

مقدمة الطبعة الأولى
المطبوعة في النجف
الأشرف عام ١٣٧٦ ه ق
بسم اللَّه الرّحمن
الرّحيم
حمدا لك اللهم على ما وهبتنا من المعارف
، فأصبحنا نستضيء بها إلى سبيل الهداية واليقين ، وأمسينا نرتع في فيوضاتك وآلائك
مع التقصير عن أداء شكر البعض منها ، وصلاة على سيد أنبيائك وخاتم رسلك المنتجب من
شعاعك الأقدس «محمد» وعلى آله أمناء وحيك المبين ، والادلاء إلى نهجك القويم ،
وعلى صحبهم الذين اقتفوا أثرهم ، ومشوا على ضوء تعاليمهم ، واللعنة الدائمة على من
عاندهم واغتصب حقوقهم.
وبعد فقد أودعت في كتابي هذا ما استفدته
في الدورة الثالثة من تحقيقات سيدنا زعيم الدراسة العلمية في «جامعة الشريعة»
النجف الأشرف ، الذي أظهر من مخبئات حقائق الأصول ما خفى على محققها ، واستخرج
دقائق الفروع من معدنها ، فوعت القلوب لطائف إشاراته ، وحامت النفوس عليه كالفراش
على الضياء ، المحقق البارع في العلوم العقلية والنقلية أستاذ المحققين آية الله
في العالمين مولانا «السيد أبو القاسم الخوئي» مد الله أيامه الزاهية ونفع الأمة
الاسلامية بافاداته القيمة. ورتبت الكتاب على مقاصد في كل منها أمور ومسائل ، ومن
المهيمن عز شأنه نستمد العون والتوفيق في كل الأعمال.
تمهيد
لا يخفى أنّ البحث
عن القطع غير داخل في مسائل هذا العلم ، لما ذكرناه في تعريفه من أنّ الميزان في
كون المسألة أصولية أن تقع نتيجتها في طريق الاستنباط بأن تكون كبرى كلية لو انضم
إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا ، ومن البديهي انّ القطع بالحكم لا يقع في طريق
الاستنباط ، بل هو بنفسه قطع بالنتيجة وبنفس الحكم الفرعي ، وهذا في القطع الطريقي
واضح ، واما الموضوعي أعني القطع المأخوذ في موضوع الحكم كما إذا قال : إذا قطعت
بحكم فرعي فتصدق ، فهو وان كان دخيلا في فعلية وجوب التصدق إلّا انّ نسبته إليه
نسبة الموضوع إلى حكمه ، كالخمر بالقياس إلى الحرمة ، وليس وجوب التصدق مستنبطا من
القطع بالحكم الفرعي ، وإنما هو مستنبط من الدليل الدال عليه. نعم انّ القطع يتعلق
بنتيجة علم الأصول أعني الحكم الفرعي ، أو هو بنفسه نتيجته ، فله شدة مناسبة مع
مسائله ، وينبغي أن يبحث عنه فيه استطرادا ، كما له أيضا من بعض الجهات مناسبة مع
علم الكلام الباحث عن المبدأ والمعاد واستحقاق العقاب.
وكيف كان قد قسم
شيخنا الأنصاري قدسسره المكلف بأنه إذا التفت إلى حكم شرعي فاما أن يحصل له القطع
به ، واما يحصل له الظن به ، واما يحصل له الشك ، فجعل التقسيم ثلاثيا ، وعلى هذا
التقسيم بنى كتابه على مقاصد ثلاث (الأول) في القطع (والثاني) في الظن (والثالث)
في الشك ، ثم ذيلها بخاتمة باحث فيها عن التعادل
__________________
والتراجيح.
وأورد صاحب
الكفاية على هذا التقسيم حيث أفاد انه لا بدّ وان يكون المراد من
الحكم الأعم من الواقعي والظاهري ، لاشتراكهما في الأثر ، فلا وجه للاختصاص ،
وكذلك لا بد وأن يراد منه الحكم الفعلي ، إذ لا أثر للقطع أو الظن أو الشك في
الحكم الإنشائي ، وعلى ذلك فلا وجه لتثليث الأقسام ، بل الصحيح أن يجعل التقسيم
ثنائيا بأن يقال : انّ المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي واقعي أو ظاهري فاما أن يحصل
له القطع به أو لا ، وعلى الثاني لا بدّ له من الرجوع إلى ما يستقل به العقل من
متابعة الظن والعمل به على الحكومة لو تم ذلك كبرى بتمامية مقدمات الانسداد وصغرى بحصول
الظن الشخصي له بالحكم الواقعي أو الظاهري بمعنى الظن بالطريق ، كالظن بحجية
الشهرة ، وإلّا فإلى الأصول العملية العقلية من قبح العقاب بلا بيان والاشتغال
والتخيير بحسب اختلاف الموارد ، ثم قال : وإن أبيت إلّا عن تثليث الأقسام فالأولى
أن يقال : انّ المكلف أما أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني أما أن يقوم عنده
طريق معتبر أو لا ، لأن لا يتداخل الأقسام ، فإن الظن غير المعتبر يكون محكوما
بحكم الشك ، والأمارة ربما لا توجب الظن بل تكون مع الشك وهي مع ذلك حجة ، إذ لا
يعتبر في حجيتها عدم الظن بالخلاف ، فكيف باعتبار الظن بالوفاق ، فانّ ظهور الأمر
حجة ولو لم يوجب الظن الشخصي أصلا ، هذا حاصل ما أفاده بتوضيح منا.
ونقول : الأنسب
بمباحث الأصول هو الّذي صنعه الشيخ قدسسره وذلك لأنّ الغرض من الأصول هو تحصيل المؤمّن فانّ المكلف
بعد التفاته إلى التكاليف وإلى أنه عبد لا يكاد يطمئن ويخرج من التحير إلّا بعد
تحصيل المؤمّن في أعماله ، وهذا هو
__________________
غرض الأصولي ،
والمناسب لهذا الغرض هو تثليث الأقسام ، لأنّ المؤمن الذاتي هو القطع ، فانّ
المكلف إذا قطع بالإباحة يرى نفسه مأمونا في الفعل والترك ، وإذا قطع بالحرمة يكون
مأمونا في فرض الترك ، وإذا قطع بالوجوب يكون مأمونا في فرض الفعل ، فالمؤمن الأول
هو القطع ، فلا بدّ من البحث عنه في الأصول ولو استطرادا ، والمؤمن الثاني هو الظن
، وذلك لأنّ مراد الشيخ قدسسره من الظن على ما صرح به في أول بحث البراءة هو الكاشف
المعتبر شرعا لا كل ظن ، ومن الواضح انه قطع تنزيلي وحجة ، وهذا هو المؤمن الثاني
، وإذا لم يحصل له هذا ولا ذاك وبقي شاكا فحيث لا معنى لحجية الشك وأن يكون طريقا
فلا بدّ له من الرجوع إلى الأصول العملية الشرعية والعقلية ، وهي تكون مؤمنا له ،
مثلا بعد ما ثبت نجاسة الماء المشكوك نجاسته المسبوق بها بحكم الاستصحاب يكون
المكلف مأمونا في الإتيان بالتيمم بدل الوضوء عند انحصار الماء به ، وبالجملة في
فرض الشك لا بدّ له من تحصيل القطع بالحكم الظاهري ، وهو الحكم الّذي أخذ في
موضوعه الشك.
فما أفاده من انّ
المراد من الحكم لا بدّ وأن يكون الأعم من الظاهري والواقعي غير سديد ، إذ القطع
بالحكم الظاهري لا مورد له إلّا في فرض الشك في الحكم الواقعي والعلم بحكم الشاك
فكيف يجعل في عرض الحكم الواقعي ، ومجرد وجود الجامع بينهما لا يوجب جعل التقسيم
ثنائيا ، وإلّا فيمكن تصوير الجامع بين القسمين أيضا وهو حصول المؤمن ، فلا وجه
للتقسيم أصلا.
والحاصل التقسيم
إنما هو للإشارة إلى مباحث الكتاب ، فالأولى ما أفاده الشيخ لا ما ذكره في
الكفاية.
وبما بينا ظهر
الجواب عن تداخل الأقسام ، لأنّ المراد من الظن هو الكاشف المعتبر شرعا ، فلا يدخل
في الشك ، ولا يدخل الشك فيه أصلا ، والظن غير المعتبر يكون داخلا في الشك فقط.
واما ما أفاده من
أنّ المراد من الحكم هو الفعلي دون الإنشائي فهو كما أفاد ، إذ لا معنى للحكم
الإنشائي كما سنبينه في أول مبحث الظن إن شاء الله إلّا الحكم المجعول على موضوعه
المقدر وجوده ، ومن الواضح انّ تعلق القطع بالحكم الإنشائي بهذا المعنى لا أثر له
من حيث العمل به إلّا بعد فعلية موضوعه ، واما الحكم الإنشائي بغير هذا المعنى
والفعلية بغير وجود الموضوع وإمكان كون الحكم فعليا من جهة دون أخرى فلا يرجع شيء
منها إلى محصل كما ستعرفه إن شاء الله.
إذا عرفت ذلك فيقع
البحث في المقصد الأول في أمور :
مباحث القطع
حجية
القطع
التجري
القطع
الطريقي والقطع الموضوعي
وجوب
الموافقة الالتزامية
القطع
الحاصل من أسباب غير متعارفة
منجزية
العلم الإجمالي
الأمر الأوّل :
حجية القطع
والكلام فيها يقع
في جهات ثلاث :
الأولى : في انّ
طريقيته ذاتية أو جعلية.
الثانية : في أنّ
حجيته هل هي من لوازمه الذاتيّة أو ببناء العقلاء أو بحكم العقل؟
الثالثة : هل يمكن
للشارع أن يمنع من العمل به أو لا؟
اما الجهة الأولى
: فالحق انّ القطع هو نفس الانكشاف والرؤية لا أنه مرآة وما به ينظر ، فهو بنفسه
طريق بحسب ماهيته وذاته ، ومن الواضح انّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، والماهية هي هي
بنفسها ، فلا معنى لتوهم جعل الطريقية له أصلا بجميع أنحائه لا بسيطا ، إذ لا
يتعلق ذلك بالماهية ، ولا مركبا مستقلا أو تبعا ، نعم يصح تعلق الجعل بوجوده ، إذ
يمكن للمولى القادر إيجاد القطع الّذي هو الانكشاف بالتوجه إلى نفس الإنسان
وللموالي العرفية بإيجاد معدات القطع مع بيان البراهين ونحوها.
ولا يخفى انّ في
كلام الشيخ قدسسره خلطا بين مقام طريقية القطع ومقام حجيته . هذا كله في الجهة الأولى.
__________________
واما الجهة
الثانية : أعني حجية القطع وكونه مما يصح أن يحتج به العبد على مولاه عند موافقة
القطع للواقع ، وربما يعبر عن هذا المعنى بوجوب متابعة القطع ولزومه ، فالأقوال
فيها ثلاثة :
الأول : ما اختاره
في الكفاية وهو انّ حجية القطع بمعنى وجوب متابعته والعمل على طبقه من
لوازمه الذاتيّة ، بل زاد على هذا مؤثريته في ذلك حيث قال : وتأثيره في ذلك لازم
وصريح الوجدان به شاهد.
الثاني : أن تكون
ببناء العقلاء ، وعليه تكون داخلة في القضايا المشهورة باصطلاح المنطقيين ، وهي
القضايا التي بنى عليها العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ، ومرجع جميعها إلى حسن
العدل وقبح الظلم ، وبما انّ الشارع رئيس العقلاء ولم يردع عن هذا البناء يكون
ممضى عنده فيجب اتباعه.
الثالث : أن يكون
بحكم العقل وإلزامه.
والتحقيق : انّ
القول الثالث لا يمكننا المساعدة عليه ، لأن العقل ليس شأنه إلّا الإدراك ، وأما
الإلزام والبعث أو الزجر فهو من وظائف المولى وشئونه ، نعم الإنسان بما أنه حيوان
يكون محبا لنفسه فبحسب جبلته يتحرك نحو ما يراه منفعة لنفسه ، ويفر عما يراه ضررا
على نفسه دنيويا كان أو أخرويا ، وبعبارة أخرى : الحيوان بما هو حيوان يميل بفطرته
إلى مشتهيات نفسه ويجتنب عما ينافر طبعه ، ولكن هذا المعنى أجنبي عن إلزام العقل.
وامّا القول
الثاني فالعقلاء وان بنوا على أحكام وقضايا حفظا للنظام وإبقاء للنوع كما ذكر ، إذ
لو لا قبح الظلم لتعدى كل قوي على ضعيف واختل النظام ، ولكنها أجنبية عن المقام.
__________________
اما أولا : فلأنّ
حجية القطع ولزوم الحركة على طبقه كانت ثابتة في زمان وجود آدم عليهالسلام وقبل وجود عقلاء في العالم.
وثانيا : انّ
حكمهم بتلك القضايا إنما هو في الأمور الراجعة إلى حفظ النظام ، وليس متابعة أوامر
الشارع في جميع الموارد دخيلة في حفظ النظام ، مثلا الإتيان بالصلاة ربما يقال :
لا دخل له في إبقاء النوع ، ولا يلزم من تركه اختلال أصلا.
فالصحيح : هو
القول الآخر وان يقال : انّ وجوب متابعة القطع إنما هو بحكم العقل ، لا بمعنى
البعث من القوة العاقلة وإلزامها ، بل بمعنى إدراكه حسن متابعته وقبيح مخالفته
وصحة ان يعاقب المولى عبده المخالف لقطعه إذا كان مصادفا للواقع ، واستحالة ذلك
إذا كان متابعا لقطعه وإن كان مخالفا للواقع ، وكثيرا ما يطلق الحكم على الإدراك
العقلي كما هو واضح ، وعلى هذا فيكون من الأمور النظرية لا من القضايا المشهورة.
ولا يخفى انّ
التعبير بموافقة القطع ومخالفته لا يخلو عن مسامحة ، فانّ المراد موافقة المقطوع
ومخالفته ، وهذا هو المراد من لزوم متابعة القطع عقلا ، وهو من لوازم القطع
القهرية لا الجعلية ، فانّ الإدراك من الأمور التكوينية وهكذا متعلقه وهو استحالة
العقاب على تقدير موافقته وإمكانه على تقدير مخالفته ، فانّ كلا من الأمرين غير
قابل للجعل التشريعي فتلخص انّ حجية القطع حكم عقلي نظري ، ومن لوازم القطع بهذا
المعنى ، فلا تكون مجعولة.
واما الجهة
الثالثة : فحيث ان صاحب الكفاية قدسسره تعرض لها بعد مبحث التجري فنحن نتبعه في ذلك ، ونحيل البحث
عنها إلى ذلك المبحث.
ثم انك بعد ما
عرفت أنّ ذات القطع هو الانكشاف والطريقية وانّ حجية القطع أي صحة احتجاج العبد به
على مولاه وبالعكس إنما هي من لوازم القطع سواء كان قطعا حقيقيا أي موافقا للواقع
أو خياليا وهو الجهل المركب ، نقول : لا
اختصاص لحجية
القطع بقطع المجتهد ، بل قطع المقلد أيضا يكون حجة له ، فإذا قطع بالحكم يلزمه
متابعته ، وهكذا أحكام الظن والشك غير مختصة بالمجتهدين ، بل يعم المقلدين ، فلا
بدّ للمقلد أيضا من تحصيل المؤمن لنفسه وهو اما القطع الوجداني أو القطع التنزيلي
أو الرجوع إلى الأصول العملية ، فإذا حصل له القطع بالحكم الواقعي يعمل به ، وإلّا
فلا بدّ له من الرجوع إلى ما استقل به العقل من الاحتياط والرجوع إلى المجتهد ،
فإذا قطع بفتوى المجتهد أخذ بها ، وإلّا فان كان عنده طريق معتبر فهو وإلّا فيعمل
بالأصل العملي ، مثلا إذا كان فتوى المجتهد عنده معلوما سابقا وشك في تبدله يستصحب
عدمه.
والحاصل : انّ
الفرق بين المجتهد والمقلد انما هو في انّ متعلق قطع المقلد أو ظنه أو شكه يكون ما
أفتى به مقلده وطريقه إليه فتواه ، بخلاف المجتهد فانّ متعلق قطعه وظنه وشكه هو
الحكم الواقعي وطريقه إليه هو الكتاب والسنة والعقل ، وإلّا فظهور كلام المجتهد
يكون حجة على المقلد ويتمسك بإطلاق كلامه كما يتمسك المجتهد بظهورات الكتاب
والسنة. وهكذا جميع الطرق العقلائية تكون حجة للمقلد أيضا على ما عرفت ، فلا وجه
لتخصيص المقسم وهو المكلف في مقام التقسيم بخصوص المجتهد.
نعم لا يتمكن
المقلد من إجراء البراءة ، لا من جهة عدم شمول دليلها له ، بل لأنّ المقلد لا
يتمكن من إيجاد شرطها وهو الفحص ، وهذا أيضا لا يوجب اختصاصها بالمجتهد ، بل يكون
المقلد نظير المجتهد المحبوس غير المتمكن من الفحص ، فكما لا يجوز له الرجوع إلى
البراءة حينئذ لا يجوز للمقلد ذلك بملاك واحد وهو عدم الفحص هذا كله في المقلد.
واما المجتهد فإذا
التفت إلى حكم فعلي في حقه فلا إشكال في انه يفتي على طبق قطعه أو ظنه أو الأصول
العملية المجعولة للشاك ، واما إذا التفت إلى حكم لا
يكون في حقه فعليا
بل ولا في حق غيره ، كما لو التفت إلى بعض أحكام الحج قبل الموسم ، أو التفت إلى
الأحكام المختصة بالنساء كأحكام الحيض ، أو التفت إلى حكم لا يصير فعليا إلى الأبد
كبعض فروع العلم الإجمالي ، فوظيفة المجتهد حينئذ تكون كوظيفة الإمامعليهالسلام وهي بيان الحكم المجعول ، غاية الأمر انّ الإمام عليهالسلام يخبر عن الواقع والمجتهد عن مؤدى الطريق.
وبالجملة في هذا
الفرض لا يتم ما ذكره في الكفاية من انه لا بدّ وان يراد من الحكم خصوص الفعلي إذ لا أثر
للإنشائي ، نعم انما يتم ذلك فيما إذا التفت إلى الحكم المتعلق بنفسه. وكيف كان
فلو حصل له القطع بالحكم أو الظن به من طريق معتبر يفتي به ، وإلّا فلا بدّ له من
الرجوع إلى الأصول العملية ، وهذا المقام من المشكلات من حيث انّ الأصول العملية
جريانها بالقياس إلى كل أحد فرع حصول الشك له ، مثلا الرجوع إلى الاستصحاب فرع أن
يكون نفس ذاك المكلف متيقنا سابقا وشاكا لاحقا في الحكم الفعلي عليه ، فكيف يفتي
المجتهد بمؤدى الأصول في فرع لا يكون له مساس به ولا يكون فعليا عليه مع انّ
المقلد الّذي يريد أن يعمل ليس له يقين سابق ولا شك لاحق بل لم يلتفت إلى الحكم
بعد أصلا ، ولذا التجأ الشيخ رحمهالله إلى نيابة المجتهد عن المقلد ولكن لا بدّ وان يسأل قدسسره عن الدليل على هذه النيابة.
وحاصل الكلام في
المقام انّ المكلف إذا التفت إلى حكم نفسه فان حصل له القطع يكون منجزا ، وإلّا
فان كان عنده طريق معتبر فيعمل على طبقه ، وان لم يكن هذا ولا ذاك فينتهي إلى
الأصول العملية ، وفي هذا الفرض لا فرق بين المجتهد والمقلد إلّا في خصوص البراءة
، فانّ المقلد لا يكون متمكنا من إحراز شرط إجرائها وهو الفحص ، وإلّا فالأصول
تجري في حق المقلد كما تجري في حق المجتهد.
__________________
واما إذا التفت
إلى حكم غيره ، أعني الحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية ويختص ذلك بالمجتهد
، فان حصل له القطع يكون أثره جواز الإفتاء بما قطع به لا تنجز متعلقه عليه ، إذ
لا يكون متعلقا بحكم نفسه ، وإلّا فان كان له طريق معتبر عنده فيفتي على طبقه
ويكون قيام الطريق مجوزا لإفتائه ، فانه لا فرق بين قيام طريق معتبر على حكم وبين
تعلق القطع به إلّا في أنّ الثاني قطع وجداني والأول قطع تعبدي. وان لم يكن هذا
ولا ذاك وبقي شاكا ، فان كان شكه موردا للاستصحاب بأن كان مسبوقا باليقين فهو
ينقسم إلى قسمين : لأنّ الشك في الحكم بعد كونه متيقنا تارة : يكون من جهة احتمال
النسخ ، وأخرى : يكون من جهة الشك في سعة المفهوم وضيقه ، كالشك في حرمة العصير
الزبيبي بسبب الشك في شمول دليل حرمة العصير العنبي للزبيبي أو يكون لغير ذلك.
أما في الأول
فللمجتهد أن يجري الاستصحاب في يقينه وشكه ، فانه كان متيقنا بالحكم السابق
المجعول ويشك في ارتفاعه بالنسخ ، فيفتي ببقائه بحكم الاستصحاب ، ولا مجال في هذا
الفرض لإجراء الاستصحاب بلحاظ حال المقلد ، إذ ليس له يقين ولا شك.
واما في الثاني
مثل ما لو شك في طهارة الماء القليل المتنجس المتمم كرا ونجاسته ، فيمكن إلحاقه
بالقسم الأول ، بأن يجري المجتهد فيه الاستصحاب بلحاظ يقينه وشكه في الحكم الكلي
كما في القسم الأول بعينه ، ويمكن أن يجري الاستصحاب بلحاظ حال المقلد ويقينه وشكه
، فانّ المقلد على الفرض كان عالما بنجاسة هذا الماء ويشك في طهارته بعد إتمامه
كرا ، لأنه مقلد لهذا المجتهد الّذي هو شاك في ذلك ، فيجري الاستصحاب في حقه ويفتي
له بمؤداه ، وهكذا فيما إذا شك في ثبوت بعض أقسام الخيار ونفوذ الفسخ إلى غير ذلك
وأمثلته كثيرة في الفقه ، وامّا ان كان موردا للاحتياط كما في الشبهة قبل الفحص
مثلا ، أو كان موردا للتخيير فالأمر واضح ، إذ
لا فرق في حكم
العقل بلزوم الاحتياط في موارده بين المجتهد والمقلد ، فكلاهما محكومان بذلك ،
وهكذا في حكمه بالتخيير ، والإشكال انما هو فيما إذا كان الشك موردا للبراءة فانّ
حديث الرفع وقبح العقاب بلا بيان إنما يجريان عند الشك في الحكم الفعلي بعد الفحص
عن الدليل ، والمفروض انّ المجتهد ليس شاكا في الحكم الفعلي فلا بدّ وأن يكون
إجراء البراءة بلحاظ حال المقلد ، فانّ المقلد لهذا المجتهد الشاك لا محالة في
مقام العمل والالتفات إلى وظيفته الفعلية يبقى شاكا في حكمه الفعلي ، والمفروض أنّ
هذا المجتهد قد فحص ولم يظفر على دليل فيرشد مقلده إلى ذلك ويعرّفه مورد البراءة
ويفتي له بمقتضاها ، مثلا إذا التفت المجتهد إلى حكم الحائض وانه هل يجوز لها
الاجتياز في المسجد أم لا ، فلا معنى لإجراء البراءة عن حرمته بلحاظ شكه ، ولكن
حيث انّ هذه المرأة تقلده فتتحير في ظرف العمل وبعد ما فحص المجتهد عن البيان ولم
يظفر به تكون المرأة بنظره موردا لجريان البراءة فيفتي بها في حقها.
والحاصل مما
ذكرناه انّ حق التقسيم أن يكون هكذا بأن يقال : المكلف إذا التفت إلى حكم نفسه ،
فاما أن يحصل له القطع فهو منجز له ، واما أن يحصل له طريق معتبر فكذلك ، وإلّا فيرجع
إلى الأصول العملية ، وإذا التفت إلى حكم كلي فان قطع بالحكم فأثره جواز الإفتاء
به ، وان حصل عنده طريق معتبر فكذلك ، وإلّا فينتهي إلى الأصول العملية ، فان كان
الشك موردا للاستصحاب وكان من قبيل الأول له أن يجري الاستصحاب بلحاظ يقينه وشكه ،
وان كان من قبيل الثاني فله إجراء الاستصحاب بلحاظ حال المقلد كما له إجرائه بلحاظ
حال نفسه ، وهكذا إذا كان موردا للاحتياط أو التخيير ، وأما ان كان موردا للبراءة
فلا مناص من إجرائها بلحاظ حال المقلد فقط بعد ما يراه موردا لها ، وهكذا كله
واضح.
الأمر الثاني :
التجري
والبحث فيه يقع من
جهات :
الجهة الأولى :
الجهة الفرعية ، وهي حرمة الفعل المتجري به.
الجهة الثانية :
الجهة الأصولية. والبحث عنها أيضا يكون من وجهين.
أحدهما : دعوى
شمول إطلاق الأدلة لما تعلق به القطع ولو كان مخالفا للواقع.
وثانيهما : دعوى
ثبوت المصلحة أو المفسدة في ما تعلق به ولو كان مخالفا للواقع ، وحيث انّ الأحكام
الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد على مسلك العدلية فمن جهة الملاك يستكشف العقل
حرمة ذلك الفعل أو وجوبه شرعا.
والفرق بين
الوجهين ظاهر ، فانّ الدليل على الأول يكون لفظيا وهو الإطلاق على تقدير ثبوته ،
وعلى الثاني يكون حكم العقل ، ولذا يختص الأول بما إذا كانت الشبهة موضوعية ، ولا
يعم الشبهة الحكمية ، بخلاف الثاني فانه تعم الشبهة الموضوعية والحكمية معا.
ومرادنا من الشبهة الموضوعية في المقام ليست الشبهة الموضوعية باصطلاح الشيخ قدسسره بل مرادنا منها ما كان الشك فيها في الانطباق وسعة المفهوم
وضيقه ، والتعبير بها غير خال عن المسامحة.
وبالجملة الوجه
الثاني يجري فيما إذا كان متعلق القطع موردا للشك في الانطباق ، كما إذا تعلق
القطع بموضوع الحكم أو بمتعلقه ، وفيما إذا لم يكن كذلك كما إذا
تعلق بنفس الحكم ،
كالدعاء عند رؤية الهلال إذا قطع المكلف بوجوبه ولم يأت به ، وشرب التتن إذا قطع
بحرمته وأتى به ، ثم تبين الخلاف في القطع وانكشف مخالفته للواقع ، بخلاف الوجه
الأول فانه إنما يجري في خصوص الشك في الانطباق وثبوت إطلاق يحتمل شموله لما تعلق
به القطع.
ثم لا يخفى انه لا
ينبغي البحث عن الجهة الأولى ، أي عن الحكم الفرعي في قبال البحث عن الجهة الثانية
أعني الأصولية ، وذلك لأن ثبوت الحكم الفرعي وعدمه يبتني على هذين الوجهين.
الجهة الثالثة :
في المسألة الكلامية ، وانّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب من جهة كشفه عن خبث
سريرة المتجري ولو كان الفعل المتجري به في الواقع محبوبا للمولى أم لا يوجب ذلك؟
وليعلم انّ التجري
لا يختص بمخالفة القطع المخالف للواقع ، بل يعم مخالفة كل طريق معتبر بجميع أقسامه
، بل كل منجّز ولو لم يكن طريقا شرعيا ، والجامع بينها هو قيام الحجة ، مثلا لو
قامت البينة على خمرية شيء وشربه ولم يكن في الواقع خمرا يكون متجريا ، أو ثبت
خمرية شيء بالاستصحاب فشربه فتبين الخلاف ، أو تنجز على المكلف حرمة شيء بحكم
العقل كالاشتغال في الشبهات قبل الفحص أو بغيره من الأصول المثبتة للتكليف ، وذكر
القطع من بينها انما هو لكونه أظهر أفراد الحجج والمنجزات لا لخصوصية فيه ، وقد
أشار الشيخ قدسسره إلى ذلك في أواخر المبحث .
ثم ربما يتوهم أو
توهم انه لا معنى للتجري في الأحكام الظاهرية ، أي في باب الطرق والأمارات والأصول
العملية وجامعها الحكم الظاهري ، بدعوى : انها أحكام مجعولة في مورد الشك أو
للمكلف الشاك ، فبكشف الخلاف ينتهي أمدها ،
__________________
نظير النسخ ، لا
انه يستكشف به عدم ثبوت الحكم من الأول كما في الأحكام الواقعية.
وفيه : انّ هذا
إنما يتم على القول بالسببية والموضوعية ، فانه بناء على ذلك يكون في موردها
أحكاما ينتهي أمدها بانكشاف الخلاف ، ولكن هذا القول فاسد لا يعبأ به وان كان
منسوبا إلى بعض قدماء الأصحاب ، لاستلزامه التصويب الباطل أو المحال على بعض
الوجوه.
والصحيح أنّ
المجعول في باب الطرق والأمارات إنما هو الطريقية وتتميم الكشف ، وجعلها طريقا
تاما نظير القطع ، ولا يستفاد من أدلة اعتبارها أزيد من ذلك ، ولو سلمنا أنّ مفاد
الأدلة هو جعل الحكم المماثل فالمجعول إنما هو الحكم الطريقي الناظر إلى الواقع
الّذي يوجب مخالفته العقاب لو صادف الواقع لا مطلقا ، وهكذا الكلام في الاستصحاب.
فالصحيح جريان التجري في موارد قيام الطرق والأمارات مطلقا.
وكيف كان فيقع
الكلام في الوجه الأول من الجهة الثانية ، وهو دعوى شمول إطلاقات الأدلة لما قطع
بموضوعيته للحكم أو بأنه متعلقه ، أو قام طريق أو حجة معتبرة على ذلك ، وقد عرفت
انّ هذا الوجه مختص بما إذا كان هناك إطلاق وكان الخطأ في تطبيقه ، ولا يعم
الموارد التي ليس الخطأ فيها من حيث التطبيق.
ويستدل لشمول
الإطلاقات لذلك بمقدمات :
الأولى : انّ ما
يتعلق به التكليف لا بدّ وأن يكون مقدورا للمكلف ، وإلّا لم يصح التكليف به من
الحكيم ، وعليه لا بد وأن يكون موضوع الحكم ومتعلقاته خارجة عن حيز التكليف ، فلو
قال المولى : «أكرم العالم» يكون وجود العالم خارجا عن حيز الطلب ، وهكذا لو قال :
«لا تشرب الخمر» يكون خمرية الخمر مفروض الوجود في مقام الحكم ، فيفرض العالم
ويبعث نحو إكرامه ، ويفرض وجود الخمر
وخمريته فيزجر عن
شربه ، وعلى هذه المقدمة بنى المحقق النائيني رحمهالله إنكار الواجب التعليقي ، وقد تقدم الكلام فيه ، إلّا أن
المقدمة غير قابلة للإنكار.
الثانية : ان
السبب لحركة العضلات نحو العمل والداعي لتعلق الإرادة بشيء إنما هو نفس القطع
والانكشاف ، غايته بما انه طريق ومظهر للواقع لا بما انه صفة نفسانية ، وجهة كونه
مطابقا للواقع أو مخالفا وجهلا مركبا أجنبية عن محركيته وباعثيته أو زاجريته وان
كان الإنسان يرى انّ محركه هو الوجود الواقعي ، ولذا لو قطع الإنسان بوجود الأسد
يفر ولو لم يكن هناك أسد واقعا ، وبالعكس لو كان هناك أسد وهو لا يعلم به لا يفر ولو
افترسه ، وهكذا في الحركة نحو المحبوب ، فانّ العطشان لو قطع بوجود الماء في مكان
يتحرك نحوه ولو كان في الواقع سرابا ، وبالعكس لو كان الماء عنده وهو لا يعلم به
ربما يموت من العطش ولا يتحرك نحوه ، فالتأثير والتأثرات الروحية والإرادية ليست
كالتأثرات الطبيعية المترتبة على مؤثرها قهرا نظير الإحراق المترتب على وجود النار
الّذي لا يتوقف حصوله منها على قطع وإرادة أو نحو ذلك ، وإنما هي تابعة للصور
العلمية ، فانّ الروح أسير الإرادة ، ومرجح الإرادة كما عرفت هو القطع واليقين
موافقا كان للواقع أو مخالفا ، وهذا واضح جدا ، فما أفاده المحقق النائيني قدسسره من أن المحرك هو وجود المقطوع بما تعلق به القطع غير صحيح .
الثالثة : ان
الإرادة التشريعية حيث تتعلق بالفعل الصادر عن إرادة المكلف واختياره لا بفعله
الاضطراري فلا محالة تكون محركة لإرادته ، بمعنى أن المولى يريد تحقق اختيار
المكلف في أفق النّفس ، فالمطلوب للمولى هو هذا ، وإذا فرضنا ان إرادة العبد تتبع
قطعه ، فلا محالة يكون متعلق بعثه هو ما يتعلق به قطعه ، وهكذا في
__________________
النهي ، فكأن
المولى يبعث نحو ما تعلق به القطع ويزجر عما تعلق به القطع سواء كان قطعه موافقا
للواقع أو مخالفا له ، ونسبة عصيان التكليف إلى من كان قطعه موافقا للواقع أو كان
مخالفا تكون على حد سواء ، فانّ مطابقة القطع ومخالفته تكونان خارجتين عن تحت
اختيار المكلف ، ولا معنى لإناطة العقاب على الخارج عن الاختيار.
وبالجملة حاصل
المقدمة الأولى هو أنّ التكليف لا بد وأن يتعلق بالحصة الاختيارية من حيث الموضوع
والمتعلق ، فما هو في حيز التكليف في قولك «لا تشرب الخمر» مثلا إنما هو شرب ما
فرض خمريته لا ما هو الخمر واقعا اختيارا ، وهكذا في قولك «أكرم عالما» متعلق
الطلب هو ما فرض انه إكرام العالم لا الإكرام الواقعي فانه خارج عن قدرة المكلف
واختياره. وحاصل المقدمة الثانية انّ ما يكون مرجحا لاختيار العبد وداعيا لإرادته
إنما هو الصور الذهنية بما انها طريق سواء كان مطابقا للواقع أو لم يكن. وحاصل
المقدمة الثالثة وهي العمدة في المقام انّ متعلق غرض المولى حيث يكون الفعل الصادر
عن اختيار المكلف لا محالة يكون متعلق إرادة المولى وتحريكه هو اختيار المكلف لا
العمل الخارجي ، وقد عرفت بمقتضى المقدمة الثانية ان للقطع والصور الذهنية موضوعية
في تحقق الاختيار ، وليس الوجود الواقعي دخيلا في ذلك.
والمتحصل من جميع
المقدمات انّ متعلق تكاليف المولى في الحقيقة هو اختيار ما تعلق القطع بانطباق
الموضوع أو المتعلق عليه فعلا أو تركا فقول المولى : «لا تشرب الخمر» يكون زاجرا
عن اختيار شرب مقطوع الخمرية وقوله : «أكرم عالما» باعث إلى إكرام ما فرض عالميته
وإيجاد ما قطع بكونه إكرام العالم ، فيشمل إطلاق الأدلة صورة مصادفة القطع للواقع
ومخالفته ، فكل من الشخصين اللذين صادف قطع أحدهما الواقع وخالف قطع الآخر اختار
شرب ما فرض خمريته وما
هو مبغوض المولى ،
وجهة المصادفة وعدمها قد عرفت انها خارجة عن اختيار المكلف وقدرته ولم يكن في حيز
الطلب ، وهذا غاية ما يمكن من توضيح المقدمات.
ونقول : في
المقدمة الثالثة نقضا وحلّا.
اما نقضا ،
فبالواجبات فانه إذا فرضنا ان متعلق التكليف هو الاختيار ففي قوله : «صلّ في الوقت»
مثلا يكون الواجب اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت ، فإذا صلى باعتقاد دخول
الوقت فبان خلافه لا بد وان يلتزم بسقوط التكليف لحصول المأمور به وهو اختيار
الصلاة في الوقت. وبعبارة أخرى : نسأل هذا المستدل ونقول : ان التجرّي هل يختص
بالمحرّمات أو يجري في الواجبات أيضا؟ مثلا لو أفطر في يوم باعتقاد أنه من شهر
رمضان ولم يكن منه في الواقع ، هل يكون متجريا بذلك أم لا؟ من الواضح انه متجر
وعاص ، ولازم كونه متجريا أن يكون الواجب اختيار صوم ما قطع بكونه من رمضان ليكون
تركه عصيانا ، ولازم ذلك هو الالتزام بالاجزاء في امتثال الحكم العقلي أيضا ، ولم
نر أحدا من الفقهاء التزم بذلك. نعم الاجزاء في امتثال الأوامر الظاهرية مورد خلاف
بينهم ، واما مورد القطع بالحكم خطأ فالظاهر انه لا خلاف بينهم في عدم الاجزاء.
واما حلّا :
فالأحكام الشرعية إنما تكون تابعة للمصالح والمفاسد ، وظاهر الأدلة انّ المصلحة
والمفسدة في نفس العمل ، ولازم ذلك أن يكون البعث نحو نفس العمل والزجر عن نفسه
دون اختياره سواء كان اختياريا أو غير اختياري ، غاية الأمر حيث ان العقل يحكم
بقبح تكليف العاجز أو أن نفس التحريك يقتضي قدرة المكلف على التحرك منه فلا محالة
يخصص العقل تكاليف المولى بصورة القدرة ، هذا على مسلك القوم القائلين باعتبار
القدرة في التكليف الفعلي ، واما على مسلكنا من عدم اعتبارها فيه وانّ القدرة
مأخوذة في حكم العقل بالامتثال فالامر أوضح.
والحاصل : ان
الاختيار يكون مأخوذا في تكاليف المولى بنحو المعنى الحرفي أي طريقا إلى العمل
الخارجي لا بنحو المعنى الاسمي والموضوعية ، وكم فرق بين القسمين. وبهذا يظهر ان
صحة العقاب على تقدير المصادفة وعدمها على تقدير عدم المصادفة لا يوجب دخول الأمر
الخارج عن الاختيار في حيز الطلب أصلا ، وعدم العقاب في فرض عدم المصادفة انما هو
من جهة عدم تحقق المخالفة والعصيان وعدم الإتيان بما فيه المفسدة ولو كان عن غير
اختيار. هذا كله في الوجه الأول.
واما الوجه الثاني
فتارة يقال : انّ تعلق القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب طروّ المصلحة في
ذلك الشيء ، كما ان القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة يوجب حدوث المفسدة فيه.
وفيه : ان المصالح
والمفاسد من التأثير والتأثرات الواقعية والقطع بانطباق عنوان على شيء لا يوجب سلب
آثاره التكوينية عنه ولا إيجاد أثر فيه ، مثلا إذا قطع الإنسان بأن هذا السم
الخارجي ماء فشربه يترتب عليه الموت وهلاك النّفس ، ولا يتخلف عنه أثره بمجرد
انكشاف مائيته ، وهكذا في العكس ، وهذا واضح وجدانا ، ثم لو سلمنا إمكان حدوث
المصلحة أو المفسدة في الشيء عند القطع بطرو عنوان عليه في بعض الموارد بنحو
الموجبة الجزئية فإثبات أن المورد الخاصّ من تلك الموارد محتاج إلى دليل.
وأخرى يقرب
الاستدلال بنحو آخر ويقال : انّ التجري يكون كاشفا عن سوء سريرة العبد وانه في
مقام الطغيان على المولى ، وهذا يوجب قبح الفعل المتجري به أو حدوث مفسدة فيه.
والجواب عن هذا
أوضح من سابقه ، فان القبح الفاعلي لا يوجب القبح الفعلي ، ومجرد كون الفعل كاشفا
عن سوء سريرة فاعله لا يكون من العناوين المقبحة للفعل. وبالجملة القبح الفاعلي في
التجري مسلّم لكنه أجنبي عن القبح
الفعلي.
وتحقيق الكلام في
المقام يقتضي التكلم عن جهات ثلاثة.
الأولى : ان تعلق
القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة على شيء يوجب حدوث مفسدة فيه ، كما ان القطع بانطباق
عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب حدوث المصلحة فيه في باب الانقياد. وقد عرفت الجواب
عنه بأن المصالح والمفاسد يكونان من قبيل الأمور التكوينية والآثار والخواصّ
المترتبة على الأشياء والأدوية ، فكما لا يتغير ذلك بتعلق القطع وعدمه كذلك
المصالح والمفاسد.
الثانية : ان
الفعل المتجري به يكون كاشفا عن سوء سريرة العبد وانه بصدد الطغيان على مولاه
فيكون فيه القبح الفاعلي ، ويسرى ذلك إلى نفس الفعل المتجري به ويوجب قبحه أيضا.
والجواب عنه انّ قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف ، كما انّ حسن المنكشف لا يوجب
حسن الكاشف في الانقياد.
الثالثة : ان نفس
الانكشاف وتعلق القطع بشيء لا يوجب تعنونه بالحسن أو القبح ، وبعبارة أخرى : عنوان
القطع يكون من العناوين المحسنة والمقبّحة وان لم يكن موجبا لحدوث مصلحة أو مفسدة
في متعلقه؟
والكلام في هذه
الجهة أيضا يقع في نقطتين : إحداهما : في بيان ان القطع من العناوين المقبحة
والمحسنة أو لا؟ ثانيتهما : في انه بعد صحة هذه الدعوى هل يستتبع ذلك حكما شرعيا
لقاعدة الملازمة أم لا؟
أما الأولى :
فادعى المحقق النائيني قدسسره ان عنوان القطع ليس موجبا لتعنون متعلقه بالحسن والقبح
أصلا ، وأفاد انّ هذا وجداني ولم يستدل على مدعاه بشيء . ولكن المحقق الخراسانيّ قدسسره برهن على ذلك ، وحاصل ما أفاده : انّ العناوين
__________________
المحسنة والمقبحة
لا بد وأن تكون من العناوين الاختيارية ، وعنوان القطع لا يكون كذلك ، فانّ الفاعل
إنما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي لا بعنوان انه مقطوع الحرمة أو الوجوب أو الخمرية
مثلا ، وبهذا العنوان لا يكون مقصودا ، بل لا يكون غالبا ملتفتا إليه .
ولا يخفى ما في
كلامه قدسسره فانه لا وجه للترقي عما ذكره من أن الفاعل إنما يقصد الفعل
بعنوانه الواقعي لا بعنوان ... إلخ ، بقوله : بل لا يكون غالبا ملتفتا إليه ، وذلك
لأنّ مراده من عدم كون عنوان المقطوع مقصودا لو كان عدم كونه داعيا له كما هو ظاهر
كلامه فهو وان كان صحيحا ، إذ داعي شارب الخمر للشرب ليس إلّا جهة إسكاره لا عنوان
كونه مقطوع الخمرية ، ولكن لا يعتبر في الجهات المحسنة أو المقبحة أن يكون داعيا
في مقام العمل ، ولذا ضرب اليتيم مع الالتفات إلى انه يتألم ويتأذى يكون ظلما
وقبيحا ولو لم يكن بداعي الإيلام والإيذاء ، بل كان بداعي امتحان العصا مثلا ، وان
كان المراد عدم كونه ملتفتا إليه فلا وجه للترقي والاستدراك بقوله بل لا يكون ...
إلخ ، لأن أحد الأمرين يرجع إلى الآخر. هذا مضافا إلى أن أصل البرهان غير تام ، وذلك
لأن الالتفات إلى العناوين الموجبة للحسن أو القبح وان كان معتبرا كما أفاد ولكن
عنوان المقطوعية يكون ملتفتا إليه دائما ، غاية الأمر بالالتفات الإجمالي غالبا
والتفصيليّ في بعض الموارد ، بل القطع هو الملتفت إليه أولا ومتعلقه يكون ملتفتا
إليه ثانيا وبالتبع ، فكيف يمكن أن يكون مغفولا عنه.
واما ما أفاده
المحقق النائيني قدسسره من الوجدان فالظاهر ان خلافه وجداني ، وذلك لأنّ المراد من
الحسن والقبح في المقام هو العقليان منهما أي إدراك العقل حسن تحسين العقلاء
وتوبيخهم فاعل الفعل ، وأن المدح والذم منهم واقع في محله ،
__________________
وملاك هذا الحكم
العقلي ليس إلّا انطباق عنوان العدل أو عنوان الظلم على الفعل ، ومن الواضح ان هذا
العمل المقطوع مبغوضيته بنفسه يكون تعديا على المولى وخروجا عن زي العبودية
والوظيفة وظلما عليه ، كما ان العمل المقطوع وجوبه مصداقا للعدل خصوصا إذا كان
عملا شاقا وتبين عدم وجوبه بعد الإتيان به.
والظاهر ان ما
ذكره مبني على الخلط بين القبح العقلي والحرمة والمبغوضية الشرعية ، ولا ملازمة
بين الأمرين ، وسيتضح إن شاء الله ، فانه ربما لا يكون الفعل قبيحا عقلا وهو حرام
واقعا كما في موارد الجهل ، وربما ينعكس كما في المقام
وتفصيل الكلام في
ذلك : هو انه اختلفت كلمات القدماء في ان حسن الأشياء وقبحها هل يكونان ذاتيين
نظير خواص الأشياء وآثارها المترتبة عليها ، أو أنهما بحكم الشرع ومع قطع النّظر
عن ذلك ليس في شيء حسن ولا قبح ، أو يكونان بحكم العقل ويختلفان بالوجوه والعناوين؟
والحق من
الاحتمالات هو الأخير ، وذلك لأن احتمال كون الحسن والقبح ذاتيا وأمرا واقعيا نظير
المصالح والمفاسد ينافي ما نراه وجدانا من اختلافهما باختلاف الوجوه والاعتبارات ،
إذ الكذب لو كان منجيا يكون متصفا بالحسن ومع عدمه يكون قبيحا ، وإيلام المولى
وهتكه في حد نفسه يكون قبيحا ، وأما لو كان بعنوان إنجائه من القتل يكون حسنا
ويمدح عليه فاعله ، ومن الواضح انهما لو كانا ذاتيين كالخواص لم يكونا قابلين
للتخلف.
وأما احتمال أن
يكونا بحكم الشارع كما عليه الأشاعرة فهو مستلزم لسد باب إثبات نبوة الأنبياء ،
وما أخبر الله تعالى به من الوعد والوعيد ، إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة
المترتبة على إنكار الحسن والقبح العقليين التي لا يمكن الالتزام بها من عاقل ، إذ
من الضروري انه لو لا قبح إجراء المعجز على يد مدعي النبوة كذبا لم يكن لإثبات نبوة
من يأتي بالمعجز طريق ، إذ لا دافع لاحتمال كذبه ولو أتى بألف
معجز خارق للعادة
بعد ما فرضنا انه لا قبح في إجرائها بيد الكاذب ، وهكذا لو لم يكن الكذب وخلف
الوعد قبيحا لم يكن لنا طريق إلى الجزم بتحقق وعده تعالى شأنه.
وبالجملة التوالي
الفاسدة المترتبة على هذا المسلك مما يضحك الثكلى ، فلا يحتمل صحته أصلا ، فيبقى
الاحتمال الثالث ، وهو أن يكونا من الأحكام العقلية العملية ، بمعنى إدراك العقل
استحقاق الفاعل للمدح والثناء أو الذم واللوم ، وعلى هذا فالحسن والقبح العقليان
يكونان مختصين بالأفعال الاختيارية ، ولا يجريان فيما يصدر عن غير اختيار ، إذ لا
معنى لمدح العبد على إنقاذ ابن المولى في حال النوم ، كما لا معنى لحكم العقل بقبح
ضرب العبد مولاه في حال الإغماء. نعم حسن الشيء وقبحه بمعنى كونه ذا منفعة أو مضرة
، أو كونه ذا مصلحة أو مفسدة ، أو كونه منافرا للطبع أو ملائما لا ينحصران بالأمور
الاختيارية ، كما لا يكونان اختياريين ، ولذا تقول : مدحت اللؤلؤ على صفائها ،
ولكنهما أجنبيان عن الحسن والقبح العقليين.
ولا يخفى ان حكم
العقل بحسن شيء أو قبحه إنما يكون بانطباق عنوان العدل والظلم عليه ، فما يكون
حسنا بحكم العقل أولا ومن دون حاجة إلى أن يدخل تحت عنوان آخر هو العدل ، وما يكون
قبيحا كذلك هو الظلم ، والأول هو الحسن ذاتا كما ان الثاني هو القبيح ذاتا ، بخلاف
سائر الأمور والأفعال ، فالقبيح منه لا يتصف بالقبح عقلا إلّا بعد انطباق عنوان
الظلم عليه ، والحسن منه لا يتصف بالحسن إلّا بعد انطباق عنوان العدل عليه ،
والعدل لغة بمعنى الاستقامة ، واستقامة كل شيء يكون بحسبه ، ومنه العادل أي من له
ملكة الاستقامة وعدم الخروج عن جادة الشرع.
إذا عرفت ذلك نقول
: لا فرق في نظر العقل في قبح الإتيان بما هو مقطوع الحرمة بين أن يكون مصادفا
للواقع أو مخالفا له ، إذ لا تفاوت بين الصورتين في صدق عنوان الظلم وهتك المولى
والجرأة عليه على ذلك الفعل ، فان الظلم والقبح لا
يدوران مدار
الحرمة الواقعية ، ولذا في صورة الجهل لا يكون الفعل قبيحا مع ثبوت الحرمة واقعا ،
وإنما يدوران مدار هتك حرمة المولى والجرأة عليه الثابتة في الصورتين. والّذي يشهد
لما ذكرناه تسالمهم على حسن الفعل المنقاد به عقلا ومدح فاعله على ذلك من غير خلاف
ولا فرق بين الانقياد والتجري في حكم العقل في الأول بالحسن وفي الثاني بالقبح.
فما أفاده المحقق النائيني من عدم قبح الفعل المتجري به غير تام.
كما عرفت انّ
البرهان الّذي أفاده في الكفاية أيضا غير صحيح ، وحاصل برهانه هو أن عنوان القطع
غير ملتفت إليه فلا يكون اختياريا ، وأفاد انه في فرض التجري ربما لا يكون هناك
فعل اختياري أصلا ، إذ ما أتى به واقعا وهو شرب الماء لم يكن مقصودا ، وما قصده
واختار شربه لم يقع في الخارج.
وقد ذكرنا في
جوابه انّ القطع ملتفت إليه بالالتفات الحضوري ، إذ القطع بنفسه حاضر لدى النّفس ،
نعم تصور القطع والعلم به تفصيلا مفقود غالبا ، ويكفي في قبح الفعل الالتفات إلى
عنوانه القبيح بهذا المقدار. ثم انه لو تم هذا البرهان فهو مختص ببعض موارد التجري
وهو فرض تعلق القطع بالموضوعات ، ولا يجري في فرض تعلق القطع بالحكم ، كما لو قطع
بحرمة شرب التتن فشربه ، فانّ الالتفات إلى القطع بالحكم غالبا يكون موجودا في
مقام العمل. هذا كله في النقطة الأولى.
وأما الثانية :
فالحق فيها أنّ قبح الفعل لا يكون ملازما لحرمته شرعا ، بل يكون على ما هو عليه
واقعا ، وقضية كل ما حكم به العقل حكم به الشرع أجنبية عن حكم العقل بمعنى إدراكه
قبح الفعل أو استحقاق فاعله للذم ، وإنما هي في حكم العقل بمعنى إدراكه المصالح
والمفاسد المستتبعة للحكم الشرعي. وبعبارة أخرى : الحسن والقبح بالمعنى الأول
يكونان في طول الحكم الشرعي ومن توابعه ، ولا يكونان مناطا له ، بخلاف الحسن
والقبح بالمعنى الثاني ، فانهما يكونان ملاكا للحكم
الشرعي ، فإذا
أحرز العقل وجود المصلحة الملزمة غير المزاحمة في فعل كما في حفظ النّفس المحترمة
مثلا فبالملازمة يستكشف ثبوت الحكم الشرعي بوجوبه ، ولا يبعد أن يكون مدرك وجوبه
هو هذا الحكم العقلي ، إذ لم نجد ما يدل على وجوبه من الأدلة اللفظية ، وهكذا إذا
أحرز وجود مفسدة ملزمة في شيء يستكشف ثبوت الحرمة فيه ، فهذه القضية المشهورة أي
الملازمة لا ربط لها بالمقام ، وإنما هي في مرحلة إدراك علل الأحكام وملاكاتها لا
إدراك ما في مرتبة معلولاتها كحسن الإطاعة وقبح العصيان ، فان هذا الحسن والقبح
فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي ، وثبوت حكم شرعي مولوي في هذه المرتبة لغو لا أثر
له ، إذ العقل وهو الباعث والزاجر الداخليّ يكون مستقلا بذلك ، فمعه لا حاجة إلى
الحكم المولوي ، ومع عدمه لا فائدة فيه لوضوح انه لو لا حكم العقل بصحة عقاب
المولى عبده على العصيان لما حصل للمكلف خوف من العقاب ولما امتثل التكاليف أصلا ،
ولهذه الجهة حملوا الأوامر الواردة في مقام الإطاعة على الإرشاد دون المولوية.
هذا مضافا إلى أنه
يستحيل أن يكون هذا القبح في المقام مستتبعا للحكم الشرعي ، وذلك ، لأن القبح
الّذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي لو كان خصوص القبح الثابت لعنوان التجري أي
مخالفة القطع المخالف للواقع بهذا العنوان ، ففيه.
أولا : انه لا وجه
لهذا الاختصاص ، لما عرفت من انّ حكم العقل بالقبح بالقياس إلى صورة مصادفة القطع
للواقع ومخالفته يكون على حد سواء ، وملاكه وهو الهتك والجرأة على المولى يكون
موجودا في كلتا الصورتين.
وثانيا : لازم هذا
أن يكون المحرّم مخالفة القطع بعنوان كونه مخالفا للواقع ، وهذا الحكم غير قابل
للمحركية أصلا ، لأن من مبادئ قدرة المكلف على الامتثال المعتبرة عندهم في صحة
التكليف هو الالتفات إلى الموضوع ، والالتفات إلى هذا العنوان يكون مساوقا لزواله
نظير الالتفات إلى النسيان ، فكما لا يمكن تكليف الناسي بهذا
العنوان كذلك لا
يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع ، فعلى مسلك المشهور لا يصح هذا
التكليف.
واما لو كان القبح
المستتبع للحكم المولوي الشرعي القبح الجامع الثابت في التجري والمعصية الواقعية
فلازمه التسلسل وأن يكون هناك أحكام غير متناهية وعصيانات غير متناهية وعقوبات غير
متناهية ، وذلك لأن العصيان لو كان حراما شرعا فحرمته أيضا حكم شرعي فعصيانها أيضا
قبيح فلا بد وأن يكون حراما ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، والتجري قبيح فلا بد وأن
يكون حراما ، فعصيانه أيضا كذلك وهكذا إلى أن يتسلسل ، ومن البديهي انا إذا راجعنا
وجداننا لا نرى في أنفسنا إرادات أو كراهات عديدة في البعث نحو شيء واحد أو الزجر
عنه. هذا مضافا إلى انه لا يبعد أن يكون ذلك مستلزما لعدم الفرق بين المعاصي من
حيث العقوبة ، فانها في جميعها غير متناهية على الفرض.
ثم لا يخفى انّ
هذا القبح العقلي وان لم يكن مستتبعا للحكم الشرعي لكنه يستلزم حكم العقل باستحقاق
العقاب عليه كما في المعصية الواقعية ، لما بيناه في ملاك حسن الأفعال وقبحها ،
ولا يبعد دعوى تساوي التجري المحض والمعصية الواقعية من حيث مقدار ما يستحقه
العامل من العقاب ، فانّ ملاك ذلك وهو الهتك فيهما على حد سواء. وأما ما أفاده في
الفصول من الأمثلة لبيان الفرق بين التجري والعصيان في استحقاق
العقاب ، فهو أجنبي عن المقام ، وإنما هو في مقام التشفي المستحيل في حقه تعالى ،
نعم من حيث التشفي ربما يختلف العقاب بنظر العقلاء بينما أراد العبد قتل ابن
المولى وصادفه أو أراد ذلك ولكنه صادف عدوه ، ولكن مع قطع النّظر عن التشفي لا فرق
بين الصورتين من حيث الاستحقاق.
__________________
وبالجملة استحقاق
العقاب يكون على نفس التجري أعني الفعل المتجري به ، لا على العزم والاختيار كما
أفاده في الكفاية ، ووقع لذلك في إشكال استلزامه استحقاق العقاب على أمر غير
اختياري ، والجواب عنه بأنّ ذلك يكون من تبعات البعد عن المولى والشقاوة الذاتيّة
التي هي نظير إنسانية الإنسان وحمارية الحمار ، وغير قابل للتعليل ، وقد مرّ
الجواب عما ذكره في المقام في بحث الطلب والإرادة مفصلا فراجع. وبما تقدم ظهر
الحال في الجهة الثالثة أيضا :
تنبيهات :
الأول : لا إشكال
في أن القطع من العناوين التي يختلف بها جهات الحسن والقبح ، ويمكن أخذ القطع بحكم
في موضوع حكم آخر. ولا إشكال أيضا في أن النسبة بين موضوعات الأحكام وبين القطع من
حيث هو عموم من وجه ، فيمكن أن يكون هناك خمر ولم يتعلق به القطع ، كما يمكن أن
يقطع بخمرية شيء ولم يكن في الواقع خمر ، ويمكن اجتماعهما كما هو واضح ، نظير
عنوان العلم والعدالة مثلا ، ولا مانع من جعل حكمين متماثلين عليهما بأن يجعل على
كل من العنوانين حكم مماثل لما جعل على الآخر.
ولكن يظهر من كلام
المحقق النائيني قدسسره أن في خصوص عنوان القطع ونفس متعلقه لا يعقل ذلك وان كان
بينهما عموما من وجه ، وذلك لاستلزامه اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما ، لأن
القاطع بخمرية شيء لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع ، ففي نظره يكون هناك حكمان
متماثلان في محل واحد ، مثلا لو كان شرب الخمر حراما وكان شرب مقطوع الخمرية أو
الحرمة أيضا حراما فالحرمة الثانية المأخوذ في موضوعها عنوان القطع لا تصير فعلية
إلّا بعد تحقق القطع بالخمرية أو بالحرمة ، وحيث ان
__________________
القاطع بذلك دائما
يرى قطعه موافقا للواقع فيرى ان شربه هذا محكوم بحكمين متماثلين ، فلا يمكن جعل
الحرمة لعنوان القاطع بحرمة الشرب أو بخمرية الخمر بعد جعل الحرمة على شرب الخمر
الواقعي ، مضافا إلى أنه غير قابل للفعلية والباعثية .
هذا ملخص ما أفاده
رحمهالله في بيان عدم استتباع قبح التجري للحكم المولوي ، ولكنه غير
صحيح.
أما أولا : فلأن
في القطع بالموضوع يمكن تصوير مورد الافتراق من الطرفين ، مثلا لو قال المولى ، لا
تشرب الخمر «وقال أيضا : «لا تشرب معلوم الخمرية» وفرضنا ان المكلف قطع بخمرية شيء
وهو غير عالم بحرمة الخمر الواقعي ولم يصل إليه دليله وإنما علم حكم مقطوع الخمرية
فقط يكون حينئذ حكم مقطوع الخمرية فعليا عليه من غير أن يستلزم اجتماع المثلين حتى
في نظره وهكذا عكسه ، نعم في مورد العلم بالحكمين معا يلزم ذلك ، فلا بد من
الالتزام هناك بالتأكد كما في جميع موارد اجتماع العامين من وجه ، فما أفاده مختص بالقطع
بالحكم.
وثانيا : لا ملزم
لأن يكون بين موضوعي الحكمين المتماثلين عموما من وجه ، بل يمكن أن يكون بينهما
عموم مطلق ، نظير ما إذا تعلق النذر أو الشرط في ضمن العقد اللازم بالواجبات
كالصلاة المفروضة فانها حينئذ تكون واجبة من جهتين ، من جهة الأمر الصلاتي ومن جهة
الأمر النذري ويكون فيها ملاكهما غاية الأمر نلتزم فيها بالتأكد في مقام الفعلية ،
واما في مرحلة الإنشاء والملاك فالتعدد ثابت ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ القطع
بالحكم وان كان في نظر القاطع لا ينفك عن ثبوته واقعا ولا يمكننا تصوير مورد
الافتراق من ناحية القطع بأن يكون هناك قطع بالحكم ولم يكن حكم حتى في نظر القاطع
، وإنما الافتراق يكون من طرف الحكم
__________________
فقط فيما إذا ثبت
بغير القطع من الطرق والأمارات ، ولكن قد عرفت انه لا يعتبر أن يكون بين الموضوعين
عموم من وجه ، وبالالتزام بالتأكد في أمثال المقام يندفع إشكال اجتماع المثلين.
فالوجه الصحيح
لعدم الحكم المولوي هو ما ذكرناه من أن الحكم العقلي إنما يستتبع الحكم المولوي
إذا تعلق بما يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام لا معلولاتها وإلّا لتسلسل كما
عرفت.
التنبيه الثاني : ربما يتمسك لحرمة
التجري بالإجماع من جهة اتفاقهم
على أن سلوك طريق مظنون الضرر خصوصا إذا كان الضرر مما يجب التجنب عنه كتلف النّفس
يكون معصية ولو انكشف الخلاف ، وهكذا الظان بضيق الوقت يجب عليه البدار ولو لم
يبادر يكون عاصيا ولو انكشف بقاء الوقت ، فليس المعصية إلّا من جهة التجري.
وفيه : ما لا يخفى
، فانّ الظاهر انّ حرمة السلوك إنما هي من جهة ان خوف الضرر له موضوعية في نظر
الشارع ، ولذا ليس فيه كشف خلاف أصلا ، وكذلك الظن بضيق الوقت ، فانّ المستفاد من
قوله عليهالسلام في صحيحة الحلبي الواردة في الظهرين : «ان كان في وقت لا
يخاف فوت إحداهما فليصلّ الظهر ثم ليصلّ العصر ، وإن خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر» هو أن خوف فوت الصلاة هو الموضوع لوجوب البدار ، وعليه فلا
ارتباط بين المسألتين ومسألة التجري أصلا.
التنبيه الثالث : ربما يستدل لحرمة
التجري بالروايات الواردة في ترتب العقاب على قصد السوء وانه يحاسب عليه ، وهناك روايات أخر دالة على عدم
__________________
ترتب العقاب على
القصد وانّ نية السوء لا تكتب فتقع المعارضة بين الطائفتين. والشيخ قدسسره جمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على القصد المستتبع
للاشتغال ببعض المقدمات والثانية على القصد المجرد عن ذلك ، ولكنه لا شاهد عليه ، فيكون جمعا تبرعيا.
والصحيح ان يجمع
بينهما بحمل الطائفة الثانية على القصد الّذي ارتدع الإنسان بنفسه عنه والأولى على
ما إذا لم يرتدع بنفسه حتى إذا شغله شاغل خارجي ، والشاهد على هذا الجمع هو النبوي
المشهور من أنه «إذا التقى المسلمان بسيفهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قيل :
يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لأنه أراد قتل صاحبه» ، فانّ ظاهر التعليل هو إرادة القتل مع عدم حصول الرادع له
عن نفسه ، وانّ عدم تحقق القتل منه كان لعدم تمكنه على ذلك ، وبعبارة أخرى : حيث
ان كل رواية تكون نصا في موردها ، ومورد النبوي إنما هو قصد القتل مع عدم انقداح
رادع له عن نفسه فيكون نسبته مع الطائفة الثانية من الروايات نسبة الخاصّ إلى
العام فبه تخصص تلك الأخبار ، وتختص بصورة تحقق الرادع له عن نفسه ، فتنقلب النسبة
بينها وبين الطائفة الأولى من الروايات من العموم من وجه إلى العموم المطلق ،
فتخصص الطائفة الأولى بالطائفة الثانية فيخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن
الروايات الدالة على المؤاخذة على القصد وتبقى الصورة الأخرى تحتها ، فالمقام من
صغريات مبحث انقلاب النسبة ، ونتعرض
__________________
له في محله.
وكيف كان فهذه
الرواية تكون شاهدة للجمع الّذي ذكرناه ، وأما الجمع الّذي ذكره الشيخ قدسسره فلا شاهد عليه. ولا يخفى انه لا يحتمل في النبوي أن يكون
لإرادة القتل خصوصية في الحرمة للقطع بعدم الفرق بين القتل وغيره من المعاصي من
هذه الجهة ، فتأمل.
وعلى أي تقدير
الاستدلال بما يدل على المؤاخذة على قصد المعصية ولو بعد الاشتغال بمقدماتها على
حرمة التجري غير صحيح.
أما أولا : فلأنّ
مورد النبوي المتقدم الّذي جعلناه شاهدا للجمع وخصصنا به ما دل على ثبوت المحاسبة
والمؤاخذة على نية السوء من جهة كونه نصا في مورده إنما هو إرادة القتل الواقعي
والاشتغال بمقدماته وعدم ارتداعه عنه بنفسه ، ولا ربط له بالحرام الخيالي أي ما
يعتقده حراما.
وثانيا : لو سلمنا
أن مورده أعم من ذلك ومن قصد الإتيان بما قطع بحرمته ، فليس في الروايات ما يدل
على حرمة ذلك القصد ، بل غاية ما فيها انه يحاسب عليه أو يعاقب ، وهذا التعبير لا
يدل على أزيد مما كان العقل مستقلا به من استحقاق المتجري للعقاب ، ولا يستفاد
منها الحرمة المولوية.
التنبيه الرابع :
ان صاحب الفصول بعد ما سلم قبح التجري واستحقاق العقاب عليه أفاد ما حاصله
: انّ قبح التجري لا يكون ذاتيا بل يختلف بالوجوه والاعتبار ، فإذا صادف الفعل
المتجري به المعصية الواقعية كان فيه ملاكان للقبح ، ملاك التجري وملاك المعصية
الواقعية ، فلا محالة يتداخل العقابان ، وقبح التجري في هذا الفرض يكون أشد وأكثر
مما إذا كان الفعل المتجري به في الواقع مكروها ، كما انّ القبيح في هذا الفرض أيضا
يكون أكثر مما إذا كان الفعل المتجري به مباحا ،
__________________
وهكذا يكون القبيح
في هذه الصورة أكثر مما إذا كان الفعل في الواقع مستحبا ، واما إذا كان الفعل في
نفس الأمر واجبا فيقع التزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التجري ، فربما يتساويان
، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى فيتقدم ، أو يكون ملاك قبح التجري أقوى فيكون قبيحا
، انتهى.
وأفاد المحقق
النائيني رحمهالله ويظهر من كلام الشيخ أيضا ان ما في الفصول مركب من دعاوى ثلاثة :
الأولى : انّ
التجري بعنوانه يكون قابلا لأن يختلف قبحه بالوجوه والاعتبارات ، ويمكن اختلاف
قبحه بمزاحمته مع العناوين الواقعية.
الثانية : وقوع
هذا الأمر الممكن وانّ الجهات الواقعية في الفعل المتجري به يوجب اختلاف مرتبة قبح
التجري أو زواله في بعض الموارد.
الثالثة : تداخل
العقابين عند مصادفة الفعل المتجري به للمعصية الواقعية وللحرام الواقعي.
وجواب الجميع واضح
بعد ما قدمناه ونزيده وضوحا.
أما الأولى ففيه :
انّ التجري أعني الفعل الصادر بهذا العنوان يكون بنفسه مصداقا للظلم ، وحكم العقل
بقبح الظلم ذاتا يكون من الأحكام العقلية العملية الضرورية ، كما انّ حكمه
باستحالة اجتماع النقيضين يكون من الأحكام الضرورية النظرية ، فهو غير قابل
للتخلف.
واما الثانية
فبطلانها أوضح ، وذلك لأنّ الأمر غير الاختياري لا يمكن أن يكون رافعا لقبح الفعل
الصادر قبيحا ، نعم الأمر غير الاختياري يمكن أن يكون مانعا عن صدور الفعل القبيح
، كما لو فرض أن نزول المطر مثلا منع الإنسان من أن
__________________
يشرب الخمر ، وأما
ما يكون رافعا للقبح فلا بدّ فيه من أن يكون اختياريا ، وقد ذكرنا أن باب الحسن
والقبح أجنبي عن المحبوبية والمبغوضية وعن المصلحة والمفسدة ، فلا يقاس أحد
البابين بالآخر ، وأن المصادفة ليست من الأمور الاختيارية.
وأما الثالثة فقد
عرفت انّ العقاب دائما يكون على التجري وهتك المولى حتى في المعصية الواقعية ،
فالقول بتعدد العقاب ثم بالتداخل لا مجال له.
هذا تمام الكلام
في التجري.
الأمر الثالث :
تقسيم القطع
إلى الطريقي والموضوعي
والغرض من هذا
التقسيم مع عدم وجود القطع الموضوعي في الأدلة ـ وعلى فرض وجوده ففي غاية القلة ـ إنما
هو بيان ما ذكره بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع إذا لم يكن ناشئا من
الكتاب والسنة ، وهذا هو الجهة الثالثة من الكلام في حجية القطع التي وعدنا التكلم
فيه ، وحيث انّ الأخباريين جوزوا المنع عن العمل بالقطع قسم الشيخ قدسسره ومن تأخر عنه القطع إلى ما يكون طريقا إلى متعلقه وإلى ما
يكون مأخوذا في الموضوع ، وادعوا أن القطع الطريقي يستحيل المنع عن العمل به
لاستلزامه تحقق التناقض أما واقعا وأما في نظر القاطع. نعم يمكن منع غير القاطع عن
العمل بالقطع الحاصل لغيره كالمقلد بالقياس إلى قطع مقلّده إذا لم يكن ناشئا عن
الكتاب والسنة. وذكروا أيضا أن القطع بالحكم لا يعقل أن يؤخذ في موضوع نفسه لا
شرطا ولا مانعا ، وهكذا في موضوع مثله أو ضده ، لاستلزامه الدور في الأول ،
واجتماع المثلين أو الضدين في الثاني ، والعقل لا يصدّق ورود حكم من الشارع مستلزم
لذلك.
ولكن المحقق
النائيني رحمهالله ذهب إلى إمكان تقييد الحكم بالقطع به من طريق
__________________
خاص ، أو بعدم كونه مقطوعا به من طريق مخصوص ، غاية الأمر انه
لا دليل على ذلك وقوعا إلّا في بعض الموارد ، مثل القطع الحاصل من القياس لرواية
أبان أو الحاصل من غير الطرق المتعارفة كالجفر والرمل.
وبالجملة فالغرض
من هذا التقسيم إنما هو بيان كلام بعض الأخباريين ، ومنعهم عن العمل بالقطع إذا لم
يحصل عن الكتاب والسنة ، وانه هل يكون هذا ممكنا بعد ما فرضنا أن طريقية القطع
وحجيته ذاتية بالمعنى المتقدم ، أو يكون ذلك مستحيلا؟
فالكلام يقع في
موردين :
الأول : في بيان
الصغرى ، وأنه هل ادعى أحد منهم المنع عن العمل بالقطع أم لا؟ والإنصاف ان كلمات
جملة منهم وإن كانت ظاهرة في دعوى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية ، ولا يحصل
منها إلّا الظن الّذي لا دليل على اعتباره ، ولكن كلام جملة منهم بعد ما قسّم
القطع إلى الحاصل من المقدمات العقلية والحاصل من الكتاب والسنة صريح في المنع عن
العمل بالأول ، فإسناد المنع إليهم موجبة جزئية غير قابل للإنكار.
الثاني : في بيان
الكبرى ، ظاهر كلام المحقق النائيني رحمهالله على ما عرفت إمكان المنع عن ذلك ، بمعنى أخذ خصوص القطع
الناشئ عن سبب خاص أو لشخص خاص بالحكم في موضوعه ، وأن هذا لا يرجع إلى المنع عن
العمل بالقطع حتى ينافيه حجيته الذاتيّة. وتقريب ما أفاد يكون بمقدمات .
الأولى : إنا وإن
لم نلتزم بما التزم به العلامة قدسسره من أن العلم ملازم لثبوت
__________________
متعلقه واقعا ،
ولكن لا مناص لنا من الالتزام بأن تعلق القطع بشيء ملازم لثبوته في نظر القاطع ،
وعلى ذلك فأخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه وتقييده به يستلزم ثبوت الدور في
اعتقاده ، لأن فعلية الحكم يدور مدار فعلية موضوعه ، وإذا فرضنا أن للقطع بالحكم
دخلا في موضوع نفسه ، ففعلية الحكم حينئذ تتوقف على فعلية القطع به ، وتحقق القطع
بالحكم مستلزم لتحقق الحكم أو متوقف عليه ، وهذا دور واضح ، فلا يكون مثل هذا
الحكم قابلا للفعلية ، وإذا لم يكن قابلا للفعلية لا يكون قابلا للإنشاء ، وما
يستحيل فعليته يستحيل إنشائه.
المقدمة الثانية :
ان العلم بالحكم أو الجهل به يكون من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن أخذه فيه
، لما تقدم هنا وفي بحث التعبدي والتوصلي ، وإذا استحال التقييد يستحيل الإطلاق
أيضا ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فمهما لم يكن المحل قابلا
للتقييد لا يكون هناك مجال للإطلاق ، فلا إطلاق حينئذ ولا تقييد ، وهذا كقولهم لا
خلأ ولا ملأ حيث لا موضوع لهما.
ونتيجة هاتين
المقدمتين هو أن الأحكام الأولية لا بد وأن تكون مهملة بالقياس إلى علم المكلف
وجهله بها.
المقدمة الثالثة :
أن أخذ العلم بالحكم قيدا فيه إنما يكون مستحيلا فيما إذا كان مأخوذا في نفس دليله
، وبعبارة أخرى : الاستحالة إنما تكون في فرض وحدة الجعل ، وأما اعتباره فيه
بنتيجة التقييد أي بجعل ثانوي يعبر عنه بمتمم الجعل فلا مانع منه ولا استحالة فيه
، وعليه فحيث ان الإهمال الثبوتي غير معقول ، ففي أمثال المقام لا بد من ثبوت
جعلين ، إذ الملاك أما أن يكون في خصوص العالم بالحكم فلا بد من تقييده به ، وأما
أن يكون في الأعم فلا بد من تعميمه ، فأحد الجعلين يكون جعل أصل الحكم بنحو
الإهمال من حيث علم المكلف وجهله به ، والجعل الثاني يتمم هذا الجعل ويبين اختصاصه
بالعالمين أو شموله للجاهلين ، ولا يكون هذا مستلزما للدور في نظر
القاطع أصلا.
ثم أنه في كل مورد
كان متمم الجعل موجبا لثبوت نتيجة التقييد وتخصيص الحكم بخصوص العالمين به ، كما
في وجوب القصر لقوله عليهالسلام : «إن كانت قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له» أو الجهر والإخفات مثلا نلتزم بالتقييد وفي غيره نقول
بنتيجة الإطلاق وعدم الاختصاص ، لعموم ما دل على اشتراك العالم والجاهل في
التكاليف ، ومن ذلك ما ورد من أنّ يوم القيامة يقال للعبد : هلّا عملت؟ فيقول : ما
عملت ، فيقال له : هلّا تعلّمت . وقد ادعى الشيخ قدسسره تواتر هذه الأخبار ، ولكنه قابل للمنع.
وكيف كان فان أمكن
تقييد الحكم بالقطع به ولو بنتيجة التقييد فلا مانع من أن يؤخذ القطع الحاصل من
سبب خاص أو لشخص مخصوص قيدا في الحكم أو مانعا عنه غايته بمتمم الجعل وحينئذ لا
يكون للقطع الحاصل لغيره ، أو من غيره أثر في ثبوت الحكم ، ولا يجوز العمل به إذا
حصل ، وليس هذا منعا عن العمل بالقطع وتصرفا في حجيته ، وإنما هو تصرف في المقطوع
، فالمنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى لا يكون مستحيلا ، ولكن لا دليل على وقوعه
إلّا في موارد مخصوصة ، كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من رواية أبان ، أو
الحاصل من بعض العلوم الغريبة كالجفر والرمل لو تم هناك إجماع على عدم جواز العمل
به. وأما القطع الحاصل من المقدمات العرفية فلا دليل على المنع عن العمل به ، ولا
يتم ما استدل به بعض الأخباريين على ذلك ، هذا حاصل ما أفاده قدسسره.
ونقول : ما ذكره
من كون التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة
__________________
وان كان متينا ،
فانّ الإطلاق عدم التقييد فيما من شأنه ذلك ، ولكن لا يعتبر في العدم والملكة
الشأنية بحسب شخص المورد ، أو شخص الصفة ، بل يكفي القابلية بحسب النوع أو الصنف ،
ولذا يطلق الأعمي على العقرب مع أنه غير قابل للبصر على ما قيل ، ولا يطلق الجاهل
على الجدار لعدم قابليته للعلم ولو بحسب نوعه ، ويصح أن يقال الممكن جاهل بذات
الواجب ، مع أن تعلق علمه به مستحيل ، وليس ذلك إلّا من جهة كفاية الشأنية النوعية
أو الصنفية في العدم والملكة ، وعلى هذا فالحكم بالقياس إلى قيد خاص وإن لم يكن
قابلا للتقييد لكن حيث أنه قابل للتقييد بنوع القيود لا يضر بالملكة استحالة
التقييد الخاصّ ، وعليه فيستلزم استحالة تقييد الحكم بكل قيد ضرورية الإطلاق فيه
أو التقييد بضده ، كما أن استحالة القدرة على بعض الأمور يستلزم ضرورية العجز عنه.
وبالجملة عدم
قابلية المورد للتقيد بوصف لخصوصية في ذلك يستلزم ضرورية عدمه ولو كان ذلك من قبيل
العدم والملكة ، لا أن استحالة الوجود تستلزم استحالة عدمه أيضا ، فانه ليس في
الإطلاق وعدم التقييد منشأ للاستحالة من دور وغيره ، والمحذور إنما كان في التقييد
فقط. هذا مضافا إلى أن الإهمال النّفس الأمري غير معقول بالإضافة إلى الحاكم ،
سواء في ذلك الشارع والعقل والموالي العرفية ، وقد تقدم بيان ذلك في بحث التعبدي
والتوصلي ، فإذا فرضنا أن تقييد الحكم بالعلم به مستحيل ومستلزم للدور فلا محالة
يكون أحد الأمرين من إطلاقه بالقياس إليه أو تقييده بخلافه ضروريا ، وإذا لم يكن
مقيدا بعدمه فلا محالة يكون مطلقا ، وإذا كان كذلك وقطع به المكلف يستحيل منعه عن
العمل بقطعه لاستلزامه التناقض أو الجمع بين الضدين ، أما واقعا لو كان قطعه
مصادفا للواقع ، وأما في اعتقاد القاطع لو كان مخالفا ، ويستحيل جعل حكم غير قابل
لأن يصدق به المكلف ولأن يصير فعليا.
وأما ما أفاده من
أخذ القطع بالحكم في موضوعه شرطا أو مانعا بمتمم الجعل
فقد ظهر فساده
أيضا ، لأنه كان متوقفا على كون الجعل الأولى بنحو الإهمال ، وقد عرفت أنه لا
محالة يكون مطلقا.
وأما ما أفاده من
كون العلم مأخوذا في مسألة الجهر والإخفات والقصر والإتمام فليس كما ذكره وذلك لأن
غاية ما يستفاد من تلك الأدلة إنما هو اجزاء أحدهما عن الآخر عند الجهل بالحكم ،
لا أن الحكم مختص بالعالم به ، ويؤيده أن العنوان المأخوذ في الرواية الإجهار فيما
ينبغي الإخفات فيه أو الإخفات فيما ينبغي الإجهار به ، وهذا ظاهر في ثبوت الحكم
الأولي في حق الجاهل أيضا ، ويؤيد ما ذكرناه التسالم على ثبوت العقاب على الجاهل
بالحكمين عند المخالفة في بعض الصور.
وأما ما أفاده من
ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس لرواية «أبان» ففيه :
أولا : أن رواية «أبان»
ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها.
وثانيا : إنه لا
دلالة فيها على كونه قاطعا بالحكم. نعم يظهر منها أنه كان مطمئنا به ، ولذا قال : «كنا
نسمع ذلك بالكوفة ، ونقول : انّ الّذي جاء به شيطان».
وثالثا : ليس فيها
إشعار بالمنع عن العمل بالقطع ، وإنما أزال الإمام عليهالسلام قطعه ببيان أن السنة إذا قيست محق الدين ، نعم ظهورها في
المنع عن الغور في المقدمات العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية غير قابل للإنكار ،
بل لا يبعد أن يقال ، إنه إذا حصل منها القطع وخالف الواقع ربما يعاقب على ذلك في
بعض الوجوه.
وتلخص مما ذكر أن
أخذ القطع الطريقي بالحكم في نفسه غير معقول ، وعلى تقدير إمكانه لا دليل على
تقييد حكم من الأحكام به أصلا ، كما لا دليل على المنع عن العمل بالقطع مضافا إلى
استحالته ، نعم أخذ العلم بالحكم بمرتبة في فعليته ممكن ،
وسنتعرض له عن
قريب إن شاء الله تعالى. هذا كله في أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.
وأما أخذه في
موضوع مثله كما لو قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة يجب عليك الصلاة بوجوب آخر ، فقد
ظهر إمكانه بما قدمناه ، لأنه يرجع الحكم الثاني إلى التأكيد ، ولا يلزم منه
اجتماع المثلين أصلا ، كما إذا تعلق النذر بالإتيان بواجب أو أخذ ذلك شرطا في ضمن
عقد فانه موجب للتأكد ، ولا إشكال فيه.
وأما أخذه في
موضوع ضده ، كما لو قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة يحرم عليك الصلاة مثلا فاستحالته
واضحة ، لاستلزامه اجتماع الضدين واقعا لو كان قطعه مصادفا للواقع ، وفي نظر
القاطع لو كان مخالفا ، فيستحيل فعلية مثل هذا الحكم ، فيستحيل إنشائه. هذا كله في
أخذ القطع الطريقي في الحكم بأنحائه.
بقي الكلام في
القطع الموضوعي الاصطلاحي ، وهو القطع المتعلق بالموضوع الخارجي الّذي له دخل في
الحكم أو المتعلق بالحكم إذا كان مأخوذا في موضوع حكم آخر يخالفه أو يماثله لا
مضاده ، والقسم المتقدم وإن كان موضوعيا بمعنى إلّا أنه غير الاصطلاحي كما هو
واضح.
وليعلم أولا أن
المراد من القطع الموضوعي ليس القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط ، وإنما المراد
منه القطع المأخوذ في موضوع الحكم الواقعي ، فانه ربما يؤخذ القطع في لسان الدليل
مع أنه غير دخيل في الحكم ، بل يكون أخذه في لسان الدليل من جهة طريقيته للواقع
وأنه أظهر أفراد الطرق وأصنافه ، فليس ذلك قطعا موضوعيا ، وأمثلته كثيرة ، منها
قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) فان الحكم بوجوب الإمساك مترتب على طلوع الفجر واقعا ومع
ذلك
__________________
جعل انتهاء أمد
الترخيص التبين من غير أن يكون له دخل في ذلك ، ومنها قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) بناء على أن يكون المراد المشاهدة لا حضور الشهر ، فانه
ليس لمشاهدة الهلال دخل في وجوب الصوم ، ولذا يجب الصوم على من علم بدخول الشهر أو
قامت عنده حجة على ذلك ولو لم يشاهد الهلال إلى غير ذلك من الأمثلة ، فالميزان في
القطع الموضوعي ما ذكرناه.
والبحث في المقام
يقع في جهات :
الأولى : ان الشيخ
رحمهالله قسم القطع الموضوعي إلى قسمين : ما يكون مأخوذا في الموضوع
على نحو الصفتية ، وما يكون مأخوذا فيه على نحو الطريقية والكاشفية . وقسّم في الكفاية كلّا من القسمين إلى قسمين آخرين ،
فالأقسام تكون أربعة : المأخوذ بنحو الصفتية جزء للموضوع وتمامه ، وبنحو
الكاشفية جزء الموضوع وتمامه.
الجهة الثانية : في بيان تقسيم الشيخ
وتقريبه. لا يخفى ان العقل
بالملكة إذا صار عقلا بالفعل ، ومعناه أن قابلية الإدراك إذا خرجت عن القابلية
وصارت إدراكا فعليا تكون من الصفات الحقيقية التعلقية ، أي ذات الإضافة والتقييد
بالحقيقة احترازا عن الأمور الإضافية المحضة التي لا واقع لها في الخارج ، فانّ
العلم ليس كذلك بل هو صفة حقيقية قائمة بالنفس ، وحيث انّ حقيقته الانكشاف يكون من
الأوصاف التعلقية ذات الإضافة ، نظير الجهل والقدرة والعجز وأمثال ذلك من الأوصاف
التي لا تتحقق إلّا متعلقة بشيء ، ففيه جهتان : جهة كونه صفة قائمة بالنفس وجهة
كونه مضافا إلى ما في الخارج وانكشافا له. والأغراض العقلائية تارة : تتعلق
__________________
به من الجهة
الأولى ، كما لو فرضنا أن الوسواسي لا يحصل له القطع بصحة وضوئه أو بدخول الوقت
فينذر إذا تحقق له القطع وارتفعت حيرته واضطرابه يتصدق ، فبالقطع ترتفع الحيرة
والاضطراب النفسانيّ ، ولذا يسمى قطعا حيث أنه يقطعها ، فهذا الشخص ليس له غرض
بالواقع ، وإنما غرضه زوال حيرته واضطرابه. وأخرى : ينعكس الأمر ويتعلق الغرض بجهة
كشفه عن الواقع ، كما لو فرضنا أنه يريد القطع بدخول الوقت للإفطار أو للصلاة في
أول وقتها مثلا ، فهذا الشخص يكون غرضه متعلقا بالقطع من الجهة الثانية. ويمكن دخل
القطع بكل من القسمين في غرض الشارع أيضا ، فتارة : يؤخذ في الموضوع بما أنه صفة
للقاطع سواء كان مطابقا للواقع أو جهلا مركبا ، وأخرى : يؤخذ من حيث كونه كاشفا
ومطابقا للواقع.
وبما ذكرناه ظهر
فساد ما في الكفاية من أن القطع يؤخذ في الموضوع بما أنه صفة للمقطوع ، وذلك لأن أخذه صفة للمقطوع به مستلزم لأخذه كاشفا ومع
قطع النّظر عن جهة كشفه لا يكون صفة للمقطوع به كما هو واضح.
وأما تقسيم
الكفاية فالقطع المأخوذ على نحو الصفتية كما أفاد ينقسم إلى قسمين : تارة : تكون
تلك الصفة النفسانيّة تمام الموضوع ويترتب عليها الحكم ، سواء كان متعلقه ثابتا أم
لم يكن ، نظير دخل العلم بالملكية في معذورية المتصرف ، وأخرى : يؤخذ جزء للموضوع
وجزئه الأخير تحقق متعلقه واقعا كما في العلم المأخوذ في الشهادة ، حيث أشار عليهالسلام إلى الشمس وقال : «على مثلها فاشهد أو دع» فانّ ظاهره أن العلم جزء للموضوع.
وأما القطع
المأخوذ بنحو الطريقية والكاشفية فأخذه جزء للموضوع في غاية
__________________
الصحة والوضوح ،
وأما أخذه تمام الموضوع فلا يمكن ، لأنه من قبيل الجمع بين متناقضين ، فان معنى
أخذه بنحو الانكشاف عن الخارج هو أن لثبوت المنكشف دخلا في تحقق الحكم ، ومعنى
كونه تمام الموضوع أنه لا دخل للواقع في تحقق الحكم ، وأنه يترتب على القطع سواء
كان هناك واقع أم لم يكن ، وبعبارة أخرى : الانكشاف وان كان ذاتيا للقطع ، بل كما
عرفت ذاته هو الانكشاف ، ولكن الانكشاف إنما يكون في فرض ثبوت المنكشف واقعا ،
وإلّا فلا انكشاف ، بل هو تخيل الانكشاف ليس إلّا. وبالجملة أخذ العلم بلحاظ كشفه
عن المعلوم بالذات يرجع إلى أخذه بنحو الصفتية ، وأخذه بلحاظ كشفه عن الخارج
يستلزم دخل الواقع في الحكم أيضا ، فلا معنى حينئذ لكونه تمام الموضوع.
فالتحقيق : هو
تثليث الأقسام كما أفاده المحقق النائيني ، وبالقطع الطريقي المحض تكون الأقسام أربعة.
مدى قيام الأمارات
والأصول مقام القطع :
ثم لا كلام في أن
الطرق والأمارات والأصول المحرزة تقوم مقام القطع الطريقي المحض بنفس أدلة حجيتها
، ويترتب عليها جميع الآثار المترتبة عليه من تنجيز الواقع به إذا أصاب ، وكونه
عذرا إذا أخطأ ، وكون مخالفته تجريا وموجبا لاستحقاق العقاب إلى غير ذلك من الآثار
المترتبة على القطع الطريقي ، مثلا إذا قامت إمارة على حرمة شيء يكون منجزا للواقع
ولو كانت مخالفة للواقع ، وإذا قامت على عدم وجوب شيء يكون معذرا ولو كان في
الواقع واجبا ، وجميع هذه الأمور شأن القطع الطريقي.
وإنما الخلاف في
قيامها مقام القطع الموضوعي بنفس تلك الأدلة ، والأقوال
__________________
فيه ثلاثة :
أحدها : قيامها
مقامه بجميع أقسامه من المأخوذ بنحو الصفتية أو الكاشفية جزء للموضوع وتمام
الموضوع.
ثانيها : ما يقابل
هذا القول ، وهو عدم قيامها مقامه مطلقا بجميع أقسامه ، وهذا مختار صاحب الكفاية .
ثالثها : هو
التفصيل ، والقول بقيامها مقام المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية ،
وعدم قيامها مقام المأخوذ على نحو الصفتية سواء كان جزء الموضوع أو تمامه ، وهذا
هو مختار الشيخ قدسسره وتبعه في ذلك جماعة منهم المحقق النائيني قدسسره.
والتحقيق : أن
قيامها مقام القطع المأخوذ على نحو الصفتية غير ممكن ، وذلك لأن غاية ما يستفاد من
أدلة حجية الطرق والأصول المحرزة إنما هو تنزيل مؤداها منزلة الواقع وإلغاء احتمال
الخلاف فيها ، والقطع وان كان ذاته انكشافا إلّا أنه بعد أخذه في الموضوع صفة لا
يكون إلّا كبقية الصفات النفسانيّة من العدالة والشجاعة والسخاوة ، ومن البديهي أن
دليل إلغاء احتمال الخلاف في مؤدى الطرق لا يوجب تنزيلها منزلة الصفات النفسانيّة
، وهكذا دليل الأصول المحرزة. وبالجملة ان الشارع وان كان له تنزيل كل شيء منزلة
كل شيء ، كما نزل الطواف منزلة الصلاة ، والفقاع منزلة الخمر ، إلّا أنه محتاج إلى
دليل ، وأدلة حجية الأمارات والأصول المحرزة لا تتكفل ذلك كما عرفت.
وأما قيامها مقام
القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية والطريقية بتلك الأدلة فأفاد صاحب الكفاية
في استحالته ما حاصله : أن تنزيل شيء منزلة شيء متوقف على لحاظ طرفي التنزيل ،
ولحاظ القطع الطريقي لا بد وأن يكون آليا ، بخلاف
__________________
القطع الموضوعي
فانه يكون ملحوظا استقلالا ، وعلى هذا ففي مقام تنزيل الطرق والأصول المحرزة منزلة
القطع الطريقي لا بد وأن يلحظ المنزل والمنزل عليه باللحاظ الآلي بأن يكون الملحوظ
حقيقة هو الواقع والمؤدى ، وفي مقام تنزيلها منزلة القطع الموضوعي لا بد من لحاظها
باللحاظ الاستقلالي ، فإذا أريد جعل كلا التنزيلين وإنشاؤهما بدليل واحد يلزم لحاظ
كل من القطع والطرق أو الأصول في أن واحد بلحاظين ، أحدهما آلي والآخر استقلالي ،
ويستحيل تعلق لحاظين في آن واحد بملحوظ واحد ، سواء كانا استقلاليين أو آليين ، أو
كان أحدهما آليا والآخر استقلاليا ، وهذا المحذور إنما يجري فيما إذا كان
التنزيلان في آن واحد وبدليل فارد ، بخلاف ما لو كان بدليلين ، كأن يقال صدق
العادل مثلا ، ويراد به التنزيل من حيث الطريقية ، ثم يقول ثانيا صدق العادل ويقصد
به التنزيل من حيث الموضوعية ، فانه لا محذور في ذلك.
ثم بعد هذا البيان
أورد على نفسه بأنّ لازمه أن يكون دليل التنزيل مجملا إذا لم يعلم أن المصحح
للتنزيل والجعل كان هو اللحاظ الآلي أو اللحاظ الاستقلالي ، ولا يكون لأحدهما مرجح
على الآخر.
ثم أجاب عن ذلك :
بأنّ تنزيل شيء منزلة القطع يكون ظاهرا عرفا في التنزيل من حيث الطريقية ، ويعرف
ذلك من مراجعة العرف ، فإذا لم يكن قرينة على الموضوعية يحمل على ظهوره الأولي.
هذا حاصل ما أفاد .
وفيه : أولا : أنه
مناف لما التزم به من أن المجعول في الطرق والأمارات هو الحجية ، أي المنجزية على
تقدير موافقتها للواقع والمعذورية على تقدير المخالفة ،
__________________
وذلك لأن ما ذكره
من الجمع بين اللحاظين إنما يلزم فيما إذا كان التنزيل في المؤدى المستلزم للحاظ
القطع والطريق آليا ، وأما بناء على القول بجعل المنجزية والمعذرية كما اختاره
وصرح به غير مرة فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع بقسميه إلّا لحاظها بلحاظ واحد
استقلالي من دون أن يكون هناك نظر إلى الواقع والمؤدى.
وبعبارة أخرى :
بعد لحاظ كل من الطريق والقطع استقلالا كما يمكن تنزيل الأول منزلة الثاني بلحاظ
خصوص الحكم العقلي المترتب على القطع تارة ومن حيث خصوص الحكم الشرعي المترتب عليه
أخرى بأن يكون جهة التنزيل ما أخذ القطع في موضوعه من الحكم الشرعي ، كذلك يمكن أن
يكون التنزيل من الحيثيتين معا ، فان كلّا من الحكمين مترتب على نفس القطع بما هو
لا بما أنه طريق أو مأخوذ في الموضوع ، فيترتب عليها حينئذ الحكم العقلي الثابت
للقطع وهو التنجيز والتعذير والحكم الشرعي المترتب عليه معا.
وثانيا : كما لا
يمكن أن يكون المجعول في الطرق والأمارات هو المؤدى لاستلزامه التصويب وكون
الأحكام الواقعية تابعة لقيام الأمارات ـ على أنه مستحيل في نفسه كما سيأتي تفصيله
ـ كذلك لا يمكن أن يكون المجعول فيها نفس المنجزية والمعذرية لاستلزامه التخصيص في
الحكم العقلي ، وتخصيص حكم العقل بعد ثبوت ملاكه خلف محال ، وذلك لأن العقل مستقل
بقبح العقاب بلا بيان وعدم تنجز الأحكام الواقعية ما لم تكن واصلة بأحد أنحاء
الوصول ، فتخصيص هذا الحكم العقلي بمورد دون مورد غير ممكن.
وبعبارة أخرى
الشارع في مقام التنزيل أما أن يتصرف في موضوع هذا الحكم العقلي ويجعل اللابيان
بيانا فبالتعبد يثبت توسعة في الوصول ، وعليه فالعقل بنفسه يستقل بالتنجيز عند
قيام الأمارة ، فجعله شرعا يكون لغوا ، وإما يريد أن يتصرف في الحكم دون الموضوع ،
وهذا تخصيص في حكم العقل ، وهو محال كما بين
في محله. فعلى أي
حال لا معنى لجعل المنجزية والمعذرية ابتداء ، بل المجعول في الطرق والأمارات هو
الوسطية في الإثبات أو تتميم الكشف أو الطريقية ، وما شئت فعبر ، فان المراد واحد.
بيان ذلك : أن
القطع فيه جهتان : إحداهما : جهة كونه صفة في النّفس رافعا للاضطراب والتحير ،
وهذا أمر تكويني غير قابل للجعل والاعتبار ، ثانيهما : جهة كونه انكشافا للواقع ،
والطرق والأمارات ، منزلة منزلته من هذه الجهة لا من الجهة الأولى ، ولذا يكون
التحير النفسانيّ بعد التعبد وقيام الطريق أيضا باقيا على حاله ولا يزول بالتعبد ،
فتأمل.
ومعنى التنزيل من
الجهة الثانية أن الأمارات التي كانت لها كاشفية ناقصة ألغى الشارع نقصانها تعبدا
فصارت كاشفا تاما ، وتوضيحه : هو أن المجعولات الشرعية غير منحصرة بالأحكام التكليفية
الخمسة ، بل هناك قسم آخر يسمى بالأحكام الوضعيّة نظير الملكية والزوجية وأمثال
ذلك ، والملكية عبارة عن السلطنة على الشيء ، وهي تارة تكون خارجية ، وأخرى
اعتبارية شرعية من دون أن يكون في الخارج سلطنة ، ولذا ربما تعتبر بين شيئين
أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب بحيث لا يجتمعان خارجا فضلا عن تحقق السلطنة
الخارجية لأحدهما على الآخر ، ومن هذا القبيل الكاشفية والطريقية ، فالكاشف
الخارجي الحقيقي هو القطع ، والكاشف الاعتباري هو الطرق والأمارات التي اعتبر لها
الشارع الكاشفية التامة بعد ما كانت كاشفيتها ناقصة وجعلها كالقطع ، وبنفس هذا
الاعتبار والتنزيل تترتب آثار الواقع على مؤداها ، لا من جهة جعل المؤدى ، بل
لكونه محرزا تعبدا ، وتترتب آثار نفس القطع على نفسها بالأولية والأولوية ، فتكون
منجزة للواقع ومعذرة عنه ، ويلتئم منها الموضوع المأخوذ فيه القطع على وجه
الطريقية.
ثم لا يخفى أن
إشكال التصويب لا يرد على ما ذكرناه ، فان الواقع بعد التنزيل
أيضا باق على حاله
، سواء صادفه الطريق أم لم يصادفه من دون أن يوجب ذلك توسعة أو تضييقا فيه. نعم
يكون للأمارات حكومة على الواقع حكومة ظاهرية ، أي حكومة في طريق إحرازه ، فانّ
الطريق أولا كان منحصرا في القطع وبعد جعل الطرق توسعت دائرة المحرز ، فلا يترتب
على الطريق بعد تتميم الكشف إلّا ما كان يترتب على القطع ، وكما يأتي انكشاف
الخلاف في القطع كذلك يأتي في الطريق ، غاية الأمر يكون المكلف حينئذ معذورا كما
في فرض القطع ، هذا بخلاف القول بجعل المؤدى ، فانه مستلزم للتصويب وتبعية الواقع
لقيام الطريق ، إذ عليه متى قامت أمارة على خمرية الماء مثلا يكون ذلك الماء خمرا
تعبدا ، ويترتب عليه حكمه ، وليس فيه كشف خلاف أصلا.
إذا عرفت ذلك تعرف
أنه على المبنى الصحيح لا يلزم من تنزيل شيء منزلة القطع بكلا قسميه بتنزيل واحد
محذور الجمع بين اللحاظين أصلا ، إذ لا يتوقف ذلك إلّا على لحاظ الطريق استقلالا
وتتميم كشفه ، فيترتب عليه جميع آثاره من العقلية والشرعية.
وتلخص من جميع ما
ذكرناه أن تنزيل شيء منزلة القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية وان كان
ممكنا ولا مانع منه ، ولكن.
أولا : لم نجد
موردا يكون القطع فيه مأخوذا كذلك ، وما مثل به الشيخ قدسسره لذلك مثل القطع المأخوذ في باب الشهادة بقوله عليهالسلام : «على مثلها فاشهد أو دع» أو المأخوذ في حفظ الأوليين من الركعات بقوله عليهالسلام : «حتى تثبتهما» فقد ذكرنا أنه مأخوذ على وجه الكاشفية لا الصفتية ، إذ
النّظر في الموردين يكون إلى الواقع لا إلى
__________________
وجود هذه الصفة
النفسانيّة ، وذلك ظاهر.
وثانيا : لا دليل
على تنزيل الأمارات منزلة القطع من تلك الجهة ، كما لا يستفاد ذلك من أدلة حجية
الأمارات أيضا على ما عرفت.
وأما قيامها مقام
القطع الطريقي المحض والمأخوذ في الموضوع بنحو الكاشفية فبناء على القول بجعل
المؤدى عند قيامها على الحكم أو على موضوعه فيشكل ذلك ، لأن لازم جعل المؤدى أن
يكون كل من المؤدى والواقع ملحوظا استقلالا وكل من الطريق والقطع ملحوظا آليا ،
ولازم جعل الطريق منزلة القطع أن يلحظ كل منهما استقلالا ، فيلزم الجمع بين
اللحاظين ، وهو محال ، ولكن هذا المبنى بمراحل عن الواقع.
أما أولا : فلأنه
مستلزم للتصويب ، وهو خلاف مذهب العدلية.
وثانيا : لا دليل
على جعل المؤدى أصلا ، إذ غاية ما يستفاد من الأدلة مثل قوله عليهالسلام : «فما أدّيا إليك عني فعني يؤديان» أو قوله عليهالسلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا»
إلى غير ذلك ليس إلّا التصديق بصحة أخبارهم التي كانت مشكوكة ، ولا اشعار في
شيء منها إلى جعل المؤدى أصلا ، فيدور الأمر بين أن يكون المجعول هو المنجزية
والمعذرية كما ذكره في الكفاية ، وقد عرفت أنه غير صحيح ، لكونه مستلزما لتخصيص
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وبين ما اخترناه من كون المجعول تتميم الكشف
والوسطية في الإثبات ، وعليه فيترتب بذلك آثار الواقع على المؤدى لكونه منكشفا
بالانكشاف التعبدي وآثار القطع على نفس الطريق بالأولوية.
ثم الظاهر أن
اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب مثل قوله عليهالسلام «لا تنقض
__________________
اليقين بالشك» يكون مأخوذا على وجه الطريقية والكاشفية ، لا بما انه صفة
، وإلّا لانسد باب الاستصحاب في موارد قيام الأمارة على تحقق شيء وطروء الشك في
ارتفاعه ، واختل حكومة الأمارات على الاستصحاب.
ولا يخفى أنه بناء
على القول بأن المجعول في الطرق والأمارات هو المنجزية والمعذرية كما هو مختار
الكفاية يصعب الجواب عن هذا الإشكال ، ولو قلنا بأن اليقين في دليل الاستصحاب
مأخوذ على وجه الكاشفية ، وذلك لأن الاستصحاب أيضا منجز ومعذر تعبدا كالأمارات ،
ولا وجه لرفع اليد عن المنجز بمنجز آخر مثله ، وهذا بخلاف ما اخترناه من القول بأن
المجعول هو الطريقية والكاشفية ، إذ عليه يرتفع الإشكال من أصله ، لأن الأمارة
حينئذ تكون يقينا بالحكومة فيشمله أدلة الاستصحاب ، ويأتي تفصيل الكلام في بابه.
وكيف كان فالصحيح
ان المجعول في الطرق والأمارات هو الطريقية والوسطية في الإثبات ، فتكون علما
تعبدا ، ويترتب الواقع على مؤداها بما أنه محرز بالإحراز التعبدي لا بما أنه مجعول
ويترتب آثار القطع عليها ، مثلا لو شك المأموم في الركعات مع حفظ الإمام لا بد له
من المضي في صلاته كما لو كان عالما بالعدد ، لأن حفظ الإمام نزل منزلة علم
المأموم ، وهذا هو سر تقدم الأمارات على الأصول ، وحيث أنها إحراز تعبدي يرتفع بها
موضوع الأصول العملية الّذي هو الشك غايته تعبدا ، ولو لا ذلك لأشكل الجواب عن هذه
الشبهة كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام
في قيام الطرق والأمارات مقام القطع.
وأما الأصول
المحرزة وهي التي أخذ في موضوعها الشك وكانت ناظرة إلى الواقع ، مثل الاستصحاب
وقاعدة التجاوز والفراغ بناء على عدم كونها من
__________________
الأمارات ،
فالظاهر أنها بنفس دليل حجيتها تقوم مقام القطع الطريقي المحض ، وتترتب عليها
آثاره من المنجزية والمعذورية ، وذلك لأن حكم الشارع في ظرف الشك بالبناء على وفق
الحالة السابقة على أنها هي الواقع يكون بيانا ويرتفع به موضوع قبح العقاب بلا
بيان ، فيكون منجزا ومعذرا كما في القطع الطريقي.
وأما قيامها مقام
القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية فهناك تفصيل ، وذلك لأن في القطع جهتين
بعد كونه صفة نفسانية مزيلة للتحير والتزلزل ، إحداهما : جهة كونه انكشافا للواقع
، ثانيتهما : جهة كونه اعتقادا أي موجبا للالتزام القلبي على طبقه وخضوع النّفس له
، ولهذه الحيثية قد يعبر عن القطع بالاعتقاد المشتق من العقد. وربما يحصل الانفكاك
بين الجهتين ، إذ لا ملازمة بينهما ، كما يشعر إليه قوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) فانه ليس المراد من الإنكار مجرد الإنكار باللفظ ، أي
الكذب الموجب للفسق ، بل المراد الإنكار القلبي ، فربما يتيقن الإنسان وليس له عقد
القلب والالتزام على وفقه ، وعليه فان كان القطع الموضوعي مأخوذا في الحكم من
الجهة الأولى وبما أنه محرز فلا معنى حينئذ لقيام الأصول المحرزة مقامه ، لأنها لا
تكون محرزة للواقع حتى تعبدا ، وكيف يمكن جعلها محرزة للواقع مع أن الشك في الواقع
مأخوذ في موضوعها ، وربما يرجع مثل هذا الجعل إلى الجمع بين متناقضين.
وأما ان كان
مأخوذا في الموضوع من الجهة الثانية ، أي من حيث كونه موجبا لعقد القلب على طبقه
مقدمة للعمل على وفقه ، فتقوم الأصول المحرزة مقامه ، وذلك لأن مفاد أدلتها هو عقد
القلب والبناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع ، ولا ينافي الحكم بعقد
القلب والبناء العملي على ذلك مع أخذ الشك في
__________________
الموضوع كما هو
واضح ، فهذه الأصول يكون منزلة منزلة العلم من الجهة الثانية ، فتقوم مقام ما أخذ
في الموضوع من تلك الجهة ، مثلا الغاية في قوله عليهالسلام «كل شيء حلال حتى
تعرف أنه حرام بعينه» انما تكون مأخوذة من تلك الجهة ، فان الحلية مجعولة للشاك
لا بما أن هذه الصفة موجودة في نفسه ، بل بما أنه متحير وليس له عقد القلب مقدمة
للعمل ، وعلى هذا فتقوم الأصول المحرزة مقامه ، وهكذا الشك المأخوذ في جميع الأصول
غير المحرزة ولأجل هذا تقدم الأصول المحرزة على غير المحرزة ، إذ بقيامها يرتفع
موضوعها كما هو واضح.
وأما الأصول غير
المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع ، بل هي وظائف عملية مجعولة للجاهل كالبراءة
العقلية والشرعية والاحتياط العقلي والشرعي فعدم قيامها بأجمعها مقام القطع
الموضوعي في غاية الوضوح ، لأنها لا تكون محرزة للواقع لا وجدانا ولا بالتعبد
الشرعي.
وهكذا عدم قيامها
مقام القطع الطريقي المحض وان لم يكن ذلك بتلك المثابة من الوضوح ، بيان ذلك : أن
البراءة العقلية عبارة عن حكم العقل وإدراكه عدم صحة العقاب على مخالفة الواقع
الّذي لا يكون واصلا ، وان المكلف معذور في ذلك ولا يستحق العقاب عليه ، كما أن
الاحتياط العقلي عبارة عن إدراك العقل حسن العقاب وصحته بمعنى استحقاق المخالف
للعقاب لو صادف الواقع ، وهذا معنى التنجيز. فالبراءة العقلية عبارة أخرى عن
المعذرية ، والاحتياط العقلي عبارة عن التنجيز ، وكلاهما أثر للقطع لا شيء نزل
منزلته ، فانه لا بد في التنزيل من أمور ثلاثة ، منزل ومنزل عليه ووجه التنزيل أي
الأثر الّذي يكون التنزيل بلحاظه ويكون هو المصحح لذلك ، وعليه فكيف يعقل تنزيل
البراءة والاحتياط منزلة
__________________
القطع مع كونهما
الأثر المصحح للتنزيل. وأما البراءة الشرعية فلأنها ترخيص شرعي بلحاظ عدم إحراز
الواقع لا إحراز عدم الواقع كما هو واضح لمن راجع أدلتها. وأما الاحتياط الشرعي
كما في الشبهات التحريمية على القول به ، أو في الموارد المهمة مثل باب الدماء
والفروج فهو وإن كان منجزا وموجبا لاستحقاق العقاب ولكن العقاب في موارده ليس على
مخالفة الواقع ، لأن قبح العقاب بلا بيان يكون من الأحكام العقلية الضرورية ، وقد
عرفت أنه غير قابل للتخصيص ، وإنما العقاب يكون على مخالفة هذا التكليف أعني وجوب
الاحتياط ، لكن حيث أنه ناشئ عن مصلحة الواقع لا محالة يكون ترتب العقاب على
مخالفته في فرض مصادفة الواقع ، وإلّا فيكون تجريا محضا. وبالجملة فالاحتياط
الشرعي إنما هو حكم إلزامي مولوي كما يظهر من أدلته ، ونفس مخالفته يوجب العقاب ،
وهذا أجنبي عن تنزيل شيء منزلة القطع.
وتلخص من جميع ما
تقدم أن الأمارات تقوم مقام القطع الطريقي مطلقا ، سواء كان مأخوذا في الموضوع أم
لم يكن بنفس دليل حجيتها ، والأصول المحرزة تقوم مقامه كذلك لكن بما أنه موجب
للاعتقاد والبناء العملي ، وأما الأصول غير المحرزة فلا تقوم مقام القطع أصلا.
هذا تمام الكلام
في أقسام القطع.
ثم أن للمحقق
الخراسانيّ في حاشيته كلاما في قيام الطرق والأمارات مقام القطع الموضوعي بقسميه
على القول بجعل المؤدى ، فهل يمكن المساعدة عليه بعد الإغماض عن فساد المبنى أم
لا؟ حاصل ما أفاده : هو أن أدلة الأمارات متكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع فقط ،
فلا يلزم هناك إلّا لحاظ واحد آلي ، غايته تلك
__________________
الأدلة بالدلالة
الالتزامية العرفية تدل على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع من دون
احتياج إلى اللحاظ الاستقلالي ، فيترتب تحقق كلا جزئي الموضوع المأخوذ فيه القطع
على تنزيل واحد من حيث المؤدى فقط. وأفاد في الكفاية بأن هذا مستلزم للدور ، وهو محال.
ولا يخفى أنه لا
يترتب أثر على هذا البحث بعد وضوح فساده أصلا ، ولكن الكبرى الكلية ربما يترتب
عليها أثر في بعض الموارد ، فلا بأس بالتعرض لها إجمالا ، فنقول :
تارة : يكون الحكم
مترتبا على نفس موضوعه من دون أن يكون مقيدا بقيد أصلا ، كما لو قال : لا تشرب
الخمر ، فتحقق هذا الحكم خارجا لا يتوقف إلّا على وجود ذلك الموضوع من دون حاجة
إلى مئونة زائدة ، ويمكن التمسك بإطلاقه مطلقا :
وأخرى : يكون
الموضوع مقيدا كما في قوله : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» فالموضوع يكون الماء المقيد بالكرية ، وفعلية ذلك لا يكون
إلّا بتحقق الموضوع بما له من القيود وعليه ، فإذا قامت البينة مثلا على كرية مائع
لا يكون ذلك مؤثرا إلّا بعد إحراز أن المائع ماء إما وجدانا وإما تعبدا ، ودليل
حجية البينة الشامل بإطلاقه لهذه البينة القائمة على كرية هذا المائع لا يدل على
التعبد بمائيته أيضا. نعم لو ورد دليل خاص على حجية خصوص هذه البينة يدل على ذلك
بدلالة الاقتضاء وصونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، وأما الدليل العام أو المطلق فلا
يشمل مثل هذه البينة أصلا ، لأنّ التنزيل والتعبد لا بد وأن يكون بلحاظ الأثر ،
ولا أثر لهذه البينة ، ولا يلزم اللغوية من عدم شموله لها كما هو واضح ، فلا يمكن
التمسك بإطلاق دليل حجية البينة لمثل هذه البينة ثم إثبات الجزء الآخر في طول
دلالته على ذلك بالدلالة
__________________
الالتزامية ، فان
ذلك مستلزم للدور الواضح ، إذ شمول الإطلاق لكل فرد متوقف على ثبوت أثر مترتب عليه
، والمفروض أن الأثر أيضا متوقف على التنزيل وشمول الإطلاق لهذا الفرد ، والمقام
من هذا القبيل ، ويترتب على هذا الكبرى أمور مهمة ، منها عدم شمول أدلة الأصول
لمثبتاتها كما يأتي تفصيله إن شاء الله.
ثم لا يخفى أن
صاحب الكفاية ذكر في الأمر الرابع ما حاصله : أنه يمكن أخذ القطع بالحكم بمرتبة منه في مرتبة
أخرى من نفسه أو من ضده أو من مثله ، وقد عبر عن هذه الأحكام بالفعلي لا من جميع
الجهات ، وصرح به في غير موضع من كتابه.
والتحقيق أن يقال
: أن صحة أخذ القطع بالحكم بمرتبة في المرتبة الأخرى تبتني على مبناه في مراتب
الحكم من الاقتضائي والإنشائي والفعلي والمنجز ، ولكنه بمعزل عن التحقيق ، إذ ليس
للحكم إلّا مرتبتان ، مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضية
الحقيقية ومرتبة خروجه من التقدير إلى الفعلية والتحقق الخارجي وهي تكون بفعلية
موضوعه ، وأما الحكم الاقتضائي والإنشائي بمعنى الإنشاء قانونا أو امتحانا وأمثال
ذلك فليس من مراتب الحكم ، وليس الإنشائي بهذا المعنى قابلا لأن يصير فعليا أصلا ،
بل ليس حكما حقيقة ، وحيث أن المقام ليس مقام إبطال ما ذكره فنحيل ذلك إلى محله.
وبالجملة فبناء
على مبناه يكون ما أفاده متينا ، وأما على المبنى الصحيح من أنه ليس للحكم إلّا
مرتبتان ، مرتبة الجعل ومرتبة المجعول ، فيستحيل ذلك ، ولا يمكن أخذ القطع بمرتبة
جعل الحكم في مرتبة فعليته أصلا بأن يجعل الحكم لعنوان القاطع بنحو القضية
الحقيقية ، وذلك لأن المراد من القطع بالحكم الجعلي ليس القطع بالحكم
__________________
الثابت لغير شخص
القاطع ، فان إمكان ذلك لا يحتاج إلى تعدد المرتبة ، كما لو فرضنا أن القطع بوجوب
الحج على زيد كان دخيلا في الحكم بوجوبه على عمر ، بل المراد القطع بالحكم الثابت
لنفس القاطع ، وثبوت الحكم لشخص القاطع جعلا ملازم لفعليته ، فلا محالة لا بد وأن
يتعلق القطع بالحكم الفعلي ، فإذا فرضنا دخله في فعلية الحكم يعود إشكال الدور ،
وتوضيح ذلك : هو أن شمول وجوب الحج المجعول على المستطيع بنحو القضية الحقيقية
لهذا المكلف وصيرورته حكما له لا يكون إلّا بعد حصول الاستطاعة له خارجا ، وإلّا
فليس حكما مجعولا بالقياس إليه ، بل هو حكم لغيره ، ومثله الحكم المجعول لعنوان
القاطع بالحكم بنحو القضية الحقيقية ، فانه لا يكون حكما ثابتا لشخص إلّا بعد حصول
القطع به له ، ومن الواضح أن القطع طريق ، ولا بد من تحقق الحكم وثبوته في رتبة
سابقة على تحقق القطع ، وهذا دور واضح.
هذا تمام الكلام
في أقسام القطع.
أقسام الظن :
وأما أقسام الظن
فمجمل الكلام فيه هو أنه تارة : يكون طريقا محضا ، وأخرى : يكون مأخوذا في الموضوع
على نحو الصفتية أو الكاشفية ، فيجري فيه جميع الأقسام الجارية في القطع. وهل يمكن
أخذه في موضوع في نفس متعلقه ان كان حكما ، وحكمه أن كان موضوعا ، أو في مثله أو
ضده؟
أما أخذه في موضوع
نفس متعلقه أو حكم متعلقه فهو غير معقول ، لاستلزامه الدور ، كما أن أخذ الاحتمال
فيه أيضا كذلك. وأما أخذه في المماثل فلا إشكال فيه ، لأن بين ثبوت الواقع والظن
به عموم من وجه ، يجتمعان في صورة مطابقة الظن للواقع ويفترق الظن عن الواقع فيما
إذا تعلق بشيء ولم يكن ثابتا ويفترق الواقع عن الظن في عكس ذلك ، ففي مورد
الاجتماع لا بد من الالتزام بالتأكد كما في جميع موارد
اجتماع العنوانين
في موضوع واحد ، وأما في موارد الافتراق فالحكم يكون ثابتا واقعا لأجل العنوان
الواقعي أو لأجل تعلق الظن بالحكم. وأما أخذه فيما يضاده فان لم يكن الظن ظنا
معتبرا فلا إشكال فيه ، وأما الظن المعتبر فلا يمكن فيه ذلك ، لمنافاته مع حجيته
وجعله معتبرا كما هو واضح.
والحاصل : انّ
الظن تارة : يكون طريقا محضا إلى متعلقه معتبرا شرعا كالقطع الطريقي ، غاية الأمر
طريقية القطع ذاتية وطريقية الظن المعتبر اعتبارية شرعية ، وأخرى : يكون مأخوذا في
الموضوع على نحو يكون جزؤه أو تمامه ، وعلى كلا التقديرين أما أن يكون الظن معتبرا
أو غير معتبر.
أما الظن المعتبر
الموضوعي فيمكن أخذه في موضوع حكم مخالف لمتعلقه لا يماثله ولا يضاده ، فيكون
بالنسبة إلى متعلقه طريقا محضا وبالقياس إلى الحكم المخالف له دخيلا في موضوعه ،
أما بنحو الصفتية وأما بنحو الطريقية ، ويمكن أيضا أخذه في موضوع حكم مماثل
لمتعلقه ، سواء قلنا بإمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل أم لم نقل.
ولا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدسسره من قياس المقام بأخذ القطع في موضوع الحكم المماثل ، وذلك لأن الظان ولو كان ظنه معتبرا يحتمل أن يكون ظنه
مخالفا للواقع ، إذ اعتبار الظن لا يزيل الصفة النفسانيّة ، فيكون بين الواقع
وتعلق الظن المعتبر به عموما من وجه ، وهذا بخلاف القطع ، فانّ القاطع لا يحتمل
مخالفة قطعه للواقع ، فالنسبة بين الواقع في نظر القاطع وتعلق القطع به عموم مطلق
لا محالة ، فأخذ القطع بالحكم في موضوع حكم مماثل له دائما يكون مستلزما لاجتماع
المثلين في نظر القاطع ، وأما أخذ الظن كذلك فليس فيه إلّا احتمال اجتماع
العنوانين نظير جميع موارد العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين ، ففي مورد
__________________
الاجتماع في
المقام يلتزم بالتأكد كما يلتزم به هناك ، فقياس الظن بالقطع من هذه الجهة مع
الفارق. وأما أخذ الظن بالحكم في موضوع ضده فالظاهر أنه غير ممكن ، لأنه مناف لدليل
اعتبار ذلك الظن ، فان مقتضى اعتبار الظن هو لزوم ترتيب آثار متعلقه خارجا ومع ذلك
كيف يمكن الحكم بترتيب آثار ضده ، وهذا واضح جدا.
وأما الظن غير
المعتبر فأخذه في موضوع المخالف أو المماثل في غاية الوضوح ، وربما يتوهم استحالة
أخذه جزء للموضوع ، لأن ذلك الجزء الآخر ان كان محرزا بنفس هذا الظن غير المعتبر
فلا يكون محرزا أصلا ، لا وجدانا لأنه ظن ولا تعبدا لأنه غير معتبر شرعا ولم يقم
دليل على اعتباره على الفرض ، وان كان محرزا بالقطع الوجداني فهو خلف ، لأن الظن
مناقض للقطع أو مضاد له ، فهذا النحو من التكليف لا يكون قابلا لأن يصير فعليا ،
وإذا لم يكن قابلا للفعلية لا يكون قابلا للإنشاء أيضا للملازمة بين الأمرين. وهذا
التوهم فاسد ، لأنه مبتن على أن يكون المحرز منحصرا في القطع والظن ، ومن الواضح
عدم انحصار الحجة فيهما ، إذ يمكن إحراز الجزء الآخر بالبينة أو الاستصحاب وأمثال
ذلك مما يكون معتبرا شرعا ولا يكون منافيا مع الظن أيضا ، مثلا لو فرضنا أن الحرمة
مترتبة على مظنون الخمرية بنحو التركيب وكان مائع مستصحب الخمرية وتعلق الظن
بخمريته أيضا فيلتئم الموضوع ، ويترتب عليه الحكم لثبوت كلا جزئيه.
وأما أخذ الظن غير
المعتبر في موضوع حكم مضاد لمتعلقه فقد أفاد في الكفاية إمكان ذلك بدعوى : أن الظن غير المعتبر في حكم الشك في
الواقع ، فيكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة ، فلا يلزم من جعل الحكم المضاد في فرض
__________________
الجهل اجتماع
الضدين وإلّا لم يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري مطلقا ، وعليه فيمكن أن
يحكم المولى بوجوب شرب مائع ظن بحرمته بظن غير معتبر ، لأن تعدد الرتبة مانع عن
ثبوت التضاد بين الحكمين فالحكم الواقعي حينئذ يكون فعليا من بعض الجهات ، بخلاف
الحكم الظاهري فانه فعلي من جميع الجهات.
واختار المحقق
النائيني استحالة ذلك بدعوى : أن الحكم الظاهري وان كان مختصا بصورة
الشك في الواقع ولكن إطلاق الحكم الواقعي ثبوتا يشمل صورة تعلق الظن به أيضا ، ومع
ذلك كيف يمكن جعل حكم ترخيصي أو إلزامي مضاد له في هذا الظرف ، وليس ذلك إلّا جمعا
بين المتضادين.
والصحيح : هو ما
أفاده ، وذلك لأن الموضوع لا يخلو من أن يكون مشتملا على المصلحة أو على المفسدة
الملزمتين بلا مزاحم ، فلا بد وأن يكون واجبا أو حراما ، أو يكون فيه ملاك الحرمة
وملاك الوجوب معا ، وحينئذ ان كان أحدهما أهم وكانت أهميته بمقدار ملزم فيتقدم الملاك
الأهم ، وإلّا فلا بد من الحكم بالإباحة ، وليس المقام من قبيل اجتماع الأمر
والنهي ، فانّ حيثية تعلق الظن ليست حيثية تقييدية ، وإنما هي حيثية تعليلية ،
فيكون المقام من قبيل جعل حكمين متضادين للعامين من وجه. وأما قياس المقام بموارد
مخالفة الحكم الواقعي والظاهري فغير صحيح ، لما سيأتي إن شاء الله في أول مبحث
الظن من أن سنخ الحكم الظاهري سنخ حكم يجتمع مع الحكم الواقعي ولا يضاده ، ولا ربط
له بالمقام ، فان الحكم الثابت في مظنون الخمرية أو الحرمة مثلا ليس حكما ظاهريا ،
وإنما هو حكم واقعي ثابت لهذا العنوان المقيد ، فلا يقاس أحد المقامين بالآخر.
ثم لا يخفى ان ما
ذكرناه من تقسيم الظن المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية أو
__________________
الطريقية تمام
الموضوع أو جزئه إنما هو لتشريح الذهن ، وإلّا فلم يوجد في شيء من موارد الأحكام
الشرعية أخذ الظن في الموضوع. وأما الظن بالضرر المعتبر في السفر والإفطار ، أو
الظن في عدد الركعات ، أو الظن بالعدالة على وجه ، أو الظن بدخول الوقت إذا كان في
السماء علّة أو الظن بالقبلة عند تعذر العلم وأمثال ذلك فكلها ظنون طريقية محضة ،
وليس شيء منها مأخوذا في الموضوع كما أفاد ذلك المحقق النائيني رحمهالله .
__________________
الأمر الرابع :
وجوب الموافقة الالتزامية
هل يجب موافقة
القطع التزاما ، وتحرم مخالفته الالتزامية أم لا؟ ولبعض المناسبات ذكرت هذه
المسألة هنا ، والغرض منها بيان جريان الأصول العملية وعدمه في موارد دوران الأمر
بين المحذورين ، حيث لا مجال فيها للمخالفة القطعية ولا للموافقة القطعية ، وفي
أطراف العلم الإجمالي فيما إذا كانت الأطراف سابقا محكومة بحكم إلزاميّ وعلم
إجمالا بتبدل الإلزام في بعض تلك الأطراف بالحكم الترخيصي ، كما لو علم تفصيلا
بنجاسة الإناءين ثم علم إجمالا بطهارة أحدهما ، فان في هذه الموارد لا يلزم من
جريان الأصل في جميع الأطراف مخالفة قطعية كما هو واضح ، ولا يلزم من ذلك إلّا
الحكم بخلاف الحكم الواقعي الثابت بالإجمال ، فهل يكفي ذلك في المنع عن جريان
الأصول أم لا؟
ثم ان البحث في
المقام متمحض في منع لزوم المخالفة الالتزامية عن جريان الأصول وعدمه ، وأما البحث
عن جريان الأصول في نفسها في مورد دوران الأمر بين المحذورين فسيأتي في محله من
مباحث البراءة. كما أن البحث عن جريانها في نفسها في أطراف العلم الإجمالي إذا
كانت الحالة السابقة في كل منها حكما إلزاميا وكان المعلوم بالإجمال ارتفاعه في
أحدهما وتبدله بالحكم الترخيصي يأتي في مبحث العلم الإجمالي والاستصحاب إن شاء
الله.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انّ من منع عن جريان الأصول في هذه الموارد التي لا
يلزم من جريانها
مخالفة عملية بعد تسليمه شمول إطلاقات الأدلة لا بدّ له من إثبات مقدمتين.
الأولى : إثبات أن
العقل مستقل بلزوم موافقة القطع ومتابعته في الأعمال الجوانحية كما كان مستقلا
بوجوب متابعته في الأعمال الجوارحية.
الثانية : إثبات
منافاة إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي مطلقا مع الموافقة الالتزامية وعدم
إمكان الحكم بالبراءة عن حكم إلزاميّ عملا مع الالتزام بالواقع في مورده.
أما المقدمة
الأولى : وهي وجوب الموافقة الالتزامية ، فان أريد به لزوم تصديق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما جاء به من الأحكام فهو حق ، إلّا أنه من الأصول لا
الفروع ، لأنه لازم تصديق نبوته ، كما انه غير مختص بالأحكام الإلزامية ، بل جار
في الترخيصات أيضا ، ويجري في غير الأحكام من إخباراته وغيرها ، وهو غير مانع عن
إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي كما هو واضح.
وان أريد به لزوم
الإتيان بالعمل بما انه واجب المعبر عنه بلزوم قصد الوجه فهو مضافا إلى اختصاصه
بالواجبات التعبدية على القول به انه لا دليل على اعتباره ، إذ لا يعتبر في
العبادات إلّا الإتيان بها مضافة إلى المولى ، كما يشهد لذلك ما ورد في الوضوء من
كفاية الإتيان به بنية صالحة.
وان أريد به وجوب
الالتزام القلبي بأن يكون البعث نحو شيء متكفلا لحكمين ، البعث نحو العمل الجوارحي
وإيجاب عمل جوانحي هو الالتزام بوجوب ذاك العمل ، فلا دليل عليه ، لوضوح أن الأمر
لا دلالة فيه إلّا على بعث واحد نحو العمل الجوارحي.
وبالجملة
فالاحتمالان الأولان أجنبيان عن المقام ، والاحتمال الثالث وان كان محل النزاع
ولكن لا دليل عليه أصلا ، ومع التنزل عن ذلك فوجوب الالتزام إنما هو
في مورد أمكن فيه
ذلك ، وأما فيما إذا لم يمكن ذلك كالموردين فيسقط وجوبه.
وأما الثانية :
فالظاهر انه لا منافاة بين إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي والالتزام بالحكم
الواقعي ، وذلك لأن مفاد الأصول أحكام ظاهرية مجعولة في مقام العمل ، ولا منافاة
بين ثبوتها وثبوت الحكم الواقعي على ما هو عليه والالتزام به على واقعه. اللهم
إلّا أن يقال : بوجوب الالتزام بكل حكم بشخصه وعدم كفاية الالتزام الإجمالي ،
ولكنه مضافا إلى فساده في نفسه غير مقدور في مثل الموردين ، وأما القول بالتخيير
في الالتزام فهو مستلزم للتشريع ، على أنه لا معنى للالتزام بوجوب ما لا يعلم
وجوبه أو بحرمة ما لم يعلم حرمته.
فالصحيح : أنه لا
مانع من إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا لم يكن مستلزما للمخالفة
العملية بناء على شمول الأدلة لها.
الأمر الخامس :
القطع الحاصل
من أسباب غير متعارفة
هل يفرق في القطع
بين الحاصل من الأسباب المتعارفة والحاصل من الأسباب غير المتعارفة كما في قطع
القطاع؟ وهل يفرق في الظن والشك بين ظن كثير الظن وشك كثير الشك وغيره أم لا؟
فنقول : أما الظن
أو الشك فان أخذ في موضوع حكم كما في قوله عليهالسلام : «إذا شككت بين الثلاث والأربع ولم يذهب وهمك إلى شيء» ،
فلا يبعد دعوى انصرافه عن الظنون والشكوك غير المتعارفة ، وعليه فيصعب أمر كثير
الشك ، فانه إذا لم يشمله أدلة الشكوك الصحيحة فلا مناص له من الرجوع إلى قاعدة
الاشتغال ، فلا بد له من الإتيان بالعمل إلى أن يقطع بالفراغ ، ولكن وردت هناك
روايات دالة على عدم اعتناء كثير الشك بشكه مثل قوله : «لا شك لكثير الشك» فبها
يستريح كثير الشك. وأما كثير الظن فلو كان مأخوذا في لسان دليل فلا أثر لدعوى
انصرافه عن القطع الحاصل من الأسباب غير المتعارفة ، لأن القاطع لا يرى حصول قطعه
من سبب غير مناسب ، بل يراه ناشئا من سبب صحيح. وأما الطريقي المحض فالأمر فيه
أوضح ، فان كاشفيته ذاتية ، وهو منجز ومعذر بحكم العقل ، ولا إطلاق هناك حتى يدعي
انصرافه.
وملخص الكلام في
قطع القطاع يقع في مقامين :
الأول : في إمكان
النهي عن عمل القطاع بقطعه.
الثاني : في إمكان
المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة.
أما المقام الأول
: فتحقيق الحال فيه انه ان أريد من القطاع من يحصل له اليقين كثيرا لكونه عالما
بالملازمات في غالب الأشياء وبثبوت ملزوماتها أما بالعلم اللدني كما في الإمام
وبعض الأولياء ، وأما بالعلم الاكتسابي ، وأما بالفراسة وغير ذلك كما في الطبيب
الّذي يعلم بحصول اليرقان في شخص لعلمه بصفرة وجهه وبالملازمة بين الأمرين ، بخلاف
غير الطبيب فانه لا يحصل له هذا القطع لعدم علمه بالملازمة ، فمن الواضح ان القطاع
بهذا المعنى يشترك مع غيره القاطع ، ولا معنى للمنع عن العمل بقطعه. وان أريد به
من يحصل له القطع من غير الأسباب المتعارفة كما هو الظاهر ، فهو وإن أمكن أن يلتفت
إلى أن نوع قطعه يحصل من أسباب غير عادية ، إلّا أنه لا يحتمل حصول كل فرد بخصوصه
من سبب غير متعارف ، ولا يمكن أن يلتفت إلى أن شخص القطع الحاصل من السبب الخاصّ
مما لا ينبغي حصوله منه ، إذ القاطع بشيء يرى مقطوعه بديهيا أو أنه منته إلى
البديهي ، وعليه فلا أثر للمنع عن العمل بقطع حاصل من سبب غير عادي ، فمنع القطاع
عن العمل بالقطع الطريقي غير ممكن ، لأن طريقية القطع ذاتية ، وأما المأخوذ في
الموضوع فيمكن دعوى انصرافه عن قطع القطاع ، إلّا أن انصرافه عنه لا أثر له كما
عرفت.
وأما المقام
الثاني : فالكلام فيه تارة يقع صغرويا ، وأخرى كبرويا.
أما الصغرى فربما
يقال : أن مراد الأخباريين من المنع عن العمل بغير الكتاب والسنة هو المنع عن حصول
القطع من غيرهما ، وهذا القول وان كان يشهد له كلمات بعضهم إلّا أن كلام جملة منهم
صريح في المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة بعد حصوله.
وأما الكبرى ، وهي
المنع عن العمل بالحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل فتحقيقه : هو أن الحكم العقلي
في محل الكلام يتصور على أقسام ثلاثة :
الأول : أن يدرك
وجود المصلحة أو المفسدة في فعل ، فبتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد يحكم
بثبوت الحكم الشرعي في ذلك المورد.
الثاني : أن يتعلق
بالحسن والقبح بمعنى أن يدرك استحقاق الذم أو المدح على فعل ، وحيث أن مدح الشارع
ثوابه ، وذمه عقابه ، فيحكم بثبوت الحكم الشرعي في مورده.
الثالث : أن يتعلق
بأمر خارجي ثابت مع قطع النّظر عن ثبوت شرع وشريعة ، نظير إدراكه استحالة اجتماع
النقيضين أو الضدين ، وبضميمة حكم شرعي إليه يستكشف الحكم الشرعي في مورده.
أما القسم الأول :
فالصحيح انه مستلزم لثبوت الحكم الشرعي أصلا ، وذلك لأن مجرد وجود المصلحة أو
المفسدة في شيء لا يستلزم ثبوت الحكم الشرعي على طبقها ، إذ ربما تكون المصلحة
مزاحمة بالمفسدة وبالعكس ، وربما تكون مقرونة بالمانع ، وربما تكون فعليتها مشروطة
بشرط غير حاصل ، والعقل لا يمكنه الإحاطة بجميع هذه الأمور ، ولذا قيل : أن الشارع
يفرق بين المجتمعات ويجمع بين المتفرقات ، والمتيقن من قوله عليهالسلام «ان دين الله لا
يصاب بالعقول» هو هذا المورد ، فالحق فيه مع الأخباريين المانعين عن حصول
القطع بالحكم الشرعي من اليقين بوجود المصلحة أو المفسدة في شيء. ولا يبعد أن يكون
نظر المانعين من حصول القطع من مقدمات عقلية إلى خصوص هذا القسم ، ولكنه مع ذلك لو
فرضنا حصول القطع بالحكم الشرعي منه ولو نادرا لا يعقل المنع عن العمل به لما عرفت
ان حجيته
__________________
ذاتية ، وان المنع
عن العمل به مستلزم لاجتماع الضدين.
وأما القسم الثاني
: فإدراك العقل للحسن والقبح وان كان ضروريا ، بل الحسن والقبح واستحقاق العقاب
والذم والثواب والمدح من المستقلات العقلية ، وليسا كالمصلحة والمفسدة التي لا
مجال لإحاطة العقل بها بجميع شئونها ، ولو لا ذلك لما كان في البعث والزجر المولوي
فائدة أصلا ، ولكن حكم العقل بذلك ـ كما عرفت في بحث التجري ـ إنما يكون في طول
الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله ، ومع هذا كيف يمكن أن يستكشف به الحكم الشرعي.
وأما القسم الثالث
: وهو إدراك العقل لأمر خارجي يترتب عليه إدراك الحكم الشرعي ، مثل إدراكه
الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، أو وجوب شيء وحرمة ضده ، فان الملازمة من
الأمور الواقعية الأزلية الثابتة سواء كان شرع وشريعة أم لم يكن ، فليس إدراك
العقل لها إدراكا لحكم شرعي ، فلا مجال لتوهم شمول قوله عليهالسلام «ان دين الله لا
يصاب بالعقول» لهذا القسم أصلا ، فإذا أدرك العقل هذه الملازمة وثبت وجوب ذي
المقدمة بدليله الشرعي فلا محالة يحصل له القطع بوجوب المقدمة أيضا ، لما ذكرنا من
أن العلم بثبوت اللازم معلول للعلم بالملازمة وبثبوت الملزوم ، ويسمى هذا الحكم
العقلي بالعقلي غير المستقل لكون إحدى مقدمتيه شرعية ، وإذا حصل العلم بوجوب
المقدمة لا معنى حينئذ لمنعه عن العمل بقطعه أصلا ، لأنه مستلزم لاجتماع الضدين في
نظر القاطع وهو محال.
بقي في المقام
التعرض لفروع ذكرها الشيخ قدسسره التي توهم عنها ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير
الكتاب والسنة ، والجواب عنها إجمالا : انه بعد ما أثبتنا بداهة استحالة المنع عن
العمل بالقطع لا مناص لنا من حمل ما كان ظاهره المنع
__________________
على المنع عن
مقدمات القطع ، وتفصيلا : نتعرض لبيان كل فرع من هذه الفروع مستقلا :
الفرع الأول : ما
ورد فيما إذا أودع شخصان أحدهما درهما والآخر درهمين عند شخص واحد ، فسرق من
المجموع درهم واحد ، انه يعطي لصاحب الدرهمين درهم واحد والدرهم الآخر ينصف
بينهما. وفي هذا الفرض لو انتقل النصفان إلى شخص ثالث بهبة أو نحوهما واشترى
بمجموعهما جارية يعلم تفصيلا بعدم دخولها في ملكه ، لأن بعض ثمنها ملك الغير قطعا
، فلا يجوز له وطئها ولا النّظر إليها ، ولم يلتزموا به.
وربما يقال : في
دفع الإشكال عن هذا الفرع ان الامتزاج موجب للشركة ، فهو أحد المملكات ، وكما تحصل
الشركة فيما لو امتزج منّ من الحنطة لشخص مع منين منها لشخص آخر بحيث لم يمكن
إفرازها عرفا ، ففي المقام كذلك ، فان نفس امتزاج الدراهم عند الودعي محصل للشركة
بين المالكين في كل جزء جزء من الدراهم ، فما سرق يكون من مالهما.
وفيه : مضافا إلى
أن المقام أجنبي عن باب الامتزاج كما لا يخفى ، إن لازم حصول الشركة في مفروض
المسألة هو إعطاء ثلث الدرهمين إلى صاحب الدرهم الواحد وإعطاء درهم وثلث إلى مالك
الدرهمين ، والمفروض خلاف ذلك.
فالحق أن يقال :
ان الحكم بتنصيف الدرهم الواحد بينهما ، أما أن يكون من باب الصلح القهري ، بمعنى
ان المورد حيث يكون بحسب نوعه موردا للترافع فالشارع حسما لمادة النزاع أمر بتنصيف
الدرهم تعبدا ، فبالتعبد الشرعي يدخل كل من النصفين في ملك واحد منهما ولاية ،
وعلى هذا فلا إشكال ، لأن كلّا منهما يملك النصف من الدرهم الواحد واقعا بحكم
الشارع.
وأما أن يكون من
باب قاعدة العدل والإنصاف ، وهي من القواعد العقلائية
التي أمضاها
الشارع في جملة من الموارد ، كما إذا تداعى شخصان في مال واحد وكان المال تحت
يدهما ، أو أقام كل منهما البينة على صدق دعواه ، أو لم يتمكنا من إقامة البينة
وحلفا أو نكلا ، ففي هذه الموارد يحكم بتنصيف المال بينهما ، وهذه القاعدة
العقلائية مبنية على تقديمهم الموافقة القطعية في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك
على الموافقة والمخالفة الاحتماليتين في باب الأموال ، فانه في هذه الموارد لو
رجعوا إلى القرعة مثلا في تعيين المالك فاحتمال وصول تمام المال إلى مالكه وان كان
موجودا لكن يحتمل أيضا عدم وصول شيء من المال إليه ، وهذا بخلاف التنصيف ، إذ عليه
عدم وصول تمام المال إلى مالكه وان كان معلوما إلّا أنه يعلم بوصول مال المالك
إليه في الجملة ، فيقدم الثاني على الأول ، فالحاكم مقدمة لوصول المال إلى مالكه
يحكم بالتنصيف وان علم بوصول بعض المال إلى غير المالك يقينا ، وهذا يكون من قبيل
صرف مقدار من المال مقدمة لإيصاله إلى مالكه حسبة فيما إذا كان المالك غائبا ،
وعلى هذا فواحد من الدرهمين الباقيين يكون لمالك الدرهمين يقينا ، والدرهم الثاني
يكون مرددا بينهما ، فيحكم بتنصيفه لما بيناه ، فيكون كل من النصفين ملكا لواحد
منهما ظاهرا لا واقعا.
والفرق بين هذا
الوجه والوجه السابق واضح ، فانه على الأول تكون ملكية كل منهما للنصف ملكية
واقعية ، وعلى الثاني تكون ملكية ظاهرية.
ثم أنه لو قلنا
بأن جواز تصرف ذي اليد في المال ولو ظاهرا موضوع لجواز تصرف من انتقل إليه ذلك
المال واقعا فلا إشكال في المقام ، فان كلّا من مالك الدرهم ومالك الدرهمين يحتمل
أن يكون الدرهم الباقي ملكا له ، فيجوز له التصرف بمقتضى تلك القاعدة ، فإذا انتقل
النصفان إلى الثالث يجوز تصرفه فيهما واقعا ، فلا مجال حينئذ للعلم الإجمالي بعدم
جواز تصرفه في أحد النصفين ، ولا للعلم التفصيليّ بعدم جواز تصرفه في الجارية التي
اشتراها بها ، وذلك واضح.
ولو لم نقل بالصلح
القهري ولا بهذه القاعدة ، أو لم نقل بكون جواز التصرف الظاهري لمن بيده المال
موضوعا لجواز تصرف غيره ممن انتقل إليه واقعا ، فيلتزم بعدم جواز تصرف من انتقل
إليه النصفان فيهما وبعدم جواز تصرف مشتري الجارية فيما إذا لم يرد في ذلك نصّ ،
وإنما النص ورد بتنصيف الدرهم بينهما لا في جواز تصرف الشخص الثالث في مجموعها ،
ولو فرض ورود النص بذلك كان اللازم تأويله ، لأن حجية القطع ضرورية.
الفرع الثاني :
فيما لو اختلف المتبايعان في الثمن أو في المثمن بعد اتفاقهما على وقوع أصل البيع
، كما لو اتفقا على وقوعه بإزاء ثمن معين فرضه عشرة دنانير واختلفا في المثمن ،
فادعى البائع ان المبيع عبد وادعى المشتري انه جارية ، فان أقام أحدهما بخصوصه
البينة فالقول قوله ، وإلّا فان حلف أحدهما ونكل الآخر يسمع دعواه ، وان تحالفا
يحكم بالانفساخ القهري ورجوع الثمن إلى مالك مالكه والعبد أو الجارية إلى البائع.
وفي هذا الفرض لو انتقل العبد والجارية معا إلى ثالث ، فهو يعلم إجمالا بعدم جواز
تصرفه في أحدهما لكونه ملكا للمشتري يقينا ، مع أنهم أفتوا بجواز تصرفه فيهما معا.
والجواب عنه : انه
ان قلنا : بأن التحالف بنفسه موجب للانفساخ ، فبالتحالف ينفسخ البيع واقعا ويرجع
كل من العوضين إلى ملك مالكه الأصلي ، فلا إشكال. واما إذا قلنا : بعدمه ، وفرضنا
ان الانفساخ ظاهري فحينئذ إن قلنا بكفاية تصرف ذي اليد ظاهرا في جواز تصرف غيره
فيه واقعا فلا إشكال أيضا ، وإلّا فنلتزم بعدم جواز تصرف الشخص الثالث فيهما بعد
ما لم يرد فيه آية ولا رواية.
الفرع الثالث : لو
علم شخص إجمالا بجنابة نفسه أو جنابة صاحبه ، صح له أن يأتم به في الصلاة ، مع أنه
يعلم ببطلان صلاته ، أما لجنابته وأما لجنابة إمامه. وهكذا لو علم إجمالا بجنابة
أحد شخصين ، يصح له أن يأتم بهما في صلاة واحدة ، كما لو
اقتدى بأحدهما
فحدث له حادث فعدل إلى الآخر مع أنه يعلم ببطلان صلاته لجنابة أحد الإمامين ،
وهكذا يجوز له أن يأتم بهما في صلاتين مترتبتين بأن يأتم في صلاة الظهر بأحدهما
وفي العصر بالآخر ، مع أنه يقطع ببطلان صلاة العصر تفصيلا ، أما من جهة فوات
الترتيب أو من جهة جنابة الإمام.
والجواب عن ذلك :
هو أنه لو قلنا : بأن الصحة عند الإمام تكفي في جواز الائتمام به ولو لم تكن صحيحة
في نظر المأموم فلا مجال حينئذ لعلم المأموم ببطلان صلاته ، فإذا فرضنا أن المأموم
علم بأن الإمام محدث ولكن الإمام لم يكن عالما بذلك وصلى مستصحبا للطهارة صحت صلاة
المأموم ، وليس عليه الإعادة وان وجب على الإمام ذلك لو انكشف له الخلاف ، وإذا
كان الحال ذلك في العلم التفصيليّ فما ظنك بموارد العلم الإجمالي. واما لو لم نقل
بذلك ، واعتبرنا إحراز المأموم صحة صلاة الإمام فلا مناص حينئذ من الحكم ببطلان
صلاة المأموم في جميع هذه الفروض ، ولا ضير في ذلك بعد ما لم يرد على صحتها دليل
خاص ، والقاعدة تقتضي البطلان.
الفرع الرابع : لو
تداعيا ، وقال أحدهما : بعتك الجارية ، وقال الآخر : بل وهبتها لي يتحالفان ، فترد
الجارية إلى صاحبها الأول مع العلم التفصيليّ بخروجها عن ملكه.
والجواب عن ذلك :
هو أن الهبة تارة تكون جائزة. وأخرى لازمة كما إذا كانت لذي رحم ، أو للزوج أو الزوجة
، أو قصد بها القربة ، فان كانت جائزة فليس هناك علم بالمخالفة ، فان المتحقق
واقعا كان هو الهبة ، فيكون نفس دعوى الواهب البيع وانه لم يهبها رجوعا فيها ،
وهكذا كما قيل من أن إنكار الوكالة فسخ للوكالة ، وعليه فيحتمل أن تكون الجارية
ملكا لمالكها الأول. وأما لو كانت الهبة لازمة ولم يكن للواهب حق الرجوع على تقدير
تحققها كان المقام داخلا فيما تقدم من أن
التحالف بنفسه
يوجب الانفساخ ، فينفسخ العقد سواء كان في الواقع هبة أم كان بيعا.
الفرع الخامس : لو
أقر شخص بعين لشخص ثم أقر به لشخص آخر ثم لشخص ثالث وهكذا ، يعطي نفس العين للمقر
له أولا ويغرم للثاني فصاعدا قيمة العين ، وحينئذ يعلم إجمالا أما بأن العين لم
تصل إلى مالكها الواقعي ، أو أن الغرامة لم تصل إلى مالك العين ، فلو اجتمع العين
والقيمة عند شخص واحد واشترى بهما شيئا يعلم تفصيلا بعدم جواز تصرفه فيه ، لأن بعض
ثمنه كان ملك الغير يقينا ، فلم يدخل المثمن في ملكه.
والجواب عنه : ان
هذا الحكم حكم على القاعدة ، فان إقرار المقر أولا أوجب دخول العين في ملك المقر
له بمقتضى قاعدة الإقرار ، ولا أثر لإنكاره بعده ثانيا ، ولما أقر للشخص الثاني
بمقتضى الدليل المتقدم يحكم بأن العين كان له ، وحيث انه بإقراره الأول أتلف العين
يحكم بضمانه لها لحديث من أتلف ، فلا بد وأن يغرم للمالك المثل أو القيمة ، وهكذا
الحال في الإقرار الثالث وما بعده ، وحينئذ لو قلنا : بأن الملكية الظاهرية
الثابتة لهم هو الموضوع لجواز تصرف من انتقل إليه المال منهم فلا إشكال ، ولا يحصل
له علم بعدم جواز التصرف أصلا ، ولو لم نقل : بذلك فنلتزم بعدم جواز التصرف في كلا
المالين للعلم الإجمالي ، وهكذا فيما اشترى بهما ، وليس في هذا الالتزام مخالفة
لآية ولا لرواية.
هذا ما اقتضته
القواعد في الفروع ، والكلمة الفاصلة في المسألة أن من البديهي استحالة زجر الشارع
عما قطع المكلف بأنه مرضي المولى ويجب إيجاده ، أو يأمر بما قطع المكلف بأنه لا
يريده ولا يرضى بإتيانه.
الأمر السادس :
منجزية العلم الإجمالي
والكلام فيه يقع
في مقامين :
أحدهما : في تنجيز
العلم المشوب بالجهل والإجمال ، وانه كالعلم التفصيليّ في ذلك أم لا؟
ثانيهما : في
كفاية الامتثال الإجمالي بعد ثبوت التكليف وإمكان امتثاله تفصيلا.
أما المقام الأول
: فالبحث فيه يكون من جهتين :
الأولى : في وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى عدم إمكان الرجوع في شيء من أطرافه إلى الأصول
العملية ، فلا يجوز ارتكاب بعض أطرافه أيضا وان كان ثبوت التكليف فيه مشكوكا.
والكلام من هذه الجهة يناسب مبحث البراءة ، فالأنسب ما صنعه الشيخ من إدراجها في
مبحث الشك والتعرض لها هناك.
الثانية : في حرمة مخالفته القطعية
بارتكاب جميع أطرافه ولو تدريجا ، وعدم جريان الأصول في مجموع الأطراف. وهذه الجهة هي التي يناسب البحث عنها مبحث القطع فنتعرض لها
في المقام تبعا للشيخ قدسسره ، والكلام فيها يقع في مباحث ثلاثة :
الأول : في أن العقل هل يفرق بين العلم
التفصيليّ والإجمالي في كونه منجزا للتكليف أو يراه بيانا بحيث لا يجري معه قبح
العقاب بلا بيان؟
الثاني : بعد فرض
كونه بيانا هل يتمكن الشارع أن يرخص في مخالفته القطعية بارتكاب جميع الأطراف ولو
بالتصريح؟
الثالث : في وقوع
ذلك وشمول الأدلة لجميع أطراف العلم الإجمالي. ومن الواضح ان هذا المقام مترتب على
المقام الثاني ، إذ لو فرض استحالة الترخيص في جميع الأطراف لم يبق مجال للبحث عن
دلالة الدليل.
أما البحث الأول :
فربما يقال انه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى أن يكون المكلف حين
العمل عالما بالمخالفة تفصيلا ، واما الإتيان بأمور لا يعلم حين الإتيان بكل واحد
منها بمخالفته للمولى ، ولكن بعد الإتيان بالجميع يعلم بتحقق المخالفة في الخارج
فلا يحكم العقل بقبحه. وبعبارة أخرى : القبيح مخالفة التكليف الواصل لا تحصيل
العلم بالمخالفة ، ولذا لو ارتكب المكلف ما هو مشكوك الحرمة بالشك البدوي تمسكا
بأصالة البراءة لا مانع بعد ذلك له من أن يحصل العلم بأن ما فعله كان حراما واقعا
بالسؤال عن إمام أو من جفر أو رمل أو من غير ذلك ، فتحصيل العلم بتحقق المخالفة لا
يكون معصية.
والجواب عنه هو أن
وصول التكليف وانطباقه وان كان مأخوذا في موضوع حكم العقل بالقبح ، وإلّا لحكم
بقبح المخالفة في الشبهات البدوية أيضا ، ولكن تمييز ما يحصل به المخالفة عن غيره
غير لازم ، وبما أن المفروض في المقام وصول التكليف غير أن متعلقه لم يتميز في
الخارج كان العقاب مع البيان لا محالة ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة شرب أحد
المائعين ، فالحرمة تكون واصلة بالعلم بثبوته وان لم يكن موردها متميزا عن غيره ،
ومن الواضح ان تمييز الحرمة عن غيره لا دخل له في حكم العقل بقبح الفعل ، والدليل
في أمثال هذه الموارد منحصر بمراجعة الوجدان والعقلاء ، فانا نراهم لا يفرقون في
الحكم بالقبح بين ما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله أو علم إجمالا بكونه في
جملة أشخاص فقتلهم أجمع.
وبالجملة هذا
الإشكال مغالطة ناشئة من الخلط بين الوصول والتمييز ، فان وصول التكليف الفعلي هو
الموضوع لحكم العقل بقبح المخالفة ، ولا ربط لهذا بتمييز المكلف به أصلا ، ولذلك
لا ريب في حكم العقل بقبح ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي دفعيا كالنظر إلى امرأتين
يعلم بحرمة النّظر إلى أحدهما ، كما في ارتكاب المحرم تفصيلا مع أن موضوع التكليف
الواقعي غير مميز ، فلا يعتبر في القبح إلّا وصول التكليف الفعلي ، وهو متحقق في
محل الكلام.
المبحث الثاني :
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله إلى إمكان جعل الأصول العملية في جميع أطراف العلم
الإجمالي ، بل ادعى وقوعه كما في موارد الشبهة غير المحصورة ، وذلك لانحفاظ مرتبة
الحكم الظاهري فيها ، وذكر انه لا مضادة بين الحكم الواقعي والظاهري ليقال أن ذلك
مستلزم للعلم بثبوت المتضادين ، فانه لو كان بينهما مضادة لما أمكن جعل الحكم
الظاهري في الشبهات البدوية لاستلزامه احتمال الجمع بين متضادين ، ومن الواضح ان
احتمال اجتماعهما مستحيل كالقطع به ، إذ العقل بعد استقلاله باستحالة الاجتماع كيف
يحتمل وقوعه ، ولما أمكن الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهة غير المحصورة أيضا ،
وإذا لم تكن هناك مضادة فلا مانع من جعل الحكم الظاهري في موارد الشبهة المحصورة
أيضا أي فيما كان مخالفته مع الحكم الواقعي معلوما ، ولا يتوهم من ذلك صحة جعله مع
العلم التفصيليّ ، لأن رتبة الحكم الظاهري معه غير محفوظة والمانع فيه عدم
الانحفاظ لا التضاد. والحاصل أن رتبة الحكم الظاهري لو كانت محفوظة مع الشك في
الحكم الواقعي مطلقا فلا مانع من جعله في أطراف العلم الإجمالي للجهل بالواقع في
كل واحد من الأطراف بخصوصه ، ولو لم يكن الرتبة محفوظة لما أمكن جعله في الشبهة
البدوية والشبهة غير
__________________
المحصورة ، وأما
في مورد العلم التفصيليّ فلا موضوع لجعل الحكم الظاهري ، لأن الجهل بالواقع مأخوذ
في موضوعه ، هذا توضيح ما ذكره في الكفاية.
والجواب عن ذلك أن
الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي لا يبتني على اختلاف مرتبتهما ، ولا على كون
الأحكام الواقعية غير فعلية من جميع الجهات ، بل على أن الأحكام لا مضادة بينها في
أنفسها ، فان الحكم ليس إلّا اعتبار شيء على ذمة المكلف ، ومن الواضح أنه لا تنافي
في الأمور الاعتبارية ، فالتنافي بين الأحكام لا بد وأن يكون أما من جهة المبدأ
وأما من جهة المنتهى ، ونعبّر عن الأول مسامحة بالعلة وعن الثاني بالمعلول ،
والمراد من المبدأ على رأي العدلية ومن وافقهم هو المصلحة أو المفسدة ، وعلى مسلك
الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام لهما هو الشوق والكراهة ، ومن المنتهى مقام
امتثال الأحكام ، وحينئذ فلازم اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة وقوع التضاد بين المصلحة
والمفسدة في المتعلق ، أو الشوق والكراهة وتعلقهما بشيء واحد وهكذا في اجتماع
الوجوب أو الحرمة مع الترخيص هذا من حيث المبدأ.
وأما من حيث
المنتهى فلعدم تمكن المكلف من امتثالهما ولو كان في غاية الطاعة والانقياد للمولى
كسلمان ونظرائه ، فلا بد في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من علاج هاتين
الحيثيتين وبالجملة لا تنافي بين الحكمين ذاتا ، سواء كانا واقعيين أو ظاهريين ،
أو كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا ، إذ الإنشاء بمجرده خفيف المئونة ، ولا مضادة
بين قول افعل وقول لا تفعل ، ولا بين اعتبارين سواء كانا إلزاميين أو كان أحدهما
إلزاميا والآخر ترخيصيا وذلك واضح.
فالمضادة بين
حكمين لا بد وأن يكون بالعرض أما من ناحية المبدأ والعلة وأما من ناحية المنتهى
والمعلول ، فان لازم اجتماع الوجوب والحرمة مثلا في مورد هو وجود المصلحة والمفسدة
الملزمتين بلا كسر وانكسار في البين ، أو ثبوت الشوق
والكراهة معا في
محل واحد ، وهو من اجتماع الضدين ، ولازم اجتماع الإلزام والترخيص معا هو أن لا
يكون في الفعل الواحد اقتضاء الإلزام بالفعل أو الترك وأن يكون فيه ذلك ، وهذا
معنى التنافي من حيث المبدأ.
وأما من حيث
المنتهى وهو التضاد في مرحلة حكم العقل بالامتثال فلأنّه بعد ما فرض ان المولى أمر
بشيء ونهى عنه فلا محالة يحكم العقل بلزوم امتثالهما معا ، فيقع التضاد في حكمه
بالامتثال ، وهكذا لو أمر بشيء أو نهى عن شيء ورخص فيه يقع التنافي في حكمه بلزوم
امتثال التكليف الإلزاميّ وحكمه بالترخيص في الفعل والترك ، فدائما يكون التنافي
بين الحكمين عرضيا.
إذا عرفت ذلك بان
لك انه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الشبهات البدوية لا من ناحية
المبدأ ولا من ناحية المنتهى. أما من ناحية المبدأ ، فلأن المصلحة في الحكم
الظاهري إنما تكون في نفس الجعل لا في المجعول ، سواء كان الحكم الظاهري ترخيصا
لمصلحة التسهيل أو كان إلزاميا ، فلا يلزم من مخالفته مع الحكم الواقعي اجتماع
المصلحة والمفسدة أو الإرادة والكراهة أصلا. وأما من ناحية المنتهى ، فلأن مورد
الحكم الظاهري هو الشك في الواقع وعدم تنجزه ووصوله إلى المكلف ، فما لم يصل
الواقع لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ، وإذا وصل وحكم العقل بلزوم امتثاله لا يبقى
مجال للحكم الظاهري لارتفاع موضوعه بوصول الواقع ، فلا يقع التنافي بينهما في مقام
الامتثال أيضا. إذا تجلى هذا وضح لنا ان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في
أطراف العلم الإجمالي إنما هو في مرحلة المنتهى والمعلول لما تقدم من أن الواقع
يكون واصلا بالعلم الإجمالي ، ولا يفرق بينه وبين العلم التفصيليّ ، فيحكم بلزوم
امتثال الواقع الواصل به ، وإذا كان الحكم الظاهري على خلاف يلزم محذور اجتماع
المتنافيين من ناحية الامتثال ، فلا تقاس به الشبهة البدوية أبدا.
نعم يبقى الإشكال
في جريان الأصول وثبوت الحكم الظاهري في أطراف الشبهة غير المحصورة مع أن الواقع
فيها وأصل كما في المحصورة.
والتحقيق : في
الجواب عنه أنه لو كان المراد من غير المحصورة الّذي يجري في أطرافه الأصول مجرد
كون أطراف العلم الإجمالي كثيرة كما هو أحد القولين في المسألة لما كان لهذا
الإشكال مدفع ، إذ لا فرق بين قلة الأطراف وكثرتها فيما تقدم ، ولكن الصحيح أن
الشبهة غير المحصورة التي لا يكون العلم الإجمالي فيها منجزا ويجري في أطرافه
الأصول العلمية إنما هي الشبهة التي بلغت كثرة أطرافها إلى حد لا يمكن إحراز
الامتثال فيها أصلا ، أو يكون حرجيا أو عسرا أو ضرريا ، وهذا اصطلاح لا مناقشة فيه
، وعليه فلا يكون الحكم الواقعي فيها لازم الامتثال ، لعدم التمكن منه ، أو لكونه
عسرا أو حرجيا أو ضرريا ، وإذا لم يلزم امتثال الحكم الواقعي في مورد لم يكن مانع
من جريان الأصول في أطرافه ، فكم فرق بينها وبين الشبهة المحصورة ، فان الحكم
الواقعي في المحصورة يجب امتثاله بحكم العقل كما عرفت ، فلا يمكن جعل الحكم
الظاهري في موردها. ثم لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في
الشبهة المحصورة يقع الكلام في المبحث الثالث.
المبحث الثالث : أعني به شمول أدلة
الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي وعدمه. فقد منع الشيخ قدسسره عن ذلك ، لكونه مستلزما لوقوع المناقضة بين صدر الروايات
وذيلها ، وذلك لأن مقتضى إطلاق صدر الروايات كقوله عليهالسلام في رواية مسعدة ابن صدقة (كل شيء هو لك حلال) وقوله عليهالسلام في حديث عبد الله بن سنان (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك
حلال) وأمثال ذلك ثبوت الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ، إذ كل واحد من
الأطراف يشك في حليته ، فيصدق عليه
__________________
هذا العنوان ،
ومقتضى إطلاق ذيلها والغاية المذكورة فيها أعني بها العلم بالحكم الواقعي أو
معرفته الشامل للعلم الإجمالي هو عدم ثبوت الحكم الظاهري في بعض الأطراف ، وهذا
معنى المناقضة بين الصدر والذيل ، فان نقيض الموجبة الكلية هي السالبة الجزئية ،
فلا بد من رفع اليد عن إطلاق صدر الروايات وتقييده بالشبهات البدوية ، أو عن إطلاق
ذيلها وتقييده بالعلم التفصيليّ ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فلا محالة تكون
الروايات من هذه الجهة مجملة ، فلا بد من الرجوع في مورد العلم الإجمالي إلى حكم
العقل ، وقد عرفت ان العقل لا يفرق بين العلم الإجمالي والتفصيليّ في المنجزية بعد
ما لم يكن في موارد العلم ولو كان إجماليا مجالا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ثم انه قدسسره ذكر شبهة لإثبات اختصاص الغاية بالعلم التفصيليّ وحاصلها : أن كلمة «بعينه» المذكورة في ذيل بعض الأخبار الواردة في
المقام دالة على اعتبار العلم التفصيليّ في حصول الغاية. وأجاب عنها بأنه لا
يستفاد من هذه الكلمة إلّا التأكيد ، فانه يصح عرفا أن يقال أعرف نجاسة إناء زيد
بعينه فيما إذا علم بنجاسته وتردد بين إناءين ولم يكن إناء زيد متميزا عن غيره.
أقول : يرد على ما
أفاده.
أولا : ان العلم
أو ما هو بمعناه المأخوذ غاية في هذه الروايات ظاهر عرفا في خصوص ما يكون منافيا
للشك في كل من الأطراف ، وبعبارة أخرى : ظاهر قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين أبدا بالشك وانما تنقضه بيقين آخر» هو أن الغاية إنما هو اليقين المتعلق بعين ما تعلق به الشك
بحيث يكون رافعا له لا مطلق اليقين ولو تعلق بغير ما كان الشك متعلقا به ، وهذا
واضح جدا ، وعليه فالغاية لا تحصل بالعلم
__________________
الإجمالي ، ولا
يشمله ذيل هذه الأخبار ، فالإطلاق في صدرها بلا معارض.
وثانيا : أن الشيخ
قدسسره لا يلتزم بهذا ، إذ لازمه عدم جريان الأصول في أطراف العلم
الإجمالي ولو لم يكن منجزا بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء أو بغير ذلك ، فإذا
علم المقلد إجمالا بموت أحد شخصين مردد بين مقلده وشخص آخر أجنبي عنه فان لازم ذلك
أن لا يتمكن من إجراء الاستصحاب في حياة مقلده.
وثالثا : ان ما
أفاده من أن كلمة «بعينه» لا تدل على اعتبار التمييز بل تكون للتأكيد وان كان
متينا في الجملة ، ولكنه لا يتم في جميع الروايات الثلاثة التي ذكرت فيها هذه
الكلمة ، فان في رواية عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام : (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه
بعينه فتدعه) ومن الواضح أن معرفة الحرام من الشيء بعينه فرع تمييزه عن
غيره ، وهكذا معرفة النجس من الشيء ، وهذا بخلاف معرفة أن الشيء نجس بعينه الّذي
مثل به الشيخ قدسسره ، وكم فرق بين التعبيرين بحسب الظهور العرفي ، فذيل هذه
الرواية غير شامل لأطراف العلم الإجمالي ، فلا مانع من التمسك بإطلاق صدرها وان
قلنا بإجمال غيرها من الروايات ، وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء الله في خاتمة
الاستصحاب.
فالصحيح : أن
المانع عن إجراء الأصول في المقام ثبوتي لا إثباتي.
المقام الثاني : في كفاية الامتثال
الإجمالي. لا شبهة في حكم
العقل والشرع بحسن الاحتياط وان استلزم ذلك التكرار فيما إذا لم يتمكن المكلف من
الامتثال التفصيليّ. لأنه غاية ما يمكنه العبد المطيع في الانقياد لمولاه. واما مع
التمكن من الامتثال التفصيليّ ، فيقع الكلام تارة : في الواجبات التوصلية ويلحقها
الوضعيات من الطهارة والعقود والإيقاعات ، وأخرى : في العبادات.
__________________
اما التوصليات ،
فيكفي فيها الامتثال الإجمالي ، حيث أن الغرض منها مجرد تحقق المأمور به في الخارج
كيف اتفق ، وبالإتيان بجميع المحتملات يتحقق ذلك قطعا ، كما أن في الطهارة
وأمثالها أيضا يحصل الغرض بذلك ، فلو غسل المتنجس بما يعين أحدهما ماء مطلق قطعا
والآخر مضاف تحصل الطهارة يقينا ، وإذا احتاط المكلف بالجمع بين إنشاءات متعددة
يعلم إجمالا بصحة بعضها كما لو أوقع صيغة النكاح بجميع محتملاتها يقطع بحصول
الزوجية وان لم يتميز عنده السبب المؤثر.
ولكن الشيخ قدسسره ناقش في الاحتياط في باب العقود والإيقاعات باختلال قصد
الإنشاء مع الترديد. لكنا قد ذكرنا في محله أن التردد فيما هو الممضى من السبب
شرعا أجنبي عن الترديد في الإنشاء والاعتبار الّذي هو أمر نفساني قائم بالمعتبر. ويلحقها
أيضا الاحتياط في العبادات في الشبهات الموضوعية التي هي مجرى البراءة قبل الفحص ،
كما لو نذر المكلف أن يصلي في كل مسجد في البلد ثم شك في مسجدية موضع منه وكان
متمكنا من الفحص وإحراز الواقع فلم يفعل وصلى فيه رجاء ، وهكذا في الشبهة الحكمية
بعد الفحص إذا كانت بدوية ، بل لا يبعد أن يقال : أن هذا الامتثال الّذي رخص
المولى بتركه أرقى بمراتب من الامتثال التفصيليّ في موارد يكون التكليف فيها منجزا
، وعليه فان صادف الاحتياط الواقع كان ما أتى به إطاعة وإلّا كان انقيادا.
واما الاحتياط في
العبادات في الشبهات الحكمية مع تنجز الواقع فقد وقع الكلام في حسنه بين الأعلام ،
وحيث أنه تارة : لا يستلزم التكرار ، وأخرى : يستلزمه ، وعلى التقديرين تارة ،
يكون التكليف المعلوم بالإجمال استقلاليا ، وأخرى : يكون ضمنيا ، ثم ما لا يستلزم
التكرار اما أن يكون أصل التكليف محرزا والشك في الخصوصية من الوجوب والندب ، واما
أن لا يكون أصل التكليف
معلوما لاحتمال
الإباحة ، فهنا مسائل ، ولكننا ندرج بعضها في بعض تحفظا على الاختصار.
فنقول : إذا لم
يكن الاحتياط مستلزما للتكرار ، وكان أصل التكليف محرزا ليس هناك ما يوهم المنع عن
الامتثال الإجمالي إلّا توهم اعتبار قصد الوجه وتمييز عنوان الأمر من الوجوب والاستحباب
، وهو غير معتبر قطعا ، لأنا لم نعثر على شيء يدل على اعتباره ، والإجماع المدعى
ليس إجماعا تعبديا ، لاحتمال أن يكون منشؤه الوجوه التي ذكرها المتكلمون التي لا
ترجع إلى محصل ، ولو شك في ذلك فالمرجع هو البراءة على المختار من أن اعتبار
القربة وما يرجع إليها لا بد وأن يكون بحكم الشارع لا العقل ، وعلى مسلك صاحب
الكفاية مجرد عدم التنبيه على اعتبار مثل هذا مما يغفل عنه العامة كاشف عن عدم
اعتباره.
واما إذا لم يكن
أصل التكليف معلوما ، فربما يمنع فيه عن الاحتياط لوجهين :
الأول : اعتبار
قصد الوجه ، وقد مر الكلام فيه.
الثاني : أن العقل
الحاكم في باب الطاعة والعصيان يعتبر في حقيقة الإطاعة أن يكون انبعاث العامل نحو
عمله عن بعث المولى لا عن احتماله ، فهو يستقل بكون الامتثال الاحتمالي في طول
الامتثال اليقيني ، فلا يكتفي بالتحرك عن احتمال التكليف على تقدير ثبوته مع التمكن
من التحرك عن نفس التكليف ، وعلى تقدير تسليم عدم استقلاله بذلك فهو غير مستقل
بعدمه أيضا ، فتصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال ، لما عرفت من أن الشك إذا تعلق
بمرحلة الامتثال كان موردا للاشتغال دون البراءة ، وإلى هذا ذهب المحقق النائيني قدسسره.
__________________
ولكن الصحيح ما
ذهب إليه المشهور ، لأن الإطاعة على ما مر الكلام فيها في مبحث التعبدي والتوصلي
ليست إلّا عبارة عن الإتيان بما أمر به المولى بجميع قيوده مضافا إلى المولى ،
وليس للعقل وراء حكمه بلزوم الإطاعة شأن أصلا ، ولم يكن مشرعا يحكم بلزوم ما لم
يعتبره المولى في متعلق حكمه ، فالشك في اعتبار لزوم الانبعاث عن بعث المولى مع
الإمكان يرجع إلى الشك في اعتبار ذلك في المأمور به شرعا مضافا إلى ما اعتبر فيه
من قصد القربة ، ومن الواضح انه شك في التقييد الزائد ، فيجري فيه البراءة. وهذا
على رأينا من كون اعتبار قصد القربة في العبادات شرعيا ، واما على ما يراه المحقق
الخراسانيّ من كونه عقليا فالشك في اعتبار شيء يرجع إلى القربة وان لم يكن مجرى
البراءة إلّا انه مع ذلك يحكم بعدم لزوم الانبعاث عن شخص البعث ، فانه على تقدير
اللزوم كان على المولى بيانه ، لأنه مما يغفل عنه العامة ، فمن عدم البيان يستكشف
عدم اللزوم.
ومما حققناه يظهر
الحال في موارد احتمال تكليف ضمني ، فانه إذا لم يكن الاحتياط فيها مستلزما
للتكرار لم يكن مانع عنه ، سواء في ذلك العلم بالمحبوبية مع الشك في خصوصيتها
والجهل بأصل المحبوبية ، فإذا شك في جزئية السورة جاز الإتيان بها رجاء سواء علم
رجحانها في الجملة أم لم يعلم ، نعم لا بد من عدم احتمال مانعيتها وإلّا خرج عن
الفرض وهو عدم استلزام الاحتياط التكرار.
بل أن الاحتياط في
الواجبات الضمنية أولى بالجواز من الاحتياط في الواجبات الاستقلالية بناء على أن
المانع من الاحتياط في العبادة هو لزوم قصد الوجه غير المتحقق مع الاحتياط ، وذلك
فان قصد الوجه على تقدير لزومه مختص بالواجبات الاستقلالية ولا يعم الواجبات
الضمنية ، والوجه في ذلك ان مدرك اعتباره امران.
أحدهما : الإجماع
المنقول على ذلك ، وهو غير شامل للمقام ، لأن المشهور
ذهبوا إلى عدم
اعتباره فيه.
ثانيهما : ان حسن
الأفعال أو قبحها إنما يكون بالعناوين القصدية ، وربما لا يكون الفعل حسنا إلّا
إذا قصد بذلك العنوان الخاصّ ، فنحتمل دخل بعض العناوين في حسن العمل المأمور به ،
وحيث لا يميزه المكلف فلا بد من الإشارة الإجمالية إليه بالإتيان به بالعنوان
الّذي أوجبه الشارع ، وهذا يكون عنوانا إجماليا لكل ما له دخل في اتصاف العمل
بالحسن.
وهذا أيضا غير جار
في الأجزاء ، فان قصد وجوب مجموع العمل والأمر المتعلق بالكل يكفي في قصد العنوان
الحسن إجمالا ، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزء من الأجزاء مستقلا ، وليس لكل
جزء حسن مستقل ليقصد وجهه لتحقق الحسن فيه. نعم بناء على أن المانع من جواز
الاحتياط حكم العقل بكون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال القطعي كان الاحتياط
في موارد احتمال التكليف الضمني والاحتياط في موارد احتمال التكليف الاستقلالي من
واد واحد.
واما ما أفاده
المحقق النائيني قدسسره من كفاية الانبعاث عن الأمر المتعلق بالمجموع في كون شخص
الأمر داعيا ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون المحرك نحو كل جزء من العمل هو الأمر
الضمني المتعلق بشخصه.
فيرد عليه : ان
الأمر المتعلق بالكل هو بعينه متعلق بالأجزاء ، ولذا ذكرنا في بحث مقدمة الواجب أن
الأجزاء يستحيل اتصافها بالوجوب الغيري ، فالمحرك لكل جزء حين الإتيان به لا بد من
أن يكون هو المحرك للمركب لا محالة ، وعليه فإذا شك في جزئية شيء كان المحرك له
احتمال الأمر دون نفسه ، وهذا ظاهر جدا. نعم الإشكال في كفاية الامتثال الاحتمالي
مع التمكن من الامتثال القطعي موهون من أصله.
هذا كله إذا لم
يكن الاحتياط مستلزما للتكرار.
واما إذا كان
مستلزما له ، كما في دوران الأمر بين القصر والإتمام ، فربما يستشكل في حسن الاحتياط
من وجوه.
الأول : انه يكون
لعبا وعبثا بأمر المولى.
وأجاب عنه في
الكفاية :
أولا : بأنه يمكن
أن يكون التكرار ناشئا من غرض عقلائي ، فلا يكون لعبا وعبثا.
وثانيا : ان
الإتيان بما ليس بمأمور به في الواقع وان كان لعبا وعبثا واما الإتيان بما هو
مصداق الواجب فليس هو بلعب ولا عبث ، ومن الظاهر ان ضم اللعب إليه لا يوجب كونه
لعبا. وبعبارة أخرى : لزوم اللعب في المقام على تقدير تسليمه انما هو في كيفية
الامتثال ، أي في كيفية إحراز الامتثال وتحصيل اليقين به ، فان الإتيان بغير
المأمور به لا دخل له في تحقق أصل الامتثال ، وإنما هو مقدمة علمية.
ولا يخفى أن
الجواب الصحيح عن الإشكال إنما هو هذا الجواب. وأما الجواب الأول فهو بمجرده غير
واف بدفع الإشكال ، فان اللعب اللازم في المقام ان سرى إلى الامتثال فلا يجدي عدمه
إذا كان التكرار بغرض عقلائي ، إذ اللازم هو صدور العبادة عن قصد قربي ، ولا يجدي
في صحتها مطلق الغرض العقلائي.
الثاني : ما تقدم
من المحقق النائيني رحمهالله من حكم العقل بطولية الامتثالين ، فلا يحسن الاحتياط مع
التمكن من الامتثال القطعي .
والجواب عنه :
مضافا إلى ما تقدم ، أن في الفرض يكون التحرك عن التحريك الجزمي لا محالة ، إذ
المفروض العلم بثبوت أصل التكليف ، ففي الإتيان بكل من
__________________
العملين يكون
منبعثا عن البعث اليقيني ، غاية الأمر أنه لا تمييز حال الإتيان ، وهذا أجنبي عن
الانبعاث عن الاحتمال.
نعم إذا كان
المكلف قاصدا للامتثال الاحتمالي بالإتيان ببعض المحتملات يكون حينئذ منبعثا عن
احتمال البعث ، وهذا خارج عن محل البحث.
وبما تقدم وضح حسن
الاحتياط في التكاليف الضمنية ولو كان ذلك مستلزما للتكرار ، كالإتيان بقراءتين في
ظهر يوم الجمعة إحداهما جهرية والأخرى إخفاتية بناء على ما هو الصحيح من جواز ذلك
وعدم استلزامه القرآن المبطل للصلاة عند بعض. هذا تمام الكلام في فرض التمكن من
الامتثال التفصيليّ العلمي.
وأما إذا كان
المكلف متمكنا من الامتثال التفصيليّ الظني ، فان كان الظن ، معتبرا بدليل خاص فهو
ملحق بالقطع ، بل هو قطع تعبدا ، فيجري فيه ما يجري في القطع الوجداني ، ولا فرق
بينهما إلّا أنه مع القطع بالحكم لا مجال للاحتياط بخلاف الظن به ، فان مورد
الاحتياط معه باق ، إذ الاحتمال الوجداني المصحح للاحتياط لا يرتفع بالظن ولو كان
حجة شرعا ، بل يكون الاحتياط في مثل هذه الموارد من أرقى مراتب العبودية
والانقياد.
نعم قد وقع الكلام
في تقديم الإتيان بالمحتمل على المظنون ، وعليه يبتني ما نسب من الخلاف إلى الشيخ
والسيد الشيرازي قدسسرهما في حاشية نجاة العباد في مسألة دوران الأمر بين القصر والإتمام في المسافر إلى
أربع فراسخ إذا لم يرد الرجوع ليومه ، فنسب إلى الشيخرحمهالله تقديم التمام على القصر عند الاحتياط ، ونسب إلى الميرزا رحمهالله عكس ذلك ، ومنشأ الاختلاف بينهما هو الخلاف فيما يظهر من
الأدلة.
__________________
وكيف كان فقد أفاد
المحقق النائيني رحمهالله تقديم الإتيان بالمظنون على الإتيان بالمحتمل جريا على مبناه من كون مراتب الامتثال طولية.
ولكنك خبير بأن
الطولية أجنبية عن المقام ، لأن الإتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث
والتحريك سواء قدم أو أخر ، والإتيان بالمظنون يكون بداعي الأمر الجزمي الثابت
باليقين التعبدي على التقديرين ، فلا فرق بين التقديم والتأخير أصلا.
وأما الظن
الانسدادي فظاهر كلام الشيخ قدسسره أنه متأخر عن الامتثال الإجمالي حتى أنه تعجب ممن يعمل بالطرق والأمارات من باب الظن
المطلق ثم يذهب إلى تقديم الامتثال الظني على الإجمالي ، وسيظهر أن تعجبه في غير
محله.
والتحقيق : أنه لو
جعل من مقدمات الانسداد بطلان الاحتياط وكونه غير مرضي للشارع ، أما بدعوى الإجماع
على ذلك أو من جهة منافاة الاحتياط لاعتبار قصد الوجه في العبادة ، فلا محالة
يستكشف من ذلك إنا أن الشارع قد جعل لنا حجة في تعيين أحكامه ، وإلّا لزم التكليف
بما لا يطاق ، ثم أن العقل بالسبر والتقسيم يعين لنا تلك الحجة الشرعية في الظن ،
وعليه يكون الظن معتبرا شرعا ، ولا فرق حينئذ بين الظن المطلق والظن الخاصّ إلّا
من حيث الكاشف ودليل الحجية ، فلا تكون حجية الظن متوقفة على عدم وجوب الاحتياط ،
أو على عدم إمكان ليقال كيف يعقل أن يكون الاحتياط في طول الامتثال الظني مع توقف
حجيته على عدم وجوب الاحتياط ، فلا مناص للقائل بتأخر الامتثال الإجمالي عن
التفصيليّ من الالتزام به في الظن الانسدادي أيضا.
__________________
واما لو جعل من
مقدمات الانسداد عدم وجوب الاحتياط لعدم التمكن منه ، أو لاستلزامه العسر والحرج ،
أو الاختلال في النظام فلا يستكشف من تمامية المقدمات حجية الظن شرعا ، وإنما
يستنتج منها حكم العقل بتضييق دائرة الاحتياط في المظنونات ، فالإتيان بالمظنونات
حينئذ كالإتيان بالمحتملات والموهومات لا بد وأن يكون برجاء الأمر واحتمال البعث
لعدم قيام حجة على ثبوته ، بل إذا أتى بالمظنون بداعي الأمر الجزمي كان تشريعا
محرما ، وعليه فلا يكون الامتثال التفصيليّ ممكنا ، فلا معنى للقول بتأخر الامتثال
الإجمالي من الامتثال الظني حينئذ.
مباحث الظن
التعبد
بالأمارات الظنية
حجية
الظهورات
حجية
قول اللغوي
حجية
الإجماع المنقول
حجية
الشهرة
حجية
خبر الواحد
حجية
مطلق الظن
مقدمة
في التعبد بالأمارات الظنية
والبحث يقع في
مقامين :
المقام الأول : في إمكان التعبد
بالأمارات الظنية.
ذكر في الكفاية
انه لا ريب في أن الأمارة غير العلمية ليست كالقطع في كون الحجية من لوازمها
ومقتضياتها بنحو العلية بل مطلقا أي بحيث لا تكون قابلة للمنع عن العمل بها ، أو
بنحو الاقتضاء بحيث يمكن المنع عن العمل بها ، وان ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو
ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا بناء على تقدير مقدمات
الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتا
بلا خلاف ولا سقوطا ، وان كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف والاكتفاء بالظن
بالفراغ ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل فتأمل ، انتهى .
أقول : الأمر
بالتأمل إشارة إلى أن ما ذهب إليه هذا القائل وهو صاحب الحاشية يختص بصورة عدم
التمكن من الامتثال العلمي ، فكفاية الامتثال الظني إنما تكون في فرض الانسداد ،
وإلّا فهو بديهي البطلان.
ولا يتم التوجيه
المتقدم عنه قدسسره فانه يرد عليه.
أولا : أن ذلك
يستلزم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا ، ولا يلتزم به
__________________
القائل ولا غيره.
وثانيا : أن ما
وقع الخلاف في لزوم دفعه إنما هو الضرر الدنيوي لا الأخروي ، ومن ثم لم يخالف أحد
في لزوم الفحص في موارد الشبهات الحكمية مع أنه ليس هناك إلّا احتمال العقاب ،
فتحصل أن الظن كما لا يكون حجة ثبوتا لا يكون حجة سقوطا.
ثم أن ما أفاده قدسسره من حجية الظن عقلا بثبوت مقدمات طروء حالات قد ظهر فساده
مما قدمناه آنفا ، فان تقرير الانسداد بنحو الحكومة لا يقتضي حجية الظن أصلا ،
وإنما يوجب تضييق دائرة الاحتياط في مقام الامتثال ، فطروء الحالات لا يوجب حجية
ما لم يكن حجة في نفسه ، بل يوجب تضييق دائرة الاحتياط في المظنونات ورفع اليد عنه
في المشكوكات والموهومات ، فحجية الظن منحصرة بالجعل الشرعي واعتباره سواء كان
الكاشف عنه الدليل الخاصّ أو تمامية مقدمات الانسداد على الكشف. ومن ذلك يظهر أن
في التعبير بالحجة عن الظن الانسدادي على الحكومة مسامحة واضحة.
ثم إنك بعد ما
عرفت أن الظن لا يكون حجة ذاتا نتكلم في إمكان التعبد به أولا ، ثم في وقوعه.
وليعلم قبل ذلك أن مرادهم من الإمكان في المقام ليس الاحتمال الّذي هو المراد من
قولهم (كلما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان) لوضوح أن
الاحتمال أمر تكويني غير قابل للنزاع. وهكذا ليس المراد منه الإمكان الذاتي في مقابل
الاستحالة الذاتيّة ، لوضوح أن التعبد بالظن ليس من الأمور التي يحكم العقل
باستحالته بمجرد لحاظه وتصوره كاجتماع الضدين ، وإنما المراد من الإمكان هو
الإمكان الوقوعي في قبال الاستحالة الوقوعية ، فالنزاع في أنه هل يلزم من وقوع
التعبد بالظن محال مطلقا كاجتماع الضدين أو النقيضين ، أو بالقياس إلى خصوص الحكيم
كتحليل الحرام أو بالعكس أم لا؟ ظاهر الشيخ قدسسره هو الإمكان ، بدعوى : أن بناء العقلاء إنما هو على الحكم
بإمكان الشيء ما لم يجدوا
ما يوجب استحالته . وقد أشكل عليه صاحب الكفاية والمحقق النائيني رحمهالله.
اما ما أورده في
الكفاية فوجوه .
أولا : أنه ما
الدليل على أن بناء العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه.
وثانيا : لو سلمنا
ذلك فما الدليل على حجية بنائهم شرعا؟! وغاية ما هناك أنه يوجب الظن ، والكلام
إنما هو في إمكان حجيته بالتعبد فكيف يثبت به الإمكان.
وثالثا : لو سلمنا
ذلك أيضا فأي فائدة تترتب على هذا البحث؟! ومن الواضح أن بحثنا ليس بحثا فلسفيا
لنبحث عن إمكان الأشياء واستحالتها ، وإنما هو بحث أصولي لا بد وأن يترتب على
مسائله ثمر فرعي ، والبحث عن إمكان التعبد بالظن مع قطع النّظر عما دل على وقوعه
لا يترتب عليه ثمر فرعي ، ومع لحاظ ما دل على ذلك لا أثر للبحث عن الإمكان ، فان
الوقوع أخص منه فإذا ثبت الوقوع يثبت الإمكان لا محالة.
واما ما أورده
المحقق النائيني رحمهالله فهو أن بناء العقلاء على الإمكان على تقدير ثبوته انما هو
في ما يرجع إلى عالم التكوين لا فيما يرجع إلى عالم التشريع أي في الإمكان
التكويني دون التشريعي .
هذا حاصل ما
أورداه على الشيخ قدسسره.
والحق : أن ما
أفاده الشيخ صحيح ، ولا يرد عليه شيء من المذكورات.
أما ما أورده
المحقق النائيني ، ففيه : أن الإمكان أو الاستحالة من الأمور الواقعية التي يدركها
العقل ، وليس للإمكان قسمان إمكان تكويني وإمكان تشريعي ،
__________________
بل الإمكان دائما
تكويني ، غاية الأمر أن معروضه تارة يكون من الأمر التكويني ، وأخرى من الأمر
التشريعي ، فيقال : الحكم الكذائي أو التعبد الكذائي ممكن أو مستحيل.
واما ما أورده في
الكفاية من الوجوه الثلاثة فكلها مبتنية على أن يكون مراد الشيخ قدسسره من بناء العقلاء على الإمكان بناءهم على ذلك مطلقا ، ولكن
المحتمل بل المطمئن به أن يكون مراده هو البناء على ذلك عند قيام دليل ظني معتبر
عليه ، فإذا اقتضى ظهور كلام المولى حجية ظن وشككنا في إمكان ذلك فالعقلاء لا
يعتنون باحتمال الاستحالة في رفع اليد عن العمل بالظهور ، فما لم يثبت استحالة شيء
كان ظهور كلام المولى حجة فيه ، وهذا نظير ما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء
وشككنا في أن إكرام العالم الفاسق ذو مصلحة ليكون الحكم بوجوبه ممكنا من الشارع
الحكيم ، أو أنه ليس فيه مصلحة ليكون ذلك مستحيلا ، فهل يشك أحد في لزوم الأخذ
بظهور كلام المولى حينئذ وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة؟! وهذا الّذي ذكرناه في
بيان كلام الشيخ هو المناسب للبحث عنه في المقام ، فانه هو الّذي يترتب عليه الأثر
العملي ، وعلى ذلك فلا يرد شيء مما أورد عليه في الكفاية.
ثم إن تحقيق أصل
المسألة يتوقف على بيان ما يتوهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير أولا ،
ثم تعقيب ذلك بما يظهر منه فساده.
وحاصل ما يستفاد
من كلام ابن قبة بضميمة ما أفاده المتأخرون في توضيحه أن المانع من التعبد بالظن
أمران.
أحدهما : من ناحية
التكليف.
وثانيهما : من
ناحية الملاك.
أما ما يلزم من
ناحية التكليف ، فهو أن الأمارة التي يتعبد بحجيتها ان كانت موافقة مع الحكم
الواقعي المشكوك فيه فيلزم من حجيتها اجتماع المثلين ، وان كانت
مخالفة له يلزم
منها اجتماع الضدين ، وكلاهما محال ، فلا يمكن التعبد بغير العلم.
وأما ما يلزم : من
ناحية الملاك ، فهو أن الأمارة التي اعتبرت شرعا ربما تقوم على وجوب ما هو مباح
واقعا أو على حرمته ، ولازم ذلك هو الإلزام بشيء من دون أن يكون فيه مصلحة إلزامية
، مع أنا نقول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وهذا هو المراد من تحريم الحلال.
وربما تقوم على إباحة شيء والترخيص فيه مع أن حكمه في الواقع هو الإلزام بالفعل أو
الترك ، ولازمه تفويت المصلحة الواقعية أو الإلقاء في المفسدة ، وهذا هو المراد من
تحليل الحرام ، وكل ذلك محال بالإضافة إلى الحكيم.
إذا عرفت ذلك نقول
: أما الإشكال الثاني فله طرفان.
أحدهما : الإلزام
بما هو مباح واقعا فعلا أو تركا.
ثانيهما : الترخيص
في ما هو واجب أو محرم واقعا ، وهناك شق ثالث نتعرض له في طي الكلام.
أما الأول : وهو
الإلزام بالمباح الواقعي فليس فيه كثير إشكال ، وذلك لأن للشارع جعل الحكم بنحو
العموم فيما إذا لم يتمكن من الوصول إلى غرضه المتعلق ببعض الموارد إلّا بذلك ،
كما لو علم المولى بأن أحدا يريد قتله في يوم معين ولم يعرفه بشخصه فيأمر عبيده
بأن لا يأذنوا لأحد في الدخول عليه في ذلك اليوم تحفظا على عدم دخول من يريد قتله
، ونظير ذلك تشريع العدة بنحو العموم لأجل التحفظ على عدم اختلاط المياه.
وبالجملة لا يرى
العقل مانعا من إلزام المولى بفعل مباح تحفظا على غرضه المهم ، وليس في ذلك محذور
حتى بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، إذ اللازم على
ذلك وجود المصلحة في متعلق الأمر ولو بنحو الموجبة الجزئية فيما لم يتميز واجد
المصلحة من غيره.
وان شئت قلت : أن
المصلحة الأولية وان اختص بها بعض الأفراد إلّا أن
المصلحة الثانوية
أعني بها التحفظ على تلك المصلحة عامة لجميع الأفراد لا محالة. ولا فرق فيما
ذكرناه بين صورتي انفتاح باب العلم وانسداده.
وأما الثاني : وهو
لزوم الترخيص في فعل الحرام أو في ترك الواجب الواقعي فتوضيح الحال فيه : أنه يفرض
تارة في فرض انسداد باب العلم ، وأخرى في فرض انفتاحه.
أما لو فرضنا
انسداد باب العلم وأن الاحتياط غير ممكن أو غير واجب ، للإجماع أو لاستلزام اختلال
النظام أو العسر والحرج ، فلا إشكال ، لأن الأمر حينئذ يدور بين أن يهمل المولى
عبيده ويحيلهم على رسلهم فيما يفعلون ويتركون ، أو يقيم لهم طريقا يوصلهم إلى
الواقع كثيرا وإذا خالف الواقع في مورد وكان مفاده ترخيصا ظاهريا كان ذلك كتخلف
القطع عن الواقع ، وحيث لم يكن من المولى إلزام بالفعل ولا بالترك وإنما كان منه
الترخيص فاختيار أحد الأمرين يكون مستندا إلى العبد ، إذ كان له أن يفعل وأن لا
يفعل ، ولا يكون ذلك مستندا إلى المولى.
وبعبارة أخرى :
بعد فرض عدم تنجز الواقع على المكلف ، وعدم كونه ملزما بالفعل أو الترك في مرحلة
الظاهر كيف يمكن أن ينسب الإيقاع في المفسدة أو تفويت المصلحة إلى المولى ، مع أن
كل ذلك مستند إلى اختيار المكلف بحيث لو لم تكن الأمارة حجة كان ذلك متحققا أيضا ،
ولا يبعد أن يكون هذا الفرض خارجا عن محل كلام ابن قبة.
نعم لو دلت
الأمارة على وجوب ما كان حراما واقعا ، أو حرمة ما كان واجبا واقعا كان تفويت
المصلحة أو الإلقاء في المفسدة مستندا إلى المولى لإلزامه بذلك ، لكنه لا قبح في
ذلك مطلقا ، بل لا بد من ملاحظة ما يترتب على حجية الأمارة من التحفظ على الواقع ،
فان كان ذلك أولى بالمراعاة للأقوائية أو الأكثرية كان التعبد بالأمارة حسنا وان
أوجب فوات الواقع في بعض الموارد.
وبالجملة المورد
من صغريات كبرى تزاحم الملاكين ، فإذا فرض تقدم ملاك التحفظ على الواقع في موارد
إصابة الأمارة كان التعبد بها حسنا وان استلزم تفويت الملاك الواقعي في بعض
الموارد. هذا كله في فرض انسداد باب العلم.
وأما إذا فرضنا
انفتاحه وإمكان الوصول إلى الواقع ولو بسؤال الإمام عليهالسلام ، فالمكلف مع تمكنه من إحراز الواقع قد يعتمد على اطمئنانه
، أو يحصل له القطع من مقدمات خارجية فلا يصل إلى الواقع ، وقد لا يكون كذلك ،
فالشارع العالم بالواقعيات ان علم بعدم وصول المكلف إلى الواقع خارجا لا مانع له
من التعبد بغير العلم فيما إذا علم كونه أكثر مطابقة للواقع من القطع أو الاطمئنان
الحاصل للمكلف.
وهذا الفرض ملحق
حكما بصورة انسداد باب العلم ، فان مجرد إمكان الوصول إلى الواقع من دون وقوعه في
الخارج لا أثر له في المنع عن التعبد بغير العلم.
واما فيما إذا فرض
وصول المكلف إلى الواقع على تقدير عدم حجية الأمارة ، فاما نلتزم بكون حجية
الأمارة من باب السببية والموضوعية ، أو نلتزم بكونها من باب الطريقية المحضة.
أما على الأول :
فلا ينبغي الإشكال في جواز التعبد بالأمارة غير العلمية ، وتوضيح ذلك : أن السببية
تتصور على ثلاثة أقسام :
الأول : السببية
على مسلك الأشعري ، وهي أن لا يكون مع قطع النّظر عن قيام الطرق حكم أصلا ، بل
يكون قيامها سببا لحدوث مصلحة في المؤدى مستتبعة لثبوت الحكم على طبقها. وعلى هذا
يرتفع الإشكال على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ عليه ليس في الواقع حكم ليلزم
تفويته على المكلف.
ولكن السببية بهذا
المعنى غير معقولة في نفسها ، لاستلزامه الدور ، إذ قيام الأمارة على الحكم فرع
ثبوته ، فكيف يتوقف على قيامها على ثبوته ، ومخالف للإجماع والروايات الدالة على
اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، ومن قامت
عنده الأمارة أو
لم تقم.
الثاني : السببية
على زعم المعتزلي ، بأن يكون قيام الحجة من قبيل طروّ العناوين الثانوية كالحرج
والضرر موجبا لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، وإذا انكشف الخلاف كان
ذلك من قبيل تبدل الموضوع. وعلى هذا لا مجال للإشكال المزبور ، لأنه في فرض قيام
الحجة على الخلاف يكون الحكم الواقعي المشتمل على المصلحة الأهم هو مؤداها ، فلا
يلزم تحليل حرام ولا تفويت مصلحة أو إلقاء في المفسدة. إلّا أن السببية بهذا
المعنى وان كان أمرا معقولا ، وليست كالسببية بالمعنى الأول لكنها أيضا باطلة ،
لورود الروايات والإجماع على أن الواقع لا يتغير عما هو عليه بقيام الحجة على
خلافه.
الثالث : السببية
التي ذهب إليها بعض العدلية ، وهي الالتزام بالمصلحة السلوكية ، بمعنى أن يكون
قيام الحجة سببا لحدوث مصلحة في نفس السلوك بلا تأثير على المصلحة الواقعية أو
استلزامه تبدل الموضوع ، فما يفوت من المصلحة الواقعية بسبب سلوك الطريق عند
المخالفة يكون متداركا بمصلحة السلوك ، مثلا لو قامت الأمارة عند المكلف على عدم
وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة فتركها ، فان لم ينكشف له الخلاف أصلا كان المتدارك
بالمصلحة السلوكية مصلحة أصل الصلاة ، وان انكشف الخلاف بعد انقضاء وقت الفضيلة
فيتدارك بها ما فات من فضل الوقت ، وان انكشف بعد تمام الوقت يتدارك بها مصلحة
الوقت ، هذا فيما إذا كان الترك مستندا إلى قيام الحجة. واما إذا لم يكن الترك
مستندا إليه ، كالترك بعد انكشاف الخلاف ، فيكون طغيانه مفوتا لمصلحة الواقع ،
فليس هناك سلوك ليتدارك به ما فات من مصلحة الواقع ، ومن ثم لو سئل عن وجه عدم
إعادة الصلاة بعد ما انكشف الخلاف لا يمكنه الاستناد في ذلك إلى قيام الحجة ،
بخلاف ما إذا سئل عنه قبل انكشاف الخلاف فانه يستند فيه إلى الحجة ، والسر في جميع
ذلك أن المصلحة
على الفرض إنما هي
في السلوك فيدور مداره ، وقد تقدم الكلام في هذا الباب مفصلا في بحث الأجزاء.
وبالجملة السببية
بهذا المعنى وان كانت معقولة في نفسها ، ولا يخالفها شيء من الإجماع والروايات ،
ويندفع بها الإشكال ، إلّا أنه لا دليل عليها ، ولكنه مع ذلك يكفي احتمالها في رد
دعوى الامتناع المنقولة عن ابن قبة.
وأما على الثاني :
أعني القول بالطريقية المحضة ، فالصحيح في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنا وإن
فرضنا انفتاح باب العلم وإمكان وقوعه خارجا ولكن إلزام المكلفين بتحصيل العلم عسر
على نوع العباد ، ومناف لسهولة الشريعة وسماحتها ، فمصلحة التسهيل على النوع في
التعبد بالأمارات غير العلمية تزاحم الملاك الواقعي ، فللشارع أن يقدم المصلحة
النوعية العامة على المصالح الشخصية تسهيلا للدور وحفظا للمصلحة العامة ، ولا قبح
في ذلك ، ونظير هذا ثبوت حق الشفعة بنحو العموم للشريك السابق ، لأنه ربما يتضرر
من اشتراكه مع الشريك اللاحق ، ومن هذا القبيل طهارة الحديد ، وعدم وجوب السواك
إلى غير ذلك ، فلا يكون تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أحيانا موجبا لامتناع
التعبد بالأمارة إذا كان فيه مصلحة نوعية ، على أن الالتزام بامتناع ذلك في خصوص
الفرض لا يترتب عليه أثر عملي.
هذا مضافا إلى أن
غالب الأمارات بل كلها طرق عقلائية ، وليس شيء منها تأسيسا من الشارع ، ومن الواضح
ان ردع العقلاء عما استقر عليه بناءهم في معاشرتهم لا بد وأن يكون عن مصلحة ملزمة
، كما إذا كان الطريق غالب المخالفة للواقع نظير القياس. واما لو لم تكن هناك
مصلحة ملزمة في الردع ، كما إذا كانت مخالفة الطريق للواقع قليلة بحيث تندك في
قبال مصلحة التسهيل فلا وجه للردع أصلا.
فتحصل : انه لا
مانع من التعبد بغير العلم من ناحية الملاك على القول بالسببية أو الطريقية.
واما الإشكال
الأول : وهو توهم استحالته من ناحية الخطاب ، بتخيل ان التعبد بالأمارة غير
العلمية تستلزم اجتماع المثلين أو الضدين ، فيمتنع على الحكيم وغيره ، فتوضيح
الحال في دفعه ان يقال : ان الحكم الظاهري إذا طابق الواقع فلا يستلزم اجتماع
المثلين ، لأن التعبد بالحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي ان كان ناشئا عن نفس
مصلحة الحكم الواقعي وملاكه فلا يكون في البين إلّا مصلحة واحدة وحكم واحد ، وإنما
التعدد يكون في مرحلة الإنشاء وطريق إيصاله ، نظير ما لو فرضنا ان المولى أراد أن
يأمر عبده بإكرام زيد فقال له : (أكرم زيدا) فلم يصل إليه ذلك فقال : (أكرم أخا
عمر) فلم يصل إليه أيضا فأشار بيده وقال : (أكرم هذا) فان الحكم في مثل ذلك واحد
وان كان إنشاؤه في الخارج متعددا ، وعلى هذا فليس في المقام حكمان ليلزم اجتماع
المثلين ، بل الحكم واحد ، غاية الأمر ان طريق إيصاله متعدد ، فالحكم الواحد أنشأ
تارة بعنوانه ، وأخرى بعنوان جعل الطريق والأمارة بقوله صدق العادل مثلا ، وأما
إذا فرض أن الحكم الظاهري ناشئ عن ملاك آخر غير ملاك الواقع فلا محالة يكون هناك
حكمان بعنوانين ، كما في سائر موارد اجتماع العامين من وجه ، فكما لا يلزم من
اجتماع الحكمين المتوافقين في غير المقام من سائر موارد اجتماع العامين من وجه
اجتماع المثلين فكذلك في المقام ، وقد تقدم تحقيق ذلك في بحث اجتماع الأمر والنهي.
نعم إذا كان الحكم
الظاهري مخالفا للواقع كان لتوهم اجتماع الضدين مجال ، فإذا فرض ان صلاة الجمعة
واجبة في الواقع ومع ذلك قامت الأمارة على حرمتها كانت الصلاة واجبة ومحرمة من دون
كسر وانكسار في البين.
وقد أجيب عن ذلك
بوجوه.
منها : ما أفاده
الشيخ في الرسائل في أول بحث البراءة بما حاصله : انه يعتبر في التضاد كل ما يعتبر في التناقض
من الوحدات ، إذ استحالة التضاد إنما هي من جهة رجوعه إلى التناقض ، فان وجود كل
من الضدين يلازم عدم الضد الآخر ، فبانتفاء إحدى الوحدات ينتفي التناقض والتضاد ،
ومن الوحدات المعتبرة في التناقض وحدة الموضوع ، فلا مضادة بين القيام والقعود إذا
كانا في موضوعين ، وعلى هذا فلا تضاد بين الحكم الظاهري والواقعي لتعدد موضوعيها ،
فان موضوع الحكم الواقعي هو الأفعال بعناوينها الأولية ، وموضوع الحكم الظاهري هو
الأشياء بعناوينها الثانوية أي بما أنها مشكوكة الحكم ، انتهى.
ولا يخفى ما فيه ،
اما أولا : فلأنه على فرض تماميته يختص بموارد الأصول ولا يجري في الأمارات ، لأن
الشك لم يؤخذ في موضوعها ، وإنما الشك مورد لها ، ومن الواضح ان اختلاف الحال لا
يرفع التضاد. وبعبارة أخرى : الحكم الظاهري في باب الأمارات وان كان ثابتا بعنوان
قيام الأمارة إلّا أنه واسطة في الثبوت فقط ، وموضوع الحكم إنما هو ذات الشيء بما
هو لا مقيدا بهذا العنوان أو بعنوان الشك.
وثانيا : لو سلمنا
ان موضوع الحكم الظاهري مطلقا مقيد بالشك ، ولكنا ذكرنا ان الإهمال في الواقع غير
معقول ، فالواقع بالإضافة إلى طرو هذا الحال لا بد من أن يكون مطلقا أو مقيدا ،
فان كان مطلقا اما بالإطلاق اللحاظي كما هو الصحيح واما بنتيجة الإطلاق لزم
المحذور المزبور ، وان كان مقيدا بعدمه لزم التصويب الباطل.
ومنها : ما ذكره
في الكفاية وحاشية الرسائل ، وحاصله : أن المجعول في
__________________
باب الطرق
والأمارات ان كان نفس الحجية من دون أن تستتبع حكما تكليفيا فلا يلزم اجتماع
الحكمين أصلا. واما بناء على أن تكون مستتبعة لذلك ، أو يكون المجعول فيها حقيقة
هو الحكم التكليفي والحجية منتزعة عنه فاجتماع الحكمين حينئذ وان كان لازما إلّا
أنه لا يلزم منه اجتماع المثلين ولا الضدين أصلا.
ثم أنه قدسسره عبر في وجه ذلك تعبيرات مختلفة ، فذكر تارة : ان الحكم
الواقعي شأني والحكم الظاهري فعلي ، والتزم أخرى : بأن الحكم الواقعي إنشائي ومؤدى
الطرق والأمارات أحكام فعلية ، وعبّر ثالثة : بأن الحكم الواقعي فعلي من بعض
الجهات والحكم الظاهري فعلي من جميع الجهات ، والمضادة إنما تكون بين حكمين فعليين
من تمام الجهات ، فإذا لم يكن أحد الحكمين فعليا كذلك فلا يلزم من اجتماعهما
اجتماع المثلين إذا كانا متفقين ولا الضدين إذا كانا مختلفين ، انتهى.
والجواب عنه : انه
ان أراد من الشأنية مجرد ثبوت مقتضى الحكم الواقعي من دون استتباع حكم لقيام
الأمارة على الخلاف ، فلو قامت البينة مثلا على عدم خمرية ما هو خمر في الواقع
تكون المفسدة الواقعية بحالها من دون وجود حكم على طبقها.
ففيه : ان لازمه
أن لا يكون للجاهل حكم واقعي غير مؤدى الطرق والأمارة ، وهذا هو التصويب الأشعري
الباطل.
وان أراد منها أن
الحكم الواقعي ثابت للأشياء بعناوينها الأولية في طبعها على طبق مقتضياتها ، ولا
مانع في جعل حكم كذلك ، ومن هنا ذكروا في باب الصلاة في غير المأكول ان المراد منه
ما يحرم أكله في حد نفسه ، وهكذا المراد مما يحل أكله الحلية في حد ذاته وان حرم
بالعارض ، فلا ينافيه طرو عنوان يوجب تبدله وهو قيام الأمارة على الخلاف ، كما
يتبدل الحكم بسبب عروض الاضطرار والإكراه.
ففيه : ان هذا
تصويب معتزلي ، وهو وان لم يكن في الفساد بمرتبة سابقه لكنه أيضا باطل بالإجماع
والروايات.
وان أراد منها كون
الحكم الواقعي ثابتا لذات الشيء مع قطع النّظر عن طرو العوارض من قيام الأمارة أو
الأصل على الخلاف على أن يكون المجعول مهملا في نفس الأمر.
ففيه : انا قد
ذكرنا في الواجب المشروط ان الإهمال النّفس الأمري غير معقول مطلقا ، وعليه فلا
مناص من جعل الحكم الواقعي مطلقا وغير مقيد بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فيلزم
محذور اجتماع الضدين ، أو جعله مقيدا بعدم قيامها على الخلاف ، فيلزم التصويب. هذا
فيما يحتمل في الحكم الشأني.
واما الحكم
الإنشائي ، فان أراد منه الإنشاء المجرد عن داعي البعث أو الزجر ، كما في موارد
التكاليف الامتحانية وأمثالها.
ففيه أولا : ان
لازم الالتزام بذلك في الأحكام الواقعية هو نفي الحكم حقيقة ، فان الإنشاء إذا لم
يكن ناشئا عن البعث أو الزجر لا يكون حكما ، وإنما يكون مصداقا لما كان داعيا على
الإنشاء من الامتحان والسخرية والاستهزاء ، وعليه فالتصويب باق على حاله.
وثانيا : إذا لم
يكن الحكم الواقعي حكما حقيقة ولم يكن بداعي البعث أو الزجر فلا يلزم موافقته ،
ولا يحرم مخالفته ، بل ليس هناك شيء يجب الفحص عنه ، مع أن وجوب الفحص عن الأحكام
مما لا ريب فيه.
وان أراد منه
الفعلي من بعض الجهات ، بمعنى انه لو علم به يكون فعليا كما ذكرهقدسسره.
ففيه : ان فعلية
الحكم وعدمها أجنبية عن المولى بالكلية ، وإنما تتحقق بتحقق الموضوع بجميع قيوده ،
فإذا امر المولى المستطيع بالحج ففعليته تكون بتحقق الاستطاعة ، ومع فعلية الموضوع
يستحيل عدم فعلية الحكم ، فانه بمنزلة تخلف المعلول عن العلة ، وعلى هذا فلو لم
يكن الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الحجة على
الخلاف فلا محالة
عند قيامها يجتمع الحكمان الفعليان ، فيلزم اجتماع الضدين. واما لو كان مقيدا بذلك
فلا محالة عند قيامها لا يكون الحكم الواقعي ثابتا ، لا الفعلي منه بعدم تحقق قيود
الموضوع ولا الإنشائي فانه إنما يثبت لمن يكون الحكم بالنسبة إليه فعليا ، وحينئذ
يلزم التصويب. وبالجملة لا بد وأن يكون الحكم الواقعي حكما حقيقيا مولويا بعثا أو
زجرا ، فلا يرتفع التضاد بين الحكمين بهذا التصوير.
ومنها : ما ذكره
المحقق النائيني رحمهالله وقد فرق بين موارد الأمارات التي لم يؤخذ الشك فيها ،
وموارد الأصول المحرزة التي أخذ فيها الشك وكانت ناظرة إلى الواقع بإلغاء جهة الشك
، وموارد الأصول غير المحرزة التي هي وظائف عملية للشاك ، اما تنجيزا للواقع
كالاحتياط ، واما مؤمنا عنه كالبراءة.
وأجاب عن كل مورد
من الموارد الثلاثة بخصوصه. اما باب الطرق والأمارات فذكر ان المجعول فيها إنما هو
مجرد الوسطية وتتميم الكشف ، إذ ليست الأحكام الوضعيّة منتزعة من الأحكام
التكليفية كما قيل ، بل هي مما تنالها يد الجعل ابتداء ، وربما يكون الحكم
التكليفي من آثارها المترتبة عليها ، نظير حلية التصرف المترتبة على الملك ،
فللشارع أن يعتبر الكاشف الناقص قطعا ، فكأنه يخلق بالتعبد صنفا آخر للقطع ، فيكون
هناك قطع حقيقي وقطع تعبدي ، ويترتب على الثاني كلما هو مترتب على الأول من الآثار
من لزوم متابعته عقلا بالمعنى المتقدم وغير ذلك ، وعليه تكون مخالفة الطريق للواقع
كمخالفة القطع له ، فكما لا يتوهم لزوم التضاد فيه لا يتوهم في المقام أيضا.
وبالجملة ليس في موارد الطرق والأمارة حكم تكليفي حتى بعنوان وجوب موافقتها ليلزم
اجتماع الحكمين.
وليعلم ان مجرد
إمكان كون المجعول فيها ذلك كاف في دفع الشبهة من غير
__________________
حاجة إلى إثبات
وقوعه ، مع وجود الدليل على الوقوع أيضا ، وذلك لأن جميع الطرق المعتبرة شرعا طرق
عقلائية ، بنوا على العمل بها ، وعاملوها معاملة القطع ، والشارع أمضى بنائهم ،
وليس شيء منها تأسيسا من الشارع ، وهذا ظاهر من مراجعة العرف في معاشرتهم ، فلا
يعذر عندهم العبد المخالف لظاهر كلام مولاه مثلا معتذرا بعدم حصول القطع له
بالمراد من الظاهر ، بل يرونه مستحقا للعقوبة ، وعليه فلا بد وأن يكون المجعول
الشرعي في موردها بعينه ما تعلق به بناء العقلاء ، ومن الواضح انهم لم يبنوا على
جعل حكم تكليفي في موارد قيام الأمارة ، وإنما بناؤهم على المعاملة معها معاملة
القطع الوجداني ، والشارع أمضى ذلك البناء ، فليس المجعول فيها إلّا المحرزية
والوسطية في الإثبات.
وبهذا ظهر ما في
كلام المحقق الخراسانيّ حيث ذهب إلى أن المجعول في الطرق هو المنجزية والمعذرية.
وقد ذكرنا فيما تقدم ان قبح العقاب بلا بيان وحسنه مع البيان من الأحكام العقلية
غير القابلة للتخصيص ، فالتصرف فيه لا بد وأن يكون في الموضوع ، فبعد ما اعتبر
الشارع صفة الطريقية لشيء يترتب عليه التنجيز والتعذير لا محالة.
وبما بيناه ظهر
الحال في موارد الأصول المحرزة ، إذ المجعول فيها أيضا هو الطريقية في الإثبات لكن
لا من تمام الجهات كما كان في الأمارات ، بل من حيث الجري العملي فقط ، فهي قطع من
تلك الناحية ، فاختلافهما يكون ببعض الآثار ، ولا ينافي ذلك كون الشك مأخوذا في
موضوعها. نعم هذا المقدار من الاختلاف يوجب حكومة الأمارات عليها ، ويدل على ما
ذكر مضافا إلى ظاهر أدلتها ، وانه لا يستفاد منها ثبوت الحكم التكليفي ، انها أيضا
طرق عقلائية أمضاها الشارع ، غاية الأمر انه تصرف فيها بتصرفات ، واعتبر فيها
أمورا لم يعتبرها العقلاء ، فإشكال اجتماع الضدين في مواردها أيضا يكون من السالبة
بانتفاء الموضوع.
وإنما الإشكال في
الأصول غير المحرزة عند قيامها على خلاف الواقع ، وحاصل ما أفاده في دفعه هو : أن
الأحكام بوجوداتها الواقعية لا تكون محركة للعبد بلغت ما بلغت من التأكد ، بل لا
بد في ذلك من وصولها إلى المكلف ، وهذه المرتبة مرتبة التنجيز والتعذير ، ومن
الواضح انها من الأحكام العقلية المتأخرة عن مرتبة ثبوت الحكم الواقعي الواقعة في
طولها ، ولا ملزم للشارع بالتصرف في هذه المرتبة ، لأن وظيفته جعل الأحكام
الواقعية على طبق ملاكاتها النّفس الأمرية ، واما المرتبة المتأخرة عن ذلك فهي
موكولة إلى حكم العقل. نعم له أن يتصرف فيها أيضا بإيصال التكليف في ظرف الشك ولو
بمتمم الجعل وجعل المنجز ، كما في الشبهات الموضوعية في الموارد المهمة كالدماء
والفروج تارة ، وجعل المعذر أخرى كما في مورد قاعدة التجاوز والفراغ مع أن الشك
فيها يكون شكا في الامتثال ، والعقل يحكم فيه بالتنجيز والاشتغال ، وعليه فإذا جعل
الشارع حكما في هذه المرتبة وكان مغايرا للحكم الواقعي لا يلزم منه اجتماع الضدين
لاختلاف مرتبتهما.
وتوضيح ذلك : ان
الملاك الواقعي تارة : يكون من الأهمية في نظر الشارع بمرتبة لا يرضى بفواته حتى
في فرض عدم وصوله إلى المكلف ، فيوجب عليه الاحتياط ، فكأن الحكم على تقدير وجوده
وأصلا بطريقه ، والحكم بوجوب الاحتياط حينئذ إلزامي ناشئ من مصلحة الحكم الواقعي ،
فهو نظير حكم العقل بذلك من جهة دفع الضرر المحتمل. وأخرى : لا يكون الملاك بتلك
المثابة من الأهمية ، فله أن يرخص في الفعل والترك في ناحية الامتثال ، وذلك نظير
حكم العقل بالترخيص لقبح العقاب بلا بيان.
والمتحصل من ذلك
ان الحكمين الظاهري والواقعي حيث انهما طوليان فلا مضادة بينهما ، اما إيجاب
الاحتياط فهو وجوب طريقي لحفظ الحكم الواقعي ، فان صادف الواقع فلا محذور ، وعند
مخالفته له لا وجوب للاحتياط واقعا ، بل تخيل
وجوب وصورته ،
واما الإذن والترخيص فهو في مرتبة متأخرة عن مرتبة الحكم الواقعي أعني به مرتبة
الامتثال ، انتهى.
وفيما أفاده في
كلا طرفي الحكم بالاحتياط والبراءة نظر.
اما في طرف الحكم
بوجوب الاحتياط ، فيرد عليه.
أولا : أن تقيد
وجوب الاحتياط بصورة موافقته للواقع لا تساعد عليه الأدلة ، فان الظاهر من قوله عليهالسلام «وقفوا عند الشبهة
... فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» أن نفس الشبهة من دون تقييد بموافقة الاحتمال للواقع موضوع
للوجوب.
وثانيا : ان إيجاب
الاحتياط في خصوص صورة المصادفة غير معقول من الحكيم ، لأنه لغو لا أثر له ، لعدم
قابليته للوصول ، والمفروض أن الغرض منه التحفظ على الواقع غير الواصل ، فان
المكلف لا يمكنه إحراز موافقته للواقع إلّا بعد إحرازه ثبوت التكليف الواقعي.
واما في طرف الحكم
بالبراءة ، فيرد عليه : ان اختلاف المرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين ، ولذا
يستحيل أن يأمر المولى بصلاة الجمعة ثم يرخص في تركه إذا علم بوجوبه ، مع أن
الترخيص متأخر عن الوجوب بمرتبتين ، والسر فيه هو أنّ المضادة إنما هي بين حكمين
فعليين في زمان واحد ، سواء كانا في مرتبة واحدة أو في مرتبتين ، ولا يقاس الترخيص
الشرعي بالترخيص العقلي ، لتعدد الحاكم في المقيس عليه ووحدته في المقيس ، على أن
العقل ليس له حكم تكليفي أصلا ، وإنما يدرك عدم استحقاق العقاب في موارد عدم
البيان ، وهذا بخلاف الترخيص الشرعي الّذي هو حكم تكليفي.
__________________
ثم أنه ذكر أن
الشك فيه جهتان ، جهة كونه صفة نفسانية ، وجهة كونه موجبا لتحير الشاك ، وهو مأخوذ
في موضوعات الأحكام الظاهرية من الجهة الثانية ، ويمكن أن لا يكون للأحكام
الواقعية إطلاق بالقياس إلى الشك من هذه الجهة .
وفيه : ان الإهمال
النّفس الأمري كما اعترف به قدسسره غير معقول ، فان كان الحكم الواقعي بالقياس إلى طرو الشك
فيه مطلقا لزم التضاد ، وان كان مقيدا بعدمه لزم التصويب ، من غير فرق بين أن يكون
المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية الشك بما أنه صفة نفسانية ، أو بما أنه موجب
للتحير.
هذا ما أفيد من
الأجوبة في دفع إشكال التضاد ، وقد عرفت المناقشة فيها.
فالتحقيق أن يقال
: أنه وإن وقع الخلاف في حقيقة الأحكام التكليفية وانها ما هي ، لكنا ذكرنا أنها
عبارة عن اعتبار المولى أمرا على ذمة المكلف ، كاعتبار الدين على ذمة المديون عقلا
وشرعا ، ولذا عبّر عن الأحكام الإلهية في بعض الروايات بالدين ، كما ورد في باب
قضاء الصلاة الفائتة «أن دين الله أحق أن يقضى» فليس الحكم إلّا اعتبار الشيء على
رقبة المكلف فعلا أو تركا ، ومن الواضح أن الاعتبار خفيف المئونة ، فلا مضادة بين
اعتبارين ذاتا.
نعم الاعتبار في
باب التكاليف الواقعية يكون مسبوقا بالشوق أو الكراهة والمصلحة أو المفسدة ، كما
أنه ملحوق بأمرين ، إنشاؤه في الخارج ، ووصوله الموجب لتحريك العبد في مقام
الامتثال ، فهو وسط بين أمور أربعة ، فمضادة الاعتبارين لا بد وأن يكون بالعرض ،
اما من ناحية المبدأ ، واما من ناحية المنتهى ، فالتكليفان الإلزاميان أحدهما بفعل
شيء والآخر بتركه وان كانا اعتبارين ، ولا مضادة بينهما ذاتا ، ولكن حيث أن
الإلزام بالفعل ناشئ عن الشوق به أو ثبوت مصلحة فيه ،
__________________
والإلزام بالترك
ناشئ عن كراهة الفعل أو ثبوت مفسدة فيه ، واجتماع الأمرين مستحيل كما هو واضح ،
فتقع المضادة بين التكليفين بواسطة المبدأ ، وكذلك بواسطة المنتهى ، فان المكلف
بعد وصول كلا التكليفين إليه لا يمكنه امتثالهما معا ، وهكذا الكلام فيما إذا تعلق
تكليف إلزامي وتكليف ترخيصي بشيء واحد. وهذا التضاد العرضي إنما يلزم فيما إذا كان
الحكمان كلاهما واقعيين ، أو كلاهما ظاهريين.
واما فيما إذا كان
أحد التكليفين واقعيا والآخر ظاهريا فلا مضادة بينهما. أما من ناحية المبدأ فلما
أفاده في الكفاية من أن الأحكام الظاهرية ناشئة عن مصالح في جعلها ، والأحكام
الواقعية ناشئة عن المصلحة في متعلقاتها ، سواء كانت راجعة إلى المكلف ـ بالكسر ـ فيما
أمكن ذلك ، أو إلى المكلف ـ بالفتح ـ كما في الأحكام الشرعية ، فلا يلزم من
اجتماعهما وجود المصلحة والمفسدة أو وجود المصلحة أو المفسدة وعدمه في شيء واحد ،
وهكذا الشوق والكراهة ، ففي الأحكام الواقعية يكون الشوق أو الكراهة متعلقا بنفس
المتعلق ، وفي الأحكام الظاهرية بنفس الجعل ، كما في إيجاب الاحتياط حفظا للواقع ،
أو جعل البراءة تسهيلا على المكلفين.
واما من ناحية
المنتهى ، فلأنه لا يعقل وصولها معا إلى المكلف ، إذ عند وصول الحكم الواقعي لا
يبقى موضوع للحكم الظاهري ، وما لم يصل الحكم الواقعي يكون الواصل هو الحكم
الظاهري فقط ، فأين وصولهما عرضا ليبقى المكلف متحيرا في مقام الامتثال؟! ولعل ما
ذكرناه من اختلاف الحكمين سنخا هو مراد بعض الأعلام من توجيه الإشكال باختلاف
المحمول.
هذا كله في إمكان
التعبد بغير العلم.
المقام الثاني : وقوع التعبد بالأمارات
الظنية.
__________________
واما وقوعه :
فالبحث فيه يقع من جهات :
الأولى : فيما
يقتضيه الأصل مطلقا عند الشك في حجية شيء.
الثانية : في صحة
ردع الشارع عن العمل بما لم يعلم حجيته.
الثالثة : في صحة
التمسك بالعمومات في ذلك.
الرابعة : في
إمكان التمسك باستصحاب عدم الحجية.
الخامسة : في ما
وقع التعبد بحجيته.
اما الجهة الأولى
: فقد أفاد الشيخ رحمهالله ان الأصل حرمة التعبد بما لم يحرز حجيته من قبل الشارع ،
لأنه من التشريع . ويدل على حرمته قوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ
تَفْتَرُونَ) ، إلى غير ذلك.
وأورد عليه في
الكفاية بما حاصله : أن التعبد بحجية شيء غير ملازم للتشريع ، فان
اسناد مؤدى الحجة إلى المولى ليس من الآثار المترتبة على حجيته ، إذ يمكن أن يكون
شيء حجة ولا يصح اسناد مؤداه إلى الشارع ، كالظن على الحكومة ، وهكذا العكس ، إلّا
أنه مجرد فرض لا واقع له.
وفيه : أن إطلاق
الحجة على الظن على الحكومة مسامحة ، إذ الحجة ما يقع وسطا في مقام الإثبات ،
ومعنى حجية الظن على الحكومة ليست إلّا حكم العقل بالتبعيض في الاحتياط بعد تمامية
تلك المقدمات بالأخذ بالمظنونات دون الموهومات ، فالحجية الحقيقية التي هي محل
الكلام ملازمة لصحة الاستناد واسناد المؤدى إلى المولى ، بل هي من آثارها كما في
العلم الوجداني ، وعليه فالشك في الحجية يلازم القطع بعدمها ، لا بمعنى أن الشك في
إنشاء الحجية ملازم للقطع بعدم
__________________
إنشائها ، فان ذلك
واضح الفساد ، إذ الشيء بوجوده لا ينقلب إلى ضده أو إلى نقيضه ، والشك في الوجود
مع القطع بالعدم ضدان لا يجتمعان ، بل بمعنى أن الشك في الحجية جعلا ملازم للقطع
بعدم الحجية فعلا وعدم ترتب الآثار المرغوبة منها.
والأثر المرغوب
منها أمران.
أحدهما : صحة
الاستناد إليها في مقام العمل ، والاكتفاء بمؤداها.
ثانيهما : صحة
اسناد مؤداها إلى الشارع ، مثلا بعد إحراز كبرى حجية خبر الثقة إذا أخبر الثقة عن
وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة يكتفي بها في مقام الامتثال عن الاحتياط اللازم بمقتضى
العلم الإجمالي ، ويصح اسناد مؤداه إلى الشارع.
وهذان الأثران لا
يترتبان على الحجية بوجودها الواقعي ، بل على إحرازها صغرى وكبرى ، لا لتوهم أخذ
العلم في موضوعها واختصاصها بالعالمين ، فانه مستلزم للدور ، ومخالف لما دل على
اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل ، بل لأنهما من الآثار العقلية
المترتبة على الحجة الواصلة. واما تنجيز الواقع فلا يرتبط بالحجية ، لأنه ثابت
بمجرد الاحتمال قبل الفحص أو بالعلم الإجمالي. وبالجملة لا فرق بين الحجية وسائر
الأحكام الواقعية من حيث عدم اشتراطها بالعلم. نعم في سائر الأحكام ربما يترتب
الأثر عليها بوجودها الواقعي ولو لم تصل ، بخلاف الحجية ، فانه لا يترتب عليها أثر
إلّا بعد إحرازها ووصولها ، ولذا يقال : أن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها ،
فإسناد مؤدى مشكوك الحجية والاستناد إليه يكون تشريعا محرما.
الجهة الثانية :
بعد حكم العقل بعدم حجية ما لم يحرز التعبد بحجيته يصح للشارع المنع عن العمل به ،
ولا يلزم منه اللغوية ، وذلك لأن موضوع حكم العقل إنما هو الشك في حجية الشيء ،
وبالتعبد بالمنع يقطع بعدم الحجية ، فيخرج عن موضوع حكم العقل ، ولذا ورد الردع عن
العمل بالقياس ، فالحكم لا يمنع عن التعبد المولوي.
الجهة الثالثة : في بيان صحة التمسك
بعمومات الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم لإثبات حرمة العمل بمشكوك الحجية ، وتقريبه : على ما يظهر من كلام الشيخ قدسسره هو أن نسبة أدلة الحجية إلى الأدلة المانعة نسبة المخصص
إلى العام ، فالشك في حجية شيء يكون شكا في التخصيص ، والمحكم فيه عموم العام.
وأورد عليه المحقق
النائيني بأن أدلة حجية الأمارات حاكمة على الأدلة المانعة ، فان
دليل حجية خبر الثقة مثلا يخرجه عن موضوع دليل المنع أعني به غير العلم ، فيكون
ذلك علما تعبدا ، فعند الشك في حجية شيء تكون الشبهة مصداقية ، ولا يجوز التمسك
فيها بالعموم.
وفيه : أولا : ان
الحجية كما عرفت لا أثر لها ما لم تصل ، فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، فان خبر
الثقة إنما يكون علما تعبديا بعد إحراز حجيته.
وثانيا : انه على
ذلك لا يمكن التمسك بعمومات أدلة الأصول العملية عند احتمال وجود حجة على خلافها ،
سواء كان احتمال وجود الحجة من قبيل الشبهات الحكمية أو الموضوعية ، فلو أخبر
العدل الواحد برؤية المطر على ما كان معلوم النجاسة لم يجز التمسك باستصحاب بقاء
نجاسته ، لاحتمال أن يكون خبر الواحد حجة في الموضوعات ، كما انه عليه لو احتملنا
قيام حجة واقعا على ثبوت حكم إلزامي في موارد الشبهة البدوية لا يمكننا إجراء
البراءة ، وذلك واضح البطلان.
وثالثا : لو لم
يمكن التمسك بها عند الشك في حجية شيء لكان صدورها بكثرتها لغوا محضا ، فان من
الواضح خروج ما يقطع بحجيتها من مورد العمومات ، ولا فائدة في اختصاصها بما يقطع
بعدم حجيتها ، فإذا لم تشمل مشكوك الحجية كان صدورها لغوا. وتوهم كونها صادرة
للإرشاد إلى ما حكم به العقل ، يدفعه ما بيناه من
__________________
أن موضوع حكم
العقل ، إنما هو مشكوك الحجية ، واما العمومات فهي ناظرة إلى الواقع.
الجهة الرابعة : في إمكان التمسك بالأصل
العملي ، وهو استصحاب عدم الحجية. وهذا البحث مبني على الفراغ عن جريان الاستصحاب في عدم التكليف في نفسه كما هو
المختار عندنا ، واما بناء على عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإنشائية
مطلقا فلا معنى للبحث عنه في خصوص المقام ، فان الأمر في جميع موارد الشك في الجعل
من واد واحد.
وقد منع المحقق
النائيني قدسسره عن جريانه في خصوص المقام بدعوى انه لا بد في جريان الاستصحاب من أن يكون للمستصحب ـ أعني
المتيقن السابق ـ أثر عملي يبقى الشاك متحيرا فيه ، ليكون البناء على بقائه عملا
هو الغاية من الاستصحاب ، من غير فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية ، فلو
فرض في مورد عدم ترتب الأثر على الواقع ، اما لترتبه على خصوص الجهل بالواقع ،
واما لكونه أثرا مشتركا بين الواقع والجهل به ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، ولا
يشمله أدلته ، لأنه لغو وتحصيل للحاصل. والمقام من هذا القبيل ، فان الأثر المترتب
على عدم الحجية اما عدم صحة الاستناد ، واما عدم صحة اسناد المؤدى إلى المولى ،
وكلاهما يترتبان بمجرد الشك في الحجية ، اما الأول فلاستقلال العقل بعدم جواز
الاستناد إلى ما لم يحرز حجيته من قبل المولى ، واما الثاني فلأنه تشريع محرم ،
سواء فسرناه بإدخال ما لم يعلم انه من الدين في الدين ، وعليه يكون ذلك أثرا لخصوص
الجهل ، أو فسرناه بالأعم منه ومن إدخال ما علم انه ليس من الدين ، في الدين وعليه
يكون ذلك أثرا مشتركا بينه وبين الواقع.
__________________
والحاصل : الحجية
الفعلية بالمعنى المتقدم مقطوعة العدم بمجرد الشك فيها ، فالتعبد بعدمها يكون من
أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، انتهى. وبهذا وجه كلام الشيخ قدسسره في المنع عن التمسك بالاستصحاب في أمثال المقام.
ونقول : ان ما
يحكم به العقل بمجرد الشك في الحجية إنما هو عدم الحجية الفعلية ، وما هو مورد
الاستصحاب عدم إنشاء الحجية ، فما هو حاصل بالوجدان غير ما يحصل بالتعبد ، فلا وجه
للقول بكون التمسك بالاستصحاب في المقام من تحصيل الحاصل.
واما لغوية التعبد
لدوران الأثر مدار الحجة الفعلية وجودا وعدما ، فالجواب عنه.
أولا : بالنقض
بالروايات الدالة على المنع بالعمل ببعض الأمارات كالقياس ، وما دل على البراءة
شرعا كحديث الرفع ، مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وثانيا : بالحل ،
وهو أنه متى كان حكم العقل في طول الحكم الشرعي؟! وفي فرض الشك فيه يصح للشارع أن
يتصرف في موضوع الحكم العقلي ، ولا يكون ذلك لغوا ، فان الأثر الّذي كان يترتب على
الشك والجهل بحكم العقل لو لا التعبد يترتب حينئذ على التعبد الشرعي ، ففي المقام
العقل وان كان مستقلا بعدم جواز الاستناد إلى مشكوك الحجية ، وعدم جواز اسناد
مؤداه إلى المولى ، ولكن ترتب ذلك عقلا على مشكوك الحجية كان منوطا بعدم التعبد
الشرعي ، فإذا ثبت كان الأثر مترتبا عليه. فعلى التقديرين العقل في ذلك مستقل بعدم
الحجية ، لكن على الأول بما انه مشكوك الحجية ، وعلى الثاني بما انه مقطوع العدم
بلحاظ التعبد ، فلا يتجه إشكال اللغوية أيضا. فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم
الحجية.
الجهة الخامسة : ما وقع التعبد به من
الأمارات أمور. وتفصيل الكلام في
ذلك يقع في مباحث :
المبحث الأوّل :
حجية الظهورات
غير خفي ان حجية
الظواهر مما تسالم عليها العقلاء في محاوراتهم ، وبنوا عليها في جميع أمورهم ،
وحيث لم يكن للشارع طريق خاص في محاوراته ، بل كان يتكلم بلسان القوم ، ولم يردع
عنها ، فهي ممضاة عنده أيضا ، وهذا واضح ، ولذا لم يعثر على خلاف فيه. وإنما وقع
الخلاف في أمور ثلاثة :
الأول : في اشتراط
حجية الظهور بالظن بالوفاق ، أو بعدم الظن بالخلاف.
الثاني : في
اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه ، وعدم حجيته لغيره ولو كان مشتركا معه في
التكليف.
الثالث : في حجية
ظواهر الكتاب وعدمها إلّا بضميمة الروايات.
اما الأول : فالحق
عدم اعتبار الظن بالوفاق في حجية الظهور ، كما لا يضر بها قيام الظن غير المعتبر
على الخلاف. واما قيام الظن المعتبر على خلافه فلا ريب في كونه قرينة على المراد ،
وهو خارج عن محل. الكلام ومنشأ توهم اعتبار ذلك ما يشاهد من أن العقلاء لا يقنعون
في أمورهم المهمة ، كما في الأموال والاعراض والنفوس بمجرد الظهور ، إلّا إذا حصل
لهم الظن أو الاطمئنان بالواقع ، فإذا احتملوا إرادة خلاف الظاهر في كلام الطبيب
لا يعملون به بلا إشكال ، وهذا وان كان مسلما في الجملة إلّا أنه يختص بما إذا كان
المطلوب فيه تحصيل الواقع. واما فيما كان المطلوب فيه الخروج عن عهدة التكليف ،
وتحصيل الأمن من العقاب ، فلا ريب ان ديدنهم
جرى فيه على العمل
بالظهورات مطلقا ، ألا ترى انهم لا يعذرون العبد إذا اعتذر عن مخالفة ظاهر كلام
مولاه بعدم حصول الظن له بالوفاق ، أو بحصول الظن له بالخلاف. والتوهم المزبور
إنما نشأ من الخلط بين المقامين.
واما الثاني : فقد
ذهب صاحب القوانين إلى اختصاص حجية الظهور بمن قصد إفهامه ، وعليه رتب انسداد
باب العلم والعلمي في معظم الأحكام. واستدل عليه بوجوه.
منها : ان المنشأ
في أصالة الظهور أصالة عدم الغفلة ، فانه إذا كان المتكلم في مقام البيان ،
والسامع في مقام الاستماع وفهم المراد ، ولم يظهر له قرينة على الخلاف ، فاحتمال
إرادة خلاف الظاهر حينئذ لا يتصور له منشأ إلّا أحد أمرين.
الأول : تعمد المتكلم
في عدم إتيانه بالقرينة ، وهو خلاف الفرض.
الثاني : غفلة
المتكلم عن نصب القرينة ، أو السامع عن الالتفات إليها ، والأصل عدم الغفلة في كل
منهما. وهذا هو الأصل في حجية الظاهر ، وعليه فمن لم يقصد إفهامه حيث لا يجري في
حقه أصالة عدم الغفلة ، فلا يمكنه التمسك بظواهر الكلام.
وفيه : ان أصالة
عدم الغفلة ولو لم تكن جارية في حق من لم يقصد إفهامه إلّا أنها ليست أصلا لأصالة
الظهور ، بل كل منهما أصل برأسه ، وبينهما عموم من وجه ، فتفترق أصالة عدم الغفلة
عن أصالة الظهور في فعل البالغ العاقل إذا احتمل صدوره منه غفلة ، وتفترق أصالة
الظهور عنها في كلام النبي والإمام ، إذ لا يحتمل الغفلة فيه أصلا ، ويجتمعان في
كلمات أهل العرف في محاوراته ، فأصالة الظهور بنفسها أصل عقلائي تجري بالقياس إلى
من قصد إفهامه ومن لم يقصد ، كان حاضرا مجلس
__________________
الخطاب أو لم يكن.
والشاهد على ذلك ما نرى من أخذ أهل العرف والعقلاء في باب الإقرار بظاهر كلام
المقر ولو كان إقراره عند شخص أجنبي عن القاضي وعن المقر له ، ولم يكونا مقصودين
بالإفهام وحاضرين مجلس الخطاب إلى غير ذلك.
ومنها : انا نحتمل
بعد وقوع التقطيع في الاخبار وجود القرينة على خلاف الظاهر في الصدر أو الذيل
المتقطع ، ومعه كيف يصح التمسك بالظهور؟!
وفيه : انه إنما
يتم لو كان المقطع للاخبار غير ثقة ، أو غير عارف بخواص الكلام ، واما شيخنا
الكليني قدسسره وأمثاله ممن ثبت تورعهم في الدين ، ولهم الخبرة بمزايا الكلام
، وقد مارسوا لحن أهل البيت عليهمالسلام فمن البعيد جدا خفاء القرينة عليهم ، فإذا نقلوا ما هو خال
عن القرينة نطمئن بعدمها ، بل ربما يحصل القطع بأن التقطيع كان في جمل الرواية
الأجنبي بعضها عن بعض ، ولقد كانت عادة الرّواة عند تشرفهم بحضرة الإمام عليهالسلام السؤال عن عدة مسائل لا ربط لإحداها بالأخرى ، كما هو
المتعارف في الاستفتاءات في زماننا هذا ، وقد أتعب العلماء الأعلام أنفسهم في
إرجاع المسائل إلى أبوابها المناسبة لها مع الدقة وجهد النّظر.
فالإنصاف ان مثل
هذا التقطيع غير مانع عن حجية الظهور. ثم لو سلمنا اختصاص حجية الظواهر بمن قصد
إفهامه فالصغرى ممنوعة ، أي لا نسلم كون الروايات بالنسبة إلينا كذلك ، فان راوي
الحديث من نفس الإمام عليهالسلام مقصود بالإفهام قطعا ، وكذا كل لاحق من الرّواة مقصود
بالإفهام من السابق إلى أن تنتهي السلسلة إلى أصحاب الجوامع كالكافي ونظرائه ، ومن
الواضح ان المقصود بالإفهام بالقياس إلى الكتب كل من نظر فيها ، فيكون ظاهرها حجة
كما في النقل بالمعنى. وعليه فلا يترتب على القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد
إفهامه انسداد باب العلمي كما توهم.
وأما الثالث :
أعني به عدم حجية ظواهر الكتاب فوقع الكلام فيه تارة : في
منع أصل الظهور ،
وأخرى : في المنع عن حجيته.
واستدل للأول
بوجوه :
الأول : ان
المقصود من الكتاب انما هو ألفاظه دون معانيه ، كفواتح بعض السور التي هي كنايات
عن أشياء لا يعرفها إلّا النبي وأوصياؤه صلوات الله عليهم ، ويدل عليه الروايات ،
فالقرآن من قبيل الرموز.
الثاني : ان بعض
الروايات دلت على حصر فهم ظهوره بأهل البيت عليهمالسلام ففي بعضها الرادع لأبي حنيفة «ما ورثك الله من كتابه حرفا»
«وكذلك لقتادة
انما يعرف القرآن من خوطب به» فيعلم من ذلك أن القرآن لغموض معانية ، وعلو مطالبه ، بحيث
يشتمل على علم ما كان وما يكون بحجمه الصغير لا يصل إليه فكر البشر إلّا الراسخون
في العلم.
الثالث : أن
القرآن في حد ذاته وان كان له ظهور لكن العلم الإجمالي بوجود القرائن المنفصلة ،
الدالة على إرادة خلاف الظاهر منه كثيرا ، من مخصصات ومقيدات وقرائن على المجاز
أسقط جواز العمل بظهوراته ، فان العلم الإجمالي يمنع من جريان الأصول اللفظية كما
يمنع عن جريان الأصول العملية.
الرابع : دلت
الروايات على وقوع التحريف فيه ، ومن المحتمل وجود القرينة في القسم المحرف.
وهذه الوجوه
الأربعة تمنع أصل الظهور ، اما ذاتا كالأولين ، واما عرضا بسبب العلم الإجمالي أو
التحريف كالأخيرين.
واستدل للثاني ،
أعني به عدم حجية ظهور القرآن بدليلين.
أحدهما : نهى
الشارع عن اتباع المتشابهات بقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي
__________________
قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) بتقريب : ان المتشابه هو ما يحتمل فيه وجهان ، أو وجوه
يشبه بعضها بعضا في احتمال إرادته من اللفظ ، فهو مقابل الصريح الّذي لا يحتمل فيه
الخلاف ، فيعم الظواهر ، ولا أقل من احتماله ، فيكون مجملا ، ويسري إجماله إلى
جميع الآيات لكونه من قبيل القرينة المتصلة ، فعلى التقديرين لا يصح التمسك بظواهر
القرآن بعد ذلك.
ثانيهما :
الروايات الكثيرة الواردة في المنع عن تفسير القرآن ، وقد عدها في الوسائل إلى مائتين وخمسين حديثا.
هذه جميع الوجوه
التي استدل بها للأخباريين المانعين عن العمل بالكتاب. ولا يعبأ بشيء منها.
اما دعوى كونه من
قبيل الرموز ، فهي منافية لكونه معجزة خالدة ، يرشد الخلق إلى نهج الحق ،
ويستضيئوا بمعارفه وعظته وأمثاله من غير اختصاص لذلك بزمان دون زمان ، وانما هو
هاد للأجيال المتعاقبة ، فلو لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختل إعجازه. نعم
يختلف فهم الناظرين منه لاختلاف إدراكهم ، على انه ورد الأمر من الأئمة عليهمالسلام بالرجوع إلى الكتاب عند اختلاف الأحاديث وتعارضها بل مطلقا
، فلو كان من قبيل الرموز لما كان معنى للإرجاع إليه.
واما دعوى اشتماله
على المطالب العالية فهي وان كانت صحيحة ، إلّا ان بيانه غير مخل بالمقصود ، لا من
جهة الإيجاز ، ولا من ناحية الإغلاق ، بل هو متناسب مع أذواق أهل العصور ، فعلوّ
مطالبه ودقة معانيه وبعد مرماه لا ينقص من ظهور ألفاظه شيئا ، فيعرفه العارف
باللغة. واما الباطن فلا يقف عليه إلّا الراسخون في العلم ، وعلى ذلك يحمل ما ورد
من اختصاص فهم القرآن بأهل البيت سلام الله عليهم.
__________________
وأما العلم
الإجمالي بإرادة خلاف الظاهر ، فهو انما يوجب الفحص ، لا سقوط الظواهر عن الحجية
بالكلية ، وإلّا لم يجز العمل بالروايات أيضا لوجود العلم الإجمالي فيها كما في
القرآن.
واما دعوى التحريف
، فأولا : نمنع وقوعه ، ولم يقل به إلّا بعض العامة ، وتبعه نفر من الخاصة ، فان
القرآن بلغ من الأهمية عند المسلمين في زمان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى حفظته الصدور مضافا إلى الكتابة ، ولم يكن أمرا خفيا
عن الناس ليمكن تحريفه حتى عن الصدور الحافظة له كلا أو بعضا. اما ما نقل من
الأخبار على تحريف القرآن فالمراد منها على فرض صحتها التحريف من حيث التقديم
والتأخير ، أو التأويل ، أو غير ذلك كما بيناه في مقدمة التفسير.
وثانيا : ان
التحريف ولو سلم وقوعه إلّا ان الروايات الآمرة بالرجوع إلى الكتاب بما انها واردة
عن الصادقين عليهماالسلام بعد التحريف ، فيعلم من ذلك ان التحريف على فرض وقوعه فهو
غير مخل بظهور ما بقي.
واما دعوى وجود
روايات ناهية عن تفسير القرآن بالرأي فهي معارضة بروايات متواترة واردة في أبواب
مختلفة ، دلت على الرجوع إلى الكتاب ، وطرح ما خالفه ، واستشهاد الأئمة عليهمالسلام بظواهره ، فلا بد حينئذ من حمل الأخبار الناهية اما على
الاستقلال في الاستفادة من الكتاب ، كما كان دأب العامة ، وقد قال الرّجل : حسبنا
كتاب الله ، ويشهد لهذا المعنى بعض الأخبار ، وأما على تأويله بما يطابق القياس
بالاستحسانات. هذا مضافا إلى ان التفسير في حد نفسه لا يعم الترجمة ، لأنه بمعنى
كشف القناع ، لا بيان المعنى الظاهر الّذي لا خفاء فيه والعمل على طبقه.
واما ورود المنع
عن اتباع المتشابه في الكتاب ، فهو أجنبي عن محل الكلام ، لأن المتشابه هو اللفظ
المحتمل لمعنيين في عرض واحد بحيث يكون كل منهما عدلا للآخر ، وأين ذلك من اللفظ
البارز في معناه ، على انا لو سلمنا إجمال المتشابه
فالروايات الآمرة
بعرض الأخبار على الكتاب وطرح ما خالفه مبينة لإجماله ، ويظهر منها ان المراد من
المتشابه في الآية هو المجمل دون ما له ظاهر ، فانه الّذي ربما يكون الخبر مخالفا
له فلا يعتنى به ، واما الصريح فلا توجد رواية مخالفة له ليكون موردا للطرح.
فتحصل : ان الكتاب
العزيز له ظاهر ، وظاهره حجة ما لم يحصل الصارف عنه.
تنبيه :
إذا أحرز مراد
المتكلم من ظاهر كلامه ، فلا ريب في الأخذ به. واما إذا شك في المراد ، فمنشؤه أحد
امرين : أما عدم انعقاد الظهور للفظ أصلا ، أو احتمال أن لا يكون الظاهر مرادا.
وسبب الأول تارة : يكون عدم إحراز الموضوع له وما يفهم من اللفظ عرفا بما له من
القرائن والخصوصيات ، ونعبر عن ذلك بعدم إحراز المقتضى ، وأخرى : احتمال قرينية
الموجود ، وثالثة : احتمال وجود القرينة. والسبب في الثاني أيضا أحد أمور ثلاثة :
احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو تركه لذلك عمدا لمصلحة فيه أو لمفسدة في
نصبه أو اتكاله على قرينة منفصلة حالية أو مقالية ، متقدمة أو متأخرة لم نظفر
عليها بعد الفحص.
اما فيما إذا كان
الشك في المراد من قبيل الثاني ، أي بعد تحقق الظهور ، فالعقلاء لا يعتنون
بالاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، ويأخذون بظاهر الكلام ، واعتمادهم عليه انما هو
لأصالة الظهور ، التي هي بنفسها أصل وجودي ثابت ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه
، لا لأصالة عدم القرينة كما يستشعر من كلام شيخنا الأنصاري ، ولعل غرضه رحمهالله التمسك بها فيما إذا شك في أصل الظهور لاحتمال وجود
القرينة ، لا فيما
__________________
إذا كان الظهور
متحققا وشك في المراد ، فان منشأ الشك فيه ليس احتمال وجود القرينة المتصلة
المانعة عن الظهور أصلا ، لأنه مقطوع العدم في جميع صوره ، ووجود القرينة المنفصلة
وان كان محتملا في بعض الصور وهو المنشأ للشك فيه إلّا انه لا تمنع من انعقاد
الظهور ، وانما يمنع وصولها عن حجية الظهور ، فأي حاجة إلى التمسك بأصالة عدم
القرينة لنفي ذلك ، وقد مر تفصيله في مبحث العام والخاصّ.
واما الفرض الأول
، وهو ما إذا شك في المراد لأجل الشك في أصل الظهور الفعلي ، فان كان ذلك ناشئا من
إجمال اللفظ ، كما في لفظ الصعيد في الآية ، المردد بين التراب ومطلق وجه الأرض ،
فالمرجع فيه الأصل العملي. وان كان ناشئا من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ،
كما في الأمر الواقع في مورد توهم الحظر كقوله تعالى (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) وكما في الضمير الراجع إلى بعض افراد العام ، والاستثناء
المتعقب لجمل عديدة ، فان قلنا : بان أصالة الحقيقة بنفسها أصل عقلائي كما نسب إلى
السيد المرتضى رحمهالله فبها يحرز الظهور ، ويؤخذ به ، ولكنه لم يثبت ذلك ، واما
إذا قلنا : بان بناء العقلاء انما هو على العمل بالظهور الكاشف نوعا عن المراد كما
هو الصحيح ، فلا ظهور في المقام ليؤخذ به. وان كان الشك ناشئا من احتمال وجود
المانع فهو على قسمين : إذ المانع المحتمل تارة : يكون امرا داخليا ، كما إذا
احتمل غفلة المخاطب عن استماع القرينة ، وأخرى : يكون امرا خارجيا كما إذا احتمل
سقوط القرينة عن الكلام لأجل التقطيع ، أو كثرة الوسائط في الأخبار.
اما في الأول ،
فلا ريب في بناء العقلاء على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال. نعم وقع الخلاف في ان
بنائهم على ذلك هل هو ابتدائي كما ذهب إليه في الكفاية ، أو هو
__________________
بعد إجراء أصالة
عدم الغفلة أو عدم القرينة كما ذهب إليه الشيخ رحمهالله؟ والحق هو الثاني ، لما ذكرنا ان مورد بناء العقلاء انما
هو الظهور ، وعملهم على الأخذ بالظاهر ، فلا بد من إثباته أولا بإجراء أصالة عدم
القرينة ، ثم الحكم ثانيا بحجيته ، وعلى هذا يحمل ما أفاده الشيخ قدسسره من إرجاع الأصول اللفظية إلى الأصول العدمية كما أشرنا
إليه.
واما في الثاني ،
وهو ما إذا كان المانع المحتمل امرا خارجيا ، فالمشهور فيه أيضا الرجوع إلى أصالة
عدم القرينة ، ولم يفرقوا بين هذه الصورة وسابقتها. ولكن المحقق القمي فرق بينهما
، وذهب إلى عدم ثبوت بناء من العقلاء في مثل ذلك ، وعليه بنى انسداد باب العلمي في
الأحكام.
وما أفاده من
الكبرى الكلية وان كان متينا ، وشاهدها ان العقلاء إذا وصل إليهم كتاب قطع بعضه
وبقي بعضه لا يعملون بظاهر الباقي إذا احتملوا في المقطوع قرينة صارفة لظهور الجمل
الباقية ، وهكذا لو اعترى العبد سنة حين تكلم المولى معه ، ليس له العمل بظاهر ما
سمعه من الكلام إذا احتمل فوات قرينة صارفة ، ولا يدفع ذلك بالأصل ، وهكذا فيما يوجد
من السجلات والإسناد ، إلّا ان تطبيقها على المقام غير صحيح ، لما ذكرناه آنفا من
أن المقطعين للأخبار بلغوا الغاية في الفضل والتقى ، ومعرفة لحن القول ، فلا تخفى
عليهم القرائن لو كانت موجودة ، فاحتمال خفائها عليهم موهون جدا ، وليس هذا تمسكا
بفهمهم واستنباطهم كي يقال : انه غير حجة بالنسبة إلينا ، بل تمسك بروايتهم
للأحاديث الخالية عن القرائن كما في النقل بالمعنى ، وهذا ثابت في المرتكزات
والأمور العرفية أيضا.
__________________
المبحث الثاني :
حجية قول اللغوي
استدل على حجية
قول اللغوي في تعيين معاني الألفاظ بوجوه :
الأول : انه من
أهل الخبرة لتعيين الموضوع له ، فالرجوع إليه من قبيل الرجوع إلى المهندس في تقويم
الدار ، أو الرجوع إلى الفقيه في بيان الأحكام ، وقد بنى العقلاء على العمل بقول
أهل الخبرة من دون اعتبار العدالة ، ولا التعدد فيها. واما اعتبار ذلك في المجتهد
فهو بدليل خاص خارجي.
وفيه : ان الرجوع
إلى أهل الخبرة انما هو في الأمور الحدسية التي يحتاج استخراجها إلى إعمال رأي
ونظر ، واللغوي ليس من أهل تعيين المعاني الحقيقية ، فان غاية ما يترتب على اطلاعه
واستقرائه بيان موارد استعمال اللفظ في معنى أو معاني ، وذلك غير محتاج إلى حدس
واجتهاد ، بل هو من الإخبار عن الحس فيكون بابه باب الشهادة ، والرجوع إليه من
قبيل الرجوع إلى الشاهد ، فنعتبر فيه كلما يعتبر في الشاهد من العدالة ، والتعدد
أيضا على قول. على انا لو سلمنا ان اللغوي من أهل خبرة ذلك إلّا ان الكتب الموضوعة
في اللغة لم. توضع لبيان ذلك ، وانما وضعت لبيان موارد الاستعمال ، وإلّا كانت
جميع اللغات العربية إلّا النادر مجازا ، وهو مقطوع البطلان.
الثاني : دعوى
الإجماع على العمل بقول اللغوي ، فان العلماء خلفا عن سلف يراجعون كتب اللغة ،
ويعملون بها.
وفيه : أولا : ان
تحصيل الإجماع على ذلك مشكل بعد ما لم يتعرض جملة من الفقهاء لهذا البحث أصلا ،
ولعل عملهم بقول اللغويين كان لأجل حصول الاطمئنان لهم من اتفاقهم على معنى واحد ،
ووثوقهم بذلك.
وثانيا : لو سلم
تحقق الإجماع فليس تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليهالسلام ، لاحتمال أن يكون مستند المجمعين أحد الوجوه التي يستدل
بها في المسألة.
الثالث : إجراء
انسداد صغير في خصوص اللغات ، فان معاني غالب الألفاظ مجهولة ، اما أصلا واما سعة
وضيقا.
وفيه : ان انسداد
باب العلم في اللغة ان رجع إلى انسداد باب العلم في الأحكام ، فالنتيجة بعد ضم
بقية المقدمات هو حجية الظن بالحكم مطلقا ، سواء في ذلك حصوله من قول اللغوي أو من
الرجالي أو غيره ، وسواء كان باب العلم في غالب الألفاظ منسدا أو لم يكن. وان لم
يرجع إلى ذلك ، وكان باب العلم بالاحكام مفتوحا فلا أثر لانسداد باب العلم باللغة.
ثم ان بعض الأعاظم
وجه الاستدلال بالانسداد بتقريب آخر : وهو ان من جملة مقدمات الانسداد عدم جواز
الرجوع إلى البراءة اما للزوم الخروج عن الدين ، أو للزوم المخالفة القطعية ، وعند
انسداد باب العلم باللغة وان لم يلزم من الرجوع إلى البراءة في الأحكام المجهولة
من هذه الجهة خروج عن الدين ، إلّا انه يلزم منه المخالفة القطعية قطعا ، لأن غالب
الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة معانيها مجهولة ، فلا بد من التنزل فيها إلى
العمل بالظن الحاصل من قول اللغوي.
وفيه : أولا : منع
الصغرى ، إذ لا نسلم كون الجهل بالاحكام لأجل الجهل باللغة بمثابة يستلزم الرجوع
فيها إلى البراءة المخالفة القطعية ، فانه ليس في ألفاظ الكتاب والسنة ألفاظا
مجهولة المعنى إلّا القليل سيما في الألفاظ المستعملة في موارد الأحكام الإلزامية
، بل لم نجد فيها إلّا ألفاظا معدودة ، نعم الغالب في مجموع ألفاظ
اللغة ذلك.
وثانيا : ان
مقدمات الانسداد غير منحصر بعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، بل من جملتها عدم إمكان
الاحتياط ، أو عدم وجوبه ، للعسر والحرج ، أو لكونه مخلا بالنظام ، وفي المقام لا
يلزم من الرجوع إلى الاحتياط شيء من ذلك.
فالمتحصل : مما
ذكرناه انه لا دليل على حجية قول اللغوي ، بل يدخل في باب الشهادة ، فيعتبر فيه
العدالة بلا خلاف ، والتعدد على القول به ، وسيأتي الكلام فيه عند التعرض لمفهوم
آية النبأ
المبحث الثالث :
حجية الإجماع المنقول
وكان الأولى
تأخيره عن بحث حجية الخبر الواحد ، لترتبه عليه ، إذ هو من شئونه ومتمماته ، فانه
بعد إثبات حجية الخبر يبحث عن اختصاصها بنقل رأي الإمام عليهالسلام بعنوان الرواية ، وعمومه للنقل بعنوان الإجماع ، أو
الاتفاق ، أو نفي الخلاف. وكيف كان يقع الكلام فيها من جهات.
الجهة الأولى :
أفاد الشيخ رحمهالله ما حاصله : أن الإخبار عن الشيء تارة يكون عن حس ومشاهدة ، إما جزما
وإما احتمالا.
وأخرى عن حدس قريب
من الحس بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة ، كالإخبار بأن حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة
تسعة ، أو بغيره من نتائج الحساب والهندسة.
وثالثة يكون عن
حدس كان منشؤه تام السببية في نظر المنقول إليه ، بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك
السبب لقطع بذلك الأمر الحدسي ، لعلمه بالملازمة بينهما. ورابعة : يكون الإخبار عن
حدس بعيد عن الحس من دون أن يكون سببه تاما عند المنقول إليه.
إذا وضح هذا نقول
: استقرت سيرة العقلاء على العمل بالخبر مطلقا في الأمور
__________________
المحسوسة وما كان
قريبا من الحس ، لقلة وقوع الاشتباه فيها ، وما يرجع إلى الاخبار عن الحس كما في
الفرض الثالث ، فان حكاية المسبب بعد فرض ثبوت الملازمة بينه وبين سببه حتى عند
المحكي له حقيقة تكون اخبارا عن تحقق السبب ، الّذي هو امر حسي ، فان في جميع ذلك
لا منشأ لتوقفهم عن العمل بخبر العادل إلّا احتمال تعمد كذبه ، وهو منفي بالعدالة
والوثوق ، أو احتمال غفلته وهو منفي بأصالة عدم الغفلة. واما في غير ذلك من الأمور
الحدسية فيحتمل أن يكون خطاء المخبر مستندا إلى اشتباهه ، فانه غير مأمون فيها ،
وحيث لا دافع لهذا الاحتمال ، فلتوقفهم عن العمل به مجال ، ولم يثبت منهم بناء على
ذلك. وعلى هذا فناقل الإجماع ان كان معتمدا في نقله على مشافهة الإمام والسماع منه
فهو ينقل فتوى الإمام بعنوان الإجماع ، فلا يتوقف في الأخذ بقوله ، غير انا نقطع
بعدم تحققه ، خصوصا في الإجماعات المنقولة من المتأخرين عن الغيبة الصغرى ، مع انا
مأمورون بتكذيب مدعى الرؤية عملا. وان كان الناقل معتمدا على قاعدة اللطف ونحوها
فالمنقول إليه ان كان يرى الملازمة بين ذاك الاتفاق وقول المعصوم أخذ به ، وإلّا
فلا يكون حجة بالقياس إليه.
وقد ذهب بعض
الأعاظم إلى حجية الإجماع المنقول من القدماء ، بدعوى : احتمال كون مستندهم في ذلك
هو السماع من المعصوم عليهالسلام ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم بعصر الحضور ، ثم ضموا إليه
فتاوى بقية العلماء ، ونقلوا الجميع بعنوان الإجماع.
وفيه : أولا : ان
المتتبع لإجماعات القدماء كالشيخ الطوسي والسيد المرتضى وأمثالهم يقطع بعدم
استنادهم في ذلك إلى ما ذكر ، فان المستند للشيخ في حجية الإجماع قاعدة اللطف ،
والسيد كثيرا ما ينقل الإجماع على حكم يراه موافقا للقاعدة أو الأصل ، كدعواه
الإجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف اتّكالا على اتفاقهم على أصل البراءة ، مع
انه لا قائل به أصلا.
وثانيا : لو كان
الأمر على ما ذكر لكان الأولى النقل عن المعصوم بعنوان الاخبار عنه ، والنقل
بعنوان الإجماع يكون من قبيل الأكل من القفا.
وثالثا : ان هذا
لاحتمال موهوم ملحق بالوسواس ، والّذي يكفي في حجية قول المخبر من احتمال كونه عن
حس انما هو الاحتمال العقلائي لا الموهوم.
الجهة الثانية : في مدرك حجية الإجماع ،
الّذي هو أحد الأدلة الأربعة ، وبيان الملازمة بين الإجماع وقول المعصوم عليهالسلام ، أما عقلا بحيث يستحيل عدم كاشفيته عنه ، واما عادة ،
واما اتفاقا عند الجميع أو عند بعض دون بعض.
وتقريب الملازمة
العقلية من وجهين :
الأول : ما استند
إليه الشيخ الطوسي رحمهالله من قاعدة اللطف ، بمعنى انه يجب على المولى سبحانه لطفا
بعباده ان لا يمنعهم عن التقرب والوصول إليه ، بل عليه أن يكمل نفوسهم القابلة ،
ويرشدهم إلى مناهج الصلاح ، ويحذرهم عن مساقط الهلكة ، وهذا هو السبب في لزوم بعث
الرسل وإنزال الكتب ، وعليه فلو اتفقت الأمة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام
لزم على الإمام المنصوب حجة على العباد إزاحة الشبهة بإلقاء الخلاف بينهم ، فمن عدم
الخلاف يستكشف موافقة رأي الإمام عليهالسلام دائما ، ويستحيل تخلفه عنه.
وفيه : أولا : بعد
تسليم صحة القاعدة ، ان اللطف انما يقتضي تبليغ الأحكام على النحو المتعارف ، وقد
بينها الأئمة عليهمالسلام للرواة المعاصرين لهم ، فإذا فرضنا ان الطبقة الثانية أو
الثالثة من الرّواة اضطرها الخوف والتقية إلى ستر الأحكام ، ولم تصل إلى الطبقة
اللاحقة ، فليس على الإمام عليهالسلام إيصالها إليهم بطريق الإعجاز ، والقاعدة لا تقتضي ذلك ،
وإلا كان قول فقيه واحد حجة إذا فرض انحصار العالم به في زمان ، وذلك من الفساد
بمكان.
وثانيا : إلقاء
الخلاف وبيان الواقع من الإمام عليهالسلام لو كان بإظهار شخصه لهم ،
وتعريفهم بإمامته
فهو مقطوع العدم. وان كان مع خلفاء ذلك ، فلا أثر لخلاف شخص مجهول ، فتأمل.
الوجه الثاني :
لإثبات الملازمة العقلية قياس الاخبار عن حدس ، بالحكاية عن حس ، فكما لو تواترت
الاخبار الحسية يحصل القطع بمؤداها كذلك في الحكايات الحدسية ، مثلا إذا اتفق
فقهاء العصر على حكم فمن رأي الفقيه الأول يحصل الظن بالواقع ، ومن فتوى الفقيه
الثاني يحصل الاطمئنان ، ويتأكد ذلك من آرائهم إلى أن يحصل القطع بالموافقة.
وفيه : ان القياس
مع الفارق ، لأن منشأ احتمال الكذب في الاخبار الحسي اما الخطأ في الحس ، أو تعمد
الكذب ، والأول بعيد للغاية ، والثاني يدفعه وثاقة المخبر ، واحتمال كلا الأمرين
يضعف بكثرة الحكاية إلى أن يقطع بعدمها ، وفي ما نحن فيه حيث كان المخبرون معتمدين
على الحس فمن القريب جدا اشتباههم في الاستدلال ، فان نسبة الاشتباه إلى الجميع
كنسبته إلى الواحد ، ألا ترى ان اتفاق الفلاسفة جلهم أو كلهم على امر برهاني لا
يوجب القطع به. نعم لو تم ما نسب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (لا تجتمع أمتي
على الخطأ) ثبتت الملازمة ، إلّا انه بمعزل عن الواقع.
واما الملازمة
العادية بينهما فتقريبها : ان العادة تمنع من اتفاق المرءوسين على أمر من دون
متابعة رأي الرئيس فيه.
وفيه : ان ذلك
انما يكون فيما إذا ثبت حضورهم معه ، وملازمتهم إياه ، وانى يثبت ذلك في عصر
الغيبة.
واما الملازمة
الاتفاقية ، فلا سبيل إلى إنكارها ، ولكن لا يثبت بها حجية الإجماع مطلقا ، فان
استكشاف رأي الإمام عليهالسلام منه يختلف حسب اختلاف الحاكي
__________________
والمحكي له ، فرب
شخص لا يرى الملازمة أصلا ، وأخر لا يستكشف رأي الحجة إلّا من اتفاق العلماء في
جميع الأعصار ، وثالث يحصل له اليقين من اتفاق أهل عصر واحد ، أو من اتفاق جملة
منهم ، وقد شاهدنا بعض الأعاظم يدعى القطع بالحكم من اتفاق الشيخ الأنصاري والسيد
الشيرازي والميرزا محمد تقي الشيرازي نور الله ضريحهم ، لاعتقاده بشدة ورعهم ،
ودقة فكرهم.
الجهة الثالثة : في كشف الإجماع عن دليل
معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا. وهذا أيضا من مدارك حجية الإجماع ، وتحقيق ذلك : انه لو كان
في البين أصل أو قاعدة أو إطلاق يحتمل اعتماد المجمعين عليه فليس له تلك الكاشفية
، إذ لعل استنادهم كان إلى ذلك. وان لم يوجد ما يحتمل كونه مدركا لفتواهم ، فلا
محالة يكشف اتفاقهم عن وجود دليل معتبر عندهم لو وصل إلينا لاعتمدنا عليه ، اما
وجود أصل الدليل ، فلأنّ عدالتهم قاضية بعدم إقدامهم على الفتوى من غير مستند صحيح
، واما اعتباره عندنا فللاطمئنان بفهمهم وفضلهم. نعم في بعض الإجماعات المنقولة من
قدماء الأصحاب نحتمل أن يكون اعتمادهم على أصل أو قاعدة ، ولم يذكروها في كتبهم
لأن دأبهم لم يكن على ذكر الاستدلال ، وبعد ما حدث بيان الاستدلال وضبطه في الكتب
في زمن الشيخ الطوسي رحمهالله أخذوا بإجماعاتهم ، واتبعوهم في موارد الإجماعات ، فصارت
المسألة إجماعية.
فالإنصاف ان
الإجماع غير معتبر ، ولكن مع ذلك لا تصح مخالفته إلّا مع الفحص التام.
المبحث الرابع :
حجية الشهرة
لا يخفى ان الشهرة
تكون على أقسام ثلاثة :
الأول : الشهرة في
الرواية ، ومعناها كثرة نقل الرّواة لها ، ويقابلها الندرة والشذوذ. وهذه الشهرة
من مرجحات باب التعارض ، فان كثرة الناقل عن الحس يوجب الاطمئنان.
الثاني : الشهرة
في العمل ، ومفادها استناد المشهور إلى خبر في مقام الحكم. وبهذه الشهرة ينجبر ضعف
سند الرواية إذا أحرز الاستناد ، فالخبر المنجبر بها يكون معتبرا بالعرض. وفي قبال
هذه الشهرة الاعراض الموجب لوهن الرواية.
الثالث : الشهرة
في الفتوى ، والمراد بها اشتهار الفتوى من دون أن يعلم مستندهم في ذلك ، وهذه هي
محل النزاع في كونها حجة.
وقد استدل لحجيتها
بوجوه.
الوجه الأول :
التعليل الوارد في مقبولة عمر ابن حنظلة بعد قوله : ويترك الشاذ النادر (فان
المجمع عليه لا ريب فيه) بدعوى : ان المراد من المجمع عليه ليس الإجماع المصطلح ،
ولذا أمر بترك الشاذ ، فلا بد وان يراد منه مجرد الشهرة ، فتعم الشهرة الفتوائية.
وكذا قوله عليهالسلام في مرفوعة زرارة (خذ بما اشتهر بين أصحابك)
__________________
فان الموصول من
الكنايات ، والصلة معرفة له ، وإطلاقها يشمل الشهرة في الفتوى.
وقد أورد عليه
شيخنا الأنصاري .
أولا : ان المقصود
من الشهرة في المرفوعة الشهرة اللغوية ، بمعنى الوضوح والظهور يقال : زيد شهر سيفه
إذا أبرزه وأظهره ، فمعنى قوله : «خذ بما اشتهر» هو الأمر بأخذ الظاهر البين ،
وكذا المراد من (المجمع عليه) في المقبولة لو فسر بالشهرة ، ويشهد له استشهاد
الإمام عليهالسلام في ذيله بالنبوي المعروف «انما الأمور ثلاثة : أمر بين
رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب» وهذا قرينة على انه عليهالسلام أراد من المشهور ما هو بين الرشد عند كل أحد ، وهذا لا
يتحقق إلّا في الشهرة في الرواية ، حيث انها ربما توجب الاطمئنان بالصدور حتى في
الخبرين المتعارضين ، ولذا ارجع الإمام عليهالسلام عند اشتهار الروايتين المتعارضتين إلى موافقة الكتاب
ومخالفة العامة ، وهذا بخلاف الشهرة في الفتوى ، إذ ليست لها هذه المنزلة.
وثانيا : ان
المعرف لما يراد من الموصول كما يمكن ان تكون صلته كذلك يمكن أن يكون شيء آخر ،
وبما ان السؤال في المرفوعة عن الخبرين المتعارضين فهو شاهد على ان المراد من
الموصول الخبر المتعارض المشهور رواية دون مطلق ما يكون مشهورا.
الوجه الثاني : ان
حجية الخبر الواحد انما هي من باب الطريقية ، وبما ان الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية
أقوى من الظن الحاصل من الخبر فتكون هي أيضا حجة بطريق أولى.
وفيه : ان هذا
مبني على أن تكون حجية الخبر لأجل افادته الظن ، وعليه يلزم حجية كل ظن مساو للظن
الحاصل من الخبر أو أقوى منه ، سواء حصل من
__________________
الشهرة ، أو من
فتوى الفقيه ، أو من غير ذلك. ولكن المبنى غير تام ، إذ يحتمل أن يكون ملاك حجية
الخبر أغلبية مطابقته للواقع ، والشهرة في الفتوى لم يحرز كونها كذلك ، فان الفتوى
اخبار عن الحدس ، فلا يقاس بالخبر الّذي هو حكاية عن الحس ، على انا نحتمل دخل
خصوصية أخرى في ملاك حجية الخبر زائدة على أغلبية المطابقة.
الوجه الثالث :
التعليل في ذيل آية النبأ ، وهو قوله سبحانه (أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فتعليل وجوب التبين بإصابة القوم بجهالة أي بسفاهة يدل على
عدم لزوم التبين في كل مورد لا يكون العمل سفاهة ، فان العلة كما تكون مخصصة تكون
معممة أيضا ، وليس الأخذ بالشهرة من السفاهة.
وفيه : ان التعليل
لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورده مما لا توجد فيه تلك العلة ، إذ ليس لها مفهوم ،
فانه فرع انحصار العلة ، ولا يستفاد من التعليل ذلك ، وهذا لا ربط له بتعميم العلة
وتخصيصها كما هو ظاهر ، وقد ورد في الحديث «انّ الله عزوجل لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرمها لعاقبتها ...» فمن عموم العلة فيه يستفاد حرمة كل مسكر ولو لم يكن خمرا ،
ولكن لا يدل ذلك على حلية كل ما ليس بمسكر ولو من النجاسات وغيرها. نعم حيث أمرنا
في الآية المباركة بالتبين عند إرادة العمل بنبإ الفاسق فإذا حصل التبين ولو كان
بالاستعلام من أهل الفن ، وانكشاف استنادهم إليها يتبين صحة الرواية ، فلا يبعد
استكشاف حجية الشهرة في الاستناد عن الآية الشريفة.
__________________
المبحث الخامس :
حجية خبر الواحد
لا يخفى ان العلم
الضروري بالاحكام الشرعية غير حاصل إلّا في أحكام كلية ، كوجوب الصلاة والصوم
وأمثالهما ، والاخبار المقطوع صدورها اما للتواتر أو للقرائن القطعية قليلة جدا ،
فغالب الأحكام انما تثبت باخبار الآحاد ، فالبحث عن حجيتها يكون من أهم المسائل
الأصولية ، وبإثباتها ينفتح باب العلمي وينسد باب الانسداد ، وبعدمها تتم أقوى
مقدماته ، فالإشكال في كون ذلك بحثا أصوليا مبنيا على حصر موضوع علم الأصول بخصوص
الأدلة الأربعة في الحقيقة إشكال على حصر الموضوع بذلك ، إذ كون هذه المسألة
أصولية من البديهي ، ولم يرد في بيان موضوع الأصول آية ولا رواية ، وما قيل في ذلك
فروض وتصورات ، فلا بد وان يؤخذ عنوانا عاملا ليشمل جميع مسائل العلم.
وقد تصدى شيخنا
الأنصاري رحمهالله لدفع الإشكال ، وجعل البحث عن حجية الخبر بحثا عن ثبوت
السنة به ، فيكون من عوارضها.
وتقريب : ما أفاده
: ان العمل بالأخبار يتوقف على أمور ثلاثة : ثبوت الظهور وحجيته ، وأصل
الصدور ، وجهة الصدور. اما الظهور وحجيته فقد تقدم الكلام فيه. واما جهة الصدور
فتغنينا عن البحث عنه السيرة العقلائية القائمة على
__________________
عدم الاعتناء
باحتمال صدور الكلام لغير بيان المراد الواقعي من تقية وسخرية ونحوهما. واما أصل
الصدور فالمتكفل له هذه المسألة ، فيبحث فيها عن ان صدور السنة ، وهي قول المعصوم
أو فعله أو تقريره ، يثبت بخبر العادل أو لا؟
وما أفاده لا يمكن
المساعدة عليه ، فان الثبوت الّذي أشار إليه لا يخلو اما أن يكون ثبوتا واقعيا أو
تعبديا ، وإرادة الثبوت الواقعي منه بديهي الفساد ، ولا يمكن اسناده إليه ، سواء
كان خارجيا أو ذهنيا ، اما الثبوت الخارجي فلأنّ الخبر حاك عن السنة ، وكيف يعقل
أن يكون الحاكي من علل تحقق المحكي ، واما الذهني بمعنى التصديق فهو انما يتحقق
فيما إذا كان الخبر قطعيا ، وخبر الواحد لا يفيد ذلك. واما الثبوت التعبدي فلا
معنى له سوى تنزيل الخبر منزلة السنة في وجوب العمل به ، ومن الواضح ان البحث عن
ذلك بحث يعرض على الخبر لا عن عوارض السنة إلّا بالالتزام ، ولا بد في المسائل
الأصولية ان تكون بمدلولها المطابقي بحثا عن عوارض الموضوع.
وقد وجه بعض أعاظم
مشايخنا قدسسره كلام الشيخ رحمهالله بما حاصله : ان كل تنزيل يستدعي وجود منزل ومنزل عليه وجهة
التنزيل ، والمفروض في المقام ان المنزل هو الخبر ، والمنزل عليه هي السنة ، وجهة
التنزيل وجوب العمل به ، فكما يمكن أن يبحث عن تنزيل الخبر منزلة السنة فيكون
البحث عن عوارضه ، كذلك يمكن ان يبحث عن كون السنة منزلا عليها فيكون البحث عن
أحوالها .
وفيه : أولا : ان
متعلق غرض الأصولي انما هي الجهة الأولى ، واما الجهة الثانية فلا يبحث عنها
الأصولي.
وثانيا : ان أصل
المبنى غير تام ، لما مر من أنه لا تنزيل في باب جعل الحجج
__________________
أصلا ، فلا الخبر
منزل منزلة القطع ، ولا مؤداه منزل منزلة الواقع ، بل المجعول هو تتميم الكشف ،
وهو المبحوث عنه في المقام ، وليس ذلك إلّا من عوارض الخبر.
فالحق في الجواب
ان ذلك الإشكال مبني على حصر موضوع الأصول في الأدلة الأربعة ، ولا وجه له ، بل
الموضوع عنوان يعم جميع مسائله ، والإشارة الإجمالية إليه تغني عن تعيينه باسمه
ورسمه ، هذا بناء على اعتبار وجود الموضوع لكل علم. واما بناء على عدم اعتبار ذلك
، وانه لا يلزم ان يكون لكل علم موضوع خاص كما هو الصحيح على ما عرفت في أول
الكتاب ، فالإشكال مندفع من أصله.
وكيف كان اختلف العلماء
الاعلام في حجية خبر الواحد ، فجملة من قدماء الأصحاب أنكروا ذلك أشد الإنكار ،
حتى ألحقها بعضهم بالقياس ، وادعى الضرورة على ذلك. وذهب المتأخرون إلى حجيته.
واستدل المانعون
بوجوه :
الوجه الأول :
الإجماع على ذلك.
وفيه : أولا : ان
دعوى الإجماع على عدم الحجية مع مخالفة المشهور في المسألة مقطوع الكذب.
وثانيا : كيف يمكن
نفي حجية خبر الواحد بنقل الإجماع مع انه من افراد المبحوث عن حجيته في المقام ،
إذ من عدم حجية الخبر يثبت عدم حجية الإجماع المنقول بالأولوية.
الوجه الثاني :
الروايات الناهية عن العمل بغير العلم. وهي كثيرة متواترة إجمالا ، وفي جملة منها المنع عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه
شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنة نبيه ، والأمر بطرح ما خالف الكتاب ، ومن
الواضح ان
__________________
أغلب الروايات
التي بأيدينا وهي محل البحث ليس عليها شاهد من كتاب الله ، ولا من السنة المحكمة ،
وإلّا لما احتجنا إلى التمسك بالخبر والاعتماد عليه.
وفيه : انها
معارضة باخبار دالة على حجية خبر الواحد في الجملة ، ونعلم أيضا بصدور اخبار لا
شاهد عليها من الكتاب ولا من السنة القطعية ، بل مخالفة للكتاب بنحو العموم
والخصوص ، ومع هذا كيف يمكننا الأخذ بظاهر تلك الاخبار ، فلا بد من حملها على أحد
وجوه.
منها : حملها على
المخالفة بالتباين لا بالعموم والخصوص ، لكثرة ورود المخصصات من الروايات على عموم
القرآن ، والمقيدات على إطلاقه ، كقوله عليهالسلام : (لا ربا بين الوالد والولد) المقيد لإطلاق قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) فالأخذ بإطلاق أدلة المنع يستلزم تخصيص الأكثر ، مع ان
سياقها آب عن التخصيص ، لوضوح استهجان ان يقال : ما خالف قول ربنا لم نقله إلّا في
خمسة موارد مثلا.
ولا يرد على الحمل
المتقدم ما أشكل به الشيخ رحمهالله من ان الدساسين لم يضعوا ما ينافي الكتاب بالتباين ،
لعلمهم بان ذلك لا يصدق منهم ، وذلك لأن الواضعين كانوا يدسون تلك المجعولات في
كتب الثقات من أصحاب الأئمة ، ولم ينقلوها بأنفسهم ، لعدم القبول منهم ، وقد لعن
الصادق عليهالسلام المغيرة على ما روى ، لأنه دس في كتب أصحاب أبيه عليهالسلام أحاديث كثيرة.
ومنها : حملها على
ما نسب إليهم في أصول الدين مما لا توافق مذهب الشيعة ، وقد كان ذلك كثيرا ، ولكن
لا يوجد منها في الكتب الأربعة ونظائرها إلّا قليل ، لأنها مهذبة.
ومنها : حملها على
صورة التعارض ، وفي بعضها قرينة على ذلك ، ويستفاد منه
__________________
حجية الخبر في حد
نفسه. ومضافا إلى جميع ما ذكر ان المعارضة بين بعض تلك الطائفة وبين أدلة حجية
الخبر تكون بنحو الإطلاق والتقييد ، فان المنع عن الاعتماد على ما لا شاهد عليه من
الكتاب مطلق ، يعم الخبر وغير الخبر ، والموثق وغير الموثق ، ودليل حجية الخبر
الموثق أخص من ذلك ، فيقيدها لا محالة ، فنتيجة الجمع حرمة الأخذ بما ليس له شاهد
من القرآن إلّا خبر الثقة.
الوجه الثالث :
الآيات مثل قوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وقوله سبحانه (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً).
وفيه : ان أدلة
حجية الخبر حاكمة على الآيات ، نظير البينة وقول ذي اليد ، ومع التنزل عن ذلك
فالمعارضة بين الآيات وأدلة حجية الخبر بالعموم والخصوص ، فان الآيات شاملة لخبر
العدل وغيره ، والوارد في أصول الدين وفروعه ، بخلاف دليل حجية الخبر.
ثم ان المحقق
النائيني رحمهالله ذكر ان في خبر الواحد اصطلاحين : أحدهما : ما قابل المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية ،
وهو بهذا المعنى محل البحث ، وثانيهما : الخبر الضعيف غير الموثق. وبهذا جمع بين
كلام المنكر لحجيته والمثبت لها ، وادعى ان من أنكر العمل بخبر الواحد ناظر إلى
الضعيف غير الموثوق به ، واما خبر العادل فلا خلاف في حجيته. ويشهد لتعدد الاصطلاح
ان الشيخ الطوسي رحمهالله مع انه ممن يعمل بخبر الواحد قال في مسألة تعارض الروايتين
ورجحان أحدهما على الآخر ، ان المرجوح لا يعمل به ، لأنه خبر الواحد ، وعلى هذا
فتكون حجية خبر الواحد إجماعيا.
__________________
أدلة حجية خبر
الواحد :
واستدل المثبتون
بوجوه.
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالآيات :
الوجه الأول :
الاستدلال بالآيات المباركة.
منها : آية النبأ ، وهي قوله عزّ شأنه (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) وتقريب الاستدلال بها من جهات.
الأولى : مفهوم
الوصف ، حيث انه سبحانه أوجب التبين عن خبر الفاسق ، فلا يجب في غيره ، ومن الواضح
ان وجوب التبين عنه غيري مقدمة للعمل لا نفسي ، وعليه فمفهوم الوصف في الآية عدم
لزوم التبين عن خبر غير الفاسق في مقام العمل ، فيعمل به من غير تثبت وتبين.
وفيه : انه ليس
للوصف ظهور في المفهوم كما مر بيانه في بحث المفاهيم ، خصوصا في الوصف غير المعتمد
على الموصوف ، فانه نظير العناوين الذاتيّة كزيدية زيد ، فكما لا مفهوم فيما علق
الحكم على العنوان الذاتي مثل «أكرم زيدا» ، كذلك لو علق الحكم على الوصف غير
المعتمد مثل «أكرم عالما» فان في كل من الجملتين علق الحكم على الذات ، غاية الأمر
في إحداهما : بالعنوان الاشتقاقي ، وفي الأخرى : بالجامد الذاتي.
الثانية : ما
أفاده شيخنا الأنصاري رحمهالله وحاصله : ان في خبر الفاسق حيثيتين ، حيثية ذاتية ، وهي كونه خبر
واحد ، وحيثية عرضية وهي كونه خبر فاسق ، وقد علق وجوب التبين على العنوان العرضي
، ولو لم يكن علة للحكم لكان العدول عن الأمر الذاتي إلى العرضي قبيحا ، وخارجا عن
طريق المحاورة ، نظير
__________________
تعليل نجاسة الدم
بملاقاته مع النجس ، وعليه فيستفاد انتفاء الحكم عند انتفاء العنوان العرضي.
وأورد عليه بعض
الأعاظم رحمهالله بإيرادين.
الأول : ان
الموضوع هو خبر الواحد في قبال خبر المتعدد كالمتواتر ، وكون الخبر خبر واحد سواء
بنحو الإضافة أو الصفة من الأمر العرضي للخبر لا الذاتي ، فتعليق الحكم على خبر
الواحد أو على خبر الفاسق من التعليق على العنوان العرضي ، فان كلا العنوانين
عرضيان للموضوع ، ويحتمل دخل كليهما في الحكم.
وفيه : ان المراد
بخبر الواحد هو الّذي لا يفيد القطع ، ويحتمل فيه الصدق والكذب ، في قبال المتواتر
والمحفوف بالقرائن القطعية ، وليس مراد الشيخ قدسسره من ذاتية عنوان خبر الواحد للخبر الذاتي في كتاب الكليات ،
بل أراد منه الذاتي في باب البرهان ، وهو ما يكفي مجرد وضع الشيء في صحة انتزاعه
عنه من دون احتياج إلى لحاظ أمر خارجي معه ، كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان ،
والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، ومن الواضح ان الخبر في ذاته يحتمل الصدق والكذب ،
ويصح حمل ذلك عليه من غير حاجة إلى ضم أمر خارج إليه ، وهذا بخلاف كونه خبر فاسق ،
فانه ليس ذاتيا للخبر أصلا.
الثاني : ان إضافة
الخبر إلى أحد الأمرين من الفاسق أو الجامع بينه وبين العادل مما لا بد منه ، فان
القائل بحجية خبر العادل يقيده بالفاسق ، والقائل بعدم الحجية يقيده بالأعم منه
ومن العادل ، وذلك لأن الماهية المهملة لا يحكم عليها بشيء ، فالتقييد ضروري ، فلا
يشعر بالعلية ، ولا يثبت به المفهوم.
وفيه : انه لا
ملازمة بين عدم التقييد وكون الموضوع هي الطبيعة المهملة ، لإمكان كونه طبيعي
الخبر بنحو الإطلاق ، وقد عرفت في محله ان الإطلاق ليس إلّا رفض القيود ، وخروج ما
يفيد العلم انما هو لأجل ان العمل على طبقه في الحقيقة
عمل بالقطع لا بالخبر
، فالتقييد ليس ضروريا.
فالإيرادان لا
يتوجهان على الشيخ قدسسره.
وقد أورد عليه
بإشكال آخر وهو ان لازم بيانه حجية خبر غير الفاسق مطلقا ولو لم يكن عادلا ،
كالصغير والوسط بين العادل والفاسق لو قلنا بالواسطة بينهما ، ولم يلتزم بذلك أحد.
لكنه مندفع.
أولا : بعدم
اختصاصه بهذا التقريب.
وثانيا : انا لا
نريد اعتبار العدالة في الخبر بمفهوم هذه الآية ، بل العدالة تثبت بأدلتها المخصصة
لإطلاق المفهوم ، وعدم إرادة إطلاق المفهوم لا يضرّ بثبوت أصله.
والصحيح في الجواب
: ان يقال : ان ذلك ليس تقريبا مستقلا في الاستدلال بالآية ، وانما هو بيان لحجية
مفهوم الوصف ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث المفاهيم ، وذكرنا ان تقييد الموضوع
بالوصف لا يفيد عليته للحكم. نعم التعبير عن الموضوع بالعنوان الاشتقاقي أو توصيفه
بوصف لا بد وان يكون لنكتة يخرج بها عن اللغوية ، ومن المحتمل أن يكون السر في
التعبير بالفاسق في الآية بيان فسق الوليد ، الّذي هو مورد النزول.
الثالثة :
الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب : ان وجوب التبين عن الخبر علق على مجيء الفاسق به
، فينتفي عند انتفاء الشرط ، ولازم هذا عدم التبين عن الخبر إذا لم يكن المخبر
فاسقا ، واعتبار العدالة لا بد وأن يكون بدليل آخر.
وقد أورد على ذلك
بوجوه.
الأول : منع
اقتضاء هذه القضية للمفهوم ، لأنها سيقت لبيان الموضوع ، نظير «ان رزقت ولدا
فاختنه» فان الولد هو الموضوع لوجوب الختان ، وبانتفائه ينتفي الوجوب لانتفاء
موضوعه.
وردّه في الكفاية بان الموضوع في القضية هو النبأ ، وما علق عليه الحكم
بوجوب التبين كون الآتي به فاسقا ، وهو متين. وتوضيحه ببيان أمور.
الأول : ان مناط
ثبوت المفهوم رجوع القيد إلى الحكم ، فلو كان راجعا إلى الموضوع كما في قولك «زيد
الجائي أكرمه» أو إلى المتعلق كما لو قال : «الصلاة في يوم الجمعة واجبة» فلا
دلالة فيه على المفهوم أصلا ، وقد أثبتنا حجية مفهوم الشرط ، لما استظهرناه من
ظهور أداة الشرط في تعليق مفاد جملة بجملة ، أعني به تعليق الحكم الثابت في الجزاء
على الشرط ، وبهذا صرح أهل العربية والمنطق.
الأمر الثاني : ان
الجزاء تارة : يكون في نفسه معلقا على الشرط عقلا ، ولا دخل للمولى فيه ، وان وجد
منه تعليق فهو إرشاد إلى ذلك كما لو قال : «ان رزقت ولدا فاختنه» وأخرى : يكون
التعليق بحكم الشارع فقط ، وأمثلته في الشريعة كثيرة. فما كان التعليق من قبيل
الأول فالقضية في مثله مسوقة لبيان الموضوع ، ولا مفهوم له ، وأما ما كان من قبيل
الثاني فالتعليق فيه يفيد المفهوم ، وهذا هو الميزان الكلي في كون القضية الشرطية
ذات مفهوم وعدمه.
الأمر الثالث :
الموضوع في القضية الشرطية قد يكون مركبا من جزءين ، أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء
عقلا دون الآخر ، كما إذا قيل «ان ركب الأمير ، وكان ركوبه يوم الجمعة ، فخذ
بركابه» فان توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي ، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي
مولوي ، ففي مثل ذلك يثبت لها المفهوم بالإضافة إلى خصوص الجزء الّذي لا يتوقف
عليه تحقق الجزاء عقلا ، ولا يكون لها مفهوم بالإضافة إلى الجزء الآخر ، والوجه في
ذلك يظهر مما تقدم.
ثم ان تمييز الجزء
الّذي أخذ موضوعا في مقام الإثبات عن الجزء الآخر
__________________
المعلق عليه ثبوت
الحكم انما يكون بالاستظهار من سياق اللفظ والتعبير ، فالظاهر من مثل قضية «ان
جاءك زيد فأكرمه» ان الموضوع فيها هو زيد ، ومجيئه شرط لوجوب إكرامه ، وينعكس
الأمر فيما لو قيل «الجائي ان كان زيدا فأكرمه».
إذا عرفت هذه
الأمور فنقول : الشرط في الآية المباركة مركب من جزءين ، النبأ وكون الآتي به
فاسقا ، وما يتوقف عليه الجزاء منهما عقلا وتكون القضية بالإضافة إليه مسوقة لبيان
الموضوع هو النبأ ، وما هو قيد الحكم بحسب ظاهر العبارة كون المخبر به فاسقا ،
فينتفي عند انتفائه.
وتوهم : ان
الموضوع في الآية انما هو نبأ الفاسق على نحو التقييد ، فليس للقضية مفهوم ، إذ لو
كان الموضوع طبيعي النبأ وكان مجيء الفاسق به شرطا للحكم لزم التبين عن كل نبأ حتى
نبأ العادل فيما إذا تحقق في الخارج نبأ الفاسق ، إذ المفروض ان وجوب التبين ثابت
لطبيعي النبأ على تقدير تحقق نبأ الفاسق ، وبما ان ذلك باطل قطعا يتعين الأول ،
فلا يبقى للقضية مفهوم.
مدفوع : بان ما
ذكرناه من اختلاف القيود في رجوع بعضها إلى الموضوع وبعضها إلى الحكم انما هو في
مقام الإثبات والتعبير ، فان القيد تارة : بحسب ظاهر القضية يرجع إلى الموضوع كما
في موارد التوصيف ، وأخرى : يرجع إليه بحكم العقل ، كما في موارد توقف الحكم عليه
عقلا كالمثال المتقدم ، وثالثة : لا يكون شيء من الأمرين ، فيرجع القيد إلى الحكم
إثباتا ، ويثبت به المفهوم. واما في مقام الثبوت فالقيود بأجمعها لا بد وان ترجع
إلى الموضوع ، لاستحالة ثبوت الحكم المقيد على الموضوع المطلق ، وهذا معنى ما قيل
من ان قيود الحكم ترجع إلى قيود الموضوع لا محالة ، وعليه فالحكم بوجوب التبين عن
النبأ معلقا على كون الجائي به فاسقا لا يقتضي وجوب التبين عن خبر العادل ، ونظير
ذلك قولهم عليهمالسلام «إذا كان الماء
قدر كرّ
لم ينجسه شيء» فانه لا يقتضي عدم تنجس كل ماء بالملاقاة إذا اتصف فرد منه
بالكرية ، بل مقتضاه عدم انفعال الكر منه بالملاقاة ، وانفعال القليل منه بملاقاة
النجاسة. وكأن المتوهم خلط رجوع القيد إلى الموضوع في مقام الإثبات برجوعه إليه في
مقام الثبوت.
وقد انقدح بما
ذكرناه ما في الكفاية من دلالة الآية على حجية خبر العادل ولو كانت القضية مسوقة
لبيان الموضوع ، بدعوى ظهورها في حصر التبين عن النبأ بخبر الفاسق ، فيستفاد
انتفاؤه عن غيره ، وذلك لأن الشرط المسوق لبيان الموضوع لا يفيد إلّا كون الموضوع
في القضية أمرا خاصا ، ومن الواضح ان إثبات الحكم لموضوع خاص لا يستلزم انتفائه عن
موضوع آخر أجنبي عنه.
الثاني : من وجوه
الإشكال على مفهوم الشرط ما ذكره شيخنا الأنصاري رحمهالله من إبداء المانع عن الأخذ بمفهوم الآية بعد فرض اقتضاء
القضية له . وبهذا يفترق عن الوجه السابق المبني على إنكار أصل
المقتضي ، توضيحه : ان مورد نزول الآية وان كان خبر الوليد بارتداد بني المصطلق
إلّا ان موضوع القضية هو مطلق خبر الفاسق ، لا خصوص خبر الوليد ، وعليه فذكر إصابة
القوم بجهالة في مقام التعليل انما يكون لمناسبة المورد ، وإلّا فالفاسق لا يخبر
دائما عما يرجع إلى القوم ، بل ربما يخبر عن حال شخص ، أو ملكية شيء ، أو كرية
مائع ، فالمراد منها مطلق الوقوع في المفسدة المتعقبة بالندم. ثم ان العمل بخبر
الفاسق لا يستلزم الوقوع في المفسدة دائما ، فالمراد بالتعليل ان الأخذ بقول
الفاسق معرض للوقوع في المفسدة بسبب الجهالة وعدم العلم بمطابقته الواقع ، وهذه
العلة جارية في خبر العادل أيضا ، لأن عدم تعمده
__________________
الكذب لا يمنع عن
احتمال غفلته واشتباهه ، فالعمل به معرض الوقوع في المفسدة ، لعدم العلم بمطابقة
ما أخبر به للواقع ، فعموم التعليل قرينة قطعية على عدم إرادة المفهوم ، ولا أقل
من كونه صالحا للقرينية ، فلا ينعقد للقضية ظهور في المفهوم.
وفيه : ان الإشكال
المزبور يتوقف على إرادة عدم العلم من لفظ الجهالة ، وهو غير مراد قطعا ، بل
الظاهر ان المراد منه السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل ، ويدل على ذلك
انه لو أريد به عدم العلم لزم تخصيص الحكم بما دل على حجية البينة وفتوى الفقيه
وأهل الخبرة وغير ذلك مما ثبت حجيته شرعا ، مع ان سياق الآية آب عن التخصيص ، فإذا
لا مناص من ان تكون الجهالة بمعنى السفاهة وفعل ما يترتب عليه الوقوع في الندم
العقلائي ، وحينئذ فمفاد الآية هو التحذير عما يكون العمل به سفاهة عند العقلاء ،
وليس العمل بقول العادل من هذا القبيل كما هو المعروف من سيرتهم.
نعم أشكل الشيخ رحمهالله على ما ذكرناه من تفسير الجهالة بما حاصله : ان العمل بقول الوليد لو كان سفاهة لما صدر ذلك من أصحاب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى نزلت الآية رادعة لهم.
وجوابه : ان
ترتيبهم الأثر على قوله لعله كان لعدم علمهم بفسقه ، فبين الله سبحانه لهم بلسان
نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم وان العمل بقول الوليد بعد ثبوت فسقه مع عدم التبين يعد من
السفاهة.
وقد أورد المحقق
النائيني قدسسره بعد فرض كون الجهالة بمعنى عدم العلم على إنكار الشيخ رحمهالله للمفهوم بإيرادين .
الأول : ما ذكره
في تعارض المفهوم مع العموم ، وهو ان كلا من العموم
__________________
والمفهوم يتوقف
على مقدمتين : إحداهما مستفادة من الوضع ، والأخرى : من مقدمات الإطلاق. اما
العموم فهو متوقف على ما يدل على إسراء الحكم إلى افراد ما يراد من مدخوله ،
والمتكفل له أداة العموم بحسب وضعها ، وعلى كون مدخولها نفس الطبيعي غير المقيد
بما لم يذكر في اللفظ ، ويستفاد ذلك من الإطلاق ومقدمات الحكمة. واما المفهوم
فيتوقف على رجوع القيد إلى الحكم ، والمتكفل له وضع أداة الشرط ، ولذا يعد
استعمالها في تقييد الموضوع غلطا ، وعلى انحصار الشرط المعبر عنه بالعلية المنحصرة
، وهو مستفاد من الإطلاق وعدم ذكر العدل ، لا من أداة الشرط وإلّا لكان استعمالها
في موارد ذكر العدل مجازا ، وهو خلاف الوجدان ، وحينئذ إذا وقع التنافي بين
المفهوم وعموم التعليل لا يكون العام مانعا عن المفهوم ، لأن تقدم العموم عليه ان
كان يمنعه عن ظهور الأداة في تعليق الحكم على الشرط فهو غير ممكن ، لأن الظهور الإطلاقي
ولو ببعض مقدماته لا يصلح لمعارضة الظهور الوضعي خصوصا في مثل الآية. وان كان
يمنعه عن انحصار العلة المستفاد من الإطلاق فهو غير تام ، لأن العموم لا يكون
ناظرا إلى إثبات العدل للشرط ، بل غاية مدلوله هو السريان في افراد موضوعه ، وأين
ذلك من إثبات العدل للشرط المذكور في القضية الشرطية ، وعليه فلا مانع من الأخذ
بظهور القضية في المفهوم.
وفيه : ما لا يخفى
، فانا قد بينا في محله ان إطلاق مدخول أداة العموم غير مستند إلى مقدمات الحكمة ،
لأن نفس الأداة مصرحة بالإطلاق ، ولا يستلزم ذلك مجازية التخصيص على ما هو المبين
في مورده ، وعلى هذا فيتقدم العموم على المفهوم فيما إذا كانا في كلام واحد ، لأنه
بالوضع ، بخلاف المفهوم ، فان إحدى مقدمتيه مستفادة من الإطلاق. على انه لو سلم
توقف إطلاق المدخول على مقدمات الحكمة كان التنافي في المقام بين إطلاقين ، فلا
وجه لترجيح المفهوم على العموم ، لأن ثبوت كل منهما متوقف على الإطلاق ، فتكون
القضية مجملة.
واما ما أفاده قدسسره من عدم دلالة العام على إثبات العدل للشرط فيرده : ان
العام وان لم يكن متعرضا لبيان العدل بعنوانه إلّا انه يدل عليه بالالتزام ، فهو
نظير ما لو قال : «إذا بلت فتوضأ» ثم قال : «النوم ناقض للوضوء» فان المستفاد من
القضية الثانية ثبوت العدل للشرط المذكور في القضية الشرطية بالدلالة الالتزامية
لا محالة.
الإيراد الثاني :
ان المفهوم على تقدير ثبوته يكون حاكما على عموم التعليل ، ورافعا لموضوعه ، فكيف
يكون العموم مانعا عن انعقاد ظهور القضية فيه. وتوضيحه : ان القضية الحقيقية لا
تتكفل إثبات موضوعها ، لأنها حكم ثابت على الموضوع المفروض وجوده ، فإحراز ذلك لا
بد وان يكون من الخارج ، فإذا ورد دليل حاكم على العموم يكون مضيقا له لا محالة ،
فلا يعارضه العام ، لأن شمول العام لفرد متوقف على عدم ثبوت دليل حاكم مخرج لذلك
الفرد عن موضوع العام ، فلا يعقل أن يكون مانعا عنه ، والمقام من هذا القبيل ، فان
المفهوم في الآية حاكم على عموم العلة. نعم لو وقع التنافي بين المفهوم وعموم
العلة أمكن القول بكون العموم مانعا عن المفهوم ، كما لو قيل : «ان كان هذا رمان
فلا تأكله ، لأنه حامض» فعموم التعليل فيه يمنع عن أكل كل حامض ، ومفهوم الشرط
يقتضي جواز أكله ما لم يكن رمانا ، فيقع التنافي في كل حامض غير الرمان.
واما أفاده قدسسره متين جدا.
وكأن الشيخ أعلى
الله مقامه غفل عن خصوصية المقام ، وهي ان ثبوت المفهوم يخرج العمل بخبر العادل عن
موضوع العمل بغير العلم ، فكيف يعقل ان يكون العموم مانعا عنه. نعم لو لا ذلك كان
عموم التعليل مانعا عن ظهور القضية في المفهوم كما عرفت.
ومما ذكرناه يظهر
فساد ما في كلام بعض أعاظم مشايخنا قدسسره من استلزام تقديم
المفهوم على عموم
التعليل الدور بتقريب : ان ثبوت المفهوم متوقف على عدم انعقاد عموم العلة
لكونها متصلة ، فإذا خصصنا العموم بالمفهوم يلزم توقف الشيء على نفسه. ووجه فساده
ان ثبوت المفهوم غير متوقف على رفع اليد عن عموم التعليل وتخصيصه ، وانما يتقدم
عليه بالحكومة.
الثالث : من وجوه الإشكال
على الاستدلال بالآية ما أورده بعض الأعاظم ، وحاصله : ان التبين في الآية ان أريد به خصوص العلم الوجداني فلا
يمكن استفادة المفهوم ، لأن حجية العلم ذاتية ، ووجوب العمل به عقلي ، فالامر به
لا محالة يكون إرشادا ، ولا يستفاد المفهوم من الأمر الإرشادي. وان أريد به مجرد
الوثوق ، فيقع التنافي بين المفهوم والمنطوق ، فان المنطوق يوجب العمل بالموثق وان
كان المخبر فاسقا ، والمفهوم يقتضي حجية خبر العادل وان لم يكن موثقا ، كما إذا
أعرض الأصحاب عنه ، والمفروض ان العلماء بين من اعتبر العدالة في حجية الخبر ولم يكتف
بمجرد الوثوق ، وبين من اعتبر الوثوق ولم يعمل بخبر العادل الّذي أعرض عنه الأصحاب
، فاعتبار أحد الأمرين إحداث قول ثالث.
وفيه : أولا : انه
لا تنافي بين المنطوق والمفهوم ، فان المنطوق كما ذكر يفيد حجية خبر الثقة مطلقا ،
والمفهوم يقتضى حجية خبر العادل كذلك ، إلّا ان إطلاقه يقيد بما إذا لم يكن الخبر
معرضا عنه ، وهذا لا يستلزم التهافت بين المفهوم والمنطوق أصلا. ومن ذلك يظهر عدم
استلزام القول بدلالة الآية على حجية خبر العادل احداث قول ثالث.
وثانيا : ان ما
ذكره من كون الأمر بالتبين إرشاديا على تقدير كون التبين بمعنى العلم لاستقلال
العقل بحجيته غير تام ، فان ما يظهر من الآية انما هو وجوب تحصيل
__________________
العلم عند إرادة
العمل بخبر الفاسق ، لا وجوب العمل على طبق العلم ليكون حكم الشارع به إرشاديا.
الرابع : من وجوه
الإشكال ان مورد الآية هو الاخبار بارتداد بني المصطلق ، ولا إشكال في عدم
الاعتداد بخبر الواحد إذا كان المخبر به هو ارتداد شخص واحد فضلا عن ارتداد جماعة
ولو كان المخبر عادلا ، فلو كان للآية مفهوم وجب تخصيصه بغير المورد ، وهو أمر
مستهجن.
وأجاب عنه الشيخ رحمهالله بما حاصله : ان الموضوع لوجوب التبين عن النبأ هو طبيعي الفاسق ، لا
الفاسق الواحد ، فيلزم ان يكون الموضوع في المفهوم أيضا طبيعي العادل ، وإطلاقه
شامل للواحد والأكثر ، إلّا انه قيد في خصوص المورد بالتعدد ، ولا يخرج بذلك عن
المفهوم.
وأورد عليه بعض
الأعاظم بما ذكره سابقا من ان التبين ان كان بمعنى العلم كان الأمر إرشاديا. وان
كان مجرد الوثوق لزم خروج المورد عن الحكم المستفاد من المنطوق ، ضرورة عدم جواز
الاعتماد على خبر الفاسق الموثوق به في مثل ذلك ، وهو قبيح.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم من ان الواجب في الآية هو تحصيل العلم ، لا العمل به ، انّ معنى التبين
لغة هو الظهور والوضوح ، يقال : بان الشيء وتبين إذا ظهر ، فالامر بالتبين امر
بطلب الظهور والوضوح ، والظهور الطبعي انما يكون بالعلم الوجداني ، واما في غيره
فان دل دليل على التعبد به وتنزيله منزلة العلم فهو ظهور تعبدا ، وعليه فعدم لزوم
التبين عن خبر العادل الثابت بالمفهوم يدل بالملازمة العرفية على حصول الوضوح به ،
كما ان ما دل على اعتبار البينة في الموارد الخاصة يفيد عدم كون خبر
__________________
العدل الواحد فيها
ظهورا ووضوحا ، وان الوضوح فيها لا يكون إلا بشهادة عدلين.
ثم انه قد أشكل بعضهم على أصل حجية خبر
الواحد بأمرين :
الأول : انه لو
كان خبر الواحد حجة لزم قبول قول السيد المرتضى قدسسره الناقل للإجماع على عدم حجيته.
وفيه : أولا : ما
تقدم من انّ حجية الخبر منحصرة بما إذا كان الاخبار مستندا إلى الحس لا إلى الحدس
، وخبر السيد حدسي.
وثانيا : ان نقله
معارض بما حكاه الشيخ الطوسي من الإجماع على الحجية ، فيتعارضان ، وأدلة الحجية
غير شاملة للمتعارضين.
وثالثا : انه
يستحيل شمول دليل حجية الخبر لنقل السيد ، فانه يلزم من وجوده عدمه ، إذ لو كان
خبر السيد حجة لزم عدم حجية كل خبر لا يفيد العلم ، وبما ان خبر السيد بنفسه خبر
غير علمي لم يكن حجة ، فيلزم من حجية خبر السيد عدم حجيته.
وقد أورد على هذا
الوجه بان اخبار السيد بعدم حجية خبر الواحد لا يشمل نفسه ، وذلك لأن المحكي بخبر
السيد أعني به عدم حجية خبر الواحد في مرتبة سابقة على اخبار السيد ، ومن الظاهر
ان عدم الحجية لو كان حكما لخبر السيد أيضا كان متأخرا عنه تأخر الحكم عن موضوعه ،
وهذا خلف.
والجواب عنه : ان
للأحكام الكلية إنشائية كانت أو إخبارية مقامين : مقام الجعل على الموضوعات المقدر
وجودها ، ومقام الفعلية ، وهو الّذي يتوقف على فعلية الموضوع ، ويكون نسبة الموضوع
إليه نسبة العلة إلى المعلول ، فان جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية غير متوقف على
وجود الموضوع خارجا ، كوجوب الحج المجعول على المستطيع ، والحرمة المجعولة للخمر ،
ولو لم يكن في الخارج مستطيع ولا خمر ، وقد ذكرنا غير مرة ان كل قضية حقيقية تنحل
إلى قضية شرطية مقدمها ثبوت الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فتأخر الحكم عن
الموضوع انما يجري في
الأحكام الفعلية
دون الإنشائية ، وعلى هذا نقول : المحكي في خبر السيد انما هو عدم الحجية إنشاء ،
فلا يتوقف على وجود الموضوع في الخارج فضلا عن تأخره عنه.
وان شئت قلت :
المتأخر عن خبر السيد هو عدم الحجية الفعلية ، واما المتقدم على خبره فهو عدم
الحجية الإنشائية ، فلا خلف.
ثم ان المورد
المزبور ذكر وجها آخر لدفع أصل الإشكال ، وحاصلة ان خبر السيد كما لا يعمه ما حكاه
من عدم الحجية للمحال المذكور ، لا يمكن ان يحكم عليه بالحجية أيضا ، وذلك لأن
الحجية وعدم الحجية متناقضان ، والنقيضان في مرتبة واحدة ، فإذا كان عدم الحجية في
رتبة سابقة على خبر السيد كانت الحجية أيضا في الرتبة السابقة على خبره ، لفرض
مساواتهما في الرتبة ، فلو حكمنا عليه بالحجية لزم تأخرها عنه في الرتبة ، وقد
فرضنا ان عدم الحجية كان سابقا في الرتبة على الخبر ، هذا خلف.
وفيه : أولا : ان
المحكي بخبر السيد كما عرفت انما هو الحكم الإنشائي ، وهو غير متوقف على ثبوت
الموضوع ، فليس له تأخر رتبي عن الموضوع ، وكذلك نقيضه وهو الحجية.
وثانيا : قد تقدم
في مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده ان المتقدم أو المتأخر عن شيء زمانا
يتبعه مقارناته في التقدم والتأخر ، والسر فيه واضح ، فان ملاك التقدم أو التأخر
الزماني انما هو سبق بعض اجزاء الزمان على بعض ، وهو ثابت في المقارنات الزمانية
أجمع ، وهذا بخلاف السبق الرتبي ، فان ملاكه الموجب له ربما يتحقق في بعض مقارناته
في الرتبة ، وقد لا يتحقق ، مثلا وجود النار متقدم رتبة على الحرارة الناشئة منه
وعدم النار الّذي هو متحد مع وجوده في الرتبة لكونهما نقيضين ليس له سبق رتبي على
الحرارة أصلا ، لعدم العلية بينهما ، وعلى هذا فملاك تقدم عدم الحجية على اخبار
السيد كونه محكيا بنفس ذاك الخبر ، وهذا الملاك غير
موجود في الحجية ،
وهذا كما لو أخبر شخص بعدم حرمة الكذب شرعا ، فما أخبر به وهو عدم حرمة الكذب ولو
سلم أنه لا يشمل نفس إخباره لاستلزامه تقدم المتأخر وبالعكس إلّا انه لا مانع من
اتصافه بالحرمة لكونه فردا من افراد الكذب المحكوم بالحرمة شرعا.
فالجواب الصحيح :
عن أصل الإشكال أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ، ومع الإغماض عنها نقول : ان دليل
الحجية لا يشمل خبر السيد ، لدوران الأمر بين دخول خصوص خبر السيد تحت أدلة الحجية
وخروج ما عداه وبالعكس ، والثاني متعين ، لأن الأول يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن
، فانه على ذلك ينحصر مورد الآية بشخص خبر السيد ، مضافا إلى استلزامه بيان أحد
النقيضين بذكر النقيض الآخر ، أي بيان عدم حجية الخبر بلسان حجيته ، وهو قبيح ، إذ
لا معنى لجعل الحجية لخبر الواحد مطلقا ليثبت به حجية خبر السيد بعدم حجية خبر
الواحد.
ثم ان ما نسب إلى
بعض الأعاظم رحمهالله من دوران الأمر انما يكون بين شمول أدلة حجية الخبر لخبر
السيد والأخبار المتحققة قبله وبين شمولها لجميع الأخبار وخروج خبر السيد فقط ،
ولا يلزم من الالتزام بالأول تخصيص الأكثر المستهجن ، غير تام.
اما أولا : فلأنّ
المحكي بخبر السيد هو عدم حجية الخبر في الشريعة المقدسة في جميع الأزمنة ، لا
خصوص الأخبار المتأخرة ، فلو كان خبره حجة لزم عدم حجية أخبار الآحاد مطلقا.
وثانيا : لو سلمنا
ان ما أخبر به السيد هو عدم حجية الأخبار المتأخرة عن خبره ، كما إذا فرض أنه صرح
بذلك ، نقول : إن ما هو الملاك لحجية الاخبار المتقدمة بعينه موجود في الأخبار
المتأخرة ، فان الحجية ان كانت مجعولة لخبر الواحد في الشريعة فالاخبار المتقدمة
والمتأخرة في ذلك سواء ، وان لم تكن مجعولة له لم يفرق
بين المتقدم
والمتأخر ، فالتفصيل باطل لعدم القول بالفصل.
الثاني : مما أورد
على حجية الخبر ما ذكره الشيخ رحمهالله وهو مختص بالأخبار الحاكية لقول الإمام عليهالسلام بواسطة أو بوسائط ، كالأحاديث الموجودة في الكتب المؤلفة
من الأصول التي هي محل ابتلائنا ، ونستفيد منها ، فإذا تم الإشكال قلّت فائدة حجية
الخبر بالإضافة إلينا ، فان الأحاديث الواصلة إلينا من الراوي عن الإمام عليهالسلام بغير واسطة كما في أخبار الأصول الأولية نادرة أو معدومة ،
فلا يبقى أثر للبحث عن حجية خبر الواحد. وتقرير الإشكال من وجهين.
الوجه الأول : ان
موضوع كل حكم متقدم عليه رتبة ، ولذا قالوا ان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة
إلى معلولها ، فيستحيل ان يكون الحكم موجدا لموضوعه ، فإذا فرضنا ان حكما أوجد
موضوعا امتنع ثبوت ذلك الحكم له ، لاستلزامه تقدم المعلول على علته ، وفي المقام
الخبر المحرز لنا وجدانا انما هو خبر الكليني والشيخ ونحوهما مما ليس بيننا وبينهم
واسطة ، واما خبر من يروي عنه هؤلاء من الرواة المتقدمين إلى ان ينتهي إلى المعصوم
عليهالسلام فهو غير محرز لنا وجدانا ، بل هو ثابت بخبر الكليني بعد
شمول دليل حجية خبر العادل له ، فالحكم بحجية خبر العادل هو الّذي أثبت لنا ذلك
الخبر ، فهو متأخر عن هذا الحكم ، فيستحيل أن يكون موضوعا له.
الوجه الثاني : ان
التعبد بالمخبر به والحكم بلزوم تصديقه يتوقف على أن يكون ذلك بنفسه حكما شرعيا ،
أو يكون ذا أثر شرعي ليصح التعبد بلحاظه ، فان التعبد بدونهما يكون لغوا ، وحينئذ
نقول : إخبار الشيخ بخبر المفيد مثلا ليس إخبارا عن الحكم الشرعي ، كما انه مع قطع
النّظر عن التعبد بحجيته ليس ذا أثر شرعي ، إذ لا أثر
__________________
عملي لقول المفيد
من حيث هو ، فدليل الحجية لا يشمل مثل إخبار الشيخ عن خبر المفيد ، لأن المخبر به
ليس بحكم شرعي ولا ذا أثر شرعي مع قطع النّظر عن دليل حجية الخبر. وهذا الإشكال
سار في إخبار جميع سلسلة الرّواة. نعم نقل الراوي الأول عن نفس الإمام عليهالسلام بلا واسطة يترتب عليه الأثر العملي كما هو واضح ، وعليه
فتختص حجية الخبر بالنقل عن الإمام عليهالسلام بلا واسطة ، فلا يمكننا إثبات ما يهمنا من حجية الأخبار
الموجودة فيما بأيدينا.
والجواب أولا :
بالنقض بالإقرار على الإقرار فيما لو أقر المنكر باعترافه للمدعي سابقا ، وادعى انه
كذب في إقراره الأول ، فانه يؤخذ بإقراره ، ويثبت به الاعتراف الأول ، لقاعدة
الإقرار ، مع انه لا دليل على حجية الإقرار على الإقرار بخصوصه ، ولو كان ذلك
مستحيلا لم يعقل بناء العقلاء عليه. وينتقض أيضا بالبينة على البينة ، فانه يعمل
على طبقها ، لدليل حجية البينة ، ولو لا ذلك لانسد باب اعتبار السجلات والإسناد ،
فان الشهود الموجودين فيها ينقرضون بعد مدة ، فمن أين للمتأخر عنهم الوقوف على
شهادتهم وعدالتهم لو لا قيام البينة الثانية وحجيتها.
وثانيا : بالحل ،
وهو انه لو كان الحكم المنشأ واحدا شخصيا ، وقد ثبت لموضوعات عديدة ، وكان بعض
افراد الموضوع مستندا في وجوده إلى ذلك الحكم كان للإشكال المزبور مجال. واما لو
كانت هناك أحكام عديدة منشأة بإنشاء واحد على ما هو الشأن في القضايا الحقيقية ،
فلا ضير في أن يكون أحد تلك الأحكام وموجودا لموضوع الآخر ، وما نحن فيه من هذا القبيل
، فان حجية خبر العادل ووجوب تصديقه مجعول بنحو القضية الحقيقية ، فهناك أحكام
عديدة بحسب افراد الخبر وان كان مبرزها امرا واحدا ، فوجوب تصديق خبر الشيخ يثبت
لنا خبر المفيد ، ويترتب عليه حكمه ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أول الوسائط.
وبهذا يظهر : فساد
الإشكال من الوجه الثاني ، فان كلا من الوسائط يخبر عن
موضوع ذي أثر مع
قطع النّظر عن التعبد بتصديق العادل ، لوقوع جميع الحكايات في سلسلة إثبات قول
المعصوم عليهالسلام من وجوب أو حرمة ، ويجري ما ذكرناه في الإقرار على الإقرار
، والبينة على البينة.
وما أورد في
المقام على عموم دليل الحجية لخبر الوسائط من استلزامه اتحاد الحاكم والمحكوم عليه
بتقريب : أن أخبار الوسائط غير محرزة بالوجدان ، وإنما إحرازها بالتعبد بتصديق
العادل ، فشمول هذا الحكم لها مستلزم لحكومة وجوب تصديق العادل على نفسه ، غير تام
، فان الحكومة تكون على أقسام ثلاثة :
الأول : أن يكون
الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا للمحكوم ومبينا لما هو المراد منه بكلمة أعني ، وهذه
الحكومة قل ما توجد في الروايات.
الثاني : ان يكون
الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل في المحكوم كحكومة لا ضرر ولا حرج على الأحكام
الواقعية ، أو إلى عقد الوضع توسعة كقوله عليهالسلام في الفقاع هي خمرة استصغرها الناس» أو تضييقا كقوله عليهالسلام : «لا شك لكثير الشك» والحكومة بهذا النحو كثيرا ما توجد
في الأخبار.
الثالث : الحكومة
في تطبيق الموضوع على فرد إثباتا أو نفيا ، ومن هذا القبيل حكومة الأمارات على
الواقع ، وحكومتها على الأصول العملية ، وحكومة الأصل السببي على المسببي.
إذا عرفت هذا
فنقول : التعدد في دليل الحاكم والمحكوم انما يعتبر في القسمين الأولين ، واما في
القسم الثالث فلا حاجة إلى تعدد الدليل ، إذ الحكومة في الحقيقة انما تكون بين
الحكمين ، وقد فرض تعددهما ، كما في حكومة الأصل السببي على المسببي ، فان دليل
حرمة نقض اليقين بالشك وان كان واحدا إلّا انه منحل إلى أحكام عديدة
__________________
بعدد افراد اليقين
والشك ، فلا مانع من حكومة أحدها على الآخر ، كما في الثوب المتنجس المغسول بماء
كان متيقن الطهارة وقد شك في نجاسته بقاء.
تتميم :
قسم المتأخرون من
علمائنا الأعلام رضوان الله عليهم الأخبار على طوائف أربع.
الأول : الخبر
الصحيح ، وهو ما كان جميع رواته عدولا ، زكاهم علماء الرّجال ، وقد يعبر في كتب الرّجال
عن العادل بالثقة.
الثاني : الخبر
الضعيف المنجبر بعمل المشهور.
الثالث : الخبر
الموثق ، وهو ما كان رواته موثقين وان لم يكونوا إماميين ، ويدخل فيه خبر الفاسق
الموثق ، سواء كان إماميّا أم لم يكن.
الرابع : الخبر
الحسن ، وهو ما كان رواته من الإماميين الممدوحين بالخير والصلاح من دون أن يصرح
بعدالتهم .
اما الخبر الصحيح
فهو القدر المتيقن في دخوله تحت الآية الشريفة. والخبر الضعيف المنجبر بعمل
المشهور يمكن استفادة حجيته من منطوقها ، بتقريب : ان المراد من قوله عزّ شأنه (فتبينوا)
طلب الوضوح عن صدق خبر الفاسق الّذي لم يحرز تحرزه عن الكذب ، ومن طرق الوضوح
والتبين عمل المشهور بذلك الخبر ، فالعمل به بعد ذلك بالواضح المبين.
__________________
واما الخبر الموثق
والحسن فيستفاد حجيتهما من الآية بوجهين.
الأول : دعوى شمول
المفهوم لهما ، بتقريب : ان الموضوع فيها بمناسبة الحكم والموضوع هو الفاسق من حيث
عدم تحرزه عن الكذب ، لا من الحيثيات الأخر كشربه الخمر وعدم العدالة في القسمة
بين الزوجات وعدم الإنفاق عليهن إلى غيرها ، فان هذه الأمور أجنبية عن التبين عن
خبره ، فكأن الموضوع من لم يتحرز عن الكذب ولو كان فاسقا.
وهذا الوجه وإن
كان لا بأس به ، لكن الاعتماد عليه مشكل ، فإنّ الفاسق الموثوق به وإن كان مأمونا
في نوع اخباره ، إلّا أنه لا وثوق بصدقة في خصوص خبره الّذي هو محل الابتلاء
بالعمل على طبقه ، إذ ربما يكون ارتكابه لبقية المعاصي موقعا له في الكذب ، بخلاف
العادل فان كذبه مناف لعدالته ، فهو مأمون من الكذب ، وعليه فتحرز الفاسق نوعا عن
الكذب لا يكفي في حجية خبره بعد احتمال كذبه في خصوص خبر من أخباره.
اللهم إلّا أن
يقال : إن موضوع وجوب التبين في الآية إنما هو خبر الفاسق مع قطع النّظر عن خصوص
خبره ، فمفهومها عدم وجوب التبين عن خبر العادل مع قطع النّظر عن خصوص خبره ،
المحتمل صدقه وكذبه ، فإذا فرضنا ان المراد بالفاسق بمناسبة الحكم والموضوع من لم
يتحرز عن الكذب دلت الآية على وجوب تصديق اخبار من كان متحرزا عن الكذب في نفسه
وان احتمل كذبه في خصوص خبره هذا.
ويمكن ان يقال :
ان ظاهر الآية المباركة تعليق وجوب التبين على كون المخبر فاسقا ، ومن المحتمل أن
يكون عدم تحرز الفاسق عن الكذب نوعا حكمة لإيجاب التبين عن خبره مطلقا ولو كان
المخبر بخصوصه مأمونا من الكذب ، وعليه فلا تدل الآية على حجية خبر الموثق إذا كان
فاسقا.
الثاني : إدخالهما
تحت منطوق الآية ، وتقريبه : ان التبين كما يحصل بالفحص عن نفس الخبر يحصل بالفحص
عن حال المخبر والراوي ، فان إحراز وثاقته قسم من التبين وبعد ذلك يكون العمل
بالخبر عملا بالمبين الواضع. ويشهد لهذا بناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه ، بل
امره عليهالسلام بالأخذ منهم ، كقوله في بني فضال (خذوا ما رووا وذروا ما
رأوا) .
فتحصل ان المستفاد
من الآية حجية خبر الواحد بجميع اقسامه الأربعة.
ومنها : أي مما استدل به على حجية خبر
الواحد آية النفر ، وهي قوله تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وتقريب الاستدلال بها : ان ظاهر تقابل الجمع بالجمع هو
الاستغراق والتفريق ، بمعنى انّ كل واحد من الطائفة ينذر بعضا من قومه ، لا انّ
مجموع الطائفة ينذرون مجموع القوم ، كما ان طبع الحال أيضا يساعد على ذلك ، فان
الطائفة الخارجة للتفقه إذا رجعوا إلى أوطانهم لا يجتمعون عادة في ناد واحد
ليرشدوا القوم دفعة ، وانما يذهب كل منهم إلى خاصته ، فيلقي عليهم الدروس الإلهية
، وعليه فالتفقه والإنذار واجب على كل فرد من افراد الطائفة ، وغاية ذلك هو تحذر
المنذورين.
ثم ان ظاهر :
الحذر هو التحفظ والتجنب في مقام العمل ، كما يتجنب الخائف ، لا مجرد الخوف
النفسانيّ. كما ان كلمة لعل في جميع موارد استعمالاتها ظاهرة في كون ما بعدها علة
غائية لما قبلها ، سواء كان امرا خارجيا كقولك : «اشتريت الدار لعلي أسكنها» أم
كان حكما مولائيا كما في المقام. وعلى الثاني فان كان ما بعدها امرا غير قابل
لتعلق التكليف به كما يقال : «استغفر الله لعله يغفر لك» فيستفاد منها حسن تلك
__________________
الغاية ، وأما إذا
كان ما بعدها امرا قابلا لذلك فنفس الكلام يدل على كونه محكوما بحكم ما قبله من
وجوب أو استحباب ، بداهة ان الغاية الموجبة لا يجاب امر آخر تكون بنفسها واجبة
بالطريق الأولى.
إذا وضح ما ذكرناه
فقد ظهر دلالة الآية بمنطوقها على وجوب العمل بقول المنذر المتفقه وان لم يحصل
العلم ، ولا الاطمئنان بصدقة ومطابقة قوله للواقع ، بل دلالتها أظهر من آية النبأ
، غايته انها تدل على حجية مطلق الخبر ، فيقيد بما دل على اعتبار العدالة في
المخبر.
وقد أورد على
الاستدلال بها بإيرادات.
الأول : ان الآية
انما سيقت لبيان النفر والإنذار ، لا ترتب الحذر عليه ، فليس لها إطلاق من حيث
وجوب الحذر ، حتى حكى عن شرح الأربعين ما ملخصه : ان الاستدلال لحجية الخبر بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من حفظ على أمتي
أربعين حديثا بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» ليس بأدون من الاستدلال عليها بآية النفر ، وحينئذ
فالمتيقن من مورد وجوب الحذر خصوص ما لو حصل للمنذر ـ بالفتح ـ اطمئنان من الخارج
أو من نفس الخبر لاحتفافه بقرينة قطعية.
وفيه : أولا : ان
تخصيص وجوب الحذر عند إنذار المنذر بما إذا حصل الاطمئنان بصدقة مناف لأخذ عنوان
الإنذار موضوعا للحكم ، فان العمل حينئذ انما هو بالاطمينان من دون خصوصية للإنذار
، وذلك يستلزم رفع اليد عن عنوان الموضوع ، وهو خلاف ظاهر الدليل ، ومن هنا قدمنا
أدلة عاصمية الماء الجاري على أدلة انفعال الماء القليل ، وبنينا على عدم انفعال
الجاري القليل مع ان النسبة بينهما عموم من وجه ، والوجه فيه ان تقديم أدلة
الانفعال يستلزم إلغاء عنوان الجاري
__________________
بالكلية ، وهو
خلاف ظاهر أدلته. هذا مضافا إلى أن تخصيص وجوب الحذر بموارد الاطمئنان من التخصيص
بالفرد النادر ، وهو مستهجن.
وثانيا : ان ما
ذكر من عدم حصول إطلاق للآية من حيث وجوب الحذر خلاف الظاهر ، فان ظاهر الآية
المباركة هو بيان وظيفة المنذرين والمنذرين ، فكما ان إطلاقها يقتضي وجوب الإنذار
ولو مع العلم بعدم حصول اليقين بصدقة ، كذلك يقتضي وجوب الحذر في فرض احتمال كذب
المنذر أو خطائه. هذا مضافا إلى أنّ الأصل في كلام كل متكلم أن يكون في مقام
البيان ، ولا بد للمانع عن التمسك بالإطلاق من إثبات عدم كون المتكلم في مقام
البيان ، وانّى له بذلك.
الثاني : ان
الإنذار بمعنى التخويف وظيفة الواعظ والمفتي ، فان الواعظ ينذر الناس بالأمور
الواضحة المسلمة ، كما ان المفتي ينذرهم بالأمور النظرية الخلافية بعد الاستنباط ،
واما مجرد نقل الخبر فلا إنذار فيه ، إذ ربما ينقل الراوي مجرد الألفاظ من دون
فهمه المعنى لينذر به ، وقد ورد عنهم عليهمالسلام «رب حامل فقه إلى
من هو أفقه منه».
وفيه : انه ان
أريد بالإنذار الإنذار الاستقلالي فالراوي وان خرج عن مورد الآية إلّا انه يستلزم
انحصاره بالواعظ الّذي ينذر ابتداء ، ولا يعم المفتي ، وهو مناف لقوله تعالى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وان أريد به ما يعم الإنذار الضمني فالراوي أيضا يكون
منذرا بنقله الرواية فتكون الرواية ، حجة عند تحقيق الإنذار بها ، وبعدم القول
بالفصل يثبت حجية مطلق الرواية ولو مع عدم تحقق الإنذار بها ، كما إذا لم يكن
الراوي ملتفتا إلى معنى الرواية لكونه عاميا أو الرواية مجملة.
الإيراد الثالث :
ان الإنذار الّذي رتب عليه وجوب الحذر انما هو الإنذار عن تفقه ومعرفة في الدين ،
لا مطلق الإنذار ولو كان ناشئا عن غير التفقه ، فيختص مورد الآية بما إذا أحرز كون
الإنذار ناشئا عن التفقه ، وبدونه يكون التمسك بالآية من التمسك بالعموم في الشبهة
المصداقية.
وفيه : ان مرجع
هذا الإيراد إلى الإيراد الأول ، والجواب عنه هو الجواب ، ونفس التعبد بالإنذار
يثبت كونه إنذارا بما تفقه فيه كما هو واضح.
الإيراد الرابع :
انه أخذ في الآية عنوان التفقه ، ففي الحقيقة يكون موضوع الحكم هو الفقيه ، وما
يجب التحذر عنه انما هو إنذاره بما هو فقيه ، فلا يعم إنذار الراوي ، بما هو راوي
، ولا يمكن التمسك في المقام بعدم القول بالفصل بين حجية قول الفقيه ورواية الراوي
، لعدم ارتباط أحد الأمرين بالآخر. واما القول بان الفقه لغة هو الفهم ، وإرادة
الاستنباط منه خروج عن المعنى الموضوع له اللفظ ، فهو مدفوع بورود تفسيره بذلك في
كلماتهم عليهمالسلام مثل قوله عليهالسلام «أنتم أفقه الناس
إذا عرفتم معاني كلامنا» وهذا أمتن الإيرادات في المقام.
وفيه : ان الفقاهة
في الصدر الأول لم تكن من الصعوبة بهذه المرتبة الثابتة في عصرنا ، فانها حصلت من
كثرة الروايات ، وتعارضها في أبواب العبادات ، وقلة الأدلة في المعاملات ، فالسلف
من الرّواة كان يصدق عليهم الفقيه بمجرد سماع الحديث وتحمله ، لكونهم في الغالب من
أهل اللسان ، فكانوا فقهاء فيما ينقلونه ، وبمقتضى ظهور الآية تكون روايتهم حجة
لنا بما انهم رواة ، وإذا ثبتت حجية خبر فقهائهم بما هم رواة ثبتت حجية خبر الراوي
غير الفقيه بعدم القول بالفصل.
ثم انه استدل على حجية الخبر بوجوه لا
دلالة فيها.
منها : آية
الكتمان. والاستدلال بها مبني على ثبوت الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب العمل
بالخبر ، وإلّا لزم لغوية تحريم الكتمان ، ومن ثم حكموا بحجية قول المرأة في كونها
حاملا تمسكا بقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) فانه بالملازمة العرفية يدل على حجية قولهن في ذلك.
__________________
وفيه : أولا : ان
مورد إحدى الآيتين لا يقاس بالآخر ، فان طريق إحراز ما في الأرحام منحصر بإخبارهن
، ولولاه لكان ذلك أمرا خفيا ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان تحريم الكتمان فيه
إنما هو في شأن علماء اليهود ، الذين أخفوا على الناس ما كان ظاهرا بينا جاء به
التوراة من صفات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعثه وأحواله ، كما أخفى بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر الغدير مع وضوحه بين المسلمين في نفسه ، فالغرض من
تحريم الكتمان انما هو وضوح الحق وظهوره لعامة الناس بإخبارهم ، لا مجرد التعبد
بقولهم كما هو المطلوب. ومما يشهد لورود الآية في حرمة ستر ما هو ظاهر في طبعه
قوله سبحانه في ذيلها (مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) أي أظهرناه لهم ، فلا ربط لها بوجوب العمل بالخبر الّذي هو
إظهار ما هو خفي في نفسه.
وثانيا : ان موضوع
حرمة الكتمان في الآية عام استغراقي ، فيحرم الكتمان على كل واحد واحد منهم ،
وربما يحصل من اخبار جميعهم القطع ، كما يحصل من الخبر المتواتر ، وعليه فيحتمل أن
يكون ذلك ملاك حرمة الكتمان ، فلا ملازمة بينها وبين وجوب القبول ، كما كانت في
آية حرمة كتمان النساء.
فان قلت : ان
مقتضى إطلاق الآية حرمة الكتمان ولو مع تيقن المخبر بان إخباره لا يفيد القطع
للسامعين ، ولا ينضم إلى خبره اخبار غيره ممن يكتم اخباره ، فيدل على وجوب القبول
بالملازمة.
قلت : ان المصلحة
النوعية الداعية للتكليف لا يلزم ان تكون سارية في جميع الموارد ، ولا يلزم
الاطراد في الحكمة ، ولذا تجب العدة على المطلقة ولو كانت عقيما ، مع ان الحكمة في
تشريع العدة عدم اختلاط المياه ، وكذلك يجب على الشاهد أن يشهد عند الحاكم إذا طلب
منه الشهادة ولو علم بعدم انضمام الشاهد الثاني إليه ، مع ان حكمة وجوب الشهادة
حفظ حقوق الناس.
ومنها : آية
الذّكر ، وهي قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وفي آية أخرى (بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ). وتقريب الاستدلال بها واضح.
وأورد عليه الشيخ رحمهالله بان أهل الذّكر ظاهر في العلماء ، وحجية قولهم لا تستلزم حجية خبر الراوي.
وأجاب في الكفاية بأن أغلب الرّواة في الصدر الأول كانوا فقهاء ، وإذا ثبت
حجية قولهم بالآية يثبت حجية اخبار غيرهم أيضا بعدم القول بالفصل.
وفيه : أنه لا
ملازمة بين حجية قول الفقيه بما هو فقيه وحجية خبر الواحد ، ويحتمل وجود القائل
بالتفصيل.
فالأولى في الجواب
ان يقال : ان المراد من أهل الذّكر وان كان هم العلماء إلّا ان لكل علم أهل بحسبه
، فالرجاليون أهل علم الرّجال ، والفقهاء المجتهدون أهل علم الاستنباط والفقه ،
وأهل علم الرواية والحديث هم الرّواة المحدثون ، إما مطلقا أو إذا فهموا منها
المراد ، فتعم الآية اخبارهم بما انهم رواة لا بما هم فقهاء ، فهي تدل على حجية
قول الراوي اما مطلقا أو في خصوص ما إذا كان عارفا بمعناه ، ويثبت حجية اخبار غيره
من الرّواة الّذي لا يفهمون معنى الحديث بعدم القول بالفصل.
ويرد على
الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد ان ظاهر تعليق الأمر بالسؤال على عدم العلم
ان الغاية منه حصول العلم بالجواب ، ولا أقل من الاطمئنان ، ونظير ذلك أن يقال :
ان كنت لا تدري الأمر الفلاني فاسأل العارف به ، فان المفهوم منه حصول العلم
بجوابه ، لا التعبد بقوله ، فلا دلالة فيها على حجية الخبر
__________________
تعبدا.
وكيف كان فالصحيح
: ان الآيتين نزلتا في علماء اليهود. وقد وردت روايات في تفسير أهل الذّكر بالأئمة
الطاهرين عليهمالسلام ولا يبعد أن يقال : ان أهل الذّكر عنوان عام يشمل الجميع ،
ويختلف باختلاف الموارد ، فأهل الذّكر في مقام إثبات النبوة وما وصف الله به نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم في الكتب السماوية هم علماء اليهود والنصارى ، وفي هذا المقام
لا يراد الأئمة عليهمالسلام من أهل الذّكر ، لأن إثبات كونهم من أهل الذّكر فرع ثبوت
النبوة ، فكيف يمكن إثباتها بالسؤال عنهم. نعم بعد إثبات النبوة لا بد لمن يريد
القرب والزلفى من المولى سبحانه ان يسأل الأئمة عليهمالسلام فهم أهل الذّكر في هذا المقام ، كما ان أهل الذّكر في عصر
الغيبة هم الرّواة بالقياس إلى الفقهاء ، والفقهاء بالإضافة إلى عامة الناس ،
فالمعنى واحد والاختلاف في المصاديق باختلاف الموارد. وعلى كل حال لا دلالة في
الآية على المطلب لما تقدم.
ومنها : قوله
تعالى في مدح النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وبيان صفته الحميدة (وَيَقُولُونَ هُوَ
أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) فمدحه بتصديقه المؤمنين ، فلو لم يكن مطلق تصديقهم أمرا
حسنا لما مدح نبيه الأقدس بذلك.
وفيه : أنه لا
ملازمة بين تصديق المخبر وبين العمل على طبق قوله ، إذ قد يراد من تصديقه عدم
المبادرة والمبارزة له بالتكذيب ، وهذا أمر أخلاقي دلت عليه جملة من الروايات ،
كقول الصادق عليهالسلام : «إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم» وقوله عليهالسلام : «كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة ،
وقال : «قولا
__________________
فصدقه وكذبهم» ومن الواضح عدم إرادة التصديق العملي من ذلك ، وإلّا لم
يكن وجه لتقديم قول الواحد على قول خمسين ، فالمراد بتصديقه عدم المبارزة له
بالتكذيب بترتيب أثر الكذب على خبره. ومما يشهد لذلك مورد نزول الآية ، ففي تفسير
علي بن إبراهيم القمي انها نزلت في عبد الله بن نفيل ، فانه كان يسمع كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وينقله إلى المنافقين ، حتى أوقف الله نبيه على هذه
النميمة ، «فأحضره صلىاللهعليهوآلهوسلم وسأله ، فحلف انه لم يكن شيء مما ينم عليه ، فقبل منه
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخذ هذا الرّجل يطعن عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقول : انه يقبل كل ما يسمع ، أخبره الله اني أنمّ عليه
وأنقل اخباره فقبل ، وأخبرته اني لم أفعل فقبل ، فرده الله بقوله لنبيه : قل اذن
خير لكم» ومن المعلوم ان تصديقه صلىاللهعليهوآلهوسلم للمنافق لم يكن إلّا بعدم إظهار تكذيبه.
وقد استشهد الشيخ قدسسره على ما ذكرناه باختلاف السياق ، فذكر ان تعدي كلمة يؤمن في
الجملة الأولى بالباء وفي الجملة الثانية باللام دليل على اختلاف ما أريد من
الإيمان والتصديق .
وفيه : ان الإيمان
بمعنى التصديق ، فان كان التصديق متعلقا بوجود شيء فالتعدية تكون بالباء ، ومنه
قوله تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) وان كان متعلقا بقول الشخص فالتعدية تكون باللام ، ومنه
قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا) وحينئذ فتعدية الإيمان باللام في الآية الكريمة بالإضافة
إلى المؤمنين تدل على إرادة تصديق قولهم.
__________________
لا يقال : على هذا
لا يناسب تعدية كلمة يؤمن في الجملة الأولى بالباء ، فان المصدق به فيها انما كان
قوله عزّ شأنه.
فإنه يقال : لما
كان لفظ الله عاما لذات الواجب المستجمع لجميع الصفات والكمالات فالتصديق بوجوده
ملازم للتصديق بقوله ، فلهذه النكتة جعل المصدق به نفسه تعالى ، وفي ذلك إشارة إلى
استلزام الإيمان بذاته الإيمان بقوله ، ولو كانت التعدية باللام لم يستفد منها
إلّا الإيمان بالقول فقط. وعلى أي تقدير لا تكون الآية دالة على حجية الخبر.
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالروايات :
الوجه الثاني :
مما استدل به على حجية خبر الواحد الروايات. وقد رتبها الشيخ قدسسره على طوائف أربع.
الأولى : الاخبار
الواردة في علاج الاخبار المتعارضة ، وربما تبلغ إلى أربعة عشر خبرا. ومن الواضح
ان هذه الاخبار لم ترد في الخبرين المقطوع صدورهما ، لبعد وقوع المعارضة بين
مقطوعي الصدور أولا ، ولأن قول الراوي «يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان»
ظاهر في السؤال عن مشكوكي الصدور ثانيا ، مضافا إلى ان المرجحات المذكور فيها
لا تناسب تعارض مقطوعي الصدور ، فيظهر من هذه الروايات ان وجوب العمل بالخبر في
نفسه كان مفروغا عنه عند الأئمة عليهمالسلام وأصحابهم ، وانما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة ، ولذا
أرجعهم إلى المرجحات أو التخيير.
الطائفة الثانية :
الاخبار الآمرة بالرجوع إلى اشخاص من الرّواة ، كقوله عليهالسلام
__________________
«عليك بالأسدي» يعني أبا بصير وقوله عليهالسلام «إذا أردت حديثنا
فعليك بهذا الجالس» مشيرا إلى زرارة وقوله عليهالسلام «فما يمنعك من
الثقفي» وهو محمد ابن مسلم وقوله عليهالسلام «عليك بزكريا ابن
آدم المأمون على الدين والدنيا» إلى غير ذلك ، ومن الظاهر ان الإرجاع إليهم لم يكن لمجرد
أخذ الفتوى ، بل يعم الرجوع إليهم في الحديث ، كما صرح بذلك في بعضها.
الطائفة الثالثة :
الاخبار الآمرة بالرجوع إلى ثقاتهم بهذا العنوان كقوله عليهالسلام «لا عذر لأحد من
موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» .
الطائفة الرابعة :
الاخبار الواردة بألسنة مختلفة التي يمكن استفادة المطلوب منها.
ثم لا يخفى ان
الاستدلال بهذه الاخبار على حجية خبر الواحد انما يتم بعد ثبوت تواترها لتكون
مقطوعة الصدور ، وإلّا فإثبات الحجية بها دوري.
فنقول : ينقسم
التواتر إلى أقسام ثلاثة.
الأول : التواتر
اللفظي. وهو اتفاق الناقلين الذين يمتنع اجتماعهم على الكذب عادة في نقل ألفاظ
الخبر وعباراته ، كتواتر صدور ألفاظ الكتاب على لسان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتواتر صدور قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه».
الثاني : التواتر
المعنوي. وهو اتفاقهم على نقل مضمون واحد وان اختلفوا في نقل الألفاظ ، سواء كانت
دلالة ألفاظهم على المضمون بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام ، كالاتفاق على
شجاعة أمير المؤمنين عليهالسلام فان الاخبار الحاكية لإقدامه في الحروب ومنازلته الأقران
في مغازي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأيامه وان لم تكن متواترة في كل قضية بخصوصها إلّا ان
المستفاد من مجموعها مطابقة والتزاما هو القطع برباطة
__________________
جأشه.
الثالث : التواتر
الإجمالي. وهو ورود روايات يعلم بصدور بعضها من دون اشتمالها على مضمون واحد.
وقد أنكر المحقق
النائيني قدسسره التواتر الإجمالي بدعوى : انا لو وضعنا اليد على كل واحد
واحد من تلك الاخبار نراه محتملا للصدق والكذب ، فأين الخبر المقطوع صدوره .
والتحقيق : ان
التواتر الإجمالي مما لا ينبغي إنكاره ، وما ذكره في احتمال الكذب في كل خبر
بخصوصه غير مضر بثبوت التواتر في الجملة ، كما هو الحال في التواتر المعنوي بل
اللفظي ، لأن كل واحد من الاخبار في نفسه محتمل للصدق والكذب. وبالجملة لا ريب في
ان كثرة الاخبار المختلفة ، وانضمام بعضها إلى بعض ربما يصل إلى حد يقطع بصدور
بعضها وان لم يميز بعينه ، والوجدان أقوى شاهد عليه ، والمثال الواضح لذلك انه لا
يشك أحد في صدور جملة من الاخبار الموجودة في كتاب الوسائل إجمالا ، ولا في صدق
بعض ما يتحقق في البلد الواحد في اليوم والليلة من الحكايات والاخبار.
نعم يبقى مجال
السؤال عن الفائدة المترتبة على التواتر الإجمالي مع عدم الجامع بين تلك الاخبار.
والجواب عنه :
بتحقق الأثر فيما إذا وجدت جهة مشتركة بينها ، كما في ما نحن فيه ، فانه لو تمت
دعوى تواتر الاخبار الدالة على حجية الخبر الموثق بخصوصه معنى ، كما ذهب إليه
المحقق النائيني ، وهو غير بعيد ، يثبت حجية خبر الموثق مطلقا ، وإلّا فالتواتر الإجمالي
يقتضي حجية الأخص منها ، المشتمل على جميع
__________________
الخصوصيات
المعتبرة في تلك الاخبار ، إذ بعد ثبوت تواتر أدلة الحجية إجمالا يؤخذ من كل منها
الخصوصية المأخوذة فيه ، فيحكم بحجية الخبر الواجد لمجموع تلك الخصوصيات. وتوهم
كون هذا من التواتر المعنوي واضح الفساد ، بعد ما فرض أن كل طائفة من الاخبار
اعتبرت قيدا مغايرا لما اعتبرته الأخرى.
ثم ان المحقق
النائيني أفاد ان الأخص في هذه الاخبار هو ما دل على حجية الخبر
الموثوق به ، فبناء على تواترها الإجمالي أيضا يثبت حجيته.
وفيه : ما لا يخفى
، إذ ظاهر جملة منها اعتبار العدالة في الراوي كقوله عليهالسلام «زكريا ابن آدم
المأمون على الدين والدنيا» وقوله عليهالسلام «خذ بأعدلهما» وفي
جملة منها ما هو ظاهر في اعتبار كونه إماميّا كقوله عليهالسلام «لا عذر لأحد من
موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا» فان الإضافة ظاهرة في ذلك ، وفي جملة
أخرى ما هو ظاهر في اعتبار الوثاقة ، وعليه فالأخص هو الجامع للعدالة وكونه
إماميّا موثقا ، فبناء على التواتر الإجمالي لا يستفاد من الاخبار إلّا حجية الخبر
الصحيح الأعلائي ، كما هو مختار صاحب المدارك.
ولكن الّذي يسهل
الخطب ما أفاده في الكفاية وأجاد ، بأنّ المتيقن من هذه الاخبار انما هو حجية الخبر
الصحيح ، وفي جملتها خبر صحيح يدل على حجية الموثق مطلقا ، فيثبت حجية خبر الموثق
بواسطة واحدة. نعم لا تشمل هذه الاخبار الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب ، فان
مقتضاها اعتبار وثاقة الراوي لا الخبر ، ولكنا أثبتنا حجيته بمنطوق آية النبأ.
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالإجماع :
الوجه الثالث :
مما استدل به على حجية خبر الواحد الإجماع. وتقريره من
__________________
وجوه.
الأول : الإجماع
المنقول من الشيخ الطوسي على حجية اخبار الآحاد.
الثاني : الإجماع
القولي على ذلك من غير السيد المرتضى وابن إدريس وأتباعهما ، مع عدم الاعتناء
بخلافهم.
الثالث : الإجماع
القولي من جميع العلماء حتى المانعين ، بدعوى : انهم انما ذهبوا إلى المنع
لاعتقادهم انفتاح باب العلم ، فلو كانوا في زماننا المنسد فيه باب العلم لعملوا
بخبر الواحد جزما.
الرابع : الإجماع
العملي من العلماء كافة ، فانهم بنوا على العمل بالأخبار التي بأيدينا ، ولم يخالف
فيه أحد.
الخامس : الإجماع
العملي على ذلك من المتشرعة من زمان الصحابة إلى الآن ، فيكون كاشفا عن رضا الشارع
، لكونه رئيسهم.
والإنصاف : عدم
الاعتبار بشيء من هذه الوجوه ، لأن شيئا منها لا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي
المعصوم عليهالسلام فان عمل جمة من المجمعين بهذه الاخبار من جهة كونها مقطوعة
الصدور عندهم ، وجملة منهم عملوا بما في الكتب الأربعة لاعتقادهم صحة جميع ما فيها
، حتى قال بعضهم ان الخدشة بضعف السند في الاخبار الموجودة فيها حرفة العاجز.
فالصحيح : ان عمل
أصحاب الأئمة التابعين باخبار الآحاد الموثقات وان لم يكن قابلا للإنكار إلّا انه
لا يكشف عن الحجية التعبدية ، بل من المحتمل قويا ان الوجه في عملهم بالأخبار سيرة
العقلاء ، واتفاقهم على العمل بخبر الثقة ، ومن أجلها كان يحتج بعضهم على بعض من
غير نكير ، والشارع المقدس بما انه رئيس العقلاء يجري على الطريقة المستمرة
العقلائية ، وما لم يثبت ردعه عنها يستكشف إمضاؤه الطريقة المستمرة ، والوجه في
ذلك : انه لو كان رادعا عنه لوصل إلينا ذلك ، كما وصل
منعه عن العمل
بخبر الواحد في موارد مخصوصة ، وعن القياس ، مع انه ليس في الحجية عند العقلاء
كخبر الموثق ، ولا يعمل به معشار ما يعمل بخبر الواحد ، ومع هذا بلغت الروايات المانعة
عن القياس إلى خمسمائة حديث ، فلو صدر عن الأئمة عليهمالسلام ردع عن العمل بخبر الموثق لاشتهر وشاع بين حفاظ الحديث ،
وأثبته أرباب الجوامع في مؤلفاتهم.
وبالجملة هذه
السيرة العقلائية وعدم الردع عنها بخصوصها غير قابلة للإنكار. وانما الإشكال في ان
الإطلاقات الناهية عن العمل بغير العلم هل تصلح رادعة ومانعة عن العمل بخبر الثقة؟
فيه كلام. وقد أفاد في الكفاية ، وفيما كتبه على الهامش عدم صلاحيتها لذلك ، وذكر
له وجوها.
الأول : ما في
المتن من استلزامه الدور ، فان رادعية العمومات عن السيرة متوقفة على ان لا تكون السيرة
مخصصة لها ، وإلّا فلا تشملها ، وعدم كونها مخصصة لها متوقف على كون العمومات
رادعة عنها. ثم أورد على نفسه بما حاصله : ان إثبات حجية خبر الثقة بالسيرة أيضا
دوري ، فان إثبات حجية الخبر بالسيرة للعمومات ، وهو موقوف على عدم الردع ، وهذا
دور. وأجاب عنه : بمنع المقدمة الأخيرة ، فان تخصيص العمومات بالسيرة غير متوقف
على عدم الرادع واقعا ، بل على عدم ثبوته ، فلا يلزم الدور من تخصيص العمومات
بالسيرة ، بخلاف العكس.
وفيه : أولا : انه
لو كان عدم وصول الردع كافيا في تخصيص العمومات بالسيرة لكفى عدم ثبوت التخصيص في
حجية العمومات وصلوحها رادعة عن السيرة بطريق أولى ، فان الدليل العام أو المطلق
حجة ببناء العقلاء ما لم تثبت حجة أخرى على خلافه ، بخلاف السيرة المتوقفة حجيتها
على الإمضاء ، وعليه فلا وجه
__________________
لتقديم السيرة
وتخصيص العمومات بها.
وثانيا : ان عدم
ثبوت الردع غير كاف في تخصيص العمومات بالسيرة ، بل لا بد من إثبات الإمضاء
المنكشف من ثبوته عدم الرادع ولو بدعوى ان عدم الدليل دليل العدم ، وإلّا فمجرد
السيرة العقلائية من دون إمضاء شرعي لا تكون حجة في إثبات التكليف ، ولا قاطعة
للعذر في إسقاطه ، وعليه فيمكن ان يقال : ان الأمر في الحقيقة على خلاف ما أفاده قدسسره فان تخصيص السيرة للعمومات يتوقف على ثبوت الإمضاء ، وهو
متوقف على عدم رادعية الآيات المتوقف على التخصيص ، وهذا بخلاف العكس ، لما عرفت
من ان حجية العموم لا تتوقف إلّا على عدم ثبوت التخصيص ، لا على ثبوت عدمه.
الوجه الثاني : ما
أفاده في الهامش ، وحاصله : انه بعد تسليم صلاحية كل من العمومات والسيرة
لرفع اليد به عن الآخر فيتعارضان ، ويتساقطان ، أو القول بعدم صلاحية شيء منهما
لذلك تصل النوبة إلى الأصل العملي وهو استصحاب الحجية الثابتة بالسيرة قبل ورود
الآيات الناهية عن العمل بغير العلم.
الوجه الثالث : ان
حال السيرة مع الآيات الناهية حال الخاصّ المتقدم مع العام المتأخر في دوران الأمر
بين أن يكون الأول مخصصا ، أو يكون الثاني ناسخا ، والمتعين هو الأول ، وذلك لأن
الخاصّ المتقدم صالح لتخصيص العام ، إذ لا إشكال في جواز تقديم القرينة على ذي
القرينة ، ومع وجود ذلك لا ينعقد للعام ظهور في العموم ليكون رادعا أو ناسخا .
ولا يخفى ان
تمامية الوجهين الآخرين متوقفة على إحراز تمكن المولى من الردع عن السيرة قبل ورود
العمومات ، فانه حينئذ يستكشف إمضاؤه لها من عدم
__________________
الردع ، فيصح
الرجوع حينئذ إلى الاستصحاب بعد فرض التساقط ، كما يمكن أن يقال : ان الأمر فيه
دائر بين تخصيص العمومات بالسيرة السابقة وردع العمومات عنها. واما إذا لم يحرز
تمكنه من ذلك ، كما هو الصحيح ، فلا مجال لشيء من الوجهين أصلا ، إذ لم يثبت حينئذ
حجية ما قامت عليه السيرة شرعا ليكون قابلة للاستصحاب ، أو يكون قرينة وبيانا
للعام المتأخر ، فان السيرة انما تكون قابلة لتخصيص العمومات بعد إمضائها شرعا كما
عرفت.
فالصحيح في مقام
الجواب أن يقال : ان نسبة السيرة إلى العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ، فان
العمل في موارد السيرة بالحجج العقلائية لم يكن في نظر العقلاء عملا بغير العلم ،
ولذا لا ترى أحدا توقف عن العمل بالظواهر بعد نزول هذه الآيات ، وليس ذلك إلّا
لأجل انهم يرونها علما ، وإذا كانت السيرة حاكمة على العمومات فلا تعارض بينهما
كما هو واضح. ثم ان السيرة العقلائية على العمل بالخبر الموثوق به لا يفرق فيها
بين كون الوثوق ناشئا من العلم بوثاقة الراوي في نفسه وبين كونه ناشئا من جهات أخر
، فالخبر المنجبر بعمل المشهور مورد للسيرة العقلائية وان كان راوي الخبر ضعيفا في
نفسه.
فتحصل من جميع ما
ذكرناه حجية اخبار الآحاد الصحاح والحسان والموثقات كلها
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بحكم العقل :
الوجه الرابع :
مما استدل به على حجية الخبر هو حكم العقل. وتقريره من وجوه.
الأول : انا نعلم
إجمالا بصدور جملة من الاخبار المروية في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، خصوصا بعد
ملاحظة جهد العلماء في تهذيبها ، وإسقاط الضعاف منها ،
ومن هنا ادعى صاحب
الحدائق في مقدمة كتابه القطع بصدور جميع ما في الكتب الأربعة ،
فهذا العلم الإجمالي الّذي لا شبهة فيه يوجب الاحتياط بالعمل على طبق جميعها.
وأورد الشيخ قدسسره على هذا الوجه بان هذا العلم الإجمالي لو كان منجزا لزم
العمل على طبق جميع الأمارات غير المعتبرة ، كالشهرة والفتاوى والإجماعات المنقولة
، للعلم إجمالا بمطابقة بعضها للواقع ، فلا ينحصر أطراف الاحتياط بالأخبار المروية
في الكتب المعتبرة . ومن هنا يمكن أن يقال : بان لازم ذلك هو الاحتياط حتى في
الاخبار المروية في الكتب غير المعتبرة من كتب الخاصة وغيرهم ، للعلم الإجمالي
بمطابقة بعضها للواقع جزما ، وان في جملتها ما هو صادر قطعا ، ولم يلتزم به أحد.
وقد أجاب عنه المحقق
الخراسانيّ وأجاد بما حاصله : ان للعلم الإجمالي مراتب ثلاث.
الأولى : العلم
الإجمالي الكبير ، وأطرافه جميع الشبهات ، أعني به العلم بثبوت تكاليف وأحكام في
الشريعة ، وهذا العلم حاصل لكل عاقل ملتفت إلى معنى الشرع والشريعة ، فانها لا
تنفك عن جعل أحكام ، ولا معنى للشرع الخالي عن الحكم رأسا.
الثانية : العلم
الإجمالي المتوسط ، وأطرافه موارد الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ، ومنشؤه كثرة
الأمارات ، وانضمام بعضها إلى بعض ، وعدم احتمال مخالفة جميعها للواقع عقلا.
الثالثة : العلم
الإجمالي الصغير ، وأطرافه خصوص ما في الكتب المعتبرة
__________________
عندنا ، فانا نعلم
بمطابقة جملة مما فيها للواقع وصدورها عن الإمام عليهالسلام ولا يحتمل كذب جميعها ، خصوصا بملاحظة القرائن المؤيدة
لصدقها ، وصدورها عن الأئمة عليهمالسلام.
إذا عرفت هذا
فنقول : لا شبهة في انحلال العالم الإجمالي الأول بالثاني ، وانحلال العلم
الإجمالي الثاني بالثالث ، فان الميزان في الانحلال ان لا يكون المعلوم بالإجمال
في دائرة العلم الإجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم بالإجمال في دائرة العلم
الإجمالي الكبير المحتمل انطباقه عليه ، وطريق تمييز ذلك انه لو أفرزنا من أطراف
العلم الإجمالي الصغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم إجمالي في بقية أطراف
الشبهة ، حتى لو انضمت إليه غيرها من أطراف الشبهة في العلم الإجمالي الكبير ،
وعليه فنقول : ان المعلوم بالإجمال في ضمن جميع الوقائع المشتبهة لا يزيد على
المعلوم بالإجمال في ضمن المظنونات ، لأن منشأ ذلك العلم الإجمالي الكبير لم يكن
إلّا استلزام الشرع لوجود أحكام فيها ، ويكفي في ذلك ما قامت عليه الأمارات من
التكاليف ، فانحل العلم الإجمالي الكبير بالمتوسط. وهكذا ينحل المتوسط بالصغير ،
فانه إذا أفرزنا عددا معينا من أطراف العلم الإجمالي الصغير ، أعني بها الاخبار
المروية في الكتب المعتبرة بمقدار المعلوم بالإجمال الموجود فيها لم يبق لنا علم
بوجود تكاليف في غيرها ، ولو مع ضم سائر الأمارات غير المعتبرة التي لم تكن موافقة
لما أفرزناه من حيث المؤدي إليها ، فيكشف ذلك عن ان عدد المعلوم بالإجمال في أطراف
العلم المتوسط لا يزيد على عدد المعلوم في أطراف العلم الصغير ، ولازم ذلك هو
انحلال العلم الإجمالي المتوسط بالعلم الإجمالي الصغير ، فلا مانع من الرجوع في
غير موارد الروايات المعتبرة إلى الأصول العملية ، فان الشك في تلك الموارد إنما
يكون من الشكوك البدوية لا من المقرونة بالعلم الإجمالي. فما أورده الشيخ قدسسره على التقريب غير صحيح.
بقي الكلام في ان
وجوب العمل بالأخبار المروية في الكتب المعتبرة من جهة
العلم الإجمالي
بصدور كثيرها أو بعضها ، هل يترتب عليه ما يترتب على طريقيتها وحجيتها من كونها
منزلة منزلة القطع ، وتقدمها على الأصول الجارية في مواردها ، عملية كانت أو لفظية
، كأصالة العموم والإطلاق ، أو ان وجوب العمل بها من باب الاحتياط لا يقتضي شيئا
من ذلك؟ والكلام في ذلك يقع في مقامين.
أحدهما : في
معارضة الأمارات مع الأصول العملية.
ثانيهما : في
معارضتها مع الأصول اللفظية.
اما المقام الأول
: فتفصيل الكلام فيه يكون ببيان الضابط في إجراء الأصول في أطراف العلم الإجمالي ،
فنقول : ان الأصول العملية على ما يستفاد من أدلتها تنقسم إلى تنزيلية ناظرة إلى
الواقع في مقام العمل ، كالاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ ، بناء على انهما من
الأصول ، وغير تنزيلية ، كالبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الاشتغال ، فانها وظائف
عملية مجعولة للشاك من دون أن يكون لها نظر إلى الواقع.
ثم ان بعض هذه
الأصول يكون مثبتا للتكليف دائما ، كما ان بعضها يكون نافيا له كذلك ، وجملة منها
تختلف باختلاف الموارد.
ثم ان العلم
الإجمالي تارة : يكون متعلقا بحكم إلزاميّ ، وأخرى بحكم ترخيصي. فان كان متعلقه
إلزاميا ، فلا تجري شيء من الأصول النافية في أطرافه ، سواء كانت محرزة في جميع
الأطراف ، كما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد إناءين طاهرين ، فان جريان الاستصحاب
فيهما معا يستلزم المخالفة القطعية ، وفي أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، أو
كانت غير محرزة كذلك كالمثال بعينه فيما إذا لم يكن لهما حالة سابقة متيقنة ، فان
كلا منهما حينئذ يكون موردا لقاعدة الطهارة ، إلّا انه يلزم من إجرائها فيهما
المخالفة القطعية ، أو كان الجاري في بعض الأطراف محرزا وفي البعض الآخر غير محرز
، كما لو فرضنا ان أحد الإناءين كان طاهرا في السابق
يقينا ، ولم يعلم
حالة الإناء الآخر ، ووقعت نجاسة في أحدهما لا بعينه ، فان أحدهما يكون موردا
لاستصحاب الطهارة ، والآخر لقاعدتها ، ولا يجريان معا للزوم المخالفة القطعية ،
ولا يجري الأصل المحرز وحده لعدم إثباته اللوازم العقلية. وأما تقدم الأصل المحرز
على غير المحرز فانما هو فيما لو اجتمعا في مورد واحد لا في موردين ، كما فيما نحن
فيه. هذا فيما لو كان المعلوم بالإجمال حكما إلزاميا وكان الأصل الجاري في الأطراف
نافيا له.
واما لو انعكس
الأمر ، بان كان المعلوم بالإجمال ترخيصيا ، وكان مفاد الأصل حكما إلزاميا ، فان
كان الأصل المثبت للتكليف في الأطراف من الأصل غير المحرز كالاشتغال ، فلا إشكال
في إجرائه في جميع الأطراف ، كما لو علمنا إجمالا بجواز النّظر إلى إحدى المرأتين
نسبا أو مصاهرة ، فانّ الطرفين بما انهما موردان لقاعدة الاشتغال فلا مانع من
الرجوع إليها في كل منهما ، إذ ليس في ذلك مخالفة قطعية للتكليف ، والأصل من جهة
عدم كونه محرزا لا ينافي العلم بجواز النّظر إلى إحداهما في الواقع ، إذ لا منافاة
بين أن يكون الشيء مباحا واقعا وبين الحكم بلزوم الإتيان به فعلا أو تركا ظاهرا.
واما إذا كان الأصل الجاري في جميع الأطراف من الأصل المحرز كالاستصحاب ، ففي
جريانه فيها مع العلم الإجمالي بمخالفته للواقع في بعض الأطراف خلاف ، فذهب الشيخ
وتبعه المحقق النائيني إلى عدم الجريان ، وذهب صاحب الكفاية إلى جريانه ، وتفصيل
ذلك ، وبيان الصحيح من القولين موكول إلى محله.
إذا عرفت هذا
فنقول : في محل الكلام لنا علم إجمالي بوجود أحكام إلزامية وأحكام ترخيصية في ضمن
الروايات المعتبرة عندنا ، فبالقياس إلى موارد الأمارات المشتملة على أحكام
إلزامية لا مجال للرجوع إلى الأصول العملية مطلقا بجميع اقسامها. واما في موارد
الأمارات المتكفلة لأحكام ترخيصية ، فعلى القول
بحجيتها لا يجري
أيضا شيء من الأصول العملية ، واما بناء على ان جواز العمل بها من باب العلم
الإجمالي بصدور كثيرها أو أكثرها فقاعدة الاشتغال تجري في مواردها بلا خلاف. واما
الاستصحاب المثبت للتكليف فجريانه فيها مبني على الخلاف المتقدم ، فالتفرقة بين
العمل بالأمارات على الحجية وبينه من جهة العلم بصدور بعضها انما يكون في موارد
الأمارات النافية للتكليف على التفصيل المتقدم.
وتوضيح ذلك : أن
الأمارات المعتبرة ان كانت مثبتة لتكليف إلزاميّ ، وكان الأصل الجاري في موردها
أيضا مثبتا له ، فلا يفرق في لزوم العمل بالأمارة بين القول بحجيتها وبين العمل
بها لأجل الاحتياط إلّا من حيث الاستناد ، فانه على الأول يكون الاستناد إلى
الأمارة ، وعلى الثاني إلى العلم الإجمالي. نعم يفرق بين القولين من حيث حجية
لوازم الاخبار ومثبتاتها وعدمها ، ولا كلام لنا في ذلك فعلا. واما لو كان الأصل
الجاري في موردها نافيا للتكليف ، فلا ثمرة أيضا بين القولين ، إذ لا يجوز الرجوع
إلى الأصل النافي على القولين ، اما بناء على الحجية فواضح ، واما على الاحتياط
فللعلم الإجمالي.
واما لو كانت
الأمارة نافية للتكليف ، فان كان الأصل نافيا له أيضا فلا تترتب ثمرة على القولين
إلّا في الاستناد كما عرفت. واما ان كان الأصل مثبتا للتكليف مع ورود الأمارة على
نفيه ، ففي موارد الاشتغال تظهر الثمرة بين القولين بلا خلاف ، فانه يجب العمل
بالأصل المثبت للتكليف ولو مع قيام الأمارة على خلافه إذا لم تثبت حجيتها ، وذلك
مثل العلم بوجوب الصلاة المرددة بين القصر والتمام مع قيام الأمارة على وجوب
أحدهما بالخصوص.
واما موارد
استصحاب التكليف ، فان بلغت من الكثرة إلى حد يعلم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع ،
فجريان الاستصحاب في تلك الموارد مبني على الكلام المتقدم ، وإلّا فتظهر الثمرة
فيها أيضا بغير خلاف. مثال ذلك ما دل على جواز وطئ
الحائض بعد انقطاع
الحيض وقبل الغسل إذا غسلت المحل ، مع ان الاستصحاب يقتضي حرمة ذلك قبل الاغتسال ،
فان هذا الاستصحاب إذا كان من أطراف ما علم مخالفته للواقع إجمالا كان جريانه
مبنيا على الكلام المتقدم ، وإلّا فيجري بلا خلاف.
المقام الثاني :
وهو حال الأمارات مع الأصول اللفظية ، كما لو فرضنا ورد عام أو مطلق معلوم الصدور
بالتواتر أو بغيره ، وكان في اخبار الآحاد ما هو خاص أو مقيد ، فبناء على القول
بحجيتها يتقدم الخاصّ على العام ولو كان قطعي الصدور ، لأن الخاصّ بمنزلة القرينة
على العام ، فيتقدم عليه. واما بناء على وجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط ،
فهل تتقدم على العمومات والمطلقات القطعية الصدور وغيرها أم لا؟ ظاهر الكفاية
وصريح بعض مشايخنا المحققين قدسسره هو الثاني بدعوى : ان العام أو المطلق حجة في مدلوله ، ولا يرفع اليد
عنه إلّا بحجة أقوى ، والمفروض ان كل واحد من الأمارات الخاصّ غير ثابت الحجية
بالخصوص ، ومجرد العلم الإجمالي بوجود الصادر فيها لا أثر له.
والتحقيق : ان
مفاد العام ولو كان عمومه بالإطلاق تارة : يكون حكما إلزاميا ، ويكون مفاد الخاصّ
حكما غير إلزاميّ ، كقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا) وقوله عليهالسلام «لا ربا بين
الوالد والولد» وأخرى : يكون مفاد العام حكما ترخيصيا ، ومفاد الخاصّ حكما
إلزاميا كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) وقوله عليهالسلام «نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع الغرر» .
__________________
ففي الصورة الأولى
: يتقدم العام ، ولا يجوز العمل بالخاص بعد فرض عدم ثبوت حجيته ، لأن العلم
الإجمالي بورود التخصيص على العمومات إجمالا وان أوجب سقوط أصالة العموم في كل
واحد منها ، إلّا أن العلم الإجمالي بإرادة العموم من بعضها واقعا يقتضي لزوم
العمل بجميع العمومات المشتملة على الأحكام الإلزامية ، ولا يعارضها العلم
الإجمالي بصدور بعض المخصصات غير المشتملة على حكم إلزاميّ ، فانه لا أثر للعلم
الإجمالي إذا لم يكن متعلقه حكما إلزاميا ، وعليه فيجب الأخذ بالعمومات والمطلقات
من باب الاحتياط ، لا من جهة حجية أصالة العموم أو الإطلاق. نعم بناء على القول
بحجية الأمارات ينحل بها العلم الإجمالي كما لا يخفى.
واما الصورة
الثانية : وهي ما إذا كانت العمومات ترخيصية والخصوصات إلزامية ، فتتقدم فيها
الخصوصات ولو كان وجوب العمل بها من باب الاحتياط ومن جهة العلم الإجمالي بصدور
بعضها ، وذلك لأن العلم الإجمالي بصدور جملة من الأمارات الخاصة المشتملة على أحكام
إلزامية يقتضي سقوط الأصول اللفظية كأصالة العموم أو الإطلاق في جميع أطرافه ، كما
تسقط فيها الأصول العملية وسائر الحجج الجارية في جميع الأطراف ، فان إجراءها في
جميعها يستلزم المخالفة القطعية ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح ، وإذا لم تجر
الأصول اللفظية في المقام فلا مجال لأن يقال : ان العموم أو الإطلاق حجة ، ولا
يرفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى.
وبالجملة أصالة
العموم كغيرها من الأصول اللفظية والعملية وان كانت في نفسها حجة إلّا ان العلم
بورود التخصيص عليها إجمالا يوجب سقوط حجيتها ، فلزوم العمل بها لا بد من ان يستند
إلى امر آخر ، وهو العلم بإرادة العموم من بعضها واقعا ، إلّا ان ذلك لا يقتضي
إلّا العمل بما كان مشتملا منها على حكم إلزاميّ دون غيره.
وبقي الكلام فيما
إذا كان كل من العمومات والمخصصات المخالفة لها مشتملا على حكم إلزاميّ ، فعلى
القول بحجية الأمارات لا إشكال في تقديمها على العمومات وتخصيصها بها ، واما على
القول الآخر فمورد الأمارات المخالفة للعام مجمع لعلمين إجماليين متضادين ، أحدهما
: العلم بصدور بعض الاخبار المحتمل انطباقه على الخبر المخالف للعام ، وثانيهما :
العلم بمطابقة بعض العمومات للمراد الواقعي المحتمل انطباقه على العام المخالف
للخبر ، نظير ما لو كان لرجل زوجات ثلاث كبيرة ومتوسطة وصغيرة ، وعلم إجمالا بأنه
حلف على ترك الكبيرة أو المتوسطة ، وعلم إجمالا بأنه حلف على وطئ الصغيرة أو
المتوسطة ، فالمتوسطة حينئذ تكون طرفا لكلا العلمين ، والحكم فيها هو التخيير ،
لعدم التمكن فيها من الامتثال القطعي ، واما الامتثال الاحتمالي فهو حاصل لا محالة
، نظير دوران الأمر بين المحذورين ، وان لم يكن المقام منه حقيقة ، وذلك لعدم
العلم بالإلزام فيه إجمالا ، لاحتمال كون المحلوف على ترك وطئها هي الكبيرة ،
والمحلوف على وطئها هي الصغيرة واقعا ، فالمقام وان كان خارجا عن دوران الأمر بين
المحذورين موضوعا إلّا انه يشترك معه في الحكم ، لوحدة الملاك فيهما. واما حكم
الكبيرة والصغيرة فالظاهر بقاء كل من العلمين على تنجزه بالقياس إليهما ، وذلك لأن
العلمين حيث انهما حدثا عرضا فسقطت الأصول الجارية في جميع أطرافها بسبب التعارض ،
فلم يبق بعد ذلك أصل مؤمن في شيء من الأطراف ، غاية الأمر ان الزوجة المتوسطة بما
انها كانت طرفا لعلمين إجماليين متنافيين لم يمكن فيها مراعاة الاحتياط ، وذلك لا
يقتضي جريان الأصل في الصغيرة والكبيرة وكون الشبهة بالقياس إليهما بدوية.
فتوهم انحلالها
بعدم التمكن من الاحتياط في جميع الأطراف لا وجه له. ولا يقاس هذا بصورة الاضطرار
إلى بعض أطراف العلم الإجمالي ، حيث ذهب فيها بعضهم إلى سقوط العلم عن التنجيز حتى
بالقياس إلى الطرف غير المضطر إليه ، إذ
المكلف في محل
الكلام غير مضطر إلى ترك وطئ الصغيرة والمتوسطة ، ولا إلى وطئ المتوسطة والكبيرة ،
فهو خارج عن موارد الاضطرار إلى بعض الأطراف. غاية الأمر ان المكلف غير قادر على
مراعاة الاحتياط في المتوسطة بالإضافة إلى كلا العلمين ، ونتيجته التخيير فيها ،
لا سقوط العلم عن التنجيز بالإضافة إلى بقية الأطراف ، على ان لنا كلاما في سقوط
العلم عن التنجيز بطروء الاضطرار كما سيأتي في محله.
ثم لا يخفى ان
الغرض من بيان المثال المزبور انما هو بيان كبرى كلية ، وهي عدم سقوط العلم عن
التنجيز ولو كان بعض أطرافه طرفا لعلم إجمالي آخر ، ولم يمكن تنجيزه بالقياس إلى
المجمع. واما المثال فليس هو من صغريات هذه الكبرى ، لأنه يتولد فيه من العلمين
الإجماليين علم إجمالي ثالث يتعلق بنفس الطرفين دون المجمع ، ويكون هو المنجز
فيهما ، وذلك لأنا نقطع تفصيلا بعدم تعلق حلفين بالمتوسطة ، فهنا علم إجمالي ثالث
ومتعلقه وجوب وطئ الصغيرة أو حرمة وطئ الكبيرة ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط من دون
حاجة إلى إثبات تنجيز العلمين الأولين. فالمناسب ان يمثل للمقام بما إذا علم
تفصيلا بتعلق حلف واحد بإحدى الزوجات الثلاث مرددا بين أن يكون متعلقا بالفعل أو
بالترك ، وعلى تقدير تعلقه بالفعل يكون موضوعه مرددا بين الصغيرة والمتوسطة ، وعلى
تقدير تعلقه بالترك يتردد موضوعه بين الكبيرة والمتوسطة ، ففي هذا الفرض تكون
المتوسطة طرفا للعلم الإجمالي المردد متعلقه بين الفعل والترك ، ويتخير المكلف
فيها. واما في غيرها من الصغيرة والكبيرة فيجب عليه الاحتياط بفعل الأولى وترك
الثانية ، والوجه في ذلك ان جريان الأصول في جميع الأطراف يستلزم المخالفة القطعية
، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح ، فلا مؤمن في ترك وطئ الصغيرة وفعل وطئ الكبيرة ،
وبذلك يفترق المقام عن موارد الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي.
الوجه الثاني : من
الوجوه العقلية التي استدل بها على حجية الخبر ما ذكره في الوافية ، وحاصله : انا نعلم تفصيلا ببقاء التكليف بالصلاة والصوم
ونحوهما من الضروريات ، وليس لنا علم تفصيلي باجزائها وشرائطها ، فإذا تركنا العمل
بمؤديات الأمارات ، واقتصرنا على خصوص ما علمنا من الاجزاء والشرائط خرجت هذه
الأمور عن حقائقها ، لأن الضرورية من الاجزاء والشرائط ليست إلّا أمورا معدودة
بحيث نقطع بعدم صدق العناوين المزبورة على ما هو المتيقن دخله فيها ، فلا مناص من
الرجوع إلى الاخبار المودعة في الكتب المعتبرة للشيعة.
وقد أورد عليه
الشيخ رحمهالله.
أولا : بان العلم
الإجمالي حاصل بوجود الاجزاء والشرائط بين جميع الاخبار لا خصوص المشروطة منها بما ذكره ، إلى ان قال : فاللازم حينئذ اما الاحتياط
والعمل بكل خبر دل على جزئية شيء أو شرطيته ، واما العمل بكل خبر ظن صدوره مما دل
على الجزئية أو الشرطية.
ولا يخفى ما فيه :
فان سعة أطراف العلم الإجمالي وضيقها يتبعان علم الأشخاص ، ولعل صاحب الوافية يجد
من نفسه انحلال علمه بالعمل بالأخبار المشتملة على الشرائط التي ذكرها بالبيان
المتقدم.
نعم يرد على هذا
الوجه ما أورده ثانيا وحاصله : رجوع ذلك إلى الوجه الأول مع تغيير في العبارة ،
غير ان دائرة العلم الإجمالي فيه أضيق من أطراف العلم الإجمالي في الوجه السابق ،
فلا يقتضي إلّا وجوب العمل بالأخبار المثبتة للاجزاء والشرائط ، ولا يعم الاخبار
النافية التي ورد على خلافها عموم ، أو إطلاق ، أو أصل عملي ، كما هو المدعى في
المقام.
__________________
الوجه الثالث : من
الوجوه العقلية ما حكى عن صاحب الحاشية ، وحاصله : انا نعلم علما قطعيا بلزوم الرجوع إلى السنة
بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك ، فيجب علينا العمل بما صدر من المعصومين عليهمالسلام فان أحرز ذلك بالقطع فهو ، وإلّا فلا بد من الرجوع إلى
الظن في تعيينه ، ونتيجة ذلك وجوب الأخذ بما يظن بصدور.
وفيه : ما ذكره
المحقق النائيني تبعا للشيخ رحمهالله من رجوعه اما إلى الوجه الأول ، واما إلى دليل الانسداد فانه ان أراد بالسنة الروايات الحاكية لقول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره ، فلا دليل على وجوب العمل بها عقلا غير
دعوى العلم الإجمالي بصدور جملة منها ، وهذا عين الأول. وان أريد بها نفس قول
المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره فوجوب العمل بها وان كان أمرا ضروريا لكنه لا
ملازمة بينه وبين وجوب العمل بالأخبار الحاكية للسنة ، المحتمل عدم مطابقتها
للواقع إلّا مع ضم بقية مقدمات الانسداد إلى دعوى العلم ببقاء التكليف ولزوم العمل
بما صدر عن المعصومين واقعا.
ومن هذا يظهر فساد
ما أفاده في الكفاية من عدم رجوع هذا الوجه إلى أحد الأمرين المزبورين ، وانه
وجه مستقل برأسه ، زعما منه ان القائل به يدعى وجوب الرجوع إلى نفس الاخبار
الحاكية مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي بصدور بعضها وعن تمامية مقدمات الانسداد
، وجه الظهور : انه لا وجه لدعوى القطع بوجوب العمل بما يحتمل مخالفته للواقع إلّا
الجعل الشرعي ، المفروض عدم ثبوته في المقام ، أو العلم الظني عند عدم التمكن من
القطعي ، ومع قطع النّظر عن جميع ذلك لا
__________________
موجب لدعوى القطع
المزبور أصلا.
ثم لا يخفى ان في
عبارة الكفاية في المقام اشتباها في نقل كلام الشيخ رحمهالله فان المذكور في كلام الشيخ جعل الأمر مرددا بين الاحتياط
والعمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته وبين العمل بما ظن صدوره ، وقد جعل طرف
الاحتياط في عبارة الكفاية هو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته ، مع انه
بنفسه عبارة أخرى عن الاحتياط ، لا شيء يقابله.
__________________
المبحث السادس :
حجية مطلق الظن
وقد استدل عليه
بوجوه أربعة ، كلها عقلية.
الأول : ما في
الكفاية وحاصله : ان الظن بالتكليف يستلزم الظن بالضرر في مخالفته
، وقد استقل العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، سواء قلنا بالحسن والقبح العقليين أم
لم نقل ، فان التحرز عن الضرر المظنون بل المحتمل جبلي كل عاقل ، بل فطر عليه كل
ذي شعور.
وقد أجيب عنه
بأجوبة. والصحيح منها : منع الصغرى في جملة من الموارد ، والكبرى في موارد أخر.
فانّ الضرر ان أريد به الضرر الأخروي فالصغرى ممنوعة ، وان كانت الكبرى مسلمة ، إذ
لا ملازمة بين ثبوت التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على مخالفته ليكون الظن
بأحدهما مستلزما للظن بالآخر ، وإلّا لكان احتمال ثبوت التكليف مستلزما لاحتمال
الضرر ، ودفع الضرر المحتمل أيضا لازم عقلا ، فالكبرى أوسع دائرة مما ذكره المستدل
، ولذلك وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص ، وفي أطراف العلم الإجمالي ،
فلو وجب رعاية التكليف المظنون وجب رعاية التكاليف المحتملة أيضا ، فلا وجه
لتخصيصه بالمظنونات.
لا يقال : ان
الضرر المحتمل ، أعني احتمال العقاب عند احتمال التكليف مدفوع
__________________
بقبح العقاب بلا
بيان ، بخلاف الظن بالتكليف المستلزم للظن بالعقاب.
فانه يقال :
المراد من البيان كما سيأتي في محله هو قيام الحجة على التكليف ، فما لم يقم حجة
عليه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا بيان ، وبما ان الظن قد فرض في المقام عدم
ثبوت حجيته ، فلا فرق بينه وبين الاحتمال المحض في ان العقاب على مخالفة الواقع في
مورد كل منهما عقاب بلا بيان ، نعم لو كان العقاب من لوازم نفس الواقع لا من لوازم
وصوله وتنجزه كان الظن به ظنا بالعقاب لا محالة ، إلّا ان لازمه ملازمة احتمال
الواقع لاحتمال العقاب ، وهو واضح البطلان.
ومن هنا يظهر :
فساد ما في الكفاية من ان العقل وان لم يكن مستقلا باستحقاق العقوبة على
مخالفة التكليف المظنون ، ولكنه غير مستقل بعدمه أيضا ، فالعقاب حينئذ يكون في
مورده محتملا ، والعقل حاكم بلزوم دفع الضرر المحتمل. وجه الظهور : انه لا معنى
لتردد العقل في موضوع حكمه المستقل فيه ، بل هو في مثل الفرض يستقل بعدم استحقاق
العقاب ، لكونه من آثار مخالفة التكليف المنجز ، وقد فرض عدم كون الظن حجة ومنجزا
، فكيف يحتمل العقل استحقاق العقاب على المخالفة الواقعية مع انه بلا بيان.
وان أريد بالضرر
الضرر الدنيوي ، فالدليل أخص من المدعى ، لأن التكاليف الوجوبية ليس في مخالفتها
إلّا تفويت المصلحة ، بناء على ما هو المعروف من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
في متعلقاتها ، فليس في مخالفة التكليف الوجوبيّ المظنون إلّا الظن بفوات المصلحة
، لا الظن بالضرر ، فالصغرى حينئذ ممنوعة. اللهم إلّا ان يدعى لزوم جلب المصلحة
اللزومية المظنونة وقبح تفويتها عقلا ، كما يدعى لزوم دفع الضرر المظنون ، لكنها
دعوى محضة لا شاهد عليها أبدا.
__________________
واما التكاليف
التحريمية ، فما يكون منها ناشئا عن المفاسد النوعية كأكل مال الغير غصبا ، وقتل
النّفس ، وأمثال ذلك مما ليس في ارتكابه ضرر دنيوي على الفاعل فالصغرى فيها أيضا
ممنوعة ، كما هو ظاهر. وأما ما يكون منها ناشئا عن مفسدة شخصية ، كشرب المسكرات ،
وأكل السموم ونحوهما مما يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ، ونقص في بدنه أو عرضه
أو ما له ، فالظن بالضرر وان كان موجودا عند مخالفة كل منها إذا كانت مظنونة ،
إلّا انه لا دليل على وجوب دفع الضرر في هذه الموارد وغيرها مما لم يكن التكليف
المظنون متنجزا بمنجز عقلي أو شرعي ، ضرورة انه لا مقتضى حينئذ لعقاب أخروي أو ذم
عقلائي على ارتكاب ذلك زائدا على ما يقع فيه المرتكب من الضرر الدنيوي ، نعم ربما
يكون ذلك موجبا للوم ، ولكنه غير ملازم للحرمة ، وكثيرا ما يلام الإنسان على فعل
ما ليس بمحرم لا شرعا ولا عقلا.
ومما يدل على ذلك
ان الظن بالضرر في أمثال هذه الموارد كثيرا ما يتحقق في موارد الشبهات الموضوعية ،
مع انه لم يتوهم أحد فيها وجوب الاحتياط ، فلو كان دفع الضرر المظنون لازما لزم
فيها الاحتياط لا محالة. بل يمكن أن يقال : انه لا دليل على حرمة إلقاء النّفس في
الضرر الدنيوي المتيقن ، خصوصا إذا كان فيه غرض عقلائي ، فما ظنك بالضرر المظنون
أو المحتمل. نعم قد ورد في الشريعة حرمة بعض أقسام الإضرار بالنفس ، كقتل الإنسان
نفسه ، كما ورد حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في موارد خاصة لا يمكن انتزاع كبرى كلية
منها ، مضافا إلى ان الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر المجامع للاحتمال أيضا.
الوجه الثاني : ان
الأخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، فيتعين الأخذ بالطرف
المظنون.
وفيه : انه انما
يتم إذا كان التكليف منجزا ، وتردد الأمر في مقام الامتثال بين الأخذ بالظن والأخذ
بخلافه ، كما لو ترددت القبلة بين جهات يظن كون بعضها قبلة ،
ولم يمكن الاحتياط
، فانه يتعين حينئذ الأخذ بالطرف المظنون ، لقبح ترجيح المرجوح. وأما إذا لم يكن
أصل التكليف ثابتا فلا مانع من الرجوع إلى البراءة ، وليس ذلك من ترجيح المرجوح
على الراجح كما هو ظاهر.
وبالجملة تمامية
هذا الوجه متوقفة على امرين أحدهما : فرض تنجز التكليف ، وثانيهما : عدم التمكن من
الاحتياط. فهذا الوجه من إحدى مقدمات دليل الانسداد.
الوجه الثالث : ان
العلم الإجمالي بثبوت تكاليف إلزامية وجوبية أو تحريمية يقتضي وجوب الاحتياط في
جميع موارد الشبهات ، لكنه غير واجب شرعا ، لأنه عسر ، والعسر منفي في الشريعة ،
فلا بد من التبعيض في الاحتياط ، والأخذ بخصوص المظنونات ، لقبح ترجيح المرجوح على
الراجح.
وفيه : ان هذا
الوجه أيضا بعض مقدمات الانسداد ، ولا ينتج ما لم يضم إليه بقية المقدمات ، إذ
لقائل أن يدعي انحلال هذا العلم الإجمالي بالظفر ، على ما بين في الروايات
المعتبرة الواردة عن الأئمة عليهمالسلام من الأحكام ، فلا بد من التكلم بنحو الإجمال في الوجه
الرابع ، وهو المسمى بدليل الانسداد والبحث فيه تارة : يقع فيما يتألف منه ، وأخرى
: في النتيجة المترتبة عليه ، وثالثة : في تمامية المقدمات.
اما ما يتألف منه
دليل الانسداد فهو أربعة أمور.
الأول : العلم
الإجمالي بثبوت تكاليف فعلية. والمراد بثبوت التكاليف وفعليتها عدم كوننا مهملين
كالبهائم ، وان الشارع يريد منا امتثال أحكامه بوجه لا محالة ، وعلى ذلك فالعلم
بفعلية التكاليف ، والعلم بعدم كوننا مهملين مرجعهما إلى امر واحد ، ولا وجه لجعل
كل منهما مقدمة مستقلة كما صنعه في الكفاية اللهم إلّا أن يراد من المقدمة الأولى العلم بثبوت أصل
الشريعة ، لا العلم بفعلية تلك التكاليف في
__________________
حقنا أيضا ،
ولكنها على ذلك مستغنى عنها ، وإلّا لزم أن يجعل من المقدمات إثبات الصانع وإثبات
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد وجوده إلى غير ذلك من المقدمات البعيدة ، التي هي
مفروغ عنها في المقام.
الثاني : انسداد
الطريق الموصل إلى كثير من تلك الأحكام من العلم والعملي.
الثالث : ان
الاحتياط التام في جميع موارد الشبهات على تقدير إمكانه غير واجب أو غير جائز ،
لاستلزامه العسر والحرج ، أو اختلال النظام ، كما ان الرجوع فيها إلى الأصول
الجارية في كل مورد منها ، أو إلى القرعة ونحوها ، أو إلى فتوى من يرى انفتاح باب
العلم أو العلمي غير جائز ، والوجه في جميع ذلك واضح.
الرابع : استقلال
العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فيجب الأخذ بالمظنونات ، ورفع اليد عن
مراعاة احتمال التكليف في غيرها.
واما النتيجة :
المترتبة على هذه المقدمات فهي تختلف باختلاف تقرير المقدمة الثالثة ، فانها تارة
: تقرر كما ذكرناه من ان عدم وجوب الاحتياط مستند إلى استلزامه العسر والحرج
واختلال النظام.
وأخرى : تقرر بوجه
آخر بان يقال : ان الشارع لا يرضى بان يبتني أساس الدين وأكثر أحكامه على الاحتياط
والامتثال الإجمالي ، والدليل عليه هو الإجماع والضرورة ، فالاحتياط وان كان حسنا
في نفسه لكنه ليس على إطلاقه ، بل فيما إذا لم يستلزم ابتناء أصل الشريعة عليه ،
فانه على هذا التقريب تكون نتيجة المقدمات هي الكشف ، إذ بعد فرض بقاء فعلية
الأحكام ، وانسداد باب العلم والعلمي فيها ، وعدم اكتفاء الشارع في امتثالها
بالامتثال الإجمالي يستكشف لا محالة ان الشارع جعل لنا حجة وطريقا توصلنا إلى تلك
التكاليف الثابتة في حقنا ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ، وبعد حصر الطريق في
الظن كما مر بيانه يستكشف حجيته ، فيكون الظن المطلق حجة كالظن الخاصّ. واما القول
بعدم لزوم جعل الحجة على الشارع لاحتمال
إيكاله المكلف إلى
حكم العقل فلا يتم القول بالكشف فهو واضح البطلان ، لأن العقل لا شأن له سوى
الإدراك ، ولا معنى لجعله ما ليس بحجة في نفسه حجة ، وقد فرضنا الحاجة إلى جعل
الحجة لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، فلا مناص من الالتزام بجعل الشارع الظن حجة
موصلة إلى أحكامه. فظهر ان التقريب المزبور هو مبنى القول بالكشف وأساسه الوحيد.
واما لو قربنا
المقدمة بالتقريب الآخر المتقدم وقلنا : بان الاحتياط التام غير جائز ، أو غير
واجب لاستلزامه العسر والحرج ، أو اختلال النظام ، فلا طريق إلى كشف العقل حجية
الظن من قبل الشارع بعد حكمه بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف وتركه في غيرها ، فان
عدم جواز الاحتياط التام ، أو عدم وجوبه لا ينافي وجوبه في الجملة ، توضيح ذلك ان
العقل الحاكم في باب الامتثال يلزم المكلف بإحرازه الإتيان بما هو الواقع أما
تفصيلا ، أو إجمالا بالإتيان بجميع أطراف المحتملات ، فان تعذر ذلك فلا محالة يحكم
بالتبعيض في الاحتياط ، وتضييق دائرته بالاكتفاء بالامتثال الظني بالإتيان
بالمظنونات والمشكوكات ، وبه يحصل الامتثال الظني ، فان تعذر ذلك أيضا فيأتي بجميع
المظنونات ، فلا محالة يكون الامتثال شكيا ، وان تعذر ذلك أيضا فيأتي ببعض
المظنونات على الترتيب في مراتبها ، وهذا هو المراد بالحكومة في المقام.
واما ما تقدم نقله
من الكفاية من استقلال العقل بحجية الظن فهو امر مستحيل ثبوتا ، فلا
مجال للبحث عنه إثباتا ، بيان ذلك : ان جعل التكاليف والأحكام من وظيفة المولى ،
والعقل قد استقل بقبح مخالفتها بعد البيان ، كما انه استقل بقبح العقاب عليها بلا
بيان ، والبيان امر وجداني يفهمه كل أحد ، فانه عبارة عن وجود
__________________
الحجة على التكليف
، وكما يكون البيان أمرا ذاتيا غير محتاج إلى الجعل كالقطع ، يكون أمرا جعليا
كالأمارات وغيرها ، والجعل بيد المولى ، والعقل بمعزل عن ذلك ، إذ ليس وظيفته
التشريع ، فلا معنى لجعله الظن حجة بعد عدم كونه حجة في نفسه. نعم يحكم العقل
بلزوم امتثال التكليف الواصل ، ففيما نحن فيه يستقل العقل بلزوم الاحتياط التام أو
الناقص. وبالجملة معنى الكشف في المقام كشف العقل عن تمامية المقدمات المزبورة
حجية الظن شرعا ، ومعنى الحكومة حكمه بلزوم الامتثال الظني عن تعذر الامتثال القطعي
، وبين الأمرين بون بعيد.
فظهر بما ذكرناه
ان منشأ القولين أعني الكشف والحكومة هو اختلاف التقريبين كما عرفت. والنتيجة على
كلا التقديرين مهملة ، فعلى الأول لا بد من الاقتصار على المتيقن ، فلو كان الظن
الاطمئناني وافيا بمعظم الفقه لم يبق مجال للرجوع إلى الظن النازل منه ، فلا
يستكشف حينئذ حجية غيره إلّا إذا لم يكن الاطمئناني وافيا ، وهكذا فالترتيب في
مراتب الظنون يكون من العالي إلى الداني. واما على الثاني فينعكس الأمر ، والترتيب
يكون من الداني إلى العالي ، فأولا يحكم بطرح الموهومات ثم المشكوكات ثم المظنون
بالظن الضعيف وهكذا.
ثم لا يخفى انه
يمكن أن يكون مراد المحقق الخراسانيّ قدسسره من الحكومة في المقام ما أشرنا إليه ، لا ما ذكره سابقا من
استقلال العقل بحجية الظن ، والشاهد عليه ما ذكره في أواخر المبحث من الكفاية ، وهو عدم إمكان استكشاف حكم الشارع من الحكم العقلي في
المقام بقاعدة الملازمة ، لأنه حكم في مرحلة الامتثال والتبعيض في الاحتياط ،
وربما يظهر هذا من بعض كلمات الشيخ قدسسره.
ثم ان كشف العقل
عن حجية الظن شرعا ، أو حكمه بلزوم التبعيض في
__________________
الاحتياط انما هو
في الموارد التي لم يعلم اهتمام الشارع بها ، كما في موارد الدماء والفروج بل
الأموال الخطيرة. واما فيها فلا مجال للكشف المزبور ، فان العلم بعدم رضاء الشارع
بالاحتياط في معظم أحكامه ، وعدم ابتناء امر الشريعة على الامتثال الاحتمالي لا
ينافي وجوب الاحتياط في موارد خاصة ، كما ان العقل عند عدم التمكن من الامتثال
القطعي في جميع الموارد لا يتنزل إلى الامتثال الظني مطلقا ، بل يحكم بوجوب
الامتثال القطعي في الموارد المهمة ، وينزل إلى الامتثال الظني في غيرها.
هذا كله في تقريب
المقدمات وبيان نتيجتها.
واما تحقيق أصل
المقدمات :
فالمقدمة الأولى :
بيّنة بديهية ، فان العلم الإجمالي بوجود تكاليف فعلية بعثية أو زجرية يقتضي
التعرض لامتثالها ، ولا يجوز الرجوع إلى البراءة في جميعها ، حتى بناء على ما سلكه
صاحب الكفاية رحمهالله من عدم تنجيز العلم الإجمالي فيما إذا لم يتمكن المكلف من
الموافقة القطعية للاضطرار إلى بعض أطرافه تركا أو فعلا ، فان ذلك انما هو فيما إذا كان التكليف
المعلوم بالإجمال واحدا أو اثنين ونحوهما مما لا يلزم من المخالفة في مورده محذور
الخروج من الدين. واما في مثل المقام مما كان الرجوع إلى البراءة مستلزما لتجويز
المخالفة في معظم الأحكام الشرعية المعبر عنها بالخروج عن الدين فلا يجوز الرجوع
فيه إلى البراءة قطعا ، نعم وجوب التعرض لامتثال الأحكام في الجملة على مسلك تنجيز
العلم الإجمالي حتى مع الاضطرار إلى بعض الأطراف مستند إلى قصور شمول أدلة الأصول
للمقام ، واما على ما سلكه في الكفاية فهو مستند إلى استكشاف أهمية الشارع بأحكامه
، وعدم رضائه بمخالفتها كلية.
هذا وقد ذكرنا ان
منشأ العلم الإجمالي بالتكاليف يكون أحد أمور ثلاثة :
__________________
الأول : اليقين
بثبوت الشريعة ، فان الشرع يستلزم أحكاما وتكاليف.
الثاني : العلم
الإجمالي بمطابقة جملة من الأمارات للواقع ، إذ من المستحيل عادة كذب جميعها.
الثالث : العلم
بصدور جملة من الاخبار المدونة في الكتب المعتبرة خصوصا بعد ملاحظة اهتمام
مؤلفيها.
وهذه العلوم
الثلاثة ينحل بعضها ببعض ، فتكون أطراف العلم الإجمالي خصوص الروايات الموجودة في
الكتب المعتبرة ، ويتضح لكل من تصدى للاستنباط ان الاحتياط في موارد الاخبار
المذكورة لا يكون عسرا ولا حرجيا ، ولا يلزم من الرجوع في غيرها إلى الأصول
العملية خروج عن الدين ، ولا مخالفة قطعية. فهذه المقدمة عقيمة.
واما المقدمة
الثانية : وهي انسداد باب العلم والعلمي. فبالنسبة إلى انسداد باب العلم تامة
ضرورية. وبالنسبة إلى انسداد باب العلمي فصحتها تبتني على أحد امرين على سبيل منع
الخلو ، اما دعوى عدم حجية روايات الآحاد الثابتة في الكتب المعتبرة سندا ، سواء
كان ذلك من جهة عدم الوثوق بها أم كان لأجل البناء على عدم حجية الخبر الموثوق ،
واما دعوى عدم حجية ظواهرها ، لاختصاصها بالمقصودين بالإفهام مع عدم كوننا منهم ،
فعلى كل من التقديرين ينسد علينا باب العلمي ، ولكنا أثبتنا حجيتها سندا وظهورا
بالبيان المتقدم ، فلا نعيد. وهذه الاخبار وافية بمعظم الفقه ، وبها ينحل العلم
الإجمالي ، فلا يتم الانسداد. ومع التنزل عن ذلك بدعوى عدم انحلال العلم الإجمالي
بها لثبوته في غير موارد الاخبار من الشبهات أيضا ، فعلى مسلك المحقق الخراسانيّ قدسسره من سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز عند الاضطرار إلى بعض
الأطراف غير المعين لا مانع من الرجوع إلى الأصول العملية في غير موارد تلك
الاخبار ، لعدم استلزام ذلك الخروج عن الدين بعد وجوب العمل
بتلك الاخبار.
واما على مسلك الشيخ رحمهالله ومن تبعه من لزوم رعاية العلم الإجمالي في غير المقدار
المضطر إليه ، فلا بد من الاحتياط ، ورعاية التكاليف الثابتة في غير موارد تلك
الاخبار ، فان أمكن وإلّا فلا مناص من التنزل إلى الامتثال الظني.
واما المقدمة
الثالثة : أعني بها عدم وجوب الاحتياط التام ، وبطلان الرجوع إلى التقليد أو إلى
القرعة ونحوها ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مورد من موارد
الشبهات ، فتفصيل الكلام فيها : ان بطلان التقليد واضح ، بعد ما يرى القائل
بالانسداد خطأ القائل بانفتاح باب العلم ، ويعتقد فساد مدركه ، فان الرجوع إليه
حينئذ يكون في نظره من رجوع العالم إلى الجاهل. وكذا الرجوع إلى القرعة ونحوها ،
فانها ليست من الطرق المقررة لاستنباط الأحكام بالضرورة.
واما الاحتياط في
جميع الشبهات ، فان كان مخلا بالنظام فلا خلاف في قبحه عقلا ، وعدم وجوبه شرعا ،
بل وعدم مشروعيته ، لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات في كثير من الموارد. واما ان
كان موجبا للعسر والحرج ، ففي نفي لزومه بها خلاف ، فظاهر الكفاية هو العدم ، لمنعه حكومة قاعدة نفي الضرر والحرج على قاعدة
الاحتياط ، بدعوى : ان ظاهر الآية وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا ضرر ولا ضرار»
ونحو ذلك انما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا هو محل الخلاف بينه
وبين شيخنا الأنصاري قدسسره فانه بنى على ان مفادها نفي الحكم الّذي ينشأ من قبله
الضرر أو العسر أو الحرج ابتداء فمعنى قوله عليهالسلام «لا ضرر» ان الحكم
الّذي ينشأ منه الضرر غير مجعول ، والمحقق الخراسانيّ رحمهالله ذهب إلى ان الحكم لا يكون ضرريا ولا حرجيا ولا عسرا وانما
هي في الأفعال الخارجية ، فالنفي بحسب ظاهر الأدلة يكون
__________________
متوجها إليها ،
غاية الأمر ان النفي التكويني بما انه لا معنى له فلا محالة يكون النفي تشريعيا
ومتعلقا بالحكم بلسان نفي الموضوع ، نظير قوله عليهالسلام «لا ربا بين
الوالد والولد» فان المنفي فيه هو حرمة الرّبا لا نفسه ، وعلى هذا ينحصر مورد هذه
الجملة بما إذا كان الفعل حرجيا أو ضرريا ، ولا يعم الحكم إذا كان ضرريا أو حرجيا
بنفسه ، فهي على المسلك الأول تكون أعم موردا منها على المسلك الثاني. ويظهر
الثمرة بينهما في مثل البيع الغرري ، فان الضرر فيه ناشئ من نفس حكم الشارع
باللزوم ، فعلى مسلك الشيخ رحمهالله ينتفي اللزوم بحديث لا ضرر ، وهذا بخلاف مسلك المحقق
الخراسانيّ قدسسره.
وكيف كان فقد ذهب
صاحب الكفاية إلى عدم حكومة قاعدة نفي الحرج والضرر على الاحتياط المستلزم لهما ،
بناء منه على ما أسسه من اختصاص القاعدة بما إذا كان الفعل حرجيا أو ضرريا ،
وتوضيح ذلك : ان العسر أو الحرج اللازم من الاحتياط انما يكون ناشئا من الجمع بين
المحتملات ، ومن الواضح انه ليس للشارع حكم بالجمع ليرتفع عند استلزامه الحرج أو
الضرر ، وانما هو أمر لازم بحكم العقل ، واما ما تعلق به التكليف الشرعي واقعا
المردد في أطراف الشبهة فليس حرجيا ولا ضرريا ، وعليه فلا بد من العمل بالاحتياط
ولو فيما استلزم الحرج أو الضرر. نعم بناء على ما سلكه الشيخ رحمهالله كانت القاعدة حاكمة على وجوب الاحتياط أيضا ، فانه وان كان
عقليا إلّا انه ناشئ من بقاء الحكم الواقعي على حاله وعدم سقوطه ، فما هو المنشأ
للضرر أو الحرج انما هو الحكم الشرعي ، فلا محالة يكون هو المرتفع بقاعدة نفي
الضرر أو الحرج ، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه.
والتحقيق : انه لا
ثمرة بين المسلكين في أمثال المقام مما كانت أطراف الشبهة فيه من التدريجيات ،
فإذا فرضنا تعلق النذر بصوم يوم معين ، وتردد بين جميع أيام السنة ، وكان الاحتياط
حرجيا فان الحرج في مثل الفرض لا محالة يكون في صوم
الأيام الأخيرة من
السنة ، وليفرض ذلك الشهر الأخير ، فيعمه أدلة الرفع ، فيعلم حينئذ بعدم ثبوت
التكليف به حتى على مختار صاحب الكفاية ، لأنّ التكليف في الواقع ان كان متعلقا
بصوم الأيام المتقدمة فقد امتثله المكلف على الفرض ، وان كان متعلقا بالأيام
الباقية فنفس متعلقه يكون حرجيا ، فيرتفع بقاعدة نفي الحرج. وما نحن فيه من هذا
القبيل ، فان الشبهات التي يلزم من الاحتياط فيها الحرج أو الضرر لا تكون عرضية ،
وانما هي طولية لا محالة ، حتى التروك في الشبهات التحريمية ، فلا محالة يكون
الاحتياط فيها غير لازم ، فلا فرق بين القولين في المقام. والّذي أوقع صاحب
الكفاية فيما ذهب إليه في المقام هو قياس ما كانت الأطراف فيه تدريجية بما كانت
الأطراف فيه عرضية مع ان الفرق بينهما ظاهر كما عرفت.
فتحصل : من جميع
ما ذكرناه عدم وجوب الاحتياط التام بالإتيان بجميع المحتملات. واما التبعيض في
الاحتياط بما لا يلزم منه السعر والحرج ولا اختلال النظام ، فلا بد للقائل بعدم
وجوبه ، أو بعدم جوازه من إقامة دليل على ذلك.
وقد ادعى الإجماع
والتسالم من الفقهاء على عدم رضا الشارع بالامتثال الاحتمالي في معظم أحكامه ،
ولكن إثبات ذلك مشكل جدا.
اما أولا : فلأنّ
دعوى الاتفاق في هذه المسألة المستحدثة بين المتأخرين ممنوعة.
وثانيا : بعد
تسليم تحقق الاتفاق منهم على ذلك لا يكون كاشفا عن رأي الإمامعليهالسلام ، إذ من المحتمل قريبا أن يكون مدرك المجمعين هو اعتبار
قصد الوجه ، أو التمييز في العبادات ، فلا ينفع من لا يرى وجوبها.
واما ما في هامش
الرسائل مما حاصله : ان الإجماع وان لم يكن متحققا قطعا إلّا انه مظنون لا محالة ،
والظن به يستلزم الظن بجعل حجة حال الانسداد ، وقد فرضنا انه هو الظن دون غيره ،
وسيأتي انه لا فرق في اعتبار الظن على الانسداد بين
الظن بالواقع
والظن بالطريق.
فيرد عليه : أولا
: ان دعوى الظن بالإجماع كدعوى القطع به ممنوعة.
وثانيا : ان الظن
بتحقق الإجماع وان استلزم الظن بحجية الظن شرعا إلّا ان الشأن في حجية هذا الظن.
وما ذكره من عدم الفرق في الاعتبار بين الظن بالطريق والظن بالواقع وان كان صحيحا
، لكنه انما يتم بعد الفراغ عن حجية الظن ، واما إثبات حجيته بالظن فهو من قبيل
إثبات حجية الشيء بنفسه ، وهو دور واضح.
فتحصل : انه لا
دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ، وعليه لو تمت المقدمات كانت النتيجة هو
التبعيض في الاحتياط لا محالة.
واما الرجوع إلى
الأصول العملية فتفصيل الحال فيه : ان ما كان من الأصول مثبتا للتكليف دائما
كقاعدة الاشتغال فلا مانع من جريانها في مواردها. واما الاستصحاب المثبت للتكليف ،
فعلى القول بكون المانع عن جريانه في أطراف العلم الإجمالي خصوص المخالفة العملية
، كما هو مختار صاحب الكفاية ، فلا مانع من جريانه ما لم يلزم منه ذلك ، نظير ما لو علم
طهارة أحد الإناءين المسبوقين بالنجاسة ، فانه لا يلزم من استصحاب نجاستهما مخالفة
عملية ، فكذلك المقام. واما لو قلنا بان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في
بعض الموارد بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب في أطرافه ، كما هو مختار الشيخ قدسسره ، فلا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف في المقام ، للعلم
بانتقاض الحالة السابقة فيه في الجملة وان لم يلزم منه مخالفة عملية.
وما ذكره في
الكفاية من جريانه في المقام حتى على مبنى الشيخ رحمهالله
__________________
بدعوى : ان
تدريجية الاستنباط تستلزم عدم كون شك المستنبط فعليا بالإضافة إلى جميع الأطراف ،
فانها لا تكون ملتفتا إليها دفعة ليحصل له شك فعلي بالإضافة إلى الجميع ، بل يكون
التفاته إليها تدريجيا ، فكلما التفت إلى حكم كان شكه فيه فعليا فيجري فيه
الاستصحاب ، واما ما لم يلتفت إليه فلا يكون موردا للاستصحاب لعدم الشك الفعلي فيه
، فلا يكون العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد مانعا عن جريان
الاستصحاب في المقام ، غير تام ، لأن المجتهد وان لم يكن ملتفتا إلى جميع الشبهات
التي هي مورد الاستصحاب دفعة واحدة ، إلّا انه بعد استنباط الأحكام ، وجمعها في
الرسالة ليس له الإفتاء بجميع ما فيها ، لعلمه إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في
بعض الموارد التي أجرى فيها الاستصحاب ، فجريان الأصل المحرز المثبت للتكليف في
المقام وغيره مبني على المسلكين.
ثم ان موارد
الأصول المثبتة بضميمة المعلوم بالتفصيل ان كان وافيا بالمقدار المعلوم بالإجمال
انحل بها العلم الإجمالي ، ولا مانع حينئذ من الرجوع إلى الأصول النافية فيما بقي
من الأطراف. وان لم يكن وافيا به بان كان فيما عدى تلك الموارد علم بالتكليف ، فلا
مانع من الرجوع فيها إلى الأصل النافي ، بناء على مسلك صاحب الكفاية من كون
الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي موجبا لسقوطه عن التنجيز ، إذ المفروض في
المقام ثبوت الاضطرار إلى ارتكاب بعض أطراف الشبهات. واما بناء على مختار الشيخ رحمهالله ومن تبعه من تنجيز العلم الإجمالي في غير المقدار المضطر
إليه ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول النافية كما هو ظاهر ، هذا فيما إذا كان
التكليف المعلوم بالإجمال قليلا. واما إذا كان كثيرا بحيث لزم من الرجوع إلى الأصل
النافي في أطراف العلم محذور الخروج عن الدين ، فلا يجوز الرجوع إلى الأصول
النافية على المسلكين.
فتحصل : من جميع
ما تقدم ان المقدمة الأولى وان كانت صحيحة ، ضرورة ان
كل مكلف يعلم
بثبوت تكاليف فعلية بعثية أو زجرية ، إلّا ان العلم الإجمالي منحل بما عرفت. واما المقدمة
الثانية وهي انسداد باب العلم والعلمي فتماميتها موقوفة على عدم حجية الاخبار ،
وقد أثبتنا حجيتها سندا وظهورا. ولو سلمنا عدم انحلال العلم الإجمالي ، ولم نقل
بحجية الاخبار الموثوق بها ، فلا تصل النوبة إلى حجية الظن ، لا بنحو الحكومة لما
عرفت من عدم معقوليتها ، ولا بنحو الكشف لتوقفه على قيام دليل على بطلان التبعيض
في الاحتياط ، ولا دليل عليه. فليست النتيجة إلّا التبعيض في الاحتياط في غير ما
يكون مخلا بالنظام ، أو موجبا للحرج ، فلو فرضنا ارتفاع المحذور بإلغاء جملة من
الموهومات وجب الاحتياط في بقية الأطراف حتى فيما كان التكليف فيه موهوما ، وإذا
لم يرتفع المحذور بذلك ضممنا إلى الساقط بقية الموهومات بل مقدار من المشكوكات إلى
حد يرتفع المحذور.
وبالجملة لا بد من
الاحتياط في غير ما لزم منه المحذور ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمان والأشخاص
والموارد ، ففي الموارد التي علم اهتمام الشارع بها لا بد فيها من الاحتياط حتى في
الموهومات ، وترك الاحتياط في غيرها لعدم المحذور في ذلك ، فيختص رفع اليد عن
الاحتياط بغير تلك الموارد. وعلى ما ذكرناه فلا تصل النوبة إلى البحث عن ان نتيجة
دليل الانسداد هل هي حجية الظن بالواقع ، أو بالطريق ، أو الأعم؟ كما لا مجال
للبحث عن تقدم الظن المانع على الممنوع وعدمه ، وانه لو قام ظن على الواقع وظن آخر
على عدم حجيته فهل يقدم الأول أو الثاني؟ لأن كليهما ليسا بحجة ، ولا للبحث عن
خروج الظن القياسي عن موضوع الحجية الّذي هو من عويصات المقام على القول بالحكومة
، لأن تخصيص الحكم العقلي غير جائز إلى غير ذلك من المسائل المبتنية على استنتاج
حجية الظن من المقدمات.
مباحث الأصول العملية
أصالة
البراءة
أصالة
التخيير
أصالة
الاحتياط
مباحث الأصول العملية
وقبل الخوض فيها نذكر أمورا.
الأمر الأول : ان البحث عن المسائل
الأصولية يرجع إلى أقسام أربعة.
الأول : البحث عن
مداليل الألفاظ بما هي كذلك ، سواء كانت واقعة في الكتاب أو السنة أو غيرهما ،
كمباحث الأوامر والنواهي ، والعموم والخصوص ، والمطلق والمقيد ونحو ذلك. وتسمى هذه
بمباحث الألفاظ.
الثاني : البحث عن
المداليل بما هي كذلك ، سواء كان مدلول دليل لفظي أم لم يكن ، كمباحث المقدمة
والضد ، واجتماع الأمر والنهي ، فان البحث فيها انما هو عن لوازم نفس الأحكام بما
هي ، لا عن دلالة اللفظ كما زعمه صاحب المعالم ، حيث استدل على عدم وجوب المقدمة
بعدم دلالة الأمر بذي المقدمة على وجوبها بإحدى الدلالات الثلاث. ويعبر عن هذا
القسم بالمباحث العقلية ، فان الموضوع فيها وان كان حكما شرعيا ، إلّا ان المبحوث
عنه حكم عقلي ، ولأجل ذلك يعبر عن مثل هذا بالحكم العقلي غير المستقل.
الثالث : البحث عن
حجية شيء ودليليته على ثبوت حكم من الأحكام الواقعية الثابتة لموضوعاتها بعناوينها
الواقعية مع قطع النّظر عن تعليق الجهل أو الشك بها ، كمباحث حجية الطرق والأمارات
، التي تقدم فيها الكلام. ويسمى هذا بمباحث الحجج والأدلة ، ويعبر عن دليل ذلك
الحكم بالدليل الاجتهادي.
الرابع : البحث عن
حجية الأحكام الظاهرية الثابتة لعنوان الشاك في الحكم الواقعي. وتسمى تلك المباحث
بمسائل الأصول العملية ، ويعبر عن دليل ذلك الحكم بالدليل الفقاهتي ، والأصل
العملي.
والمناسبة في
تقييد الأول بالاجتهادي والثاني بالفقاهتي ما ذكروه في تعريف الاجتهاد من (انه
استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الفرعي) ومن الواضح ان المراد من الحكم هو خصوص
الواقعي ، وإلّا لم يكن وجه لأخذ الظن في التعريف ، فالحكم الواقعي مأخوذ في تعريف
الاجتهاد ، ولذلك قيد الدليل الدال عليه بالاجتهادي ، وما ذكروه في تعريف الفقه من
(انه العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية) ومرادهم من الأحكام هو
الأحكام الظاهرية ، ضرورة ان الأحكام الواقعية لا طريق إلى العلم بها غالبا ، فسمي
الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي ، لأنه مثبت للحكم المأخوذ في
تعريف الفقه. هذا وقد تقدم الكلام في الثلاثة الأول من الأقسام ، والبحث فعلا انما
هو في القسم الرابع.
الأمر الثاني : ان الأصول العملية التي
هي المرجع في الشبهات الموضوعية والحكمية منحصرة في أربعة. لأن الشك اما أن يكون في أصل التكليف ، وإما يكون في المكلف
به. وعلى الأول ان لوحظ فيه الحالة السابقة فهو مورد للاستصحاب ، وإلّا فهو مجرى للبراءة
، واما على الثاني فمع إمكان الاحتياط يكون من موارد قاعدة الاشتغال ، وإلّا فهو
مورد التخيير.
واما عدم ذكر
قاعدة الطهارة في علم الأصول ، وإحالتها إلى علم الفقه ، فلعدم وقوع الخلاف فيها ،
كما وقع في غيرها. واما ما ذكره في الكفاية من كون الوجه في ذلك عدم اطرادها في جميع أبواب الفقه ،
واختصاصها بخصوص باب الطهارة ، فغير
__________________
تام ، لأن الميزان
في كون المسألة أصولية هو وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط ، ولا يعتبر في ذلك
جريانها في جميع أبواب الفقه ، ومن الواضح ان جملة من المباحث الأصولية كمبحث
دلالة النهي في العبادة على الفساد ونحوه غير مطردة في جميع الأبواب ، وانما هي
مختصة ببعضها ، فلا فرق بين أصالة البراءة وقاعدة الطهارة إلّا في أن الأولى تجري
عند الشك في حلية الشيء وحرمته ، والثانية تجري عند الشك في طهارة شيء ونجاسته.
وربما يوجد في بعض
الكلمات وجه آخر لإسقاط البحث عن قاعدة الطهارة في علم الأصول وحاصله : ان الطهارة
والنجاسة لما كانتا من الأمور الواقعية فدائما يكون الشك فيهما من الشبهة
المصداقية ، ومن الواضح ان البحث عن حكم الشبهات الموضوعية لا يكون من المباحث الأصولية
، فان المسألة الأصولية لا بد وان يستنتج منها حكم كلي ، كما مر بيانه فيما تقدم.
وفيه : انه لو
أريد من واقعيتهما عدم كون الحكم بهما جزافا ، وانه انما ينشأ عن المصلحة أو
المفسدة ، فالشك في الحكم بنجاسة شيء وطهارته ناشئ من الشك في منشئهما الّذي هو من
الأمر الواقعي ، فهو وإن كان متينا ، إلّا أنه غير مختص بالطهارة والنجاسة ، بل
يجري في جميع الأحكام ، فانها كلها ناشئة من المصالح والمفاسد النّفس الأمرية ،
والشك فيها يستلزم الشك في منشئها.
وإن أريد بها
أنهما من قبيل الخواصّ والآثار ، كالحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة الثابتة
للأدوية التي لا يعرفها إلّا العارف بخواص الأدوية من الأطباء ، فالطهارة والنجاسة
أيضا من الأمور الواقعية ، وإن كان لا يعرفها إلّا الشارع العالم بالغيب ، فيرد
عليه.
أولا : ان ذلك
خلاف ظواهر الأدلة ، إذ الظاهر من دليلهما انهما حكمان مجعولان كسائر الأحكام
الوضعيّة.
وثانيا : لو سلمنا
كونهما من الأمور الواقعية الثابتة في نفس الأمر ، وقد كشف الشارع عنهما ، فلا
نسلم كون الشبهة فيهما مصداقية ، فان ضابط الشبهة المصداقية أن يكون المرجع فيها
إلى العرف لا إلى الشارع ، ولا إشكال في أنه لا بد من الرجوع إلى الشارع عند الشك
في نجاسة ما وقع الخلاف في طهارته ونجاسته ، كالعصير العنبي إذا غلا ، وعرق الجنب
من الحرام وأمثالهما. وبالجملة كل ما يكون بيانه من وظائف الشارع فالشك فيه من
الشبهة الحكمية ، ولا ريب أن الشك في الطهارة والنجاسة من هذا القبيل ، فلا فرق من
هذه الجهة بين قاعدة الطهارة وأصالة البراءة.
فالصحيح : ما عرفت
من ان قاعدة الطهارة من المسائل الأصولية ، وانما لم تذكر فيها لما بيناه ، ومع
قطع النّظر عن ذلك فالأولى أن يقال : ان الشك تارة : يكون في الحكم التكليفي فيجري
فيه الأقسام الأربعة المتقدمة ، وأخرى : يكون في الحكم الوضعي. وعلى الثاني فان
كان المشكوك طهارة شيء ونجاسته فهو مورد لقاعدة الطهارة أو الاستصحاب ، وان كان
غير ذلك فلا يجري فيه شيء من الأصول غير الاستصحاب.
ثم ان شيخنا
الأنصاري رحمهالله قسم الشك في التكليف إلى ما كان منشؤه عدم النص ، أو إجماله
، أو تعارض النصين ، أو الأمور الخارجية. وعلى كل منها فتارة : تكون الشبهة وجوبية
، وأخرى : تحريمية ، فالأقسام ثمانية ، تكون الشبهة في قسمين منها موضوعية ، وفي
الباقي حكمية. والوجه في هذا التقسيم مضافا إلى ان الخلاف المعتد به قد وقع في
بعضها دون بعض ، اختصاص بعضها بدليل خاص كالشبهة التحريمية الوارد فيها قوله عليهالسلام «كل شيء مطلق حتى
يرد فيه نهي» وقوله عليهالسلام «انما
__________________
الأمور ثلاثة :
أمر بيّن رشده فيتّبع ، إلى أن قال : ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات» .
ولكن المحقق
الخراسانيّ قدسسره قد عكس المطلب ، وجعل محط البحث مطلق الشك في التكليف ،
الجامع بين الأقسام ، لاتحاد جهة البحث فيها ، وهو عدم وصول الحكم الواقعي ، وعمدة
أدلة القول بالبراءة شاملة لجميع الأقسام ، واختصاص بعضها بدليل خاص لا يوجب
إفراده بالبحث وتكثير الأقسام. إلّا أنه قدسسره أخرج عن البحث فرض تعارض النصين ، وأحاله إلى باب التعادل
والتراجيح بدعوى : انه لا بد فيه من الرجوع إلى المرجحات أو إلى التخيير ، فهو
خارج عن المقام.
والصحيح أن يقال :
ان موضوع البحث في المقام هو الجامع بين جميع الأقسام حتى فيما كان منشأ الشك في
التكليف تعارض النصين ، فان مقتضى القاعدة عند التعارض كما سيأتي إن شاء الله هو
التساقط ، غاية الأمر أنه دل الدليل في خصوص تعارض الخبرين على عدم التساقط ،
ولزوم الرجوع إلى المرجحات أو إلى التخيير ، ومن الظاهر انه لا ينحصر مورد تعارض
الدليلين بخصوص الخبرين ، إذ قد يعارض ظاهر الكتاب غيره ، وقد يعارض الإجماع
المنقول بمثله بناء على حجيته ، إلى غير ذلك مما لم يرد في علاج التعارض فيه دليل
خاص ، فيحكم فيه بالتساقط ، ولا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصول العملية ، بل قد
ذكرنا في محله أنه لو كان التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، وكان منشأ التعارض
إطلاق كل من الدليلين لمورد الاجتماع كان الحكم فيه أيضا هو التساقط ، والرجوع إلى
الأصل العملي ، وعلى هذا فالمناسب إدخال تعارض الدليلين أيضا في محل البحث ، غاية
__________________
الأمر يخرج منه
صورة واحدة ، وهي ما إذا كان التعارض بين الخبرين ولم تكن المعارضة مستندة إلى
الإطلاق.
فيقال : في تحرير
عنوان البحث ، إذا شككنا في حكم إلزاميّ من المولى ، ولم يكن المورد من دوران
الأمر بين المحذورين ، سواء كان منشؤه عدم النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين في
غير الخبرين مطلقا ، وفي الخبرين المتعارضين بالعموم ، فهل المرجع هو البراءة أو
الاحتياط.
الأمر الثالث : ان خلاف الأخباري مع
الأصولي في الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال إنما هو في خصوص الشبهة التحريمية. واما في الشبهة الوجوبية فوافقوا الأصوليين في الرجوع إلى
البراءة كما في الشبهة الموضوعية ، نعم خالف فيها المحدث الأسترآبادي ، فالتزم
بالاحتياط.
إذا عرفت هذه
الأمور فلنشرع في المبحث الأول.
أصالة البراءة
أدلة
البراءة
الأدلة
التي استدل بها على لزوم الاحتياط
تنبيهات
البراءة
المبحث الأوّل :
أدلة البراءة
قد استدل على
البراءة بوجوه :
الاستدلال على
البراءة بالآيات :
الأول : الآيات ،
وهي كثيرة.
منها : قوله تعالى
(وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فان بعث الرسول بحسب الارتكاز والفهم العرفي كناية عن
إيصال الحجة والبيان ، إذ لا أثر لذلك إذا تجرد عن البيان وإعلام العباد بوظائفهم
، وعلى هذا فالمراد من الآية نفي التعذيب والعقاب على مخالفة التكليف ما لم يصل.
وقد أورد على هذا
الاستدلال بأن المراد من العذاب في الآية هو الدنيوي ، فالمستفاد منها عدم إنزال
العذاب على الأمم السالفة إلّا بعد إتمام الحجة عليهم ، فهي أجنبية عن الدلالة على
نفي العقاب من دون بيان.
وفيه : مضافا :
إلى انه لو سلم ذلك أمكن استكشاف نفي العذاب الأخروي عند عدم تمامية البيان
بالأولوية ، فان العذاب الدنيوي أهون من العذاب الأخروي ، أن جملة ما كانا أو ما
كان وما شابهها من هذه المادة ظاهرة في أن الفعل غير لائق بالفاعل ، ولا يناسبه
صدوره منه ، وذلك يظهر من استقراء موارد استعمالها ، كقوله
__________________
تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) وقوله عزّ شأنه (ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله سبحانه (ما كانَ اللهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) إلى غير ذلك ، فالمعنى أن التعذيب قبل البيان لا يليق
بالله تعالى ، ولا يناسبه جل شأنه ، ولا يفرق حينئذ بين العذاب الدنيوي وغيره.
وبهذا البيان
يندفع الإشكال الثاني على الآية ، وهو ان المنفي فيها إنما هو فعلية العذاب لا
استحقاقه ، مع ان محل الكلام بيننا وبين الأخباريين هو الثاني ، وذلك لأن لازم عدم
مناسبة العذاب قبل البيان وعدم كونه لائقا ان لا يكون في العبد استحقاق لذلك أصلا
، إذ مع فرض الاستحقاق لا وجه لعدم كون التعذيب المزبور لائقا بالله سبحانه.
وبما ذكرناه ظهر
عدم الحاجة إلى ما أجاب به الشيخ رحمهالله عن الإشكال من أن الخصم يسلم الملازمة بين نفي الفعلية
والاستحقاق ، ليرد عليه الوجهان المذكوران في الكفاية من أن الاستدلال حينئذ يكون جدليا ، ولا يمكن ان يستند
إليه الأصولي المنكر للملازمة ، مضافا إلى أن إثبات الملازمة بعيد جدا ، لا يلتزم
به أحد ، فانه ربما ينتفي فعلية العذاب في مورد العصيان اليقيني بشفاعة أو توبة أو
مغفرة مع ثبوت الاستحقاق فيها بلا إشكال ، وليس ارتكاب الشبهة بأعظم من المخالفة
القطعية ، فمن أين تثبت الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.
ثم ان إطالة
الكلام في الاستدلال بالآيات والروايات ، أو بحكم العقل بقبح
__________________
العقاب بلا بيان
لإثبات عدم استحقاق العقاب في فرض عدم البيان ، مما لا وجه له ، فان ذلك مما لم
ينكره أحد ، ولا خلاف فيه بين الأصوليين وغيرهم ، فالكبرى مسلمة عند الكل. وانما
الخلاف في الصغرى ، حيث ذهب الأخباريون إلى تمامية البيان ، وقيام الحجة على
التكاليف الواقعية المحتملة من وجهين.
الأول : العلم
الإجمالي بثبوت أحكام إلزامية ، وهو يقتضي الاحتياط.
الثاني : الأخبار
الواردة في التوقف عند الشبهة والآمرة بالاحتياط فيها ، فانها بيان وحجة على
الواقع المشكوك فيه.
وإذا تم لنا إبطال
الوجهين ، بإثبات انحلال العلم الإجمالي بما عثرنا عليه من أحكام في الأخبار ،
وبما سنبينه من عدم دلالة أخبار التوقف على وجوب الاحتياط ، وافقنا الأخباري في
القول بالبراءة وعدم استحقاق العقاب. فالمهم لنا البحث من ناحيتين.
الأولى : في دلالة
تلك الأخبار على وجوب الاحتياط والوقوف عند الشبهة. ونتعرض لهذه الجهة عند ما نذكر
أدلة الأخباريين.
الثانية : فيما
ورد من الروايات الدالة على جواز الاقتحام عند الشبهة ، وانه لا تعارضها اخبار
التوقف على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط ، وهي اخبار كثيرة.
الاستدلال على
البراءة بالروايات
حديث الرفع
منها : حديث الرفع
المروي في الخصال بسند صحيح عن حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه
، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ،
والتفكر في
الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» وتقريب الاستدلال : ان الإلزام المحتمل ، وجوبا كان أو تحريما
، إذا لم تقم حجة على ثبوته كان داخلا فيما لا يعلم ، فهو مرفوع ظاهرا وان كان
ثابتا واقعا ، توضيح ذلك : ان الحكم سواء كان واقعيا أو ظاهريا فأمر وضعه ورفعه
بيد الشارع ، فكما ان المولى له ان يجعل الوجوب أو الحرمة واقعا ، كذلك له ان يجعل
الوجوب أو الحرمة في ظرف الشك في الواقع ، فإذا لم يفعل مع وجود المقتضى له فقد
رفعه. والرفع بهذا المعنى غير مستلزم للتصويب كما هو ظاهر. نعم المرفوع ذات ما لا
يعلم ، أي نفس الحكم الإلزامي لا بعنوان كونه واقعيا ، والالتزام بهذا المقدار من
المسامحة في الحديث مما لا بد منه ، ولا تنافي بين رفع الحكم في مقام الظاهر
وثبوته في الواقع على ما مر عليك بيانه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
وما ذكرناه هو
مراد صاحب الكفاية قدسسره من قوله فالإلزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا
وان كان ثابتا واقعا ، والمقصود من الفعلية في كلامه هو حال الشك في الواقع ،
لا الفعلية الاصطلاحية كما فهمه بعض أعاظم مشايخنا رحمهالله .
ثم لا يخفى ان
الحكم الظاهري بعد ما عرفت من كونه قابلا للوضع والرفع بنفسه يكون مرفوعا ، وليس
رفعه بعدم إيجاب الاحتياط على ما يظهر من كلام الشيخ رحمهالله ، نعم ان ذلك من لوازم رفع الحكم إذ لا معنى لإيجاب
الاحتياط في فرض رفع الحكم ظاهرا ، فالمرفوع عند الشك في الحرمة مثلا انما هو نفس
__________________
الحرمة ، ويلزمه
عدم إيجاب الاحتياط لا محالة.
نعم إذا شك في
إيجاب الاحتياط في مورد ، ولم يقم عليه حجة كان المرفوع هو إيجاب الاحتياط ، لكنه
خارج عن محط كلام الشيخ قدسسره في المقام.
وبالجملة المرفوع
عند الشك في وجوب شيء أو حرمته هو نفس المشكوك في الظاهر ، ولازمه ثبوت الترخيص في
اقتحام الشبهة وعدم وجوب الاحتياط ، فان الأحكام متضادة في مرحلة الظاهر كتضادها
في مرحلة الواقع ، فكما ان عدم الإلزام في الواقع يستلزم الترخيص واقعا ، كذلك عدم
الإلزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا ، وإذا ثبت الاذن في الاقتحام لا يبقى
مجال لاستحقاق العقاب ، فيكون حال الشبهة الحكمية حال الشبهة الموضوعية التي ثبت
فيها الاذن بالدلالة المطابقية بقوله عليهالسلام «كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال» ونحو ذلك ، فيثبت بحديث الرفع أصالة الحل ، وجواز ارتكاب
محتمل الحرمة ، وترك محتمل الوجوب.
ثم لا يخفى ان
تمامية هذا الاستدلال مبتنية على أن يكون الموصول (فيما لا يعلمون) كناية عن نفس
الحكم ، أو عما يعمه ، لا عن خصوص الفعل الخارجي ، إذ لو أريد منه خصوص الفعل
لاختص الحديث بالشبهة الموضوعية ، أعني به ما إذا كان الفعل غير معلوم عنوانا ،
بان لا يعلم المكلف ان شرب المائع المعين شرب خمر أو ماء ، ولا يعم الشبهات
الحكمية. والوجه في ذلك ان ظاهر الوصف المأخوذ في الموضوع أن يكون من قبيل الوصف
بحال نفس الموصوف لا بحال متعلقه ، فلو كان الموصول عبارة عن الفعل الخارجي اختص
الحديث بما كان الفعل مجهولا بنفسه لا بحكمه ، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية
التي لا يكون عنوان الفعل فيها مجهولا أصلا.
__________________
وربما يقال : بان
المراد من الموصول هو الفعل ، واستشهد له بأمور.
أحدها : ان المراد
منه في بقية الفقرات خصوص الفعل ، إذ لا معنى لتعلق الإكراه والاضطرار بالحكم ،
فاتحاد السياق يستدعي أن يكون المراد منه فيما لا يعلمون أيضا ذلك.
وفيه : ان الموصول
في جميع هذه الجمل مستعمل في معنى واحد ، وهو الشيء الّذي هو معناه الحقيقي ،
والاختلاف انما هو من جهة انطباقه على مصاديقه بحسب اختلاف صلته ، فكأنه قال : رفع
الشيء الّذي لا يعلم ، والشيء المضطر إليه ، والشيء المكره عليه ... إلخ ، غاية
الأمر ان الشيء المضطر إليه لا ينطبق خارجا إلّا على الأفعال الخارجية ، وهكذا
الشيء المكره عليه ، بخلاف الشيء المجهول ، فانه يعم الحكم المجهول أيضا ، فالسياق
في الجميع واحد ، والاختلاف انما هو في الانطباق.
ثانيها : ان اسناد
الرفع إلى الحكم حقيقي ، واسناده إلى الفعل مجازي ، إذ لا معنى لتعلق الرفع
التشريعي بالموجود الخارجي ، لعدم كون رفعه ووضعه بيد الشارع ، فلو أريد بالموصول
الفعل الخارجي في جميع الفقرات كان الإسناد في الجميع مجازيا. واما إذا أريد به
الحكم في خصوص ما لا يعلمون كان الإسناد بالإضافة إليه حقيقيا ، وبالإضافة إلى
سائر الفقرات مجازيا ، وهذا المقدار وان لم يكن فيه محذور في نفيه ، إذ لا مانع من
الالتزام بكون الإسنادات المتعددة في الكلام الواحد مختلفة ، فكان بعضها حقيقيا
وبعضها مجازيا ، إلّا ان الرفع في الحديث أسند بإسناد واحد إلى عنوان جامع بين
جميع المذكورات ، وهو عنوان التسعة ، والمذكورات بعده بيان ومعرف لها ، فإذا كان
الإسناد في بعضها حقيقيا وفي غيره مجازيا لزم أن يكون الإسناد الواحد حقيقيا
ومجازيا بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه ، وهو مستحيل.
وفيه : أولا : انه
انما يتم لو أريد بالرفع الرفع التكويني ، فان اسناد الرفع حينئذ
إلى الفعل الخارجي
يكون مجازيا لا محالة. واما إذا أريد به الرفع التشريعي ، كان اسناده إلى الفعل
أيضا حقيقيا ، ومعنى رفع الفعل تشريعا عدم جعله موردا للاعتبار المولوي فعلا أو
تركا ، نظير قوله عليهالسلام (لا صيام في السفر)
و «لا صلاة بعد
الفجر حتى تطلع الشمس» و «لا ربا بين
الوالد والولد» فان معنى رفع هذه الأمور عدم تعلق الاعتبار الشرعي بها ، وعلى هذا
يكون اسناد الرفع إلى جميع التسعة حقيقيا ، من دون فرق بين مصاديقها بإرادة الحكم
أو الفعل الخارجي منها.
وثانيا : لو سلم
كون الرفع تكوينيا ، فإسناد الرفع إلى المذكورات وان كان حقيقيا وإلى ما هو له ،
وإلى غيره مجازيا وإلى غير ما هو له ، إلّا ان ذلك بحسب اللب وانحلال الحكم الواحد
الكلامي إلى أحكام عديدة ، وأما بحسب اللفظ والإسناد الكلامي فليس الإسناد إلّا
إسنادا واحدا ، فان وحدة الجملة تقتضي وحدة الإسناد ، وعليه فالإسناد إذا لم يكن
إلى ما هو له كما هو المفروض كان إلى غير ما هو له.
وان شئت قلت : ان
الإسناد الواحد إلى المجموع المركب مما هو له ومن غير ما هو له اسناد إلى غير ما
هو له ، فإذا أسند إنبات البقل في الكلام إلى الله تعالى وإلى الربيع بإسناد واحد
كان الإسناد مجازيا بالضرورة ، وهذا نظير أن يقال : من ان المركب من الداخل
والخارج خارج ، وان النتيجة تابعة لأخس المقدمتين.
ثالثها : ان مفهوم
الرفع يقتضي أن يكون متعلقه أمرا ثقيلا ، كما في قوله تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ومن الظاهر ان ما فيه الثقل هو نفس فعل الواجب أو ترك
الحرام ، واما مجرد الحكم بالوجوب أو الحرمة فليس فيه ثقل ، وانما هو جعل المكلف
__________________
في الضيق بتحميل
الفعل أو الترك عليه ، ومن ثم يعبر عنه بالتكليف ، وعليه فلا بدّ من ان يراد
بالموصول في جميع الفقرات الفعل دون الحكم.
وفيه : ان الثقل
وان كان في متعلق التكليف دون نفسه ، إلّا ان الرفع كما يصح اسناده إلى ما فيه
الثقل يصح اسناده بلا مسامحة إلى السبب الموجب له ، أو الأثر المترتب عليه ، فيقال
: رفع الإلزام ورفع المؤاخذة ، وعليه فلا مانع من اسناد الرفع إلى نفس الحكم.
رابعها : ان الرفع
والوضع متقابلان تقابل التضاد ، أو العدم والملكة ، فهما يتواردان على مورد واحد ،
ومن الظاهر ان متعلق الوضع انما هو الفعل أو الترك على ذمة المكلف ، فلا مناص من
كون متعلق الرفع كذلك.
وفيه : انه انما
يتم إذا كان ظرف الرفع أو الوضع ذمة المكلف : واما إذا كان ظرفه الشرع كان
متعلقهما هو الحكم لا محالة ، وظاهر الحديث ان ظرف الرفع هو الإسلام ونفس الشريعة
، فيكون المرفوع هو الحكم.
خامسها : انه لا
إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية ، فالموصول فيما لا يعلمون قد أريد به
الفعل يقينا ، فلو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله في معنيين ، وهو خلاف الظاهر
لو لم يكن مستحيلا.
وفيه : أولا : ان
الموصول كما عرفت دائما يستعمل في معنى واحد ، وهو مفهوم الشيء ، فقد ينطبق على
الفعل ، وقد ينطبق على الحكم ، فالاختلاف في المصداق دون المفهوم.
وثانيا : ان شمول
الحديث للشبهات الموضوعية لا يقتضي إرادة الفعل من الموصول ، لجواز إرادة الحكم
منه أيضا ، فالحكم المجهول مرفوع مطلقا ، سواء كان سبب الجهل به عدم الحجة على
التكليف أو اشتباه الأمور الخارجية.
فتلخص مما ذكرناه
عدم تمامية شيء مما ذكروه لاختصاص الحديث
بالشبهات
الموضوعية ، فلا موجب لرفع اليد عن عمومه للشبهات الحكمية. كما ظهر مما ذكرناه عدم
الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ، ولا الأثر الظاهر ، ولا غير ذلك ، بعد تعلق الرفع
بنفس الحكم ، وعليه فيعم الحديث الحكم الوضعي المجهول أيضا ، فإذا شك في جزئية شيء
أو شرطيته أو مانعيته لجرى فيه حديث الرفع ، فان كلا منها حكم مجهول. هذا وسيأتي
البحث عن معارضة الحديث مع اخبار الاحتياط.
بقي الكلام في فقه
الحديث. والكلام فيه يقع في ضمن تنبيهات.
التنبيه الأول :
انه ربما يشكل في الرواية بان الرفع ظاهر في إزالة الشيء الثابت ، بخلاف الدفع ،
فانه عبارة عن سد باب المقتضى عن التأثير ، وعليه فكيف صح استعمال الرفع في المقام
مع عدم ثبوت تلك الأحكام في زمان.
وأجاب المحقق
النائيني قدسسره عن ذلك بان الرفع مساوق في المعنى مع الدفع دائما لما بين في مبحث الضد من ان الممكن كما يحتاج إلى المؤثر
في حدوثه كذلك يحتاج إليه في بقائه ، وعلة الحدوث لا تكفي في البقاء أبدا ،
فالرافع دائما يزاحم المقتضى في تأثيره في الأكوان المتجددة ، وهذا هو معنى الدفع.
نعم على القول بكفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول كان الرفع مغايرا للدفع ،
لكنه باطل كما عرفت في محله.
والتحقيق : ان ما
أفاده وان كان صحيحا ، إلّا انه لا يستلزم اتحاد مفهوم الرفع والدفع ، لإمكان دعوى
اختلافهما بوضع لفظ الرفع لخصوص المنع على تأثير المقتضى بقاء بعد فرض وجود
المقتضى وحدوثه ، ووضع لفظ الدفع للمنع عن التأثير حدوثا.
فالصحيح : ان يجاب
عن ذلك بأحد وجهين.
أحدهما : أن يقال
: ان إطلاق الرفع في الحديث انما هو باعتبار ثبوت تلك
__________________
الأحكام في
الشرائع السابقة ولو بنحو الموجبة الجزئية ، ويستظهر ذلك من اختصاص الرفع في الحديث
بالأمة المرحومة ، فلا عناية في استعمال الرفع فيها
ثانيهما : أن يقال : ان الرفع كما يصح
استعماله في إزالة الشيء بعد وجوده كذلك يصح استعماله فيما إذا تحقق المقتضى
القريب لوجوده فزاحمه ما يمنعه عن التأثير ، مثلا إذا تحقق سبب قتل شخص حتى أوقف
تحت السيف فعفي عنه صح أن يقال عرفا ارتفع عنه البلاء ، واستعماله في الحديث يمكن
أن يكون من هذا القبيل.
التنبيه الثاني :
ان الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون رفع ظاهري ، ولا منافاة بينه وبين ثبوت الحكم
واقعا كما مر ، فلو كان في البين عموم أو إطلاق مثبت للتكليف لارتفع به الجهل ،
فلا يبقى موضوع لحديث الرفع بالحكومة أو الورود. كما انه إذا عثرنا على الدليل
المثبت للتكليف بعد العمل بحديث الرفع استكشف به ثبوت الحكم في الواقع من أول
الأمر ، فإذا شككنا في جزئية شيء أو شرطيته للصلاة ، وبنينا على عدمها تمسكا
بالحديث ، ثم بان لنا الخلاف فالاكتفاء بالفاقد المأتي به مبني على اجزاء الأمر
الظاهري عن الواقعي ، أو على جريان حديث لا تعاد في مثل ذلك. واما الرفع في بقية
الفقرات فهو واقعي ، فلو فرض ثبوت عموم أو إطلاق مثبت للحكم في هذه الموارد لا بد
من تخصيصه بحديث الرفع ، ويترتب على ذلك كون ارتفاع تلك العناوين موجبا لتبديل
الحكم من حينه ، فيجزي المأتي به حال الاضطرار. وهذه ثمرة مهمة نافعة في باب الخلل
وغيره.
التنبيه الثالث :
لا اختصاص لحديث الرفع بالاحكام التكليفية ، بل يعم الأحكام الوضعيّة : كما لا
اختصاص له بمتعلقات الأحكام ، بل يجري في الموضوعات أيضا ، بيانه : ان فعل المكلف
كما يقع متعلقا للتكليف يقع موضوعا له ، فإذا اضطر المكلف أو أكره على إيجاد موضوع
التكليف كالإفطار في نهار شهر رمضان الّذي هو موضوع لوجوب الكفارة ارتفع عنه حكمه
، لأنه مرفوع في عالم التشريع. واما إذا
اضطر أو أكره على
إيجاد المتعلق ففيه تفصيل ، بيان ذلك : ان متعلق التكليف ان كان هو الكلي الساري
المعبر عنه بما أخذ فيه مطلق الوجود ، كما في المحرمات المنحلة إلى أحكام عديدة ،
فطرو أحد هذه العناوين على فرد من افراد الطبيعة يسقط التكليف المتعلق بذلك الفرد
، والوجه في ذلك ظاهر. واما إذا كان المتعلق هو الكلي الطبيعي على نحو صرف الوجود
كما في التكاليف الإيجابية فطرو أحد هذه العناوين على فرد من ذلك الكلي لا أثر له
في ارتفاع الحكم عن متعلقه أصلا ، وذلك لأن ما طرأ عليه العنوان وهو الفرد لا حكم
له على الفرض ، وما هو متعلق الحكم وهو الطبيعي لم يطرأ عليه العنوان ، فإذا اضطر
المكلف إلى ترك الصلاة في جزء من الوقت لم يسقط الوجوب عن طبيعي الصلاة المأمور
بها في مجموع الوقت بالضرورة ، وهذا نظير ما إذا وجب إكرام عالم ما ، فاضطر المكلف
إلى ترك إكرام زيد بخصوصه ، فانه لا يوجب سقوط الوجوب عن الطبيعي المأمور به. نعم
لو اضطر إلى ترك الطبيعة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما إذا لم يأت به قبل
ذلك كان التكليف ساقطا لا محالة. هذا كله في التكاليف الاستقلالية.
وبما بيناه ظهر
الحال في التكاليف الضمنية ، فلو اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط من المركب ، أو
إيجاد مانع في فرد لا يرتفع به التكليف المتعلق بذلك الجزء أو الشرط أو المانع ،
لما تقدم من ان متعلق التكليف لم يتعلق به الاضطرار وان ارتفع به حرمة إبطال العمل
من تلك الناحية ، فالإتيان بالناقص حينئذ لا يكون مجزيا مع التمكن من إيجاد فرد
تام من بقية الافراد. نعم لو كان الاضطرار مثلا مستوعبا لتمام الوقت سقط التكليف
المتعلق بالمركب المشتمل على المضطر إليه. وهل يجب الإتيان بغير ما اضطر إليه مما
اعتبر في الواجب؟ ربما يقال به ، نظرا إلى ان المرفوع بحديث الرفع انما هو خصوص
الأمر أو النهي الضمني المتعلق بالمضطر إليه ، فيبقى الأمر بغيره على حاله.
وان شئت قلت : ان
المرفوع انما هو خصوص جزئية المضطر إليه أو شرطيته أو مانعيته ، واما غيره فلا
موجب لرفع اليد عن وجوبه.
ولكن الصحيح : ان
الأمر والنهي الضمنيين لا يرتفعان إلّا بارتفاع أصل التكليف ، لأنهما تابعان له
حدوثا وبقاء ، كما ان الحكم الوضعي المنتزع عن الحكم التكليفي المتعلق بالمجموع
كالجزئية أو الشرطية أو المانعية لا ترتفع إلّا بارتفاع أصل التكليف الّذي هو
المنشأ لانتزاعها ، فإذا ارتفع ذلك التكليف كان إثبات التكليف ببقية الاجزاء
محتاجا إلى دليل آخر ، مثلا لو اضطر إلى التكلم في الصلاة ، أو أكره على الصلاة
إلى غير القبلة في تمام الوقت ، فالصلاة إلى القبلة أو الخالية عن كلام الآدمي لا
تكون واجبة عليه بحديث الرفع ، واما الصلاة إلى غير القبلة أو المشتملة على كلام
الآدمي فوجوبها يحتاج إلى دليل آخر ، ولا يكفي في ثبوته حديث الرفع ، لما عرفت من
انه لا يترتب عليه إلّا رفع الحكم الثابت للمجموع ، واما ثبوت الحكم لغيره الفاقد
لبعض القيود فحديث الرفع أجنبي عنه بالكلية. ويمكن دعوى ثبوت الدليل في خصوص
الصلاة لقوله عليهالسلام «لا تدع الصلاة
على حال» واما غيرها من العبادات كالصوم أو الحج ، فالحكم بوجوب
الفاقد لقيد لأجل الاضطرار أو الإكراه لا بد فيه من التماس دليل خاص يدل عليه.
فان قلت : ان من
آثار الإخلال ببعض ما اعتبر في الواجب وجوب قضائه بعد الوقت ، فإذا تحقق الإخلال
اضطرارا كان مرفوعا بحديث الرفع ، فلا محالة يكون العمل معه صحيحا ، إذ لا نعنى بالصحّة
إلّا إسقاط القضاء ، فالاضطرار إلى ترك جزء أو شرط إذا كان مستوعبا للوقت كما انه
يوجب سقوط الوجوب عن المشتمل على ذلك الجزء أو الشرط بحديث الرفع ، كذلك يوجب سقوط
القضاء عند الإتيان
__________________
بالعمل الفاقد له.
قلت : وجوب القضاء
انما هو من آثار فوت الواجب في الوقت ، وسيجيء انه لا يرتفع بالاضطرار أو الإكراه
، ومن هنا لم يشك أحد في وجوب القضاء فيما إذا لم يؤت بالواجب في الوقت أصلا ولو
كان ذلك عن إكراه أو اضطرار وعليه فسقوط القضاء في المقام انما هو من آثار الحكم
بصحة المأتي به ، الفاقد لبعض ما اعتبر فيه من جهة الإكراه أو الاضطرار ، وقد عرفت
ان رفع الوجوب الضمني أو الحكم الوضعي من الجزئية أو الشرطية أو المانعية لا يكون
إلّا برفع الحكم عن المجموع ، وهو لا يستلزم وجوب بقية الاجزاء مما لم يطرأ عليه
عنوان الإكراه أو الاضطرار.
فان قلت : انّ ما
ذكر وان تم في الاجزاء والشرائط فيما إذا أسند ترك شيء منها إلى الإكراه أو
الاضطرار ، إلّا انه لا يتم في الموانع ، فإذا أكره المصلي على التكلم في أثناء
صلاته أمكن القول بعدم إبطاله للصلاة ، بدعوى ان ما صدر بالإكراه من الكلام ليس
بكلام شرعا بحديث الرفع ، فلا يكون مبطلا.
قلت : لو كان حديث
الرفع ناظرا إلى نفي الموضوع ، ورافعا لانطباقه على فرده المضطر إليه أو المكره
عليه لكان الأمر كما ذكر ، لكنه ليس كذلك ، بل هو ناظر إلى نفي الحكم فقط ، ولا
يترتب عليه ثبوت الحكم للباقي من اجزاء الواجب ، توضيح ذلك : ان الرفع تارة :
يتعلق بالشيء بعنوانه الأولى ، فيكون لسان الدليل المتكفل للرفع عدم انطباق
الطبيعي المتعلق للتكليف أو المأخوذ في موضوعه على المرفوع بنحو الحكومة ، كما في
قوله عليهالسلام «لا شك لكثير الشك»
وقوله عليهالسلام «لا ربا بين
الوالد والولد» وقوله عليهالسلام «كلما ناجيت به
ربك في الصلاة فليس بكلام» إلى غير ذلك ، ويترتب عليه عدم ثبوت حكم الطبيعي للفرد
المرفوع في الشريعة ، فان ثبوت حكم طبيعي
__________________
على فرد يتوقف على
كونه مصداقا ، له فإذا ارتفع ذلك بحكم الشارع لم يثبت له حكمه بالضرورة ، فالتكلم
في الصلاة مع الله تعالى خارج عن موضوع الكلام بالحكومة ، فلا يكون مبطلا لها.
وأخرى : يتعلق
بالعنوان الثانوي الطارئ على الشيء ، كعنوان الاضطرار والإكراه ونحوها ، وفي مثله
لا يمكن ان يستفاد منه ما كان يستفاد في القسم الأول ، وذلك لأن نفي الشيء بعنوانه
الثانوي الطارئ تشريعا ان أريد به تنزيل العنوان الطارئ منزلة العدم ، فكأن الفعل
الصادر عن إكراه لم يقع كذلك بل وقع اختيارا ، فلازمه ترتيب آثار الاختيار عليه ،
وهو خلاف المقصود ، وخلاف ظاهر الدليل. وان أريد به تنزيل ذات الفعل المضطر إليه
منزلة العدم ليكون معناه ان الفعل الصادر حال الاضطرار لا يكون مصداقا لذلك الفعل
في نظر الشارع ، فالتكلم الصادر بالاضطرار ليس بكلام شرعا ، فهو خلاف ظاهر الدليل
، فان ظاهر رفع المضطر إليه ، رفعه بهذا العنوان لا بعنوانه الأولي. فإذا لا مناص
من الالتزام بكون المرفوع هو الفعل المعنون بأحد هذه العناوين في عالم التشريع ،
بمعنى عدم كونه متعلقا لاعتبار الشارع وحكمه ، ومرجعه إلى نفي الحكم الثابت
للعنوان الأولي عنه ، وليس هو فيما نحن فيه إلّا التكليف الضمني أو الحكم الوضعي ،
وقد عرفت ان رفعهما لا يكون إلّا برفع الحكم المتعلق بالكل الّذي هو منشأ انتزاعه
، فبالنتيجة لا يكون المرفوع إلّا أصل التكليف المتعلق بالمجموع ، واما ثبوته في
الاجزاء الباقية فيحتاج إلى دليل آخر. ومما يشهد لما ذكرناه من ان المرفوع في حديث
الرفع هو الحكم دون الفعل ان الرفع كالوضع في التكاليف الوجوبية ، كما يصح اسناده
إلى الحكم يصح اسناده إلى الفعل ، فصح أن يقال : رفع وجوب الصلاة عن الصبي أو رفعت
الصلاة عنه ، ويقابله وضع الوجوب في الشريعة ، ووضع الفعل واعتباره في الذّمّة.
واما في موارد التكاليف التحريمية أو الأحكام الوضعيّة ، فلا يصح إسنادهما إلى
الفعل ، فلا
يقال : رفع شرب
الخمر عن المضطر ، أو وضع شربه على المختار ، كما لا يقال : رفع البيع عن المكره ،
أو وضع البيع على المختار ، وانما يسندان إلى نفس الحكم ، فيقال : رفعت حرمة شرب
الخمر عن المضطر ، أو لزوم البيع عن المكره ، وحيث ان المرفوع في الحديث يعم موارد
التكاليف الوجوبية والتحريمية والأحكام الوضعيّة ، فلا بد وأن يكون المرفوع أمرا
قابلا للانطباق على جميعها ، وليس هو إلّا موضوعية الفعل للحكم ، ومرجعه إلى نفي
الحكم ، فلا يكون لحديث الرفع حكومة على الموضوعات والمتعلقات ، وانما يكون حاكما
على نفس الأحكام.
فتحصل انه لا
دلالة لحديث الرفع على تنزيل الفعل المضطر إليه منزلة العدم ليجتزي ببقية اجزاء
الواجب في مقام الامتثال ، بل قد ورد في قصة أبي العباس السفاح قوله عليهالسلام (أفطر يوما من شهر
رمضان أحب إلي من ان يضرب عنقي) .
ان قلت : ان ما
تقدم من البيان بعينه جار بالنسبة إلى ما لا يعلمون ، فإذا جهل جزئية شيء للصلاة
أو شرطيته أو مانعيته يرتفع التكليف المتعلق بمجموع الاجزاء والشرائط ، فإثبات
تكليف متعلق بالفاقد يتوقف على دليل.
قلت : ان المكلف
في فرض الجهل بأحد هذه الأمور يعلم إجمالا بثبوت تكليف في ذمته ، مردد بين أن يكون
متعلقا بخصوص المتيقن مما اعتبر فيه وبين ان يتعلق بالزائد عليه ، فإذا ارتفع
تعلقه بالزائد تعبدا لا بد من امتثال التكليف بالمتيقن ، ولا يجوز رفع اليد عن
امتثال التكليف المعلوم برفعه عن المشكوك فيه ، وهذا بخلاف صورة الاضطرار أو
الإكراه المحتمل فيها عدم التكليف رأسا.
ثم انه قد ظهر مما
ذكرناه ان شمول الحديث لمورد لا يترتب عليه إلّا رفع التكليف أو الوضع الثابت في
ذلك المورد في نفسه ، فالإكراه على فعل محرم في نفسه
__________________
يرفع حرمته ، كما
ان الإكراه على معاملة يرفع نفوذها ، فلو فرض ان المكره عليه لا أثر له ، ولا
تكليف يترتب عليه في نفسه ، فحديث الرفع لا يعمه ولا يترتب على شموله فائدة أصلا ،
فإذا أكره المكلف على ترك بيع داره لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال من دون
بيع ، فان ما تكفله الحديث انما هو رفع الحكم التكليفي أو الوضعي عن المكره عليه
لإثبات حكم له. ومن هنا يظهر انه لو أكره على تقديم القبول على الإيجاب مع القول
باشتراط تقديم الإيجاب على القبول لما أمكن الحكم بصحة ما وقع في الخارج بحديث
الرفع ، فان الواقع في الخارج لا حكم له في الشريعة ليرتفع بالإكراه ، وما هو
موضوع الحكم بالنفوذ لم يتحقق في الخارج على الفرض ، فلا مجال لشمول حديث الرفع
أصلا.
فان قلت : شرطية
تقدم الإيجاب على القبول حكم شرعي يمكن القول بارتفاعه عند الإكراه على تركه.
قلت : قد عرفت ان
الشرطية حكم انتزاعي لا بد في رفعه من رفع منشأ انتزاعه ، وهو في المقام ليس إلّا
حكم الشارع بنفوذ البيع المقدم إيجابه على قبوله ، ومن الظاهر انه غير مرتفع في
الفرض ، لعدم تعلق الإكراه به ، وانما تعلق الإكراه بتركه ، وتعلق الإكراه بترك
موضوع الحكم لا أثر له كما عرفت.
فان قلت : العقد
الواقع المفروض فيه تقدم القبول على الإيجاب محكوم بالبطلان في نفسه ، فيرتفع عنه
هذا الحكم بحديث الرفع.
قلت : البطلان ليس
حكما شرعيا قابلا للوضع أو الرفع ، وإنما هو امر تكويني منتزع من عدم انطباق موضوع
الحكم على الموجود الخارجي ، واما عدم ترتب النقل والانتقال فهو من آثار عدم تحقق
موضوعه ، لا من آثار تحقق غيره ، على انك قد عرفت ان ما يرتفع بحديث الرفع انما هو
الحكم الشرعي المترتب على شيء لا عدمه ، وإلّا لزم الحكم بحصول النقل والانتقال
عند الإكراه على ترك البيع مثلا ، وهو
مما لا يلتزم به
أحد. وبالجملة كل ما كان صحيحا ونافذا في نفسه من المعاملات إذا وقع مكرها عليه
يرتفع عنه حكمه ، واما ما كان فاسدا في نفسه فلا يترتب عليه الصحة إذا أوقع عن
إكراه ، فافهم ذلك واغتنمه.
التنبيه الرابع :
ان حديث الرفع لا يرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة فيه ، فوجوب سجدتي
السهو المترتب على نسيان السجدة في الصلاة لا يرتفع بالحديث ، وكذلك ما رتب على
عنوان الخطأ ، كما في قتل الخطأ ، والسر فيه هو ان الظاهر من الحديث كون طرو
العناوين المذكورة فيه موجبا لارتفاع الحكم عن مواردها ، فيستحيل ان يعم ما إذا
كانت مثبتة له.
التنبيه الخامس :
يعتبر في شمول حديث الرفع بالقياس إلى الاضطرار ونحوه امران.
الأول : ان يكون
الحكم المرفوع بحديث الرفع مترتبا على فعل المكلف بما هو ، فلا يعم مثل النجاسة
المترتبة على عنوان الملاقاة ، فإذا لاقى بدن الإنسان حال نجاسته جسما طاهرا لا
يمكن الحكم بارتفاع تنجس ذلك الجسم بحديث الرفع ، فان تنجس الملاقي لم يترتب على
الملاقاة بما هو فعل المكلف ليرتفع بالحديث ، وانما هو مترتب على نفس الملاقاة ولو
كانت غير اختيارية ، فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدسسره من ان ذلك خارج عن حديث الرفع بالإجماع. كما انه لا يشمل
وجوب قضاء الفائت من المكلف اضطرارا أو إكراها ، لأن وجوب القضاء مترتب على فوت الفريضة بما انه فوت ، لا
بما هو فعل للمكلف ، ومن ثم يجب القضاء فيما إذا لم يستند الفوت إلى المكلف أيضا.
نعم لو كان وجوب القضاء مترتبا على عنوان الترك كان للقول بسقوطه عند الإكراه أو
الاضطرار إلى الترك وجه ، إلّا انه خلاف
__________________
الواقع. والوجه
فيما ذكرناه هو ان هذه العناوين المذكورة في الحديث لا تتعلق إلّا بالفعل ، فلا بد
وان يراد من الموصولات المذكورة فيه ذلك.
الثاني : أن يكون
في رفعه منة على العباد ، فلا يعم صحة بيع المضطر ، فان رفعها خلاف الامتنان.
ويعتبر أيضا أن يكون فيه منة على الأمة ، لا على شخص دون شخص ، فلا يرتفع به ضمان
الإتلاف غير الاختياري ، لأن رفعه خلاف الامتنان بالإضافة إلى المالك وان كان فيه
منة على المتلف.
التنبيه السادس :
ان البراءة العقلية يختص جريانها بموارد الشك في التكاليف الإلزامية ، واما
التكليف المحتمل إذا لم يكن إلزاميا فالمقطوع منه لا يوجب مخالفة العقاب فكيف
بمحتمله.
واما البراءة
الشرعية ، ففي اختصاصها بموارد التكاليف الإلزامية خلاف بين الاعلام. والتحقيق ان
يفصل بين موارد الشك في التكاليف الاستقلالية وموارد التكاليف الضمنية ، فتجري في
الثانية دون الأولى ، توضيح ذلك : انك قد عرفت فيما مر ان رفع التكليف في مقام
الظاهر انما يكون بعدم وضع إيجاب الاحتياط والتحفظ على الواقع في ظرف الجهل ، وهذا
المعنى غير متحقق في موارد التكاليف الاستقلالية ، فإذا احتملنا استحباب شيء فرفعه
في مقام الظاهر انما يكون بعدم التحفظ على الواقع بعدم جعل استحباب الاحتياط في
ظرف ، ومن الظاهر ان استحباب الاحتياط مجعول قطعا ، فالتكليف المحتمل غير مرفوع في
مقام الظاهر ، فلا يعمه حديث الرفع.
واما التكاليف
الضمنية ، فالامر بالاحتياط في موارد الشك فيها وان كان ثابتا قطعا ، فيستحب
الاحتياط بإتيان ما يحتمل كونه جزء لمستحب ، إلّا ان اشتراط المستحب به مجهول ،
فلا مانع من شمول حديث الرفع لنفي ذلك ، وإثبات عدم الاشتراط في مقام الظاهر.
وبعبارة أخرى : الوجوب التكليفي وان لم يكن محتملا في
مورد الكلام ،
إلّا ان الوجوب الشرطي المترتب عليه عدم جواز الإتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر
مشكوك فيه لا محالة ، وهذا المقدار من الوجوب يصبح رفعه ظاهرا ، وان كان الاحتياط
مستحبا شرعا.
حديث الحجب
ومما استدل به على
البراءة قوله عليهالسلام «ما حجب الله علمه
عن العباد ، فهو موضوع عنهم» ولا يجري فيه ما توهم في حديث الرفع من الاختصاص بالشبهة
الموضوعية من جهة اتحاد السياق. نعم ربما يستشكل فيه من جهة ان إرادة الحكم
والموضوع معا من الموصول مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فلا بد من
اختصاصه بالشبهة الموضوعية أو الحكمية ، وقد تقدم جوابه في حديث الرفع.
إلّا ان الّذي
يسهل الخطب ان هذا الحديث خارج عما نحن فيه ، فان المراد مما حجب الله علمه على ما
هو ظاهر اسناد الحجب إلى الله تعالى خصوص ما لم يبين من الأحكام ، اما لأجل
التوسعة على الأمة مع ثبوت المقتضى لبيانه ، واما لأجل المانع من البيان ، ولو كان
ذلك من قبل المكلفين ، لاستلزام البيان هلاك غير النادر منهم بتركهم العمل بها ،
فاقتضت المصلحة إخفاء تلك الأحكام إلى زمان ظهور حجة الله في أرضه ، ولعل هذا معنى
ما ورد من انه عليهالسلام يأتي بدين جديد ، وعلى هذا فلا يرتبط الحديث بما نحن فيه
مما لم يحجبه الله وانما حجبه الظالمون لأهل البيت ، بل يكون من قبيل قوله عليهالسلام «اسكتوا عما سكت الله عنه».
حديث الحلية
ومن الروايات
موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : سمعته يقول
: كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك
__________________
مثل الثوب يكون
عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا
، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير
ذلك ، أو تقوم به البينة» . وقد تمسك بها شيخنا الأنصاري للبراءة في الشبهة الموضوعية ، ولم يذكرها في أدلة البراءة
في الشبهة الحكمية ، إلّا انه ذكر فيها خبرين آخرين.
أحدهما : خبر عبد
الله ابن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الجبن إلى أن قال : سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه» .
ثانيهما : خبر عبد
الله ابن سنان عن الصادق عليهالسلام «كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» .
واما صاحب الكفاية
فقد عكس الأمر ، فلم يستدل بهما على البراءة في الشبهة الحكمية ، واستدل لها
بالموثقة ، ولعل الوجه في ذلك ظهور قوله عليهالسلام فيه حلال وحرام في الخبرين في فعلية الانقسام إلى القسمين
، ولا يتحقق ذلك إلّا في موارد الشبهة الموضوعية ، إذ لا معنى لانقسام الحرام أو
الواجب المجهول إلى القسمين.
__________________
ولا يخفى عليك ان
الإشكال في الاستدلال بالموثقة في المقام أقوى وأظهر من الإشكال في الاستدلال
بالخبرين ، فان فيها جهات تقتضي اختصاصها بالشبهة الموضوعية.
أحدها : ظهور كلمة
«بعينه» في ذلك ، وهذا الوجه مشترك فيه بين الموثقة وغيرها ، وحمل الكلمة على
التأكيد خلاف الظاهر ، ولا يصار إليه بغير قرينة ، توضيح ذلك : ان العناوين الكلية
مثل شرب التتن ونحوه اما ان تكون معلومة الحرمة ، أو لا تكون كذلك. وعلى الأول فهي
معلومة الحرمة بعينها لا محالة ، وعلى الثاني فهي غير معلومة الحرمة أصلا ، واما
العلم بكونها محرمة لا بعينها فهو لا يتحقق غالبا إلّا في موارد العلم الإجمالي
بحرمة أحد الشيئين أو الأشياء ، ومن الظاهر انه لا يحكم فيها بالحلية على ما
سيجيء.
واما الشبهات
الموضوعية فالشك فيها لا ينفك عن العلم بالحرام لا بعينه غالبا أو دائما ، مثلا
إذا احتملنا حرمة مائع خارجي لاحتمال كونه خمرا ، فذلك لا ينفك عن العلم بوجود
الخمر في الخارج إجمالا ، المحتمل انطباقه على المائع المفروض ، ومعه كان الحرام
معلوما لا بعينه ، أي غير متميز عن غيره ، لكن مثل هذا العلم لعدم حصر أطرافه وعدم
كون جميعها محل الابتلاء لا يوجب تنجز المعلوم ، فصح أن يقال : ان ما ابتلي به من
أطرافه محكوم بالحلية ما لم يعلم انه حرام بعينه ، فالإتيان بكلمة «بعينه» في
الروايات الثلاث قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية.
ثانيها : ان
الأمثلة المذكورة فيها من قبيل الشبهة الموضوعية ، وليست الحلية في شيء منها
مستندة إلى أصالة البراءة والحل ، وانما هي في بعضها مستندة إلى اليد ، وفي بعضها
إلى الاستصحاب ، وهي قرينة أو صالحة للقرينية على إرادة خصوص الشبهة الموضوعية.
ثالثها : ان قوله عليهالسلام «أو تقوم به
البينة» صالح للقرينية على الاختصاص
بالشبهة الموضوعية
، وعليه فدعوى عموم الرواية للشبهات الحكمية بان يكون قوله عليهالسلام «حتى تستبين» مختصا بالشبهة الحكمية أو أعم منها بعيدة.
رابعها : ان حصر
الغاية في الاستبانة التي هي بمعنى العلم الوجداني وقيام البينة يدل على ان المراد
بلفظ الأشياء في الموثقة ما يكون من قبيل المذكورات فيها من الشبهات الموضوعية ،
المحكومة بالحل بحكم الأمارة أو الاستصحاب ، فان الرافع لحكم اليد أو الاستصحاب
فيها منحصر بالعلم وقيام البينة. واما في الشبهات الحكمية فلا ينحصر رافع الإباحة
بهما ، بل قد ترتفع باستصحاب الحرمة وخبر الواحد ونحوهما ،
واما توهم ان
المراد بالاستبانة في الموثقة أعم من الاستبانة الوجدانية والتعبدية ، فيدفعه
مضافا إلى انه خلاف ظاهر جعل الاستبانة عدلا لقيام البينة ، ان الرافع لحكم اليد
أو الاستصحاب المستند إليهما الحلية في الأمثلة المذكورة ليس إلّا العلم الوجداني
أو قيام البينة ، فملكية العبد أو الثوب مستندة إلى اليد ، كما ان حلية المرأة
مستندة إلى استصحاب عدم تحقق الرضاع أو عدم تحقق النسب ، ولا رافع للحلية في أمثال
ذلك إلّا العلم الوجداني أو قيام البينة. نعم ورد في بعض الاخبار اعتبار اخبار
الثقة بتحقق الرضاع أو النسب ، ولكنه معارض بما دل على عدم اعتباره ، ومن ثم حمل
النهي عن التزويج عند اخبار الثقة بهما على الكراهة.
فتلخص ان حصر رافع
الحلية في الموثقة بالعلم وقيام البينة أقوى شاهد على اختصاصها بالشبهات
الموضوعية.
لا يقال : ان حصر
رافع الحلية في الموثقة في العلم الوجداني وقيام البينة لا يوجب اختصاصها بالشبهة
الموضوعية إذا الحلية في الشبهة الموضوعية ، ترتفع بالإقرار وبحكم الحاكم
وبالاستصحاب ، وبخبر الواحد بناء على ما هو الصحيح من حجيته في الشبهات الموضوعية
أيضا ، فالحصر الحقيقي كما لا يتم في الشبهات
الحكمية لا يتم في
الشبهات الموضوعية. واما الحصر الإضافي فهو ممكن في كليهما.
فانه يقال :
الحلية في بعض موارد الشبهات الموضوعية وان كانت ترتفع بغير العلم وقيام البينة ،
إلّا انها في ما كانت الشبهة الموضوعية من قبيل المذكورات في الرواية لا ترتفع
إلّا بالعلم أو قيام البينة ، توضيح ذلك : ان الحلية في الأمثلة المذكورة مستندة
إلى اليد أو الاستصحاب كما عرفت ، وهي لا ترتفع في تلك الموارد بالخبر الواحد كما
مر. واما الاستصحاب فهو ساقط مع اليد ، كما في مثال الثوب والعبد ، واما في غيرهما
كما في مثال التزويج بالمرأة المحتمل حرمتها لرضاع أو نسب ، فهو مفيد للحلية لا
رافع لها. واما الإقرار فهو وان كان رافعا للحلية ، إلّا انه خلاف الفرض في مورد
الموثقة ، إذ المفروض فيها ان صاحب اليد يدعي مالكيته لما في يده ، فكيف يمكن فرض
إقراره بعدم ملكيته. واما حكم الحاكم فهو أنما يكون مع الترافع ولا موضوع له في
فرض الموثقة ، على ان حكم الحاكم في الغالب مستند إلى علمه واستبانته ، أو إلى
قيام البينة عنده.
وبالجملة رافع
الحلية في ما يكون من قبيل الأمثلة المذكورة في الموثقة منحصر في الاستبانة وقيام
البينة ، وذلك قرينة على اختصاصها بالشبهات الموضوعية. هذا كله بناء على دلالة الموثقة
على إباحة المشكوك حرمته ،
ويمكن أن يقال :
انها أجنبية عن ذلك بالكلية ، توضيحه : ان الاحتمالات المتصورة في صدر الموثقة
ثلاثة.
الأول : ان يراد
بالحلية التي حكم بها فيها الحلية الظاهرية المجعولة للشاك ، المعبر عنها بأصالة
الإباحة ، فيكون ذكر الأمثلة حينئذ من باب التنظير لها بالحلية الثابتة في تلك
الموارد بالدليل من اليد أو الاستصحاب.
الثاني : ان يراد
بها الحلية المستندة إلى دليل غير أصالة الإباحة ، مثل اليد
والاستصحاب
ونحوهما ، وعليه تكون الأمثلة تمثيلا للحلية المحكوم بها.
الثالث : ان يراد
بها معناها اللغوي ، وهو الإرسال وعدم التقييد في مقابل المنع ، وهذا ينطبق على
الحلية المجعولة في مورد الشك ، أعني بها أصالة الحل ، والمستفادة من الدليل
كالأمثلة المذكورة فيها.
ودلالة الموثقة
على أصالة الحل مبتنية على ظهورها في الاحتمال الأول أو الثالث ، وهو مع أنه غير
ثابت في نفسه ، مناف للغاية المذكورة ، فانها كما عرفت قرينة معينة للاحتمال
الثاني ، فان انحصار رافع الحلية في الاستبانة الظاهرة في العلم الوجداني وفي قيام
البينة كاشف عن ان المراد بالحلية فيها هي الحلية المستندة إلى اليد أو الاستصحاب
، لا مطلق الحلية المرتفعة بغيرهما أيضا ، وعلى ذلك فالموثقة أجنبية عن محلّ
الكلام بالكلية.
واما الخبران
الآخران المتقدمان ، فهما أيضا مختصان بالشبهة الموضوعية لوجهين.
الأول : اشتمالهما
على كلمة «بعينه» فانها قرينة على ذلك كما مرّ. واسناد المعرفة إلى نفس الحرام في
رواية عبد الله ابن سليمان ، الظاهر في معرفة انطباق الحرام على الموجود الخارجي
يؤكد اختصاصها بالشبهة الموضوعية ، ويبعد احتمال إرادة التأكيد من كلمة «بعينه»
كما لا يخفى.
الثاني :
اشتمالهما على التقسيم بقوله «فيه حلال وحرام» فانه ظاهر في الانقسام الفعلي ،
ووجود القسمين للمقسم بالفعل لا الترديد ، وهذا انما يختص بالشبهات الموضوعية ،
فان الافراد الخارجية فيها على قسمين ، حلال واقعا وحرام كذلك ، فهي محكومة
بالحلية ما لم يعلم الحرام بعينه ، واما الشبهات الحكمية فليس في مواردها حلال
وحرام ، بل المشكوك فيه مردّد بين الحرام والحلال في نفسه مع قطع النّظر عن حكم
غيره من المحللات والمحرمات.
ثم إنه قد عبر في
خبر عبد الله ابن سنان عن موضوع الحل بعنوان الشيء ، ويحتمل أن يراد به الشيء
الخارجي الشخصي ، كما يحتمل أن يراد به الكلي. وعلى الأول لا مناص من الالتزام
بنوع من الاستخدام ، ويكون المعنى حينئذ ان كل موجود خارجي يكون نوعه منقسما إلى
حلال وحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام من ذلك النوع بعينه ، وعلى الثاني كان معناه
ان الشيء الكلي الّذي بعض مصاديقه حلال وبعضها حرام واقعا حلال ظاهرا حتى تعرف
الحرام منه بشخصه ، وعلى التقديرين لا يراد من لفظ الشيء الحكم ، بل لا بد وان
يراد به الموضوع لمكان التقسيم والظرفية.
واما ما أفاده
المحقق النائيني في المقام من ان ظاهر لفظ الشيء هو الموجود الخارجي لا
المفهوم الكلي وحيث انه لا معنى لانقسامه إلى الحرام والحلال ، كان ذلك قرينة على
ان المراد من التقسيم هو الترديد ، فلا يكون اشتمال الخبرين على التقسيم قرينة على
اختصاصها بالشبهات الموضوعية ، فيرد عليه.
أولا : ان الشيء
كما يطلق على الموجود الخارجي ، يطلق على المفهوم الكلي ، فيقال مفهوم الإنسان شيء
ممكن ، وشريك الباري شيء مستحيل ، فلا وجه لدعوى ظهوره في الموجود الخارجي.
وثانيا : لو سلمنا
ان المراد به الموجود الخارجي فظهور الكلام في التقسيم الفعلي خصوصا بضميمة قوله عليهالسلام «حتى تعرف الحرام
منه بعينه» الظاهر في كون كلمة من فيه تبعيضية ، قرينة على الاستخدام ، ولا ضير في
الالتزام به بعد شيوعه. ثم ان التقسيم الفعلي وان كان متصورا في الشبهة الحكمية
أيضا ، فاللحم مثلا فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الأرنب ومشكوك فيه وهو
لحم الحمار ، إلّا ان ظاهر
__________________
الحديث أن يكون
الانقسام دخيلا في الشك ، وليس الأمر كذلك في الشبهة
الحكمية وثالثا :
ان كلمة الحرام في قوله عليهالسلام «حتى تعرف الحرام
بعينه» لا يمكن أن يراد بها الحرام المعهود ، لعدم فرض حرام في الكلام بعد حمل
التقسيم على الترديد ، فلا بد وان يراد به الجنس ، وعليه يلزم أن يكون العلم بحرمة
شيء ما كلحم الأرنب مثلا غاية للحكم بحلية لحم الحمار المشكوك حرمته ، وهو مما لا
محصل له. نعم لو كانت الغاية المذكورة في الرواية هو العلم بحرمة ذلك الشيء لا
العلم بالحرام لم يرد عليه ذلك ، لكنه خلاف ما هو الموجود فيها.
حديث السعة
ومن الروايات
المستدل بها على البراءة قوله عليهالسلام (الناس في سعة ما
لا يعلموا) ولفظ ما يحتمل أن يكون مصدرية زمانية ، فيكون المعنى انهم
في سعة ما داموا لم يعلموا ، فمفاد الخبر حينئذ مفاد قبح العقاب بلا بيان ، وعليه
فأدلة الاحتياط تكون حاكمة عليه ، لأنها بيان. ويحتمل أن تكون ما موصولة ولفظ
السعة مضاف إليه ، فيكون مفاد الحديث حينئذ كون الناس في سعة من الحكم المجهول ،
فيفيد ما كان يفيده حديث الرفع من التوسعة عند الجهل بالواقع ، فتقع المعارضة بينه
وبين أدلة الاحتياط الدالة على كون الناس في ضيق الواقع المجهول ، لما ستعرف من ان
إيجاب الاحتياط طريقي لا نفسي.
والظاهر من الحديث
هو الاحتمال الثاني ، فان كلمة ما الزمانية حسب استقراء موارد استعمالها لا تدخل
على الفعل المضارع ، وانما تدخل على الماضي ، فلو كان المضارع في الخبر مدخول كلمة
لم لكان للاحتمال الأول وجه متين ، لكنه خلاف الواقع. ثم لو سلم دخولها على الفعل
المضارع أحيانا فلا ريب في ندرته ، فلا يصار
__________________
إليه في غير
الضرورة.
وعليه فالصحيح
دلالة الحديث على البراءة الشرعية ، وبإطلاقه يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية.
ومن ذلك يظهر ان ما أفاده المحقق النائيني من ترجيح الاحتمال الأول ، وعدم صحة
الاستدلال بهذا الحديث على البراءة الشرعية ، خلاف التحقيق.
حديث : كل شيء
مطلق
ومن الروايات
المستدل بها على البراءة قوله عليهالسلام «كل شيء مطلق حتى
يرد فيه نهي» بتقريب : ان ظاهر الإطلاق في الحديث هو الإطلاق الشرعي
المرادف للإباحة ، فلا بد وان يراد من الورود فيه الوصول على ما سنبينه ، فيكون
المعنى كل ما شك في حرمته فهو مطلق شرعا ، ومحكوم بالإباحة حتى يرد فيه النهي.
ثم ان هذه الرواية
بما انها واردة في خصوص الشبهة التحريمية فلا ينبغي الشك في تقدمها على اخبار
الاحتياط ، لكونها أخص منها. وقد بالغ شيخنا الأنصاري في العناية بها ، حتى جعلها أظهر روايات الباب. ولكن
المحققين النائيني والخراسانيّ قدسسره لم يرتضيا الاستدلال بها.
اما المحقق
النائيني فذهب إلى ان مفاد هذه الرواية إنما هو اللاحرجية الأصلية
قبل ورود الشرع والشريعة ، فمفادها ان الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من
الشارع نهي ، فالإطلاق فيها بمعناه اللغوي ، وعليه فالرواية أجنبية عما هو محل
البحث ، أعني به إثبات الإباحة لما شك في حرمته بعد ثبوت الشرع ، وحكمه بحرمة
أشياء وحلية أشياء غيرها.
__________________
والجواب عن ذلك :
ان الإطلاق وان كان بمعنى الإرسال إلّا ان حمله على اللاحرجية الأصلية خلاف الظاهر
، فان ظاهر الحكم الصادر في كلام الشارع أو من هو بمنزلته كونه حكما شرعيا مولويا
، لا حكما عقليا أو حكما شرعيا إرشاديا. هذا مضافا إلى ان بيان الإطلاق الثابت قبل
ورود الشرع فيما بعد وروده ومعرفة الحلال والحرام لغو ، لا يترتب عليه فائدة ، فلا
ينبغي حمل الرواية عليه.
واما المحقق
الخراسانيّ فقد ناقش في دلالة الرواية باحتمال أن يكون المراد من
الورود صدور الحكم من الموالي لا وصوله إلى المكلفين ، ومن الواضح ان فرض عدم جعل
الحكم وصدوره خارج عن محل نزاع الأخباريين والأصوليين.
لا يقال : بضميمة
أصالة عدم ورود الحكم وجعله يمكن التمسك بها للبراءة.
فانه يقال : ان
الدليل حينئذ يكون أخص من المدعى ، لاختصاصه بما إذا لم يعلم ورود النهي أصلا ،
ولا يعم مثل ما إذا ورد النهي عن شيء في زمان والإباحة في زمان آخر وشك في المتقدم
منهما.
والجواب عنه : ان
الورود وان صح استعماله في الصدور أحيانا إلّا ان المراد به في الحديث خصوص الوصول
، والقرينة عليه قوله عليهالسلام «كل شيء مطلق» إذ
المراد بالإطلاق فيه بعد ما عرفت من كونه إطلاقا شرعيا مولويا إما الإباحة
الواقعية واما الإباحة الظاهرية ، سواء قلنا بان القضية إخبارية أو قلنا بأنها
إنشائية. ولا سبيل إلى الأول ، فان جعل النهي واقعا أو وصوله إلى المكلف لا يمكن
أن يكون غاية للحكم بالإباحة الواقعية.
أما الأول :
فلاستلزامه جعل أحد الضدين رافعا للآخر ، ولا معنى له ، فانه نظير أن يقال كل شيء
ساكن إلى ان يتحرك ، فان الحلية والحرمة الواقعيتين ضدان
__________________
لا يجتمعان ،
فبتحقق أحدهما يرتفع الآخر قهرا ، كما في جميع الأضداد ، وكما لا معنى للقول بان
كل شيء حرام واقعا حتى يصدر فيه إباحة ، لا معنى للقول بان كل شيء مطلق واقعا حتى
يصدر فيه نهي.
واما الثاني :
فلأن جعل وصول النهي غاية للحكم بالإباحة مستلزم للقول بالتصويب ، المجمع على
بطلانه. فتعين أن يكون المراد بالإطلاق الإباحة الظاهرية ، وعليه لا بد وأن يكون
المراد بالورود الوصول ، فان صدور الحرمة الواقعية لا يكون رافعا للحكم بالإباحة
الظاهرية بالضرورة ما لم يحرز ذلك ، فيكون مفاد الرواية ان كل شيء مطلق ظاهرا حتى
يصل فيه نهي.
وبما ذكرناه من
كون المراد بالإطلاق الإباحة الظاهرية علم ان الموضوع في القضية هو الشيء المشكوك
فيه ، لا الشيء بعنوانه الواقعي ، وبإطلاقه يستدل على حكم الشبهة الموضوعية
والحكمية ، فدلالة الرواية على البراءة الشرعية في غاية الظهور.
ثم لا يخفى ان في
جريان أصالة عدم صدور النهي التي تمسك بها صاحب الكفاية في المقام بيانا سيأتي ، وسيظهر لك أنه على تقدير جريانها
لا تصل النوبة إلى جريان أدلة البراءة أصلا.
الاستدلال على
البراءة بالإجماع
الثالث : من
الوجوه المستدل بها للبراءة هو الإجماع. وتقريبه على أنحاء.
الأول : دعوى
اتفاق الأصوليين والأخباريين على قبح العقاب من دون بيان ، وعدم استحقاق العقاب
على مخالفة التكليف غير الواصل.
__________________
وفيه : ان هذا
الاتفاق وان كان ثابتا إلّا انه على امر عقلي ، فليس إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي
المعصوم ، فلا أثر لمثله.
الثاني : اتفاقهم
على ان الحكم الشرعي في مورد التكاليف التي لم تصل بنفسها ولا بطريقها هو الترخيص
، كما هو مفاد قوله عليهالسلام «الناس في سعة ما
لا يعلموا» .
وهذه الكبرى وان
كانت إجماعية إلّا انها لا تفي بإثبات الصغرى ، فان الاخباري يدعي ان الأحكام
المجهولة واصلة إلى المكلفين بطريقها ، إما مطلقا كما ادعاه المحدث الأسترآبادي ،
وإما في خصوص الشبهات التحريمية كما هو المعروف ، ودليلهم على ذلك الاخبار الآمرة
بالاحتياط ، ففي الاقتحام في الشبهات مخالفة للحكم الطريقي الواصل.
الثالث : دعوى
ثبوت الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول في موارد الجهل بالواقع هو الإباحة
والترخيص شرعا.
وهذا التقريب لو
تم لكان دليلا على البراءة ولكنه كيف يتم مع ذهاب الأخباريين إلى ان الحكم المجعول
هو وجوب الاحتياط أو التوقف.
الاستدلال على
البراءة بحكم العقل
الوجه الرابع : من
وجوه الأدلة الأربعة هو حكم العقل ، بتقريب : ان الانبعاث أو الانزجار انما هو من
آثار التكليف الواصل ، فإذا لم يكن التكليف واصلا كان العقاب على مخالفته عقابا
بلا مقتضى ، وهو قبيح ، توضيحه : أن ما يكون محركا للعبد أو زاجرا له انما هو
الوجود العلمي لا الوجود الواقعي ، فقد يموت الإنسان عطشا والماء في رحله ، لجهله
بذلك ، فكما ان شوق المولى إلى فعل العبد لا يحركه نحوه ما لم يصل إليه ، كذلك
حكمه وان بلغ من اللزوم والتأكد ما بلغ ، فالحكم ما لم يصل إلى
__________________
المكلف لا يمكنه
التحرك منه ، ومعه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتضى ، كما إذا لم يكن حكم
من المولى أصلا.
وبعبارة أخرى :
الوظيفة المولوية تقتضي جعل الأحكام وبيانها على نحو يتمكن العبد من الوصول إليها
، فإذا لم يجعل الحكم أو جعل ولم يمكن وصوله إلى العبد كان القصور في ناحية
التشريع ، ومعه لا مقتضى لعقاب العبد عند مخالفته الواقع مع عدم استنادها إلى
تقصيره. وهذه الكبرى مسلمة ، لم يخالف فيها أحد حتى من الأخباريين. نعم استشكل
فيها بعض الأصوليين من جهة معارضتها بقاعدة أخرى ، وهي استقلال العقل بوجوب دفع
الضرر المحتمل.
وأجاب الشيخ عن ذلك بان وجوب دفع الضرر المحتمل ليس وجوبا غيريا ليعارض
به قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلو كان فهو وجوب نفسي ظاهري ، فالعقاب انما يكون
على مخالفته لا على مخالفة الواقع.
وأورد عليه المحقق
الخراسانيّ بأن الوجوب غير منحصر بالقسمين ، بل هناك قسم ثالث نسميه
بالوجوب الطريقي ، المترتب عليه تنجز الواقع ، ووجوب دفع الضرر المحتمل انما يكون
من هذا القبيل. ثم دفع التنافي بين القاعدتين بان قبح العقاب بلا بيان يرفع موضوع
حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لا يحتمل وجود الضرر حينئذ.
وأشكل عليه بإمكان
العكس ، بأن يكون قاعدة دفع الضرر المحتمل رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
، فان كلا من القاعدتين لا يتكفل بيان موضوعه ، وكلا منهما صالح لأن يرتفع به
موضوع الآخر ، ولا ترجيح في البين.
__________________
والتحقيق في
الجواب : يقتضي تقديم مقدمة : وهي ان التعارض في الأحكام الشرعية انما يكون بين
دليلين ظنيين من جهة ، فقد يكون التنافي بين ظهورين وان كان سند كل منهما قطعيا ،
وقد يكون بين نصين صريحين إذا كان سندهما ظنيا. واما الدليلان القطعيان سندا
ودلالة وجهة فيستحيل وقوع المعارضة بينهما ، لاستلزامه التناقض ، بل لا بد في مثل
ذلك من أن يكون أحد الدليلين واردا أو حاكما على الآخر ، واما الأحكام العقلية
فيستحيل المعارضة فيها ، لاستلزامه حكم العقل بثبوت المتناقضين. ففيما نحن فيه لو
التزمنا بالمعارضة بين القاعدتين لزم أن يكون العقل حكما باستحقاق العقاب وبعدمه
في مورد واحد ، وهو محال.
إذا عرفت ذلك
فنقول : ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان من الأمور المسلمة بين الأخباريين والأصوليين
، ولم يستشكل فيه أحد من العقلاء الملتزمين بالحسن والقبح العقليين. واما توهم
معارضته بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فيدفعه ان الضرر المحتمل الواجب دفعه اما ان
يراد به العقاب الأخروي ، أو يراد به الضرر الدنيوي ، أو يراد به المفسدة المقتضية
لجعل الحرمة. فان كان المراد به العقاب ، فلا يخلو الحال في وجوب دفعه من أن يكون
وجوبا نفسيا أو طريقيا أو إرشاديا.
أما الوجوب
النفسيّ فهو على تقدير ثبوته لا يصح العقاب إلّا على نفس مخالفته ، لا على مخالفة
التكاليف الواقعية المجهولة بعد فرض عدم وصولها إلى المكلف لا بنفسها ولا بطريقها
، فإذا فرضنا الواقع المجهول غير واصل إلى المكلف بوجه فقاعدة قبح العقاب بلا بيان
ترفع احتمال العقاب على مخالفته ، فينتفي موضوع لزوم دفع الضرر المحتمل ، فيختص
مورده بغير المقام مما تنجز الواقع فيه بمنجز من علم إجمالي وغيره. على ان
الالتزام بالوجوب النفسيّ باطل من أصله ، لاستلزامه تعدد العقاب فيما إذا كان
الاحتمال مصادفا للواقع ، ولا يلتزم به ، فان ارتكاب ما يحتمل فيه العقاب لا يزيد
على ارتكاب ما يقطع بترتب العقاب عليه.
واما الوجوب
الطريقي ، فهو أيضا غير متصور في المقام ، لأنه مستلزم للدور ، إذ الوجوب الطريقي
هو الّذي يترتب عليه احتمال العقاب ، ويكون منشأ له كوجوب الاحتياط الشرعي الثابت
في موارده ، فان احتمال العقاب فيها انما ينشأ من هذا الوجوب المنجز للواقع على
تقدير ثبوته ، والموصل له بطريقه ، مثلا إذا رأينا شبحا من بعيد واحتملنا كونه
إنسانا فوجوب الاحتياط في النفوس هو الّذي أوجب احتمال العقاب في رميه ، لاحتمال
ترتب قتل نفس محترمة عليه.
واما وجوب دفع
الضرر المحتمل فاحتمال العقاب مأخوذ في موضوعه ، فلو فرضنا ترتبه عليه على ما هو
مقتضى كون الوجوب طريقيا ، لزم الدور.
فتعين ان يكون
وجوب دفع الضرر المحتمل إرشاديا ، لا يترتب عليه غير ما كان مترتبا على نفس احتمال
العقاب من التحرز والاجتناب ، فان الإنسان بحسب جبلته وفطرته متحرز دائما عما يراه
ضررا عليه ولو احتمالا ، وعليه فقبح العقاب بلا بيان يكون واردا على قاعدة وجوب
دفع الضرر ، ورافعا لموضوعها ، فمورد كل من القاعدتين مغاير لمورد الآخر بالكلية ،
توضيح ذلك : ان التكليف مهما بلغ من الأهمية لا يكون محركا للعبد وان وصل إليه
صغرى وكبرى ، وانما المحرك له بعثا أو زجرا هو احتمال العقاب ، واستقلال العقل
بحسنه وصحته ، وهذا هو معنى وجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الإنسان لحبه بنفسه
يحترز عن كل ما يراه مضرا له ، فإذا قطع بثبوت العقاب في مورد أو احتمله ينزجر عنه
لا محالة ، وإلّا فمجرد بعث المولى أو زجره الّذي ليس إلّا امرا اعتباريا لا يكون
محركا للعبد وان كان واصلا ، فانه لا يتحرك عن تحريك المولى إذا لم يكن فيه ما
يرجع إلى نفسه من جلب نفع أو دفع ضرر ، والغالب في التحريك هو احتمال العفو
والغفران من الله تعالى ، ولعل هذا هو المراد مما ورد في بعض الاخبار من أن العقل
هو الرسول الباطني ، وان من ليس له زاجر من نفسه لا ينفعه زاجر من غيره.
إذا تحقق ذلك
فالتكليف المحتمل إذا كان مقرونا بعدم الفحص ، أو كان له منجز خارجي من علم إجمالي
أو غيره كان احتماله ملازما لاحتمال العقاب على مخالفته ، ولا يجري فيه قاعدة قبح
العقاب بلا بيان ، وهذا هو مورد وجوب دفع الضرر المحتمل. واما إذا كان الاحتمال
بعد الفحص وقيام العبد بوظيفة العبودية ، ولم يكن هناك منجز خارجي من علم إجمالي
أو إيجاب احتياط أو غيرهما ، فالعقل يستقل بعدم صحة العقاب على مخالفة الواقع
المجهول ، لأنه بلا بيان ، فمورد كل من قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وقاعدة قبح
العقاب بلا بيان يغاير الآخر ويباينه ، فان مورد وجوب دفع الضرر المحتمل فرض احتمال
العقاب ، ومورد قبح العقاب بلا بيان انما هو فرض عدم احتماله. وبعبارة أخرى : مورد
وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصول التكليف تفصيلا أو إجمالا ، بنفسه أو بطريقه ،
كما في الشبهة قبل الفحص ، أو موارد وجوب الاحتياط الشرعي ، واما قبح العقاب بلا
بيان فمورده الشبهة البدوية بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة ، فكم فرق بين
الموردين.
فتلخص مما ذكرناه
أن توهم معارضة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل
مبني على أن يكون الوجوب المزبور طريقيا موجبا لتنجز الواقع ، وقد عرفت أنه مستحيل
وإنما هو وجوب إرشادي ، فيختص جريانه بما إذا كان الواقع منجزا في نفسه ، وعليه
فلا تتوارد القاعدتان على مورد واحد أبدا. هذا كله إذا كان المراد بالضرر العقاب.
وأما لو أريد به الضرر الدنيوي ، فاستقلال العقل بوجوب دفعه كي يستكشف وجوبه شرعا
بقاعدة الملازمة ممنوع ، وذلك لما نرى العقلاء من أرباب المهن والتجارة يقدمون على
الضرر المقطوع به لاحتمال تحصيل المنفعة ، فكيف بالضرر المحتمل. نعم الإقدام على
الضرر الدنيوي من دون غرض عقلائي يكون سفهيا ، إلّا ان العقل غير مستقل بقبح الفعل
السفهي
بالمعنى الملازم
لحرمته ، وإلّا كان كل فعل سفهي حراما شرعا ، وهو خلاف المقطوع به. هذا مضافا إلى
ان احتمال الضرر الدنيوي لو كان فانما يكون في خصوص ارتكاب ما يحتمل تحريمه ، وأما
ترك ما يحتمل وجوبه فليس فيه إلّا احتمال فوات المنفعة. على أن ترتب الضرر الدنيوي
على فعل الحرام مطلقا ممنوع ، وانما يترتب عليه الوقوع في المفسدة ، وهي لا تلازم
الضرر ، بل ربما تترتب على فعل الحرام المنفعة الدنيوية ، كما في موارد الانتفاع
بمال الغير من دون رضاه ، وإذا لم يكن ارتكاب الحرام ملازما للوقوع في الضرر فكيف
يكون احتماله ملازما لاحتماله.
واما لو أريد
بالضرر المفسدة فالصغرى وان كانت مسلمة في خصوص ما يحتمل حرمته بناء على تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد ، فان احتمال حرمة شيء حينئذ لا ينفك عن احتمال وجود
المفسدة فيه ، إلّا ان الكبرى ممنوعة ، إذ لا يحكم العقل بقبح الإقدام على ارتكاب
ما يحتمل فيه المفسدة ، ومما يشهد له اتفاق الأصوليين بل العقلاء أجمع على عدم
لزوم الاجتناب عما يحتمل فيه المفسدة في الشبهة الموضوعية.
الاستدلال على
البراءة بالاستصحاب
ومما استدل به على
البراءة الاستصحاب. وتقريبه على نحوين.
الأول : استصحاب
عدم التكليف المتيقن قبل البلوغ ، وعدم استحقاق العقاب على ارتكاب الفعل أو تركه.
وقد أورد عليه
بوجوه.
أحدها : ان
المستصحب لا بد من أن يكون بنفسه أو بأثره امرا مجعولا شرعا ، فانه الّذي يكون أمر
وضعه ورفعه بيد الشارع ، وعدم التكليف غير قابل للجعل ، فانه أزلي ، وليس بنفسه
حكما شرعيا ، كما ليس له أثر شرعي ، وعدم العقاب من لوازمه العقلية ، فلا يجري فيه
الاستصحاب.
وقد نسب صاحب
الكفاية في الثامن من تنبيهات الاستصحاب هذا الوجه إلى الشيخ قدسسره ، وجعله وجها لاستشكاله في التمسك بالاستصحاب للبراءة ولكن
الظاهر أن ذلك ليس منشأ إشكال الشيخ في الاستصحاب في المقام ، كيف وهو ممن يرى
جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، وسيجيء منشأ إشكاله قدسسره عن قريب إن شاء الله.
واما أصل الإشكال
فيرد عليه : ان اعتبار كون المستصحب أمرا مجعولا لم يقم عليه دليل ، وانما المعتبر
في جريان الاستصحاب ان يكون المستصحب قابلا للتعبد به ، ومن المعلوم ان العدم قابل
لذلك كالوجود ، فان العدم يكون مقدورا بقاء وان لم يكن كذلك حدوثا ، ويكفي في
المستصحب كونه قابلا للتعبد به بقاء ، وسيأتي تفصيله في مبحث الاستصحاب إن شاء
الله.
ثانيها : ما أفاده
المحقق النائيني قدسسره من ان المتيقن الثابت قبل البلوغ انما هو اللاحرجية
العقلية ، أي عدم التكليف في مورد غير قابل له كما في الحيوانات ، ومثل ذلك لا
يحتمل بقاؤه بعد البلوغ ، وانما المحتمل فيه عدم التكليف في المورد القابل له ،
فلا معنى للتمسك بالاستصحاب. وان شئت قلت : ان العدم الثابت قبل البلوغ عدم محمولي
وغير منتسب إلى الشارع ، والعدم بعد البلوغ لو كان فهو عدم نعتي منتسب إليه ،
وإثبات العدم النعتيّ باستصحاب العدم المحمولي مبني على القول بالأصل المثبت.
وفيه : أولا : ان
عدم التكليف في الصبي غير المميز وان كان كما ذكره من انه بمعنى اللاحرجية ، إلّا
انه في المميز ليس كذلك ، بل هو عدم تكليف في مورد قابل له ، وانما الشارع رفع
تكليفه عنه امتنانا كما هو ظاهر حديث رفع القلم عن
__________________
الصبي.
وثانيا : ان العدم
المتيقن وان كان أزليا وغير منتسب إلى الشارع إلّا أنه يثبت انتسابه إليه بنفس
الاستصحاب ، فالانتساب من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب ، لا المستصحب ليكون
إثباته من الأصل المثبت ، وسيجيء لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.
ثالثها : ما أفاده
الشيخ وحاصله : ان استصحاب البراءة لو كان مستلزما للقطع بعدم العقاب لصح التمسك به
وإلّا فلا ، فان احتمال العقاب إذا كان موجودا مع جريانه لم يكن مناص من الرجوع
إلى قبح العقاب بلا بيان ، ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغوا محضا ، وعليه فان
بنينا على كون الاستصحاب من الأمارات ، أو قلنا بحجية لوازمه ومثبتاته لحصل منه
القطع بعدم العقاب ، وصح التمسك به ، إذ على الأول يكون استصحاب عدم المنع مستلزم
للظن بعدم العقاب ، وهو في حكم القطع بالتعبد ، وعلى الثاني فالتعبد بعدم المنع من
الفعل ملازم للرخصة فيه ، فانها من لوازمه ، فإذا فرضنا ثبوتها تعبدا لم يحتمل
العقاب على الفعل ، لأن احتمال العقاب على الفعل المباح بديهي البطلان. واما لو لم
نقل بهذا ولا بذاك كما هو الصحيح ، فمجرد استصحاب عدم التكليف لا يوجب القطع بعدم
العقاب ، فنحتاج معه إلى التمسك بالقاعدة ، فالتمسك بالاستصحاب يكون لغوا.
وفيه : أولا : ان
استصحاب عدم المنع كاف في القطع بعدم العقاب ، إذ العقاب انما هو من لوازم المنع
من الفعل وتحريمه ، فإذا لم يكن منع بمقتضى الاستصحاب فلا عقاب من دون حاجة إلى
إثبات الرخصة ، التي هي من لوازم عدم المنع ، ليكون مثبتا.
__________________
وثانيا : انه يمكن
استصحاب نفس الترخيص الشرعي المتيقن ثبوته في آن قبل البلوغ الثابت بحديث رفع
القلم وأمثاله ، فيترتب عليه القطع بعدم العقاب بلا واسطة.
رابعها : ما عن
المحقق النائيني من انه يعتبر في جريان الاستصحاب كون الأثر المرغوب فيه
مترتبا على واقع المستصحب ، واما لو كان مترتبا على مجرد الشك في الواقع بخصوصه ،
أو على الأعم منه ومن الواقع ، فلا يجري الاستصحاب ، مثلا لو فسرنا التشريع المحرم
بإدخال ما لم يعلم انه من الدين ، في الدين أو بالأعم منه ومن إدخال ما ليس من
الدين في الدين ، فبمجرد الشك في مشروعية شيء يترتب عليه حرمة استناده إلى المولى
، فإجراء استصحاب عدم المشروعية لإثبات حرمة الاستناد لغو محض ، لأنه تحصيل للحاصل
، بل من أردأ أنحائه ، فانه من قبيل إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، فإذا
فرضنا ان الأثر المرغوب من استصحاب عدم المنع قبل البلوغ ليس إلّا عدم العقاب ،
وهذا مترتب بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على مجرد الشك في التكليف ، فلا يمكن معه
التمسك بالاستصحاب.
وفيه : ان ما ذكر
انما يتم لو كان الأثر مترتبا على خصوص الشك ، واما إذا كان الأثر أثرا للجامع فلا
مانع من ان يعبدنا الشارع بالواقع ليترتب عليه ذلك الأثر ، والسر في ذلك ان جريان
الاستصحاب يرفع موضوع الشك ، ويوجب وصول الواقع إلى المكلف ، فهو بحكم الشارع يكون
محرزا للواقع ، والأثر أثر الواقع ، وليس معه شك ليكون من تحصيل الحاصل ولا من
أردأ اقسامه. نعم لو لم يجر الاستصحاب كان الشك موجودا ، والأثر مترتبا عليه ، فترتب
الأثر على الشك فرع
__________________
عدم جريان
الاستصحاب ، فكيف يمكن أن يكون مانعا عن جريانه ، وكما صح للشارع جعل الأمارة على
عدم المنع عن شيء مع ان أصالة الحل كافية لإثباته ، صح له جعل استصحاب عدم المنع
أيضا ، ومن هنا لم يستشكل أحد في التمسك باستصحاب الطهارة المتيقنة ، مع ان قاعدة
الطهارة بنفسها كافية لإثباتها.
وبالجملة قاعدة
قبح العقاب بلا بيان أو أصالة البراءة الشرعية يتوقف جريانهما على تحقق موضوعهما
أعني به عدم البيان ، فكما انهما لا يجريان مع بيان التكليف ، لا يجريان مع بيان
عدمه ، والاستصحاب صالح لكونه بيانا للعدم ، فيرفع به موضوع قبح العقاب بلا بيان ،
ويكون سابقا عليه في الرتبة.
خامسها : ما يظهر
من كلام الشيخ رحمهالله من المناقشة في الاستصحاب المزبور من حيث عدم اتحاد القضية
المتيقنة والمشكوكة في الموضوع ، وتوضيحه انه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية
المتيقنة والمشكوكة عرفا ليصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب الأثر في ظرف الشك
، فانه مع عدمه كان إثبات حكم المتيقن للمشكوك من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع
آخر ، وذلك داخل في القياس لا في الاستصحاب ، وعليه فالترخيص المتيقن في المقام
بما انه كان ثابتا لعنوان الصبي على ما هو ظاهر قوله عليهالسلام «رفع القلم عن
الصبي حتى يحتلم» فهو مرتفع بارتفاع موضوعه ، والمشكوك انما هو حكم آخر
لموضوع آخر أعني به البالغ ، فلا مجال للاستصحاب ، بيان ذلك : ان العناوين المأخوذة
في موضوعات الأحكام تنقسم إلى قسمين ، فمنها ما يكون بنظر العرف مقوما لموضوع
الحكم ، ومن قبيل الوسائط في العروض ، كعنوان الاجتهاد المأخوذ في موضوع جواز
التقليد ووجوبه ، والعدالة المأخوذة في جواز الائتمام ونفوذ الشهادة ، والصباوة
المأخوذة في
__________________
رفع التكليف أو
الترخيص الثابت قبل البلوغ. ومنها ما يكون عرفا من قبيل الوسائط في الثبوت ، أي
علة لعروض الحكم على ذات المعنون من دون أن يكون مقوما للموضوع ، كعنوان التغير
المأخوذ في نجاسة الماء المتغير.
اما على الأول ،
فلا إشكال في ارتفاع الحكم بانعدام العنوان المأخوذ في موضوعه ، لأنه يدور معه
حيثما دار ، فلو ثبت مثله بعد ذلك أيضا فهو حكم آخر حادث ، لا انه بقاء للحكم
الأول.
واما على الثاني ،
فان كان العنوان مما يكفي حدوثه في ثبوت الحكم حدوثا وبقاء فلا ريب في بقاء الحكم
بعد زوال العنوان أيضا ، وهذا بخلاف ما إذا كان العنوان سببا للحكم حدوثا فقط ،
فانه لو زال ارتفع الحكم بزواله ، فلو كان باقيا لا بد من ان يستند إلى سبب آخر ،
ومورد الاستصحاب هو ما إذا أحرز ان العنوان من قبيل القسم الثاني ، ولم يحرز انه
مما يكفي حدوثه في بقاء الحكم أم لا ، كما في الماء المتغير بالنجس إذا زال عنه
التغير فيجري فيه استصحاب النجاسة كما هو واضح. واما فيما إذا علمنا بكون العنوان
من قبيل القسم الأول ، فلا مجال للاستصحاب بعد انعدامه ، بل لو شككنا في ذلك ولم
نحرز ان العنوان من أي القسمين لم يجر الاستصحاب ، لعدم إحراز صدق نقض اليقين
بالشك على عدم ترتيب الأثر في ظرف الشك.
وإذا تحققت ذلك
ظهر لك عدم صحة التمسك بالاستصحاب في المقام ، فان عنوان الصبي والمجنون ونحوهما
في نظر العرف من العناوين المقومة للموضوع ، ومن قبيل الوسائط في العروض ، وعلى
تقدير التنزل فلا أقل من احتمال ذلك ، ومعه كيف يمكن التمسك بالاستصحاب بعد
زوالهما بعروض البلوغ أو العقل. هذا تمام الكلام في التقريب الأول.
التقريب الثاني :
وحاصله التمسك في الحكم بالإباحة باستصحاب عدم جعل
الحكم الإلزامي ،
فان الأحكام الشرعية لما كانت في جعلها تدريجية فالحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولا
في زمان قطعا ، فنستصحب ذلك ما لم يحصل اليقين بجعله. ولا يرد على هذا التقريب ما
أوردناه على التقريب المتقدم ، فان الموضوع في هذا الاستصحاب هو البالغ المكلف
بنحو القضية الحقيقة في حالتي اليقين والشك.
نعم أورد عليه
المحقق النائيني قدسسره بإيرادين .
أحدهما : ان عدم
الجعل المتيقن سابقا عدم محمولي أزلي ، والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتيّ
المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي الأزلي لا يثبت العدم النعتيّ. وبعبارة
واضحة العدم المتيقن عدم قبل الشرع والشريعة وفي زمان عدم إمكان الجعل ، وهو غير
منتسب إلى الشارع ، والعدم المشكوك عدم في ظرف إمكان الجعل ومنتسب إلى المولى ،
فالمتيقن غير محتمل البقاء ، وما هو مشكوك لم يكن متيقنا سابقا ، نعم العدم الجامع
كان متيقنا إلّا ان استصحابه لا يثبت خصوص الفرد المشكوك فيه.
وقد ظهر جواب ذلك
مما تقدم ، فان المستصحب انما هو العدم المنتسب إلى الشارع بعد ثبوت الشرع
والشريعة ، لما عرفت من ان جعل الأحكام كان تدريجيا ، فقد مضى من الشريعة زمان لم
يكن الحكم المشكوك فيه قطعا ، فيستصحب ذلك ، هذا مع انك قد عرفت ان الانتساب يثبت
بنفس التعبد الاستصحابي ، وليس هذا من المثبت في شيء.
ثانيهما : ان
المحرك للعبد أعني الباعث أو الزاجر له انما هو التكليف الفعلي لا الإنشائي ،
فالحكم الفعلي هو المؤثر وجودا وعدما ، ومن الواضح ان استصحاب عدم الجعل لا يثبت عدم
التكليف الفعلي إلّا على القول بالأصل المثبت.
__________________
ويرد عليه أولا :
النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل ، الّذي لا خلاف في جريانه ، حتى جعله
المحدث الأسترآبادي من الضروريات ، فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل
من الأصل المثبت كان إثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضا كذلك
، وهو واضح البطلان.
وثانيا : ان
الإنشاء على ما حققناه في بحث الواجب المشروط وغيره ليس إلّا إبراز الأمر
الاعتباري ، والاعتبار كما يمكن تعلقه بأمر فعلي يمكن تعلقه بأمر متأخر ، وعلى هذا
فليس جعل الحكم وإنشائه إلّا اعتبار شيء على ذمة المكلف في ظرف خاص ، وبمجرد
الاعتبار يتحقق الجعل والمجعول ، فان المعتبر موجود بنفس الاعتبار ، بل هما في
الحقيقة أمر واحد ، وعليه فاستصحاب الحكم الإنشائي أو عدمه لا ينفك عن الاستصحاب
الحكم الفعلي أو عدمه ، نعم مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار قبل تحقق موضوعه في
الخارج لا يترتب عليه وجوب الإطاعة في حكم العقل ، وذلك من جهة ان الاعتبار قد
تعلق بظرف وجود الموضوع على نحو القضية الحقيقية ، فمع عدم الموضوع لا يكون حكم في
حق المكلف من الأول ، وانما الحكم لمن كان واجدا لتمام القيود المأخوذة في الموضوع
، والمحرك حينئذ نفس الاعتبار السابق لا أمر آخر يسمى بالحكم الفعلي.
فظهر ان التمسك
باستصحاب البراءة بهذا التقريب متين جدا ، وعليه فلا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة
الشرعية أو العقلية إلّا في موارد عدم جريان الاستصحاب من جهة المعارضة أو غيرها ،
من غير فرق في ذلك بين الشبهات الموضوعية والحكمية.
فان قلت : كيف يصح
التمسك باستصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعية مع ان مورد الشبهة لم يجعل له
الحكم بشخصه ، واما الطبيعي المشكوك انطباقه على المورد فثبوت الحكم له يقيني ،
فلا مورد للاستصحاب أصلا ، مثلا لو شككنا في كون
المائع المعين
خمرا ، فالمائع بشخصه لم يجعل له الحرمة ولا الإباحة ، وثبوت الحرمة لطبيعي الخمر
كثبوت الإباحة لطبيعي الماء يقيني ، فكيف يصح التمسك باستصحاب عدم الجعل.
قلت : أولا : ان
الأحكام حيث انها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، فهي تنحل إلى أحكام عديدة بحسب
افراد موضوعاتها ، كما هو مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، إذ بدونه لا
يكون هناك حكم مجهول ليرفع بالبراءة ، فلا محالة يكون الشك في خمرية مائع مثلا
مستلزما للشك في جعل الحرمة له ، فانه لو كان الفرد المشكوك فيه من افراد الخمر
واقعا لزاد عدد الحرمة المجهولة لعنوان الخمر بواحد وإلّا لنقص ، ومن الواضح ان
جعل الحرمة لهذا الفرد المشكوك فيه مسبوق بالعدم ، فيستصحب ذلك.
وثانيا : انه لو
سلم عدم جريان أصالة عدم الجعل في الشبهة الموضوعية ، فلا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب
الموضوعي ، اما محموليا كما في كثير من الموارد ، واما أزليا كما في بعضها ، وقد
قربنا جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية فيما تقدم.
فان قلت : ان
استصحاب عدم جعل الإلزام في الشبهة الحكمية أو الموضوعية معارض باستصحاب عدم جعل
الترخيص ، فانا نعلم إجمالا بثبوت أحد الأمرين ، فيسقطان بالمعارضة ، فلا بد من
الرجوع إلى البراءة حينئذ.
قلت : أولا : يمكن
المنع عن العلم الإجمالي بثبوت أحد الجعلين من الإلزام أو الترخيص ، وذلك لاحتمال
أن يكون الترخيص الشرعي ثابتا بعنوان عام لكل مورد لم يجعل الإلزام بخصوصه ، كما
كان على ذلك عمل أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في صدر الإسلام ، ولا يبعد استفادته من ردعه صلىاللهعليهوآلهوسلم أصحابه عن كثرة السؤال في قصة الحج
ونحوها ، وقوله عليهالسلام «إذا أمرتكم بشيء
فأتوا منه ما استطعتم» ، وعليه فيكون استصحاب عدم جعل المنع حاكما على استصحاب
عدم جعل الترخيص ، ومثبتا لموضوعه.
وثانيا : لا مانع
من جريان كلا الاستصحابين بعد ما لم يكن فيه مخالفة عملية للتكليف الإلزامي ، فإذا
ثبت عدم المنع من الفعل والترك كفى ذلك في نفي العقاب ، فان استحقاقه مترتب على
المنع ، فلا يحتاج في نفيه إلى ثبوت الترخيص ، فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب
ولو لم يثبت الترخيص.
نعم الآثار الخاصة
المترتبة على عنوان الإباحة لا تترتب على استصحاب عدم جعل الإلزام ، كما لا تترتب
آثار الطهارة المعتبرة في جواز الوضوء بالماء على استصحاب عدم جعل النجاسة له إذا
شك في طهارته.
فان قلت : على هذا
لا يبقى مورد للروايات الدالة على البراءة كحديث الرفع وغيره.
قلت : أولا : ليس
لأدلة البراءة عنوان يوجب اختصاصها بغير موارد الاستصحاب ، ويمكن أن تكون الحكمة
في ثبوت الترخيص في جملة من موارده عدم جواز نقض الحالة السابقة.
وثانيا : يكفي في ثبوت
المورد لها فرض معارضة الاستصحابين ، وموارد الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ،
فان التكليف بالأقل وان كان معلوما على كل تقدير إلّا ان أمره مردد بين أن يكون
مطلقا بالإضافة إلى الزائد أو مقيدا به ، بعد ما علم إجمالا بثبوت أحدهما وعدم
الإهمال في الواقع ، واستصحاب عدم التقييد معارض باستصحاب عدم الإطلاق ، ومن
الواضح ان جواز الاكتفاء بالأقل لا بد
__________________
فيه من الترخيص ،
فلا مناص فيه من الرجوع إلى البراءة على ما سيجيء الكلام فيه عن قريب إن شاء الله.
ثم انه إذا فرض مورد كان الأثر الشرعي مترتبا فيه على الإباحة لم يكن مناص فيه من
الرجوع إلى أصالة الإباحة ، ولا يكفي فيه الرجوع إلى استصحاب عدم المنع كما عرفت.
هذا كله في أدلة
البراءة.
المبحث الثاني :
الأدلة التي استدل
بها على لزوم الاحتياط
ما يمكن أن يذكر
كأدلة للأخباريين على لزوم الاحتياط أمور :
الاستدلال بالكتاب
على الاحتياط
الأول : الآيات ،
منها الناهية عن القول بغير العلم كقوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ومنها الناهية عن إلقاء النّفس في التهلكة كقوله عزّ شأنه (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ومنها الآمرة بالتقوى كقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقوله تعالى (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ).
وفي الاستدلال بها
للمدعى ما لا يخفى. أما حرمة القول بغير العلم فهي مما لا خلاف فيها بين
الأخباريين والأصوليين ، فالأصولي يعترف بان القول بالترخيص إذا لم يكن مستندا إلى
دليل فهو تشريع محرم ، لكنه يدعي قيام الدليل على ذلك ، كما ان الاخباري القائل
بوجوب الاحتياط كذلك ، فالاستدلال بحرمة القول بغير العلم للقول بالاحتياط أجنبي
عن المقام.
__________________
واما الآية
الناهية عن إلقاء النّفس في التهلكة ، فان أريد من التهلكة فيها الهلكة الدنيوية ،
فلا ريب في كون الإلقاء فيها محرما ، إلّا أن ارتكاب مورد الشبهة ليس فيه احتمال
الهلكة ، وأن أريد منها الهلكة الأخروية أعنى العقاب ، فالحكم بترك إلقاء النّفس
في الهلكة ، حينئذ لا يكون إلّا إرشادا ، ضرورة انه لا يترتب على إيقاع النّفس في
العقاب الأخروي عقاب آخر. وكيف كان لا يصح التمسك بالآية في المقام ، فان الأصولي
يرى ثبوت المؤمن من العقاب ، فلا أثر لهذا النهي.
واما التقوي
المأمور بها في الآية الّذي هو بمعنى التحفظ فمتعلقه ان كان هو العقاب الأخروي
فارتكاب الشبهة غير مناف له ، إذ المفروض ثبوت المؤمن من العقاب في مورده ، وان
كان غيره من الوقوع في المفاسد الواقعية ونحوه فهو غير واجب قطعا ، ولذا اتفق
العلماء حتى الأخباريين على جواز الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا ،
وفي الحكمية إذا كانت وجوبية ، مع كون الارتكاب فيها منافيا للتقوى بهذا المعنى.
الاستدلال
بالروايات على الاحتياط
الثاني : الاخبار
، وهي على طائفتين :
الطائفة الأولى :
ما دل على الأمر بالوقوف عند الشبهة كقوله عليهالسلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة «إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى
إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» وقوله عليهالسلام في رواية أخرى «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا
عند الشبهة ، إلى ان قال : فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ونظير هذه الاخبار قوله عليهالسلام في بعض أخبار التثليث
__________________
«الأمور ثلاثة :
امر تبين لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله»
إلى غير ذلك. والظاهر عدم دلالة شيء منها على وجوب الاحتياط.
اما اخبار التوقف
فلوجهين :
الأول : ان
الموضوع فيها عنوان الشبهة ، وهي ظاهرة فيما يكون الأمر فيه ملتبسا بقول مطلق
ظاهرا وواقعا ، وكان ذا وجهين ، فلا يعم ما إذا علم فيه الإباحة الظاهرية الشرعية
، فان الحكم الواقعي في مورده وان كان مشكوكا فيه إلّا ان أدلة ترخيص الشارع في
ارتكابه يخرجه عن عنوان المشتبه ، ويدرجه في معلوم الحلية.
ومما يدل على ما
ذكرناه من اختصاص الشبهة بغير ما علم فيه الترخيص ظاهرا ، انه لا إشكال في عدم
وجوب التوقف في موارد الشبهات الموضوعية أو الحكمية الوجوبية بعد الفحص ، فلو لا
ان العلم بثبوت الترخيص فيها أخرجها عن عنوان الشبهة لزم الالتزام فيها بالتخصيص ،
ولسان الروايات آبية عنه كما هو ظاهر.
الثاني : ان تعليل
وجوب التوقف فيها بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ظاهر في كون
الأمر بالتوقف إرشاديا لا مولويا ، فانه ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النّظر عن
هذه الاخبار ليصح تعليل وجوب التوقف باحتمال الاقتحام في الهلكة ، ضرورة انه لا
وجه للتعليل لو أريد إثبات وجوب الاحتياط بنفس تلك الاخبار كما هو مقصد الاخباري ،
وعليه فيختص موردها بالشبهة قبل الفحص ، أو المقرونة بالعلم الإجمالي التي يجب
فيها الاحتياط من غير جهة اخبار التوقف.
__________________
لا يقال : ان
تعليل وجوب التوقف في مطلق الشبهات باحتمال الاقتحام في الهلكة يدل على وجوب
الاحتياط المولوي بالدلالة الالتزامية ، كما تدل الاخبار عن ترتب العقاب على
ارتكاب شيء على حرمته بتلك الدلالة.
فانه يقال : فرق
بين ما نحن فيه وبين الاخبار عن ترتب العقاب على ارتكاب شيء ، وذلك فان العقل لما
أدرك عدم صحة العقاب على فعل المباح ، فلا محالة تكون الاخبار عن العقاب على فعل
اخبار عن حرمته بالالتزام ، وهذا بخلاف التعليل في المقام ، إذ ليس المخبر به فيه
إلّا كون التوقف خيرا من الاقتحام في الهلكة ، فكون الإقدام اقتحاما في الهلكة أمر
مفروض الوجود ، والأمر بالتوقف متفرع عليه ، ومعه كيف يمكن أن يكون الأمر مولويا
طريقيا ومصححا للعقاب على مخالفة الواقع ، فليتأمل.
لا يقال : انما
يلزم حمل الأمر على الإرشاد لو كان المراد من الهلكة العقاب ، واما لو أريد به
المفسدة الواقعية أمكن حمل الأمر بالتوقف على المولوي ، ومتى أمكن ذلك لم يصح
الحمل على الإرشاد ، وحينئذ كانت الروايات كافية في إثبات العقاب على مخالفة
الواقع المجهول ، لأنها حينئذ تكون إيصالا له.
فانه يقال : حمل
الهلكة على المفسدة الواقعية مع أنه خلاف الظاهر في نفسه يستلزم الالتزام بالتخصيص
في موارد الشبهة الموضوعية ، وقد أشرنا إلى ان الروايات آبية عنه ، فلا مناص من
حمل الهلكة على العقاب ، ومعه كان الأمر ظاهرا في الإرشاد.
لا يقال : سلمنا
ذلك ، إلّا ان عموم الشبهات لما كان هو محل الكلام يكشف عن جعل وجوب الاحتياط قبل
ذلك ، فيكون التنجيز لأجله ، لا لأجل وجوب التوقف.
فانه يقال : إيجاب
الاحتياط لو كان واصلا مع قطع النّظر عن اخبار التوقف
فهو مع كونه خلاف
المفروض ، يستحيل ان تكون اخبار التوقف كاشفة عنه ، وان لم يكن واصلا امتنع تنجز
الواقع به ، فان الإيجاب الطريقي لا يزيد على الإيجاب الواقعي في استحالة الانبعاث
عنه قبل وصوله ، فكما ان الوجوب الواقعي لا يكفي في التنجز قبل الوصول كذلك الوجوب
الطريقي ، وعليه كان مورد اخبار التوقف خصوص الشبهات قبل الفحص ، أو ما كان من
أطراف العلم الإجمالي ونحوه مما كان الواقع فيه منجزا مع قطع النّظر عن هذه
الاخبار.
وقد أجاب الشيخ
الأنصاري عن الإشكال بأن إيجاب الاحتياط لا يكفي في تنجيز الواقع
المجهول ، فانه ان كان وجوبا نفسيا فالعقاب حينئذ يكون على مخالفة نفسه لا على
الواقع ، وان كان وجوبا غيريا فلازمه ثبوت العقاب على التكليف الواقعي مع فرض عدم
وصوله.
ويرد عليه : ان الوجوب
غير منحصر في القسمين ، بل ان وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي ، وبه يتنجز
الواقع.
ومما ذكرناه ظهر
الجواب عن اخبار التثليث ، فان ما ثبت الترخيص فيه ظاهرا من قبل الشارع داخل فيما
هو بين رشده لا في المشتبه ، فكما ان ما شك في حرمته الواقعية من الشبهات
الموضوعية خارج من موارد وجوب التوقف كذلك ما شك في حرمته من الشبهات الحكمية بعد
الفحص. وبالجملة المشكوك حرمته كالمشكوك نجاسته ، وكما ان الثاني غير مشمول لهذه
الاخبار كذلك الأول ، والملاك في الجميع ثبوت الترخيص المانع عن صدق المشتبه على
المشكوك حقيقة ، وان صح إطلاقه عليه بالعناية باعتبار التردد في الحكم الواقعي
وعدم وضوحه.
الطائفة الثانية :
الاخبار الآمرة بالاحتياط ، كقوله عليهالسلام «أخوك دينك فاحتط
__________________
لدينك» وقوله عليهالسلام «خذ بالحائطة
لدينك» وقوله عليهالسلام «ليس بناكب عن
الصراط من سلك طريق الاحتياط» وغير ذلك مما بلغ فوق الاستفاضة ، فنحن في غنى عن
البحث في سندها. وانما الكلام في دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد
الفحص.
والصحيح عدم
دلالتها على ذلك لوجوه.
الأول : ان حسن
الاحتياط مما استقل به العقل ، وهذا يوجب وهن ظهور الروايات في المولوية ، خصوصا
إذا كان الحكم حكما في مقام الامتثال ، لا أقول انه لا يمكن الحكم المولوي في
موارد المستقلات العقلية ، فان الأحكام المولوية في موارد استقلال حكم العقل غير
عزيزة ، بل ندعي ان ظاهر الأمر في مثل ذلك هو الإرشاد ، فيكون تابعا للمرشد إليه
من حكم العقل بالاحتياط ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، ففي بعضها يحكم العقل بلزوم
الاحتياط كموارد احتمال الوقوع في المفسدة الواقعية والحكم الإرشادي يتبعه.
الثاني : ان هذه
الاخبار بإطلاقها تعم الشبهة الوجوبية والموضوعية ، لكونها من الدين ، مع ان
الاحتياط فيهما غير واجب قطعا ، فلا بد حينئذ من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب ،
أو الالتزام فيها بالتخصيص ، وحيث ان لسانها يأبى عن التخصيص ، يتعين حملها على
الاستحباب ، أو على مطلق الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب ، وعليه فلا يستفاد منها
وجوب الاحتياط فيما هو محل الكلام ، وهو الشبهة البدوية بعد الفحص.
ثم انه لو سلم
دلالة اخبار التوقف أو الاحتياط على ما ذهب إليه الاخباري من لزوم الاحتياط في
الشبهة التحريمية ، فهي لا تعارض أدلة البراءة ، بيان ذلك. ان
__________________
استصحاب عدم جعل
الحرمة بناء على جريانه لا ريب في كونه حاكما على هذه الاخبار ورافعا لموضوعها ،
لأنه يحرز به عدم التكليف وعدم العقاب ، فيتقدم عليها لا محالة ، كما ان اخبار البراءة
لا تعم الشبهة قبل الفحص ، ولا المقرونة بالعلم الإجمالي ، إما في نفسها ، واما من
جهة الإجماع وحكم العقل ، بل بعضها مختصة بالشبهات التحريمية كقوله عليهالسلام «كل شيء مطلق» بخلاف اخبار الاحتياط والتوقف ، فانها شاملة
لها قطعا ، فيتخصص بها.
وتوهم : الإطلاق
في أدلة البراءة ، وكونها شاملة في نفسها لجميع الشبهات ، غاية الأمر انها مخصصة
بحكم العقل أو بالإجماع ، فلا وجه لتقدمها على اخبار التوقف.
مدفوع : بان
المانع عن شمول أدلة البراءة لتلك الموارد ان كان حكم العقل باستحالة شمولها فحاله
حال المخصص المتصل في منعه عن انعقاد الظهور في العموم أو الإطلاق من أول الأمر ،
وان كان المانع هو الإجماع فحاله حال المخصص المنفصل ، والمختار فيه القول بانقلاب
النسبة ، ويأتي تفصيل الكلام فيه في محله.
ثم ان هناك وجها
آخرا لتقديم اخبار البراءة على خصوص اخبار الاحتياط ، وهو ان اخبار البراءة كقوله عليهالسلام «كل شيء مطلق حتى
يرد فيه نهي» نصّ في عدم وجوب الاحتياط ، واخبار الاحتياط على تقدير
تمامية دلالتها ظاهرة في وجوبه ، والجمع العرفي يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في
الوجوب بسبب النص ، بحمله على الحسن الجامع بين الوجوب والندب. وهذا الوجه لا يجري
بالنسبة إلى اخبار التوقف ، لأن العلة المذكورة فيها وهي عنوان الوقوف في الهلكة
يجعلها كالنص في عدم جواز الاقتحام ، ولكنا بينا قصور دلالتها على الحكم المولوي
__________________
في نفسها.
ثم انه ربما يتوهم
ان اخبار التوقف والاحتياط على تقدير تمامية دلالتها تتقدم على اخبار البراءة
بتقريب : ان حديث الرفع ونحوه انما يرفع ما لا يعلم من الأحكام ، ووجوب الاحتياط
بناء على استفادته من الاخبار معلوم ، فهو خارج مما لا يعلم.
ولكن ذلك انما يتم
لو كان الاحتياط واجبا لنفسه ، واما لو كان وجوبه طريقيا ، فالمترتب عليه هو لزوم
امتثال الحكم الواقعي المجهول ، وحديث الرفع يرفعه ، فتقع المعارضة بين الدليلين
لا محالة ، وقد عرفت تقدم حديث الرفع وأمثاله على أدلة الاحتياط.
الاستدلال على
الاحتياط بحكم العقل
الثالث : مما
استدل به على وجوب الاحتياط هو حكم العقل. وتقريبه على أنحاء.
الأول : ان كل
مسلم يعلم إجمالا في أول بلوغه بتكاليف إلزامية ، وليس في البين ما يوجب انحلاله ،
فان الطرق والأمارات انما تثبت أحكاما في مواردها ، وليس لها تعرض لنفي أحكام أخر
ثابتة في غير مواردها. وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف قد نجز
الأحكام الواقعية على تقدير ثبوتها ، وليس الطرق والأمارات رافعة لتنجزها ، بيان
ذلك : انه لا بد في انحلال العلم الإجمالي من ثبوت دليل على نفي التكليف عن بعض
الأطراف ، اما مطابقة واما التزاما ، وإلّا فالتنجز يبقى على حاله ، ففيما إذا كان
المعلوم بالإجمال تكليفا مرددا بين امرين ، كالعلم الإجمالي بوجوب الصلاة مرددة
بين الظهر والجمعة ، يكون قيام الأمارة على تعيين التكليف في أحد الطرفين نافيا له
في الطرف الآخر بالالتزام ، فينحل به العلم الإجمالي. واما لو فرضنا ان المعلوم
بالإجمال أحكام كثيرة لا تعين لها ، فقيام الدليل
على ثبوت أحكام
خاصة في موارد مخصوصة لا ينفي ثبوت الحكم في الموارد الأخر ، فلا ينحل العلم
الإجمالي.
ولا يرد على هذا
التقريب ما ذكره في الكفاية من ان قيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف يوجب صرف
تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ، كما إذا علمنا بحرمة إناء زيد وتردد بين
إناءين ثم قامت البينة على أن أحدهما المعين إناؤه ... إلى آخر ما أفاده ، وذلك
لأن محل كلامنا لا يقاس بالمثال الّذي ذكره ، إذ المعلوم بالإجمال في المثال أمر
معين خاص ، فقيام الأمارة على تعيينه في أحد الطرفين ينفي كونه في الطرف الآخر
بالالتزام ، وهذا بخلاف المقام ، فان المعلوم بالإجمال فيه أحكام لا تعين لها ،
وليس لها عنوان ولا علامة.
فالصحيح : ان يجاب
عن الاستدلال المزبور.
أولا : بالنقض
بالشبهات الوجوبية والموضوعية ، فان هذا العلم الإجمالي لو كان مانعا عن الرجوع
إلى البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية كان مانعا عن الرجوع إليها في الشبهات
الوجوبية وفي الشبهات الموضوعية أيضا ، مع انه خلاف مسلك الاخباري.
وثانيا : بالحل ،
فان العلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية ينحل بقيام الأمارات على تكاليف إلزامية
بمقدار المعلوم بالإجمال ، بل أكثر ، بيانه : ان لنا علوم إجمالية ثلاثة.
الأول : علم
إجمالي كبير ، ومنشؤه العلم بثبوت أصل الشريعة ، وأطراف هذا العلم كل ما يحتمل فيه
التكليف.
الثاني : علم
إجمالي متوسط ، ومنشؤه العلم بمطابقة بعض الأمارات للواقع
__________________
وعدم احتمال الكذب
في جميعها ، وأطراف هذا خصوص موارد قيام الطرق والأمارات بأجمعها ، معتبرة كانت أو
غير معتبرة.
الثالث : علم
إجمالي صغير ، ومنشؤه القطع بمطابقة مقدار من الأمارات المعتبرة للواقع ، وصدورها
من المعصوم عليهالسلام ، وأطراف هذا العلم خصوص موارد قيام الأمارات المعتبرة.
ثم ان المقدار
المقطوع صدوره من الأمارات المعتبرة لا يقل عددا من المعلوم بالعلم الإجمالي
الكبير ، وعليه فلا يتنجز التكليف في غير مؤديات الطرق والأمارات المعتبرة من
الأول ، بل لا يتحقق العلم الإجمالي الكبير أصلا ، ويكون ضم غير تلك الموارد إلى
مؤديات الطرق من قبيل ضم إناء ثالث محتمل النجاسة إلى إناءين يعلم بنجاسة أحدهما ،
الّذي لا يوجب توسعة في دائرة العلم الإجمالي أصلا ، ونظير ما نحن فيه ما إذا
علمنا إجمالا بوطء إنسان خمسة شياة من قطيع الغنم ثم علمنا بأن خمسة من خصوص
الشياه البيض موطوءة ، فان العلم الإجمالي الأول ينحل بالثاني لا محالة.
ثم لا يخفى ان ما
ذكرناه من الانحلال وان كان ظاهرا إلّا انه مبني على تسليم العلم الإجمالي بمطابقة
الأمارات المعتبرة للواقع بمقدار ما علم ثبوته في أصل الشريعة من الأحكام ، وهذا
الأمر وان كان صحيحا ، إلّا ان لقائل منع ذلك بدعوى عدم العلم بمطابقة تلك
الأمارات للواقع بمقدار المعلوم بالإجمال أولا ، وعليه فلا بد لنا من إثبات
انحلاله حتى مع عدم العلم الوجداني بمطابقة شيء من الأمارات المعتبرة للواقع ،
ولتوضيح ذلك نقدم مقدمة وهي : ان القضية المتعلقة للعلم الإجمالي دائما تكون مركبة
من قضية متيقنة وقضيتين مشكوكتين أو أكثر حسب كثرة الأطراف ، فالمعلوم بالإجمال
قضية منفصلة مانعة خلو ، ففي مثل العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يصدق قولنا
اما هذا الإناء نجس واما ذاك ، وقد يحتمل نجاستهما معا ، والمدار
في تنجيز العلم
الإجمالي على هذا الترديد حدوثا وبقاء ، فإذا فرضنا ان القضية المنفصلة انقلبت إلى
قضيتين حمليتين ، إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبدي والأخرى مشكوكة بنحو الشك
الساري ، فلا مناص من الانحلال وسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ، والسر في ذلك هو
ان تنجيز العلم الإجمالي لم يكن ثابتا بالتعبد ، وانما كان العقل حاكما به
لكاشفيته كالعلم التفصيليّ ، فلا بد في تنجيزه من أن يكون علما بالتكليف الفعلي
على جميع التقادير ، فإذا زالت كاشفيته بطرو الشك الساري زال التنجيز لا محالة ،
كما هو الحال في العلم التفصيليّ بعينه ، ولا ينتقض ما ذكر بما إذا علم بحدوث
تكليف جديد في أحد الأطراف معينا ، فانه لا يوجب انقلاب القضية المنفصلة ، بل هي
باقية على حالها ، كما لا ينقض بصورة طرو الاضطرار إلى بعض الأطراف ، أو تلفه ، أو
امتثال التكليف فيه ، فان العلم بالتكليف الفعلي السابق في جميع هذه الفروض باق
على حاله ، غاية الأمر بتحقق أحد هذه الأمور يشك في سقوط ذاك التكليف ، فلا بد من
تحصيل اليقين بسقوطه.
وبالجملة إذا كان
العلم الإجمالي بحدوث التكليف باقيا على حاله ، وكان الشك في سقوطه لعارض ، كان
اللازم تحصيل الجزم بسقوطه ، فان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية. واما
إذا زال العلم الإجمالي ، وانقلبت القضية المنفصلة إلى قضيتين حمليتين على ما عرفت
زال التنجيز أيضا.
إذا عرفت ذلك نقول
: الأقوال في ما هو المجعول في الطرق والأمارات ، ثلاثة.
أحدها : ما اختاره
المحقق النائيني من انه نفس الطريقية والمحرزية في مقام الإثبات.
ثانيها : ما ذهب
إليه صاحب الكفاية من انه المنجزية والمعذرية.
__________________
ثالثها : ما نسب
إلى المشهور من انه أحكام فعلية على طبق المؤديات ، ويعبر عن ذلك بالسببية.
اما على القول
الأول ، فانحلال العلم الإجمالي بقيام الطرق على ثبوت التكليف بمقدار المعلوم
بالإجمال في بعض الأطراف أمر واضح ، فان قيام الطريق يوجب العلم بالواقع تعبدا ،
وكما تنحل القضية المنفصلة إلى حمليتين بالعلم الوجداني ، كذلك تنحل إليهما بالعلم
التعبدي.
واما على القولين
الآخرين ، فقد استصعب المحقق النائيني رحمهالله القول بالانحلال . والإنصاف ان الاستصعاب في محله إذا قلنا باشتراط منجزية
الطرق والأمارات بالوصول ، فان العلم الإجمالي الثابت في أول البلوغ قد أثر اثره
من تنجيز جميع المحتملات ، وقيام منجز آخر بعد ذلك على الحكم في بعض الأطراف لا
يوجب سقوط المنجز السابق.
وما ذكره المحقق
الخراسانيّ رحمهالله في وجه الانحلال من ان الأمارة القائمة على حكم إلزاميّ
بمفهومها تنفي تنجز التكليف المحتمل في بقية الأطراف ، فينحصر التنجز بمورد قيام
الأمارة ، نظير ما إذا علم إجمالا بنجاسة إناء زيد المردد بين الإناءين ، فإذا
قامت الأمارة على كون إناء معين منهما هو إناء زيد كان التنجز منحصرا به غير صحيح ، ضرورة انه ليس للأمارة المزبورة مفهوم ينفي
الحكم عن غير موردها كما كان له ذلك في المثال ، بل غاية ما يستفاد منها ثبوت
الحكم في موردها ، وعليه فقيام الأمارة على ثبوت التكليف في بعض الأطراف يكون لغوا
، إذ لا أثر له بعد تنجز الواقع بمنجز سابق وهو العلم الإجمالي. نعم إذا قلنا كما
هو الصحيح ان مجرد كون الأمارة في معرض الوصول كاف في تنجزها وان لم تصل ، فيسهل
دفع الشبهة ، فان
__________________
المكلف حينئذ في
أول بلوغه ، واحتمال وجود أمارات متضمنة للأحكام الثابتة في الشريعة قد تنجز عليه
مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال المفروض كونه قبل الفحص ، وحيث يكون هذا الاحتمال
مقارنا زمانا لعلمه الوجداني بثبوت تكاليف في الشريعة المقدسة فلا ينجز ذلك العلم
جميع أطرافه ، لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجز مقارن له ، وهو نظير ما لو علمنا
بوقوع نجاسة في أحد الإناءين وعلمنا نجاسة أحدهما المعين مقارنا لذاك العلم
الإجمالي ، فانه لا ينجز حينئذ أصلا ، والسر فيه واضح ، فان تنجيز العلم الإجمالي
انما هو بتساقط الأصول في أطرافه ، وفي مثل الفرض يجري الأصل في الطرف المشكوك فيه
بلا معارض ، وقد ذكرنا في محله انه لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتا وفي
بعضها نافيا لا يكون العلم الإجمالي منجزا.
ومما ذكرناه يظهر
الحال على القول بالسببية ، فان قيام الأمارة يكشف عن ثبوت أحكام فعلية في مواردها
من أول الأمر ، فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية مرددة بينها وبين
غيرها.
فالمتحصل من جميع
ما ذكرناه انه على جميع الأقوال الثلاثة في جعل الأمارات تكون المحتملات في غير
مواردها موردا لأصالة البراءة ، اما على القول بالطريقية فينحل العلم الإجمالي
بقاء بالشك الساري والعلم التفصيليّ. وعلى القول بجعل المنجزية والمعذرية يكشف
قيام الأمارة عن تنجز التكليف في بعض الأطراف من أول الأمر من غير جهة العلم
الإجمالي. وعلى القول بالسببية تكشف الأمارة عن اشتمال مؤدياتها على مصلحة أو
مفسدة مستلزمة لثبوت الحكم على طبقها من أول الأمر.
الثاني : من تقريب
حكم العقل ما ذكره بعضهم من ان الأصل في الأفعال هو الحظر ، وحاصله : دعوى استقلال
العقل بالمنع عن التصرفات غير الضرورية في سلطان المولى قبل ورود شرع وشريعة ،
وبعده أيضا يرجع إلى الحكم العقلي السابق
ما لم يثبت ترخيص
من المولى كما هو المفروض.
وفيه : أولا : ان
أصالة الحظر ليست من الأصول الاتفاقية ، فقد ذهب جماعة إلى القول بأصالة الحل في
الأشياء ، فليست المسألة من الأمور المسلمة.
وثانيا : انه لا
ارتباط بين ما نحن فيه وبين تلك المسألة كما أشار إليه في الكفاية فان العقل يستقل بالحظر في تلك المسألة بمناط غير موجود في
المقام ، وهو عدم قابلية المورد للبيان ، اما لعدم قابلية الموجودين في ذاك الزمان
لتوجيه التكليف إليهم ، واما لمانع آخر ، فلا مجال حينئذ لقبح العقاب بلا بيان ،
وهذا بخلاف محل الكلام المفروض فيه ثبوت الشرع والشريعة ، وقابلية المورد للبيان ،
فإذا لم يرد البيان من المولى يستقل العقل بقبح العقاب ، فلا ارتباط بين
المسألتين.
وثالثا : ان ما
ذكر لو تم فانما هو فيما إذا لم يثبت الاذن والترخيص في مورد الشك في التكليف ،
وقد عرفت فيما تقدم ثبوته ، وان أدلة البراءة مقدمة على اخبار الاحتياط ، إما
لأخصيتها أو لأنصيتها.
الثالث : ان في
ارتكاب المشتبه احتمال الوقوع في الضرر والعقل يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وقد
تقدم الجواب عن ذلك مفصلا فراجع.
__________________
تنبيهات أصالة البراءة
التنبيه الأول : ان موضوع البراءة
العقلية هو عدم البيان. كما ان موضوع
البراءة الشرعية هو الشك وعدم العلم ، وعليه فكل ما يكون بيانا ورافعا للشك ولو تعبدا
يتقدم عليها بالورود أو الحكومة ، من غير فرق بين أن تكون الشبهة موضوعية ، كما لو
علم خمرية مائع وشك بعد ذلك في انقلابه خلا ، فانّ استصحاب بقاء الخمرية يرفع
موضوع أصالة البراءة عن حرمة شربه ، أو تكون حكمية كما إذا شك في جواز وطي الحائض
بعد انقطاع الدم وقبل ان تغتسل ، فان استصحاب بقاء الحرمة السابقة يمنع عن التمسك
بأصالة البراءة. وقد عبر الشيخ رحمهالله عن هذا الأصل بالأصل الموضوعي لأنه رافع لموضوع الآخر ، ولم يرد منه خصوص الأصل الجاري
في الموضوع كما توهم.
وقد رتب أعلى الله
مقامه على ما أفاده جريان أصالة عدم التذكية فيما إذا شك في حلية لحم وحرمته من
جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمه. وأورد على نفسه بان أصالة عدم التذكية
معارضة بأصالة عدم الموت حتف الأنف. وأجاب عنه بان الموت حتف الأنف عبارة أخرى عن
عدم التذكية ، فلا مغايرة بينهما.
وزاد في الكفاية ان المأخوذ في الدليل ليس إلّا عنوان غير المذكى
__________________
والتحقيق ان يقال
: ان الشبهة في حرمة اللحم تارة : تكون حكمية ، وأخرى : موضوعية. والشبهة
الموضوعية على أقسام.
أحدها : ما كان
الشك في حلية اللحم من جهة دوران الأمر بين كونه من مأكول اللحم أو من غيره ، مع
العلم بوقوع التذكية بجميع شرائطها عليه ، وذلك كالشك في كون اللحم المتخذ من
حيوان علم وقوع التذكية عليه من شاة أو أرنب
ثانيها : ما إذا
كان الشك في الحلية من جهة احتمال طرو عنوان على الحيوان مانع من قبوله للتذكية ،
بعد العلم بقابليته لها في حد ذاته ، كاحتمال عروض الجلل على الشاة ، أو كونها
موطوءة إنسان ، أو ارتضاعها من لبن خنزيرة.
ثالثها : ما يكون
الشك في حليته لاحتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتا ، بعد العلم بوقوع الذبح
الجامع للشرائط عليه ، كما لو تردد الحيوان المذبوح بين كونه شاة أو كلبا ، لأجل
ظلمة أو عمى.
رابعها : ما يكون
الشك فيه من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه ، لكن لا من حيث قابلية الحيوان ،
بل من حيث احتمال اختلال بعض شرائطها الأخرى ، مثل كون الذابح مسلما ، أو كون
الذبح بالحديد ، أو إلى القبلة وهكذا.
ونحن نتعرض للشبهة
الموضوعية بأقسامها ، ثم نتكلم في الشبهة الحكمية ، وهي أيضا على أقسام ، فنقول :
اما القسم الأول :
وهو الشك في حلية أكل اللحم بعد العلم بوقوع التذكية عليه ، فهو مورد لأصالة الحل
والبراءة من دون حاجة إلى الفحص ، لكون الشبهة موضوعية. واما ما أفاده الشهيد قدسسره من ان الأصل في اللحوم مطلقا هو الحرمة فهو بالإضافة إلى هذا الفرض غير صحيح ، إذ لا وجه له بعد
فرض إحراز وقوع التذكية
__________________
عليه على كل
تقدير.
واما ما ذكره بعض
من التمسك باستصحاب حرمة أكله الثابتة قبل زهاق الروح فهو أيضا غير وجيه.
اما أولا : فلأن
حرمة أكل الحيوان الحي غير مسلّم وان قال به جمع ، تمسكا بقوله سبحانه «إلّا ما
ذكيتم» وقد أفتى صريحا جملة من الاعلام بجواز بلع السمك الصغير
حيا ، مع ان تذكيته انما هي بموته خارج الماء ، لا بنفس إخراجه منه ، ولذا التزموا
بعدم جواز أكل القطعة المبانة من السمك الحي بعد إخراجه من الماء حيا.
وثانيا : ان
الحرمة الثابتة على تقرير تسليمها كانت ثابتة لعنوان الحيوان المتقوم بالحياة ،
وما يشك في حليته انما هو الحكم ، وهو مباين مع الحيوان.
واما القسم الثاني
: أعني به ما إذا شك في عروض مانع عن قبول الحيوان للتذكية ، فلا مانع من الرجوع
فيه إلى استصحاب عدم طروه ، لا إلى استصحاب بقاء قابليته للتذكية ليقال ان
القابلية ليس لها أثر شرعي ، فإذا تحقق وقوع الذبح عليه جامعا للشرائط المعتبرة
فيه يثبت التذكية بضم الوجدان إلى الأصل ، فيحكم حليته.
واما القسم الثالث
: وهو ما لو شك في قابلية الحيوان للتذكية في نفسه مع العلم بوقوع الذبح عليه
خارجا ، فان قلنا : بثبوت دليل عام يدل على قابلية كل حيوان للتذكية إلّا ما خرج
بدليل خاص ، كما ادعاه صاحب الجواهر رحمهالله ، واستدل عليه برواية علي ابن يقطين الواردة في الجلود ، وبنينا على جريان استصحاب العدم الأزلي حتى في العناوين
الذاتيّة كعنوان الكلبية ونحوها ، فلا مانع من التمسك بذلك العموم بعد إجراء
استصحاب عدم تحقق العنوان المأخوذ في المخصص ، وعليه فيحكم
__________________
بحلية لحم تردد
بين الشاة والكلب بالشبهة الموضوعية. واما لو منعنا عن كلا الأمرين ، أو عن أحدهما
، فان قلنا بأن التذكية أمر وجودي بسيط مسبب عن الذبح بشرائطه ، كما هو الظاهر من
لفظ المذكى المرادف في الفارسية للفظ (پاكيزه) نظير الظاهرة المسببة عن الوضوء أو
الغسل ، والملكية الحاصلة عن الإيجاب والقبول ، فيستصحب عدمها ، كما في نظائرها. واما
إذا قلنا انها عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصة كما استظهره المحقق
النائيني رحمهالله من اسناد التذكية إلى المكلف في قوله تعالى (إلّا ما ذكيتم)
الظاهر في المباشرة دون التسبيب فلا مجال حينئذ لإجراء أصالة عدم التذكية ، لأنها مقطوعة
التحقق ، فيرجع إلى أصالة الحل. ولكن هذا المبنى فاسد ، إذ يصح اسناد الفعل
التسبيبي إلى المكلف من غير مسامحة ، فيقال : زيد ملك داره.
واما القسم الرابع
: وهو ما إذا شك في وقوع التذكية على الحيوان بعد إحراز قابليته لها ، اما للشك في
تحقق الذبح ، أو للشك في ثبوت بعض شرائطه غير القابلية ، فالمرجع هو أصالة عدم
التذكية على جميع التقادير ، أي أصالة عدم تحقق الذبح ، أو عدم تحقق شرطه من كون
الذبح مسلما أو كون الذبح بالحديد ، ما لم يكن أمارة على وقوع التذكية ، فيترتب
على ذلك حرمة الأكل ، وعدم جواز الصلاة فيه ، لأن غير المذكى قد أخذ مانعا عن
الصلاة.
هذا كله في الشبهة
الموضوعية.
واما إذا كان الشك
في الحلية من جهة الشبهة الحكمية ، فله صور.
الأولى : أن يكون
الشك من غير جهة التذكية ، كما لو شك في حلية لحم الأرنب ، لعدم الدليل على ذلك ،
مع العلم بوقوع التذكية عليه ، والمرجع فيه أصالة
__________________
الحل. ولا يتوهم
جريان أصالة الحرمة الثابتة قبل وقوع التذكية ، لما تقدم في الشبهة الموضوعية.
الثانية : أن يكون
الشك في الحلية للجهل بقابلية الحيوان للتذكية لشبهة حكمية ، كما في الحيوان
المتولد من حيوانين كالشاة والخنزيرة من دون أن يشبه أحدهما ، فان وجد عموم حاكم
بقابلية كل حيوان للتذكية إلّا ما خرج فليتمسك به من دون حاجة إلى استصحاب العدم
الأزلي ، وانما احتجنا إلى الاستصحاب في الفرض المتقدم لأن الشبهة فيه كانت
موضوعية ، ولا يمكن فيها الرجوع إلى عموم العام إلّا بعد إثبات موضوعه بالاستصحاب
ونحوه. وان لم يوجد عموم ، فان قلنا بان التذكية أمر بسيط فالأصل عدم تحققها ،
وإلّا فيرجع إلى أصالة الحل ، هذا كله فيما إذا لم يكن الشك في القابلية ناشئا من
احتمال طرو المانع. واما ان كان مستندا إلى ذلك ، كما لو شككنا في ان الجلل الحاصل
مانع عن التذكية أم ليس بمانع فيرجع إلى أصالة عدم تحقق المانع.
الثالثة : ما إذا
كان منشأ الشبهة الشك في ان الذبح الواقع بغير الحديد مثلا يوجب التذكية حتى مع
التمكن من الحديد أم لا؟ والظاهر انه لا إشكال في الرجوع فيها إلى أصالة عدم تحقق
التذكية ، حتى على مختار المحقق النائيني من كون التذكية أمرا مركبا ، للشك في
تحققه. ودعوى الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي اعتبار الأمر المشكوك فيه ممنوعة
، إذ ليست التذكية أمرا عرفيا لينزل الدليل عليه ، ويدفع احتمال التقييد الزائد
بالإطلاق كما كان الحال ذلك في مثل قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) وأمثاله ، وهذا واضح.
وانما الكلام في
انه هل يترتب على أصالة عدم التذكية خصوص حرمة الأكل
__________________
وعدم جواز الصلاة
فيه ، أو يترتب عليها النجاسة أيضا؟ الحق هو الأول ، وذلك لأن حرمة أكل اللحم
مترتب على ما لم يذك بمقتضى قوله تعالى : (إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) وهكذا عدم جواز الصلاة في أجزاء الحيوان ، بخلاف النجاسة
فانها مترتبة على عنوان الميتة ، والموت في عرف المتشرعة على ما صرح به في مجمع
البحرين زهاق النّفس المستند إلى سبب غير شرعي ، كخروج الروح حتف الأنف ، أو
بالضرب ، أو الشنق ونحوها ، فيكون أمرا وجوديا ، وليس الموت عبارة عما لم يستند
إلى سبب شرعي ليكون أمرا عدميا مترتبا على أصالة عدم التذكية. وبالجملة لا كلام في
ان الحيوان الميت حتف أنفه نجس وحرام ، وكذلك الحيوان الميت بغير تذكية شرعية.
وانما الكلام في ان النجاسة الثابتة لغير المذكى هل هي بعنوان وجودي وهو الموت
بغير سبب شرعي ، أو بعنوان عدمي أعني به عدم استناد الموت إلى سبب شرعي؟ ولا دليل
على تعيين عنوان الموضوع ، بل الظاهر انه من قبيل الأول ، وقد عرفت ان الموت أمر
وجودي كالتذكية.
وعلى هذا فيتم كلام
الفاضل النراقي رحمهالله من معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت ، فيتساقطان
، ويرجع إلى قاعدة الطهارة ، وان كان الصحيح جريانهما معا ، إذ لا يلزم من ذلك
مخالفة عملية ومجرد كون عدم التذكية ملازما للنجاسة لأن التذكية والموت ضدان لا
ثالث لهما غير مانع عن جريانهما ، إذ التفكيك بين اللوازم في الأصول غير عزيز ،
كما في المتوضئ بمائع مردد بين الماء والبول ، فانه محكوم بالطهارة الخبثية دون
الحدثية للاستصحاب ، مع وضوح الملازمة بين الأمرين ، ونظائره كثيرة.
ثم ان المحقق
الهمداني رحمهالله ذهب إلى ان العنوان الّذي رتب عليه النجاسة هو ما لم يذك ،
مستدلا بما يستفاد من ذيل مكاتبة الصيقل «فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس» زاعما ان مفهومه انه لو لم يكن ذكيا ففيه بأس ، والمراد
بالبأس
__________________
النجاسة ، لأنها
هي المسئول عنها.
والظاهر انه لا
دلالة في المكاتبة على ذلك ، وانما هي دالة على نفي البأس عن ما كان يستعمله في
عمله من جلود الحمر الوحشية الذكية في قبال الميتة المذكورة في صدر الكلام ، وليس
فيها دلالة على اعتبار التذكية في الحكم بالطهارة في قبال عدمها ، ويؤيد ذلك ذكر
الوحشية في الكلام ، مع ان كون الحمار وحشيا لا دخل له في طهارة جلده أصلا.
فتحصل مما ذكر ان
مقتضى أصالة عدم تحقق التذكية إذا جرت في مورد انما هو حرمة اللحم ، وعدم جواز
الصلاة بجلده. واما النجاسة فهي لا تترتب على هذا الأصل ، فلا مانع من الرجوع إلى
أصالة الطهارة ، وعلى هذا يحمل كلام الشهيد رحمهالله من ان الأصل في اللحوم هو الحرمة والطهارة ، ويشهد لذلك
انه جعل مورد كلامه الحيوان المتولد من طاهر ونجس .
ثم لا يخفى ان
صاحب الحدائق رحمهالله أورد على الأصوليين في المقام ، بل تعجب منهم ، حيث حكموا
بحرمة اللحم المشكوك فيه تمسكا بأصالة عدم التذكية ، مع انهم يقولون بعدم إجراء
الأصل مع وجود الدليل ، والدليل على الحل موجود في محل الكلام ، وهو قوله عليهالسلام «كل شيء فيه حلال
وحرام» الحديث. وفساد ما ذكره غني عن البيان ، فان دليل البراءة التي هي من الأصول
العملية المجعولة وظيفة للشاك ليس دليلا على الحكم الواقعي لتتقدم على الاستصحاب ،
بل ان دليل الاستصحاب يخرج مورد جريانه عن ما لا يعلم حرمته ، ويدرجه في معلوم
الحرمة ، ومعه كيف يتمسك بدليل حلية المجهول حكمه.
التنبيه الثاني : لا إشكال في حسن الاحتياط في الواجبات التوصلية ، فان
__________________
المقصود فيها تحقق
ذات الواجب ليس إلّا ، فالاحتياط فيها نوع من الانقياد. وهكذا في العبادات فيما
إذا كان أصل الرجحان محرزا وتردد أمر الفعل بين الوجوب والندب ، فان الاحتياط فيها
ممكن بإتيان العمل بداعي امره الواقعي ، ولا إشكال فيه إلّا من حيث قصد الوجه ،
وقد بين في محله ان اعتباره على تقدير تسليمه انما هو مختص بصورة الإمكان ، واما
إذا لم يحرز أصل الرجحان ودار الأمر بين الوجوب واللغوية فلا يمكن إحراز محبوبية
العمل على كل حال ، فانه ان أتى به بداعي الأمر كان تشريعا ، وان لم يأت به بذاك
الداعي فلم يأت بالعبادة المقيدة بقصد الأمر ، ومن هنا ربما يشكل في جريان
الاحتياط في العبادة في الفرض.
لا يقال : انه
يستكشف ثبوت الأمر من حكم العقل بحسن الاحتياط بقاعدة الملازمة أو بنحو الإن.
لأنا نقول : حكم
العقل بحسن الاحتياط لا يثبت موضوعه ، ولا إمكان تحققه في العبادات.
والتحقيق أن يقال
: ان الأقوال في عبادية الواجب ثلاثة.
الأول : ما اختاره
في الكفاية من انه لا فرق بين العبادات والتوصليات من ناحية متعلق
الأمر فان الأمر ، مطلقا متعلق بذات العمل ، وانما تفترق العبادة عن غيرها من
ناحية الغرض ، ففي التوصليات يحصل الغرض المترتب على الواجب بمجرد الإتيان بالعمل
من دون قصد الأمر ، بخلاف التعبديات فان الغرض منها لا يحصل إلّا بالإتيان بالعمل
متقربا به إليه تعالى ، والعقل يستقل باعتباره تحصيلا لغرض المولى.
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني رحمهالله من ان قصد الأمر أيضا مأمور به ، لكنه
__________________
بأمر ثان تتميما
للجعل الأول ، فالأمر الأول متعلق بذات العمل ، والثاني بإتيانه بداعي الأمر ،
فالفرق بين الواجب العبادي وغيره انما هو بوجود الأمر الثاني وعدمه.
الثالث : ما
حققناه من ان قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر الأول في العبادات ، نظير أخذ سائر
الشروط المأخوذة فيه ، فالفرق بين العبادة وغيرها انما يكون بأخذ قصد القربة في
المتعلق وعدمه.
أما على القول
الأول ، فالإشكال في جريان الاحتياط في العبادة يبتني على أن يكون الدخيل في غرض
المولى هو الإتيان بالعمل بقصد الأمر الجزمي ، بان يكون الحصة التي تترتب عليها
الغرض خصوص الحصة الملازمة مع قصد الأمر الجزمي ، ومن الواضح بطلان ذلك ، فان
الانقياد رجاء لاحتمال وجود امر المولى أرقى وأعلى من الامتثال التفصيليّ للأمر
الجزمي ، إذ ربما يكون الانبعاث في الثاني لأجل الخوف من العقاب ، وهو غير محتمل
في فرض عدم وصول الأمر والإتيان بالعمل برجاء المحبوبية. هذا مضافا إلى ان الجزم
بالنية على تقدير اعتباره وكون الامتثال الإجمالي في طول الامتثال التفصيليّ انما
هو مع التمكن من ذلك كما مر تفصيله في محله ، وعلى ذلك فلا مانع من جريان الاحتياط
في العبادة بالإتيان بها رجاء ، فان صادف الواقع وإلّا كان انقيادا.
واما على القول
بكون اعتبار قصد القربة شرعيا ، سواء قلنا بأنه بالأمر الأول أم قلنا بأنه بالأمر
الثاني ، فالإشكال يبتني على أن يكون المأمور به هو خصوص قصد الأمر الجزمي ، مع ان
دليل اعتبار قصد القربة فيما اعتبر فيه انما هو الإجماع ، وما ورد في بعض اخبار
الوضوء من اعتبار كونه بنية صالحة يقصد بها ربه ونحو ذلك ، ولم يرد ما يدل على
لزوم إتيان العمل العبادي بداعي الأمر الجزمي. وبعد ما عرفت من ان الإتيان بداعي
رجاء المحبوبية من جملة الدواعي القربية بل من أرقاها لا يبقى
إشكال في جريان
الاحتياط في العبادة.
وبالجملة الإشكال
في جريان الاحتياط في العبادات انما يتجه لو كانت عبادية الواجب متوقفة على
الإتيان به بقصد الأمر الجزمي ، وليس كذلك ، فانه يكفي في عبادية الشيء مجرد
إضافته إلى المولى ، ومن الواضح ان الإتيان بالعمل برجاء المحبوبية من أحسن أنحاء
الإضافة ، والحاكم بذلك هو العقل والعرف ، فلا فرق في إمكان الاحتياط بين العبادات
وغيرها على جميع الأقوال.
بقي الكلام في
أمرين :
الأول : أن أوامر
الاحتياط هل هي كالأمر بالطاعة إرشادية إلى ما استقل به العقل ، فلا يترتب عليها
سوى ما كان العقل مستقلا به من حسن الانقياد واستيفاء الواقع به ، أو أنها أوامر
مولوية ، فيكون الاحتياط مستحبا كبقية المستحبات ، فإعادة الصلاة التي شك في صحتها
مستحب شرعي وان كانت محكومة بالصحّة لقاعدة الفراغ ونحوها؟
الثاني : أنه بناء
على أن تكون هذه الأوامر مولوية فهل هي في طول الأمر الواقعي ، فيلزم قصد الأمر
الواقعي في مقام الاحتياط رجاء ، أو أنها في عرضه ، فيجوز قصد امتثال نفس تلك
الأوامر ، كما هو الحال في ما إذا نذر الإتيان بواجب أو مستحب ، فانه يجزي قصد
الأمر النذري ولو كان الآتي بالعمل غافلا عن الأمر الوجوبيّ أو الندبي المتعلق به؟
وبعبارة أخرى :
أوامر الاحتياط هل هي متعلقة بذات العمل حتى يصح الإتيان به بداعي الأمر الاحتياطي
، أو أنها متعلقة بالعمل المأتي به بداعي الأمر الواقعي رجاء؟
أما الأمر الأول :
فقد ذكر المحقق النائيني رحمهالله ما حاصله : ان سياق جل
__________________
الاخبار الواردة
في الاحتياط يقتضي كونها مؤكدة لحكم العقل في مرحلة امتثال الأحكام الواقعية
وسلسلة معلولاتها ، فتكون تلك الأوامر إرشادية ، توضيحه : ان الحكم العقلي ان كان
في مرتبة علل الأحكام وملاكاتها كحكمه بحسن العدل والإحسان ، وقبح الظلم والعدوان
، فيستتبع الحكم المولوي. وان كان في مرحلة الامتثال المترتب على ثبوت الحكم
الشرعي كحكمه بلزوم الإطاعة فلا يستتبع الحكم المولوي ، بل يكون الأمر الوارد في
هذا المقام إرشاديا ، والأمر بالاحتياط من هذا القبيل.
ثم ذكر قدسسره ان الأمر بالاحتياط يمكن أن لا يكون ناشئا عن مصلحة إدراك
الواقع ، بل يكون ناشئا عن مصلحة في نفس الاحتياط ، كحصول قوة للنفس باعثة على
الطاعات وترك المعاصي وحصول التقوي للإنسان ، وإلى هذا أشار عليهالسلام في قوله «من ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له
أترك» فان حصول الملكات الحميدة أو المذمومة أمر تدريجي ، ولترك الشبهات في ذلك أثر
بين ، وعليه فمن الممكن أن يأمر المولى بالاحتياط بهذا الملاك ، وهو ملاك واقع في
سلسلة علل الأحكام ، فيكون الأمر الناشئ عنه مولويا ، انتهى.
أقول : ان ما
أفاده ثانيا من إمكان أن يكون الأمر بالاحتياط مولويا بملاك حصول التقوي وقوة
العقل متين جدا. وأما ما ذكره أولا من كون الأمر بالاحتياط إرشاديا إذا كان بملاك
إدراك الواقع ، لكونه واقعا في سلسلة معلول الحكم فلا يمكن المساعدة عليه ، فان
مجرد ورود الأمر في مرحلة معلولات الأحكام من الإطاعة والعصيان لا يستلزم
الإرشادية ، ولا يجوز رفع اليد عن ظهور اللفظ في المولوية. ولا يقاس المقام بالأمر
بالإطاعة ، وذلك لأن الأمر بالإطاعة يستحيل فيه المولوية ،
__________________
حتى لو لم نقل
باستحالة التسلسل ، لما ذكرناه من ان مجرد الأمر المولوي ولو لم يكن متناهيا لا
يكون محركا للعبد ما لم يكن له إلزام من ناحية العقل ، فلا بد وان ينتهي الأمر
المولوي في مقام المحركية نحو العمل إلى الإلزام العقلي ، فلا مناص من ان يجعل
الأمر الوارد في مورده إرشادا إلى ذلك ، وهو بخلاف الأمر بالاحتياط ، فان حسن
الاحتياط وان كان من المستقلات العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الواقعية
، إلّا ان العقل بما أنه لا يستقل بلزوم الاحتياط فلا مانع من ان يأمر به المولى
مولويا ، حرصا على إدراك الواقع ، لزوما كما يراه الاخباري ، أو استحبابا كما
نراه. وبالجملة المناط في الحكم الإرشادي كونه من المستقلات العقلية التي لا يعقل
فيها ثبوت الحكم المولوي ، لكونه لغوا أو لغير ذلك. واما مجرد وقوع الشيء في سلسلة
معلولات الأحكام ومقام امتثالها فهو غير مانع من الأمر به مولويا ، وعليه فالامر
بالاحتياط مولوي ، غايته انه يحمل على الاستحباب بقرينة ثبوت الترخيص في الترك المستفاد
من اخبار البراءة.
واما الأمر الثاني
: فقد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي ان الأوامر مطلقا توصلية تسقط بإتيان
متعلقاتها خارجا ، غاية الأمر ان متعلق الأمر في التوصليات هو ذات العمل ، وفي
التعبديات مقيدة بالإتيان به مضافا إلى المولى ، وهذا القيد مأخوذ في متعلق الأمر
الأول على المختار ، أو متعلق للأمر الثاني كما اختاره المحقق النائيني رحمهالله.
وعلى كل من
المسلكين ما اعتبر في العبادة ليس خصوص قصد الأمر ، بل المأخوذ فيها عنوان جامع
القربة ، وإضافة العمل إلى المولى سبحانه بأي نحو كان ، وهو كما يحصل بقصد الأمر
الواقعي يحصل بقصد الأمر الاحتياطي المتعلق بذات
__________________
العمل. نعم لو كان
المعتبر في العبادة قصد خصوص امرها العبادي ، أو كانت أوامر الاحتياط متعلقة
بالعمل المأتي به بداعي احتمال الأمر الواقعي لكان اللازم فيما نحن فيه إتيان
العمل بقصد الأمر الواقعي رجاء ، لكنك عرفت انه خلاف الواقع ، وعليه فلا حاجة إلى
ما ذكره الشيخ رحمهالله من انّ الأمر بالاحتياط في العبادات تعبدي ، وفي غيرها
توصلي كما هو الحال في الأمر المتعلق بالوفاء بالنذر ، فانك قد عرفت ان الأوامر مطلقا
توصلية ، غاية الأمر ان متعلق بعضها مقيد بقصد القربة ، فعدم سقوط الأمر عند عدم
قصد القربة انما هو لأجل عدم الإتيان بالمأمور به كما هو الحال في بقية الشرائط.
التنبيه الثالث : لقد استفاضت الاخبار الدالة على الحث نحو العمل بمجرد بلوغ
الثواب عليه ، حتى عقد لها في أول الوسائل بابا ، وذكر تسعة روايات ، فلا وجه للمناقشة في سندها ، مع ان بعضها صحيحة ، غير
انا نذكر منها حديثين تيمنا.
في الكافي بسنده
إلى محمد ابن مروان قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس
ذلك الثواب ، أوتيه ، وان لم يكن الحديث كما بلغه». وفيه بسنده إلى هشام ابن سالم
عن الصادق عليهالسلام «قال : من سمع
شيئا من الثواب على شيء فصنعه ، كان له ، وان لم يكن على ما بلغه».
والبحث في هذه
الاخبار يقع من جهات :
الأولى : في مفادها. والمحتمل فيه وجوه ثلاثة.
الوجه الأول : أن
يكون إرشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد وترتب الثواب على الإتيان بالعمل الّذي
بلغ عليه الثواب ببلوغ وجداني أو تعبدي صحيح ، الّذي هو معنى البلوغ حقيقة ولو لم
يكن الأمر كما بلغ ، ولا تكون ناظرة إلى
__________________
كيفية البلوغ ،
وانه بأي شيء يتحقق.
الوجه الثاني : أن
يكون مفادها إسقاط شرائط حجية الخبر في باب المستحبات ، وتوسعة للحجية في أدلتها ،
بمعنى انه لا يعتبر فيها ما كان معتبرا في حجية الخبر من العدالة أو الوثاقة فيما
إذا كان المخبر به حكما إلزاميا.
الوجه الثالث : أن
يكون مفادها ثبوت الثواب على العمل بالعنوان الثانوي الطاري ، أعني به عنوان بلوغ
الثواب عليه ، نظير عنوان أمر الوالد ، وقضاء حوائج الإخوان ونحو ذلك.
والاحتمال الأول
بعيد عن ظاهرها ، فانها واردة في مقام الترغيب والحث على العمل. والاحتمال الثاني
أبعد منه ، وذلك لأن لسان الحجية إنما يكون بإلغاء احتمال الخلاف والشك ، والبناء
على ان مؤدى الطريق هو الواقع ، كما في أدلة الطرق والأمارات ، وأما فرض عدم ثبوت
المؤدى في الواقع كما هو لسان هذه الاخبار فهو مناف لجعل الحجية والطريقية.
فالمتعين هو الاحتمال الثالث ، وهو الّذي يساعده الظهور العرفي والذوق الطبعي ،
فان المناسب لعظمة الشخص انه إذا أسند إليه الوعد بشيء ان ينجزه وان لم يكن
الإسناد مطابقا للواقع ، ومن هنا يظهر ان تعبير الفقهاء في المقام بالتسامح في
أدلة السنن غير خال عن المسامحة ، فانه انما يناسب الوجه الثاني لا الثالث. وكيف
كان فالظاهر من هذه الروايات هو استحباب العمل بمجرد بلوغ الثواب عليه.
ثم ان الظاهر انه
لا ثمرة عملية تظهر بين الوجهين الأخيرين. واما ما توهم من ظهور الثمرة فيما إذا
دل خبر ضعيف على استحباب ما ثبت حرمته بعموم أو إطلاق بتقريب : أنه إذا كان الخبر
المزبور حجة كان مخصصا للعام أو مقيدا للمطلق ، واما على ما اخترناه من ثبوت
الاستحباب الشرعي بالبلوغ فيقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي والتحريمي من جهة العنوان
الذاتي والعرضي ، فيقدم الحكم
الإلزامي ، فيدفعه
ان أدلة المقام كلها مختصة بما إذا كان المورد مما بلغ عليه الثواب فقط ، ولا تشمل
ما إذا ثبت العقاب عليه بدليل معتبر ، كما نشير إليه فيما يأتي ، وعليه فالخبر
الضعيف الدال على استحباب ما ثبت حرمته بعموم أو إطلاق غير مشمول لهذه الأدلة على
الوجهين.
الجهة الثانية : ان المستفاد من هذه
الاخبار على تقدير دلالتها على استحباب العمل البالغ عليه الثواب هل هو استحباب
ذات العمل ، أو استحبابه فيما إذا أتى به بعنوان الرجاء والاحتياط؟ وجهان. وليعلم انه لا ثمرة للبحث عن هذه الجهة بناء على ما
اخترناه من ان مفاد أدلة الاحتياط هو استحباب ذات العمل المحتمل وجوبه أو استحبابه
، فانه على ذلك يكون ذات العمل الّذي بلغ عليه الثواب مستحبا بأدلة الأمر
بالاحتياط مع قطع النّظر عن اخبار التسامح. نعم بناء على عدم ثبوت الاستحباب
الشرعي بأدلة الاحتياط ، أو ثبوته للعمل المأتي به باحتمال الأمر الواقعي كان لهذا
النزاع مجال ، إلّا ان الظاهر مع ذلك هو استحباب ذات العمل من دون تقييد بما إذا
أتى به برجاء إدراك الواقع ، فان الثواب في تلك الروايات مترتب على نفس العمل من
دون قيد ، فيكون المستحب هو نفس العمل أيضا.
وذكر في وجه
التقييد امران :
أحدهما : ان تفريع
العمل على بلوغ الثواب في بعض الاخبار ظاهر في ذلك.
وثانيهما : ان
قوله عليهالسلام في بعضها «فعمله التماس ذلك الثواب أو طلب قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقتضي كون المستحب خصوص ما يؤتى به لالتماس الثواب أو طلبا
لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبذلك يقيد ما ورد من المطلقات في المقام ، وان لم نقل
بحمل المطلق على المقيد في المستحبات ، وذلك للعلم بوحدة الحكم فيما نحن فيه ،
ومعه لا مناص من حمل المطلق على المقيد من دون فرق بين كون الحكم وجوبيا أو
استحبابيا.
وقد أجاب صاحب
الكفاية عن الأول بان التفريع لا يدل إلّا على ان الباعث للمكلف
وداعيه على العمل هو رجاء الثواب والتماسه ، ولا يوجب ذلك تعنون العمل بهذا
العنوان ، ولا كونه وجها لمحبوبيته.
وعن الثاني بان
الحكم في الروايتين المشتملتين على التقييد إرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد ،
والإتيان بالعمل برجاء الثواب والمحبوبية ، ومن الظاهر ان الحكم الإرشادي لا يوجب
تقييد المطلقات الدالة على الحكم المولوي ، بيان ذلك : ان الروايات الدالة على
ترتب الثواب على نفس العمل ظاهرة في ثبوت الاستحباب الشرعي ، إذا الثواب لا يترتب
إلّا على العمل الحسن عقلا أو المحبوب شرعا ، وحيث ان ذات العمل البالغ عليه
الثواب لا حسن فيه عقلا ، فمن ترتب الثواب عليه يستكشف بنحو الآن استحبابه ، وهذا
بخلاف الروايتين المقيد فيهما الثواب بما إذا أتى بالعمل رجاء ، فان الحكم فيه
إرشادي لا محالة ، وكون الحكم فيهما إرشاديا لا يقتضي حمل الحكم في غيرهما على
الإرشاد ورفع اليد عن ظهوره في المولوية ، إذ لا منافاة بين ثبوت الحكم الإرشادي
للمقيد والحكم المولوي للمطلق ، انتهى.
والتحقيق : في
الجواب عن المناقشين يقتضي تقديم مقدمة وهي : ان ترتب الثواب على العمل لا يمكن أن
يكون داعيا إليه بلا واسطة بأن يؤتى به بداعي مجرد ترتب الثواب عليه ، وذلك فان
الثواب إنما يترتب على العمل المأتي به قربيا ، فذات العمل في غير ما دل الدليل
على ترتب الثواب على مطلق وجوده ، كنفس الصائم في شهر رمضان وكإدارة السبحة في
اليد بعد الإتيان بالذكر الخاصّ في أول الصبح ونحوهما ، لا يترتب عليه الثواب ليصح
الإتيان به بداعي ترتبه عليه فلا مناص في فرض كون الثواب داعيا إلى العمل من توسيط
القربة ، وإضافة العمل إلى المولى
__________________
بوجه.
ثم إن كل فعل لا
يشتاق إليه الفاعل في نفسه لا بد في الإتيان به من داع آخر. والغالب في الواجبات
أن الداعي إلى الإتيان بها أحد أمرين ، الخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ،
وقد يكون الداعي إليه إدراك الفاعل كمال نفسه بإطاعة المولى ، حيث أنه أهل للعبادة
مع قطع النّظر عن الثواب والعقاب ، ولا يتفق ذلك في غير المعصومين عليهمالسلام إلّا للأوحدي من الناس. واما المستحبات فبما أن تركها لا
يستتبع العقاب فالغالب أن الداعي إلى الإتيان بها هو الثواب لا غير.
إذا عرفت ذلك نقول
: أن الرواية الأولى وإن كانت ظاهرة في ترتب العمل على بلوغ الثواب عليه ، إلّا
أنه لا ينافي استحباب ذات العمل ، إذ الفعل بعد ما لم يكن مما يشتاق إليه الإنسان
بطبعه كان الداعي إلى الإتيان به ترتب الثواب عليه بتوسيط إضافته إلى المولى ،
فبلوغ الثواب الّذي هو الموضوع للحكم بالاستحباب في الاخبار المتقدمة من اجزاء علة
العمل في الخارج ، إذ لو لم يبلغ الثواب على العمل لم يكن محكوما بالاستحباب ،
لعدم تحقق العنوان المأخوذ في أدلة الاستحباب ، وما لم يكن مستحبا لم يكن داع آخر
إلى الإتيان به ، فبلوغ الثواب هو الّذي أوجب صدور العمل في الخارج ، ولا منافاة
بين ذلك وبين عدم تقييد متعلق الطلب بما إذا أتى به رجاء لإدراك الواقع.
وبعبارة أخرى :
المذكور في الرواية تفرع العمل وترتبه على نفس البلوغ ، وذلك لا يستلزم كون
الإتيان به بعنوان الرجاء واحتمال إدراك الواقع. واما الروايتان المقيدتان للعمل
بما إذا أتى به التماسا للثواب الموعود ، أو طلبا لقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلا تدلان إلّا على اعتبار قصد التقرب في ترتب الثواب على
العمل ، لما عرفت من أن التماس الثواب لا يمكن إلّا بتوسيط الإضافة إلى المولى في
غير الموارد
الخاصة ، والإتيان
بالمستحبات القطعية أيضا انما يكون لالتماس الثواب غالبا ، فليس ذكر ذلك إلّا
لبيان أمر واقعي أعنى به كون الداعي إلى الإتيان بالعمل عبادة هو ترتب الثواب عليه
، وإنما اقتصر على ذكر الثواب دون الخوف من العقاب لأن مورد الرواية هي المستحبات
، ولا يتصور فيها الخوف من العقاب. وفرض كون الداعي أهلية المولى للعبادة فرض نادر
، والرواية ناظرة إلى حال الغالب.
وبالجملة ليس في
شيء مما ذكر دلالة على تقييد العمل بما إذا أتى به برجاء إدراك الواقع ليتكلم في
صلوحه لتقييد الاخبار المطلقة وعدمه.
ومما ذكرناه يظهر
ما في كلام صاحب الكفاية من الجواب عن المناقشتين ، فانه يرد عليه.
أولا : ما عرفت من
أن تقييد العمل بالإتيان به بداعي الثواب لا ينافي استحبابه.
وثانيا : أنه لو
سلم أن التقييد المزبور يوجب كون طلبه إرشاديا ، ففيما إذا فرض كون الداعي إلى
العمل هو ذلك كيف يمكن استفادة الاستحباب الشرعي مع استقلال العقل بحسن مثل هذا
الفعل في نفسه. وبعبارة أخرى ان لم يكن الإتيان بالعمل بداعي الثواب منافيا
لاستحباب نفسه ، فلا فرق بين أخذ ذلك قيدا في لسان الدليل وعدمه ، كما أنه لو فرض
منافاته له لم يكن فرق بين الأمرين أيضا ، فتسليم دلالة الرواية الأولى على
استحباب نفس العمل دون الروايتين الأخيرتين بلا موجب.
ثم انه قد يقال :
ان اخبار من بلغ حيث عين فيها مقدار الثواب المترتب على العمل لا يمكن أن تكون
إرشادا إلى حكم العقل ، لأن العقل لا يستقل إلّا على حسن العمل وترتب أصل الثواب
عليه ، وأما تعيين مقداره فهو خارج عن وظيفته.
وفيه : انه لا
مانع من كون الطلب إرشادا وكان ترتب خصوص الثواب البالغ
تفضلا من المولى ،
كما وقع نظير ذلك في الاخبار عن ترتب ثواب خاص على الإطاعة في قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).
بقي امران قد
استشكل بهما على الاستدلال بهذه الاخبار ، قد تعرض لهما الشيخ رحمهالله في رسالته في التسامح في أدلة السنن .
أحدهما : ان هذه
الاخبار معارضة لما دل على اعتبار عدالة المخبر في حجية خبر الواحد.
وفيه : أولا : ان
هذه الاخبار أخص مطلقا من ذلك لاختصاصها بالمستحبات ، فلا معارضة بينهما.
وثانيا : لو فرضنا
ورود دليل على اعتبار العدالة في خصوص الاخبار عن المستحبات ووقوع المعارضة بينها
وبين أدلة التسامح بالتباين لتقدمت أدلة التسامح عليها ، لأشهريتها ووجود الصحاح
فيها ، حتى ذكر في هامش الوسائل أنها مقطوعة الصدور ، بل ادعى تواترها.
وثالثا : ان هذه
الاخبار على ما اخترناه أجنبية عن الحجية رأسا ، لأن مفادها استحباب العمل
بالعنوان الثانوي ، وهو بلوغ الثواب عليه ولو بخبر ضعيف ، فالخبر الضعيف يثبت
موضوع البلوغ ، واما استحباب العمل فالمثبت له اخبار من بلغ لا الخبر الضعيف ، ولا
يلزم ذلك حجيته.
ثانيهما : ان هذه
الاخبار من اخبار الآحاد ، فلا يجوز التمسك بها في المسألة الأصولية.
وفيه : أولا : ان
هذه الاخبار لكثرتها وتظافرها لا يبعد أن تكون مقطوعة
__________________
الصدور كما ادعى.
وثانيا : لا نسلم
عدم صحة التمسك بخبر الواحد في المسألة الأصولية ، فان من أهمها مسألة الاستصحاب ،
وعمدة دليله الاخبار وهي آحاد على ما ستعرف ان شاء الله.
نعم لا يمكن
الاستدلال بخبر الواحد على حجية الخبر ، لاستلزامه الدور ، لا لكونها أصولية ، فما
لا يتمسك فيه بخبر الواحد انما هو أصول العقائد لا أصول الفقه.
وثالثا : ان ذلك
لو تم فانما يبطل به القول بحجية الخبر الضعيف في المستحبات ، واما على ما اخترناه
فالثابت بها حكم فرعي موضوعه بلوغ الثواب.
الجهة الثالثة : ان البلوغ المذكور في
الاخبار لا يخص البلوغ بالدلالة المطابقية ، بل يعم البلوغ بالدلالة الالتزامية ، وعليه فلو دل خبر ضعيف على وجوب عمل أو استحبابه لثبت
استحبابه ، وذلك لأن الاخبار عن استحباب شيء اخبار عن ترتب الثواب عليه ، كما ان
الاخبار عن وجوبه كذلك ، غاية الأمر أنه اخبار عن ترتب العقاب على تركه أيضا ،
إلّا انه لا يثبت بالخبر الضعيف ، لكن الاخبار عن الثواب لا مانع من شمول أدلة
التسامح له ، فيثبت بذلك الحكم باستحبابه ، ومن هنا أفتى الفقهاء باستحباب العمل
الّذي قام على وجوبه خبر ضعيف ، وهذا واضح.
واما لو دل خبر
ضعيف على حرمة شيء ، فهل يثبت به كراهته أم لا؟ قولان ، الظاهر هو الثاني ، وذلك لأن
المذكور في الدلالة انما هو بلوغ الخبر والثواب على العمل الظاهر في الأمر
الوجوديّ ، كما يشهد له التفريع بقوله عليهالسلام «فعمله أو صنعه»
فلا يشمل بلوغ الثواب على الترك. واما التمسك بالمناط بدعوى ان المقصود هي التوسعة
في مقام الإطاعة فيما لا إلزام فيه فهو غير قطعي ، غاية الأمر انه مظنون ، وهو لا
يغني من الحق شيئا.
ثم الظاهر شمول
الاخبار لفتوى الفقيه باستحباب العمل ، لصدق عنوان بلوغ الثواب عليه ، اما فيما
علم كون فتوى الفقيه موافقا لمتون الروايات فالامر واضح ، كما هو كذلك في فتاوى
ابن بابويه ، وقد صرح بذلك في المقنع ، وذكر ان ما أودعه فيه مجموع اخبار حذف إسنادها لئلا يثقل
حمله ويصعب حفظه ، واما في غير ذلك كالفتاوى المتعارفة في عصرنا فلا يبعد أيضا
دعوى ثبوت الاستحباب بذلك ، لأن الفقيه يخبر عن ترتب الثواب على العمل ، غايته
يكون اخباره عن حدس لا عن حس اللهم ، إلّا ان يدعى انصراف أدلة التسامح عن الاخبار
الحدسي ، لكنها بعيدة جدا.
الجهة الرابعة : الظاهر اختصاص البلوغ
المذكور في الروايات بالبلوغ في موارد الشبهات الحكمية ، فلا يعم الشبهات الموضوعية ، فلو دل خبر ضعيف على كون مكان
خاص مسجدا لا يثبت به استحباب الصلاة فيه مثلا ، وذلك لأن البلوغ المذكور فيها
ظاهر في اختصاصه بما يكون بيانه من وظيفة الشارع ، ومن الواضح ان بيان الموضوعات
وتطبيق الكبريات على صغرياتها لا يرجع إلى النبي أو الإمام عليهالسلام بما هو امام.
ثم ان الظاهر عدم
شمولها لنقل فضائل أهل البيت عليهمالسلام ومصائبهم فيما لم يقم على ثبوته دليل معتبر ، فان الأدلة
وان أفادت رجحان نقل فضائلهم ، وما جرى عليهم من الظلم والعدوان ، إلّا انه لم
يظهر منها رجحان النقل الخالي عن مدرك صحيح ، فالرجوع إليها يكون من التمسك
بالعامّ في الشبهة الموضوعية ، ولم يرد خبر ضعيف في رجحان نقل ما لم يثبت كونه
فضيلة أو مصيبة ليدعى انجباره بأدلة التسامح ، على انه لو فرض وروده لم ينفع في
المقام ، فان القول بغير علم محرم
__________________
شرعا ، ولا يمكن
رفع اليد عن دليل الحرمة بالخبر الضعيف على ما ستعرف ، فلا بد لمن أراد نقل ما لم
يثبت صحته من أن يكون نقله بعنوان روي ونحوه لئلا يكون من القول بغير العلم
المحرم.
الجهة الخامسة : ان هذه الاخبار لا تشمل
ما قامت الحجة على تحريمه من عموم أو إطلاق ، فإذا ورد خبر ضعيف على استحباب بعض افراده لا يرفع به اليد
عن العموم أو الإطلاق. والوجه فيه : ان ذلك الفرد بما انه مقطوع الحرمة ولو بالقطع
التعبدي لا تشمله تلك الاخبار ، فانها منصرفة عن مثل ذلك قطعا. وان شئت قلت : بقاعدة
الملازمة نعلم بأنه لا ثواب على فعله ، فكيف يعقل شمول الاخبار له.
ثم انه إذا بنينا
على عدم شمول اخبار من بلغ للاخبار عن الكراهة أو الحرمة فلا ريب في ثبوت
الاستحباب فيما إذا دل خبر ضعيف على وجوب شيء أو استحبابه ، ولو مع وجود خبر آخر
دل على كراهته أو حرمته ما لم يكن حجة شرعية ، ولا موجب لما ادعاه المحقق النائيني
من انصراف الاخبار عن هذا الفرض. واما إذا بنينا على شمولها للاخبار عن
الكراهة أو الحرمة أيضا ، فهل تقع المعارضة بين الخبرين في الفرض ، أو يكون ذلك من
باب التزاحم؟ وجهان بل قولان : ظاهر الشهيدين هو الثاني ، وهو محتمل كلام الشيخ رحمهالله بدعوى ان كلا من الفعل والترك حينئذ يكون مستحبا ، فيكونان
من المستحبين المتزاحمين ، والتزاحم في المستحبات غير عزيز ، بل انه حاصل في كل آن
من الآنات ، وعليه فيكون المقام من قبيل صوم يوم عاشوراء الّذي يكون فعله وتركه
معا مستحبا.
ولكن الصحيح :
القول بالتفصيل بين الموارد ، بيان ذلك : ان الفعل والترك البالغ عليهما الثواب
إذا كان أحدهما أو كلاهما عباديا فلا مانع من جعل
__________________
الاستحباب لهما في
مقام الثبوت ، لأنهما من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث ، غاية الأمر ان المكلف لا
يقدر على امتثالهما ، فهما من قبيل المستحبين المتزاحمين. واما إذا كان كل من
الفعل والترك غير عبادي فلا يعقل الحكم باستحباب كل منهما في مقام الثبوت ،
لاستحالة طلب المتناقضين ، ومحبوبية كل منهما بالفعل ، نعم يمكن أن يكون كل منهما
مشتملا على الملاك ، إلّا انه مع التساوي يحكم بالإباحة ، ومع الترجيح يحكم على
طبقه ، وكيف كان فلا يتصف النقيضان بالاستحباب ، وعليه فلا محالة يقع التعارض بين
الدليلين ، ولا يكون شيء منهما مشمولا لأدلة التسامح لعدم الترجيح.
ومن ذلك يظهر
الحال فيما لو دل دليل معتبر على استحباب شيء والآخر على استحباب تركه ، فانه لا
مانع من الأخذ بكل منهما في الفرض الأول ، واما في الفرض الأخير فيجري عليهما حكم
المتعارضين من الترجيح أو التخيير ، فافهم وتأمل.
الجهة السادسة : في ثمرة البحث عن دلالة
هذه الاخبار على الاستحباب ، مع ان الثواب يترتب على العمل المأتي به برجاء المطلوبية لا محالة ، سواء قلنا
باستحباب العمل شرعا أم لم نقل به. وبعبارة أخرى : لا فرق بين القول باستفادة
الحكم المولوي من أخبار من بلغ والقول بكونها إرشادية في انه يترتب الثواب على
الإتيان بالعمل الّذي بلغ عليه الثواب ، فلا فائدة في البحث عن ثبوت الحكم المولوي
وعدمه.
وقد ذكر الشيخ رحمهالله في بيان الثمرة موردين .
الأول : جواز
المسح ببلة المسترسل من اللحية لو دل على استحباب غسله في الوضوء خبر ضعيف ، بناء
على ثبوت الاستحباب الشرعي ، وعدم جواز المسح به بناء على عدم ثبوته ، لعدم إحراز
كونه من أجزاء الوضوء حينئذ.
__________________
وقد نوقش في ذلك
بوجهين :
الأول : ما ذكره
المحقق الخراسانيّ في تعليقته على الفرائد من عدم جواز المسح بالبلة المزبورة حتى
على القول باستحباب الغسل شرعا ، لأنه مستحب مستقل في واجب أو في مستحب ، وليس من
اجزاء الوضوء المستحبة.
وفيه : ان ذلك
خروج من الفرض ، إذ المفروض دلالة الخبر الضعيف على كونه جزء من الفرد الفاضل من
الطبيعة ، كاستحباب الاستعاذة بعد تكبيرة الإحرام في الصلاة ، فلو قلنا بثبوت
الاستحباب الشرعي فلا بد من القول بما يدل عليه الخبر الضعيف لا بشيء آخر أجنبي عن
مدلوله.
الثاني : ما يظهر
من الشيخ رحمهالله من أنه لا دليل على جواز الأخذ من بلة الوضوء مطلقا حتى من
الاجزاء المستحبة ، وانما ثبت جواز الأخذ من الاجزاء الأصلية ، فالقول باستحباب
غسل المسترسل من اللحية لا يستلزم جواز المسح ببلته.
المورد الثاني :
الوضوءات التي دل خبر ضعيف على استحبابها لغايات خاصة ، كالوضوء لقراءة القرآن أو
للنوم وأمثال ذلك ، فانه على القول باستحبابها يرتفع الحديث بها ، وإلّا فلا ،
وظاهر كلام الشيخ الإيراد عليه بان كل وضوء مستحب لم يثبت كونه رافعا للحدث ، فانه
يستحب الوضوء على الجنب والحائض في بعض الأحوال مع انه لا يرتفع به الحدث وهكذا
الوضوء التجديدي.
وفيه : أولا : ان
الوضوء انما يرتفع به الحدث الأصغر ، والجنب والحائض محدثان بالحدث الأكبر ، فعدم
ارتفاع الحدث فيهما من جهة عدم قابلية المورد ، فكيف ينتقض بذلك لإثبات عدم ارتفاع
الحدث في مورد قابل كما هو محل الكلام. ومن ذلك يظهر الحال في النقض بالوضوء
التجديدي.
وثانيا : من
الممكن أن يكون وضوء الجنب والحائض رافعا للحدث وللظلمة
النفسانيّة ، لكن
رفعا خفيفا لا بمثابة ارتفاع الحدث في غيرهما. واما الوضوء التجديدي فيمكن أن يكون
موجبا لشدة الطهارة ، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام «الوضوء نور على
نور» .
وعلى ما ذكرناه
هذه الثمرة تامة ، لكنها مبنية على القول بعدم استحباب نفس الغسلات والمسحات نفسيا
من دون أن يقصد بها غاية من الغايات. واما لو قلنا باستحبابها كذلك ، كما هو
الظاهر من الاخبار ، فلا تتم الثمرة ، إذ عليه يكون نفس الوضوء مستحبا رافعا للحدث
، سواء ثبت استحبابه لغاية خاصة أم لم يثبت.
فلا ثمرة في كل من
الموردين ، إلّا ان نتيجة انتفاء الثمرة في المورد الأول عدم جواز الأخذ من بلة
المسترسل من اللحية ، سواء قلنا باستحباب غسله أم لم نقل ، ونتيجة عدمها في المورد
الثاني استحباب ذات الوضوء ، سواء قلنا باستحبابه لغاية خاصة أم لم نقل ، فهما على
طرفي النقيض.
فتحصل أنه لا ثمرة
لهذا البحث إلّا من جهة فتوى الفقيه باستحباب نفس العمل ، فانه على تقدير استظهار
الحكم المولوي جاز للفقيه الإفتاء باستحباب العمل الّذي بلغ عليه الثواب بخبر ضعيف
، كما جاز للمقلد الإتيان به بقصد الأمر ، وإلّا فلا يجوز شيء من الأمرين.
التنبيه الرابع : أن الشيخ بعد ما حكى عن بعض المحققين اختياره جريان البراءة
في الشبهات الحكمية لحديث الرفع ونحوه ، وعدم جريانها في الشبهات الموضوعية بدعوى
ان الشك فيها ليس في أصل الحكم وجعله من قبل المولى ليكون موردا لقاعدة قبح العقاب
بلا بيان أو لحديث الرفع ونحوه ، بل الشك فيها انما هو في مقام الامتثال والتطبيق
، فلا بد فيها من الاحتياط بقاعدة الاشتغال ، أو رد عليه بما
__________________
حاصله : أن
الأحكام الشرعية بما أنها من قبيل القضايا الحقيقية التي يحكم فيها على الافراد
المقدر وجودها بواسطة العناوين المعرفة لتلك الأفراد فهي انحلالية ، لكل فرد من
أفراد الموضوع المأخوذ في القضية حكم مغاير للحكم الثابت للفرد الآخر ، كما هو
الحال في القضايا الخبرية بعينها ، فلو قيل : النار حارة كان عنوان النار فيه
معرّفا للوجودات الخارجية ، وكان كل فرد من أفراده محكوما بحكم مستقل ، فالقضية
اللفظية وإن كانت واحدة إلّا أنها في اللب تنحل إلى أحكام عديدة حسب ما لعنوان
موضوعها من الأفراد ، وعلى هذا لو شك في كون مائع مصداقا للخمر ، فلا محالة يشك في
ثبوت الحرمة له ، فيكون الشك في أصل التكليف وجعله للمشكوك ، والمرجع فيه هو
البراءة.
وذكر المحقق
الخراسانيّ في الكفاية ما حاصله : أن النهي تارة يكون انحلاليا بأن يكون كل فرد
من افراد موضوعه محكوما بحكم مستقل ، وأخرى يكون حكما واحدا متعلقا بمجموع التروك.
وعلى الأول ، يكون الشك في انطباق الموضوع على شيء شكا في ثبوت التكليف له ، فيرجع
إلى البراءة وعلى الثاني ، يكون تعلق التكليف بترك الطبيعة معلوما ، ولا يحرز
امتثاله إلّا بترك كل ما يحتمل انطباق الطبيعي عليه ، إلّا إذا كان للترك حالة
سابقة فيستصحب ، فيكون الامتثال محرزا بالتعبد.
وما ذكره قدسسره في الصورة الأولى وان كان تاما إلّا أنه غير تام في الصورة
الثانية. وتفصيل ذلك أنه تارة يراد من طلب الترك الزجر عن الفعل ، لوجود مفسدة فيه
على ما هو معنى النهي حقيقة ، وأخرى يراد منه البعث نحو الترك لوجود مصلحة فيه.
__________________
أما على الأول ،
فيكون للنهي أنحاء ثلاثة :
الأول : أن يكون
النهي عن الطبيعة انحلاليا بأن يكون ناشئا عن المفسدة الثابتة في كل فرد من
أفرادها ، فينحل ذلك إلى تكاليف عديدة ، لكل منها إطاعة وعصيان مستقل ، فإذا شك في
فردية شيء لتلك الطبيعة فلا محالة يشك في ثبوت أصل التكليف له ، فيرجع فيه إلى
البراءة.
الثاني : أن يكون
زجرا واحدا متعلقا بمجموع الأفعال ، بحيث لو اجتنب فردا واحدا من الطبيعي وارتكب
بقية الأفراد بأجمعها لم يكن عاصيا ، ومن الواضح أنه في هذا الفرض يجوز للمكلف
ارتكاب بعض الأفراد المتيقنة فرديتها للطبيعة مع ترك غيره فضلا عما هو مشكوك
الفردية ، والوجه فيه ظاهر. وهل يجوز ارتكاب جميع الافراد المعلومة وترك خصوص
الفرد المشكوك؟ الظاهر هو ذلك ، لأنه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر في المحرمات
، وهو على العكس في الواجبات ، فان تعلق التكليف بالأقل عند دوران الواجب بين
الأقل والأكثر متيقن ، وإنما يشك في التكليف الزائد ، وهو يدفع بالبراءة. وأما في
باب المحرمات فتعلق التكليف بالأكثر وكونه مبغوضا للمولى بنفسه أو بما اشتمل عليه
هو المتيقن ، وإنما يشك في حرمة الأقل ، ويدفع ذلك بالبراءة ، وعليه فالإتيان
بالأكثر أعنى الأفراد المتيقنة والفرد المشكوك فيه محرم قطعا ، فلا يجوز ارتكابه ،
واما ارتكاب ما عدى الفرد المشكوك فيه فحرمته غير معلومة ، والأصل فيه هو البراءة.
وقد أشار الشيخ رحمهالله إلى ما ذكرناه في أواخر بحث الأقل والأكثر من غير تفصيل.
وبالجملة الفرق
بين الحرمة والوجوب من حيث مقدماتها الداخلية هو الفرق بين مقدماتها الخارجية ،
فان وجوب ذي المقدمة يقتضي وجوب مقدماته على القول به ، لتوقفه عليها ، بخلاف
مقدمات الحرام ، فان الانزجار عن المحرم لا يتوقف على الانزجار عن مقدماته ، فلا
تكون محرمة. ونظير هذا البيان يجري في المقدمات
الداخلية.
الثالث : أن يكون
النهي عن الطبيعة بنحو صرف الوجود ، أعنى به أول الوجود من الطبيعة ، فلا يتصف
غيره بالحرمة ، ولا يبعد أن يكون النهي عن بعض أنواع المفطرات في بعض أقسام الصوم
من هذا القبيل. وفي هذا الفرض لو أراد المكلف ارتكاب مشكوك الفردية فلا محالة يشك
في صدق أول وجود الطبيعي عليه ليكون حراما ، فيرجع فيه إلى البراءة.
فاتضح أن المرجع
في الزجر عن الفعل بجميع أقسامه هو البراءة.
وأما على الثاني :
أعني ما لو أريد من النهي البعث نحو ترك الفعل لثبوت مصلحة فيه ، كما لا يبعد أن
يكون النهي عن تروك الإحرام من هذا القبيل ، فله أيضا أقسام.
الأول : أن يكون
المصلحة في كل واحد من التروك ، فيكون الحكم انحلاليا ، وعليه فالمرجع في الفرد
المشكوك هو البراءة ، للشك في تعلق التكليف به.
الثاني : أن يكون
المصلحة الواحدة قائمة بمجموع التروك ، وربما يعبر عنه بالجمع في الترك. وفي هذا
الفرض أيضا يكون كل فرد من أفراد التروك واجبا ، غايته بوجوب ضمني لا استقلالي ،
فإذا شك في فردية شيء للطبيعة فلا محالة يشك في تعلق التكليف الضمني به ، فيرجع
فيه إلى البراءة ، إذ لا اختصاص لها بالتكاليف الاستقلالية ، بناء على جريانها عند
الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، كما هو الصحيح على ما سيأتي الكلام فيه
مفصلا.
الثالث : أن يكون
المطلوب أمرا وحدانيا بسيطا متحصلا من مجموع التروك ، ويعبر عنه بخلو صفحة الوجود
عن الطبيعة ، وفي مثل ذلك لا مناص من القول بالاشتغال ، وعدم جواز ارتكاب ما يشك
في فرديته لها ، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل بعد ثبوت التكليف ، فما
أفاده قدسسره من عدم جريان البراءة إنما يتم
في خصوص هذا
الفرض. نعم لو كان ذلك الأمر البسيط متحصلا سابقا فمع ارتكاب الفرد المشكوك يجري
استصحاب بقاء ذلك الأمر البسيط ، فيكون ممتثلا بالتعبد الشرعي ، ويكفي ذلك في مقام
الامتثال.
ثم إنه قدسسره أفاد في المقام ان ما يشك في فرديته للطبيعة وإن كان موردا
للبراءة من حيث كونه مشكوك الحكم ، إلّا أن العقل يحكم فيه بالاشتغال ، تحصيلا
للامتثال اليقيني . وكلامه قدسسره وان كان قابلا للانطباق على هذا الفرض والفرض السابق أعنى
به كون المطلوب مجموع التروك ، إلّا أنه غير تام على التقديرين ، فانه إن كان
مورده هذا الفرض فليس المشكوك فيه حينئذ موردا ، للقطع بعدم تعلق التكليف به
بخصوصه ، إذ المفروض تعلقه بعنوان بسيط متحصل من مجموع التروك. وان كان مورده هو
الفرض السابق ، أعنى به تعلق التكليف بمجموع التروك ، فلا مجال حينئذ لحكم العقل
بالاشتغال على ما عرفت.
ثم أنه قد يناقش
فيما ذكرناه من جريان استصحاب عدم تحقق الطبيعة فيما إذا كان له حالة سابقة بأنه
يعتبر في المستصحب أن يكون بنفسه حكما شرعيا ، أو مما يترتب عليه أثر شرعي ، وليس
شيء منهما متحققا في ما نحن فيه ، فان عدم تحقق الطبيعة ليس بنفسه حكما شرعيا ولا
أثر شرعي له ، وأما ترتب حصول الفراغ عليه فانما هو بحكم العقل لا بحكم الشرع.
ويرد عليه : ما
بيناه مرارا من أنه لم يدل دليل على اعتبار ذلك في جريان الاستصحاب ، وانما هو أمر
ذكره بعض الأصوليين ، بل الّذي يعتبر في المستصحب أن يكون أمرا قابلا للتعبد
الشرعي ، ومن الواضح قابلية الامتثال لأن تناله يد الجعل والتعبد ، وقد تحقق ذلك
بالنسبة إلى موارد قاعدة التجاوز والفراغ واستصحاب
__________________
الطهارة وغير ذلك
، فنتيجة الاستصحاب فيما نحن فيه هو التعبد بعدم تحقق الطبيعة في فرض ارتكاب الفرد
المشكوك فيه ، ويترتب عليه الفراغ ، لأنه من الآثار المترتبة على الواقع والظاهر.
ثم لا يخفى أن هذا
الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان تحقق ذلك الأمر البسيط بترك الافراد العرضية ولو
آناً ما ، وأما لو فرض عدم كفاية ذلك ، وتوقفه على ترك الافراد الطولية أيضا
كالترك إلى المغرب مثلا ، فلا مجال حينئذ للتمسك بالاستصحاب ، لعدم اليقين بتحققه
في أثناء الوقت ليستصحب.
إرشاد :
إن النزاع المعروف في اللباس المشكوك
مبني على الخلاف في ما يستفاد من النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل ، وأنه من أي قسم من الأقسام المتقدمة ، فان النهي المزبور
بعد فرض عدم كونه نهيا تحريميا تكليفيا يقع الكلام في أن المستفاد منه هل هي
الشرطية أو المانعية؟ وعلى الثاني ، فهل المانعية انحلالية بأن يكون كل فرد من
أفراد ما لا يؤكل متصفا بها على استقلاله ، أو أنها ثابتة لصرف وجود الطبيعة أعني
به الوجود الأول منها ، فيكون المعتبر مجموع التروك الخارجية ، أو أن المعتبر في
الصلاة أمر بسيط عدمي متحصل من ترك الافراد الخارجية ، فالتروك بنفسه غير معتبر
فيها لا بنحو الانحلال ولا بنحو الانضمام ، وإنما المعتبر فيها أمر آخر مسبب عنها؟
فعلى الأول والأخير لا مناص من القول بالاشتغال ، كما أنه على الوجهين المتوسطين
لا بد من القول بالبراءة بناء على ما هو الصحيح من عدم الفرق في الرجوع إلى
البراءة بين موارد التكاليف الاستقلالية والتكاليف الضمنية.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الأدلة الناهية عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ظاهرة في المانعية ،
واعتبار عدم وقوع الصلاة فيما لا يؤكل ، لا شرطية إيقاعها في غير ما لا يؤكل كما
توهم استظهارا من قوله عليهالسلام في رواية ابن بكير «لا تقبل تلك الصلاة
حتى يصلّي في غيره
مما قد أحلّ الله أكله» ، فان صدر الحديث كبقية روايات المقام ظاهرة في المانعية ،
واعتبار وقوع الصلاة فيما أحل الله أكله في ذيل الرواية غير ظاهر في الشرطية ، بل
هو من جهة فرض وقوع الصلاة في أجزاء الحيوان ، فبعد الحكم ببطلانها إذا وقعت في
غير المأكول لا بد في صحتها من وقوعها في المأكول ، ولو لا الفرض المزبور لم يكن
وجه لاعتبار وقوعها فيه بعد القطع بصحتها إذا وقعت في القطن والكتان وغيرهما مما
ليس من أجزاء الحيوان.
ثم ان الظاهر أن
المانعية انحلالية ، فان القضية الحقيقية في نفسها ظاهرة في ذلك ، فكما أن النواهي
الواردة في المقام لو كانت تحريمية تكليفية كانت ظاهرة في الانحلال ، كذلك إذا
كانت إرشادية ، إذ لا فرق في ظهور القضية في الانحلال بين كون الحكم المذكور فيها
إرشاديا وعدمه ، كما هو ظاهر ، وعليه فالشك في كون موجود خارجي من أجزاء ما لا
يؤكل لحمه شك في تعلق تكليف ضمني به زائدا على المقدار المعلوم ، وهو مورد
للبراءة. ثم لو تنزلنا عن ذلك فغاية الأمر أن يكون المطلوب بهذه النواهي مجموع
التروك ، وعليه أيضا لا بد من الرجوع إلى البراءة ، لأن الشك في كون شيء من غير
المأكول شك في اعتبار عدمه في متعلق التكليف الضمني المتعلق بمجموع التروك ، ولا
فرق في جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر بين دورانه في متعلق
التكليف الاستقلالي أو الضمني ، والملاك فيهما أمر واحد ، وقد ذكرنا في محله أنه
لا منافاة بين وحدة التكليف وتنجزه من جهة دون جهة ، فكل ما علم تعلق التكليف به
وجب الإتيان به بحكم العقل ، وكل ما لم يعلم فيه ذلك جرى فيه البراءة.
وبعبارة أخرى :
إذا استند ترك المأمور به إلى ترك ما علم كونه جزء له جاز للمولى أن يعاقب عليه ،
وأما إذا استند تركه إلى ترك الجزء المشكوك فيه المرفوع
__________________
حكمه بالبراءة كان
المكلف معذورا ، ولا يصح العقاب عليه ، وسيجيء لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء
الله. نعم لو كان المعتبر في الصلاة إيقاعها في غير ما لا يؤكل على أن يكون
المعتبر فيها أمرا وجوديا ملازما للتروك الخارجية الّذي نعبر عنه بالشرط ، أو كان
المعتبر فيها أمرا عدميا بسيطا متحصلا من تلك التروك ولم تكن هي بنفسها معتبرة
فيها كان الفرد المشكوك فيه موردا للاشتغال لا محالة ، لأن الشك حينئذ يرجع إلى
مرحلة الامتثال بعد العلم بالتكليف وتنجزه ، لا إلى مرحلة الجعل. فمبنى القول
بفساد الصلاة في اللباس المشكوك أحد أمرين ، إما الالتزام باعتبار أمر وجودي ملازم
للتروك ، أو اعتبار أمر عدمي بسيط متحصل منها ، ولكن كلا الأمرين مجرد فرض لا واقع
له ، ولا يساعده شيء من الأدلة.
ثم لا يخفى أنه
على القول بالمانعية وكونها انحلالية كان الشك في محل الكلام مندرجا في كبرى دوران
الواجب بين الأقل والأكثر من جهة ، وفي كبرى الشبهة الموضوعية من جهة أخرى. أما
اندراجه في الشبهة الموضوعية فواضح. وأما اندراجه في كبرى دوران الأمر بين الأقل
والأكثر فلأجل رجوع الشك في المقام إلى الشك في اعتبار عدم الفرد المشكوك في
الصلاة زائدا على ما علم اعتباره فيها.
وأما بناء على عدم
الانحلال وكون المانع صرف وجود الطبيعة ، الّذي هو عبارة عن اعتبار مجموع التروك
فيها ، فالشبهة أيضا موضوعية ، ولكن اندراجها في كبرى دوران الواجب بين الأقل
والأكثر فهو من جهتين ، الأولى من جهة دوران متعلق الأمر بالصلاة بين الأقل
والأكثر ، والثانية من جهة دوران متعلق الأمر الضمني بين الأقل والأكثر ، والحكم
بالبراءة وإن كان مشتركا بين الوجهين ، إلّا أن الصحيح هو الوجه الأول كما عرفت ،
ويؤيده فهم الفقهاء وتسالمهم على عدم جواز ارتكاب الموانع زائدا على المقدار
المضطر إليه ، فان ذلك لا يستقيم إلّا على القول بالانحلال ، وأما بناء على كون
المانع هو صرف الوجود فعند الاضطرار إلى فرد
واحد من أفراد
المانع جاز ارتكاب بقية الافراد أيضا ، لسقوط التكليف الوحدانيّ بالاضطرار ، فلا
موجب للاجتناب عن غير المضطر إليه. ويجري هذا الكلام في الاضطرار إلى الصلاة في
الثوب المتنجس ونحوه.
فتحصل مما ذكر أن
جريان البراءة عن مانعية اللباس المشكوك ، وجواز الصلاة فيه يتوقف على أمور ثلاثة.
الأول : أن يكون
القيد المعتبر في الصلاة أمرا عدميا ، ويعبر عنها بمانعية وقوعها في غير المأكول.
الثاني : جريان
البراءة عند الشك في الأقل والأكثر.
الثالث : جريان
البراءة في الشبهات الموضوعية فيما إذا كان الحكم انحلاليا.
فان تمت الأمور
الثلاثة صح الرجوع إلى البراءة في اللباس المشكوك فيه. وأما إذا لم يتم واحد منها
فلا يمكن الرجوع إلى البراءة. وهل يمكن إثبات الجواز بأصل آخر مثل الاستصحاب؟
الظاهر ذلك ، وتوضيحه بتقديم مقدمة : وهي أن جميع الشروط والموانع المعتبرة في
الصلاة وإن كانت منسوبة إلى الصلاة إلّا أن معروضها يختلف ، فتارة : يكون الشرط أو
المانع وصفا للمصلي ، وأخرى : يكون وصفا للباس ، وثالثة : لنفس الصلاة. فكل وصف
كان من قبيل الأول جرى فيه الاستصحاب ، لثبوت الحالة السابقة فيه ، فان لم يكن
المصلي قبل لبسه اللباس المشكوك فيه لابسا لغير المأكول فيستصحب ذلك. وأما لو كان
الوصف من قبيل القسمين الآخرين فلا مجال للاستصحاب ، إذ لم يكن لنفس الصلاة أو
اللباس حالة سابقة متيقنة ليستصحب ذلك ، فاللباس من أول وجوده يشك في كونه من
المأكول ومن غيره ، كما أن الصلاة من أول وجودها يشك في اقترانها بغير المأكول
وعدمه. ومن هنا فصل بعضهم في اللباس بين ما إذا شك في كونه من المأكول من أول
الأمر
وما إذا طرأ الشك
في وقوع جزء من غير المأكول عليه. كما فصل بعضهم في الصلاة بين ما إذا شك المصلي
في وقوعها في غير المأكول من حيث الشروع فيها وما إذا احتمل طرو هذا العنوان في
أثناء الصلاة من جهة لبس المصلي في الأثناء ما يشك في كونه من المأكول. والوجه في
هذين التفصيلين ظاهر فان التفصيل الأول ناظر إلى كون الوصف المزبور وصفا للباس ،
فلا يجري الاستصحاب إلّا فيما إذا طرأ الشك في وقوع شيء من غير المأكول على
اللباس. كما أن التفصيل الثاني ناظر إلى كونه وصفا للصلاة ، فلا يجري الاستصحاب
إلّا فيما كانت مسبوقة بالوصف قبل الشك ، ولا يكون ذلك إلّا فيما طرأ الشك في
الأثناء دون ما إذا كان من أول الأمر.
إذا عرفت هذا
فاعلم أن ظاهر الأدلة كرواية ابن أبي بكير ونحوها اعتبار هذا القيد وصفا لنفس
الصلاة ، لا للباس ولا للمصلي ، فإذا لا بد وأن يفرق في جريان الاستصحاب بين حدوث
الشك في طرو المانع في أثناء الصلاة وما إذا كان الشك في ذلك من حين الشروع فيها ،
لكن التفصيل مبني على عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية. وأما بناء على
جريانه فيها كما هو المختار فيجري الاستصحاب في المقام بجميع شقوقه من غير فرق بين
أقسامه ، وذلك لأن المعتبر في الصلاة أن لا تقع في غير المأكول ، والاستصحاب
الموضوعي وهو استصحاب عدم كون اللباس من غير المأكول يحرز عدم كونه من غير المأكول
، فيصح الصلاة فيه ، والوجه في ذلك : أن اتصاف اللباس بكونه من غير المأكول كنفس
وجوده أمر مسبوق بالعدم أزلا ، فيستصحب ، وبضمه إلى الوجدان يحرز الإتيان بالمأمور
به. على أنه يمكن في المقام. إجراء استصحاب العدم النعتيّ ببيان دقيق وهو : أن
أجزاء الحيوان كلها متبدلة من الأجزاء النباتية والجمادية إلى الصورة الحيوانية ،
وعليه فالمادة المشتركة بين الحيوان والنبات مثلا قبل تبدلها بصورة حيوانية لم تكن
من أجزاء ما لا يؤكل ، فيستصحب ذلك عند الشك والعلم بتبدلها بصورة حيوانية. ولا
يتوهم معارضة هذا
الاستصحاب
باستصحاب عدم انقلاب المادة إلى الصورة الأخرى ، لعدم ترتب أثر شرعي عليه إلّا
بنحو الأصل المثبت. ونظير المقام ما لو انقلب ماء العنب إلى مائع آخر وشك في
انقلابه إلى الخمر ليحرم أو إلى غيره ليكون حلالا ، فيجري فيه استصحاب عدم تبدله
بالخمر ، ولا يجري استصحاب عدم انقلابه إلى المائع الآخر ، إذ لا يترتب عليه
الانقلاب إلى الخمر ، فلا أثر له.
والمتحصل من جميع
ما ذكر صحة جريان البراءة عن مانعية المشكوك فيه ، وعلى تقدير عدم صحته يمكن
الرجوع إلى الاستصحاب الموضوعي ، إما بإجرائه في العدم الأزلي ، وإما بإجرائه في
العدم النعتيّ. ومع الإغماض عن جميع ذلك لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب في خصوص
ما إذا كان الشك في طرو المانع بعد اليقين بعدمه.
تتميم
قد عرفت فيما تقدم
أن جريان البراءة في موارد الشك في التكليف في الشبهات الموضوعية لا ينافي حسن
الاحتياط عقلا وشرعا ، بل الاحتياط حسن حتى فيما قامت الأمارة على عدم التكليف في
الواقع ، فان احتمال ثبوت التكليف في الواقع كاف في حسن الاحتياط وتدارك المصلحة
الواقعية ، إلّا أن ذلك فيما لم يستلزم الاحتياط اختلال النظام ، وفيما استلزم ذلك
كان قبيحا عقلا وشرعا ، فحسن الاحتياط من أول الأمر مقيد بعدم استلزامه اختلال
النظام ، إلّا أن استلزام الاحتياط لاختلال النظام أمر يختلف باختلاف الأشخاص
واختلاف حالاتهم ، فرب شخص منزو في بيته منعزل عن الناس ويقل ابتلائه بالشبهات ،
فلا يكون الاحتياط التام بالنسبة إليه موجبا لاختلال نظام أموره ، فيحسن الاحتياط
له في جميع الشبهات ، وربما يكون الشخص مبتلى بالمعاشرة مع الناس فيختل نظامه لو
احتاط في أكثر الشبهات
فضلا عن جميعها.
ثم إن من الواضح
أن كل فرد من أفراد الشبهة لا يكون الاحتياط فيه مستلزما لاختلال النظام ، وانما
يلزم ذلك من الجمع بين المحتملات والأخذ بالاحتياط في كل شبهة منضما إلى الاحتياط
في غيرها ، وعليه فما هو القبيح انما هو الجمع بين الاحتياطات ، وإلّا فكل منها
منفردا أو بشرط لا عن غيره يكون باقيا على حسنه ، ويترتب على ذلك أنه لا مناص
للعامل بالاحتياط من التبعيض فيه ، وله طريقان :
الأول : أن يختار
الاحتياط في جميع الشبهات العرضية إلى أن ينتهي إلى حد لو احتاط بعده لزم منه
الإخلال بالنظام ، فإذا انتهى إلى هذا الحد ترك الاحتياط في جميع الشبهات.
الثاني : أن يختار
الاحتياط في بعض الأفراد العرضية دون بعض إلى آخر عمره ، ولذلك صورتان ظاهرتان.
الأولى : أن يحتاط
في الموارد التي كان التكليف المحتمل فيها أهم في نظر الشارع من التكليف المحتمل
في غيرها.
الثانية : ان
يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف فيها مظنونا أو مشكوكا ، ويرفع اليد عنه
في ما كان احتمال التكليف موهوما ، فان كان ذلك مخلا أيضا اكتفى في الاحتياط
بالمظنونات فقط ، ويتصور للتبعيض صور أخرى لا تخفى على المتأمل.
ثم ان الأولى لمن
أراد التبعيض في الاحتياط أن يسلك الطريق الثاني ، فقد ورد عنهم عليهمالسلام أن القليل المدوم عليه خير من كثير لا تدوم عليه.
هذا تمام الكلام
في دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، أو الوجوب وغير الحرمة.
أصالة التخيير
دوران
الأمر بين المحذورين في التوصليات
دوران
الأمر بين المحذورين في التعبديات
المبحث الثالث :
دوران الأمر بين المحذورين
والمراد به دوران
الفعل بين الوجوب والحرمة مع عدم احتمال اتصافه بغيرهما ، فانه مع احتمال ذلك يرجع
فيه إلى البراءة لكونه شكا في التكليف الإلزامي ، بل هو أولى بجريان البراءة من
الشبهة التحريمية أو الوجوبية المحضة ، لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه ، لعدم
إمكانه.
ثم انه يعتبر في
محل النزاع ان لا يكون أحد الطرفين بخصوصه موردا للاستصحاب ، إذ عليه ينحل العلم
الإجمالي ، ويجب العمل على طبق الاستصحاب بلا إشكال. وكيف كان يقع الكلام في دوران
الأمر بين المحذورين في مقامين :
الأول : ما إذا
كانت الواقعة واحدة غير متكررة.
الثاني : فيما إذا
كانت متعددة.
والكلام في المقام
الأول ، يقع تارة : فيما إذا لم يمكن المخالفة القطعية كما في التوصليات ، وأخرى :
فيما إذا أمكن ذلك كما في العبادات على ما نتكلم فيه ، فالبحث يقع في مقامات ثلاثة
:
المقام الأول : في دوران الأمر بين
المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة ، والأقوال فيه خمسة.
الأول : جريان
البراءة عن كل منهما عقلا وشرعا.
الثاني : تقديم
جانب الحرمة ، لكون دفع المفسدة أولى من جلب
المنفعة.
الثالث : الحكم
بالتخيير بينهما شرعا.
الرابع : ما
اختاره في الكفاية من الرجوع إلى أصالة الإباحة شرعا ، والتخيير بينهما عقلا
، لعدم خلو المكلف تكوينا من الفعل أو الترك.
الخامس : ما
اختاره المحقق النائيني من الحكم بالتخيير بينهما عقلا فقط من دون أن يكون المورد
محكوما بحكم ظاهري شرعا.
والصحيح : منها هو
الأول ، لعموم أدلة البراءة ، وعدم ثبوت ما يمنع من شمولها ، ويتضح هذا ببيان ما
في سائر الأقوال.
اما القول الثاني
: فيرد عليه.
أولا : منع أولوية
دفع المفسدة من جلب المنفعة مطلقا ، لعدم دليل من الشرع أو العقل على ذلك.
وثانيا : انه لو
تم فانما يتم فيما إذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين ، واما فيما لم يعلم فيه
المفسدة أصلا وكان الموجود احتمالها فلا نسلم أولوية رعاية جانب المفسدة على جانب
المصلحة ، لأنك قد عرفت عدم لزوم رعاية احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة
، كما إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الوجوب ، فكيف يحكم بلزوم رعاية احتمال
المفسدة مع احتمال المصلحة أيضا.
واما القول الثالث
: وهو الحكم بالتخيير شرعا ، ففيه : انه أن أريد به التخيير في المسألة الأصولية ،
أعني الأخذ بأحد الحكمين والإفتاء على طبقه ، نظير الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين
فلا دليل عليه ، وقياس المقام على الخبرين المتعارضين مع الفارق ، لوجود النص هناك
دون المقام ، فالقول به تشريع محرم. وأن أريد به التخيير
__________________
في المسألة
الفرعية ، أعني في مقام العمل بأن يكون الواجب على المكلف أحد الأمرين تخييرا من
الفعل أو الترك كما في غير المقام من الواجبات التخييرية ، فهو أمر غير معقول ،
لأن أحد المتناقضين حاصل لا محالة ، ولا يعقل طلب ما هو حاصل تكوينا ، إذ الطلب
ولو كان تخييريا انما يتعلق بأمر مقدور دون غيره ، ومن هنا ذكرنا في محله انه لا
يعقل التخيير بين الضدين اللذين ليس لهما ثالث ، فان أحدهما حاصل بالضرورة ، ولا
يعقل تعلق الطلب بمثله.
واما القول الرابع
: فيرد عليه :
أولا : ان أدلة
الإباحة الشرعية مختصة بالشبهات الموضوعية كما عرفت ، فلا تجري فيما دار الأمر بين
المحذورين في الشبهات الحكمية ، فالدليل أخص من المدعى.
وثانيا : ان أدلة
أصالة الحل لا تجري في المقام أصلا ، لأن ثبوت الحكم الظاهري في مورد لأجل أخذ
الشك في موضوعه يتوقف على احتمال موافقته للواقع لا محالة ، والمفروض في المقام
العلم بثبوت الإلزام في الواقع إجمالا ، وعدم كون الفعل مباحا ، فكيف يمكن الحكم
بإباحته ظاهرا.
واما القول الخامس
: فعمدة دليله بحيث يكون جاريا في جميع الأصول وجهان.
الأول : ان الحكم
الظاهري لا بد له من أثر شرعي وإلّا لكان لغوا ، ولا فائدة في جعل أي حكم ظاهري
فيما نحن فيه ، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك تكوينا.
الثاني : ان رفع
الإلزام ظاهرا انما يكون في مورد قابل للوضع بإيجاب الاحتياط ، والمفروض عدم
إمكانه في المقام ، فإذا لم يمكن جعل الاحتياط لا يمكن رفعه أيضا.
ولا يخفى عليك
إمكان جريان الأصول العملية مطلقا ، وشمول أدلة جعلها للمقام من غير فرق بين
البراءة العقلية والنقليّة والاستصحاب ، وذلك لأن مورد دوران الأمر بين المحذورين
قابل لثبوت التعبد الشرعي بترجيح خصوص الحرمة أو الوجوب. ودعوى المحقق النائيني قدسسره بان الشارع حيث لا يتمكن من وضع الإلزام في المقام بإيجاب
الاحتياط لا يمكنه الرفع ، فيردها : ان القدرة على الوضع انما تلحظ بالقياس إلى كل
من الحرمة والوجوب مستقلا ، لا إليهما معا ، وجعل الاحتياط بالقياس إلى كل منهما
أمر ممكن ، بيان ذلك : ان القدرة على كل من الأفعال المتضادة كافية في القدرة على
ترك المجموع ، ولا يعتبر فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد ، ومن هنا ترى
الإنسان مع عدم قدرته على إيجاد الأفعال المتضادة في آن واحد كأن يأكل وينام ويشرب
يستند ترك جميعها إلى قدرته ، وليس هذا إلّا من جهة قدرته على فعل كل واحد منها
بخصوصه ، والشارع فيما نحن فيه وان لم يكن متمكنا من وضع الإلزام بالفعل والترك
معا لكنه يستطيع من وضع كل منهما بخصوصه ، ويكفي ذلك في قدرته على رفعهما معا ،
وحينئذ لما لم يكن كل واحد من الوجوب والحرمة معلوما كان لشمول حديث الرفع له مجال
، وتكون نتيجة رفع الإلزام بكل من الفعل والترك هو الترخيص في الآخر ، فبالأخرة
يكون كل من الفعل والترك مرخصا فيه.
وبذلك يظهر الجواب
عما استند إليه المحقق النائيني قدسسره في الوجه الأول ، فان استلزام جعل الحكم الظاهري في المقام
للغوية انما يكون مع انحصار الأمر فيه ، وعدم إمكان جعل آخر من الوجوب الظاهري أو
الحرمة الظاهرية ، واما مع إمكانه فلا يكون جعل الترخيص في الفعل أو الترك لغوا ،
مع انه لو كان دوران الأمر بين الفعل والترك موجبا للغوية الحكم الظاهري لكان جعل
الإباحة الظاهرية في غير المقام أيضا لغوا ، وهو ظاهر البطلان.
وبهذا البيان ظهر
إمكان جريان الاستصحاب أيضا في دوران الأمر بين المحذورين ، ولا فرق في ذلك بين
الأصول التنزيلية وغيرها ، كما لا فرق بين أن تكون الشبهة موضوعية أو حكمية ، مثلا
لو علم بوقوع الحلف على السفر أو على تركه ، فلا مانع من استصحاب عدم الحلف على
السفر ، واستصحاب عدم الحلف على تركه. وكذا لو علمنا بحرمة عمل أو وجوبه في أصل الشريعة
كان استصحاب عدم جعل كل منهما جاريا ، بناء على ما هو الصحيح من جريان استصحاب عدم
التشريع.
نعم يبقى الإشكال
في الرجوع إلى الأصول العملية في المقام من ناحيتين.
الأولى : ان
الرجوع إليها موجب للعلم الإجمالي بكون أحد الأصلين على خلاف الواقع.
والجواب عنه ان هذه
مخالفة التزامية ، فلا ضير فيها. واما المخالفة القطعية فهي كالموافقة القطعية
مستحيلة في المقام ، والتفكيك في الآثار في موارد جريان الأصول غير عزيز.
الثانية : ان
الرجوع إلى الأصول النافية انما يصح عند الشك في أصل التكليف ، وبما انا نعلم في
المقام بجنس الإلزام ، فالشك انما هو في المكلف به.
والجواب عنه ان
العلم بالإلزام انما يمنع من جريان الأصول فيما إذا كان التكليف المعلوم قابلا
للباعثية ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، واما إذا دار الأمر
بين وجوب شيء وحرمته بعينه فالعلم بوجود الإلزام في حكم عدمه ، إذ الموافقة
القطعية كالمخالفة القطعية مستحيلة ، والموافقة والمخالفة الاحتماليتان حاصلتان لا
محالة ، فلا أثر للعلم بالإلزام في الجملة أصلا.
ومن هنا ظهر ما في
الكفاية من منع جريان قبح العقاب بلا بيان ، بتقريب. ان العلم بجنس
الإلزام حاصل ، فالبيان تام ، وذلك لأن العلم بالتكليف غير القابل للباعثية لا
يكون بيانا ، فالبراءة العقلية شاملة للمقام كالبراءة الشرعية ، فلا تصل النوبة
إلى التخيير العقلي فتأمل كي تعرف ان مورد دوران الأمر بين المحذورين انما هو من
قبيل الشك في التكليف لا في المكلف به.
ثم لا يخفى ان ما
قويناه من جريان البراءة الشرعية والعقلية بل الاستصحاب في المقام لا ينافي ما
قدمناه من المنع عن جريان أصالة الإباحة فيه ، لأن أصالة الإباحة أصل واحد مناف
للعلم بالإلزام تكوينا ، وقد ذكرنا انه يعتبر في جريان الأصل عدم العلم بمخالفته
للواقع ، وهذا بخلاف دليل البراءة أو الاستصحاب ، فانه يجري في كل من الوجوب
والحرمة مستقلا ، غاية الأمر أن يحصل العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع
مع الشك في موافقة كل منهما له في نفسه ، وليس في ذلك إلّا المخالفة الالتزامية
التي قد عرفت انه لا محذور فيها.
تنبيه
بناء على ما
ذكرناه من جريان الأصول النافية في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يفرق بين
أن يكون أحد الحكمين المحتملين محتمل الأهمية وعدمها ، لأن كلا من الحكمين
المجهولين مورد لأصالة البراءة ومأمون من العقاب على مخالفته ، سواء كان أحدهما
على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الآخر ، أم لم يكن. واما بناء على كون الحكم فيه
هو التخيير عقلا كما اختاره صاحب الكفاية والمحقق النائيني فالمقام يندرج في كبرى
دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وهل الحكم فيه
__________________
حينئذ هو التعيين
أو التخيير؟ وجهان :
ذهب صاحب الكفاية إلى التعيين ، لأن العقل يحكم حينئذ بتعين محتمل الأهمية
كما هو الحال في جميع موارد التزاحم عند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه.
وذهب المحقق
النائيني إلى الحكم بالتخيير ، على خلاف ما اختاره في باب التزاحم ،
وذكر في وجهه : ان المزاحمة بين الحكمين في باب التزاحم انما تنشأ من إطلاق كل من
الخطابين لحال الإتيان بمتعلق الآخر وعدمه ، فإذا لم يمكن الجمع بينهما ، لعدم
القدرة عليه ، فلا مناص من سقوط أحد الإطلاقين ، فان كان أحدهما أهم من الآخر كان
الساقط غيره ، وإلّا سقط الإطلاقان معا ، لبطلان الترجيح بلا مرجح. هذا فيما إذا
علم كون أحدهما المعين أهم ، أو علم تساويهما.
واما فيما احتمل
أهمية أحدهما بالخصوص ، فسقوط الإطلاق في غيره معلوم على كل حال ، ويشك في سقوط
إطلاق محتمل الأهمية ، ومن الظاهر انه مع الشك في سقوط إطلاقه لا بد من الأخذ به ،
فتكون النتيجة لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية وترك غيره ، هذا فيما كان لكل من دليلي
الحكمين إطلاق. واما فيما لم يكن لشيء منهما إطلاق ، وكان ثبوت كل من الحكمين في
نفسه مع قطع النّظر عن عجز المكلف عن الجمع في الامتثال معلوم من الخارج من إجماع
ونحوه ، فالوجه في تقديم محتمل الأهمية هو ان كلا من الحكمين يكشف عن اشتمال
متعلقه على الملاك الملزم التام ، وعجز المكلف عن استيفائهما معا انما يقتضي جواز
تفويت أحدهما تعيينا أو تخييرا ، فعند احتمال أهمية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز
استيفاء ملاكه ، وتفويت ملاك الآخر على التقديرين ، واما تفويت ملاك محتمل الأهمية
ولو باستيفاء
__________________
ملاك الآخر فلم
يثبت جوازه ، فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمية ، وتفويت ملاك غيره.
وهذا الوجه
المقتضى للزوم الأخذ بالتعيين غير جار فيما نحن فيه ، إذ المفروض ان الحكم المجعول
واحد مردد بين الوجوب والحرمة ، فليس في البين إطلاقان ولا ملاكان ، ونسبة العلم
الإجمالي إلى كل من الحكمين على حد سواء ، فالحكم العقلي بالتخيير بمعنى اللاحرجية
الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين باق على حاله.
وان شئت فقل : ان
الأهمية المحتملة في المقام تقديرية ، بمعنى ان شيئا من الحكمين لم يعلم ثبوته في
نفسه ، وانما المعلوم ثبوت الإلزام في الجملة ، غاية الأمر انه لو كان في ضمن
أحدهما المعين بخصوصه احتمل أهميته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت كل
من الحكمين في نفسه ، وانما كان عدم وجوب امتثاله للعجز ، وعدم قدرة المكلف على
الجمع. نعم لو كانت الأهمية بمرتبة تستوجب كشف العقل عن حكم الشارع بوجوب الاحتياط
عند احتمالها فلا محالة يجب الاحتياط في المقام من جهة الحكم الشرعي ، لا من جهة
حكم العقل بالتعيين ، لكن ذلك خارج عن محل البحث والكلام.
فتلخص مما ذكرناه
انه بناء على عدم جريان الأصول النافية ، وكون الحكم هو التخيير في المقام ، لا
يندرج مورد البحث في كبرى التزاحم ، ولا وجه لتقديم محتمل الأهمية.
المقام الثاني : فيما لو كان أحد
الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة الواقعة. كما إذا دار أمر المرأة بين وجوب الصلاة وحرمتها عليها من
جهة احتمالها الطهر والحيض ، مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب ، بناء على حرمة
الصلاة على الحائض ذاتا ، بمعنى حرمة نفس العمل ولو مع عدم قصد القربة وبدون
إضافته إلى
المولى ، ففي مثل
ذلك يمكن المخالفة القطعية بإتيان العمل بغير قصد القربة ، فانها على تقدير كونها
حائضا فقد أتت بالمحرم ، وإلّا فقد تركت الواجب ، ولأجل ذلك كان العلم الإجمالي
منجزا لا محالة وان لم تجب الموافقة القطعية لتعذرها ، بيان ذلك : ان العلم
الإجمالي على ما سنبينه إن شاء الله تعالى على أربعة أقسام :
الأول : ما يمكن
فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية كما هو الغالب.
الثاني : ما لا
يمكن فيه الموافقة ولا المخالفة القطعيتان ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين في
ما لم يكن شيء من الحكمين المحتملين تعبديا.
الثالث : ما يمكن
فيه المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية ، كالمثال المتقدم ، وكما لو علم
إجمالا بوجوب أحد الضدين اللذين لهما ثالث في آن واحد.
الرابع : عكس
الثالث ، بان يمكن فيه الموافقة القطعية دون المخالفة القطعية ، كما فيما لو علم
بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث في وقت واحد ، فانه يمكن فيه العلم بالموافقة
بتركهما ، ولا يمكن فيه العلم بالمخالفة بفعلهما ، لاستحالة الجمع بين الضدين. وكذا
الحال في جميع موارد الشبهات غير المحصورة في الشبهات التحريمية ، فانه لا يمكن
فيها المخالفة القطعية ، لعدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف ، ولكنه يتمكن من
الموافقة القطعية بترك الجميع.
إذا عرفت هذا
فاعلم انه لا أثر للعلم الإجمالي في القسم الثاني من الأقسام المزبورة ، فتجري
الأصول في أطرافه كما مر. واما غيره من الأقسام الثلاثة ، فالأصول في أطراف العلم
الجمالي في مواردها متعارضة على ما سيجيء الكلام فيه عن قريب إن شاء الله ، ويترتب
على ذلك تنجيز العلم الإجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة
القطعية ، أو إحدى الجهتين دون الأخرى. وبعبارة أخرى : إذا تساقطت الأصول في أطراف
العلم الإجمالي فالحكم المعلوم بالإجمال يتنجز بالمقدار الممكن ، فان أمكن الموافقة
والمخالفة القطعيتان فالتنجيز ثابت من
الجهتين ، وإلّا
فمن إحداهما ، وحيث ان المخالفة القطعية في مفروض الكلام ممكنة فلا مانع من تنجيز
العلم الإجمالي من جهتها ، نعم حيث لا يمكن فيه الموافقة القطعية فلا محالة يحكم
العقل بالتخيير بين إتيان العمل قربيا برجاء الأمر وبين تركه رأسا.
تنبيه
تعرض الشيخ قدسسره في المقام لدوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية
، كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء أو جزئيته لواجب ومانعيته عنه ، مثال ذلك ما لو
شك بعد النهوض للقيام في الإتيان بالسجدة الثانية وعدمه ، فانه بناء على تحقق
الدخول في الغير بالنهوض كان الإتيان بالسجدة زيادة في الصلاة وموجبا لبطلانها ،
وبناء على عدم تحققه بذلك كان الإتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها ، وظاهر كلامه قدسسره جريان ما تقدم من التخيير في المقام ، فيتخير المكلف بين
الإتيان بما يحتمل مانعيته وشرطيته ، وبين تركه.
والتحقيق : عدم
تمامية ذلك ، فان الحكم بالتخيير في باب التكاليف الاستقلالية انما كان من جهة عدم
تنجيز الإلزام المردد بين الوجوب والحرمة ، لاستحالة موافقته ومخالفته القطعيتين ،
وهذا بخلاف الإلزام المعلوم إجمالا في المقام ، فانه يمكن موافقته القطعية كما
يمكن مخالفته القطعية ، فيكون منجزا ، ويجب فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل ،
وتوضيح المقام : ان احتمال كون شيء مانعا أو شرطا تارة : يتصور في مورد يتمكن
المكلف فيه من الامتثال التفصيليّ ولو برفع اليد عما هو مشتغل به فعلا ، وذلك
كالمثال المتقدم الّذي دار الأمر فيه بين جزئية السجدة المشكوكة ومانعيتها ، فانه
إذا رفع المكلف يده عن هذه الصلاة وأتى بصلاة أخرى كان ممتثلا للأمر بالصلاة بلا
إشكال. وأخرى : يتصور فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال الإجمالي ، اما بتكرار
الجزء ، أو بتكرار أصل العمل ، كما إذا دار امر القراءة بين وجوب الجهر بها أو
الإخفات ، وكما
إذا دار امر الصلاة بين كونها قصرا أو تماما ، فانه إذا كرر القراءة ، وجهر في
إحداهما وأخفت في الأخرى قاصدا بذلك جزئية أحدهما الواقعية يكون الآخر قرآنا ، فقد
علم بالامتثال إجمالا ، كما انه إذا قصر في إحدى الصلاتين وأتم في الأخرى كان
الأمر كذلك.
اما القسم الأول ،
فلا ريب في ان الواجب فيه إعادة الصلاة ، وإحراز الامتثال اليقيني ، ولا يجوز له
الاكتفاء بأحد الاحتمالين ، لعدم إحرازه الامتثال بذلك ، وقاعدة الاشتغال تقتضي
البراءة اليقينية ، فيجوز له رفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها ، كما يجوز له
إتمامها على أحد الاحتمالين ثم إعادتها. وعلى كل حال فلا وجه للحكم بالتخيير وجواز
الاكتفاء به في مقام الامتثال ، هذا بناء على عدم حرمة إبطال صلاة الفريضة في
نفسها ، أو في خصوص المقام من جهة ان دليل الحرمة قاصر الشمول له ، فان عمدة مدركه
الإجماع ، والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف
الاقتصار عليها في مقام الامتثال ، واما الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا إجماع
على حرمة قطعها ، وتمام الكلام في محله.
نعم لو بنينا على
حرمة قطع الفريضة حتى في مثل المقام كان الحكم بالتخيير في محله ، إلّا انه ليس من
جهة دوران الأمر بين الجزئية والشرطية ، بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل
وتركه حرمة نفسية. وان شئت قلت : ان لنا في المقام علمين إجماليين ، أحدهما :
العلم بثبوت إلزام متعلق بطبيعي العمل المردد بين كونه منطبقا على ما يؤتى فيه
بالجزء المشكوك أو على ما يكون فاقدا له ، ثانيهما : العلم بحرمة الإتيان بالجزء
المشكوك لكونه مبطلا للعمل ، أو وجوبه لكون تركه موجبا لبطلانه ، والعلم الثاني
وان كان ساقطا لعدم التمكن من موافقته ولا من مخالفته القطعية ، فيحكم في مورده
بالتخيير ، إلّا ان العلم الإجمالي الأول يقتضي إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ
اليقيني.
واما القسم الثاني
، وهو ما تمكن المكلف من الامتثال الإجمالي بتكرار الجزء ، أو بتكرار العمل فلا
ريب في انه لا وجه فيه لجواز اقتصار المكلف على الامتثال الاحتمالي ، فيجب عليه
إحراز الامتثال ولو إجمالا. وبالجملة الحكم بالتخيير انما يكون مع عدم التمكن من
الامتثال القطعي ، واما مع التمكن منه فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى
قيام دليل خاص ، ومع عدمه كما هو المفروض في المقام يحكم العقل بلزوم الامتثال
القطعي ، هذا فيما إذا أمكن التكرار. واما إذا لم يمكن ذلك ، كما إذا دار الأمر
بين القصر والتمام عند ضيق الوقت ، فالتخيير بين الأمر من جهة الإتيان به في الوقت
وان كان مما لا بد منه ، إلّا انه لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز من حيث
لزوم الإتيان بالآخر في خارج الوقت. ونظير ذلك ما لو ترددت القبلة بين أربع جهات ،
ولم يتمكن المكلف إلّا من الإتيان بصلاة واحدة ، فان استقبال كل جهة من الجهات كما
يحتمل شرطيته ، لاحتمال كونه إلى القبلة ، يحتمل مانعيته ، لاحتمال كونه على خلاف
القبلة ، فيحكم فيه بالتخيير بين الجهات ، لكن ذلك لا يقتضي جواز الاقتصار بها ،
بل لا بد من الاحتياط بعد ذلك بالإتيان بالصلاة إلى الجهات الأخرى.
هذا ما تقتضيه
القاعدة مع قطع النّظر عن الدليل الخاصّ. واما بالنظر إليه ، فقد ورد الدليل على
جواز الاجتزاء بالصلاة إلى الجهة التي يظن انها القبلة ، بل قد ذكرنا في محله ان
الاجتزاء بصلاة واحدة مع تردد القبلة بين أربع جهات بالنظر إلى الأدلة الخاصة هو
الأظهر ، وتمام الكلام في محله.
المقام الثالث : في دوران الأمر بين
المحذورين في فرض تعدد الواقعة. والتعدد تارة : يكون دفعيا من جهة تعدد الموضوع ، وأخرى : تدريجيا من حيث
الأفراد الطولية لموضوع واحد.
اما القسم الأول :
فهو كما لو علم إجمالا بصدور حلفين تعلق أحدهما بفعل
شيء ، والآخر بترك
شيء آخر ، وقد اشتبه الأمر ان في الخارج ، فالامر في كل منهما يدور بين الوجوب
والحرمة لا محالة ، فقد يقال فيه بالتخيير بدعوى ان كلا من الواقعتين يكون من باب
دوران الأمر بين المحذورين مع استحالة الموافقة والمخالفة القطعيتين فيه ، فيحكم
بالتخيير ، وحينئذ جاز له الإتيان بكلا الفعلين ، كما جاز له تركهما معا ، ولا بأس
بالعلم بالمخالفة في أحدهما بعد فرض عدم تنجز التكليف فيه ، لدورانه بين الوجوب
والحرمة. ولكنه يندفع بان العلم الإجمالي في كل من الفعلين بالإلزام المردد بين
الوجوب والحرمة وان لم يكن له أثر أصلا ، لاستحالة موافقته ومخالفته القطعيتين كما
عرفت ، إلّا انه يتولد في المقام علمان إجماليان آخران ، تعلق أحدهما بوجوب أحد
الفعلين لا بعينه ، والثاني بحرمة أحدهما كذلك ، والعلم بالوجوب المردد بينهما
يقتضي وجوب الإتيان بهما تحصيلا للموافقة القطعية ، كما ان العلم بحرمة أحدهما
يقتضي تركهما معا ، لعين ما ذكر ، وبما انه يستحيل الجمع بين الفعلين والتركين معا
يسقط العلمان عن التنجيز من حيث وجوب الموافقة القطعية ، ولكن كلا منهما يمكن مخالفته
القطعية بإيجاد الفعلين أو بتركهما ، فلا مانع من تنجيز كل من العلمين بالمقدار
الممكن كما عرفت بيانه فيما تقدم ، وعليه فاللازم على المكلف هو اختيار أحد
الفعلين ، وترك الآخر ، تحصيلا للموافقة الاحتمالية.
واما القسم الثاني
: فهو كما إذا علم بتعلق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وبترك ذلك الفعل في زمان آخر
، واشتبه الزمانان ، ففي كل زمان منهما يدور امر الفعل فيه بين الوجوب والحرمة ،
وهل يحكم بالتخيير في كل من الزمانين ، لأنه واقعة مستقلة دار الأمر فيها بين
الوجوب والحرمة ، ولا يمكن فيها الموافقة القطعية ولا المخالفة كذلك ، أو انه يلحق
بالقسم الأول ، فتحرم المخالفة القطعية لا مكانها ، فلا بد للمكلف من اختيار الفعل
في أحد الزمانين ، وتركه في الزمان الآخر تحصيلا للموافقة الاحتمالية؟ وجهان.
والصحيح أن يقال :
انا إذا قلنا بتنجيز العلم الإجمالي في الأمور التدريجية كتنجيزه في غيرها فلا
يفرق الحال بين القسمين المزبورين ، لاتحاد الملاك فيهما ، وعليه فلا بد من
الالتزام بتنجيز العلم الإجمالي بالمقدار الممكن كما مر. واما إذا قلنا بعدم تنجيز
العلم الإجمالي فيما إذا تعلق بالتدريجيات لم يبق في المقام سوى العلم الإجمالي
المتعلق بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة في كل من الزمانين ، وقد عرفت ان مثل
هذا العلم لا يوجب التنجيز ، فالمكلف في كل من الزمانين يتخير بين الإتيان بالفعل
وتركه بمقتضى البراءة كما تقدم. والعجب من المحقق النائيني رحمهالله مع ذهابه إلى تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ذهب في
المقام إلى التخيير ، بدعوى انه لا وجه لضم الوقائع بعضها إلى بعض ، بل لا بد من
ملاحظة كل منها مستقلا ، وهو لا يقتضي إلّا التخيير .
تتميم
إذا دار الأمر بين المحذورين مع تعدد
الواقعة ، واحتمل أهمية أحد الإلزامين المعلومين بالإجمال ، فهل يتقدم ما احتمل
أهميته فيجب موافقته القطعية وان استلزم ذلك المخالفة القطعية للتكليف الآخر؟
وجهان. وقد اختلفت كلمات
المحقق النائيني رحمهالله في ذلك ، فذكر في هذا المقام ما حاصله . ان الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وان لم
يكونا من قبيل المتعارضين ، إذ لا تنافي بين ثبوت الحكمين في مقام الجعل بعد فرض
ان متعلق كل منهما غير متعلق الآخر ، إلّا انهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضا ،
إذا التزاحم بين التكليفين انما يكون بعجز المكلف عن امتثال كليهما ، والمفروض في
المقام قدرته على امتثال كلا الإلزامين ، غاية الأمر ان جهله
__________________
بمتعلق كل منهما ،
وعدم تمييزه الواجب عن الحرام أوجب عجزه عن إحراز الامتثال ، فانتقل الأمر إلى
الامتثال الاحتمالي بإيجاد أحد الفعلين وترك الآخر ، وعليه فلا وجه لاجزاء حكم
التزاحم بتقديم محتمل الأهمية على غيره.
واختار في ذيل
البحث عن دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته تقديم محتمل الأهمية من الحكمين ،
وتعينه في لزوم إحراز الامتثال ، وذكر في وجه ذلك ما حاصله : ان كل حكم فعلي واصل
إلى المكلف يقتضي امرين ، أحدهما لزوم امتثاله ، ثانيهما : لزوم إحراز ذلك ، وعليه
فالوجوب المعلوم بالإجمال في محل الكلام كما يقتضي إيجاد متعلقه يقتضي لزوم إحرازه
بإتيان كلا الفعلين ، وكذلك الحرمة المعلومة تقتضي الانزجار عن متعلقها كما تقتضي
إحراز ذلك بترك كلا الفعلين ، وهذان الحكمان وان لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل
الامتثال نفسه ، إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة في الخارج ، وتمكن المكلف
من إيجاد الواجب وترك الحرام ، إلّا انهما متزاحمان من الجهة الثانية ، إذ المفروض
عدم قدرة المكلف على إحراز امتثال كل منهما ، وقد عرفت ان إحراز الامتثال من مقتضيات
التكليف بحكم العقل ، فكما ان عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل
وما يقتضيه الحرمة من الترك يوجب التزاحم بينهما ، كذلك عدم القدرة على الجمع بين
ما يقتضيه كل منهما من إحراز الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضا. وبالجملة منشأ
التزاحم انما هو عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه أحد الحكمين وما يقتضيه الحكم
الآخر ، وذلك متحقق في المقام قطعا ، والفرق بين ما يقتضيه الحكم أولا وما يقتضيه
ثانيا ، وتخصيص التزاحم بما إذا لم يقدر المكلف على الجمع في الأول دون الثاني
تخصيص بلا مخصص.
والتحقيق : يقتضي
صحة ما ذهب إليه في هذا المقام ، فان ما ذكره وجها لجريان حكم التزاحم في مفروض
البحث يرد عليه.
أولا : النقض بما
إذا علم تساوي الوجوب والحرمة المعلومين بالإجمال في الأهمية ، فان لازم كون
الحكمين من المتزاحمين ان يحكم في مثل ذلك بالتخيير ، فللمكلف ان يأخذ بالوجوب فيأتي
بالفعلين ، كما ان له ان يأخذ بالحرمة فيتركهما ، مع انه قدسسره لم يلتزم بذلك ، وذهب إلى لزوم الإتيان بأحد الفعلين وترك
الآخر مخيرا.
وثانيا : ان محل
البحث وان سلمنا دخوله في باب التزاحم ، إلّا انه لم يرد دليل على لزوم الأخذ
بمحتمل الأهمية في باب التزاحم مطلقا ليجب الأخذ به في المقام ، وانما الوجه في
ذلك ما أشرنا إليه سابقا من ان الحكمين المتزاحمين لا بد من الالتزام بسقوط
الإطلاق في كليهما أو في أحدهما ، ومن الظاهر ان ما لا يحتمل أهميته قد علم سقوط
إطلاقه على كلا التقديرين ، واما المحتمل أهميته فسقوط إطلاقه غير معلوم ، فلا بد
من الأخذ به ، هذا فيما إذا كان لدليل كل من الحكمين إطلاق لفظي. واما فيما لم يكن
لشيء من الدليلين إطلاق ، فالوجه في تقديم محتمل الأهمية هو القطع بجواز تفويت
ملاك غيره بتحصيل ملاكه ، واما تفويت ملاكه بتحصيل ملاك غيره فجوازه غير معلوم ،
فتصح العقوبة عليه بعد فرض كونه ملزما في نفسه.
وهذان الوجهان غير
جاريين في محل الكلام إذ المفروض بقاء الإطلاق في كلا الحكمين ، وعدم ثبوت جواز
تفويت الملاك في شيء منهما ، من دون فرق بين كون أحدهما أهم من الآخر في الواقع
وعدمه. واما حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال فهو مشترك فيه بين كل تكليف إلزاميّ ،
من غير فرق في ذلك بين ما كان في أعلى المراتب من الأهمية وما كان في أضعفها ،
وعليه فلا موجب لتقديم محتمل الأهمية على غيره والحكم بلزوم موافقته القطعية وان
استلزمت المخالفة القطعية بالتكليف الآخر.
والحاصل : ان كلا من
التكليفين كما يقتضي وجوب موافقته القطعية يقتضي
حرمة مخالفته كذلك
، ولا مزاحمة بينهما في المقام من حيث حرمة المخالفة القطعية لتمكن المكلف من
تركها بالإضافة إلى كل منهما ، وانما المزاحمة بينهما من ناحية وجوب الموافقة
القطعية الثابت بحكم العقل لكل تكليف إلزاميّ في نفسه ، وحيث لم يثبت لأحدهما
ترجيح بالإضافة إلى الآخر ، فلا وجه لتخصيص أحدهما بذلك ورفع اليد عن حرمة
المخالفة القطعية بالإضافة إلى الآخر ، فإذا لا مناص من سقوط وجوب الموافقة
القطعية بالإضافة إلى كلا الحكمين ، ووصول النوبة إلى الموافقة الاحتمالية.
ثم لا يخفى انما
ذكرناه من عدم تقديم محتمل الأهمية في مفروض الكلام لا ينافي تقديم ما علم أهميته
في الواقع ، كما لو حلف على ذبح شاة له في ليلة معينة ، واشتبهت الشاة بالنفس
المحترمة لظلمة ونحوها ، فانه لا ريب في عدم ثبوت التخيير للمكلف في مثل ذلك ، بل
يجب عليه بحكم العقل تقديم معلوم الأهمية وان استلزم ذلك القطع بمخالفة التكليف
الآخر ، والسر فيه ان العلم بأهمية تكليف يستتبع القطع بعدم رضاء الشارع بتفويت
ملاكه على كل حال ، ويترتب على هذا العلم القطع بجعل إيجاب الاحتياط في ظرف الشك ،
فعند التحقيق تقع المزاحمة بين إيجاب الاحتياط والتكليف الآخر غير الأهم ، فيتقدم
إيجاب الاحتياط لأهمية ملاكه. وهذا الوجه لا يجري فيما لم يحرز أهميته في البين ،
فان إيجاب الاحتياط الشرعي فيه غير ثابت ، والحكم العقلي بلزوم إحراز الموافقة
القطعية قد عرفت انه مشترك فيه بين كل منهما ، فلا وجه للترجيح.
وفذلكة ما تقدم ان
الأصول العملية ان كانت جارية في أطراف العلم الإجمالي ، فلا يبقى تكليف منجز
ليتعين الأخذ بالأهم عند الدوران بين التعيين والتخيير. وان لم تكن جارية ، فيكون
كل من الحكمين منجزا من حيث المخالفة القطعية ، ولا وجه لرفع اليد عن تنجيز أحدهما
لأجل احتمال أهمية إحراز الامتثال في الآخر.
تذييل
لو كان لمورد دوران الأمر بين المحذورين
أفراد طويلة أو عرضية ، فهل يكون التخيير بين تلك الأفراد بدويا أو استمراريا؟ مثلا لو علم إجمالا بأنه حلف على الإتيان بفعل أو على تركه
في كل ليلة جمعة ، فهل يلحظ ذلك الفعل في كل ليلة من ليالي الجمعة واقعة مستقلة ،
فيحكم فيه بالتخيير ، فيجوز للمكلف الإتيان به في ليلة ، وتركه في ليلة أخرى ، أو
يلحظ المجموع واقعة واحدة ، فيتخير بين الفعل في الجميع ، والترك كذلك ، ولا يجوز
له التفكيك بين أفراد ذلك الفعل بالإتيان به تارة ، وتركه أخرى؟ وجهان. ذهب بعضهم
إلى كون التخيير استمراريا ، نظرا إلى ان كل فرد من تلك الأفراد له حكم مستقل
مغاير لحكم فرد آخر ، وقد دار الأمر فيه بين محذورين ، فيحكم العقل فيه بالتخيير ،
لعدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعيتين ، ولا يترتب على ذلك سوى ان المكلف إذا
اختار الفعل في فرد والترك في فرد آخر يعلم بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما ،
ولا بأس به فيما لم يكن التكليف منجزا ، كما هو المفروض.
ولكن ذلك يندفع
بان العلم بالإلزام الجامع بين الوجوب والحرمة وان لم يوجب تنجيز المعلوم بالإجمال
، إلّا انه مع فرض تعدد الأفراد يتولد من العلم الإجمالي بالإلزام المردد بين
الوجوب والحرمة في كل فرد علم إجمالي ثابت بين كل فردين من الأفراد ، وهو العلم
بوجوب أحدهما وحرمة الآخر بنحو المنفصلة المانعة الخلو ، إذ المفروض اشتراكهما في
الحكم وجوبا وحرمة ، فان كان أحدهما المعين واجبا وإلّا فالآخر حراما قطعا ، وهذا
العلم الإجمالي وان لم يمكن موافقته القطعية ، لاحتمال الوجوب والحرمة في كل منهما
، إلّا انه يمكن مخالفته القطعية ، وقد مر عليك ان العلم الإجمالي ينجز معلومه ،
فلا يجوز للمكلف التفكيك بين الأفراد بالفعل والترك.
أصالة الاحتياط
دوران
الأمر بين المتباينين
تنبيهات
دوران
الأمر بين الأقل والأكثر
تنبيهات
الأقل والأكثر
المبحث الرابع :
الشك في المكلف به
اعلم ان التكليف
المعلوم بالإجمال تارة : يتردد بين متباينين ، وأخرى : بين الأقل والأكثر. فالبحث
يقع في مقامين.
المقام الأول : في دوران الأمر بين
المتباينين. وقبل الشروع في
تحقيق الحال لا بد من تقديم مقدمة : وهي ان احتمال التكليف الإلزامي سواء كان
وجوبيا أو تحريميا مساوق في نفسه لاحتمال العقاب على مخالفته ، ومعه كان العقل
مستقلا بلزوم التحرز عنه ، وهذا هو الملاك الوحيد في استقلال العقل بلزوم الإطاعة
والتحرز عن المخالفة ، حتى في موارد العلم بالتكليف ، أو قيام الحجة عليه ، فان
مخالفة التكليف الواصل لا تستلزم القطع بالمؤاخذة والعقاب عليها ، لاحتمال تلطف
المولى سبحانه بالعفو والمغفرة ، أو تعقبها بالتوبة أو الشفاعة من النبي والأئمة عليهمالسلام ، وانما المحقق عند المخالفة هو احتمال العقاب ، وهو كاف
في حكم العقل بالتنجيز ، فلا فرق في موارد التكاليف المعلومة والتكاليف المحتملة
في ان حكم العقل بلزوم الإطاعة ناشئ من احتمال العقاب. نعم احتمال عدم العقاب في
مخالفة التكليف المحتمل أقوى من احتماله عند مخالفة التكليف المعلوم ، إذ المفروض
في مورد المخالفة المحتملة احتمال عدم التكليف في الواقع ، فلو صادفت المخالفة
المحتملة خلو صفحة الواقع من التكليف كان عدم العقاب من جهة انتفاء الموضوع ، وهذا
المعنى مفقود في مخالفة التكليف المعلوم.
وكيف كان فالعقل
يستقل بقبح ارتكاب ما يحتمل فيه مخالفة الحكم الإلزامي
إلّا أن يكون في
مورده مؤمن من العقاب عقلا كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو شرعا كالأدلة الشرعية
الدالة على البراءة من حديث الرفع ونحوه ، فكلما استقل العقل في مورد بقبح العقاب
أو ثبت ترخيص شرعي فيه في الارتكاب كان عدم العقاب فيه متيقنا لا محالة، فلا يبقى
إلّا صرف احتمال ثبوت التكليف الواقعي المجرد من احتمال العقاب على مخالفته ، فلا
يكون منجزا. واما إذا لم يثبت شيء من الأمرين ، فاحتمال العقاب يكون موجودا لا
محالة ، فلا بد من التحرز عنه بحكم العقل ، ويترتب على ذلك ان تنجيز العلم
الإجمالي في الحقيقة يدور مدار جريان الأصول في جميع أطرافه أو في بعضها وعدمه ،
فان اخترنا جريانها في جميع الأطراف سقط العلم عن التنجيز مطلقا ، وكان وجوده
كعدمه. وان قلنا : بعدم جريانها في شيء من الأطراف كان احتمال التكليف بنفسه منجزا
له بلا حاجة إلى البحث عن حال العلم الإجمالي ، فتجب الموافقة القطعية كما تحرم
المخالفة القطعية. وان قلنا : بجريانها في بعض الأطراف دون بعض لم تجب الموافقة
القطعية وان حرمت المخالفة القطعية. فالتفصيل بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب
الموافقة القطعية يدور مدار جريان الأصول في بعض الأطراف دون بعض.
ثم لا يخفى انه لا
فرق في جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي وعدمه بين الأصول الجارية عند الشك
في أصل التكليف والجارية عند الشك في الامتثال ، فان الترديد في مورد العلم
الإجمالي كما يمكن أن يكون في أصل الحكم أو متعلقه ، كذلك يمكن أن يكون في مرحلة
الامتثال بعد العلم التفصيليّ بثبوت التكليف ، كما إذا علمنا إجمالا بعد الإتيان
بصلاتين ببطلان إحداهما ، فان قلنا : بجريان الأصول النافية في جميع أطراف العلم
الإجمالي أو في بعضها لم يكن مانع من جريان قاعدة الفراغ في المثال في كلتا الصلاتين
أو في إحداهما ، فلا وجه لما ذكره المحقق النائيني من اختصاص مورد النزاع بالأصول
الجارية عند الشك في ثبوت
أصل التكليف دون
الجارية في مرحلة الامتثال.
إذا عرفت ذلك
فالكلام يقع تارة : في حرمة المخالفة القطعية ، وأخرى : في وجوب الموافقة القطعية.
والكلام فيهما تارة : يقع في مقام الثبوت وإمكان جعل الحكم الظاهري في تمام
الأطراف أو في بعضها ، وأخرى : في شمول الأدلة. فهنا أربع مسائل.
المسألة الأولى : في إمكان جعل الحكم
الظاهري وعدمه في تمام الأطراف. والمانع المختص به امران :
أحدهما : استلزامه
الترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل صغرى وكبرى بالعلم الإجمالي ، وهو قبيح
من غير فرق بين كون الحكم الظاهري ثابتا بالأمارة ، أو بالأصل التنزيلي ، أو غير
التنزيلي وان كان الارتكاب تدريجيا ، لأن التمييز غير مأخوذ في موضوعات التكاليف ،
ولا يفرق العقل في قبح الترخيص في مخالفة التكليف الواصل بين أن يكون معلوما
تفصيلا ، أو ان يكون معلوما بالإجمال ، وهذا يختص بموارد العلم الإجمالي بالتكليف
، وكون الحكم الظاهري في جميع الأطراف نافيا له ، وعليه فيستحيل شمول أدلة الأصول
لجميع أطراف العلم الإجمالي في عرض واحد. واما جعل الحكم الظاهري في كل من الأطراف
مقيدا بعدم ارتكاب الطرف الآخر فهو أيضا مستحيل على ما سيأتي البحث عنه مفصلا.
لا يقال : ان مورد
جريان الأصل انما هو كل واحد من الأطراف بخصوصه ، وثبوت التكليف فيه غير معلوم ،
فليس فيه ترخيص في المعصية.
لأنا نقول : جريان
الأصل في كل طرف بخصوصه منضما إلى الترخيص في بقية الأطراف يكون ترخيصا في مخالفة
التكليف المعلوم ، وان لم يكن الأمر كذلك في فرض عدم الانضمام.
ثانيهما : مناقضة
الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني. وهذا الوجه غير مختص بما إذا
كان المعلوم بالإجمال إلزاميا ، وانما يختص بما إذا كان الحكم الظاهري ثابتا
بالأمارة أو بالأصل التنزيلي ، فيمتنع جعله في مجموع الأطراف مطلقا ، سواء لزم منه
المخالفة العملية أم لم يلزم.
والتحقيق في ذلك :
هو أنه لو قامت الأمارة في كل من الأطراف على خلاف المعلوم بالإجمال ، كما إذا
علمنا بنجاسة أحد المائعين ، وقامت البينة على طهارة أحدهما المعين ، وقامت بينة
أخرى على طهارة الآخر ، ففي مثل ذلك لا ريب في عدم حجية شيء من الأمارتين ، فان ما
دل على طهارة أحدهما المعين قد دل على نجاسة الآخر بالدلالة الالتزامية ، وقد مر
غير مرة انه لا فرق في حجية الاخبار بين كونه اخبارا عن شيء بالمطابقة وكونه
اخبارا عنه بالالتزام ، وعليه فتقع المعارضة بينها وبين ما دل على طهارة الآخر ،
فيسقطان معا على ما هو الأصل من سقوط الدليلين وعدم شمول دليل الحجية للمتعارضين.
وبما ذكرنا ظهر
انه لو كان الحكم المعلوم بالإجمال غير إلزاميّ ، وقامت الأمارة على الحكم
الإلزامي في جميع الأطراف سقطت الأمارة عن الحجية أيضا وان لم يستلزم جريانها
المخالفة العملية ، فلا فرق في سقوط الأمارات القائمة على خلاف المعلوم بالإجمال
بين كون العمل بها مستلزما للمخالفة القطعية وما لم يكن.
واما إذا كانت
الأصول الجارية في نفسها في أطراف العلم الإجمالي أصولا تنزيلية ، فقد اختار
المحقق النائيني قدسسره إلحاقها بالأمارات ، فمنع عن جريانها في جميع الأطراف ،
سواء استلزم المخالفة القطعية أم لم يستلزم ، وملخص ما ذكره في وجهه : ان المجعول
في باب الأصول التنزيلية هو البناء العملي ، والأخذ بأحد طرفي الشك على انه هو
الواقع ، فيمتنع جعل ذلك في مجموع الأطراف ، إذ لا يعقل التنزيل على خلاف
العلم الوجداني .
ولكن الصحيح انه
لا مانع من جريان الأصول في الأطراف إذا لم يستلزم المخالفة العملية بلا فرق بين
التنزيلية وغيرها ، فان الأصل مطلقا لا يترتب عليه أثر إلّا ثبوت مؤداه ، ولا
يترتب عليه لوازمه ، فكل من الأصول الجارية في الأطراف انما يثبت مؤداه في مورده
بلا نظر إلى النفي عن غيره ، وغاية ما يترتب على ضم بعض الأصول إلى البعض هو العلم
بمخالفة بعضها للواقع ، ولا ضير فيه بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية كما هو
الصحيح. ونظير ذلك ما التزم به هو قدسسره وغيره فيما إذا شك المصلي المسبوق بالحدث في الطهارة بعد
الفراغ من صلاته من جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الماضية ، وجريان استصحاب الحدث
بالإضافة إلى الصلاة الآتية ، مع انه يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين
التنزيلين للواقع ، وليس ذلك إلّا من جهة انه لا يترتب على جريان الأصلين إلّا
المخالفة الالتزامية ، وهي غير مانعة عن جريانها. هذا فيما إذا كانت الأصول مثبتة
للتكليف على خلاف المعلوم بالإجمال.
واما إذا كانت
نافية له ، كما إذا علمنا بطرو النجاسة على أحد المائعين المعلوم طهارتهما سابقا ،
فعدم جريان الاستصحاب فيهما معا انما هو للمانع المتقدم ، وهو استلزامه الترخيص في
المعصية ومخالفة التكليف المعلوم بالإجمال الواصل إلى المكلف صغرى وكبرى ، فإذا
علمنا بوجود الخمر بين إناءين مع العلم بحرمة الخمر شرعا ولو لم يكن مميزا على
غيره في الخارج ، فالحكم المزبور بما انه واصل إلى المكلف كان الترخيص في مخالفته
كالترخيص في مخالفة الحكم المعلوم بالتفصيل قبحا عقلا. وبذلك يظهر ان أدلة الأصول
ولو فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي لزم
__________________
تخصيصها بغيرها
عقلا.
المسألة الثانية : في إمكان جعل الحكم
الظاهري ولو في بعض الأطراف وعدمه. والمعروف بينهم انه لا مانع منه ثبوتا ، وانه يمكن ذلك في نفسه ، ومن ثم قالوا
: ان العلم الإجمالي ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية. وذهب المحقق صاحب
الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته إلى استحالة ذلك ، وما ذكر في وجه الاستحالة
امران :
الأول : ما أفاده
صاحب الكفاية رحمهالله من انه لو أمكن جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف على خلاف
الواقع لأمكن في الجميع ، كما انه لو امتنع جعله في الجميع امتنع في البعض ، فهما
متلازمان إمكانا وامتناعا.
وملخص ما ذكره في
هذا المقام : انه لا فرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ في انكشاف الواقع
بهما ، ومن حيث حجيتهما الذاتيّة غير القابلة للجعل ، فان كان بينهما فرق فانما هو
من ناحية المعلوم نفسه لا من حيث الانكشاف ، بيان ذلك : ان المعلوم بالإجمال ربما
لا يكون فعليا من تمام الجهات ، لأجل الاضطرار إلى بعض الأطراف ، أو الإكراه عليه
، أو خروجه عن محل الابتلاء ، أو لدخل الانكشاف التام في تمامية فعليته ، ففي مثل
ذلك لا مانع من جعل حكم آخر على خلافه وان استلزم المخالفة القطعية ، لعدم التنافي
بين الحكمين إذا لم يكونا فعليين من تمام الجهات. واما إذا فرض فعلية المعلوم
بالإجمال ، وتحقق ما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي امتنع جعل الحكم
الظاهري على خلاف الواقع المنكشف في تمام الأطراف أو بعضه ، ضرورة استحالة الترخيص
ولو احتمالا في مخالفة الحكم المنجز.
__________________
فتحصل : انه فيما
أمكن جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف لعدم فعلية الواقع من تمام الجهات أمكن جعل
الحكم الظاهري في جميع الأطراف أيضا ، ومهما امتنع الجعل في تمام الأطراف لفعلية التكليف
ووصوله الملازم لصحة العقوبة على مخالفته امتنع الجعل في بعض الأطراف أيضا.
وبعبارة أخرى : إذا كان الحكم فعليا من غير جهة الجهل به فالعلم التفصيليّ إذا
تعلق به يوجب تمام فعليته ، فيتنجز بحكم العقل لا محالة ، واما إذا تعلق به العلم
الإجمالي فبما أنه لا يوجب رفع الجهل بتمامه يمكن أن لا يكون الحكم في مورده فعليا
من تمام الجهات ، والمفروض أن مرتبة جعل الحكم الظاهري محفوظة ، فلا مانع من جعله
على خلاف الواقع المفروض عدم فعليته ، من غير فرق في ذلك بين ما إذا علم مخالفة
الحكم للواقع وما إذا شك فيه ، والسر في ذلك ان الحكم الواقعي ما لم يصل إلى مرتبة
الفعلية التامة لا مانع من جعل حكم آخر على خلافه قطعا أو احتمالا ، كما أنه إذا
فرض وصوله إلى تلك المرتبة امتنع جعل حكم آخر يعلم مخالفته للواقع أو يحتمل ذلك ،
فانه كما لا يعقل القطع بثبوت المتضادين لا يعقل احتمال ثبوتهما.
ولكن التحقيق :
يقتضي فساد ما ذهب إليه ، لما مر من أن فعلية كل حكم إنما هي بتحقق موضوعه بماله
من الاجزاء والقيود ، فكما يستحيل فعليته مع عدم فعلية موضوعه التام ، كذلك يستحيل
عدم فعليته مع فعلية موضوعه ، فالحكم والموضوع متلازمان في الفعلية وعدمها ، فان
نسبة الحكم إلى موضوعه التام كنسبة المعلول إلى علته التامة ، فكما يستحيل التخلف
بينهما في الخارج ، وإلّا لم يكن ما فرض عليته علة ، كذلك يستحيل التخلف بين الحكم
وموضوعه التام ، وإلّا لم يكن ما فرض موضوعيته موضوعا وهذا خلف.
وعليه فما ذكره قدسسره من أن المعلوم بالإجمال قد لا يكون فعليا من جميع الجهات ،
إن أراد به كون العلم التفصيليّ مأخوذا في موضوع الحكم ، فيرد عليه.
أولا : أنه خروج
عن محل الكلام ، فان بحثنا في تنجيز العلم الإجمالي انما هو بعد الفراغ عن إثبات
عدم اختصاص الأحكام بالعالمين ، وانها تعم الجاهلين.
وثانيا : ان ذلك
لا يصلح فارقا بين العلم الإجمالي والتفصيليّ ، إذ كما يمكن أخذ العلم التفصيليّ
في موضوع حكم ، فلا يكون فعليا بدونه ، ولو فرض في مورد علم إجمالي ، كذلك يمكن
أخذ العلم الإجمالي في موضوعه ، فلا يكون فعليا مع عدمه ، ولو فرض في مورد علم
تفصيلي. وان أراد به دخل العلم التفصيليّ في فعلية الحكم المتعلق به مع كونه
طريقيا وغير مأخوذ في موضوعه ، فقد عرفت أنه أمر مستحيل ، لاستلزامه الخلف.
الثاني : ما ذكره
بعض الأساطين رحمهالله من أن الحكم الواقعي بعد وصوله إلى المكلف وتنجزه امتنع
جعل الترخيص على خلافه ، لمناقضة الترخيص له ، وتوضيحه : ان كل واحد من الأطراف
وان لم يكن التكليف فيه معلوما ، إلّا أن الإلزام الجامع بينها معلوم وواصل تفصيلا
، والتردد انما هو في خصوصية متعلقه ، فكما لا يمكن الترخيص في مخالفة ذاك الإلزام
قطعا ، لا يمكن الترخيص في مخالفته احتمالا.
والجواب عنه :
بالنقض وبالحل. أما النقض ، فبما لو فرض الأصل الجاري في بعض الأطراف نافيا دون
بعض ، كما لو علم إجمالا بوقوع نجاسة في أحد الإناءين ، وكان أحدهما متيقن النجاسة
سابقا ، فان أصالة الطهارة تجري في غير مستصحب النجاسة بلا إشكال ، مع أن العلم
بوجود تكليف فعلي موجود بالوجدان.
فان قلت : التكليف
في مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقق العلم الإجمالي على الفرض ، فالعلم بوقوع النجاسة
فيه أو في غيره لا يوجب علما بحدوث تكليف جديد ، فلا يقاس ذلك بالمقام.
قلت : سبق النجاسة
في أحد الإناءين لا يضر بالعلم بالتكليف الفعلي المردد
بين كونه ثابتا من
الأول وحدوثه فعلا ، فلو أمكن جعل الحكم الظاهري في مورده والاكتفاء بالامتثال
الاحتمالي أمكن في غيره أيضا. وأوضح من ذلك ما إذا علم إجمالا في الوقت اما انه لم
يأتي بصاحبة الوقت أو لم يأت بالتي مضى وقتها ، فان العلم بالتكليف الفعلي بإتيان
إحدى الصلاتين موجود بالوجدان ، ومع ذلك لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الحيلولة في
غير ذات الوقت ، والرجوع إلى قاعدة الاشتغال فيها. وان شئت قلت : ان العلم
الإجمالي لا يزيد على العلم التفصيليّ ، فكما يجوز أن يكتفي الشارع في مورد العلم
بالتكليف تفصيلا بالامتثال الاحتمالي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، كذلك
يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد العلم الإجمالي بطريق أولى.
واما الحل ، فبان
موضوع الأصول انما هو الشك ، والتكليف في كل واحد من الأطراف مشكوك فيه ، فان
احتمال انطباق الإلزام المعلوم في الجملة عين الشك في التكليف ، بداهة ان التكليف
المعلوم بوصف كونه معلوما لا يحتمل انطباقه على شيء من الأطراف ، إذ لا معنى
لاحتمال العلم في مورد مع أنه صفة وجدانية لا يعقل الشك فيها ، فلم يبق إلّا
احتمال نفس التكليف المعبر عنه بذات المعلوم في كل من الأطراف ، فلا مانع من جعل
الحكم الظاهري فيه.
المسألة الثالثة : في شمول دليل الحكم
الظاهري لجميع الأطراف وعدمه. وليعلم أن دليل الحكم الظاهري يقسم إلى أقسام ثلاثة : الأمارة والأصل التنزيلي
والأصل غير التنزيلي.
اما الأمارات ،
فقد عرفت انه يستحيل جعل الحجية لها في جميع أطراف العلم الإجمالي ، من دون فرق
بين كون مؤدى الأمارات أحكاما إلزامية وكون المعلوم بالإجمال حكما غير إلزاميّ
وبين عكس ذلك.
واما الأصل
التنزيلي ، فقد ذكر الشيخ رحمهالله في وجه عدم جريانه ما
حاصله : أن الشك المأخوذ في صدر دليله وان كان يعم الشك البدوي والمقرون
بالعلم الإجمالي ، إلّا أن اليقين المجعول في ذيله ناقضا يشمل العلم الإجمالي أيضا
، ومن الظاهر أن الحكم بحرمة النقض في جميع الأطراف يناقض الحكم بالنقض في بعضها.
ويجري ما ذكره في غير الاستصحاب من الأصول غير التنزيلية أيضا فيما أخذ العلم في
دليله غاية للحكم المجعول فيه.
ويرد عليه : أولا
: أن أدلة الأصول غير منحصرة بما هو مشتمل على تلك الغاية ، ويكفي للقول بجريان
الأصل في جميع الأطراف وجود المطلقات غير المشتملة على ذلك الذيل ، فان إجمال دليل
من جهة اقترانه بما يصلح للقرينية لا يسري إلى دليل آخر غير مقترن به.
وثانيا : أن
الناقض لكل يقين لا بد وأن يكون هو اليقين المتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق
، وفي مفروض المقام كان اليقين السابق متعلقا بكل واحد من الأطراف بخصوصه ، ومن
الظاهر أن متعلق العلم الإجمالي ليس ذلك ، فكيف يعقل نقضه لليقين السابق؟! وعليه
فلا مانع من شمول أدلة الأصول لجميع الأطراف لو لا المانع الثبوتي ، ومن هنا نلتزم
بجريانها فيما لم يلزم منه المخالفة العملية ، كما إذا كان المعلوم حكما غير
إلزاميّ ، ونمثل له بمثالين.
الأول : ما إذا
كان هناك مائعان مسبوقان بالنجاسة ، فعلم طهارة أحدهما إجمالا ، فانه يجري استصحاب
النجاسة في كل منهما.
الثاني : ما إذا
علم جواز النّظر إلى إحدى المرأتين ، فان قاعدة الاحتياط في الأعراض تجري في كل
منهما.
المسألة الرابعة : في شمول أدلة الأصول
لبعض الأطراف دون بعض وعدمه.
__________________
والحق عدم شمولها
لشيء من الأطراف. أما البراءة العقلية ، فعدم جريانها واضح ، بعد تمامية البيان في
مورد العلم الإجمالي ، ووصول التكليف إلى المكلف صغرى وكبرى. وأما الأصول الشرعية
، فلأن شمول أدلتها لبعض الأطراف معينا ترجيح بلا مرجح ، والبعض غير المعين لا
يحتمل تعلق الإلزام به واقعا ليحكم بإباحته ظاهرا ، بل الغالب يقطع بإباحة بعض
الأطراف ، وعلى تقدير احتمال ثبوت التكليف في جميع الأطراف لا أثر للحكم بإباحة
أحدهما غير المعين بعد وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف مقدمة للاجتناب عن الحرام المعلوم
، وإلى هذا أشار الشيخ رحمهالله بما مضمونه أن مورد جريان الأصل انما هو المشكوك ، وليس هو
إلّا كل واحد من الأطراف بخصوصه ، وأما عنوان أحدهما فليس من المشكوك فيه ، نعم قد
يكون بعض الأطراف غير المعين عند المكلف مشكوك الحكم ، إلّا أن جريان الأصل فيه لا
يترتب عليه أثر من حيث العمل لعدم تعينه.
وان شئت قلت : أن
كل واحد من أطراف العلم الإجمالي وإن كان بنفسه مشكوكا فيه ، إلّا ان شمول الدليل
له مع عدم شموله لغيره غير معقول ، ومن دون شموله لغيره بلا مرجح. وأما عنوان
أحدهما غير المعين فلا شك فيه غالبا ، إذا الغالب في موارد العلم بالإلزام يعلم
بعدمه في بعض الأطراف. واما تقدير الشك فيه والحكم بإباحته شرعا فهو لا يزيد على
القطع بها ، فكما أن القطع بها لا ينافي وجوب الاجتناب عن الأطراف بحكم العقل
لاحتمال العقاب ، كذلك التعبد بها لا ينافي ذلك بالضرورة.
فتحصل أن أدلة الأصول
إذا لم تشمل جميع أطراف العلم الإجمالي لا تشمل بعضها أيضا. نعم يبقى الكلام في
احتمال شمولها لجميع الأطراف تخييرا ، بأن يلتزم بجريانها في كل منها على تقدير
عدم ارتكاب الآخر ، لتكون النتيجة اكتفاء المولى بالموافقة الاحتمالية. ولا بد قبل
ذلك من بيان أمر ، وهو أن التخيير يمكن أن يكون
على ثلاثة أقسام.
الأول : التخيير
الشرعي الثابت بدليل خاص ، كالتخيير في الأخذ بالخبرين المتعارضين عند فقد
المرجحات الثابت بقوله عليهالسلام : «إذا فتخير».
الثاني : التخيير
العقلي الثابت في مورد التزاحم ، كما في إنقاذ الغريقين ، فان المكلف حيث لا يتمكن
من امتثال كلا الخطابين المشتملين على حكمين تعيينين فلا محالة يسقط الإطلاق من
كليهما ، فتكون النتيجة ثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق
الآخر على ما عرفت الحال فيه في بحث الضد.
الثالث : التخيير
الثابت من جهة الاقتصار على المقدار المتيقن في رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى ،
ولا بأس في التعبير عنه بالتخيير العقلي أيضا ، وذلك كما لو ورد عام له إطلاق
أحوالي مثل قولنا «أكرم كل عالم» الظاهر في وجوب إكرام كل فرد من العلماء تعيينا
من غير تقييد بإكرام غيره وعدمه ، ثم علمنا بعدم وجوب إكرام فردين منه معا كزيد
وعمرو ، ودار الأمر بين أن يكون كل منهما خارجا عن العموم تخصيصا ، فلا يجب
إكرامهما أصلا ، وخارجا عنه تقييدا ، ليجب إكرام كل منهما عند عدم إكرام الآخر ،
ففي مثل ذلك لا بد من الاقتصار على المقدار المتيقن ، وهو الحكم بعدم وجوب إكرام
كل منهما عند إكرام الآخر. واما الحكم بعد وجوب إكرامه على الإطلاق فلا موجب له.
وان شئت قلت : انّ
الدليل العام كما دل على وجوب إكرام كل منهما دلّ على إطلاق الوجوب لحال إكرام
الفرد الآخر وعدمه ، وقد علمنا من الخارج بعدم الإطلاق لحال إكرام الفرد الآخر قطعا
، فيرفع اليد عنه. واما عدم ثبوت الوجوب له رأسا فهو غير معلوم ، فيؤخذ بظهور
الدليل في ثبوته ، فتكون النتيجة هو التخيير بين إكرام زيد وترك إكرام عمرو وعكسه.
وهذا البيان يجري
في كل ما إذا دل دليلان على وجوب امرين ، وعلمنا من
الخارج بعدم
وجوبهما تعيينا ، واحتملنا ثبوت الوجوب لهما تخييرا ، فلو دل دليل على وجوب صلاة
الجمعة الظاهر في كونه واجبا تعيينا ، ودل دليل آخر على وجوب صلاة الظهر كذلك ، أو
دل أحد الدليلين على وجوب صلاة القصر والآخر على وجوب صلاة التمام كان مقتضى
القاعدة رفع اليد عن الظهور في الوجوب التعييني المستفاد من الإطلاق ، وحمل كل
منهما على الوجوب التخييري. وبالجملة كلما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الحكم
ورفع اليد عن إطلاقه ، كان الثاني هو المتعين ، لأنه المتيقن ، واما رفع اليد عن
أصل الحكم فلا موجب له بعد إطلاق دليله أو عمومه.
إذا عرفت ذلك
فنقول : من الواضح ان القسم الأول من التخيير غير جار في المقام ، لعدم الدليل
عليه. كما ان القسم الثاني أجنبي عما نحن فيه ، لأن المكلف في مورد العلم الإجمالي
قادر على الامتثال القطعي بالاجتناب عن مجموع الأطراف ، كما انه قادر على ارتكاب
جميعها. نعم التخيير في الخبرين المتعارضين على مسلك المعتزلة من باب التخيير في
باب التزاحم ، إلّا انه مع بطلانه في نفسه أجنبي عن التخيير في باب الأصول
العملية.
واما القسم الثالث
، فربما يتوهم جريانه في المقام بدعوى : ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول هو ثبوت
الترخيص في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، سواء عمل المكلف على طبقه بارتكابه
له أم لم يعمل ، وقد علمنا من الخارج استحالة هذا الجعل ، لاستلزامه الترخيص في
مخالفة التكليف الواصل ، لكنه يدور الأمر بين رفع اليد عن الترخيص في جميع الأطراف
رأسا ورفع اليد عن إطلاق وتقييده في كل طرف بما إذا لم يرتكب الطرف الآخر ، وقد
عرفت ان المتعين هو الثاني ، ولازم ذلك هو الالتزام بالتخيير في تطبيق الترخيص على
أي طرف من الأطراف كيف ما أراد المكلف. وقد وقع نظير هذا في تعارض الأمارتين ،
فتوهم ان مقتضى القاعدة هو
رفع اليد عن إطلاق
دليل الحجية بالإضافة إلى كل منهما ، فيثبت الحجية تخييرا ، ووافق المحقق
الخراسانيّ على ذلك في الخبرين المتعارضين ، فبنى على ان دليل الحجية غير قاصر
الشمول لأحدهما بغير تعيين ، وان كان تقريبه لذلك يخالف ما ذكرنا ، إلّا انه موافق
في الدعوى لا في الدليل.
وأورد على ذلك
المحقق النائيني رحمهالله بما حاصله : ان التقابل بين الإطلاق والتقييد بما انه من تقابل العدم
والملكة فاستحالة التقييد يستدعي استحالة الإطلاق وبالعكس ، وحيث ان الإطلاق في
محل الكلام ممتنع ثبوتا ، فالتقييد مثله.
والتحقيق : ان ما
أفاده قدسسره في المقام ونظائره من استلزام استحالة الإطلاق امتناع
التقييد وبالعكس غير صحيح ، فان استحالة التقييد بشيء يستدعي أحد الأمرين ، اما
التقييد بعدم ذلك القيد أو ضده ، أو الإطلاق ، كما ان استحالة الإطلاق يستلزم
ضرورة التقييد بقيد ما لا محالة ، والوجه في ذلك ما بيناه مرارا من انه يستحيل
الإهمال في الواقع ، فلا مناص عن الإطلاق أو التقييد.
واما ما ذكره من
ان كون التقابل بنحو العدم والملكة يقتضي ذلك ، فهو مضافا إلى انه لا دليل عليه ،
ينتقض بعلم الباري وفقر الممكن ، فان التقابل بين العلم والجهل ، أو الفقر والغنى
من قبيل تقابل العدم والملكة ، مع ان العلم فيه تعالى والفقر في الممكن ضروري ،
كما ان الجهل فيه تعالى والغنى في الممكن مستحيل.
فالصحيح في الجواب
أن يقال : انه لو كان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم بالتكليف الإلزامي هو
استلزامه الترخيص في الجمع ، لارتفع ذلك بما ذكر من تقييد كل من الترخيصين بعدم
ارتكاب الآخر ، إلّا انه ليس المانع ذلك ، وإلّا لزم الالتزام بشمول أدلة الأصول
لجميع الأطراف ابتداء فيما إذا كانت أمورا
__________________
متضادة لم يمكن
الجمع بينها عقلا ، مع ان المفروض خلافه ، بل المانع عن الشمول هو استلزامه الجمع
في الترخيص ، وذلك لا يرتفع بتقييد الترخيص في كل منهما بعدم ارتكاب الآخر ، فان
المكلف إذا لم يرتكب شيئا من الأطراف كان الترخيص في جميعها فعليا لا محالة ، وهو
مستلزم للعلم بترخيص ما علم حرمته بالفعل ، وهو قبيح.
وبتقريب آخر : إذا
علمنا حرمة أحد الإناءين وإباحة الآخر واقعا ، فالحرمة المعلومة غير مقيدة في
الواقع بترك المباح يقينا ، كما أن الإباحة غير مقيدة بترك الحرام قطعا ، فالحكم
بإباحة كل منهما مناف للعلم بالحرمة والإباحة المطلقتين ، وقد عرفت غير مرة أن
الحكم الظاهري لا بد من أن يحتمل مطابقته للواقع ، والإباحة المشروطة لا يحتمل
مطابقتها للواقع بالضرورة.
وببيان أوضح :
الإباحة الظاهرية وإن لم تكن منافية للحرمة الواقعية إلّا أن ذلك فيما إذا لم يصل
الحكم الواقعي إلى المكلف. وأما في فرض وصوله إليه صغرى وكبرى فالمنافاة بينهما
متحققة لا محالة ، وتوضيح ذلك : ما تقدم من أن عدم المنافاة بين الحكم الظاهري
والواقعي ليس لما أفاده شيخنا الأنصاري قدسسره من اختلاف موضوعيهما ، ولا لما ذكر في الكفاية من عدم
فعلية الأحكام الواقعية على ما عرفت الحال فيها مفصلا في بحث الجمع بين الأحكام
الواقعية والظاهرية ، بل لأن الحكم الّذي هو بمعنى الاعتبار النفسانيّ لا يضاد
بنفسه الاعتبار الآخر على خلافه ، فالمضادة بينهما بالعرض ناشئة من التنافي بين
مبدأيهما ، أعني بهما الإرادة والكراهة ونحوهما ، أو من التنافي في مقام الامتثال
، وشيء منهما غير متحقق في ظرف الجهل بالحكم الواقعي الّذي هو الموضوع للحكم
الظاهري. أما التنافي من جهة المبدأ ، فلعدم نشوء الحكم الظاهري عما في المتعلق من
الخصوصية المقتضية لتعلق الإرادة به تارة ، ولتعلق الكراهة به أخرى ، ولعدم تعلق
شيء منهما به ثالثة ، بل هو ناشئ
مطلقا عن مصلحة في
نفسه. وأما التنافي في مقام الامتثال ، فلأن الحكم الواقعي على تقدير وصوله لا
يبقى موضوعا للحكم الظاهري ، كما أنه على تقدير عدم وصوله لا يكون منافيا لامتثال
الحكم الظاهري ، وعليه فإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو كان متعلقه مرددا بين
أمرين أو أمور ، ولم يكن متميزا في الخارج عن غيره ، فكيف يعقل ثبوت حكم آخر على
خلافه ، وهل هو إلّا من الجمع بين المتضادين؟ فإذا فرض أن الخمر مثلا موجود في
الخارج ، وقد علم المكلف به وبحرمته ، فكيف يمكن أن يفرض الحكم بإباحته ولو مشروطا
بترك ما هو مباح في الواقع؟! وهل هو إلّا من الجمع بين التحريم والترخيص في علم
المكلف في زمان واحد.
ولا يقاس المقام
بما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الحكم أو عن إطلاقه ، الّذي كان المتعين
فيه هو الثاني على ما عرفت ، فان ذلك إنما يتم فيما إذا أمكن التقييد ، واما فيما
لم يمكن التقييد أيضا بان كان المانع عن الإطلاق مانعا عن أصل الحكم كما في المقام
، فلا مناص من رفع اليد عن الحكم رأسا.
والمتحصل مما تقدم
ان العلم الإجمالي إذا تعلق بحكم غير إلزاميّ فلا مانع من جريان الأصول المثبتة في
جميع أطرافه ولو كانت الأصول تنزيلية ، كما لا مانع من شمول أدلتها لها في مقام
الإثبات ، نعم لا تجري الأمارات في جميع الأطراف ، لأدائها إلى المناقضة كما عرفت.
واما إذا تعلق العلم الإجمالي بحكم إلزامي فالأصول الجارية في أطرافه ان كانت
بأجمعها نافية فلا يجري شيء منها ، أما عدم جريانها بتمامها فللمانع الثبوتي ، وهو
قبح الترخيص في مخالفة الحكم الإلزامي الواصل ، وأما عدم جريانها في بعضها فلعدم
الترجيح ، وإذا كانت بعض الأصول نافية وبعضها مثبتة فيجري الأصل النافي والمثبت
كلاهما بلا معارض.
«تنبيهات»
التنبيه الأول : أن الأصل الجاري في أحد
طرفي العلم الإجمالي إما أن يكون مسانخا مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، أو مغايرا
له. وعلى الأول إما أن
يكون أحد الطرفين مختصا بجريان أصل طولي فيه دون الآخر ، أو لا يكون كذلك ، فهذه
أقسام ثلاثة.
أما القسم الأول :
وهو ما إذا كان الأصل الجاري في كل من الطرفين مسانخا للجاري في الآخر مع اختصاص
أحدهما بأصل طولي ، كما إذا علم بوقوع نجاسة في الماء أو على الثوب ، فان الأصل
الجاري في كل منهما مع قطع النّظر عن العلم الإجمالي انما هو أصالة الطهارة ، ولا
إشكال في سقوطها في كل من الطرفين ، لما مرّ ، فلا يجوز التوضي بالماء ، كما لا
يجوز لبس الثوب في الصلاة ، لعدم إحراز طهارتهما ، إلّا أن العلم بالنجاسة لا أثر
له في حرمة لبس الثوب ، فيبقى شرب الماء محتمل الحلية والحرمة ، لاحتمال نجاسته ،
فهل يجري فيه أصالة الحل ، أو تسقط بالعلم الإجمالي كسقوط أصالة الطهارة فيهما؟
وجهان. ولم نقف على من تعرض لتحقيق ذلك سوى ان المحقق النائيني قدسسره ذكر سقوط الأصول الطولية في بعض الأطراف ، وبنى على
معارضتها للأصل الجاري في الطرف الآخر ولو كان واحدا ، فالتزم في المثال بعدم جواز
شرب الماء ، لعدم المؤمن من احتمال العقاب عليه.
__________________
ولكن التحقيق :
أنه لا مانع من إجراء أصالة الحل ، لعدم معارضتها بأصالة الطهارة في الطرف الآخر ،
وذلك لما عرفت من أن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي لا يترتب عليه تنجز الواقع
إلّا بعد تساقط الأصول في أطرافه ، فإذا كان الأصل الجاري في الطرفين من سنخ واحد
كأصالة الطهارة في المثال فلا مناص عن القول بعدم شمول دليله لكلا الطرفين ،
لاستلزامه المخالفة القطعية ، ولا لأحدهما لأنه ترجيح بلا مرجح. وأما الأصل الطولي
كأصالة الحل في المثال فلا مانع من شمول دليله للطرف المختص به كشرب الماء في
المثال ، إذ لا يلزم منه ترجيح من غير مرجح بعد عدم شمول دليله في نفسه للطرف
الآخر.
وبعبارة أخرى : ان
دليل أصالة الطهارة بعد العلم بعدم شموله لكلا الطرفين نعلم بتخصيصه ، فلا بد من
رفع اليد عنه ، اما في كلا الطرفين ، أو في أحدهما ، وحيث لا سبيل إلى الثاني ،
لاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، فلا محالة يتعين الأول ، وأما دليل أصالة الحل فهو
بعمومه شامل لأحد الطرفين المعين دون الآخر ، فلا موجب لرفع اليد عنه ما لم يثبت
تخصيصه. وهذا أحد الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط أصل الحاكم ،
ونظير ذلك في الفروع الفقهية كثيرة.
منها : ما لو علم
نجاسة شيء في زمان وطهارته في زمان آخر ، وشك في المتقدم منهما ، فبعد تساقط
الاستصحابين فيهما بالمعارضة يرجع إلى قاعدة الطهارة.
ومنها : ما إذا
علم حلية شيء في زمان وحرمته في زمان آخر مع الشك في المتقدم ، فانه بعد سقوط
الاستصحابين يرجع إلى أصالة الحل.
ومنها : ما إذا
علمت المرأة حيضها في بعض أيام الشهر وطهرها في بعض أيامه الآخر ، وشك في المتقدم
منهما ، فبعد تعارض الاستصحابين يرجع إلى أصالة البراءة.
واما القسم الثاني
: وهو ما إذا كان الأصل الجاري في كل من الطرفين مماثلا
للأصل الجاري في
الطرف الآخر مع عدم اختصاص أحدهما بأصل طولي ، فلا ينبغي الإشكال في عدم جريان
الأصل في شيء منهما على ما مرّ بيانه. وهذا القسم انما يتحقق في موردين.
أحدهما : ما إذا
لم يكن لشيء من الطرفين أصل طولي ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الثوبين ، فان الأصل
الجاري في كل منهما في نفسه أصالة الطهارة لا غير.
ثانيهما : ما إذا
كان الأصل الطولي مشتركا فيه بين الطرفين ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين ،
فان الأصل الجاري في كل منهما ابتداء أصالة الطهارة ، وبعد سقوطها أصالة الحل ،
والعلم الإجمالي كما يوجب تساقط الأصلين الحاكمين يوجب تساقط المحكومين أيضا ،
لاتحاد ملاك التساقط في الأصل الحاكم والمحكوم ، وهو كون جريانه في الطرفين
مستلزما للمخالفة القطعية ، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح.
واما القسم الثالث
: وهو ما إذا كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايرا سنخا للأصل الجاري في الطرف
الآخر ، كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد الماءين أو غصبية الآخر ، فان الأصل
الجاري في محتمل النجاسة أصالة الطهارة ، وفي محتمل الغصبية أصالة الحل. فالتحقيق
فيه : ان العلم الإجمالي يوجب تنجز الواقع على كل تقدير ، سواء في ذلك اختصاص أحد
الطرفين بأصل طولي كما في المثال وعدمه ، والسر في ذلك ان الأصل الجاري في الطرفين
وان كانا مختلفين سنخا إلّا أنه بعد العلم بالحرام الموجود في البين يكون الترخيص
الظاهري في كل من الطرفين موجبا للمخالفة القطعية ، وفي أحد الطرفين دون الآخر
ترجيحا بلا مرجح ، بلا فرق في ذلك بين كون الدليل المرخص من الأصول الحاكمة أو
المحكومة ، توضيح ذلك : ان الأصل الجاري في المثال في أحد طرفي العلم الإجمالي وهو
المائع المحتمل غصبيته انما هو
أصالة الحل ،
والأصل الجاري في الطرف الآخر المترتب عليه جواز الشرب أصالة الطهارة ، والعلم
الإجمالي بالحرام الموجود في البين يمنع جريانهما ، لا لخصوصية فيهما ، بل لأن
جريانهما معا مناف للعلم الإجمالي ، فكما أن أصالة الطهارة المترتب عليها جواز
الشرب إذا انضمت إلى أصالة الحل في الطرف الآخر لزم الترخيص في المعصية ، كذلك
أصالة الحل إذا انضمت إليها أصالة الحل في الطرف الآخر ، فإذا علم حرمة أحد
المائعين كان الترخيص في كليهما ترخيصا في المعصية ، وفي أحدهما بلا مرجح ، سواء
كان الترخيص بلسان الحكم بالطهارة أو بلسان الحكم بالحلية ابتداء.
وان شئت قلت :
الأمر في مثل المقام دائر بين سقوط أصالة الإباحة في محتمل الغصبية وسقوط أصالة
الطهارة وأصالة الإباحة في محتمل النجاسة ، وبما أنه لا ترجيح في البين ، لا بد من
سقوط جميعها. ومن هذا القبيل ما إذا علم بولية مائع أو نجاسة مائع آخر بنجاسة
عرضية ، فان الأصل الجاري فيما يحتمل نجاسته بالعرض وان كان هو الاستصحاب ، والأصل
الجاري في الطرف الآخر هو أصالة الطهارة ، إلّا أنه مع ذلك لا تصل النوبة إلى
أصالة الطهارة فيما يحتمل نجاسته العرضية بعد سقوط الاستصحاب فيه ، فان العلم
بالنجس في البين مانع عن جعل الطهارة الظاهرية بأي لسان يكون في كلا الطرفين ،
لاستلزامه المخالفة القطعية ، ولا في أحدهما لأنه بلا مرجح. هذا كله فيما إذا كان
الأصل الطولي موافقا في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه.
واما إذا كان
مخالفا له ، فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية مطلقا ، من دون فرق بين كون
الأصول العرضية متماثلة وكونها متخالفة ، فلو علم إجمالا بزيادة ركوع في صلاة
المغرب أو نقصانه من صلاة العشاء بعد الفراغ منهما ، فقاعدة الفراغ في كل من
الصلاتين تعارض مثلها في الأخرى ، وبعد ذلك يرجع إلى استصحاب
عدم الإتيان
بالركوع المشكوك من صلاة العشاء ، فيحكم ببطلانها ، ولا مانع حينئذ من الرجوع إلى
استصحاب عدم الإتيان بالركوع الزائد في صلاة المغرب ، ويترتب عليه صحتها. ونظير
ذلك ما لو علم إجمالا بنقصان ركعة في صلاة المغرب أو عدم الإتيان بصلاة العصر مثلا
، فان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب تعارض قاعدة الحيلولة في صلاة العصر ، وبعد ذلك
يرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوكة في صلاة المغرب ، أو إلى القاعدة
المستفادة من صحيحة صفوان من كون الشك في عدد الركعات موجبا لبطلان الصلاة في غير
ما دل الدليل على صحتها ، بناء على المختار من شمولها للشك الحادث بعد الصلاة ،
كما حققناه في بحث الخلل من كتاب الصلاة ، فيحكم بوجوب إعادة المغرب ، ومعه لا
مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة من قضاء صلاة العصر بعد ما ثبت في محله أن الفوت
الّذي هو الموضوع لوجوب القضاء لا يثبت بمجرد عدم الإتيان. وهذا الّذي ذكرناه في
جواز الرجوع إلى الأصل الطولي في بعض الموارد ، وعدم جواز الرجوع إليه في البعض
الآخر يترتب عليه ثمرات مهمة في بحث الخلل في الصلاة وفي فروع العلم الإجمالي.
التنبيه الثاني : بعد ما عرفت أن الميزان في تنجيز العلم الإجمالي هو تعارض
الأصول وتساقطها ، يظهر لك أنه لا ملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة
المخالفة القطعية ، فإذا علم بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في آن خاص ، فكل واحد
من الطرفين في نفسه غير معلوم الحرمة ، فيجري فيه الأصل لو لا معارضته بجريانه في
الطرف الآخر ، ومع المعارضة يسقط الأصلان ، فلا مؤمن للجلوس في كل منهما ، فتجب
الموافقة القطعية بتركهما معا ولو كانت المخالفة القطعية غير محرمة عقلا لعدم
التمكن منها. وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق النائيني رحمهالله من عدم وجوب الموافقة القطعية فيما إذا لم تحرم المخالفة
القطعية ، وعلى هذا رتب جواز الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة من جهة عدم
حرمة المخالفة فيها ، لعدم التمكن
منها .
التنبيه الثالث : إذا تردد الواجب بين فعلين أو أفعال لا ينبغي الإشكال في
كفاية الإتيان ببعض الأطراف ، وسقوط الواجب معه إذا صادف الواقع فيما إذا كان
الواجب توصليا ، وأما إذا كان تعبديا فقد اختار الشيخ قدسسره في صحته العزم على الموافقة القطعية بالجمع بين الأطراف ،
فلو لم يكن من قصد الفاعل إلّا الإتيان ببعض الأطراف لم يحكم بالصحّة ولو صادف الواجب
الواقعي ، وهذا مبني على اعتبار الجزم في النية في العبادة ، وقد ذكرنا في محله
أنه إذا شك في اعتبار قصد القربة ، أو غيره من قصد الوجه ، أو التمييز ، أو الجزم
في النية وغيرها مما لم يقم عليه دليل بالخصوص فالمرجع فيه هو البراءة ، وعليه
فبما أن الجزم بالنية لم يقم على اعتباره دليل لا يكون معتبرا في صحة العبادة ،
فالآتي ببعض الأطراف برجاء إصابة الواقع قد قصد القربة بفعله على الفرض ، فإذا
صادف الواقع كان صحيحا ومسقطا للأمر لا محالة.
ومما ذكرناه يظهر
أنه لو دار أمر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين أفعال متعددة لم يجب على
المكلف في صحة الإتيان بالثاني الفراغ اليقيني من الأول ، بل جاز له الإتيان ببعض
محتملاتها ثم الإتيان بالمحتمل الآخر ، فإذا دار أمر القبلة بين الجهات الأربع جاز
للمكلف أن يصلي الظهر والعصر إلى جهة ثم يصليهما إلى جهة ثانية. نعم لو صلى الظهر
إلى جهة معينة لم يجز أن يصلي العصر إلى جهة أخرى قبل أن يصلي الظهر إليها ،
والوجه فيه ظاهر.
التنبيه الرابع : قد عرفت مما تقدم في ميزان العلم الإجمالي أنه لو كان الأصل
النافي جاريا في بعض الأطراف دون بعض فلا مانع من إجرائه ، فلا يكون العلم
__________________
الإجمالي حينئذ
منجزا نظير ما إذا كان بعض الأطراف مضطرا إليه ، أو خارجا عن محل الابتلاء ، فان
الأصل لا يجري فيه ، لما عرفت من أنه يعتبر في جريان الأصل ترتب الأثر العملي عليه
، ولا يترتب أثر على إجرائه في المضطر إليه أو الخارج عن محل الابتلاء. وكذلك لو
كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتا للتكليف ، نظير ما إذا علمنا بوقوع نجاسة
في أحد الإناءين ، وكان أحدهما المعين متيقن النجاسة ، إما وجدانا ، وإما تعبدا
لقيام أمارة أو أصل محرز على ذلك ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ،
ومثله ما لو كان خصوص بعض الأطراف موردا لقاعدة الاشتغال ، أو طرفا لعلم إجمالي
سابق وقد تنجز فيه احتمال التكليف بذلك العلم لسقوط الأصل فيه بمعارضته بالأصل
الجاري في طرفه ، ففي جميع هذه الموارد يجري الأصل في الطرف الآخر من غير معارض.
ثم ان الّذي
ذكرناه لا إشكال فيه فيما إذا كان حدوث العلم الإجمالي متأخرا عن هذه الأمور
والعلم بها ، أو كان مقارنا له. وانما الكلام فيما إذا علم بطرو أحد الأمور
المتقدمة بعد تحقق العلم الإجمالي ، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير ليجري الأصل
النافي في بعض الأطراف؟ وبعبارة أخرى إذا كان العلم الإجمالي حين حدوثه مقارنا
لأحد الأمور المتقدمة ، لا بد من عدم تأثيره من أول الأمر. واما إذا فرض تأثيره في
زمان ، وحكم بتساقط الأصول في أطرافه ، ثم طرأ شيء من الأمور المتقدمة ، فهل يوجب
ذلك سقوطه عن التأثير بقاء ، المعبر عنه بانحلال العلم الإجمالي؟ وجهان ، بل
قولان. الأظهر هو الانحلال ، بيان ذلك : ان العلم الإجمالي لا يزيد على العلم
التفصيليّ ولا على سائر الحجج والأمارات في تنجز الحكم المنكشف به ، فكما أنه لو
تبدل العلم بالشك الساري ، أو زالت البينة بقاء لشبهة موضوعية كما لو شك في عدالة
البينة القائمة على نجاسة شيء ، أو لشبهة حكمية كما إذا شك في حجية البينة في
المورد الّذي أقيمت عليه سقط الحكم عن التنجيز ، لعدم منجز له بقاء. نعم
لو كان الشك في
التكليف بعد العلم به تفصيلا ، أو بعد قيام الحجة عليه ناشئا من ناحية الامتثال ،
كما إذا علم المكلف بوجوب صلاة الظهر عليه ، ثم شك فيه لاحتمال امتثاله والخروج عن
عهدته يكون التكليف باقيا على حاله. وكذلك الحال في العلم الإجمالي ، فلو علم
إجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم علم تفصيلا أن أحدهما المعين كان نجسا من أول الأمر
، فالشك في نجاسة الإناء الآخر ليس شكا في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، بل هو
شك حادث متعلق بحدوث نجاسة أخرى فيه غير ما هو المعلوم تفصيلا ، ولا مانع من شمول
أدلة الأصول لذلك ، إذ المفروض ان الأصول المعارضة انما كان موضوعها الشك في
انطباق المعلوم بالإجمال على محتملاته ، وقد زال ذلك بزوال العلم الإجمالي ، وحدث
شك آخر غير مقرون بالعلم الإجمالي ، فالأصول المتساقطة قد ارتفع موضوعها ،
والموضوع الحادث لم يكن الأصل فيه ساقطا.
ومن ذلك يظهر
الفرق بين المقام وبين ما إذا كان زوال العلم الإجمالي من جهة الإتيان ببعض
الأطراف وحصول الموافقة الاحتمالية ، كما إذا علم بوجوب إحدى الصلاتين القصر
والإتمام فأتى بإحداهما ، فان العلم بالتكليف وان كان زائلا فيه أيضا إلّا انه
بلحاظ البقاء دون الحدوث ، وإلّا فالعلم بحدوث تكليف مردد بين تعلقه بالقصر أو
التمام موجود فعلا ، فالشك في وجوب القصر مثلا بعد الإتمام ليس شكا في حدوث تكليف
غير المعلوم بالإجمال ، بل هو شك في انطباق المعلوم بالإجمال عليه. ونظير هذا ما
إذا علم بنجاسة أحد الإناءين ثم وقعت نجاسة في أحدهما المعين ، فان العلم الإجمالي
وان زال بقاء إلّا أن الشك في نجاسة الإناء الآخر شك في انطباق المعلوم بالإجمال
عليه ، لا شك حادث في حدوث أمر جديد ، وهذا بخلاف المقام ، فان الشك في نجاسة
الإناء الآخر غير المعلوم نجاسته تفصيلا شك في حدوث نجاسة أخرى.
وان شئت قلت :
زوال العلم الإجمالي بعد الإتيان بإحدى الصلاتين كزوال العلم التفصيليّ عند احتمال
الإتيان بالواجب المعلوم وجوبه ، فكما أن زواله بقاء لا ينافي تنجيزه بعد بقائه
متعلقا بحدوث التكليف ، كذلك زوال العلم الإجمالي بقاء لا ينافي تنجز المعلوم به
بعد بقائه متعلقا بحدوث التكليف المردد بين أمرين أو أمور ، نعم لو زال العلم
التفصيليّ بتبدله بالشك الساري كزوال العلم الإجمالي في المقام بتبدله بالعلم التفصيليّ
لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل كما عرفت.
فان قلت : إذا أتى
بإحدى الصلاتين المعلوم وجوب إحداهما إجمالا ، فالعلم الإجمالي بحدوث التكليف
المردد وان كان موجودا فعلا إلّا أنه لا يمنع من الرجوع إلى الأصل في الصلاة التي
لم يؤت بها ، فيرفع بذلك وجوبها ، فان وجوبه بالفعل مشكوك فيه ، والأصل الجاري فيه
غير معارض بالأصل في الطرف الآخر ، لعدم ترتب أثر عليه ، وقد عرفت ان تنجيز العلم
الإجمالي انما كان من جهة تعارض الأصول وتساقطها.
قلت : الشك فعلا
في وجوب الصلاة التي لم يؤت بها ليس شكا آخرا غير الشك الموجود أولا ، وقد فرضنا
عدم شمول دليل الأصل له بالمعارضة ، فكيف يشمله بعد الإتيان بإحدى الصلاتين ، وهل
الأصل الساقط في شيء يعود بعد سقوطه؟!
فان قلت : لا مانع
من ذلك بعد إطلاق الدليل لكل حال من الحالات ، غاية الأمر رفعنا اليد عنه
بالمعارضة ، والضرورات تقدر بقدرها ، فإذا ارتفعت المعارضة بالإتيان بإحدى
الصلاتين أمكن التمسك بإطلاق الدليل بعده في الطرف الآخر.
وبعبارة أخرى :
الأمر في المقام دائر بين رفع اليد عن أصل الدليل ورفع اليد عن إطلاقه ، وبما ان
المقتضى لرفع اليد هو المحذور العقلي ، أعني به لزوم الترخيص في المعصية ، فيقتصر
فيه على مورده ، وهو صورة تعارض الأصلين ، واما إذا فرض
عدم جريان الأصل
في بعض الأطراف ولو بقاء فلا يكون مانع آخر عن جريان الأصل في غيره.
قلت : المحذور
العقلي كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل لكل من الطرفين في زمان واحد يقتضي عدم
شموله لهما في زمانين أيضا ، فكما لا يمكن الحكم بحلية أحد الإناءين المعلوم حرمة
أحدهما في زمان الحكم بحلية الإناء الآخر ، كذلك لا يمكن أن يحكم بحلية أحدهما في
زمان والحكم بحلية الآخر في زمان آخر ، فانه من الترخيص في المعصية ومخالفة الحكم
المعلوم لا محالة ، فالعلم بحرمة أحدهما لا بعينه يقتضي سقوط الأصول في جميع
الأزمنة ، كان كلاهما موجودا أو كان أحدهما معدوما.
والوجه فيه أن
الحكم بحلية المعدوم في زمان وجوده لا يجتمع مع الحكم بحلية الآخر في زمان وجود
الأول وبعده ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل في كليهما ، للمحذور العقلي ، ولا في
واحد منهما لعدم الترجيح ، فلا مناص من تساقط الأصلين بالكلية. هذا في ما كان
العلم الإجمالي باقيا على حاله وكان الشك شكا في الانطباق.
واما إذا زال
بتبدله بالعلم التفصيليّ بنجاسة أحد الإناءين بخصوصه من أول الأمر ، فالشك في
نجاسة الآخر شك حادث جديد ، ولا مانع من شمول دليل الأصل له.
ولا فرق فيما
ذكرناه في زوال العلم الإجمالي وانحلاله بين زواله بالوجدان كالمثال المتقدم وبين
زواله بالتعبد كما إذا قامت الأمارة على نجاسة أحد الإناءين بخصوصه من أول الأمر ،
أو كان ذلك مقتضى الأصل التنزيلي كالاستصحاب ، بل الأمر كذلك في الأصل غير
التنزيلي أيضا ، فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين الأبيض والأحمر ، ثم علمنا بعد
ذلك بنجاسة الأبيض أو إناء آخر من أول الأمر ، فالعلم الإجمالي الأول ينحل لا
محالة ، فانه بعد العلم الثاني لا يبقى لنا علم بحدوث نجاسة بين الأبيض والأحمر ،
إذ يحتمل أن يكون الأحمر هو النجس من أول الأمر ، وقد
فرضنا العلم
بنجاسته أو نجاسة الآخر ، فلا يبقى إلّا الشك في حدوث نجاسة جديدة في الإناء
الأبيض غير ما هو المتيقن بين الأحمر والإناء الآخر ، ومثل هذا مورد لأصالة
الطهارة بلا معارض. وبالجملة العلم الإجمالي الثاني وان كان متأخرا زمانا إلّا أن
المنكشف به بما أنه أمر سابق في الوجود فالعلم الإجمالي الأول لا يبقى على حاله ،
بل ينحل بالعلم الثاني ، فيرجع الشك في نجاسة الإناء الأبيض إلى الشك البدوي.
وانتظر لذلك ثمرة مهمة في بحث الملاقي للشبهة المحصورة.
التنبيه الخامس : لو كان الأثر في بعض
أطراف العلم الإجمالي أكثر من البعض الآخر، فقد يكون بينهما قدر مشترك ، وقد لا يكون. اما القسم الثاني
، فلا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الأطراف كلها ، فيجب ترتب الآثار
المتباينة بأجمعها ، كما إذا علم بوجوب قراءة سورة ياسين أو سورة التوحيد في ليلة
الجمعة بنذر ونحوه ، فان سورة ياسين وان كانت أكثر من سورة التوحيد إلّا انه لما
لم يكن بينهما قدر مشترك ليكون هو المتيقن كان العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إلى
السورتين.
واما القسم الأول
، أعني به ما إذا كان بين الأطراف أثر مشترك مع اختصاص أحد الأطراف بأثر ، كما إذا
علم إجمالا بوقوع نجاسة في الإناء الّذي فيه ماء مطلق أو في الإناء الآخر الّذي
فيه مائع مضاف ، فان أثر النجاسة في كلا الطرفين هو حرمة الشرب ، فهذا هو الأثر
المشترك ، لكن الماء المطلق يختص بأثر آخر وهو عدم جواز الوضوء به على تقدير وقوع
النجاسة فيه ، فلو كانت النجاسة واقعة في المائع المضاف لا يترتب عليه إلّا حرمة
شربه ، واما لو كانت واقعة في المطلق ترتب عليه حرمة الشرب وعدم جواز الوضوء به ،
ففي تنجز هذا العلم الإجمالي من حيث جميع الآثار ، أو تنجزه من حيث الأثر المشترك
فقط؟ وجهان. ذهب المحقق النائيني رحمهالله إلى الثاني بدعوى : ان الأصل يتعارض في كل
__________________
من الطرفين
بالإضافة إلى الأثر المشترك ، فيسقط في كل منهما ، فيكون العلم منجزا له. واما
بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض الأطراف فيجري الأصل فيه بلا معارض ، ففي المثال
المتقدم لا يجوز شرب الماء ، ولكن لا مانع من الوضوء به.
والتحقيق : ان
العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى جميع الآثار ، وذلك لأن جواز الوضوء به متفرع على
جريان قاعدة الطهارة فيه ، فإذا فرض عدم جريانها بالمعارضة فلا طريق للحكم بطهارة
الماء كي يجوز الوضوء به ، فنفس احتمال نجاسته مانع عن التوضي به لو لم يكن هناك
ما يوجب الحكم بطهارته. هذا كله في فرض تعدد الموضوع والعلم إجمالا بثبوت حكم واحد
في موضوع ، أو ثبوت حكمين في الموضوع الآخر.
واما لو كان
الموضوع واحدا وكان الترديد في السبب الّذي تعلق به العلم الإجمالي ، كما لو علم
بأنه استدان من عمرو عشرة دراهم أو انه أتلف منه ما يساوي عشرين درهما ، ففي مثل
ذلك يكون القدر المشترك معلوم التحقق ، والزائد مشكوك الحدوث ، فيرجع فيه إلى
الأصل ، والترديد في السبب لا ينافي انحلال الحكم المسبب إلى المتيقن والمشكوك ،
فان ما يوجب تنجز الحكم انما هو العلم بنفس التكليف لا بسببه.
ثم ان ما ذكرناه
في الفرض الأخير انما هو فيما لم يكن فيه أصل موضوعي حاكم على أصالة البراءة
ونحوها ، ففي ما لو دار الأمر بين كون نجاسة الثوب مستندة إلى ملاقاة البول أو
الدم لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم وجوب غسله ثانيا ، فان استصحاب النجاسة قبل
الغسلة الثانية حاكمة على الأصل المزبور كما هو ظاهر.
التنبيه السادس : هل يفرق في تنجيز
العلم الإجمالي بين الدفعيّات والتدريجيات؟ وجهان ، بل قولان. وليعلم ان محل الكلام في هذا التنبيه والتنبيه الآتي هو ما
إذا لم تكن أطراف العلم الإجمالي موردا للاحتياط في نفسها مع قطع النّظر عن
العلم الإجمالي ،
واما فيه كما إذا علم إجمالا بأنه يبتلى في هذا اليوم بمعاملة ربوية من جهة الشبهة
الحكمية ، فلا إشكال في وجوب الاحتياط ، سواء قلنا بتنجيز العلم الإجمالي أو لم
نقل به. والوجه فيه : ان الإقدام على كل معاملة يحتمل فيها الرّبا مع قطع النّظر
عن العلم الإجمالي مورد للاحتياط ، لكون الشبهة حكمية ، ولا يجوز فيها الرجوع إلى
البراءة قبل الفحص ، هذا من جهة الحكم التكليفي. واما من جهة الحكم الوضعي ، فيحكم
في كل معاملة تقع في الخارج بالفساد ، لأصالة عدم حصول النقل والانتقال.
وتوهم جواز الرجوع
إلى العمومات الدالة على صحة كل عقد كقوله تعالى (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) ، يدفعه العلم بتخصيصها بالمعاملة الربوية ، وعدم بقائها
على عمومها ، فالشك في الصحة والفساد انما هو من جهة الشك في الانطباق ، لا من جهة
الشك في التخصيص ، هذا مضافا إلى ان التمسك بالعموم متفرع على الفحص أيضا : كما
كان الأمر كذلك في الرجوع أصالة البراءة.
إذا عرفت ذلك
فنقول : ان تدريجية أطراف العلم الإجمالي تقع على وجوه.
الأول : ان تكون
مستندة إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينها ، كما إذا علم بغصبية أحد
الثوبين وكان متمكنا من لبسهما معا ، ولكنه اقترح لبس أحدهما في زمان والآخر في
زمان آخر. لا إشكال في خروج الوجه عن محل الكلام ، فان العلم بالتكليف الفعلي مع
تمكن المكلف من مخالفته وموافقته القطعيتين يوجب تنجزه على ما عرفت.
الثاني : أن تكون
التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف من الجمع بين
__________________
الأطراف ، ولكنه
يتمكن من ارتكاب كل منهما بالفعل ، وذلك كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ،
فانه وان لم يتمكن من الجمع بينهما في زمان واحد إلّا انه متمكن من اختيار أي منهما
شاء في كل آن ، ونظيره العلم بحرمة أحد الضدين اللذين لهما ثالث. ولا ينبغي
الإشكال في تنجيز العلم الإجمالي في هذا القسم أيضا بعد العلم بالتكليف الفعلي
وسقوط الأصول في أطرافه.
الثالث : ما إذا
كانت التدريجية مستندة إلى تقيد أحد الأطراف بزمان أو زماني متأخر. والحكم المعروف
في هذا القسم ، تارة : يكون فعليا على كل تقدير ، وأخرى : لا يكون فعليا إلّا على
تقدير دون تقدير.
اما القسم الأول :
فلا ينبغي الإشكال في تنجيز العلم الإجمالي فيه ، إذ الملاك في تنجزه هو العلم
بالتكليف الفعلي ، وهو حاصل على الفرض ، مثاله ما إذا علم إجمالا بتعلق النذر
بقراءة سورة خاصة في هذا اليوم أو في غد ، فانه بناء على كون الوجوب فعليا بالنذر
لإمكان الواجب التعليقي نعلم بتكليف فعلي متعلق بالقراءة في اليوم أو بالقراءة في
الغد ، فالتدريجية انما هي في المتعلق ، واما الوجوب فهو حاصل بالفعل لا تدريجية
فيه على كل تقدير ، وفي مثل ذلك لا بد من القول بتنجيز العلم الإجمالي ، لما عرفت
من ان العبرة في التنجيز بالعلم بالتكليف الفعلي وهو ثابت على الفرض.
واما القسم الثاني
: وهو ما لا يكون العلم فيه متعلقا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، كما إذا علم
بوجوب مردد بين كونه فعليا بالفعل وكونه فعليا فيما بعد ، نظير ما إذا تردد أمر
الواجب بين كونه مطلقا أو مشروطا بشرط يحصل فيما بعد. فقد اختلفت فيه كلماتهم ،
فبين قائل بجواز الرجوع إلى الأصل في كل من الطرفين كما ذهب إليه صاحب الكفاية وقائل بتنجيز العلم الإجمالي وعدم جواز الرجوع إلى الأصول
__________________
مطلقا كما ذهب
إليه المحقق النائيني رحمهالله ، وبين مفصل بينما إذا كان ملاك الأمر المتأخر تاما من
الآن وما إذا لم يكن كذلك كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدسسره .
وتوضيح الحال في المقام
يتوقف على بيان مقدمة وهي : ان تأخر التكليف قد يستند إلى عدم إمكانه مع تمامية
المقتضى له ، كما إذا فرضنا ان الفعل في الزمان المتأخر اتصف بكونه ذا ملاك ولكن
المولى غير متمكن من الأمر به فعلا ، مثال ذلك النذر المتعلق بأمر متأخر بناء على
استحالة الواجب التعليقي ، فان الفعل المنذور يتصف بالملاك الملزم بتعلق النذر به
إلّا ان الأمر بالوفاء مشروط بمجيء زمانه ، بناء على استحالة الأمر بالشيء
المتأخر. ومثاله في العرفيات ما إذا كان المريض محتاجا إلى شرب دواء يتوقف تأثيره
على وقوعه في أول طلوع الشمس مثلا ، فان المقتضى لشرب الدواء وان كان تاما بوجود
المرض إلّا ان عدم القدرة عليه قبل طلوع الشمس مانع عن طلبه ، بناء على استحالة
تعلقه بالأمر المتأخر. وقد يستند التأخر إلى عدم تمامية المقتضى لعدم تحقق ما له
دخل في تماميته ، وهذا كأكثر الشروط التي أنيط بها فعلية الحكم شرعا ، فإذا علمت
المرأة بأنها تحيض ثلاثة أيام مرددة في أيام الشهر كلها ، فلا علم بها بالتكليف
الفعلي ولا بملاكه التام ، لعدم العلم بالحيض فعلا المترتب عليه التكليف وملاكه.
إذا تحققت ذلك
فاعلم ان من نظر إلى أن تنجيز العلم الإجمالي يتوقف على كونه متعلقا بالتكليف
الفعلي فقد ذهب إلى عدم تنجيزه في المقام ، والرجوع إلى الأصول في جميع الأطراف ،
إذ المفروض تردد التكليف فيه بين كونه فعليا وكونه مشروطا بشرط غير حاصل ، فلا علم
بالتكليف الفعلي ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف المبتلى به فعلا ، كما
لا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف
__________________
الآخر في ظرف
الابتلاء به. ومن ذهب إلى ان العلم بالملاك التام الفعلي بمنزلة العلم بالتكليف
الفعلي فقد فصل بين القسمين المزبورين ، والتزم بعدم تنجيز العلم الإجمالي عند عدم
العلم بالملاك التام فعلا ، وبتنجيزه فيما إذا علم الملاك التام فعلا وان لم يكن
التكليف فعليا على تقدير ، لعدم حصول شرطه ، لأن الترخيص في تفويت الملاك الملزم
فعلا بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي ، فان عدم تمكن المولى من البعث
لوجود المانع مع تمامية المقتضى بحيث لو أمكنه سحب الزمان المتأخر لفعل لا يرفع
قبح الترخيص في تفويت الملاك الملزم ، ومن هنا فصل شيخنا الأنصاري قدسسره بين المثالين المزبورين فالتزم بتنجيز العلم الإجمالي في مسألة العلم بالنذر
المردد تعلقه بأمر حالي أو استقبالي ، وبعدم تنجزه في علم المرأة بالحيض المردد في
أيام الشهر ، فتمسك فيه باستصحاب عدم تحقق الحيض إلى الآن الأول من ثلاثة أيام
الباقية من الشهر ، وبالبراءة بعد ذلك. والوجه في رجوعه إلى البراءة هو ان المرأة
بعد تحقق الآن الأول من الأيام الثلاثة الباقية يحصل لها اليقين بحيض وطهر سابقين
على هذا الآن قطعا ، وبما ان تاريخ كل منهما مجهول ، فالاستصحاب فيهما غير جار ،
للمعارضة على مسلكه قدسسره ، أو لوجه آخر كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، وعلى كل حال فلا مجال للاستصحاب فيرجع إلى البراءة.
والتحقيق : في
المقام هو ما ذهب إليه المحقق النائيني قدسسره من تنجيز العلم مطلقا ، اما فيما تم فيه الملاك فعلا فقد
عرفت وجهه. واما فيما لم يتم فلما تقدم في مبحث مقدمة الواجب من استقلال العقل
بقبح تفويت الملاك الملزم التام في ظرفه بتعجيز النّفس قبل مجيء وقته ، كحكمه بقبح
تعجيز النّفس عن امتثال التكليف الفعلي ، ولا
__________________
فرق في حكم العقل
بقبح التفويت بين كونه مستندا إلى العبد وكونه مستندا إلى المولى ، ومن الظاهر ان
ترخيص المولى في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلا وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في
ظرف الابتلاء به ترخيص في تفويت الملاك الملزم التام ، وهو على حد الترخيص في
مخالفة التكليف الفعلي وعصيانه.
التنبيه السابع : في الشبهة غير
المحصورة. ويقع الكلام أولا
في تحديد موضوعها ، ثم في بيان حكمها. وذكر لتعريفها وجوه :
الأول : ان غير
المحصور ما يعسر عده.
وفيه : أولا : ان
عسر العد لا عبرة به ، لعدم انضباطه في نفسه من جهة اختلاف زمان العد وغيره ،
فالألف يعسر عدها في ساعة ، ولا يعسر عدها في يوم أو أكثر.
وثانيا : ان تردد
الشاة الواحدة المغصوبة المرددة في أغنام البلد التي لا تزيد على الألف مثلا من
الشبهة غير المحصورة عندهم ، والحبة الواحدة من الأرز المغصوبة المرددة في الف الف
حبة مجتمعة في إناء ليس كذلك ، مع ان عد الف الف أعسر من عد الأغنام ، فلا يكون
عسر العد ضابطا للشبهة غير المحصورة.
الوجه الثاني : ان
الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقتها القطعية.
وفيه : ان العسر
بنفسه مانع عن تنجز التكليف وفعليته ، سواء كانت أطراف الشبهة قليلة أو كثيرة ،
فلا يكون ذلك ضابطا أيضا.
الوجه الثالث : ما
ذكره الشيخ رحمهالله من ان الشبهة غير المحصورة ما كان احتمال التكليف في كل من
أطرافها موهوما لكثرة الأطراف .
وفيه : أولا : ما
أفاده المحقق النائيني رحمهالله انه إحالة إلى امر مجهول ، فان الوهم له
__________________
مراتب كثيرة ، فأي
مرتبة منه يلازم كون الشبهة معها من الشبهة غير المحصورة .
وثانيا : ان
موهومية احتمال التكليف لا يمنع من التنجيز ، ولذا يتنجز التكليف المردد بين طرفين
ولو كان احتماله في أحدهما ظنيا وفي الآخر موهوما ، والسر في ذلك ما تقدم من ان
مجرد احتمال التكليف بأي مرتبة كان يستلزم احتمال العقاب ، الّذي هو الملاك في
تنجز التكليف لو لا المؤمن.
الوجه الرابع : ان
الميزان في كون الشبهة غير محصورة بالصدق العرفي ، فما صدق عليه عرفا انه غير
محصور يلحقه حكمه ، وربما يختلف ذلك باختلاف الموارد.
وفيه : أولا : ان
هذه الكلمة لم ترد في موضوع دليل ليرجع في فهم معناها إلى العرف ، وانما هي من
الاصطلاحات المستحدثة.
وثانيا : ان العرف
لا ضابطة عندهم لتمييز المحصور عن غيره ، فلو سألوا عن معنى هذه الكلمة تحيروا في
تحديدها ، والسر فيه ما عرفت من ان عدم الحصر ليس من المعاني المتأصلة ، وانما هو
أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك.
الوجه الخامس : ما
اختاره المحقق النائيني قدسسره من ان الميزان في كون الشبهة غير محصورة عدم تمكن المكلف
عادة من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد
منها ، ومن هنا تختص الشبهة غير محصورة بموارد الشبهات التحريمية ، واما في موارد
الشبهة الوجوبية فالأطراف وان بلغت من الكثرة ما بلغت يتمكن المكلف من المخالفة
القطعية بترك جميعها ، ولكنه لا يتمكن من الموافقة القطعية ، فيجري فيه حكم
الاضطرار إلى بعض الأطراف على ما
__________________
سيجيء الكلام فيه
عن قريب.
وفيه : أولا : ان
عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقق
ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة.
وثانيا : ان عدم
القدرة على المخالفة القطعية أمر يختلف باختلاف المعلوم بالإجمال ، وباختلاف
الأشخاص ، وباختلاف قلة الزمان وكثرته وغير ذلك من الخصوصيات ، فليس له ضابط كلي.
وثالثا : ان عدم
التمكن من المخالفة القطعية ان أريد به عدم التمكن منها دفعة فكثير من الشبهات
المحصورة كذلك ، وان أريد به عدم التمكن منها ولو تدريجيا فقل شبهة تكون غير
محصورة ، إذ كثير من الشبهات غير المحصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع
أطرافها في ضمن سنة أو أقل.
فتحصل : انه لم
يظهر لنا معنى للشبهة غير المحصورة حتى يتكلم في حكمها.
فالصحيح أن يقال :
ان العلم الإجمالي بالتكليف قد يتمكن المكلف معه من الموافقة والمخالفة القطعيتين
، وقد يتمكن من إحداهما دون الأخرى ، وقد لا يتمكن من شيء منهما. اما الفرض الأخير
فلا إشكال في عدم تنجيز العلم الإجمالي فيه ، كما لا إشكال في تنجيزه في الفرض
الأول. واما الفرض الثاني ، فان تمكن فيه المكلف من المخالفة القطعية دون موافقتها
فقد عرفت ان العلم الإجمالي موجب للتنجيز بالمقدار الممكن ، وسيأتي الكلام فيه
مفصلا عند الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف. وان تمكن فيه من الموافقة القطعية دون
مخالفتها فقد اختار المحقق النائيني رحمهالله فيه عدم تنجيز العلم الإجمالي ، بدعوى : ان وجوب الموافقة
القطعية متفرع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الأولى .
__________________
ولكنك قد عرفت
سابقا انه لا ملازمة بين الأمرين ، وان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي هو سقوط
الأصول في أطرافه ، فمتى تمكن المكلف من الموافقة القطعية وجبت ، لأن احتمال
التكليف يستلزم تنجيز الواقع لو لم يكن مؤمنا من العقاب على المخالفة ، فعجز
المكلف عن المخالفة القطعية المستلزم لعدم حرمتها لا يوجب عدم وجوب الموافقة
القطعية المفروض قدرة المكلف عليها وعدم المؤمن من المخالفة الاحتمالية. نعم لو
كان عدم حرمة المخالفة القطعية مستندا إلى قصور في ناحية التكليف لا إلى عجز
المكلف عنها استلزم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية بالضرورة ، لكنه خروج عن الفرض
، إذ المفروض ان عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهة غير المحصورة مستند إلى عجز
المكلف وعدم تمكنه منها.
فاتضح مما ذكرناه
انه لا يفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين كثرة الأطراف وقلتها ، فلا فرق بين كون
الشبهة محصورة أو غير محصورة. نعم ربما تكون كثرة الأطراف ملازمة لطروء بعض
العناوين المانعة عن تنجيز العلم الإجمالي ، كالعسر والحرج والخروج عن محل
الابتلاء ونحو ذلك ، إلّا ان العبرة بتلك العناوين أنفسها لا بكثرة الأطراف.
إذا عرفت ذلك فقد
استدل على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة بوجوه.
الأول : ما ذكره
الشيخ رحمهالله من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوما . وقد ظهر جواب ذلك مما تقدم.
الثاني : ما ذكره
الميرزا النائيني رحمهالله من ان وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة
القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الأولى . وقد ظهر الجواب عنه بما
__________________
تقدم.
الثالث : ما ادعي
من الإجماع على ذلك.
ويرده : أولا : ان
هذه المسألة من المسائل المستحدثة التي لم يتعرض لها القدماء في كلماتهم ، فكيف
يمكن في مثل ذلك دعوى الاتفاق من الفقهاء.
وثانيا : على فرض
تحقق الاتفاق لا يكون كاشفا عن رأي المعصوم ، بل هو أمر علم استناد المفتين فيه
على أحد الأمور المذكورة في كلماتهم.
الرابع : دعوى ان
لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة مستلزم للحجر غالبا ، وهو منفي في الشريعة
المقدسة.
ويرد عليه ان دليل
نفي العسر والحرج انما يتكفل نفي الحكم عما يكون مصداقا للعسر والحرج فعلا ، وهذا
يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك من الخصوصيات. واما ما يستلزم بنوعه
الحرج وان لم يكن حراج بالإضافة إلى شخص خاص فلا دليل على رفعه ، وسيجيء تفصيل
الكلام في ذلك عند التعرض لقاعدة نفي الضرر إن شاء الله.
ثم انه ربما يقال
: بعدم شمول أدلة نفي العسر والحرج لأمثال المقام ، مما كان العسر في تحصيل
الموافقة القطعية لا في متعلق التكليف نفسه ، بدعوى : انها ناظرة إلى أدلة الأحكام
الأولية ، ومخصصة لها بما إذا لم يكن متعلقها حرجيا ، وبما ان المفروض فيما نحن
فيه عدم الحرج في الإتيان بمتعلق التكليف ، وانما الحرج في تحصيل الموافقة القطعية
الواجبة بحكم العقل ، فالأدلة المذكورة لا تدل على نفي وجوبه.
والجواب : عن ذلك
سيأتي عند التعرض للقاعدة المزبورة.
الخامس : قوله عليهالسلام في رواية الجبن «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في
جميع الأرضين» بدعوى انه ظاهر في عدم تنجيز العلم الإجمالي عند كون
__________________
الشبهة غير
محصورة.
ويرد عليه ان ظاهر
الرواية ان العلم بوجود فرد محرم دار امره بين ما يكون في محل الابتلاء ، أو خارجا
عنه لا يوجب وجوب الاجتناب عما هو في محل الابتلاء فهو أجنبي عن كون الشبهة غير
محصورة بكثرة أطرافها.
فتحصل انه لا
دلالة لشيء من الأمور التي تمسكوا بها على سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز في
الشبهة غير المحصورة.
إرشاد فيه أمران
الأول : لو كانت
أطراف الشبهة في حد نفسها كثيرة ، وكان المعلوم في البين أيضا كثيرا ، ويعبر عنه
اصطلاحا بشبهة الكثير في الكثير ، كما لو فرضنا ان أطراف الشبهة كانت ألفا ،
والمعلوم بينها مائة ، فالأطراف بالنسبة إلى المعلوم لا تكون كثيرة ، فان نسبته
إليها نسبة الواحد إلى العشرة ، فهل يكون العلم الإجمالي في مثل الفرض منجزا على
القول بعدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة؟ وجهان.
والتحقيق : انه
يختلف ذلك باختلاف المباني في عدم التنجيز ، فبناء على ما أفاده الشيخ رحمهالله من ان ملاك عدم تنجيز العلم في الشبهة غير المحصورة هو كون
احتمال التكليف فيها موهوما ، لا يعتنى به العقلاء ، بحيث يعد الاعتناء به من
الوسواس عندهم يكون العلم الإجمالي في مفروض المثال منجزا ، لأن احتمال التكليف في
كل واحد من الأطراف غير موهوم على الفرض ، فانه من قبيل تردد الواحد في العشرة.
واما على مبنى المحقق النائيني قدسسره من ان الوجه في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية
فيها ، لعدم تمكن المكلف منها ، ووجوب الموافقة القطعية متفرع عليها ، فلا بد من
الالتزام بعدم التنجيز في المقام أيضا ، فان المخالفة القطعية في المثال لا تتحقق
إلّا بارتكاب تسعمائة من الأطراف ، وذلك عسر أو غير مقدور
عادة.
الأمر الثاني :
انه بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة ، فهل يكون الشك في
كل واحد من الأطراف كلا شك ، فلا يجري فيه قاعدة الاشتغال ، أو ان العلم يفرض فيه
كعدمه ، فيجري حكم الشك على كل واحد منها؟ مثال ذلك ما لو علمنا إجمالا بوجود مائع
مضاف مردد بين الف إناء ، فبناء على ان الشبهة في حكم عدمها ، صح الوضوء من إناء
واحد مع احتمال كونه مائعا مضافا ، ولا يعتنى بهذا الاحتمال. واما بناء على ان
العلم كلا علم ، فالشبهة في نفسها مورد لقاعدة الاشتغال ، لأن صحة الوضوء متوقفة
على إحراز كون ما يتوضأ به ماء ، فنفس احتمال كونه غير ماء كاف في عدم صحة الوضوء
به ولو لم يكن علم إجمالي بوجود مائع مضاف أصلا ، فلا بد حينئذ من تكرار الوضوء
بمقدار يعلم معه بكون المتوضأ به ماء.
والتحقيق أن يقال
: انه بناء على ما سلكه الشيخ رحمهالله من كون الملاك في عدم التنجيز هو كون الاحتمال موهوما بحيث
لا يعتنى به العقلاء فالشبهة في مفروض المقام تكون كلا شبهة ، فلا يعتني باحتمال
كون المتوضأ به مضافا مع كونه موهوما على الفرض. واما بناء على ما سلكه المحقق
النائيني رحمهالله من ان الملاك في عدم التنجيز انما هو عدم التمكن من
المخالفة القطعية ، فالعلم بوجود التكليف المردد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه
، وأما أصل الشبهة فهي باقية في كل واحد من الأطراف على حالها ، فإذا كان الاحتمال
في نفسه موردا لقاعدة الاشتغال لا بد من الحكم فيه بذلك.
وبهذا ظهر ان ما
ذكره المحقق النائيني في المثال المتقدم من ان المعلوم فيه بحكم التالف ، فيصح
الوضوء بكل من الأطراف مناف لمبناه المتقدم. على انا لا نتعقل كون المعلوم كالتالف
، فهل الدرهم المغصوب إذا اشتبه بين الف درهم يعد تألفا لينتقل
الضمان إلى مثله
أو قيمته ، لا نظن ان يلتزم أحد بذلك ، فكيف يلتزم بمثله في المقام.
التنبيه الثامن : إذا اضطر إلى ارتكاب
بعض أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية، أو إلى ترك بعض أطرافه في الشبهة
الوجوبية ، فتارة : يكون
الاضطرار إلى طرف معين ، وأخرى : إلى أحد الأطراف لا بعينه ، فهنا مسألتان. وقبل
التكلم في ذلك لا بد من بيان ان محل الكلام انما هو فيما كان الاضطرار رافعا للحكم
المعلوم بالإجمال في الطرف المضطر إليه بالكلية ، واما فيما لم يكن كذلك ، بان كان
للعلم الإجمالي أثر في الطرف المضطر إليه في الجملة ، فلا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي
، وتساقط الأصول بعد الاضطرار أيضا ، فلو اضطر إلى شرب الماء ثم علم بنجاسته أو
نجاسة الخل ، فالاضطرار إلى شرب الماء انما يوجب جواز شربه ، واما ترتيب بقية آثار
الطاهر عليه فلا ، فالعلم بنجاسته أو نجاسة الخل يوجب العلم بعدم جواز التطهير به
أو حرمة شرب الخل ، وهذا العلم يوجب تنجيز المعلوم ، فلا يجوز التطهير بذلك الماء
ولا شرب الخل.
إذا عرفت هذا
فنقول : في المسألة الأولى وهي الاضطرار إلى المعين ثلاثة صور.
الصورة الأولى :
ان يضطر إلى الواحد المعين بعد ثبوت العلم الإجمالي وتنجز التكليف ، كما لو علم
إجمالا بنجاسة الحليب أو الخل ، ثم اضطر إلى شرب الحليب لرفع عطشه ، فهل يسقط
العلم الإجمالي عن التنجيز حتى في غير المضطر إليه؟ قولان. اختار الشيخ قدسسره بقاء التنجيز بالإضافة إلى غير المضطر إليه ، لأن التكليف
على تقدير تعلقه به واقعا قد تنجز بمنجز سابق ، ولم يحدث ما يوجب سقوطه فيه .
__________________
وذهب صاحب الكفاية
في المتن إلى سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز حتى في غير المضطر
إليه ، بدعوى ان تنجيز العلم بالتكليف يدور مدار وجوده حدوثا وبقاء ، ومع الاضطرار
لا يكون العلم بالتكليف باقيا بالضرورة.
ثم أورد على نفسه
بأنه لو كان بقاء العلم معتبرا في تنجيزه لزم عدم تنجيزه عند فقدان بعض الأطراف ،
أو خروجه عن مورد الابتلاء أو امتثاله.
وأجاب عنه بان
الاضطرار من حدود التكليف ، فالتكليف من أول حدوثه يكون مشروطا بعدمه ، وهذا بخلاف
الفقدان ، فانه ليس من حدوده ، وانما يكون ارتفاع التكليف به من قبيل ارتفاع الحكم
بارتفاع موضوعه ، وكذلك الحال في فرض الامتثال والخروج عن محل الابتلاء. ثم أمر
بالتأمل.
ولكنه في الهامش عدل عن ذلك ، والتزم ببقاء تنجيز العلم الإجمالي في غير
الطرف المضطر إليه ، بتقريب : ان العلم الإجمالي من أول الأمر تعلق بأحد التكليفين
مرددا بين القصير والطويل ، نظير ما لو علم إجمالا بوجوب الجلوس في المسجد بمقدار
ساعتين أو الجلوس في الصحن بمقدار أربع ساعات ، والعلم بالتكليف المردد بين القصير
والطويل يوجب تنجيزهما معا ، وسقوط التكليف القصير بانتهاء أمده لا يستلزم سقوط
الآخر.
والصحيح : هو
القول بالتنجيز ، لما عرفت ، ولأن الشك في التكليف في غير الطرف المضطر إليه هو
بعينه الشك الّذي حكم بعدم جريان الأصل فيه ، وليس هو شكا حادثا ، فلا مؤمن في
ارتكابه من العقاب ، فيجب الاجتناب عنه بحكم العقل. واما ما ذكره صاحب الكفاية
أولا من ان الاضطرار من حدود التكليف بخلاف الفقدان ونحوه ، فيرفعه ما ذكرناه في
مبحث الظن من ان فعلية التكليف تدور مدار
__________________
فعلية موضوعه بجميع
قيوده وخصوصياته ، فكما ان خصوصيات الموضوع دخيلة في فعلية التكليف ، فكذلك نفس
وجوده ، والملاك في الجميع واحد ، وهو ان فعلية البعث والتحريك تتوقف على وجود
الموضوع وكل ما اعتبر فيه من الخصوصيات عقلا أو شرعا.
الصورة الثانية :
ان يكون الاضطرار إلى المعين بعد حدوث التكليف وقبل العلم به ، بمعنى أن يكون
التكليف حادثا قبل الاضطرار ، والعلم به حادثا بعده ، كما لو علم بعد الاضطرار إلى
أحد المائعين بخصوصه بوقوع نجاسة في أحدهما لا بعينه قبل حصول الاضطرار. وقد اتفقت
في هذه الصورة كلمات شيخنا الأنصاري والمحقق الخراسانيّ والنائيني قدسسره في الدورة الأخيرة على عدم تنجز العلم الإجمالي ، وهو
الصحيح ، وذلك لأن التكليف قبل حصول الاضطرار لم يكن منجزا ، لعدم العلم به ، وبعد
الاضطرار غير معلوم أيضا ، لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه. وبعبارة
أخرى : قبل حصول الاضطرار إما لم يكن شك في التكليف ، أو كانت الأصول جارية في
جميع الأطراف بلا معارضة بينها لعدم العلم الإجمالي ، وعلى كل حال لم تكن الأصول
ساقطة بالمعارضة. وأما بعد الاضطرار فلا تكليف في الطرف المضطر إليه قطعا ، لأنه
اما لم يكن فيه تكليف من أول الأمر ، أو انه سقط بالاضطرار ، واما الطرف الآخر
فالتكليف فيه وان كان محتملا إلّا انه لا مانع من جريان الأصل فيه ، لأنه بلا
معارض.
نعم في البين شبهة
، وهي ان أصالة البراءة الجارية في غير الطرف المضطر إليه وان كانت بلا معارض إلّا
انها غير جارية ، لوجود أصل حاكم عليها ، وهو قاعدة الاشتغال ، أو الاستصحاب ،
وتقريب ذلك : ان التكليف المنكشف بالعلم الإجمالي
__________________
اللاحق سابق على
طروء الاضطرار ، وبعد طروه يدور أمره بين أن يكون في الطرف المضطر إليه فيقطع
بارتفاعه ، أو في الطرف الآخر فيقطع ببقائه ، فيكون حاله حال الحدث المردد بين
الأصغر المتيقن ارتفاعه بعد الوضوء والأكبر المقطوع بقاؤه ، وهذا الاستصحاب وان لم
يترتب عليه ثبوت التكليف في غير الطرف المضطر إليه ، لأنه مثبت ، إلّا انه يكفي في
جريانه بعد كون مجراه حكما شرعيا قابلا للتعبد به حكم العقل بلزوم الاحتياط في غير
الطرف المضطر إليه.
والجواب عن هذه
الشبهة ان الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال انما يجريان فيما إذا كانت الأصول في جميع
أطراف الشبهة ساقطة بالمعارضة ، كما في مثال الحدث المردد بين الأكبر والأصغر ،
فان الأصل في كل منهما معارض به في الآخر ، فلا يقين إلّا بالحدث الجامع بين
الأصغر والأكبر ، وخصوصية كل منهما مشكوكة ، فإذا توضأ المكلف أو اغتسل يشك في
ارتفاع حدثه ، فيستصحب. وهذا بخلاف ما إذا كان الأصل في بعض الأطراف جاريا من دون معارض
، فانه لا مجال فيه لجريان الأصل في الكلي بعد حكم الشارع بعدم التكليف في بعض
الأطراف ، وسقوطه في بعضها بالوجدان ، كما في المقام ، فان غير الطرف المضطر إليه
لا حكم فيه بأصالة البراءة ، والطرف المضطر إليه يجوز ارتكابه بالوجدان ، ومن هنا
كان المرجع في دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين أصالة البراءة ، مع انه
بعد الإتيان بالأقل يشك في بقاء التكليف المعلوم بالإجمال لا محالة ، ولا يرجع معه
إلى الاستصحاب ، وليس الوجه فيه إلّا ان منشأ الشك في بقائه ليس إلّا احتمال تعلق
التكليف بالأكثر الّذي فرض جريان أصل البراءة فيه بلا معارض ، فلم يبق مجال
للاستصحاب ولا لقاعدة الاشتغال.
ونظير المقام ما
إذا كان بعض الأطراف موردا للأصل المثبت ، وبعضها موردا للأصل ، النافي كما لو علم
إجمالا بعدم الإتيان بصلاة الصبح التي حال وقتها ، أو
الظهر التي لم
يخرج وقتها فانه بعد الإتيان بصلاة الظهر بمقتضى قاعدة الاشتغال وان كان يشك في
بقاء التكليف المعلوم إجمالا ، إلّا ان منشأ الشك في ذلك بما انه منحصر في احتمال
ثبوت التكليف بالقضاء الّذي قد جرى فيه الأصل النافي ، لا مجال فيه للاستصحاب ولا
لقاعدة الاشتغال.
وبما ذكرناه في
هذه الصورة ظهر الحال في الصورة الثالثة التي لم يعلم فيها التكليف كما هو ظاهر.
ثم انه يلحق بهذه
الصورة ما إذا كان الاضطرار والعلم بثبوت تكليف سابق عليه متقارنين زمانا ، وذلك
لأنه في فرض التقارن أيضا لا تكون الأصول الجارية في الأطراف متعارضة قبل الاضطرار
، لعدم العلم الإجمالي ، ولا بعده ، لثبوت الترخيص في الطرف المضطر إليه قطعا ،
فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض. ومما ذكرناه في صورة الاضطرار إلى المعين
من الأطراف يظهر الحال في غيره مما يرتفع الحكم معه ، كفقدان بعض الأطراف ، أو
خروجه عن محل الابتلاء أو نحو ذلك ، فيجري فيها ما ذكرناه في الاضطرار بأقسامه ،
ولا حاجة معه إلى الإعادة.
المسألة الثانية : فيما كان الاضطرار
إلى أحد الأطراف لا بعينه. ويجري فيه أيضا الصور الثلاثة المتقدمة ، إلّا ان الصحيح هو تنجيز العلم
الإجمالي في جميعها ، حتى فيما لو كان الاضطرار قبل حدوث سبب التكليف والعلم به ،
كما لو اضطر إلى شرب أحد المائعين لا بعينه ، ثم وقعت نجاسة في أحدهما من غير
تعيين ، والوجه في ذلك انه لا شيء في المقام يتوهم رفعه للحرمة الثابتة لشرب النجس
غير الاضطرار ، ومن الظاهر ان الاضطرار لم يتعلق بخصوص الحرام قطعا ، وانما تعلق
بالجامع بينه وبين الحلال ، فلا مقتضى لسقوط الحرمة المعلومة في البين. ونظير ذلك
ما لو علم نجاسة أحد المائعين معينا ، فاضطر المكلف إلى شرب أحدهما ، فهل يتوهم
فيه كون الاضطرار إلى الجامع رافعا لحرمة شرب المعلوم نجاسته؟! ولا فرق بينه
وبين المقام إلّا
في ان الحرام معلوم فيه تفصيلا ، وفي محل الكلام إجمالا.
وببيان أوضح : ان
النجس المعلوم في البين لا يحتمل اضطرار المكلف إلى شربه قطعا ، فلا موجب لارتفاع
حكمه ، ومجرد اختيار المكلف رفع اضطراره به لو كان موجبا لسقوط حكمه لوجب الالتزام
به فيما إذا كان الحرام متميزا عن غيره أيضا ، ومن الواضح انه لا يلتزم به أحد.
فان قلت : فرق بين
المقام وما إذا علم الحرام بعينه ، فان التكليف بالاجتناب عن الحرام مع تميزه في
الخارج لا مانع منه بعد إمكان رفع الاضطرار بغيره ، فلا موجب لرفع اليد عن حكمه
باختيار المكلف رفع اضطراره به أو بغيره ، وهذا بخلاف المقام ، فان الحرام بعد ما
لم يكن متميزا في الخارج ، وكان المكلف مضطرا إلى ارتكاب أحد الأطراف المحتمل
انطباق الحرام عليه كان التكليف بالاجتناب عنه بلا فائدة ، فيكون لغوا.
قلت : يكفي في
بقاء التكليف وعدم سقوطه بالاضطرار إلى الجامع بينه وبين الحلال لزوم الاجتناب عما
لا يرفع اضطراره به ، إذ غاية ما يترتب على الاضطرار إلى غير المعين هو عدم وجوب
الموافقة القطعية للتكليف المعلوم في البين ، واما حرمة المخالفة القطعية فلا موجب
لرفع اليد عنها بعد التمكن منها كما هو المفروض.
ولتوضيح المقام
نذكر أمورا :
الأول : ان الحرام
المعلوم في البين يتمكن المكلف من مخالفته ، ولم يطرأ ما يوجب ارتفاعه ، لما عرفت
من ان الاضطرار انما هو إلى الجامع بينه وبين الحلال ، لا إلى خصوصه ليرتفع حكمه.
الثاني : انه لا
يمكن للشارع الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف ، لاستلزامه الترخيص في المعصية
ومخالفة التكليف المعلوم ، لما عرفت من حكم العقل
بقبحه.
الثالث : انه لا
بد من رفع اليد من وجوب الموافقة القطعية ، لتوقف رفع الاضطرار على ارتكاب بعض
الأطراف لا محالة ، فلا مناص من ترخيص الشارع فيه بمقدار يرتفع به الاضطرار ، وهو
أول وجود يختاره المكلف في الخارج ، فان أصاب الحلال الواقعي فلا مقتضى لرفع اليد
عن الحرمة الواقعية في الوجود الثاني ، لعدم الاضطرار إليه أصلا ، وان أصاب الحرام
فالحرمة الواقعية الثابتة له وان لم ترتفع بذلك ، لأن اختيار المكلف له لا يكشف عن
تعلق الاضطرار به ، فلا موجب لسقوط حرمته ، إلّا انه لا مناص من الترخيص فيه ظاهرا
المستلزم لعدم العقاب على المخالفة الواقعية ، وكما ان الحكم الواقعي من الوجوب أو
الحرمة أو الإباحة ربما يختص بأول وجود الطبيعة دون بقية وجوداتها فكذلك الحكم
الظاهري ، والميزان في الاختصاص وعدمه هو قيام الدليل على الاختصاص أو على عدمه ،
وحيث ان الموجب للترخيص في المقام هو اضطرار المكلف بارتكاب أحد الأطراف فهو لا
يقتضي أزيد من الترخيص في أول وجود يختاره المكلف ، واما غيره من الوجودات فهو على
تقدير كونه محرما في الواقع لا موجب لرفع اليد عن حكمه ، لا واقعا ولا ظاهرا. وعلى
ما ذكرناه يكون المقام واسطة بين موارد الشبهات البدوية التي لم يتنجز الواقع فيها
أصلا وبين موارد العلم الإجمالي فيما لم يتعلق الاضطرار بشيء من أطرافه التي تنجز
فيها الواقع على كل تقدير ، فان الواقع على تقدير عدم انطباقه على ما يختاره
المكلف يبقى على تنجزه ، وعلى تقدير انطباقه على ما يختاره يسقط تنجيزه ، فتكون
النتيجة هو التوسط في التنجيز ، بمعنى تنجز الواقع من جهة دون جهة.
فان قلت : إذا كان
المفروض ان الحكم الواقعي واحد ، والتردد انما هو في متعلقه ، فكيف يعقل أن يكون
منجزا على تقدير دون تقدير.
قلت : العلم الإجمالي
المتعلق به بما انه أوجب سقوط الأصول في أطرافه فاحتمال التكليف في كل طرف منجز له
في نفسه ، إلّا ان الاضطرار إلى بعض الأطراف أوجب رفع اليد عن ذلك في أول وجود ،
ولا مقتضى معه لرفع اليد عنه في غيره من الأطراف ، فان الضرورات تقدر بقدرها.
ونظير المقام دوران
الأمر بين الأقل والأكثر ، فان التكليف الواقعي في مورده وان كان واحدا غير متعدد
إلّا ان تعلقه بالأقل معلوم ، فيتنجز بالإضافة إليه ، وتعلقه بالزائد على المتيقن
مشكوك فيه ، فيجري فيه البراءة ، فكما ان وحدة التكليف فيه واقعا لا تنافي تنجزه
على تقدير دون تقدير كذلك الحال في المقام.
ومما ذكرناه ظهر
الفرق بين المقام وبين الاضطرار إلى المعين ، فان المعين المضطر إليه إذا كان
مصادفا للحرام الواقعي ترتفع حرمته واقعا ، فلا علم معه بالتكليف الفعلي ، لاحتمال
كون الحرام هو المضطر إليه فيما إذا كان الاضطرار سابقا على العلم الإجمالي ، وهذا
بخلاف المقام ، فان الاضطرار كما عرفت انما تعلق بالجامع بين الحرام والحلال ، فلا
يوجب ارتفاع الحرمة الواقعية ، غاية الأمر انه لا تجب الموافقة لقطعية كما عرفت.
كما انه ظهر فساد
ما في الكفاية من ان الترخيص في بعض الأطراف ينافي العلم بالتكليف الفعلي
على كل تقدير ، فلا يبقى إلّا احتمال التكليف في غير ما يختاره المكلف ، وهو مندفع
بالأصل ، وذلك لأن الترخيص في بعض الأطراف لو كان ترخيصا واقعيا كما في الاضطرار
إلى المعين لكان الأمر كما ذكره ، إلّا أنه في المقام ليس كذلك ، إذ المفروض عدم
الاضطرار إلى ارتكاب المحرم الواقعي ، غاية الأمر يحتمل انطباقه على ما يختاره
المكلف ، وهو لا يقتضي إلّا الترخيص فيه ظاهرا ،
__________________
فالحكم الواقعي
ثابت على كل تقدير ، ومعه لا وجه للرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف الآخر.
ثم ان المحقق
النائيني ذهب في المقام إلى كون ما يختاره المكلف رافعا لاضطراره مرخصا فيه واقعا بدعوى : ان المضطر إليه وان كان جامعا بين الحلال والحرام
إلّا انه باختياره يكون مصداقا للمضطر إليه ، فترتفع حرمته الواقعية لو كان مصداقا
للحرام اتفاقا. ومع ذلك التزم بعدم جريان البراءة في الطرف الآخر ، بتقريب : ان
سقوط الحرمة عما يختاره المكلف انما يكون بعد اختياره ، واما قبله فالحكم المعلوم
إجمالا فعلي على كل تقدير ، وقد مر في بحث الاضطرار إلى المعين ان الرافع للتكليف
إذا كان متأخرا عن العلم الإجمالي وتساقط الأصول فانما يقتصر في رفعه بمورده ،
واما غيره من الأطراف فيبقى على حاله من تنجز الحكم المعلوم فيه ، وعليه فيكون حال
المقام حال الاضطرار إلى أحد الأطراف معينا بعد العلم الإجمالي بالتكليف وتساقط
الأصول فيها ، ونتيجة ذلك هو سقوط التكليف الواقعي على تقدير ، وعدم سقوطه على
تقدير آخر ، المعبر عنه في كلامه بالتوسط في التكليف.
ويرد على ما أفاده
: أولا : ما عرفت من أن اختيار المكلف أحد الأطراف لرفع اضطراره لا يوجب سقوط حكمه
الواقعي. ودعوى انه بالاختيار يكون مصداقا للمضطر إليه واضحة الفساد ، فان
الاضطرار إلى الجامع لا ينقلب اضطرارا إلى الفرد المعين بإرادة المكلف واختياره.
وثانيا : انه على
تقدير تسليم سقوط الحرمة الواقعية عما يختاره المكلف خارجا ، كيف يعقل الحكم
بحرمته إلى زمان اختيار المكلف له ، فان تحريم الشيء انما
__________________
هو لأن يكون رادعا
للمكلف عن اختياره ، وسادا لطريقه ، فكيف يعقل أن يكون مغيا به ومرتفعا عند حصوله
، فلا مناص عن الالتزام بكون ما يختاره المكلف محكوما بالحلية من أول الأمر ، ومعه
لا يبقى مجال لدعوى العلم بالتكليف على كل تقدير ، فلا بد من القول بجريان البراءة
في الطرف الآخر فيما إذا كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم الإجمالي ،
كما هو الحال في الاضطرار إلى المعين.
وبالجملة الالتزام
بسقوط التكليف في ما يختاره المكلف رافعا لاضطراره لا يجتمع مع القول بالتنجيز في
الطرف الآخر ، فلا بد من الالتزام بعدم سقوط التكليف فيه كما اخترناه ، أو بعدم
التنجيز في الطرف الآخر أيضا كما اختاره صاحب الكفاية ، وقد عرفت ان الصحيح ما
ذكرناه ، هذا كله في الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة التحريمية.
ومنه يظهر الحال
في الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وانه لا موجب لرفع اليد عن
الوجوب الواقعي مع عدم الاضطرار إلى تركه ، إلّا انه مع ذلك لا مناص من الترخيص في
ترك بعض الأطراف ظاهرا دفعا للاضطرار ، ونتيجة ذلك هو الالتزام بالتوسط في التنجيز
، بمعنى ان الواجب الواقعي يصح العقاب على مخالفته لو تركه المكلف قطعا بتركه جميع
الأطراف ، واما إذا ترك من الأطراف بمقدار يرتفع به اضطراره فلا يصح العقاب على
مخالفته لو صادف الحرام الواقعي ، وعليه فاللازم هو الإتيان بأطراف الشبهة بمقدار
الإمكان ، واختصاص الترخيص في الترك بالوجودات المتأخرة على خلاف ما ذكر في الشبهة
التحريمية.
التنبيه التاسع : ذكر الشيخ رحمهالله من شرائط تنجيز العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية كون
جميع أطرافه داخلة في محل الابتلاء ، ليتمكن المكلف عادة من
__________________
ارتكاب كل منها
وعدمه. وذهب إلى عدم تنجيزه فيما إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ، وذلك
لأنه يعتبر في صحة التكليف الفعلي بشيء كونه في محل الابتلاء ، وإمكان تعلق إرادة
المكلف بإيجاده عادة ، وإلّا كان الزجر عنه مستهجنا ، وعليه فلو كان بعض أطراف
العلم الإجمالي خارجا عن مورد الابتلاء لم يكن معه علم بتكليف فعلي ، إذ يدور أمره
بين كونه فعليا أو مشروطا بشرط غير حاصل ، فيجري الأصل حينئذ في الطرف المحتمل فيه
التكليف الفعلي بلا معارض.
ولم يفرق المحقق
الخراسانيّ في هامش الكفاية بين الشبهة الوجوبية والتحريمية بدعوى : ان ما ذكر من الملاك لصحة التكليف التحريمي وهو
إمكان تعلق إرادة المكلف بالفعل عادة جار في التكليف الوجوبيّ أيضا ، إذ يعتبر في
صحته إمكان تعلق إرادة المكلف بالترك عادة ، وعليه فيعتبر في تنجيز العلم الإجمالي
في الشبهة الوجوبية أن لا يكون بعض الأطراف مما يوجد بطبعه في الخارج.
وأورد عليه المحقق
النائيني بان متعلق التكاليف الوجوبية لما كان هو الفعل ، وهو يستند
إلى الاختيار حتى إذا كان مفروض التحقق عادة ، ولو لم يكن إيجاب مولوي صح تعلق
التكليف به ، ولا يكون ذلك من التكليف المستهجن ، وهذا بخلاف متعلق التكاليف
التحريمية ، فانه الترك ، فإذا كان حاصلا بنفسه عادة من غير دخل لاختيار المكلف
فيه يكون النهي عنه مستهجنا. ثم أفاد بعد ذلك ان الميزان في صحة التكليف انما هو
إمكان داعويته للمكلف أو زاجريته ، لا فعلية ذلك ، فكل فعل أو ترك يستند إلى
اختيار المكلف يصح تعلق التكليف به ولو كان ذلك حاصلا عادة ،
أقول : ما أفاده
المحقق النائيني من الميزان في صحة التكليف متين جدا ، وقد
__________________
ثبت في الشريعة
تحريم الزنا بالأمهات ، وتحريم أكل بعض القاذورات ونحوها مما لا يرغب فيه الإنسان
بطبعه مع قطع النّظر عن تحريمه ، والسر في صحة التكليف في هذه الموارد ان الترك
فيها مستند إلى اختيار المكلف ، فلا يقبح التكليف به.
وتوهم لزوم
اللغوية من جعل الحكم على نحو العموم ليشمل من يكون تاركا لمتعلق النهي بنفسه
وبطبعه.
مدفوع بان مصلحة
جعل التحريم ليس مجرد حصول الترك في الخارج ، بل هو مع جعل الداعي إلى المكلف
إمكانا ليجعل نهي المولى داعيا إلى الترك ، ويكون بذلك مطيعا له ومتقربا منه ،
فيكمل بذلك نفسه ، ويرتفع به مقامه كما هو الغرض الأقصى من التشريع كله.
واما ما ذكره من
قبح جعل الحرمة للشيء الخارج عن محل الابتلاء فغير تام ، لأن الشيء الخارج عن محل
الابتلاء إذا صح تعلق التكليف الوجوبيّ به كما هو مفروض كلامه فلا بد وأن يكون
مقدورا ، وإذا كان فعله مقدورا فلا بد وأن يكون تركه أيضا اختياريا ، ومعه يصح
تعلق النهي به لا محالة.
وبعبارة أخرى :
الفعل الممكن إذا كان وجوده مستندا إلى اختيار الفاعل فعدمه يستند إلى اختياره لا
محالة ، وعليه فالعلم الإجمالي بالتكليف مطلقا ، وجوبيا كان أو تحريميا ، ينجز
معلومه ولو كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء ، لأنه علم بالتكليف الفعلي على
كل تقدير. نعم إذا كان الخارج عن محل الابتلاء غير مقدور للمكلف عقلا ، أو كان
صدوره منه ممتنعا عادة كما في كثير من الأمثلة المذكورة في المقام لم يكن العلم
الإجمالي حينئذ منجزا ، لانتفاء الأمر الأول الّذي ذكره الشيخ رحمهالله شرطا في تنجيز العلم الإجمالي ، وهو اعتبار القدرة في جميع
أطرافه ، لا من جهة الخروج عن محل الابتلاء.
وحاصل الكلام انه
لا يعتبر في صحة التكليف أزيد من القدرة العقلية على
متعلقه ، وكونه
مستندا إلى اختياره فعلا وتركا ، فكل ما كان بعض الأطراف غير مقدور للمكلف عقلا
بان كان الترك أو الفعل فيه غير مستند إلى اختيار المكلف لم يكن العلم الإجمالي
فيه منجزا ، لأنه لا يكون حينئذ علما بالتكليف الفعلي. وكل ما كان جميع الأطراف
تحت قدرته واختياره وان كان بعضها خارجا عن محل الابتلاء بالمعنى الّذي ذكروه كان
العلم فيه منجزا ، لصحة التكليف لكل من الأطراف على الفرض ، فالعلم بالتكليف
المردد بينها يكون علما بالحكم الفعلي ، الّذي قد عرفت انه معه لا يجري الأصل في
شيء من الأطراف ، فكان احتمال التكليف في كل طرف ملازما لاحتمال العقاب لا محالة.
وبالجملة ان
اعتبار كون الفعل في محل الابتلاء زائدا على القدرة عليه في حسن النهي عنه انما
يتم في التكاليف العرفية ، التي لا يكون الغرض منها غير حصول متعلقاتها في الخارج
فعلا أو تركا. واما التكاليف الشرعية فالغرض منها كما عرفت في بحث التعبدي
والتوصلي انما هو تكميل النفوس البشرية بجعلها داعية إلى الفعل أو الترك ، ليحصل
بذلك القرب من المولى سبحانه ، من دون فرق فيها بين التعبديات التي لا يسقط
التكليف فيها بغير قصد القربة والتوصليات التي يسقط التكليف فيها بغير الامتثال
أيضا ، ولو لا ما ذكرناه من الغرض في التكاليف الشرعية لم يصح الزجر عما لا يوجد
الداعي إلى فعله دائما أو غالبا ، كنكاح الأمهات ، وأكل لحوم الإنسان والقاذورات
ونحوهما ، فوقوع مثل هذه النواهي أقوى دليل على عدم اعتبار شيء أزيد من القدرة
العقلية ، وإمكان صدور الفعل من المكلف في صحة الزجر عنه وحسنه.
ثم ان قصد القربة
المعتبر في صحة العمل العبادي ، وفي تحقق الامتثال ولو في غير العبادي قد يزاحمه
وجود الداعي النفسانيّ إلى الفعل أو الترك ، وقد لا يزاحمه ، فيتحقق الامتثال في
الخارج ، ويتقرب العبد من المولى وان كان له داعي
نفساني أيضا ،
وتوضيح ذلك ان قصد القربة إذا انضم إليه الداعي النفسانيّ فهو يتصور على وجوه.
الأول : أن يكون
الداعي للمكلف فعلا نحو الفعل أو الترك أمر المولى وتكليفه ، ولا يكون الداعي
النفسانيّ الموجود معه إلّا مندكا فيه كالحجر في جنب الإنسان. وهذا لا إشكال في
صحة العبادة معه ، وتحقق التقرب به مطلقا.
الثاني : ان ينعكس
الأمر ، بان يكون الداعي الفعلي للمكلف نحو العلم مجرد ميله النفسانيّ ، وكان قصد
القربة تابعا ومندكا فيه بحيث لو لم يكن في البين تكليف لأتى بالعمل أيضا. وهذا لا
إشكال في فساد العبادة معه ، وفي عدم حصول التقرب مطلقا.
الثالث : أن يكون
الداعي له كلا الأمرين ، ويتصور هذا على قسمين.
الأول : أن يكون
لكل من الأمرين دخل في تحقق الفعل أو الترك ، بان يكون كل منهما جزء السبب. ولا
إشكال معه في فساد العبادة ، وعدم حصول القربة لقوله تعالى انا خير شريك من عمل لي
ولغيري جعلته لغيري.
القسم الثاني : أن
يكون كل من الداعيين تام السببية ، كما لو فرضنا حرارة الهواء بحيث لو لم يكن من
المولى تكليف بالغسل لكان المكلف مستعملا للماء لأجل تبريد بدنه ، ولكن لو لم يكن
الهواء حار لكان مجرد أمر المولى كافيا في محركيته للعبد وخضوعه لمولاه. وقد وقع
النزاع في حصول التقرب ، وصحة العمل العبادي في هذا القسم. إلّا ان الظاهر حصول
التقرب فيه ، إذ العبد حينئذ لا يتمكن من أن يجعل داعيه خصوص أمر المولى ، فليس
عليه إلّا ان يسند العمل إلى مولاه ، بان لا يكون في تحركه عن تحريك المولى قصور
في نفسه ، وانضمام داع آخر إليه قهرا لا يضر بإضافته عمله إلى مولاه ، وكونه تام
العبودية في مقام الامتثال. ولو لا ما ذكرناه لم يحكم بصحة صوم من لا يبطل صومه
عند الناس بطبعه تحفظا على مقامه وشرافته ،
ولو كان الأمر
بالصوم كافيا في ردعه عن الابطال أيضا ، كما هو الحال في أكثر المتدينين بل جميعهم
، وهكذا الحال في غير الصوم من الواجبات الإلهية ، ومن الواضح ان الالتزام بالفساد
فيها بديهي الفساد ، وإذا صح التقرب بذلك ظهر صحة النهي عما لا يكون للمكلف داعي
إلى فعله غالبا أو دائما ، فانه في مثل ذلك يكون الداعي الفعلي إلى الترك كلا
الأمرين من الداعي النفسانيّ والتكليف الإلهي على نحو يصلح كل منهما للداعوية
مستقلا ، وقد عرفت انه يكفي في حصول التقرب من المولى الّذي هو الغاية القصوى من
التكليف.
(بقي أمران) الأول
: انه بناء على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف وحسنه ، إذا شككنا
في كون بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه
وعدم تعين حده ، فهل يرجع فيه إلى الإطلاقات ، أو إلى أصالة البراءة في الطرف المبتلى
به؟ وجهان. ذهب شيخنا الأنصاري رحمهالله إلى الأول بدعوى انه لا بد من التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات ما لم
يثبت التقييد ، ولازم ذلك هو العلم بالتكليف الفعلي الموجب لعدم جريان الأصول في
أطرافه. وذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، بتقريب : ان التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات انما يتم
فيما إذا صح الإطلاق ثبوتا ، ليستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات الإطلاق في مقام
الثبوت ، ومع الشك في صحة الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا.
والتحقيق : كما
ذهب إليه المحقق النائيني رحمهالله صحة ما أفاده الشيخ قدسسره والوجه فيه ان بناء العقلاء أنما هو على حجية ظاهر كلام
المولى ما لم تثبت قرينة عقلية أو
__________________
نقلية على خلافه ،
وليس احتمال استحالة جعل الحكم أو عمومه أو إطلاقه قرينة على إرادة خلاف الظاهر ،
فإذا امر المولى باتباع قول العادل وترتيب الأثر عليه ، واحتملنا استحالة حجيته
لاستلزامه الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة لا يكون هذا الاحتمال عذرا في
مخالفة ظاهر كلام المولى ، وعدم تطبيق العمل على قوله. ومثل ذلك ما إذا أمر المولى
إكرام كل عالم ، واحتملنا وجود المفسدة في إكرام العالم الفاسق ، المقتضية لعدم
صحة الأمر بالكرامة من الحكيم ، فان هذا الاحتمال لا يكون عذرا في عدم الأخذ بظاهر
كلام المولى في إكرام العالم الفاسق. والمتحصل من ذلك ان الإطلاق في مقام الإثبات
كاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت ما لم يثبت استحالته بدليل قطعي.
ومما ذكرنا يظهر
الحال فيما إذا شك في اعتبار أصل الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف وحسنه ،
فان المرجع فيه أيضا هو الإطلاق ، الموجب للعلم بالتكليف الفعلي ، المانع عن
الرجوع إلى البراءة في الأطراف.
الأمر الثاني :
إذا شككنا في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن تحت القدرة العقلية ، أو خروجه عن
محل الابتلاء لشبهة مصداقية ، بناء على ما ذكروه من كونه مانعا من تنجيز العلم
الإجمالي ، فهل يرجع إلى البراءة في غيره من الأطراف ، وعليه فتقل ثمرة النزاع
بيننا وبين القائل بمانعية الخروج عن محل الابتلاء عن تنجيز العلم الإجمالي ، فان
غالب موارد الخروج عن محل الابتلاء يكون من موارد الشك في القدرة ، أو ان المرجع
فيه هو الإطلاق أيضا؟ الظاهر هو الأول ، لما ذكرناه في محله من عدم جواز التمسك
بالعموم في الشبهات المصداقية ، ولا سيما في موارد التخصيصات اللبية ، خصوصا إذا
كان المخصص اللبي من قبيل القرائن المتصلة كما هو المفروض في المقام.
فان قلت : كيف
تجري البراءة في المقام مع ان الشك في التكليف فيه ناشئ من
الشك في القدرة ،
ومن المتسالم عليه ان الشك في القدرة لا يكون موردا للبراءة فإذا شك المكلف في
قدرته على حفر الأرض لدفن ميت فهل تحتمل جواز تركه باحتمال العجز عن الامتثال.
قلت : انما لا
يجوز الرجوع إلى البراءة عند الشك في القدرة فيما علم فوات غرض المولى بالرجوع إلى
البراءة يقينا ، ولم يحرز استناد ذلك إلى عدم القدرة أو إلى التقصير في الامتثال
كما هو المفروض في المثال ، ففي مثل هذا لا بد من الفحص ، فان تمكن المكلف من
الامتثال فهو ، وإلّا كان الفوات مستندا إلى عجزه دون تقصيره. واما فيما لم يعلم
ذلك ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة والمقام من هذا القبيل إذا لم يحرز وجود غرض
للمولى في الطرف المبتلى به أو المحرز قدرة المكلف عليه ، فلا يلزم من الرجوع إلى
البراءة فيه إلّا احتمال فوات الغرض الثابت في جميع موارد الرجوع إلى البراءة.
فان قلت : سلمنا
انه لا مانع من الرجوع إلى البراءة في الطرف المبتلى به ، أو المتيقن قدرة المكلف عليه
، إلّا ان شمول دليل البراءة له معارض بشموله للطرف الآخر ، فيسقطان بالتعارض ،
فلا رافع لاحتمال العقاب الموجب لتنجز الواقع على تقدير المصادفة.
قلت : ما هو
المانع من التمسك بالإطلاق في المقام وهو كون الشبهة مصداقية مانع عن التمسك بدليل
البراءة في غير الطرف المبتلى به أو المحرز قدرة المكلف عليه ، فان كل مورد لا
يكون قابلا لوضع التكليف فيه لا يكون قابلا للرفع أيضا ، فإذا احتملنا عدم القدرة
أو ما بحكمها في بعض الأطراف لا يمكننا التمسك بدليل البراءة لكون الشبهة مصداقية
، فلا مانع من الرجوع إليها في غيره من الأطراف.
التنبيه العاشر : كما تعتبر القدرة التكوينية على ارتكاب جميع الأطراف في
تنجيز العلم الإجمالي تعتبر القدرة الشرعية عليه ، ومع عدمها في بعض الأطراف لا
يكون العلم
الإجمالي منجزا. فلو علم المكلف بنجاسة أحد ثوبين كان أحدهما المعين مغصوبا لم يكن
مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في غير المغصوب ، ولا يعارض ذلك بجريان القاعدة
في المغصوب ، لعدم ترتب أثر عملي على جريانها فيه بعد العلم بحرمة استعماله على
تقديري الطهارة والنجاسة ، فالأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وقد مر مرارا انّ
تنجيز العلم الإجمالي يدور مدار تساقط الأصول في أطرافه.
التنبيه الحادي عشر : إذا كان الأصل
الجاري في بعض أطراف العلم الإجمالي في مرتبة سابقة على الأصل الجاري في البعض
الآخر ، كما لو علم بوقوع
نجاسة في الماء أو التراب مع فرض انحصار الطهور بهما ، فهل يكون مثل هذا العلم
موجبا لتساقط الأصول الطولية في أطرافه ، أو لا يكون موجبا لسقوط الأصل الجاري في
الماء ، لتقدم رتبته على الأصل الجاري في التراب؟ وعلى الأول ، فهل يحكم لذلك
بفقدان المكلف للطهورين ، أو انه يجب عليه تحصيل الطهارة اليقينية بالجمع بين
الوضوء والتيمم ، غاية الأمر انه يحتمل نجاسة بدنه بملاقاة الماء المحتمل نجاسته؟
وسيجيء ان الحكم في ملاقي الشبهة المحصورة هو الطهارة ، وجوه بل أقوال :
اختار المحقق
النائيني رحمهالله عدم تنجيز العلم الإجمالي وجريان الأصل في الماء بلا معارض ، بتقريب : ان تنجيز
العلم بوقوع النجاسة يتوقف على كونه منشأ للعلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ،
وهذا مفقود في المقام ، إذ النجاسة على تقدير وقوعها في التراب لم يترتب عليها عدم
جواز التيمم به ، بل عدم جواز التيمم حينئذ من جهة تمكنه من الماء الطاهر ، لا من
جهة نجاسة التراب. وبعبارة أخرى نعلم تفصيلا ان النجاسة المعلومة في البين لم
يترتب عليها عدم جواز التيمم بالتراب ،
__________________
فانها ان كانت
واقعة في الماء فهي مقتضية لجواز التيمم لا لعدم جوازه ، وان كانت واقعة في التراب
فعدم جواز التيمم مستند إلى وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب ، وعليه فلا
معارض لجريان أصالة الطهارة في الماء ، وبذلك يرتفع موضوع جواز التيمم ، وهو عدم
التمكن من الماء.
وما أفاده قدسسره انما يتم فيما إذا لم يكن لنجاسة التراب أثر آخر في عرض
الأثر المترتب على نجاسة الماء ، واما فيما إذا كان ذلك كعدم جواز السجود عليه ،
فالأصل الجاري في الماء لجواز الوضوء به يعارض الأصل الجاري في التراب لجواز
السجود عليه ، فيتساقطان ، وحينئذ يمكن القول بوجوب التيمم عليه ، نظرا إلى ان
المكلف فاقد للماء ، وليس في البين إلّا احتمال عدم جواز التيمم بالتراب ، لاحتمال
نجاسته ، وبما انه احتمال غير مقرون بالعلم الإجمالي يجري فيه أصالة الطهارة من
غير معارض ، وقد مر غير مرة انه لا مانع من التفكيك في جريان الأصل من جهة دون
جهة.
إلّا ان التحقيق
في المقام : انه لو لم يكن أثر شرعي للتراب سوى جواز التيمم به ، كما إذا فرضنا ان
المكلف غير مكلف بالسجدة لكون وظيفته الإيماء ، أو كان التراب مما لا يمكن السجود
عليه عقلا لكونه في مكان مرتفع ، أو شرعا كما إذا كان مملوكا لغيره ولم يأذن في
السجود عليه ، فالعلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة الماء لا يترتب عليه سقوط أصالة
الطهارة في الماء كما عرفت. واما فيما كان له أثر آخر كجواز السجود عليه ، فالظاهر
وجوب الجمع حينئذ بين الوضوء والتيمم ، ولا وجه لما ذكر من إدراج ذلك في فاقد
الماء ، والحكم عليه بوجوب التيمم ، لأن فقدان الماء الّذي هو الموضوع لجواز
التيمم انما يتحقق في موارد :
الأول : فيما إذا
لم يتمكن المكلف من استعمال الماء وجدانا لعدم وجوده أو لعدم القدرة على استعماله.
الثاني : ما إذا
لم يتمكن من استعماله شرعا لحرمته ، أو لحكم الشارع بفساده.
الثالث : ما إذا
لم يتمكن من استعماله عقلا مع التمكن من استعماله وجدانا واحتمال جوازه شرعا ، كما
إذا علم بكون أحد الماءين غصبا ، فان كلا من الماءين يحتمل جواز استعماله شرعا ،
إلّا انه ممنوع بحكم العقل ، لاحتمال الضرر وهو العقاب.
وشيء من هذه
الأمور غير متحقق في المقام ، أو انه غير محرز التحقق. اما عدم التمكن من استعماله
وجدانا ، فعدم تحققه ظاهر. واما عدم التمكن منه بحكم العقل فكذلك ، لعدم احتمال
العقاب في التوضي بالماء النجس. غايته انه لا يجزي في مقام الامتثال. واما عدم
التمكن منه شرعا فهو أيضا غير متحقق لو كان المانع الحرمة التكليفية ، لما عرفت من
عدم حرمة التوضي بالماء النجس إذا لم يكن بقصد التشريع كما هو المفروض ، نعم المنع
الشرعي من جهة الحرمة الوضعيّة امر يحتمل تحققه ، إلّا انه غير محرز ، والعلم
بوجوب الوضوء أو التيمم يقتضي الجمع بينهما.
وان شئت قلت : ان
العلم بنجاسة الماء أو التراب بعد فرض تساقط الأصول فيهما لا يترتب عليه إلّا عدم
جواز الاجتزاء بالوضوء بذلك الماء في مقام الامتثال ، وهو لا ينافي وجوبه لعلم
إجمالي آخر بوجوبه ، أو بوجوب التيمم ، إذ المفروض تمكن المكلف من تحصيل الطهارة
المائية أو الترابية. ومن ذلك يظهر بطلان القول بجريان حكم فاقد الطهورين عليه.
ثم ان الأحوط في
محل الكلام تقديم التيمم على الوضوء ، بناء على اشتراط طهارة الأعضاء في صحة
التيمم كما هو المعروف ، إذ التيمم على تقدير وجوبه مشروط بوقوعه على الأعضاء
الطاهرة ، وهو لا يتحقق إلّا مع تقديمه على الوضوء كما هو ظاهر. بل ربما يقال بعدم
صحة العمل الفاقد للشرط إذا كان تفويت الشرط
بجعل المكلف نفسه
عاجزا عن تحصيله اختيارا ، فانه بناء عليه يقطع بفساد التيمم إذا وقع بعد الوضوء ،
لعدم الأمر به ، اما لنجاسة التراب ، أو لتفويت المكلف شرط صحة التيمم اختيارا.
التنبيه الثاني عشر : ان ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة هل يجري عليه حكم نفس
الأطراف في وجوب الاجتناب عنه مطلقا ، أو لا يجري كذلك ، أو فيه تفصيل؟ وجوه بل
أقوال. وقبل الخوض في ذلك لا بد من بيان امرين.
الأول : ان محل
الكلام انما هو فيما إذا كانت الملاقاة مختصة ببعض الأطراف. واما إذا فرضنا ان كل
واحد من الأطراف لاقى شيئا معينا فلا ينبغي الإشكال في وجوب الاجتناب عن الملاقيات
، كوجوب الاجتناب عن نفس الأطراف ، وذلك لعلم إجمالي آخر بوجود نجاسة بينها زائدا
على النجاسة المعلومة في نفس الأطراف.
الثاني : ان تساقط
الأصول المتوقف عليه تنجيز العلم الإجمالي انما يكون مع العلم بالموضوع التام
للحكم ، كما هو الغالب في الشبهات الموضوعية. واما فيما لم يعلم إلّا جزء الموضوع
فلا مانع من جريان الأصل ، والحكم بعدم تحقق تمام الموضوع عند الشك فيه ، مثلا
جواز القصاص حكم مترتب على قتل المؤمن ، فموضوعه مركب من تحقق القتل وكون متعلقه
مؤمنا ، فإذا علمنا إجمالا بكون أحد الشخصين مؤمنا محقون الدم ، فالعلم الإجمالي
وان كان موجبا لتساقط الأصول في أطرافه ، فلا يجوز قتل كل منهما ، إلّا انه إذا
قتل أحدهما فليس للحاكم أن يقتص من القاتل ، لعدم إحراز كونه قاتل مؤمن ، بل مقتضى
الأصل عدم قتل المؤمن المترتب عليه القصاص. ومن هذا القبيل ما إذا علم كون أحد
الجسدين ميت إنسان لم يغسل بعد ، فان هذا العلم الإجمالي وان كان يقتضي وجوب
الاجتناب عن أكل كل من اللحمين ، إلّا انه إذا تحقق مس أحدهما لا يحكم فيه بوجوب
الغسل ، لأنه حكم
مترتب على عنوان
مس ميت الآدمي ، وهو مشكوك التحقق ، والأصل عدمه ، والسر في ذلك ان العلم الإجمالي
إذا تعلق بثبوت التكليف الفعلي فالشك في كل من أطرافه انما يكون شكا في انطباق
المعلوم بالإجمال عليه ، ومعه لا يمكن الرجوع إلى الأصل النافي ، لا في جميع
الأطراف ، ولا في بعضها ، كما عرفت وجهه فيما تقدم. واما إذا كان الشك في أصل ثبوت
التكليف كما في المثالين ، فلا مانع فيه من الرجوع إلى الأصل ، وترتيب أثره عليه.
وما ذكرناه فيما
أحرز كون المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للحكم أو جزئه في غاية الوضوح ، إلّا انه
ربما يستشكل في بعض الموارد ، فقد يحكم فيه بتنجيز العلم الإجمالي بدعوى انه مندرج
تحت العلم بالحكم الفعلي ، وقد يحكم بعدم تنجيزه بدعوى انه من العلم بجزء الموضوع
لا بتمامه ، مثاله ما إذا علم إجمالا بغصبية إحدى الشجرتين فتجدد لإحديهما ثمرة
دون الأخرى ، فقد يقال فيه بجواز التصرف في الثمرة تكليفا ، وبعدم ضمانها وضعا ،
نظرا إلى ان الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء المغصوب ، وهو مشكوك فيه ، كما ان
موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير ، وهو أيضا مشكوك فيه ، فالعلم بغصبية إحدى
الشجرتين لا يترتب عليه إلّا حرمة التصرف فيهما ، وضمان المكلف للمغصوب منهما بوضع
يده عليه. واما حرمة التصرف في الثمرة أو ضمانها فهي غير مترتبة على العلم المزبور
، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيها في نفي الحكم التكليفي والوضعي.
وقد أورد المحقق
النائيني عليه بما حاصله : ان وضع اليد على العين المغصوبة موجب لضمانها وضمان
منافعها إلى الأبد ، ومن ثم جاز للمالك الرجوع إلى الغاصب الأول في المنافع
المتجددة بعد خروج العين عن يده ودخولها تحت الأيادي
__________________
المتأخرة ، فالعلم
الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتب عليه ضمان نفس العين المغصوبة يترتب عليه
ضمان منافعها المتأخرة ، هذا من جهة الحكم الوضعي. واما من حيث الحكم التكليفي ،
فحرمة الثمرة وان لم تكن موجودة من الأول ، لعدم موضوعها ، إلّا ان ملاكها قد تم
بغصب العين الموجب لكون اليد عادية بالإضافة إلى نفس العين ومنافعها الموجودة وغير
الموجودة بالفعل.
والصحيح : عدم
تمامية ما أفاده ، لا من جهة الحكم الوضعي ، ولا من جهة الحكم التكليفي.
اما من جهة الحكم
الوضعي ، فلأنّ الحكم بضمان المنافع المتجددة بغصب العين يتوقف على امرين.
الأول : إحراز كون
المنافع منافع العين المغصوبة ، ومع الشك في ذلك كما في المقام لا يحكم بالضمان ،
ضرورة ان إحراز الكبرى الكلية لا يترتب عليه الحكم في الموضوع الخارجي ما لم يحرز
كونه من صغرياتها.
الثاني : إحراز
وضع اليد على العين المغصوبة ، فما لم يحرز ذلك لا يحكم بضمان منافعها ، كما لا
يحكم بضمان أصلها ، فإذا فرضنا انه في فرض العلم بغصبية إحدى الشجرتين لم توضع
اليد إلّا على إحداهما فيما انه لم يحرز كونه من وضع اليد على العين المغصوبة لا
يحكم بكونه سببا لضمان العين ، فضلا عن ضمان منافعها.
واما الحكم
التكليفي ، فلأنّا لا نتعقل ثبوت ملاك تحريم المنافع قبل وجودها خارجة ، فان حرمة
التصرف في مال الغير انما تثبت بعد ثبوت موضوعه في الخارج ، ومع عدم تحققه لا معنى
لتحقق ملاك التحريم ، كما لا معنى لثبوت نفسه.
والتحقيق ان يقال
: ان العينين المعلوم غصبية إحداهما قد تكونان مسبوقتين بملكية الغير بهما ، وقد
لا يكونان كذلك.
اما الصورة الأولى
: كما إذا فرضنا انه انتقلت إحدى الشجرتين إلى شخص وغصب الأخرى ، ثم اشتبهتا ،
فحصل لإحداهما نماء دون الأخرى ، فالصحيح فيها الحكم بضمان المنافع وحرمة التصرف
فيها ، عملا باستصحاب بقاء أصل الشجرة على ملك مالكها وعدم انتقالها إليه ، ومقتضى
ذلك الحكم بمالكية المنافع لمالك الشجرة ، فيحرم التصرف فيها بغير اذنه ، ويضمنها
لكون اليد عليها يد عادية.
فان قلت : ان
استصحاب بقاء الشجرة ذات النماء على ملك مالكها الأصلي معارض باستصحاب بقاء الشجرة
الأخرى على ملك مالكها ، للعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ، فإجراء الأصل في
الأولى دون الثانية ترجيح بلا مرجح ، قلت : لا معارضة بين الاستصحابين بعد ما عرفت
سابقا من ان العلم بالمخالفة الواقعية في أحد الاستصحابين على الإجمال لا يمنع
جريانهما إذا لم يستلزم المخالفة العملية ، كما هو المفروض في المقام ، وعليه
فيحكم بحرمة التصرف في كل من الشجرتين ، وبضمان المنافع المتجددة.
واما الصورة
الثانية : كما لو خرج شخصان للصيد ، وصاد كل منهما صيدا ، فغصب أحدهما ما اصطاده
الآخر ، ثم اشتبها ، فحصل لأحدهما نماء دون الآخر ، فالظاهر فيها عدم الحكم بضمان
المنافع ، لعدم إحراز كون النماء ولا العين مملوكة للغير في زمان ليستصحب ذلك ،
واستصحاب عدم دخول الماء في ملك من بيده العين لا أثر له في إثبات الضمان ، لأنه
مترتب على وضع اليد على ملك الغير ، لا على وضعها على غير مملوكه ، ومن الظاهر انه
لا يثبت موضوع الضمان بالأصل المزبور.
واما جواز التصرف
في ذلك وعدمه ، فيبتنيان على النزاع المعروف في جريان أصالة البراءة في الأموال
وعدمه. فعلى الأول لا مانع من التصرف في النماء ، لعدم إحراز كونه مال الغير ،
وعلى الثاني لا بد من الاحتياط. لكن الظاهر هو الأول ، فان أدلة البراءة عامة ،
ولم يرد ما يوجب تخصيصها بغير الأموال إلّا ما ربما يقال من
قوله عليهالسلام «لا يحل مال إلّا
من وجه أحله الله» يدل على أن كل مال لا بد في حليته من سبب يوجبها ، فمهما
شك في تحققه يحكم بعدمه ، وهو غير صالح للتخصيص.
اما أولا : فلان
الشك في الحلية والحرمة من أسباب الحلية شرعا ، فالحكم بالحلية ناشئ من إحراز
موضوعه ، ولا مجال معه لاستصحاب عدم تحقق السبب.
وثانيا : ان الشك
في الحرمة في مفروض المثال ناشئ من احتمال دخول النماء في ملك الغير ، والاستصحاب
يقتضي عدمه ، وبه يحرز عدم المنع شرعا ، بناء على جريان الاستصحاب في الاعدام
الأزلية كما هو المختار ، ولا يعارض ذلك باستصحاب عدم دخوله في ملكه ، إذ لا يثبت
بذلك كونه ملكا للغير ، الّذي هو الموضوع لحرمة التصرف.
وبما ذكرنا يظهر
صحة جريان الاستصحاب في العين المرددة بين ملك الشخص وملك غيره في غير موارد العلم
الإجمالي ، هذا في التصرفات غير المتوقفة على الملك. واما التصرف المتوقف عليه ،
كالبيع ونحوه ، فلا ينبغي الشك في عدم ترتب آثاره ، والوجه فيه ظاهر.
إذا عرفت ذلك ،
فيقع الكلام في مسائل ثلاث.
الأولى : ما إذا
علم نجاسة أحد الشيئين ثم حصلت الملاقاة.
الثانية : فيما
إذا تحققت الملاقاة والعلم بها ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو
الطرف الآخر.
الثالثة : ما إذا
حصلت الملاقاة ولكنه لم يعلم المكلف بها إلّا بعد العلم الإجمالي بنجاسة ما لاقاه
أو الطرف الآخر.
__________________
اما المسألة
الأولى : فلا ينبغي الشك فيها في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ، فان وجوب
الاجتناب عن ملاقي النجس قد أخذ في موضوعه أمران : أحدهما الملاقاة ، والثاني
وقوعها على النجس ، وعليه فالعلم بنجاسة أحد الشيئين ليس إلّا علما بما هو جزء
الموضوع لهذا الحكم ، واما الجزء الآخر فلم يكن متحققا في زمان العلم ، فلا يكون
العلم منجزا له ، فيرجع عند الشك فيه إلى أصالة الطهارة.
هذا وربما قيل
بوجوب الاجتناب عن الملاقي أيضا لوجهين :
الأول : ان نجاسة
الملاقي متحدة مع نجاسة الملاقى ، غاية الأمر انها توسعت بالملاقاة ، وثبتت لأمرين
بعد ما كانت ثابتة لأمر واحد ، فهو نظير ما لو قسم ما في أحد الإناءين إلى قسمين ،
فكما انه يجب الاجتناب عن كليهما حينئذ وعن الطرف الآخر تحصيلا للموافقة القطعية ،
كذلك يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف الآخر تحصيلا للقطع بالاجتناب عن
النجاسة المعلومة بالإجمال.
ويرد عليه : انه
انما يتم بناء على القول بسراية النجاسة من الملاقى ـ بالفتح ـ إلى الملاقي ـ بالكسر
ـ سراية حقيقية ، وهو باطل كما بين في محله. واما على القول بان نجاسة الملاقي حكم
مستقل مترتب على الملاقاة مغاير للحكم الثابت لما لاقاه ، فالظاهر ان الاجتناب عن
النجس المعلوم في البين لا يتوقف على الاجتناب عن الملاقي ، غاية الأمر انه يحتمل
حدوث نجاسة جديدة فيه ، والأصل عدمه. ومما يشهد على كون نجاسة الملاقي مغايرة
لنجاسة ما لاقاه ان نجاسة الملاقي للنجس كطهارة المتنجس الملاقي للكر الطاهر ،
فكما ان طهارته مغيرة لطهارة الماء وان كانت ناشئة من ملاقاته ، كذلك نجاسة
الملاقى مغايرة لنجاسة ما لاقاه وان كانت ناشئة في ملاقاته.
هذا وربما يستدل
على كون تنجس الملاقى بالسراية كما عن شيخنا
الأنصاري برواية الكافي عن أبي جعفر عليهالسلام «أتاه رجل فقال
وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : لا تأكله. فقال الرّجل : الفأرة أهون عليّ من أن اترك طعامي
من أجلها ، قال : فقال له أبو جعفر عليهالسلام : انك لم تستخف بالفأرة ، وانما استخففت بدينك ، ان الله
حرم الميتة من كل شيء» تقريب الاستدلال ان السائل لم يرد بقوله الفأرة أهون إلخ
أكل الفأرة في ضمن الزيت أو السمن ، بل أراد أكل السمن أو الزيت الملاقي لها ،
فقول الإمام عليهالسلام في مقام التعريض له «ان الله حرم الميتة من كل شيء» يدل
على انّ أكل الملاقي للميتة ينافي الاجتناب عن نفس الميتة ، فنجاسته وحرمته عين
نجاستها وحرمتها.
والجواب عن ذلك :
انه لا يستفاد من الرواية إلّا ان حرمة الشيء الناشئة من نجاسته ملازمة مع حرمة
ملاقيه ونجاسته من دون فرق بين كثرة الملاقي وقلته ، وكبر ذلك الشيء وصغره ، فكأن
السائل استبعد أن تكون الفأرة على صغرها موجبة لنجاسة ما في الخابية من السمن أو
الزيت ، فأجابه الإمام عليهالسلام بعدم اختصاص حرمة الميتة بشيء دون شيء ، وليس في ذلك دلالة
على ان نجاسة الملاقي وحرمته عين نجاسة الميتة وحرمتها كما هو ظاهر.
الوجه الثاني : ان
العلم الإجمالي بالنجس الموجود بين الطرفين وان لم يكن مقتضيا لوجوب الاجتناب عن
الملاقي كما مر ، إلّا انه يحدث بعد العلم بالملاقاة علم إجمالي آخر بوجود نجس في
الملاقي أو الطرف الآخر ، وهذا العلم مما لا مجال لإنكاره بعد فرض الملازمة بين
نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه واقعا ، ومن ثم لو فرض انعدام الملاقى ـ بالفتح ـ كان
العلم بالنجاسة المرددة بين الملاقي والطرف الآخر موجودا لا محالة.
__________________
نعم لو فرضنا حصول
الملاقاة بعد انعدام الطرف الآخر لم يكن العلم الثاني مؤثرا في التنجيز ، لعدم
كونه علما بالتكليف الفعلي الموجب لتساقط الأصول في الأطراف.
وقد أجاب شيخنا
الأنصاري قدسسره عن هذا الوجه بما حاصله ان العلم الإجمالي بالنجاسة وان كان حاصلا بين الملاقي
والطرف الآخر إلّا انه لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي ، إذ المفروض سقوط الأصل
الجاري في الطرف الآخر قبل حدوث العلم الثاني ، وعليه فليس العلم الثاني علما
بالتكليف الحادث غير التكليف الأول ، إذ المفروض احتمال أن يكون النجس هو الطرف
الآخر المفروض تنجز حكمه بالعلم السابق ، وقد عرفت فيما مر انه يشترط في تنجيز
العلم الإجمالي ان لا يكون التكليف في بعض أطرافه متنجزا بمنجز سابق على العلم ،
إذ معه لا يبقى إلّا احتمال حدوث التكليف في الطرف الآخر ، ولا مانع معه من الرجوع
إلى الأصل النافي ، وبما ان أصالة الطهارة في مفروض الكلام قد فرض سقوطها في الطرف
الآخر قبل العلم الثاني فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الملاقي ، أو
استصحاب عدم ملاقاته مع النجس المترتب عليه بقاؤه على طهارته.
ولكن التحقيق : في
المقام هو التفصيل بين ما إذا كان الطرف الآخر مجرى لأصل طولي سليم عن المعارض ،
وما لم يكن كذلك ، فيجري الأصل في الملاقي في الصورة الثانية دون الأولى ، مثال
ذلك انه إذا علم نجاسة الماء أو الثوب ، فقد عرفت فيما مر انه لا يترتب على هذا
العلم إلّا سقوط أصالة الطهارة في كلا الطرفين ، واما أصالة الإباحة في الماء فلا
مانع من جريانها ، فإذا لاقى الثوب شيئا آخر فلا محالة يحدث علم إجمالي جديد
بنجاسته أو حرمة الماء المفروض حليته الظاهرية
__________________
سابقا ، وهذا
العلم الإجمالي يمنع عن الرجوع إلى كلا الأصلين ، لاستلزامه المخالفة القطعية ،
ولا إلى أحدهما بالخصوص لأنه بلا مرجح. واما فيما إذا علم نجاسة أحد الماءين أو
أحد الثوبين فبما انه لا يختص بعض الأطراف بأصل طولي كانت أصالة الطهارة في
الملاقي بلا معارض على ما أفاده الشيخ رحمهالله ،
واما المسألة
الثانية : فهي فيما إذا حصلت الملاقاة والعلم بها ثم حصل العلم الإجمالي بنجاسة
الملاقى أو شيء آخر. وقد وقع الكلام فيها في وجوب الاجتناب عن الملاقي وعدمه ،
فذهب صاحب الكفاية رحمهالله إلى الأول ، نظرا إلى ان العلم الإجمالي كما تعلق بالنجاسة المرددة
بين الملاقي وطرفه ، كذلك تعلق بالنجاسة المرددة بين الملاقي وذاك الطرف ، ففي
الحقيقة الأمر دائر بين نجاسة الملاقى والملاقى ونجاسة الطرف الآخر ، فهو نظير ما
لو علم بوقوع نجاسة في الإناء الكبير أو في الإناءين الصغيرين ، فكما يجب فيه
الاجتناب عن جميع الأواني ، كذلك يجب الاجتناب عن مجموع الملاقي والملاقى والطرف
الآخر. ولا فرق بين المثال وما نحن فيه إلّا في ان نجاسة الملاقي في المقام مسببة
عن نجاسة ما لاقاه ، بخلاف المثال ، ومجرد ذلك لا يكون موجبا لتغير حكمهما بعد كون
نسبة العلم الإجمالي إلى كليهما على حد سواء.
وذهب المحقق
النائيني رحمهالله تبعا لشيخنا الأنصاري رحمهالله إلى الثاني بتقريب : ان الأصل الجاري في الملاقي مقدم رتبة على الأصل
الجاري في ملاقيه ، إذ الشك في نجاسته ناشئة من الشك في نجاسة ما لاقاه ، وعليه
فالمعارضة انما تقع في الأصول الجارية في المرتبة السابقة ، فيبقى الأصل الجاري في
الملاقي بلا معارض.
والتحقيق في
المقام : هو التفصيل ، فان زمان المعلوم بالإجمال قد يكون سابقا على زمان الملاقاة
، وقد يكون متحدا معه.
__________________
اما على الأول :
فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الملاقي ، فلو لاقى أحد الإناءين للثوب يوم
الجمعة ، ثم علم يوم السبت بنجاسة أحد الإناءين يوم الخميس ، فالعلم الحادث يوم
السبت بما انه متعلق بحدوث النجاسة يوم الخميس المرددة بين الإناءين فالشك في
طهارة كل من الإناءين ونجاسته شك في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يجري فيه
الأصل لما مر. واما الشك في نجاسة الثوب وطهارته فهو شك في حدوث نجاسة أخرى بعد
حدوث النجاسة المرددة بين الإناءين بزمان ، ولا مانع من شمول دليل الأصل له بعد
فرض تنجز النجاسة السابقة بالعلم المتأخر ، واحتمال انطباقها على الطرف الآخر
الموجب لعدم جريان الأصل فيه ، فيجري أصالة الطهارة في الثوب بلا معارض.
وبذلك يظهر الفرق
بين المقام والمثال المتقدم ، فان كلا من الإناءين الصغيرين كان عدلا للعلم
الإجمالي ، بخلاف المقام ، إذ المفروض ان النجاسة الحادثة يوم الخميس مرددة بين
خصوص الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف الآخر ، واما نجاسة الثوب الملاقى فهي على تقدير
ثبوتها واقعا نجاسة جديدة غير المعلوم بالإجمال ، وبما انها مشكوكة يجري فيها
الأصل ، كما لو شك في نجاسته من جهة أخرى غير الملاقاة. نعم لو فرض للطرف الآخر
أصل طولي جار فيه قبل العلم بالملاقاة لزم الاجتناب عن الملاقى أيضا ، وقد ظهر
وجهه مما تقدم في الشق الأول.
واما على الثاني :
وهو ما كان زمان الملاقاة متحدا مع زمان المعلوم بالإجمال ، كما إذا فرضنا ثوبا في
إناء فيه ماء ، وعلمنا إجمالا بوقوع نجاسة في ذلك الماء أو في إناء آخر ، فالحق
وجوب الاجتناب عن الملاقى وما لاقاه والطرف الآخر ، وذلك لأن العلم الإجمالي كما
تعلق بنجاسة أحد الإناءين كذلك تعلق بنجاسة الثوب أو الإناء الآخر ، والأصل الجاري
في الملاقى وان كان في مرتبة سابقة على الأصل الجاري في ملاقيه إلّا انه لا يقتضي
اختصاص المعارضة به لوجهين.
الأول : ان السبق
والتأخر الرتبي انما يترتب عليهما الأثر في الأحكام العقلية المترتبة على الرتبة ،
واما الأحكام الشرعية فهي مترتبة على الموجودات الخارجية ، ولا أثر فيها للتقدم أو
التأخر الرتبي ، ومن هنا يحكم بإعادة الوضوء وصلاة الغداة وصلاة الظهر فيما إذا
علم ببطلان وضوئه لصلاة الغداة أو بطلان صلاة الظهر لترك ركن منها ، فان بطلان
صلاة الغداة وان كان في مرتبة متأخرة عن بطلان الوضوء ، والشك فيه مسببا عن الشك
فيه ، إلّا انه لا أثر لذلك بعد تساوي نسبة العلم الإجمالي إلى الجميع ، فتسقط
قاعدة الفراغ فيها ، فيجب قضاء الصلاتين.
الثاني : ان الأصل
الجاري في الملاقي وان كان في مرتبة متأخرة عن الأصل الجاري فيما لاقاه ، إلّا ان
كلا الأصلين في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر بلا تقدم وتأخر بينهما.
ودعوى : ان الأصل
الجاري في الملاقي ـ بالفتح ـ إذا كان في عرض الأصل الجاري في الطرف الآخر فالأصل
المتأخر عنه رتبة متأخر عن الأصل الجاري في الطرف أيضا ، إذ المتأخر عن أحد
المتساويين في الرتبة متأخر عن الآخر أيضا بالضرورة.
مدفوعة : بان ذلك
انما يتم في السبق واللحوق بالزمان أو بالشرف ، والوجه فيه ظاهر ، واما في غير ذلك
من أقسام السبق فقد تقدم ان تأخر شيء عن أحد المتحدين في الرتبة لا يقتضي تأخره عن
الآخر ، فان وجود المعلول متأخر في الرتبة عن وجود علته ، ومع ذلك فهو غير متأخر
عن عدم علته ، مع كون وجود العلة وعدمها في مرتبة واحدة.
وبالجملة لا
اعتبار بالسبق واللحوق الرتبي في جريان الأصول ، وانما الاعتبار بالزماني منهما ،
وعليه فإذا فرض اتحاد زمان الملاقاة وزمان المعلوم بالإجمال فكل من الملاقي
والملاقى طرف للعلم الإجمالي ، فلا بد من الاجتناب
عنهما. ثم انه
يلحق بهذا القسم ما إذا كان العلم بالملاقاة مقارنا مع العلم الإجمالي حدوثا ،
والوجه فيه ظاهر.
واما المسألة
الثالثة : وهي ما إذا تحققت الملاقاة قبل العلم الإجمالي ، ولكن لم يعلم المكلف
بها إلّا بعد حصوله. فلا ينبغي الإشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى فيما إذا
كان زمان المعلوم بالإجمال سابقا على زمان الملاقاة إلّا فيما كان للطرف الآخر أثر
طولي يختص به ، وقد ظهر وجه كل ذلك مما تقدم. واما إذا كان زمان الملاقاة متحدا مع
زمان المعلوم بالإجمال ، فربما يقال : فيه بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقي نظرا إلى
ان العلم الإجمالي لسبقه زمانا على العلم بالملاقاة أوجب سقوط الأصلين في الملاقى ـ
بالفتح ـ وطرفه ، فالشك في نجاسة الملاقي بما انه متأخر عن زمان العلم الإجمالي
وعن سقوط الأصلين المزبورين لا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه ، بل لو فرضنا ان الشك
في نجاسته كان مقارنا للعلم الإجمالي لجرى الأصل فيه أيضا ، لعدم العلم بالملاقاة
في ذلك الزمان ، والمفروض أنه لم يحدث بعد ذلك شيء يوجب سقوط الأصل الجاري فيه.
ولكن الصحيح :
وجوب الاجتناب عنه ، فان العلم الإجمالي وان كان حدوثا متعلقا بنجاسة الملاقى ـ بالفتح
ـ أو الطرف الآخر إلّا أنه بعد العلم بالملاقاة ينقلب إلى العلم بنجاسة الملاقى
والملاقي أو الطرف ، وقد مرّ ان الاعتبار في تساقط الأصول انما هو ببقاء العلم
الإجمالي دون حدوثه ، ونظير ذلك ما إذا علمنا بوقوع نجاسة في الإناء الكبير أو
الصغير ، ثم تبدل العلم المزبور بالعلم بوقوعها في الإناء الكبير أو الإناءين
الصغيرين ، فهل يشك أحد في وجوب الاجتناب عن جميع الأواني أو يتوهم أحد كون سبق
العلم الأول موجبا لاختصاص تنجز الواقع بالإناء الكبير واحد الإناءين الصغيرين ،
وليس ذلك إلّا لما ذكرناه من ان العلم الثاني هو الموجب لسقوط الأصول بقاء دون
العلم الأول المفروض زواله.
بقي الكلام فيما
أفاده صاحب الكفاية من انه قد يجب الاجتناب على الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى
وذكر له موردين .
الأول : ما إذا
علم بالملاقاة ، ثم علم إجمالا نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف الآخر ، ولكن كان
الملاقي حتى حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ، فانه حينئذ تقع المعارضة بين
الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ والأصل الجاري في الطرف الآخر واما الملاقى
فلخروجه عن محل الابتلاء لا يكون مجرى لأصل من الأصول ، وإذا سقط الأصلان
المزبوران وجب الاجتناب عن الملاقي بحكم العقل ، فإذا رجع الملاقي بعد ذلك إلى محل
الابتلاء ودخل تحت قدرة المكلف لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل فيه ، لعدم
ابتلائه بالمعارض ، فيكون حاله حال الملاقي في المسألة الأولى من حيث ان الشك فيه
شك في حدوث حكم جديد ، يرجع فيه إلى الأصل.
المورد الثاني :
ما لو تعلق العلم الإجمالي ابتداء بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو شيء آخر ، ثم حدث
العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو ذلك الشيء من قبل ، مثال ذلك
ما لو علم يوم السبت نجاسة الثوب أو الإناء الكبير ، ثم علم يوم الأحد نجاسة أحد
الإناءين الكبير والصغير يوم الجمعة وملاقاة الثوب للإناء الصغير في ذلك اليوم ،
فان نجاسة الثوب ولو فرض عدم احتمالها من غير ناحية ملاقاة الإناء الصغير إلّا
انها قد تنجزت بالعلم الإجمالي الحادث يوم السبت من جهة تساقط الأصلين في طرفيه ،
واما الإناء الصغير فالشك في نجاسته شك حادث ، ولا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه ،
ولو فرضنا كونه حادثا في يوم السبت أو قبله لم يكن مانع أيضا من الرجوع إلى الأصل
فيه ، إذ المفروض عدم كونه من
__________________
أطراف العلم
الإجمالي ، وبما انه لم يحدث بعد ذلك ما يوجب سقوط الأصل فيه كان الأصل فيه جاريا
بلا معارض.
ولكن التحقيق :
عدم صحة ما أفاده قدسسره في كلا الموردين.
اما المورد الأول
: فلان خروج الشيء عن محل الابتلاء ولو بعدم القدرة عليه لا يمنع جريان الأصل فيه
إذا كان له أثر فعلي ، فلو غسل الثوب المتنجس بماء حين الغفلة عن طهارته ونجاسته ،
ثم انعدم ذلك الماء ، فشك في طهارته ، فهل يشك أحد في جريان أصالة الطهارة فيه
لترتيب طهارة الثوب المغسول به على ذلك. كما انه لو كان شيء متيقن النجاسة سابقا
ثم لاقى الثوب مثلا على حين غفلة من نجاسته ، ثم انعدم ذلك الشيء واحتملنا عروض الطهارة
له قبل ملاقاته الثوب ، فهل يشك في صحة جريان استصحاب النجاسة فيه ، وترتيب أثره
عليه من الحكم بنجاسة الثوب ، مع ان المستصحب معدوم حين الشك على الفرض ، وعليه
فالملاقى في مفروض الكلام وان كان خارجا عن محل الابتلاء بعدم قدرة المكلف عليه ،
إلّا انه لا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه في نفسه لترتيب أثره من الحكم بطهارة
ملاقيه ، إلّا ان العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة طرفه يمنع من الرجوع إلى الأصل
في كل منهما ، فيبقى أصالة الطهارة في الملاقي بلا معارض على تفصيل قد عرفته في
المسائل السابقة.
واما المورد
الثاني : فلأنّ ما ذكره انما يتم لو كان حدوث العلم الإجمالي كافيا في تنجيز
الواقع بقاء ولو مع انحلاله ، واما على ما عرفت من ان التنجيز يدور مدار حدوث
العلم وبقائه ، فالعلم الحادث أولا انما ينحل بالعلم الثاني ، فيكون حال الملاقي
في مفروض المثال كحال غيره في وجوب الاجتناب وعدمه. توضيح ذلك : ان العلم الحادث
يوم السبت في المثال وان أوجب تنجز الواقع على تقدير كونه في الثوب أو الإناء
الكبير ، إذ الشك في كل منهما انما هو في انطباق المعلوم بالإجمال
عليه ، فلا يجري
فيه الأصل ، إلّا انه بعد فرض العلم يوم الأحد بنجاسة أحد الإناءين يوم الجمعة
ينحل العلم الأول ، فيكون الشك في نجاسة الإناء الكبير شكا في انطباق النجس
المعلوم عليه ، واما الشك في نجاسة الثوب فهو شك في حدوث نجاسة أخرى زائدا على
المعلوم بالإجمال ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه بعد خروجه عن طرف العلم
الإجمالي بقاء.
ونظير ذلك ما إذا
علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين من الكبير والصغير في يوم الجمعة ، ثم علم بعد ذلك
بنجاسة الإناء الكبير أو الإناء الآخر يوم الخميس ، فان الإناء الصغير يخرج بالعلم
الثاني عن كونه طرفا للعلم ، فيرجع فيه إلى الأصل ، وحال الملاقي في مفروض المقام بعينه
حال الإناء الصغير في المثال ، وعليه فيجري فيه ما ذكرناه في الصور المتقدمة من
وجوب الاجتناب عنه وعما لاقاه تارة ، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي أخرى.
فتلخص مما ذكر ان
ما في أفاده في الكفاية من تثليث الأقسام لا وجه له ، بل الأمر دائر بين وجوب
الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا ، ووجوب الاجتناب عن خصوص الملاقى دون ملاقيه.
المقام الثاني :
دوران الأمر
بين الأقل والأكثر الارتباطيين
والبحث في هذا
انما هو بعد الفراغ عن كون المرجع عند الشك في التكليف هو البراءة ، وعند الشك في
المكلف به هو قاعدة الاشتغال. ومنشأ النزاع انما هو ان الشك في الأقل والأكثر بعد
فرض كون الواجب ارتباطيا هل هو ملحق بالشك في التكليف ، أو انه ملحق بالشك في
المكلف به؟ والكلام في المقام يقع في موردين.
الأول : في
الاجزاء الخارجية.
الثاني : في
الاجزاء التحليلية كدوران الواجب بين المطلق والمقيد.
دوران الأمر بين
الأقل والأكثر في الاجزاء الخارجية :
اما المورد الأول
: فيقع الكلام فيه تارة في جريان البراءة العقلية ، وأخرى في جريان البراءة
الشرعية.
اما الكلام من
الجهة الأولى : فالتحقيق هو جريان البراءة بحكم العقل بقبح العقاب في غير المقدار
المتيقن ، لا لما أفاده الشيخ رحمهالله من ان وجوب الأقل المردد بين النفسيّ والغيري معلوم ، واما
وجوب الأكثر فهو غير محرز ، فيجري فيه الأصل ، فانه مبني على القول باتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري ،
وكون العلم بالوجوب الجامع بين النفسيّ والغيري موجبا لانحلال العلم بالوجوب
النفسيّ ، وكلا الأمرين
__________________
خلاف التحقيق.
اما الأول : فلما
بيناه في بحث وجوب المقدمة من استحالة اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري ، والشيخ رحمهالله لم يلتزم بذلك أيضا.
واما الثاني :
فلان المعلوم بالإجمال إذا كان خصوص الوجوب النفسيّ فالترديد بين كون متعلقه الأقل
أو الأكثر لا يرتفع بالعلم بوجوب جامع بينه وبين الوجوب الغيري ، ضرورة انه يعتبر
في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال ، ومع عدمه كان
العلم الأول باقيا على حاله كما هو ظاهر.
بل لأن التكليف
بالمركب ينحل بنفسه إلى التكليف بكل جزء منه ، فيكون لكل جزء حصة من التكليف
مغايرة لحصة أخرى منه المتعلقة بالجزء الآخر ، فإذا دار أمر التكليف بين تعلقه
بالأقل أو الأكثر فتعلقه بالأقل معلوم ، وتعلقه بالزائد مشكوك فيه ، ولم تقم عليه
حجة من الشارع ، فالعقاب على تركه بلا بيان. وبعبارة أخرى : ترك الواجب إذا استند
إلى ترك الاجزاء المعلومة فالعقاب عليه عقاب بعد تمامية الحجة. واما تركه المستند
إلى ترك الاجزاء المشكوكة فالعقاب عليه عقاب بلا بيان ، لعدم قيام الحجة على
جزئيتها على الفرض.
وقد أشكل على ما
ذكرناه بوجوه.
الأول : ما ذكره
في الكفاية من استحالة الانحلال ، فانه مستلزم للخلف ، ومستلزم لعدم
نفسه. اما استلزامه للخلف ، فلأنّ الانحلال يتوقف على كون التكليف بالأقل معلوما
ومنجزا على كلا تقديري تعلقه بالأقل والأكثر ، ففرض انحلال العلم وعدم تنجزه
بالإضافة إلى الأكثر خلاف المفروض من كون التكليف منجزا على كل تقدير. وبعبارة
أخرى : يتوقف انحلال العلم الإجمالي في المقام على
__________________
العلم بتنجيز
التكليف على كل تقدير ، فلو ترتب عليه عدم تنجز التكليف إذا كان متعلقا بالأكثر
لزم الخلف.
واما استلزام
الانحلال لعدمه ، فلان لازم الانحلال عدم تنجز التكليف على كل تقدير ، وهو يستلزم
عدم العلم بوجوب الأقل على كل حال ، المستلزم لعدم الانحلال ، فيلزم من فرض
الانحلال عدمه ، وهو محال.
والجواب عن كلا
التقريبين ان ما ذكره مبني على توقف القول بالانحلال على العلم بتنجز التكليف على
كل حال ، وليس الأمر كذلك ، بل هو مبني على دعوى انحلال التكليف بالمركب بالتكاليف
الضمنية باجزائه ، فانه حينئذ يعلم بتعلق التكليف المعلوم في البين بالاجزاء
المعلومة ، غاية الأمر يشك في كونها مأخوذة لا بشرط بالإضافة إلى الجزء المشكوك
فيه ، أو بشرط شيء بالإضافة إليه ، فتعلق التكليف بالأقل معلوم على كلا التقديرين
، واما تعلقه بالزائد فمشكوك فيه ، فيجري فيه البراءة.
وببيان أوضح
التكليف المعلوم بالإجمال وان كان واحدا واقعا ، وتردد متعلقه بين الأقل والأكثر ،
إلّا ان كون الأقل طرفا له معلوم ، فيتنجز بالإضافة إليه ، لوصوله بهذا المقدار ،
واما الزائد عليه فكونه طرفا للتكليف غير معلوم ، وبما انه لم تتم الحجة عليه كان
العقاب على مخالفته بتركه عقابا بلا بيان.
الثاني : ان
الوجوب المعلوم في المقام ، المردد بين تعلقه بالأقل وتعلقه بالأكثر ، وجوب واحد
على التقديرين ، إذ المفروض كونه ارتباطيا ، فتعلقه بكل جزء ملازم لتعلقه بالاجزاء
الآخر ثبوتا وسقوطا ، ولا يعقل مع ذلك سقوطه بالإضافة إلى بعض الاجزاء ، وعدم
سقوطه بالإضافة إلى البعض الآخر ، وعليه فاحتمال تعلق الوجوب بالأكثر ملازم لاحتمال
عدم سقوط التكليف من رأسه بالإتيان بالأقل ، ومن الواضح ان العلم بثبوت التكليف
يقتضي العلم بفراغ الذّمّة
وإحراز سقوطه ،
ومع الشك فيه كان المرجع أصالة الاشتغال لا محالة.
وان شئت قلت : ان
التكليف المعلوم تعلقه بالأقل يشك في سقوطه بإتيان الأقل ، لاحتمال تعلقه بالأكثر
، الملازم لاحتمال عدم سقوطه بترك الجزء المشكوك ، ومع رجوع الشك إلى الشك في
السقوط كان المرجع أصالة الاشتغال دون البراءة.
والجواب عنه : ان
الواجب بحكم العقل انما هو الإتيان بما علم تعلق التكليف به فرارا عن العقاب
المترتب على تركه ، وسقوط التكليف بنفسه ليس من الواجبات العقلية ولا الشرعية ،
وانما هو امر ينتزع من الإتيان بمتعلق التكليف خارجا ، فالتكليف المعلوم بالإجمال
في المقام وان كان سقوطه في الواقع دائرا مدار الإتيان بتمام متعلقه على ما هو
عليه ، إلّا ان سقوطه في حكم العقل أعني به حكمه بالأمن من العقوبة لا يدور مدار
ذلك ، بل يدور مدار الإتيان بما علم تعلقه به ، فالأقل المعلوم وجوبه لا بد من
الإتيان به ، لأن تركه يستلزم استحقاق العقاب ، واما الزائد عليه فبما انه لم يعلم
وجوبه فليس في تركه احتمال العقاب ، فلا يحكم العقل بوجوب الإتيان به. فالإيراد المزبور
ناشئ من خلط سقوط التكليف واقعا بسقوطه في حكم العقل ، والواجب هو الثاني دون
الأول ، فتدبر.
الثالث : ما أفاده
المحقق النائيني قدسسره وحاصله : ان المعلوم بالتفصيل في المقام انما هو تعلق التكليف
بالأقل على نحو الإهمال ، الجامع بين كونه بشرط شيء بالإضافة إلى الجزء المشكوك
وكونه لا بشرط ، وكما ان التقييد وأخذه بشرط مشكوك فيه ، كذلك الإطلاق ، ومن
الواضح ان مثل هذا العلم التفصيليّ الملازم للشك في كل من الخصوصيّتين مقوم للعلم
الإجمالي ، فكيف يعقل أن يكون موجبا
__________________
لانحلاله؟! وهل
يكون القول به إلّا قولا بانحلال العلم الإجمالي بنفسه؟!
وببيان آخر : ان
انحلال العلم الإجمالي انما يكون بتبدل القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضية
متيقنة وقضية مشكوكة ، وهو مفقود في المقام ، إذ لا علم بوجوب الأقل لا بشرط على
الفرض ، فانه أحد طرفي الاحتمال ، واما العلم بوجوب الأقل على نحو الإهمال الجامع
بين الإطلاق والتقييد فهو مقوم للعلم الإجمالي ، لا انه موجب لانحلاله ، ولو كان
العلم بالمهمل الجامع موجبا للانحلال لكان موجبا له في المتباينين أيضا. ثم انه قدسسره أيد ما ذكره بما تقدم من الوجه الثاني لعدم الانحلال من ان
الشك في المقام شك في السقوط دون الثبوت ، فيكون مجرى للاشتغال دون البراءة.
ويرد على ما أفاده
: ان العلم بالجامع المهمل انما لا يكون موجبا للانحلال فيما إذا كان الأصل الجاري
في كل من الخصوصيّتين المشكوكتين معارضا بالأصل الجاري في الأخرى ، كما هو الحال
في دوران الأمر بين المتباينين. واما إذا لم يكن بين الأصلين معارضة ، بان اختص
أحدهما بجريان الأصل فيها دون الآخر فلا محالة ينحل العلم الإجمالي ، ويكون أحد
الطرفين مأمونا من العقاب بمقتضى جريان الأصل.
وتوضيح ذلك : ان
الأقل الجامع بين الإطلاق والتقييد قد علم وجوبه ، وترتب العقاب على تركه ، ولكن
لا يعلم انه واجب على الإطلاق ، أو مع أخذ الزائد المشكوك فيه أيضا ، فخصوصية
الإطلاق وان كانت مشكوكة كخصوصية التقييد إلّا ان أصالة البراءة عن التقييد لا يعارضها
أصالة البراءة في الإطلاق ، إذ الإطلاق ليس فيه كلفة زائدة لترتفع بالأصل ، فإذا
لا مانع من جريان أصل البراءة عن التقييد ، وبذلك ينحل العلم ، فيحكم بعدم استحقاق
العقاب على ترك المشكوك ، وقد فرض العلم باستحقاق العقاب على ترك الأقل. وبهذا
يظهر بطلان قياس المقام
بالمتباينين ، فان
الأصل الجاري في كل منهما معارض بالأصل الجاري في الآخر ، وهذا بخلاف المقام كما
عرفت. واما ما ذكره من التأييد فقد تقدم الجواب عنه ، فلا حاجة إلى الإعادة.
الرابع : ما ذكره
في الكفاية وحاصله : انه بناء على ما هو الحق من تبعية الأحكام
للملاكات الثابتة في متعلقاتها نعلم في المقام بثبوت مصلحة ملزمة قائمة بالأقل أو
بالأكثر ، وبما ان المفروض لزوم استيفائها بحكم العقل ، فلا مناص من الاحتياط
بالإتيان بالأكثر ، إذ المفروض انه لا يعلم بحصولها عند الاقتصار على الأقل.
وقد تعرض لهذا
الوجه شيخنا الأنصاري قدسسره وأجاب عنه بجوابين .
الأول : ان البحث
عن جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر لا يبتني على مسك العدلية
القائلين بتبعية الأحكام للملاكات.
الثاني : ان الغرض
المعلوم في المقام لا يمكن تحصيل القطع به على كلا تقديري الإتيان بالأقل والأكثر.
اما على تقدير الإتيان بالأقل فلاحتمال دخل الأكثر في حصول الغرض ، واما على تقدير
الإتيان بالأكثر فلان الإتيان بالزائد لا يخلو من أن يكون بقصد الأمر الجزمي ، أو
بقصد الأمر الاحتمالي. اما الأول فتشريع محرم ، لا يحتمل معه الوفاء بالغرض. واما
الثاني فلا يقطع معه بحصول الغرض ، لاحتمال اعتبار قصد الوجه في تحققه وحصوله ،
فإذا لا يجب علينا تحصيل اليقين بالغرض قطعا ، فلا يبقى في البين إلّا الفرار من
العقاب ، وهو يحصل بالإتيان بالأقل ، للعلم بوجوبه ، واما الأكثر فاحتمال العقاب
على تركه يدفع بالأصل ، هذا ملخص ما أفاده.
__________________
ولا يخفى عليك ما
في كلا الجوابين.
اما الأول : فلأنه
لا يتم على مسلك من يرى تبعية الأحكام للملاكات الواقعية. وجواز الرجوع إلى
البراءة على مذهب الأشعري لا يجدي القائل ببطلانه ، كما هو ظاهر.
واما الثاني :
فلما أورد عليه في الكفاية بوجوه ، نذكر أهمها.
الأول : ان ما
ذكره الشيخ رحمهالله من عدم إمكان تحصيل القطع بالغرض لو تم فانما يتم في
التعبديات دون التوصليات التي لا يحتمل فيها دخل قصد الوجه في حصول الغرض خارجا ،
فلازم ذلك هو القول بوجوب الاحتياط في الواجبات التوصلية دون التعبدية ، وهو باطل
قطعا.
الثاني : ان لازم
ما ذكره عدم التمكن من الاحتياط في المقام أصلا ، وهو باطل بالضرورة. بيان
الملازمة ان الاحتياط ان كان لأجل القطع بإدراك المصلحة الواقعية فهو غير ممكن على
الفرض ، وان كان للتحرز من العقاب فالمفروض حصوله بإتيان الأقل وعدم احتمال العقاب
على ترك الأكثر ، فلا معنى للاحتياط بالإتيان بالأكثر ، أصلا. نعم لا بأس
بالاحتياط في دوران الأمر بين المتباينين ، إذ المفروض في مورده عدم حصول الأمن من
العقوبة إلّا بالاحتياط ومراعاة العلم الإجمالي في جميع أطرافه وان لم يمكن الجزم
بحصول الغرض مع ذلك ، لاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله.
الثالث : ان ما
ذكره مبني على احتمال دخل قصد الوجه في حصول الغرض وتحققه خارجا ، مع انه احتمال
لا يساعد عليه دليل ، بل هو مقطوع البطلان على ما تقدم بيانه في بحث التعبدي
والتوصلي. على انه لو صح احتمال دخل قصد الوجه في
__________________
الغرض فهو انما
يصح في الواجبات الاستقلالية ، واما الواجبات الضمنية أعني بها الاجزاء فلا يحتمل
دخل قصد الوجه فيها في حصول الغرض من الواجب الاستقلالي. ويظهر الوجه في ذلك من
الأدلة التي ذكروها لاعتبار قصد الوجه في حصول الغرض ، فانها مع عدم تماميتها في
نفسها مختصة بقصد الوجه في الواجب الاستقلالي دون الضمني.
وأجاب المحقق
النائيني رحمهالله عن أصل الإشكال بان الغرض الداعي إلى الأمر بشيء إذا كانت
نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة فالذي هو تحت الأمر حقيقة انما
هو ذلك الغرض ، ولا يفرق بين تعلق الأمر به في مقام الإثبات أو بعلته ، فكما يمكن
الأمر بقتل زيد يمكن الأمر بقطع أوداجه ، والمتحصل من كلا الأمرين شيء واحد وهو مطلوبية
القتل. واما إذا كانت نسبة الغرض إلى المأمور به كنسبة المعلول إلى العلل المعدة
بحيث يتوسط بينه وبينها امر غير اختياري ، فالغرض في مثل ذلك وان كان ملزما في
نفسه ، إلّا انه يستحيل تعلق الأمر به ، لكونه خارجا عن اختيار المكلف على الفرض ،
فلا مناص في مثله من تعلق الأمر بالعلة المعدة ، فانها هي المقدورة للمكلف دون
المعلول. هذا بحسب مقام الثبوت.
واما بحسب مقام
الإثبات ، ففي ما لم يعلم كون الغرض من قبيل القسم الأول يستكشف من تعلق الأمر في
ظاهر خطاب المولى بنفس الفعل كون الغرض من القسم الثاني ، وإلّا كان تعلق الأمر
بنفس الغرض هو المتعين ، وعلى ذلك يترتب ان نسبة المصالح إلى الواجبات الشرعية
نسبة المعلول إلى العلل المعدة ، وإلّا لكان يعلق الأمر بنفس المصالح الولي ،
وحينئذ فالواجب على المكلف بحكم العقل ليس إلّا الإتيان بما أمر به المولى ، لا
تحصيل غرضه ، لأنه خارج عن اختياره ، فهو غير مكلف
__________________
به قطعا ، فإذا
فرضنا تردد المأمور به بين الأقل والأكثر ، وكان الأقل هو المتيقن ، لم يكن مانع
عن الرجوع إلى البراءة في الزائد.
ويرد على ما أفاده
ما تقدم في بحث الصحيح والأعم من ان الغرض المترتب على المأمور به غرضان ، أحدهما
: الغرض الأقصى الّذي هو الداعي في الحقيقة إلى الأمر به ، ثانيهما : الغرض
الإعدادي المترتب عليه. اما الأول فنسبته إلى المأمور به وان كانت نسبة المعلول
إلى العلة المعدة ، ولم يكن بنفسه مأمورا به لخروجه عن الاختيار ، إلّا ان نسبة
الغرض الثاني إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة لا محالة ، وعليه فلا
بد من القطع بحصول هذا الغرض في الخارج ، ومن الظاهر انه مع الاقتصار على الأقل لا
يتحقق ذلك ، فلا مناص من الإتيان بالأكثر تحصيلا للغرض الملزم.
وببيان آخر : إذا
فرضنا الغرض الأقصى خارجا عن قدرة المكلف واختياره فلا يتعلق الأمر به قطعا ، وبما
ان المفروض كونه إلزاميا ، فالمولى لا يفوته بالمقدار الممكن تحصيله في الخارج من
مقدماته الإعدادية. مثلا إذا فرضنا تعلق غرض المولى بوجود الحنطة في الخارج ، فمن
جهة كونه خارجا عن قدرة العبد لا يتعلق التكليف به ، بل التكليف يتعلق بما يكون
معدا خارجا من الزرع والسقي ونحوهما ، فإذا تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر
فلا محالة يشك في كون الأقل محصلا للغرض الإعدادي المطلوب من العبد على الفرض ،
فيجب عليه الإتيان بالأكثر تحصيلا للقطع به ، فما أفاده قدسسره من عدم تعلق امر المولى بالغرض انما يتم في الغرض الأقصى ،
دون الغرض الأدنى المترتب على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة ، والصحيح
في الجواب ان يقال : ان الغرض المترتب على فعل قد يكون بنفسه متعلقا لأمر المولى
بالمطابقة ، أو بالدلالة الالتزامية العرفية ، كما إذا امر المولى بقتل زيد ، أو
بضرب عنقه الملازم للأمر بقتله عرفا ، ففي مثل ذلك لا بد للمكلف من
إحراز حصول الغرض
خارجا ، والإتيان بما يكون محصلا له قطعا. واما في غير ذلك مما تعلق الأمر فيه
بنفس الفعل فالذي يقتضيه حكم العقل بالقيام بوظيفة العبودية ليس إلّا الإتيان بما
أمر به المولى ، واما كون المأمور به وافيا بغرضه فهو من وظائف نفس المولى ، فانه
الّذي يلزم عليه رعاية غرضه بالأمر بما يفي به ، فلو فرضنا انه أخل بذلك ، وأمر
بما لا يفي بغرضه كان التفويت مستندا إليه لا إلى العبد ، وعليه فكما ان التكليف
الّذي لم يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كذلك الغرض
الّذي لم يقم عليه بيان من المولى ، فإذا تردد المأمور به بين الأقل والأكثر ،
فكما ان التكليف بالزائد على المتيقن مشكوك فيه ، ولم يتم عليه حجة من قبل المولى
، كذلك الغرض المعلوم في البين المردد ترتبه على الأقل والأكثر ، فانه على تقدير
ترتبه على الأقل تكون الحجة عليه تامة ، ويصح العقاب على تفويته ، واما على تقدير
ترتبه على الأكثر واقعا فالبيان عليه غير تام من قبل المولى ، والعقاب على تفويته
بلا بيان.
وبالجملة لا يزيد
حال الغرض على حال التكليف في انه ما لم يصل بنفسه أو بإيجاب الاحتياط لا يصح
العقاب على مخالفته ، ويكون فواته حينئذ مستندا إلى المولى ، لا إلى تقصير العبد
في القيام بوظيفته ، هذا كله بناء على تبعية الأحكام للملاكات الواقعية في
متعلقاتها. واما بناء على كونها تابعة لمصالح في أنفسها ، كما هو الحال في الأحكام
الوضعيّة مثل الملكية ونحوها ، فالإشكال مندفع من أصله.
واما الكلام في الجهة الثانية : أعني
بها جريان البراءة الشرعية. فتحقيق الحال فيه أن يقال : بناء على ما تقدم من صحة جريان البراءة العقلية لا
ينبغي الإشكال في جريان البراءة الشرعية أيضا ، فيرجع إلى حديث الرفع وأمثاله
لإثبات عدم الإلزام بالجزء المشكوك فيه في مقام الظاهر. واما بناء على عدم انحلال
العلم الإجمالي ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة العقلية ففي جواز الرجوع إلى
البراءة الشرعية
وعدمه وجهان ذهب صاحب الكفاية والمحقق النائيني قدسسره إلى الأول .
ولكن الصحيح ان
جواز الرجوع إليها ملازم لجواز الرجوع إلى البراءة العقلية ، فان جرت البراءة
العقلية جرت الشرعية أيضا ، وإلّا فلا ، بيان ذلك : ان عمدة ما توهم كونه مانعا من
الرجوع إلى البراءة العقلية على ما عرفت منحصر في امرين.
الأول : لزوم
تحصيل الغرض المعلوم في البين ، المردد بين كونه مترتبا على الأقل أو الأكثر.
الثاني : ان الأقل
المتيقن وجوبه في البين على كل تقدير طبيعة مرددة بين المطلقة والمقيدة ، فكل من
الإطلاقات والتقييد مشكوك فيه ، ومعه لا معنى للانحلال ، ضرورة انه متوقف على
إثبات الإطلاق وعدم دخل الجزء المشكوك فيه في الواجب ، فما لم يثبت الإطلاق كان
العلم الإجمالي باقيا على حاله ، ويكون الشك معه شكا في السقوط دون الثبوت.
ولا يخفى عليك ان
كلا هذين الوجهين لو تم كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا.
اما الوجه الأول :
فلأنّ الغرض المعلوم في البين لو لزم استيفاؤه على كل تقدير كما هو المفروض فلا
أثر لشمول أدلة البراءة النقليّة مع الشك في حصول الغرض بإتيان الأقل ، إذ غاية ما
يترتب عليه هو الحكم برفع الجزئية المجهولة ظاهرا ، ومن الواضح ان ارتفاعها كذلك
لا يترتب عليه إحراز كون الغرض مترتبا على الأقل ، لعدم كونه من الآثار الشرعية ،
وما لم يحرز ذلك لا يحكم العقل بحصول الامتثال ، فيجب الإتيان بالأكثر تحصيلا
للقطع بحصوله. نعم لو كان ما دل على رفع الجزئية من
__________________
الأمارات الناظرة
إلى الواقع لثبت بها لزوم مؤداه ، فيحكم بترتب الغرض على الأقل. كما أنه لو كان
دليل البراءة الشرعية واردا في خصوص دوران الأمر بين الأقل والأكثر لزم الحكم
بكفاية الأقل في مقام الامتثال ، صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، واما إذا لم يكن
شيء من الأمرين ، كما هو المفروض ، فلا يمكن الحكم بشمول أدلة البراءة لنفي وجوب
الأكثر بعد حكم العقل بوجوب تحصيل الغرض ، وعدم إحراز ترتبه على الأقل.
واما الوجه الثاني
: فلأنّ جريان البراءة الشرعية عن وجوب الأكثر لا يثبت تعلق التكليف بالأقل على
نحو الإطلاق إلّا على القول بالأصل المثبت ، والوجه في ذلك انا قد ذكرنا غير مرة
ان الإطلاق في مقام الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة لا بشرط بالإضافة إلى طوارئها ،
وهذا الاعتبار مضاد لاعتبار الطبيعة بشرط شيء أو اعتبارها بشرط لا ، وكل من هذه
الأقسام ملحوظ على نحو يغاير لحاظه في غيره ، وعليه لا يمكن إثبات لحاظ الطبيعة
مطلقة بجريان أصالة البراءة عن التقييد. واما ما اشتهر في كلماتهم من ان الإطلاق
أمر عدمي يقابل التقييد تقابل العدم والملكة ، فهو انما يصح في الإطلاق في مقام
الإثبات الخارج عن محل الكلام. وبالجملة لو توقف انحلال العلم الإجمالي على إثبات
الإطلاق فكما لا تجري البراءة العقلية لا تجري البراءة الشرعية أيضا ، لما عرفت من
عدم ثبوت الإطلاق به. واما على ما ذكرناه من عدم الحاجة إلى ذلك ، بل يكفي في
الانحلال جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض ، جرت البراءة الشرعية والعقلية في
المقام بملاك واحد.
ومما ينبغي
التنبيه عليه في المقام انه لا يحتاج إثبات وجوب الأقل بعد نفي وجوب الأكثر بالأصل
إلى أمر آخر وراء نفس العلم الإجمالي المتعلق بوجوب الأقل ، المردد بين كونه لا
بشرط أو بشرط شيء ، ضرورة ان فرض العلم المزبور فرض وصول وجوب الأقل بالفعل على
كلا تقديري وجوب الأكثر وعدمه ، فلا
يقاس المقام بما
إذا سقطت جزئية شيء للمركب باضطرار أو نسيان ونحوهما ، فان ثبوت التكليف حينئذ
بالباقي بعد سقوط الأمر بالمركب يحتاج إلى دليل آخر.
ومن هنا يظهر : ان
ما ذكره في الكفاية في المقام من الإشكال في إثبات وجوب الأقل أولا ، ثم
الجواب عنه : بأن نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء والشرائط نسبة دليل الاستثناء
إلى المستثنى منه ، فيختص الجزئية أو الشرطية بغير حال الجهل ، في غير محله ،
ولعله ناش من خلط باب الجهل بباب النسيان.
ثم انه ربما يتمسك
في المقام بدليل الاستصحاب. وقد استدل به على كل من القول بالاشتغال والبراءة.
اما التمسك به
للقول بالاشتغال ، فتقريبه : ان وجوب الواجب المردد بين الأقل والأكثر مردد بينما
هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، فانه على تقدير وجوب الأكثر يكون التكليف
باقيا بعد الإتيان بالأقل قطعا ، كما انه إذا كان متعلقا بالأقل لا بشرط فالتكليف
به حينئذ مرتفع قطعا ، فيستصحب التكليف المتيقن ثبوته قبل الإتيان بالأقل ، بناء
على ما هو الصحيح من جريانه في القسم الثاني من الكلي.
ويرد عليه : ان
جريان الاستصحاب متوقف على كون الحادث مرددا بين المرتفع والباقي لأجل تعارض
الأصول في كل منهما ، كما إذا تردد الحدث المتحقق بين الأصغر والأكبر ، فان أصالة
عدم تحقق الأكبر معارض بأصالة عدم حدوث الأصغر ، فيرجع إلى الاستصحاب الكلي بعد
الوضوء مثلا.
واما فيما لم
يتعارض فيه الأصول ، وقد أحرز حال الفرد الحادث ولو بضم الوجدان إلى الأصل ، فلا
معنى للرجوع فيه إلى الاستصحاب ، وما نحن فيه
__________________
كذلك ، فان وجوب
الأكثر إذا كان مرتفعا بالأصل فالحادث المردد يتعين في وجوب الأقل بضميمة الوجدان
إلى الأصل ، ولا يبقى مجال الشك في بقائه بعد إحراز خصوصيته والإتيان بمتعلقه في
الخارج. ونظير ذلك ما إذا كان المكلف محدثا بالأصغر ثم احتمل عروض الجنابة له
بخروج شيء يحتمل كونه منيا ، ففي مثل ذلك لا معنى للرجوع إلى استصحاب الحدث الكلي
بعد الإتيان بالوضوء في الخارج ، فان استصحاب عدم حدوث الجنابة وبقاء المكلف على
حدثه الأصغر يحرز به حال الفرد ، ومعه لا مجال لاستصحاب الكلي.
وبالجملة استصحاب
الكلي انما يجري فيما إذا لم يكن في مورده أصل آخر حاكم عليه ، وإلّا فلا مجال
لجريانه ، كما هو الحال في كل أصل محكوم بالإضافة إلى الأصل الحاكم.
واما التمسك
بالاستصحاب للقول بالبراءة فتقريبه : من وجوه.
الأول : استصحاب
عدم لحاظ المولى الأكثر حين التكليف.
ويرد عليه : أولا
: ان عدم لحاظ المولى ليس بنفسه حكما شرعيا ، ولا موضوعا لحكم شرعي ، فلا معنى
لجريان الاستصحاب فيه.
وثانيا : ان الأمر
في المقام مردد بين لحاظ الأقل بشرط شيء الّذي هو عبارة عن لحاظ الأكثر وبين لحاظ
الأقل لا بشرط ، بعد العلم بتحقق أحدهما لا محالة ، لاستحالة الإهمال في مقام
الثبوت ، فكما ان لحاظ الأكثر مسبوق بالعدم ومشكوك الحدوث ، كذلك لحاظ الأقل لا
بشرط ، فالاستصحاب في كل منهما على تقدير جريانه في نفسه معارض بجريانه في الآخر.
الثاني : استصحاب
عدم جعل الجزئية لما يحتمل كونه جزءا للواجب. وبما ان الجزئية تنتزع من الأمر
بالمركب ، فاستصحاب عدمها يرجع إلى استصحاب عدم الأمر بالمركب ، فيرجع هذا التقريب
إلى التقريب الآتي.
الثالث : استصحاب
عدم جعل الأمر بالمركب ، بناء على ما حققناه في مبحث البراءة من جريان الاستصحاب
في مقام الجعل وجودا وعدما ، وعدم كونه مثبتا بالإضافة إلى ثبوت المجعول أو عدمه.
ويرد عليه : ان
استصحاب عدم الجعل وان كان في نفسه جاريا كما ذكر ، إلّا انه في المقام غير جار
للمعارضة ، والوجه فيه ما أشرنا إليه آنفا من ان الأقل المتيقن تعلق التكليف به لا
يخلو امره في الواقع من الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى ما يشك في جزئيته ، فكما ان
جعل التكليف بالأقل على نحو التقييد أمر يشك في حدوثه بعد عدمه ، كذلك جعل التكليف
به على نحو الإطلاق ، وإجراء الاستصحاب فيهما معا مناف للعلم الوجداني ، وفي
أحدهما دون الآخر بلا مرجح ، فلا يمكن التمسك فيه بالاستصحاب. نعم لا مانع من
إجراء البراءة عن التكليف بالمقيد ، لعدم معارضته بإجراء البراءة عن التكليف
بالمطلق.
دوران الأمر بين
الأقل والأكثر في المركبات التحليلية :
واما المورد
الثاني : وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية ، فهو على
ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن
يكون ما يحتمل دخله في الواجب على نحو الشرطية موجودا مستقلا منحازا عنه ، غاية
الأمر يحتمل اعتبار تقيد الواجب به. وهذا يشمل الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن.
والحكم في هذا القسم بعينه هو الحكم في المورد الأول من حيث جريان البراءة العقلية
والنقليّة. وقد استشكل في جريان البراءة العقلية فيه بما تقدم من التقريب ، وقد
عرفت الجواب عنه ، وانه لا مانع من جريان البراءة العقلية أيضا ، فان التكليف
بالأقل وان كان مرددا بين تعلقه بالطبيعة المطلقة أو المشروطة ، إلّا ان أصالة
البراءة عن الاشتراط لا يعارضها أصالة البراءة عن الإطلاق ، فتجري بلا معارض. واما
حديث لزوم تحصيل الغرض الملزم فقد عرفت
ما فيه ، فلا حاجة
إلى الإعادة.
وبالجملة فجميع ما
ذكر في المورد الأول من تقريب الرجوع إلى قاعدة الاشتغال أو البراءة جار في المقام
حرفا بحرف.
القسم الثاني : أن
يكون ما يحتمل دخله في الواجب أمرا غير منحاز عنه ، ولكنه لم يكن من مقوماته ، بل
كان نسبته إليه نسبة الصفة إلى الموصوف ، والعارض إلى المعروض بنظر العرف ، كما
إذا تردد أمر الرقبة الواجب عتقها بين كونها خصوص المؤمنة أو الجامع بينها وبين
الكافرة ، فربما يقال فيه بعدم جريان البراءة العقلية والنقليّة ، بدعوى ان جريان
البراءة في مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر مبني على الانحلال ، وكون الأقل
متيقنا على كل تقدير ، والمقام ليس كذلك ، فان وجود الطبيعي في ضمن المقيد متحد
معه ، بل عينه خارجا ، واما الطبيعي في ضمن غيره فهو مباين للمقيد ، لا انه بعضه ،
فالإتيان به على تقدير كون الواجب هو المقيد إتيان بأمر مباين ، ولا معنى معه
للرجوع إلى البراءة.
والتحقيق أن يقال
: ان الملاك في الانحلال كما عرفت سابقا انما هو العلم بتعلق التكليف بالطبيعي
المردد أمره بين المطلق والمقيد ، وعدم معارضة الأصل الجاري في ناحية التقييد
بالأصل الجاري في ناحية الإطلاق ، والمقام من هذا القبيل ، فان التكليف في المثال
قد تعلق بعتق طبيعي الرقبة المردد بين كونه مطلقا بالإضافة إلى الكفر والإيمان أو
مقيدا بخصوص الإيمان ، وبما ان التقييد كلفة زائدة لم يتم الحجة عليها فأصالة
البراءة العقلية والنقليّة يدفعه ، ولا يعارض ذلك بأصالة البراءة عن الإطلاق ، لأن
الإطلاق يقتضي التوسعة دون الضيق.
القسم الثالث : أن
يكون ما يحتمل دخله في الواجب مقوما له ، بان كانت نسبته إليه نسبة الفصل إلى
الجنس ، كما إذا دار الأمر بين وجوب الإتيان بمطلق الحيوان أو بخصوص الإنسان. وقد
ذهب صاحب الكفاية والمحقق النائيني قدسسره إلى
عدم جريان البراءة
فيه.
اما صاحب الكفاية فقد ظهر وجه ما اختاره مما تقدم ، كما ظهر جوابه.
واما المحقق
النائيني فقد استدل على ذلك بعد اختياره جريان البراءة في القسمين
المتقدمين بان الجنس حيث لا تحصل له في الخارج إلّا في ضمن الفصل فلا يعقل تعلق
الحكم به إلّا مع أخذه متفصلا بفصل معين ، أو بفصل ما من فصوله ، وعليه فيكون
المقام من دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ، ولا معنى للقول بان تعلق الحكم
بالجنس متيقن وتقيده بخصوص فصل مجهول ، فيجري فيه البراءة. ثم انه قدسسره قسم دوران الواجب بين التعيين والتخيير إلى أقسام ثلاثة ،
واختار في جميعها التعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة عن كلفة التعيين . ونحن نقتفي أثره ، ونتكلم في كل من الأقسام ، ونبين
المختار عندنا.
القسم الأول : ما
إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في أصل الشريعة ومرحلة الجعل في الأحكام
الواقعية ، كما إذا شككنا في ان صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو
تخييري؟
القسم الثاني : ما
إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع في الأحكام الظاهرية
وجعل الحجية ، كما إذا شككنا في ان تقليد الأعلم واجب تعييني ، أو أن المكلف مخير
بينه وبين تقليد غير الأعلم؟
القسم الثالث : ما
إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة فعلية التكليف والامتثال للتزاحم ،
كما إذا علمنا بوجوب إنقاذ كل غريق مع التمكن منه تعيينا ، فحصل غريقان لا نتمكن
إلّا من إنقاذ أحدهما ، واحتمل أن يكون أحدهما
__________________
بخصوصه نبيا ، فان
الأمر حينئذ يدور بين وجوب إنقاذه تعيينا أو التخيير بينه وبين الآخر.
ثم انه قبل بيان
حكم الأقسام المذكورة ينبغي التنبيه على امرين.
أحدهما : ان محل
الكلام انما هو فيما إذا لم يكن في البين أصل لفظي ، أو استصحاب موضوعي يرتفع به
الشك ويتعين به كون الواجب تعيينا ، فانه مع أحد الأمرين لا تصل النوبة إلى أصالة
البراءة بالضرورة.
ثانيهما : ان مورد
الكلام انما هو ما إذا كان ثبوت الوجوب متيقنا في الجملة. واما إذا لم يكن كذلك ،
ودار امر شيء بين أن يكون واجبا تعيينا أو تخييرا أو مباحا ، فلا ينبغي الشك في جواز
الرجوع إلى البراءة عن الوجوب المحتمل.
إذا عرفت ذلك
فنقول : اما القسم الأول ، فله صور ثلاث.
الصورة الأولى :
ما إذا علم وجوب فعل في الجملة ، واحتمل كون فعل آخر عدلا في مقام الامتثال مع عدم
إحراز كونه مسقطا له ، كما إذا علمنا بوجوب صوم يوم واحتملنا أن يكون إطعام عشرة
مساكين عدلا ومسقطا.
الصورة الثانية :
ان يعلم وجوب فعل في الجملة ، وعلم سقوطه عند الإتيان بفعل آخر ، ودار الأمر بين
أن يكون الفعل الثاني عدلا للواجب الأول ليكون الوجوب تخييريا ، أو مسقطا له
لاشتراط التكليف بعدمه ، وذلك كالقراءة الواجبة في الصلاة ، المردد وجوبها بين أن
يكون تعيينيا مشروطا بعدم الائتمام ، أو تخييريا بينهما. والثمرة بين الأمرين تظهر
فيما إذا عجز المكلف عن القراءة ، فانه على تقدير كون الوجوب تخييريا يتعين عليه
الائتمام ، كما هو الحال في كل واجب تخييري تعذر عدله ، وعلى تقدير كون الوجوب
مشروطا بعدم الائتمام فهو لا يكون واجبا حينئذ ، لعدم المقتضى له.
ثم ان هذين
القسمين على طرفي النقيض ، فان وجوب ما يحتمل مسقطيته
للواجب الآخر في
القسم الأول كان معلوما في الجملة ، وانما الشك في كون امتثاله مسقطا لامتثال
الآخر وعدمه. واما في هذا القسم فالمسقطية متيقنة ، وانما الشك في كونه عدلا
للواجب ، أو كون عدمه شرطا لوجوبه.
الصورة الثالثة :
ان يعلم وجوب كل من فعلين معينين في الجملة ، ويدور الأمر بين أن يكون الوجوب
تعيينيا ليجب الإتيان بهما معا مع التمكن ، أو تخييريا ليجتزي بأحدهما في مقام
الامتثال.
اما الصورة الأولى
: فقد ذهب جماعة إلى ان المرجع فيها هو أصالة الاشتغال ، والحكم بالتعيين. واستدل
عليه بوجوه.
الأول : ما ذكره
المحقق النائيني رحمهالله من ان الشك فيها شك في مقام الامتثال بعد العلم بثبوت
التكليف ، فإذا دار الأمر في كفارة تعمد الإفطار بين أن تكون خصوص
صوم شهرين ، أو الأعم منه ومن إطعام ستين مسكينا ، كان الصوم مفرغا للذمة يقينا ،
وأما الإطعام فسقوط التكليف المعلوم به مشكوك ، فلا يجوز الاجتزاء به في حكم
العلم.
والتحقيق ان يقال
: ان التخيير المحتمل في المقام اما أن يكون تخييرا عقليا ، كما إذا دار الأمر بين
وجوب حصة خاصة أو الجامع العرفي بينها وبين سائر الحصص ، نظير ما إذا علم بوجوب
شراء شيء في الجملة ، ودار الأمر بين كونه خصوص الغنم أو مطلق الحيوان. واما أن
يكون تخييرا شرعيا ، كما إذا كان المحتمل وجوبه مباينا في الماهية مع ما علم وجوبه
في الجملة ، ولم يكن بينهما جامع عرفي ، نظير ما تقدم من المثال في كفارة تعمد
الإفطار ، وقد سبق في محله ان الوجوب التخييري في هذا القسم لا مناص من تعلقه
بالجامع الانتزاعي المعبر عنه بعنوان أحد الشيئين أو
__________________
الأشياء.
اما في موارد
التخيير العقلي فالعلم بتعلق التكليف بالجامع مفروض لا محالة ، وانما الشك في انه
مأخوذ لا بشرط شيء أي بنحو الإطلاق أو بشرط شيء وبنحو التقييد ، والإطلاق والتقييد
وان كانا متقابلين ولم يكن شيء منهما متيقنا إلّا انك قد عرفت ان انحلال العلم
الإجمالي لا يتوقف على تيقن بعض الأطراف ، بل يكفي فيه جريان الأصل فيه بلا معارض
، وقد مر أن أصالة البراءة العقلية والنقليّة في ناحية التقييد غير معارضة بأصل
البراءة في طرف الإطلاق ، فإذا ثبت عدم التقييد في مقام الظاهر لا يبقى مجال لدعوى
رجوع الشك إلى مقام الامتثال ليكون المرجع أصالة الاشتغال.
ومن ذلك يظهر
الحال في موارد التخيير الشرعي ، وان الحكم فيه هو التخيير أيضا ، إذ المفروض تعلق
التكليف بعنوان أحد الشيئين أو الأشياء في الجملة ، وانما الشك في كونه مأخوذا على
نحو الإطلاق أو متخصصا بخصوصية خاصة ، فيجري الأصل عن التقييد ، وبضمه إلى الوجدان
يحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بكل من الطرفين أو الأطراف في مقام الامتثال.
وبالجملة الشك في
المقام وان كان شكا في الامتثال ، إلّا ان منشأه الشك في تقيد الواجب وإطلاقه ،
فإذا ارتفع احتمال التقيد بالأصل يرتفع الشك في الامتثال أيضا ، ولو لا ذلك لم يجز
الرجوع إلى البراءة في شيء من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر.
الوجه الثاني :
التمسك بأصالة عدم وجوب ما يحتمل كونه عدلا لما علم وجوبه في الجملة ، وبضميمته
إلى الوجدان والعلم المزبور يثبت كون الوجوب تعيينيا.
والجواب : ان أريد
بالأصل المزبور البراءة العقلية وحكم العقل بقبح العقاب
بلا بيان فمن
الظاهر انه غير جار في المقام ، ضرورة انه لا يحتمل العقاب على ترك خصوص ما يشك في
كونه عدلا للواجب في الجملة. واما الجامع بينهما فاستحقاق العقاب على تركه معلوم ،
ولا معنى معه للرجوع إلى البراءة.
وان أريد به البراءة
الشرعية فالتكليف بالجامع معلوم على الفرض ، كما ان تعلقه بخصوص ما يحتمل كونه
عدلا غير محتمل ، فلا معنى لجريان البراءة فيهما ، فلم يبق في البين إلّا إجراء
البراءة عن جعل العدل لما علم وجوبه في الجملة الراجع إلى إجراء البراءة عن
الإطلاق ، ومن الواضح عدم صحة ذلك ، لأن الإطلاق موجب للتوسعة ، فلا منة في رفعه.
وان أريد به
الاستصحاب ، فاستصحاب عدم جعل العدل للواجب المعلوم في الجملة وان كان جاريا في
نفسه ، بناء على جريانه في الأحكام الكلية ، إلّا أنه معارض باستصحاب عدم جعل
الوجوب التعيني لما يحتمل تعيينه أولا ، وعدم ثبوت التعيين بالاستصحاب المزبور
ثانيا إلّا على القول بالأصل المثبت.
الوجه الثالث : ما
ذكره صاحب الكفاية قدسسره من ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير ان كان من جهة
احتمال أخذ شيء شرطا للواجب فالحكم وان كان هو التخيير ، لأن الشرطية أمر قابل
للوضع والرفع ، فيشملها حديث الرفع عند الشك فيها ، إلّا أنه إذا كان الدوران
بينهما من جهة احتمال دخل خصوصية ذاتية في الواجب لا يمكن الرجوع إلى البراءة ، إذ
الخصوصية انما تكون منتزعة عن نفس الخاصّ ، ولا يمكن معه الرجوع إلى البراءة ، فلا
بد من الحكم بالاشتغال والتعيين في مقام الامتثال.
وفيه : ان خصوصية
الخاصّ وان كانت منتزعة عن نفس الخاصّ ، وغير قابلة للوضع والرفع ، إلّا ان
اعتبارها في المأمور به قابل لهما ، فإذا شك في ذلك فالمرجع هي البراءة على ما
تقدم بيانه.
الوجه الرابع : ما
ذكره المحقق النائيني أيضا من ان الوجوب التخييري يحتاج إلى مئونة زائدة في مقامي
الثبوت والإثبات . اما في مقام الثبوت فلاحتياجه إلى ملاحظة العدل ، وتعليق
التكليف بالجامع بينه وبين الطرف الآخر. واما في مقام الإثبات فلأنه محتاج إلى ذكر
العدل وبيانه ، فما لم يثبت الحجة على المئونة الزائدة يحكم بعدمها ، فيثبت الوجوب
التعييني.
وفيه : ان ما ذكر
انما يتم فيما إذا ورد دليل لفظي على وجوب شيء من غير ذكر عدل له ، فيتمسك بإطلاقه
لإثبات كون الوجوب تعيينيا. واما لو لم يثبت ذلك ، كما هو المفروض ، فلا معنى
للرجوع إلى الأصل العملي على ما مر.
فتحصل من جميع ما
ذكرناه أنه لا وجه للقول بالتعيين ، ولا مانع من الرجوع إلى البراءة عن الإلزام
بالإتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينيا.
ثم لا يخفى ان
الحكم بالتخيير انما يتم فيما إذا كان المكلف متمكنا من الإتيان بما يحتمل كونه
واجبا تعيينيا ، ليدور أمر الوجوب الفعلي الثابت في الجملة بين التعيين والتخيير.
واما فيما لم يتمكن من ذلك فالشك في كون الوجوب المجعول في الشريعة تعيينيا أو
تخييريا يستلزم الشك في الإلزام الفعلي بما يحتمل كونه عدلا ، ولا يحكم حينئذ
بالتخيير ليترتب عليه الإلزام المزبور ، بل يرجع إلى البراءة عنه ، لأنه مجهول ،
والعقاب على مخالفته على تقدير ثبوته عقاب بلا بيان.
اما الصورة
الثانية : فقد عرفت فيما تقدم انه لا ثمرة فيها للشك في كون الوجوب تعيينيا أو
تخييريا إلّا فيما إذا تعذر ما علم وجوبه في الجملة ، فانه على تقدير كون الوجوب
تخييريا يتعين الطرف الآخر المعلوم كونه مسقطا للواجب ، وليس كذلك على تقدير كون
الوجوب تعيينيا واشتراطه بعدم ما علم سقوطه به ، وعليه
__________________
فالشك في التعيين
والتخيير يرجع إلى الشك في الإلزام بما يحتمل كونه عدلا للواجب عند تعذره ، وقد
عرفت انه مورد للبراءة. فالنتيجة في هذه الصورة نتيجة التعيين دون التخيير.
ثم ان المحقق
النائيني قد استدل على كون الوجوب تعيينيا في خصوص مسألة القراءة والائتمام بما
ورد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من ان (سين بلال شين) بتقريب : ان الائتمام لو كان عدلا للقراءة لكان اللازم ان لا
يكتفي بذلك ، ويحكم بلزوم الائتمام عليه على تقدير التمكن منه.
ويرد عليه : ان ما
يتحمله الإمام من المأمور انما هي القراءة ، وليس فيها حرف الشين ليتعين الائتمام
عند تعذر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييريا ، فالاستدلال المزبور أجنبي عما
نحن فيه بالكلية.
واما الصورة
الثالثة : فلا أثر فيها للشك فيما إذا لم يتمكن المكلف إلّا من أحد الفعلين ،
ضرورة وجوب الإتيان به حينئذ ، اما لكونه واجبا تعينيا ، أو عدلا لواجب تخييري
تعذر بعض أطرافه. وانما تظهر الثمرة في صورة التمكن منهما جميعا ، فيدور الأمر بين
وجوب الإتيان بهما وجواز الاكتفاء بأحدهما ، وقد ظهر مما ذكرنا ان الحكم هو
التخيير ، لأن تعلق التكليف بالجامع أمر معلوم ، وتعلقه بخصوص كل من الفعلين مجهول
، فيرجع إلى البراءة العقلية.
واما القسم الثاني
: وهو ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية والطريقية ، فالمرجع فيه
هو الحكم بالتعيين ، فان ما علم حجيته المرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية قاطع
للعذر في مقام الامتثال ومبرأ للذمة في مقام الظاهر ، واما الطرف الآخر المحتمل
كونه حجة تخييرا فهو محكوم بعدم الحجية عقلا وشرعا ، لما
__________________
عرفت في محله من
ان الشك في الحجية في مقام الجعل مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية ، فكلما شك في
حجيته لشبهة حكمية أو موضوعية لا يصح الاعتماد عليه في مقام العمل ، كما لا يصح
اسناد مؤداه إلى المولى ولو ظاهرا.
واما القسم الثالث
: وهو ما إذا دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم ،
فالحق فيه هو الحكم بالتعيين. وتوضيح ذلك يبتني على تقديم مقدمتين.
الأولى : ان
التزاحم في مقام الامتثال وان أوجب سقوط أحد التكليفين بامتثال الآخر لا محالة ،
لاستحالة بقائهما على إطلاقهما ، إلّا أنه لا يوجب سقوط الملاكين عما هما عليه من
حد الإلزام ، إذ المفروض ان عجز المكلف هو الّذي أوجب التزاحم ورفع اليد عن أحد
الخطابين في ظرف امتثال الآخر ، وإلّا كان الواجب امتثالهما معا وعدم جواز
الاكتفاء بأحدهما عن الآخر.
الثانية : قد
ذكرنا في محله انّ تفويت الغرض الملزم بعد إحرازه بمنزلة مخالفة التكليف الواصل في
حكم العقل بقبحه ، ولا يرتفع هذا القبح إلّا بعجز المكلف تكوينا ، أو بتعجيز
المولى إياه بامره بما لا يجتمع معه في الخارج ، وما لم يتحقق شيء من الأمرين يحكم
العقل بقبح التفويت واستحقاق العقاب عليه.
إذا عرفت ذلك نقول
: إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين معلوم الأهمية ، فلا محالة يكون التكليف الفعلي
متعلقا به ، وصارفا لقدرة المكلف نحوه ، والملاك في الطرف الآخر وان كان ملزما في
نفسه إلّا ان تفويته مستند إلى تعجيز المولى ، لأمره بصرف القدرة إلى ما يضاده ،
فإذا أتى المكلف بالواجب الأهم كان معذورا في تفويت الملاك الآخر بالضرورة. نعم لو
عصى هذا التكليف لم يكن مانع عن التكليف بالمهم ، بناء على ما قررناه في محله من
إمكان التكليف بالضدين على نحو الترتب.
وان كان كل من
الواجبين مساويا مع الآخر من جهة الملاك ، فحيث لا ترجيح في البين فلا يعقل
التكليف الفعلي المطلق بخصوص أحدهما دون الآخر ، فلا بد من التكليف بكل منهما
مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، أو بهما معا على نحو التخيير على الخلاف المتقدم في
محله. وعلى كل من القولين لا ينبغي الإشكال في جواز الاكتفاء بأحدهما وتفويت ملاك
الآخر ، لأنه أقصى ما يتمكن المكلف منه من تحصيل غرض المولى كما هو المفروض.
واما إذا كان أحد
الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمية ، فالإتيان به ولو بتفويت الملاك في الآخر لا
إشكال في جوازه ، لدوران الأمر بين كونه متعينا في مقام الامتثال أو مخيرا بينه
وبين الطرف الآخر ، وعلى كل حال فالإتيان به خال عن المحذور. واما تفويت الغرض
المحتمل أهميته مع القدرة تكوينا على تحصيله فلم يثبت جوازه ، فان الإتيان بالطرف
الآخر وان كان موجبا بعجز المكلف عنه إلّا انه تعجيز اختياري ، وهو لا ينافي صحة
العقاب. وبالجملة الملاك الملزم المتحقق في ما احتمل أهميته لا يجوز تفويته في حكم
العقل إلّا بالعجز تكوينا أو تشريعا ، والمفروض في المقام قدرة المكلف على تحصيله
ولو بتفويت الملاك الآخر ، فلا يجوز تفويته لحكم العقل بالاشتغال واستحقاق العقاب
على تفويته من غير عذر.
ومما ذكرنا يظهر
الفرق بين هذا القسم والقسم الأول ، فان الشك في التخيير والتعيين في القسم الأول
انما كان ناشئا من الشك في كيفية الجعل ، والجهل بمتعلق تكليف المولى وما يفي به
غرضه ، فلا مانع من الرجوع فيه إلى البراءة عن التكليف الزائد على المقدار المتيقن
، بخلاف الشك في هذا القسم ، فانه ناشئ من التزاحم بعد إحراز متعلق التكليف
واشتمال كل من الواجبين على الملاك الملزم ، فلا مناص فيه من القول بالاشتغال ،
تحصيلا للفراغ اليقيني والأمن من العقوبة.
تنبيهات الأقل والأكثر
وينبغي التنبيه
على أمور :
الأمر الأول : إذا ثبتت شرطية شيء أو
جزئيته للمأمور به في الجملة ، ودار الأمر بين كونها مطلقة ليبطل العمل بفقدانها
ولو في حال النسيان ، أو مختصة بحال العمد ليختص البطلان بالترك العمدي ، فهل
القاعدة تقتضي الإطلاق ما لم يثبت التقييد بدليل ، أو تقتضي الاختصاص إلّا فيما دل
الدليل بالخصوص على الإطلاق؟ وجهان.
وقبل تحقيق ذلك
ينبغي التكلم في إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الاجزاء والشرائط واستحالته ،
فإذا ثبت صحة العمل الفاقد لبعض الاجزاء أو الشرائط نسيانا ، كما في الصلاة إذا
كان المنسي من غير الأركان ، فهل يكون الحكم بالصحّة لأجل جهة وفاء المأتي به
بالملاك الملزم ، وسقوط الأمر باستيفاء ملاكه؟ وهذا البحث وان لم يترتب عليه ثمرة
عملية في المثال إلّا انه يترتب عليه الأثر في موارد جريان الأصل العملي كما ستعرف
إن شاء الله تعالى. ذهب جماعة إلى استحالة توجيه الأمر إلى الناسي ، فاختاروا ان
الصحة في مفروض المثال من جهة الوفاء بالملاك ، لا من جهة انطباق المأمور به ، على
المأتي به ، نظرا إلى ان الناسي إذا التفت إلى نسيانه انقلب إلى الذاكر ، فلا يكون
الحكم الثابت لعنوان الناسي فعليا في حقه ، وان لم يلتفت إلى نسيانه فلا يعقل
انبعاثه عنه ، وما لم يمكن الانبعاث لا يمكن
البعث بالضرورة ،
فعلى كلا تقديري الالتفات وعدمه يستحيل فعلية الحكم في حقه ، ومع استحالة الفعلية
يمتنع الجهل بالضرورة.
وقد ذهب صاحب
الكفاية إلى إمكان ذلك ، وأفاد في بيانه وجهين :
الأول : ان يوجه
الخطاب إلى الناسي لا بعنوانه ، بل بعنوان ملازم له واقعا وان لم يكن الناسي
ملتفتا إلى الملازمة ليرد المحذور.
وفيه : أن هذا
مجرد فرض وهمي ، لا واقع له ، ولا سيما أن النسيان يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص
، واختلاف متعلقه ، فقد يتعلق النسيان بالقراءة ، وقد يتعلق بالسجود أو بغير ذلك
من اجزاء الصلاة وشرائطها ، فأي عنوان يفرض ملازما للنسيان أينما تحقق ، خصوص إذا
اعتبر فيه ان لا يكون الناسي ملتفتا إلى الملازمة بينهما.
الثاني : أن يوجه
التكليف إلى عامة المكلفين بالإتيان بما يتقوم به العمل في حالتي العمد والسهو ،
واما بقية الاجزاء والشرائط فيوجه الأمر بكل منها إلى خصوص الذاكرين ، أو يخبر عن
كونه جزءا أو شرطا لهم خاصة ، وعلى كل حال تختص الجزئية أو الشرطية فيها بحال
الذّكر ، ولا يعم حال النسيان.
وهذا الوجه الّذي
ذكره متين في مقام الثبوت ، إلّا انه يحتاج في مقام الإثبات إلى ما يدل عليه. وقد
ثبت ذلك في باب الصلاة ، حيث ان الأمر بالأركان فيها مطلق لعامة المكلفين ، واما
بقية الاجزاء والشرائط فالأمر بها مختص بحال الذّكر بمقتضى حديث لا تعاد وغيره من
النصوص الواردة في موارد خاصة ، وعليه فالناسي لجزء وان كان غير ملتفت إلى نسيانه
إلّا انه ملتفت إلى ان كلما يأتي به من الاجزاء والشرائط انما يأتي به بما هو
مأمور به ، غاية الأمر أنه يتخيل ان ما يأتي به مماثل لما
__________________
يأتي به غيره من
الذاكرين ، وان الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إليهم ، ومن الظاهر أن ذلك لا
يضر بصحة العمل بعد وجود الأمر الفعلي ومطابقة المأتي به للمأمور به وان لم يكن
الآتي ملتفتا إلى خصوصية الأمر وكيفيته.
ولعل هذا هو مراد
الشيخ قدسسره مما أفاده في المقام من إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي ،
والحكم بصحة عمله وان كان مخطئا في التطبيق ، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني قدسسره من انّ الخطأ في التطبيق انما يعقل فيما إذا أمكن جعل كل
من الحكمين في نفسه ، ولكن كان الواقع في الخارج أحدهما وتخيل المكلف انه الآخر ،
كما إذ أتى المكلف بعمل معتقدا استحبابه فبان انه واجب أو بالعكس. واما في المقام
فبما ان تكليف الناسي مستحيل في مقام الثبوت فلا يمكن ان يدرج ذلك في كبرى الخطأ
في التطبيق.
إذا عرفت ذلك
فنقول : ان البحث في محل الكلام قد يكون فيما يقتضيه الأصول اللفظية ، وقد يكون
فيما يقتضيه الأصول العملية. فهنا مقامان.
أما المقام الأول
: فتحقيق الحال فيه ان يقال : ان دليل الجزئية أو الشرطية أما أن يكون له إطلاق
يشمل حال النسيان أيضا كقوله عليهالسلام «لا صلاة إلّا
بفاتحة الكتاب» أو «من لم يقم صلبه في صلاته فلا صلاة له» ، أو لا يكون له إطلاق كالاستقرار المعتبر في الصلاة ، فان
عمدة دليله الإجماع ، ولا إطلاق له لغير حال العمد. وعلى كلا التقديرين اما أن
يكون لدليل أصل الواجب كالصلاة في محل الكلام إطلاق لجميع الحالات ، أو لا يكون له
إطلاق ، فالصور أربعة.
اما إذا فرض عدم
الإطلاق لدليل الجزئية أو الشرطية ، ولدليل أصل
__________________
الواجب ، فيقع
الكلام عنه في المقام الثاني.
واما إذا كان
لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق ، فلا بد من الأخذ به ، والحكم بالجزئية أو
الشرطية المطلقة من دون فرق بينما إذا كان لدليل الواجب إطلاق وما لم يكن ، فانه
إذا لم يكن له إطلاق الأمر واضح.
واما إذا كان له
إطلاق ، فلان إطلاق دليل المقيد يتقدم على إطلاق الدليل المطلق ، وعلى كلا
التقديرين لا مجال للرجوع إلى البراءة ورفع الجزئية أو الشرطية في حال النسيان
بحديث الرفع ، إذ الإطلاق المفروض دليل لا يجري معه البراءة.
فان قلت : كيف
يعقل الإطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية مع انها منتزعة من الأمر بالمركب أو
المقيد ، ومن الظاهر أن الأمر بما هو مركب من المنسي أو مقيد به مستحيل عقلا ،
لأنه تكليف بما لا يطاق ، فلا يعقل الجزئية أو الشرطية المطلقة.
قلت : ليس المراد
بإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ثبوت الجزئية أو الشرطية حال النسيان ليستحيل ذلك
، بل المراد به ثبوتها في جميع آنات الأمر بالمركب أو بالمقيد ، فلازم الإطلاق المزبور
سقوط الأمر عند نسيان الجزء أو الشرط ، لا ثبوته متعلقا بما يشتمل عليه ، وعلى ذلك
فمع الإطلاق المزبور يحكم بفساد العمل الفاقد لبعض الاجزاء أو الشرائط حال
النسيان.
فان قلت : ان
إطلاق دليل الجزئية أو الشرطية لحال النسيان وان كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة
لإلغاء جزئية المنسي أو شرطيته ، إلّا انه لا مانع من التمسك بحديث رفع الخطأ
والنسيان لإثبات ذلك ، لما عرفت فيما تقدم ان الرفع بالإضافة إلى غير ما لا يعلمون
رفع واقعي ، وحاكم على إطلاقات الأدلة المثبتة للأحكام في ظرف الخطأ والنسيان
وغيرهما ، وبذلك يثبت صحة المأتي به وكونه مطابقا لما امر به
فعلا.
قلت : انّ رفع
الخطأ والنسيان لا يترتب عليه فيما نحن فيه إلّا نفي الإلزام عما هو مركب من
المنسي أو المقيد به ، ضرورة أن نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلّا برفع منشأ
انتزاعه من الأمر بالمركب أو المقيد ، ولا يترتب على ذلك ثبوت الأمر بغير المنسي
كما هو المدعى ، على انا قد ذكرنا في بحث حديث الرفع ان نسيان جزء أو شرط في فرد
من افراد الواجب لا يكون موردا لحديث الرفع أصلا فراجع. ومما ذكرنا يظهر الحال
فيما إذا أكره أو اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط مما اعتبر في الواجب. هذا فيما
إذا لم يدل دليل بالخصوص على عدم سقوط الواجب بتعذر بعض اجزائه أو شرائطه. واما
فيما دل على ذلك ، كما في باب الصلاة ، فلا ينبغي الإشكال في عدم سقوطه ، والإتيان
بما يتمكن منه كما سيأتي الكلام فيه مفصلا. هذا كله فيما إذا كان لدليل الجزئية أو
الشرطية إطلاق.
واما إذا لم يكن
له إطلاق ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، فيؤخذ به ، ويحكم بصحة العمل الفاقد للجزء
أو الشرط المنسي ، من دون فرق بين موارد التكاليف الانحلالية وما إذا كانت الطبيعة
متعلقة للتكليف بنحو صرف الوجود وكان النسيان متعلقا بجزء أو شرط في فرد منها في مقام
الامتثال ، والوجه فيه ظاهر لا يخفى.
ثم انه ربما يقال
: ان كلما ثبتت جزئية شيء أو شرطيته بالأمر به فلا إطلاق له لحال النسيان ،
لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، والمنسي غير مقدور بالضرورة ، فلو كان لدليل
الواجب إطلاق لم يكن مانع عن التمسك به لإثبات التكليف بغير المنسي من الاجزاء
والشرائط.
والجواب عنه يظهر
مما ذكرناه في محله من انّ الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط ليست بأوامر بعثية
، بل هي إرشاد إلى جزئية المأمور به أو شرطيته حسب اختلاف المقامات ، كما ان النهي
عن الإتيان بشيء في الواجب إرشاد إلى
مانعيته لا زجر
مولوي عنه ، وعليه فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر لإثبات الجزئية أو الشرطية
المطلقة.
المقام الثاني :
فيما إذا لم يكن لكل من دليل الواجب ودليل الجزئية أو الشرطية إطلاق. والكلام فيه
يقع في موردين.
الأول : في موارد
التكاليف الانحلالية.
الثاني : في موارد
التكاليف المتعلقة بصرف وجود الطبيعة.
اما المورد الأول
: فالشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة ملازم للشك في التكليف بغير المنسي من
الاجزاء والشرائط ، فإذا أمر المولى عبده بالوقوف في يوم معين من طلوع الشمس إلى
الزوال ، فنسي المكلف ، فلم يقف ساعة من أول النهار ، وشك في ان جزئية الوقوف في
هذه الساعة جزئية مطلقة ليترتب عليها سقوط الأمر في الساعات المتأخرة ، أو انها
مقيدة بحال الذّكر ليكون الأمر به في المقدار الباقي باقيا على حاله ، فالشك لا
محالة شك في التكليف ، فيرجع معه إلى البراءة فلا يجب عليه الإتيان بغير المنسي ،
وهذا واضح لا يخفى.
واما المورد
الثاني : فالتكليف فيه بأصل الطبيعة مفروغ عنه ، إلّا ان الشك في إطلاق الجزئية أو
الشرطية واختصاصها بحال الذّكر شك في جواز الاكتفاء بما أتى به من الاجزاء
والشرائط وعدمه ، فإذا نسي جزءا من الصلاة ، وذكره بعد تجاوز محله ، فان كانت
الجزئية مطلقة لزمه إعادتها وعدم الاجتزاء بما أتى به ، وإذا كانت الجزئية مقيدة
بحال الذّكر فالعمل المأتي به لم يكن فاقدا لشيء من الاجزاء والشرائط ، فينطبق
المأمور به عليه ، بعد ما عرفت من إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه. وعليه فلا
مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة لنفي الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، بعد
فرض ثبوت أصل التكليف في الجملة ، وإمكان تكليف الناسي ، وعدم الإطلاق لدليل
الجزئية أو الشرطية.
توضيح ذلك : انه
بعد دخول الوقت نعلم بوجوب الصلاة ، كما نعلم بجزئية التشهد مثلا المردد بين
الإطلاق والاختصاص بحال الذّكر ، ولازم العلمين المزبورين تردد الواجب بين أن يكون
خصوص الطبيعي المشتمل على التشهد أو الجامع بينه وبين الفاقد له في حال النسيان ،
فيرجع الأمر إلى العلم بالقدر الجامع والشك في اعتبار التشهد على الإطلاق ، فيرجع
إلى البراءة في مورد الشك ، فلا يحكم بالجزئية إلّا في المقدار المتيقن ، وهو مورد
الذّكر دون النسيان ، هذا بناء على ما هو الصحيح من إمكان شمول الأمر للناسي على
ما عرفت. واما بناء على استحالته فما صدر من الناسي غير مأمور به قطعا ، فالشك في
صحته وفساده يكون ناشئا عن الشك في وفائه بالغرض وعدمه ، ومعه لا بد من الرجوع إلى
قاعدة الاشتغال ، فان سقوط الأمر بغير الإتيان بالمأمور به يحتاج إلى قيام دليل ،
وهو مفقود في محل الكلام على الفرض. وهذه هي الثمرة التي أشرنا إليها عند التكلم
عن إمكان تكليف الناسي.
ومما ذكرناه ظهر
الحال من حيث جريان البراءة وعدمه فيما إذا استند ترك الجزء إلى اضطرار أو إكراه
ونحوهما.
التنبيه الثاني : في حكم الزيادة
العمدية والسهوية. ولا بد قبل التكلم
في ذلك من تحقيق مفهوم الزيادة ، والكلام فيه يقع من جهتين.
الأولى : في إمكان
تحقق الزيادة حقيقة في المركبات الاعتبارية وعدمه.
الثانية : في
اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.
اما الجهة الأولى
: فقد يقال فيها باستحالة تحقق الزيادة حقيقة وان كانت متحققة بالمسامحة العرفية ،
نظرا إلى ان كل جزء أخذ في المركب ان كان مأخوذا على نحو اللابشرط ومن غير تقييد
بالوجود الواحد فلا يعقل فيه تحقق الزيادة ، إذ كل ما أتى بفرد من طبيعي ذلك الجزء
كان مصداقا للمأمور به ، سواء كان المأتي به فردا
واحدا أو أكثر.
وإن كان مأخوذا بشرط لا عن الوجود الثاني. فالإتيان به مرة ثانية مستلزم لفقدان
القيد المأخوذ في الجزء المستلزم للنقيصة لا محالة ، وعلى كل حال فلا يعقل تحقق
الزيادة حقيقة.
والجواب عنه : انّ
اعتبار اللابشرطية لا ينافي تحقق الزيادة ، فانّ أخذ شيء جزءا للمركب لا بشرط
يتصور على وجهين :
أحدهما : ان يكون
طبيعي ذلك الجزء مأخوذا في المركب ، من دون نظر إلى وحدة الفرد وتعدده ، وفي مثل
ذلك لا يمكن تحقق الزيادة كما مر.
وثانيهما : ان
يعتبر صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات جزءا للمركب ، سواء انضم إليه وجود ثان
أم لم ينضم ، ففي مثل ذلك الانضمام وعدمه وان كانا على حد سواء في عدم دخلهما في
جزئية الوجود الأول ، الّذي هو معنى أخذ لا بشرط ، إلّا انه لا يقتضي كون الوجود الثاني
أيضا مصداقا للمأمور به ، وحينئذ يتحقق الزيادة مع كون الجزء مأخوذا لا بشرط بهذا
النحو. على ان عدم صدق الزيادة حقيقة وبالدقة العقلية لا يترتب عليه أثر بعد كون
الأحكام تابعة للصدق العرفي ، ومن الضروري صدقها عرفا ولو مع أخذ الجزء بشرط لا
كما هو ظاهر. ومما ذكرنا يظهر الحال في صحة صدق الزيادة إذا كان الزائد غير مسانخ
للاجزاء المأمور بها.
واما الجهة
الثانية : فالظاهر اعتبار القصد في تحقق عنوان الزيادة ، والوجه في ذلك ان المركب
الاعتباري كالصلاة مركب من أمور متباينة مختلفة وجودا وماهية ، والوحدة بينها
متقومة بالقصد والاعتبار ، فلو أتى بشيء بقصد ذلك العمل كان جزءا له ، وإلّا فلا.
هذا في غير الركوع والسجود ، واما فيهما فالظاهر تحقق الزيادة بنفس وجودهما ، وان
لم يكن الإتيان بهما بعنوان الصلاة ، وذلك لما دل على ان الإتيان بسجدة التلاوة
زيادة في الفريضة ، مع ان المفروض عدم الإتيان بها
بعنوان الصلاة ،
فبالتعبد الشرعي يجري على ذلك حكم الزيادة وان لم يكن من الزيادة حقيقة. ويلحق
بالسجدة الركوع بالأولوية القطعية ، ويترتب على ذلك عدم جواز الإتيان بصلاة في
أثناء صلاة أخرى في غير الموارد المنصوصة ، فان الركوع والسجود المأتي بهما بعنوان
الصلاة الثانية محقق للزيادة في الصلاة الأولى الموجبة لبطلانها. وقد بينا وجها
آخرا لعدم جواز ذلك في كتاب الصلاة ، ليس المقام محل ذكره.
إذا عرفت ذلك
فنقول : الشك في بطلان العمل من جهة الزيادة العمدية أو السهوية يكون ناشئا من
الشك في اعتبار عدمها في المأمور به لا محالة ، ومن الظاهر انه ما لم يقم عليه
دليل كان مقتضى الأصل عدمه ، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية. هذا فيما
إذا لم تستلزم الزيادة موجبا للبطلان من جهة أخرى ، كما إذا قصد المكلف امتثال
خصوص الأمر المتعلق بما يتركب من الزائد ، فانه لا إشكال في البطلان في هذا الفرض
إذا كان الواجب عباديا ، لأن الأمر المقصود امتثاله لم يكن متحققا ، وما كان
متحققا لم يقصد امتثاله. نعم إذا قصد المكلف امتثال الأمر الفعلي ، وقد أتى
بالزائد لاعتقاد كونه مأمورا به من جهة الخطأ في التطبيق أو التشريع فيه صح العمل
، وحصل التقرب ، لما عرفت من ان الزيادة في نفسها لا توجب البطلان ، والتشريع في
التطبيق القبيح عقلا وشرعا لا ينافي التقرب بامتثال الأمر الموجود ، كما هو
المفروض. هذا ما تقتضيه القاعدة على الإطلاق.
إلّا انه قد ورد
الدليل على بطلان الصلاة والطواف بالزيادة فيهما. اما الطواف فلا ينبغي الشك في
بطلانه بالزيادة العمدية أو السهوية. واما الصلاة فلا إشكال في بطلانها بالزيادة
العمدية أيضا ، انما الكلام في الزيادة السهوية.
والتحقيق : عدم
بطلانها بها إذا كان الزائد من غير الأركان ، والوجه في ذلك ان أدلة بطلانها بالزيادة
على طوائف.
منها : ما دل على
بطلانها بها مطلقا كقوله عليهالسلام «من زاد في صلاته
فعليه الإعادة».
ومنها : ما دل على
بطلانها بالزيادة السهوية كقوله عليهالسلام «إذا استيقن انه
زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا» .
ومنها : ما دل على
ان الإخلال السهوي زيادة ونقيصة إذا كان في الأركان فهو موجب للبطلان ، وإذا كان
في غيرها مما اعتبر في الواجب جزءا أو شرطا فلا يضر بالصحّة ، كقوله عليهالسلام «لا تعاد الصلاة
إلّا من خمسة : الطهور ، الوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» . وتوهم اختصاص الرواية بالنقيصة لعدم تصور الزيادة في
الوقت والقبلة والطهور واضح الدفع ، فان انحصار الإخلال فيها بالنقيصة خارجا لا
يوجب إرادة خصوصها ، بعد قابلية الركوع والسجود للزيادة والنقيصة.
ومقتضى الجمع بين
هذه الروايات اختصاص البطلان في الزيادة السهوية بالأركان ، فان الرواية الأولى
وان كانت عامة من حيث السهو والعمد ، ومن حيث الأركان وغيرها ، إلّا انها خاصة
بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين «لا تعاد» عموم من وجه ، فان حديث «لا تعاد» الدال
على عدم البطلان بالزيادة في غير الأركان سهوا وان كان خاصا من هذه الجهة إلّا انه
عام من جهة الزيادة والنقيصة ، كما ان الرواية الثانية الواردة في خصوص السهو عامة
من حيث الأركان وغيرها ، وخاصة بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين حديث «لا تعاد»
المختص بغير الأركان والشامل للزيادة والنقيصة أيضا عموم من وجه ، إلّا ان حديث «لا
تعاد» لحكومته على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها الروايتان المتقدمتان
يتقدم عليها لا محالة ، ولا
__________________
تلاحظ النسبة بينه
وبينها كما هو الحال في كل حاكم ومحكوم.
فتحصل مما ذكرنا
ان الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة مطلقا بمقتضى إطلاق الرواية الأولى ،
وبمقتضى الأولوية القطعية في الرواية الثانية ، ولا معارض لها بعد كون حديث «لا
تعاد» ظاهرا في إثبات الحكم لمن أتى بوظيفته ثم التفت إلى خلل فيه ، فلا يعم
العامد. وان الزيادة السهوية موجبة للبطلان إذا كانت في الأركان ، لإطلاق كل من
الروايات المتقدمة. واما الزيادة السهوية في غير الأركان فهي مورد المعارضة ، وقد
عرفت انه لا بد من تقديم حديث «لا تعاد» لأجل الحكومة ، هذا في الزيادة.
واما النقيصة فلا
ينبغي الشك في بطلان الصلاة بها إذا كانت عمدية. واما إذا كانت سهوية فمقتضى حديث «لا
تعاد» هو البطلان فيما إذا كان المنسي من الأركان ، والصحة فيما إذا كان الناقص
غيرها. وتمام الكلام في بحث الصلاة.
التنبيه الثالث : إذا تعذر الإتيان ببعض اجزاء الواجب أو شرائطه فهل القاعدة
تقتضي سقوط التكليف به رأسا ، أو بقائه متعلقا بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط؟
والتكلم في هذا البحث من جهة التمسك بالإطلاق لو كان ، أو بالأصل العملي من
البراءة والاشتغال قد ظهر الحال فيه مما مر في التنبيه الأول فيما إذا نسي الجزء
أو الشرط ، فلا حاجة إلى الإعادة. وقد عرفت هناك ان الواجب إذا كان انحلاليا ، ولم
يتمكن المكلف من الإتيان بجميع اجزائه وشرائط لنسيان أو إكراه أو اضطرار أو غير
ذلك ، ولم يكن في البين إطلاق يمكن التمسك به لإثبات وجوب المقدار الممكن ، كان مقتضى
الأصل هو البراءة العقلية والنقليّة عن وجوبه ، على ما تقدم بيانه في حديث الرفع.
إلّا انه ربما
يقال بوجوب المقدار الميسور من جهة الاستصحاب ، أو الأدلة الخاصة الواردة في
المقام.
اما الاستصحاب ،
فتقريبه من وجوه.
الأول : ان يستصحب
الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي المتعلق بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط ،
فان وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتا ، ونشك في ارتفاع
أصل الوجوب بارتفاعه ، فيتمسك بالاستصحاب في الحكم ببقائه.
ويرد عليه : انه
مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلي ، ولا نقول به ، فان
الفرد المعلوم تحققه وهو الوجوب الضمني قد ارتفع يقينا ، والوجوب الاستقلالي مشكوك
الحدوث ، فليس وجود واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه بالاستصحاب.
الثاني : ان
يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامة ، بأن يقال : كان وجوب الصلاة مثلا
قبل تعذر بعض أجزائها ثابتا في الخارج ، فيشك في ارتفاعه بعد طروء التعذر ،
فيستصحب بقاؤه.
ويرد عليه : أولا
: ان الوجوب لا يتحقق في الخارج إلّا متعلقا بشيء ، ومتقوما به ، وعليه فالوجوب
المتيقن كان متقوما بالمركب من المتعذر وغيره ، والوجوب المشكوك بعد التعذر لو كان
فهو وجوب آخر متقوم بغير ما تقوم به الوجوب الأول ، فجريان الاستصحاب فيه لإثبات
جامع الوجوب مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث ، ولا نقول به.
وثانيا : ان
استصحاب الوجوب بنحو مفاد كان التامة ، وهو ما إذا لوحظ نفس وجوب الوجوب مع قطع
النّظر عن متعلقه لا يترتب عليه وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط إلّا على
القول بالأصل المثبت ، وستعرف بطلانه ، فالمقام نظير ما إذا علمنا بوجوب إكرام زيد
، ثم علمنا بارتفاعه ، واحتملنا وجوب إكرام عمرو ، فهل يمكن إثباته باستصحاب بقاء
وجوب الإكرام على نحو مفاد كان التامة؟
كلا.
الثالث : ان
يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلا فيما إذا لم يكن المتعذر من الاجزاء
المقومة بان يقال : ان الصلاة الفاقدة للجزء المتعذر التي هي متحدة مع الواجدة له
بنظر العرف كانت واجبة قبل طرو العذر ، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر
أيضا. والفرق بين هذا التقريب والتقريبين الأولين هو ان جريان الاستصحاب بناء على
هذا التقريب يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوم للواجب بنظر العرف لتكون القضية
المشكوكة متحدة مع المتيقنة بهذا النّظر ، وهذا بخلاف التقريبين الأولين ، فانه لو
صح جريان الاستصحاب عليهما لم يختص بمورد دون مورد كما هو ظاهر.
وتمامية هذا
التقريب تتوقف على أمرين.
أحدهما : صحة
جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية من جهة الشك في حد المجعول الشرعي ، والمختار
عندنا عدمها ، وستعرف الكلام فيه في بحث الاستصحاب.
ثانيهما : إحراز
كون المتعذر غير مقوم للواجب ، ليكون الشك في وجوب غير المتعذر من الاجزاء
والشرائط شكا في البقاء ، لا في الحدوث ، وعليه فربما يقال : بعدم جريان الاستصحاب
في كثير من موارد الشك في وجوب غير المتعذر من اجزاء المركبات الشرعية وشرائطها ،
بدعوى : ان المركب الشرعي ليس لنا طريق إلى تمييز المقوم عن غير المقوم من اجزائه
وشرائطه ، فكل جزء أو شرط كان متعذرا يحتمل كونه مقوما ، ومعه لا يمكن الاستصحاب ،
لعدم إحراز اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة. نعم إذا كان المركب من المركبات
العرفية كان تمييز المقوم عن غير المقوم منه موكولا إلى نظر العرف ، فما يرونه
مقوما لا يجري الاستصحاب عند تعذره ، كما ان ما لم يكن مقوما بنظرهم لا مانع من
جريان استصحاب وجوب أصل الواجب
عند تعذره.
ولكن الصحيح أن
يقال : إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوما للمركب فلا إشكال في عدم جريان
الاستصحاب عند تعذره. واما فيما لم يثبت على ذلك بيان من الشرع فالظاهر إيكال
الأمر إلى العرف ، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره نسبة طفيفة كنسبة الواحد إلى
العشرين مثلا كان الصدق العرفي متحققا ، فيجري الاستصحاب لإثبات وجوب غير المتعذر
، واما إذا كانت النسبة معتدا بها ، كما إذا كان المتعذر نصف الواجب أو ثلثه مثلا
فلا يجري الاستصحاب لعدم الوحدة العرفية.
ثم لا يخفى ان
جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثا في أثناء الوقت. وأما
إذا كان مقارنا لأول الوقت فلا يقين بتحقق التكليف في زمان ، والمرجع حينئذ هو
البراءة عن وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط. هذا وقد ذهب المحقق النائيني قدسسره في بحث الاستصحاب إلى جريان الاستصحاب ولو كان التعذر
مقارنا لأول الوقت ، بدعوى ان جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لا يتوقف
على فعلية الموضوع خارجا ، ومن ثم يتمسك الفقيه في الحكم بحرمة وطي الحائض بعد
زوال حيضها قبل الاغتسال ، وفي حكمه بنجاسة الماء القليل المتنجس المتمم كرا بماء
طاهر ، باستصحاب حرمة الوطء ، ونجاسة الماء ، مع عدم تحقق شيء من الموضوعين في
الخارج في زمان حكمه.
والجواب عن ذلك
يتوقف على بيان أمر : وهو ان جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي يتصور على وجوه.
الأول : ان يستصحب
الحكم في مقام جعله ومرحلة تشريعه عند احتمال
__________________
نسخه. ولا ريب ان
ثبوت الحكم في مقام الجعل لا يتوقف على فعلية الموضوع ، بل يجعل الحكم على موضوعه
المقدر وجوده على نحو القضية الحقيقية ، ولا رافع لمثله إلّا النسخ ، فإذا شك في
بقائه يتمسك بالاستصحاب من دون دخل في ذلك لوجود الموضوع في الخارج وعدمه.
الثاني : ان
يستصحب الحكم الفعلي الكلي عند الشك في سعته وضيقه لأجل الشك في حده ، كما إذا
شككنا في ان حرمة وطي الحائض هل ترتفع بارتفاع الحيض ، أو انها باقية إلى زمان
الاغتسال ، فان الفقيه عند شكه هذا يفرض امرأة حائضا ثبت حرمة وطيها في الخارج ،
ويشك في ارتفاعها بانقطاع حيضها ، فيتمسك بالاستصحاب ، فيفتي بحرمة وطي الحائض على
نحو القضية الحقيقية ما لم تغتسل.
والفرق بين هذا
القسم والقسم السابق بعد اشتراكهما في عدم توقف جريان الاستصحاب على وجود الموضوع
خارجا ان الشك في هذا القسم شك في مقدار المجعول أولا ، وان الموضوع في القضية
الحقيقية المجعولة أمر وسيع أو ضيق من أول الأمر. وأما القسم الأول فليس الشك فيه
شكا في حد الموضوع ، بل في بقاء الحكم في عمود الزمان على سعة الموضوع أو ضيقه ،
ومن ثم ينحصر موجب الشك في القسم الثاني بتبدل خصوصية في الموضوع مع القطع بعدم
النسخ ، وعدم تبدل الحكم المجعول أولا ، واما القسم الأول فمنشأ الشك فيه هو
احتمال النسخ مع القطع بعدم تبدل شيء من خصوصيات الموضوع ، فالقسمان متعاكسان.
الثالث : ان
يستصحب الحكم الجزئي الثابت لموضوع شخصي لأجل الشك في مزيله خارجا ، مع إحراز
الحكم الكلي من جهة موضوعه سعة وضيقا ومن حيث عدم نسخه ، كما إذا شككنا في بقاء
طهارة ثوب لاحتمال ملاقاته البول خارجا. وإجراء الاستصحاب في هذا القسم غير مختص
بالفقيه ، بل هو ثابت في حق كل
مكلف تيقن بحكم ثم
شك في بقائه ، ومنشأ الشك في البقاء فيه منحصر بالأمور الخارجية.
إذا عرفت ذلك يظهر
لك ان جريان الاستصحاب في محل الكلام إذا كان العذر مقارنا لأول الوقت لا وجه له
أصلا ، إذ الحكم في مورده غير متيقن في زمان ليكون الشك في بقائه ، فان اليقين
بثبوت الحكم في مقام الجعل وان كان ثابتا إلّا انه غير مرتفع قطعا ، لعدم احتمال
النسخ على الفرض. واما الحكم في غير مقام الجعل فلا يقين بثبوته ، إذ المفروض ان
التكليف بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أول الأمر ، فإذا فرض
الفقيه مكلفا تعذر عليه الإتيان بتمام المركب من أول الأمر ، فهو شاك في ثبوت
الحكم له ابتداء ، بلا سبق يقين منه ولو بالفرض والتقدير ، فلا يقاس ذلك بالشك في
حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع حيضها قبل الاغتسال. ولعمري ان ما ذكرناه لواضح لا
يكاد يخفى على المحقق المزبور ، إلّا أن الجواد قد يكبوا ، والمعصوم من عصمه الله.
هذا ما يقتضيه الأصل العملي.
واما ما تقتضيه الأدلة الخاصة
الاجتهادية فهو وجوب الإتيان بالميسور من اجزاء الصلاة وشرائطها ، فانها لا تسقط بحال ، للإجماع المحقق ، ولقوله عليهالسلام «فانها لا تدع الصلاة
بحال» نعم إذا كان المتعذر هي الطهارة الحدثية سقط التكليف بالصلاة ، ووجب قضاؤها
لأن الطهور مقوم لها ، لقوله عليهالسلام «لا صلاة إلّا
بطهور» الدال على نفي مشروعيتها بلا طهارة.
واما غيرها من
الواجبات العبادية وغيرها ، فقد استدل على وجوب الإتيان بالميسور منها بروايات.
الأولى : رواية
أبي هريرة المروية عن طرق العامة قال : خطبنا
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : «أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال
رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم. ثم قال : ذروني ما
تركتكم ، فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا
أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وسند الرواية منجبر
باشتهار الاستدلال به في كلمات الأصحاب. وتقريب الاستدلال : ان كلمة من في قوله عليهالسلام (منه) ظاهرة في
كونها تبعيضية ، لكونها الأصل فيها ، كما ان كلمة (ما) في قوله عليهالسلام (ما استطعتم)
ظاهرة في كونها موصولة ، فيكون مفاد الحديث لزوم الإتيان بما هو المقدور من اجزاء
المأمور به وشرائطه.
ولكن لا يخفى عدم
صحة الاستدلال المزبور وذلك.
أولا : فلعدم ثبوت
الرواية على النحو المذكور ، فانها وان كانت مروية في صحيح مسلم كذلك ، إلّا انها مروية في سنن النسائي الّذي هو أيضا من
الصحاح عندهم بوجه آخر ، وهو قوله عليهالسلام في آخر الرواية (فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم
وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ومن الظاهر ان كلمة (ما) في هذه الرواية لا تصلح
إلّا أن تكون ظرفية زمانية ، فمفادها وجوب الإتيان بالمأمور به عند الاستطاعة
والقدرة ، وهو أجنبي عما نحن بصدده. فإذا كان متن الرواية منقولا بطريقين مختلفين
في المفاد ، لم يصح الاستدلال بها على أحد الطريقين.
لا يقال : ان
اختلاف الطريق لا يضر بالاستدلال بعد كون أحدهما منجبرا بالشهرة عند الأصحاب دون
الآخر.
__________________
فانه يقال :
الرواية كما نقلت بوجهين في كتب العامة ، نقلت بوجهين في كتب الخاصة أيضا ، فلا
وجه لدعوى انجبار أحد الطريقين دون الآخر ، فالمنجبر على تقدير تسليمه انما هو
إحدى الروايتين إجمالا ، فلا يصح الاستدلال بخصوص إحداهما مع عدم ثبوت انجبارها.
قال المجلسي في باب صلاة العراة من كتاب البحار (وحكى الشهيد رحمهالله في الذكرى عن شيخه السعيد عميد الدين انه كان يقوى جلوس القائم ليومي
للسجود جالسا استنادا إلى كونه حينئذ اقرب إلى هيئة الساجد فيدخل تحت قوله فأتوا
به ما استطعتم) ويظهر من هذا الكلام ان الشهيد وشيخه نقلا الرواية بالباء ،
وارتضاه المجلسي ، فإذا لم يثبت كون المنقول في كلمات أصحابنا الإمامية كلمة (من).
هذا مضافا إلى ان الانجبار
من أصله غير ثابت ، ولو مع اتفاق الناقلين على نقل الرواية مشتملة على كلمة (منه)
، فان شهرة الاستدلال بالرواية الضعيفة في كلمات جماعة من المتأخرين مع عدم انحصار
المدرك فيها لا يكشف عن استناد المشهور إليها في مقام العمل ، ومعه لا يحصل الوثوق
بصدور الرواية ليدخل في موضوع الحجية ، ولا سيما مثل هذه الرواية التي راويها أبو
هريرة ، المعلوم حاله في تعمده الكذب ، ومن أراد الاطلاع على ذلك فليراجع محاله.
وثانيا : فلأنا
وان سلمنا ان الظاهر من تركيب الجملة المستدل بها للمقام هو حمل كلمة «من» على
التبعيض ، وكون كلمة «ما» موصولة ومفعولا به للإتيان ، إلّا ان هذا المعنى لا
ينطبق على مورد الرواية ، فان السؤال فيه عن لزوم تكرار الحج وعدمه ، ومن الظاهر
ان لزوم الإتيان بالمقدار المستطاع من أجزاء المركب الواحد
__________________
وعدمه أجنبي عن
ذلك ، فلا مناص من حمل الجملة المزبورة على معنى آخر منطبق على موردها.
وتوضيح ذلك : ان
محتملات الرواية ثلاثة :
الأول : ما تقدم
من كون كلمة (ما) موصولة ومفعولا للإتيان ، وكون كلمة (من) تبعيضية. وهذا المعنى على
تقدير ظهور الجملة فيه في نفسها لا بد من رفع اليد عنه ، لعدم انطباقه على المورد.
الثاني : أن تكون
كلمة (ما) موصولة ، وتكون كلمة (من) بيانية ليكون حاصل المعنى إذا أمرتكم بطبيعة
فأتوا ما استطعتم من افرادها ، ولا يبعد أن لا تكون كلمة (من) إذا كانت بيانية مغايرة
في المعنى لها إذا كانت تبعيضية ، غاية الأمر انه يختلف مصداق التبعيض ، فان الفرد
بعض الطبيعة الكلية ، كما ان الجزء بعض المركب ، وعليه فكلمة (من) في كلا
الاحتمالين مستعملة في التبعيض وان كان التبعيض يختلف باختلاف موارده ، فكما ان
كلمة (من) في قولك : اشتريت من البستان نصفه ، مستعملة في التبعيض ، كذلك الحال في
قولك : لا أملك من البستان إلّا واحدا.
وهذا الاحتمال في
نفسه وان كان وجيها ، ومعه لا يتم الاستدلال ، إلّا أنه أيضا لا ينطبق على المورد
، فان الحج وان قيل بوجوبه على المستطيع في كل سنة ، وقد ورد على طبقه روايات
عديدة ، إلّا أنه خلاف المشهور بين المسلمين قاطبة ، وخلاف ظاهر الرواية المزبورة
، فانها ظاهرة في عدم وجوبه إلّا مرة واحدة ، وعلى تقدير القول بوجوب التكرار في
الحج لا ينبغي الشك في أن غيره من الواجبات ليس كذلك ، مع ان الرواية ظاهرة في
إعطاء ضابطة كلية غير مختصة بباب الحج ، فإذا لا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى
أيضا.
الثالث : أن تكون
كلمة (من) زائدة كما في قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا
مِنْ
أَبْصارِهِمْ) وقوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) على ما احتمله بعضهم ، أو تكون بمعنى الباء ، فيكون الضمير
حينئذ مفعولا لكلمة (فأتوا) ، ولفظ (ما) ظرفية زمانية ، فالمعنى إذا أمرتكم بشيء
فأتوه عند استطاعتكم ، فلا يستفاد من الرواية إلّا اشتراط التكليف بالقدرة الساري
في جميع التكاليف الشرعية. وهذا الاحتمال لا مناص من الالتزام به بعد عدم انطباق
الاحتمالين الأولين على مورد الرواية ، فلو سلم انه في نفسه خلاف الظاهر ،
فالقرينة القطعية ساقتنا إلى الأخذ به ، ومعه لا مجال للاستدلال بها في محل
الكلام.
الثانية : المرسلة
المحكية عن غوالي اللئالي كما في عوائد النراقي رحمهالله عن عليعليهالسلام انه قال : «ما لا يدرك كله لا يترك كله» ، وتقريب الاستدلال بها ان لفظ الكل المذكور في الرواية لا
يمكن أن يراد به العموم المجموعي ولا الاستغراقي في كلتا الفقرتين ، إذ لا يعقل
الحكم بوجوب إتيان ما لا يتمكن المكلف من مجموعه أو جميعه ، فلا مناص من ان يراد
به في الفقرة الأولى العموم المجموعي ، وفي الثانية العموم الاستغراقي ، ليكون
المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذر المجموع ، فيكون مفاد الرواية أنه إذا ترك
المجموع لتعذره فلا يجمع في الترك ، بل يقتصر على ترك البعض دون بعض. وهذا المعنى
يشمل الكلي الّذي له افراد متعددة تعذر الجمع بينها دون بعض والمركب من اجزاء
مختلفة الحقيقة قد تعذر بعضها ، فان العام إذا كان ملحوظا بنحو العموم المجموعي لا
يفرق فيه بين كون أجزائه متفقة الحقيقة أو مختلفة. وعليه فكل ما كان الواجب ذا
افراد أو ذا أجزاء متعددة وجب الإتيان بما هو المقدور من أجزائه أو افراده.
__________________
وأشكل في الكفاية على الاستدلال بها بان ظهور إطلاق النهي في التحريم يعارضه
إطلاق الموصول للمستحبات أيضا ، وبما أنه لا مرجح لأحدهما على الآخر ، لا يستفاد
منها إلّا رجحان الإتيان بما هو المقدور من الأجزاء دون وجوبه.
ويرد عليه : أولا
: بما ذكرناه في محله من أن كلا من الوجوب والحرمة انما هو بحكم العقل ، وخارج عن
دائرة المستعمل فيه ، وان الصيغة مطلقا لا تستعمل إلّا في معنى واحد ، وكل مورد
ثبت فيه الترخيص في الفعل أو الترك يحكم فيه بالاستحباب أو الكراهة ، وإلّا فالعقل
يستقل بلزوم الإطاعة جريا على مقتضى قانون العبودية والمولوية ، وعليه فالموصول
وان كان شاملا للمستحبات إلّا ان ثبوت الترخيص بترك المقدور من أجزائها لا ينافي
حكم العقل بلزوم الإتيان بالمقدور من اجزاء الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص فيها.
وثانيا : ان رجحان
الإتيان بالمقدور من أجزاء الواجب يستلزم وجوبه ، لعدم القول بالفصل ، فان أمره
دائر بين كونه واجبا أو غير مشروع ، فرجحانه مستلزم لوجوبه لا محالة ، وقد تقدم
نظير ذلك في الاستدلال بآية النفر.
والتحقيق في
الجواب أن يقال : أن الرواية على تقدير تسليم دلالتها لم يثبت انجبارها بعمل
الأصحاب ، إذ لم نعثر عليها في غير كتاب العوائد فلا وثوق باعتماد الأصحاب عليها ،
مع عدم وجدانها في كتب من تقدم على صاحب غوالي اللئالي. على أن دلالتها مخدوشة من
وجهين.
الأول : أن ظاهر
الرواية أن كل طبيعي وجب الإتيان بأفراده على نحو الاستغراق ، ولم يتمكن المكلف من
الإتيان بجميعها وجب الإتيان بما تمكن ولو كان
__________________
فردا واحدا ، فان
تعذر بعض أفراد الواجب لا يوجب إلّا سقوط نفسه دون غيره من الافراد الممكنة ، وعلى
هذا فالحكم في الرواية إرشادي غير مختص بمورد دون مورد. واما إذا حملناها على تعذر
المركب مع التمكن من الإتيان ببعض أجزائه ، فلا بد من تقييدها بما إذا كان المتمكن
منه معظم الأجزاء ، فانه إذا كان المتعذر هو المعظم لم يجب الإتيان بالباقي بلا
كلام ، والتقييد خلاف الأصل.
الثاني : أن أمر
الرواية في نفسه دائر بين حملها على موارد تعذر المركب مع التمكن من بعض أجزائه ،
ليكون الوجوب المستفاد منها مولويا بعد سقوط المركب بتعذره ، وبين حملها على موارد
تعذر بعض أفراد الواجب مع التمكن من البعض الآخر ، ليكون الوجوب إرشاديا إلى حكم
العقل من عدم سقوط وجوب شيء بتعذر غيره ، وبما أنه لا جامع بين الوجوب الإرشادي
والمولوي لتكون الرواية شاملة لكلا الأمرين ، ولا قرينة على تعيين أحدهما مع قطع
النّظر عما ذكر في الوجه الأول ، فتكون الرواية مجملة لا يصح الاستدلال بها.
فان قلت : ان ظهور
الأمر في المولوية يعين الاحتمال الأول ، فتختص الرواية بموارد تعذر بعض أجزاء
المركب.
قلت : هذا يصح
فيما إذا علم متعلق الأمر وشك في كونه مولويا. وأما إذا دار أمر المتعلق بين ما لا
يصح تعلق الأمر به إلّا إرشاديا وما يكون الأمر به مولويا ، فلا ظهور للأمر في
تعيين متعلقه ، فان ظهور الأمر في المولوية ليس ظهورا وضعيا ليكون قرينة على تعيين
المتعلق ، بل هو ظهور مقامي ناشئ من التصدي للجعل والتشريع ، فلا يصلح قرينة
لتعيين المتعلق.
وبذلك يظهر عدم
دلالة الرواية الثانية على وجوب الباقي من أجزاء المركب مع الغض عن جميع ما ذكرناه
من المناقشة فيها.
الرواية الثالثة :
المرسلة المنقولة في العوائد أيضا عن كتاب عوالي اللئالي عن
علي عليهالسلام (الميسور لا يسقط
بالمعسور) وهي مشتركة مع الرواية المتقدمة من حيث المناقشة في السند
، فيجري فيها ما قدمناه.
واما من حيث
الدلالة ، فتحقيق الكلام فيها يتوقف على بيان محتملات الرواية ، وهي أمور :
الأول : أن يكون
كلمة «لا يسقط» نهيا ابتداء ، وعليه فيجري فيه ما ذكرناه من إجمال الرواية ، وعدم
ظهور النهي في كونه مولويا أو إرشاديا. واما ما ذكره في الكفاية من أن شمول الرواية للمستحبات مانع عن التمسك بها للحكم
بوجوب الباقي من أجزاء المركب الواجب ، فقد عرفت الجواب عنه ، فلا حاجة إلى
الإعادة.
إلّا أن التحقيق :
أن هذا الاحتمال ساقط في نفسه ، فان النهي مولويا كان أو إرشاديا لا بد وأن يتعلق
بفعل المكلف وما هو تحت اختياره وجودا وعدما ، ومن الظاهر أن سقوط الواجب عن ذمة
المكلف كثبوته مما يرجع أمره إلى الشارع ، ولا معنى لنهي المكلف عنه.
الثاني : أن يكون
كلمة (لا يسقط) نفيا قصد به الإنشاء ، فالجملة وان كانت خبرية صورة إلّا أنها
إنشائية معنى ، فيجري على هذا الاحتمال جميع ما ذكرناه على الاحتمال الأول.
الثالث : أن تكون
الجملة خبرية محضة أريد بها الاخبار عن عدم سقوط الوجوب أو الاستحباب عند تعذر بعض
الأجزاء من المركب ، أو بعض الأفراد من الطبيعي ، على نحو المجاز في الإسناد ، أو
على نحو الحقيقة فيه ، فان السقوط والثبوت كما يصح إسنادهما إلى الحكم ، كذلك يصح
إسنادهما إلى نفس الواجب أو
__________________
المستحب ، فيقال
الصلاة ثابتة في الذّمّة أو ساقطة عنها. وكيف كان فالرواية دالة على بقاء الحكم أو
متعلقه في الذّمّة ولو تعذر بعض أجزائه أو بعض أفراده ، بلا محذور في الجمع
بينهما. بل هي دالة أيضا على وجوب المرتبة النازلة من الشيء إذا تعذرت المرتبة
العالية منه في فرض كون المرتبة النازلة في الصدق العرفي ميسورا من المرتبة
العالية.
ولكن الصحيح : أن
ما ذكرناه وان كان غاية ما يمكن أن يقرب به دلالة الرواية على ما نحن بصدده ، إلّا
أنه غير خال عن الخدشة ، فان لفظ السقوط المذكور في الرواية قرينة على اختصاصها
بموارد تعذر بعض الأفراد دون بعض ، فان غير المتعذر كان وجوبه ثابتا قبل تعذر
المتعذر ، فهو باق على ما كان عليه ، وأما بعض المركب فلم يكن واجبا إلّا بوجوب
ضمني سقط بسقوط المركب بتعذره ، فلو كان ثابتا بعد ذلك فهو ثبوت جديد وجعل حادث.
فلا معنى للاخبار عن عدم سقوطه بتعذر غيره. وكذلك الحال في المرتبة النازلة عند
تعذر المرتبة العالية ، فان المرتبة النازلة على تقدير وجوبها وثبوتها في الذّمّة
ثابتة بثبوت جديد وجعل حادث. فإرادة معنى عام من الرواية شامل لموارد تعذر بعض
الافراد وتعذر بعض الاجزاء ، وتعذر المرتبة العالية يحتاج إلى عناية ومسامحة ، لا
يصار إليها إلّا بقرينة.
فتحصل من جميع ما
ذكرناه أنه لا دليل على وجوب الإتيان بالميسور من اجزاء الواجب عند تعذر بعضها ،
فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي ، وقد مر الكلام فيه. نعم قد عرفت وجوب الإتيان بما
تمكن من أجزاء الصلاة ، لقيام الدليل عليه بالخصوص.
التنبيه الرابع : فيما إذا تردد الأمر
بين جزئية شيء أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته. والكلام فيه يقع في مسائل.
الأولى : فيما إذا
كان الواجب واقعة واحدة شخصية ، ولم يكن له أفراد طولية ولا عرضية ، كما إذا ضاق
وقت العمل ، ولم يتمكن المكلف إلّا من صلاة واحدة ، ودار أمره بين الصلاة عاريا أو
في الثوب المتنجس. والحكم فيه هو التخيير ، فان الموافقة القطعية متعذرة ، فتنتهي
النوبة إلى الموافقة الاحتمالية ، وقد مر الكلام في كبرى ذلك في ما تقدم.
الثانية : ما إذا
كانت الوقائع متعددة ، ولم يكن للواجب أفراد دفعية ولا تدريجية ، كما إذا دار أمر
شيء بين كونه شرطا في الصوم ، أو مانعا عنه ، فان أفراد الصوم بما أنها متعددة
فالإتيان بذلك الشيء في يوم وتركه في يوم آخر موجب للمخالفة القطعية ، وقد مر أن
العقل يحكم بقبح المخالفة القطعية ولو كانت تدريجية ، حتى مع العلم بالموافقة
القطعية أيضا من جهة ، فالحكم في مثله هو التخيير ابتدائيا ، فيختار الفعل في جميع
الوقائع ، أو الترك كذلك ، وقد مر تفصيل الكلام فيه.
الثالثة : ما إذا
كان الواجب واحدا له أفراد طولية ، بحيث يتمكن المكلف من الإتيان بفرد ثم الإتيان
بفرد آخر ، فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير أيضا ، أو أنه لا بد من الاحتياط ،
والإتيان بالعمل مع ذلك الشيء مرة ، ومع عدمه أخرى؟ ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري قدسسره ابتناء المسألة على النزاع في دوران الأمر بين الأقل
والأكثر ، فعلى القول بالاشتغال هناك لا بد من الاحتياط في المقام ، وعلى القول
بالبراءة فيه يحكم بالبراءة في المقام ، فان العلم الإجمالي باعتبار وجود شيء أو
عدمه لا أثر له بعد عدم تمكن المكلف من المخالفة العملية ، لدوران أمره بين الفعل
والترك ، فلم يبق إلّا الشك في الاعتبار ، وهو مورد لأصالة البراءة .
وقد أورد عليه
المحقق النائيني رحمهالله. بما حاصله : أن المأمور به إذا كان طبيعيا
__________________
ذا أفراد طولية ،
ودار أمره بين اعتبار وجود شيء أو عدمه فيه ، فالمكلف متمكن من الموافقة القطعية
بإتيانهما ، ومن المخالفة القطعية بتركهما ، فلا محالة يكون العلم منجزا للتكليف
فيجب الاحتياط. وأما عدم التمكن من المخالفة القطعية في الفرد الخارجي المفروض
وجوده ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، فهو لا ينافي تنجيز العلم الإجمالي بعد تمكن
المكلف من المخالفة القطعية في أصل الواجب ، فان الاعتبار انما هو بما تعلق به
التكليف ، لا بالفرد المفروض وجوده.
وما أفاده قدسسره متين جدا. ومن الغريب أن الشيخ قدسسره قد ذهب إلى وجوب الاحتياط في موارد دوران الأمر بين القصر
والتمام مع انها داخلة في كبرى هذه المسألة على التحقيق ، فان السلام في الركعة
الثانية على تقدير وجوب القصر واجب فيها ، وعلى تقدير وجوب التمام مانع عن صحتها
ومبطل لها.
خاتمة
في شرائط جريان الأصول
أما الاحتياط ،
فلا يعتبر في حسنه شيء سوى تحقق عنوانه ، وكل ما اعتبر في ذلك فهو على تقدير صحته
يرجع إلى اعتباره في صدق هذا العنوان ، ضرورة انه مع صدقه وفرض ثبوت الحكم في
الواقع لا تبقى حالة منتظرة لحكم العقل بحسنه.
إذا عرفت ذلك
فاعلم ان الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم لا يعتبر في حسنه غير الجمع بين
محتملات الواقع ما لم يؤد إلى اختلال النظام. وأما الاحتياط في العبادات فلا ينبغي
الشك في حسنه فيما لم يتمكن المكلف من تحصيل العلم أو ما بحكمه ، وكذلك فيما إذا
لم يكن الواقع منجزا عليه ، كما في موارد الشبهات البدوية من الشبهات الموضوعية أو
الحكمية بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل ، وأما إذا كان المكلف متمكنا من الامتثال
التفصيليّ ، وكان الواقع منجزا على تقدير وجوده ففي جواز الاحتياط قبل الفحص وعدمه؟
أقوال ، ثالثها : التفصيل بين كون الاحتياط مستلزما للتكرار وعدمه ، ورابعها :
التفصيل بين موارد العلم بثبوت التكليف في الجملة وعدمه. والمختار جوازه مطلقا ،
وقد تقدم وجهه بما لا مزيد عليه في بحث القطع ، فراجع.
وأما الرجوع إلى
البراءة ، فلا ريب في اعتبار الفحص في جواز الرجوع إلى البراءة العقلية ، فان
موضوع حكم العقل بقبح العقاب انما هو عدم البيان ، فما لم يحرز
ذلك بالفحص لا
يستقل العقل بقبح العقاب كما هو ظاهر.
واما البراءة
النقليّة فقد استدل لاعتبار الفحص في جريانها ، وتقييد إطلاق أدلتها بأمور.
الأول : دعوى
الإجماع على ذلك.
ويرد عليه : أن
اتفاق الفقهاء على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية وان كان محققا إلّا أنه لا يكون
إجماعا مصطلحا ، لأنه معلوم المدرك ، فلا يكون كاشفا عن قول المعصوم.
الثاني : أن العلم
الإجمالي بثبوت تكاليف إلزامية في الشريعة مانع عن الرجوع إلى البراءة قبل الفحص.
وأورد على ذلك في
الكفاية بما حاصله : أن موجب الفحص لو كان هو العلم الإجمالي لزم
جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص بعد انحلاله بالظفر على المقدار المعلوم
بالإجمال ، مع أنه غير جائز قطعا ، فلا بد من أن يكون المدرك أمرا آخرا غير العلم
المزبور.
وأشكل عليه المحقق
النائيني قدسسره بأن المعلوم بالإجمال في المقام بما أنه ذو علاقة وتمييز
غير قابل للانحلال بالظفر على المقدار المعلوم بالإجمال ، فان الواقع المعلوم قد
تنجز حينئذ بما له من العلامة والتمييز ، فكيف يعقل انحلاله قبل الفحص وان كان بعد
الظفر بالمقدار المعلوم ، كما لو علم بالدين المردد بين الأقل والأكثر مع العلم
بكونه مضبوطا في دفتره ، فهل يتوهم أحد جواز الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد
على المتيقن قبل الفحص عما في دفتره؟! والمقام من هذا القبيل ، فان التكاليف
المعلومة بالإجمال نعلم بثبوتها في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، وعليه فالظفر
بالمقدار المتيقن
__________________
لا يوجب انحلال
العلم الإجمالي ليصح الرجوع إلى البراءة بعد ذلك قبل الفحص. نعم إذا لم يكن
المعلوم بالإجمال ذا علامة وتمييز وكان عدده مرددا بين الأقل والأكثر جاز الرجوع
إلى البراءة في مثل ذلك ، لكن المقام ليس من هذا القبيل كما عرفت .
والتحقيق في
المقام أن يقال : ان كون المعلوم بالإجمال ذا علامة وتمييز لو سلم منعه عن انحلال
العلم الإجمالي فانما يمنع فيما إذا لم يكن بنفسه مردد بين الأقل والأكثر ، كما
إذا علمنا بوجود نجس بين آنية عديدة مردد بين الواحد والأكثر ، وعلمنا أيضا نجاسة
إناء زيد بخصوصه المعلوم وجوده فيها ، فلو علم بعد ذلك بنجاسة إناء معين منها
وجدانا أو تعبدا من دون إحراز كونه إناء زيد أمكن القول بعدم كونه موجبا لانحلال
العلم الإجمالي الثاني ، الّذي لمتعلقه علامة وتمييز ، فان العلم الأول وان لم يكن
مقتضيا للتنجيز حينئذ في غير ما علم نجاسته بخصوصه ، إلّا ان العلم الثاني مقتضى
للتنجيز ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل في غيره ، لاحتمال انطباق إناء زيد عليه.
وأما إذا كان المعلوم المفروض كونه ذا علامة وتمييز بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر
، وظفرنا على المقدار المتيقن ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في غيره ، فإذا
علمنا بنجاسة إناء زيد المعلوم وجوده بين إناءات كثيرة ، وتردد بين كونه إناء
واحدا أو أكثر ، ثم علم بعد ذلك كون إناء بخصوصه إناء زيد لم يكن مانع من الرجوع
إلى الأصل في غيره.
والمقام من هذا
القبيل ، فان التكاليف المعلومة بالإجمال بعنوان كونها مسطورة في الكتب المعتبرة
بأنفسها مرددة بين الأقل والأكثر ، فإذا ظفرنا فيها بالمقدار المتيقن لم يكن مانع
من الرجوع إلى الأصل في غيرها من جهة العلم
__________________
الإجمالي ، فعدم
جوازه حينئذ لا بد من أن يستند إلى أمر آخر غير العلم الإجمالي كما ذكره صاحب
الكفاية.
ويمكن أن يقال :
بانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن في القسم الأول أيضا ، وذلك لأن
الميزان في الانحلال كما عرفت سابقا عدم تعارض الأصول في الأطراف بقاء ، ومن
الظاهر أنه بعد العلم بنجاسة إناء معين في المثال المتقدم مع احتمال انطباق إناء
زيد عليه لا علم بوجود نجاسة في غيره من الإناءات ، فلا مانع من جريان الأصل فيها
، لأنه بلا معارض. والسر في ذلك أن العلم بوجود نجس مردد بين الواحد والأكثر ،
والعلم بنجاسة إناء زيد بخصوصه يرجعان إلى العلم بوجود نجس واحد بعنوانين ، فإذا
علمنا نجاسة واحد معين من الإناءات لم يمكن الرجوع إلى الأصل فيه ، فيجري في غيره
من المحتملات بلا معارض.
واما ما ذكر من
عدم جواز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر بالمقدار المتيقن من الدين المضبوط في
الدفتر فان صح فلا بد من أن يستند إلى أمر آخر غير العلم الإجمالي ، كما ادعى ذلك
في موارد الشك في بلوغ المال حد النصاب ، وفي حصول الاستطاعة في الحج ونحوهما ، إذ
لو فرضنا عدم التمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو غير ذلك لم يكن مانع من
الرجوع إلى الأصل في الزائد على المتيقن ، مع أنه لو كان العلم الإجمالي هو الموجب
للاحتياط لم يكن فرق بين التمكن من الفحص وعدمه كما هو ظاهر.
الثالث : حكم
العقل بوجوب الفحص ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبله ، فانه كما يحكم بقبح
العقاب بلا بيان من المولى ، كذلك يستقل بوجوب الفحص عن أحكام المولى ، فانه مقتضى
العبودية والمولوية. والسر فيه أن العادة بعد ما جرت على أن إيصال التكاليف لا
يكون على وجه القهر والإجبار ، لا يلزم على المولى إلّا بيان أحكامه على النحو
المتعارف ، وجعله في معرض الوصول إلى عبيده ، واما فعلية
الوصول إليها فهي
من وظائف العبد ، جريا على مقتضى عبوديته من تحصيل إرادات المولى والعمل على طبقها
، وهذا الحكم العقلي بمنزلة القرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق
في الأدلة النقليّة الدالة على البراءة ، وعليه فهي من الأول مختصة بما بعد الفحص
في الشبهات الحكمية.
الرابع : الآيات
الدالة على وجوب التعلم مقدمة للعمل ، منها : ما ورد في تفسير قوله تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنه يقال : للعبد يوم القيامة هل علمت ، فان قال : نعم
قيل : له فهلا عملت ، وان قال : لا قيل : فهلا تعلمت حتى تعمل .
الخامس : الأخبار
الدالة على وجوب التوقف إلى لقاء الإمام عليهالسلام وبما أن مورد جملة منها قبل الفحص ، فالنسبة بينها وبين
أخبار البراءة نسبة العموم المطلق ، فتختص أخبار البراءة بما بعد الفحص. وقد تقدم
الكلام في ذلك في بحث البراءة.
وبما ذكرناه ظهر
الحال في اختصاص أدلة حجية الاستصحاب بما بعد الفحص أيضا. كما ظهر عدم جواز الرجوع
إلى التخيير العقلي قبل الفحص. وملخص الكلام أن الأصول العقلية قاصرة في نفسها عن
الشمول لما قبل الفحص ، لأن موضوعها لا يحرز إلّا به ، فلا مقتضى لها قبل ذلك
أصلا. واما الأصول الشرعية فأدلتها وإن كانت مطلقة في نفسها إلّا أنها مقيدة بما
بعد الفحص بالقرينة العقلية المتصلة والنقليّة المنفصلة.
بقي التنبيه على
أمور :
الأمر الأول : هل
يعتبر في الفحص اللازم في جواز الرجوع إلى الأصل ان
__________________
يفحص بمقدار يحصل
له القطع بعدم الدليل ، أو يكتفي فيه بالظن ، أو لا بد من حصول الاطمئنان بالعدم؟
فيه وجوه. والأظهر هو الأخير. أما عدم اعتبار الظن فلعدم الدليل عليه. واما عدم
لزوم تحصيل القطع فلأنه مستلزم للعسر والحرج ، مضافا إلى عدم الدليل عليه ، فيتعين
الأمر في الاحتمال الأخير ، وهو كفاية الاطمئنان المعبر عنه بالعلم العادي ، فانه
حجة ببناء العقلاء ، ولم يردع عنه ، وهو يحصل بالفحص عن مظان وجود الدليل وعدم
وجدانه فيها.
الأمر الثاني :
بعد ما عرفت أن وجوب تعلم الأحكام الشرعية مما لا ريب فيه ، قد وقع الإشكال في أنه
طريقي لا يترتب العقاب عند تركه إلّا على مخالفة الواقع على تقدير وجوده كما هو
المشهور ، أو أنه نفسي والعقاب على تركه ولو لم يصادف الواقع ، كما عن المحقق
الأردبيلي وصاحب المدارك ، وقد مال إليه صاحب الكفاية أيضا في آخر كلامه؟ والظاهر هو الأول ، إذ لا دليل على
كونه نفسيا إلّا ما يتوهم من كونه مقتضى ظهور الأوامر المتعلقة بالتعلم ، ولكن
الظاهر منها كون التعلم مقدمة للعمل ، كما هو صريح الرواية المزبورة الواردة في
تفسير قوله عزّ شأنه (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) ، وعليه فلو ترك التعلم ولم يتحقق مخالفة الواقع أحيانا لا
يستحق العقاب إلّا من جهة التجري.
ثم إنه ربما يشكل
في وجوب التعلم فيما إذا كان الواجب مشروطا بشرط غير حاصل ، ولم يكن المكلف متمكنا
من الإتيان به في ظرفه ، لتركه التعلم من جهة أنه في ظرف إمكان التعلم لم يثبت
وجوب الواجب ليجب تعلمه ، وفي ظرف حصول الشرط لا قدرة على الامتثال. ولعل هذا
الإشكال هو الّذي أوجب القول بالوجوب النفسيّ ، فلا مناص من تفصيل الكلام لتحقيق
الحال في المقام فنقول : قد يكون
__________________
وجوب الواجب فعليا
والوقت متسعا للإتيان به وللتعلم. وهذا مما لا ينبغي الإشكال في وجوب التعلم فيه
تخييرا بينه وبين الاحتياط ، فان تخيل طولية الامتثال الإجمالي إنما هو في فرض
تمكن المكلف من الامتثال التفصيليّ في ظرف العمل ، واما التمكن منه قبل العمل بحيث
يجب حفظ القدرة عليه فلم يقل به أحد فيما نعلم.
وقد يكون الواجب
فعليا ، ولا يكون الوقت متسعا للإتيان به وللتعلم ، إلّا أن المكلف يتمكن من
امتثال الواجب وإحرازه بالاحتياط. ولا ينبغي الشك في تخييره حينئذ بين التعلم قبل
حصول الشرط والاحتياط بعده.
وقد يكون الواجب
فعليا مع عدم اتساع الوقت له وللتعلم ، لكن لا يتمكن المكلف من الاحتياط وإحراز الامتثال
وان كان متمكنا من الإتيان بأصل الواجب ، مثاله ما إذا شك في فعل من افعال الفريضة
في أثنائها مع عدم تعلمه لحكمه قبل ذلك ، فانه وان كان متمكنا من الإتيان بالمشكوك
، ومن المضي في الصلاة من دون إتيانه ، إلّا أنه لا يتمكن من الاحتياط ، وفي مثل
ذلك لا بد من التعلم قبل الابتلاء بالشك ، لحكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل
عند فعلية الشك ، ولظهور الأدلة في وجوب التعلم في مثل ذلك ، ولا دافع لاحتمال
العقاب إلّا التعلم ومعرفة أن الشك قبل التجاوز يجب الاعتناء به والإتيان بالمشكوك
، وبعد التجاوز عن المحل لا بد من المضي وعدم الاعتناء بالشك.
وقد لا يكون
الواجب فعليا بعد حصول الشرط ، لعدم التمكن من الإتيان به ولو كان ذلك من جهة تركه
التعلم قبل ذلك ، مع عدم سعة الوقت له وللتعلم معا ، مثاله كما إذا فرضنا ان غير
العربي لم يتعلم القراءة قبل الوقت ، ولم يكن متمكنا من تعلمها والإتيان بها بعد
دخوله. والإشكال المزبور انما يختص بهذا الفرض.
والصحيح فيه أن
يقال : ان القدرة المعتبرة في مثل هذا الواجب ان كانت
معتبرة عقلا من
باب استحالة التكليف بما لا يطاق ، وغير دخيلة في ملاكه ، فلا ينبغي الشك في وجوب
التعلم قبل الوقت ، للتحفظ على الملاك في ظرفه وان لم يكن التكليف فعليا في زمان ،
وذلك لحكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم ، كحكمه بقبح مخالفة التكليف الفعلي.
وان كانت القدرة في ظرف العمل معتبرة شرعا ودخيلة في ملاك الواجب ، فالظاهر عدم
وجوب التعلم حينئذ من دون فرق بين القول بكونه طريقيا والقول بكونه نفسيا اما على
الطريقية فالأمر ظاهر ، إذ لا يترتب على ترك التعلم فوت واجب فعلي ولا ملاك ملزم ،
واما على القول بكون الوجوب نفسيا فلأن الواجب إنما هو تعلم الأحكام المتوجهة إلى
شخص المكلف ، ولذا لا يجب على الرّجل تعلم أحكام الحيض ونحوه بالضرورة ، فإذا
فرضنا أن التكليف لا يكون فعليا في حق المكلف أبدا ، لعدم حصول شرطه ، كيف يجب في
مورده التعلم. فالإنصاف أن الإشكال المزبور في هذا الفرض متين لا دافع له.
الأمر الثالث : هل
يختص وجوب التعلم بما إذا علم المكلف أو اطمأن بابتلائه بالواقعة التي لا يعلم
حكمها ، كمسائل الشكوك المتعارفة التي يعم الابتلاء بها ، أو أنه يعم موارد احتمال
الابتلاء أيضا؟ وجهان.
ربما يقال : بعدم
وجوب التعلم بمجرد احتمال الابتلاء ، نظرا إلى استصحاب عدم الابتلاء بالواقعة ،
ومن الظاهر أن ما لا يبتلى به المكلف بالوجدان أو بالتعبد لا يجب تعلم حكمه ،
وبذلك يفرق بين المقام وما إذا علم الابتلاء وشك في سعة الوقت للتعلم والإتيان
بالواجب ، فان هذا الشك لا بد فيه من الاحتياط بالتعلم قبل الوقت ، لأن في تركه
احتمال العقاب على مخالفة الواجب المعلوم في ظرفه ، وهذا بخلاف المقام ، فان مقتضى
الاستصحاب فيه عدم توجه التكليف إلى المكلف فيما بعد ، فلا يجب التعلم.
وقد أورد على ذلك
بوجهين.
الأول : المنع عن
شمول أدلة الاستصحاب لمثل المقام ، بدعوى أنها لا تشمل إلّا ما كان اليقين سابقا
على الشك زمانا ، والمقام ليس كذلك.
ويظهر الجواب عن
ذلك بما سيجيء في بحث الاستصحاب من أن الاعتبار في جريانه إنما هو بتقدم زمان
المتيقن على زمان المشكوك ، من دون فرق بين حدوث الوصفين معا وبين حدوث اليقين قبل
الشك وعكسه.
الثاني : ما ذكره
المحقق النائيني قدسسره من ان جريان الاستصحاب متوقف على كون الواقع المشكوك فيه
أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي ، فإذا لم يكن في البين أثر شرعي أو كان الأثر مترتبا
على نفس الشك المحرز وجدانا فلا معنى للاستصحاب حينئذ ، والمقام من هذا القبيل ،
فان الأثر المرغوب فيه هو وجوب التعلم دفعا للضرر المحتمل ، ومن الظاهر أن وجوب
دفع الضرر المحتمل مترتب على نفس احتمال الابتلاء ، واما واقع الابتلاء فليس له
أثر شرعي ليتمسك بالاستصحاب للحكم بعدمه.
والجواب عنه : انه
لا حاجة في جريان الاستصحاب إلى كون المستصحب مجعولا شرعيا أو ذا أثر شرعي ، بناء
على هو الصحيح من كون المجعول في الاستصحاب هو الطريقية ، واعتبار بقاء اليقين
السابق في ظرف الشك. نعم لا بد من وجود أثر عملي لهذا التعبد ، لئلا يلزم اللغوية
، وعليه فلا مانع من إجراء الاستصحاب ، وإحراز عدم الابتلاء فيما بعد ، فلا يجب
التعلم ، لارتفاع موضوعه ، وهو احتمال الضرر بحكم الشارع.
ولكن التحقيق :
عدم صحة جريان الاستصحاب في المقام ، فانّ الأدلة الخاصة الدالة على وجوب التعلم
مانعة عن الرجوع إلى الاستصحاب المزبور ، لاستهجان تخصيصها بموارد العلم أو
الاطمئنان بالابتلاء ، فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء ثابتا بالدليل ،
ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل العملي. هذا مع أن
الغالب في موارد
احتمال الابتلاء وجود العلم الإجمالي بابتلاء المكلف فيما بقي من عمره بما لا يعلم
حكمه وخصوصياته ، فالاستصحاب في كل محتمل يعارض جريانه في غيره. وما ذكرناه لا
يبتني على تنجيز العلم الإجمالي في الأمور التدريجية ، فان الابتلاء بالوقائع وان
كان تدريجيا إلّا أن أثره وهو وجوب التعلم أمر فعلي لا تدرج فيه. فتحصل بما ذكرنا
أنه لا فرق في وجوب التعلم بين موارد إحراز الابتلاء فيما بعد وبين احتماله.
الأمر الرابع : قد
ظهر مما تقدم أن الشاك في التكليف لو ترك الفحص ، واقتحم في الشبهة ، وصادف ارتكاب
الحرام أو ترك الواجب ، يستحق العقاب على مخالفته بعد ثبوت وجوب الفحص طريقيا
وتنجز الواقع به. وهذا فيما إذا كان الواقع بحيث لو تفحص المكلف لظفر به في غاية
الوضوح.
واما فيما إذا لم
يكن كذلك ، بل كان الواقع على نحو لا يصل المكلف إليه بعد الفحص أيضا ، ففي
استحقاق العقاب بمخالفة الواقع حينئذ وعدمه إشكال. وقد اختار المحقق النائيني رحمهالله ثبوت الاستحقاق بتقريب : أن مخالفة الواقع ما لم تكن مقرونة بالمؤمن شرعا
أو عقلا موجبة لاستحقاق العقاب ، والمقام كذلك ، فان أدلة البراءة الشرعية قد خصصت
بما بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مجال
لجريانها قبل قيام المكلف بما هو وظيفة العبودية من الفحص عن أحكام المولى ، بل
الأمر كذلك فيما لو تفحص لظفر بدليل يدل على عدم ثبوت الحكم في الواقع ، فان
الدليل المزبور لا يكون معذرا للمكلف في مخالفة الواقع إلّا مع الاستناد إليه في
مقام العمل.
ومع عدم الاستناد
إليه ، بل عدم العلم بوجوده كما هو المفروض تكون المخالفة
__________________
غير مقرونة بالعذر
، فيستحق العقاب عليها.
ولكن يمكن أن يقال
: بجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام وان لم يكن المكلف ملتفتا إليها في
مقام العمل ، فانك قد عرفت فيما مرّ ان المراد بالبيان هو جعل التكليف على نحو
يتمكن المكلف من الوصول إليه بوجه ، ومع عدم إمكان الوصول إليه كما هو المفروض
فالبيان من قبل الشارع غير تام وان لم يحرزه المكلف ، ومعه يستقل العقل بقبح
العقاب ، لأنه بلا مقتضى ، فغاية الأمر تجرّى المكلف باقتحامه الشبهة قبل الفحص ،
فلو كان عقاب هو على التجري لا علي مخالفة الواقع.
اللهم إلّا أن
يقال : أن أدلة وجوب الاحتياط والتوقف بناء على استفادة الوجوب الطريقي منها واردة
على القاعدة المزبورة ، وموجبة لتنجز الواقع قبل الفحص. نعم إذا تفحص المكلف ولم
يصل إلى الواقع جاز له الاقتحام وترك الاحتياط على ما تقدم.
الأمر الخامس :
العمل الصادر من الجاهل المقصر قبل الفحص محكوم بالبطلان ظاهرا ، بمعنى أن العقل
يستقل بعدم جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، لعدم إحراز مطابقته للواقع ، ولا
فرق في ذلك بين المعاملات والعبادات إذا تأتى منه قصد القربة ، وأما مع عدمه فلا
ينبغي الشك في البطلان واقعا ، هذا فيما إذا لم يتبين الحال. وأما إذا تبين ذلك
فالصور أربع.
الأولى : ان تنكشف
مخالفة المأتي به للواقع بفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل ومن يجب الرجوع
إليه فعلا. ولا إشكال في بطلان العمل حينئذ.
الثانية : أن
تنكشف موافقة العمل للواقع على فتوى كلا المجتهدين. ولا إشكال في صحة العمل حينئذ
، بلا حاجة إلى الإعادة أو القضاء.
الثالثة : أن
تنكشف موافقته لرأي المجتهد الأول ، ومخالفته لرأي المجتهد الثاني. والظاهر فيها
الحكم بالبطلان ، فان العامل ان كان في عمله مستندا إلى رأي
من كان يجب عليه
تقليده كان عمله محكوما بالصحّة بحديث لا تعاد ، أو غيره مما دل على عدم وجوب
الإعادة أو القضاء. وأما فيما إذا لم يستند إليه فلا موجب للحكم بصحته ، مع فتوى
المجتهد الفعلي ببطلان ذلك العمل.
الرابعة : أن
تنكشف موافقته لرأي المجتهد الفعلي ، ومخالفته لفتوى المجتهد الأول. والظاهر فيها
هو الحكم بالصحّة من دون حاجة إلى الإعادة أو القضاء ، والوجه في ذلك أن المجتهد
الفعلي بعد حكمه بصحة العمل المزبور جاز لمقلده أن يستند إلى رأيه في تركه الإعادة
والقضاء.
نعم إذا كان العمل
مخالفا للواقع في نفس الأمر صح العقاب على مخالفته فيما إذا كان الاستناد إلى رأي
المجتهد الفعلي في خصوص ترك القضاء فقط ، والسر فيه أن ترك الواجب الواقعي في
الوقت يوجب عقابا غير العقاب المترتب على ترك قضائه في خارج الوقت ، ومن ثم لا
يكون القضاء رافعا لعقاب العصيان في الوقت بالضرورة ، وعليه فترك القضاء استنادا
إلى فتوى من لا يوجبه وان كان موجبا لعدم العقاب عليه ، إلّا أنه لا يوجب عدم
العقاب على ترك الأداء مع فرض عدم استناده فيه إلى الحجة. ومما ذكرناه يظهر حكم
المجتهد التارك للفحص أيضا.
ثم أنه قد استثنى
مما ذكرناه مسألة الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام. فقد ذهب المشهور إلى صحة
الصلاة عند الجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، وعند الإتمام في موضع القصر إذا كان
ناشئا عن الجهل ولو تقصيرا ، وكذلك الصوم في السفر إذا كان منشؤه الجهل بالحكم ولو
تقصيرا ، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك الفحص
وعدم التعلم. ومن ثم وقع الإشكال في الجمع بين الأمرين ، فانه كيف يعقل الحكم بصحة
المأتي به وعدم وجوب الإعادة مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب على ترك
الواجب.
وقد أجيب عن ذلك
بوجهين :
الأول : ما ذكره
في الكفاية ، ولعله المراد مما أفاده شيخنا الأنصاري قدسسره في المقام وحاصله : انه يمكن أن يكون المأتي به حال الجهل مشتملا على
مصلحة ملزمة في نفسه ، وان يكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة ، وزيادة
لا يمكن تداركها عند استيفاء أصل المصلحة ، فالحكم بالصحّة إنما هو لاشتمال المأتي
به على المصلحة وعدم إمكان استيفاء الباقي ، والحكم باستحقاق العقاب انما هو لأجل
ان فوت المصلحة الزائدة مستند إلى التقصير في ترك التعلم ، مثلا يمكن أن يكون
طبيعي الصلاة عند الجهل بوجوب القصر واجدة لمقدار من الملاك الملزم ، وكان خصوص
الصلاة المقصورة مشتملة على زيادة لا يمكن استيفاؤها عند استيفاء أصل المصلحة ،
فإذا صلى المكلف تماما مع جهله بالحكم ، وحصل منه قصد القربة حكم بصحة صلاته ،
وبعدم وجوب الإعادة ، واستحقاق العقاب على تفويت الملاك الملزم من غير عذر.
ويرد عليه : أولا
: ان التضاد بين الأفعال وان كان أمرا معقولا وواقعا في الخارج بالضرورة إلّا أن
التضاد في الملاكات مع إمكان الجمع بين الفعلين في الخارج بعيد ، بل يكاد أن يلحق
بأنياب الأغوال.
وثانيا : أن
المصلحتين المفروضتين ، القائمة إحداهما بالطبيعي ، وثانيتهما بخصوص القصر مثلا ،
ان كانتا ارتباطيتين فلا وجه للحكم بصحة المأتي به مع فرض عدم حصول المصلحة
الثانية. وان كانتا استقلاليتين فلازمه تعدد الواجب ، وكون القصر مثلا واجبا في
واجب ، ولازمه تعدد العقاب عند ترك أصل الصلاة ، وهو مناف للضرورة ولظواهر
الاخبار.
الوجه الثاني : ما
أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدسسره من الالتزام بالترتب في
__________________
المقام بتقريب :
أن الواجب على المكلف ابتداء هو صلاة القصر ، وعلى تقدير تركه فالواجب هو الصلاة
تماما ، فلا منافاة بين الحكم بصحة المأتي به وثبوت العقاب على ترك الواجب الأول.
ويرد عليه : أن
لازم ذلك هو الالتزام بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا ، وقد عرفت عدم إمكان هذا
، مع أن ما ورد من الروايات المتظافرة من أن الواجب على المكلف في كل يوم خمس
صلوات يكفي في إبطال القول بالترتب في المقام.
وقد أورد المحقق
النائيني رحمهالله : على هذا الوجه بما حاصله ، ان الترتب بين التكليفين ، وكون أحدهما في طول الآخر وان
كان أمرا معقولا ، لا بد من الالتزام به في موارده على ما شيدنا أركانه في محله ،
إلّا أنه لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام لوجوه.
أولها : أن الخطاب
المترتب لا بد من أن يكون موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه ، كما في مسألة الصلاة
والإزالة ، ومن الظاهر أنه لا يمكن ذلك في المقام ، فان المكلف إذا التفت إلى كونه
عاصيا للتكليف بالقصر انقلب الموضوع ، فيخرج عن عنوان الجاهل بالحكم ، فلا يحكم
بصحة ما أتى به وأن لم يلتفت إلى ذلك ، فكيف يعقل أن يكون الحكم المجعول على هذا
العنوان محركا له في مقام العمل؟!
ثانيها : ان وجوب
الصلاة بما أنه غير موقت بوقت خاص ، بل هو ثابت موسعا بين المبدأ والمنتهى ،
فعصيانه لا يتحقق إلّا بخروج الوقت وانقضائه ، وعليه فكيف يعقل تحقق العصيان في
أثناء الوقت الّذي فرض موضوعا للحكم الثاني؟
ثالثها : ان
الالتزام بالترتب ولو سلم إمكانه في المقام إلّا أنه لا دليل على
__________________
وقوعه ، فالقول به
قول بغير دليل ، وهذا بخلاف الالتزام بالترتب في موارد التزاحم ، فانك قد عرفت في
محله أن القول بالترتب فيه مما يقتضيه إطلاق نفس الدليل من غير حاجة إلى التماس
دليل آخر.
والصحيح في المقام
أن يقال : انا لو أغمضنا عما ذكرناه من فساد القول بالترتب في المقام لا يرد عليه
شيء من الوجوه المذكورة.
أما الوجهان
الأولان ، فلما ذكرناه في محله من ان الالتزام بالخطاب الترتبي لا يتوقف على أن
يكون موضوعه عصيان التكليف الآخر ، بل يصح ذلك مع كون الموضوع في أحدهما مطلق
الترك ، فصح في المقام أن يقال : أن وجوب القصر وجوب مطلق ، ووجوب التمام مشروط
بترك القصر مع عدم بلوغ وجوبه ، ومن الظاهر ان كلا هذين الأمرين قابل لأن يلتفت
المكلف إليه بلا انقلاب في الموضوع ، فتأمل.
واما الوجه الأخير
: فيرده أن صحة العمل المأتي به مفروغ عنها في المقام وقد ورد الدليل عليها من الاخبار
والكلام انما هو في تصوير ذلك وبيان إمكانه فلو أمكن القول بالترتب في المقام أمكن
أن يكون وجها للصحة.
فتحصل مما ذكرنا :
انه لا يمكن الالتزام بما نسب إلى المشهور من الجمع بين الحكم بصحة العمل واستحقاق
العقاب على المخالفة بل الصحيح ما ذهب إليه المحقق النائيني قدسسره من إنكار استحقاق العقاب في هذه الموارد.
وتوضيح ذلك : أن
الجاهل بوجوب القصر أو الإخفات مثلا لو صلى قصرا أو إخفاتا وحصلت منه قصد القربة
حال العمل فلا يخلو الحال من أن يحكم بصحة صلاته وعدم وجوب الإعادة عليه بعد
ارتفاع جهله وانكشاف الحال أو يحكم بفساد ما أتى به ووجوب الإعادة ثانيا.
أما على الأول :
فلا مناص من الالتزام بكون الحكم الواقعي هو التخيير بين
القصر والتمام أو
الجهر والإخفات وكون الإتيان بالقصر أو الإخفات مجزيا كما هو المفروض وكون الإتمام
أو الجهر أيضا مجزيا كما دل على ذلك النص الوارد في كل من الفرعين مع التصريح بأنه
قد تمت صلاته وعليه فلا موجب للعقاب عند الإتيان بأحد طرفي التخيير وان لم يكن
المكلف ملتفتا إلى التخيير حال العمل.
واما على الثاني :
فلا مناص من الالتزام بكون الصلاة تماما أو جهرا هو الواجب على التعيين في ظرف
الجهل ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر أو الإخفات ، ودعوى
الإجماع عليه مجازفة محضة مع عدم التعرض له في كلمات كثير من الأصحاب مضافا إلى ان
الاستحقاق ليس من الأحكام الشرعية ليصح الاستدلال عليه بالإجماع هذا والصحيح هو
الوجه الأول وأن المكلف حال الجهل بوجوب القصر أو الإخفات مثلا مخير بين القصر
والتمام وبين الجهر والإخفات واقعا فيحكم بصحة الإتمام مثلا لورود النص به ويحكم
بصحة القصر إذا تأتى قصد القربة بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر في
السفر غاية الأمر أنه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دل على صحة
الإتمام فيبقى أصل الوجوب بلا معارض مضافا إلى استبعاد الحكم ببطلان ما وقع والأمر
بإعادة مثله بلا زيادة ونقيصة.
الأمر الخامس : أن
اشتراط الرجوع إلى الأصول العملية بالفحص انما يختص بالشبهات الحكمية ، لاختصاص
دليله بها. وأما الشبهات الموضوعية فلا بأس بالرجوع إلى الأصل فيها قبل الفحص ،
لإطلاق أدلتها ، وخصوص بعض الروايات الواردة في موارد خاصة ، مع أن الحكم مما
تسالم عليه الفقهاء بلا خلاف. نعم ذكر بعضهم وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية
، منها : ما إذا شك المكلف في استطاعته إلى الحج. ومنها : ما إذا شك في بلوغ المال
إلى حد نصاب الزكاة. ومنها : ما إذا شك في زيادة الربح على مئونة السنة. والجامع
بين هذه الموارد ما إذا كان العلم
بالحكم متوقفا على
الفحص عادة.
وقد استدل على
وجوب الفحص في هذه الموارد بأن جعل الشارع حكما يتوقف العلم به على الفحص عادة يدل
بالملازمة العرفية على إيجاب الفحص أيضا ، وإلّا لم يكن فائدة لتشريعها.
ويرد على ذلك ان
الكبرى المزبورة على تقدير تسليمها لا تستلزم وجوب الفحص في الأمثلة المتقدمة ،
لأنها غير منطبقة عليها ، فان بلوغ المال إلى حد النصاب ، أو كفايته لفريضة الحج ،
أو زيادة على مئونة السنة ، كبقية الموضوعات الخارجية ، قد يكون ظاهر التحقيق في
الخارج ، كمن ورث من مورثه مالا كثيرا يعلم بكفايته للحج ، أو ربح ما يعلم زيادته
على مئونة السنة ، أو ملك ما يعلم بلوغه النصاب ، وقد يكون معلوم العدم ، وقد يكون
مشكوكا فيه ، فليس العلم بتحقق الموضوع في هذه الموارد متوقفا على الفحص غالبا.
نعم بناء على ما هو المشهور من تعلق الخمس بالربح حين ظهوره ، وكون التأخير إلى
السنة إرفاقا ، وجب عليه أداء الخمس عند الشك في الزيادة على المئونة وعدمها ، فما
لم يفحص ، ولم يظهر عليه عدم الزيادة يحكم بعدم الصرف في المئونة بمقتضى
الاستصحاب.
ثم ان المحقق
النائيني قدسسره قد اعتبر في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية أن لا تكون
مقدمات العلم تامة بأجمعها. واما فيما إذا تمت ، بحيث لا يحتاج حصول العلم إلّا
إلى مجرد النّظر ، فلا تجري البراءة ، بل لا بد من الاحتياط أو النّظر. مثال ذلك
ما إذا كان المكلف بالصوم في محل لا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلّا على مجرد النّظر
إلى الأفق ، فلا يجوز له الرجوع إلى البراءة مع تركه النّظر ، بدعوى أن مجرد
النّظر لا يعد من الفحص عرفا ليحكم بعدم وجوبه .
__________________
ويرد على ما أفاده
أن ذلك وان لم يكن من الفحص ، لأنه مرادف للتجسس عن الشيء ، ومجرد النّظر وفتح
العين من دون إعمال مقدمة أخرى لا يعد من الفحص عرفا ، إلّا أن الفحص بعنوانه لم
يؤخذ في لسان دليل ليكون الاعتبار بصدقة ، بل المأخوذ في أدلة البراءة انما هو
الجاهل وغير العالم ، ولا شك في أن المكلف في المثال جاهل بطلوع الفجر ، فما هو
الموجب للنظر ليكون مقيدا لإطلاق الأدلة الدالة على البراءة أو الاستصحاب. فالصحيح
أن الإطلاقات المزبورة محكمة.
الأمر السادس :
ذكر الفاضل التوني قدسسره للرجوع إلى البراءة شرطين آخرين .
أحدهما : أن لا
يكون جريانها موجبا للضرر على مسلم آخر.
ثانيهما : أن لا
يكون مستلزما لثبوت حكم إلزاميّ من جهة أخرى.
أما الشرط الأول :
فقد أورد عليه غير واحد بأن البراءة وان لم تكن جارية في موارد جريان قاعدة لا ضرر
، إلّا أنه لا ينبغي عده من شرائط جريانها ، فان القاعدة المزبورة تتقدم على أقوى
الأمارات فكيف بالأصول العملية ، ولا سيما أصل البراءة الّذي هو في مرتبة متأخرة
عن الاستصحاب. واما فيما لم يكن المورد موردا للقاعدة فلا ينبغي الشك في جريان
البراءة فيه كغيره من الأصول العلمية والأدلة الاجتهادية.
ولكن الظاهر أن
كلام الفاضل المزبور أجنبي عن ذلك ، بل هو ناظر إلى ما ذكرناه في أول مبحث البراءة
من أن حديث الرفع وارد في مقام الامتنان والإرفاق ، فلا بد في جريانه أن لا يكون
فيه مخالفة الامتنان ولو على بعض الأمة ، فلو لزم من جريانه تضرر مسلم أو من بحكمه
لا يحكم به ، ولا يشمله الحديث. ومن
__________________
هنا ذكرنا ان حديث
الرفع لا يقيد به إطلاق قوله عليهالسلام «من أتلف مال
الغير فهو له ضامن» بخلاف بقية الأدلة ، فهو وان شمل رفع الكفارة في ما إذا تحقق
سببها عن خطأ أو نسيان ، إلّا انه لا يشمل رفع الضمان لو تحقق إتلاف مال الغير عن
الخطأ أو نسيان ، وعلى ذلك فما أفاده متين لا يرد عليه شيء.
وأما الشرط الثاني
: فتحقيق الحال فيه أن ترتب الإلزام من جهة على جريان البراءة يكون على أقسام.
الأول : أن يكون
الترتب من جهة العلم الإجمالي من دون أن يكون بينهما في ذاتهما ترتب عقلا أو شرعا
، كما إذا علمنا بوجوب أحد الفعلين مثلا لشبهة حكمية أو موضوعية ، فان وجوب كل
منهما وان لم يكن مترتبا على إباحة الآخر في نفسها إلّا أن العلم الإجمالي أوجب
ذلك ، فإذا ثبتت الإباحة في أحدهما بدليل ترتب عليه وجوب الآخر لا محالة. واما فيما
إذا كان المثبت للإباحة أصلا عمليا كالبراءة أو الاستصحاب فلا يترتب عليه ذلك إلّا
على القول بحجية الأصول المثبتة. فما ذكره الفاضل قدسسره وان كان صحيحا في هذا القسم ، إلّا أنه لا حاجة إليه ، فان
الأصل في كل منهما غير جار في نفسه للمعارضة بينهما ، فلا تصل النوبة إلى استناد
عدم الجريان إلى كون الأصل مثبتا.
الثاني : أن يكون
الترتب عقليا ، وهذا كترتب وجوب أحد الضدين على عدم وجوب ضده الآخر الأهم ، بناء
على استحالة الترتب ، فان الموجب لرفع اليد عن إطلاق دليل وجوب المهم انما هو
فعلية التكليف بالأهم وتنجزه ، الموجب لعجز المكلف عن الواجب المهم ، فإذا فرضنا
ترخيص الشارع ولو ظاهرا في ترك الأعم فلا مانع من إيجاب المهم حينئذ ، فوجوب المهم
مترتب عقلا على إباحة ضده. وفي هذا القسم لا بد من الحكم بالترتب ، ووجوب المهم
عند الشك في وجود التكليف بالأهم ، لإطلاق دليل وجوب المهم ، فهو المثبت للإلزام
حقيقة ، والبراءة انما رفعت
المانع ، وهو عجز
المكلف ، فلا يبقى مجال فيه لاشتراط جريان البراءة بعد إثباته الحكم الإلزامي.
الثالث : أن يكون
الترتب شرعيا بأن يكون جواز شيء مأخوذا في موضوع دليل الوجوب. وفي مثل ذلك قد يكون
الإلزام المترتب حكما واقعيا مترتبا على خصوص الإباحة الواقعية ، وقد يكون المترتب
حكما واقعيا مترتبا على مطلق الإباحة الجامع بين الواقعية والظاهرية ، وقد يكون
المترتب أعم من الحكم الواقعي والظاهري ، والمترتب عليه أيضا كذلك ، فالإلزام
الواقعي يترتب على الإباحة الواقعية ، كما ان الإلزام الظاهري يترتب على الإلزام
الظاهري.
أما الشق الأول ،
فجريان البراءة في مورده لا يكفي في فعلية الإلزام بالضرورة ، لأن أصالة البراءة
غير ناظرة إلى ثبوت الإباحة في الواقع ، فلا يترتب على جريانها الحكم الإلزامي
المترتب على الإباحة الواقعية. نعم إذا كان الأصل الجاري أصلا تنزيليا كالاستصحاب
، أو قامت أمارة على ثبوت الإباحة في الواقع ترتب على ذلك الحكم بفعلية الإلزام
ظاهرا لإحراز موضوعه تعبدا.
وأما الشق الثاني
، فالأصل الجاري فيه تنزيليا كان أو غيره يترتب عليه الإلزام الواقعي ، لتحقق
موضوعه بالوجدان.
وأما الشق الثالث
، فيكفي في فعلية الإلزام في مورده ثبوت الإباحة الظاهرية ولو بأصالة البراءة ،
غاية الأمر أن الإلزام حينئذ ظاهري ، فإذا انكشف الخلاف يحكم بعدم ثبوت الإلزام من
أول الأمر. وبهذا يفترق هذا الشق عن الشق الثاني ، فان كشف الخلاف فيه يستلزم
ارتفاع الإلزام من حين الانكشاف ، وأما قبله فكان الحكم الواقعي ثابتا لتحقق
موضوعه بالإباحة الظاهرية.
وبما ذكرناه يظهر
أن أصالة البراءة في مورد جريانها لا يفرق في ترتب آثارها بين كونها إلزامية ، أو
غير إلزامية فلا وجه لما ذكره الفاضل المزبور.
قاعدة
لا ضرر ولا ضرار
حيث أن شيخنا
الأنصاري قدسسره تعرض في المقام لقاعدة لا ضرر استطرادا ، فنحن نتبعه في
ذلك ، لأنه لا يخلو من فوائد مهمة. والبحث عن كونها فقهية أو أصولية لا يترتب عليه
ثمرة عملية. ويظهر الحال فيه فيما بعد.
والكلام في هذه
القاعدة يقع من جهات ، الأولى : في بيان سند الرواية ومتنها.
أما من حيث السند
، فلا ينبغي التأمل فيه بعد صحة بعض طرق الحديث ، واشتهاره بين الفريقين ، حتى
ادعى فخر المحققين تواتره ، فلا ينبغي الريب في صدور الحديث عن المعصوم قطعا.
واما من حيث المتن
، فقد نقله علماؤنا الاعلام على ثلاثة وجوه.
أحدها : ما اقتصر
فيه على قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا ضرر ولا ضرار»
بلا زيادة شيء كما في حديث ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في قضية سمرة ابن جندب ، وكما في حديث عقبة ابن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام في قضاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ
وقال : «لا ضرر ولا ضرار» وما رواه عقبة ابن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : قضى رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشفعة بين
__________________
الشركاء في
الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار» وروى القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام خبرين عن
الصادق عليهالسلام استشهد فيهما بقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا ضرر ولا ضرار»
.
ثانيها : ما زيد
فيه على الجملتين كلمة على مؤمن كما في حديث ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام في قضية سمرة ابن جندب ، وقد ذكر في ذيله قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لسمرة «انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» .
ثالثها : ما زيد
فيه على الجملتين كلمة في الإسلام كما في رواية الفقيه في باب ميراث أهل الملل وقد
ذكر فيها قوله عليهالسلام «لا ضرر ولا ضرار
في الإسلام» وقد حكى بهذه الزيادة عن تذكرة العلامة مرسلا ، وعن كتاب
مجمع البحرين.
وأما العامة
فرواها أحمد ابن حنبل من طريق ابن عباس ومن طريق عبادة ابن صامت بغير الزيادة. ورواها النوويّ في الأربعين عن أبي سعيد سعد
ابن مالك الخزرجيّ. وذكر انّ ابن ماجة والدار قطني روايات الحديث مسندا. ورواه
مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مرسلا ، ثم قال : وله طرق يقوى بعضه بعضا . نعم زاد ابن الأثير في النهاية لفظ الإسلام .
إذا عرفت هذا
فنقول : انه لا معارضة بين الروايات في غير قضية سمرة ، لاحتمال صدور هاتين
الكلمتين عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بوجوه مختلفة في موارد عديدة.
__________________
نعم ان قضية سمرة
قصة واحدة شخصية ، قد اختلفت فيها الروايات ، فقد رويت تارة : بلا ذكر الكلمتين
أصلا كما في رواية الفقيه عن الصيقل الحذاء ، وأخرى : مع ذكرهما بلا زيادة كما في
رواية ابن بكير عن زرارة المتقدمة ، وثالثة : بزيادة كلمة (على مؤمن) كما في رواية
ابن مسكان عن زرارة المتقدمة.
أما عدم اشتمال
رواية الصيقل على الكلمتين فلا يترتب عليه أثر ، بعد ذكرهما في رواية الكافي والفقيه
، فيحتمل أن يكون السبب في عدم اشتمال خبر الصيقل عليهما لغفلة من الراوي ، أو
لعدم تعلق غرضه بنقل القضية بتمامها. واما الروايتان الأخريان فالترجيح فيهما مع
رواية ابن مسكان ، لما حقق في محله من أن الترجيح عند دوران الأمر بين الزيادة
والنقيصة مع ما اشتمل على الزيادة ، فان احتمال الغفلة في الزيادة أبعد من احتمال
الغفلة في النقيصة ، وعليه فالأخذ برواية ابن مسكان هو المتعين.
وما يقال : أن
الزيادة يحتمل كونها من الراوي ، أما لأجل النقل بالمعنى ، أو من جهة استفادته لها
باجتهاده ، لمناسبة الحكم والموضوع ، خلاف الظاهر ، لا يصار إليه إلّا بدليل.
فتلخص مما ذكرناه
ان هاتين الكلمتين قد صدرتا عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بغير زيادة على ما في روايات الخاصة والعامة ، كما وردتا
مع زيادة (على مؤمن) في قضية سمرة على رواية ابن مسكان ، ومع زيادة (في الإسلام)
كما في رواية الفقيه المتقدمة. وما يقال : انها مرسلة لم يعلم انجبارها ، فلا تكون
حجة ، مدفوع بان الإرسال انما يكون فيما إذا كان التعبير بلفظ روي ونحوه ، واما
إذا كان بلفظ (قال) كما في ما نحن فيه فالظاهر كون الرواية ثابتة عند الراوي ،
وإلّا لم يجز له الاخبار بتا لو لا ثبوته عنده.
ثم ان الظاهر ان
ذكر الكلمتين في روايتي عقبة ابن خالد منضما إلى قضائهصلىاللهعليهوآلهوسلم
بالشفعة ، ونهيه
أهل البادية عن منع فضل الماء ، ليس من باب الجمع في المروي ، بل هو من باب الجمع
في الرواية ، ونقل حكمين عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجلس واحد ، كما كان هو الدأب في نقل الروايات في
الأصول ، والشاهد على ذلك.
اما في الرواية
الأولى لعقبة أمران :
الأول : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا ضرر ولا ضرار»
لا ينطبق على مورد منع المالك فضل ماله ، فان منع المالك غيره عن الانتفاع بملكه
لا يعد ضررا عليه.
الثاني : ان النهي
في هذا المورد نهي تنزيهي ، فلا يندرج تحت كبرى لا ضرر ولا ضرار بجميع معانيه.
واما في الرواية
الثانية ، فالشاهد أيضا امران.
أحدهما : أن تضرر
الشريك ببيع شريكه حصته من غيره لا يكون ضرريا إلّا في بعض الموارد ، فبين مورد
ثبوت خيار الشفعة وتضرر الشريك بالبيع عموم من وجه ، فربما يتضرر الشريك ولا يثبت
له الخيار كما في فرض تعدد الشركاء ، وربما يثبت الخيار بلا ترتب ضرر عليه كما في
كثير من الموارد ، فإذا لا يصح إدراج الحكم بالشفعة تحت كبرى لا ضرر ، كما هو
ظاهر.
ثانيهما : ان مفاد
لا ضرر على ما سيجيء بيانه انما هو رفع الحكم الضرري ، والضرر في مورد الشفعة انما
أتى من قبل بيع الشريك حصته من الغير ، فلو كان ذلك موردا للقاعدة لزم الحكم
بالبطلان. وأما الخيار فهو جابر للضرر على تقدير وجوده ، وليس في أدلة الضرر ما
يدل على جعل حكم يرتفع به الضرر ، بل غاية مدلولها نفي الحكم الضرري. نعم لو كان
الضرر ناشئا من اللزوم كان للقول بارتفاعه من جهة الضرر مجال واسع ، لكن الأمر ليس
كذلك كما عرفت.
الجهة الثانية : في فقه الحديث وبيان
معناه. فنقول : الضرر اسم
مصدر من ضرّ يضرّ ضرا ، ويقابله المنفعة. وأما النّفع فهو مصدر لا اسم مصدر ، فلا
مقابلة بينه
وبين الضرر كما
ذكره في الكفاية. ومادة الضرر تستعمل متعديا إذا كانت مجردة ، واما إذا كانت من
باب الأفعال فتستعمل متعدية بالباء ، فيقال : أضرّ به ، ولا يقال : أضره. وأما
معنى الضرر فهو النقص في المال ، أو في العرض ، أو في البدن ، وبينه وبين المنفعة
واسطة ، فإذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر لا يتحقق في مورده منفعة ولا ضرر.
ومن ذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره في الكفاية من أن التقابل بين الضرر والنّفع تقابل العدم والملكة.
وأما الضرار ،
فيمكن أن يكون مصدرا للفعل المجرد ، كما يمكن أن يكون مصدرا من باب المفاعلة. لكن
الظاهر أن المذكور في الحديث هو الثاني ، إذ لو كان مجردا لزم التكرار في الكلام
بلا موجب ، مع ان ذكر كلمة «انك رجل مضار» في قضية سمرة يؤكد كونه كذلك.
ثم ان المعروف في
باب المفاعلة أنه فعل الاثنين ، ولكن التتبع في موارد الاستعمالات كما نبه عليه
بعض أعاظم مشايخنا المحققين قدسسره يفيد بطلان ذلك ، بل ان هيئة المفاعلة وضعت لإفادة قيام الفاعل مقام إيجاد
المادة ، قال عزّ من قائل (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فذكر سبحانه ان المنافقين يقومون مقام إيجاد الخديعة ،
ولكنها لا تقع إلّا على أنفسهم ، ومن ثم عبر في الجملة الأولى بهيئة المفاعلة ،
وفي الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد ، ومن تتبع موارد استعمال تلك الهيئة ولا
سيما في القرآن الشريف تجد صحة ما ذكرناه. هذا كله فيما يرجع إلى معنى لفظي الضرر
والضرار.
وأما من جهة دخول
كلمة (لا) عليهما ، فالمحتملات فيها أمور.
__________________
الأول : أن يكون
الكلام نفيا أريد به النهي ، كما في قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ
وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا سبق إلّا في
خف أو حافر أو نصل» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا غش بين
المسلمين» و «لا عمل في الصلاة» وغير ذلك مما لا يهمنا ذكره ، والسر في صحة هذا
الاستعمال ان الاخبار عن عدم شيء كالاخبار عن وجوده ، وكما يصح الاخبار عنه في
مقام الأمر به ، كذلك يصح الاخبار عن عدم شيء في مقام النهي عنه.
ومما ذكر يظهر أنه
لا وجه لما ذكره في الكفاية من عدم تعاهد استعمال هذا التركيب في مقام النهي مع كونه
من الكثرة بمكان ، وعلى هذا فمفاد الجملتين حرمة الإضرار بالغير ، وحرمة القيام
مقام الضرر.
الثاني : ما أفاده
في الكفاية من كون مفاد الجملتين نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، كما في
قوله عليهالسلام «لا ربا بين
الوالد والولد» و «لا سهو على الإمام إذا حفظ عليه من خلفه» وأمثال ذلك ، وعليه فمفاد الجملتين نفي الأحكام الثابتة
لموضوعاتها إذا كانت ضررية.
الثالث : ما أفاده
الشيخ قدسسره من أن مدلول الجملتين نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر ،
فكل حكم ضرري سواء كان الضرر ناشئا من متعلقه كما هو الغالب ، أم كان ناشئا من
نفسه كلزوم البيع الغبني ، يكون مرتفعا في عالم التشريع .
والفرق بين هذا
الوجه والوجه الثاني هو أن الوجه الثاني يختص بما إذا كان متعلق الحكم ضرريا في
نفسه كالوضوء الموجب للضرر ، وأما هذا الوجه فيعم ما إذا
__________________
كان الضرر ناشئا
من نفس الحكم دون متعلقه كما في المثال.
الرابع : أن يكون
مدلول الجملتين نفي الضرر غير المتدارك ، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر
بالأمر به في الشريعة المقدسة. ولا يخفى بعد هذا الوجه ، إذ لا موجب لتقييد الضرر
بغير المتدارك إلّا ما يتوهم من أن الضرر المتدارك لا يكون ضررا حقيقة ، فالمنفي
حينئذ ينحصر بغير المتدارك ، فانه الضرر حقيقة. ولكنه يرد عليه.
أولا : أن التدارك
الموجب لانتفاء الضرر لو سلم يختص بالتدارك الخارجي التكويني ، فمن خسر مالا خسارة
متداركة يصح أن يقال ولو بالمسامحة أنه لم يخسر ، وأما حكم الشارع بوجوب التدارك
فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجا ، فالمسروق ماله متضرر وجدانا مع حكم الشارع بوجوب
رده عليه.
وثانيا : أن كل
ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ، فلو تضرر تاجر
باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا ولا وضعا ، والالتزام
بوجوب التدارك في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد. نعم لو كان الإضرار بإتلاف المال
وجب تداركه ، لا بدليل لا ضرر ، بل بدليل آخر كما هو ظاهر. وبذلك ظهر بطلان هذا
الوجه ، فالأمر يدور بين الاحتمالات الثلاثة.
إذا عرفت ذلك
فنقول : ان الظاهر من الجملتين هو الاحتمال الثالث الّذي اختاره الشيخ قدسسره ، وبيانه يبتني على استقصاء موارد استعمالات الجمل المنفية
بكلمة (لا) النافية للجنس في مقام التشريع ، وهي على أقسام.
فمنها : ما يكون
الجملة فيه مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق المدخول في الخارج كناية عن
مبغوضيته وحرمته ، كما يخبر عن ثبوت الشيء في الخارج كناية عن محبوبيته ووجوبه ،
وقد مر جملة من أمثلة ذلك فيما تقدم.
ومنها : ما تكون
مستعملة اخبارا عن عدم انطباق الطبيعة على المتخصص
بالخصوصية
المذكورة في الكلام كما في قوله عليهالسلام «لا ربا بين
الوالد والولد» و «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له» فان المتحصل منهما ان الشارع لا يرى الرّبا بين الوالد
والولد ، ولا الغيبة لمن ألقى جلباب الحياء مصداقا لطبيعي الرّبا أو الغيبة ،
فالحكم الثابت لهما شرعا يرتفع عن الموردين لا محالة. وكذلك الحال فيما إذا لم يكن
الحكم الثابت للطبيعة حكما تحريميا فيرتفع عما حكم الشارع بعدم انطباقها على مورد
كائنا ما كان ، كما في قوله عليهالسلام «لا سهو في
النافلة» وقوله عليهالسلام «لا يمين للمملوك
مع مولاه» وهذا هو الّذي يعبر عنه بنفي الحكم بلسان نفي موضوعه ،
ولأجله يتقدم الدليل فيه على الأدلة الواقعية بالحكومة ، فيخرج مورده عن موضوعها.
وبذلك يظهر ان هذا
الاستعمال لا بد فيه من ثبوت حكم إلزاميّ ، أو غير تكليفي ، أو وضعي في الشريعة
المقدسة لنفس الطبيعة ، ليكون الدليل الحاكم رافعا له برفع موضوع ، هذا كله فيما
إذا كان النفي حقيقا. واما إذا كان ادعائيا ، فلا يترتب عليه إلّا نفي الآثار
المرغوبة ، المعبر عنه بنفي الكمال ، لا نفي الحقيقة ليترتب عليه نفي الحكم الشرعي
، ومثال ذلك كثير في الشرعيات كما في قوله عليهالسلام «لا صلاة لجار
المسجد إلّا في مسجده» .
ومنها : ما تكون
مستعملة اخبارا عن عدم ثبوت الموضوع في الشريعة المقدسة ، فيستفاد منها نفي الحكم
الثابت له في الشرائع السابقة أو عند العقلاء ، كما في قوله عليهالسلام «لا رهبانية في
الإسلام» فان الرهبانيّة كانت مشروعة في الأمم السابقة ، لكنها غير
مشروعة في الشريعة المقدسة ، فنفيها في الإسلام كناية عن نفي
__________________
تشريعها ، ومثله
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا مناجشة في
الإسلام» فان الزيادة في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كانت أمرا ثابتا متعارفا
عند العقلاء ، لكن الشارع نفاها بنفي تشريعها ، ومثله قوله عليهالسلام «لا قياس في الدين»
فانّ حجية القياس كانت مرتكزة عند العامة ، وقد نفي بنفي
حجيته. وبالجملة الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتا للموضوع في الشرائع
السابقة أو ببناء العقلاء ، من غير فرق بين كونه إلزاميا أو غير إلزاميّ ، تكليفيا
أو وضعيا.
ومنها : ما تكون
مستعملة في نفي نفس الحكم الشرعي ابتداء حقيقة وبلا عناية ، كما في قضية لا حرج في
الدين ، فان ثبوت الحرج في الشريعة انما هو بجعل حكم حرجي ، كما أن الحرج في
الخارج يكون بإيجاد الفعل الحرجي ، فنفيه في الشريعة بعد جعل حكم يلزم من امتثاله
الحرج. وان شئت قلت : ان إلزام المولى بالإضافة إلى امتثال العبد المنقاد بمنزلة
العلة التامة بالقياس إلى معلولها ، فإذا وقع العبد في الحرج من جهة امتثال تكليف
المولى فالمولى هو الّذي أوقعه في الحرج ، فنفي الحرج في الدين عبارة عن عدم جعل
حكم يستلزم امتثاله وقوع المكلف في الحرج.
إذا عرفت ذلك
فنقول : اما الاحتمال الأول ، وهو كون المراد بنفي الضرر النهي عنه شرعا ، فهو وان
كان في نفسه ممكنا ، إلّا انه خلاف الظاهر من وجهين.
الأول : أن بعض
الروايات كانت مشتملة على زيادة قيد (في الإسلام) ومثل هذا القيد كاشف عن ان عناية
المتكلم انما هو في النفي في مقام التشريع ، لا بنفي الوجود الخارجي بداعي الزجر
عنه.
الثاني : ان حمل
النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور
__________________
الجملة في كونها
خبرية ، كما هي ثابتة في مثل قوله عليهالسلام «يعيد صلاته» أو
قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) فانّ العلم بعدم جواز الكذب على المتكلم قرينة قطعية على
إرادة النهي من الكلام. واما في المقام الممكن حمل القضية على الخبرية فلا موجب
لرفع اليد عن الظهور بحمل النفي على النهي.
ثم ان الإضرار
بالغير لما لم يكن جائزا في الشرائع السابقة ، ولا عند العقلاء ، فلا يمكن أن تكون
هذه القضية من قبيل القسم الثالث من موارد استعمالات هذا التركيب كما في قوله عليهالسلام «لا مناجشة في
الإسلام» ، وعليه فلا وجه لما أصر عليه شيخ الشريعة الأصفهاني قدسسره من كون النفي فيما نحن فيه مستعملا في النهي حقيقة .
وأما الاحتمال
الثاني ، وهو كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، فهو أيضا غير صحيح ،
لأن المنفي في المقام بما أنه عنوان الضرر فلو كان النفي نفيا للحكم بلسان نفي
موضوعه لزم أن يكون المنفي نفس الأحكام المترتبة على الضرر ، ولازمه جواز الإضرار
بالغير ، لعدم كونه إضرارا تشريعا ، وهذا يؤدي إلى خلاف المقصود. مضافا إلى أن
عنوان الضرر لو كان موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام امتنع أن يكون رافعا له ،
فان موضوع الحكم بمنزلة المقتضى له ، فكيف يعقل أن يكون مانعا عنه. وبالجملة نفي
الحكم بلسان نفي موضوعه انما يكون فيما إذا كان عموم دليل أو إطلاق شاملا لمورد ،
ليكون دليل النفي ناظرا إلى نفي شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه. وأما فيما إذا
كان المنفي مثل عنوان الضرر ، فلا معنى لنفي الحكم الثابت له بعنوانه وهو الحرمة ،
لما عرفت.
فان قلت : هذا
انما يتم فيما إذا كان المنفي نفس عنوان الضرر وأما إذا كان المنفي هو فعل المكلف
المعنون بالضرر ، فنفيه يستتبع نفي الحكم الثابت لنفس الفعل ، فيقيد
__________________
به إطلاق الدليل
أو عمومه المثبت لذلك الحكم ، فيتم كون القضية مسوقة لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.
قلت : الضرر ليس
عنوانا للفعل الخارجي ومما يحمل عليه بالحمل الشائع ، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه
، فما هو موضوع الحكم لم يرد عليه النفي في القضية ، وما ورد عليه النفي يستحيل
رفع حكمه كما عرفت. اللهم إلّا أن يقال : ان القضية مسوقة لنفي السبب بنفي مسببه ،
وقد أريد بنفي السبب نفي حكمه ، ولكن من الواضح ان مثل هذا الاستعمال لو صح فهو
خلاف الظاهر ، بل لم يعهد مثله أبدا.
فان قيل : أليس
الرفع في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «رفع الخطأ
والنسيان» رفعا للحكم المتعلق بالفعل الصادر حالهما ، ونفيا للحكم بلسان رفع
موضوعه ، فليكن الأمر في المقام كذلك ، وعليه فالمنفي هو حكم الفعل الصادر حال
الضرر بلسان نفي موضوعه.
قلت : أولا : ان
الرفع المتعلق بالخطإ والنسيان في الشريعة المقدسة يمكن أن يكون من قبيل القسم
الثالث من الأقسام المذكورة في استعمال هذا التركيب ، فيكون المنفي حينئذ الحكم
الثابت لهما في الشرائع السابقة من التحريم المترتب عليه استحقاق العقاب ، فان
الخطأ والنسيان وان لم يمكن الزجر عنهما ابتداء ، إلّا أنه يمكن الزجر عنهما
بإيجاب التحفظ لأن لا يقع الإنسان فيهما ، وعليه فلا وجه لقياس النفي في المقام
برفعهما في الشريعة.
وثانيا : لو سلمنا
ان المرفوع في الموردين حكم الفعل الصادر عن خطاء أو نسيان ، فالالتزام به انما هو
لأجل انه لا معنى لرفعهما في الشريعة إلّا ذلك ، وهذا بخلاف المقام ، إذ يمكن فيه
أن يتعلق النفي بنفس الضرر ليكون مفاده نفي الحكم الضرري كما ذكرنا.
وثالثا : ان نسبة
الخطأ والنسيان إلى الفعل كنسبة العلة إلى معلولها ، فيصح أن
يكون النفي نفيا
للمعلول بلسان نفي علته ، فالفعل الصادر في الحالين كأنه لم يصدر في الخارج ،
فيرتفع عنه الحكم لا محالة. وهذا بخلاف عنوان الضرر ، فانه معلول للفعل ومترتب
عليه خارجا ، ولم يعهد في الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقا
بالمسبب وقد أريد به نفي سببه ليترتب عليه انتفاء حكمه ، ولو سلم صحة مثل هذا
الاستعمال فلا ينبغي الريب في أنه خلاف الظهور جدا ، لا يصار إليه من دون قرينة.
فتلخص من جميع ما
ذكرناه أن الحق في المقام هو ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدسسره ، من أن دليل لا ضرر ناظر إلى مقام التشريع ، ودال على نفي
الحكم الضرري ، سواء كان الحكم بنفسه ضرريا أم كان الضرر ناشئا من متعلقه.
الجهة الثالثة : في بيان انطباق نفي
الضرر على ما ذكر في قضية سمرة : ربما يقال : ان ما ورد في قضية سمرة من نفي الضرر لا يمكن الاستدلال به في غير
مورده ، وذلك لأن الضرر في تلك القضية لم يكن إلّا في دخول سمرة على الأنصاري بغير
استئذان. واما بقاء عذقه في البستان فلم يكن يترتب عليه ضرر أصلا ، ومع ذلك أمر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقلع العذق والرمي به إليه فالكبرى المذكورة فيها لا ينطبق
على موردها ، فضلا عن الاستدلال بها في غيره.
وأجاب عنه شيخنا
الأنصاري رحمهالله ، بأن الجهل بكيفية انطباق الكبرى على موردها لا يضر بصحة
الاستدلال بها فيما علم انطباقها عليه .
وما ذكره وان كان
وجيها في نفسه ، إلّا أنه يمكن أن يقال : ان ما يستفاد من الرواية أمران : أحدهما
: عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذانه. الثاني : حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بقلع العذق والرمي به إليه ، والإشكال المزبور يبتني على
أن
__________________
يكون الحكم الثاني
بخصوصه أو منضما إلى الأول مستندا إلى نفي الضرر في الشريعة. واما إذا كان المستند
إليه خصوص الحكم الأول ، وكان الحكم الثاني من جهة ولايته صلىاللهعليهوآلهوسلم على أموال الأمة وأنفسهم دفعا لمادة الفساد ، كما ذكره
المحقق النائيني ، أو تأديبا له لقيامه مقام المعاندة واللجاج ، كما يدل
عليه قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «اقلعها وارم بها
وجهه» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم له «فاغرسها حيث شئت» فانهما ظاهران في غضبه صلىاللهعليهوآلهوسلم على سمرة ، وانه في مقام التأديب والتحقير ، فالإشكال
مندفع من أصله.
ثم ان المحقق
النائيني ذكر في المقام جوابا آخر حاصله : ان دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان إذا كان ضرريا
فكما يرتفع هو بنفي الضرر ، كذلك ترتفع علته التي هي ثبوت حق لسمرة في إبقاء نخلته
في البستان ، ونظير ذلك ما إذا كانت المقدمة ضررية ، فانه كما ينتفي بذلك وجوب
المقدمة ، كذلك ينتفي به وجوب ذي المقدمة ، فلا مانع من سقوط حق سمرة لكون معلوله
ضرريا.
ولا يخفى عليك ان
كون المعلول ضرريا لا يوجب إلّا ارتفاع نفسه دون علته ، فانه بلا موجب ، فإذا كانت
إطاعة الزوجة لزوجها ضررية لا يرتفع بذلك إلّا وجوب نفسها ، واما الزوجية التي هي
علة لوجوب الإطاعة فلا مقتضى لارتفاعها أصلا. كما انه إذا اضطر أحد إلى شرب النجس
، فالمرتفع بالاضطرار انما هو حرمته دون نجاسته التي هي علة الحرمة ، والالتزام
بارتفاع العلة في المثالين ونظائرهما يستلزم تأسيس فقه جديد. وقياس المقام بكون
المقدمة ضررية الموجب لارتفاع وجوب ذي المقدمة قياس مع الفارق ، ضرورة ان كون
المقدمة ضررية مستلزم لكون ذي المقدمة ضرريا لا محالة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة
أم لم نقل به ، فالمرتفع ابتداء انما هو وجوب ذي المقدمة ، لكونه ضرريا بنفسه ،
ولا ربط له بانتفاء العلة بارتفاع معلولها.
__________________
تنبيهات قاعدة لا
ضرر :
وينبغي التنبيه
على أمور :
التنبيه الأول : انه بناء على ما ذكرنا من كون الدليل ناظرا إلى نفي تشريع
الحكم الضرري ، فكل مورد كان الترخيص فيه مستلزما لضرر الغير لم يكن مجعولا ، فيستفاد
من الحديث حرمة الإضرار بالغير ، كما يستفاد منه نفي سائر الأحكام الضررية بجامع
واحد من دون استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
التنبيه الثاني : ان الضرر كسائر
العناوين الكلية انما يثبت له الحكم المجعول في الشريعة عند تحقق مصداقه في الخارج
، ففي كل مورد لزم
من جعل الحكم تضرر المكلف نحكم بعدمه دون غيره مما لا يلزم من جعله الضرر ، فإذا
فرضنا ان الوضوء في زمان ضرري على نوع المكلفين ولم يكن ضرريا على شخص أو اشخاص
معدودة لا يحكم بعدم وجوبه إلّا لمن يتضرر به دون غيره.
ومن هنا يظهر أن
النزاع في ان الاعتبار في شمول لا ضرر هل هو بالضرر النوعيّ نزاع لا معنى له ،
فانه لو صح القول بأن الاعتبار بالضرر النوعيّ لصح القول بأن الاعتبار في موارد
رفع الخطأ والنسيان وما لا يطاق بنوعية هذه الأمور لا بشخصيتها ، وهذا مما لا
يتفوه به فقيه.
فان قلت : على ما
ذكرت لا يمكن الحكم بثبوت الخيار للشفيع والمغبون على الإطلاق ، فان الضرر في
موردهما غالبي لا دائمي ، وبذلك يستكشف ان الاعتبار بالضرر النوعيّ دون الشخصي.
قلت : انما يصح ما
ذكرت لو كان مدرك ثبوت الخيار في المقامين دليل لا ضرر ، ولكن الأمر ليس كذلك ،
لما تقدم من أن الضرر في مورد الغبن وبيع الشريك لو كان فهو في نفس البيع ، فلو
كان دليل لا ضرر شاملا لمثله لزم الحكم بفساد
البيع ، فانه
الموجب للضرر ، واما الحكم باللزوم فلا ضرر فيه بنفسه ، بل هو حكم بالالتزام
بالضرر وإبقاء له ، كما أن الخيار حكم بتدارك الضرر ورفعه ، ولا يستفاد من الحديث
إلّا نفي الحكم الضرري ، لا ثبوت التدارك له بعد تحققه ، بل المدرك للخيار في مورد
الشفعة الروايات الخاصة الواردة فيه ، وفي مورد الغبن تخلف الشرط الارتكازي الثابت
في المعاملات العقلائية من تساوي العوضين من حيث المالية ، ليكون التبديل واردا على
شخصيهما مع التحفظ على المالية ، فإذا فرضنا أن المالية لم تكن محفوظة لنقصان
أحدهما عن الآخر في القيمة ثبت الخيار لتخلف الشرط ، وتفصيل الكلام في محله. وقد
مر أن ذكر حديث لا ضرر متصلا بقضاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالشفعة في رواية عقبة ابن خالد انما هو من قبيل الجمع في
الرواية لا في المروي ، ولو سلم كونه من باب التطبيق والجمع في المروي لزم الحكم
بكونه من باب الحكمة دون العلة. وكيف كان لا ينبغي الشك في ان الاعتبار في غير
مورد النص بالضرر الشخصي دون النوعيّ.
التنبيه الثالث : ذكر الشيخ الأنصاري
قدسسره أن كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة نفي الضرر موهنة للتمسك بها في غير
الموارد المنصوصة ، فان الخارج من
عمومها يعادل أضعاف ما بقي تحته توضيح ذلك : أن الأحكام المجعولة في أبواب الحدود والدّيات
والقصاص والتعزيرات والضمانات كلها ضررية ، كما أن تشريع الخمس والزكاة والحج
والجهاد كذلك ، مع أنها مجعولة بالضرورة ، ومن هذا القبيل الحكم بنجاسة ملاقي
النجاسة فيما كان مسقطا لماليته أو منقصا لها ، مع أنه ثابت بلا إشكال ، وعليه فلا
مناص من الالتزام بكون الضرر المنفي في الشريعة ضررا خاصا غير شامل لهذه الموارد ،
ولازم ذلك هو الالتزام بكون مدلول الحديث مجملا غير
__________________
قابل للاستدلال به
إلّا في موارد انجباره بعمل المشهور ونحوه.
وقد أجاب الشيخ رحمهالله عنه بان التخصيص في هذه الموارد يمكن أن يكون بجامع واحد ،
ولا قبح في التخصيص بعنوان واحد ، ولو كان أفراده أكثر من أفراد الباقي تحت العام
، وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم في موارد الشك في التخصيص.
والتحقيق أن يقال
: ان دليل العموم إذا كان ناظرا إلى الخارج وكان من قبيل القضايا الخارجية فلا فرق
في قبح تخصيص الأكثر بين كونه بعنوان واحد أو بعناوين عديدة ، فإذا فرض ان علماء
البلد على كثرتهم ليس فيهم إلّا هاشمي واحد ، وأراد المولى إيجاب إكرامه فقط ،
فكما لا يصح التعبير عن مراده بقوله «أكرم كل عالم في البلد إلّا زيدا وعمرا وبكرا»
وهكذا إلى أن يستوعب الجميع غير الهاشمي ، كذلك لا يصح التعبير عنه بقوله «أكرم
علماء البلد إلّا من لم يكن هاشميا» وذلك ظاهر لمن راجع الاستعمالات المتعارفة عند
أهل العرف. نعم لو كان العموم بنحو القضية الحقيقية أمكن القول بعدم الاستهجان
بكثرة أفراد المخصص خارجا ، فان القضية الحقيقية قضية لم يلحظ فيها الخارج إلّا
على نحو الفرض من باب التخصيص في القاعدة دون التخصص.
بيان ذلك : ان حكم
الشارع في أبواب الحدود والدّيات والقصاص وان كان ضرريا ، إلّا أن دليل لا ضرر لا
يتكفل برفعه ، فان نفي الحكم الضرري حكم ورد امتنانا على الأمة ، ومن الظاهر أن
نفي الحكم في هذه الموارد يستلزم الإضرار لشخص آخر ، فإذا أتلف أحد مال غيره
فالحكم بضمانه وان كان ضرريا بالإضافة إليه ، إلّا ان نفي الضمان يوجب تضرر المالك
، فلا يتكفل الحديث الوارد في مقام الامتنان على الأمة ذلك. واما وجوب الخمس أو
الزكاة فتشريعه لا يكون ضررا على أحد ، فان الشارع لم يعتبر المالك مالكا في مقدار
الزكاة والخمس ، بل اعتبره
شريكا مع السادة
أو الفقراء ، فبابه باب قلة النّفع ، وهو أجنبي عن الضرر المفسر بالنقصان كما
عرفت. نعم في موارد وجوب الزكاة فيما ملكه الإنسان سابقا ، كما إذا ملك مائتين
وعشرة دراهم ومضى عليها سنة ، فأدى زكاته ، وهي خمس دراهم وربع درهم ، ثم أبقى
الباقي عنده حتى مضت عليه سنة أخرى ، فوجب عليه إخراج زكاته ثانيا كان هذا الحكم
ضرريا لا محالة ، لكنك ستعرف ان هذا ليس تخصيصا للقاعدة أيضا. وأما وجوب الحج أو
الجهاد فهو وان كان ضرريا إلّا أن دليل لا ضرر لا يعم إلّا ما كان الحكم الشرعي
ضرريا اتفاقا ، واما إذا كان الحكم في نفسه وطبعه ضرريا فهو غير مشمول له أصلا ،
والشاهد على ذلك أن وجوب الحج والجهاد وغيرهما من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند
صدور هذا الكلام من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في قضية سمرة ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة بجعل
هذه الأحكام في الشريعة. وبذلك يظهر لك الجواب عن وجوب الزكاة وعن التعزيرات ، بل
هو جار في جميع الموارد المتقدمة ، فمع الإغماض عما قدمناه من الجواب كان هذا
جوابا عن الجميع. نعم لو استلزمت هذه الأحكام الضررية في أنفسها ضررا آخر مغايرا
لما يقتضيه طبعها صح التمسك بحديث لا ضرر لنفي ذلك ، والوجه فيه ظاهر.
وأما الحكم بنجاسة
الملاقي للنجس فيما تعذر تطهيره أو استلزم نقصا في ماليته فكونه ضرريا يتوقف على
شمول عنوان الضرر للنقص في المالية أيضا ، وهو وان كان قريبا جدا إلّا أن تخصيص
القاعدة بذلك كتخصيصه بوجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته ، وبوجوب غسل المريض
إذا تعمد الجنابة ولو تضرر بذلك على قول ، لا يوجب تخصيص الأكثر ، المانع عن
التمسك بالقاعدة في موارد الشك.
فتحصل مما ذكرناه
ان ما ذكر من الموارد تخصيصا للقاعدة يدور أمره بين ما لا يكون تخصيصا وما لا يلزم
من التخصيص به تخصيص الأكثر.
التنبيه الرابع : ان النسبة بين دليل لا
ضرر وبين كل واحد من الأدلة المثبتة للأحكام عموم من وجه ، مثلا إطلاق دليل وجوب الوضوء يقتضي وجوبه حتى في حال الضرر
، كما أن إطلاق دليل لا ضرر لمورد الوضوء ينفي وجوبه حال الضرر ، فالوضوء الضرري
مورد للنفي والإثبات بمقتضى إطلاق الدليلين ، ومن ثم وقع الكلام في وجه تقدم دليل
لا ضرر على إطلاق الدليل المثبت للحكم.
وقد ذكر في وجه
التقدم وجوه.
الأول : ان الموجب
للتقدم عمل المشهور به في مورد المعارضة ، فيكون الترجيح بالشهرة ، ومع قطع النّظر
عن الترجيح بها فالحكم هو التساقط ، والرجوع إلى الأصل الجاري في المقام ، فيحكم
بعدم وجوب ما دل الدليل على وجوبه بالإطلاق ، فتكون النتيجة نتيجة تقدم دليل لا
ضرر على الدليل المعارض له.
وفيه : أنه لو فرض
التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه لم تكن مطابقة أحدهما لفتوى المشهور مرجحا له
، فان الشهرة المرجحة في باب التعارض انما هي الشهرة في الرواية دون الفتوى ، وقد
تقدم بيانه في بحث حجية الشهرة ، ولا معنى لادعائها في العامين من وجه. واما الحكم
بالتساقط والرجوع إلى الأصل فهو وان كان مقتضى القاعدة فيما إذا كان التعارض
بالعموم من وجه ، وكان العموم مستفادا من الإطلاق ومقدمات الحكمة على ما سيجيء
بيانه إن شاء الله ، إلّا ان ذلك لا يترتب عليه إلّا نفي التكليف المتكفل به
الدليل المعارض لقاعدة لا ضرر ، وهذا لا يكفي في إثبات حكم آخر مترتب على ترجيح
القاعدة من وجوب التيمم ونحوه.
الثاني : ان دليل
لا ضرر إذا لوحظ مع كل من الأدلة المثبتة للتكليف فالنسبة بينهما وان كانت عموما
من وجه ، إلّا أنه إذا لوحظ مع مجموع الأدلة المثبتة للأحكام فالنسبة بينهما عموم
مطلق ، فيخصص به تلك الأدلة ، ويتقدم عليها لا محالة.
وفيه : أنه لا
موجب لفرض جميع الأدلة بمنزلة دليل واحد وملاحظة النسبة بينها وبين دليل لا ضرر ،
فان المعارضة انما هي بينه وبين كل واحد منها لا مجموعها.
الثالث : ان
الموجب للترجيح هو أن تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلة لا يستلزم إلّا التخصيص
فيها ، واما تقديمها عليه بأجمعها فهو يستلزم أن لا يبقى مورد لدليل لا ضرر أصلا ،
وأما تقديم بعضها عليه دون بعض فترجيح بلا مرجح.
وفيه : ان نسبة
دليل نفي الضرر مع الأدلة المثبتة للأحكام في مواردها بما انها عموم من وجه ،
فبناء على ما هو المختار من ان الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه إذا كان العموم
في أحدهما مستندا إلى الوضع وفي الآخر إلى مقدمات الحكمة يتقدم ما يكون عمومه
بالوضع على الآخر ، وإذا كان كل منهما بالإطلاق يتساقط الظهوران ، فيرجع إلى عموم
أو إطلاق غيرهما ، أو إلى أصل عملي ، فلا بد من النّظر إلى الدليل المعارض لدليل
نفي الضرر ، فان كان عمومه بالإطلاق فيسقط الظهوران ويرجع إلى الأصل العملي ،
فتكون النتيجة نتيجة نفي الضرر من حيث نفي الحكم الإلزامي ، واما إذا كان عموم
الدليل وضعيا ، فيتقدم على دليل نفي الضرر ، وعلى ذلك فلا بد من التفكيك بين
الموارد من دون لزوم الترجيح بلا مرجح.
واما بناء على ما
سلكه غير واحد من الرجوع إلى المرجحات السندية في معارضة العامين من وجه مطلقا ،
فلا بد من النّظر في كل واحد من الأدلة المعارضة لدليل نفي الضرر ، فما كان منها
أقوى سندا منه يقدم عليه ، وما كان أضعف منه يترك العمل به ، وما كان مساويا معه
يتخير بينهما ، وتمام الكلام في محله ، وعليه أيضا لا يكون الترجيح بلا مرجح.
وبالجملة لو سلمت المعارضة بين دليل نفي الضرر وأدلة الأحكام لم يكن وجه لتقدمه
عليه ببطلان الترجيح بلا مرجح.
الرابع : ما ذكره
في الكفاية من ان الجمع العرفي يقتضي تقديم دليل نفي
__________________
الضرر المتكفل
بتشريع الحكم لعنوان ثانوي ، فتحمل الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على
بيان الأحكام الاقتضائية ، وهذا جار في كل ما تحققت المعارضة بين دليل مثبت للحكم
بعنوان أولي مع دليل آخر متكفل ببيان حكم لعنوان ثانوي ، فإذا لاحظ العرف إطلاق
دليل وجوب الوضوء لحال الضرر مع دليل نفي الضرر يستكشف منهما ان في الوضوء مقتضى
لجعل الوجوب ، وكونه ضرريا مانع عن ذلك ، فيتحصل منهما عدم الوجوب الفعلي في مورد
الضرر.
وفيه : انه ان
أريد بالحكم الاقتضائي ما يكون من سنخ الحكم المجعول حقيقة ، ومع ذلك كان اقتضائيا
غير مشتمل على البعث أو الزجر ، فقد ذكرنا في محله انه لا نتعقل له معنى صحيحا ،
فان الأحكام المجعولة في الشريعة كلها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، فيستحيل عدم
فعليتها مع تحقق موضوعها خارجا. هذا مضافا إلى ان تلك الأحكام ان كانت اقتضائية في
غير موارد الضرر أيضا فما هو الموجب لامتثالها ، وان كانت فعلية فيها فكيف يعقل أن
يكون الدليل الواحد متكفلا لبيان حكم واحد قد يكون فعليا وقد يكون اقتضائيا
باختلاف موارده.
وان أريد بالحكم
الاقتضائي مجرد اشتمال الفعل على الملاك ، بأن يكون إيجاب شيء مثلا في الحقيقة
اخبارا عن اشتمال ذلك الفعل على المصلحة الملزمة ، فيرد عليه.
أولا : ان الجمع
العرفي لا يساعد على حمل القضية الإنشائية على القضية الخبرية بالوجدان.
وثانيا : ان لازم
ذلك عدم وجوب امتثال الأحكام في غير موارد الضرر ، فان وجود المصلحة الإلزامية
فيها وان كان ثابتا بالدليل إلّا أنه يحتمل عدم التكليف لمانع لا نعلمه ، فالتكليف
مشكوك فيه ، فما الموجب للزوم الامتثال فيها.
والتحقيق في
المقام ان يقال : انه لا معارضة بين دليل نفي الضرر وأدلة
الأحكام ، بل هو
حاكم عليها ، والدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم من دون ملاحظة النسبة
بينهما ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمرين :
الأول : ان دليل
نفي الضرر حاكم على الأدلة المثبتة بعمومها أو إطلاقها للأحكام في مورد الضرر.
الثاني : ان
الدليل الحاكم يتقدم على الدليل المحكوم ولو كانت النسبة بينهما عموما من وجه ، أو
كان المحكوم أقوى دلالة من الحاكم.
اما الأمر الأول :
فبيانه ان كل دليل إذا لوحظ بالإضافة إلى دليل آخر ، ان لم يكن بينهما تناف في
المدلول وأمكن الأخذ بظاهر كل منهما فلا إشكال. وان كان بينهما تناف ، ولزم رفع
اليد عن ظهور أحدهما ، فان لم يكن أحدهما ناظرا إلى الآخر ، بل كان التنافي بينهما
لمجرد عدم إمكان اجتماع مدلوليهما خارجا فهما من المتعارضين ، فلا بد في مثله من
الرجوع إلى قواعد التعارض ، من تقديم الأقوى منهما دلالة أو سندا ، أو التخيير ،
أو التساقط على اختلاف الموارد. وأما إذا كان أحدهما ناظرا إلى الآخر بحيث لو لم
يكن الآخر مجعولا أصلا كان جعله لغوا ، فهو حاكم على الدليل الآخر ومبينا للمراد
منه.
ثم ان النّظر إلى
الدليل الآخر قد يكون مدلولا مطابقيا للدليل الحاكم ، كما في قوله عليهالسلام حينما سئل عن قوله «الفقيه لا يعيد الصلاة» انما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع. وهذا القسم من
الحكومة في الروايات نادر جدا. وقد يكون مدلولا التزاميا له ، تارة : بالتصرف في
عقد الوضع وبيان المراد به سعة أو ضيقا ، كما في قوله عليهالسلام «الطواف في البيت صلاة» وقوله عليهالسلام «لا سهو للإمام
إذا حفظ عليه من خلفه» فانهما يكشفان عن كون شرائط الصلاة عامة للطواف أيضا ،
وانّ أحكام
__________________
السهو خاصة بغير
الإمام إذا حفظ عليه المأمور. وهذا القسم من الحكومة كثير في الروايات. وأخرى :
بالتصرف في عقد الحمل ، كما في المقام ، وفي دليل نفي الحرج ، فانهما ناظران إلى
أدلة الأحكام ، وان كل حكم مجعول في الشريعة قبل ورودهما أو مجعول بعدهما مختص
بغير موارد الضرر أو الحرج ، فالحكم الحرجي أو الضرري غير مجعول في الشريعة
المقدسة ، ولا يجعل أبدا.
وبذلك ظهر ان
الميزان في الحكومة كون أحد الدليلين ناظرا إلى الدليل الآخر ومتأخرا عنه رتبة ،
سواء في ذلك تأخره عنه زمانا وعدمه. ولا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدسسره من اعتبار التأخر زمانا في الدليل الحاكم كما هو ظاهر.
واما الأمر الثاني
: فبيانه أن الدليل الحاكم إذا كان ناظرا إلى عقد الوضع في الدليل المحكوم فالوجه
في تقدمه عليه ظاهر ، فان كل دليل مثبت للحكم على تقدير وجود موضوعه لا يكون ناظرا
إلى تحقق موضوعه خارجا ، فإذا فرض دليل كان مدلوله نفي موضوع الآخر لم يكن بينهما
تناف وتعارض أبدا ، مثلا لا يكون دليل حرمة الرّبا ناظرا إلى مورد تحقق الرّبا ،
بل غاية مدلوله إثبات الحرمة له على فرض تحققه ، فإذا ورد انه لا ربا بين الوالد
والولد فهو ينفي ما لا يثبته الدليل الأول ، فيتقدم عليه لا محالة.
وان شئت قلت : ان
الحكم في الدليل الأول مجعول على نحو القضية الشرطية من دون تعرض لتحقق الشرط
وعدمه ، والثابت بالدليل الثاني انتفاء الشرط ، فهو انتفاء الحكم بانتفاء شرطه ،
فلا تنافي بينهما ، بل مقتضى الجمع بينهما هو اختصاص الدليل الأول بغير موارد
الدليل الثاني.
واما إذا كان
الدليل الحاكم ناظرا إلى عقد الحمل من المحكوم ، فالوجه في
__________________
تقدمه عليه هو
الوجه في تقدم كل دليل على الأصول اللفظية والعملية ، وتوضيحه : أن ثبوت الأحكام
في موارد كونها ضررية أو حرجية انما هو بالإطلاق أو بأصالة العموم ، وكل منهما أخذ
في موضوعه الشك في المراد ، فإذا ثبت بالدليل ان الحكم الضرري أو الحرجي غير مجعول
في الشريعة ، فهو بنفسه رافع للشك في المراد ، وهذا هو السر في عدم ملاحظة النسبة
بين دليلي الحاكم والمحكوم ، وفي تقدم كل قرينة على ظهور ذي القرينة ولو كان ذو
القرينة أقوى ظهورا من قرينته ، كما في قضية : رأيت أسدا يرمي ، فان ظهور لفظ
الأسد في الحيوان المفترس وان كان وضعيا إلّا أنه يرفع اليد عنه بظهور (يرمي) في
رمي النبل ولو كان بالإطلاق ، لكون ما أتى به قرينة مبينة للمراد.
ومما ذكرناه يظهر
أنه لو ورد دليل ظاهر في كونه واردا لبيان الحكم الواقعي ثم ورد دليل آخر دل على
ان الحكم الأول كان لأجل التقية قدم الثاني ، ولا يعامل معهما معاملة المتعارضين ،
وتمام الكلام في المقام موكول إلى محله.
التنبيه الخامس : ان لفظ الضرر الوارد
في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي ، كما هو الحال في بقية الألفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية ،
ومقتضى ذلك أن يكون الاعتبار في نفي الحكم بكونه ضرريا في الواقع ، سواء علم
المكلف به أم لم يعلم ، وهذا مما لا إشكال فيه في الجملة. إلّا أنه ربما يستشكل
بذلك في موردين.
أحدهما : تقييد
الفقهاء خياري العيب والغبن بما إذا جهل المغبون غبنه ، وأما مع العلم بهما فلا
يحكم بالخيار ، فيسأل حينئذ عن وجه التقييد ، مع أن دليل نفي الضرر ناظر إلى الضرر
الواقعي من دون فرق بين العلم والجهل به.
ثانيهما : تسالم
الفقهاء ظاهرا على صحة الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية ، مع أن مقتضى
دليل نفي الضرر عدم وجوبها على المكلف حينئذ
وانتقال وظيفته
إلى الطهارة الترابية.
والتحقيق ان يقال
: ان الإشكال في المورد الأول مبني على أن يكون دليل الخيار في موارد الغبن والعيب
دليل نفي الضرر ، وقد ذكرنا في محله انه لم يثبت الخيار في شيء من موارده بدليل
نفي الضرر ، بل الدليل على ثبوت خيار الغبن ما أشرنا إليه فيما تقدم من بناء
العقلاء في معاملتهم على حفظ مالية أموالهم مع التبدل في أشخاصها ، وهذا شرط ضمني
ارتكازي في كل معاملة غير مبنية على التسامح ، وبتخلفه يثبت الخيار ، لتخلف الشرط
، وعلى هذا يكون علم المغبون بغبنه واقدامه على المعاملة الغبنية إسقاطا منه للشرط
المزبور ، فلا إشكال. وأما خيار العيب فالدليل عليه ان كان تخلف الشرط الضمني ،
بتقريب : ان المعاملات العقلائية مبنية على أصالة السلامة في العوضين ، فإذا ظهر
العيب فيهما ثبت الخيار لتخلف الشرط ، فالحال فيه يظهر مما تقدم. وأما إذا كان
الدليل عليه الروايات الواردة فيه ، فالوجه في تقييده بحال الجهل ظاهر بعد تقييده
به في نفس تلك الروايات. وعلى كل حال لا إشكال في التقييد المزبور.
وأما الإشكال في
المورد الثاني ، فيدفعه أن ورود دليل نفي الضرر في مقام الامتنان قرينة قطعية على
عدم شموله للمقام ، فان نفي الحكم عن الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل ،
الملازم لفساد ما أتى به وللأمر بالتيمم ، بل لإعادة العبادة المشروطة بالطهارة
الواقعة معها مخالف للامتنان ، فلا يشمله الدليل. ونظير ذلك قد تقدم من ان حديث
الرفع الوارد في مقام الامتنان لا يرفع به صحة البيع المضطر إليه ، لكونه خلاف
الامتنان.
وقد ذكر المحقق
النائيني ما حاصله : ان الإشكال مبني على ما ذكره في
__________________
الكفاية من ان
معنى الحديث هو رفع الحكم عن الموضوعات الضررية. وأما على ما اخترناه من ان معناه
نفي الحكم الضرري في عالم التشريع فالإشكال مندفع من أصله ، لأن الضرر في موارد
الجهل به لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بالدليل المزبور ، وانما نشأ من جهل
المكلف به خارجا ، ومن ثم لو لم يكن الحكم ثابتا في الواقع لوقع في الضرر أيضا.
ويرد عليه : ان
الاعتبار في دليل نفي الضرر انما هو بكون الحكم في نفسه أو بامتثاله ضرريا ، ولا
ينظر في ذلك إلى الضرر المتحقق في الخارج وانه نشأ من أي سبب ، ومن الظاهر ان
الطهارة المائية في المثال لو كانت واجبة في الشريعة لصدق أن الحكم الضرري مجعول
فيها ، وعليه فدليل نفي الضرر ينفي وجوبه لو لا ما ذكرناه من اختصاصه بموارد
الامتنان.
ثم لا يخفى ان
الحكم بصحة الطهارة المائية في فرض الجهل بالضرر يبتني على أحد أمرين.
الأول : ان لا
يكون الإضرار بالنفس محرما ما لم يبلغ إلى إلقائها في التهلكة ، ولم يكن مما علم
مبغوضيته في الشريعة كقطع الأعضاء ونحوه.
الثاني : ان لا
يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي متعلقا بما يتولد منه ، فالإضرار بالنفس وان
فرض حرمته مطلقا إلّا ان حرمته بناء على ذلك لا تسري إلى الطهارة المائية التي
يتولد منها عنوان الإضرار ، فلا مانع من الحكم بصحتها وان كان الإضرار المتولد منه
حراما بالفعل.
واما إذا لم نقل
بشيء من الأمرين فالطهارة المائية وان لم يشملها دليل لا ضرر إلّا ان حرمتها
الواقعية مانعة عن اتصافها بالصحّة ، ولا يكون الجهل بالحرمة موجبا للتقرب بما هو
مبغوض واقعا ، ومن هنا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي انه بناء على الامتناع
وتقديم جانب الحرمة لا يحكم بصحة العبادة ولو في حال
الجهل.
إذا عرفت ذلك
فنقول : أما الأمر الثاني ، فقد ذكر غير مرة ان الصحيح فيه التفصيل ، فان العنوان
التوليدي ان كان مما ينطبق على نفس ما ينطبق عليه العنوان المتولد بنظر العرف ،
كعنوان الإيذاء والهتك ونحوهما ، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما
يتولد منه لا محالة ، لوحدة الوجود خارجا ، فلا عبرة بتعدد العنوان حينئذ. واما
إذا كان العنوان التوليدي مغايرا في الوجود مع ما يتولد منه ، كالإحراق المتولد من
الإلقاء ، حيث انهما موجودان بوجودين ، ضرورة ان الملاقاة مغايرة مع الاحتراق
خارجا ، فإيجاد كل منهما غير إيجاد الآخر ، فان الإيجاد والوجود متحدان بالذات
ومختلفان بالاعتبار ، فلا يسري حرمة العنوان التوليدي إلى ما يتولد منه ، وحيث ان
الإضرار الّذي هو من العناوين التوليدية من قبيل القسم الأول فحرمته عبارة أخرى عن
حرمة ما يتولد منه ، فالحكم بالصحّة في مفروض المقام يدور مدار إثبات الأمر الأول.
وقد اختلف في ذلك
الأنظار. وذكر الشيخ رحمهالله في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر أن الإضرار بالنفس كالإضرار بالغير محرم بالأدلة العقلية
والسمعية.
ولكن التحقيق عدم
ثبوت ذلك على إطلاقه ، إذ العقل لا يرى محذورا في إضرار الإنسان بنفسه بصرف أمواله
كيف ما شاء ما لم يبلغ إلى حد السرف والتبذير ، ولا بإضرار نفسه بتحمل ما يضر بصحة
بدنه فيما إذا ترتب عليه غرض عقلائي ، كما في سفر التجارة أو الزيارة ونحوه ، ولم
يرد في الشرع ما يدل على تحريم الإضرار بالنفس مطلقا.
__________________
وتحقيق الحال فيه
يتوقف على النّظر في الروايات التي استدل بها على الحرمة ، وهي على طوائف.
الأولى : أدلة نفي
الضرر المتقدمة ، بناء على إرادة النهي من النفي. ويرد على الاستدلال بها.
أولا : ما عرفت من
انها ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية وأجنبية عن حرمة الإضرار.
وثانيا : انها على
تقدير التنزل لا دلالة فيها إلّا على حرمة الإضرار بالغير ، كما هو ظاهر قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لسمرة «انك رجل مضار» واما حرمة الإضرار بالنفس فلا يستفاد
منها أصلا. على أن الإضرار بالنفس لا يقع في الخارج غالبا إلّا بداعي عقلائي ،
فتحريمه والحال هذه مناف للامتنان ، وقد عرفت ان حديث نفي الضرر لا يشمل ما كان
مخالفا له. بل يمكن أن يقال ان الضرر المترتب عليه منفعة عقلائية لا يكون مصداقا
للضرر عرفا ، فعدم حرمته لانتفاء موضوعها ، مع قطع النّظر عن ورود الأدلة في مقام
الامتنان.
الثانية : ما رواه
الكليني في الكافي بالإسناد إلى طلحة بن زيد عن الصادق عليهالسلام «الجار كالنفس غير مضار ولا آثم» .
ولا دلالة فيها
على الحرمة الشرعية. بل المستفاد منها ان الجار بمنزلة النّفس ، فكما ان الإنسان
بطبعه لا يقدم على ضرر نفسه ، ولا يظهر عيوبه ، فليكن هكذا حاله مع جاره.
الثالثة : ما رواه
الكليني بالإسناد إلى محمد ابن عبد الله عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام ، وبالإسناد إلى مفضل بن عمر عن الصادق عليهالسلام والحديث طويل ،
__________________
قال عليهالسلام فيه : «ان الله تعالى لم يحرم ذلك ـ الخمر والميتة والدم
ولحم الخنزير ـ على عباده وأحل لهم سواه رغبة منه فيما حرم عليهم ، ولا زهدا فيما
أحل لهم ، ولكنه خلق الخلق وعلم عزوجل ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم ، وأباحه تفضلا
منه عليهم به تبارك وتعالى لمصلحتهم ، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه ، وحرمه عليهم. إلى
أن قال : اما الميتة فانه لا يد منها أحد إلّا ضعف بدنه ، ونحف جسمه ، وذهبت قوته»
الحديث . ولا دلالة فيه على حرمة الإضرار بالنفس بمطلق الأكل
والشرب فضلا عن غيرهما ، بل غاية ما يستفاد منه أن الحكمة في تحريم جملة من
الأشياء كونها مضرة بنوعها ، لا أن الإضرار بنفسه موضوع للتحريم. والّذي يدل على
ذلك أمور.
منها : أن الحكمة
المذكورة في الرواية لتحريم الميتة ترتب الضرر على إدمانها ، فلو كان هذا علة
للتحريم لم يكن أكلها بغير إدمان محرما.
ومنها : ما ورد في
عدة روايات من ترتب الضرر على أكل جملة من الأشياء ، كتناول الجبن في النهار ،
وإدمان أكل السمك ، وأكل التفاح الحامض ، وشرب الماء بعد الطعام إلى غير ذلك ، مع
أنه لا إشكال في جوازها شرعا.
ومنها : أنه لو
كان الضرر علة لتحريم جملة من المأكولات والمشروبات كانت الحرمة دائرة مدار ترتب
الضرر ، فإذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة ، ولازم ذلك ان لا يحرم استعمال
قليل من الأمور المذكورة في الرواية ، فانها لا تزيد على السموم القاتلة في ان
المضر منها كمية خاصة ، مع أن ذلك خلاف الضرورة من الدين. على انا نقطع بعدم كون
الميتة بجميع اقسامها مضرة للبدن ، فلو كانت الحرمة دائرة مدار الضرر لزم الحكم
بجواز ما لا يضر منها ، كما إذا ذبح الحيوان إلى غير
__________________
القبلة متعمدا ،
فهل يحتمل أن يكون أكل لحمه مضرا في فرض التعمد ، وغير مضر في فرض عدمه ، أو يحتمل
أن يكون مضرا في حال التمكن ، ولا يكون مضرا في حال العجز ، كما إذا كان الحيوان
مستعصيا ، فيعلم من جميع ذلك ان الضرر ليس علة للتحريم ، وانما هو حكمة ربما يتخلف
عنها كما تتخلف هي عنه.
الرابعة : ما رواه
في العيون عن محمد ابن سنان عن الرضا عليهالسلام فيما كتبه إليه «وحرمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان
والآفة. إلى ان قال : وحرم الله الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان» .
الخامسة : ما في
الخصال. قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «ولا تأكلوا الطحال فانه بيت الدم الفاسد» .
ويظهر الجواب عنها
مما تقدم.
السادسة : ما في
الوسائل في باب جملة من الأطعمة والأشربة المباحة والمحرمة عن تحف العقول عن جعفر
ابن محمد عليهالسلام بعد تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف. قال : فكل شيء
من هذه الأشياء فيه غذاء للإنسان ومنفعة وقوة فحلال أكله. وما كان منها فيه المضرة
فحرام أكله وفي المستدرك في الباب المتقدم عن دعائم الإسلام عن الصادق مثله.
والجواب عنها
مضافا إلى ضعف سندها أن ظاهر الحديث تقسيم الحبوب والثمار والبقول إلى قسمين ، فما
كان منها في طبعه وبحسب نوعه مضرا للبشر كالسموم والقوابض والمسهلات ونحوها فهو
حرام على كل مكلف إلّا في حال التداوي ، وما كان فيه قوة ومنفعة لطبيعي الإنسان
فهو حلال ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من كون شيء واحد حراما عند الضرر وحلال في
غيره.
__________________
السابعة : ما رواه
في المستدرك عن فقه الرضا عليهالسلام «اعلم ـ يرحمك
الله ـ ان الله تبارك وتعالى ، لم يبح أكلا ولا شربا إلّا لما فيه المنفعة والصلاح
، ولم يحرم إلّا ما فيه الضرر والتلف والفساد ، فكل نافع مقو للجسم فيه قوة للبدن
فحلال ، وكل مضر يذهب بالقوة أو قاتل فحرام ، مثل السموم والميتة والدم ولحم
الخنزير» الحديث.
والجواب عنه مضافا
إلى عدم ثبوت كونه رواية ، فضلا عن صحته ، يظهر مما تقدم.
فتحصل مما ذكر صحة
ما ذهب إليه المشهور من الحكم بصحة الطهارة المائية إذا لم يكن المكلف عالما
بضررها.
وحيث انتهى بنا
الكلام إلى هذا المقام ، فلا بأس بالتعرض لفروع مناسبة له.
الأول : إذا علم
الضرر في الطهارة المائية ، وأتى بها عالما عامدا ، فهل يحكم بصحتها؟ وجهان مبنيان
على ان حديث نفي الضرر ناظر إلى نفي الإلزام الضرري ، أو انه ينفي كل تشريع ضرري
ولو لم يكن إلزاما؟ فعلى الثاني لا ينبغي الشك في البطلان ، فان الطهارة المزبورة
لم تشرع في الشريعة. وأما على الأول فالظاهر هو الحكم بالصحّة ، لأن الغسل مما لا
إشكال في استحبابه النفسيّ ، كما أن الوضوء كذلك على الأظهر ، فالإلزام بهما حال
الضرر وان كان مرتفعا إلّا أنه لا يقتضي بطلانهما بعد فرض استحبابهما ، وعدم
ارتفاع الاستحباب بدليل نفي الضرر. وبما أن الصحيح هو الوجه الثاني ، فان حديث نفي
الضرر وارد في مقام الامتنان والإرفاق ، ولا امتنان في رفع الاستحباب ، إذ لا كلفة
في وضعه ، فالظاهر هو الحكم بصحة الطهارة المائية ، لاستحبابها النفسيّ أو لغاية
مستحبة ، ويترتب عليها جواز الإتيان بالصلاة
__________________
الواجبة المشروطة
بها أيضا.
نعم بناء على ما
قيل من حرمة الإضرار بالنفس كانت الطهارة المائية في الفرض مبغوضة ، فتكون فاسدة
لا محالة. ومن هنا فصل السيد رحمهالله في العروة بين الضرر والحرج ، فحكم بفساد الطهارة المائية
مع العلم بالأول دون الثاني . واما على ما ذكرنا فالحكم في بابي الضرر والحرج سواء.
ثم ان المحقق
النائيني أشكل على جواز الطهارة المائية عند الحكم بصحة الطهارة
الترابية كما في الفرض بما حاصله : ان الحكم بصحة الوضوء مثلا عند الحكم بصحة
التيمم يستلزم تخيير المكلف بينهما ، وهو يشبه الجمع بين النقيضين ، وذلك فان
الأمر بالتيمم في الآية المباركة مشروط بعدم وجدان الماء ، كما ان الأمر بالوضوء
بقرينة المقابلة مشروط بالوجدان ، فالحكم بصحة كل منهما في الفرض المزبور يستلزم
كون المكلف واجدا للماء وفاقدا له ، وهو محال.
والجواب عنه أن ما
علق على وجدان الماء وعدمه في الآية انما هو وجوب الوضوء ووجوب التيمم تعيينا ،
وليس فيها دلالة على انحصار مشروعية التيمم بموارد فقدان الماء ، فمن الجائز أن
يكون واجد الماء في مورد قد شرع له التيمم إرفاقا ، كما ثبت ذلك فيمن أوى إلى
فراشه فذكر انه غير متوضئ ، والمقام من هذا القبيل ، فان الوضوء في موارد الحرج بل
في موارد الضرر بناء على ما عرفت من عدم كون الإضرار بالنفس محرما مطلقا مما يقدر
عليه المكلف تكوينا وتشريعا ، فهو واجد للماء بالوجدان ، غاية الأمر انه لم يلزم
بالوضوء إرفاقا ، وذلك لا يستلزم الحكم ببطلانه إذا اختار لنفسه الضرر ، أو
إلقائها في الحرج بعد كونه مستحبا في نفسه ،
__________________
وعدم حكومة دليل
نفي الحرج أو الضرر للحكم الاستحبابي.
الثاني : لو اعتقد
المكلف فقدان الماء أو كون استعماله ضرريا ، فتيمم وصلّى ، ثم انكشف له الخلاف ،
فهل يحكم بصحة ما أتى به؟ وجهان. وعلى تقدير الصحة ، فهل تجب عليه الإعادة إذا كان
انكشاف الخلاف في أثناء الوقت أولا؟ نسب المحقق النائيني قدسسره الحكم بالصحّة وعدم وجوب الإعادة إلى المشهور وذكر في تقريبه ، ان موضوع التيمم من لم يتمكن من استعمال
الماء ، ومن اعتقد فقدانه فهو غير متمكن من استعماله ، فالموضوع محرز وجدانا.
وبذلك يظهر الحال في معتقد الضرر ولو كان اعتقاده مخالفا للواقع ، فان من يعتقد
عدم وجوب الوضوء غير متمكن من امتثاله خارجا.
وما ذكره قدسسره في توجيه ما نسب إلى المشهور متين جدا في معتقد عدم الماء
، فان التمكن لا يدور مدار الواقع ، بل يدور مدار الاعتقاد ، وقد مرّ ان الإنسان
ربما يموت عطشا والماء في رحله ، لاعتقاده عدمه. واما معتقد الضرر فيما لم يكن ضرر
في الواقع فالحكم بعدم تمكنه من استعمال الماء مبني على القول بحرمة الإضرار
بالنفس مطلقا ، فان المعتقد بالمنع الشرعي عاجز عن الامتثال بحكم العقل ، إذ
الممنوع شرعا كالمنع عقلا. واما بناء على ما ذكرناه من جواز الإضرار بالنفس ما لم
يبلغ إلى التهلكة ونحوها فالمكلف متمكن من استعمال الماء مع العلم بالضرر ، فضلا
عن الاعتقاد المجرد ، غاية الأمر أنه مع العلم به قد حكم الشارع بجواز التيمم
إرفاقا وامتنانا ، فإذا انكشف عدم الضرر في الواقع ينكشف بطلان التيمم ، وعدم
ترخيص الشارع فيه من أول الأمر.
نعم يمكن أن يقال
: ان الأدلة الدالة على جواز التيمم بمجرد خوف الضرر
__________________
كافية في الحكم
بالصحّة وان لم يكن ضرر في الواقع ، فانه إذا ثبت جواز التيمم مع الخوف ثبت جوازه
مع الاعتقاد قطعا ، فالحكم بالصحّة حينئذ من جهة كون الخوف أو اعتقاد الضرر تمام
الموضوع لجواز التيمم. هذا كله فيما إذا انكشف الخلاف بعد خروج الوقت.
وأما لو انكشف في
الأثناء ، فالحكم بالصحّة وعدم وجوب الإعادة مبني على القول بالاجزاء. ولا ملازمة
بين دوران التمكن مدار الاعتقاد والحكم بعدم وجوب الإعادة عند تبدله في أثناء
الوقت ، كما هو الحال فيما إذا لم يكن الماء موجودا في أول الوقت ثم وجد في
أثنائه.
الثالث : إذا كان
عند المكلف مقدار من الماء ، ووجب صرفه في غير الطهارة المائية ، كحفظ النّفس
المحترمة ، لكنه عصى واستعمله فيها ، فالظاهر هو الحكم بالبطلان ، لعدم جريان
الترتب في أمثال المقام مما هو مشروط بالقدرة شرعا. وقد مر توضيح ذلك في مبحث
الترتب ، فراجع.
الرابع : ذكر
بعضهم ان قاعدة لا ضرر كما انها حاكمة على الأحكام الوجودية كذلك حاكمة على
الأحكام العدمية ، فكما ان حكم الشارع الضرري يرتفع بحديث لا ضرر ، كذلك نفي الحكم
إذا كان ضرريا يرتفع به ، فيثبت نفس الحكم ، وقد مثل لذلك بأمثلة.
منها : ما لو حبس
أحد غيره عدوانا ، فأبق عبده ، فان حكم الشارع فيه بعدم ضمان الحابس العبد الآبق
ضرري على المحبوس ، فينتفي لحديث لا ضرر ، فيحكم بالضمان.
ومنها : ما لو
امتنع الزوج عن نفقة زوجته لعذر أو عصيان ، فالحكم بعدم جواز طلاقها بغير اذن
الزوج ولو من الحاكم ضرري ، فيحكم بجواز طلاقها للحاكم أو بإذنه.
وأورد المحقق
النائيني على ذلك بوجهين .
الأول : ان حديث
نفي الضرر ناظر إلى الأحكام المجعولة في الشريعة ، وعدم الحكم بشيء وان كان تحت
قدرة الحاكم ، إلّا أنه ليس حكما مجعولا ، فلا يشمله الحديث.
وفيه : ان عدم جعل
الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم ، ولا سيما مع ورود قوله عليهالسلام «ما حجب الله علمه
عن العباد فهو موضوع عنهم» فانه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف ، فيما لم يجعل فيه
تكليف وعلى ذلك فلا مانع من شمول نفي الضرر للأحكام العدمية أيضا. وان شئت قلت كما
ان ثبوت بعض الأحكام من الإسلام ، فينتفي عند كونه ضرريا ، كذلك عدم الحكم في بعض
الموارد يكون من الإسلام ، فينتفي عند كونه ضرريا.
الثاني : انا قد
ذكرنا ان دليل نفي الضرر ناظر إلى نفي الضرر في عالم التشريع ، ولا دلالة فيه على
تدارك الضرر الخارجي المتحقق من غير جهة الحكم الشرعي ، فلو تضرر أحد بموت عبده أو
بخراب داره ونحوه ذلك لم يجب على المسلمين تداركه من بيت المال أو الزكاة أو من
أموالهم الشخصية من جهة نفي الضرر ، ولو التزم بلزوم تدارك الضرر لزم تأسيس فقه
جديد كما هو ظاهر ، وعليه فلا يمكن التمسك بالحديث لإثبات الضمان في المسألة
الأولى ، ولا لإثبات جواز الطلاق بغير اذن الزوج في المسألة الثانية.
أما المسألة
الأولى : فتوضيح الحال فيها أن ترخيص الحابس في المثال حكم ضرري ، فينتفي لا محالة
، فيحكم بحرمته ، ولكنه إذا عصى هذا التكليف فالمحبوس يقع في الضرر لا محالة ،
فإذا حكم الشارع فيه بالضمان فليس من جهة نفي الضرر ، بل من
__________________
جهة لزوم تدارك
الضرر المفروض وجوده ، وقد عرفت ان حديث لا ضرر لا يثبت ذلك.
وأما المسألة
الثانية : ففي موردها أمور ثلاثة : امتناع الزوج من النفقة ، ونفس الزوجية ، وكون
أمر الطلاق بيد الزوج. اما الأمر الأول ، فلا إشكال في كونه ضرريا ، ولم يرخص فيه
الشارع. واما نفس الزوجية ، فليست بضررية ، وإلّا لزم الحكم بانفساخها. واما
الثالث فهو أيضا كذلك ، غاية الأمر ان الحكم بجواز الطلاق يوجب تدارك الضرر الواقع
الناشئ عن عدم الإنفاق ، وقد عرفت ان مثل ذلك لا يشمله حديث نفي الضرر.
وما ذكره قدسسره متين جدا لا مناص عن الالتزام به. هذا مع انه يمكن أن يقال
: ان التمسك بحديث نفي الضرر لإثبات الضمان في المسألة الأولى ، ونفي سلطنة الزوج
في المسألة الثانية معارض بالضرر المترتب على شموله ، وهو ضمان الحابس وزوال سلطنة
الزوج ، ولا موجب لترجيح أحد الضررين على الآخر.
فان قلت : ان
الحابس ، بحبسه والزوج بامتناعه عن الإنفاق ، قد أقدما على الضرر ، فلا يعارض به
الضرر المتوجه إلى المحبوس أو الزوجة.
قلت : ان صدق
الإقدام على الضرر فيهما متوقف على ثبوت الحكم بضمان الحابس وبزوال سلطنة الزوج ،
فكيف يمكن إثباتهما بالإقدام ، وهل هذا إلّا دور ظاهر.
هذا ما تقتضيه
القاعدة. ولكنه وردت روايات خاصة ، بألسنة مختلفة في خصوص المسألة الثانية ، دلت
على زوال سلطنة الزوج عند عدم إنفاقه على الزوجة وعدم منفق آخر ، ولا بأس بالعمل
بها في موردها. واما ما ورد في بعض الروايات من انها ابتليت فلتصبر فهو وارد فيمن
فقد زوجها ، وأجنبي عما نحن فيه من عدم الإنفاق على الزوجة ، فلا معارضة بينهما.
نعم انها معارضة بما دل على ان الإطلاق
بيد من أخذ بالساق
، لكنها أخص ، فتقدم عليه ، ونتيجة التقدم ان يجبر الزوج على الإنفاق مع التمكن ،
وإلّا فيجبر على الطلاق ، فان طلق وإلّا فعله الحاكم حسبة ، والمسألة محررة في
محلها.
التنبيه السادس : في تعارض الضرر. ومسائله ثلاث.
الأولى : ما لو دار
أمر شخص واحد بين ضررين ، بحيث لا بد له من الوقوع في أحدهما ، وفروعه ثلاثة.
الأول : ما إذا
دار أمره بين ضررين مباحين ، وفي مثله يجوز له اختيار أيهما شاء.
الثاني : ما إذا
دار أمره بين ضرر يحرم ارتكابه كتلف النّفس وما لا يحرم ارتكابه. ولا ينبغي الشك
في لزوم اختيار المباح تحرزا عن الوقوع في المحرم.
الثالث : ما إذا
دار أمره بين ضررين محرمين. ولا بد له حينئذ من اختيار أقلهما ضررا ، واجتناب ما
يكون حرمته أهم وأقوى ، كما هو الحال في مطلق موارد التزاحم.
المسألة الثانية :
ما لو دار الأمر بين ضررين لشخصين مع قطع النّظر عن جعل أي حكم في الشريعة المقدسة
، ولا مناص من تضرر أحدهما خارجا ، كما إذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر ، ولم
يمكن التخليص إلّا بكسر القدر ، أو ذبح الدابّة ، وفروع هذه المسألة ثلاثة.
الأول : أن يكون
ذلك بفعل أحد المالكين. والحكم فيه وجوب إتلاف ماله ، وتخليص مال الآخر مقدمة لرده
إلى مالكه ، ولا يجوز في مثله إتلافه ودفع مثله أو قيمته ، فانه متى أمكن رد نفس
العين وجب ، ولا تصل النوبة إلى المثل أو القيمة.
الثاني : ما إذا
كان ذلك بفعل الغير. وفي مثله يتخير في إتلاف أي منهما ، ويضمن مثله أو قيمته
لصاحبه ، إلّا فيما إذا كان التصرف في أحدهما بخصوصه أكثر
عدوانا في نظر
العرف ، فيجب عليه إتلاف الآخر بخصوصه مع ضمانه لمالكه.
الثالث : ما إذا
كان ذلك غير مستند إلى فعل شخص ، بل كان بآفة سماوية. وقد نسب إلى المشهور لزوم
اختيار أقل الضررين في مثله ، وان ضمان ذلك على مالك الآخر. ولا نعرف له مستندا
غير ما قيل من أن نسبة جميع الناس إلى الله تعالى نسبة واحدة ، فالكل بمنزلة عبد
واحد ، فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد. ولا يخفى
ما في هذه الدعوى من الوهن والسقوط ، فان إلزام أحد الشخصين بتحمل الضرر بدفع قيمة
مال الآخر أو مثله بلا ملزم ، بل هو ترجيح بلا مرجح.
فالصحيح أن يقال :
إذا تراضى المالكان بإتلاف أحد المالين بخصوصه ولو بتحملهما للضرر على نحو الشركة
، فلا إشكال ، وإلّا فلا بد من رفع ذلك إلى الحاكم ، وله إتلاف أيهما شاء حسبه ،
ثم يقسم الضرر بينهما بقاعدة العدل والإنصاف الثابتة عند العقلاء. ويؤيدها ما ورد
فيمن تلف عنده درهم مردد بين أن يكون ممن أودع عنده درهمين ، ومن أودع عنده درهما
واحدا من الحكم بإعطاء درهم ونصف لصاحب الدرهمين ، ونصف درهم لصاحب الدرهم الواحد
، فانه لا يستقيم إلّا على ما ذكرناه من قاعدة العدل والإنصاف. هذا ما يقتضيه
القاعدة.
واما التمسك بحديث
لا ضرر في المقام فلا وجه له أصلا ، لما عرفت فيما تقدم أن الحديث لا ينفي إلّا
الحكم الناشئ منه الضرر ، فلا يشمل ما نحن فيه الّذي فرض فيه تضرر أحد الشخصين مع
قطع النّظر عن الحكم الشرعي.
ثم لا يخفى ان ما
ذكرناه من الفروع انما هو فيما إذا لم يثبت أهمية أحد الضررين في نظر الشارع. واما
إذا ثبت فلا بد من اختيار الضرر الآخر في جميع الفروض ، مثال ذلك ما إذا دخل رأس
عبد محقون الدم في قدر شخص آخر ، فانه لا ينبغي الشك في عدم جواز قتل العبد ولو
كان ذلك بفعل مالك العبد ، بل يتعين كسر
القدر وتخليص
العبد ، غاية الأمر يكون عليه الضمان. وإذا كان بفعل الغير كان الضمان عليه ، وإذا
كان بآفة سماوية كان الضرر مشتركا بينهما.
المسألة الثالثة :
ما إذا تردد الضرر بين شخصين من جهة الحكم الشرعي ، فلو فرضنا ان المالك يتضرر
بعدم حفر البالوعة في داره ، وان جاره يتضرر بحفرها ، فجواز الحفر شرعا حكم ينشأ
منه الضرر بالإضافة إلى الجار ، كما أن حرمته حكم ضرري على المالك ، ومن المعلوم
أن أحد الحكمين مجعول في الشريعة المقدسة لا محالة ، والكلام انما هو في تعيينه.
وتوضيح الحال في
المقام أن تصرف المالك في ملكه الموجب لا ضرار الجار يتصور على وجوه.
الأول : أن يكون
المتصرف بتصرفه قاصدا للإضرار من دون أن يكون فيه نفع ، أو في تركه ضرر بالإضافة
إليه.
الثاني : الصورة
بعينها ، ولكن الداعي إلى التصرف انما هو العبث ومجرد الشهوة النفسانيّة من دون أن
يكون داعيه الإضرار.
الثالث : أن يكون
في ترك التصرف فوت منفعة بالإضافة إليه.
الرابع : أن يكون
في ترك التصرف ضررا عليه.
اما القسمان
الأولان ، فلا ينبغي الإشكال في حرمة التصرف فيهما ، ولا سيما في القسم الأول ،
لكونه إضرارا بالجار ، والمفروض انه ليس في الموردين ما يمكن أن يرتفع به حرمة
الإضرار ، بل الظاهر ثبوت الضمان في هذين القسمين أيضا ، والوجه فيه ظاهر.
والمناسب للبحث في
المقام انما هو القسم الأخير ، إلّا أنه يتكلم عن حكم القسم الثالث أيضا استطرادا
تبعا لشيخنا الأنصاري قدسسره. والمشهور بين الأصحاب في هذين القسمين على ما نسب إليهم
الشيخ رحمهالله هو جواز التصرف وعدم
الضمان . وقد استدل على ذلك بوجهين ، يختص أحدهما بالقسم الأخير ،
ويشترك القسمان في الوجه الثاني.
أما الوجه الأول :
فهو أن شمول دليل نفي الضرر لكل من جواز التصرف وحرمته غير معقول ، وترجيح أحدهما
على الآخر بلا مرجح ، فلا يكون الحديث شاملا للمقام ، فيرجع في جواز التصرف وعدم
الضمان إلى أصالة البراءة.
وقد أجاب المحقق
النائيني رحمهالله عن ذلك بما حاصله : أن تضرر المالك انما نشأ من حرمة تصرفه في ملكه المسببة
من تضرر الجار ، فليس الضرران في عرض واحد ، بل ضرر المالك ناشئ من شمول الحديث
لنفي الضرر المتوجه إلى الجار ، والضرر الناشئ من نفي الضرر في الشريعة لا يكون
مشمولا له بالضرورة ، فما لم يكن الضرران عرضيين لم يكن مانع من شمول الحديث لنفي
ضرر الجار دون ضرر المالك الّذي هو في طوله.
وما ذكره قدسسره من كون الضررين طوليين وان كان صحيحا ، إلّا أنه مع ذلك لا
يمكن ترجيح أحدهما من جهة شمول الحديث لنفيه دون الآخر ، وذلك للعلم الإجمالي بجعل
حكم ضرري في المقام من الإباحة أو التحريم لا محالة ، وكون أحد الضررين في طول
الآخر لا يقتضي كون المجعول هو الحرمة دون الإباحة. وتوضيح ذلك : أنه قد عرفت فيما
تقدم أن حديث لا ضرر قد ورد في مورد الامتنان على الأمة ، فلا يشمل الموارد التي
كان نفي الحكم فيها منافيا للامتنان ، وعليه فالحكم بجواز تصرف المالك في ملكه
الموجب لتضرر الجار لا يمكن رفعه بحديث نفي الضرر ، لأنه خلاف الامتنان بالإضافة
إلى المالك. كما ان الحكم بجواز التصرف مناف للامتنان بالإضافة إلى الجار ، فلا
يكون شيء من الحكمين مشمولا لحديث نفي
__________________
الضرر ، وعند ذلك
يتمسك بأصالة البراءة لدفع احتمال الحرمة. ونظير المقام ما لو أكره شخص على إضرار
غيره ، فان الحكم بجواز الإضرار حينئذ حكم ضرري بالإضافة إلى الغير ، كما ان الحكم
بحرمته ضرري بالإضافة إلى المكره ، ولا ترجيح لأحد الضررين على الآخر ، فالقاعدة
تقتضي جواز الإضرار ما لم يكن الإكراه إكراها على القتل ونحوه.
واما الوجه الثاني
: فملخصه ان منع المالك عن التصرف في ملكه فيما إذا ترتب على تركه ضرر عليه أو
فوات منفعة عنه حكم حرجي ، ودليل نفي الحرج يقتضي رفعه. والنسبة بينه وبين دليل
نفي الضرر الدال على عدم جواز التصرف المزبور من جهة تضرر الجار وان كان عموما من
وجه ، إلّا أن الترجيح مع دليل نفي الحرج ، اما لحكومته على دليل نفي الضرار ، أو
لتساقطهما ، فيرجع إلى عموم دليل السلطنة ، أو إلى أصالة البراءة.
ويرد على ذلك :
أولا : ان الحرج
المنفي في الشريعة انما هو بمعنى المشقة التي لا تتحمل عادة ، ومن الظاهر ان ترك
النّفع أو الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك على الإطلاق ، فلا يصح التمسك لجواز
التصرف المزبور بدليل نفي الحرج في جميع الموارد. نعم لو فسر الحرج بمطلق الكلفة ،
ولو كانت كلفة روحية ، كان الحكم بعدم جواز انتفاع المالك بملكه فضلا عن ترتب
الضرر على عدم تصرفه حكما حرجيا ، لكنه ليس كذلك ، وإلّا لكانت جميع التكاليف
حرجية ، فانها منافية لحرية الإنسان والعمل بما تشتهيه نفسه.
وثانيا : أنه لا
وجه لحكومة دليل نفي الحرج على دليل نفي الضرر ، بعد كونهما ناظرين إلى نفي
الأحكام الواقعية في موارد الضرر والحرج في مرتبة واحدة.
وثالثا : انه على
تقدير التساقط لا معنى للرجوع إلى دليل السلطنة ، لعدم
عموم أو إطلاق له
بالإضافة إلى العناوين الثانوية ، فهل يمكن ان يدعي أحد ان مقتضى سلطنة الإنسان
على مديته جواز ذبح غنم الغير من دون اذنه مع قطع النّظر عن دليل حرمة التصرف في
مال الغير من دون رضاه؟ كلا. فلو فرضنا عدم الدليل على حرمة التصرف المزبور لم يكن
دليل السلطنة مثبتا للجواز. نعم لا مانع حينئذ من الرجوع إلى أصالة البراءة بعد
تسليم تساقط الدليلين.
فتحصل مما ذكرناه
ان الحق في المقام هو التفصيل بين القسمين الأخيرين ، ففيما إذا كان ترك التصرف
مستلزما لتضرر المالك جاز التصرف لما عرفت. واما إذا كان ترك التصرف مستلزما لفوات
النّفع فقط لم يجز التصرف ، لأن نفي الضرر ينفي جوازه من دون معارض. نعم إذا كان
ترك التصرف مستلزما للحرج أحيانا جاز التصرف أيضا ، وقد ظهر وجهه مما تقدم. هذا
كله من حيث الحكم التكليفي.
واما الحكم الوضعي
، فالظاهر ثبوت الضمان حتى فيما كان التصرف جائزا ، لعدم الملازمة بين الجواز
التكليفي والوضعي ، وذلك لأن دليل سببية الإتلاف للضمان لا معارض له في المقام ،
ودعوى كونه ضرريا ينتفي بحديث نفي الضرر ، مدفوعة بان الحكم بالضمان في جميع
موارده حكم مبني على الضرر ، لا يمكن رفعه بحديث نفي الضرر ، فانه على خلاف
الامتنان.
والحمد لله أولا
وآخرا
فهرست الجزء الثالث
من كتاب دراسات غي
علم الاصول
مقدمة.......................................................................... ٥
تمهيد...................................................................... ٧
ـ ١٠
مباحث القطع
«١١ ـ ١٠٠»
الأمر الأول : حجية القطع................................................. ١٣
ـ ١٩
الجهة
الأولى : في أنّ طريقية القطع ذاتية أو جعلية............................... ١٣
الجهة الثانية : في أنَّ حجية القطع هل
هي من لوازمه الذاتية أو ببناء العقلاء أو بحكم العقل؟ ١٤ ـ ١٥
الجهة الثالثة : هل يمكن للشارع أنّ
يمنع من العمل بالقطع أولا.................... ١٥
عدم اختصاص حجية القطع بقطع المجتهد................................. ١٦ ـ ١٩
الأمر الثاني : التجري...................................................... ٢١
ـ ٤١
عدم اختصاص التجري بمخالفة القطع
المخالف للواقع............................ ٢٢
الكلام فيما يتوهم من انه لا معنى
للتجري في الاحكام الظاهرية.............. ٢٢
ـ ٢٣
الكلام في الجهة الاصولية لبحث التجري.................................. ٢٣ ـ ٣٥
١ ـ دعوى شمول اطلاق الادلة لما تعلق به
القطع ولو كان مخالفاً للواقع......... ٢٣
ـ ٢٧
٢ ـ دعوى ثبوت المصلحة أو المفسدة في ما
تعلق به القطع ولو كان مخالفاً للواقع ٢٧
ـ ٣٥
هل القطع من العناوين المحسنة والمقبحة
أو لا............................... ٢٨
ـ ٣٢
الكلام في أنّ قبح الفعل لا يكون
ملازماً لحرمته شرعاً....................... ٣٢
ـ ٣٥
تنبيهات............................................................... ٣٥
ـ ٤١
الأول : اخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر........................... ٣٥
ـ ٣٧
الثانی :
التمسک لحرمة التجري بالاجماع....................................... ٣٧
الثالث :
الاستدلال لحرمة التجري بالروايات............................... ٣٧
ـ ٣٩
الرابع : ما ذكره
صاحب الفصول من أنّ قبح التجري لا يكون ذاتياً بل يختلف باختلاف الوجوه والاعتبار ٣٩ ـ
٤١
الامر الثالث :
تقسيم القطع الى الطريقي الموضوعي............................ ٤٣
ـ ٦٩
الغرض من هذا
التقسيم...................................................... ٤٣
مناقشة ما ذكره
المحقق النائيني من امكان اخذ خصوص القطع الناشيء عن سبب خاص أو لشخص خاص بالحكم
في موضوعه..................................................................... ٤٤
ـ ٤٩
اخذ القطع بالحكم
في موضوع مثله............................................ ٤٩
اخذ القطع بالحكم
في موضوع ضده............................................ ٤٩
الكلام في القطع
الموضوعي الاصطلاحي.................................. ٤٩
ـ ٥٢
المراد من القطع
الموضوعي............................................... ٤٩
ـ ٥٠
الجهة الاولى :
تقسيمات القطع الموضوعي...................................... ٥٠
الجهة الثانية :
في بيان تقسيم الشيخ الانصاري............................. ٥٠
ـ ٥١
بيان تقسيم صاحب
الكفاية............................................. ٥١
ـ ٥٢
مدى قيام الامارات
والاصول مقام القطع.................................. ٥٢
ـ ٦٥
قيام الامارات
والاصول المحرزة مقام القطع الطريقي المحض.......................... ٥٢
قيام الطرق
والامارات مقام القطع الموضوعي................................ ٥٢
ـ ٥٩
قيام الاصول
المحرزة مقام القطع الطريقي المحض.............................. ٥٩
ـ ٦٠
قيام الاصول
المحرزة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية.......... ٦٠ ـ ٦١
قيام الاصول غير
المحرزة مقام القطع الموضوعي................................... ٦١
قيام الاصول غير
المحرزة مقام القطع الطريقي المحض.......................... ٦١
ـ ٦٢
كلام المحقق
الخراساني في قيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي بقسميه على القول يجعل المؤدي ٦٢ ـ ٦٤
الكلام فيما ذكره
المحقق الخراساني من امكان القطع بالحكم بمرتبة منه في مرتبة اُخرى من نفسه أوضده
أو مثله ٦٤ ـ ٦٥
في مرتبة اُخرى من
نفسه أو ضده أو مثله.................................. ٦٤
ـ ٦٥
اقسام الظن............................................................ ٦٥
ـ ٦٩
الامر الرابع :
وجوب الموافقة الالتزامية........................................ ٧١
ـ ٧٣
الامر الخامس :
القطع الحاصل من اسباب غير متعارفة.......................... ٧٥
ـ ٨٣
هل يفرق بين ظن
كثير الظن وشك كثير الشك وغيره ام لا....................... ٧٥
امكان النهي عن
عمل القطاع بقطعه أو لا..................................... ٧٦
امكان المنع عن
العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة عدمه.......... ٧٦
ـ ٧٨
فروع تعرض لها
الشيخ الانصاري قد يتوهم منها المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة ٧٨ ـ ٨٣
الامر السادس :
منجزية العلم الاجمالي...................................... ٨٥
ـ ١٠٠
المقام الاول : في
منجزية العلم المشوب بالجهل والاجمال...................... ٨٥
ـ ٩٢
الجهة الاولى : في
وجوب الموافقة القطعية........................................ ٨٥
الجهة الثانية :
في حرمة المخالفة القطعية........................................ ٨٥
المبحث الاول : في
أنَّ العقل هل يفرق بين العلم التفضيلي والاجمالي في كونه منجزاً للتكليف ٨٦ ـ ٨٧
المبحث الثاني :
بعد فرض كون العلم الاجمالي بياناً هل يتمكن الشارع ان يرخص في مخالفته القطعية ٨٧ ـ ٩٠
المبحث الثالث :
في شمول ادلة الاصول العملية لاطراف العلم الاجمالي وعدمه.. ٩٠ ـ ٩٢
المقام الثاني :
في كفاية الامتثال الاجمالي.................................. ٩٢
ـ ١٠٠
مباحث الظن
«١٠١ ـ ٢١٧»
مقدمة : في التعبد بالامارات الظنية....................................... ١٠٣
ـ ١٢٦
المقام الاول : في امكان التعبد
بالامارات الظنية......................... ١٠٣
ـ ١٢١
الجمع بين الاحكام الواقعية والاحكام
الظاهرية.......................... ١٠٦
ـ ١٢١
المقام الثاني : وقوع التعبد بالامارات
الظنية.............................. ١٢١
ـ ١٢٦
الجهة الاولى : فيما يقتضيه الاصل
مطلقاً عند الشك في حجية شيء...... ١٢٢
ـ ١٢٣
الجهة الثانية : في صحة ردع الشارع عن
العمل بما لم يعلم حجيته................. ١٢٣
الجهة الثالثة : في صحة التمسك بعمومات
الادلة المانعة عن العمل بغير العلم لاثبات حرمة العمل بمشكوك الحجية ١٢٤ ـ ١٢٥
الجهة الرابعة : في امكان التمسك
باستصحاب عدم الحجيّة............... ١٢٥
ـ ١٢٦
الجهة الخامسة : ما وقع التعبد به من
الامارات................................. ١٢٦
المبحث الاول : حجية الظهورات......................................... ١٢٧
ـ ١٣٥
١ ـ اشتراط حجية الظهور بالظن بالوفاق ،
أو بعدم الظن بالخلاف........ ١٢٧ ـ ١٢٨
٢ ـ اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه.......................... ١٢٨ ـ ١٢٩
٣ ـ حجية ظواهر الكتاب وعدمها..................................... ١٢٩
ـ ١٣٣
ما استدل به على منع اصل الظهور.......................................... ١٣٠
ما استدل به على المنع عن حجية الظهور.............................. ١٣٠ ـ ١٣٣
تنبيه : الكلام فيما اذا شك في مراد
المتكلم............................. ١٣٣
ـ ١٣٥
المبحث الثاني : حجية قول اللغوي....................................... ١٣٧
ـ ١٣٩
المبحث الثالث : حجية الاجماع المنقول................................... ١٤١ ـ
١٤٥
الجهة الاولى : في تقسيم الشيخ الانصاري
للاخبار عن الشيء الى اقسام ثلاثة ١٤١
ـ ١٤٣
الجهة الثانية في مدرك حجية الاجماع................................... ١٤٣ ـ
١٤٥
الجهة الثالثة : في كشف الاجماع عن دليل
معتبر عند المجمعين بحيث لو وصل الينا لكان معتبراً عندنا ١٤٥
المبحث الرابع : حجية الشهرة........................................... ١٤٧
ـ ١٤٩
اقسام الشهرة.............................................................. ١٤٧
ما استدل به على حجية الشهرة في الفتوى............................. ١٤٧ ـ ١٤٩
المبحث الخامس : حجية خبر الواحد..................................... ١٥١
ـ ٢٠١
البحث في حجية خبر الواحد بحث اصولي.............................. ١٥١ ـ ١٥٣
الادلة التي استدل بها على عدم حجية خبر
الواحد...................... ١٥٣ ـ ١٥٥
ادلة حجية خبر الواحد.............................................. ١٥٦
ـ ٢٠٢
الاستدلال على حجية خبر الواحد بالآیات............................. ١٥٦
ـ ١٨٣
١ ـ آیة
النبأ........................................................ ١٥٦
ـ ١٧٥
الكلام فيما اشكله البعض على اصل حجية
خبر الواحد................. ١٦٧ ـ ١٧٣
تتميم : في تقسيم المتأخرين للاخبار على
طوائف اربع.................... ١٧٣ ـ
١٧٥
٢ ـ آیة النفر....................................................... ١٧٥
ـ ١٧٨
آیات اخرى
استدل بها على حجية خبر الواحد.......................... ١٧٨
ـ ١٨٣
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالروايات........................... ١٨٣
ـ ١٨٦
اقسام التواتر....................................................... ١٨٤
ـ ١٨٦
الاستدلال على
حجية خبر الواحد بالاجماع............................ ١٨٦
ـ ١٩٠
الكلام في انَّ
الاطلاقات الناهية عن العمل بغير العلم هل تصلح ان تكون رادعة ومانعة عن العمل
بخبر الثقة ١٨٨ ـ ١٩٠
الاستدلال على
حجيّة خبر الواحد بحكم العقل......................... ١٩٠
ـ ٢٠٢
المبحث السادس :
حجية مطلق الظن..................................... ٢٠٣
ـ ٢١٩
تقريب مقدمات دليل الانسداد وبيان
نتيجتها........................... ٢٠٦
ـ ٢١٠
تحقيق اصل المقدمات................................................ ٢١٠
ـ ٢١٩
مباحث
الاصول العملية
«٢٢١
ـ ٢٢٦»
الامر الاول : البحث عن المسائل
الاصولية يرجع الى اقسام اربعة.......... ٢٢١
ـ ٢٢٢
الامر الثاني : انحصار الاصول العملية
في اربعة.......................... ٢٢٢
ـ ٢٢٦
سبب عدم ذكر قاعدة الطهارة في علم
الاصول......................... ٢٢٢
ـ ٢٢٤
الامر الثالث : في انَّ خلاف الاخباري
مع الاصولي في الرجوع الى البراءة أو الاشتغال انما هو في خصوص الشبهة التحريمية ٢٢٦
اصالة
البراءة
«٢٢٧
ـ ٣٢٤»
المبحث الاول : ادلة البراءة.............................................. ٢٢٩
ـ ٢٧٣
الاستدلال على البراءة بالآيات....................................... ٢٢٩
ـ ٢٣١
الاستدلال على البراءة بالروايات...................................... ٢٣١
ـ ٢٥٧
حديث الرفع....................................................... ٢٣١ ـ ٢٤٧
حديث الحجب........................................................... ٢٤٧
حديث الحلية....................................................... ٢٤٧ ـ ٢٥٤
حديث السعة...................................................... ٢٥٤ ـ ٢٥٥
حديث كل شيء مطلق.............................................. ٢٥٥
ـ ٢٥٧
الاستدلال على البراءة بالاجماع....................................... ٢٥٧
ـ ٢٥٨
الاستدلال على البراءة بحكم العقل.................................... ٢٥٨ ـ
٢٦٣
الاستدلال على البراءة بالاستصحاب.................................. ٢٦٣ ـ ٢٧٣
المبحث الثاني : الادلة التي استدل بها
على لزوم الاحتياط................... ٢٧٥
ـ ٢٨٨
الاستدلال بالكتاب على الاحتياط.................................... ٢٧٥ ـ
٢٧٦
الاستدلال بالروايات على الاحتياط................................... ٢٧٦ ـ
٢٨٢
الاستدلال على الاحتياط بحكم العقل................................. ٢٨٢ ـ ٢٨٨
تنبيهات اصالة البراءة................................................... ٢٨٩
ـ ٣٢٤
التنبيه الاول : اصالة عدم التذكية..................................... ٢٨٩
ـ ٢٩٥
التنبيه الثاني : حسن الاحتياط في
الواجبات التوصيلية والعبادات........... ٢٩٥
ـ ٢٩٨
هل انَّ اوامر الاحتياط ارشادية الى ما
استقل به العقل أو انها اوامر مولوية... ٢٩٨
ـ ٣٠٠
هل انَّ اوامر الاحتياط متعلقة بذات
العمل أو انها متعلقة بالعمل المأتي به بداعي الامر الواقعي رجاءً ٣٠٠ ـ ٣٠١
التنبيه الثالث : اخبار من بلغ......................................... ٣٠١
ـ ٣١٣
الجهة الاولى : مفاد هذا الاخبار...................................... ٣٠١
ـ ٣٠٣
الجهة الثانية : أنَّ المستفاد من هذه
الاخبار على تقدير دلالتها على الاستحباب هل هو
استحباب ذات العمل أو استحبابه فيما اذا
أتى به بعنوان الرجاء.......... ٣٠٣ ـ
٣٠٧
اشكالات ذكرت على الاستدلال بهذه
الاخبار......................... ٣٠٧
ـ ٣٠٨
الجهة الثالثة : البلوغ المذكور في
الاخبار لا يخص البلوغ بالدلالة المطابقية بل يعم البلوغ بالدلالة الالتزامية ٣٠٨ ـ ٣٠٩
الجهة الرابعة : اختصاص البلوغ في
الروايات بالبلوغ في موارد الشبهات الحكمية ٣٠٩
ـ ٣١٠
الجهة الخامسة : الاخبار لا تشمل ما
قامت الحجة على تحريمه من عمومأو اطلاق ٣١٠
ـ ٣١١
الجهة السادسة : ثمرة البحث......................................... ٣١١
ـ ٣١٣
التنبيه الرابع : ما اورده الشيخ
الانصاري على بعض المحققين حيث اختار جريان البراءة في الشبهات الحكمية دون
الموضوعية ٣١٣ ـ ٣١٨
ارشاد النزاع المعروف في اللباس المشكوك
مبني على الخلاف فيما يستفاد من النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل ٣١٨ ـ ٣٢٣
اصالة
التغيير
«٣٢٥
ـ ٣٤٤»
المقام الاول : دوران الامر بين
المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة..... ٣٢٧
ـ ٣٣٤
المقام الثاني : فيما لو كان احد
الحكمين أو كلاهما تعبدياً مع وحدة الواقعة. ٣٣٤ ـ ٣٣٨
دوران الامر بين المحذورين في العبادات
الضمنية.......................... ٣٣٦
ـ ٣٣٨
المقام الثالث : دوران الامر بين
المحذورين مع فرض تعدد الواقعة............ ٣٣٨
ـ ٣٤٤
١ ـ فيما لو كان التعدد دفعياً من جهة
تعدد الموضوع.................... ٣٣٨
ـ ٣٣٩
٢ ـ فيما لو كان التعدد تدريجياً من حيث
الافراد الطولية لموضوع واحد..... ٣٣٩
ـ ٣٤٠
اذا دار الامر بين المحذورين مع تعدد
الواقعة واحتمل أهمية احد الالزامين المعلومين بالاجمال ، فهل يتقدم ما احتمل
أهميته ٣٤٠ ـ ٣٤٤
لو كان لمورد دوران الامر بين المحذورين
افراد طولية أو عرضية فهل يكون التخييربين تلك الافراد بدوياً أو استمرارياً ٣٤٤
اصالة
الاحتياط
«٣٤٥
ـ ٤٧٢»
المقام الاول : دوران الامر بين
المتباينين.................................... ٣٤٧
ـ ٣٦٢
مقدمة............................................................. ٣٤٧
ـ ٣٤٩
المسألة الاولى : في امكان جعل الحكم
الظاهري وعدمه في تمام الاطراف.... ٣٤٩
ـ ٣٥٢
المسألة الثانية : في امكان جعل الحكم
الظاهري ولو في بعض الاطراف وعدمه ٣٥٢
ـ ٣٥٥
المسألة الثالثة : في شمول دليل الحكم
الظاهري لجميع الاطراف وعدمه...... ٣٥٥
ـ ٣٥٦
المسألة الرابعة : في شمول ادلة الاصول
لبعض الاطراف وعدمه............ ٣٥٦ ـ
٣٥٧
الكلام في احتمال شمول ادلة الاصول
لجميع الاطراف تخييراً............... ٣٥٧
ـ ٣٦٢
تنبيهات.............................................................. ٣٦٣
ـ ٤٢٠
الاول : في انَّ الاصل الجاري في احد
طرفي العلم الاجمالي اما ان يكون مسانخاً مع الاصل الجاري في الطرف الآخر أو مغايراً له.................................................................. ٣٦٣
ـ ٣٦٧
الثاني : لا ملازمة بين وجوب الموافقة
القطعية وحرمة المخالفة القطعية....... ٣٦٧
ـ ٣٦٨
الثالث : اذا تردد الواجب بين فعلين أو
أفعال ، فهل يكفي الاتيان ببعض الاطراف ويسقط الواجب معه فيما لو صادف الواقع......................................................................... ٣٦٨
الرابع : انحلال العلم الاجمالي......................................... ٣٦٩
ـ ٣٧٣
الخامس : لو كان الاثر في بعض الاطراف
اكثر من البعض الآخر......... ٣٧٣ ـ ٣٧٤
السادس : العلم الاجمالي في التدريحيات................................ ٣٧٤ ـ ٣٧٩
السابع : الشبهة غير المحصورة......................................... ٣٧٩
ـ ٣٨٦
١ ـ تعريف الشبهة غير المحصورة وحكمها............................... ٣٧٩ ـ ٣٨٢
٢ ـ ما استدل به على عدم لزوم الاجتناب
في الشبهات غير المحصورة....... ٣٨٢ ـ
٣٨٤
الثامن : الاضطرار الى ارتكاب بعض اطراف
العلم الاجمالي............... ٣٨٦ ـ
٣٩٥
١ ـ الاضطرار الى طرف معين......................................... ٣٨٦
ـ ٣٩٠
٢ ـ الاضطرار الى احد الاطراف لا بعينه................................ ٣٩٠ ـ ٣٩٥
التاسع : خروج بعض الاطراف عن محل
الابتلاء........................ ٣٩٥
ـ ٤٠٢
العاشر : اعتبار القدرة الشرعية على
ارتكاب جميع الاطراف في تنجيز العلم الاجمالي ٤٠٢
ـ ٤٠٣
الحادي عشر : اذا كان الاصل الجاري في
بعض الاطراف في مرتبة سابقة على الاصل الجاري في البعض الآخر ٤٠٣ ـ ٤٠٦
الثاني عشر : ملاقي بعض اطراف الشبهة
المحصورة...................... ٤٠٦ ـ
٤٢٠
المقام الثاني : دوران الامربين الاقل
والاكثر................................. ٤٢١
ـ ٤٤٥
دوران الامر بين الاقل والاكثر في
الاجزاء الخارجية....................... ٤٢١
ـ ٤٣٥
الجهة الاولى : في جريان البراءة
العقلية................................. ٤٢١
ـ ٤٣٠
الجهة الثانية : في جريان البراءة
الشرعية................................ ٤٣٠
ـ ٤٣٥
دوران الامر بين الاقل والاكثر في
المركبات التحليلية...................... ٤٣٥
ـ ٤٤٥
تنبيهات الاقل والاكثر.................................................. ٤٤٧
ـ ٤٧٢
الاول : اذا ثبتت شرطية شيء أو جزئيته
للمأور به في الجملة ودار الامر بين كونها مطلقة أو مختصة بحال العمد ، فما هو
قتضى القاعدة............................................................ ٤٤٧
ـ ٤٥٣
١ ـ فيما يقتضيه الاصول اللفظية...................................... ٤٤٩
ـ ٤٥٢
٢ ـ فيما يقتضيه الاصول العملية...................................... ٤٥٢
ـ ٤٥٣
الثاني : في حكم الزيادة العمدية
السهوية............................... ٤٥٣
ـ ٤٥٧
الجهة الاولى : في امكان تحقق الزيادة
حقيقة في المركبات الاعتبارية وعدمه... ٤٥٣
ـ ٤٥٤
الجهة الثانية : في اعتبار قصد الزيارة
في تحققها وعدمه ................... ٤٥٤
ـ ٤٥٧
الثالث : قاعدة الميسور.............................................. ٤٥٧
ـ ٤٧٠
الاستدلال باستصحاب لاثبات وجوب المقدار
الميسور................... ٤٥٧ ـ ٤٦٢
ما تقتضيه الادلة الاجتهادية الخاصة في
اجزاء الصلاة وشرائطها.................. ٤٦٢
ما استدل به على وجب الاتيان بالميسور
في غير الصلاة من الواجبات العبادية غيرها ٤٦٢
ـ ٤٧٠
الرابع : فيما اذا تردد الامر بين جزئية
شيء أو شرطيته وبين ما نعيته أو قاطعيته ٤٧٠
ـ ٤٧٢
خاتمة في شرائط جريان الاصول.......................................... ٤٧٣
ـ ٤٩٢
قاعدة
لا ضرر ولا ضرار
«٤٩٣
ـ ٥٣٥»
الجهة الاول في بيان سند الرواية ومتنها.................................... ٤٩٥ ـ
٤٩٨
الجهة الثانية : في فقه الحديث............................................ ٤٩٨
ـ ٥٠٦
الجهة الثالثة : في بيان انطباق نفي
الضرر على ما ذكر في قضية سرة.......... ٤٠٦
ـ ٤٠٧
الكلام في انَّ الضرر انما يثبت له
الحكم المجعول في الشريعة عند تحقق
مصداقة في الخارج...................................................... ٥٠٨
ـ ٥٠٩
الكلام فيما ذكره الشيخ الأنضاري من
أنَّ كثرة التخصيصات الواردة على القاعدة موهنة للتمسك بها في عير الموارد
المنصوصة ٥٠٩ ـ ٥١١
النسبة بين دليل لا ضرر وبين كل واحد من
الادلة المثثبتة للاحكام عموم من وجه ٥١٢
ـ ٥١٧
لفظ الضرر الوارد في ادلة نفي الضرر
موضوع الضرر الواقعي................. ٥١٧
ـ ٥٣٠
الكلام في تعارض الضرر................................................ ٥٣٠
ـ ٥٣٥
|