما فرض على نفسه كما صرّح في الآية الآتية. وما نحن فيه عليه المتعة أي إذا لم يقدّر ولا عيّن لها صداقا ، فالواجب عليه التمتيع ، لأن الأزواج أمرهم بذلك في الآية الكريمة إذ قال : (وَمَتِّعُوهُنَ) عطف على مقدّر ، أي طلّقوهنّ ومتّعوهن. والأمر ظاهر في الوجوب. والمراد بالمتعة يمكن أن تكون البلغة لما يكفيها طيلة سنتها بما يناسب شأنها أو أن المتعة في الطلاق كما قيل هي القميص أو الإزار أو الملحفة. وكل ذلك من ناحية الجنس كمية وكيفية موكولة إلى الزوج كما قال سبحانه (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) قدره : قرئ بسكون الدال وفتحه ، وأريد به المقدار الذي يتناسب مع سعته من المال. والموسع هو ذو السعة نحو المثرى والغنيّ. والمقتر هو المقل من المال. فعلى كل واحد أن يمتّع مطلّقته بما يتلاءم مع سعته أو إقلاله. وفي رواية عن أبي بصير : أن أدنى المتعة أن يعطيها خمارا. وفي الفقيه : أن الغنيّ يمتّع بدار أو خادم ، والوسط بثوب ، والفقير بدرهم أو خاتم. وفي رواية الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : ان الموسع يمتّع بعبد أو أمة ، ويمتّع الفقير بالحنطة والزبيب والثوب والدرهم. ولعل الكل على سبيل المثال ومناسبة الحال. (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما يتمتع به ، ونصب بالمفعول لمتّعوهنّ ، بما هو المتعارف بين الناس بحسب الشأن والحال (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) حقا : صفة لمتاعا ، أي متاعا ثابتا محقّقا على من يحسن في مقام أداء حقوق الناس. وهذا الذيل ترغيب وتشويق ليدفع كلّ من عليه حقوق للناس أن يوصلها إليهم ، ومنهم المطلّقات سواء كنّ مدخولات أو غير مدخولات كما في المقام. فعلى الأزواج إعطاء حقهنّ لهنّ بلا نقيصة ولا تسويف ، ليحسبوا من المحسنين الذين من شأنهم الإحسان. وفي الكافي والعياشي أن الصادق عليه‌السلام سئل عن الرجل يطلّق امرأته ، يمتّعها؟ .. قال : نعم ، أما يحب أن يكون من المحسنين ، وأما يحب أن يكون من

المتقين؟ .. وفي الكافي عنه عليه‌السلام ، قال : فليمتعها على نحو ما يمتّع مثلها من النساء. ويمكن أن يراد رعاية حالها جميعا كما قلنا آنفا. وفي التهذيب عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : ومتعوهنّ ، في سورة الأحزاب ، في هذا الحكم بعينه : أي أجملوهنّ على ما قدرتم عليه من معروف ، فإنهن يرجعن بكآبة بعد طلاقهنّ ووحشة وهمّ عظيم ، وشماتة من أعدائهنّ. فإن الله كريم يستحي ويحب أهل الحياء ، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراما لحلائلهم.

٢٣٧ ـ (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ... هذه الآية الشريفة تدل على أن الجناح في الآية المتقدمة من ناحية تبعة المهر ، ولذلك حدّد سبحانه الأمر وقال : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وهذا إثبات للجناح المنفيّ هناك ، وتقدير لما فرض عزوجل (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) والعافيات هنّ المطلّقات ، أي أن الفرض هو نصف المهر ، وهنّ قد يتركن ما يجب لهنّ على المطلّقين ولا يطلبنهم بذلك إعفاء لهم (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أي الوليّ إذا كانت البنت صغيرة أو غير راشدة ، إذ له العفو إذا اقتضته المصلحة ، أو وكيله أو من يوصى إليه من طرف الوليّ ، فهم جميعا بمنزلة الأب والجد ، يجوز لهم ما كان جائزا لهما. وفي بعض الروايات أنه ليس للوليّ أن يدع الفرض كلّه بل يأخذ بعضا ويدع بعضا. وولاية الأب والجد تكون على البكر غير البالغة ، وأما في من عداها فلا ولاية لهما. نعم قيل بأن لهما ولاية العرس حتى على البكر البالغة فإذا زوّجت تنقطع ولايتهما عنها مطلقا.

وأما إعراب الآية المباركة فقوله : فنصف في موضع رفع بالابتداء ، وخبره مقدّر : فعليكم نصف. ويعفون في موضع نصب بأن أو بالاستثناء ، والنون علامة جمع المؤنّث. والفعل المضارع إذا اتّصلت به نون ضمير الجمع للمؤنّث بني ، فيستوي في الرفع والنّصب والجزم. أو يعفو : تقديره : أو أن يعفو. فهو في محل نصب عطفا على يعفون. وأن

تعفوا : في محل رفع بالابتداء ، أي وعفوكم أقرب للتقوى. واللّام بمعنى الى وتتعلّق بأقرب.

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الخطاب للمطلّقة والوليّ في صورة المصلحة للعفو عن بعض الواجب لا الجميع على ما قدّمنا من منع الجميع. والإتيان بصيغة الجمع جاء بلحاظ تعدّد النساء والأولياء ، أو المرأة الواحدة وأوليائها ، كلّ أولئك مع الموصى لهم والوكلاء. فالمخاطب هو المجموع من حيث إنهم متعدّدون .. أما وجه أن العفو أقرب للتقوى ، فهو أولا : لأن من ترك حق نفسه لغيره كان عمله مستحسنا في غاية الحسن والزّهد والتقوى وثانيا : أن معناه : أقرب لاتّقاء معصية الله ، لأن من تزهّد وتجاوز عن حقه المشروع كان أقرب الى طاعة الله عزوجل. بخلاف من يعصيه ويطلب ما ليس له ..

ويحتمل ان يكون الخطاب عاما لجميع الناس ، والجملة مستأنفة. ومعناه يكون لترغيب البشر وتهذيب أنفسهم وتخلّقهم بحسن المزايا ، إذ ان العفو يكون منهم عمّا هو مقدور لهم أخذه من حقوقهم مع قدرتهم على الانتقام ممن ظلمهم ، والله تعالى عفو يحب أهل العفو والإحسان الى عباده. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي لا تتركوا تبادل الإحسان فيما بينكم ، ولا تنسوا ما يتفضّل به الواحد منكم على الآخر من عمل المعروف. ويمكن أن تكون هذه الجملة في مقام بيان عامّ وضرب قاعدة كلّية ، فإن الإنسان بمقتضى الفطرة البشرية المطبوع عليها صاحب الفضيلة يحب التفضل على غيره والإحسان إليه حتى ولو كان من غير جنسه. والله تعالى في مقام التنبيه الى ما فطر الإنسان عليه كأنه يقول له : يا أيها الإنسان ، لا تنس ما فطرتك عليه يوم خلقتك. فإنني كوّنتك على سجيّة حب الفضل والجود على الغير ، فكن على حسب ما كوّنت. وهذا بعمومه يشمل المقام من باب : إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذلك أن عفو المطلّقات لتمام حقهنّ أو لبعضه يحسب من الفضل والإحسان ، فما أجمل عند الله تعالى أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح دفعا

للخصومات والمشاكل وإذا اقتضت المصلحة ذلك (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى ويشاهد أعمالكم ويعطيكم أفضل جزاء المحسنين إن أحسنتم ، وأما إذا اسأتم فعلى أنفسكم تجنون ، وإذا نسيتم الفضل ، وتغافلتم عن الإحسان فلا شيء لكم ولا عليكم. وفي العياشي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يأتي على الناس زمان عضوض ، يعضّ كلّ امرئ على ما في يديه ، وينسون الفضل بينهم. قال الله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ). وفي العيون عن عليّ عليه‌السلام بهذا المضمون.

* * *

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

٢٣٨ ـ (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) (١) .. عن زيد بن ثابت ، قال : لما هاجر النبيّ كانت أثقل الأمور على الناس المهاجرين هي الصلاة. وكان من

__________________

(١) قيل في وجه ذكر الصلاة خلال احكام الأزواج والأولاد لئلا يلهيهم ذلك عنها لكثرة أحكامه والاهتمام بشأنه. وهو وجه غير موجّه عندنا ، إذ لعل ذكرها هنا كان بمناسبة أنه تعالى بعد بيان آيات الأحكام بعناوينها قال : ولا تنسوا الفضل بينكم تنبيها للعباد ، ثم بيّن أنّ من أجلّ أفراد الفضل والإحسان التذكّر لنعم الله والمحافظة على الصلوات ، والإتيان بها في أول أوقاتها ، والاهتمام بها رغم شدة الأحكام في غيرها وهذا لعظم أمر الصلاة التي هي من أفضل الطاعات والعبادات. ولذا خصّها بالذكر خلال احكام يراها الإنسان غير مناسبة لها. وفي هذا دليل على عظيم شأن الصلاة عند الله تعالى وعلى غاية فضلها ، بغضّ النظر عن الآيات الأخرى والروايات ، والله العالم.

ورائه صف أو صفان ، فقال (ص) : لقد هممت أن أحرق على قوم لم يشهدوا الصلاة. بيوتهم!. فنزلت هذه الآية فانكفّ عمّا قصده لأن الله لمّا حثّ الناس على المحافظة على الصلوات ، واختصّها بالذكر من بين العبادات ، علموا أنها أعظم العبادات وأهمّها عنده سبحانه تفخيما ، فأكبّوا عليها واهتموا بها غاية الاهتمام ، ولا سيّما الجماعات ، فاستراح النبيّ (ص) بذلك .. ومعنى الآية المباركة أنه تعالى خاطب أصحاب النبيّ الأكرم صلوات الله عليه وآله بالمداومة على الصلوات المكتوبات في مواقيتها على ما هو الظاهر. والخطاب كان موجّها إليهم لأنهم كانوا في حضرة مبلّغه رسول الله الذي هو سفيره والواسطة بينه تعالى وبينهم وبين جميع خلقه. وقد كان أصحابه (ص) محلّ ابتلائه ، وكان المؤمنون أقلّية في ذلك اليوم وهم العمدة ، فالخطاب لذلك لهم لا للحصر ، وعموم الخطاب يشمل سائر البشر كسائر العمومات ، تشمل من حضر في ذلك العصر ومن لم يحضر ، كما تشمل من يأتي في سائر العصور إلى يوم القيامة. ثم إنه سبحانه كما اختص الصلاة من بين العبادات بالذكر لما قلناه ، كذلك اختص به الصلاة الوسطى من بين سائر الصلوات أيضا لما قلناه ، كقوله سبحانه : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ). ثم اختلفوا بأنها أيّ صلاة. فقيل : إنها صلاة الظهر ، وفي الخلاف أنّ عليه إجماع الفرقة. وفي الروايات من الصّحاح وغيرها دلالة عليه كصحيحة أبي بصير وصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام ، وصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام وغيرها وغيرها. وقيل : إنها العصر. ولهذا القول مؤيّدات من الرواية والأقوال. بل الحاصل أنها فسّرت بجميع الصلوات اليومية من الفجر الى الظهر إلخ ... ومن أراد الاطّلاع عليها قولا ودليلا فليراجع الدرّ المنثور فإنه أحصاها. ولعل أقوى الأقوال دليلا وشهرة هو أنها الظهر أو العصر ، والأول أظهر عندنا في غير الجمعة ، والجمعة يوم الجمعة. وهذه بعض روايات الباب : ففي الكافي والتهذيب عن الباقر عليه‌السلام في الصلاة الوسطى ، قال : هي صلاة الظهر ، وهي أول

صلاة صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهي وسط النهار ووسط الصلاتين بالنهار : صلاة الغداة ، وصلاة العصر .. والله أعلم. (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي انتصبوا في الصلاة داعين لأن القنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام على قول ابن عباس. بل هو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. ولعله هو هذا القنوت المعروف ، وهو المعروف في ألسنة الصحابة وغيرهم كما في الروايات المذكورة في الدر المنثور وغيره ...

ولفظة الجلالة : لله ، إمّا أنها متعلقة بقوموا ، أو بقانتين ، وتقديمها على قانتين كان للتأكيد بأن الدعاء لا بد من أن يكون خالصا له تعالى ، كما أن الصلاة كذلك ...

٢٣٩ ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) .. أي فإن خفتم أثناء مباشرتكم الصلاة والقيام بها ، من عدوّ أو لصّ أو سبع أو غير ذلك ، فصلّوا راجلين ، أي قائمين على أرجلكم كالعادة ، أو راكبين. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية فقال : إن خاف من لصّ أو سبع يكبّر ويؤمي إيماء. وعن الباقر عليه‌السلام : الذي يخاف اللصوص يصلّي إيماء على دابّته (فَإِذا أَمِنْتُمْ) زال خوفكم وذهبت وحشتكم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) صلّوا صلاة تامّة الأفعال والشرائط ، يعني صلاة المختار الذي لا يخشى شيئا. فإنه تعالى علّمكم (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ما كنتم تجهلونه من الشرائع والأحكام وكيفيّة الصلاة التي لم تكونوا عالمين بها قبل نزولها وقبل التكليف بها.

* * *

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ

وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

٢٤٠ ـ (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) ... أي الذين يقاربون منكم الوفاة ، لأن المتوفّي لا يقدر أن يأمر أو ينهى (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) أي يخلفون وراءهم ، ويتركون بعد موتهم زوجات ، (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) فليوصوا وصية بناء على قراءة النّصب. وقرئ بالرفع ، أي عليهم وصية لأزواجهم (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) متاعا بدل من : وصية ، وهو بمنزلة المتعة في المطلّقات ونظيرها. فكما أن متعة المطلّقة لإعاشتها في أيام عدّتها ، فكذلك أيضا نفقة المتوفّي عنها زوجها. والفرق أن أيام العدّة في المطلقات هي ثلاثة قروء ، وهي هاهنا الى حول وقيل إن الحول كان عدّتها فنسخ بما تقدّم في الآية ٢٣٤ حيث جعلت العدّة للمتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام. والمشهور أيضا أن الحول والمتاع حسب الوصية لا انه كان العدّة ، بل العدّة هي التي وردت في الآية السابقة من أول ما شرعت. فلهؤلاء النساء متاع الى الحول (غَيْرَ إِخْراجٍ) والجملة حال من أزواجهم ، أي غير مخرجات من بيوت سكنهنّ. بل لهنّ التمتّع بذلك بوصية من أزواجهنّ ، فيقمن بعدهم حولا مستمتعين بالمال والسكن وسائر النفقة. وقد أشرنا آنفا ونسبنا الى الشهرة بأن هذه ليست وصية بنفقة العدّة المشروعة ، بل هي فضل وإحسان لهنّ ، وتفضّل من أزواجهنّ ومكافأة على الجميل ليبقين في الحداد والتربّص إذا شئن ذلك (فَإِنْ خَرَجْنَ) من منازل الأزواج قبل تمام الحول لجهة من الجهات التي يجيء ذكرها إن شاء الله ، فلا يجب الإنفاق المذكور عليهن وقد كان ذلك في أول الإسلام ، حيث كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من أصل تركته حولا ، ثم أخرجت من بيت زوجها بلا ميراث. ثم نسخ هذا التربّص بهذه الكمية وهذه الكيفية وهذا الإخراج

بلا ميراث. وقد روى العياشي ، وورد في المجمع أيضا ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفي عدة روايات أخر عن الصادقين عليهما‌السلام : هي منسوخة ، نسختها : يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا ، ونسختها آيات الميراث. يعني آيات : الرّيع ، والثّمن ، وآية التربّص المقدّمة في القراءة المتأخرة في النزول.

وفاقدات الأزواج إذا خرجن من بيوت أزواجهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) أيها الأولياء للميّت وأيها الحكّام. وقد اختلف في رفع الجناح في هذه الحالة. وأوجه الوجوه أن يقال : لا بأس عليكم إن تزوّجن بعد انقضاء العدّة. والتقدير : إذا خرجن من العدّة بانقضاء السنّة ، فلا جناح في ترك الحداد والتزوّج. فلا تمنعوهنّ عن ذلك ، لأن طلب النكاح أو التزيّن للتزوّج ونحو ذلك يعدّ (مِنْ مَعْرُوفٍ) الشرع والناس في عرفهم العام وطبائعهم. فهنّ كما يستفاد من هذه الآية الشريفة مخيّرات بين التربّص في المنزل والحداد وأخذ النفقة ، أو الخروج لشأنهنّ وتركها (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لمن خالفه ولا يقهره أحد ، وهو أيضا (حَكِيمٌ) يفعل ما فيه المصلحة ويراعيها فيما يفعل.

٢٤١ ـ (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) ... وجه مناسبة هذا الذيل إلى ما قبله : أن الآيات السابقة في بيان تكاليف الحكّام وأولياء الموتى بالنسبة الى زوجاتهم من جهة حقوقهن. وجملته توعّد وترهيب لمن خالف العمل بالتكليف بعد البيان ، ولم يوصل الحقوق الى ذويها ، والله قاهر غالب على أمره ، ينتقم ممن خالف أحكامه التي أنزلها بحسب موازين الصلاح ونظام الحكم .. ويحتمل كون هذه الشريفة تأكيدا لما تقدّم من متعة من لم تمس ولم يفرض لها فريضة ، فإطلاقها جار على ذلك التقييد. وهذا الاحتمال ليس ببعيد لقرب الآية من تينك الآيتين. ويمكن حملها على الاستحباب وإبقاؤها على إطلاقها نظرا لصحيحة الحلبي وصحيحة عبد الله بن سنان وسماعه ، كما يؤكّد هذا الحمل ما روي أن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام لم يطلّق امرأة إلّا متّعها. ومن المعلوم أنه عليه‌السلام ما تزوّج بامرأة إلّا

ولها مهر. ومع ذلك يمتّعها عند الطلاق ... وظاهر الخبر أن هذا التمتيع كان غير مهورهنّ ، وكان الإمام عليه‌السلام يمتّعهنّ وينفق عليهنّ مدة حياتهن .. وبالنظر إلى الجملة الفعلية التي تدل على الاستمرار ، ومضافا الى أن ذلك ظاهر من شيم الأئمة عليهم‌السلام بالنسبة إلى رواتب الناس عنهم ، فقد كانوا لا يقطعونها طيلة حياتهم. ويؤيده ما في الكافي عن الصادق عليه‌السلام حيث قال : متاعها بعد ما تنقضي عدّتها.

وبناء على الاستحباب في المطلّقات جميعا هذا ، بعد ما وجبت لواحدة منهنّ وهي التي لم يدخل بها وطلّقت قبل أن تمس ، وعدم فرض فريضة. ومعنى الشريفة : أن للمطلقات متاعا (بِالْمَعْرُوفِ) على الموسع قدره وعلى المعسر قدره (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ونصب حقا : إما لكونه حالا من المتاع ، وإما أنه مفعول للفعل المقدّر : أي ثابت واجب بوجوب أخلاقيّ حيث كانت المتعة هذه مستحبّة ، وجعلت حقا على أهل التقوى ، أي يحقّ هذا العمل أن يكون وظيفة هؤلاء المؤمنين لأنهم أولى بذلك حيث هم أكرم خلق الله وأعزّهم.

٢٤٢ ـ (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) ... يعني : كما يبيّن الله تعالى لكم الأحكام والآداب وما تحتاجون إلى معرفته في دينكم ، هكذا يبيّن لكم آياته ودلائل وجوده وعلائم توحيده بلطفه وتفضّله. وقد شبّه سبحانه بيانه الآتي بالبيان الماضي. والمراد بالبيان هو ذكر الأدلة التي يبيّن بها الحق من الباطل ، والصحيح من الفاسد. والآية الكريمة خطاب لرسول الله (ص) أولا بقوله : كذلك ، وللناس ثانيا بقوله : لكم ، لاحتياجهم في نظام أمرهم الى بيان هذه الأحكام (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا وتفهموا. ووجه التخصيص باستعمال العقل ، أن الآيات بحقيقتها لا تدرك إلّا بالعقل حيث إنه هبة ربّانيّة وقوّة مدركة تحس بواسطته النفس ما لا يمكن أن تدركه بالحواس.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

٢٤٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ... الخطاب تقدير لمن سمع بقصة القوم الذين خرجوا من ديارهم (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي آلاف كثيرة (حَذَرَ الْمَوْتِ) خوفا منه وفرارا ، غافلين عن أنه لا يمكن الفرار من أمر الله وقضائه ، وهم كما في الكافي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أهل مدينة من مدائن الشام. وفي بعض التفاسير أنهم أهل ـ داودان ـ قرية قريبة من واسط في العراق ، كانوا إذا وقع الطاعون وأحسوا به خرج أغنياؤهم لقوّتهم على ذلك ، وبقي الفقراء لضعفهم ، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا ، ويقلّ في الذين خرجوا ، فيقول الذين خرجوا : لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت ، ويقول الذين أقاموا : لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت. فاجتمع رأيهم أنه إذا وقع الطاعون وأحسوا به خرجوا كلّهم من المدينة. فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا خوفا من الموت وتنحّوا عن منطقة سكنهم فمرّوا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها. فلما حطوا رحالهم واطمأنّوا قال لهم الله عزوجل موتوا جميعا ، فماتوا من ساعتهم ، ثم فنيت أجسادهم وصاروا رميما تذروه الرياح على طريق المارّة.

فجمع المارّة رفاتهم وبقاياهم ووضعوها في محلّ واحد بعيد عن الطريق. ثم كان أن مرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل حزقيل عليه‌السلام فلما رأى تلك الرّفاة بكى واستعبر ، وقال : يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتّهم ، فيعمرون بلادك ويلدون عبادك ، ويعبدونك مع من يعبدك من خلقك! .. فأوحى الله تعالى إليه : أتحب ذلك؟ .. قال : نعم يا رب .. فأحياهم الله عزوجل. ثم قال المفسّر : قال أبو عبد الله : عليه‌السلام : فيهم نزلت هذه الآية.

وفي الغوالي عن الصادق عليه‌السلام ، في حديث يذكر فيه نيروز الفرس ، قال : إنّ نبيا من أنبياء بني إسرائيل سأل أن يحيى القوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله ، فأوحى الله إليه أن : صبّ الماء في مضاجعهم. فصبّ عليهم الماء في هذا اليوم فعاشوا وهم ثلاثون ألفا. وصار صبّ الماء في يوم النيروز سنّة ماضية لا يعرف سببها إلّا الراسخون في العلم.

فإن قيل : كيف يجمع بين قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ ،) وقوله سبحانه : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى.) نقول : يمكن الفرق بينهما بأن يقال : الإماتة الأولى إماتة عقوبة مع بقاء الأجل ، ولذا أحياهم لاستيفاء آجالهم الباقية. وفي الآية الثانية أراد بالإماتة الإماتة بانتهاء الأجل المحتوم. والحقّ في الجواب أن الآية الثانية تتحدّث عن أصحاب الجحيم وأنهم لا يذوقون فيها الموت إلّا الموتة الأولى ، فالضمير في : فيها ، راجع للجحيم ، وأهلها بعد أن يستقروا فيها لا يذوقون الموت أبدا ، وكذلك أهل الجنّة. فلا منافاة بين الآيتين ، والناس معرّضون للموت مكرّرا في دار الدنيا كما في عزير وأصحاب الكهف وأصحاب موسى وغيرهم. فلا مبرّر لإنكار الرجعة كما لا يخفى.

فالقوم الذين ذكرناهم فعلوا ما فعلوا (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) فماتوا جميعا على حالهم التي كانوا عليها بأقلّ مما يرتدّ إليهم طرفهم لأنه سبحانه

يقول للشيء : كن فيكون ، فهو القادر القاهر ، و (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وردت هنا لأن إحياء هؤلاء بعد موتهم إنعام عليهم ، وعبرة لهم ولغيرهم ممن يقتصّ أخبارهم ويستبصر بقصّتهم العجيبة الدالة على عظمة الله وجليل قدرته. يضاف الى ذلك أن هذه الآية حجة على من أنكر سؤال منكر ونكير في القبر وإحياء الميّت فيه ، وردّ على المنكرين للرجعة. فأي فضل وإحسان أعظم من هذه الأمور للإنسان المسلم المؤمن المعتقد بالله ورسوله ، بل لكل إنسان غير جاحد إذ ربما استبصر بها والتزم سبيل الهدى واجتنب طريق الضلالة والرّدى؟ ولذا يقال : إن القرآن شفاء للقلوب وشرح للصدور (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) له حقّ شكره ، بأن يتدبّروا آياته ، ويتفكّروا بنعمائه ، ويتّعظوا بمواعظه ، ويعتبروا بتكويناته ، فيستدلّوا بها على قدرته ويقروا بتوحيده.

٢٤٤ ـ (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ... ظاهر هذا الخطاب أنه موجه الى أصحاب رسول الله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو بعد تذكيرهم بالذين فرّوا من الموت ولم ينفعهم الفرار ، عقّب بهذه الآية التي يستفاد منها حضّهم على الجهاد بعد استذكار هذه القصة ، فلا يفرّون ولا يسلكون طريقة الذين هربوا من الطاعون فوقعوا في الموت ، وليعلموا أن امر الموت والحياة بيده تعالى ، والفرار من قضاء الله لا ينجي الإنسان منه إذا قدّر له ، وليدركوا أن المجاهدين إنّ ماتوا فاز وا بالشهادة وإلّا فإنهم يعودون بالثواب الجزيل والأجر العظيم. فانتبهوا لذلك أيها المسلمون (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم وخطرات نفوسكم (عَلِيمٌ) بما في ضمائركم ، فلا تحملوا أنفسكم ولا أصحابكم على الارتياب والشك في أمر الجهاد ، ولا تتوقّفوا عنه لأنه تعالى يسمع القول ، ويرى اتّباعكم لوساوس الشيطان وترتيبكم الأثر على ما يمليه عليكم من الخدع والتثبيط ، ويعاقبكم على القعود عن الجهاد.

٢٤٥ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ... بهذه الآية الكريمة عبّر سبحانه عمّن ينفق ماله في سبيل الله بالمقرض أي الذي يعطي ماله للمستدين منه

بشرط أن يعيده إليه بعد الأجل المعلوم الذي يعيّنانه عند استقراضه. بيان ذلك أن حكمة الله ولطفه ورحمته بعباده من الناس ، قد اقتضت أن يجعل بعضهم محتاجين الى البعض بمقتضى نظام مدنيّتهم وتشابك مصالحهم في معاشهم وشؤون حياتهم ، واقتضت رحمته أن يأمر بالتعاون والإحسان ، وأن يعود الغنيّ على الفقير بجوده ، وأن يرجع المحتاج الى الميسور بطلبته ، وأن ينفق بعض مال المتموّلين لنصر الحق وأهله ولدفع الباطل وأهله. كما اقتضت حكمته أن يرغّب الإنسان بالإنفاق في سبيل الله وفي الجهاد على الأخص ، وأن يوفقه لتنحية شح نفسه ونزعات حرصه فجاء بهذه الآية من القرآن الكريم على أحسن وجه من الترغيب وأجمل طريقة في الحض على البر وعمل الخير والمضيّ في طريق إصلاح البشر من أجل سعادتهم فقال سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي مقرونا بالإخلاص وطيب النفس. والمراد بإقراضه عزّ وعلا هو الإنفاق في طاعته وفي الطرق المقررة من عنده سبحانه. وإقراضه هو أيضا ما يطلب به ثوابه الجزيل. فمن أقرضه في الموارد المذكورة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يكثر له جزاءه ويزيد في ثوابه وتعويضه. والصيغة للمبالغة ، فإنه تعالى يزيد في ذلك (أَضْعافاً كَثِيرَةً) ولم يحدّدها لأنه لا يحصيها غيره ولا منتهى لها. يدل على ذلك ما رواه الصدوق في معاني الأخبار ، والخزاز في الصحيح ، والعياشي ، عن علي بن عمار عن الصادق عليه‌السلام حيث قال : لما نزل : من جاء بالحسنة فله خير منها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أللهمّ زدني ، فأنزل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، فقال : ربّ زدني ، فأنزل الله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، فعلم رسول الله (ص) أن الكثير منه لا يحصى وليس له منتهى (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أي يقترّ على قوم ويوسّع على آخرين ، حسب مصلحة كل واحد ، فلا تبخلوا عليه بما وسّع عليكم فيقترّ عليكم كما فعل بهم فإنّ أمر الرزق بيد الله تعالى. وهذا الإقراض المضاعف الأجر والعوض هو من أعظم نعمه على العباد ، فليغتنم ذو السعة فرصة الإنفاق

وإقراض الله جلّ شأنه ، قبل أن يضيق عليه رزقه فتبقى له الحسرة ، ولا يخف في إقراضه فقرا فإن القبض والبسط بيده سبحانه ، والرزق بيده يعطي العباد منه بمقتضى تقديره وحكمته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وتعودون بعد الموت على كل حال ، ليوفّيكم جزاء ما أنفقتم ، وحسب ما قدّمتم. وكم تشتد حسرات الحريص الشحيح على ما فرّط في جنب الله يوم الحسرة والندامة! ..

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧))

٢٤٦ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ... وجه ارتباط هذا بما قبله ، هو أن ما تقدّمه كان ذكر الجهاد. وبهذه المناسبة عقّب بقصة من قصص بني إسرائيل التي خاطب بها نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : ألا أخبرك يا محمد بما سأله أشراف بني إسرائيل لنبيّهم (مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي بعد وفاته (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قيل هو شمعون ، أو يوشع ، أو أشموئيل بحسب المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام. وقيل هذا اسمه بالعبرانية ، وبالعربية هو إسماعيل ، وردّ القول بأن إسماعيل بالعبرانية هو يشمع إيل كما أفاد بعض الأعاظم ممن له خبرة بالعبرانية. قال له رهط من بني إسرائيل : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي هيّء لنا أميرا وقائدا نأتمر بأمره وننتهي بنهيه ونقاتل معه ونجاهد في سبيل ربّنا وحسبة له تعالى (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) جملة : ألا تقاتلوا خبر لعسى. وقد فصل الشرط بين عسى وخبرها ، واستفهم عما هو متوقّع عنده من جبنهم عن القتال. والاستفهام تقريريّ وظاهر الآية الشريفة أن النبيّ قال لهم : هل عسيتم أي : أولا تحسبون أن تخافوا من القتال فلا تقاتلوا العدوّ إذا كتب عليكم القتال؟ يعني أنتم كذلك ، ولستم من أهل مقاتلة الخصم ومبارزته. (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ماذا يمنعنا من القتال في طريق الحق والحقيقة (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) بالحرب والطّراد. وهل بعد هذا مانع معقول في ترك القتال ، فهو دفاع عن الدين ، ودعاء إلى التوحيد وحفظ لمنعتنا ووجودنا وقد أخرجنا من ديارنا ظلما (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي فرض عليهم حرب العمالقة الذين كانوا يسكنون ساحل بحر الروم المتوسط بين مصر وفلسطين ، وكانوا غالبين على بني إسرائيل وقد قتلوا منهم رجالا وسبوا منهم نساء واحتجزوا لهم ذراري وفرّقوا بين الآباء وأسرهم ،. فعند ما فرض عليهم قتال هؤلاء العماليق الكفرة (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي أعرضوا وأدبروا عن القتال غير طائفة قليلة. وقيل كان عدد الباقين الموافقين على الجهاد ثلاثمئة وثلاثة

عشر رجلا ، بعدد أهل بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أنه كان تعالى يعلم من أول الأمر أنهم ليسوا من أهل المبارزة والقتال ، بدليل قول نبيّهم لهم هل عسيتم إلخ ... بإلهام منه سبحانه. والتعبير بالظالمين هنا ، لأنهم بمخالفتهم لنبيّهم ، وبعصيانهم لأمره تعالى ، ظلموا أنفسهم وخسروا خسرانا مبينا ، فكان ذيل الآية الشريفة توعدا لهم وتهديدا.

٢٤٧ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... روي أيضا أن أسمه أرميا النبيّ. وردّ هذا بأن أرميا على ما في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام كان معاصرا لبختنصّر. والتاريخ بين ذلك العصر وعصر طالوت نحو أربعمائة سنة. وفي البيان ومجمع البيان : هو شموئيل ، وفي المجمع هو بالعربية إسماعيل كما قدّمناه قال هذا النبيّ الكريم (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) وقيل سميّ طالوت ، لطوله. وفي بعض كتب اليهود عن بعض المؤرخين : كان أطول من جميع بني إسرائيل من كتفه فما فوق. فلما أخبرهم النبيّ بأن الله اختار لهم طالوت سلطانا وأميرا و (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أي كيف يكون له سلطان وليس عنده أهليّة (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) لأنه من ولد بنيامين وكانت النبوّة يومئذ في أولاد لاوى ، ومنه موسى بن عمران وأخوه هارون عليهما‌السلام ، والملك في ولد يوسف عليه‌السلام ، فنحن أحق منه وراثة ومكنة .. ويذكر تاريخ اليهود في أواخر سفر القضاة بمناسبة ما ، أن سبط بنيامين قد صدرت من بعضهم بادرة قبيحة كالذي يصدر عن الإنسان حين الغضب. فأراد بنو إسرائيل أن يؤدّبوا هؤلاء فحماهم سبطهم فحاربهم باقي الأسباط حتى نكّلوا بهم فصار سبط بنيامين قليلا محتقرا ، ولذا احتقروا طالوت لأنه كان بنياميّا ، وقالوا نحن أحق منه بالإمارة تراثا (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) ليقدر على تأثيل ملوكيته وتأسيس مملكته به ، وتقوية المملكة تقتضي المال الكثير لصيانتها وتنظيم إدارتها ، فالملك بلا مال كالمحارب بلا سلاح. ولذا أنكروا تملكه عليهم لسقوط نسبه بنظرهم ، ولفقره فلا مال له يعضده فردّهم نبيّهم ردا عنيفا و (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي اختاره وهو

أعلم بمصالح عباده (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) فرزقه سعة فيه ، ولا يتمّ أمر السياسة المدنيّة والدينية إلا به (وَالْجِسْمِ) إذ الجسم المهيب أعظم في النفوس ، وأقوى في مكايدة الأعداء في الحروب. فهذان الأمران أهمّ للسلطان مما اعتبرتم للملك (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فأزمة الأمور بيده تعالى ، وهو يقدر أن يعطي المال قرينا للملك ، وأما البيتية فلا مدخل لها في السلطنة ، فكم وكم من سلطان طلع من غير بيوت السلطنة ، وكم من بيوت السلطنة أصبحت وليس فيها ملك ولا سلطان ، والله يعطي ملكه بحسب ما تقتضي حكمته ومصالح عباده (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ذو فضل وجود ، جزيل العلم بمن له صلاحية الملك والزعامة والسياسة الدنيوية والدينيّة.

* * *

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))

٢٤٨ ـ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ... قال لهم هذا القول حين طلبوا منه الحجة من الله الدالة على أن تمليك طالوت بمشيئته ، قال : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي علامة كونه سلطانا عليكم من عند الله ويأمر منه سبحانه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) أي يجيء التابوت إليكم بعد أن رفعه الله عنكم حين احتقرتموه. وقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : أن التابوت الذي أنزله الله على أمّ موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر ،

كان في بني إسرائيل معظّما يتبرّكون به. فلما حضرت موسى عليه‌السلام الوفاة وضع فيه الألواح أي رضراض الألواح ومكسوراتها ودرعه وما كان عنده من آثار النبوة ، وأودعه عند وصيّه يوشع بن نون. فلم يزل التابوت بينهم ، وهم في عزّ وشرف ما دام فيهم ، حتى استخفّوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات. فلما عملوا المعاصي رفعه الله عنهم. فلما سألوا نبيّهم أن يبعث لهم ملكا ، بعث إليهم طالوت ، وردّ عليهم التابوت.

وقيل إن التابوت صندوق كانت فيه التوراة أو مطلق علائم النبوّة كالعصا والطّست الذي تغسل فيه قلوب النبيّين ، والدرع الذي ألبسه طالوت لداود عليه‌السلام ، وأمثالها. ولا منافاة بين هذا القول وما ورد عن أبي جعفر (ع). والحاصل أنه قال لهم : يأتيكم التابوت (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي أن في التابوت شيء مودع تسكن به قلوبكم ويمسّها الأمن والطمأنينة ، قد جعلها الله فيه ليسكن بنو إسرائيل حين يصيبهم الضّر في أمورهم ، وإذا اشتدت فاقتهم. وهذا من نعم الله تعالى عليهم كالمنّ والسلوى وغيرهما ممّا منّ الله تعالى به عليهم .. أما التابوت فقد كان عندهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحروب ، وكان معه الفتح والظفر. والروايات في السكينة كثيرة مختلفة ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه بالمفصّلات من التفاسير. ففيه السكينة (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) وهذه البقية يمكن أن تكون تراث الإرث كرضاض الألواح ، وكاللّوحين من التوراة ، وكقفيز المنّ الذي كان ينزل عليهم ، وكنعلي موسى وقيل مطلق ثيابه وما هو من آثار الأنبياء عليهم‌السلام : وكعمامة هارون والعصا. وقيل إن المراد بآلهما : هو موسى وهارون ، فقد يقول العرب : آل فلان ، وهم يريدون شخصا بنفسه ، وقد قال شاعرهم :

فلا تبك ميتا بعد ميتّ أحبّه

عليّ ، وعباس ، وآل أبي بكر

يريد أبا بكر نفسه. فسيأتي التابوت بما فيه (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) ويحتمل أن يكون ذلك قدّام جيش طالوت عاليا بين السماء والأرض ، حتى إذا رآه بنو إسرائيل عيانا سكنت قلوبهم لذلك لأنه علم بالنّصر والظفر ، مضافا إلى أن فيه السكينة والأمن .. (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في رجوع التابوت بعد رفعه منذ زمن طويل (لَآيَةً لَكُمْ) علامة وحجة ظاهرة لكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إذا كنتم مصدّقين لقول نبيّكم بأن الله اصطفى طالوت ملكا ، وهذه علامة اصطفائه له. أو إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، لأنهم كفروا بردّهم على نبيّهم. وفي تفسير القمي بسند صحيح عن الرضا عليه‌السلام : أوحى الله الى نبيّهم أن جالوت هو رئيس المشركين وشجاعهم ، يقتله من يستوي عليه درع موسى ، اسمه داود بن أسى. وكان أسى راعيا ، وكان له عشرة بنين ، أصغرهم داوود. فلما جمع طالوت بني إسرائيل للحرب ، بعث الى اسى أن أحضر ولدك. فلما حضروا ، دعا واحدا واحدا منهم فألبسه درع موسى ، فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه ، فقال لأسى : هل خلّفت من ولدك أحدا؟ .. قال : نعم ، أصغرهم تركته في الغنم. فبعث إليه. فلما دعي أقبل ومعه مقلاع ، فناداه ثلاث صخرات حصيات وهو في طريقه : يا داود ، خذنا فإنك تقتل بنا جالوت. فأخذها في مخلاته. ولما برز رمى بها جالوت فقتله ، وزوّجه طالوت بنته .. فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه .. فضمّه الى جنده.

* * *

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ

إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

٢٤٩ ـ (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) ... فصل : أي انفصل فصلا ، متعدّ بالأصل إذ يقال : فصل نفسه ، وفصل جنده ، وقد حذف مفعوله فصار لازما. وجنوده كانوا ثمانين ألفا ، وكان طالوت لا يختار للقتال إلّا الشابّ النشيط الفارع. وكان الوقت في القيظ ، أو ان شدة حرارة الصيف ، فشكوا له قلّة الماء فبشّرهم و (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) أي أنه معاملكم معاملة اختبار لكم (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي أنه لا يكون من أصحابي ولا تابعا لي ولا مؤمنا بي ومنقادا لأمري ، بل يعد في

زمرة العاصين والمعاندين (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) يعني ومن لم يذقه فإنه من أصحابي والتابعين لي إلى قتال الكافرين.

ولو سئل : كيف قال في الماء : ومن لم يطعمه ، والماء مشروب لا مأكول ، والطّعم يستعمل في ما هو مأكول؟ .. فيجاب : طعم وأطعم يقع على كل ما يساغ حتى الماء ، ويستعمل في ذوق الشيء. فمن لم يطعمه يعني : من لم يذقه. والفرق بين الذوق والشرب أن الأول آكد في عدم الشرب كما لا يخفى على أهل الفكر السليم ، فالذوق قد يتحصّل من الشيء القليل النزر الذي يناله الإنسان بطرف لسانه. وفي الحديث : إني لا أمتنع من طعام طعم منه السّنّور. أي ذاقه. وذاقه : عرف طعمه حلوا أو مرا ، أي ما تميّزه الذائقة ..

والحاصل أن طالوت قال لهم ذلك مشترطا (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) مستثنيا بذلك الغرفة الواحدة ، ليعلم مبلغ طاعتهم لأوامر الابتلاء. وغرفة قرئت بضمّ الغين ، بمعنى المغروف ، وقرئت بالفتح على أنها مصدر بمعنى الرّخصة في القليل دون الكثير (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي كرعوا وعبّوا بأفواههم ومدّوا اليه أعناقهم وجرعوا بأفواههم ما شاءت لهم شدة العطش (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) كفّوا أنفسهم والتزموا بأمر الله ولم يشربوا منه إلّا بمقدار الرخصة. وفي تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام : أن الذين لم يشربوا ولم يغترفوا كانوا ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا. ويستفاد من الرواية أن حد القليل في الآيات أو الروايات هو هذا المقدار ، إلّا ان تكون قرينة صادفة. وروي أن من اقتصر على الغرفة روي ، ومن استكثر غلب عطشه وعجز عن المضيّ واسودّت شفته (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي عند ما قطع طالوت النهر هو وجنده الذين شربوا كما أمرهم أو لم يشربوا البتة ، لأنهم كانوا مؤمنين. وقيل إن بعضهم عصى ، وأن الذين آمنوا هم القليلون من جنده الذين لم يشربوا. وحينئذ (قالُوا) أي الذين اغترفوا قال بعضهم لبعض. وهذا هو الظاهر لأنهم عصوا في أول الأمر والمناسب لحالهم هو أن يخافوا من كثرة جند العدو. وإلّا فالمؤمنون

الخالصون هم حزب الله ، والله تعالى يقول : ألا إن حزب الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون : فلا هم يحزنون من كثرة جنود العدوّ في الجهاد ، ولا يفرحون بقلّتهم. والحاصل أن القوم قالوا (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي أن الذين شربوا قالوا حين رأوا جند جالوت الكثير : لا قدرة لنا على صدّ جالوت وجيشه ، ولسنا بقادرين على مواجهة هذا الجبار مع العماليق (١) ، ولا نتمكن من محاربتهم وقتالهم. (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي يتيقّنون ويعتقدون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) وهم المؤمنون المخلصون الذي يصدقون بلقاء ثواب الله وأجره على جهاد أعدائه ، قالوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ) أي فرقة وجماعة قليلة (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) انتصرت على فرقة أكبر منها بأمر الله ونصره. ولفظة كم خبرية. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ينزل النصر عليهم ويؤيدهم به.

٢٥٠ ـ (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ) ... أي حين وقفوا موقف الحرب وجها لوجه ، ورأوا كثرتهم وشدّتهم ، لم يعتمدوا على قوّتهم وثباتهم مهما بلغوا من الطاعة والتفاني في سبيله تعالى ، لأنهم قليلون ، ولذا (قالُوا) في مقام التجائهم الى الله سبحانه داعين بالتأييد منه والتسديد والنّصرة لإظهار دين الحق (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) الإفراغ لغة هو الصّب. وقد شبّهوا الصبر بالماء الذي يصب فيعمّ سائر أبدانهم ، فطلبوا الصبر من الله تعالى يصبّه عليهم صبا ليكون كافيا وافيا ، ودعوه قائلين (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواقع الحرب والنزال (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) واجعلنا نظفر بهم وأنزل علينا ملائكة النصر حتى ندمّر الكافرين تدميرا.

٢٥١ ـ (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) ... أي غلبوهم وانتصروا عليهم. والمأثور أن هزيمة الكفار حصلت بعد أن قتل داود جالوت ولكنه سبحانه أخّر ذكر القتل ليجري ما ذكر لداود من الفضائل على نسق واحد ، لأن

__________________

(١) العمالقة من ولد عمليق بن عاد. وكان عاد وقومه هم الذين بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام ودين الحق وخلع الأنداد ، فأبوا قوله. وتفصيل قصتهم تأتي معنا إن شاء الله تعالى.

ذلك أبلغ في تمجيده ، وأظهر بيانا لعظمة النعمة عليه : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) الجبّار بالحصيات والمقلاع الذي كان معه (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) المهيب الباذخ الذي لم يكن في الأرض المقدسة لأحد قبل داود (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة وعلّمه مما يشاء كفصل القضاء ، وعمل الدروع السابقات أي الواسعة ـ ولين الحديد ، والسّرد ، والزّبور السماويّ ، والصوت الجميل والألحان المعجبة التي كانت تردّد صداها الجبال والوديان ، بحيث لو قرأ الزّبور لاجتمعت عليه الطيور تسبّح الله وتمجّده ، ونحو ذلك من خصائصه عليه‌السلام .. (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ضرب المنافقين والمفسدين ، ودفعهم بالمؤمنين ، ودفع الأشرار والكافرين بنصر المسلمين عليهم ـ وبعضهم : بدل من الناس. فلو لا لطف الله في ذلك (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) بغلبة المفسدين والكفرة ، ولانمحقت الأديان من أصلها ، ولعمّ الكفر والزندقة. ولكنه تعالى خلق الناس مختارين في أفعالهم ، وأحرارا في أن يتمتّعوا في الأرض ، ولذا خرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والصالح من الفاجر وبالعكس ، وعلم سبحانه أن سيكون فيها منافقون ومفسدون ، ولكنه ما كان ليخلّي السبيل لأمثالهم لئلا يملأوا الأرض فسادا وظلما ، ويصير دين الله هباء ، ثم علم أن المفسدين يرون أن إهلاك قوم بقوم هو من سنن الحياة ، فلا يرتدعون ولا يرجعون عن غيّهم وضلالهم ، ولذا شرع الله تعالى باب جهاد الكافرين والمنافقين ، وأوجب على المؤمنين قتالهم ليزيد في أجر المؤمنين ويرفع درجاتهم ، وليقطع دابر الكافرين كلّما استفحل أمرهم بين عباده ، فيكون ذلك بنصر منه تعالى للردع النوعيّ في الغالب ، ولإيقاف طغيان المفسدين والكافرين. وهذا من أهمّ أحكام الجهاد ومصالحه ..

فلو لا دفع الله الكافرين بالمؤمنين ، لعمّ الأرض الفساد ، ولهلك العباد (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) ذو نعمة على الناس بأن يوقف في طريق الفساد ما يمنع الفساد. فأية نعمة هي أعظم من فرض الجهاد للقضاء على الفساد في الأرض يا أولى الألباب؟ ...

٢٥٢ ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ) ... أي هذه القصص المذكورة في الكتب السماوية ، والتي حصلت وكادت تذهب أدراج الرياح لقدمها ، وأوشك أن تذهب من أذهان الناس لهجرها ، ومنها آيات وعلامات نبوّتك يا محمد (نَتْلُوها عَلَيْكَ) نقرأها عليك بالوحي وإرسال القرآن لأنك ما كنت تعلمها قبل الوحي ، وهي دلالة واضحة وعلامة دالّة على صدق دعواك (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي المبعوثين من الله إلى الناس كافة ، بدلالة إخبارك بهذه الآيات : كإماتة ألوف الناس دفعة واحدة ، وكإحيائهم دفعة واحدة بدعاء نبيّهم ، وكتمليك طالوت الذي لم يكن من الأسرة المالكة وأولاد يعقوب ، وكتمليك داود الذي كان يرعى الأغنام وعلّمه الله الحكمة والقضاء بين الناس وسائر العلوم ، وكهزيمة جالوت الجبّار وعمالقته الأشداء ، فهذه الأمور كلها من آيات الله. ومن أخبر بها مع أنه لم يشاهدها ، ولم يعرف أهلها ولا عايش عصورها ، لا يمكن أن يكون قد تلقّاها إلّا عن طريق الوحي. والله تعالى لا يوحي إلّا إلى الأنبياء ، فبما أنك مخبر بها كما حصلت واقعا ، فإنك من المرسلين دون أدنى ريب ..

* * *

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

٢٥٣ ـ (تِلْكَ الرُّسُلُ) ... إشارة إلى الأنبياء المذكورة قصصهم في السورة (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بمنقبة أو فضيلة تخصه دون غيره على ما يبيّنه الله في هذه الآية بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي أنه مازه عن غيره واختصّه بتكليمه له كموسى عليه‌السلام ، وكخاتم النبيين صلوات الله عليه وآله وإن لم يكن مشهورا بهذه الصفة ، فقد ورد مستفيضا عن الصادق عليه‌السلام أن التغيّر الذي كان يعتريه عند الوحي إنما هو عند تكليم الله له بلا واسطة جبرائيل كما روي مسندا في محاسن البرقي ، وعلل الشرائع ، وتوحيد الصدوق ، وإكمال الدين ، وأمالي الشيخ ، بل إن أحاديث المعراج عن رسول الله (ص) ناطقة بأن الله كلّمه وناجاه كما في تفسير القمي ، وبصائر الدرجات وغيرهما بأسانيدهم عن الصادق والكاظم والباقر وأمير المؤمنين عليهم‌السلام ، حتى أن أهل السنّة رووا ذلك في حديث المعراج. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي فضلّهم برفع الدرجات وارتقاء المراتب. وهذه الفضيلة أرفع وأجل من الخصيصة الأولى كما لا يخفى على أهل الدربة. وقيل أراد بهذا البعض محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه تعالى فضّله على غيره من الرّسل بمراتب عديدة متفاوتة ، واختصّه بفضائل لا تحصى ، كالعلوم الوافرة والآيات الباهرة والبراهين الساطعة والحجج المتكاثرة ، والدعوة العامّة للإنس والجنّ مع المعاجز المستمرة الأبدية الكافية إلى يوم النشور ، يؤيده ما في العيون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ قال : ما خلق الله خلقا أفضل منّي ولا أكرم عليه منّي. قال عليّ : فقلت : يا رسول الله أنت أفضل أم جبرائيل؟ .. فقال : إن الله فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا عليّ والأئمة من بعدك.

وإن الملائكة لخدامنا وخدّام محبّينا .. ثم فضلّه (ص) بأن جعله خاتم النبيين ، والحكمة تقتضي ختم النبوّة بأشرف الرّسل لأعظم الأمور ، فإن الزمان كلما قرب إلى آخره يكون أهله أحوج إلى مثل هذه الشريعة الغراء التي تكون في كل حكم من أحكامها مراعية لمصالح كثيرة وأسرار عديدة توجدها الظروف كلما تقدمت الأيام بالناس ، وليجد الناس فيها حلولا لجميع مشاكلهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، ولذا نرى فيها أن حلال محمد حلال الى يوم القيامة ، وحرامه حرام الى يوم القيامة. فالإسلام يعني بأمور البشر معاشا ومعادا الى يوم البعث ، وهو كاف واف يستوعب جميع متطلّبات الحياة ما وجدت الحياة على الأرض.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي المعجزات الدالة على صدق دعواه بأنه رسول الله ، كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحياء الموتى ، والإخبار عمّا كانوا يأكلونه أو يدّخرونه في بيوتهم. وقد اختص موسى وعيسى عليهما‌السلام بالذكر بعظمة معاجزهما ووضوحها وكونها معروفة في ذلك العصر ومشهورة شهرة عجيبة. ثم قال سبحانه : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) فهو إما جبرائيل (ع) على ما في تفسير الإمام ، وإما اسم ملك مقرّب كان قرينا للأنبياء وحافظا لهم على ما في بعض الروايات (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي مشيئة إلجاء وإجبار بحيث لا يقتتل الذين بعد الرسل ويكونون مجبرين على الإيمان وممنوعين عن الكفر ... لا ، فإنه سبحانه لم يفعل ذلك لأن التكليف لا يحسن مع الإلجاء. والجزاء أيضا لا حسن له إلّا مع الاختيار ، والجبر خلاف مقتضى الحكمة ومصالح العباد. والحاصل أن مشيئة الله لو اقتضت عدم القتال بين الأمم بعد بعث الرسل بالبراهين والحجج الدالة على وضوح الحق والباطل بحيث لا يشك إلّا المعاند ، لارتفع القتال. ولكن الحكمة اقتضت غير ذلك ولم تلجئ أحدا الى فعل وتركت للعباد أن يختاروا (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) وتنازعوا باتّباع الهوى من بعض وعدمه من بعض (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) بتوفيق الله ولطفه وعنايته فاختار سبيل الهدى (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بسوء اختياره فأخذ طريق الضلال والغيّ (وَلَوْ

شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) هو تكرار ، إما أنه بلحاظ التأكيد على ما ذكرناه ليبين ان المشيئة الإكراهية الاضطرارية يرتفع معها التكليف ، أو أنه أمر للمؤمنين بالكف عن قتالهم (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ليجزي المؤمنين جزاء المجاهدين في سبيل الحق ، بدون أن يجبرهم ويكرههم ، ودون أن يكفّهم ويمنعهم ، بل يعمل معهم ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة. وفي العياشي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الجمل : كبّر القوم وكبّرنا ، وهلّل القوم وهلّلنا ، وصلّى القوم وصلّينا ، فعلام نقاتلهم؟ ... ثم تلا هذه الآية. ثم قال : نحن الذين من بعدهم، وقال : فنحن الذين آمنّا ، وهم الذين كفروا.

٢٥٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ... لما قصّ سبحانه أخبار الأمم السابقة ، وثبّت رسالة نبيّنا ، عقّب بذكر شيء من أوصاف أصحابه مختارا الإيمان لأنه أصل تتفرع عنه جميع الطاعات فنعتهم بالذين آمنوا ، أي صدّقوا به وبرسوله محمد ، فقال لهم : أنفقوا مما رزقناكم الإنفاق الواجب المعهود شرعا كالزكاة حيث لا عهد بالإنفاق العام الواجب في صدر الإسلام لغيرها. وقيل إنه أعم من الفرض والنفل لأنه أتم ولأن الآية ليس فيها وعيد على ترك الإنفاق ، وإنما فيها إخبار بفوائده العظيمة لليوم العظيم بقرينة تعقيبه بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) فالأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم أقوى شاهد على أن فائدتها تحصل في ذلك اليوم مضافا الى فوائدها الدنيويّة على ما يستفاد من الروايات. وهذه الفوائد تترتب على الإنفاقات الفرضية والنفلية. وقوله : لا بيع : أي لا تجارة ولا عمل ينجي ويفتدي به من العذاب. ولا خلة : أي لا صداقة تقي العذاب وتدفعه ، فإن الأخلّاء بعضهم لبعض عدو إلّا المؤمنين ولا شفاعة : فلا يملك أحد الشفاعة لأحد يوم القيامة إلّا أن يؤذن له فيها ، ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى. ولا منافاة بين نفي الشفاعة والآيات المثبتة لها. فإن المنفية هي الشفاعة المطلقة التي تكون بلا إذن منه تعالى ولا رضى والمثبتة هي المقيّدة بهما. وقد يكون النفيّ راجعا الى شفاعة الأصنام

والكواكب التي كانوا يعتقدونها ويقولون بها. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي التاركون للزكاة عبّر عنهم بالكافرين ، ونعتهم تغليظا بالظالمين لأنفسهم إذ لم يتركوا لأنفسهم وسيلة إليه تعالى تنجيهم من عذابه. ووجه آخر نحتمله في تخصص الكافر بالظلم مع أن غيره يمكن أن يكون ظالما ، وهو أن ظلم الكافر يكون غاية في الظلم لأنه ظلم أبديّ لو فرض أن عاش عمر الدنيا لعاش ظلمه معه كذلك ، ولذلك يكون خلوده في النار دائميا ، بخلاف ظلم غيره من أهل الإسلام ، فإنهم ليسوا كذلك بحسب عقيدتهم ، ولكنهم إذا أذنبوا تابوا ، وإذا عملوا ما لا يرضاه الله ورسوله جاءهم وقت يقفون عنده ويلجأون الى الإقلاع عن الذنب والعودة عن مزاولة الإثم. أما الكافرون فيكفي أن يكون من ذنوبهم الكفر بالله وإنكار الموجد والعياذ بالله من ذلك ، وهو ممّا لا مغفرة له إذا مات الإنسان عليه.

* * *

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)

اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

٢٥٥ ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ... مبتدأ وخبر. والله علم واسم لواجب الوجود ذاتا ، وهو المستحقّ للعبادة لا غيره ، لأنه القادر على الإنعام. ولا تحقّ الألوهية لسواه لأنه الذات المقدّسة المتصفة بصفات الربوبية : كوحدة الوجود ، والعلم المحيط بجميع ما سواه ، والقدرة الكاملة التي ليس فوقها قدرة ، والخالقيّة ، وغير ذلك ممّا سيجيء كمثل (الْحَيُ) أي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه لأنه الموجد للحياة والفناء ، وهو على اصطلاح المتكلّمين : الذي يصح أن يعلم ويقدر ، وقيل : الثابتة له صفة الحياة ، والدائم بدوام ذاته. ولا يخفى أن هذه المعاني للحيّ الذي هو من أوصاف ذات الباري جلّ وعلا ، وإلّا فمعنى الحيّ واضح ظاهر. وكمثل (الْقَيُّومُ) التي أصلها : قيووم ، على وزن : فيعول. والقاعدة أن الياء والواو إذا اجتمعا وكانت الأولى منهما ساكنة قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء قياسا مطردا. والقيام : أصله : قيوام على وزن : فيعال ، ففعل به ما ذكرنا. إلّا أنه تحصلا للأخف في الكلام حذفنا إحدى الياءين. ومعنى القيّوم : القائم الدائم بتدبير الخلق وحفظهم في جميع شؤونهم (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي لا تستولي عليه الفترة المعبّر عنها بالنعاس الذي يتقدم النوم ، ولذا قدّمها عليه بقوله : (وَلا نَوْمٌ) أي الحالة الثقيلة العارضة للمخلوق المزيلة لحسّ قوى السمع والبصر ، وإذا غلبت عليهما غلبت أيضا على القلب والوعي ، فسلبت الكائن المدرك الواعي جميع إدراكاته ووعيه. والسّنة يجوز أن لا تغلب ولا تستولي على المدارك ، بل

يطرأ النوم بعدها غالبا فيغلب على كل ذلك ، وقد يهجم النوم بلا تقدّم السّنة. لكن الله جلّ شأنه منزّه عن أن يعرض على قيمومته سنة أو أن يغلب عليها نوم (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) أي هو المالك لما فيها من الموجودات العظيمة العجيبة التي خلقها وأسكنها فيها ، والمتصرّف في جميع أمورها والمتكفّل بكل حاجاتها وحاجات من فيها. يملكها جميعها (وَما فِي الْأَرْضِ) من الدّرة الى الذّرة ، قائم بتدبير أمرها وأمر ما فيها من الكائنات التي كوّنها. يملك السماوات والأرض وما فيهنّ ، داخلا في حقيقتهنّ أو خارجا عنها ، متمكّنا من ذلك كلّه. وهذه الآية الشريفة مؤكدة لقيموميّته وحجّة على تفرّده بألوهيته.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ظاهر هذه الشريفة الاستفهام ، ومعناه الإنكار والنّفي أي : لا يشفع يوم القيامة شافع ممّن ترجى شفاعته إلّا بإذنه. فالشفاعة منحصرة به تعالى ، والشّفعاء لا يشفعون إلا لمن ارتضى. وهذه بيان لكبريائيّته التي تفرّد سبحانه بها ، وأنه لا أحد يساويه. فهو المتفرّد بالعظمة والجلال ... ولا يخفى ان الشفاعة مقام رفيع منيع ، لا يناله إلّا من كان من بلاط سلطانه عزوجل ، وهو لأمّتنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطاهرون ، والأنبياء من بعدهم لسائر الأمم ، وذلك تشريفا لهم وإعلاء لمقاماتهم السامية ودرجاتهم الراقية ، وترغيبا للناس في طاعتهم ، لأن طاعتهم طاعة الله ، وعصيانهم مخالفة لله تبارك وتعالى. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي أنه سبحانه يحيط بأمورهم طرّا مما قد مضى ونسوه ، وممّا يأتي وقد جهلوه ولم يدروا به ، وممّا هم عليه فعلا. وحاصل ما يستفاد من هذه الشريفة والله أعلم ـ أن إضافة العلم بما بين أيديهم : أي قدّامهم ، وما خلفهم : يعني ما مضى من أمرهم ، لا يدلّ على أنّ علمه عزّ وعلا منحصر بجهة من الجهات دون جهة. واختصاص قوله تعالى ببعض الجهات ـ أي بما قد مضى ، وبما سيأتي ـ يدلّ على أن الرؤية التي يعقبها العلم يقع على هاتين الجهتين غالبا ، لأن الإنسان المرئيّ ـ مثلا ـ إمّا أن يمشي قدّام الرائي فيرى خلفه

وما فيه ، أو يمشي مواجها له فيرى قدّامه وما فيه. وأمّا الرؤية الواقعة على سائر أطرافه فهي تبعيّة نوعا كما هو الواضح وجدانا ولا يحتاج الى إقامة برهان. نعم ربما تكون الأطراف الأخر منظورة في الرؤية بأنفسها أحيانا. وعلى كل حال فقد روي فيها معان غير هذه لا بأس بالنظر فيها في التفاسير المفصّلة. وقد روى القمي عن الرضا عليه‌السلام أن المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ، ما لم يكن بعد. (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) ففي حال كونه جلّ وعلا محيطا بالمخلوقات وبمعلوماتهم وبمظنوناتهم وبما يخطر على بالهم وعلى سائر أعمالهم ، فهم عاجزون عن أي شيء من هذا ولا يحيطون ـ أي يعلمون تفصيلا ـ بشيء مما عنده تعالى من علم (إِلَّا بِما شاءَ) أي بما أراد أن يعلّمهم إياه ويطلعهم عليه ..

والجملتان تدلّان على أن العلم الذاتيّ بالأشياء على ما هي عليه ، يخصّه سبحانه وتعالى وهو متفرّد به. ويدلّان على وحدانيّته. والجملة الأخيرة تبيّن بقرينة التقابل ما في الجملة الأولى. أي أن فيها إشارة الى ما فسّرناه أولا. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) روى الصّدوق في توحيده ، بسنده عن المفضّل عن الصادق عليه‌السلام : أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه وحججه. والكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا .. وبسنده عن حفص بن غياث عنه عليه‌السلام ، قال عن الكرسيّ في الآية : علمه. وفي كثير من الروايات فسّروا الكرسيّ بعلمه تعالى .. ولما بيّن عزّ شأنه أن له ما في السماوات والأرض ، شاء أن يبيّن إحاطة علمه بهما ، وسلطة تدبيره بجميع ما هو له ملكية ذاتيّة يتفرّد بها. فكان من المناسب لإدراكنا القاصر التمثيل بالجسمانيّات المألوفة لنا ، فشبّه الإحاطة والسّلطة بما لو كان على كرسيّ الملك بحسب التخيّل ، ولعلّها على ذلك جرت تعابير الأئمة عليهم‌السلام في السماوات والأرض ونسبتهما مع الكرسيّ ، وأنهما ضمن سلطة الكرسيّ وفي الكرسيّ ، أي أن الكرسيّ محيطة بهما إحاطة الظّرف بما فيه. فعلمه سبحانه ، كإحاطة الملك بما حوله علما حين جلوسه على عرش الملك .. ثم لمّا بيّن عظمة ذلك

كله قال : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي لا يتعبه ولا يشقيه ولا يثقله إمساكهما وحفظهما عن التفرّق والاندثار. فهو جلّ وعلا يمسكهما بقدرته الكاملة وبلا عمد ولا متّكأ يعتمدان عليه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) الذي ليس فوقه شيء في المرتبة. والعليّ بهذا المعنى من أسماء الله الحسنى. وجاء العليّ بمعنى المنزّه عن المثل والنّد. والعظيم أي في سلطانه وجلاله ، وكلّ ما سواه محتقر بالنسبة إليه. وفي الجوامع عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول : من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة ، لم يمنعه من دخول الجنّة إلّا الموت. ولا يواظب عليها إلّا صدّيق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنّه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله .. ولاشتمال الآية على توحيده تعالى وأصول صفاته الكمالية ونعوته الجلاليّة ، ورد في شأنها ما ورد من الآثار المذكورة في الرواية السابقة ، وورد عن الباقر عليه‌السلام : من قرأ آية الكرسيّ مرة ، صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدّنيا ، وألف مكروه من مكاره الآخرة. وأيسر مكروه الدنيا الفقر ، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في الآثار.

٢٥٦ ـ (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ... يؤخذ من هذه الشريفة حرية الاعتقاد بعد ثبوت الحجّة والبرهان ، ليكون التديّن بالبحث الفكريّ والاقتناع العقلي. والله سبحانه خيّر العباد بعد تبيان آياته ليكون معتقدهم ساميا حقا له تقديره بالنسبة لموازين هذه الآية الشريفة. وهو عزّ وعلا ، بعد وضوح منهجه ، وإشراق أنوار معرفته ، وإنارة أعلامه بالإتيان بمعجزات باهرة ، وبراهين لائحة ، وحجج ساطعة ، وآيات ودلائل واضحة بيّنة هادية الى دين الفطرة المستقيمة ، قال ـ جلّت قدرته ـ لا إكراه في الدين. أمّا في بدء الإسلام وتجميع الأنصار فقد كانت القوى الحربية تؤازر قوى الهداية ، وكانت آية السيف. وكان الأمر بالجهاد ، وكان أمر الكفرة دائرا بين الإسلام أو القتل ، وأمر أهل الكتاب بين أحد هذين الأمرين أو الجزية التي كان يقبلها الإسلام لتجهيز العسكر وتكثير القوى وازديادها من أجل

منعة الدين وترويجه وتشييد أركانه. وبعد حصول النتيجة المتوخّاة من قوّة الإسلام ، وعدم حاجة المسلمين الى الجزية لتزايد اموال الغنائم عندهم رفضوا قبول الجزية ولم يرضوا من أحد إلّا الإسلام أو القتل. ف (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي بعد ظهور طريق الحق ووضوحه من الباطل ، وتماميّة الحجة على الناس. فلا إكراه في الدّين ولا جبر عليه ، بل صاروا مخيّرين بالأخذ بأية عقيدة شاؤوا ، ليهلك من هلك عن بيّنة وليحيا من حيّ عن بيّنة ، فإن اتّبعوا الحقّ وعملوا خيرا جزوا خيرا ، وإن تابعوا الباطل نالوا في آخرتهم شرا. وقيل كان لأنصاريّ ابنان ، فتنصّرا قبل البعثة ، ثم قدما المدينة فقال أبوهما : والله لا أدعكما حتى تسلما. فاختصموا الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي يجحده ويتبّرأ منه. والطاغوت مأخوذ من الطغيان ، ووزنه : فعلوت مثل الرغبوت ، والرهبوت ، والرحموت. وهي مصدر بدليل وقوعها على الواحد والجماعة بلفظ واحد. وقد قدّم لأمه على عينه على خلاف القياس فصار : طيغوت ، فبدلت الياء ألفا فصار : طاغوت ، أي شيطان ، أو ما عبد من دون الله ، أو من هو رأس الضلال والغيّ. وفي الحديث : من رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت. وجمعها طواغيت.

والحاصل أنه يمكن أن يقال هو كناية عن الباطل ، وفي كلّ مقام من القرآن الكريم يراد منه ما يناسب سياقه ، والمناسب للمقام هنا هو الأصنام أو دعاة الشّرك والكفر. (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدّق بذاته المقدّسة ويوحّده ، ويعترف بربوبيّته وبرسله وما جاؤا به في كلّ زمان (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي اعتصم بعصمة قوية متينة هي من أشد الروابط بحيث تكون (لَا انْفِصامَ لَها) فلا تنقطع أبدا ولا تنحلّ. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : هي الإيمان بالله وحده لا شريك له. وعن الباقر عليه‌السلام : هي مودّتنا أهل البيت. وفي المعاني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أحبّ أن يتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، فليتمسّك بولاية أخي ووصيّي عليّ بن أبي طالب ، صلوات الله

عليه ، فإنه لا يهلك من أحبّه وتولّاه ، ولا ينجو من أبغضه وعاداه (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع الأقوال ويعلم الأفعال وما في الضمائر ، ويسمع وساوس الصدور ، ولا يخفى عليه شيء. ثم لمّا ذكر سبحانه المؤمن والكافر ، بيّن وليّ كلّ منهما فقال عزّ من قائل :

٢٥٧ ـ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ... أي وكيلهم الذي هو أولى بهم من أنفسهم ، ومغيثهم ، وناصرهم على أعدائهم ، وكهفهم في شدائدهم ، وملجأهم عند اضطرارهم ، وهذه كلّها من معاني الولاية الربّانية. وكم من فرق بين ولاية الله عزوجل على المؤمنين ، وولاية المؤمنين بعضهم على بعض على ما قرّر في محلّه! .. فهو تعالى وليّ المؤمنين جميعهم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية بتوفيقه ولطفه. وهذه الجملة بيان لمصداق من مصاديق ولاية الله على المؤمنين. وهذا الإخراج من طخياء الكفر والغيّ والإدخال في لألاء النور ، من أعظم نعمه تعالى على عباده المؤمنين. وقد خصّهم بالذكر مع أنّ لطفه عميم لجميع طبقات المخلوقات والموجودات ، لأنهم لم يعاندوا الحق ، ولم يخرجوا أنفسهم عن الأهلية لتوفيقه وشمول ألطافه الخاصة.

ولا يقال : كيف قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، بلفظ المضارع ، والقاعدة تقتضي أن تأتي بلفظ الماضي : أخرجهم ، فإن الإخراج قد وجد لأن الإيمان قد ثبت وتحقّق. ويقال : جيء بالمضارع لأنه دالّ على استمرار ذلك الإخراج بقاء في حق المؤمن ما دام مؤمنا. والماضي لا يدل على هذا المعنى ، وكذلك قد يستشكل بأن المؤمن متى كان في ظلمات الكفر ، والكافر في نور الإيمان ليخرجا من ذلك؟ .. والجواب عن ذلك أن الإخراج يستعمل ويطلق على المنع عن الدخول في شيء ، فيقال لمن امتنع عن الدخول في أمر : خرج منه ، وأخرج نفسه عنه وخلّصها وإن لم يكن قد دخل فيه. فعاصميّة الله تعالى للمؤمنين عن دخول ظلمات الكفر والنّفاق ، إخراج أو بمنزلة

الإخراج لهم منها. وتزيين قرناء الكفار الباطل لهم وصدّهم به عن الهدى ودين الحق ، إخراج لهم عن نور الهداية ، وإخراج عن الإسلام الذي هو نور حقيقته وباطنه بمعناه الواقعي الذي هو التسليم في جنب الله بحيث لا يرى لنفسه اختيارا ولا في أعماله إلّا رضاه عزوجل. وقد جاء في الأثر : الإسلام هو التسليم ، أي لله ولرسوله بما جاء به من عنده. أو يقال إنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يظهر ، كان نورا لهم. وكفرهم به بعد ظهوره هو الخروج من ذلك النور الى الظّلمات. أو لأنه لمّا ظهرت دلائل نبوته وحجج رسالته ، كان موافقوه ومتّبعوه خارجين من ظلمات الجهل والضلالة إلى نور العلم والهداية ، وكان مخالفوه ومعاندوه واقعين في تيه الجهل والغواية (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) والمراد بالطاغوت هنا الجماعة ـ وقد سبق وقدّمنا أنها تقع على الواحد والكثيرين ـ بقرينة استناد الأولياء إليها. والمراد بها رؤوس الضلال. وولايتهم على الكفرة هي الإمارة والرئاسة عليهم لإغوائهم وتعمية الأمور عليهم حتى يركبوا أعناقهم ويستفيدوا من إذعانهم لهم مغانم عظيمة ، منها نهضتهم معهم ضدّ الأنبياء ، وتجنيد الجنود عليهم. ولو لا ولايتهم ورئاستهم عليهم لما قدروا على ذلك. أفلا تعد هذه التعمية وهذا الإغواء إخراجا من الرؤساء لمرؤوسيهم والتابعين لهم من نور الهداية والصراط المستقيم اللّذين هما نور وضياء ، إلى الضلالة والطريق المعوّج اللّتين هما الظّلمات ، لأنهما توصلان سالكيهما والسائرين فيهما الى جهنّم والنار التي سجّرها الجبّار للعاصين؟ .. وهل يوجد مكان أشد ظلمة منها نستعيذ بالله عزوجل من جهنم وممن يدعو إليها؟. فأولياء الكفّار (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) كما ذكرنا ، وهو المتبادر إلى ذهن كل حصيف يعمل فكره .. فالذين كفروا ، وأولياؤهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) هذه هي النتيجة الحتميّة لمن يتولّى الطاغوت ، ولكل طاغوت وأتباعه والمستجيبين لدعوته والسائرين في ظلام غوايته والراضين لجهالتهم بجهالته.

وأمّا السؤال البديهيّ ، بأنه متى كان هؤلاء ، في النور ، فأخرجهم قرناؤهم منه إلى الظّلمة ، فقد أجبنا عليه بما يكفي عند بيان المراد من قوله سبحانه : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، سابقا. وقد قيل أيضا : إن إخراجهم يكون من نور الفطرة إلى فساد الاستعداد. وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : النّور آل محمد (ص) والظّلمات عدوّهم. وعن ابن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله : إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّون فلانا وفلانا ، لهم أمانة وصدق ووفاء. وأقوام يتولّونكم وليست لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق .. قال فاستوى أبو عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فأقبل عليّ كالغضبان ثم قال : لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله ولا عتب ـ أي لا عتاب ولا لوم ولا مؤاخذة ـ على من دان الله بولاية إمام عادل من الله ... قلت : لا دين لأولئك ، ولا عتب على هؤلاء؟ .. قال : لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء. ثم قال : ألا تسمع لقول الله عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)؟ .. يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التّوبة والمغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل من الله عزوجل. وقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) : إنما عنى بهذا أنهم كانوا على نور الإسلام ، فلمّا أن تولّوا كل إمام جائر ليس من الله ، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر فأوجب الله لهم النّار مع الكفّار .. ويستفاد من هذه الرواية أن الدين ـ في قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ـ هو التشيّع ، وأن الآية مؤوّلة بتمامها بولايتهمعليهم‌السلام.

* * *

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ

أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

٢٥٨ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) ... تر : من رأى يرى رؤية ، أي نظر بالعين أو بالعقل. والمراد هنا النظر بالعقل ، اي التدبّر والتفكّر. يعني ألم تتفكّر يا محمد بقصة الحجاج الذي جرى بين إبراهيم عليه‌السلام وبين خصمه حين حاجّه في (رَبِّهِ)؟. والاستفهام هنا تقريري ، أي لا بدّ أن تتدبّر هذه القصة العجيبة المفيدة في المجادلة مع المنكرين للصانع والجاحدين له تعالى. والمحاجّة ـ لغة ـ تشمل الجدل وإن كان باطلا داحضا. والظاهر أن الذي حاجّ إبراهيم عليه‌السلام ، هو النمرود الملك الجبّار الذي كان في زمانه. وقيل إن المحاجّة كانت قبل إلقاء إبراهيم عليه‌السلام في النار وحبسه ، وقيل بعد ذلك. ولم نجد مدركا لواحد من القولين ، سوى ما روي في المجمع عن الصادق عليه‌السلام من أنّ المحاجّة كانت بعد إلقائه في النار.

والذي جرّأ النمرود على حجاج إبراهيم عليه‌السلام في ربّه بالباطل ، هو عتوّه وكبرياؤه ، وذلك (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي لأنه تعالى أنعم عليه بأعظم نعمة وأعطاه ملك الشرق والغرب ، فطغى وبطر من هذه النعمة الجزيلة ولم يتحمّلها عقله ولا عدّها تفضّلا من الله تعالى بل أنكر خالقه ورازقه والمنعم عليه ، فبعث الله إبراهيم عليه‌السلام ليدعوه إلى طريق الحق ويهديه إلى الدين المستقيم (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) مخاطبا النمرود ، بهذا الكلام القائم على الحذف والتقدير ، أي أن النمرود قال لإبراهيم عليه‌السلام : من ربّك؟ .. فأجابه بذلك ، مبتدئا بأول نعمة ينعم الله تعالى بها على خلقه ، ومختتما بآخر آية تدلّ على عظمته إذ لا يقدر عليها غيره. وبيان ذلك أن إفاضته الروح أمر إلهي ، لا يعرف كيف يخرجها من البدن الحيّ من دون تعب ولا حرج ولا نقص في البدن ، ولا إحداث فعل فيه كذبح وفصد وخنق وغيره ، إلا هو جلّت قدرته فما كان من النمرود إلّا أن (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) أي أنا أحيي من هو مستحق للقتل فلا أقتله فأكون قد وهبته الحياة من جديد ، وأميت إذ أقتل من أشاء من المجرمين. وهو جواب يدل على جهل وحماقة من الكافر المنكر ، لأن عدم القتل إبقاء لحياة موجودة ، وليس إحداث حياة لم تكن ، ولا هو إيجاد لها. فسمع إبراهيم عليه‌السلام لجوابه الأحمق ، وأغضى عن الدخول في التفصيل ، بعد أن رآه مموّها أو قاصر الفهم عن معنى الأحياء والإماتة اللّذين أضافهما إبراهيم عليه‌السلام الى ربه ، فعدل إلى حجة أخرى أظهر وأقوى تجبه الخصم وتلقمه حجرا ، إذ (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) واختار احتجاجا ليس فيه تلبيس على أحد في الجواب ، ولا يستطاع التمويه فيه ولا الزندقة ، فطبع الله على قلب خصمه ...

ويحتمل أن يكون مراد إبراهيم عليه‌السلام بالحجة الثانية ، هو تبيان للخصم يريه أن من كان من شأنه القدرة على إماتة الأحياء وإحياء الموتى ، لا بدّ أن تكون عنده القدرة على أن يأتي بالشمس من المغرب (فَبُهِتَ

الَّذِي كَفَرَ) أي فشل وخجل وتحيّر وتخاذل للعجز عن الجواب .. ولا يقال : لم لم يقل النمرود : فليأت بها ربّك يا إبراهيم من المغرب إن كنت صادقا بأنه قادر على كل شيء. ذلك أن النمرود علم من الآيات التي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام أنه لو اقترح هذه الحجة لأتى بها الله سبحانه تصديقا لنبيه وتأييدا لدينه ، فيصير النمرود حينئذ محلّ مزيد للفضيحة ومثار للسخرية ، فأعرض عن ذلك ... وقد يصرف الله سبحانه بعض العقول ، ويعمي بعض القلوب من أهل الباطل فيضلون على أسئلة وأجوبة تنطوي تحتها مصالح وحكم خفية علينا ، دحضا للبدع والمخترعات ، ولئلا يضلّ عباده ويضيعوا عن الحق .. فلم يدع النمرود شيئا ، ولا قال إن النظام الشمسي من مخترعاتي ومن تنظيماتي ، لأنه يعلم ان النظام والشمس والأفلاك متقدّمة عليه ، ولوضوح بطلان هذه الدعوى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بإبائهم قبول الهداية. فالله عزوجل يتركهم وأهواءهم لأنه غنيّ عن العالمين لا تضرّه معصية من عصى ، ولا تزيد في عظمته طاعة من أطاع.

٢٥٩ ـ (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ... أي انظر وتفكّر في قصّة أخرى غريبة كقصة محاجّة إبراهيم مع خصمه. وأو : للعطف والجمع ، نظير الواو. وقيل إن المارّ على القرية هو عزيز بن شرحيا ، أو هو أرميا. ففي تفسير البرهان عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. أنه عزيز. وفي تفسيريّ القمي والطبرسي عن الصادق عليه‌السلام أنه أرميا النبي. والمشهوريين العامة والخاصة أنه عزير النبيّ الذي نسبه اليهود إلى الله حينما قالوا : عزير بن الله لأنه أقام التوراة بعد ما أحرقها جيش بختنصّر بأمره حينما سلّطه الله على بني إسرائيل.

أما القرية فهي بيت المقدس ونواحيها التي خرّبها بختنصّر ، مرّ عليها عزير (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي أنها مخرّبة من أركانها. فالعروش : جمع عرش. ويطلق على ركن الشيء وما به قوامه. والمراد به

هنا البيوت التي بها قوام القرية ، أو الحيطان التي بها قوام البيوت. فالقدس حين مرّ عليها عزير كانت سقوف بيوتها مطبقة على أرضها ، وحيطانها مهدّمة. والخاوية بمعنى الخالية على ما في الصحاح والقاموس. فيقال : خوت الدار ، أي خلت من أهلها فالمعنى : أن القرية كانت خالية من إسكان ، وكانت سقوفها وحيطانها مهدّمة على أركانها التي تقوم عليها ، فمرّ بها عزير و (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وأنّى : ظرف ، أي : متى. أو حال ، بمعنى : كيف. وعلى التقديرين هو تعجّب وإقرار بالعجز عن معرفة كيفية الإحياء بعد تناثر اللحم وبلاء الأعظم وتفرّقها ، وبعد أن صارت العروق والأعصاب ترابا ، وبعد أن بعثرت العوامل الطبيعيّة من ريح وشمس ومطر وهواء أكثر الأجزاء من كل جسم. ولذا تعجّب من البعث والإحياء ، أو يمكن أن يكون قد استعظم النشور في سانحة من سوانح تفكيره ، واشتاق الى ان يعاين إحياء الموتى ليرى كيفية بعثهم للمزيد من الاستبصار ولإزالة ما يخطر في البال ، فيطمئنّ بذلك قلبه .. ومنّ الله عليه بجلاء هذا العجب (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) ولبث طيلة هذه المدة ميتا (ثُمَّ بَعَثَهُ) فأحياه.

وظاهر الآية المباركة ، وما يتبادر الى الذهن من لفظ الإماتة ، هو المعنى الحقيقي للموت. اي إزهاق النفس ، وإخراجها من الجسم. وكذا ظاهر الروايات الواردة في المقام عن أمير المؤمنين والصادق عليهما‌السلام. فكلّها ظاهرة وصريحة في تحقّق الموت بمعناه المعروف : كقبض الروح ، وفناء البدن ، وتفكّك أوصاله وتناثر لحمه وعظامه. وإنه سبحانه ـ بعد المائة عام ـ قد جمعها وكسا العظام لحما وأعاده إلى الحياة. ولكن مفسّرا مصريا اعتبر الإماتة هنا فقدانا للحس والإدراك كالسّبات والنوم العميق ، لا مفارقة الروح للبدن. ولا ندري لأي شيء أسند رأية ولا كيف استفاد هذا المعنى واخترع هذا التأويل للّفظ الفصيح الصريح ... ولا نعلم ماذا يقول في قوله عزّ وعلا : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)؟ .. فنعوذ بالله من التفسير بالرأي من الذين لا يخامرهم خوف من الله حين يتقوّلون في معاني

كتابه الكريم ، مع ان من فسّر القرآن بالرأي فليتبوّأ مقعده من النار!. هذا ، مضافا إلى أن تفسير الإماتة بالسّبات هنا لا يناسب المقام ، إذ لا معنى أن يتعجّب مارّ من كيفية بعث عظام نخرة ولحوم مبعثرة ، يجمعها الله ويعيد إليها الحياة ، ثم يبتليه الله بالسّبات ليثبت له كيفية البعث. بل لا معنى لنوم مائة عام كاملة ، وليست الإفاقة من ذلك النوم كالبعث من الموت ، بل لا بد أن يميته الله كما أماتهم وان يبعثه كما يبعثهم ولو مضى على موتهم ملايين السنين.

فقد أماته الله تعالى إماتة لا ريب فيها ، دامت مائة عام ثم بعثه بعدها و (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) بإسماع صوت أو ببعث ملك أو نبي فلم يتردد بل (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وهذا كلام الظانّ لأن الله أماته في أول النهار ، وبعثه بعد مائة عام في آخر النهار ، فقال : يوما وهو يحسب أن الشمس قد غربت ثم التفت فرأى قرصها لا يزال ظاهرا في الأفق فقال استدراكا : أو بعض يوم (فقال) القائل الذي احتملناه في المورد : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) أي بقيت هنا ماكثا في مكانك مائة سنة وقد أظهرت لك المشيئة الالهية أمرا من خوارق العادة وعلائم القدرة لتذهب حيرتك في كيفية إحياء الموتى بعد فنائهم. ثم قال القائل : وان لم تطمئن وبقيت في شك من قصتك (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وقيل كان تينا أو عنبا (وَشَرابِكَ) وكان عصيرا أو لبنا (لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي لم يتغير بمرور السنين المتطاولة ولا طرأ عليه تلف ، مع أن مقتضى العادة وطبيعة هذه الأشياء بالخصوص أن يسرع إليها التأثر والتعفن فكيف إذا مرت عليها مائة سنة؟ .. فبهذه القدرة يحيي الله الموتى ويعيد كل جنس كما كان وقد أفرد الضمير في فعل يتسنه لأن الطعام والشراب بمنزلة جنس واحد. ثم لفت القائل نظره بقوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) الذي أمتناه وابليناه وفتتنا أعضاءه وأجزاءه ثم بعثناه حيا كما كان. وقد فعلنا هذا لنطلعك على قدرتنا (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) وعلامة ترشد المنكرين للبعث والمتعجبين من القدرة عليه فستكون أنت حجة بالغة لمظهر قدرتنا وبرهانا على صدق رسلنا وأنبيائنا حين أنذروا الناس من البعث

والنشور والحساب والثواب والعقاب ـ وهذا كله ظاهر من سياق الكلام في الاية الشريفة.

وقيل إن عزيرا رجع الى قومه على حماره بعد بعثه وقال : أنا عزير ، فكذبوه. فجاءهم بمعجزة إملاء التوراة بعد أن كان بختنصر قد أحرقها ، ثم قابلوا إملاءه على نسخة منها كان جده قد دفنها في مكان ما ، فدلهم عليها فأخرجوها ، وعارضوا إملاءه والنسخة فما خرم حرفا واحدا فقالوا : هو ابن الله.

وقيل انه رجع الى قومه وهو شاب وأولاده شيوخ ، وكان إذا حدثهم بحديث قالوا : حديث مائة سنة وعن علي عليه‌السلام : انه خلف امرأته حاملا وكان له خمسون سنة ثم رجع وله خمسون سنة ولابنه مائة سنة ..

ثم تابع سبحانه في بيان مظاهر البعث فقال : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) اي عظام الحمار أو عظام أهل القرية أو سائر الموتى أو عظام نفسه إذ قيل إن أول ما أحيا الله تعالى منه عينيه فنظر الى عظامه (كيف ننشزها) اي نرفع بعضها على بعض لتركيبها. وقرئ بالمهملة ـ ننشرها ـ اي نحييها. والجملة حال من العظام فان سأل سائل : لماذا أتى في المقام بمثالين : واحد منهما : لم يتسنه ، عن الطعام والشراب. والثاني : الحمار الذي عاد كما كان من قوة وصلابة .. والجواب عن الجهتين أن وجه اختصاص الطعام والشراب واحد. وقد اختصهما بالذكر لأنهما شيئان أقرب الى الفساد وأسرع الى التعفن ثم أورد ذكر الحمار كضدّ لهما ، فهو أقدر على الصمود أمام عوامل التلاشي وسرعة التلف لصلابة أعضائه وقوة بدنه. وقد أعيدا ـ بما هما فيه كما كانا وبنفس الخصائص والميزات. فهذان المثلان يرياننا كمال القدرة كما أريا عزيرا كيفية الاعادة فحصل له كمال الطمأنينة وسكون النفس وراحة القلب الى ثبوت مسألة البعث والنشور ... ثم نبهه تعالى الى النظام فقال (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي نلبسها لحمها بذاته نجمعه من هاهنا وهاهنا .. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي وضح لعزير أمر إحياء الموتى من خلال إحياء نفسه وحماره واعادة

طعامه وشرابه بعينهما ورجع كل شيء كما كان (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : حصل لي اليقين الكامل من المشاهدة والعيان بأن الله يقدر ويتمكن من بعث من في القبور بعد إعادة الحياة إليهم.

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

٢٦٠ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي) .. يمكن أن يكون الكلام معطوفا على ما قبله أي على قصة عزير أو على قصة إبراهيم الأولى. وعلى التقديرين معناه : انظر يا محمد الى قصد أخرى لإبراهيم جرت فيها شؤون خارقة للعادة وايات ربانية وذلك حين قال لربه عز اسمه : أرني (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) والسؤال بحسب النظرة السطحية يرى منكرا من القول. ولكن بعد إمعان النظر يعلم أن قوله عليه‌السلام لا يعني نظره الى أصل الأحياء بعد الاماتة حتى يكون أمرا غير مترقّب منه بل كان هذا الأمر مفروغا عنه عنده. فسؤاله كان عن كيفية الأحياء. وبعبارة اخرى قد يفهم من كلام إبراهيم (ع) أنه كان شاكا في الاعتقاد بالبعث مع ان مثل هذا الشك لا تجوز نسبته الى الأنبياء عليهم‌السلام وبالأخص بأولي العزم منهم كما أنه لا ينسب إليهم صلوات الله عليهم اي امر راجع الى المعتقدات التي تتوقف عليها صحة الايمان. فحاشا اي رسول ان تقع بحقه مثل هذه النسبة

إذ لا ملازمة بين ان لا يعرف الإنسان كيفية الشيء وكنهه وان يعتقده من غير شك فيه. فلا أحد الا ويعرف الكهرباء واللاسلكي وغيرهما من إنجازات العصر الحديث ويؤمن بوجود ذلك كله في حين انه لا يعرف كيفية وجود هذه الأشياء. وفي هذه الحال لا يقال إنه شاك فيهما وغير معتقد بصحتهما وجودا.

هذا ومشاهدة الكيفية ـ مع قطع النظر عن الالتذاذ بها ـ هي مزيدة قهرا على اليقين الذي يحصل بالبرهان والحجج على أهل البعث وزيادة اليقين موجبة لزيادة سكون القلب والاطمئنان. فهذا الطلب منه عليه‌السلام لا ينافي مقامه السامي. ألا ترى الى استفهام الله جلت قدرته وهو أعلم بالمرء من نفسه كيف جاء استفهاما تقريريا : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي بقدرتي على الأحياء وإعادة التركيب لكل شيء على ما كان في الدنيا. فانما استفهم سبحانه ـ وهو يعلم أن إبراهيم (ع) أرسخ الناس إيمانا ـ ليجيب بما أجاب وليعلم السامعون غرضه من طلبه حيث (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي يزداد سكونا واطمئنانا بانضمام العيان إلى البرهان ، حيث إن للعيان أثرا غريبا لا يتضح في الدليل والبرهنة. فلما أجاب الله إبراهيم بجواب متين استجاب الله دعاءه و (قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جمع طائر كصحب وصاحب أو انه مصدر سمي به والطيور هي : طاووس ، وديك ، وحمام ، وغراب. ولم نجد في كتب التفسير ولا في الروايات جهة معينة لاختيار هذه الأنواع واختصاصها وان كان قد ذكر في كتب العرفاء والمتفلسفين بعض الكلمات والحكم حول اختيارها دون ان يغني ذلك من الحق شيئا. فعلى كل حال ان في اختصاص العدد بأربعة وفي اختصاص هذه الطيور بالذات أسرارا مخفية علينا ومكشوفة عند أهلها كما لا يخفى على أرباب البصيرة والنظر ذاك ان كلام (الحكيم لا يخلو عن حكمة ورموز هامة فاجعلنا اللهم من أهلها بحق كتابك الكريم وبحق من أنزلته عليه. فقد صدر الأمر الالهي : أن خذ أربعة من الطير (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي أجمعهن واضممهن إذ يقال إن من لوازم الأخذ الجمع والضم. والأخذ هنا وبقرينة السياق هو الاختيار لتلك الطيور

وهو أعم من الصر ولا منافاة بينهما على كل حال بل لعل وجه الأمر بجمعهن اليه (ع) للتأمل في شأنهن ومن أجل ان يعرفهن معرفة كاملة ويميزهن بعلامات وفوارق حتى لا تلتبس الطيور عليه بعد الأحياء وقد أمره تعالى بقوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) بانيا كلامه سبحانه على الحذف والتقدير. والموجب لعدم ذكر المقدر ان قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) مغن عن ذكر تقطيعهن وخلط أجزائهن وتفريقها بعد ذلك على الجبال العشرة كما روي عن الصادق عليه‌السلام وقيل السبعة وقيل الاربعة والقول الاول أسد وأقوى في النظر بمقتضى روايات الصحاح المتعددة عن الباقرين والرضا عليهم‌السلام وقد أحصاها كتاب الوسائل في باب الوصية بالجزء في غالبها. (ثُمَّ ادْعُهُنَ) اي نادهنّ : يا ديك ، يا طاووس ، إلخ .. (يَأْتِينَكَ سَعْياً) يجئن إليك مسرعات ساعيات. ثم اكتفى سبحانه بذكر الوعد عن بيان الوقوع لأن وعده لا خلف فيه.

والحاصل ان إبراهيم (ع) بعد تفريق أجزائهن مختلطة على الجبال جعل مناقيرهن بين أصابعه ، ثم دعاهن بأسمائهن فتطايرت تلك الاشلاء والاجزاء المتفرقة على الجبال بعضها الى بعض حتى استوت الأبدان وعادت الى ما كانت اليه وجاء كل بدن نحوه عليه‌السلام لينضم الى رأسه ورقبته فخلى إبراهيم عن مناقيرهن فعادت الطيور كما كانت ثم طارت بقدرة الله تعالى ووقعت على ماء كان هناك وشربت منه وقالت : يا نبي الله أحييتنا أحياك الله فقال عليه‌السلام : بل الله يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وهذا الذيل من قولنا والحاصل الذي ذكرناه من رواية الكافي والعياشي عن الصادق عليه‌السلام مع تحريف جزئي في اللفظ ودون تغيير المعنى ثم انهى البارئ سبحانه هذه الاية الكريمة بقوله : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي فليرسخ علمك في قلبك بحيث لو كشفت الغطاء لما تطرق اليه أقل من مثقال الذرة من الريب أو الشك واعرف يقينا ان الله عزيز : اي غالب على الأشياء بأجمعها فلا يعجز قدرته شيء إذا أراده وهو (حكيم) ذو إحكام لما يبرمه ويقضي به وهو ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله ويدبره.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

٢٦١ ـ (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) .. أي مثل ما ينفقون من أموالهم في البر على مقتضى التشبيه. واما مقتضى ظاهر صدر الآية الشريفة فيحكم بأن التشبيه راجع الى المنفقين لا الى النفقة. فعلى هذا يصير المعنى : مثل المنفقين لأموالهم في سبيل الله (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) واسناد الإنبات الى الحبة اسناد الى بعض أسبابه كالماء والأرض والحرارة وغيرها. والمنبت الحقيقي هو الله تعالى : والمنفقون أموالهم في سبيله تتضاعف أموالهم ويتزايد أجرهم كالحبة التي تزرع فتعطي سبع سنابل (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) والتمثيل بذلك يقتضي ان لا يكون فرضا موهوما أو نادرا عزيز الوجود بل من شأن القران الكريم انه لو شبه شيئا بشيء يكون المشبه والممثل به أمرا واضحا بحيث يعرفه كل حضري ـ وبدوي ـ فتتم الحجة بذلك على الخلائق أجمعين وما نحن فيه كذلك فان إنبات الحبة سبع سنابل يقع في كثير من القرى بل ادعى من يوثق بدينه من أهالي جبل عامل ان الحبة قد تنبت نحو عشر سنابل وعشرين سنبلة إذا أخصبت. واما حمل السنبلة مائة حبة فهو أمر رائج في بعض النباتات بل قد يزيد كما في الدخن والبر والشعير إذا زرعت في الأراضي المعدة اعدادا صالحا. فمن أنفق درهما كان مأجورا بهذا التقدير العظيم (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) بحسب حسن نيته وسلامة قصده وبحسب إخلاصه وتعبه في تحصيل ما ينفق وبحسب إيثاره على نفسه وعلى عائلته أيضا ولا عجب من مضاعفة

ذلك من عند الله (وَاللهُ واسِعٌ) اي موسع في عطائه وانعامه على العباد و (عَلِيمٌ) بذوي الاهلية والاستحقاق للمضاعفة وقدرها وكيفيتها.

٢٦٢ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) ... لما أراد سبحانه التفضل على عباده بما هو أكثر من مضاعفة المال والأجر ذكرهم بشرطين مخصوصين يستحق بهما جزيل الأجر كل من ينفق ماله في سبيل الله ونبههم في هذه الشريفة الى الإنفاق المقبول المأجور فقال سبحانه : ينفقون في طرق البر (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) وهو الشرط الاول الذي يفرض ان لا يمنوا على من أعطوه كأن يفخر المعطي بعطائه ويعتد بإحسانه ويتطاول على من أعطاه وقد يعنفه إذا اقتضى الأمر. والشرط الثاني أشار اليه بقوله تعالى : (وَلا أَذىً) وهو الضرر اليسير الذي لا تكلف في تحمله ولا مشقة على النفس.

فعلى من يعطي للبر ان لا يمن ولا يؤذي ولو بالقدر اليسير. والأذى بحسب كتب اللغة ذو مراتب تختلف ضعفا وشدة. بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بضعته الزهراء عليها‌السلام : من آذاها فقد آذاني. وقولها عليها‌السلام هي نفسها : اللهم إنهما قد آذياني .. فالمنفقون بحسب الشرطين المذكورين (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وبقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) رمز سبحانه الى ان ثواب عمل هؤلاء المحسنين أمر لا يعلمه الا الله ولا يجزيهم به الا هو عزوجل والذين يكون جزاؤهم وحسابهم مع الله فإنهم من الفائزين الآمنين (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إذ كيف يحزن ويخاف يوم القيامة من بعث امنا مطمئنا الى وعد ربه عز وعلا؟ ...

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من الروايات ان الله كرة عدة خصال عد منها المن بعد الصدقة. وعن الصادق عليه‌السلام عن النبي (ص): من أسدى الى مؤمن معروفا ثم أذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل الله صدقته ... فان قيل : كيف مدح الله ترك المن ونهى عنه ثم وصف نفسه بالمنّان في نحو قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ..) وقوله : هو المنان ذو القوة .. فيجاب أن «من» تجيء بمعنى : أعطى والمنان : المعطي

الوهاب ، والمنن : العطايا ، وامنن أو أمسك : يعني : تفضل بالعطاء أو امنعه. ومنّ على المؤمنين : أنعم عليهم واما منّا : أي انعاما بالإطلاق ودون عوض .. أو ان المن يجيء بمعنى الاعتداد بالنعمة واستعظامها واستكثارها. وهو بهذا المعنى مذموم كالذي مر في تفسير الآية الكريمة. أما قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) فليس من الاعتداد ولا من التبجح وانما هو التفضل عليكم بالهدى اي : بل الله ينعم عليكم بهدايتكم. وهذا بخلاف المنة بعطاء المال. بل قد يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقه وذم بالنسبة الى غيره : فلا عجب أن الله تعالى متكبر جبار منتقم ، في حين. ان الإنسان المتصف بهذه الصفات يكون مذموما مقبوحا.

* * *

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

٢٦٣ ـ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) ... أن تلين للسائل من إخوانك وتتلطف له بالكلام وتتجاوز عما يقوله في سؤاله وتعفو عن الحاحه إذا سأل والحف في السؤال وتعتذر منه في مقام رده بالشكر لك على إحسانه كل ذلك (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) اي من إعطاء وإنفاق يقارنهما الأذى والمن (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقاتكم على عياله من الفقراء وانفاقكم عليهم بهذا الشكل بل هو غني عن جميع طاعاتكم وانما امر بها لأن فوائدها تعود إليكم لأنكم تربحون ثوابها الذي يعود إليكم بل هو غني في كل حال (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة من يستحقها عاجلا. فعليكم ـ عباد الله ـ بالحلم والصبر لما يصدر عن السائل الذي يطلب صدقاتكم وعن غيره ممن يستحق العقوبة والمؤاخذة.

٢٦٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) .. أكد سبحانه هدايته في أمور الإنفاق والصدقة وإرشاد الناس الى ما فيه جزيل ثوابه حين يتم ذلك بشرط وشروطه ثم قال عز من قائل : لا تبطلوا صدقاتكم وتذهبوها ادراج الرياح (بِالْمَنِّ وَالْأَذى) حين تمّنون بها على الله وعلى السائلين أو حين تؤذون عياله من المحتاجين فان ذلك يذهب فضيلة الإنفاق في سبيله تعالى ثم ضرب سبحانه مثلا للمقام يؤكد ويوضح عمل المنّان المؤذي الذي لا ينفعه التصدق ويستحق ابطال تصدقه فقال هو (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الرئاء والرياء واحد لأنهما من : راءى أي عمل عملا لا لحسنه ولا لوجه الله بل لأجل ان يراه الناس وتباهيا بالعمل وافتخارا كمن ينفق ليقول الناس انه محسن حال كونه لم يؤمن بجدوى الصدقة ولا يرمي إلى أجرها الأخرويّ (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إذ لو كان مؤمنا بذلك لما عمل لغير الله تعالى (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) اي أن المرائي في إنفاقه كأنه صخرة أو حجر ضخم أملس (عَلَيْهِ تُرابٌ) اي انه مستور بقليل من التراب ويخيل للناظر اليه كأنه أرض (فَأَصابَهُ وابِلٌ) أي نزل عليه مطر غزير شديد قطراته كبيرة تنهمر كأفواه القرب ، فجرف التراب عن وجهه (فَتَرَكَهُ صَلْداً) حجرا صلبا أملس لا يصلح لزرع ولا إنبات .. فإن المنفقين

رياء وسمعة هم كذلك (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) اي لا يجدون ثواب ما أنفقوا لأنهم لم يبتغوا وجه الله تعالى فذهبت أموالهم التي جمعوها ولم يتمكنوا من صرفها بمراضي الله ولا قدروا ان يسيطروا عليها للإنفاق المأجور فكان ذلك مدعاة لحسراتهم وخسرانهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) اي لا يمنعهم من الهدى ولكنه لا يوفقهم اليه لأن نفقاتهم تكون للرياء وهم الذين اخرجوا أنفسهم من الأهلية للتوفيق والتأييد ولذا عدهم الله في زمرة الكفرة الذين لا يستحقون هداية ولا عناية منه سبحانه وفي ذلك إشارة الى ان المن والرياء من صفة الكافرين لا المؤمنين والا فما كان المراؤون ليحسبوا من الكافرين.

٢٦٥ ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ) ... إن الله جل وعلا بين لنا أقسام الإنفاق وطرقه المشروعة المأجورة وميز المرضي منه عن غيره وقابل بين الإنفاق المأمور به والإنفاق المنهي عنه وضرب لذلك أمثالا توضيحية ولا سيما ما قاله سبحانه عن إنفاق المرائي الذي يبتغي السمعة والشهرة ثم أخذ ـ في هذه الاية الكريمة ـ بضرب مثل عمن يمارسون الانفاقات المشروعة فقال سبحانه : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) اي يصرفون قدرا يعتني به من أموالهم في طرق البر طلبا لمراضيه تعالى ، وحملا لأنفسهم على طاعته وامتثالا لأمره ، فمثلهم (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) اي كأرض مشجرة أو بستان أو حديقة فيها من كل فاكهة حال كونها تقع في مرتفع من الأمكنة. وقد افترضها سبحانه بربوة لأن شجرها يكون أنضر وعودها أصلب وثمرها أكثر والطف وأحلى وازكى إذ هواؤها انشط وأنقى وأصفى لسلامتها من وخامة المستنقعات وتجنبها من الارتواء بالماء الذي ينز من فوقها كما هو المشاهد والمجرب. فتصور الجنة بربوة عالية وقد (أَصابَها وابِلٌ) اي مطر غزير ينهمر عليها بهدوء لترتوي دون ان تنجرف تربتها. ومن المعلوم ان سقي المطر له اثار وخواص في تنمية الشجر وحسن إنشائه لا تتوفر في مياه الجر ، ولذا خصه سبحانه بالذكر ولم يقل سقاها نهر دفاق فاذا أصابها الوابل المنتظم استوت على سيقانها وأثمرت وأنتجت (فَآتَتْ

أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أي أعطت مثلين مما كانت تعطيه وقد نصبت لفظة «ضعفين» على انها حال اي : أتت أكلها ـ يعني ما يؤكل منها ـ مضاعفا. (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) فانها إذا لم يتسن لها الوابل ليسقيها فانها ينزل عليها الطل : المطر الخفيف كالرذاذ وغيره فترتوي أرضها ويحسن نباتها وتعطي أكلا فاخرا ..

وحاصل التشبيه ان الإنفاق إذا كان طلبا لمرضاة الله فانه تعالى لا يضيعه كثيرا كان أم قليلا فهو مفيد ومثاب عليه على كل حال كالبستان الذي يجوز أن ينتج ضعفين أو ضعفا واحدا ولكنه يثمر على كل حال (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يرى أعمالكم بل هو واقف على ما في ضمائركم إذ يعلم من الإنسان ما توسوس به نفسه ويطلع على نياته ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ

وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

٢٦٦ ـ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) ... الاستفهام إنكاري اي كيف يحب أحدكم ومن ذا الذي يحب (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) اي بستان ينتج هاتين الثمرتين وقد اختصهما بالذكر لكثرة منافعهما ولخواص بهما ـ مع أن الجنة تحتوي عادة على اثمار مختلفة كما صرح تعالى به في قوله فيما يأتي : فيها من كل الثمرات ـ ولأنه عزوجل فرض فيهما الزكاة ولأنهما من خير الفواكه للتغذي والاقتيات للفقراء وغيرهم والنخيل دائم الخضرة في سائر الفصول والخضرة الدائمة شرف للأشجار حتى ولو كانت غير مثمرة لأن لها بهجة تبهج النظر وتستقبلها العين بارتياح بسبب ان من خواصها تكثير نور العين كما في الرواية .. والحاصل انه كيف يحب أحدكم ان تكون له جنة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والجملة : تجري محلها النصب بناء على كونها حالا من الجنة. ويحتمل كونها في محل رفع على انها صفة لها والاحتمالان جاريان في قوله : (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ..) يكون له ذلك (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) والواو هنا علامة كون ما بعدها في مورد النصب حالا من أحد. وأريد من لعبارة انه بلغ حد الشيخوخة والهرم (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) اي أولاد صغار لا يقدرون على تحصيل معاشهم فهم في حالة تستوجب الإنفاق عليهم في حياة وليهم وتوريثهم بعد وفاته ، مما يجعله حريصا على تلك الجنة يتعلف بها زيادة لأنها سبب معاش ذريته (فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) اي ضربتها ريح هو جاء التفت بأشجارها بشكل اسطواني كالعمود ثم اقتلعت ما فيها وطيرته في الفضاء وكان في الاعصار نار سماوية (فَاحْتَرَقَتْ) أشجار تلك الجنة بحيث لم يعد يستفاد منها بشيء. فهل يود أحد ان يكون له ذلك مع ذرية هو مسئول عنها في حياته وبعد مماته وان

يصاب بهذا الحادث السماوي المدمر؟ .. والجواب : لا ، لأننا قدمنا انه استفهام استنكاري .. وهذا مثل لمن يعمل الحسنات عن طريق إنفاق المال وغيره ولا يريد بذلك وجه الله سبحانه ثم إذا اشتدت حاجته إليها في الآخرة يجدها قد حبطت فيتحسر كما يتحسر صاحب الجنة المحترقة التي كانت سبب معاشه ومعاش أولاده. هذا الى ان الضر الدنيوي قابل للجبر ويمكن معه الصبر ولكن الضر في الاخرة هو الحسرة الدائمة والندامة الابدية .. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) اي مثل هذا البيان الذي أوضح سبحانه لكم فيه امر الصدقة وقصة إبراهيم عليه‌السلام وقصة الذي مر على القرية الخاوية وغيرها مما سلف والذي فيه آيات وبراهين تحتاجون إليها في أمور دينكم ودنياكم عرضها عليكم (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) بنتيجة ما ذكرناه لكم وتتدبرون في الآيات للاعتبار.

٢٦٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) .. اي اصرفوا على المحتاجين من خلاله أو من جيده. والاية الشريفة لبيان صفة الصدقة والمتصدّق عليه. وما مضى في الموضوع كان في الحث على الإنفاق وصفة المنفق وبيان كيفية الإنفاق من حيث خلوصه من الأذى والمن والرياء. فأنفقوا ايها المؤمنون من ذلك الرزق الحلال (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) عطف على الطيبات. والمراد به غير الرديء في ذاته أو لحرمته ، اي من الزارعات والفواكه والخضر والمعادن وغيرها. والظاهر ان المراد هو مطلق الإنفاق في سبيل الله وطرق البر سواء أكان في الفرض أم في النفل (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) اي لا تقصدوا وتتعمدوا صرف الرديء مما عندكم ويؤيده قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فلا تختاروا رديء ما عندكم (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) حال من الفاعل اي منفقين منه (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) وأنتم لا تأخذونه في حقوقكم وهداياكم وصلاتكم لرداءته والواو للحال ، والجملة لدفع المغالطة في مصداق الخبيث يعني : أنتم تنفقون من الرديء ولا تأخذونه إذا اعطي لكم وهذا هو خير ميزان في الخبيث من غيره فاذا قبلتم الشيء الذي يهدى إليكم عن رغبة فهو طيب وان لم تقبلوه أو

قبلتموه بكره فهو خبيث ويشير الى هذا لفظة الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) كناية عن التنازل والتسامح في الأخذ اي تأخذونه بغض النظر عن رداءته مما يشكل دليلا على عدم الرغبة فيه لخباثته. وهذه صفة ثانية تدل على خباثة ما ينفق والا فان الإنسان لا يعرض عنه بلا وجه عقلاني (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنكم وعن انفاقكم على عباده لأنه هو الذي يرزقكم وجميع المخلوقات وما بكم من نعمة فمن الله سبحانه وتعالى وهو : (حميد) اي محمود على آلائه ونعمه العامة أو على الأصح : هو حامد اي مجاز للمنفقين البررة على إحسانهم بالنية الخالصة والقصد الشريف والله تعالى فضله عميم على الناس وهو غني عن العالمين ولكنه ـ بطلبه ذلك منا ـ يريد ان لا يدع للشيطان سبيلا علينا كيلا يحرمنا من هذه الفضيلة ذات الأجر الجزيل.

٢٦٨ ـ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ... فحين الإنفاق في سبيل البر يتدخل الشيطان ويوسوس لمن ينفق من حلال ماله وجيده محتملا له الفقر ومخوفا له بالفاقة ليمنعكم عن هذا الأمر العظيم ذي الخير الكثير (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) اي يسول لكم بما هو أشد قبحا من الذنوب وهو الزنى واللواط وغيرهما من المنكرات. وقيل ان الفحشاء هنا البخل والبخيل فاحش. وكله من الفحش : أي القبيح من الفعل أو القول فأعرضوا عن امر الشيطان فانه يغشكم (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) اي عفوا عما فرطتم به (وفضلا) اي زيادة في الاخرة مما أنفقتم في الدنيا .. فيا أرباب العقل والحجى : بأي وعد ينبغي أن تأخذوا بوعد الشيطان أم بوعد الرحمان (وَاللهُ واسِعٌ) في نعمه يعوض عليكم ما أنفقتم فلا تخافوا عوزا ولا فقرا إرغاما للشيطان فان الله (عليم) بمقدار ما تنفقونه فيضاعفه لكم في الدنيا والاخرة ..

٢٦٩ ـ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) ... الحكمة موهبة الهية قدسية يقذفها الله في قلب من له الاهلية لها فتتفجر من قلبه ينابيع الحكمة والعلم والحلم والعدل ولا ينطق واجدها عن هوى لأن لسانه بعد هذه النعمة يكون وراء عقله فلا ينطق الا بالحق والصواب ولذا يقول سبحانه وتعالى (وَمَنْ يُؤْتَ

الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وفسر الخير هنا بالشرف والكرم والمراد بكثرته هو المرتبة الفاضلة. وظاهر الاية الشريفة ان الحكمة هي منشأ الخير الكثير والخير العميم. وقد قيل ذلك وقيل هي العلم النافع والحق.

اما تقديم ثاني المفعولين في الجملة الاولى فهو اهتمام به كما ان تنكير الخير في الجملة الاخيرة للتعظيم ، أي : خير كثير .. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يعني : لا يتدبر ولا يتفكر فيما اذكر ولا يتعظ بجميع ما فصلنا من وجوه البر وامتثال امر الله وعدم الاستماع لوسوسة الشيطان الا ذوو العقول الصائبة وأصحاب المعارف الحقة في دائرة السياسة الدينية الالهية وتفهم ايات القران العظيم ودلائله الواضحة اللائحة وبراهينه الساطعة. وفي الكافي والخصال عن النبي (ص) انه كان ذات يوم في بعض أسفاره إذا لقيه ركب فقالوا : السلام عليك يا رسول الله فالتفت إليهم وقال : ما أنتم؟. فقالوا : مؤمنون. قال : ما حقيقة إيمانكم؟ .. قالوا : الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض الى الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : علماء حكماء كادوا ان يكونوا من الحكمة أنبياء فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي اليه ترجعون.

* * *

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ

اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

٢٧٠ ـ (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ... أي حسنة مرضيّة ، أو قبيحة غير مرضية منه تعالى كالتي يعقبها المنّ والأذى والرياء ، و «ما» موصولة تتضمن معنى الشرط ، صلتها : أنفقتهم ، وعائدها : ضمير محذوف ، والتقدير : إن أنفقتموه ، ومن نفقة : تبيّن الموصولية .. فمهما أنفقتم من نفقة (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) عاهدتم على الوفاء به : جملتان عاد سبحانه وتعالى يرغّب فيهما بالإنفاق المفروض ، وبما يوجبه الإنسان على نفسه من نذر مشروع في طاعته ، بحيث لا يكون في معصية ، مهما فعلتم من ذلك (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يعرفه فيثيب على الإنفاق والنذر المقبول ويجزي بهما أحسن جزاء المحسنين (وَما لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم من الذين ينفقون في المعاصي ، وينذرون فيما لا يرضي الله ، لا يكون لهؤلاء (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم ويمنعون عنهم عذاب الله إذا نزل بهم يوم لقائه.

٢٧١ ـ (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) .. أي تظهرونها عند الإعطاء بحيث تكون بشكل علنيّ (فَنِعِمَّا هِيَ) أي : فنعم الصدقة شيئا هي في حدّ ذاتها. وإبداؤها لا يضرّ بفضلها إذا لم ينضمّ إليها شيء من الرياء (وَإِنْ تُخْفُوها) تعطوها خفية وسرا ، وتبرّوا بها (الْفُقَراءَ) بحيث لا يطّلع عليكم أحد (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وعلّة الأفضلية هنا قد تكون أسلم وأحفظ من الرياء والسّمعة خلافا لما في الصدقة الظاهرة فإنها في معرض تلك الظواهر. وقيل إن الإخفاء مطلوب في النّفل لزيادة الأجر ، والإبداء يكون في الفرض للتشجيع على إنفاق الحقوق المرسومة على القادرين. فعن علي بن إبراهيم ، بإسناده عن الصادق عليه‌السلام ، قال : الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سرّا فهو أفضل. فإن صحّ هذا الخبر خصّص الآية ، وإلّا فهي على عمومها. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) قرأ نافع وحمزة ، والكسائي «يكفر» بالياء وجعلوا الفعل مجزوما على محلّ الجزاء. أي : يكون الإخفاء سببا لأن يكفّر الله عنكم سيئاتكم. وقرأ ابن عامر ، وعاصم بالنون ، على قراءة ابن كثير وأبو عمر وعاصم في قراءة أخرى ـ الفعل مرفوعا في محل خبر لمحذوف. أي : نحن نكفّر. فسبب تكفير السيئات يكون أعمّ من الإخفاء والإعطاء للفقراء. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم ومطّلع على حقيقة ذلك وكنهه ، إذ لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، سرّها وعلانيتها ، حقّها وباطلها ، قليلها وكثيرها ، لأن الناقد بصير بصير.

٢٧٢ ـ (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ... هدى الناس وإيصالهم إلى الحقّ ليس مفروضا عليك يا محمد ، ولا أنت مسئول عن ذلك ، ولا عن ائتمارهم بما أمروا به ولا عن انتهائهم عمّا نهوا عنه ، بل عليك البلاغ فقط (اللهَ يَهْدِي) يدلّ ويوصل إلى الطريق المستقيم الحق (مَنْ يَشاءُ) ممّن عندهم الأهلية والإرادة الخيّرة .. ويستفاد من الآية الكريمة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتجرّع الغصص ويناله الأذى في دعوته ، ويتألم من عدم اهتداء قومه. فنزلت الشريفة لتسليته وتطييب خاطره الكريم. وهذا نظير قوله تعالى :

(طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى.) ولذا عاد سبحانه لمخاطبة الناس بقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) والمراد بالخير هنا المال الطيّب بقرينة المقام وللتعبير بلفظة : خير لأنه وسيلة للتوجّه الى الله عزوجل. فالإنفاق الطيّب يعود نفعه الى منفقه إذ يكون عن خلوص نيّته ، فهو الذي يرجع إليه أجره (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) أي لطلب مرضاته. ويمكن ان تكون الجملة خبريّة. ـ إنفاقكم ابتغاء ـ والله تعالى يخبر هنا عن صفة المؤمنين الخلّص الذين يكون مقصدهم من الإنفاق تحصيل رضوانه. ويحتمل ـ ضعيفا ـ كونها في مقام النهي وإن كان ظاهرها الخبر ، أي : ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله فإنه تعالى يبيّن لكم كيفية ذلك تعليما وتأديبا بآدابه المرضيّة عنده تعالى .. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) والتوفية إكمال الشيء وإتمامه .. فمعنى الآية المباركة : أنّ إنفاق بعض المال ، يضاعف أجره وثوابه مضاعفة كاملة تامة وافية بحيث يرضى صاحبه بما يعطيه الله بدلا عمّا أنفق في يوم الفاقة إليه ، أي يوم القيامة حيث ينال الجزاء الأوفى (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بمنع الثواب ، ولا بنقصان الجزاء حتى لا يؤخر عن محلّ الحاجة ، بل يصل إليكم في أشد وقت الحاجة. وكلّ ذلك لترغيب الناس وتحريض المؤمنين.

٢٧٣ ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا) ... الجملة خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : النفقة للفقراء .. وقد خصّص سبحانه هؤلاء بالإنفاق والإعانة : وهم الفقراء من أهل الحاجة الذين احتبسوا في سبيل الله ، أي منعهم الجهاد عن العمل والكسب ولم تتح لهم فرصة طلب العيش. ذاك أن الجهاد في سبيل الله يكون لإعلاء الدين ، وإعلان كلمة التوحيد ، وهو يستوعب سائر أوقات المجاهدين ، ولذا قال عزّ من قائل : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) فلا يتمكّنون من الاحتراف والعمل للتكسّب وجلب الرزق وإصلاح أمور معاشهم .. وفي المجمع عن الباقر عليه‌السلام : أنها نزلت في أصحاب الصّفة. وقيل كانوا نحوا من أربعمائة من الفقراء المهاجرين ، يسكنون صفّة المسجد ويستغرق وقتهم التعلّم ، والتعليم

والعبادة. وكانوا يستخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيخرجون إليها مسرعين إجابة لدعوته (ص) اشتياقا لنصرة كلمة التوحيد وإعلاء الدعوة إليها وتشييد أركان الإسلام، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء ، ونوّر الله مضاجعهم بأنوار رحمته .. والحاصل أنه تعالى عقّب على أمور الإنفاق ببيان أفضل الفقراء الذين هم مصداق مواضع الصدقات ، ثم وصفهم جلّ وعلا بقوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) فجاهل حالهم يظنّ أنهم أغنياء بسبب تعففهم وإبائهم السؤال وطلب الصدقة ، لأن السؤال يكشف عن الحال ، ويبيّن فقر السائل ، إذ قد يغلب الفقر ملكة العفّة أحيانا فيلجأ المحتاج إلى السؤال. ولكن ملكة العفّة قد تكون راسخة عند بعض المعوزين فيأنفون من السؤال ، وإن كنت يا محمد ، ويا أيها الإنسان (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بالعلائم التي فيهم ، فإنها تكون دالّة على فقرهم لكل ناظر لبيب. وذلك كرثاثة الحال ، وصفرة الوجه والهزال ، والخجل من الظهور في المناسبات الاجتماعية ، وغير ذلك مما يساعد على التعريف بحالهم وهم (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي عفة وسترا لفقرهم ، وحفظا لماء وجههم ، وصيانة لشرفهم الذي اكتسبوه ممّا في الإسلام من مكارم الأخلاق وتعزيز حال المؤمن الذي يعتنقه. ويقال : لحف الثوب ، أي : لبسه صيانة لبدنه ، ولحفه : غطاه باللحاف ونحوه : لحف القمر أي : محق وامتحق تحت شعاع الشمس بحيث يختفي عن الأنظار ولا يرى. وقد يجيء الالتحاف بمعنى الإلحاح : يعني أن هؤلاء الفقراء لا يلحّون في السؤال ، ويطلبون الصدقة مكرّرا. أي لا يسألون سؤال إلحاح بحيث يلازمون الأغنياء ويشكون لهم سوء حالهم. ولكن هذا المعنى لا يليق بالمقام لأن المعنى المفهوميّ يخالف قوله سبحانه في صدر الآية : تعرفهم بسيماهم. فإنهم إذا سألوا الأغنياء وطلبوا الصدقة بأدنى مراتب الطلب ، لا يصحّ أن يعرفوا بسيماهم بل السؤال يكشف عن حالهم. أما هؤلاء فيعرفون بالسيماء وهم متعفّفون ، ويغطّون حاجتهم بالسكوت عن كشف حالهم أنفة وتعفّفا .. وهذا الذي قلناه هو ما اختاره

صاحب مجمع البيان بل قال فيه : لا يسألون الناس أصلا ، ونسبته لابن عباس ، وقال : وهو قول الفرّاء والزجاج وأكثر أرباب المعاني.

وقرينة أخرى تناسب المقام وتأبى حمل معنى الإلحاف على الإلحاح ، هي ان أهل الصفة كانوا أجلّ شأنا وأسمى مقاما من ان يسألوا الناس ويظهروا فقرهم. فعصبّيتهم العربية مانعة من ذلك ولو ماتوا من الجوع. وكذلك آباؤهم وانفتهم وتمسّكهم بالعشائرية والقبلية مضافا الى آداب الإسلام وخلق القرآن بل زد على ذلك كله الأب الرحيم للفقراء والمساكين ، اعني محمدا سيد المرسلين صلوات الله عليه وآله فإنه كان على رأسهم ، بل كانوا في ضيافته ، وكان يؤاكلهم ويشاربهم بما قسم الله تعالى في ذلك العهد الشديد الذي كانوا فيه في ضيق وضنك ، وكان الكثيرون ممّن سواهم في شظف عيش وعسر أيضا ، حتى أن النبيّ (ص) كان في ضيق معاش في بدء الدعوة. والحاصل ان أهل الصفّة كانوا ذوي جلال وشأن ولا يليق بمقامهم السامي الإلحاح في طلب الصدقة ، بل لم يسألوها مطلقا .. وقد كرّر سبحانه قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيبا في الإنفاق ، ودلالة على انه محفوظ مكتوب ، معلوم عنده جلّ وعلا ، سواء أكان إنفاقا علينا أن سرّيا ، ومعلوم بإجماله وتفصيله ، وكونه فرضا أو نفلا ، وكما وكيفا .. وننبّه إلى أنه لا بد من الفحص التامّ لتحصيل مصارف الصدقة لتقع في يد أهلها. ولننال عليها الجزاء الأوفى.

٢٧٤ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) ... يبيّن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أوقات الإنفاق وأشكاله ، وثوابه العظيم. فالمنفقون لأموالهم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وفي أي وقت منهما بلا تعيين وقت أفضل من وقت ، بل حين يشاءون (سِرًّا وَعَلانِيَةً) جهارا أمام الناس ، أو خفية عنهم ، يعطون على الدوام (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولا يخفى أنّ إبهام الأجر كمّا وكيفا دليل على عظمه وعدم تحديده ، أي : فلهم أيّ أجر وأي مقدار!. لذلك (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فلا خشية عليهم يوم القيامة ولا يردن ما يكرهون. فهنيئا ثم هنيئا لمن وفّقه الله لمثل هذا العمل العظيم ونوال هدا

الوعد الكريم .. وروي أن هذه الآية المباركة نزلت في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، حيث كان يملك اربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم في النهار ، وبدرهم في الليل ، وبدرهم علانية وبدرهم سرا ، فنزل فيه قول الله الذي يكرّمه به ويشجّع الآخرين على اتّباع سيرته الميمونة.

* * *

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

٢٧٥ ـ (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ... لمّا بيّن سبحانه بعض أحكام المال المتعلّقة بإنفاقه ، أخذ في بيان حكم آخر يترتب على الأموال والمعاملات فقال عزوجل : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) ، أي يأخذونه ، والتعبير عنه بالأكل لأن الأكل من أغلب منافع المال. والرّبا هو الزيادة في المعاملة شهرة ، وإلّا فهو مطلق الزيادة. وبناء على ما هو المشهور من استعماله يعرّف بأنه الزيادة التي تؤخذ في المعاملة ببعض الأشياء بمثلها كالمال والمكيل والموزون ، سواء أكان في معاملة أم قرض أم أجل ، وحرمته ثابتة بالإجماع من المسلمين

وبالكتاب والسنة بل لا يبعد أن تكون حرمتها من ضروريات الإسلام .. فهؤلاء الذين يأكلون الربا (لا يقومون) حين يبعثون من قبورهم ليوم النشور والحساب (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي مثلما يقوم الذي يصرعه الشيطان ويمسه بالجنون وتكون هذه الحالة يوم القيامة إمارة دالة على أكلة الربا كما عن ابن عباس وجماعة من المفسرين. وفي المجمع والقمي عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما أسري بي الى السماء رأيت قوما يريد أحدهم ان يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه. فقلت : من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. وإذا هم بسبيل ال فرعون يعرضون على النار بكرة وعشيا ، يقولون : ربنا متى تقوم الساعة ... ولعل الوجه في انتظارهم الساعة لرجاء تخفيف العذاب عنهم وسوف لا يخفف العذاب عنهم بل يزيد ويشتد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي أن الحالة التي تعتريهم من التخبط المذكور هي عقوبة لهم بسبب اجتهادهم من عند أنفسهم إذ قالوا لا فرق بين الزيادة في الثمن في البيع المؤجل وبين الزيادة في الاستقراض للأجل وكما أن البيع للربح فكذلك الاقراض وهو اجتهاد في مقابل النص لأن الله تعالى يقول : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) والواو للحال اي ان اجتهادهم كان خاطئا حال كون البيع محللا من الله وكون الربا محرما منه تعالى. فهذه معارضة صريحة لقوله سبحانه لأن الربا محرم في سائر الأديان السماوية فعن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : درهم ربا أعظم عند الله من سبعين زينة كلها بذات محرم في بيت الله الحرام .. وقال ابن عباس : كان الرجل إذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب به : زدني في الأجل أزدك في المال ، فيتراضيان عليه ويعملان به. فاذا قيل لهم : هذا ربا قالوا : هما سواء يعنون بذلك أن الزيادة في الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الأجل عند محل الدين سواء. فذمهم الله به وألحق الوعيد بهم وخطأهم في ذلك بقوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ..)

أما تحريم الربا ففي ستة أشياء لا خلاف فيه. وهي ما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : حرم الربا أو حرم التفاضل في ستة أشياء : الذهب ، والفضة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح. وقيل الزبيب. قال عليه‌السلام : إلا مثلا بمثل يدا بيد من زاد أو استزاد فقد أربى. وفي علة تحريمه قال الصادق عليه‌السلام : انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا. وقيل غير ذلك ونحن لن نزيد في إيراد الروايات الكثيرة. والمراد بالقرض القرض الحسن. والرفد هو المساعدة والعطية. (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي زجر منه تعالى حيث إن أوامره ونواهيه سبحانه موعظة حسنة وحملها على الزجر والنهي فقط بقرينة ما بعدها : (فَانْتَهى) اي اعتبر وانزجر (فله ما سلف) اي ما اخذه قبل النهي فلا يلزمه رده ولا يسترد منه. قال الصادق عليه‌السلام : لو أن رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال ربا ولكن اختلط في التجارة بغير حلال كان حلالا طيبا فليأكله. وان عرف شيئا معزولا أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليرد الربا. وأيما رجل أفاد مالا كثيرا ـ أي استفاد ـ قد أكثر فيه من الربا فجهل ذلك ثم عرفه بعد ذلك فأراد ان ينزعه فما مضى فله ـ يعني في حال جهله انه الربا ـ ويدعه فيما يستأنف ـ يعني بعد معرفة حرمة الربا ـ (وامره الى الله) أي أن الله يحكم بشأنه ما يريد ولا اعتراض لأحد عليه لعدل حكمه (وَمَنْ عادَ) رجع بعد معرفته الكاملة لحرمة الربا الى قياس المرابين الذين يقولون : ما زال يجوز بيع ما يسوى درهما من البضاعة بدرهمين كذلك يجوز بيع درهم ـ نقدي ـ بدرهمين واستقراض درهم بدرهمين. ومن قال بهذه المقالة أو عمل بها بعد الاستبصار (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) لأنهم قرناؤها دائما وهم من سكانها و (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها أبد الآبدين لكفرهم بتحليل ما حرم الله وهذا جزاء المبدعين والمبتدعين وأهل القياس والرأي وقد اختلف الأعلام في أن أهل الكبائر أهل الخلود في النار أم لا ... فقيل انهم ليسوا بمخلدين. فأشكل عليهم بقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ ...) الى

قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وأجيب بأن الخلود يستعمل في طول البقاء وان لم يكن بعنوان التأبيد يقال فلان مخلد في حبس الأمير إذا طال حبسه. أو نقول إن «أولئك» إشارة الى من عاد مستحلا للربا لقوله : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) بعد نزول آية التحريم ووصولها اليه فيكون المستحل كافرا وهو يخلد في النار.

٢٧٦ ـ (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) ... أي يذهب به وببركته ويبطله ويمحوه قيل للصادق عليه‌السلام : قد يرى الرجل يربي فيكثر ماله. فقال : يمحق الله دينه وان كثر ماله. وفي رواية اخرى بهذا المقام وردت مذيلة بقوله عليه‌السلام : وان تاب منه ذهب ماله وافتقر. أقول : وهذا هو المحق. فالله تعالى يمحق الربا (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) اي ينميها ويزيدها بأن يثمر المال في نفسه في العاجل وبمزيد الأجر والثواب في الآجل. والعياشي عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه ليس شيء الا وقد وكل به ملك غير الصدقة فان الله يأخذها بيده ويربيها كما يربي أحدكم ولده حتى تلقاه يوم القيامة وهي مثل أحد .. (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) والكفار : هو المصر على تحليل الحرام والأثيم : المتمادي في ارتكابه وهي صيغة المبالغة.

٢٧٧ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ... جمع سبحانه في هذه الاية الكريمة الخصال الأربع التي هي أهم الخصال الشريفة بل هي أصولها وهي :

١ ـ الايمان وهو الركن الركين المقدم على أغلبها.

٢ ـ عمل الصالحات اي الأعمال الصحيحة التي لا يدخلها فساد في العبادات والمعاملات. إذ تكون عن خلوص نية لا يخالطه رياء ولا سمعة ولا غل ولا غش ولا ارتكاب محرم.

٣ ـ الصلاة وهي عمود الدين وإذا انهدم عمود البيت انهدم البيت من أركانه.

٤ ـ الزكاة التي تتلو الصلاة في الاهمية. ولذا عطفتا لما يعمّهما من الفضل

ولما تبعثان اليه من الأعمال الصالحة .. ومن كان متصفا بهذه الصفات (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .. وقد أبهم سبحانه الأجر ولم يبينه للاهتمام به ثم أشار بقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وهذا مقام شامخ يسامي مقام المقربين في ذلك اليوم إذ لا يخلو أحد من الخوف حين تدكّ السماوات والأرض وتخر الجبال هدّا ويقع من الأهوال ما لا يخطر بالبال من جمع الشمس والقمر ومخاوف يوم البعث. ولا ينجو من الخوف يومئذ الا المقربون أو من يحذو حذوهم ويتصف بصفاتهم ممن يكونون في امن وأمان وهذا نهاية أمل كلّ آمل برحمة الله الواسعة.

واما وجه تعقيب ما سبق من آيات الربا بهذه الآية الشريفة فواضح لأنها تبيّن من له استحقاق للأجر والثواب عليه تعالى. وقد صرح فيها انه : هو المؤمن بالله ورسوله وبما جاء به الرسول ذو العمل الصالح. لكن آكل الربا المحرم بنص الكتاب وصريح السنة غير مؤمن بذلك وعمله فاسد وليس له عند الله أجر ولا ثواب بل يستحق العقاب والعذاب الأليم. والاية تشير الى بطلان عمله.

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

٢٧٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .. الخطاب عام ولكن وجه للمؤمنين لأنهم أشرف وأعظم شأنا من غيرهم بسبب امتثالهم لأوامر الله تعالى ولأن غير المؤمن لا يتأثر بأمره عزوجل ولا بنهيه ، أو لأن التقوى فرع الايمان. فالخطاب خاص بهم ولا يشمل غيرهم ولذلك قال : (اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) تجنبوا غضبه واتركوا ما بقي مما شارطتم الناس عليه من زيادة ربا. وقيل في شأن نزولها انه كان لثقيف بعض المال على قريش فطالبوهم عند حلول الأجل بالمال والربا فنزلت هذه الكريمة. فاتقوه ايها الناس (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقلوبكم كما تظهروا الايمان بألسنتكم فان علامة ايمانكم بالحقيقة هي امتثال ما أمرتم به من عند ربكم.

٢٧٩ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) .. أي إذا لم تنتهوا عما نهيتم عنه (فَأْذَنُوا) على قراءة ومعناه أعلنوا انكم في حرب مع الله ورسوله وهي قراءة تناسب المقام كما لا يخفى على ذوي الافهام. وعلى قراءة (فَأْذَنُوا) يكون المعنى ليكن معلوما لديكم انكم قد دخلتم في حرب مع الله ورسوله وقد نكر الحرب لتعظيم شأنها وما يترتب عليها من خسران (وَإِنْ تُبْتُمْ) عن المراباة وأكل هذا المال المحرم (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) اي خالص المال الذي اقرضتموه دون اية زيادة فتكونون قد أخذتم مالكم (لا تَظْلِمُونَ) المدين بأخذ الزيادة ولا تظلمون أنفسكم بأكل الربا (وَلا تُظْلَمُونَ) ولا يلحقكم ضرر ولا تنقص رؤوس أموالكم ولا تأكلون شيئا بغير استحقاق فيلحق بكم ظلم.

٢٨٠ ـ (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) .. أي إذا كان غريمكم مبتلى بالافلاس ، وحاله عسيرة ضيقة (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فعليكم بإنظاره وإمهاله الى حد اليسار والتمكن من إرجاع المال. وعن الصادق عليه‌السلام : حدّ الإعسار أن لا يقدر على ما يفضل عن قوته وقوت عياله على الاقتصاد .. فاذا علمنا حدّ الإعسار عرفنا حدّ اليسار إذ تعرف الأشياء بأضدادها. فيجوز أن نعتبر المرء موسرا تجوز مطالبته إذا زاد ما بيده من المال عن قوت نفسه وعياله إذا أنفق على الاقتصاد ..

وبعد أن بين سبحانه حكم الغريم المعسر أخذ في تعليمنا امرا أخر يرفع به درجتنا في الدارين فقال عزوجل : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) اي إذا أبرأتم ذمة الغريم المعسر واحتسبتم دينكم صدقة عليه وعلى عياله كان ذلك أكثر وأحسن جزاء من إمهاله الى حد اليسر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) انه معسر فتصدقوا عليه بالدين حينئذ بحسب قول الصادق عليه‌السلام وقيل : إن كنتم تعلمون ما في التصدق من الأجر والثواب ..

٢٨١ ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) .. رجوع معاد واستسلام. فلا بد من أن تتقوا ذلك اليوم وأهواله العظيمة بطاعة الله والانزجار عن معاصيه والإنفاق في سبيله ليكون ذلك ذخرا ليوم الفاقة والتهيؤ للمصير اليه تعالى ، حيث تحاسبون (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فتعطى جزاء ما عملت من خير أو شر ثوابا أو عقابا (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقصان ثواب أو زيادة عقاب والضمير راجع الى الناس الذين يدل عليهم «كل نفس» وفي المجمع عن ابن عباس انها أخر آية نزل بها جبرائيل عليه‌السلام ، وقال : ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش الرسول بعدها واحدا وعشرين يوما وقيل سبعة أيام

* * *

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ

أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

٢٨٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ... اي تعاملتم بالدين يعني تعاملتم بالقرض المؤجل ولا فرق بين أن يكون المبيع مؤجلا أو الثمن فاذا تعاملتم بذلك (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) أي الى وقت معين مؤخر فسجلوا ذلك على القرطاس واجعلوه مكتوبا وبينوا وقت استحقاقه بالأيام أو الشهور فانه ادفع للنزاع إذا نسيه المديون أو أنكره. والأمر للاستحباب وللإرشاد. وهذا الدين غير القرض المحض الذي لا أجل فيه حتى يحتاج الى الكتابة ولا عبرة بتأجيله أو تعجيله. ويمكن ان يكون السر في تخصيص ذي الأجل بالذكر هو كون المؤجل معرضا للوهم غالبا فتكون المخاصمة فيه وفي الأجل والشروط وان كانت حكمة عدم الارتياب جارية في القرض أيضا باعتبار نفس المال ومقداره. ويؤيد ما ذكر من السر ما في العلل عن الباقر عليه‌السلام : ان الله عزوجل عرض على آدم عليه‌السلام أسماء الأنبياء وأعمارهم. قال : فمر بآدم اسم داود النبي عليه‌السلام فاذا عمره في العالم أربعون سنة فقال آدم : يا رب ما أقل عمر داود وما أكثر عمري. يا رب ان انا زدت داود ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ .. قال : نعم يا آدم قال : فاني قد زدته من عمري ثلاثين سنة فانفذ ذلك واثبتها له عندك واطرحها من عمري قال ابو جعفر عليه‌السلام : فأثبت الله عزوجل لداود ثلاثين سنة وكانت عند الله مثبتة فذلك قول الله عزوجل : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). قال : فمحا الله ما كان عنده مثبتا لآدم فأثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتا قال : فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه فقال له آدم : يا ملك الموت إنه قد بقي من عمري ثلاثون سنة. فقال له ملك الموت : يا آدم الم تجعلها لابنك داود النبي عليه‌السلام وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذريتك وعرضت عليك أعمارهم وأنت يومئذ بوادي الدخياء؟ .. فقال له آدم : ما أذكر هذا. قال عليه‌السلام : فقال له ملك الموت : يا آدم لا تجحد الم تسأل الله عزوجل أن يثبتها لداود ويمحوها من عمرك فأثبتها لداود في الزبور ومحاها من عمرك في الذكر؟ .. قال آدم : حتما أعلم ذلك قال أبو جعفر عليه‌السلام : وكان آدم صادقا. قال (ع):

لم يذكر ولم يجحد فمن ذلك اليوم أمر الله تعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا الى أجل لأجل نسيان آدم عليه‌السلام وجحوده ما على نفسه وأورد في الكافي ما يقرب منه على اختلاف في عدد ما يزيد على عمر داود وزاد شهادة جبرائيل وميكائيل على آدم عليهم‌السلام جميعا ..

فاذا تداينتم فاكتبوه مع تعيين أجله (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) اي بالسوية لا يزيد ولا ينقص في كتاب المداينة أو البيع بين المتعاقدين فلا بد من اختيار كاتب أمين موثوق حتى لا يغير في مقدار الدين وصفته واجله ولا يكتب شيئا يضر بأحد الطرفين (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) اي ولا يمتنع الكاتب (أَنْ يَكْتُبَ) الصك ويحرره على الوجه المتفق عليه و (كما علمه الله) من الكتابة بالعدل وفي موضوع الكتابة خلاف هل هي واجبة أم لا؟ .. فقيل انها فرض كفائي كالجهاد وقيل نسخ وجوبها بقوله : (لا يُضَارَّ كاتِبٌ ..) وعلى الكاتب على كل حال ان يكتب .. (فَلْيَكْتُبْ) للناس على وجه حاجاتهم وشروطهم شاكرا لله ان علمه هذه النعمة وقد عقب النهي عن الامتناع منها ـ لا يأب ـ بالأمر بها تأكيدا. والأمر الذي يعلمنا الله في الدين المؤجل «فليملل الذي عليه الحق» والاملاء هو الإمضاء المتعارف بين الناس والمطلوب ممن عليه الدين إمضاء الصك الذي يملي شروطه ويشهد عليه وبذلك يكون إقراره بما فيه ، فيصير مديونا لدائنه ولا يستطيع إنكارا وبذلك ينتظم أمر البشرية من ناحية مهمة لا يستغني عنها الكثيرون فعلى الذي عليه الحق أن يملل (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وليخف جانبه فيذكر كل ما اشترطه على نفسه (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ولا ينقص من الدين شيئا من قيمته أو وصفه أو شروط تأجيله وهذه الجملة تفسير لاتقاء ربه ونتيجة لتقواه. (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) اي إذا كان المديون ضعيف العقل أو مبذرا اي جاهلا الدقة في المعاملات المالية أو (ضَعِيفاً) في بعض أعضائه وجوارحه بحيث لا يقوى على الاملاء وإمضاء الصك. أو ان المراد هو الضعف في القوى الباطنية بحيث لا يتعقل ولا يشعر كيف يملي ولا يعرف معنى لهذه الورقة. وفي التهذيب عن الصادق عليه‌السلام : السفيه : الذي يشتري الدرهم

بأضعافه والضعيف : الأبله. والأبله ـ كما نعرف ـ هو الذي في عقله ضعف وفي رأيه عجز .. (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لا يقدر على الإملال ككونه صبيا مثلا أو شيخا مختلا في فهمه وتعبيره أو لا يقدر على الكتابة لأنه مبتلى بمرض مانع عن الكتابة كارتعاش جوارحه ونحوه (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) فعلى ولي أمره ان يملي ويوقع الصك لأنه ينوب عنه (وَاسْتَشْهِدُوا) على الدين (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) اثنين دون النساء في حال وجود الرجال وينبغي الاحتراز عن إشهاد غير المؤمن فإن شهادته غير مقبولة ولا فرق بين الأحرار والعبيد الذين يوثق بقولهم ويطمأن ، بعدم كذبهم وعدالتهم (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) اي لا بد من كون الشهداء مرضيين رجلين كانا أو رجل وامرأتان وسبب جعل امرأتين بدل رجل ثان هو مخافة (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) تنسى الشهادة حسب أصولها وحسب وقوع الاتفاق الى جانب تذكرها للمتداينين (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ففي تفسير الامام عن أمير المؤمنين عليهما‌السلام : إذا ضلت إحداهما عن الشهادة ونسيتها ذكرتها الاخرى فاستقامتا في أداء الشهادة .. وهذه هي علة لاعتبار التعدد في المرأة وقال علي عليه‌السلام أيضا : عدل الله شهادة امرأتين بشهادة رجل لنقصان عقولهن ودينهن وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام في عدة اخبار : أربعة لا يستجاب لهم دعوة. أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة. يقول الله عزوجل : ألم آمرك بالشهادة .. وعنه عليه‌السلام : من ذهب حقه على غير بينة لم يؤجر .. (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي لا يمتنعوا عن أداء الشهادة وإقامتها أو عن تحمل الشهادة إذا طلب منهم ذلك أداء أو تحملا و «ما» زائدة للتأكيد وظاهر النهي التحريم .. (وَلا تَسْئَمُوا) اي لا تضجروا ولا تتبرموا (أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) والضمير راجع الى الحق الذي يكتب بالصك فاكتبوه مهما كا قدره (إِلى أَجَلِهِ) اي مهلته المسماة (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) اي ان الكتابة اعدل عنده تعالى واولى (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) اي أصوب واحكم لها. وقيل اضبط لها. وهو مأخوذ من القيام على الشيء

بمعنى الحفظ (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أبعد من الشك وأقرب الى حفظ الحقيقة من جميع وجوهها : الدين ، والأجل ، والقدر ، والشهود (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) يعني أن كتابة الدين واجبة الا في مورد كانت المعاملة والمبايعة حاضرة اي تجارية نقدا بنقد ويدا بيد تنقلونها حالة لا آجلة. وهذا معنى قوله تعالى : تديرونها بينكم. ومن قرأ بنصب التجارة معناه : الا ان تكون التجارة تجارة حاضرة. فتكون «وكان» ناقصة ، واما بناء على رفعها فتكون «كان» تامة وحاضرة : نصبت على الحال في المعاملة التجارية يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) لا بأس عليكم إذا لم تكتبوها لبعدها عن التنازع والتخاصم ولعدم نسيان المبايعة التجارية بجميع حيثياتها لقرب الزمان فلا يرتاب أحد بالثمن ولا بالمثمن ولا بالمقدار ولا الوصف ولا في غير ذلك من الكيفيات (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) اي احضروا الشاهد لأداء الشهادة عند اللزوم أو لحملها ، والظاهر هو الثاني في المقام ، والأمر استحبابي بقرينة رفع الحرج في التجارة الحاضرة والكلام لا يزال فيها وادعي عليه الإجماع. هذا مضافا الى أن الأمر الواقع عقيب رفع الحرج عن عدم الإتيان بالمأمورية قرينة على الاستحباب بإتيانه (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بناء على قراءة الإدغام والفتح والبناء للمفعول يكون المعنى : لا يفعل بالكاتب ولا بالشاهد ضرر بأن يكلف بمشقة أو قطع مسافة بعيدة من غير تكفل بمؤونة ومن غير مصرف لطي طريقه. وهذه هي القراءة المشهورة بين القراء ، الا أبا عمر فانه قرأ بالإظهار والكسر والبناء للفاعل اي : ولا يضارر وعلى هذا يكون المعنى بالعكس يعني لا يجوز ان تصدر المضارّة من الكاتب ولا من الشاهد ولا ان يمتنع أحدهما من الاجابة أو ان يحرف بالزيادة أو النقصان ففي ذلك ضرر على المتعاملين أو ان لا يضر المتداينين بعدم إتيانهما للكتابة والشهادة أو التحريف في الكتابة وأداء الشهادة والله تعالى اعلم .. (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) يعني ان تفعلوا الضرر الذي نهيتم عنه فان ذلك خروج عما امر الله به سبحانه ومعنى فسوق بكم : فسوق قائم بكم كما يقال : داء بكم اي قائم بكم يعني ان الفسوق

من طبعكم وشيمتكم فإياكم وذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه في هذا المقام وغيره (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون اليه وما فيه مصالحكم الدنيوية والاخروية. ويظهر من الآية الشريفة ان التقوى المطلوبة هنا للتعليم والإذعان لأوامر الله (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم المتقي ويميزه من غيره. فاذا كان أهلا علمه وأدبه وفهمه الأحكام ومصالحها وحكمها وعلمه معارف الدين وأصوله. وعن القمي : في البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الاية خاصة خمسة عشر حكما.

٢٨٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) ... اي في حالة سفر وأردتم الاستيثاق من دينكم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم صك الدين ولا شاهدا (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) اي فخذوا رهانا مقابل المال الذي يستدينه غريمكم. وقد رفع «رهان» على الخبرية والتقدير : فالوثيقة رهان. ومقبوضة : صفة للرهان الذي هو جمع رهن كثمر وثمار وصحب وصحاب. والقبض هنا قيد صحة الرهان للأجل فقد جعل الله تعالى هذا الحكم للمسافر الذي يضيق وقته عن كاتب أو شاهد يمكن ان يؤدي الشهادة عند اللزوم. وقد اختصه سبحانه بالذكر باعتبار ان الغالب في المعاملات حال السفر ان لا يجد الإنسان الكاتب والشاهد كما هو بالوجدان لتوزع حواسه حينئذ على جملة أشياء (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) اي وثق الدائن بالمديون وكان عنده موضع امانة فلم يطلب منه وثيقة ولا شاهدا ولا قبض منه رهنا (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) اي المديون (أمانته) دينه ويرده الى صاحبه بمقتضى الامانة. ويمكن ان تعم هذه الاية الشريفة جميع الأمانات حتى الوديعة الى جانب إشعارها بالتعليل وبكون هذا المورد أحد المصاديق للعام لا أن له خصوصية .. (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وليتجنب عقوبة ربه بأن لا يجحد الحق لصاحبه ولا يبخس من الحق شيئا ، بل يرجعه اليه في وقته ومن غير مطل ولا تسويف ولا إنكار (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) لا تحجبوها وتبخلوا بها إذا ما دعيتم الى أدائها. والخطاب للشهود وظاهر النهي هو حرمة كتمان الشهادة (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ومن حجبها مع علمه بالمشهود به وتمكنه من الأداء من غير ضرر بعد ما

دعي إليها ثم امتنع ولم يقمها يكشف عن ان قلبه مريض آثم ونسبة الإثم الى القلب هي باعتبار ان الكتمان من أفعاله ولتغليظ الإثم فان القلب رئيس الأعضاء فإثمه أكبر الاثام وأشدها اما التعبير بالإثم دون الفعل فهو للدلالة على الدوام بدوام نية الكتمان (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ترهيب وتهديد بأن العالم بإثم القلب وما تنعقد عليه النية في الضمير هو عالم بما يصدر عن جميع الجوارح ولا يخفى عليه شيء وهو يجازي بما يصدر.

٢٨٤ ـ (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ... اي هو سبحانه مالك لها ومدبر لشؤونها وبيده أزمة أمورها يصرفها كيف يشاء ويعلم ما فيها (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) اي تظهروا من الطاعة أو العصيان (أَوْ تُخْفُوهُ) تكتمونه ولا تظهرونه لأحد (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي يجازيكم طبق استحقاقكم لأنه يعلمه. قال عليه‌السلام في نهج البلاغة : وبما في الصدور يجازى العباد .. وهذه العبارة من الآية الكريمة يستشم التهديد والتشديد وانه لا ينبغي للعباد ان يظنوا إخفاء شيء عن خالقهم فذلك من سوء الظن به ومن عدم معرفته إذ لا تخفى عليه خافية. وقد بين كيف يحاسب (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) بعد محاسبته واستحقاقه العذاب (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) حسب استحقاقه عقلا وباقتضاء حكمته الكاملة وعدله الجاري في جميع مخلوقاته (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو مستطيع للمغفرة وعدمها لا يسأل عما يفعل لأنه ارحم الراحمين. ونقل عن ابن عباس انه قال : لفظ الآية عام والمورد ليس بمختص. وما يخطر في البال من حديث النفس لا يؤاخذ الله تعالى به ، ولكن المؤاخذة على ما اعتقده وعزم عليه .. وهذا لا ينافيه ما اشتهر من انه لا يعاقب بعزم المعصية ويثيب بعزم الطاعة لجواز كون معناه انه تعالى لا يعاقب عقاب تلك المعصية بعينها وان عوقب عقاب العزم لأنه لم يباشرها بخلاف عزم الطاعة فان العازم عليها يثاب على عزمه وكأنه قام بالطاعة تفضلا منه تعالى على العباد ومنة ترغيبا بالطاعات. وقد جاء في الأخبار ان المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها وهذا كله من الطافه وكرمه على عباده.

* * *

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

٢٨٥ ـ (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) ... يعني صدق وأيقن النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بما أنزله الله تعالى عليه. وهذه الاية الشريفة تنص على انه سبحانه يعتد بإيمان نبيه صلوات الله عليه (وَالْمُؤْمِنُونَ) كذلك صدقوا بذلك فمدح الله ايمانهم إذ (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) والمؤمنون مبتدأ وما بعده خبره أي : المؤمنون بأجمعهم آمنوا بالله وصدقوا رسله وقبلوا دعوتهم بألسنتهم وقلوبهم ولذا جاهدوا في سبيل ترويج الدين ونشر الدعوة التي نزلت من السماء وكان لسان حالهم قولهم : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) بل نؤمن بما جاؤا به من عند ربهم ولسنا كأهل الكتاب من اليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نقر ونعترف بأنهم رسل ربنا ويجب علينا إطاعة أوامرهم ونواهيهم لأنها كلها تدعو الى الحق وتنهى عن الباطل ولذلك أذعن المؤمنون (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) دعوة الدعاة الى الله وأجبنا الى ما دعونا اليه (غُفْرانَكَ رَبَّنا) نطلبه ونسألك إياه (وَإِلَيْكَ

الْمَصِيرُ) اي الرجوع بعد الموت .. والكلام كما لا يخفى متضمن للإقرار بالبعث والحشر والحساب.

٢٨٦ ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) ... فيما افترض عليها من واجبات (إِلَّا وُسْعَها) اي ما تتسع طاقتها اليه وتتحمله قدرتها. والوسع ـ بالحركات الثلاث على الواو ـ هو الطاقة والقدرة. وفي التوحيد عن الصادق عليه‌السلام : ما أمر العباد الا دون سعتهم وكل شيء امر الناس بأخذه فهم متسعون له وما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم .. فالنفس غير مطالبة الا بما تطيقه (لَها ما كَسَبَتْ) من الأقوال والأعمال التي فيها رضى الله (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) مما فيه سخطه وقد خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن في إتيان الشر حربا بين النفس الامارة بالسوء وبين الشرع الظاهر والباطن. فإتيان الشر من أعمالها فهو اكتساب حصل؟؟؟ مدافعة ومنازعة اما الخير فتجني النفس ربحه وتكسب ثوابه بالتسليم للأوامر والنواهي فلا اعتمال فيه كما لا يخفى على من له باع في دقيق الأقوال.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي إذا تعرضنا لما يؤدي نسيان تكليف أو صدور خطأ أو تفريط أو اغفال فنسألك يا إلهنا ان تسامحنا بذلك (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) اي لا تكلفنا احكاما ثقيلة شاقة كما كلفت الأمم الماضية. وقد استعيرت لفظة : إصر لهذا المعنى بمجموعة مراعاة للاختصار (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) كتكليف بني إسرائيل قتل النفس لتكفير الذنب مثلا أو بقطع بعض المواضع من أبدانهم إذا تنجس وكحرمة بعض الطيبات من الرزق كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات التي كانت تنزل عليهم عند إتيان بعض المعاصي عاجلا وبلا إمهال. وهذا الدعاء على وجه التعبد فان الله تعالى لم يكلف امة محمد (ص) المرحومة بما لا تطيق لطفا بها وتعظيما لنبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَاعْفُ عَنَّا) تجاوز عنا (وَاغْفِرْ لَنا) أمح ذنوبنا واسترها ولا تفضحنا في

الدنيا ولا في الاخرة على رؤوس الاشهاد و (وَارْحَمْنا) اعطف علينا واشملنا برحمتك واعف عنا وأدخلنا الجنة (أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا الذي له الولاية علينا بالنعم والذي هو أملك منا بأنفسنا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) بالظفر عليهم والغلبة لهم

تم الجزء الأول ، ويليه الجزء الثاني

مبتدأ بأول سورة آل عمران

والحمد لله رب العالمين

* * *

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ١

المؤلف: الشيخ محمّد السبزواري النجفي
الصفحات: 371