تتمة مبحث الأوامر

مباحث التزاحم.

امر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه.

تعلق الآمر بالطبيعة أو الافراد.

دلالة الأمر بعد نسخ الوجوب على الجواز وعدمه.

الوجوب التخيري.

الوجوب الكفائي.

الواجب الموسع والمضيق.

الأمر بالأمر.

الأمر بعد الأمر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مباحث التزاحم

الكلام في الترتب

ثم أنّه على ما اخترناه من عدم إمكان استكشاف الملاك في الواجب المهم فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين يترتب على هذا البحث ثمر مهم كما لا يخفى ـ وهو الترتب ـ وهو بحث شريف ، وحيث أنه من فروع التزاحم فلا بدّ من بيانه وبيان الفرق بينه وبين التعارض.

الفرق بين التزاحم والتعارض :

إنّ مورد التزاحم هو ما إذا لم يستلزم تقديم أحد المتزاحمين رفع اليد عن دليل الآخر وإسقاطه ، وهذا بخلاف التعارض فإنّ تقديم أحد الحكمين المتعارضين يستلزم رفع اليد عن دليل الآخر بالكلية ، مثلا لو ورد دليل على وجوب القصر في بعض الموارد ، ودليل آخر على الإتمام ، فحيث نعلم بعدم وجوب صلاتين قصر وتمام على المكلف واقعا والحكم بالجمع حكم احتياطي لا واقعي لا بدّ من الأخذ بأحدهما ، فلو قدمنا دليل القصر يسقط دليل الإتمام لا محالة ، فلا يمكن الرجوع إليه أصلا ، وهكذا العكس فلا مجال فيه للترتب أصلا.

وقد خلط بعض غير معروف بين التزاحم والتعارض وذهب إلى سقوط دليل المهم بالكلية بعد تقديم الأهم كما في مورد التعارض ، فلا بد لنا من بيان كل من التعارض والتزاحم وبيان حكمهما.

وليعلم قبل ذلك أنّ المحقق النائيني حكى عن بعض أنّه أراد تأسيس أصل يرجع إليه عند الشك في كون التنافي بين حكمين من قبيل التعارض أو التزاحم ،

وذكر قدس‌سره أنّ ذلك من قبيل تأسيس الأصل لما إذا شك في انّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ، أو انّ البيع صحيح أو فاسد من حيث عدم المناسبة بين طرفي الشك.

والحق أنّ ما أفاده متين جدا ، فإنّ التعارض لا ربط له بالتزاحم ليشك في انّ التنافي بين الدليلين من أي البابين.

وعلى أي حال نقول : التعارض هو تنافي الدليلين من حيث الدلالة في مرحلة الجعل والتشريع وتكاذبهما بحيث يلزم من صدق كل منهما كذب الآخر من دون ان يلزم من كذب كل منهما صدق الآخر لاحتمال كذبهما معا ، كما لو ورد دليل على وجوب السورة ودليل آخر على عدم وجوبها ، فانه يستحيل جعلهما معا ، فيلزم من صدق كل منهما كذب الآخر.

ثم انّ التعارض تارة : يكون ذاتيا كالمثال ، وأخرى : يكون عرضيا ، كما إذا ورد دليل على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ودليل آخر على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، فإنّه ذاتا لا تنافي بين الحكمين ، ولا مانع من ثبوتهما معا ، إلّا أنّه حيث يعلم من الخارج بعدم وجوب صلاتين على المكلف يقع التعارض بينهما بالعرض. هذا في الشبهة الحكمية.

وأما في الشبهة الموضوعية فكذلك ربما يكون التعارض بالذات كما لو أخبرت البينة بأنّ المال المعين ملك لزيد وأخبرت بينة أخرى بأنّه ملك لعمر ، فإنّ الإخبارين متعارضان ذاتا ، وربما يكون التعارض بالعرض كما لو أخبر العادل بطهارة كل من الإناءين يعلم بملاقاة أحدهما مع البول مثلا ، فإنّ الاخبار بطهارة كل منهما لا يعارض الاخبار بطهارة الآخر إلّا من حيث العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

وأما التزاحم فهو تنافي الدليلين في مرحلة الفعلية والامتثال لا في مرحلة الجعل والتشريع ، فإنه لا منافاة بين أن يجعل وجوب صلاة الآيات للقادر على

الإتيان بها ويجعل وجوب الصلاة اليومية كذلك ، غاية الأمر إذا تضيقا يقع التزاحم بينهما بالعرض لا محالة ، ومن ثمّ يمكن أن يكون دليل كل من الحكمين المتزاحمين متيقنا سندا ودلالة ، كما لو فرضنا ورود نصّ صريح من السنة المتواترة على وجوب الحج مثلا وورود مثله على وجوب رد السلام ، ووقع التزاحم بينهما.

وبالجملة فالتزاحم انما يكون في مرحلة الفعلية والامتثال مع ثبوت أصل الجعل والتشريع لكلا الحكمين المتزاحمين لعجز المكلف عن امتثالهما معا ، غاية الأمر انّ التزاحم تارة : يكون بالذات كما في المضيّقين ، وأخرى : بالعرض كما في تزاحم الموسع من المضيق.

وان شئت فقل : انّ التزاحم هو ما يكون تقديم أحد الحكمين فيه معدما لموضوع الحكم الآخر في عرضه ، فإنّ القدرة مأخوذة في موضوع كل حكم ، وهذا بخلاف التعارض ، فانّ تقديم أحد المتعارضين يوجب سقوط الحكم الآخر مع بقاء موضوعه ، كما هو واضح.

ثم انّ منشأ التزاحم في المتزاحمين ليس إلّا عجز المكلف عن امتثالهما ، ولكن المحقق النائيني قدس‌سره فرض صورة يكون التزاحم فيها من غير جهة العجز بل يكون التزاحم مع فرض قدرة المكلف على امتثال الحكمين ، وسنتعرض لاستحالة ذلك إن شاء الله.

وتلخص مما ذكر انّ التعارض والتزاحم ، وان كانا مشتركين في التنافي إلّا انّ التنافي بين المتعارضين انما يكون في مرحلة الجعل والتشريع بحيث يلزم من صدق كل منهما كذب الآخر ، ولا عكس لاحتمال كذبهما معا ، بداهة استحالة جعل الوجوب والحرمة معا لإكرام زيد مثلا الّذي فرض مصداقا للعالم والفاسق ، فلا محالة يكون تقديم أحدهما مستلزما لسقوط الحكم الآخر مع بقاء موضوعه. وهذا بخلاف باب التزاحم ، فإنّ التنافي بين المتزاحمين انما هو في مرحلة الفعلية ، ولا

مانع من جعل كليهما ، غاية الأمر يلزم من فعلية أحدهما عدم فعلية الآخر ، فتقديم أحدهما يستلزم عدم فعلية الآخر بانعدام موضوعه ، فانّ القدرة معتبرة في موضوع الحكم الفعلي بالضرورة ، فإذا صرف المكلف قدرته في امتثال أحد الحكمين يكون عاجزا عن امتثال الآخر لا محالة.

وان شئت فقل : انّ التنافي في المتزاحمين بين الحكمين الفعليين ، فموضوع كل منهما مغاير مع الآخر بالكلية. هذا كله في بيان موضوعهما.

وأما حكم التعارض ، فلو كان بين المتعارضين جمع عرفي بحيث يرى العرف انّ أحدهما قرينة على الآخر ، كالعام والخاصّ والمطلق والمقيد ونحوهما ، فالتعارض صوري لا محالة يرتفع بالجمع العرفي.

وأما لو كان التعارض بينهما واقعيا ولم يكن أحدهما بنظر العرف قرينة على الآخر ، فبناء على الطريقية المحضة هو التساقط والرجوع إلى الأصل اللفظي من العموم الفوقاني أو الإطلاق كذلك ان كان موجودا ، ومع عدمه إلى الأصل العملي ، وذلك لأنّ نسبة دليل الحجية إلى كل منهما يكون على حد سواء ، إذ المفروض انّ كلّا من المتعارضين في نفسه حجة لو لا المتعارضة ، ومن الواضح انّ شمول الدليل لهما معا مستلزم لاجتماع حكمين واقعيين متضادين لموضوع واحد وهو محال ، ولأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح ، والواحد لا بعينه لا تحقق له سوى هذا وذاك ، وثبوت الحجية لهما تخييرا مما لا دليل عليه ، ودليل الحجية غير متكلف لإثباتها كما هو واضح ، فلا مناص من سقوطهما عن الحجية ، نعم في خصوص الخبرين المتعارضين ورد الدليل الشرعي على الترجيح أو التخيير ، وامّا في غير الخبرين كما إذا تعارض الخبر مع الشهرة مثلا على القول بحجيتها فالعقل يحكم فيه بالتساقط كما عرفت.

واما الترجيح بسائر المزايا العقلية التي لا دخل لها في الحجية من كون رواة أحد الخبرين أعدل أو هاشميا أو أسن وأمثال ذلك ، فلا وجه له بعد ما الغى إطلاق

دليل الحجية جميعها ، فلا اعتبار بشيء منها. هذا كله في المعارضة بين حكمين واقعيين أي على الطريقية.

واما المعارضة بين الدليلين من حيث الحكم الظاهري بأيّ معنى فسر ، فعلى مسلك الأشعري والمعتزلي يكون تنافيهما من باب التزاحم لتمكن المكلف من امتثال أحد الحكمين وعجزه عن الآخر ، فيلحقه حكمه ، واما على القول بالمصلحة السلوكية ، فالظاهر سقوطهما وعدم دخوله في باب التزاحم ، وذلك لأنّ فعلية حجية الطريق مقوم للمصلحة السلوكية ، وقد عرفت عدم شمول دليل الحجية لكل منهما.

هذا كله في حكم التعارض.

وأما التزاحم فالتخيير أو الترجيح فيه هو مقتضى القاعدة الأولية وبحكم العقل ، أي العقل يستكشفه ، فإذا كان لأحدهما مرجح على الآخر يحكم بتعينه ، كما لو فرضنا انّ أحد الغريقين مؤمن والآخر غير مؤمن ، أو فرضنا انه وقع من شاهق ودار الأمر بين أن يقع على رأس مؤمن فيقتله أو على رأس كافر ذمي فيقتله وكان متمكنا من تحريك بدنه نحو أيّ منهما شاء ، فيتعين الأول بحكم العقل لا محالة ، ولو لم يكن لأحدهما مرجح فيحكم بالتخيير ، ولا مجال فيه للتساقط بعد كون المكلف قادرا من امتثال أحد الحكمين ، فهل ترى من عقلك في الغريقين ان يقول بسقوط كلا الحكمين لعدم المرجح؟ كلا.

وبالجملة فالتخيير أو الترجيح في المتزاحمين انما هو بحكم العقل أي بإدراكه ، ولا مجال فيهما للتساقط ، وفي المتعارضين لا بدّ وان يثبت بدليل شرعي ، وإلّا فالعقل يحكم بالتساقط. ونتعرض إن شاء الله لمرجحات باب التعارض في محله.

واما مرجحات باب التزاحم ، فأمور :

الأول : ان يكون لأحد المتزاحمين بدل عرضي دون الآخر ، بان يكون

أحدهما وجوبا تعيينيا والآخر تخييريا ، كما لو وقعت المزاحمة بين صوم الكفارة والحج الواجب ، فإنّ وجوب صوم الكفارة له بدل في عرضه بخلاف وجوب الحج فانه وان كان مشروطا بالاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة وأمنية الطريق ، إلّا أنّه بعد حصول شرطه يدور الأمر بين رفع اليد عن الحج أو عن صوم الكفارة ، وحيث انّ الصوم له بدل ، فيمكن امتثال كلا التكليفين ، بل الفرض خارج عن باب التعارض والتزاحم معا ، وذلك لأنّ الواجب للكفارة ليس خصوص الصوم الّذي هو طرف التزاحم ، وانما هو عنوان أحد الأمور على ما سنبينه في محله من انّ متعلق التكليف في الواجب التخييري هو الجامع بين الأطراف ، وستعرف إن شاء الله انه لو علم الإنسان إجمالا بوجود شبح في الدار مردد من جنس إنسان أو بقر أو غير ذلك ، فانّ متعلق العلم هو الوجود الخارجي يقينا مع انّ المعلوم ليس إلّا عنوان أحد الأمور ، فتعلق العلم بالجامع الانتزاعي لا ينافي تعلقه بالوجود الخارجي ، والطلب في الوجوب التخييري كذلك مع تعلقه بالجامع متعلقه الإيجاد الخارجي على ما سيأتي تفصيله في محله.

وبالجملة فحيث انّ متعلق الوجوب في المقام ليس إلّا الجامع ، والمفروض انّ طرف التزاحم ليس هو الجامع وانما هو خصوص الصوم فلا تزاحم في الحقيقة أصلا ، فالمقام خارج عن باب التعارض والتزاحم معا.

الثاني : ان يكون لأحد المتزاحمين بدل طولي ، كما لو دار الأمر بين الإتيان بالوضوء والصلاة مع الطهارة المائية وحفظ النّفس المحترمة في فرض انحصار الماء وعدم التمكن من استعماله في كلا الأمرين ، فإنّ للطهارة المائية أي الصلاة المقيدة بها بدل طولي وهو الصلاة مع الطهارة الترابية على ما يستفاد من التفصيل في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(١) وليس المراد من الوجدان هو القدرة العقلية على

__________________

(١) النساء ـ ٤٣.

الماء ، وانما المراد القدرة على استعمال الماء عقلا وشرعا على ما يستفاد من ذكر المريض والمسافر في آية التيمم ، فإنّ المريض غالبا متمكن من أصل الماء ولا يكون متمكنا من استعماله ، والمسافر بعكس ذلك ، وعليه فإطلاق الأمر بحفظ النّفس المحترمة يكون معجزا شرعيا له عن استعمال الماء ، فينتقل إلى التيمم ، وقد ذكرنا في محله انّ المستفاد من بعض الاخبار كقوله عليه‌السلام «رب الماء هو رب الأرض» (١) ، «التراب أحد الطهورين» (٢) وغير ذلك هو كون الصلاة مع الطهارة الترابية مشتملة على تمام مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية في ظرف العجز ، فالمكلف عند التزاحم لو صرف الماء في حفظ النّفس يتمكن من استيفاء مصلحة الصلاة مع الطهارة أيضا ، وهذا بخلاف العكس فإنّه لو صرف الماء في الوضوء يموت ذلك الشخص ويفوته الملاك الملزم الثابت مطلقا كما هو واضح ، فيتعين تقديم ما ليس له البدل بحكم العقل.

ثم انهم ذكروا في العروة (٣) وحواشيها من فروع هذه المسألة ما إذا دار الأمر بين استعمال الماء المنحصر في الطهارة الخبثية عن الثوب أو البدن وبين استعماله في الطهارة الحدثية ، فذكروا تقديم الأول واستعمال الماء في رفع الخبث ثم الإتيان بالتيمم لرفع الحدث ، فإنّه حينئذ تكون الصلاة مشتملة على كلا الشرطين ، أي في الثوب الطاهر ومع الطهارة عن الحدث ، وهذا بخلاف العكس.

هذا ولنا كلام في المقام ، وحاصله : انّ التزاحم لا يتحقق في الواجبات الضمنية ، إذ ليس لها وجود مستقل ، فلا معنى لوقوع التزاحم بين الأمر بالقيد أو بالجزء وشيء آخر ، إذ لا يتعلق بالجزء أو بالقيد امر مستقل ، وانما الأمر المتعلق به من شئون الأمر بالمركب أو المقيد ، فطرف التزاحم دائما هو الأمر بالمركب ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ باب ٣ من أبواب التيمم.

(٢) المصدر السابق ـ باب ٧ من أبواب التيمم.

(٣) العروة الوثقى ـ المجلد الأول ـ ٣٣٩ طبعة مدينة العلم.

فوجوب الصلاة مع الطهارة المائية يزاحم وجوب حفظ النّفس المحترمة ، والصلاة في الثوب الطاهر تزاحم الصلاة مع الطهارة المائية وهكذا. والقدرة المأخوذة في الوضوء حقيقة معتبرة في الصلاة مع الطهارة المائية ، وبدلها هو الصلاة مع الطهارة الترابية ، وهكذا.

وعليه نقول : كما انّ القدرة مأخوذة شرعا في وجوب الصلاة مع الطهارة المائية كذلك القدرة مأخوذة شرعا في الصلاة في الثوب الطاهر ، وكما جعلت الصلاة مع التيمم بدلا عن الصلاة مع الطهارة المائية عند العجز كذلك جعلت صلاة العاري بدلا عن الصلاة في الثوب الطاهر ، لما ورد ما مضمونه «ان قدرت ان تصلي في الطاهر فصلّ فيه ، وان لم تقدر فصلّ عاريا» فالصلاة عاريا تكون بدلا عن الصلاة في الثوب الطاهر ، فاذن يكون لكل منهما بدل طولي ، فلا بدّ في تزاحمهما من الحكم بالتخيير ، ولا وجه لترجيح الطهارة الخبثية.

وحاصل ما تقدم ببيان آخر : هو انّ الميرزا قدس‌سره (١) ذكر في أول مرجحات باب التزاحم ان يكون أحد الواجبين المتزاحمين ذا بدل دون الآخر ، فيتقدم ما ليس له البدل على ما له البدل. ثم ذكر بعد ذلك انه تارة تكون القدرة في كلا المتزاحمين معتبرة عقلا ، وأخرى تكون معتبرة فيهما شرعا ، وثالثة تكون في أحدهما شرعية وفي الآخر عقلية ، فهذه أقسام ثلاثة. فان كان المتزاحمان من قبيل الأولين فلا يرجح أحدهما على الآخر ، وان كان من قبيل الثالث فيتقدم ما يكون اعتبار القدرة فيه بحكم العقل على ما يكون القدرة معتبرة فيه بحكم الشارع ، انتهى.

ونقول : انّ مجرد كون أحد المتزاحمين ذا بدل لا يوجب تقدم ما ليس له البدل عليه ، فإن رجع ما ذكره أولا إلى ما بينه في ذيل كلامه من اعتبار القدرة عقلا أو

__________________

(١) فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ٣٢٣.

شرعا فهو ، وإلّا فلا عبرة بمجرد وجود البدل لأحد المتزاحمين دون الآخر ، فإنّ حكم العقل بالتعيين في دوران الأمر بين صرف الماء في الوضوء وصرفه في حفظ النّفس المحترمة انما هو من جهة انّ ذلك لا يوجب تفويت ملاك ملزم أصلا بخلاف العكس ، وهذا المعنى لا يتم بمجرد كون أحد المتزاحمين مما له البدل دون الآخر ، وانما يتم فيما إذا كانت القدرة معتبرة في أحدهما بحكم الشارع وفي الآخر بحكم العقل.

توضيح ذلك : انه لو كان لأحد الواجبين المتزاحمين افراد عرضية من حيث القدرة وان كانت طولية من حيث الزمان ، كما في موارد التخيير العقلي أو الشرعي ـ وان كان أحدهما يرجع إلى الآخر على ما بين في محله ـ ففي الحقيقة لا مزاحمة هناك بين واجبين كما هو واضح.

واما ان كان له افراد طولية من حيث القدرة ، كعتق رقبة وإطعام ستين مسكينا وصوم ستين يوما بناء على طولية هذه الأمور ـ فالمستفاد من دليلها حينئذ اختصاص المرتبة السابقة كعتق الرقبة بالقادر ، فتكون القدرة مأخوذة في وجوبها شرعا ، كما قد تؤخذ القدرة شرعا فيما ليس له البدل أصلا كالحج ، فإنّ وجوبه مشروط بالاستطاعة مع أنه لا بدل له. وظاهر أخذ القدرة في لسان الدليل بحسب فهم العرف كونها دخيلة في الملاك أيضا ، فبدونها لا ملاك أصلا.

وعليه فإذا وقعت المزاحمة بين ما له بدل طولي وما لم يعتبر فيه القدرة شرعا ، فيتقدم عقلا على ما له البدل ، لما عرفت من انّ عكسه مستلزم لتفويت الملاك الملزم بخلاف تقديم ما لا بدل له ، لأنّه بإطلاق دليله يكون معجزا عما له البدل فينتقل إلى المرتبة المتأخرة من دون ان يلزم تفويت ملاك أصلا.

واما إذا كان التزاحم بين ما له البدل وبين ما اعتبرت فيه القدرة شرعا ، كما لو دار الأمر بين ان يصرف المكلف ماله في عتق الرقبة أو يصرفه في الحج ، فلا وجه

لتقديم أحدهما على الآخر أصلا ، إذ ليس لما لا بدل له إطلاق يعجّز المكلف عما له بدل ، والمفروض انّ القدرة في كل منهما شرعية ودخيلة في الملاك ، والمكلف ليس له إلّا قدرة واحدة يصرفها في أحدهما ، فيكون مخيرا في صرفها في أيّ منهما شاء ، إذ لا ترجيح في البين.

وبالجملة فالمرجح الأول أن تكون القدرة في أحدهما عقلية وفي الآخر شرعية ، فإنّه يتقدم حينئذ الأول على الثاني لما عرفت.

ثم لو سلمنا الكبرى وجعلنا مجرد كون أحد الواجبين ذا بدل دون الآخر من موجبات الترجيح فالفرع المعروف أعني دوران الأمر بين الطهارة المائية والطهارة الخبثية ليس من صغرياتها ، وذلك لأنّ الأمر بالمركب ينحل إلى الأمر بالاجزاء بنحو الانضمام ، ولذا ذكرنا انّ الأوامر الضمنية لا تزاحم بينها ، فإذا تعذر بعض اجزائه فمقتضى القاعدة سقوط الأمر رأسا ، ومن ثمّ التزمنا بذلك في جملة من الموارد ، كالصوم مثلا ، فانّ المكلف لو لم يتمكن من الإمساك مقدارا من النهار يسقط عنه وجوب الصوم لا محالة ، نعم في خصوص الصلاة ورد الأمر بغير المتعذر من الاجزاء في موارد خاصة وبنحو العموم أيضا بقوله عليه‌السلام «فانها لا تدع الصلاة بحال» وعليه فإذا فرضنا تعذر أحد الأمرين من الطهارة المائية أو الخبثية فالامر بالصلاة المشتملة عليها ساقط لا محالة ، غاية الأمر نعلم من الخارج بثبوت امر مردد بين ان يكون متعلقا بالمشتمل على الطهارة المائية دون الخبثية وبالعكس ، ومن الواضح خروج ذلك عن باب التزاحم ، لأنّ في التزاحم لا بدّ وأن يكون هناك تكليفان يعجز المكلف عن امتثالهما معا ، وأما التكليف الواحد المردد فبابه باب التعارض ، فتقع المعارضة بين دليليهما لا محالة.

وهذا الحال جار في جملة من الفروع المذكورة في المقام ، كدوران الأمر بين ترك البسملة أو التشهد ، أو بين ترك القيام أو الإيماء للركوع والسجود وغير ذلك

فانّ جميعها خارجة عن باب التزاحم بالكلية.

بقي الكلام فيما إذا دار الأمر بين الصلاة عن طهارة مائية وإدراك ركعة من الوقت وبين إدراك تمام الوقت مع الطهارة الترابية ، وقد طبق المحقق النائيني قدس‌سره تلك الكبرى على هذا المورد ، وأفتى بلزوم تقديم الوقت والإتيان بتمام الصلاة في الوقت مع الطهارة الترابية التي هي بدل عن الطهارة المائية ، وحكى انه نسب عكس ذلك إلى السيد الشيرازي قدس‌سره ثم كذّب النسبة.

ونقول : قد عرفت انه ولو سلمنا انّ مجرد كون أحد الواجبين مما له بدل طولي والآخر مما ليس له بدل من المرجحات إلّا انّ تلك الكبرى غير منطبقة على هذا الفرع ، لما عرفت من عدم وقوع التزاحم بين الواجبات الضمنية ، وانّ مقتضى القاعدة عند تعذر بعض اجزاء المركب هو سقوط الأمر المتعلق به.

فالتحقيق ان يقال : انه لو قلنا بما ذهب إليه بعض الأخباريين وهو الشيخ حسين آل عصفور من انّ ضيق الوقت ليس من مسوغات التيمم ، إذ لا دليل عليه مع انّ موضوعه غير الواجد أي من لم يكن متمكنا من استعماله ، وعند ضيّق الوقت يكون المكلف واجدا للماء ومتمكنا من استعماله غايته انّ الوقت ضيق ، والشاهد على ذلك هو انّ التيمم لضيق الوقت ليس رافعا للحدث ، وانما هو مبيح للصلاة فقط ، ولذا لا يجوز معه الدخول في المسجد إذا كان بدلا عن الغسل ، ولا مس المصحف وأمثال ذلك. وبالجملة على هذا المسلك لا ينبغي الإشكال في تقديم الطهارة المائية على إدراك تمام الوقت.

واما على المشهور من كون ضيق الوقت من مسوغات التيمم ، كما هو الصحيح ، فالحق ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره.

أما كون ضيق الوقت من مجوزات التيمم فبيانه : انّ المستفاد من قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(١) هو كون مجموع الوقت وقت لمجموع

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

الصلوات الأربع لكن لا بحيث يمكن الإتيان بكل منها في أيّ جزء من اجزاء الزمان شاء ، بل ورد في الروايات المفسرة للآية انه «إذا زالت الشمس فقد دخل الوقتان إلّا أنّ هذه قبل هذه» (١) إلى غير ذلك من الأخبار ، وأنه إذا دخل المغرب فقد دخل وقت العشاءين ، فبمقتضى الأخبار بل ضرورة الدين لا يجوز تقديم العشاءين على الغروب ، والظهرين على الزوال ، ولا يجوز تأخيرهما عن المغرب ، فالواجب بعد الزوال هو الإتيان بثمان ركعات قبل المغرب.

هذا وقد استفدنا من التفصيل في الآية القاطع للشركة انّ الجنب مكلف بالغسل ، وغيره مكلف بالوضوء ، كما استفدنا من ذلك أيضا كون واجد الماء مكلفا بالصلاة عن طهارة مائية ، وغير الواجد بالصلاة عن طهارة ترابية ، ومن الواضح بقرينة ذكر المريض في آية التيمم انّ المراد بغير الواجد هو من لم يكن متمكنا من استعمال الماء ، لا من مطلق استعماله ، فإنّ المريض متمكن من كثير من استعمالاته بل من استعماله في الوضوء أو الغسل للصلاة الواجبة وهي الصلاة في الوقت ، فإذا فرضنا انّ الوقت ضيق لا يسع للوضوء ، أو الغسل والإتيان بتمام الصلاة في الوقت ، فالمكلف عاجز عن استعمال الماء في الطهارة للصلاة الواجبة ، فيكون داخلا في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)(٢) فتكون وظيفته التيمم وإدراك الوقت.

وامّا حديث «من أدرك» فالمستفاد منه انّ الصلاة بما لها من الاجزاء والشرائط بحسب اختلاف وظيفة المكلفين إذا وقعت ركعة منها في الوقت فكأنها بأجمعها وقعت في الوقت ، فمن كان وظيفته الصلاة مع التيمم ، أو جلوسا ، أو إيماء ، أو غير ذلك نفس تلك الوظيفة إذا تحقق ركعة منها في الوقت فقد أدرك الفاعل تمام الوقت. واما إخراج المكلف عن موضوع وإدخاله في موضوع آخر كالواجد مثلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٣ ـ ٩٢.

(٢) النساء ـ ٤٣.

والتغيير فيما كان وظيفة المكلف من حيث الأجزاء أو الشرائط فلا يتكفل به حديث «لا تعاد» وتمام الكلام موكل إلى محله ، فعلى مسلك المشهور لا بدّ من التيمم وفعل تمام الصلاة في الوقت.

وبالجملة تارة يكون كلا الواجبين المتزاحمين مما اعتبر فيهما القدرة شرعا في لسان دليلهما ، ومرادنا من اعتبار القدرة الشرعية في الواجب أن تكون القدرة دخيلة في ملاكه بحيث لو لم يكن متعلقه مقدورا لا يكون هناك ملاك أصلا ، وأخرى تكون القدرة دخيلة في ملاك أحدهما دون الآخر ، وثالثة لا تكون القدرة دخيلة في ملاك شيء منهما أصلا.

اما القسم الثاني : فلا إشكال فيه في تقدم ما لم تعتبر القدرة في ملاكه على ما اعتبرت القدرة فيه شرعا ولو كان من أهم الواجبات وكان ما زاحمه من أضعفها ، كما لو فرضنا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب رد السلام الّذي هو أضعف الواجبات فيتقدم هو على الحج ، والوجه في تقدمه واضح ثبوتا وإثباتا.

اما ثبوتا ، فأنّ تقديم الحج يوجب تفويت الملاك الملزم الفعلي وهو ملاك رد السلام ، بخلاف العكس فإنه لا يوجب تفويت الملاك أصلا ، ولا يلزم على المولى ان يلزم المكلف بإدخال نفسه في موضوع ما له الملاك كما في الصوم للحاضر مثلا ، وملاك الحج وان كان أهم إلّا انه مشروط بتحقق موضوعه ، والمفروض عدمه لعجز المكلف بعد امتثاله للحكم المزاحم له ، فيكون انتفاؤه بانتفاء موضوعه.

وامّا إثباتا ، فلأنّ إطلاق الدليل الغير المشروط بالقدرة شرعا يكون معجزا للمكلف عن امتثال التكليف المشروط بالقدرة شرعا ، ولا يمكن أن يكون ذلك التكليف معجزا عن هذا ، لأنّه مستلزم للدور ، فإنّ معجزيته عنه متوقفة على فعلية موضوعه ، وفعلية موضوعه متوقفة على ان لا يكون التكليف الغير المشروط معجزا له ، وهو متوقف على معجزية هذا التكليف عنه ، وهو دور واضح.

فاذن لا بدّ من تقدم ما يكون القدرة دخيلة فيه عقلا على ما يكون القدرة دخيلة في ملاكه ، من غير فرق بين كونهما متقارنين زمانا ، أو كون الأول سابقا على الثاني ، أو العكس.

امّا في الأولين فالوجه ظاهر كما عرفت.

وامّا في الأخير فلما وقعت المزاحمة بين الخروج للحج وأداء الدين الواجب في غد مثلا فلأنّ الحكم المطلق أي وجوب أداء الدين في المثال وان لم يكن موجودا في ظرف وجوب الحج والخروج إليه إلّا على القول بالواجب المعلق إلّا أنّ ملاكه تام فعلا فتأمل ، فيجري فيه ما تقدم من لزوم حفظه برفع اليد عن الواجب الآخر الّذي ملاكه مشروط بالقدرة ، فيكون معجزا عن غيره.

وأما القسم الأول : فلا إشكال في انه ليس هناك إلّا ملاك واحد ، لأنّ المكلف لا يقدر إلّا على الإتيان بأحدهما بشرط لا عن الآخر ، وإمّا على امتثالهما بنحو الانضمام فلا يتمكن. وفي هذا القسم إن كان أحدهما متأخرا عن الآخر في الزمان كما لو دار أمره بين ان يتوضأ لصلاة الظهر أو العصر ، فيتقدم الأول لأنّه تمكن على امتثاله ، وتفويته يكون بلا عذر ، وامّا لو كانا عرضيين فيتخير بينهما لعدم الترجيح.

وبالجملة في هذا القسم أي فيما إذا كانت القدرة مأخوذة شرعا في كلا الواجبين والمتزاحمين ، وكانت دخيلة في ملاكهما ، إذا كان ظرف أحد الواجبين متقدما زمانا على الآخر ، كما إذا دار الأمر بين ان يصلي المكلف صلاة الظهر بطهارة مائية أو صلاة العصر يتعين الأول دون الثاني ، وذلك لأنه في ظرفه مقدور عقلا وشرعا ، فيجب الإتيان به ، فيكون ذلك معجزا عن الإتيان بالثاني في ظرفه من غير فرق بين ان يكونا متساويين من حيث الملاك أو يكون أحدهما أهم من الآخر.

وأمّا إذا كانا متقارنين زمانا فالملاك التام الفعلي لا يكون إلّا واحدا ، لأنّ

المفروض عجز المكلف عن امتثالهما ، والقدرة دخيلة في الملاك ، فحيث انّ القدرة واحدة فالملاك الفعلي أيضا واحد ، وعليه فجعل الوجوبين معا مضافا إلى استلزامه التكليف بما لا يطاق يكون بلا ملاك ، وهو قبيح وترجيح أحدهما المعين على الآخر بلا مرجح ، فالعقل يستكشف وجوب أحد الأمرين تخييرا ، فالتخيير شرعي وكاشفه العقل ، وهذا بخلاف التخيير في المتساويين من القسم الثالث ، أي ما إذا كانت القدرة معتبرة فيهما عقلا فانه يكون بحكم العقل بمعنى لزوم الإتيان بكل منهما مشروطا بترك الآخر على ما سيأتي بيانه ، ويمكن إرجاع التخيير في المقام إلى ذلك أيضا بوجه دقيق.

وأما إذا كان أحد الملاكين أهم من الآخر ، فذهب فيه المحقق النائيني إلى التخيير أيضا بدعوى : إنّ أهمية الملاك انما هي بعد فعليته ، وهو أوّل الكلام ، إذ لا يجب على المكلف إدخال نفسه في موضوع الملاك الأهم ، فله ان يصرف قدرته في المهم ، فيكون عاجزا عن الأهم.

ولكن التحقيق : انّ ما أفاده انما يتم في باب التعارض ، فانه إذا ورد دليلان متعارضان لا تكون أهمية أحد الحكمين على تقدير ثبوته من مرجحاته ، واما في باب التزاحم فأهمية أحد الملاكين توجب تقدمه لا محالة ، وذلك لأنّ الملاك الأهم وإن كان مشروطا بالقدرة إلّا انّ القدرة التكوينية على استيفائه موجودة على الفرض ، فلا يكون عاجزا عنه وجدانا. وأما العجز الشرعي بان يقدم المولى جانب المهم ويأمره بصرف قدرته فيه فهو ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا بدّ من استيفاء الأهم ، وذلك يكون معجزا عن الملاك المهم لا محالة.

فتلخص مما ذكر انه لو كان أحد الواجبين المتزاحمين المشروطين بالقدرة شرعا متقدما زمانا على الآخر يتقدم السابق على اللاحق مطلقا ، وامّا إن كانا متقارنين زمانا فيتقدم الأهم ان كان أحدهما أهم من الآخر ، وإلّا فيحكم فيهما

بالتخيير.

ثم ذكروا من صغريات المقام ـ أي المتزاحمين السابق أحدهما على الآخر زمانا مع دخل القدرة في ملاكهما ـ مسألة نذر زيارة الحسين عليه‌السلام في كل عرفة ، اما لو كان النذر بعد حصول الاستطاعة فلا ينعقد ، لأنه من مصاديق تحليل الحرام ، وامّا لو كان قبل ذلك ، فهل يتقدم النذر لسبقه على الحج زمانا ، كما فيما نحن فيه ، وذهب إليه صاحب الجواهر ، أو ينعكس الأمر من تسليم كونه من صغريات الباب كما ذهب إليه الميرزا النائيني؟

الظاهر انه خارج عن هذه الكبرى ، وذلك لأنّ ما نحن فيه انما هو سبق زمان أحد الواجبين على الآخر ، وفي النذر المزبور زمان الواجبين مقارن ، غايته زمان سبب أحد الوجوبين وهو النذر مقدم على الآخر ، أو أحد الوجوبين مقدم على الآخر على القول بالواجب المعلق ، وهذا لا يوجب تقدم السابق ، لأنّ المتقدم في مفروض الكلام انما هو من جهة انّ الإتيان بالواجب السابق يكون معجزا عن الإتيان باللاحق ، وهذا غير جار في المثال ، لأنّ مجرد سبق أحد الوجوبين لا يكون معجزا عن الآخر بعد تقارن زماني الواجبين ، والوجوب السابق حدوثا باقي في زمان تحقق الوجوب الثاني ، فتقع المزاحمة بينهما.

وامّا الواجبان فهما متقارنان زمانا ، بل ربما يقال بسبق زمان الحج على زمان الوفاء بالنذر ، لأنه يجب الإتيان ببعض ما يعتبر في الحج قبل يوم عرفة بخلاف الزيارة المنذورة فيه ، فيعكس المطلب.

ثم لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا كون المثال مما نحن فيه ، إلّا أنّه لا بد من تقديم الحج على الوفاء بالنذر لوجهين :

الأول : انّ كلا من وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر وان كان مشروطا بالقدرة شرعا ، إلّا أنه يعتبر في وجوب الوفاء بالنذر امر آخر ، وهو ان لا يكون

متعلق النذر في نفسه مع قطع النّظر عن وجوب الوفاء به مستلزما لتحليل الحرام أو تحريم الحلال ، كما ورد ذلك في الوفاء بالشرط بقوله عليه‌السلام : «المؤمنون عند شروطهم إلّا ما أحل حراما أو حلل حراما» وفي المقام متعلق النذر مستلزم لترك الحج الواجب واقعا ، لأنّ الحج مع قطع النّظر عن وجوب الوفاء بالنذر واجب فعلي على الفرض ، فلا ينعقد مثل هذا النذر أصلا.

الثاني : انّ القدرة المأخوذة شرعا في الحج ليست إلّا القدرة من حيث الزاد والراحلة وخلو السرب كما يستفاد ذلك من تقييد الاستطاعة بقوله «سبيلا» أي من حيث الطريق ، ويدل على ذلك الروايات أيضا ، فالقدرة من بقية الجهات فيه عقلية وغير دخيلة في ملاكه ، فيكون المثال من قبيل القسم الأول ، وقد عرفت بتقدم ما لم يعتبر فيه القدرة شرعا على ما اعتبرت فيه كذلك ، فيتقدم الحج على الوفاء بالنذر ، لأنه ذو ملاك بعد حصول الزاد والراحلة وخلو السرب ، بخلاف الوفاء فانه عند مزاحمته بالحج لا ملاك فيه أصلا.

هذا مضافا إلى انّ النذر لو تقدم على الحج لانسد باب الحج كلية ، فانّ كل أحد قبل استطاعته ينذر ان يصلي في يوم عرفة في مسجد بلده ركعتين ، فيكون معجزا له عن الحج ، ولا يمكن الالتزام به.

ثم أنّه وقع الكلام استطرادا في فرعين :

الأول : نذر الإحرام قبل الميقات ، فإنّه غير جائز قبل النذر ، فكيف يتعلق النذر به؟!

الثاني : نذر الصوم في السفر.

فهل يكون خروجهما عن دليل اعتبار الرجحان في متعلق النذر بالتخصيص ، لاعتبار الرجحان في متعلق النذر في نفسه ، أو يكون من قبيل التخصص بدعوى انه يعتبر في متعلق النذر ان يكون راجحا سواء كان رجحانه في

نفسه ، أو بعد تعلق الالتزام النذري به ، لا تعلق الوجوب به ليكون دورا ، إذ ربما لا يكون الفعل في نفسه راجحا إلّا انه يكون راجحا عند تعلق الوعد به كما هو واضح. وبالجملة على هذا يكون خروج الموردين بالتخصص ، كما ذهب إليه السيد في العروة ، وأشكل عليه المحقق النائيني في حاشيته بأنه عليه يلزم تحليل كل حرام بالنذر ، إذ بعد تعلق النذر به يكون راجحا ، فلا بدّ وان يثاب عليه أيضا.

والتحقيق : انّ السيد قدس‌سره ملتفت إلى هذا النقض ، وقد أشار إليه ، وهو غير وارد ، وذلك لأنّ إطلاق دليل حرمة الشيء أو إباحته يكون شاملا لحال النذر أيضا ، ومقتضاه عدم ثبوت الرجحان له بالنذر أيضا ، فلا بدّ من رفع اليد عنه من ورود مخصص على ذلك ، ولم يثبت المخصص إلّا في الموردين كما هو ظاهر.

وبالجملة فلا يستفاد من دليل اعتبار الرجحان في النذر مثل قوله عليه‌السلام «لا نذر إلّا في طاعة الله ، أو لا نذر في معصية الله» إلّا الرجحان بعد النذر لا قبله ، وعليه فبعد تخصيص دليل حرمة الإحرام قبل الميقات أو الصوم في السفر بغير مورد النذر يخرج الموردين عن ما دل على عدم انعقاد النذر في غير الراجح بالتخصص. وامّا على مسلك الميرزا ومن حذا حذوه فيخصص ذلك الدليل به لا محالة ، ومن ثم ذكرنا انّ النزاع بين المسلكين علمي محض.

فتلخص من جميع ما تقدم انه لو كانت القدرة معتبرة في المتزاحمين شرعا ، فلو كان أحدهما مقدما على الآخر زمانا يتقدم عليه ، ولو كانا متقارنين فإن كان أحد الملاكين أهم يتقدم على غيره خلافا للميرزا ، وان كانا متساويين يتخير المكلف بينهما شرعا. وقد عرفت الحال في نذر زيارة الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، وفي الفرعين الآخرين.

وأما القسم الثالث : وهو ما إذا لم تكن القدرة مأخوذة في شيء منهما شرعا ، بل كان اعتبارها في التكليفين بحكم العقل ، فان كان أحدهما أهم من الآخر بمقدار

ملزم فلا ريب في تقدمه على غيره عقلا وشرعا ، إذ ليس للشارع ولا لغيره تفويت الملاك الملزم ، فيتعين ذلك من غير فرق بين كونه متقدما على المهم زمانا أو متقارنا معه أو متأخرا عنه ، اما في الأولين فواضح ، وامّا في الأخير فلما تقدم في المقدمات المفوتة من انّ العقل مستقل بحفظ القدرة على استيفاء الملاك الملزم فيما بعد ، وفي المقام وان لم يكن الحكم على طبق الملاك الملزم في طرفه فعليا من أول الأمر بناء على إنكار الواجب التعليقي إلّا انّ ثبوت الملاك الملزم في ظرفه كاف في حكم العقل بلزوم حفظ القدرة عليه ، أو حكم الشارع بوجوبها طريقيا على مسلك الميرزا قدس‌سره مثال ذلك ما لو كان عنده مقدار من الماء لا يفي إلّا لشرب شخص واحد والآن عنده رجل يموت من العطش ولكن يعلم بأنّ غدا يبتلى بنبي يموت عطشا لو لم يحفظ هذا الماء من الآن.

وأما لو كانا متساويين من حيث الأهمية ، فحيث انّ الترجيح بلا مرجح قبيح ، والأمر بهما معا غير معقول ، فلا مناص من ثبوت التخيير ، وهو واضح ، إلّا انّ الإشكال في انّ هذا التخيير هل هو تخيير شرعي كما في القسم الثاني ، أو انه عقلي بمعنى التخيير في النتيجة؟

فمن ذهب إلى الأول ادعى أنّه بعد استحالة بقاء التكليفين معا ، وكون ترجيح أحدهما المعين بلا مرجح يسقطان معا لا محالة ، وحيث انّ الملاك ثابت والمفروض تمكن المكلف من استيفاء أحدهما وليس للشارع تفويته ، فيستكشف العقل بنحو اللم حدوث خطاب تخييري متعلق بالجامع بينهما كعنوان أحدهما لا محالة.

ومن ذهب إلى الثاني نظر إلى انّ التزاحم انما نشأ من إطلاق الخطابين لا من أصلهما ، فلا يرفع اليد إلّا عن إطلاقهما ، لأنّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فيقيد العقل إطلاق كل منهما بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر ، فيكون هناك وجوبان تعيينيان كل منهما مشروط بترك متعلق الآخر.

ثم انّ في المقام إشكال ذكر في مبحث الترتب والأمر بالمهم مشروطا بترك الأهم ، نشير إليه وإلى جوابه هنا ، وتفصيل القول فيه موكول إلى محله.

وحاصل الإشكال : انه لو ثبت الأمر بكل من الواجبين مشروطا بترك الآخر ، فعند تركهما معا يكون التكليفان كلاهما فعليا ، ونتيجته طلب الضدين ، وهو محال.

والجواب عنه : انّ نتيجة الخطابين المشروطين ليس إلّا عدم الرضا بالجمع في الترك لا طلب الجمع في الفعل ، ومن الواضح انّ أحد الأمرين ليس نقيضا للآخر ، فإنّ نقيض الجمع في الفعل عدم الجمع في الفعل ، بل يتحقق ترك الجمع في الترك بإتيان أحد الفعلين ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث الترتب.

والحاصل : انّ هذا التخيير من فروع الترتب ، بل هو ترتب من طرفين ، بخلاف الترتب في الأهم والمهم فانّه ترتب من طرف واحد ، فلو صححنا الترتب يصح ذلك أيضا.

فيقع الكلام في ثمرة القولين ، وقد ذكر الميرزا وجوها.

منها : تعدد العقاب عند تركهما معا على الثاني ، فإنه عصيان لتكليفين فعليين كما هو ظاهر ، ووحدته على الأول ، لأنه بتركهما معا يتحقق عصيان التكليف الواحد التخييري.

ومنها : ما ذكره الميرزا قدس‌سره أيضا فيما إذا احتمل أهمية أحد الوجوبين ، فإنّه على الأول يكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي ، فيجري فيه الخلاف المعروف من الرجوع فيه إلى البراءة أو إلى الاشتغال ، وعلى الثاني لا بدّ من القول بالتعيين لأنّ إطلاق خطاب ما لا يحتمل أهميته قد قيد على التقديرين ، بخلاف خطاب ما يحتمل أهميته فإنّ تقيده غير معلوم ، والعقل يستقل فيه بالاشتغال.

ونقول : الظاهر عدم صحة هذه الثمرة ، وذلك لأنه لا بدّ من القول بالتعيين حتى بناء على التخيير الشرعي أيضا ، والسر فيه يظهر مما تقدم ، فانّ الرجوع إلى البراءة عن التعيين انما هو فيما إذا شك في التعيين والتخيير في مرحلة الجعل والتشريع ولم تكن كيفية التكليف معلومة ، واما إذا كان الدوران في مقام الفعلية وبعد ثبوت جعل الحكمين بنحو التعيين وثبوت ملاك كل منهما كذلك ، فالعقل يحكم بالتعيين ، وذلك لأنّ المكلف لو صرف قدرته فيما يحتمل أهميته يكون معذورا على كل تقدير ، وهذا بخلاف ما لو فوت محتمل الأهمية باستيفاء غيره ، فانه لو كان الفائت أهم في الواقع ليس له عذر في ذلك أصلا ، فالاشتغال العقلي يعينه لا محالة.

وبعبارة أخرى : انما اخترنا التخيير فيما إذا دار الأمر بينه وبين التعيين لأجل أنّ تعلق التكليف بالجامع متيقن وتعلقه بالخصوصية مجهول ، فيرجع فيه إلى البراءة ، ولا يجري هذا البيان في المقام ، وذلك لأنّ تعلق التكليف التعييني بمحتمل الأهمية كان متيقنا قبل وقوع التزاحم بينه وبين غيره ، وبعد التزاحم يشك في سقوط وجوبه التعييني ، فلا بدّ من الاشتغال ، بخلاف الخطاب المتعلق بغير محتمل الأهمية فإنّه ساقط قطعا.

ومنها : انه لو كان ظرف أحد الواجبين المتزاحمين سابقا على الآخر زمانا ، فبناء على التخيير الشرعي يكون المكلف مخيرا بين الإتيان بأيّ منهما شاء كما هو الشأن في جميع موارد التخيير الشرعي ، وامّا بناء على التخيير العقلي فحيث انّ المكلف في ظرف الواجب الأول قادر على الإتيان به عقلا وشرعا يكون وجوبه فعليا ، فليس له تفويته ، فإذا فعله يكون عاجزا عن الإتيان بالواجب الثاني في ظرفه وجدانا.

هذا ونقول : اما ما ذكره قدس‌سره من ثبوت التخيير على الأول فهو واضح ، كالتخيير بين الإتيان بصلاة الظهر مثلا في أول الوقت أو في آخره ، ولكنه ثابت بناء

على التخيير العقلي أيضا ، وذلك لأنه بعد ما فرضنا انّ كلا من الواجبين مشتمل على الملاك الملزم في نفسه ، والمكلف غير قادر إلّا على استيفاء أحدهما فلا وجه لأن يقيد بحكم العقل خصوص إطلاق الخطاب الثاني دون الأول ، لأنه بلا مرجح ، بل يقيد كل من الإطلاقين كما في المتقارنين زمانا ، غاية الأمر الشرط في الأول من قبيل الشرط المتأخر وفي الثاني من قبيل الشرط المتقدم ، وما ذكرناه واضح ، وعلى القول بالوجوب التعليقي وفعلية كلا الوجوبين يكون أوضح.

وببيان آخر : بعد ما فرضنا انّ الواجب اللاحق مشتمل على الملاك الملزم في ظرفه ، فيجب حفظ القدرة على استيفائه ، اما عقلا وأما شرعا ، فلا محالة تقع المزاحمة بين وجوب التحفظ وبين وجوب الإتيان بالواجب الأول ، فيثبت التخيير ، فهذه الثمرة أيضا ساقطة.

بقي الكلام فيما إذا تعذر بعض أجزاء المركب ودار الأمر بين ترك بعضها دون بعض ، كالمثال الّذي قدمناه. وقد ذكر الميرزا في المقام كليات ، وانه كلما دار الأمر بين الجزء والشرط فالجزء يتقدم ، وكلما دار الأمر بين الركن وغيره فالركن يتقدم ، وكلما دار الأمر بين السابق واللاحق فالسابق يتقدم ، وكلما دار الأمر بين أصل الشرط وقيده فالشرط يتقدم إلى غير ذلك ، فهل يمكننا المساعدة على هذه الكليات أم لا؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لما بيناه من انّ الجزئية أو الشرطية منتزعة من الأمر بالمركب أو بالمقيد ، فليس الجزء أو الشرط مأمورا به مستقلا ، فإذا تعذر بعض الاجزاء أو الشرائط يسقط الأمر المتعلق بالمركب منه لا محالة ، غاية الأمر في خصوص الصلاة ورد الدليل على عدم سقوطها بحال ، فان كان المتعذر امرا معينا يجب الإتيان بالباقي ، وان كان مرددا فلا محالة يكون المكلف به مرددا ، فيقع التعارض بين دليلي الجزءين أو الشرطين أو الجزء والشرط.

فتلخص من جميع ما تقدم انه لو تعذر بعض أجزاء المركب معينا أو مرددا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر به ، وإذا ثبت بدليل وجوب الإتيان ببقية أجزائه فهو تكليف حادث جديد ، ولو كان المتعذر مرددا يكون ذلك التكليف الجديد الواحد مرددا. ولذا ذكرنا انه خارج عن باب التزاحم ، فإنّ التزاحم لا بدّ وان يكون بين حكمين ، وفي المقام ليس إلّا حكم واحد مردد ، فيكون من باب التعارض ، إذ لا يعتبر في التعارض ان لا يكون منشأ العلم بكذب أحد الدليلين أو الحكمين عجز المكلف ، كما لا يعتبر فيه تعدد الدليل ، بل يجري التعارض في الدليل الواحد بلحاظ افراده.

وإذا عرفت ذلك فنقول : تارة يكون دليل اعتبار الجزءين المتعذر أحدهما دليلا واحدا ، كما لو تعذر على المصلّي القيام في أحد الركعتين ، فانّ ما دل على اعتباره في جميع الركعات امر واحد ، وأخرى : يكونان مدلولي دليلين ، كما لو دار الأمر بين ترك القيام والإتيان بالسجدتين أو الإتيان بهما إيماء عن قيام ، فانّ لكل من الأمرين دليل مستقل.

أما على الأول فيقع التعارض بين نفس ذلك الدليل الواحد بلحاظ افراده ، وليس السبق واللحوق مرجحا للسابق على اللاحق بعد كون نسبة دليل اعتبار ذلك الجزء أو الشرط إليها على حد سواء ، فلا محالة يثبت التخيير ، إلّا ان يستفاد تقدم السابق من نفس دليل اعتبراه ، كما لا يبعد ذلك في دليل القيام ، أعني قوله عليه‌السلام «وإذا قوى فليقم» (١).

واما على الثاني ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه ، فإنّ مقتضى إطلاق كل منهما ثبوت جزئية مؤداه حتى في فرض تعذر أحدهما ، ومن المعلوم كذب اعتبارهما حينئذ ، وعليه فان كان أحد الدليلين لبيا والآخر لفظيا

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ ـ ١٦٩.

يتقدم اللفظي ، إذ ليس للإجماع ونحوه إطلاق يعم ذلك المورد ، وإلّا فان كان عموم أحدهما بمقدمات الحكمة وعموم الآخر بالوضع فلا محالة يتقدم العموم الوضعي ، لما بينا في محله من انّ الظهور الوضعي مقدم على الظهور الإطلاقي. وان كان كليهما بمقدمات الحكمة فمقتضى القاعدة في تعارض الإطلاقين هو التساقط ، وحيث يعلم من الخارج بوجوب الإتيان بالمركب الواجد لأحد الجزءين أو الشرطين في الجملة وانّ الساقط أحدهما كذلك ، فيرجع إلى البراءة في وجوب خصوصية كل منهما معينا كما هو الشأن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل ، فيثبت التخيير. وامّا ان كانا معا من العموم الوضعي ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى مرجحات السند من الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب ، وبالآخرة إلى التخيير. وامّا الترجيح بالأهمية فلا وجه له لما عرفت.

وملخص الكلام في المقام : انه بعد وضوح كون الأوامر المتعلقة بالاجزاء أو الشرائط كلها إرشاد إلى الجزئية ، أو الشرطية فمقتضى إطلاقها ثبوت الجزئية لها حتى في فرض التعذر ، ولازمه سقوط الأمر بالمركب من المتعذر وغيره ، إذ لا معنى لبقاء الأمر بالمركب مع فرض بقاء كلا الإطلاقين ، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق ، كما لا يمكن تقييد كل من الإطلاقين بصورة عدم الإتيان بالجزء الآخر ، فإنّ لازمه ثبوت الجزئية لهما معا عند تركهما ، وهو محال ، غاية الأمر في الصلاة نعلم ببقاء التكليف بغير ما تعذر من الاجزاء ، ولهذا قلنا بخروج ذلك عن باب التزاحم بالكلية.

ويمكن إخراج المقام عن باب التزاحم من ناحية مقام الثبوت بان يقال : انه تارة : يكون كلا الجزءين أو الشرطين المتعذر أحدهما دخيلا في ملاك وجوب المركب ، وأخرى : لا يكون شيء منهما دخيلا في ملاكه ، وثالثة : يكون الجامع بينهما أي عنوان أحدهما دخيلا في ملاكه.

امّا الأول فلازمه عدم ثبوت التكليف بعد تعذر أحدهما ، والمفروض ثبوته.

وأما الثاني فلازمه أن لا يؤمر بهما حتى مع التمكن منهما ، وهما واضحا الفساد ، فيتعين الثالث ، وهو كون الجامع بينهما دخيلا في الملاك ، فليس لهما ملاكان ليكونا من المتزاحمين ، بل هناك ملاك واحد قائم بالجامع.

هذا واما احتمال دخل خصوصية أحدهما المعين في الملاك أو كل منهما عند عدم الإتيان بالآخر فلا بد فيه من الرجوع إلى دليل الجزئية ، فان ثبت ذلك فهو ، وإلّا يدفع بالأصل على ما هو الحال في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فنقول : ان كان دليل اعتبار الجزءين امر واحد وكان لبيا فلا ينعقد له إطلاق لصورة تعذر أحدهما أصلا ، وان كان لفظيا فلا يعم مثل ذلك قطعا ، فيسقط لا محالة ، وحيث انّ المستفاد عرفا من قوله : «الصلاة لا تسقط بحال» لزوم الإتيان بكل ما هو مقدور من الاجزاء ، وأحدهما مقدور على الفرض ، فلا بدّ من الإتيان به ، واحتمال دخل خصوصية كل منهما أو إحدى الخصوصيّتين يدفع بالأصل.

واما ان كانا مدلولي دليلين ، فان كان أحدهما لبيا والآخر لفظيا يتقدم اللفظي ، وان كانا معا لبيين لا يكون لهما إطلاق أصلا ، فيرجع في احتمال دخل الخصوصيّتين إلى الأصل ، وان كانا لفظيين ، فان كان أحدهما عمومه وضعيا والآخر بمقدمات الإطلاق يتقدم الأول على الثاني ، وان كان عمومهما معا مستفادا من الإطلاق يسقطان معا ، أي يكونان خارجين عن المتعارضين ، لعدم انعقاد الإطلاق لشيء منهما على ما بيناه في محله ، فيرجع إلى البراءة في نفي احتمال دخل الخصوصية ، وان كانا معا عموما وضعيا يرجع فيه إلى المرجحات من الشهرة ومخالفة العامة وموافقة الكتاب ، ثم يتخير. هذا كله فيما إذا لم يعلم اعتبار إحدى الخصوصيّتين ، وإلّا فلا بدّ من الاحتياط ولو بتكرار الصلاة كما ذكره في العروة.

تنبيه : لا يخفى انّ التزاحم المبحوث عنه في المقام انما هو التزاحم في مرحلة الفعلية الناشئ من عجز المكلف عن الامتثال بعدم ثبوت كل من الحكمين في نفسه ، واما التزاحم في الملاك كما لو فرضنا ثبوت المصلحة والمفسدة في فعل واحد ، فيقع التزاحم في الملاكين لا محالة فهو خارج عن محل الكلام. وفي هذا الفرض ان أحرز الآمر أهمية أحد الملاكين من الآخر بمقدار ملزم ، فيحكم على طبقه إلزاما ، وإذا أحرز أهميته بمقدار غير ملزم فيحكم باستحباب العمل أو كراهته ، كما انه لو أحرز تساوي الملاكين يحكم بالإباحة لا محالة.

ثم انّ المحقق النائيني (١) قدس‌سره قسم التزاحم إلى أقسام ستة ، والمختار انقسامه إلى ثلاثة أقسام ، لرجوع بعض الأقسام الستة إلى الثلاثة وعدم كون بعضها من باب التزاحم ، فنتعرض لما ذكره المحقق المزبور ونشير إلى ما عندنا.

القسم الأول : ان يكون منشأ التزاحم عدم قدرة المكلف اتفاقا على الإتيان بالواجبين الطوليين ، كما لو عجز المكلف عن الإتيان بصلاة الظهر والعصر معا مع الطهارة المائية ، أو عن القيام فيهما معا اتفاقا مع تمكن غيره من ذلك وتمكنه أيضا في غيره من الموارد ، فهذا معنى العجز الاتفاقي.

القسم الثاني : ان يكون منشأ التزاحم عدم قدرة المكلف على الجمع بين الواجبين عرضا لتضادهما الاتفاقي ، كما في إنقاذ الغريقين عرضا ، فإنّه ربما يكون غيره قادرا على ذلك ، فالتضاد بينهما اتفاقي ، بخلاف التضاد بين البياض والسواد فإنه دائمي ، ولذا يستحيل اجتماعهما مطلقا.

وفيه : انّ التضاد من أوصاف الماهية ، فإنّ معناه استحالة اجتماع الماهيتين في الوجود ، فلا معنى للتضاد الاتفاقي.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٤.

وراجع فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٢٠.

وبعبارة أخرى : امتناع اجتماع الضدين كاجتماع النقيضين ذاتي ، فلا يعقل ان يكون ممتنعا بالغير لعدم تحقق علّته من عدم المقتضى أو الشرط أو وجود المانع ، ومن الواضح انّ امتناع الجمع بين الإنقاذين انما هو من جهة عدم تحقق الشرط ، وهو قدرة المكلف ، وليس امتناعا ذاتيا ، فالمنشأ للتزاحم في هذا القسم أيضا ليس إلّا عدم قدرة المكلف اتفاقا ، غاية الأمر في القسم الأول كان عدم القدرة في الجمع بين الواجبين طولا ، وفي هذا القسم في الجمع بينهما عرضا أو طولا وعرضا.

القسم الثالث : ان يكون منشأ التزاحم توقف الواجب على مقدمة محرمة اتفاقا لا دائما ، فإنّه لو كان توقفه عليه دائميا لخرجا عن باب التزاحم ودخلا في المتعارضين ، للعلم بعدم جعل أحدهما حينئذ ، كما لو توقف إنقاذ الغريق على الدخول في الأرض المغصوبة اتفاقا ، فإنّ المكلف حينئذ لا يقدر على امتثال كلا الحكمين.

القسم الرابع : موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحدهما محكوما بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة ، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي ، فانه لا تلازم بينهما في أنفسهما ، بل التلازم انما يتفق لمن سكن العراق وما سامته من النقاط ، واما إذا كان التلازم دائميا فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين.

القسم الخامس : أن يكون منشأ التزاحم اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد بناء على إمكانه ، وامّا بناء على امتناعه اما لكون مورد الاجتماع طبيعة واحدة وامّا لسراية كل من التكليفين إلى متعلق الآخر ولو كان طبيعتين فهو خارج عن باب التزاحم.

وفيه : انه لو كان في البين مندوحة بان كان المكلف متمكنا من الصلاة في غير الأرض المغصوبة فهو خارج عن باب التزاحم كلية ، لتمكن المكلف من امتثال كل من الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، وان لم يكن هناك مندوحة فالتزاحم وان

كان ثابتا إلّا أنّه يرجع إلى القسم الرابع ، وهو ما كان منشأ التزاحم هو الملازمة بين الواجب والمحرم كما هو واضح ، فهذا القسم أيضا يرجع إلى القسم المتقدم.

وإلى هنا كان التزاحم من جهة عجز المكلف في جميع الأقسام المتقدمة ، فكان عدم القدرة على امتثال التكليفين كان جامعا بينهما.

القسم السادس : ما إذا لم يكن منشأ التزاحم فيه عجز ، المكلف بل كان قادرا على امتثال كلا الحكمين ، بل كان منشؤه العلم الخارجي. وقد ذكر قدس‌سره انّ مورد هذا القسم نادر في الفقه ، بل لم يعثر له إلّا على مورد واحد وهو باب الزكاة وثبوت شاة لكل خمس من الإبل بعد مضي الحول عليها ، فإذا فرضنا انّه كان للمكلف خمس وعشرون إبلا ومضى عليها ستة أشهر فزادت واحدة فصارت ستا وعشرين وزكاة الست والعشرين بنت مخاض ، فبعد تمامية السنة الأولى يجب عليه إعطاء خمسة شياة ، لمضي الحول على الخمس والعشرين ، وبعد انقضاء ستة أشهر أخر يجب إعطاء بنت مخاض ، لما دل على انّ في الست والعشرين بنت مخاض ، وامتثال كلا الحكمين بإعطاء كلتا الزكاتين مقدور للمكلف ، إلّا أنه دل الدليل من الرواية وغيرها على عدم وجوب زكاتين لمال واحد في سنة واحدة ، فيكون الحكمان من المتزاحمين. هذا ولكن الظاهر خروجه عن باب التزاحم.

وحاصل الكلام انّ أقسام التزاحم على المختار ثلاثة :

الأول : ان يكون منشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا الخطابين الطوليين أو العرضيين اتفاقا.

الثاني : ان يكون منشؤه توقف الواجب على مقدمة محرمة اتفاقا مع الانحصار ، فانه حينئذ لا يكون للمكلف مندوحة.

الثالث : ان يكون منشؤه الملازمة الاتفاقية بين فعل الواجب وفعل المحرم ، واما باب اجتماع الأمر والنهي فقد عرفت دخوله في هذا القسم لو لم يكن للمكلف

مندوحة.

وفي هذه الأقسام الثلاثة يكون منشأ التزاحم عجز المكلف.

وذكر الميرزا قدس‌سره قسما آخرا للتزاحم ليس منشؤه العجز ، وهو باب الزكاة فيما إذا ملك أحد خمسا وعشرين من الإبل الّذي هو أول حد النصاب ، فإذا مضى عليه سنة يجب فيها خمس شياة فإذا فرضنا انّ تلك الإبل زادت في أثناء السنة بواحدة تكون موردا للنصاب الثاني ، وحكمه إعطاء بنت مخاض ، فإذا مضى الحول على النصاب الثاني أيضا يجب إعطاء الزكاة عن الثاني بمقتضى دليله ، والمكلف قادر على إعطاء كلا الأمرين ، إلّا انّه يعلم من الخارج عدم تعلق زكاتين بمال واحد في سنة واحدة ، فيقع التزاحم بينهما لا محالة.

وفيه : انّ مورد التزاحم كما عرفت انما هو بعد ثبوت الملاكين والفراغ عن جعل كلا الحكمين ، ومن الواضح عدم ثبوت الملاك لكلتا الزكاتين في المقام ، وإلّا لم يكن وجه لتفويت أحدهما من دون جهة شرعية ولا عقلية ، فيستفاد من ذلك انّ الثابت ليس إلّا ملاك واحد ، وانّ المجعول ليس إلّا وجوب إحدى الزكاتين ، فيقع التعارض بين الدليلين.

والصحيح : تقديم دليل النصاب الأول وفاقا للجواهر لا لسبقه على النصاب الثاني زمانا ، بل لأنّ دليله يكون معدما لموضوع النصاب الثاني وحاكما على دليله ، كما في تقديم الأمارات على الأصول العملية ، فانّ الشك مأخوذ في موضوعها ، فإذا دلت أمارة على حكم في مورد يكون المكلف حينئذ عالما بالتعبد فيخرج عن الشاك عن موضوع أدلة الأصول. وفي المقام أيضا كذلك ، فانه بعد مضي الحول على النصاب الأول جامعا لشرائط وجوب الزكاة يحكم بوجوب إعطاء خمس شياة لتحقق موضوعه ، وهو مضي الحول على خمس وعشرين من الإبل ، فلا يكون في البين مانع عن فعلية ذلك الحكم ، ونفس حكم الشارع بوجوب الزكاة الأول

يوجب انعدام موضوع الزكاة الثاني ، لأنّ وجوب الزكاة مشروط بان لا يكون المال مزكى في تلك السنة ، أي بعدم كونه محكوما بوجوب الزكاة فيه ، فإذا تمت السنة على النصاب الثاني لا يكون المال مما مضى عليه الحول ولم يزك بحكم الشارع ، لأنّ مقدارا منه كان مزكى شرعا ، ولا يتعلق به الزكاة في نفس الحول ثانيا ، فلا بدّ في ثبوت الزكاة الثاني من مضي الحول الثاني. هذا فأقسام التزاحم ثلاثة كما عرفت.

ويقع الكلام في ثبوت الترتب في كل منها مستقلا. وحق التقسيم ان يكون هكذا بان يقال : انه تارة يكون التزاحم بين واجبين ، وأخرى بين واجب وحرام ، وعلى الثاني ، تارة : يكون منشأ التزاحم الملازمة ، وأخرى : التوقف والمقدمية.

ويقع الكلام فعلا في تزاحم الواجبين ، فان كانا متساويين يحكم فيهما بالتخيير ، كما انه لو كان أحدهما أهم أو محتمل الأهمية يتقدم ، فهل يمكن مع بقاء إطلاق خطاب الأهم بالإضافة إلى عصيان خطاب المهم وعدمه ان يبقى خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم أم لا يمكن؟

وبعبارة أخرى : المولى لا يرضى بترك الأهم ويعاقب عليه مطلقا سواء أتى بالمهم أم لم يأت ، ولا يعاقب على ترك غير الأهم إذا أتى المكلف بالأهم وصرف قدرته فيه ، لأنه حينئذ يكون عاجزا عن الإتيان بالمهم ، إلّا انه هل يمكن ان يعاقب على ترك المهم أيضا عند تركه للأهم وعصيانه له أم لا؟

وقد اختلفت في ذلك كلماتهم ، وليعلم انّ إمكان الترتب مساوق لوقوعه ، فانّ التزاحم انما يقع بين إطلاق كل من الخطابين لا بين أصلهما ، فانّ لكل من الدليلين دلالتان: إحداهما الدلالة على ثبوت أصل الحكم والأخرى على إطلاقه بالقياس إلى عصيان الآخر وعدمه ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أصل الخطاب أو عن إطلاقه ، والمتعين هو الثاني ، لأنّ الضرورات تقدر بقدرها.

الكلام في الترتب :

وكيف كان ذهب المحقق الثاني إلى إمكان الترتب ، وذهب شيخنا الأنصاري إلى امتناعه على ما يظهر منه في مسألة الإتمام في مورد القصر حيث ينقل عن كاشف الغطاء تصحيحه بالترتب ثم يورد عليه بعدم إمكانه.

وقد ذكر المحقق النائيني لإثبات إمكانه مقدمات (١) ونحن نتعرض لجملة منها وان كانت جميعها تامة إلّا انّ بعضها مما لا يبتني عليه إمكان الترتب ، وببيان تلك المقدمات وإيضاحها يثبت الترتب بوضوح من غير حاجة إلى إقامة دليل عليه ثبوتا أو إثباتا.

المقدمة الأولى : وهي بمنزلة تحرير محل النزاع وحاصلها : انّ الأمر بالأهم هل هو بنفسه معجز عن المهم أو امتثاله معجز عنه؟ وعلى الأول لا مجال للترتب أصلا ، وعلى الثاني لا وجه لإنكار الترتب ، إذ عليه في فرض عصيان الأهم وعدم الإتيان به يكون المكلف قادرا على فعل المهم ، فلا مانع من الأمر به ، وهذه هي النكتة الوحيدة للترتب إثباتا ونفيا.

وبعبارة أخرى : من الواضح انّ المكلف ليس له قدرتان يستعمل إحداهما في الإتيان بالأهم والأخرى في الإتيان بالمهم ، وانما له قدرة واحدة فهل تستلزم وحدة القدرة وحدة الأمر أو لا يوجب ذلك إلّا تقييد الإطلاقين أو إطلاق الخطاب بالمهم لو كان أحدهما أهم؟ ومن هنا ذكرنا انّ الترتب لا معنى له في موارد دخل القدرة في ملاك الحكم ، كما لو دار الأمر بين صرف الماء في حفظ النّفس المحترمة وصرفه في الطهارة المائية المشروطة بالقدرة شرعا التي ليس لها ملاك في ظرف عجز المكلف ، ولذا لا تصح لو عصى التكليف بحفظ النّفس المحترمة وتوضأ بذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٧ ـ ٢٩٨.

الماء ، إذ ليست بالإضافة إليه ذات ملاك أصلا.

المقدمة الثانية : العصيان المشروط به الأمر بالمهم هل يعتبر بنحو الشرط المتقدم أو المتأخر أو المقارن؟

الصحيح : هو الأخير ، لا لما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره من استحالة الشرط المتأخر ، بل لأنه لم يرد دليل لفظي في المقام على اشتراط الأمر بالمهم وتقييده بعصيان الأمر بالأهم لينظر في ما يستظهر منه ، بل اشتراطه بحكم العقل لأجل عجز المكلف ، فالاشتراط لا بد وان يكون بما يرتفع به العجز ، ومن الواضح انّ العصيان المتقدم أو المتأخر لا دخل له في القدرة على المهم أصلا ، وانما الدخيل فيها هو العصيان المقارن ، فهو الّذي يقيد به الأمر بالمهم بحكم العقل.

ويظهر مما ذكرنا انه لا وجه لما ذكره في الكفاية من انّ الشرط هو العزم على العصيان أو إرادته ، إذ ليس بشيء منهما دخل في قدرة المكلف على المهم أصلا.

المقدمة الثالثة : انّ امتثال الأمر لا بدّ وان يكون مقارنا زمانا مع ثبوت الأمر ، وهكذا عصيانه ، أو يمكن امتثال الأمر السابق المنعدم حال الامتثال أو الّذي لم يحدث بعد؟

الصحيح : هو الأول ، وذلك لأنّ التحريك التشريعي كالتحريك الخارجي ، فكما يعتبر التقارن الزماني بينه وبين التحرك كذلك يعتبر ذلك بين التحريك التشريعي والتحرك ، إذ من الواضح انّ نسبة الامتثال إلى الأمر بمنزلة نسبة المعلول إلى علّته ، فتقدمه عليه رتبي لا زماني ، فلا بد وان يكون الأمر ثابتا حين امتثاله أو عصيانه وان كان سابق عليه حدوثا.

وعليه فالامر بالأهم وعصيانه ، والأمر بالمهم وعصيانه أو امتثاله متقارنة زمانا وان كانت مختلفة طبعا ورتبة ، فإنّ الأمر بالمهم متأخر عن الأمر بالأهم برتبتين ، إذ هو متأخر عن عصيان الأهم تأخر الحكم عن موضوعه لاشتراطه به ،

وعصيان الأمر بالأهم متأخر عن نفس الأمر بالأهم كذلك.

وبالجملة القائل بالترتب يدعى :

أولا : انّ المعجز عن المهم ليس نفس الأمر بالأهم ، بل امتثاله معجز عنه.

وثانيا : انّ عصيان الأمر بالأهم مأخوذ في الأمر بالمهم بنحو الشرط المقارن لا المتأخر ولا المتقدم.

وثالثا : انّ الأمر بالأهم وعصيانه والأمر بالمهم وامتثاله أو عصيانه كلها متقارنة زمانا.

وملخص الكلام في المقدمات :

امّا المقدمة الأولى : فهي انه لو كانت القدرة مأخوذة في دليل الواجب المزاحم بالأهم فيسقط وجوبه رأسا ، كما في صرف الماء المنحصر في الوضوء دون حفظ النّفس المحترمة ، فإنّه عند العجز الشرعي لا يكون له ملاك أصلا.

وامّا في القدرة العقلية فإطلاق الخطاب بالأهم باق على حاله بحكم العقل ، وإطلاق الأمر بالمهم تقيد بصورة عصيان الأهم.

امّا المقدمة الثانية : فهي انّ زمان امتثال الأمر أو عصيانه لا بدّ وان يكون متحدا مع زمان ثبوت الأمر ، ولا معنى لامتثال الأمر المعدوم ولا لعصيانه ، وعليه فزمان الأمر بالأهم متحد مع زمان عصيانه ، كما انّ الأمر بالمهم مقارن مع عصيانه أو امتثاله.

امّا المقدمة الثالثة : فهي انّ الشرط للأمر بالمهم انما هو العصيان المقارن دون غيره من المتقدم أو المتأخر ، أمّا الأمر المتقدم فهو أجنبي عن المتزاحمين ، إذ لا مزاحمة بين الأمر بأحد الضدين في وقت والأمر بضده الآخر في وقت آخر ، فعصيانه أجنبي عنه. وامّا الشرط المتأخر فهو وان كان معقولا في نفسه إلّا انه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، وليس في المقام ما يدل عليه.

فتحصل من هاتين المقدمتين تقارن زمان كل من الأمر بالأهم والمهم وعصيانهما ، أو عصيان الأول وامتثال الآخر ، والترتب المبحوث عن إمكانه هو هذا.

المقدمة الرابعة : وهي التي يدور عليها الترتب ، انا ذكرنا انّ تقابل الإطلاق والتقييد ليس تقابل العدم والملكة ، ولذا قد يستلزم استحالة أحدهما ضرورية الآخر أحيانا على تفصيل مر في محله ، وذكرنا أيضا انّ الإهمال النّفس الأمري ثبوتا غير معقول ، فلا بدّ وان يكون الحكم مطلقا أو مقيدا بالقياس إلى كل ما يلحظ إليه من غير فرق بين الانقسامات الأولية والثانوية ، ومن الانقسامات الثانوية مسألة الامتثال والعصيان ، فالحكم بالقياس إليهما مطلق لكن لا بمعنى أخذ القيود ، إذ يستحيل أخذهما في الحكم ، فانّ أخذ الامتثال فيه مستلزم لطلب الحاصل ، وأخذ العصيان فيه مستلزم لطلب الجمع بين نقيضين ، وكلاهما محال ، بل بمعنى رفض القيود بمعنى ان يكون التكليف متوجها إلى عامة المكلف من غير فرق في ذلك بين الممتثل والعاصي.

والحاصل : انّ انحفاظ الحكم في تقدير لا يخلو عن أحد أقسام ثلاثة :

الأول : ان يكون ذلك القيد دخيلا في الخطاب ويكون مشروطا ومربوطا به الحكم ، كما في قوله عليه‌السلام «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» فعند الزوال يكون وجوب الصلاة ثابتا لكونه قيدا مأخوذا فيه ، وهكذا الحال في انحفاظ كل وجوب مشروط عند تحقق شرطه كوجوب الحج عند حصول الاستطاعة.

الثاني : ان يكون ذلك القيد أجنبيا عن الحكم بالكلية ولا يكون له دخل في ثبوت الحكم أصلا ، وهذا هو الإطلاق الّذي عرفت انه بمعنى رفض القيود ، كما لو قال المولى (ان سافرت فقصر) فانّ الحكم بوجوب القصر ثابت للأبيض والأسود والعجمي والعربي وغير ذلك.

الثالث : ان يكون الانحفاظ لأجل كون الحكم مستبطنا لذلك القيد وجودا أو عدما ، كما في الإطاعة والعصيان ، فانّ التكليف مقتضى لوجود الأول ولعدم الثاني ، ومن ثم يكون محفوظا فيهما لا محالة.

فهذه أقسام ثلاثة ، ثم يضم إلى هذا ما ذكرناه في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من انّ الأحكام بأيّ معنى فسرت لا تضاد بينها لعدم كونها من الأمور المتأصلة ، بل يكون تضادها امّا من ناحية المبدأ من الإرادة والكراهة في الأوامر العرفية ومن المصلحة والمفسدة في الشرعية ، أو من ناحية المنتهى وامتثال العبد خارجا.

إمّا من ناحية المبدأ فلا تنافي في المقام ، لأنّه لا مانع من ثبوت المصلحة والملاك في كل من الضدين ، ولذا لو كان المكلف قادرا على الجمع بينهما لأمر بهما معا.

وأمّا من حيث المنتهى فالتنافي ثابت في المتزاحمين العرضيين ، وذلك لأنّ المكلف لا يمكنه الانبعاث عن كلا البعثين ، لعدم قدرته على الجمع بين ضدين ، فيستحيل البعث أيضا ، لأنّ التكليف معناه إيجاد ما يمكن ان يكون داعيا للمكلف فإذا استحال الانبعاث يستحيل إيجاد ما يمكن ان يكون باعثا.

وامّا فيما نحن فيه ، أي فيما إذا رتب الأمر بأحد الضدين على عصيان الآخر ، فهل يكون التنافي من ناحية المنتهى ثابتا أو لا؟ الصحيح : هو الثاني ، وذلك لأنّ الأمر بالأهم لا يقتضي إلّا امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجا ولا يهدم إلّا عصيان نفسه ، وأما في فرض عصيانه فهو أجنبي عن الإتيان بشيء دون شيء. وامّا الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم فهو لا يقتضي عصيان الأهم وعدمه ، لأنه مشروط بتحققه ، فإذا تحقق بسوء اختيار العبد يقتضي الإتيان بالمهم ، فأين التنافي بينهما من ناحية المنتهى؟!

وبعبارة أخرى : إذا امر المولى عبده بالحركة وامره بالسكون أيضا عرضا في آن واحد فحيث انّ كل من الأمرين بالالتزام يقتضي عدم الإتيان بمتعلق الآخر فلا محالة يقع التنافي بينهما من ناحية المنتهى ، وامّا في ما نحن فيه فلا ينفي شيء من الأمرين ما يثبته الآخر ، وكذلك العكس ، لأنّ الأمر بالمهم لا يقتضي عصيان الأهم كما انّ الأمر بالأهم لا يقتضي شيئا في فرض عصيانه وتركه ، ففي فرض عصيان الأمر بالإزالة لا يقتضي ذلك الأمر الإتيان بشيء دون شيء كالإتيان بالقيام دون الصلاة ، وكذا العكس ، فاذن لا تنافي في المقام من ناحية المنتهى أيضا ، ويشهد لصحة ما ذكر وقوع ذلك في الأمور التكوينية ، فإنّا إذا فرضنا وجود مقتضى الحركة بشيء إلى جانب معين كالجنوب ووجود المقتضي لتحركه نحو طرف آخر أيضا كالشمال يقع التزاحم بينهما لا محالة. واما لو فرضنا وجود المقتضى لتحرك شيء إلى جهة ووجود المقتضى لتسويده أو تبييضه مثلا إذا لم يتحرك إلى ذلك الطرف لا مزاحمة ولا مضادة بين المقتضيين أصلا ، والمقام من هذا القبيل.

والحاصل : انه لو امر المولى بالحركة وامر بالسكون كل منهما بنحو الإطلاق يستحيل ذلك ، لأنّ كلا منهما بالالتزام ينفي مفاد الآخر ، وهكذا لو امر بالسكون مطلقا وامر بالسكون مشروطا بمجيء زيد وفرض تحقق ذلك الشرط فانه يقع المضادة بين الحكمين حينئذ لا محالة واما لو امر المولى بالضدين في غير المثال مما لهما ثالث كما هو محل الكلام لكن مشروطا بترك الآخر لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين ، ولا تنافي بينهما أصلا ، وذلك لأنّ الأمر بالأهم لا يقتضي إلّا الإتيان بمتعلقه وعدم عصيانه ، كما انّ الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم لا يقتضي إيجاد العصيان خارجا ، بل دائما يكون مشروطا ومترتبا على العصيان حتى في حين تحقق العصيان ، إذ الواجب المشروط لا يصير مطلقا بحصول شرطه ، بل يكون باقيا على اشتراطه ، فالامر بالمهم دائما يقتضي الإتيان بمتعلقه على فرض عصيان الأهم ، ولذا

لا يكون بينهما تناف أصلا ، وقد عرفت ثبوت ذلك في المقتضيين في الأمور التكوينية.

وقد يتفق ذلك في الأمرين الصادرين من آمرين مثلا يقول : أحد الجارين للجار الّذي يريد بيع داره بعه إيّاي ويقول الجار الآخر بعه إياي ، فلا محالة يقع التزاحم بينهما ، وهناك جار ثالث يقول للمالك ان لم تبعه إياهما فبعه إياي ، فهل يتوهم التزاحم بين امره وامر الجارين الأولين؟! والمقام كذلك.

ثم بما بيناه ظهر ما في كلام الكفاية (١) من انّ الأمر المطلق متحقق في زمان فعلية الأمر المشروط فيقع التزاحم بينهما ، وذلك لأنّا لا ننكر وجود الأمرين معا ، إلّا انا نريد ان نقول : لا يلزم من ذلك التنافي ، ولا طلب الجمع بين الضدين كما عرفت.

وقد أوضح الميرزا ما ذكر بمثال ، وهو انه لو امر المولى عبده بدخول المسجد ثم أمره بالقراءة على تقدير ترك الدخول في المسجد ، فلو فرضنا انّ المكلف أتى بهما معا بان دخل المسجد وقرأ لا يكون آتيا بواجبين بالوجدان ، ويستكشف من ذلك عدم استلزامه طلب الجمع بين ضدين.

وهكذا لو فرضنا محالا تمكن أحد من الجمع بين الضدين وأتى بهما معا لا يكون ممتثلا لأمرين وآتيا بواجبين.

وبما بيناه ظهر أيضا فساد ما في الكفاية (٢) من انّ اشتراط التكليف بأمر اختياري لو كان موجبا لجواز الأمر بالجمع بين ضدين لجاز ذلك في مثل ان يقال : ان صعدت السطح فاجمع بين ضدين ، ومن الظاهر استحالته ، وذلك لما عرفت من أنّه إذا اشترط أحد الخطابين بترك الآخر لا يلزم من ذلك طلب الجمع بين ضدين كما عرفت ، لا انه جائز إذا استند إلى سوء اختيار المكلف كما توهم ، كما لو فرضنا انّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢١٣.

(٢) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢١٧.

الوالد امر ولده بالصعود إلى السطح وأمرته والدته بالنزول إلى السرداب فإنّ التنافي بين الأمرين ظاهر ، وامّا لو فرضنا انّ الوالد امره بالصعود إلى السطح لكن مشروطا بعدم نزوله إلى السرداب ، فليس بين الأمرين حينئذ تنافي أصلا ، وإذا صح ذلك في امرين من آمرين يصح في أمرين من شخص واحد أيضا.

وحاصل الكلام : انّ الأمر بالضدين يتصور على أقسام أربعة : لأنه تارة : يؤمر بكل منهما بنحو الإطلاق ، مثلا يقول المولى تحرك إلى الشمال وتحرك إلى الجنوب.

وأخرى : يؤمر بكل منهما مشروطا بأمر غير عصيانه الآخر ، وقد حصل الشرط خارجا.

وثالثة : يؤمر بأحدهما مطلقا وبالآخر مشروطا كذلك.

ويستحيل الجمع بين الطلبين في جميع الأقسام الثلاثة ، لاستلزامه طلب الجمع بين الضدين ، اما مطلقا وامّا عند حصول الشرط.

ورابعا : يؤمر بكل منهما مشروطا بعصيان الآخر ، أو بأحدهما مطلقا وبالآخر مشروطا بترك الآخر وعصيانه. والقائل بالترتب يدعي عدم استلزام هذا القسم لطلب الضدين أصلا ، وذلك لأنّ الأمر بالأهم وان كان ثابتا في ظرف عصيانه لكون العصيان عصيانا له ، كما انّ الأمر بالمهم أيضا فعلي حينئذ لتحقق شرطه إلّا انه مع ذلك لا تنافي بينهما ، لأنّ الأمر بالأهم وان كان معدما للأمر بالمهم لأنه ناف لعصيان نفسه إلّا انّ الأمر لا يقتضي عصيانه بل يأمر بالمهم على تقدير العصيان ، هذا حل المطلب.

واما نقضه فيما إذا صدر من المولى امران بغير الضدين مما يمكن الجمع بينهما وكان أحدهما مشروطا بترك الآخر ، مثلا قال المولى : ادخل المسجد وإذا تركته فاقرأ القرآن ، فلو أتى المكلف بهما معا فهل يكون آتيا بواجبين؟ من الواضح خلافه ، بل

لم يأت إلّا بواجب واحد ، لأنّ الآخر كان وجوبه مشروطا بعدم الإتيان بذاك ، فيعلم من ذلك عدم تعلق الأمر بهما بنحو يلزم منه طلب الجمع ، ونمثل لتوضيح ما ذكرناه بمثالين أحدهما عرفي ، والآخر شرعي.

امّا العرفي فيما إذا امر الوالد ولده بالمطالعة وامره بالكتابة على تقدير عدم المطالعة ، ومثل هذين الأمرين كثيرا ما يصدر منا ، وبالوجدان نرى انّ لنا طلبين مولويين لا إرشاديان إلى ثبوت ملاكين ، فإذا أتى الولد بالمطالعة يكون مطيعا ، وان فات منه ملاك الكتابة إلّا انه مستند إلى عجزه لا إلى اختياره ، واما لو تركهما معا يكون معاقبا عندنا بعقابين.

واما المثال الشرعي فيما لو فرضنا انّ السفر على شخص كان واجبا والإقامة كانت محرمة عليه حدوثا وبقاء ، فدائما يكون مأمورا بالسفر ويقال له لا تنو الإقامة ، ولكن إذا فرضنا انه عصى ونوى الإقامة فهل يكون مكلفا بالصوم في شهر الصيام وبإتمام الصلاة مع ثبوت المضادة بينهما وبينه أم لا؟ من البديهي كونه مكلفا بذلك ، ولا يتم هذا إلّا بالترتب بان يقال له لا تنو الإقامة وان عصيت فصم وأتم صلاتك فالترتب لا بدّ من الالتزام به في مثل المقام ، فتأمل.

وبما بيناه ظهر انّ الشرط في الترتب ليس هو العصيان حدوثا وإلّا لزم منه طلب الجمع بين الضدين لو تحقق العصيان آناً ما ، بل العصيان حدوثا وبقاء ، ففي كل آن يكون الأمر بالأهم ثابتا يتبعه الأمر بالمهم مشروطا بعصيان ، فدائما يكون الأمر بالمهم مشروطا حتى في فرض تحقق العصيان ، لأنّ المشروط لا ينقلب مطلقا بعد فعلية شرطه ، فأين طلب الجمع بين ضدين؟

وتوهم المنكرين للترتب عمدته ناشئ من ذلك ، ويندفع ذلك بما بيناه من اشتراط الأمر بالمهم دائما وفي كل آن بعصيان الأهم ، فلا يلزم منهما التنافي وطلب الجمع بين ضدين.

تنبيهات

الأول : انّ القول بالترتب مستلزم لتعدد العقاب عند ترك كلا الأمرين وعصيان كلا الخطابين ، فانّ الأمر بالأهم مطلق فعصيانه يوجب استحقاق العقاب ، والأمر بالمهم وان كان مشروطا إلّا انه بعد حصول شرطه على الفرض يكون فعليا بفعلية شرطه ، فيستلزم عصيانه العقاب.

وتخيل انّ ذلك مستلزم لثبوت العقاب على امر غير اختياري ، مدفوع بما مر في طيّ كلماتنا من انّ العقاب ليس على ترك الجمع ليكون على أمر غير مقدور ، بل هو على الجمع في الترك وضم الترك الثاني إلى الترك الأول ، ومن الواضح انّ كليهما مقدور للمكلف. ونظير ذلك جميع الواجبات الكفائية ، فانّ التكليف في الواجب الكفائي تكليف واحد غير انحلالي متوجه إلى عامة المكلفين ، نظير ان يأمر المولى العرفي غلمانه بدخول واحد منهم عليه بحيث لو دخل منهم اثنان لا يكون أحد الدخولين مصداقا لمطلوبه ، ففيما كان الواجب الكفائي مما لا يمكن صدوره من عامة المكلفين دفعيا لو فرضنا ترك ذلك الواجب ولم يأت به أحد منهم فان عاقب منهم البعض المعين كان بلا مرجح ، كما انّ البعض الغير المعين لا معنى له ، فتعين ان يكون المعاقب جميع المكلفين مع عدم تمكن جميعهم من الإتيان بالواجب بما هو واجب ، فلا بد وان يكون عقاب كل منهم على ضم تركه إلى بقية التروك الّذي كان اختياريا له ، وفي المقام أيضا كذلك.

الثاني : قد ذكرنا انّ إمكان الترتب كاف في وقوعه ، ولا نحتاج إلى إقامة دليل عليه في مقام الإثبات.

بيان ذلك : انّ مقتضى إطلاق كل من دليلي الواجبين المتزاحمين ثبوت الأمر به سواء أتى بالآخر أو لم يأت به ، والتنافي انما ينشأ من هذين الإطلاقين ، فالعقل عند التساوي ، يقيد كل منهما بعدم الإتيان بالآخر ، وإذا كان أحدهما أهم فإطلاق غيره مقيد قطعا ، واما تقييد إطلاقه فمشكوك فيه ، فيؤخذ به ، وأما رفع اليد عن أصل الخطاب فلا وجه له.

الثالث : انّ الترتب انما يتصور فيما إذا كانت القدرة في كلا الخطابين معتبرة بحكم العقل ، وامّا إذا كانت القدرة مأخوذة في أحدهما أو كليهما شرعا فلا مجال للترتب أصلا ، وذلك لأنّ الترتب معناه اشتراط الخطاب بعصيان الآخر ، وهو انما يعقل فيما إذا لم يكن مجرد الأمر معدما لموضوعه.

وبالجملة تارة يكون نفس أحد الأمرين معدما لموضوع الآخر ، وأخرى يكون امتثاله معدما لموضوعه ، والترتب يتصور في الثاني ، إذ عند تحقق العصيان فيه يقدر المكلف على الإتيان بالثاني.

واما لو كان نفس الأمر معدما لموضوعه فبمجرد تحقق الأمر انعدم موضوع ذلك سواء عصى المكلف أو امتثل ، ولا دخل للعصيان وعدمه في ذلك ليؤمر به على فرض العصيان ، وموارد أخذ القدرة في الحكم شرعا دائما من هذا القبيل ، كالأمر بالطهارة المائية للواجد بمعنى القادر المعبر عنه باللغة الفارسية (توانائى) ، فإذا فرضنا أمر المولى المكلف بصرف مائه في حفظ النّفس المحترمة ، فمجرد ذلك يوجب خروجه عن عنوان الواجد ، لأنه غير متمكن من استعمال الماء شرعا ، فلو عصى وتوضأ لا يمكن تصحيحه بالترتب كما نسب ذلك إلى العروة وان لم نعثر عليه فيه ، ولا بالملاك عند القائلين به ، لأنّ ظاهر أخذ القدرة في الخطاب عرفا هو دخلها في الملاك بحيث لا يكون له ملاك عند العجز أصلا.

نعم فيما كان امتثال الخطاب معدما لموضوع الخطاب الآخر لا نفسه يصح

الترتب ، لأنه عند عصيان الأول يتحقق الموضوع للثاني لا محالة ، ويترتب على هذا فروع.

منها : مسألة الحج ، فإنّه لو كان أحد مديونا بدين معجل ولم يؤد دينه وحج لا يكون مستطيعا ، لأنّ مجرد امر المولى بأداء الدين يخرجه عن عنوان المستطيع ولو عصاه.

ونظيره الخمس المترتب على فاضل المئونة ، فلو فرضنا انّ المكلف مديون من نفس سنة الخمس ولم يؤد دينه ، فمجرد امر المولى بأدائه يخرج مقدار الدين عن فاضل المئونة ، فلا يتعلق به الخمس ، نعم في الديون من السنوات السابقة خلاف ، قول يتعلق الخمس به وعدم احتسابه من المئونة مطلقا ، وقول بعكسه مطلقا ، وقول بالتفصيل بينما ما إذا أداه قبل تمام السنة ، أو لم يؤده ، والقول الأول هو الأولى وأحوط.

نعم فيما كان الأمر بالأداء مجرد امر تكليفي لا وضعي كما في باب الإنفاق على الزوجة أو على الوالدين والوالد ، لو عصى ولم ينفق يتعلق الخمس بذلك المقدار أيضا.

وبالجملة فيما كانت القدرة دخيلة في الملاك لا معنى للترتب أصلا ، لانعدام الملاك فيه بمجرد الأمر بالآخر.

وما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من انّ الترتب انما يتم فيما إذا أحرز الملاك في كل من الواجبين وان كان راجعا إلى ما ذكرناه إلّا انّ إحراز الملاك انما يكون بنفس الترتب فيما لم يؤخذ القدرة فيه شرعا ، لا انه لا بدّ أولا من إحراز الملاك ثم الحكم بالترتب لأجل ثبوت الملاك ليكون الحكم مؤخرا عنه رتبة ، إذ ليس لنا كاشف عن الملاك غير نفس الخطابات الشرعية.

الرابع : لا إشكال في صحة الإتمام في موضع القصر ، والإجهار في مورد

الإخفات ، وبالعكس إذا لم يكن عن عمد لو كان الجاهل مقصرا.

وظاهر كلام الأصحاب ثبوت استحقاق العقاب في ذلك أيضا ، كما هو الحال في مطلق تارك الفحص إذا كان عن تقصير ، فانّ عمله يكون محكوما بالبطلان ظاهرا بمعنى عدم الاجتزاء بما أتى به عقلا.

وفي اعتبار مطابقة ما أتى به لرأي من كان يجب عليه تقليده حين العمل أو من يجب عليه تقليده فعلا في صحة عمله واقعا كلام يذكر في محله.

وكيف كان وقع الإشكال في الموردين في انه كيف يمكن القول بصحة ما أتى به الجاهل مع كونه مستحقا للعقاب؟ وأجاب عنه الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره بالترتب ، وانّ القصر للمسافر واجب مطلقا والإتمام واجب على تقدير تركه القصر ، فإذا أتم المسافر يعاقب على عصيانه الأمر الأول ، ويكون ما أتى به صحيحا لكونه مصداقا لما امر به بنحو الترتب. وأورد عليه شيخنا الأنصاري باستحالة الترتب مطلقا.

وحيث انّ المحقق النائيني قدس‌سره يرى إمكانه ذكر انّ الترتب في نفسه وان كان صحيحا إلّا أنّه مستحيل في المقام لوجوه ثلاثة (١) :

أحدها : الترتب انما يجري فيما إذا كان التضاد اتفاقيا ناشئا من عجز المكلف وعدم قدرته على الجمع بين الأمرين ، فإطلاق الخطاب المتعلق بالأهم حينئذ يبقى على حاله ، وإطلاق خطاب المهم يقيّد بحكم العقل بعصيان الخطاب الأهم ، واما موارد التضاد الدائمي فهي خارجة عن باب التزاحم ، ولا يعقل ثبوت الملاك في كل منهما ولا تعلق الأمر بهما أصلا ، بل يكون بابها باب التعارض ، ولا معنى فيه للترتب.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٠.

وفيه : انّ ما أفاده تام من جهة ، وغير تام من جهة ، وذلك لأنّ الترتب الّذي يكفي إمكانه في وقوعه ولا حاجة فيه إلى إقامة دليل على وقوعه في مرحلة الإثبات يختص بباب التزاحم دون التعارض ، لعدم وجود إطلاقين فيه ليقيد أحدهما ويبقى الآخر.

واما أصل الترتب والأمر بأحد الضدين مطلقا وبالآخر مشروطا بعصيان الأول ، فإمكانه فيه واضح ، إذ لا يلزم منه طلب الجمع بين الضدين ، ولا اختصاص الترتب بموارد ثبوت ملاكين لا يتمكن المكلف من استيفائهما ، ولذا يجري بحث الترتب حتى على مسلك الأشعري المنكر للملاك.

نعم الترتب في المقام لا بدّ له من دليل خاص ، والشيخ الكبير ناظر إلى مرحلة إمكانه لا إلى مرحلة الإثبات ووقوعه ، فانّ صحة الصلاة المأتي بها في الفرض معلوم لا حاجة فيه إلى الاستدلال ، فنفس دليل صحتها كاف لمرحلة الإثبات.

ثانيها : انّ الترتب انما يتم في الضدين اللذين لهما ثالث ، واما الضدان اللذان ليس لهما ثالث كالحركة والسكون فحيث انّ فرض عدم كل منهما عين فرض وجود الآخر لا مجال فيهما للترتب ، لأنّ طلب كل منهما مشروطا بترك الآخر يكون من طلب الحاصل فانّ مآل قولك ان لم تتحرك فاسكن إلى قولك ان سكنت فاسكن.

وفيه : انّ الكبرى وان كانت تامة إلّا انها أجنبية عما نحن فيه :

امّا أولا : فلأنّ للقصر والتمام ضد ثالث وهو الإتيان بثلاث ركعات أو بخمس ركعات.

وثانيا : انّ الجهر والإخفات أو القصر والتمام ان كانا واجبين مستقلين كانا كذلك ، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الأمر بكل منهما ضمني ، فالواجب هو الصلاة الجهرية أو الإخفاتية والصلاة عن قصر أو إتمام أعني الحصة الخاصة ، ومن الواضح

انّ انتفائها تارة يكون بترك أصل الصلاة أو القراءة مثلا ، وأخرى بترك قيدها من الجهر والإخفات أو القصر والتمام كما هو الحال في انتفاء كل مقيد فكل من الأمر مضاد للمقيد.

ثالثها : انّ إمكان جعل الحكم ابتداء أو بنحو الترتب انما يكون فيما إذا أمكن فعليته وان يكون باعثا ومحركا للمكلف ، فلو فرضنا استحالة ذلك لا محالة يستحيل جعله أيضا ، لأنه لغو محض ، مثلا يستحيل ان يجعل المولى حكما مشروطا باجتماع النقيضين في الخارج ، فانّ مثله لا يكون فعليا أبدا لاستحالة فعلية شرطه ، وكذلك لا يمكن تكليف الناسي بهذا العنوان ، فانه ما لم يلتفت إلى انه ناسي لا يرى نفسه داخلا في ذاك الموضوع ليكون الأمر محركا ، وبمجرد التفاته إليه يخرج عن عنوان الناسي ويكون ذاكرا.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ الشرط في الخطاب الترتبي كالأمر بالإتمام ليس عصيان التكليف القصري ولو عن عمد ، بداهة بطلان الصلاة التامة من العامد الملتفت ، فالشرط هو العصيان لا عن عمد ، وبمجرد الالتفات إلى ذلك يخرج عن هذا العنوان ويدخل تحت عنوان العامد ، فمثل هذا التكليف يستحيل فعليته ، فيستحيل جعله.

وفيه : انّ ما أفاده يتم لو كان الشرط في الترتب خصوص عنوان العصيان وورد دليل على ذلك ، وليس كذلك وان كان يعبر به غالبا ، فانّ العصيان فيه طريقي ، والمراد به الترك سواء كان تركا موجبا لاستحقاق العقاب كما في المضطر ، أو غير موجب له كما في القاصر ، ومن الواضح انّ المسافر يمكنه الالتفات إلى انه تارك للقصر من غير ان يستلزم تبدل الموضوع فتأمل.

فتلخص : انّ الترتب في مفروض الكلام إمكانا لا مانع منه ، فكلامنا مع الشيخ الكبير في مرحلة الوقوع ، فانّ المانع فيها ، لا في مرحلة الإمكان ، وذلك لأنّ

لازم الترتب ان يكون المسافر الجاهل بوجوب القصر معاقبا بعقابين فيما إذا لم يصلّ أصلا ، ويكون عقابه أكثر من عقاب العالم التارك ، وهذا بديهي الفساد.

مضافا إلى انّ لازمه ان يكون الواجب على المكلف الجاهل بوجوب الجهر والإخفات عشر صلوات وعلى المسافر الجاهل بالقصر ثمان صلوات ، مع بداهة انّ الواجب على كل مكلف في اليوم والليلة ليس إلّا صلوات خمس ، وعليه فوقوعا لا يمكن الالتزام بالترتب.

فالجواب عن الشبهة كما بيناه في محله هو انّ القول بثبوت استحقاق العقاب في المقام مما لا دليل عليه ، وانما ذكره بعض الأصحاب ، بل الدليل على خلافه ، فانّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «فقد تمت صلاته» (١) انه لم ينقص شيئا على ما هو وظيفته ، فالعقاب لما ذا؟

وبعبارة أخرى : الّذي يستفاد من الاخبار الواردة في ذلك انّ الجهر والإخفات أو القصر شرط علمي لا واقعي ، فتركه عن جهل لا يوجب استحقاق العقاب أصلا.

الخامس : انّ التزاحم في الواجبين المضيقين انما يندفع بالترتب ، واما الواجب المضيق والموسع فلا تزاحم بينهما أصلا ، كما في الإزالة والصلاة ، فانّ الأمر بالموسع على مسلك المشهور يتعلق بخصوص الافراد المقدورة دون المبتلى بالمزاحم.

نعم شمول إطلاق الوجوب لتلك الافراد انما يتم على القول بالترتب ، فالترتب في الموسع انما يكون في الإطلاق وفي المضيق في أصل الخطاب ، هذا كله على المشهور.

واما على مسلك المحقق الثاني قدس‌سره من انّ متعلق الأمر في الموسع هو الطبيعي

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ـ ٥ ـ ٥٣٠ باب من أتم في السفر.

دون الافراد وانّ الإتيان بالفرد انما يكون موجبا لسقوط الأمر لانطباق الطبيعي عليه فلا مزاحمة أصلا ، لأنّ المأمور به وهو الطبيعة لا يزاحم المضيق ، والافراد المزاحمة لم يتعلق بها امر فإذا أتى بها المكلف يكون انطباق الطبيعي عليها قهريا من دون حاجة إلى الترتب ، وقد تقدم الكلام في ذلك.

ثم انّه قد ذكرنا فيما تقدم انه لو وقع التزاحم بين واجبين مضيقين يبقى وجوب الأهم منهما على إطلاقه ، واما إطلاق وجوب المهم فيقيد بعصيان الأهم وبذلك يرتفع التزاحم بينهما. وهذا الترتب إثباتا لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس دليلي الواجبين يكفي في ذلك لأنّ الضرورات تقدر بقدرها.

ولكن الّذي ينبغي ان يقال : هو انّ التزاحم تارة : يكون بين واجبين آنيين كما في إنقاذ الغريقين. والترتب في مثل ذلك آني كما لا يخفى.

وأخرى : يكون الواجب الأهم آنيا دون المهم كما لو وقع التزاحم بين الإنقاذ والصلاة في سعة وقتها. وقد عرفت خروج مثل ذلك عن باب التزاحم ، لأنّ الأمر في الموسع انما يتعلق بالافراد المقدورة التي ليست مزاحمة بواجب أهم على ما مر الكلام فيه.

وثالثة : ينعكس الأمر بان يكون المهم آنيا دون الأهم. وفي مثل ذلك أيضا يكون الترتب آنيا ، وهذا كله واضح.

ورابعة : يكون كل منهما استمراريا أي مركبا وموسعا. وفي مثله لا يكفي الترتب الآني، بل لا بدّ فيه من الالتزام بالشرط المتأخر ، كما في الصلاة والإزالة ، فإنّ ترك الإزالة حدوثا أي آناً ما لا يكفي في صحة الأمر بالصلاة ، فانّ الصلاة اسم لمجموع الاجزاء لا لخصوص تكبيرة الإحرام ، فعصيان الإزالة من أول الشروع في الصلاة إلى آخر الفراغ عنها شرط في الأمر بالصلاة بنحو الشرط المتأخر ، وهذا ظاهر.

ثم هل يحتاج الالتزام بالشرط المتأخر في الفرض أيضا إلى دليل خاص يدل عليه كما في بقية موارد الالتزام به أم لا؟ الظاهر هو الثاني ، فانّ نقيض دليل الواجب المهم يكفي في إثباته بالبيان المتقدم في الالتزام بأصل الترتب من انّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فلا يرفع اليد عن دليل الواجب إلّا بمقدار اقتضته الضرورة ، وفي الفرض لا مانع من الأخذ به بنحو الشرط المتأخر كما عرفت.

ثم انه ذكر في العروة انّ توقف صحة الصلاة المزاحمة بالإزالة على القول بالترتب انما هو فيما إذا علم المصلي بتنجس المسجد قبل ان يشرع في الصلاة ، واما لو تنجس المسجد في أثناء اشتغاله بالصلاة أو تنجس سابقا ولكن لم يعلم به إلّا بعد الشروع فيها فصحة الصلاة غير مبنية على الترتب.

ووجّه الميرزا قدس‌سره بأنّ تقدم الإزالة وأهميتها من الصلاة انما كانت من جهة كونها واجبا فوريا دون الصلاة ومن ثم يكون الصلاة أهم من الإزالة إذا ضاق وقتها ، وعليه فبعد الشروع فيها حيث يحرم قطعها تكون فوريا ، فتكون هي أهم من الإزالة.

ونقول : الأمر كما أفاده لو قلنا بأنّ حرمة قطع الصلاة مستفادة من الروايات ، فانّ دليل فورية الإزالة ليس إلّا الإجماع ، بل لا دليل على أصل وجوبها إلّا الإجماع ، ولا يزاحم الدليل اللبي الدليل اللفظي كما عرفت فيما سبق. واما لو كان دليل حرمة قطع الصلاة أيضا هو الإجماع كدليل فورية الإزالة فحيث يستحيل شمولهما لمورد التزاحم فيسقطان لا محالة ، فيثبت التخيير.

ثم انهم ذكروا فيما إذا انحصر ماء الوضوء بماء في إناء الذهب أو الفضة صحة الوضوء بالترتب ، اما إذا أفرغ من الإناء دفعة بمقدار يتمكن من التوضي به فواضح ، واما في الاغتراف التدريجي فلأنّه مأمور بالوضوء على نحو الترتب وعصيان حرمة استعمال الآنية.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ المقام أجنبي عن الترتب ، بل داخل في عنوان الواجد والفاقد، ففي ما إذا أفرغ من الماء بمقدار تمام وضوئه يدخل تحت عنوان الواجد فيجب عليه الوضوء ، واما لو لم يتمكن إلّا من الاغتراف تدريجا فهو غير متمكن من الماء ، فلا يؤمر بالوضوء أصلا ، فتأمل إلّا ان لا يكون اغترافه منه استعمالا للإناء.

وقد ذكر الميرزا انّ الوضوء في هذا الفرض صحيح فيما لو كان الماء ملكا للمتوضئ وغصبه غاصب وجعله في إناء الذهب ، فانّ تخليص ماله حينئذ جائز له بقوله «الناس مسلطون على أموالهم» فيجوز تخليصه ولو تدريجا ، فلا مانع من التوضي.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ قوله «الناس مسلطون» لا يحل الحرام كما هو ظاهر. نعم في غير الماء مما له مالية عرفية ربما يقال : بارتفاع حرمة استعمال الإناء في مثل ذلك لحديث لا ضرر ، كما لو فرضنا انّ أحدا غصب دهن غيره فجعله في إناء الذهب أو الفضة فانّ عدم جواز تخليصه حينئذ يكون ضررا عليه ، فتأمل.

ثم انه قد ذكرنا انّ التزاحم بين الحكمين ينقسم إلى أقسام ثلاثة ، لأنّ منشأه تارة يكون التضاد الاتفاقي وعجز المكلف الخاصّ عن امتثال كلا الحكمين كما في إنقاذ الغريقين ، وأخرى : يكون توقف الواجب على محرم وانحصار مقدمته بالحرام ، وثالثة : يكون اجتماع الأمر والنهي ، وإلى هنا كان كلامنا في القسم الأول ، وسيأتي البحث في القسمين الآخرين.

وقد عرفت انّ التزاحم في الواجبين العرضيين يندفع بالترتب ، فلا وجه حينئذ لرفع اليد عن أصل أحد الخطابين بعد ارتفاع التزاحم برفع اليد عن إطلاقه على ما عرفت.

واما في الخطابين الطوليين كما لو دار امر المكلف بين صوم أحد يومين ولم

يتمكن من صيام كليهما ، وقد مثل الميرزا قدس‌سره لذلك بما إذا لم يتمكن المصلي من القيام في الركعتين من الصلاة ، ونحن لا نمثل به لما عرفت من انّ الواجبات الضمنية لا يقع التزاحم بينها ، ولذا مثلنا بالواجبين الاستقلاليين. وكيف كان ان لم يكن الواجب المتأخر أهم فعلى مسلكه قد يتعين على المكلف الإتيان بالواجب السابق ، لأنّ التكليف به تكليف بلا مزاحم في ظرفه ، وعلى المختار يكون التخيير ثابتا.

وامّا لو كان الواجب المتأخر أهم بحيث تعين على المكلف حفظ قدرته فيه ، كما لو فرضنا انه ليس للمكلف إلّا ماء واحد وكان هناك عطشان لو لم يشرب الماء يتضرر ويمرض لكن لا يهلك بل يعالج فيما بعد ، ولكن هذا المكلف الّذي ليس له إلّا ماء واحد يعلم بأنه بعد ساعة يبتلى بعطشان يموت من العطش لو لم يحفظ هذا الماء له ، فحيث انّ حفظ النّفس المحترمة أهم لا بدّ له من صرف قدرته فيه ، وفي مثل ذلك هل يمكن ان يتعلق الأمر بالمهم وإعطاء الماء للعطشان بالفعل مشروطا بعصيان الأهم وترك إعطائه لمن يموت فيما بعد من العطش بحيث يكون ذلك مصداقا للواجب فيما لو فرضنا انّ هذا المكلف عدو لمن يعطش فيما بعد ولا يسقيه الماء أم لا؟

ويترتب على ذلك صحة المهم لو كان عبادة ، كما لو دار الأمر بين ان يصوم المكلف شهر شعبان أو يصوم شهر رمضان مثلا ، فهل يمكن تعلق الأمر الاستحبابي بصوم شهر شعبان بنحو الترتب ، فانه غير منحصر بالاحكام الإلزامية كما انه غير مختص بالعبادات بل يجري في التوصليات أيضا أم لا؟ كما يترتب على ذلك تعدد العقاب عند تركهما معا في الواجبين.

ذكر الميرزا قدس‌سره انّ الترتب غير جار في الطوليين ، وأفاد في وجهه ما حاصله : انّ الشرط في الخطاب الترتبي سواء كان عصيان الأهم في طرفه بنحو الشرط المتأخر ، أو عنوان التعقب بالعصيان ، أو العزم عليه ، أو العصيان المقارن لخطاب حفظ القدرة غير ممكن في المقام.

اما عصيان الأهم فاشتراط الخطاب به مبني على القول بالشرط المتأخر ، وهو ممتنع ، لأنه مستلزم لفعلية الحكم قبل تحقق موضوعه ، نظير ان يكون حرمة شرب الخمر فعلية للبائع قبل صيرورته خمرا فانّ شرائط الحكم ترجع إلى الموضوع وتكون قيدا له فتأمل.

وامّا عنوان التعقب فاشتراط الخطاب به محتاج إلى مئونة زائدة ودليل على ذلك ، وهو مفقود ، مضافا إلى انّ الترتب واشتراط الخطاب بعصيان الأهم انما هو لدخله في القدرة على المهم ، ومن ثمّ قلنا باعتباره فيه بنحو الشرط المقارن دون المتأخر ، ومن الواضح انه لا دخل للعصيان المتأخر ولا لوصف التعقب في القدرة على الإتيان بالواجب الفعلي فيما نحن فيه.

واما كون الخطاب مشروطا بعصيان الخطاب بحفظ القدرة فغير معقول أيضا ، وذلك لأنّ ترك حفظ القدرة للواجب الأهم انما يكون بأحد امرين ، إمّا بصرف الماء في المثال في الواجب المهم وسقيه لمن يمرض من العطش ، وامّا بصرفه في غير ذلك مما يضاده كإهراقه على الأرض مثلا ، وعلى التقديرين لا يعقل الأمر بصرفه في المهم وسقيه للعطشان بالفعل ، اما على الأول فلأنّ الأمر به طلب للحاصل ، واما على الثاني فتكليف بغير المقدور كما هو واضح.

فيتحصل من ذلك عدم إمكان الترتب في الواجبين الطوليين.

ونقول : في كلامه قدس‌سره مواقع للنظر ، نتعرض لبعضها.

فما أفاده قدس‌سره من انّ اشتراط وصف التعقب لا دليل عليه ، يرد عليه : انّ الدليل على ذلك عين الدليل على وقوع الترتب في الواجبين العرضيين من الوجهين المذكورين في كلامه قدس‌سره.

أحدهما : من ناحية الإن وهو انّ الملاك الملزم في المهم قابل للاستيفاء في فرض عصيان الأهم ، فلا يجوز على المولى تفويته. ونحن قد ناقشنا في ذلك ، وقلنا :

بأنّ الملاك لا بدّ من استكشافه من الخطاب ، ولا يمكن العكس عادة ، إلّا انّ هذا الوجه على تقدير صحته جار فيما نحن فيه ، فانّ الملاك في المهم قابل للاستيفاء عند عصيان الأهم في ظرفه.

ثانيهما : وهو الصحيح انّ الضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا ارتفع التزاحم برفع اليد عن إطلاق الخطاب بالأهم لا وجه لرفع اليد عن أصله ، وهذا أيضا جار في المقام ، فانّ التزاحم يرتفع باشتراط الخطاب بالمهم بوصف التعقب.

وما أفاده قدس‌سره من انّ الاشتراط والترتب انما هو لدخل عصيان الأهم في قدرة المكلف على المهم ، واضح الفساد ، فانّ المكلف في نفسه قادر على الإتيان بكل منهما في نفسه ، وانما لا يتمكن من الجمع بينهما ، والالتزام بالترتب انما هو لرفع غائلة طلب الجمع بين ضدين ، ومن الواضح انه يرتفع في المقام باشتراط التكليف بالمهم بعنوان التعقب بالعصيان كما هو واضح.

وبما ذكرناه ظهر انّ الشرط ليس إلّا عصيان نفس الخطاب بالأهم لا عصيان الخطاب بحفظ القدرة ، وذلك لأنه ليس خطابا شرعيا على ما عرفت الحال فيه في المقدمات المفوتة.

القسم الثاني : من أقسام التزاحم أن يكون الواجب متوقفا على فعل محرم أو ترك واجب ، فان كانا متساويين من حيث الأهمية يثبت التخيير على المختار ، ويتعين ترك الحرام على مسلك الميرزا لتقدمه على إتيان الواجب.

وامّا لو كان الواجب أهم من المحرم فالمختار سقوط المقدمة المفروض كونها منحصرة في الحرمة ، إذ يستحيل الأمر بذي المقدمة مع حرمة مقدمته ، فلا يبقى إلّا تكليف واحد ، فيخرج عن موضوع التزاحم. وعلى مسلك الميرزا قدس‌سره كلا الحكمين ثابتان إلّا انّ الواجب يتقدم على الحرام لأهميته المفروضة.

وعلى التقديرين فهل يمكن النهي عن المقدمة مشروطا بعصيان ذيها في ظرفه

بنحو الترتب أم لا؟ ذهب الميرزا قدس‌سره إلى إمكانه بالبيان المتقدم في القسم الأول ، فانّ محذور طلب الجمع بين الضدين يرتفع بالالتزام بالترتب.

ولكن الصحيح : عدم جريانه في المقام ، امّا بناء على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة فواضح ، لأنه عليه يكون إحدى الحصتين من المقدمة باقية على حرمتها ، وهي الغير الموصلة ، والمقدمة الموصلة واجبة ، ويستحيل الترتب فيها ، إذ فرض ترك ذي المقدمة عبارة عن عدم كون المقدمة موصلة.

واما بناء على القول بوجوب ذات المقدمة مطلقا فعدم إمكان الترتب ليس من جهة عدم الدليل على اشتراط وصف التعقب في الخطاب بالمهم ، إذ عرفت خلافه ، وانّ الأمر يدور بين رفع اليد عن أصل خطاب المهم أو إطلاقه ، فيتعين الثاني ، فإطلاق الأمر بالمهم يسقط قطعا بخلاف إطلاق خطاب الأهم فإنّه لا يعلم بسقوطه فيؤخذ به ، ولا من جهة انه لا يرتفع به محذور طلب الجمع بين الضدين ، بل من حيث انه مستلزم لاجتماع حكمين متضادين في موضوع واحد.

بيان ذلك : انّ المقدمة محكومة بالوجوب على الفرض لفعلية وجوب ذيها ، فإذا فرضنا انه يترك الواجب أعني ذا المقدمة في ظرفه فالحرمة أيضا فعلية لفعلية شرطها ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين من ناحية المبدأ والمنتهى معا ، وهو مستحيل.

وقد تنبه الميرزا قدس‌سره لهذا الإشكال ، وأجاب عنه بما حاصله : انه لا تضاد بين هذين الحكمين لاختلافهما في الرتبة ، ويعتبر في اجتماع الضدين الاتحاد في الرتبة زائدا على الوحدات الثمانية ، وقد أضافه إليها في اجتماع النقيضين بعض.

توضيح ذلك : هو انّ الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا التوصل بها إلى ذي المقدمة ، فهي تابعة له في الإطلاق والاشتراط ونحوه ، والأمر بشيء يستحيل ان يكون مقيدا بالإتيان بمتعلقه لاستلزامه طلب الحاصل ، كما يستحيل اشتراطه بعدمه

لاستلزامه التكليف بما لا يطاق ، وإذا استحال التقييد يستحيل الإطلاق لأنّ تقابلهما تقابل العدم والملكة ، فلا بدّ وان يكون الخطاب مهملا ، فاذن الأمر بالشيء وان كان ثابتا في ظرف امتثاله والإتيان بمتعلقه إلّا انّ ثبوته من قبيل ثبوت المقتضي في مرتبة مقتضاه ، فانّ الأمر يقتضي إيجاد متعلقه ، كما انه ثابت كذلك في ظرف عصيانه وترك متعلقه ، لأنه يقتضي هدمه ، والمقدمة أيضا كذلك ، لأنها تابعة لذيها ، فليس للأمر المتعلق بها إطلاق بالإضافة إلى ترك ذيها أو فعله ، كما لا يكون مقيدا بأحد الأمرين ، وعليه فإذا فرضنا ثبوت الحرمة للمقدمة مشروطة بترك ذي المقدمة لا محالة لا تكون تلك الحرمة في مرتبة الوجوب ، بل يكونان في مرتبتين ، فيرتفع التنافي بينهما باختلاف الرتبة.

هذا وفي كلامه قدس‌سره مواضع للنظر.

امّا أولا : فلأنّ ما يترتب على اتحاد الرتبة واختلافها انما هو الأحكام المترتبة على الرتبة كاستحالة الدور وتقدم المعلول على علّته وأمثال ذلك ، واما الأحكام المترتبة على الزمان كاستحالة اجتماع الضدين في زمان واحد فلا ترتفع بالاختلاف الرتبي ، ومن ثمّ ترى امتناع اجتماع المثلين كبياضين أو الضدين كسواد وبياض في مكان واحد ولو فرض كون أحدهما علّة للآخر واختلافهما رتبة ، وقد ذكرنا ذلك في بحث فروع العلم الإجمالي وقلنا : انّ الأحكام الشرعية كلها أمور مبنية على الزمان والزماني ولا تختلف باختلاف الرتبة.

وثانيا : تقدم مرارا انّ استحالة التقييد لا تستلزم استحالة الإطلاق ، بل ربما توجب ضروريته ، فانّ الإطلاق ليس عبارة عن جمع القيود بل معناه رفض القيود ، وعليه فالامر بالشيء يكون ثابتا في كلا تقديري عصيانه وإطاعته بالإطلاق اللحاظي ، وكذلك إيجاب مقدمته ، فلو ثبت لها الحرمة بنحو الترتب يجتمع كلا الحكمين في مرتبة واحدة كما هو واضح.

وثالثا : انّ ما ذكره قدس‌سره لو سلّم فانما يتم بالإضافة إلى إيجاب ذي المقدمة ، وامّا المقدمة فهي وجود مستقل مغاير لذيها ، فأيّ مانع من اشتراط إيجابها بالإتيان بذي المقدمة ، أو بعدم الإتيان به ، فتأمل.

فتلخص مما ذكر : انّ محذور الترتب في المقام ليس المحذور المتوهم في القسم المتقدم ، وهو طلب الجمع بين ضدين ، الّذي أثبتنا ارتفاعه بتقييد أحد الخطابين بعصيان الآخر ، بل محذوره امر آخر وهو اجتماع الحكمين المتنافيين ، وهذا لا يرتفع بالترتب ، فلا يمكن القول به.

وعلى هذا فيسقط حرمة المقدمة في مفروض المقام مطلقا بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة ، فيثبت ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ من جواز ارتكاب المقدمة ولو بدون قصد الإيصال ، فيجوز الدخول في الدار الغصبية إذا توقف عليه إنقاذ الغريق ولو بداعي التفرج ونحوه مع العلم بعدم ترتب الإنقاذ عليه.

وبهذا يظهر : انه بناء على القول بمقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر والقول بوجوب ذات المقدمة ينسد باب الترتب كلية ، مثلا إذا فرضنا انّ ترك الصلاة مقدمة لفعل الإزالة التي هي أهم ، فيكون ترك الصلاة واجبا مطلقا ، فإذا قلنا : بوجوب فعل الصلاة أيضا بنحو الترتب ومشروطا بترك الإزالة يلزم طلب فعل الصلاة وتركها ، وهو محال ، لأنه تكليف بما لا يطاق ، فلا يبقى مجال للترتب.

القسم الثالث : ما إذا كان التزاحم من جهة اجتماع الأمر والنهي. ولا بدّ ان يفرض الكلام في فرض عدم وجود المندوحة ، وإلّا فلا تزاحم بين الحكمين لإمكان امتثالهما معا ، فعلى الامتناع يتقدم الأهم لا محالة ونفرض في المثال المعروف أهمية الغصب وتقدم الحرمة على وجوب الصلاة ، فهل يمكن الأمر بها مشروطا بعصيان النهي عن الغصب؟

ذهب الميرزا قدس‌سره إلى استحالته ، بدعوى : انّ فعل الغصب لا يخلو من ان يتحقق

في ضمن فعل الصلاة ، أو في ضمن ضدها من النوم والجلوس ونحوه ، وعلى الأول يكون الأمر بالصلاة مشروطا بالغصب من قبيل طلب الحاصل ، وعلى الثاني طلب الجمع بين ضدين ، وكلاهما محال.

وبعبارة أخرى : بناء على الامتناع وكون العنوانين عنوانا لوجود واحد يلزم من الالتزام بالترتب ان يكون عصيان النهي موجبا لاتصاف متعلقه بالوجوب ، ومن البديهي انّ الحرام لا يعقل ان يتبدل ويصير واجبا في ظرف العصيان ، فالترتب فيه غير معقول.

ونقول : الصحيح انّ باب اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع أجنبي عن باب التزاحم بالكلية ، بل يكون داخلا في باب التعارض ، لوقوع التنافي بينهما حينئذ في مرحلة الجعل لا الفعلية ليكون ناشئا من عجز المكلف عن الامتثال ، وذلك لأنّ القول بالامتناع مبني على أحد امرين : امّا القول بأنّ المعنون بالعنوانين موجود واحد وانّ التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي ، أو القول بأنّ التركيب بينهما وان كان انضماميا إلّا أنّ الأمر يسري إلى متعلق النهي وبالعكس ، ومن الواضح انه على كلا التقديرين يكون التكاذب بين الحكمين في مرحلة الجعل ، فلا معنى حينئذ للترتب.

فنزاع جريان الترتب وعدمه لا بدّ وان يكون على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وانّ التركيب بين متعلقيهما انضمامي من دون ان يسري الأمر إلى متعلق النهي أو العكس ، غاية الأمر يكون بين امتثال كل منهما وعصيان الآخر ملازمة خارجة لا يتمكن المكلف من امتثالهما لعدم وجود المندوحة ، فحينئذ يقع التزاحم بين الحكمين ، فيتقدم الأهم منهما لا محالة ونفرضه الغصب فيتقدم النهي.

وعليه يقع البحث في انه هل يمكن الأمر بالصلاة مشروطا بعصيان النهي المتعلق بالغصب بان يقول المولى ان عصيت وغصبت فصل؟ من الظاهر انه لا مانع من ذلك لأنّ الغصب على القول بجواز الاجتماع بنفسه موجود مستقل ، ولا يلزم ان

يكون في ضمن فعل الصلاة ، أو في ضمن ضده ليكون الأمر بها مشروطا بالغصب من طلب الحاصل أو طلب الجمع بين ضدين ، كما لا يلزم منه حينئذ انقلاب الحرام وصيرورته واجبا بعصيان النهي ، فلا مانع من الترتب أصلا.

هذا تمام الكلام في الترتب.

فصل : هل يجوز الأمر

مع علم الآمر بانتفاء الشرط

تارة : يقع الكلام في شرائط الجعل ، وأخرى : في شرائط مقام المجعول أعني الفعلية.

امّا مقام الإضافة إلى الجعل فيتحقق الحكم منوطا بفعلية شرائطه خارجا ، ومنها وجود الجاعل وانقداح الداعي له على الجعل وعند انتفائها لا يتحقق الجعل وإلّا لزم تحقق المعلول بدون وجود علّته من دون ان يكون للعلم والجهل دخل في ذلك.

وامّا شرائط المجعول والفعلية ، فهي راجعة إلى قيود الموضوع ، كما انّ قيود الموضوع ترجع إلى شرائط الحكم من غير فرق بين الإخبارات ، كقولك النار حارة فانه بمنزلة ان نقول: إذا وجد شيء وكان نارا فهو حار ، والإنشاءات كما في قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ)(١) ، فانها بمنزلة ان يقال : إذا استطاع المكلف يجب عليه الحج ، وعليه فمعنى قولهم يجوز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط انه يجوز الأمر مع العلم بانتفاء الموضوع.

فنقول : ان كان انتفاء الموضوع مسببا عن نفس جعل الحكم ، كما لو فرضنا انّ جعل القصاص أوجب سد باب الجناية والقتل وانّ جعل الكفارة للإفطار أوجب انتفاء موضوعه وهو الإفطار فلا ريب في جواز مثل ذاك الجعل بل لزومه ، كما يقع

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

ذلك في القوانين العرفية بل في القضايا الشخصية أيضا.

واما ان كان الموضوع منتفيا في نفسه مع قطع النّظر عن جعل الحكم ، كما لو قال إذا «طرت إلى السماء فتوضأ» وانّ الطيران إلى السماء في نفسه منتف فلا يجوز جعله ، لأنه لغو محض إلّا ان يكون صورة حكم بداعي الامتحان والاختبار ، كما لو قال المولى لعبده : «اشتر اللحم» مع علمه بانتفائه بداعي اخباره وانه يشتغل بمقدمات شرائه من المشي إلى السوق ونحوه أم لا.

وبالجملة فالصحيح في المقام هو التفصيل بان يقال : امّا شرائط الجعل فبانتفائها ينتفي الجعل ، سواء كان الجاعل عالما به أو لم يكن وامّا شرائط المجعول فيصح الجعل مع علم الآمر بانتفائها فيما إذا كان نفس الجعل سببا للانتفاء ، واما إذا لم يكن الانتفاء مستندا إليه فجعله لغو غير جائز إلّا إذا كان الجعل صوريا بداعي الامتحان ونحوه.

فصل : هل يتعلق الأمر بالطبيعي أم بالأفراد؟

وقع النزاع في انّ الأمر متعلق بالطبيعي أو بالأفراد. ونتعرض للثمرة المترتبة على ذلك في بحث الاجتماع الأمر والنهي أيضا ، وقد خالفوا في ذلك مع تسالمهم على امرين :

الأول : استحالة تعلق الطلب بإيجاد الموجود ، فانه من طلب الحاصل.

الثاني : استحالة تعلقه بالماهية من حيث هي ، فانها ليست إلّا هي وغير قابلة لأن تكون مطلوبة.

فيستنتج منهما بالضرورة انّ متعلق الطلب إيجاد الماهية في الطلب التكويني والتشريعي من غير فرق بينهما ، غايته انّ المطلوب في الأول فعل نفسه ، وفي الثاني فعل غيره ، وعلى هذا فلا وقع للنزاع المزبور أصلا.

فالصحيح انّ هذا النزاع مبني على أمور أخر :

أحدها : ان يكون مبنيا على المسألة المعروفة في الفلسفة من انّ الكلي الطبيعي موجود في ضمن حصصه وأفراده بان يكون الوجود الواحد وجودا للفرد والطبيعي ، بل لماهيات عديدة طولا إلى ان ينتهي إلى جنس الأجناس ، لصحة حمل الكلي على الفرد بالحمل الشائع ، وملاكه انما هو الاتحاد في الوجود ، أو انه غير موجود خارجا ، وانما الموجود أفراده ، ونسبة الطبيعي إليها نسبة الأمر الانتزاعي إلى منشأ انتزاعه.

فعلى الأول يكون متعلق الطلب نفس الطبيعي ، فانه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الأمر في طلب الطبيعي بعد إمكان تحققه خارجا ، فانّ المادة موضوعة

للطبيعي ، والهيئة تدل على الطلب امّا بالمطابقة وامّا بالالتزام على المختار من كونها موضوعة لإبراز اعتبار اللابدّية فانّ دلالتها على الطلب حينئذ تكون بالالتزام كما هو واضح.

وعلى الثاني لا بدّ من تعلقه بالأفراد ، لأنّ الطبيعي غير قابل للوجود غاية الأمر للاختصار علق الطلب بالطبيعي لكونه أخصر ، وعليه يكون التخيير بين الأفراد شرعيا ، وعلى الأول عقليا ، وكون النزاع مبنيا على هذا الخلاف مما لا بأس به.

ثانيها : ان يكون المبنى ما ذكره القوم من انّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فانهم ذكروا أيضا انّ الشيء ما لم يوجد لا يتشخص ، فمن ذهب إلى انّ الوجود انما يعرض التشخصات وانّ الشيء في الرتبة السابقة على عروض الوجود عليه لا بد وان يتشخص ثم يعرضه الوجود ، لا مناص له من القول بأنّ متعلق الطلب انما هو الأفراد ، ومن ذهب إلى عكس ذلك وانّ التعين ناشئ من الوجود يقول بتعلق الطلب بالطبيعي دون الفرد ، وقد ذكر هذا المبني المحقق النائيني قدس‌سره وجعل النزاع مبنيا عليه.

ونقول : لو أمكن النزاع في انّ الوجود يعرض التشخصات وانّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد لكان ما أفاده تاما ، إلّا انّ ذلك بديهي الفساد لا يحتمل ان يتوهمه أحد ، ولا مناص من ان يكون التشخص ناشئا من الوجود ، وذلك لأنّ ما يتصور أمور ثلاثة : الوجود والعدم بمفهومهما والماهية ، فتشخصه بالعدم غير معقول ، كما انّ تشخصه بضم ماهية أخرى إليه لا يوجب تعينه ، لأنّ تقيد الكلي بالكلي لا ينافي الكلية وان وجب تضييق دائرته إلّا انه لا يوجب التعيين كما هو واضح ، فلا بدّ وان يكون التشخص بالوجود.

وامّا الكلام المعروف من انّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، فليس المراد منه

عروض الوجود على التشخص ، بل المراد انّ الشيء ما لم يتعين في مرتبة علّته أي لم يتعين ان تكون العلّة علّة لهذا المعلوم بوجود الربط بينهما لا يوجد المعلول ، فانّ لكل موجود تعيّن في نفسه في نظام الوجود وتعيّن آخر له في مرتبة علّته ، وهذا هو المراد من التشخص في الكلام ، وعلى هذا فلا معنى لجعل مبنى النزاع المعروف الخلاف في انّ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، أو ما لم يوجد لم يتشخص.

ثالثها : ان يكون النزاع مبنيا على ما تقدم في بحث مقدمة الواجب من لزوم اتحاد المتلازمين وجودا في الحكم وعدمه. فعلى الأول يكون الطلب متعلقا بالأفراد ، وعلى الثاني بالطبيعي.

بيانه : انّا وان التزمنا بوجود الطبيعي في ضمن الحصص والأفراد إلّا انّ الكلي الطبيعي لا يوجد في الخارج إلّا معروضا لعوارض يعبر عنها بالمشخصات مسامحة في التعبير من الكم والكيف والشكل ونحوه ، وهي الخصوصيات الفردية ، فبناء على القول بلزوم اتحاد المتلازمين في الحكم لا محالة تكون تلك الخصوصيات واجبة أيضا غايته بوجوب آخر ثان ، ولو لم نقل بذلك ، وقلنا بأنه يعتبر عدم مخالفتهما في الحكم ، فلا وجه لتعلق الطلب بالخصوصيات الفردية. والظاهر انّ ابتناء النزاع على هذا أوجه وأنسب ، وبما بيناه ظهر مدرك القولين وما هو الصحيح منهما.

فصل : نسخ الوجوب

إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز بالمعنى الأعم؟

يقع الكلام تارة : في دلالة كل من دليل الحكم المنسوخ أو الناسخ على البقاء مستقلا ، وأخرى : في دلالتهما عليه منضما. ثم على تقدير عدم دلالة شيء منهما على ذلك هل يمكن إثباته بالاستصحاب أم لا؟

امّا دلالة دليل الحكم المنسوخ على بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب فهي واضحة الفساد ، فإنه غير متكفل لبيان حكم ما بعد ارتفاع مدلوله ، وكذلك دلالة الدليل الناسخ ، فانّ غاية مدلوله رفع الحكم السابق ، وليس ناظرا إلى إثبات حكم آخر أصلا.

وامّا هما معا بقرينية كل منهما على الآخر فغاية تقريب دلالتهما على ذلك ان يقال : انّ دليل الواجب بالمطابقة يدل على الالتزام وبالالتزام الأعم من التضمن يدل على رجحان متعلقه ، ويدل على الترخيص في فعله بمعنى عدم ثبوت استحقاق العقاب عليه ، ودليل الناسخ لا ينفي الدليل المنسوخ بجميع مدلولاته ، وإلّا لزم ثبوت الحرمة عند ارتفاع الوجوب ، بل يحتمل ان ينفي خصوص الإلزام ، كما يحتمل نفيه لأصل الرجحان أو للجواز أيضا فيؤخذ بالمقدار المتيقن وهو نفي اللزوم فيبقى الرجحان على حاله.

وفيه : أولا : انّ الأحكام ليست من الأمور المتأصلة ، لا من الجواهر ولا من الاعراض ، بل هي اعتبارات ، فالوجوب اعتبار اللابدّية وثبوت الفعل في ذمة المكلف ، والحرمة اعتبار حرمان المكلف ، والإباحة اعتبار الإطلاق والإرسال

للمكلف وهكذا ، وتكون اعتبارات متباينة ليس بعضها من مراتب بعض آخر ، كما يتصور ذلك في الموجودات المتأصلة ، مثلا البياض الشديد مرتبة من وجود البياض كما انه إذا ضعف أيضا يكون مرتبة ضعيفة لذاك البياض ، والجسم الضعيف يكون مرتبة من مراتب الجسم فإذا سمن أيضا يكون ذاك الوجود بعينه غايته مرتبة قوية منه ، وعلى هذا فإذا اعتبار الوجوب لشيء ونسخ لا يعقل القول ببقائه في مرتبة ضعيفة ليكون مستحبا ، لأنّ الاستحباب ليس من مراتب الوجوب بل هو اعتبار مباين له.

وثانيا : قد ذكرنا مرارا انّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا وبقاء ، فإذا فرضنا انتفاء الدلالة المطابقية وسقوطها تسقط الدلالة الالتزامية أيضا ، ولذا لو قال المولى «أكرم كل عالم» وورد في دليل «لا يجب إكرام زيد العالم» لم يحتمل أحد استحباب إكرامه بتخيل انّ العام بالالتزام أثبت رجحان إكرامه والمخصص انما رفع لزومه ، فاصل رجحانه باق على حاله ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ النسخ تخصيص من حيث الأزمان فلا يمكن القول ببقاء الرجحان بعد زمان نسخ الوجوب.

فتحصل انه لا يمكن استفادة بقاء الجواز أو الاستحباب في المقام من الدليلين لا مستقلا ولا منضما.

وامّا استصحاب الجواز فهو غير جار ، لأنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي ، فانّ الرجحان أو الجواز المتيقن في ضمن الوجوب قد ارتفع قطعا ، وشك في حدوثه في ضمن الاستحباب مقارنا لارتفاع الوجوب ، وبينا في محله عدم جريانه ، فلا بدّ من الرجوع لحكم ما بعد النسخ إلى الأدلة الاجتهادية ان كان وإلّا فإلى الأصل العملي من البراءة والاشتغال ، ولا ينبغي التعرض لهذا البحث أزيد مما ذكر.

فصل : في الوجوب التخييري

لا إشكال في إمكان الوجوب التخييري ووقوعه في الشرع والعرف. وحيث انّ الواجب هو ما لا يجوز تركه ويستحق العقاب عليه ، وقع الإشكال في الواجب التخييري في انه كيف يكون واجبا مع جواز تركه ولو إلى بدل؟! فكأنّ ذلك يكون من اجتماع النقيضين وقد ذكروا في تصويره وجوها :

أحدها : ما نسبه المعتزلة إلى الأشاعرة وبالعكس ، وتبرأ منه كلتا الطائفتين من انّ الواجب هو ما يختاره المكلف ويأتي به ، المعلوم عنده تعالى ولو كان مجهولا لغيره.

وفيه : أولا : انه لو عصى المكلف ولم يأت بشيء منها فما يكون الواجب حينئذ؟

وثانيا : انّ الواجب التخييري موجود في الأمور العرفية أيضا ، وأهل العرف لا يعلمون الغيب ، فمطلوبهم في الواقع أيّ شيء؟ مضافا إلى انّ الظاهر اشتراك المكلفين في الأحكام ، ولا فرق بينهم في ذلك.

ثانيها : انّ كلا منها واجب إلّا انّ وجوب جميعها يسقط بفعل واحد منها.

وفيه : انّ الإتيان بمتعلق كل امر لا يوجب إلّا سقوط امره دون الأمر المتعلق بغيره.

وفصل في الكفاية (١) بين ما إذا كان هناك غرض واحد للأمر قائم بكل من الأمور بحيث يحصل بإتيان كل منها ، فالامر حينئذ امر واحد متعلق بالجامع بينها ،

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٢٥.

فيكون التخيير عقليا ، وما إذا كان هناك غرضان أو أكثر كل منها مترتب على شيء غايته انّ المكلف غير متمكن من استيفاء الغرض الثاني والثالث بعد استيفاء الغرض الأول ، وعليه يكون هناك تكليفان غايته سنخ تكليف يسقط كل منهما بامتثال الآخر.

وبعبارة أخرى : ان كان هناك غرض واحد مترتب على كل من أطراف الواجب التخييري على البدل ، فحيث انّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، ويستحيل ان يؤثر امران متباينان بما هما متباينان في أثر واحد يستكشف انّ هناك جامع ذاتي بين تلك الأفعال وهو المأمور به ، وعليه يكون التخيير بينها تخييرا عقليا : وان كان هناك غرضان أو أكثر كل منها قائم بفعل منها غاية الأمر لا يتمكن المكلف من استيفائها لا لعجزه عن إتيان الفعلين أو الأفعال وتضادها ذاتا ، واتفاقا ليدخل في باب التزاحم ، بل لتضاد الغرضين والملاكين في نفسيهما ، وعلى هذا فيكون هناك وجوبان غايته سنخ وجوب يسقط كل منهما بفعل الآخر ، فإذا أتى المكلف بأحد الواجبين يسقط كلا الأمرين ، اما سقوط الأمر المتعلق به فلاستيفاء غرضه ، واما سقوط الأمر الآخر فلعدم التمكن من استيفاء ملاكه.

هذا وفيما أفاده بكلا شقيه نظر.

اما الشق الأول ففيه : أولا : انا قد ذكرنا في أول الكتاب انّ برهان الواحد لا يصدر إلّا من الواحد على فرض صحته فانما يتم في الواحد الشخصي ، فانه يستحيل صدوره من شخصين وإلّا لزم توارد علّتين على معلول واحد ، وإلى هذا يشير الشاعر بقوله :

وفي كل شيء له آية

تدل على انه واحد

واما الواحد بالنوع فلا مانع من صدوره من مقولات متباينة لا جامع بينها أصلا ، وذكرنا لذلك أمثلة ، فلا نعيدها ، والغرض في المقام من الأمر بإتيان النار أو

الفروة مثلا ليس واحدا شخصيا ، بل واحد بالنوع وهو الإدفاء مثلا ، فلا مانع من ان يؤثر كل من الأمرين في فرد من الغرض من دون ان يكون بين الأمرين جامع أصلا.

وثانيا : لو سلمنا ذلك فهذه التدقيقات انما تفيد في الأمور الفلسفية ، واما الأحكام الشرعية فلا بدّ وان تترتب على أمور يفهمها العرف ، والجامع بين الواجبات التخييرية المستكشف من وحدة الغرض ليس كذلك ، فلا معنى لإيجابه ، إذ الغرض من إيجاب الشيء انما هو انبعاث المكلف نحوه ، فإذا لم يمكن الانبعاث لعدم إمكان معرفته لا يكون إيجابه صحيحا.

والقول بأنّ النبي وأوصياءه عليهم‌السلام يبينون لنا ذلك ببيان مصاديقه سخيف جدا ، إذا الأفراد على هذا لا تكون واجبة ، فالقول بوجوبها تشريع محرم ، فكيف يبين الإمام عليه‌السلام وجوب ما ليس بواجب دون ما هو واجب؟!

واما الشق الثاني من كلامه فيرد عليه :

أولا : انّ التضاد بين الغرضين والملاكين مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعلين فرض ملحق بأنياب الأغوال (١) إذ لا وجه لعدم تمكن المكلف من استيفاء الملاكين بعد تمكنه من الإتيان بالفعلين.

وثانيا : لو سلمنا ذلك ، فهل يكون التضاد بين الغرضين في خصوص ما إذا أراد المكلف استيفائهما طولا ، بمعنى استحالة استيفاء الغرض الثاني إذا استوفى الغرض الأول وانّ التضاد بينهما ثابت حتى عرضا؟ وعلى الأول أي إذا أمكن استيفاء الملاكين دفعة واحدة لا وجه لتفويت المولى على المكلف أحد الملاكين ، بل لا بدّ له من إيجاب كلا الفعلين دفعيا ، وعلى الثاني إذا فرضنا انّ المكلف أتى بفردين

__________________

(١) أغوال جمع غول وهو : كل ما أخذ الإنسان من حيث لا يدري فأهلكه وتزعم العرب انه نوع من الشياطين تظهر للناس في الفلاة ـ المعجم الوسيط ٢ : ٦٦٧.

من الواجب التخييري في آن واحد بان أعتق الرقبة وأطعم ستين مسكينا دفعة واحدة ، فالغرضان لم يستوفهما على الفرض. والقول باستيفاء الغرض المترتب على عتق الرقبة دون المترتب على الإطعام ترجيح بلا مرجح ، وهكذا عكسه ، فلا بد من الالتزام بعدم استيفائه حينئذ لشيء من الغرضين ووجوب الإتيان بأحدهما عليه ، ولم يلتزم بذلك أحد.

وذكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره ما حاصله : انّ الإرادة التكوينية تفترق عن الإرادة التشريعية في انّ متعلق الإرادة التكوينية لا بدّ وان يكون هو الشخص المعين ولا معنى لتعلقها بأمر مردد ، وهذا بخلاف الإرادة التشريعية فانها متعلقة بالكلي ، فلا مانع من ان تتعلق بالمردد ، وكان يعبر قدس‌سره عن ذلك بواقع أحد الأمرين أو الأمور لا مفهومه.

ونقول : لا يمكننا المساعدة على ما أفاده بعد ما صرح به في ذيل كلامه ، فانّ الواقع المردد لا معنى له أصلا ، إذ المردد لا ذات له ولا ماهية ولا وجود. اللهم إلّا أن يرجع كلامه إلى الوجه الأول ، وهو كون الواجب ما يختاره المكلف خارجا ، وقد عرفت ما فيه.

وذكر بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سرهم ما حاصله : انّ الواجب كل من الطرفين أو الأطراف بالخصوص لاشتماله على المصلحة ، إلّا انّ الشارع إرفاقا يرفع اليد عن وجوب بقية الأطراف إذا أتى المكلف بأحدها.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني غير خفي ، فانّ في ذلك الوجه ذهب القائل إلى سقوط وجوب بقية الأطراف بإتيان طرف واحد ، ولذا أشكلنا عليه بأنّ إتيان الواجب لا يوجب سوى سقوط الأمر المتعلق به دون غيره ، واما في هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٨٣.

الوجه فالسقوط يكون بإسقاط المولى إرفاقا ، فلا يرد عليه ما أوردناه هناك ، إلّا انّه أيضا غير تام لوجهين :

الأول : انّ الواجب التخييري ليس منحصرا بالشارع ، لأنه موجود في العرف أيضا ، وإذا راجعناهم نرى انّ في الوجوب التخييري العرفي ليس للآمر امران ثم يسقط أحدهما بامتثال الآخر ، كما لو امر المولى عبده بإحضار أحد الأمرين من النار أو الفروة ، بل ليس له إلّا امر واحد.

والثاني : انّ لازم ذلك تعدد العقاب فيما لو عصى المكلف ولم يأت بشيء من الأطراف.

فالوجوه المتقدمة كلها غير تامة.

والصحيح ان يقال : انّ الواجب التخييري ثبوتا يمكن تصويره على وجهين.

أحدهما : ان تكون هناك مصلحة واحدة قائمة بكل من الأطراف على البدل.

ثانيهما : ان يكون في كل منها مصلحة مستقلة إلّا انهما معا ليستا بملزمتين ، فذات المصلحة موجودة في كل من الأطراف إلّا انها بصفة الإلزام غير موجودة إلّا في الجامع بينهما أعني أحدهما ، ولذا لا يمكن إلّا إيجاد الجامع.

وكل من الأمرين ممكن ثبوتا ، إلّا انّ مقام الإثبات انما يساعد الصورة الأولى دون الثانية ، وعليه فالواجب انما هو عنوان أحد الأمرين أو أمور الّذي هو كلي طبيعي انتزاعي نظير الكلي المتأصل وكل منهما قابل الانطباق على ما في الخارج.

هذا وربما يستشكل في ذلك من حيث انّ العنوان الانتزاعي الّذي لا وجود له كيف يتعلق به الطلب ويكون موردا لاعتبار اللابدّية؟!

والجواب عنه انا نرى بالوجدان انه قابل لأن يتعلق به الصفات النفسانيّة المتأصلة فكيف بالأمر الاعتبار. وأوضح مثال لذلك ما إذا علمنا إجمالا بنجاسة

أحد المائعين وكان كلاهما نجسا في الواقع ، فالمعلوم نجاسة أيّ منهما؟ أو علمنا بفسق أحد شخصين وكانا معا فاسقين ، فهل المعلوم فسق أحدهما معينا أو فسقهما معا أو فسق غيرهما؟ كل ذلك خلف ، فليس المعلوم إلّا عنوان أحدهما ، وهو عنوان قابل الانطباق على ما في الخارج ، وكما يصح ان يقال : هذا عباء مثلا يمكن ان يقال : مشيرا إليه هذا أحد مملوكات زيد من غير مسامحة ، وهكذا يمكن ان يتعلق الشوق بعنوان أحد الأمرين أو الأمور فنقول إنّي أشتقت أحد الطعامين ، وإذا أمكن تعلق الصفة النفسانيّة به فإمكان تعلق الأمر الاعتباري به يكون بطريق أولى ، فتأمل. فلا مانع من ان يأمر المولى بعنوان أحد الأمرين ويطلب نفس هذا العنوان الانتزاعي على ما له من الوجود الانتزاعي خارجا عنه.

وعلى هذا فالفرق بين التخيير العقلي والشرعي هو انّ الشارع تارة يعلق حكمه على الطبيعي ابتداء ، فيكون تطبيقه على افراده بيد المكلفين من غير اختصاصه بأحد دون أحد ، وهذا هو التخيير العقلي ، وأخرى يبين الشارع افراد متعلق حكمه وان كان كل منها كليا ، ثم العقل ينتزع جامعا عنوانيا بين تلك الافراد ، وهذا هو مورد التخيير الشرعي.

«التخيير بين الأقل والأكثر»

إذا عرفت حقيقة الواجب التخييري. فنقول : وقع الخلاف في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر ، فذهب بعض إلى إمكانه ، وجماعة إلى استحالته وانّ الزائد على الأقل اما يقع مستحبا ، وامّا يكون تشريعا محرما.

والتحقيق : انّ الأقل تارة : لا يكون موجودا في ضمن الأكثر ، بل يكون الأقل موجودا بوجود مغاير لوجود الأكثر كما في الطويل والقصير ، مثلا لو امر

المولى بإيجاد خط مستقيم وهو اقتصر خط يفرض بين نقطتين ، فشرع العبد في إيجاده ، فلما لم يرفع قلمه لا يوجد الخطّ المستقيم لاحتمال ان يميل قلمه ويجعله منحنيا أو مثلثا أو غير ذلك من الإشكال ، وإذا رفع القلم يكون ذلك خطا واحدا محدودا بحد خاص كشبر أو متر ونحوه ، وليس وجود الخطّ المستطيل بمقدار شبرين وجود خطين كل منهما بقدر شبر مثلا ، فانّ الاتصال مساوق للوحدة بالدقة العقلية وإلّا لزم وجود الجزء الّذي لا يتجزأ ، وهو محال ، وبنظر العرف أيضا ، بداهة انّ الحبل المستطيل لا يعد عرفا إلّا حبلا واحدا لا حبالا كثيرة.

ونظير ذلك ما إذا كانت القلة والكثرة من حيث الكم لا المساحة ، كما لو امر المولى عبده بان يتصدق درهما أو عشرة دراهم دفعة واحدة لا تدريجا ، فانه لو اختار الثاني لا يكون تلك العشرة مشتملة على درهم واحد وزائد ، وهذه الصورة في الحقيقة خارجة عن التخيير بين الأقل والأكثر ويكون من قبيل المتباينين.

وأخرى : يكون الأقل موجودا في ضمن الأكثر ، وهذا ينقسم إلى قسمين ، فإنّ الأقل الموجود في ضمن الأكثر ربما يكون مأخوذا بشرط لا عن الزائد في متعلق الأمر ، وربما يكون لا بشرط بالإضافة إليه.

مثال الأول التخيير بين القصر والتمام في مواضع التخيير ، فانّ ركعتين وان كانتا موجودتين في ضمن أربع ركعات وهي مشتملة عليهما ، إلّا انهما مأخوذتان بشرط لا عن الزيادة ، ولذا لو صلى المكلف ثلاث ركعات لم يأت بالواجب بحده وان أتى بذات الركعتين في ضمن الثلاث ، فمرجع هذا أيضا إلى المتباينين وان كانت الصورة صورة الأقل والأكثر ، فلا مانع من التخيير في مثاله أيضا.

واما القسم الثاني ، كالتخيير في ذكر الركوع والسجود بين الواحد والأكثر ، وفي مثل ذلك يستحيل التخيير ، لأنه بعد ما أتى المكلف بالأقل فقد أتى بالواجب إذ المفروض انه لم يكن محدودا ، بل كان حده اللابشرطية فيسقط الوجوب لا محالة ،

فكيف يمكن ان يقع بقية الوجودات أيضا مصاديقا للواجب ، فلا بد من الالتزام في نظائر ذلك باستحباب المقدار الزائد لا محالة ، ولا يجري منها ما ذكره في الكفاية من إمكان التخيير بين الأقل والأكثر أصلا.

فصل : في الواجب الكفائي

قد ذكرنا غير مرّة انّ غرض المولى ربما يكون متعلقا بالطبيعي ، سواء كان كليا متأصلا أو كليا منتزعا بنحو صرف الوجود ، فتكون جميع الخصوصيات الفردية خارجة عن حيز طلبه وهكذا امره ، وربما يكون متعلق غرضه وامره الطبيعي بقسميه بنحو مطلق الوجود أي السريان ، مثلا يقول : «أكرم كل عالم» أو «أضف كل جيراني» وهكذا. وهذان القسمان كما يمكن تصويرهما بالإضافة إلى متعلق التكليف كذلك يتصوران بالقياس إلى المكلفين ، فقد يكون الغرض قائما بصدور الفعل من طبيعي المكلفين بنحو صرف وجودهم ، فتكون خصوصيات المكلفين كلها ملغاة في نظره ، ولا يكون لشيء منها دخل في امره أصلا ، وقد يكون غرضه صدوره من جميع المكلفين أي كل واحد منهم.

وبعبارة أخرى : ربما يكون الغرض حصول الفعل خارجا من طبيعي المكلف ، ويعبر عنه بالمعنى الاسم المصدري ، فليس للمولى غرض إلى خصوصية الفاعل من كونه زيدا أو عمرو أصلا ، وربما يكون الغرض صدور الفعل من كل مكلف أو من اشخاص معينين منهم.

والواجب على الأول هو الواجب الكفائي ، وعلى النحو الثاني يسمى بالعيني ، وحيث انّ المكلف في الأول هو طبيعي الإنسان البالغ العاقل الواجد لشرائط التكليف فإذا عصى جميع الافراد ولم يأت بالواجب أحد منهم يكون كلهم معاقبين ، لأنّ جميعهم كانوا مصداقا للطبيعي وكان الطبيعي منطبقا على كل واحد منهم ، كما انهم لو امتثلوا جميعا دفعة واحدة كلهم يثابون ، وإذا أتى بالواجب بعضهم دون بعض يثاب الممتثل لا بما انه شخص ، بل بما انه مصداق لطبيعي المكلف الممتثل

للأمر ، ولا يثاب غيره من افراد الطبيعي لعدم وجود المقتضي للثواب فيهم ، وهذا كله واضح.

ثم انّ بعضهم ارجع الوجوب الكفائي إلى الوجوب العيني المشروط ، وذهب إلى انّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى كل واحد من المكلفين مشروطا بعدم إتيان غيره بالواجب.

وكأنّ الميرزا قدس‌سره ارتضاه ثبوتا وإمكانا ، حيث لم يستشكل عليه إلّا من ناحية الإثبات ، وانه لا وجه لتعدد الإيجاب مع وحدة الغرض.

ونقول : ان كان متعلق التكليف مما يستحيل ان يوجده إلّا واحد من المكلفين ، كما لو فرضنا انّ غرض المولى تعلق بان لا تبقى اللقمة من الخبز في الخارج وان تؤكل فيأمر كلا من عبيده بأكله مشروطا بعدم أكل غيره له ، فلا مانع منه ثبوتا ، بل المانع منحصر بالمانع الإثباتي ومن حيث انّ وحدة الغرض لا يقتضي تعدد الإيجاب.

واما ان كان الواجب مما يمكن ان يوجده جمع من المكلفين دفعة واحدة ، كالصلاة على الميت ، فلا يمكن ان يؤمر كل منهم بإيجاده مشروطا بترك غيره ثبوتا أيضا ، وذلك لأنه ما المراد من الشرط أعني به ترك غيره؟

ان أريد به الترك آناً ما أي بمقدار يسع الوقت للإتيان به فلازمه ان يكون الواجب فعليا بالإضافة إلى عامة المكلفين فيما إذا مضى زمان يمكن فيه الإتيان بالواجب ولم يأت به أحد ، لحصول شرطه بالقياس إليهم أجمعين ، فلا يسقط الوجوب بعد ذلك عن الجميع بفعل البعض ، وهذا لا يلتزم به.

وان أريد بالترك الترك في مجموع الوقت بان يكون الترك في كل آن شرطا لوجوب الفعل في ذلك الآن ، نظير ما ذكرناه في الترتب واشتراط الأمر بالمهم بعصيان الأهم ، وعليه لو فرضنا انّ جماعة من المكلفين تقارن شروعهم في الإتيان

بالواجب ، وفرغوا عنه في آن واحد لازم ذلك ان لا يقع فعلهم مصداقا للواجب الفعلي أصلا ، لعدم تحقق شرط الوجوب بالإضافة إليهم فيجب إعادته.

اللهم إلّا ان يقال : انّ الشرط هو عدم سبق الغير بالشروع لا الترك ، ومن الواضح انّ هذا تمحل لا وجه له أصلا.

ثم انه ذكر في المقام فرع لا بأس ببيانه : وهو : انه لو كان هناك محدثان أو متيممان فوجدا في أثناء الوقت مثلا ماء بمقدار لا يفي إلّا لوضوء أحدهما لا كليهما ، فان كان الماء مباحا لأحدهما دون الآخر فلا إشكال في انتقاض تيممه بذلك لو كان متيمما ووجوب الطهارة المائية عليه دون صاحبه.

وامّا لو فرضنا إباحة الماء لكل منهما ، فهل يجب الوضوء عليهما معا وجوبا مطلقا ، أو على خصوص أحدهما ، أو لا يجب على شيء منهما ، أو يجب على كل منهما مشروطا باستيلائه على الماء؟

الصحيح : هو الأخير ، فانّ هذا الفرع يكون نظير باب التزاحم ، غايته في الإتيان الخارجي لا في حكمين ، وعليه فحيث انّ طلب الماء واجب ووجوبه مطلق يجب على كل منهما السعي لأن يحصل الماء ، فإذا استولى عليه أحدهما يكون وجوب الوضوء أو الغسل بالإضافة إليه فعليا دون الآخر ، وإذا استوليا معا عليه وكان من المباحات الأصلية لا يكون الوجوب فعليا بالإضافة إلى أحد منهما لحصول الشركة ، كما انه لو تنازعا في الطلب إلى ان ضاق الوقت يسقط وجوب الطهارة المائية عنهما معا. وامّا وجوب الوضوء أو الغسل فهو متوجه إلى كل منهما غايته مشروطا كما عرفت. هذا في الحكم التكليفي.

وامّا من حيث الحكم الوضعي ، فهل ينتقض في الفرض تيمم كل منهما ، لأنّ وجدان الماء من نواقضه على ما صرح به في الروايات أو لا ينتقض تيممهما أصلا؟ بعد وضوح انه لا معنى للحكم بانتقاض كل من التيممين مشروطا.

فنقول : ذهب الميرزا قدس‌سره إلى القول بانتقاض تيممهما معا وان لم يكن المكلف بالطهارة المائية فعلا إلّا أحدهما.

إلّا انّ الصحيح : ثبوت الملازمة بين الحكمين ، ففي كل مورد ثبت الحكم التكليفي الفعلي بالوضوء ينتقض التيمم أيضا ، وإلّا فلا لاتحاد موضوعهما ، فانّ الوجدان مأخوذ في كل من انتقاض التيمم ومن وجوب الوضوء بمقتضى التفصيل الّذي هو قاطع للشركة.

وعليه فلا بدّ ان يفصل بين ما إذا لم يكن كل منهما مانعا عن الآخر في تصرفه في ذلك الماء ، ولم يكن بينهما ممانعة أصلا ، فيحكم حينئذ بانتقاض تيمم كليهما ، ووجوب الوضوء على كل منهما تكليفا ، وذلك لتمكن كل منهما في نفسه على استعمال ذلك الماء ، وكفايته لوضوئه ، وعدم وجود مزاحم على الفرض ، فلو فرضنا حينئذ انهما لم يتوضأ إلى ان فقدا الماء يجب التيمم على كل منهما ، لانتقاض تيممهما السابق.

وامّا لو كان بينهما تزاحم وتمانع فيقع التزاحم بين طلبيهما لا محالة ، فكل من استولى على الماء وحازه قبل صاحبه يكون واجدا للماء ومتمكنا منه ، فينتقض تيممه وتجب عليه الطهارة المائية من الغسل أو الوضوء ، وامّا الآخر الّذي لم يقدر على حيازة الماء فيستكشف عدم كونه واجدا. للماء ومتمكنا منه من الأول ، فلا ينتقض تيممه ، كما لا يكلف بالوضوء أيضا.

وبالجملة مدعانا ثبوت الملازمة بين انتقاض التيمم من جهة وجدان الماء وبين وجوب الطهارة المائية ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

هذا كله في الوجوب الكفائي.

فصل : في بيان الواجب الموسع والمضيق

يقسم الواجب إلى موقت ، إذ يمكن ان يقيد الواجب بالزمان كما يقيد بالمكان كأفعال الحج ، وغير موقت.

وكل منهما ينقسم إلى قسمين.

امّا الغير المؤقت أي ما لم يعين له في الشرع وقت ولم يقيد به ، فتارة يكون فوريا كأداء الدين المطالب ، وأخرى لا يكون فوريا كقضاء الفوائت وصلاة الزلزلة على قول.

واما المؤقت فقد يكون مضيقا بمعنى انّ الوقت المعين له لا يكون أطول من ظرف وقوعه خارجا كالصوم ، فانّ وقت وجوبه من طلوع الفجر إلى الغروب وظرف العمل أيضا ذلك من دون زيادة ، وقد يكون موسعا كالصلوات اليومية ، فانّ ما يحتاج إليه كل منها من الزمان أقصر من زمان الإتيان به بكثير ، بل زمان فضيلة كل منها أيضا أطول من زمان فعله كما هو واضح.

وهذه الأقسام الأربعة بأجمعها واقعة في الشرع والعرف ، إلّا انه قد استشكل في تصوير كل من الواجب المضيق والموسع.

امّا في المضيق ، فبأنّ فعلية البعث لا بدّ وان تكون سابقة على الانبعاث ، لأنه انما يكون بعد وصول البعث إلى المكلف وتصوره إياه ولعاقبة عصيانه وامتثاله ، ثم بعد ذلك ينقدح في نفسه الداعي على الامتثال ، فلا مناص من وجود البعث الفعلي سابقا على زمان العمل ولو بهذا المقدار ، فكيف يعقل ان لا يزيد الوقت في المضيق على زمان الإتيان بالعمل.

والجواب عنه يظهر مما قدمناه في الترتب ، فانّ تأخر الانبعاث عن البعث كما عرفت ليس تأخرا زمانيا ، بل هو تأخر رتبي ، فاذن لا مانع من ثبوت الأمر الفعلي في الآن الأول من الوقت وفي نفس ذلك الآن يتحقق الانبعاث أيضا من دون فصل زماني بينهما.

نعم لا كلام لنا في علم المكلف بالأمر وانه لا بدّ وان يكون عالما بالتكليف وكونه فعليا في الزمان الخاصّ. كما انّ الكلام ليس في الإنشاء ولزوم كونه قبل مجيء الوقت كما في وجوب الصوم الّذي هو منشأ قبل الف سنة وأكثر ، بل كلامنا في خصوص فعلية البعث ، ونريد أن نقول : انّ الفعلية لا يلزم ان تتحقق قبل زمان العمل كما عرفت.

وامّا الموسع ، فربما يستشكل فيه بما استشكل به في الواجب التخييري من انه كيف يعقل انّ إتيان الفعل في زمان واجبا ومع ذلك يجوز تركه ولو إلى بدل ، وقد عممنا هذا الإشكال إلى التخيير بين الافراد العرضية أيضا كالتخيير بين افراد الطبيعي كالإتيان بالصلاة في الدار أو السجن أو المسجد ونحوه ، فكيف يعقل ان يكون كل منها واجبا ويجوز تركه؟!

والجواب عنه أيضا تقدم وهو : انّ الواجب انما هو الجهة الجامعة المشتركة بين الافراد الطولية أو العرضية ، ومن الواضح عدم جواز تركه ، فلا إشكال في الواجب الموسع ولا المضيق.

بقي الكلام في فروع :

الأول : انّ الواجب الموسع هل هو من قبيل تعدد المطلوب ، بحيث يدل دليله على لزوم الإتيان به بعد الوقت إذا لم يؤت به في الوقت ، ومن صغرياته تبعية القضاء للأداء ، أو انه يكون بأمر جديد؟

فصّل صاحب الكفاية (١) بين ما إذا كان تقييد الواجب بالوقت بدليل متصل ، فلا دلالة له على وجوب العمل بعد مضي وقته ، وما إذا كان التقييد بقرينة منفصلة.

وأورد عليه الميرزا قدس‌سره بما حاصله (٢) : انه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فانّ كلا منهما تدل على انّ مراد المولى كان مقيدا من أول الأمر ، فلا فرق في النتيجة بين ان يقول المولى «صل في الوقت» أو يقول : «صل» ثم يقول : «ائت بها في الوقت» كما لا فرق من هذه الجهة بين الصورتين في غير الزمان من أنحاء القيود ، فعلى ما ذكره يلزمه الالتزام بهذا التفصيل في بقية المقيدات أيضا.

هذا ونقول : الظاهر انّ مراد الآخوند قدس‌سره ليس ما استظهره قدس‌سره ، بل هو امر دقيق صحيح جار في جميع المقيدات المنفصلة ، وهو انه إذا ثبت وجوب شيء ثم دل دليل مقيد لذلك الواجب ، فتارة : يكون لكل من الدليلين إطلاق لحال تعذر ذلك القيد وعدمه ، وأخرى : لا يكون لشيء منهما إطلاق ، وثالثة : يكون لأحدهما إطلاق دون الآخر ، فالصور أربع.

امّا ان كان للدليل المقيد إطلاق كما في قوله «صل عن طهارة» أو «لا صلاة إلّا بطهور» فإنّ إطلاقه يعم صورة تعذره وعدمه ، من غير فرق بينهما ، ولا وجه لما ذكره المحقق القمي قدس‌سره من انّ المقيد إذا كان بصيغة الأمر لا يتم له إطلاق ، ولا يعم صورة عجز المكلف ، إذ يستحيل تكليف العاجز ، وذلك لما ذكرناه في محله من انّ هذه الأوامر ليست تكليفية ، وانما هي إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية.

وبالجملة إذا كان للمقيد إطلاق يؤخذ به من غير فرق بين ما إذا كان لدليل الواجب أيضا إطلاق أم لم يكن ، فانّ إطلاق المقيد يتقدم على إطلاق المطلق فيثبت القيدية المطلقة ، ولازمه ان لا يبقى امر بالواجب عند تعذر ذلك القيد.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ ج ١ ـ ص ٢٣٠ (ط قديم).

(٢) أجود التقريرات ـ ج ١ ـ ص ١٩١.

وامّا إذا لم يكن للدليل المقيد إطلاق كما في دليل اعتبار الطمأنينة في الصلاة الّذي هو الإجماع ، فان كان لدليل الواجب إطلاق يؤخذ به ، فيثبت به وجوب العمل عند تعذر القيد أيضا ، فيجب الصلاة بغير طمأنينة إذا تعذرت الطمأنينة. وهذا المعنى هو الّذي طبقه الآخوند على تقييد الواجب بالزمان ، ففي هذه الصورة يستفاد وجوب العمل بعد الوقت من نفس إطلاق دليل الواجب ، إلّا انّ تسميته حينئذ بالقضاء غير خالية عن المسامحة ، ومن الواضح عدم جريان ذلك في التقييد بالقرينة المتصلة.

ثم انه إذا شككنا في وجوب القضاء لشبهة حكمية ، فان كان لدليل الواجب إطلاق يثبت به وجوب الإتيان به في خارج الوقت فهو ، وإلّا فان ثبت ذلك بدليل اجتهادي كما ورد النص على وجوب قضاء الصوم المعين المنذور يؤخذ به ، وإلا فهل يمكن إثبات وجوبه بعد الوقت بالاستصحاب أم لا؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ الشاك في البقاء تارة : يعلم بأنّ الواجب في الوقت كان بنحو وحدة المطلوب إلّا انه يحتمل حدوث تكليف آخر بعد سقوطه ، وأخرى : يحتمل ان يكون نفس التكليف الأول باقيا لاحتمال كونه من قبيل تعدد المطلوب. واما الاستصحاب على الأول فهو من الكلي القسم الثالث ، وهو غير جار على ما بين في محله ، وامّا على الأول فحيث لم يحرز فيه اتحاد القضية المتيقنة مع المشكوكة ، لأنّ المستصحب متحد مع المتيقن لو كان الواجب في الوقت بنحو تعدد المطلوب ، واما لو كان بنحو وحدة المطلوب فهو أمر حادث مغاير له ولا يجري الاستصحاب ما لم يحرز الاتحاد.

وهذا نظير ما لو علم وجوب إكرام زيد ولكن شككنا في انّ وجوبه هل هو من قبيل تعدد المطلوب بان يكون الواجب إكرام العالم من دون دخل لخصوصية الزيدية فيه ، غايته انّ إكرام خصوص زيد بما هو زيد واجب آخر ، فإذا تعذر

إكرامه هل يمكن ان يتوهم أحد جريان استصحاب وجوب إكرام العالم؟! كلا.

وبالجملة فالاستصحاب لا يجري على التقديرين ، فالمرجع هو البراءة.

وامّا لو شككنا في وجوب القضاء لشبهة موضوعية بعد العلم به من حيث الشبهة الحكمية بان لم نعلم اننا أتينا بالواجب في الوقت أم لم نأت به ، فهل يمكن إثبات وجوب القضاء باستصحاب عدم الإتيان في الوقت مع قطع النّظر عن قاعدة الحيلولة أم لا يمكن؟

الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ وجوب القضاء انما هو مترتب على عنوان الفوت ، وهو أمر وجودي ملازم للترك وعدم الإتيان بالعمل في الوقت لا نفسه ، ويعبر عنه في الفارسي (با زكية رفتن) فيقال تركت السرعة ففاتني البحث مثلا ، فيترتب الفوت على الترك ، وعلى تقدير كونه عدميا فهو من قبيل عدم الملكة بخلاف الترك فتأمل.

ويشهد لتغايرهما انّ الترك حاصل من أول الوقت ولا يصدق عنوان الفوت ، وهكذا في أثناء الوقت إلى ان يبقى من الوقت مقدار لا يسع الإتيان بالعمل خارجا ، وعلى هذا فاستصحاب عدم الإتيان بالواجب في الوقت لا يثبت عنوان الفوت ، فانه مثبت. ولو شككنا في ذلك ولم نعلم انّ الفوت عين الترك وعدم الفعل في الوقت أو انه لازمه لا يجري الاستصحاب أيضا ، وذلك لاختصاص دليل حجية الاستصحاب كقوله عليه‌السلام «لا ينقض اليقين بالشك» بما إذا كان المتيقن ذا أثر شرعي ، وإلّا فالاستصحاب غير جار ، فلا بدّ من إحراز ذلك في اجزائه ، وإلّا فالتمسك به يكون من قبيل التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وفي المقام لم نحرز ذلك ، إذ نحتمل ان لا يكون موضوع الحكم أعني الفوت متحدا مع المستصحب ، بل يكون في فرض اتصال القرينة والمخصص لا انفصاله كما هو واضح.

فتحصل : عدم إمكان إثبات وجوب الإتيان بالموقت في خارج الوقت بالاستصحاب لا في الشبهة الحكمية ولا الموضوعية. هذا كله في الموسع.

فصل : هل الأمر بالأمر أمر أم لا؟

يتصور ذلك على أنحاء ثلاثة : فإنّ غرض الآمر تارة : مترتب على مجرد أمر الواسطة ويكون لأمره موضوعية في نظر المولى ، وأخرى : يكون أمره طريقيا محضا وواسطة للإيصال ، وثالثة : يكون وسطا بين القسمين بان يكون المطلوب حصول المأمور به في الخارج لكن لا تعينه ، بل بما أمر به الواسطة ، كما يتفق ذلك في الملوك وأبنائهم ، فيأمر الملك ابنه بان يأمر العسكر بالحركة إلى جانب خاص ، ويكون غرضه ان يأتمر العسكر بامره ويتحركون إلى تلك الجهة بعد أمره ليظهر عندهم آمريته وعظمته.

امّا في القسم الأول ، فليس الأمر أمرا بالعمل أصلا ، لعدم تعلق الغرض به ، فلا يجب الإتيان به على الفاعل ، سواء أمره الواسطة أم لم يأمر فيما إذا لم تكن الواسطة بنفسها واجب الإطاعة ، بل كان شخصا عاديا. كما لا إشكال في لزوم العمل على الفاعل في القسم الثاني ولو لم يأمره الواسطة ، بل علم بغرض المولى من طريق آخر. واما في القسم الثالث فيفصل بين ما إذا أمر الواسطة فيجب ، وإلّا فلا ، لأنّ الغرض لم يكن مترتبا على ذات العمل ، وانما كان مترتبا عليه بما أمر به الواسطة ، فلو لم يأمر لا يكون ذا مصلحة أصلا. هذا كله في الأقسام المتصورة.

إلّا انّ ظاهر الأمر بالأمر بحسب الفهم العرفي هو الثاني ، أعني الطريقية المحضة ، ولذا لو أمر المولى ابنه وقال : «مر الخادم بان يشتري اللحم» ولم يفعل الولد ولكن الخادم بنفسه سمع صوت المولى ومع ذلك لم يفعل يعد معاقبا عند العقلاء ، وليس له ان يتعذر بأنّ الابن لم يأمرني بذلك ، وهذا واضح.

ويترتب على هذا البحث ثمر مهم في مسألة مشروعية عبادات الصبي وكونها تمرينية محضة ، التي هي معركة الآراء ، إذ ليس عليها دليل سوى ما ورد في الاخبار من خطاب أولياء الأطفال بان يأمروا صبيانهم بالصلاة والصيام ، وتظهر الثمرة فيما إذا حال بين المأموم والإمام صبيانهم ولكنهم كانوا مؤتمين أيضا ، وفيما إذا انحصر المأموم بطفل مميز وشك الإمام وحفظ الطفل ، فهل يرجع الإمام إليه أم لا؟ إلى غير ذلك ، وكلها مبتنية على مشروعية عبادة الصبي المبتنية على هذا البحث ، وقد عرفت ما هو الصحيح فيه.

فصل : الأمر بالشيء بعد الأمر به

الأمر بالشيء بعد الأمر به يتصور على وجوه ، فإنه تارة : يكون كل منهما معلقا على سبب مغاير لما علق عليه الآخر ، مثلا يقول المولى : «ان ظاهرت فأعتق رقبة» ثم يقول : «ان أفطرت صوم شهر رمضان متعمدا فأعتق رقبة» ولا إشكال في هذا القسم في تعدد التكليف ، وانّ هناك خطابان : أحدهما مترتب على الظهار ، والآخر مسبب عن الإفطار ، فإذا فعلهما المكلف يكون الاكتفاء بعتق واحد وعدمه مبنيا على القول بتداخل الأسباب وعدمه ، وهذا خارج عن محل الكلام ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله في مفهوم الشرط.

فيبقى قسمان آخران وهما مورد البحث.

أحدهما : ما إذا اتحد السبب ، أي علق كل من الأمرين على سبب واحد.

ثانيهما : ما إذا لم يذكر المسبب أصلا ، كما لو قال : «أعط لزيد درهم» ثم قال ثانيا : «أعط لزيد درهما» فهل يكون الظاهر منهما تعدد التكليف أو يكون الثاني تأكيدا للأمر الأول؟

فنقول : ظاهر الأمر وان كان هو التأسيس ، والتأكيد في نفسه خلاف الأصل ، إلّا انّ ذلك انما يكون فيما إذا لم يكن الأمر مسبوقا بأمر آخر ، وإلّا فالتحفظ على إطلاق مادته يقتضي الالتزام بالتأكيد دون التأسيس ، وذلك لأنّ الطبيعي الواحد لا يعقل تعلق الأمرين به تأسيسا ، فلا بدّ من تقييد إطلاق مادة الأمر الثاني بعنوان كعنوان الآخر مثلا ، ففي مثال الأمر الثاني بالإعطاء لا بدّ وأن يقيد «أعط لزيد درهما» بعنوان الآخر ، فيكون المراد أعطه درهما آخر ، وهو خلاف الظاهر.

مبحث النواهي

معنى النهي ودلالاته.

اجتماع الأمر والنهي.

دلالة النهي على الفساد.

النواهي

ذكروا انّ النهي هو طلب ترك الفعل ، وذكر بعض آخر انه بمعنى الكف عن الفعل ، وهو أمر وجودي بتخيل انّ الترك وعدم الفعل خارج عن قدرة المكلف ، فانه أزلي ، فيستحيل تعلق الطلب به. إلّا انه غير صحيح ، فانّ العدم الأزلي وان لم يكن مقدورا للمكلف ولذا كان متحققا قبل وجوده إلّا انّ إبقاء العدم واستمراره أمر مقدور له ، وإلّا لما كان الفعل أيضا مقدورا ، فانّ المقدور ما كان طرفاه تحت قدرة المكلف وإلّا لكان الفعل ضروريا كما في المعالم ، وهذا ظاهر.

إلّا انّ الصحيح : انّ النهي كالزجر متعلقه نفس الفعل ، لا الترك ولا الكف ، غايته انّ الأمر هو البعث نحو الفعل لمصلحة فيه تكون هي الباعث للمولى ، والنهي زجر عنه لمفسدة فيه تكون هي الزاجر ، ففي الأمر يعتبر المولى لا بدّية الفعل على ذمة المكلف ، وفي النهي يعتبر حرمانه عن الفعل ، نظير البعث والزجر الخارجين.

نعم قد يستعمل النهي في موارد محبوبية الترك واشتماله على المصلحة ، كما في تروك الإحرام وترك المفطرات في الصوم ، إلّا انّ إطلاق النهي فيها مسامحة ، ولذا قد ذكر الأصحاب تروك الإحرام في الواجبات دون المحرمات ، وهذا يكون كإطلاق المبغوضية على ترك الواجبات.

ثم طلب الترك يتصور على أقسام ثلاثة : لأنه تارة يكون من قبيل العام الاستغراقي بان يكون كل فرد من أفراد الترك واجبا مستقلا ، له إطاعة وعصيان مستقل.

وأخرى : يكون الترك مطلوبا بنحو العام المجموعي الّذي نعبر عنه بخلو صفحة

الوجود ، مثلا لو أراد المولى أن ينام فقال : «لا يدخل عليّ أحد» يكون مقصوده ترك الدخول بنحو العام المجموعي وخلو الدار عنهم.

وثالثة : يكون متعلق الغرض عنوان بسيط منتزع من التروك.

ويختلف الحال في هذه الأقسام من حيث جريان البراءة والاشتغال فيما إذا شك فيها لشبهة موضوعية ، مثلا ورد في باب الصلاة «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه» (١) فلو شككنا في لباس انه من غير المأكول فلو كان المطلوب ترك لبس كل فرد من أفراد غير المأكول بنحو العموم الاستغراقي تجري البراءة عن حرمة المشكوك لا محالة ، لأنه من الشك في الأقل والأكثر الغير الارتباطي في الشبهة الموضوعية الوجوبية التي لم يخالف في جريان البراءة فيها الأخباريون أيضا.

وامّا لو كان بنحو العام المجموعي فيكون من الأقل والأكثر الارتباطي ، فمن يقول بالبراءة هناك يقول به في المقام ، ومن يقول بالاشتغال فكذلك.

وامّا على الثالث أي لو كان المطلوب عنوانا بسيطا متحصلا من التروك فلا ينبغي الريب في جريان قاعدة الاشتغال ، لأنه من الشك في المحصل.

ثم انك بعد ما عرفت من انّ التكليف في كل من الأمر والنهي انما هو الفعل ، غايته في باب الأوامر يبعث نحو الفعل ، وفي باب النواهي يزجر عن الفعل اعتبارا كالبعث والزجر الخارجيين وانّ طلب الترك ليس نهيا يقع الكلام في أمور.

الأمر الأول : انا قد ذكرنا مرارا انّ الطبيعة المهملة المعبر عنها باللابشرط القسمي يستحيل تعلق التكليف بها ، بل لا بدّ وان يكون متعلق الأمر أو النهي هو اللابشرط القسمي أي الطبيعة المطلقة السارية في جميع الأفراد ، أو المقيدة بقيد خاص ، فانّ الإهمال غير معقول. وعلى هذا فمتعلق كل من الأمر أو النهي يكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ ـ ٢٥٠ الباب الثاني من أبواب لباس المصلي.

الطبيعة المطلقة أعني السارية ، فما هو السر في انّ امتثال البعث يتحقق بصرف وجود الطبيعي أي بأول وجوده ، وفي النواهي لا يتحقق الانزجار إلّا بترك جميع أفراد الطبيعي مع انّ المتعلق في كليهما هو الطبيعي بنحو السريان في الأفراد؟

والجواب المعروف عن هذا هو : انّ وجود الطبيعي يتحقق بأول وجود منه بخلاف عدم الطبيعة فانه لا يكون إلّا بترك جميع أفرادها.

وهذا الجواب غير تام عندنا ، وذلك لأنّ متعلق التكليف في كل من الأمر والنهي انما هو الطبيعة السارية لا المهملة ، ومن الواضح انها لا توجد في ضمن وجود فرد واحد من أفرادها ، بل كل حصة منها موجودة في ضمن فرد ، فإذا أوجد المكلف بعض أفرادها دون بعض يصدق انّ حصة منها موجودة ، والحصة الأخرى منها معدومة من غير فرق في ذلك بين كون الطبيعة متعلقة للأمر وكونها متعلقة للنهي.

وليعلم أولا ـ انّ محل كلامنا انما هو متعلق التكليف لا موضوعه ، فانّ الوجوب أيضا قد يكون انحلاليا بحسب أفراد موضوعه كما في قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) فانّ ظاهره وجوب الوفاء بكل عقد لا بصرف وجود العقد ، بل مورد البحث هو المتعلق كالضرب والإكرام ونحوه ، مثلا لو قال المولى «اضرب زيدا» يمتثل بضرب واحد ، ولو قال : «لا تضرب زيدا» لا يتحقق الانزجار إلّا بترك كل ما يفرض للضرب من الأفراد مع انّ متعلق التكليف هو طبيعي الضرب بنحو السريان في كلا الموردين ، فما هو الفارق؟

والجواب الصحيح عن ذلك هو انّ الباعث على الأمر انما هو وجود المصلحة في المتعلق أو وجود غرض للمولى فيه يكون باعثا وداعيا له على ان يأمر ، وهو

__________________

(١) المائدة : ٢.

بحسب الغالب متعلق بصرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجود ، وتطبيقه على الأفراد يكون بيد المكلف ، وقد يتفق نادرا تعلق غرضه بمطلق وجود الطبيعي إلّا انه لا بدّ من التنبيه عليه بان يقول : «اضرب زيدا مرتين أو أكثر» وإلّا فنفس الغلبة تكون قرينة لظهور الأمر في القسم الأول.

وامّا الداعي للمولى على الزجر فانما هو وجود المفسدة في الطبيعي ، وبحسب الغالب تكون المفسدة أو ما ينافر طبع المولى الموجب لنهيه متحققا في كل فرد من أفراد الطبيعة ، وربما يتفق نادرا كون المفسدة في صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول وجودها ، كما في المثال المتقدم أعني ما إذا أراد المولى ان ينام ونهى عن الدخول عليه ، فإنّ المنافر لطبعه حينئذ أول وجود الدخول لا مطلقه ، إلّا انّ ذلك يحتاج إلى قرينة ، وإلّا فنفس الغلبة توجب ظهور النهي في القسم الأول.

وبالجملة فالفرق بين الأوامر والنواهي من حيث تحقق امتثال الأول بصرف وجود الطبيعي وعدم امتثال الثاني إلّا بترك جميع أفراده انما هو من ناحية الغرض ، وانه في الأول متعلق بصرف الوجود ، وفي الثاني بمطلقه بحسب الغالب ، وهذه الغلبة قرينة على ذلك في الموردين إلّا ان تقوم قرينة على خلافها.

وبالجملة الطبيعي في مقام تعلق الأمر به أو النهي لا بدّ وان يكون ملحوظا امّا مقيدا بالإضافة إلى كل قيد وانقسام يتصور له ، وامّا ساريا ومطلقا بالقياس إلى ذلك ونعبر عنه باللابشرط القسمي.

فإذا فرضنا انه مطلق ، فما هو السر في حصول امتثاله في باب الأوامر بإيجاد أول فرد منه ، وفي النواهي لا يتحقق الامتثال إلّا بترك جميع الأفراد؟

والوجه الصحيح لذلك هو انّ الطبيعي في الأوامر ملحوظ بنحو صرف الوجود ، وفي النواهي بنحو مطلق الوجود والقرينة على ذلك أمران.

أحدهما : ما تقدم من انّ الغرض والمصلحة بحسب الغالب مترتب على صرف

وجود الطبيعة ، والمنافر للطبع أو المفسدة مترتبة على مطلق وجودها ، وهذه الغلبة إحدى القرينتين على كون متعلق الأمر صرف وجود الطبيعي ومتعلق النهي مطلق وجوده.

ثانيهما : وهو العمدة ولا اختصاص له بالقضايا الإنشائية بل هو جار في الجملة الخبرية أيضا ، فانّ الإشكال غير مختص بالإنشائيات ، بل يجري في الإخبارات أيضا ، فإنه لو قال المتكلم «عندي درهم» لا يستفاد منه إلّا تحقق صرف وجوده عنده ، ولو قال «ليس عندي درهم ، أو لا درهم عندي» يستفاد منه انتفاء جميع أفراده ، وهذا هو الكلام المعروف من انّ النكرة في سياق النفي يفيد العموم.

فالإشكال جار في كل قضية موجبة وسالبة ، سواء كانت خبرية أو إنشائية ، وهذه القرينة الثانية على إرادة صرف الوجود في الإيجابية ، ومطلق الوجود في السلبية موجودة في القضايا الخبرية والإنشائية وهي : انه لا إشكال في انّ وجود جميع أفراد طبيعة واحدة عند شخص واحد يكون مستحيلا عادة ، كما انّ إيجادها بالإضافة إليه كذلك ، بل ربما يكون مستحيلا عقلا ، إذ ربما تكون الحصص متقابلة ، مثلا لو قال المولى «بع دارك لزيد» يستحيل ان يبيعه المكلف بالفارسي وبالعربي وبالبيع اللازم والبيع الخياري إلى غير ذلك ، وعلى هذا ففي القضايا الإيجابية إذا أخبر عن وجود الطبيعي عنده أو طلب إيجاده لا بدّ وان يكون المطلوب أو المخبر به هو صرف وجود الطبيعي لهذه القرينة.

واما في القضايا السلبية فبما انّ انتفاء صرف وجود الطبيعي أمر ضروري لا بدّ منه عادة فلا يكون قابلا لأن يخبر عنه أو لأن يطلب ، فلا معنى لأن يقول المتكلم «ليس عندي درهم» ويريد به نفي طبيعي الدرهم بنحو صرف الوجود ، أي يزجر عن شرب الخمر بنحو صرف الوجود ، وهذه قرينة على انه إذا تعلق النهي أو

النفي بالطبيعة المطلقة فهي ملحوظة بنحو مطلق الوجود المنطبق على جميع الأفراد وإلّا :

فان قلت : انّ هذه القرينة انما تكون قرينة على انّ المراد من الطبيعي في القضية الموجبة الأفراد الممكنة بحسب العادة لا صرف وجود الطبيعة ، وهكذا في القضايا السالبة يمكن ان يكون ذلك قرينة على تعلق السلب بصرف وجود الأفراد الممكنة عادة من الطبيعي بالقياس إلى هذا الشخص ، مثلا لو قال : «اشتريت كتابا» لا بدّ وان يراد به شراء الكتب الممكنة ولو بأجمعها لا خصوص صرف وجودها ، ولو قال : «ما اشتريت كتابا» يراد به نفي شراء الكتاب بنحو صرف الوجود بالقياس إلى ما أمكن عادة شراؤه له من الكتب.

قلت : هذا وان كان صحيحا إلّا انّ الإنسان يقطع من الخارج بعدم وجود جميع الأفراد الممكنة عادة عند الشخص ، فانّ من يمكنه بحسب العادة ان يشتري الف كتاب إذا قال : «ما اشتريت اليوم كتابا» لا يمكن حمله على النفي بنحو صرف الوجود ، إذ يعلم من الخارج انه مع تمكنه لا يشتري في اليوم الواحد الف كتاب ، فتأمل.

وامّا نفي المقدار الخاصّ فهو مناف للإطلاق وينافيه التقييد بحد مخصوص. هذا كله في الأفراد العرضية.

الأمر الثاني : في انّ النهي عن الطبيعي هل يستفاد منه الاستمرار والزجر عن الأفراد الطولية أيضا؟ الظاهر ذلك ، وقد ذكر الميرزا (١) قدس‌سره له وجها وحاصله : انّ ترك الطبيعي آناً ما حاصل لكل أحد ، فطلبه لغو محض ، فلا بدّ وان يراد منه الاستمرار.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٠.

وفيه : انّ اللغوية ترتفع بتقييده بأزيد من المقدار الضروري ، مثلا يراد من «لا تشرب الخمر» الزجر عنه في نصف عمره مثلا فانّ به يرتفع محذور اللغوية.

فالوجه الصحيح للاستمرار وعدم سقوط النهي بترك الأفراد العرضية آناً ما هو إطلاق المادة ، وانه بعد ما أثبتنا انّ الزجر لا بدّ وان يتعلق بالطبيعي بنحو مطلق الوجود والسريان فلا محالة تكون الأفراد الطولية أيضا متعلقة للنهي كالأفراد العرضية من غير حاجة إلى التمسك باللغوية فتأمل.

الأمر الثالث : لو فرضنا انّ المكلف عصى النهي وأتى ببعض أفراد الطبيعي المنهي عنه ، فهل يقتضي النهي الزجر عن الأفراد الأخر أم لا؟

ذكر المحقق الخراسانيّ (١) انّ إطلاق النهي من سائر الجهات لا يكفي إطلاقه من هذه الجهة ، فلا بدّ في ذلك من إطلاق آخر ، أو دليل على بقاء النهي.

ولكن الصحيح : انّ ما أفاده انما يتم في النهي الشخصي كما في النهي عن المفطرات في الصوم ، فانه لا يقتضي الزجر عن إتيان المفطر بعد العصيان ، وقد دل الدليل على ذلك من الخارج. وامّا في ما كان النهي من قبيل القضايا الحقيقية فنفس الإطلاق الأول وسريان الطبيعي إلى الأفراد العرضية والطولية يقتضي انحلال التكليف ، فعصيانه في بعض الأفراد لا يستلزم سقوطه في غيره من الأفراد.

وبالجملة جميع هذه الأمور الثلاثة مبنية على ان يكون متعلق النهي هو مطلق وجود الطبيعة لا صرف وجودها ، وقد عرفت القرينتين على ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٣٣.

اجتماع الأمر والنهي

لا بدّ من التعرض لأمور :

الأول : انّ محل البحث انما هو ما إذا كان عنوانان يتعلق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي ، وكان العنوانان متحدين خارجا نحو اتحاد ولو بالمسامحة العرفية على ما سنبينه إن شاء الله.

وبعبارة أخرى : يكون المصداق الواحد مصداقا للعنوانين ، فيقع الكلام في انّه هل يسري كل من الأمر والنهي إلى ما تعلق به الآخر ليقع المعارضة بين إطلاقيهما ، لاستحالة اتصاف الفعل الواحد بحكمين متضادين وكونه محبوبا ، ومبغوضا ، أو لا يسري شيء منهما إلى ما تعلق به الآخر ، إمّا من جهة انّ ما يتعلق به التكليف انما هو العنوانان وهما متغايران ، والفرد الخارجي لا يتعلق به التكليف ، واما لما ذكره بعض وسنبينه إن شاء الله من كون الفرد الخارجي متعددا بالدقة العقلية وان كان متحدا عرفا فلا يلزم من ثبوت الحكمين اجتماع الضدين؟

وبهذا ظهر : انه لا جامع بين مسألتنا ومسألة النهي في العبادة أصلا ، فانّ الكلام في المقام انما هو في السراية وعدمها ، وهناك بعد الفراغ عن ذلك في كونه موجبا للفساد وعدمه. نعم لو قلنا فيما نحن فيه بامتناع الاجتماع وقدمنا جانب الحرمة يكون من صغريات ذلك البحث.

الثاني : وقع الكلام في كون المسألة كلامية أو فرعية أو أصولية أو من المبادئ الأحكامية أو من المبادئ التصديقية ، وقد ذكر الآخوند (١) انّ فيها الجهات

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٣٦.

جميعها.

امّا الوجه في كونها كلامية فهو انّ المبحوث عنه فيها انما هو الجواز بمعنى الإمكان العقلي وامتناعه ، فالبحث عقلي ، فيكون كلاميا.

والوجه في كونها فرعية هو إمكان ان يكون المبحوث عند فيها صحة الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة وفسادها ، فتكون فرعية.

والوجه في كونها من المبادئ الأحكامية أي البحث عن لوازم الأحكام كوجوب المقدمة اللازم لوجوب ذيها هو كون المبحوث عنه في المقام من لوازم الأحكام.

والوجه في كونها من المبادئ التصديقية هو انها على القول بامتناع الاجتماع محقق لصغرى من صغريات باب التعارض.

ولكن الصحيح : فساد جميع هذه الوجوه ، والحق انها من المسائل الأصولية.

اما كونها كلامية فيرده.

أولا : انه ليس كل مسألة عقلية من المسائل الكلامية ، وإلّا لكانت مسألة الانسداد أيضا من علم الكلام ، بل لا بدّ في ذلك من كونها مما ترجع إلى المبدأ أو المعاد.

وثانيا : انه لا يبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي عن استحالة اجتماع الضدين ، بل البحث فيها صغروي كما هو ظاهر.

واما كونها فرعية ، ففيه : انه لم نرى أصوليا جعل المبحوث عنه في هذه المسألة صحة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها. نعم هما من نتيجة هذا البحث.

واما كونها من المبادئ الأحكامية ، ففيه : انا لا نعقل معنى صحيحا للمبادئ الأحكامية أصلا ، وذلك لأنّ نتيجة المسألة لو كانت واقعة في طريق الاستنباط فهي من المسائل الأصولية ، سواء كان البحث فيها عن لوازم الأحكام

أو عن غيرها ، وان لم يكن كذلك بل كانت من المبادئ فلا بدّ وان يكون من أحد القسمين: أمّا من المبادئ التصديقية وامّا من المبادئ التصورية المبينتين في علم المنطق.

وامّا كونها من المبادئ التصديقية لبحث التعارض فهو الّذي بنى عليه الميرزا قدس‌سره وذكر ما حاصله : انّ المسألة الأصولية لا بدّ وان تكون نتيجتها كبرى كلية لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا ، ومن الواضح انه لو بنينا على امتناع الاجتماع وضممنا إليها صغراها أعني قوله «صل ولا تغصب» لا نستفيد من ذلك أي حكم فرعي ، فلا يمكن عدها من المسائل الأصولية ، ولكن حيث انها توجب التصديق بكون مورد اجتماع الأمر والنهي من صغريات باب التعارض تكون من مبادئه التصديقية.

وفيه : انّ الميزان في كون المسألة أصولية وان كان ما أفاده ، إلّا انا ذكرنا في أوائل الكتاب انّ ترتب النتيجة الفرعية على المسألة الأصولية لا يلزم ان يكون على كلا تقديري النفي والإثبات ، أي نفي المحمول في المسألة وإثباته ، بل يكفي في كون المسألة أصولية ترتب النتيجة على أحد تقديريه ، وهو فرض ثبوت المحمول في المسألة مع قطع النّظر عن بقية المسائل مما سبقه ولحقه ، وإلّا لخرجت جميع مسائل علم الأصول عن كونها أصولية ، فمسألة حجية الخبر أي حكم فرعي يترتب عليها على تقدير البناء على عدم حجيته غير انها تحقق صغرى من صغريات مسألة البراءة ونحوها؟ فانه على تقدير عدم حجية خبر الواحد القائم على وجوب السورة في الصلاة يكون ذلك موردا للبراءة ، فالحكم الشرعي في مورده مستفاد منها لا من عدم حجية الخبر ، وانما يترتب الحكم الفرعي على التقدير الآخر أعني على حجية الخبر كما هو واضح.

وهكذا مسألة حجية الاستصحاب ، فانّ الحكم الفرعي مترتب على تقدير

القول بحجيته دون التقدير الآخر.

ومسألة اجتماع الأمر والنهي وان لم يترتب عليها حكم فرعي على تقدير القول بالامتناع ، بل يتحقق بها حينئذ صغرى من صغريات باب التعارض كما كان يتحقق بنفي حجية خبر الواحد صغرى من صغريات البراءة ، إلّا انّه يترتب عليها الحكم الفرعي على تقدير القول بالجواز من دون حاجة إلى ضم شيء من بقية المسائل إليها مما سبقه أو لحقه ، لكن لا مطلقا بل في الجملة أي فيما إذا كان في البين مندوحة ، وإلّا فعلى القول بالجواز أيضا يدخل مورد الاجتماع في باب التزاحم لعدم قدرة المكلف على الامتثال. واما مع وجود المندوحة فلا تزاحم كما عرفت في محله ، فيترتب الحكم الفرعي على مجرد هذه المسألة بنحو الموجبة الجزئية وهو صحة الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة مثلا ، وكون مورد الاجتماع كغيره مصداقا للمأمور به وجواز الإتيان به بقصد الأمر ، ويكفي هذا المقدار في كون المسألة أصولية كما بينا.

الثالث : انّ البحث عن هذه المسألة عقلي ، فنظر العرف غير متبع فيها ، لأنه انما يتبع في باب المفاهيم والألفاظ بما انّ الشارع يتكلم بلسانهم. وامّا في باب التطبيقات وتمييز الوجود الواحد عن المتعدد فلا ، فما ذكره بعض من انّ اجتماع الأمر والنهي مستحيل عرفا وان كان ممكنا عقلا على فرض صحة حكم العرف بالاستحالة ، لأنهم يرون مورد الاجتماع وجودا واحدا لقصر نظرهم ، لا يعبأ به بعد ما رأى العقل تعدد ذلك وكون التركيب بينهما انضماميا لإمكان ان يشار إليهما بإشارتين ، إذ لا قيمة لنظر العرف في ذلك.

الرابع : انه هل يجري نزاع الاجتماع في التكاليف الغيرية أو التخييرية أو الكفائية أو يختص بالتكليف النفسيّ العيني التعييني؟ ذهب الآخوند (١) إلى الأول ،

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٣٨.

لثبوت ملاك البحث في الجميع ، وهو لزوم تعلق الإرادة والكراهة أو الحب والبغض بشيء واحد وعدمه.

والكلام في المقام يقع في موردين :

المورد الأول : في انه هل يتصور الغيرية والتخييرية والكفائية في التحريم كما يتصور ذلك في الوجوب أم لا؟

امّا النهي الغيري فهو متحقق كالوجوب الغيري ، إذ كما يمكن النهي عن شيء لوجود المفسدة فيه يمكن النهي عن شيء لوجود المفسدة في شيء آخر مترتب عليه ، ونظير ذلك بالمسامحة ما إذا كان ترك شيء مقدمة لفعل واجب ، فانّ الترك حينئذ يكون واجبا ، فبالمسامحة يكون فعله حراما.

وامّا الحرمة التخييرية كالوجوب التخييري فالظاهر انه غير معقول ، وذلك لأنّ معنى الوجوب التخييري ان تكون المصلحة قائمة بالجامع ، فيكون الوجوب في مقام الجعل متعلقا بالجامع بحيث يكون خصوصيات الفعل كلها ملغاة ، وفي التحريم لو فرضنا أيضا انّ المفسدة قائمة بالجامع وكانت خصوصيات الأفعال ملغاة فلازمه حرمة كل من الأفعال وعدم جواز الإتيان بشيء منها ، وهذا خلاف المطلوب. وان كانت المفسدة قائمة بالمجموع وتعلق النهي أيضا بالمجموع فالتخيير حينئذ وان كان ثابتا إلّا أنّه تخيير في مقام الامتثال لا الجعل ، فانّ المكلف في مقام امتثال النهي مخير بين ترك المجموع وترك كل منهما دون الآخر ، وهذا غير التخيير المصطلح ، ونظيره مسألة التصوير التام فإنّه حرام ، فيتخير المكلف في مقام الامتثال بين الترك رأسا وترك تصوير الرّأس أو الطرف الأيمن أو الأيسر وهكذا ، وهذا ليس تخييرا في الحكم ، وهكذا في الصوم المحرم ، فالحرمة التخييرية غير معقولة.

وبهذا البيان ظهرت استحالة الحرمة الكفائية أيضا ، فانّ المصلحة في الواجب الكفائي قائمة بطبيعي الفعل الملغى عنه خصوصيات الفاعل ، وفي التحريم لو فرضنا

قيام المفسدة بالطبيعي وكانت خصوصيات الفاعلين ملغاة فلازمه حرمة الإتيان به على كل مكلف ، وهذا خلاف المطلوب. وامّا لو كانت المفسدة قائمة بفعل المجموع فالتخيير حينئذ يكون في مرحلة الامتثال لا في مقام الجعل ، نظير ما لو قال المولى لعبيده «لا يدخل عليّ مجموعكم» فانهم حينئذ مخيرون في مقام الامتثال بين ان لا يدخل منهم أحد أو يدخل بعضهم دون بعض ، وهذا ليس من قبيل الواجب الكفائي.

وبالجملة لو كانت المفسدة قائمة بالمجموع لا يكون كل من اجزاء المركب بشرط لا متصفا بالحرمة ، وانما المحرم هو ضم الجزء الآخر إلى بقية الاجزاء أي منها بشرط انضمام بقية الاجزاء ، فانّ المكلف مخير في ذلك بين ترك المركب رأسا وترك بعض اجزائه دون بعض ، إلّا أنّ هذا تخيير في مرحلة الامتثال ، وهو أجنبي عن التكليف التخييري أو الكفائي. هذا كله في المورد الأول.

واما المورد الثاني : فالظاهر جريان ملاك هذا النزاع في جميع الأقسام ، فانّ التضاد ثابت بين طبيعي الوجوب والحرمة بما لهما من الأقسام ، كالتضاد الثابت بين السواد والبياض بما لهما من المراتب ، فكما انّ الوجوب النفسيّ التعييني مضاد مع الحرمة ، كذلك الوجوب الغيري مضاد مع الحرمة الغيرية ، والوجوب التخييري مضاد مع الحرمة التعيينية إلى غير ذلك ، فإنّ الإرادة والكراهة ومبغوضية شيء ومحبوبيته مما لا يجتمعان ، فيجري هذا النزاع فيما إذا أتى المكلف بصلاة الجمعة التي هي واجب تخييري في الدار المغصوبة.

نعم لا تترتب الثمرة المطلوبة من هذا البحث على اجتماع الأمر والنهي الغيري ، ولا على اجتماع الأمر الغيري مع النهي النفسيّ أو العكس.

امّا لو اجتمع الأمر الغيري مع النهي ، فان كان الأمر الغيري كالأمر المتعلق بالمقدمة امرا توصليا فمن الواضح انّ الغرض منه وهو التوصل إلى الواجب النفسيّ

يحصل بالإتيان به ولو في ضمن فرد محرم ، فلا معنى فيه للصحة والفساد. وان كان عباديا كبعض المقدمات العبادية مثل الوضوء في الإناء المغصوب فحيث انّ الأمر الغيري لا يكون عباديا ولا تحصل به القربة وليس ملاك العبادية ، فوجوده كعدمه مما لا يترتب عليه أثر ، وقد عرفت انّ عبادية مثل الوضوء انما هي بقصد امره النفسيّ الاستحبابي ، ففي الحقيقة يكون اجتماع الأمر والنهي من ذلك الحيث لا من حيث الأمر الغيري.

وامّا عكس هذا بان اجتمع الأمر النفسيّ مع النهي الغيري كما في باب التضاد فيما لو كان ترك أحد الضدين مقدمة لفعل واجب أهم ، كالإزالة والصلاة ، فانّ ترك الصلاة حينئذ يكون واجبا ، فبالمسامحة يكون فعلها محرما غيريا ، فحيث انّ النهي الغيري لا يوجب مبغوضية متعلقة وغاية ما يستلزمه هو عدم كونه مأمورا به ، لأنّ الأمر والنهي متضادان ، فلو بنينا على امتناع اجتماع الأمر والنهي وقدمنا جانب النهي أيضا يكون العمل صحيحا ، امّا بالملاك كما ذهب إليه المحقق الثاني ومن تبعه ، وامّا بالترتب على المختار ، فلا يترتب ثمرة على بحث اجتماع الأمر والنهي الغيريين وان كان ملاك النزاع جاريا فيهما أيضا ، واما بقية الأقسام فالنزاع جار فيها ، كما انّ الثمرة أيضا مترتبة فيها.

الخامس : لا يعتبر وجود المندوحة في جريان هذا النزاع أصلا ، إذ كون التركيب بين متعلق الأمر والنهي انضماميا أو اتحاديا أجنبي عن وجود المندوحة وعدمها ، كما انّ القول بالجواز أي عدم سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر أيضا غير متوقف على وجود المندوحة.

فالإنصاف انّ ما ذكره في الكفاية (١) في المقام من عدم اعتبار المندوحة متين

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٣٩.

جدا.

نعم الجواز الفعلي أي ثبوت الإطلاقين بالفعل يتوقف على وجود المندوحة ، إذ بدونها يدخل مورد الاجتماع في باب التزاحم على القول بالجواز لعدم قدرة المكلف حينئذ على ان يصلي ولا يغصب ، فتجري فيه قواعد التزاحم ، وان لم يكن من باب التعارض لكون التركيب انضماميا.

ثم انّه على تقدير وجود المندوحة والقول بجواز الاجتماع ، هل يكون مورد اجتماع الحكمين داخلا في باب التزاحم أيضا أم لا؟ هذه المسألة مبتنية على ما تقدم في مقدمات بحث الترتب من انّ المحقق الثاني قدس‌سره ذهب إلى انّ اعتبار القدرة في متعلق الخطاب انما هو بحكم العقل ، وعليه فإذا كان فرد من افراد الطبيعي مقدورا للمكلف يصح تعلق التكليف به ، فانّ الطبيعي مقدور بالقدرة على بعض افراده فمع وجود المندوحة لا يكون التكليفان تكليفا بما لا يطاق.

وذكر المحقق النائيني انّ اعتبار القدرة انما هو من مقتضيات نفس التكليف ، فانّ إمكان البعث يستدعي إمكان الانبعاث ، وعليه فلا محالة يتعلق التكليف بالافراد المقدورة من الطبيعي دون غيرها ، ففي مورد الاجتماع لا بدّ وان لا يكون أحد الخطابين موجودا لعدم القدرة على امتثالهما ، فيكون داخلا في بحث التزاحم ، ولا بدّ من تقديم الأقوى. وعلى هذا بنى قدس‌سره بعد ذهابه إلى جواز الاجتماع ما أفتى به المشهور من بطلان الوضوء من الإناء المغصوب في صورة العلم بالغصب ولو مع وجود الماء المباح في إناء مباح وادعى انّ بطلان الوضوء في ذلك انما هو من جهة التزاحم لا اجتماع الأمر والنهي.

والحاصل : انه لو لم يكن في البين مندوحة يكون مورد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز وعدم السراية داخلا في باب التزاحم ، لعدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين ، فيتقدم أقواهما وهو النهي لكون إطلاقه استيعابيا بخلاف

إطلاق الأمر فانه بدلي ، فصحة العبادة حينئذ لا بدّ وان تكون امّا من ناحية الملاك ، وامّا على الترتب كما هو المختار.

وامّا مع وجود المندوحة ، فهل يدخل مورد الاجتماع في باب التزاحم أيضا أم لا؟ امّا على ما ذهب إليه المحقق الثاني وهو الصحيح من انّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف انما هو بحكم العقل فتكفي القدرة على فرد من افراد الطبيعي في كونه مقدورا وصحة التكليف به وان كان بعض افراده ممتنعا ، لأنّ الخصوصيات الفردية غير داخلة تحت التكليف ، فهي ملغاة في مقام الطلب والبعث ، فعدم الدخول واضح ، فانّ المكلف على فرض متمكن من امتثال كلا التكليفين لوجود المندوحة ، وقد تعلق الوجوب بطبيعي الصلاة التي هي مقدورة بالقدرة على بعض افراده عقلا وشرعا ، فإذا فرضنا انّ المكلف بسوء اختياره أوجد الطبيعي المأمور به في ضمن الفرد المحرم فقد امتثل ، لأنّ انطباق الطبيعي المأمور به على مصداقه قهري غايته يكون معاقبا أيضا لعصيانه.

وامّا على مسلك الميرزا قدس‌سره من كون اعتبار القدرة في متعلق التكليف من مقتضيات نفس التكليف ، وانّ التكليف انما يتعلق بالحصص المقدورة من الطبيعي عقلا وشرعا دون غيرها وان كان مصداقا للطبيعة ، فقد ذهب قدس‌سره إلى انه على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدم السراية يدخل مورد الاجتماع في باب التزاحم ، وذلك لأنّ الأمر بالطبيعي كالصلاة مثلا انما يتعلق بالحصص المقدورة ، فلا يعم الصلاة في الدار المغصوبة ، لأنه غير مقدور شرعا ، والممتنع شرعا كالممتنع عقلا. فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاق الأمر والنهي ، وحيث انّ النهي أقوى ويتقدم لكون عمومه استيعابيا دون إطلاق الأمر لأنه بدلي لا محالة يختص الأمر المتعلق بالطبيعي بغير تلك الحصة ، فلا تكون مصداقا للمأمور به ، فلا تصح الإتيان بها.

نعم لو قدمنا جانب الأمر أو سقط النهي لجهة أخرى من اضطرار أو إكراه

ونحوه لشمله إطلاق الأمر ، وكان الإتيان بها حينئذ مجزيا.

هذا ولنا كلام معه قدس‌سره في مقامين :

الأول : في أصل تمامية الكبرى وعدمها ، وانه لا تكفي القدرة على بعض افراد الطبيعي في صحة البعث نحوه ، وانّ البعث انما يتعلق بالحصص المقدورة من الطبيعة دون غيرها ، وقد تقدم الكلام فيه ، وعرفت فساده ، فلا يفيد.

الثاني : بعد تسليم تمامية الكبرى ، هل تنطبق على ما نحن فيه أم لا؟ الظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّ هذا الكلام منه قدس‌سره مبني على جواز اجتماع الأمر والنهي ، وانّ التركيب بين متعلق كل منهما انضمامي ، ولا يسري شيء منهما إلى ما تعلق به الآخر ، وقد صرح قدس‌سره بهذا مكررا ، وعليه فلا يكون مصداق الطبيعي المأمور به منهيا عنه ليكون ممتنعا شرعا ، وانما المحرم الوجود الآخر المنضم به.

توضيح ذلك : انّ الممتنع تارة يكون ممتنعا عقلا ، وأخرى شرعا. والممتنع الشرعي على نحوين.

الأول : ان يكون نفس الواجب منهيا عنه ، كما في موارد النهي في العبادة ، ويلحقه مورد اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع والسراية ، فيكون ممتنعا شرعا.

الثاني : ان يكون الواجب متوقفا على مقدمة منحصرة محرمة وكانت حرمتها أهم من وجوب ذيها ، كما لو فرضنا انّ غسل الميت متوقف على التصرف في ملك الغير ، فانّ الإتيان بالواجب حينئذ من دون الإتيان بمقدمته ممتنع عقلا ، والإتيان به مع مقدمته ممتنع شرعا. والعجز الشرعي منحصر بهذين الموردين ، فتأمل.

وامّا مجرد كون الواجب ملازما مع المحرم بسوء اختيار العبد لا يوجب امتناع لازمه شرعا ، فإنّ حرمة أحد المتلازمين لا يستلزم حرمة اللازم الآخر. نعم لا يمكن ان يكون المتلازمان مختلفين في الحكم ، ومن الواضح انه لا ملازمة في مفروض

الكلام بين المأمور به والمنهي عنه أعني الطبيعتين لوجود المندوحة ، وانما الملازمة بين الفردين ، ولم يتعلق بخصوصهما امر ولا نهي.

فتلخص : انه ولو سلمنا أصل الكبرى إلّا انها غير منطبقة على ما نحن فيه بعد البناء على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم السراية ، فإطلاق الأمر المتعلق بالطبيعي يعم مورد الاجتماع ، ولا يدخل في باب التزاحم أصلا ، فينحصر مورد التزاحم بما إذا لم يكن في البين مندوحة. وسنبين ثمرة دخوله في باب التزاحم إن شاء الله.

السادس : انه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه انّ ملاك النزاع في مبحث اجتماع الأمر والنهي إنما هو كون التركيب بين متعلقي الحكمين اتحاديا أو انضماميا ، وهذا الّذي عبر عنه المحقق النائيني بكون الجهتين تعليليتين أو تقييديتين.

فإن قلنا : بأنّ التركيب بين المتعلقين اتحادي ، بمعنى انّ مورد الاجتماع واحد وجودا وماهية ، وانّ العنوانين ينتزعان من وجود واحد ويكونان علّة لثبوت الحكم لذاك الواحد الخارجي فلا بدّ من القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي مطلقا ، لاستحالة اجتماع الضدين ، سواء قلنا : باستحالة التكليف بما لا يطاق أم لم نقل به كما ذهب إليه الأشعري ، فانّ اجتماع الضدين مستحيل من غير فرق بين ان يكون بعلّة واحدة أو بعلّتين ، بداهة امتناع اتصاف محل واحد بالسواد والبياض ولو كان علّة كل منهما مغايرا لعلّة الآخر ، وذلك واضح.

وامّا ان قلنا : بأنّ التركيب بينهما انضمامي وانّ في الخارج وجودين ، غاية الأمر بينهما اتحاد مسامحي عرفي ، وانّ خصوصية الصلاتية والغصبية من المشخصات الفردية أي من الضمائم الخارجية التي نعبر عنها مسامحة بالمشخصات فانّ وجود كل جوهر لا ينفك خارجا عن بعض المقولات التسع العرضية ، فيدخل المقام في المبحث المتقدم ، وهو تعلق التكليف بالطبيعي أو الافراد بهذا المعنى ، فإن

اخترنا سراية التكليف من الطبيعي إلى المشخصات أعني المنضمات فنقول بالامتناع أيضا ، إذ لازمه تعلق الأمر والنهي بوقوع الصلاة في المحل المغصوب ، وان اخترنا عدم تعلق التكليف بالخصوصيات ، كما هو الصحيح خصوصا على ما اخترناه من القول بعدم وجوب عقد الواجب فكيف ببقية لوازمه فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي.

فالقول بالجواز يتوقف على امرين :

أحدهما ـ كون التركيب انضماميا.

ثانيهما ـ كون التكليف متعلقا بالطبيعي وخروج المشخصات عن حيز التكليف.

وبإنكار أحدهما يتحقق القول بالامتناع ، وعمدة النزاع انما هو في الأول منهما ، فانّ الثاني امر مفروغ عنه ، وقد أثبتنا خروج الخصوصيات عن متعلق التكليف.

السابع : انّ مورد النزاع في البحث انما هو إمكان اجتماع الأمر والنهي واستحالته ، وروح البحث كما عرفت هو كون التركيب اتحاديا فيقع المعارضة بين إطلاقي الخطابين في مقام الجعل والثبوت أو انه انضمامي فلا معارضة بينهما. فالتنافي انما هو في مقام الجعل لا في مرحلة الامتثال ، وهو غير مبني على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أي الملاكات كما في المعارضة بين إطلاق قوله : «أكرم العلماء» «ولا تكرم الفساق» ونحوه من العامين من وجه ، فانّ الأشعري المنكر للحسن والقبح العقليين أيضا يقول بالمعارضة بين قولك «أكرم زيدا» وقولك «لا تكرم زيدا» وانه لا بدّ من رفع اليد عن أحدهما.

فليس هذا البحث في التزاحم بين الحكمين ليدور مدار وجود الملاك أو تعدده وعدمه ، فلا وجه لشيء مما ذكره في التنبيه الثامن والتاسع من الكفاية (١) من

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٤٢.

التفصيل ، وانه لو كان في مورد الاجتماع ملاكان لدخل في باب التزاحم ، ولو لم يكن إلّا ملاك واحد ولم يعلم انه ملاك الوجوب أو الحرمة لدخل في باب التعارض ، فانك عرفت انّ بحثنا غير مبني على القول بوجود الملاك فضلا عن وحدته أو تعدده.

نعم بعد البناء على جواز الاجتماع لو لم يكن في البين مندوحة لا محالة وقع التزاحم بين التكليفين ، وان كان مندوحة فعلى الخلاف المتقدم بيننا وبين المحقق النائيني قدس‌سره.

الثامن : انه لو بنينا على امتناع اجتماع الأمر والنهي فلا محالة تقع المعارضة بين إطلاق دليل الوجوب وإطلاق دليل الحرمة على ما عرفت ، وحينئذ ان قدمنا جانب الوجوب يتحقق الامتثال بالإتيان بالمجمع لا محالة من دون ان يكون هناك عصيان لسقوط إطلاق النهي على الفرض ، وان قدمنا جانب الحرمة لكون إطلاقها شموليا ، وإطلاق دليل الواجب بدليا ، أو لغير ذلك فلا محالة يقيد إطلاق الأمر بدليل الحرمة كما هو الشأن في تقديم أحد المتعارضين بالعموم من وجه على الآخر مطلقا ، فيكون المجمع متمحضا في الحرمة ومن صغريات النهي في العبادة ، فلا يتحقق به الامتثال لو أتى به المكلف مع العمد والالتفات ، والحكم في هذين الفرضين واضح لا يخفى.

وانما الكلام فيما إذا أتى المكلف بالمجمع عن عذر كغفلة أو نسيان أو جهل عن قصور فيما إذا كانا عذرا كالجهل في الشبهة الموضوعية مطلقا وفي الحكمية بعد الفحص والرجوع إلى البراءة ، فهل يتحقق به الامتثال حينئذ أم لا؟

المعروف هو الأول ، ولذا أفتوا بصحة الوضوء بالماء المغصوب مع الجهل أو نحوه ، وقد ادعى عليه الإجماع على ما حكى عن مفتاح الكرامة ، وذكر في وجه ذلك امران :

الأول : ما في الكفاية (١) وحاصله : انّ المجمع مشتمل على المصلحة وملاك الوجوب ولو قدم جانب النهي وقيد به إطلاق الأمر ، فانّ التقييد عقلي لا شرعي وحينئذ فمع العدم والعلم وفرض تنجز الحرمة حيث انّ الفعل يصدر من الفاعل مبغوضا فلا يمكن ان يقصد به القربة ويضاف إلى المولى ، وامّا مع العذر فبما انّ صدور الفعل لا يكون مبغوضا فيمكن إضافته إلى المولى بقصد الملاك الثابت به فيه ، فيكون عبادة ويتحقق به الامتثال.

وفيه : أولا ـ ما الدليل على ثبوت الملاك فيه بعد فرض سقوط إطلاق الأمر بالتعارض ، ونتيجته عدم تعلق التكليف بالمطلق من أول الأمر لا سقوطه لأجل عجز المكلف عن الامتثال كما في باب التزاحم ، فتأمل ، وقد ذكرنا مرارا انه لا كاشف عن الملاك إلّا الأمر.

وثانيا : لو سلمنا ثبوت ملاك الوجوب في المجمع ، فمن الواضح انه ملاك مغلوب بالمفسدة الموجودة فيه ، فكيف يمكن ان يتقرب به ، وهل الملاك المغلوب بمفسدة أهم إلّا كعدمه؟ ومثاله الواضح في العرف انه لو فرضنا انّ المولى عطشان فأتى عبده إليه بماء مخلوط بدواء يوجب تمرض المولى مدة شهر أو أزيد ، فهل يمكن ان يتقرب به إليه لكون إحضار الماء مشتملا على الملاك مع كونه مغلوبا بالإضافة إلى المفسدة؟!

الثاني : انّ تقييد إطلاق الأمر بالإضافة إلى المجمع عقلي لا شرعي ، نظير تقييد إطلاق الأمر بالصلاة بقوله عليه‌السلام «لا تصل فيما لا يؤكل» (٢) أو قوله عليه‌السلام «دعي الصلاة أيام أقرائك» (٣) فلا بدّ من الاقتصار فيه على مقدار الضرورة أي بما يرتفع به

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٤٧.

(٢) وسائل الشيعة ٣ ـ ٢٥٠.

(٣) الكافي ٣ ـ ٨٥.

المحذور.

وبعبارة أخرى : لو كان التقييد أو التخصيص بدليل لفظي كما لو قال «أكرم العلماء ولا تكرم فساقهم» فلا محالة يكشف ذلك عن عدم تعلق الأمر بافراد المخصص من الأول ، فلو أكرم المكلف عالما فاسقا ، ولو جهلا بفسقه لم يمتثل أصلا ، ولم يأت بفرد المأمور به.

وهكذا الحال لو كان بين الدليلين المتعارضين عموم من وجه وقدم جانب النهي كما لو قال : «أكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فانه بعد تقديم النهي يختص الأمر بإكرام العالم غير الفاسق ، فلا يفرق الحال فيه بين صورة العلم والجهل العذري.

وامّا فيما نحن فيه فتقييد إطلاق الأمر ليس بدليل لفظي بل بحكم العقل ، فانه بعد ما تعلق الأمر بالطبيعي كالصلاة يكون المكلف مخيرا في تطبيقه على أيّ فرد شاء من افراده ، وهذا الترخيص في التطبيق لا يجتمع مع النهي الفعلي المنجز عن بعض افراد الطبيعي ، لأنهما متضادان ، فلو قدم جانب النهي يختص الأمر بغير مورده ، واما في فرض العذر وعدم تنجز الحرمة لعدم وصولها فحيث انّ الترخيص الظاهري ثابت ولذا يباح الدخول في ملك الغير مع الجهل ظاهرا ، فلا مانع من بقاء الترخيص في التطبيق وان كان النهي الواقعي ثابتا في مورده. وهذا الوجه أحسن من الوجه السابق.

وفيه : انه متين في المتزاحمين كالصلاة والإزالة ، ولذا لو يكن المكلف عالما بتنجس المسجد تصح صلاته ، ولو لم نقل بالترتب ، وذلك لأنّ الأمر بالإزالة انما يكون معجزا عن الصلاة في فرض وصوله وتنجزه ، ومع عدم تنجز الأهم فالامر بالمهم باق على حاله ولا يتم في باب التعارض كما فيما نحن فيه أصلا ، بداهة : انّ التنافي بين المتعارضين انما هو في مقام الجعل لا الامتثال ، فيستحيل بقاء الأمر على إطلاقه مع ثبوت الحرمة لبعض الافراد واقعا من غير فرق بين العلم بها وعدمه ،

فانّ الجهل بالحرمة لا يوجب ارتفاعها واقعا كما لا يوجب جواز اجتماع الضدين كما هو واضح.

وان شئت قلت : انّ التقييد في باب التعارض دائما يكون لفظيا كما في جميع موارد التعارض بين العامين من وجه ، فالتفصيل بين صورة العلم والجهل لا وجه له بعد فرض تقديم جانب النهي ، لكون عمومه شموليا.

ومن ثم ذهب المحقق النائيني إلى إنكار ما نسب إلى المشهور من ذهابهم إلى امتناع اجتماع الأمر والنهي وابتناء هذه المسألة عليه ، وذكر : انّ تفصيل المشهور بين الصورتين مبني على ذهابهم إلى جواز الاجتماع ودخول المسألة في باب التزاحم.

فتلخص : من جميع ما ذكرناه انه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، امّا لأجل انّ التركيب بين المتعلقين اتحادي ، وامّا لأجل سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر ولو كان التركيب انضماميا ، وتقديم جانب النهي لا يتحقق الامتثال بالإتيان بالمجمع ، من غير فرق بين العبادات والتوصليات ، لأنه حينئذ لا يكون مصداقا للمأمور به ، فانّ الأمر بالطبيعي بنحو الإطلاق ورفض القيود المستلزم لترخيص المكلف في تطبيقه على أي فرد شاء ينافي النهي الواقعي عن بعض الافراد علم به المكلف أم لم يعلم ، فلا محالة يقيد به ذاك الترخيص ويختص بغير مورد النهي ، فالتفصيل بين الصورتين على هذا المبنى غير صحيح. هذا كله في الجهل الّذي هو عذر.

وامّا النسيان أو الإكراه أو الاضطرار ونحوها مما يرتفع الحكم في مورده واقعا لا ظاهرا ، كما لو فرضنا انّ مكلفا اضطر إلى الدخول في المحل المغصوب وإلّا قتلوه ، أو أكره على ذلك كما لو حبس في محبس مغصوب ، أو نسي غير الغاصب غصبية الدار ، أو كان غافلا عن ذلك ، فهل تصح صلاته حينئذ في ذلك المكان أو لا تصح؟

ذهب الميرزا قدس‌سره إلى الثاني بدعوى : انّ غاية ما يستفاد من دليل سقوط التكليف في هذه الموارد كحديث الرفع انما هو سقوط التكليف أعني به الحرمة في محل البحث ، واما المفسدة الواقعية فهي باقية على حالها حتى عند طرو أحد هذه العناوين ، ولذا لو لم يكن الاضطرار إلى الغصب مثلا مستوعبا لتمام الوقت لا يجوز للمكلف ان يصلي في المكان المغصوب بل يجب عليه ان ينتظر زوال اضطراره ، وليس ذلك إلّا من جهة وجود المفسدة ، وعليه فلا يمكن التقرب بما فيه المفسدة ، انتهى.

وفيه : انّ ما أفاده قدس‌سره من بقاء المفسدة عند الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وان كان تاما ، ولا يقاس بما تقدم منا من انّ الكاشف عن الملاك انما هو الأمر فإذا سقط فليس لنا كاشف عن ثبوت الملاك ، وذلك لأنّ ظاهر حديث الرفع الوارد في مقام الامتنان على الأمة على ما يستفاد من قوله عليه‌السلام : «عن أمتي» [١] هو ثبوت المقتضى لتحقق الحرمة في هذه الموارد إلّا انها رفعت إرفاقا على هذه الأمة ، فالمفسدة باقية إلّا انّ مجرد وجود المفسدة لم يكن مقيدا لإطلاق دليل الوجوب خصوصا بعد كونها مغلوبة في مصلحة الإرفاق.

فحينئذ نسأل القائل ونقول : هل الحرمة ثابتة في هذه الموارد أو انها ساقطة؟ امّا بقائها فمناف للاخبار كقوله عليه‌السلام «ما حرم الله شيئا إلّا وأحله عند الضرورة» فهي ساقطة واقعا ، فدليل الحرمة من أول الأمر يكون مقيدا بصورة عدم طرو أحد هذه العناوين ، وعند طروه فالحكم الواقعي هو الإباحة ، ففي الحقيقة هناك عنوانان نظير عنوان المسافر والحاضر ، والحكم الثابت لأحدهما هو الحرمة وللآخر هو الإباحة.

وقد ذكرنا في مبحث البراءة انّ نسبة الرفع بالإضافة إلى ما لا يعلمون تغاير

__________________

[١] الخصال ٢ ـ ٤١٧ والحديث هو : «رفع عن أمتي تسعة الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون ...»

نسبته إلى بقية الفقرات ، فانّ الرفع في ما لا يعلم ظاهري ولا يقيد به إطلاق الأدلة المثبتة للتكاليف ، لأنّ الإطلاق يخرج المورد عن كونه مما لا يعلم ، وهذا بخلاف الرفع بالإضافة إلى الاضطرار والإكراه ونحوه فانه واقعي في عرض الحكم الواقعي ، ولذا يقيد به إطلاق الأدلة.

وعليه ففيما نحن فيه لا تكون الحرمة ثابتة في المجمع ، بل هو مباح فيعمه إطلاق الأمر ، وقد عرفت انّ المانع عن إطلاق الترخيص في التطبيق والمقيد له لم يكن إلّا الحرمة والمبغوضية ، واما مجرد وجود المفسدة المغلوبة فغير موجب لذلك ، فالإتيان بالمجمع مجز عند طرو أحد العناوين المزبورة.

وحاصل الكلام : انه بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي لا محالة يخرج المجمع عن الطبيعة المأمور بها ، فلا يكون المكلف مرخصا من المولى في تطبيقها على المجمع ، وهذا واضح فيما إذا كانت حرمة المجمع منجزة بمنجز من علم أو حجة أو أصل أو بالاحتمال قبل الفحص ونحو ذلك ، فإنّ مبغوضية فرد بالفعل منجزا ينافي الترخيص فيه كما هو ظاهر.

واما فيما إذا كانت الحرمة الواقعية ثابتة فيه ولم يكن منجزا للجهل بها عن قصور بعد الفحص فالإباحة الظاهرية حينئذ وان كانت ثابتة إلّا انّ الحرمة الواقعية المتحققة تنافي الترخيص في مرحلة الجعل على ما عرفت ، فلا يجزي الإتيان بالمجمع في هذا الفرض أيضا.

وأمّا فيما إذا كانت حرمة المجمع ساقطة واقعا لطرو نسيان أو إكراه أو اضطرار ، ففي هذه الصورة ذهب الميرزا قدس‌سره إلى عدم الاجزاء أيضا من حيث بقاء المفسدة فيه وان كانت الحرمة ساقطة على ما يستفاد من حديث الرفع ولا يمكن التقرب بالمبغوض.

وقد عرفت الجواب عنه ، وانّ مجرد وجود المفسدة المغلوبة غير المستتبعة

للحرمة لا تنافي الترخيص ، ولذا يجوز التصرف في العين المغصوبة عند الاضطرار والإكراه واقعا ، فالترخيص في التطبيق وإطلاق الأمر بالطبيعي يكون باقيا على حاله.

والمثال العرفي لذلك ما إذا فرضنا انّ المولى امر عبده بكتابة شيء ونهاه عن استعمال الحبر الخاصّ المختص به ، وفرضنا انّ العبد أكره على التصرف في ذلك الحبر فاغتنم الفرصة وكتب به ذلك الكتاب ، فيكون ذلك موردا لاجتماع الأمر والنهي ، فهل يتوهم عاقل انّ المولى يعاقب ويقول له : لم كتبت الكتاب بالحبر الخاصّ؟ إذ من الواضح انّ الكتابة لم تكن مشروطة بان لا تكون بذلك الحبر ، وانما كان المانع عنها حرمة التصرف في الحبر ومبغوضيته ، فإذا سقطت بالإكراه لا يفرق في الكتابة المأمور بها بين الإتيان بها مع ذلك الحبر أو مع غيره ، ومقامنا من هذا القبيل.

فالصحيح هو التفصيل بين الصورة الثالثة والصورتين الأوليين ، فتصح الإتيان بالعبادة في ضمن المجمع في الصورة الثالثة أي عند الإكراه أو الاضطرار ونحوه ولو لم يكن مستوعبا لتمام الوقت بخلاف الصورتين الأخيرتين.

ثم انه في فرض الإكراه أو الاضطرار بالغصب مثلا مما يمكن التفات المكلف إلى ذلك العنوان بخلاف النسيان الّذي لا يلتفت الناسي إليه ، هل يجب على المكلف إذا أراد الصلاة ان يقتصر على الضرورة ويومئ للركوع والسجود أو يصلي معهما صلاة تامة؟

ذهب جماعة إلى الأول ومنهم الميرزا قدس‌سره بدعوى انّ الركوع أو السجود تصرف زائد لم يتعلق به الاضطرار ، فلا يجوز.

والصحيح : انّ هذه المسألة مبنية على كون مثل هذه التصرفات تصرفا زائدا على أصل الكون في المحل المغصوب المضطر إليه ، نظير ان يقلع باب غرفة الحبس في المكان المغصوب مثلا أو يهدم حائطه وامتثال ذلك وعدم كونه كذلك ، والظاهر هو

الثاني.

بيانه : انّ الغصب ان كان بالاستيلاء على ملك الغير الّذي لا يتحقق ذلك في فرض الاضطرار لأنّ المضطر محكوم. نعم يتصور في فرض الإكراه ، فلا يفرق فيه بعد الاستيلاء على مال الغير بين ان يجلس فيه أو ينام أو يبقيه في الدار مثلا. وامّا الغصب من حيث إشغال فضاء الغير فلا يفرق في مقدار ما يشغله الجسم من الفضاء اشكاله من الجلوس والنوم والقيام ونحوه ، وهذا امر مبرهن في الهندسة من انّ اختلاف شكل الجسم لا يوجب اختلاف مقدار ما يشغله من الفضاء ، مثلا الفضاء الّذي يشغله مقدار كر من الماء لا يختلف بين ان نجعله في ظرف مربع أو مثلث أو مستطيل وهكذا ، وعليه فالركوع أو السجود لا يزيد في مقدار إشغال المصلي لفضاء الغير ، وهكذا من حيث الحركة والسكون.

وامّا من حيث إشغاله للمكان فبالدقة وان كان يختلف مقدار ما يشغله الجالس عن ما يشغله النائم مثلا إلّا انّ ذلك بنظر العرف لا يعد تصرفا زائدا ، ولذا لم يقل أحد بأنّ من حبس في المحل المغصوب يجب عليه ان يقف على إصبع واحد فان عجز فعلى إصبعين ، وهكذا يقتصر على مقدار الضرورة. ولذا ذكر في الجواهر ما حاصله : انّ ذلك لو كان واجبا لكان نفسه أشد حبس على المحبوسين ، وعليه فيجب فيما نحن فيه على المصلي ان يأتي بالصلاة تامة لا إيماء.

وملخص ما تقدم : انه في مورد اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع لا بدّ من رفع اليد عن إطلاق أحدهما ، فان قدمنا جانب الأمر وقيدنا به إطلاق النهي فلا إشكال في صحة الإتيان بالعبادة في ضمن المجمع ولا عصيان فيه أصلا ، وامّا لو قدمنا جانب النهي فلا بدّ من التفصيل بين صورة ثبوت النهي واقعا ، سواء كان منجزا بالعلم ونحوه أو لم يكن منجزا لجهل ونحوه ، فانّ الجهل لا يرفع التكليف على أصول المخطئة غاية الأمر ان يكون رافعا للعقاب وعذرا للمكلف ، وبين ما إذا سقط

النهي واقعا بطرو إكراه أو اضطرار أو نسيان ونحوه فلا تصح العبادة المأتي بها في ضمن المجمع في صورتي العلم بالحرمة والجهل بها ، لعدم كونه مصداقا للمأمور به. ويصح في صورة طرو شيء من الإكراه والاضطرار ونحوه مما يرفع التكليف واقعا من دون ان يستلزم الإتيان به عصيانا مستلزما للعقاب ، كما في فرض تقديم جانب الأمر ، إذ لا نهي حينئذ واقعا. هذا كله على القول بالامتناع.

وامّا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وكون التركيب انضماميا ، فمع عدم المندوحة يكون المجمع داخلا في باب التزاحم لعجز المكلف عن امتثالهما ، ففي فرض الجهل بالحرمة وعدم تنجزها لا إشكال في انها لا تكون معجزة عن الواجب شرعا ، فلا تزاحم حينئذ فيكون الإتيان بالمجمع مجزيا.

ولا إشكال فيه إلّا ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انه حيث انّ الوجودين متحققان بإيجاد ومؤثر واحد ، وقد فرضنا انّ أحدهما مشتمل على المفسدة الواقعية فلا يمكن التقرب بذلك الإيجاد لاشتماله على المفسدة.

والجواب عنه : ما تقدم مرارا من انّ الإيجاد والوجود متحدان حقيقة وتغايرهما بالاعتبار ، فان تعدد الوجود لا محالة يكون الإيجاد أيضا متعددا ، والمفروض انّ إيجاد الواجب لا مفسدة فيه ، فيصح التقرب به وان استلزم إيجاد ما فيه المفسدة أيضا ، فتأمل.

واما لو فرضنا تنجز النهي ووصوله أيضا ، فعلى تقدير تقديم جانب النهي تبتني صحة العبادة على القول بالترتب ، فعلى القول به في الواجبين المتزاحمين يمكن تصحيح العبادة فيما نحن فيه بذلك أيضا بان تكون الصلاة في الدار المغصوبة مثلا واجبة في ظرف عصيان النهي عن الغصب بان يقول المولى : «إذا عصيت ودار الأمر بين ان تجلس في المكان المغصوب أو تصلي فصل» كما عرفت ذلك في الترتب في التزاحم بين واجبين. نعم يختص ذلك بموارد يجري فيها الترتب ، فلا يتم في مثل

الوضوء بآنية الذهب مثلا فيما يكون وجوبه مشروطا بالقدرة شرعا على ما مر الكلام فيه.

والحاصل : انه بناء على جواز الاجتماع مع عدم المندوحة يقع المزاحمة بين التكليفين لعدم قدرة المكلف على امتثالهما ، فلا بدّ من تقديم أحدهما ، امّا في فرض الجهل بالحرمة وعدم وصولها ، وتنجزها على المكلف فلا إشكال في صحة العبادة إذا أتى بها في ضمن المجمع ، لأنّ النهي غير الواصل لا يكون معجزا ، واما لو كان وأصلا ، فان قدمنا جانب الأمر فكذلك تصح العبادة لثبوت الأمر به كما هو واضح.

وامّا ان قدمنا جانب النهي فصحة الإتيان بالمجمع يكون بالترتب ، ولا إشكال فيها ، لأنّ ما أفاده الميرزا من انّ الوجودين حيث انهما يكونان بإيجاد واحد فيتصف بالقبح الفاعلي لاشتماله على ما فيه المفسدة ، فلا يمكن التقرب به ، قد عرفت الجواب عنه ، وانّ تعدد الوجود يستلزم تعدد الإيجاد ، وإيجاد الواجب غير مشتمل على المفسدة وان كان مستلزما له على الفرض لعدم المندوحة.

وهذا التلازم لا يمنع صحة الأمر على الفرض ، وإلّا للزم القول بامتناع الاجتماع ، وقد فرضنا جوازه ، فتصح العبادة المأتي بها في ضمن المجمع وان كان عاصيا من حيث اقترانها بالحرام. وهذا أعني صحة العبادة أوضح في فرض وجود المندوحة من غير حاجة إلى الترتب ، فانّ المجمع حينئذ يكون مشمولا لإطلاق الأمر بالطبيعة بناء على المختار من انّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وانه يكفي في مقدورية الطبيعة القدرة على فرد واحد منها ، وإذا تعلق الأمر بالطبيعي مطلقا ، فانطباقه على المجمع قهري ، فلا محالة يتحقق به الامتثال.

نعم على مسلك الميرزا قدس‌سره وغيره من اعتبار القدرة على الافراد في ثبوت الإطلاق للطبيعي يدخل الفرض في باب التزاحم أيضا ، فصحة العبادة حينئذ على تقدير تقدم جانب النهي تكون بالترتب.

فالتفصيل في صحة المجمع بين صورتي العلم والجهل على ما نسب إلى المشهور لا ينطبق على القاعدة أصلا ، لما عرفت من انه لا بدّ من القول بالفساد في الصورتين على القول بالامتناع ، والحكم بالصحّة فيها على القول بالجواز.

فما استفدناه من بيان الثمرة امرين :

الأول : انّ هذا البحث بحث شريف ، إذ يترتب على القول بالامتناع فساد الإتيان بالمجمع في صورتي العلم بالنهي والجهل به ، إلّا فيما ورد الدليل الخاصّ فيه على الصحة من حديث لا تعاد ونحوه كما في الصلاة في الثوب المغصوب جهلا ، وعلى القول بجواز الاجتماع صحته في الصورتين.

الثاني : انّ ما نسبوه إلى المشهور من التفصيل بين الصورتين في الحكم بالصحّة والفساد لا ينطبق على القاعدة ، لأنه على الامتناع تفسد العبادة في كلتا الصورتين ، وعلى الجواز تصح فيهما ، غايته تكون الصحة في صورة الجهل بالحرمة مطلقا ، وفي فرض العلم مع وجود المندوحة مستندة إلى إطلاق الأمر من دون حاجة إلى الترتب ، وفي فرض العلم بالنهي وعدم المندوحة إلى الترتب على ما عرفت.

هذا كله في مقدمات المسألة.

وامّا تحقيق أصلها : فقد ذهب صاحب الكفاية إلى استحالة اجتماع الأمر والنهي وذكر في وجهه مقدمات بديهية أو مما ينتهي إليها.

منها : انّ الأحكام متضادة. والتضاد (١) بالمعنى اللغوي أعني التنافي بين الأحكام ضرورية ، نعم التضاد الاصطلاحي أعني استحالة اجتماع عرضين في موضوع واحد ثبوته في الأحكام مبني على كون الأحكام من قبيل الاعراض ، وامّا التضاد اللغوي فهو ثابت بلا إشكال.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٤٩ وما بعدها.

ومنها : انّ الموجود الواحد لا يكون له إلّا ماهية واحدة. وهذا أيضا واضح ، فانّ الماهية بناء على أصالة الوجود وكونها اعتبارية منتزعة من حدود الوجود ، وليس لوجود واحد حدود متباينة لينتزع منها ماهيتان أو أكثر ، وهكذا الحال بناء على أصالة الماهية فليس للموجود الواحد إلّا ماهية واحدة.

ومنها : انّ العنوان الواحد يستحيل ان يتعلق به الأمر والنهي معا. وهذا أيضا واضح.

وانما المهم في المقام بيان انّ تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ليكون التركيب انضماميا ويعبر عنه بكون العنوانين جهة تقييدية ، أو انه لا يوجب تعدده ويكون التركيب اتحاديا والحرمة جهة تعليلية؟

ذهب في الكفاية إلى الأول ، وأهمل الاستدلال على دعواه سوى انه قال : «والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد وتصدق على الفارد ، ثم ذكر الشعر المعروف عبارتنا شتى وحسنك واحد» (١).

وفيه : انّ صدق العناوين العديدة على الواحد في الجملة لم يكن قابلا للإنكار إلّا انّ إثبات كون مورد اجتماع الأمر والنهي من هذا القبيل كان محل البحث وبعبارة أخرى : يعتبر في إنتاج الشكل الأول كلية الكبرى.

وسار الميرزا النائيني قدس‌سره إلى خلاف ذلك ، حيث ذهب إلى انّ العناوين لو كان اختلافها من قبيل اختلاف العناوين الاشتقاقية كعنوان العالم والعادل مثلا فتعددها لا يوجب تعدد المعنون ، فانّ قيام كل من المبادئ بالذات جهة تعليلية لصدق ذاك العنوان الاشتقاقي على تلك الذات الواحدة ، ومن ثمّ فيما لو تعلق كل من الأمر والنهي بعنوان واحد وكان اختلافه بإضافته إلى العنوان الاشتقاقي. وبعبارة أخرى :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٥٠.

إذا تعدد موضوع الحكمين واتحد متعلقهما ، كما لو قال «أكرم عالما» و «لا تكرم فاسقا» فانّ متعلق الأمر والنهي طبيعة واحدة وهي طبيعي الإكرام ، والاختلاف انما هو في الموضوع وعلّية الفسق والعدالة بينهما تعليلية لم يتوهم أحد دخول ذلك في باب اجتماع الأمر والنهي ، بل أجروا الفقهاء في مثل ذلك قواعد باب التعارض. وهذا بخلاف ما إذا كان تغاير العنوانين من قبيل الاختلاف في المبدأين كعنوان العلم والعدالة مثلا ، فانّ ذلك يستلزم تعدد المعنون ، ولذا يستحيل حمل أحدهما على الآخر ، لأنّ كلا منهما غيره خارجا ، ومن هذا القبيل عنوان الصلاة وعنوان الغصب ، فانّ تغايرهما من قبيل تغاير المبدأين ، فكل منهما موجود بوجود مستقل حتى في المجمع.

والشاهد على ذلك ما تراه من انّ الصلاة قد تتحقق في ضمن غير الغصب ، وهو قد يتحقق في ضمن غير الصلاة ، وكل من العنوانين جامع لما يوجد في المجمع وغيره ، فهما ماهيتان فكيف يعقل ان يوجد بوجود واحد ، فالصلاة في الدار المغصوبة وجودان : وجود الغصب ووجود الصلاة ، وان لم يمكن تمييز كل منهما عن الآخر ولم يمكن الإشارة الحسية إليه ، إلّا انّ البرهان قد ساقنا إلى ذلك وعلى هذا الأساس بنى قدس‌سره جواز اجتماع الأمر والنهي.

وحاصل ما ذكره : انّ العناوين تارة تكون من العناوين الاشتقاقية ، كعنوان العالم والفاسق ، وتعددها لا يستلزم تعدد المعنون ، لأنّ الحيثية فيها تعليلية ، فصدق العالم مثلا معلول لقيام مبدئه وهو العلم بالذات ، وصدق الفاسق عليه معلول لقيام مبدئه وهو الفسخ بها ، فالذات الواحدة معنونة بالعنوانين بعلّتين ، ولذا في مثل ذلك يستحيل اجتماع الأمر والنهي ، ومن ثم لم يتوهمه فيه أحد ، كما في المثال المتقدم.

وأخرى : يكون العنوانان من قبيل المبادئ ، كعنوان العلم والعدالة ، فحيث انهما ماهيتان يستحيل اتحادهما في الوجود بان يكون وجود واحد مصداقا لهما ،

لأنّ المقولات بل افراد مقولة واحدة متباينة ، فإذا كان بينهما العموم من وجه من حيث اجتماعهما في محل واحد واجتمعا فلا محالة يكون مصداق كل منهما مغايرا لمصداق الآخر، لأنّ الحيثية فيها تقييدية بمعنى انّ صدق العنوان فيها على المصداق لا يكون لقيام عنوان آخر به كما في المشتقات ، بل الفرد مصداق له بالذات كما انّ زيد مصداق الإنسان بالذات لا بقيام امر آخر به ، وهكذا العلم والعدالة ، فانّ مصداق العلم علم بالذات ، وهذا هو المراد من كون الحيثية تقييدية.

فتعدد مثل هذا العنوان يستلزم تعدد المعنون ، فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما ، وعلى هذا بنى قدس‌سره جواز الاجتماع حيث انّ متعلق التكاليف دائما يكون من المبادئ والاختلاف فيها من قبيل تغاير المبادئ.

والمختار عندنا هو التفصيل ، بيان ذلك : هو انه إذا تعلق الأمر بمبدإ والنهي بمبدإ آخر ، وكان بينهما العموم من وجه من حيث إمكان اجتماعهما في محل واحد ، فلا يخلو الحال فيهما من أحد وجوه ثلاثة : لأنّه تارة : يكونان معا من العناوين المتأصلة أي من المقولات ، وأخرى : يكونان معا من الأمور الانتزاعية ، وثالثة : يكون أحدهما متأصلا والآخر انتزاعيا.

اما في القسم الأول ، أي ما إذا كان كلاهما متأصلا ، فقد عرفت انّ الماهيات العرضية جميعها متباينة بعضها مع بعض من غير فرق بين الجواهر والاعراض ، ولذا يستحيل حمل الجوهر على العرض ، وحمل مقولة على مقولة أخرى ، وحمل فرد من نوع على فرد آخر فمصداق واحد يكون مصداقا لهما غير معقول. نعم بعضها متباينة من حيث الاجتماع أيضا وبعضها يمكن اجتماعها في محل واحد كبعض أقسام الاعراض.

وبالجملة ، تارة : يكون كلا العنوانين الّذي تعلق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر من العناوين المتأصلة ، كما لو فرضنا امر المولى بكتابة شيء ونهى عن

الدخول في محل ، فحيث انّ المقولات المتأصلة متباينة ، كما انّ كل فرد أو صنف من مقولة متباين مع فرد أو صنف آخر منها يستحيل ان يكون المصداق الواحد مصداقا لهما ، بل لا بد وان يوجد كل منهما بوجود مستقل ، فإذا جمع المكلف بينهما بان كتب في حال الدخول في المحل المحرم يكون مطيعا وعاصيا.

وهذا المورد هو الّذي حكى في المعالم انّ جواز الاجتماع فيه بديهيا ، ومثّل له بما إذا امر المولى بخياطة ثوب ونهى عن الكون في مكان ، فخاطه المكلف في ذلك المكان. فيكون مطيعا وعاصيا بالضرورة (١).

هذا ولا مجال في هذا القسم لأن يقال : انّ تعدد العنوان ربما يتحقق مع وحدة المعنون إلى غير ذلك.

وأخرى : يكون أحد العنوانين متأصلا والآخر انتزاعيا أي غير متأصل ، كعنوان الصلاة والغصب فانّ الهيئة التركيبية في الصلاة وان كانت امرا اعتباريا إلّا انّ واقعها أعني الأفعال والأذكار والنية كلها مقولات متأصلة من الفعل والوضع والكيف النفسانيّ وغير ذلك ، واما الغصب أعني التصرف العدواني الّذي هو متقوم بعدم رضا المالك ولذا ينقلب الغصب بغير الغصب بمجرد رضائه أو موته إذا كان المتصرف وارثا له ، فالتصرف المقارن لعدم رضا المالك حرام ، والتصرف بمعنى التغير قد يتحقق في ضمن مقولة أخرى ، فهو عنوان صادق على مقولات متباينة ، نظير عنوان الفعل الّذي يصدق على الإيجاد والوجود أيضا ، فهو مفهوم وسيع ، وأوسع منه مفهوم الشيء الّذي يطلق على ذات الباري جلت عظمته. وبما انه لا جامع ذاتي بين المقولات فلا بدّ وان يكون عنوان التصرف العدواني أي المقارن مع عدم رضا المالك عنوانا انتزاعيا.

__________________

(١) معالم الدين ـ ١٠٩.

وفي هذا القسم لا بدّ من التفصيل في الجواز والامتناع ، وذلك لأنّ العنوان الانتزاعي لا وجود له مستقلا فلا بدّ وان يكون وجوده بوجود أحد المقولات المتأصلة ، وعليه فإذا كان منشأ انتزاعه مصداق ما تعلق به التكليف الآخر فلا محالة يتحد المعنونان فيمتنع الاجتماع ، وإلّا فيجوز ، مثال ذلك ما إذا نهى المولى عبده عن القيام الّذي هو عنوان متأصل وامره بإكرام شخص ، الّذي هو عنوان انتزاعي ربما يتحقق بالضيافة ، وقد يتحقق بإعطاء المالك ، وقد يتحقق بالقيام له ، فإذا فرضنا انّ العبد أكرمه بغير القيام مثل السلام وتحريك اليد وقام مقارنا لذلك بحيث لم يكن الإكرام منتزعا منه فلا محالة يكون مطيعا وعاصيا ، وامّا لو أكرمه بالقيام فيمتنع الاجتماع لاتحاد متعلق التكليفين كما هو واضح.

ومن ثم فصلنا في الصلاة في الدار المغصوبة بين الصلاة الإيمائي بفتح العين وغمضه وبين غيرها من الصلوات التامة ، فانّ مجرد الكون في المكان ليس من اجزاء الصلاة ، وما يكون من اجزائها وهو الإيماء بالعين لا يكون تصرفا ومنشأ لانتزاع عنوان الغصب ، فتكون صحيحة.

وامّا توهم كون الذّكر أو فتح العين وغمضه تصرفا بالدقة لاستلزامه تموج الهواء مدفوع بأنّ الأمر وان كان كذلك عقلا إلّا انّ ذلك لا يعد تصرفا بنظر العرف ، ولذا لو نفخ أحد من الخارج في دار غيره لم يفعل محرما ، وهذا بخلاف الصلاة المشتملة على الركوع والسجود.

وحاصل الكلام انّ القول بجواز اجتماع الأمر والنهي مطلقا والقول بالامتناع كذلك وانّ كان هو المشهور ، إلّا انّ الصحيح هو التفصيل ، بيانه : انّ متعلق الأمر والنهي وهو فعل المكلف الّذي يكون تحت اختياره قد يكون امرا متأصلا وقد يكون امرا انتزاعيا من ماهية متأصلة ، وهو أيضا مقدور للمكلف بالقدرة على إيجاد منشئه.

فتارة : يكون متعلق كل من الأمر والنهي ماهية متأصلة ، كما لو امر المولى عبده بالقيام ونهاه عن التكلم فأوجدهما معا.

وأخرى : يكون المتعلقان كلاهما امرا انتزاعيا ، كما لو امره بإكرام العالم ونهاه عن إكرام الفاسق ، فانّ الإكرام امر منتزع من القيام والسلام ونحوه ، فأكرمهما بقيام واحد.

وثالثة : يكون متعلق الأمر أو النهي متأصلا ومتعلق الآخر انتزاعيا ، كما لو أمره بالقيام ونهاه عن إكرام الفاسق ، فقام وأكرم به فاسقا أو العكس ، فالأقسام أربعة.

امّا في القسم الأول : أعني ما إذا كان متعلق كل من الأمر والنهي ماهية متأصلة ، فبما انّ لكل ماهية وجود مستقل مغاير لوجود الماهية الأخرى إذا كانتا عرضيتين ، ويستحيل ان يوجد بوجود واحد ، فهناك ماهيتان ووجودان ، غاية الأمر انضم أحدهما بالآخر ، فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما مطلقا.

وإمّا القسم الثاني : فلا بدّ فيه من التفصيل ، فان كان منشأ انتزاع الأمرين الانتزاعيين موجود واحد كما لو أكرم العالم وأكرم الفاسق بقيام واحد امتنع الاجتماع ، لأنّ الفعل الواحد يستحيل ان يكون مأمورا به ومنهيا عنه ، وامّا لو كان لكل منهما منشأ انتزاع مستقل مغاير لمنشإ انتزاع الآخر كما لو فرضنا انه أكرم العالم بالقيام والفاسق بالسلام مثلا دفعة واحدة ، فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما.

وامّا القسم الثالث : فكذلك يفصل فيه بين ما إذا كان منشأ انتزاع الأمر الانتزاعي الّذي تعلق به الأمر أو النهي عين الأمر المتأصل الّذي تعلق به الأمر أو النهي فيمتنع الاجتماع ، وما إذا كان غيره فيجوز الاجتماع ، مثلا لو امر المولى بالقيام ونهى عن إكرام الفاسق أو العكس ، فأتى بهما المكلف دفعة واحدة ، فان كان إكرامه للفاسق بنفس القيام امتنع الاجتماع ، لأنّ نفس القيام مصداق للمنهي عنه ومبغوض

للمولى فكيف يكون محبوبا له أيضا ، وامّا لو قام وأكرم الفاسق بالسلام مثلا فيجوز الاجتماع ، لما عرفت من تعدد المصداقين.

فتحصل : انّ إطلاق القول بالجواز لتعدد العنوان لا وجه له ، كما انّ القول بالامتناع مطلقا بدعوى انّ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون فاسد ، وذلك لأنّ تعدد العنوان وان لم يوجب تعدد المعنون إلّا انه لا يوجب وحدته أيضا. فالصحيح هو التفصيل على ما عرفت.

وبالجملة ملاك الامتناع والإمكان هو كون التركيب اتحاديا والحيثية تعليلية ، وكونه انضماميا والحيثية تقييدية ، فلا بدّ وان ينظر إلى المتعلقين ، فان كانا انتزاعيين من موجود واحد ، أو كان أحدهما متأصلا والآخر منتزعا عنه فالتركيب اتحادي ، فلا بدّ من الامتناع. وامّا ان كانا متأصلين ، أو كان كل منهما منتزعا عن موجود متأصل مغاير للآخر ، أو كان الانتزاعي منتزعا عن غير ذلك المتأصل فالتركيب انضمامي ، فيجوز الاجتماع ، فيختلف ذلك باختلاف الموارد. هذا كله في بيان الكبرى.

وبقي الكلام في تطبيقها على الوضوء بالماء المغصوب ، فالظاهر انه من قبيل القسم الثاني من الأقسام المتقدمة ، فتأمل.

فانّ الوضوء كعنوان التصرف في مال الغير امر منتزع من الغسلات ، وبما انّ منشأ انتزاعهما فعل واحد فلا محالة يمتنع اجتماع الأمر والنهي فيهما ، وحيث انا نقدم في أمثال ذلك جانب الحرمة لاستحالة تعلق الأمر بما هو مبغوض للمولى ، إذ لا يكون المبغوض مقربا ، فلا يشمل إطلاق الأمر مورد الاجتماع.

ويترتب على هذا فرع مهم لم نر من تعرض له ، وهو فساد الوضوء بالماء المغصوب مطلقا حتى مع الجهل بالغصبية ، فانّ الجهل وان كان عذرا رافعا للمغصوبية إلّا انه لا يرفع الحرمة الواقعية ، فإطلاق الأمر غير شامل لذلك ، لما

عرفت انّ مورد اجتماع الأمر والنهي يكون داخلا في باب التعارض لا التزاحم ، فنتيجة تقديم أحدهما هو تخصيص الآخر ، فيختص المأمور به في الفرض بغير الماء المغصوب.

وامّا الملاك فليس لنا طريق لكشفه على ما مر منا مرارا. والعجب من الميرزا قدس‌سره فانه مع ما بنى عليه من امتناع الاجتماع وتقديم جانب الحرمة وافق متن العروة في التفصيل في فساد الضوء بالماء المغصوب بين صورتي العلم بالغصب والجهل به لشبهة موضوعية.

نعم ادعى في مفتاح الكرامة الإجماع على صحة ذاك الوضوء جهلا ، إلّا انه على فرض تحققه ليس إجماعا تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، لأنّ المجمعين عللوا ذهابهم إلى الصحة بما هو مذكور في كلماتهم من إدخال باب اجتماع الأمر في باب التزاحم ولا يزاحم التكليف المنجز ما لم يتنجز بجهل ونحوه ، وقد عرفت ما فيه.

وامّا الوضوء في المكان المغصوب فان لم يكن مصب الماء مغصوبا فالظاهر صحة الوضوء ، وذلك لأنّ الغصب حينئذ ليس إلّا من جهة إشغال ذاك المكان أو الفضاء ، فنفس الاشغال وان كان محرما كتحريك اليد إلّا انّ ذلك ليس بمأمور به ، وما هو المأمور به أعني مماسة الماء للبشرة ليست تصرفا في ملك الغير. وامّا لو كان مصب الماء مغصوبا ، فان كان في البين واسطة بان كان المصب ابتداء محلا مباحا ثم يصب منه إلى المكان المغصوب وكان المتوضئ متمكنا من المنع عن ذلك بوضع حائل أو ميزاب يمنع الماء عن ان يصب في ملك الغير فلا إشكال أيضا في صحة الوضوء. وامّا لو لم يكن هناك واسطة كذلك فيدخل المقام في باب مقدمة الحرام ، وحيث أنكرنا في محله وجوب مقدمة الواجب فضلا عن حرمة مقدمة الحرام ما لم تكون علّة تامة فالوضوء حينئذ وان كان مقدمة لانصباب الماء في ملك الغير إلّا انه ليس بمحرم ، فلا يكون داخلا في باب اجتماع الأمر والنهي ، فيكون مأمورا به إلّا في

فرض الانحصار ، فلا بدّ حينئذ من تقديم أحد الحكمين من حرمة ذي المقدمة ووجوبها.

ولكن الصحيح ان يقال : انّ الحرام انما هو انصباب الماء ووقوعه في المكان المغصوب الّذي هو لازم كل جسم ، والواجب انما هو الغسل أعني مماسة الماء للبشرة ، وليس ذلك مقدمة لانصباب الماء في ذاك المكان.

نعم صب الماء مقدمة لحصول كلا الأمرين ، فالمقام لا يدخل في مقدمة الحرام ليكون الوضوء فاسدا على القول بحرمتها ، بل يكون الحرام والواجب مشتركين في المقدمة ، نظير ما لو فرضنا انّ المكلف بضرب واحد قتل شخصين أحدهما واجب القتل والآخر محفوظ الدم ، ومن الواضح انه لا يلزم اتحاد المشتركين في المقدمة من حيث الحكم. فالمقام أجنبي عن باب الاجتماع حتى لو قلنا بحرمة مقدمة الحرام كما هو واضح.

وامّا التوضي في آنية الذهب والفضة بالاغتراف منها ولو تدريجا ، ففي غير صورة الانحصار يصح أيضا ، وذلك لأنّ عنوان استعمال آنية الذهب والفضة الّذي ورد النهي عنه في الاخبار ليس كعنوان النهي عن الأكل فيها الّذي هو أيضا منهي عنه ، فانّ عنوان الأكل يختلف عرفا باختلاف الأواني ، مثلا الأكل في القدر ليس بمعنى وضع القدر على الشفة والأكل منه ، بل استعماله في الأكل انما هو بالطبخ فيه ، وهكذا في المصفاة إلى غير ذلك ، وامّا الاستعمال فلا يختلف صدقه باختلاف الأواني ، بل معناه امر واحد ، وعليه فلو فرضنا انّ أحدا أخذ الماء من إناء من الذهب ، فأخذه منه استعمال له ، واما لو رشه بعد ذلك على الأرض أو سقاه إلى حيوان لا يكون الرش والسقي استعمالا لذلك الإناء عرفا ، وهذا واضح. ففي المقام الاغتراف من الإناء وان كان استعمالا له إلّا انّ غسل الوجه بذلك الماء الّذي هو الوضوء ليس استعمالا للإناء ليكون محرما ، فلا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي

أصلا ، وهكذا الحال في التوضي بالإناء المغصوب.

نعم في صورة الانحصار لا بدّ من تقديم أحد الجانبين على ما عرفت. هذا كله في الوضوء.

واما الصلاة فتارة : يقع الكلام فيها من حيث اللباس والمحمول ، وأخرى : من حيث المكان.

اما من حيث المكان فقد اعتبر فيها الفقهاء إباحة المكان ، ثم رتبوا عليه فساد الصلاة في المكان المغصوب ، فالمعتبر عنوان عام يعم حرمة المكان من حيث الغصب ومن سائر الحيثيات ، مثل كونه مصداقا للخلوة مع الأجنبية ، أو كونه معرضا للتهمة ، أو لتلف النّفس كالصلاة في المسبل (١) وأمثال ذلك ، وفي هذا الفرض ليس المحرم إلّا مجرد الكون في ذاك المكان ، وامّا بقية التصرفات فيه فليس بمحرم ، ومن الواضح انّ الكون في المكان انما هو من لوازم الجسم وليس مقوما للصلاة ومأمورا به ، ومن ثم لو فرضنا انّ أحدا صلى في غير مكان صحت صلاته ، فهو خارج عن باب اجتماع الأمر والنهي كلية.

واما الصلاة في المكان المغصوب فلا إشكال في انّ المحرم حينئذ ليس مجرد الكون في المكان ، بل يحرم كل ما يعد تصرفا في الغصب مثل الحركة ونحوها ، وعليه فتدخل الصلاة في مورد الاجتماع من جهتين ، إحداهما : من حيث الركوع ، والثانية : من حيث السجدة.

بيان ذلك : انه ان قلنا بأنّ الركوع المأمور به انما هو مجرد تلك الهيئة التقوسية ، والهوى مقدمة له ، فلا إشكال من هذه الجهة إذ لا يلزم اجتماع الأمر والنهي ، فانّ المأمور به هو تلك الهيئة ، وليست تصرفا ، والمنهي عنه ما هو مقدمته وهو الهوي ،

__________________

(١) المسبل : أي الطريق.

وبتعبير الميرزا قدس‌سره انّ الصلاة منتزعة من مقولة الوضع والكيف ، والغصب منتزع من مقولة الأين ، فكيف يجتمعان. واما لو قلنا بأنّ الهوى والانحناء مقوم للركوع ومن ثمّ لا يقال : «ركع زيد» لو قام من جلوس إلى ان وصل إلى تلك الهيئة فلا محالة يتحد مورد الأمر والنهي ، فيمتنع اجتماعهما. هذا من حيث الركوع.

وامّا من حيث السجود ، فان قلنا : بأنه عبارة عن مماسة الجبهة للمسجد فلا اجتماع ، لأنّ المماسة لا تكون غصبا. وإن قلنا : بأنه عبارة عن وضع الجبهة الّذي هو متقوم بالاعتماد على الأرض وجعل ثقله عليها يكون من مورد امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فيقدم جانب النهي ويحكم بفساد الصلاة.

نعم تصح الصلوات غير المشتملة على الركوع والسجود ، كصلاة الميت والصلاة الإيمائي خصوصا إذا كانت بالعين.

وبالجملة الغصب عنوان ينتزع عن التصرف في ملك الغير والاستيلاء العدواني على الشيء ، مثلا لو شرب الإنسان الماء المغصوب ، فعنوانه المتأصل هو الشرب ، وينتزع عنه عنوان الغصب أيضا.

ولا وجه لما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ الغصب من مقولة الأين فلا يصدق على الصلاة التي هي من مقولة الكيف والوضع مثلا ، لأنّ المقولات متباينة ، فانّ ذلك انما هو في المقولات المتأصلة ، واما العناوين الانتزاعية فيمكن اجتماعها في مورد واحد ، وتعدد العنوان الانتزاعي لا يستلزم تعدد المعنون.

وعلى هذا فاجتماع الأمر والنهي في الصلاة في المكان المغصوب المشتمل على الركوع والسجود يكون من جهتين.

امّا من ناحية السجدة بناء على كونها متقومة بالاعتماد على الأرض كما هو الصحيح ، ومن ثم لا تجوز السجدة على مكان لا يمكن الاستقرار عليه كالوحل والرمل. نعم بناء على ان تكون السجدة مجرد مماسة الجبهة فلا اجتماع من هذا

الحيث.

وامّا من ناحية الركوع ، فانه لو قلنا : بأنّ الركوع عبارة عن مجرد تلك الهيئة التقوسية ، والهوى مقدمة له ، فلا يتحد مصداق الواجب والحرام ، نعم مقدمة الواجب محرمة ، ولا يستلزم حرمة المقدمة حرمة ذيها.

وامّا لو قلنا : بأنّ الهوى مقوم للركوع لا مقدمة له ففي الهوى حركتان. حركة في الوضع أعني هيئة الشخص ، فانه بمجرد ما يشرع في الانحناء تتوارد عليه الهيئات والأوضاع إلى ان يصل إلى حد الراكع ، وحركة في الأين وهي طي المسافة في المكان أو الفضاء المغصوب على الفرض ، والغصب منتزع من الثانية لا الأولى ، فانّ الحركة في الأين قد يجتمع مع الحركة في الوضع كما في المثال ونحوه ، وقد لا يجتمع معها كما لو مشى الغاصب في المكان المغصوب مستقيما من دون تحقق تغيير في هيئته ، وعليه فان كان مقوم الركوع هو الحرمة في الوضع فلا يجتمع الأمر والنهي في الركوع ، وان كان مقومه الحركة في الأين لزم اجتماعهما لا محالة ، لاتحاد مصداق المأمور به والمنهي عنه ، فلا مناص من القول ببطلان الصلاة لتقديم جانب الحرمة. هذا كله في صورة العلم والعمد.

واما في صورة الجهل بالغصب ، فهل يمكن القول بصحة الصلاة في المكان المغصوب أم لا؟ امّا المشهور فتفصيلهم بين الصورتين مبني على تخيلهم كون باب اجتماع الأمر والنهي داخلا في باب التزاحم ، وقد عرفت منا ما فيه مرارا. ولكن على مسلكنا أيضا إمكانا يمكن التفصيل بين الصورتين ، لا على القاعدة ، بل من جهة حديث لا تعاد ، فانه ربما يحتمل ان يكون المراد من الركوع والسجود المذكورين فيه ذاتهما لا بوصف كونهما مأمورا بهما ، وعليه يتم التفصيل.

إلّا انّ الظاهر خلافه ، فانّ مورد الحديث انما هو اجزاء الصلاة وشرائطها لا ما هو أجنبي عنها ، فما نستظهره من الحديث هو الركوع والسجود بما لهما من

الخصوصيات الدخيلة في كونهما مأمورا بهما ، وعليه فالمقام يكون داخلا في المستثنى ، فتبطل الصلاة في فرض الجهل أيضا. ومع التنزل عما استظهرناه يكفينا إجمال الحديث من هذه الجهة ، فانّ مقتضى القاعدة عند الإخلال بشيء مما اعتبر في المأمور به هو البطلان ، والصحة كانت على خلاف القاعدة كما هو واضح.

وامّا الصلاة في اللباس المغصوب ، فان كان اللباس ساترا بالفعل يتحقق فيها اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنّ الستر المعتبر في الصلاة ليس كالستر عن الناظر المحترم الّذي يتحقق بكل ما يمنع عن النّظر من الظلمة والدخول في الماء والتلطخ بالطين ونحو ذلك ، بل المأمور به في الصلاة عنوان لبس ما يكون من قبيل الثوب لقوله عليه‌السلام : «يجد ثوبا يستر به عورته».

فلا وجه لما في الجواهر من انّ الستر لا يكون مصداقا للغصب فلا يكون حراما ، والمحرم مقدمة التستر ، فانّ اللبس هو المأمور به ، وهو بنفسه من أظهر مصاديق غصب الثياب والتصرف فيها ، فمع الالتفات والعمد تبطل الصلاة في الفرض لا محالة. واما في صورة الجهل فتصح الصلاة من حيث التستر لا من حيث الركوع والسجود على ما سيأتي ، لكن الصحة من هذه الجهة ليست على القاعدة ، بل لحديث لا تعاد ، فانّ التستر ليس من الخمس المذكورة فيه ، فكأنّ هذا الشخص صلى عاريا جهلا أو نسيانا.

ثم انك بما عرفت انّ المراد من الساتر هو الساتر بالفعل لو فرضنا انّ المصلي لابس لأثواب متعددة ، فان كان واحد منها مباحا يخرج ذلك عن الفرض أعني كون الساتر بالفعل مغصوبا ويدخل في الفرع الآتي وهو كون لباس المصلى مغصوبا ، وسيأتي التعرض لحكمه.

بقي الكلام في غير الساتر بالفعل من اللباس والمحمول المغصوب. فبناء على القول بأنّ الهوى في الركوع والسجود مقدمة لهما تكون الصلاة في اللباس المغصوب

ومع المحمول كذلك محكومة بالصحّة في فرض العلم والعمد فضلا عن صورة الجهل.

وامّا لو قلنا : بأنه مقوم لهما ، فحيث انّ الهوى الّذي هو مأمور به على الفرض مقدمة للحرام لاستلزامه حركة المغصوب ، فبناء على حرمة مقدمة الحرام تبطل الصلاة المشتملة على الركوع والسجود من غير فرق بين صورتي العلم والجهل ، كما لا فرق بين الصورتين من هذه الجهة في الفرض المتقدم أعني كون الساتر الفعلي مغصوبا.

هذا كله في كبرى بحث اجتماع الأمر والنهي وتطبيقها.

وتلخص من جميع ما ذكر : انّ إطلاق القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي كإطلاق القول بجوازه مما لا وجه له ، بل لا بدّ من التفصيل ، ففي كل مورد اتحد مصداق المأمور به مع مصداق المنهي عنه لا بدّ من القول بالامتناع ، فلا يكون مورد الاجتماع مصداقا للمأمور به من غير فرق من هذا الحيث بين صورتي العلم والجهل.

وقد ظهر بما قدمناه الجواب عن استدلالات كل من المنكرين والمثبتين ، إلّا انّ المجوزين استدلوا على الجواز بوقوع ذلك في الشريعة ، وهو أخص من الإمكان في باب العبادات المكروهة.

والجواب الإجمالي عن ذلك ما ذكره في الكفاية من انّ العبادات المكروهة خارجة عن باب اجتماع الأمر والنهي ، فانه انما يكون فيما إذا تعلق الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر واتحد مصداقهما خارجا ، واما إذا تعلق النهي بحصة من العنوان المأمور به فبابه باب النهي في العبادة ، ولا بد من تخصيص متعلق الأمر بغير تلك الحصة ، كما لو قال : «صل» وقال : «لا تصل في الحمام» فيكون المأمور به غير الصلاة في الحمام ، فكل من القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي والقائل بامتناعه لا بد له من الجواب عن العبادات المكروهة.

وامّا الجواب التفصيليّ ، فتارة : يكون العبادة المكروهة مما تعلق النهي فيها

بعنوان والأمر بعنوان آخر واتحد مصداقهما خارجا ، وأخرى : يكون النهي متعلقا بحصة من الطبيعي الّذي تعلق به الأمر.

وعلى الثاني تارة : يكون للفرد المنهي عنه بدل غير منهي عنه ، وأخرى : لا يكون له بدل ، فالأقسام ثلاثة :

اما القسم الأول : فمثاله ما إذا فرضنا انّ المولى امر بالصلاة ونهى عن الكون في مواضع التهمة فصلى المكلف فيها ، أو فرضنا انه نهى عن استعمال الماء المسخن بالشمس فتوضأ المكلف به. اما في موارد كون التركيب انضماميا ، فلا إشكال.

وامّا الموارد التي يكون التركيب اتحاديا ، فتفصيل الكلام فيه : هو انا قد ذكرنا في مبحث الترتب انه لو تعلق الوجوب أو الندب بالطبيعي على نحو صرف الوجود ، فالمأمور به انما هو الطبيعي دون افراده ، فلا تتصف بالوجوب ، كما انّ الكلية صفة للطبيعي ، ولا تتصف بها افراده ، فلا يقال : زيد إنسان والإنسان كلي فزيد كلي ، إذ ليس زيد مصداقا للإنسان بما هو كلي ، كما انّ زيدا بخصوصه ليس بواجب الإكرام وليس مصداقا لطبيعي إكرام العالم الواجب بما هو واجب ، وأوضحنا ذلك في بحث الضد أيضا ، وذكرنا انه لو ترك المكلف إكرام العالم مطلقا لا يعاقب على ترك إكرام خصوص زيد وخصوص عمرو وهكذا ، بل يعاقب على ترك إكرام العالم ، فالواجب هو طبيعي الإكرام ، وإيجاده انما هو بإيجاد مصداقه ، واما الوجود الخاصّ فليس بواجب وانما هو مصداقه.

نعم الأحكام الانحلالية تتعلق بالافراد كما عرفت ، وعليه فبما انّ الأمر في الفرض متعلق بالطبيعي ، والنهي انحلالي متعلق بالفرد ، فلم يجتمع الأمر والنهي أصلا ، والتعبير بالاجتماع مسامحة ، فلا وجه للقول بالامتناع أصلا.

وان قلت : هذا البيان بعينه جار في اجتماع الأمر والنهي التحريمي ، فلما ذا التزمتم فيه بالامتناع مع انه لا فرق بين الأحكام من حيث تضاد بعضها مع

بعض؟!

قلت : التنافي هناك أيضا ليس بين نفس الحكمين ، وانما هو بين الترخيص في التطبيق المستفاد من إطلاق الأمر بالطبيعي وبين النهي ، فان لازم إطلاق المأمور به بمعنى رفض القيود كون المكلف مرخصا في تطبيقه على أي فرد شاء ، فإذا فرضنا انّ فردا من افراد الطبيعي مبغوض للمولى تحريميا لا يعقل بقاء الترخيص في التطبيق بالقياس إليه ، فمن هذه الجهة تقع المعارضة بين إطلاق دليل الأمر ودليل التحريم.

واما في النهي التنزيهي ، فحيث انه لا ينافي الترخيص بل ربما يصرح به فيه غاية الأمر يكون فيه حزازة فلا منافاة بينهما أصلا ، وعليه فيكون أصل الطبيعي مأمورا به والتطبيق مكروها اصطلاحيا. ولعل هذا هو مراد من حمل الكراهة على أقلية الثواب (١) ، وإلّا فلو أريد منها ظاهرها فأغلب العبادات مكروهة ، فانّ زيارة الحسين عليه‌السلام يوم السبت أقل ثوابا منها في ليلة الجمعة وهكذا. هذا فيما إذا كان في البين مندوحة.

وامّا في فرض عدمها ، فتسقط الكراهة لا محالة ، إذ لا معنى لها بعد الانحصار وعدم قدرة المكلف على امتثال كلا الخطابين ، فلا بدّ من سقوطها حينئذ.

وبهذا البيان ظهر الحال في القسم الثاني ، فانّ الأمر فيه متعلق بالطبيعي ، ولا ينافيه تعلق النهي التنزيهي ببعض افراده.

وامّا القسم الثالث : أعني ما إذا تعلق النهي بحصة مما تعلق به الأمر من دون ان يكون لها بدل كالنهي عن صوم يوم عاشوراء ، فكيف يعقل كون الفعل الواحد محبوبا ومبغوضا؟!

وقد أجيب عن ذلك بوجوه ، أحسنها ما ذكره الشيخ قدس‌سره وحاصله : انّ النهي

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٥.

فيه ليس نهيا اصطلاحيا بمعنى الزجر عن الفعل لمفسدة فيه ، بل يكون هناك مصلحة قائمة بالفعل ومصلحة أخرى قائمة بالترك ، ولا يبعد كونها أهم من مصلحة الفعل ، كما يستفاد ذلك من كثرة الحث عليه والتزام الأئمة به. هذا في مرحلة الثبوت.

وامّا في مقام الإثبات ، فالمراد من النهي امّا ان يكون طلب الترك ويكون مستعملا في معناه الحقيقي بناء على القول بأنه طلب ترك الفعل ، أو يكون مستعملا في الإرشاد إلى أولوية اختيار الترك لاشتماله على المصلحة الأهم مع كونه موافقا لراحة النّفس ولو كان استعماله في ذلك على نحو من المسامحة ، إذ لا يعقل ان يكون مستعملا في معناه الحقيقي وهو الزجر عن الفعل ، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.

وقد استشكل (١) في ذلك بأنه ما فائدة جعل مثل هذين الحكمين مع انّ المكلف بطبعه لا يخلو من الفعل أو الترك.

وبعبارة أخرى : طلب النقيضين والضدين اللذين لا ثالث لهما مستحيل ، لأنه ان كان تعيينيا فهو من طلب المحال ، وان كان تخييريا يكون من اللغو الواضح ، ومن هذه الجهة لم يرتض الميرزا قدس‌سره هذا الجواب ، وأجاب بجواب آخر سنبينه إن شاء الله.

ويرد على الإشكال انّ طلب الضدين اللذين لا ثالث لهما وان كان محالا كالنقيضين إلّا انّ المقام ليس كذلك ، فانّ الفعل المطلوب ليس هو مجرد الكف والإمساك ، وانما هو الإمساك الخاصّ أعنى مع النية وله ضدان : أحدهما مجرد ترك ذلك ، وثانيهما الترك مع النية أي بقصد القربة ، وما يعلق به الطلب انما هو ذات ترك الصوم دون المقيد بقصد القربة ، فيكون توصليا كأكل الرمان يوم الجمعة. فبابه باب المستحبين المتزاحمين كما هو واضح ، فالتوجيه الّذي ذكره الشيخ قدس‌سره أحسن ما قيل

__________________

(١) راجع فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٤٣٩.

في المقام على ما نعلم.

والميرزا قدس‌سره بعد ذكر الإشكال المتقدم وجّه المقام بتوجيه آخر مبتن على مقدمة وهي: انّ الحكمين سواء كانا وجوبيين تعبديين أو مختلفين إذا تعلقا بموضوع واحد ، فتارة : يكونان عرضيين كما لو نذر أحد أن يزور الحسين عليه‌السلام ، فانّ الأمر الاستحبابي متعلق بذات الزيارة ، والأمر النذري أيضا كذلك لأنه توصلي ، فكلاهما عرضيان ، وفي مثله لا بدّ من الالتزام بالاندكاك ، ونتيجته حدوث امر وجوبي عبادي ، فانّ الأمر النذري يكتسب العبادية من الأمر الندبي وهو يكتسب الإلزامية من الأمر الوجوبيّ ، ونظيره في الخارج ما إذا مزج مائع أبيض حلو بمائع أحمر غير حلو فيتحقق هناك مائع حلو أحمر.

وأخرى : يكونان طوليين ، كما لو أجر أحد نفسه للعبادة عن الغير كالزيارة ونحوها ، فانّ الأمر المتحقق من جهة الوفاء بالعقد ليس متعلقا بذات العمل ، بخلاف الأمر المتعلق بالمنوب عنه فانه متعلق بذات العمل ، ولذا لا يحصل فراغ ذمة الأجير بالإتيان به كذلك ، وانما هو متعلق بإتيانه بعنوان النيابة عن الغير ، فالحكمان طوليان.

وفي هذا القسم لا مانع من بقائهما ، ولا وجه للاندكاك أصلا ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ الأمر بالصوم متعلق بذات العمل ، وامّا الأمر بالترك فانما هو متعلق بترك امتثال ذلك الأمر أعني ترك الصوم مع النية ، فهما طوليان لا مانع من اجتماعهما ونقول : ما أفاده من الكبرى وانطباقها على المقام محل نظر. امّا الكبرى فلأنّ ما ذكره في اندكاك الحكمين العرضيين وان كان تاما كما ذكر إلّا انّ ما أفاده من الطولية في باب الإجارة على العبادات ممنوع ، وذلك لأنّ الأمر الموجود هناك ثلاثة.

الأول : الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.

الثاني : الأمر بتبرع كل مسلم عن كل مؤمن.

الثالث : الأمر الناشئ من الإجارة.

فطولية الأمر الناشئ عن الإجارة يلحظ إلى أي من الأمرين؟. إمّا الأمر المتعلق بالمنوب عنه فلا ربط له بالأجير ليقاس الأمر المتعلق به إليه أصلا ، بل ربما يكون معدوما حين وجوده كما في النيابة عن الميت ، فانه غير قابل للتكليف ، أو غير قادر على امتثاله فليس مكلفا بشيء.

وعلى أي تقدير ما تعلق به التكليف المتوجه إلى المنوب عنه انما هو الفعل الصادر عنه ، وهذا لا يعقل ان يكون مطلوبا عن النائب ، لأنه غير قادر على الإتيان بفعل الغير كما هو ظاهر.

فالامر الإجاري وان كان متعلقا بالإتيان بما كان المنوب عنه مكلفا بإتيانه ولذا لا معنى لأن ينوب أحد عن غيره أزيد من زمان تكليفه بان ينوب عمن عاش عشرين سنة خمسون أو أزيد إلّا انهما أجنبيان متوجهان إلى شخصين فكيف يقال : هما طوليان أو عرضيان؟ بل لا ربط بينهما أصلا ، وامّا الأمر التبرعي فهو في عرض الأمر الإجاري كما هو واضح.

ثم لو سلمنا الطولية في الأجرة في العبادات إلّا انّ قياس المقام بها لا وجه له بان يقال: انّ الأمر متعلق بذات الصوم والنهي متعلق بالتعبدية ، وذلك لا التعبد وقصد القربة مما يتعلق بها الأمر المولوي بتعدد الأمر على مختاره ، وبنفس الأمر الأول على المختار ، وليس اعتبارها بحكم العقل ، فالتعبد بالأمر بنفسه مأمور به فكيف يعقل النهي عنه؟! نعم يتم ذلك على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره.

فتحصل : انّ ما أفاده الشيخ هو الصحيح الّذي لا بدّ من الالتزام به.

بقي الكلام في موردين :

الأول : انّ الميرزا القمي قدس‌سره ذهب إلى جواز اجتماع الأمر والنهي ، بدعوى : انّ المأمور به انما هو الطبيعي كالصلاة ، والمحرم وهو الغصب مثلا انما هو الفرد وهو مقدمة للمأمور به أي الطبيعي ، ولا تسري حرمته إليها في فرض عدم الانحصار.

وفيه : أولا : انّ الوجود المتحقق في الخارج ليس إلّا وجودا واحدا ، وهو كما يكون وجودا للفرد يكون وجودا للطبيعي ، فلا تعدد في البين فضلا عن المقدمية.

وثانيا : انه لو سلمنا كون الفرد مقدمة للطبيعي ، إلّا انّ مورد كلام المحقق المزبور ان كان صورة كون التركيب انضماميا ، فلا حاجة فيها إلى هذه التكليفات ، وان كان فرض كون التركيب اتحاديا ، فلا محالة يكون طبيعي المأمور به كالصلاة مثلا متحدا مع طبيعي الغصب ، لاتحاد مصداقهما على الفرض وانطباقهما عليه ، فعاد المحذور.

فصحة ما أفاده قدس‌سره مبنى على مقدمتين إحداهما : كون الفرد مقدمة للطبيعي ، والثانية : كون الفرد بنفسه طبيعي الغصب ، وكلاهما ممنوع.

الثاني : انه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو في موارده ، لو فرضنا ارتفاع النهي لعذر من اضطرار أو إكراه أو نسيان عذري أو جهل بناء على كونه عذرا ، فهل يصح الإتيان بالمجمع حينئذ أم لا؟

المشهور هو الأول ، والميرزا قدس‌سره ذهب إلى الثاني ، وذكر لبيانه مقدمة بيناها في مبحث الأقل والأكثر وحاصلها : انّ المانعية المستفادة من النهي تارة : تكون من النهي الإرشادي ، فانّ النهي إذا تعلق بالمركبات الاعتبارية يكون إرشادا إلى الفساد والمانعية كما في قوله «لا تصل في الحرير» مثلا أو «نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر» فانّ المستفاد من ذلك بحسب الفهم العرفي ليس إلّا الفساد دون الحرمة المولوية. وعليه فإطلاق مثل هذا النهي يعم القادر والعاجز ، ولذا مقتضى القاعدة عند تعذر ذلك هو سقوط التكليف بالمركب إلّا في موارد دل النص على بقائه متعلقا

ببقية الاجزاء كما في الصلاة لقوله «الصلاة لا تسقط بحال».

وأخرى : يكون التنافي من حيث التزاحم ، كما لو فرضنا انحصار مقدمة الواجب بالحرام ، فزالت الحرمة لعذر. ومقتضى القاعدة في ذلك هو الصحة ، لأنّ الحرمة غير المنجزة لا تزاحم الوجوب المنجز ، ولذا ذكرنا في بحث الترتب صحة العمل في هذا الفرض حتى بناء على إنكار الترتب.

وثالثة : يكون التنافي من قبيل باب التعارض وعدم إمكان ثبوت الحكمين معا ، وهذا هو محل الخلاف بين المشهور وبين المحقق النائيني قدس‌سره.

وبعبارة أخرى : انّ تقييد إطلاق دليل الواجب إذا ثبت يكون بأحد أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون التقييد بأمر أو نهي إرشادي إلى شرطية شيء فيه أو مانعيته عنه ، كما لو ورد امر بالصلاة ثم ورد «صل إلى القبلة» ، فانّه يستفاد منه شرطية القبلة للصلاة ويقيد بها إطلاق الدليل الأول ، أو ورد «لا تصل في الحرير» فيستفاد منه مانعية ذلك فيقيد به إطلاق الأمر. وحيث انّ مثل هذا الأمر أو النهي متمحض في الإرشاد وليس فيه تكليف لا يختص بالعالم ولا بالقادر ، بل يعم الجاهل والعاجز ، فيثبت به الشرطية أو المانعية المطلقة الواقعية. وعليه فلو لم يأت المكلف بذلك القيد لم يأت بالمأمور به أصلا من غير فرق في ذلك بين العبادات والتوصليات إلّا انّ في التوصليات قد يحصل الغرض بذلك فيسقط الأمر لسقوط الغرض لا للامتثال ، وعلى هذا فمقتضى القاعدة عند تعذر القيد هو سقوط التكليف رأسا إلّا إذا ثبت الأمر بالفاقد بدليل خاص كما في الصلاة ، وهذا واضح.

الثاني : ان يكون تقييد الأمر الأول من مزاحمة الأمر الأول بأمر آخر أهم أو نهي كذلك ، والأول كما إذا ورد امر بالصلاة ثم تنجس المسجد وورد أمر فوري بإزالتها ، أو انكسفت الشمس فورد الأمر بصلاة الكسوف فورا ، فحيث لا يتمكن

المكلف من امتثالهما لا محالة يقيد الأمر الأول بعصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان به. والثاني كما إذا توقف الإتيان بفرد من الواجب على مقدمة محرمة وكانت حرمتها أهم من وجوبه فلا محالة يقيد إطلاق دليله بغير هذا الفرد ، والتقييد في هذا الفرض منحصر بما إذا كان التكليف بالأهم فعليا منجزا ، وإلّا فلا يكون شاغلا لقدرة العبد ، ولا يوجب تقييد الأمر الأول كما هو ظاهر.

الثالث : ان يكون التقييد من جهة المعارضة ، ولا إشكال في عدم جريان ذلك فيما إذا كان كلا الحكمين إيجابيا حتى فيما إذا فرضنا انّ طرف أحد الواجبين الاستقلاليين هو الواجب الآخر ، كما إذا قال المولى : «صل» وقال : «اقنت في صلاتك» مع فرض كونه تكليفا استقلاليا ، فالتقييد بالحكم الإيجابي في المقام لا وجه له.

نعم يجري ذلك فيما إذا كان الدليل الثاني تحريميا ، ومن ذلك مورد بحثنا أعني موارد اجتماع الأمر والنهي مع كون التركيب اتحاديا ، كما في الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، فبما انّ المحرم والمبغوض يستحيل ان يكون مطلوبا ومقربا لا محالة يقيد إطلاق دليل وجوب الصلاة المتعلق بالطبيعي بنحو صرف الوجود بغير الفرد المحرم.

وفي هذا الفرض لا يفرق على المختار بين صورتي العلم والالتفات إلى الحرمة والجهل بها ، لأنّ الجهل لا يرفع الحرمة الواقعية على ما عرفت الكلام فيه.

وامّا لو ارتفعت الحرمة واقعا باضطرار أو إكراه ونحوه مما يكون رافعا للتكليف فهل يعود الأمر الساقط ويشمله إطلاق الدليل الأول كما ذهب إليه المشهور لأنّ المانع قد ارتفع ، أو انّ الإطلاق الساقط لا يعود كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره (١)

__________________

(١) فوائد الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٧.

وقد ذكر قدس‌سره في تفصيل ذلك ما حاصله : انّ الحكمين إذا كانا طوليين يثبت الوجوب عند ارتفاع الحرمة ، وان كانا عرضيين فلا.

بيانه : انا ان قلنا : بأنّ عدم كل من الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر فعدم الحرمة مقدمة لوجود الوجوب ، فالنهي انما يدل على انتفاء الوجوب في مورد الاجتماع لأجل انتفاء مقدمته طولا ، فإذا سقط النهي لعذر ونحوه فلا محالة يثبت الوجوب بتحقق علّته. وامّا لو فرضنا انّ النهي في عرض دلالته على الحرمة مطابقة بالالتزام يدل على نفي الوجوب ، فسقوط مدلوله المطابقي لعذر من اضطرار ونحوه لا يستدعي سقوط مدلوله الالتزامي ، فهو باق على حاله.

وبعبارة أخرى : ان كانت دلالة النهي على انتفاء الوجوب عن مورده في طول دلالته على ثبوت الحرمة من جهة كون عدم الضد مقدمة لوجود الضد الآخر فسقوط الحرمة في مورد المعارضة يوجب شمول إطلاق دليل الوجوب وثبوته فيه ، وامّا ان كانت دلالة النهي على انتفاء الوجوب عن مورد في عرض دلالته على ثبوت الحرمة فيه ، غاية الأمر بالالتزام ، فسقوط المدلول المطابقي لا يقتضي عود الوجوب.

وفيه : انّ طولية الحكمين ومقدمية عدم كل ضد لوجود ضده غير صحيحة على ما عرفت الكلام فيه في بحث الضد ، وانّ عدم الضد أعني الحرمة ثبوتا لا يقتضي ثبوت الوجوب إلّا انّ سقوط الحرمة يوجب ثبوت الوجوب إثباتا.

وبيان ذلك : انه لو ورد عام كقولك : «أكرم العلماء» ثم ورد مخصص بقولك : «لا تكرم فساقهم» فمدلوله المطابقي هو حرمة إكرام العالم الفاسق ، كما انّ مدلوله الالتزامي عدم شمول عموم دليل الأمر لتلك الحصة ، فانّ ثبوت الحرمة لفرد لا يجتمع مع كونه مصداقا للمأمور فيما إذا كان الأمر متعلقا بالطبيعي بنحو صرف الوجود ، ولا مع كونه بنفسه مأمورا به فيما إذا فرضنا تعلق الأمر بالطبيعة بنحو

السريان ومطلق الوجود ، فلا محالة يختص الأمر ويقيد بغير ذاك الفرد ، فإذا فرضنا انّ دليل التخصيص خصص أيضا وانتفت حرمة إكرام فساق العلماء في يوم الجمعة مثلا كما لو قال «لا تكرم فساقهم إلّا يوم الجمعة» فعموم دليل الأمر يشمله ويحكم بوجوب إكرامهم في يوم الجمعة.

وهذا واضح وجار بعينه في المقام أيضا ، فإذا فرضنا تقديم دليل النهي وحرمة الغصب في مورد الاجتماع لا محالة يقيد إطلاق الأمر بالصلاة بغير ذاك الفرد ، فإذا خصصت الحرمة في مورد وارتفعت ولو بنتيجة التخصيص أي الحكومة بحديث الرفع ونحوه يشمله إطلاق دليل الأمر لا محالة ، فيثبت فيه الوجوب.

وربما يتوهم الفرق بين المقام وبين التخصيص بان يقال : انّ التخصيص وان كان متأخرا عن العام إلّا انّ المنكشف به هو تقيد المراد الواقعي من أول الأمر ، إذ ليس بين دليل التخصيص والعام معارضة. وهذا بخلاف الحكومة الثابتة في حديث الرفع ، فانّ الرفع انما يستعمل في مورد ثبوت المقتضي ، فيستفاد منه ثبوت المفسدة للحرمة في كل مورد ارتفعت بالحديث ، وإذا ثبتت المفسدة والمبغوضية الواقعية كيف يمكن شمول الأمر له؟!

والجواب عنه : هو انّ ثبوت المفسدة خصوصا ما إذا كانت مزاحمة بمصلحة أهم ولو كانت هي التسهيل لا ينافي الوجوب ، وما ينافيه انما هو الحرمة والمبغوضية الفعلية ، والمفروض ارتفاعها بالحديث ، فكأنّ المتوهم خلط بين المفسدة والمبغوضية.

بقي الكلام في جهة أخرى : وهي انه لو اضطر المكلف إلى البقاء في ملك الغير ، أو أكره عليه فيدخل وقت الصلاة ، فالمعروف فيه عدم جواز الإتيان بالصلاة ، وإذا استوعب ذلك الوقت كله تجب الصلاة إيماء ، لأنّ الصلاة التامة تكون تصرفا زائدا في ملك الغير.

ونقول : قد عرفت الكلام في ذلك مفصلا ، وإجماله : انّ الكون في ذلك المكان الّذي هو لازم الجسم المفروض انه مضطر إليه وإشغال الفضاء لا يفرق فيه بين اختلاف الهيئات ، فانّ المقدار الّذي يشغله الكر من الماء لا يفرق فيه من الزيادة والنقصان بين جعله في ظرف مربع أو مستطيل أو غير ذلك ، كما انّ تبديل الهيئة أيضا ليس تصرفا في ملك الغير ، فانه نظير ان يكره الإنسان على مطالعة شيء من الكتب المغصوبة مدة من الزمان على البدل ، فانه لا يفرق في ذلك بين ان يطالع كتابا واحدا في جميع ذلك الوقت أو يطالع في كل يوم كتابا غاصبا ، فلا تبقى إلّا مسألة الاعتماد على الأرض وهو وان كان تصرفا فيها حقيقة إلّا انه ليس كذلك بالنظر العرفي.

فالصحيح : هو الإتيان بالصلاة تامة الاجزاء والشرائط. هذا كله فيما إذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار.

وامّا إذا كان كذلك ، كما لو فرضنا انّ المكلف بسوء اختياره دخل الدار المغصوبة فهو مضطر إلى الخروج لا محالة فالكلام يقع في مقامين.

الأول : في حكم نفس ما اضطر إليه ، كالخروج في المثال.

الثاني : في جواز الإتيان بالمأمور به كالصلاة حينئذ وعدمه. ومن الواضح انه مترتب على المقام الأول ، فانه لو كان ذلك التصرف في نفسه محكوما بالجواز فالصلاة أيضا جائزة ، وإلا فيكون بابه باب اجتماع الأمر والنهي.

امّا المقام الأول : فالأقوال فيه خمسة على ما في الكفاية (١) ، وتعرض الميرزا لأربعة من الأقوال.

الأول : ان يكون متمحضا في الحرمة ، كما في غير صورة الاضطرار ، فإنّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٦٣ وما بعدها.

الامتناع إذا كان بسوء اختيار العبد لا يمنع من ثبوت التكليف ، ومن ثم ذكرنا انّ التكليف بذي المقدمة فعلي قبل وجود مقدماته إذا كان اختياريا للمكلف.

الثاني : ان يكون كلا من الوجوب والحرمة فعليا ، كما في بقية موارد اجتماع الأمر والنهي.

الثالث : ان يكون متمحضا في الوجوب. وهذا أيضا على قسمين : امّا مع ثبوت العقاب فيه ، وامّا مع عدمه.

الخامس : ان لا يكون محكوما بحكم فعلي أصلا ، لا الوجوب ولا الحرمة ، غايته انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط.

هذه ملخص الأقوال ، والعمدة منها الوجهان الأخيران ، فنقول :

امّا الوجه الأول ، ففيه : انّ النهي عن الخروج مع فرض حرمة البقاء وسائر التصرفات يكون تكليفا بما لا يطاق ، فما ذا يفعل المكلف حينئذ؟! وكون ذلك بسوء الاختيار لا يرفع استحالة التكليف بغير المقدور ، فانه نظير ان يقول المولى لعبده ، «إذا صعدت السطح فطر إلى السماء» فهل يمكن أن يقال : انّ تكليفه بالطيران الممتنع جائز إذا صعد السطح بسوء اختياره؟ نعم بقاء العقاب لا مانع منه عقلا.

وبهذا ظهر بطلان القول الثاني وذلك :

أولا : انّ الأمر بالخروج والنهي عنه تكليف بما لا يطاق وان حصل ذلك بسوء اختيار المكلف.

وثانيا : يكون ذلك مستلزما لاجتماع الضدين.

وثالثا : سنعرف انّ ثبوت الأمر لا مقتضى له أصلا ، وهذا مانع في مقام الوقوع لا الإمكان بخلاف الوجهين المتقدمين.

وامّا الثالث ، فأولا : لا مقتضى للأمر كما قلنا وستعرف.

وثانيا : انّ تعلق الأمر والنهي بشيء واحد مما لا معنى له بالقياس إلى المولى

العارف الملتفت وان كان زمان التكليفين مختلفا ، نعم عكس هذا ممكن بان يتعلق الأمر والنهي في زمان واحد بمتعلقين مختلفين من حيث الزمان ، وهذا مختص بالاحكام التكليفية.

وامّا الأحكام الوضعيّة فيمكن تعلق حكمين في زمانين مع اتحاد متعلقهما ، كما في بيع الفضولي على النقل ، فانا ذكرنا في محله انّ المبيع قبل حصول الإجازة يكون ملكا للمالك الأول حقيقة ، وبعد الإجازة يحكم بملكيته للمشتري من أول الأمر.

والفارق بين الأحكام التكليفية والوضعيّة من هذه الجهة هو : انّ التكاليف حيث انها متعلقة بافعال المكلفين فهي تابعة لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد ، والفعل الواحد لا يعقل ان يكون ذا مصلحة ومفسدة معا دون كسر وانكسار في البين ، فالمولى الملتفت لا بدّ وان يلاحظ متعلق حكمه من حيث المجموع ، فإن كان مشتملا على المصلحة يأمر به ، وان كان مشتملا على المفسدة ينهى عنه ، فالامر به في زمان والنهي عنه في زمان لا يناسب مقام الشارع نعم يمكن ذلك بنحو البداء في الموالي العرفية ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعيّة ، فانها تابعة لمصالح في أنفسها ، فربما يكون جعل الحكم في زمان ذا مصلحة وفي زمان آخر جعل خلافه يكون ذا مصلحة ، وعليه فتعلق الأمر والنهي ولو في زمانين بمتعلق واحد يستحيل في تكاليف الشارع.

فهذه الأقوال الثلاثة بأجمعها فاسدة.

فبقي الكلام في القولين الأخيرين ، أي كون الخروج محكوما بالوجوب من دون ان يكون فيه عقاب أصلا ، أو عدم كونه محكوما بحكم رأسا غاية الأمر يكون المكلف معاقبا عليه بالنهي السابق الساقط ، نظير من ألقى نفسه من شاهق فانه في الأثناء لا يكون منهيا عن الوقوع على الأرض لعدم تمكنه من ذلك إلّا انه معاقب على ذلك بالنهي السابق ، أو من أطلق البندقية على مسلم فانه بعد ذلك لا يكون

منهيا عن قتل النّفس إلّا انه يكون معاقبا عليه وهكذا ففي المقام أيضا لا يكون امر ولا نهي ولكنّ العقاب ثابت على التقديرين ، فالعقل حينئذ من باب الإرشاد يلزم العبد بالخروج واختيار أقل المحذورين ، نظير ما إذا وقع أحد من السطح ودار الأمر بين ان يقع على رأس مؤمن أو كافر محقون الدم وكان متمكنا من اختيار أحد الأمرين ، فانّ العقل يلزمه إلى اختيار الثاني ، ولا يستلزم ذلك كون أقل المحذورين محبوبا أو مأمورا به ، مثلا لو فرضنا انّ امر الإنسان دار بين ان ينام في محل يؤذيه البق أو ينام في محل يلدغه العقرب ، فالعقل يلزمه باختيار الأول مع انه ليس بمحبوب له أصلا.

وبالجملة : امّا القول بأنّ الخروج منهي عنه بالفعل ، ففيه : انّ النهي عن كل ما يتمكن منه المكلف من الخروج والبقاء ، والمشي الزائد يكون تكليفا بما لا يطاق ، وبعبارة أخرى : النهي عن جميع ذلك مع كون المكلف مضطرا إلى الجامع بينها تكليف بغير المقدور ، وكون ذلك مسببا عن سوء اختيار العبد لا يجوز ذلك.

وامّا الثاني : أعني كونه محكوما بالوجوب وبالحرمة بالفعل فمضافا إلى كونه تكليفا بما لا يطاق مستلزم لاجتماع الحكمين في موضوع واحد بعنوان واحد ، وهو أيضا محال ، وثالثا : انّ الأمر لا مقتضى له كما سنثبته.

وامّا القول الثالث : وهو كونه محكوما بالوجوب مع إجراء حكم المعصية عليه كما اختاره في الفصول ففيه : مضافا إلى انّ الأمر لا مقتضى له انّ النهي عن شيء في زمان والأمر به في زمان آخر مما لا يجتمعان بالإضافة إلى المولى الحكيم الملتفت ، فانّ الفعل ان كان فيه المصلحة محضا أو غالبة على المفسدة فلا بدّ وان يأمر به المولى في جميع الأزمان ، ولو انعكس انعكس. فبقي قولان آخران.

أحدهما : ان يكون مأمورا به فقط من دون ان يكون فيه عقاب كما اختاره الشيخ.

ثانيهما : ان لا يكون محكوما بحكم فعلا ولكن يجري عليه العقاب للنهي السابق الساقط ، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، وهو مختار الكفاية (١).

وذهب الميرزا قدس‌سره إلى الأول منهما ، وحيث انه مركب من عقد إيجابي وهو كونه واجبا ، وسلبي وهو عدم إجراء حكم المعصية عليه ، استدل على كل من الأمرين.

امّا ما استدل به على الإيجاب وهو كون الخروج مأمورا به فحاصله : انّ مطلق التصرف في ملك الغير لا يكون غصبا وحراما ، وانما المحرم ما لا يكون مصداقا للمأمور به ، ولذا رد مال الغير لا يكون حراما مع كونه تصرفا فيه لأنه واجب ، فلو فرضنا انّ ثوب الجار وقع في منزل شخص يجب عليه رده ، ولا يكون حراما ، بل هو إحسان إليه ، خصوصا إذا كان في معرض التلف. والمقام كذلك ، فانّ ملك الغير وان لم يمكن الرد فيه لأنه ليس من قبيل المنقولات إلّا انّ التخلية بينه وبين مالكه واجب ، فلا يكون حراما ، بل يكون واجبا.

وفيه : انه ما المراد بكون التخلية مأمورا بها ، هل هي واجبة بوجوب نفسي أو انها واجبة بوجوب مقدمي؟ وكلاهما باطل.

امّا الوجوب النفسيّ ، فلأنّ التخلية وان كانت واجبة إلّا انها في مقابل الاشغال ، فهي امر عدمي أو منتزع منه أي من عدم الاشغال ، ومن الواضح انّ المشي في ملك الغير وهو الخروج ليس مصداقا للتخلية ، بل هو إشغال لمال الغير للخروج انما هو مقدمة للكون في المكان المباح ، وهو يستلزم ذلك الأمر العدمي أعني به عدم الكون في ملك الغير المعبر عنه بالتخلية من دون ان يكون بين الكون

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٦٣.

في محل مباح وعدم الكون في ملك الغير مقدمية وتوقف. وقد عرفت انّ وجود الضد لا يكون مقدمة لعدم الضد الآخر وان كان بينهما ملازمة.

فاذن لا يتم القول بوجوب الخروج مقدميا حتى على القول بوجوب مقدمة الواجب ، لأنه ليس مقدمة لواجب ، وهذا هو الّذي وعدنا ان نبينه من عدم وجود المقتضى للأمر بالخروج.

هذا هو الوجه الأول الّذي بينه من حيث الإيجاب أعني كون الخروج واجبا.

واما ما أفاده من حيث النفي أعني عدم كون الخروج من صغريات الكبرى المعروفة : وهي انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، فإذا ثبت ذلك يثبت ما اختاره قدس‌سره فأمور.

أحدها : انّ الامتناع بالاختيار انما يجري فيما لا يقدر المكلف على إيجاده ، والخروج فيما نحن فيه مقدور للمكلف وإلّا فكيف يلزمه العقل باختياره تقديما لأخف المحذورين ، وهل يمكن إلزام العقل بالممتنع؟ وبعبارة أخرى : المكلف انما هو مضطر إلى الجامع بين الخروج والبقاء والمشي الزائد ، فالأخيران منهما محكومان بالحرمة ، فانّ الاضطرار لم يتعلق بهما ليرفع حرمتهما ، وانما تعلق بالجامع ، نظير ما إذا اضطر المكلف إلى شرب أحد ما يعين يكون أحدهما المعين نجسا ، فانه لا يرفع حرمة النجس منهما ، والأول منها وهو الخروج أيضا باق على وجوبه لما عرفت ، فليس بممتنع لا عقلا ولا شرعا.

وفيه : انّ الامتناع بسوء الاختيار في باب الواجبات يفترق عنه في باب المحرمات وان كان يجمعهما كون العمل ممتنعا وانتهاء امتناعه إلى اختيار العبد ، فانّ امتناع الواجب انما هو بتعذر الفعل ، كما فيما مثل به من الحج الواجب إذا تعذر الإتيان به على من كان مستطيعا ، واما امتناع المحرم فهو بامتناع الترك ، كما فيمن ألقى نفسه من شاهق ، فانّ ترك الوقوع عليه ممتنع وان كان تحققه ضروريا.

وإذا عرفت هذا ففيما نحن فيه بعد ما فرضنا انّ المكلف لا يخلو امره عن أمور ثلاثة : من المكث والمشي الزائد والخروج ، وقد تعلقت الحرمة بإتيان اثنين منهما وهما البقاء والمشي الزائد ، فبالعرض يمتنع عليه ترك الخروج امتناعا شرعيا ، فالامتناع الثابت فيه امتناع شرعي عرضي ، ولا يفرق في قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» بين الامتناع التكويني والامتناع الشرعي كما هو واضح.

وبهذا الجواب يظهر الحال في بقية ما استدل به قدس‌سره من الأمور الأربعة.

وبالجملة : بعد ما حكم العقل إرشادا إلى لزوم ترك البقاء في الدار المغصوبة والمشي الزائد فيها واختيار الخروج من باب كونه أخف المحذورين وأقل الضررين ، فلا محالة يكون فعله ضروريا وتركه ممتنعا شرعا لا تكوينا.

ثانيها : انّ الخروج واجب بحكم العقل وكما تعتبر القدرة في الإلزام الشرعي كذلك تعتبر في الإلزام العقلي ، فمن ذلك يعرف كونه مقدورا ، وإلّا لما تعلق به الإلزام العقلي.

وفيه : انّ هذا من الخلط بين التكاليف الوجوبية والتحريمية ، فانّ الممتنع في الأولى هو الفعل ، وفي الثانية هو الترك وفي المقام أيضا كذلك ، فانّ فعل أحد الضدين اللذين ليس لهما ثالث وترك الآخر لا يكون ممتنعا ، وانما الممتنع تركهما معا ، ففعل الخروج في فرض ترك البقاء والمشي الزائد لا محذور فيه ولا استحالة.

نعم المستحيل ترك الخروج في هذا الفرض ، فيمتنع النهي عنه دون الأمر به ، إذ لا مانع منه ، فانّ للمكلف ان يتركه ويختار الضد الآخر من البقاء أو المشي الزائد.

وبهذا ظهر الجواب على الوجهين الأخيرين أي الثالث والرابع ، ويرجع أحدهما إلى الآخر ، وحاصل ذلك : انّ مورد قضية الامتناع بالاختيار لا ينافي

الاختيار مع ما نحن فيه متعاكسان ، فانّ مورد القاعدة انما هو ما إذا كان ترك المقدمة سببا لامتناع ذيها كما في ترك المشي إلى الحج الواجب فيمتنع الإتيان بالمناسك في ظرفها بسوء اختياره. ولكن في المقام إيجاد المقدمة وفعلها يوجب امتناع ذي المقدمة ، فانّ الدخول مقدمة للخروج ، وبه يمتنع الخروج على ما تقدم ، فالقاعدة لا تنطبق عليه.

وفيه : انّ هذا أيضا من شئون الفرق بين التكاليف الوجوبية والتحريمية ، ففي باب الواجبات يكون الامتناع بالاختيار مسببا عن ترك الإتيان بمقدمة الواجب ، وامّا في باب المحرمات فينعكس الأمر ويكون فعل مقدمة الحرام موجبا لامتناع تركه كما في رمي البندقية وفي من ألقى نفسه من شاهق إلى غير ذلك ، ومن هذا القبيل ما نحن فيه.

وحاصل الكلام : انه بعد تسليم امرين : أحدهما : ما ذكرناه من الفرق بين بابي الواجبات والمحرمات ، ثانيهما : كون الامتناع الشرعي كالامتناع العقلي ، تندفع جميع الوجوه المذكورة في كلامه قدس‌سره ، فانه بعد ما حكم العقل بترك الأمرين من البقاء والمشي الزائد يكون ترك الخروج ممتنعا غايته شرعا لا تكوينيا ، وحيث انه منتهى إلى سوء اختياره يكون داخلا تحت كبرى قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فتلخص من جميع ما قدمناه انّ الصحيح : ما ذهب إليه الآخوند قدس‌سره من انّ الخروج لا يكون محكوما بحكم أصلا. امّا الوجوب فلما عرفت ، وامّا الحرمة فلكون تركه ممتنعا شرعا ، ولكنه يجري فيه العقاب للنهي السابق الساقط بالامتناع ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ، فيعاقب عليه. هذا كله في الخروج من الدار الغصبية الّذي لا يكون مقدمة للواجب.

وامّا لو فرضنا انّ المكلف بسوء اختياره اضطر إلى ارتكاب محرم وكان

مقدمة لواجب أهم ، كما لو فرضنا انه بسوء اختياره مشى إلى الصحراء بحيث اضطر إلى أكل لحم الحيوان غير المأكول ، فانه حينئذ يكون واجبا لكونه مقدمة لحفظ النّفس الواجب شرعا ، فهل يجري فيه ما ذكرناه ، أو يتصف حينئذ بالوجوب الغيري؟

فنقول : امّا بناء على ما هو الصحيح من عدم وجوب مقدمة الواجب فلا يفرق بين هذا الفرض والفرض السابق.

وامّا بناء على وجوبها من جهة الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته فلا بدّ من الالتزام بمقالة الفصول من كونه متمحضا في الوجوب الغيري ، ويجري عليه العقاب للنهي السابق الساقط بسوء الاختيار ، فحينئذ لا بدّ من التكلم في امرين :

أحدهما : وجه اتصافه بالوجوب الغيري.

ثانيهما : عدم جريان ما قدمناه من الإيراد على الفصول من انّ تعلق الأمر بشيء في زمان مع تعلق النهي به في زمان آخر مستحيل بالنسبة إلى الآمر الحكيم الملتفت.

امّا الأول : أعني لزوم اتصاف المقدمة المحرمة بالوجوب ، فلأنّ وجوب مقدمة الواجب على القول به انما هو من باب الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، ومن الواضح انّ التفكيك بين المتلازمين مستحيل ، فلا وجه لما في الكفاية من انّ وجوب المقدمة انما يكون فيما إذا لم تكن محرمة ، فانّ هذا الوجوب ليس وجوبا تحت اختيار المولى ليختص بمورد دون مورد ، بل لا بدّ له من إيجاب المقدمة بعد ما أوجب ذيها للملازمة ، فكيف يعقل التفكيك؟!

وامّا الثاني : فلأنّ النهي عن شيء والأمر به وان كان ممتنعا ولو كان في زمانين إلّا انّ ذلك يتم في الحرمة والوجوب النفسيّ ، لأنّ المصلحة فيه انما هو المتعلق ، فلا

مناص من الكسر والانكسار وثبوت الحكم على طبق المصلحة أو المفسدة الموجودة فيه. واما الوجوب الغيري فحيث انه ناشئ عن المصلحة في ذي المقدمة لا في نفسها فلا مانع من كون الشيء حراما ذاتا ثم يتصف بالوجوب الغيري المقدمي بعد سقوط النهي عنه للاضطرار ، فلو لم يكن بسوء اختيار المكلف يسقط العقاب أيضا ، وإلّا فيبقى العقاب للنهي السابق الساقط.

وبالجملة لا منافاة بين المبغوضية الذاتيّة وثبوت الأمر الغيري والمحبوبية كذلك ، إذ لا يلزم منه اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد ليلزم الكسر والانكسار ، فتأمل. ونظير ذلك في العرف ما إذا نهى المولى عبده من النّظر إلى زوجته ولمس جسدها ثم فرضنا انّ العبد لسوء اختيار ألقى زوجة السيد في البحر بحيث انحصر تخليصها بان يمس العبد جسدها ، فهل يشك أحد في انّ اللمس حينئذ يكون واجبا بالوجوب الغيري وان جرى عليه العقاب لكون الاضطرار مستندا إلى سوء اختيار العبد.

فتحصل من جميع ما ذكر ، انّ في الخروج الّذي لا يكون مقدمة للواجب نلتزم بما ذكره في الكفاية من عدم كونه محكوما بحكم أصلا ، ويعاقب العبد عليه لكونه بسوء اختياره.

وامّا في غير ذلك مما يكون مقدمة لواجب أهم ، فعلى القول بوجوب مقدمة الواجب نلتزم فيه بما في الفصول من كونه محكوما بالوجوب محضا غايته وجوبا مقدميا لا نفسيا ، ويجري عليه العقاب لكونه مستندا إلى سوء اختيار العبد.

هذا كله في حكم الخروج ونحوه في نفسه.

وامّا المقام الثاني : أعني به حكم الصلاة المأتي بها حال الخروج. فتفصيل الكلام فيه هو انه تارة : يصلي حال الخروج صلاة تامة الاجزاء والشرائط من الركوع والسجود وسائر ما يعتبر فيها ، وأخرى : يأتي بها إيماء في حال الخروج.

وعلى هذا أيضا اما ان يكون المصلي موظفا بالصلاة مع الركوع والسجود وانما يأتي بها إيماء لكونها واقعة حال الخروج ، وامّا ان تكون وظيفته الأصلية هي الصلاة عن إيماء لعذر آخر ولو أتى بها في غير حال الخروج.

امّا في الفرض الأول ، فلا ينبغي الإشكال في فساد الصلاة ، سواء قلنا بكون الخروج مأمورا به أو منهيا عنه أو لم نقل ، وذلك لأنّ الإتيان بالركوع والسجود يستدعي تصرفا زائدا على الخروج من المكث والاعتماد على الأرض ونحوه.

واما الفرض الثاني ، فكذلك لا من جهة وقوع الصلاة حال الخروج ، بل من حيث الإخلال بما هو وظيفته من الركوع والسجود ، فلا يفرق في ذلك بين القول بأنّ الخروج مأمورا به أو منهيا عنه وعدمه.

وامّا الفرض الثالث ، فالظاهر جواز الصلاة فيه فيما إذا لم يكن المكلف موظفا بالاستقرار حتى لو صلى في غير حال الخروج لخوف ونحوه ، وإلّا فتبطل صلاته للإخلال به كما هو واضح ، وهذا أيضا من غير فرق بين القول بكون الخروج واجبا أو محرما وعدمه.

ثم انّه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي أو في موارد اتحاد متعلقهما ذكروا لتقديم جانب الحرمة وجوها :

الأول : انّ عموم دليل الحرمة شمولي وعموم دليل الوجوب بدلي ، نظير ما لو قال المولى : «أكرم عالما» وقال : «لا تكرم الفاسق» فانّ مفاد الأمر وجوب واحد متعلق بطبيعي العالم على البدل ، وقد عرفت انه في موارد تعلق الأمر بصرف وجود الطبيعي لا يكون الفرد المأتي به مصداقا للمأمور به حتى بعد الإتيان به. وهذا بخلاف دليل النهي فانّ مفاده أحكام عديدة كل منها متعلق بفرد من افراد الفاسق ، فيتقدم العموم الشمولي على العموم البدلي ، لأنّ دليل الوجوب لا يقتضي وجوب إكرام خصوص العالم الفاسق ، بخلاف دليل الحرمة فانه يقتضي عدم إكرامه ، فهو من

قبيل تزاحم اللااقتضاء مع المقتضي فيتقدم ما فيه الاقتضاء لا محالة.

وفيه : انّ هذا انما يتم في باب التزاحم ، مثلا شرب الماء في نفسه مباح فإذا تنجس بالملاقاة مثلا يعمه دليل حرمة شرب المتنجس ، فلا محالة يقع التزاحم بين الدليلين ، وحيث انّ دليل الإباحة لا اقتضاء ودليل النهي مقتضي للحرمة يتقدم دليل الحرمة على دليل الإباحة.

وامّا المقام فقد عرفت دخوله في باب التعارض ، فيعلم بكذب أحد الدليلين ، اما دليل الحرمة أو دليل الوجوب ، فلا يجري فيه ما ذكر أصلا ، ومن هنا في موارد التعارض بالعموم من وجه لم نجعل من المرجحات كون عموم أحد المتعارضين شموليا دون الآخر ، كما هو ظاهر فتأمل.

وبعبارة أخرى : دليل الأمر وان كان عمومه بدليا إلّا انه بعد تعلقه بصرف وجود الطبيعي بالالتزام يدل على ثبوت الترخيص في تطبيقه على أي فرد شاء ، وهذا الترخيص عمومه شمولي ، فلا محالة تقع المعارضة بينه وبين دليل الحرمة المقتضي للعدم ، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر.

نعم في المقام لنا دليل آخر على تقديم جانب الحرمة وهو الظهور العرفي ، فانّ الحكم الثابت بالعنوان الثانوي بحسب الظهور العرفي يتقدم على الأحكام الثابتة بالعناوين الأولى ، فكأنّ دليل الحكم الثابت بالعنوان الثانوي يكون ناظرا إلى تلك الأحكام نظير الحكومة وان لم تكن حكومة حقيقية ، ودليل النهي عن الغصب من هذا القبيل.

توضيحه : انه إذا لوحظت النسبة بين دليل حرمة الغصب وكل واحد من أدلة المباحات أو المستحبات أو الواجبات يكون بينه وبينها عموم من وجه ، مثلا النسبة بينه وبين دليل إباحة شرب الماء عموم من وجه ، وهكذا النسبة بينه وبين استحباب أكل الرمان يوم الجمعة عموم من وجه إلى غير ذلك. ومن الواضح انه لا يحتمل

أحد من العرف جواز أكل رمان الغير عدوانا يوم الجمعة تقديما لإطلاق دليل استحبابه على دليل حرمة الغصب ، بل يقدمون دليل العنوان الثانوي مطلقا.

الثاني : انّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : انه لم يرد بذلك دليل فتختلف الأولوية باختلاف المفاسد والمصالح ، مضافا إلى انّ ذلك انما هو فيما إذا ثبتت المصلحة في فعل والمفسدة في فعل ودار الأمر بينهما ، وفي المقام يدور الأمر بين ثبوت أحدهما دون الآخر.

الثالث : الاستقراء ، وقد ذكروا له موردين.

أحدهما : الوضوء بالإناءين المشتبهين ، وقد ورد الأمر بإهراقهما والتيمم.

وثانيهما : المرأة في أيام استظهارها ، إذ يدور امرها بين ترك الواجب وفعل المحرم ، فقدم الثاني فتترك العبادة.

وفيه : أولا : انّ الوضوء بالماء المتنجس ليس من المحرمات فلا ربط له بالمقام. وامّا الحائض فلو قلنا بحرمة العبادة عليها ذاتا لا تشريعا لقوله عليه‌السلام «فلتتقي الله» فبابه باب دوران الأمر بين المحذورين بعد ثبوت وجوب العبادة على فرض وحرمتها على فرض آخر ، ومقتضى القاعدة هو التخيير ، ولكنّ الشارع قدم فيه جانب الحرمة ، هذا مضافا إلى انّ ذلك هو مقتضى استصحاب كونها حائضا لأنه كان متيقنا سابقا ، فأيّ ربط له بما نحن فيه الّذي لم يثبت بعد شيء من المصلحة والمفسدة؟!

وثانيا : انّ الاستقراء كيف يمكن إثباته بمورد أو موردين.

فهذه الوجوه لا يرجع شيء منها إلى محصل ، والصحيح في وجه تقديم دليل حرمة الغصب ما بيناه من الظهور العرفي.

ثم لا بأس بتوضيح الفرع الأول ، وانّ الحكم بإراقة الإناءين المشتبهين هل هو حكم على القاعدة ، أو انه تعبدي؟

فنقول : الظاهر كونه حكما تعبديا ، وذلك لتمكن المكلف من الإتيان بالصلاة مع الطهارة المائية وطهارة البدن من الخبث وإحراز ذلك بتكرار الصلاة بان يتوضأ تارة بأحد الإناءين ويصلي ثم يطهر مواضع وضوئه من الإناء الثاني ويتوضأ به ويصلي ثانيا ، فانه يقطع بإتيانه بالصلاة مستجمعة لجميع الشرائط ، غاية الأمر لا يمكنه تمييز ما هو مصداق المأمور به خارجا ، وهو غير لازم ، نظير ما إذا تردد ثوبه بين الثوب المتنجس والطاهر ، فانّ جماعة من الفقهاء في فرض انحصار الثوب بالمتنجس أفتوا بأنه يصلّي عاريا. وامّا في الثوبين المشتبهين حكموا بلزوم الإتيان بصلاتين في ثوبين ، ومقامنا من هذا القبيل ، وعليه فالحكم بإراقة الماءين حكم تعبدي محض.

وصاحب الكفاية (١) فصل بين ما إذا كان الماء ان قليلين وما إذا كانا كثيرين ، ففي الأول ذهب إلى استصحاب نجاسة البدن ، فانّ المكلف بمجرد وصول الماء الثاني إلى بدنه قبل انفصال الغسالة الّذي هو مقوم لعنوان الغسل يعلم بنجاسة بدنه ، سواء كان الماء الأول نجسا أو الماء الثاني ، وبعد ذلك يستصحب النجاسة ، وعليه فالتوضي بالماءين وان كان مستلزما لإحراز الطهارة المائية إلّا انه مستلزم للعلم بنجاسة البدن ولهذا يكون تبدل الوظيفة إلى التيمم حكما على طبق القاعدة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الإناء الثاني كرا فانه لا يتيقن النجاسة في زمان أصلا.

وفيه : مضافا إلى ما ذكرناه ، انّ استصحاب النجاسة في الفرض الأول وان كان جاريا إلّا انه على المختار من عدم اعتبار اتصال زمان اليقين بالشك يكون استصحاب الطهارة هناك جاريا أيضا ، وهو استصحاب الكلي المردد من حيث الزمان ، فانه كما يعلم بنجاسة بدنه عند ملاقاته مع الإناء الثاني كذلك يعلم بطهارة

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨١.

بدنه في زمان معين واقعا مردد عند المكلف ، فهي مرتفعة لو كانت ثابتة قبل ملاقاة الإناء الثاني وثابتة لو كانت بعد ملاقاة الإناء الثاني ، فيستصحب بقائها. ونظير ذلك ما إذا علم المكلف بالجنابة يوم الخميس واغتسل منها ثم رأى في ثوبه أثر وتردد بين كونه حادثا قبل ان يغتسل فيكون مرتفعا قطعا ، وحدوثه بعده فيكون باقيا قطعا ، وحيث انه يعلم بتحقق جنابته حين خروج ذاك الأثر على إجماله ويشك في ارتفاع الجنابة المتيقنة حينئذ فيستصحبها.

وبالجملة فاستصحاب نجاسة البدن معارض باستصحاب طهارته ، فامّا يسقطان بالمعارضة ، أو لا يجري شيء منهما على الخلاف في ذلك ، فلا فرق بين الصورتين أصلا.

نعم بعد عدم جريان استصحاب النجاسة أيضا لا يمكن الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وذلك للعلم الإجمالي ، فانه بعد ما شرع في استعمال الإناء الثاني يعلم إجمالا بنجاسة جزء من بدنه ، امّا الجزء الملاقي لهذا الماء الثاني ، وامّا الجزء الملاقي للإناء الأول ، وهذا العلم الإجمالي يمنع جريان قاعدة الطهارة مطلقا ، فلا يمكن إحراز طهارة البدن.

هذا ولكن قد عرفت إمكان إحراز الإتيان بالصلاة تامة الاجزاء والشرائط بتكرار على النحو المتقدم ، وعليه فالأمر بإهراق الماءين تعبدي لمصلحة التسهيل أو لغير ذلك.

ثم انّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ذكر انه لا يعتبر في باب اجتماع الأمر والنهي تعلق كل من الأمر والنهي بعنوان مستقل ، بل لو تعلق الأمر والنهي بعنوان واحد وكان تغايره بتعدد الإضافة أيضا يكون من صغريات اجتماع الأمر والنهي ، ومثّل

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٢.

له بما إذا ورد أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، فيكون العالم الفاسق مورد اجتماع الأمر والنهي ويجري فيه حكمه.

ثم أورد على ذلك بأنه لو كان الأمر كذلك فلما ذا يعاملون الفقهاء معاملة التعارض في موارد العموم من وجه.

وأجاب عنه بأنّ ذلك انما هو لعلمهم بعدم ثبوت ملاك أحد الحكمين ، فالتعارض يكون بالعرض لعلمهم الخارجي.

هذا وفيما أفاده صغرى وكبرى نظر.

امّا أولا : فلأنّهم كيف علموا عدم اشتمال أحد الحكمين على الملاك في جميع موارد التعارض بالعموم من وجه ، وليس لهم علم الغيب؟

وثانيا : انّ الأمر في المثال المذكور في كلامه وهو أكرم العلماء عمومه شمولي لا بدلي ، ويعتبر في باب اجتماع الأمر والنهي ان يكون عموم الأمر بدليا ، وإلّا فمع تعدد العنوان ذاتا أيضا يستحيل الاجتماع لعدم المندوحة ، مثلا لو قال المولى : «صل في كل مكان ولا تغصب» فبالقياس إلى المكان المغصوب لا يتمكن المكلف من الامتثال أصلا ، فيخرج عن باب اجتماع الأمر والنهي.

وثالثا : في باب اجتماع الأمر والنهي لا بدّ وان يكون عنوانان أحدهما : متعلق الأمر ، والآخر : متعلق النهي ليرى هل انّ تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون وانّ الحيثيتين تقييديتان ليجوز الاجتماع ، أو انهما تعليليتان ليمتنع الاجتماع.

وامّا لو فرضنا انه ليس هناك إلّا عنوان واحد وهو الإكرام في المثال واختلافهما باختلاف الإضافة ، بل لا اختلاف في الإضافة أيضا حقيقة ، فانّ المضاف إليه في كل من الإكرام المتعلق للأمر وللنهي معنون واحد وهو زيد ، غاية الأمر يكون هناك عنوانان تعليليان وهما عنوانا العلم والفسق ، فالعلم علّة لوجوب الإكرام ، والفسق علّة لحرمته ، فلا محالة يكون وجوب الإكرام وحرمته متعلقا

بشخص واحد لعلّيتين ، فكيف يمكن القول بجواز اجتماع الحكمين ، فهو خارج عن محل البحث لا محالة ، فشيء مما أفاده قدس‌سره في هذا الأمر لا يتم كما عرفت.

دلالة النهي

على الفساد في العبادات والمعاملات

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : انّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة واضح ، فانّ البحث هناك كان في سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الآخر وعدمه ، وفي المقام بعد الفراغ عن ذلك يتكلم عن دلالة النهي على الفساد وعدمه. نعم بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب النهي يتحقق صغرى من صغريات البحث.

الثاني : انّ هذا البحث أجنبي عن مباحث الألفاظ بالكلية ، وانّ لفظ النهي المولوي لا يدل على الفساد ، وانما دلالته عليه يكون بالالتزام ومن باب انّ الحرمة ملازمة لذلك أو ملازمة للصحة كما ذهب إليه أبو حنيفة. نعم الأمر أو النهي الإرشادي كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «نهى النبي عن بيع الغرر» حيث يدل على شرطية متعلقه في باب الأوامر وإلى مانعيته في باب النواهي فيدل على فساد المشروط عند انتفاء الشرط أو وجود المانع ، إلّا انّ ذلك خارج عن محل الكلام ، إذ لم ينكر دلالته على الفساد بهذا المعنى أحد على ما نعلم.

وامّا النهي المولوي فلا دلالة للفظه على الفساد أصلا ، فلا يفرق في ذلك بين كون الحرمة مستفادة من لفظ النهي أو من غيره من الإجماع ونحوه ، والتعبير بالنهي انما هو من باب انّ الحرمة غالبا مستفادة من النهي.

الثالث : في انّ النزاع يختص بالنهي التحريمي النفسيّ أو يعم النهي الغيري

والنهي التنزيهي؟ ظاهر الكفاية (١) هو الثاني.

فنقول : امّا النهي عن العبادة كما لو فرضنا انّ ترك واجب صار مقدمة لفعل واجب أهم فبما انه لا يكون ناشئا عن مبغوضية متعلقه بل الغرض منه التوصل إلى الواجب الأهم لا يكون مستلزما للفساد ، امّا على الترتب فواضح ، إذ عليه يكون المهم مأمورا به في فرض ترك الأهم فيصح الإتيان به بقصد الأمر ، وامّا لو أنكرنا الترتب فما تعلق به النهي وان لم يكن مأمورا به أصلا إلّا انه مع ذلك يصح الإتيان به بقصد الملاك ، لما ذكرنا من انّ النهي الغيري لا يكشف عن مبغوضية متعلقه فيجوز التقرب به كما هو واضح.

وامّا النهي التنزيهي فهو على قسمين : وذلك لأنه تارة : يرجع إلى النهي عن تطبيق المكلف طبيعي المأمور به على بعض افراده ، كما لو فرضنا انّ المأمور به هو الطبيعي بنحو صرف الوجود فانه بالالتزام يدل على ترخيص المكلف في التطبيق أو انّ هناك يكون الترخيص ثابتا بحكم العقل ، فإذا تعلق النهي بفرد من افراده ، فان كان تحريميا لا محالة يقيد به الترخيص المزبور ، وان كان تنزيهيا فبما انه لا ينافي الترخيص لا يوجب تقييدا في ذلك أصلا ، نعم يستفاد منه حزازة ذاك الفرد ومنقصته عن غيره.

وأخرى : يتعلق النهي التنزيهي بغير ما تعلق به الأمر ، كما لو فرضنا تعلق الأمر بالطبيعي بنحو مطلق الوجود وقال : «أكرم كل عالم» ثم ورد نهي تنزيهي عن إكرام زيد العالم فبما انّ الأحكام الخمسة كلها متضادة لا محالة يرتفع الأمر المتعلق بذلك الفرد ، فلا تصح العبادة حينئذ ، وعليه فالنهي التنزيهي أيضا يدل على الفساد لكن في العبادات لا المعاملات.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٤.

الرابع : فيما يراد من العبادة والمعاملة في المقام. ذكر الآخوند قدس‌سره (١) انه يمكن ان يراد بالعبادة في المقام العبادة الذاتيّة التي تكون بنفسها خضوعا وتعظيما ، نظير السجود الّذي هو بمعنى غاية الخضوع ، فإذا وضع الإنسان جبهته على الأرض بعنوان الخضوع الّذي هو مقوم لهذا العنوان لا لحك الرأس وشبهه يكون عبادة وتعظيما ، أمر به المولى أو لم يأمر. ويمكن ان يراد بها ما لو أمر به المولى لكان عبادة مقربا لا يكاد يسقط أمره إلّا إذا أتى به بقصد القربة عبادة.

ونقول : يمكن ان يراد بها ما يقصد به المكلف التعبد والتقرب إلى المولى وان لم يكن يحصل به القرب ، إذ لا يعقل حصوله بالمبغوض وربما يقصد المكلف القربة بالمحرم كما وقع ذلك في قتل الحسين عليه‌السلام على ما في الرواية ، وان يكن مقربا واقعا فيتعلق النهي بالإتيان به قربيا نظير صلاة الحائض فانّ الإتيان بها لتعليم الغير لا يكون منهيا عنه ، واما التعبد بها والإتيان بها قربيا فمنهي عنه.

وبالجملة فالمراد بالعبادة في المقام ليست العبادة بالفعل ، إذ لا يعقل تعلق النهي بها ، بل المراد بها ما يكون فيه شأنية التقرب ويقصد به القربة ويؤتى به جامعا لجميع الاجزاء والشروط المعتبرة فيه بحيث يكون مقربا للعبد لو لا النهي ، فيبحث عن انّ النهي المتعلق بمثل هذا العمل كصلاة الحائض المأتي بها بقصد القربة يدل على فساده أم لا؟ هذا كله في العبادة.

وامّا المعاملة ، فتارة : يراد بها خصوص ما يتقوم بالإيجاب والقبول وهو العقود ، ويعبر عنها بالمعاملة بالمعنى الأخص ، فيكون المبحوث عنه دلالة النهي التحريمي المولوي على فساد العقد إذا تعلق به.

وأخرى : يراد بها معنى أعم من ذلك بحيث يشمل الإيقاعات أيضا ، بان يراد

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٤.

منها مطلق ما يتقوم بالإنشاء ، امّا بالقول أو بالفعل ، إذ لا وجه لتخصيص النزاع بالعقود مع جريانه في الإيقاعات كالطلاق أيضا ، كما لا وجه لإخراج ما يشبه الإيقاعات مما يعتبر فيه القصد دون الإنشاء كالحيازة والتحجير عن حريم النزاع ، بداهة جريانه فيها.

فالصحيح أن يقال : أنّ المراد بالمعاملة في المقام كل فعل تسبيبي يتسبب به المكلف إلى إيجاد أمرا آخر مما يتقوم بالقصد ، فيعم مثل الطهارة الحدثية والخبثية فيجري نزاع دلالة النهي على الفساد في جميعها ، غاية الأمر علمنا من الخارج عدم دلالته عليه في بعض الموارد مثل الطهارة عن الخبث فانها تتحقق بغسل المتنجس حتى بالماء المغصوب ونحوه.

الخامس : في بيان معنى الصحة والفساد وما يرجع إليهما.

والكلام فيه يقع في جهتين.

إحداهما : في بيان مفهومهما.

الثانية : في انهما يكونان من الأمور الانتزاعية والجعلية الشرعية أو من الأمور الواقعية؟

امّا الجهة الأولى : فالصحيح قد يستعمل في مقابل المعيب بمعنى ما لا يترتب عليه الأثر الكامل المرغوب منه ، وهو بهذا المعنى أجنبي عن المقام. وأخرى : يستعمل في مقابل الفاسد أعني ما لا يترتب عليه الأثر أصلا ، بحيث كأنه لا يكون مصداقا لذلك الطبيعي أصلا ، وهذا هو المراد في المقام.

وتفصيل ذلك : هو انّ الأثر المرغوب تارة : يكون مترتبا على أمر بسيط لا جزء له ولا شرط ، ولا يتصف مثل ذلك بالصحّة والفساد أصلا ، بل امّا يكون موجودا ، وامّا يكون معدوما.

وأخرى : يكون المؤثر لذاك الأثر مركبا ، وعليه أيضا اما ان يترتب الأثر

المرغوب على كل جزء من أجزاء المركب أثر مختص به ، نظير الدار فإنه مركب من القباب والسرداب ونحو ذلك إلّا انه يترتب على كل من اجزائه أثر مختص به ، وهذا أيضا لا يتصف بالصحّة والفساد ، فلا يطلق الفاسد على الدار الفاقد للسرداب مثلا ، ولا على كتاب ناقص غير مشتمل على صحيفة أو أكثر ، فلا يقال : انّ الكتاب فاسد ، ولكن يطلق عليه الناقص ، فتفسير الفساد بالنقص كما في الكفاية (١) لا وجه له.

وامّا ان يترتب أثر واحد على مجموع الاجزاء والشرائط ، وهذا هو الّذي يتصف بالصحّة تارة وبالفساد أخرى إلّا ان يكون الأثر المترتب عليه من قبيل الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية على الموضوع المركب كوجوب الحج الثابت للعاقل البالغ المستطيع مثلا ، فانه لا يقال علي الموضوع الفاقد لبعض الخصوصيات المعتبرة فيه انه موضوع فاسد وعلى التام انه موضوع صحيح ، والوجه فيه ظاهر ، فانّ الحكم ليس من الأثر المرغوب من الموضوع.

وبالجملة فالصحة والفساد يكونان بمعنى ترتب الأثر المرغوب على المركب وعدمه ، وعليه فالأثر المرغوب من العبادة انما هو حصول فراغ الذّمّة عن التكليف ، فانّ ما يكون داعيا للمكلف على الإتيان بها هو ذلك ، لا حصول المصلحة في الدنيا ، أو في عالم البرزخ أو الآخرة ، بداهة اتصاف العبادة بالصحّة والفساد عند الأشعري المنكر للملاك والمصلحة أيضا ، فإذا حصل الفراغ بالإتيان بالعبادة فقد ترتب الأثر المرغوب عليها فتكون صحيحة وإلّا فتفسد.

وامّا في المعاملة ففي مثل البيع غرض المتبايعين انما هو حصول النقل والانتقال والتبديل في المالين ، فإذا ترتب هذا الأثر يتصف بالصحّة وإلّا فيكون

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٧.

فاسدا ، وهكذا في غيره من المعاملات.

والحاصل : حيث عرفت أنّ المراد بالصحّة والفساد هو ترتب الأثر المرغوب على الشيء وعدمه ظهر لك انه لا يتصف بهما إلّا المركب أو المقيد الّذي يترتب عليه أثر واحد ، سواء كان عبادة أو عقدا ، أو إيقاعا أو ما شابهه. وامّا الموضوع المركب فلا يتصف بشيء منهما ، لأنّ الحكم ليس الأثر المرغوب من الموضوع ، وانما هو محمول عليه كما في بقية القضايا الحقيقية ، فلا يقال للبالغ العاقل غير المستطيع انه موضوع فاسد وللمستطيع انه موضوع صحيح.

الجهة الثانية : في ان الصحة والفساد أمران واقعيان أو انتزاعيان أو حكمان جعليان كالملكية ونحوها؟

فصل الآخوند (١) في ذلك بين العبادات والمعاملات ، وذهب إلى انّ الصحة والفساد في العبادات منتزعتان من انطباق المأمور به على المأتي به ، وامّا في المعاملات فالصحة عبارة عن حكم الشارع بترتب الأثر على المعاملة الخاصة وعدمه ، فهما مجعولان فيهما.

وهناك تفصيل آخر عن المحقق النائيني سيظهر لك عند بيان المختار.

امّا ما أفاده في الكفاية فالجواب عنه هو : انّ الصحة والفساد يكونان من قبيل عوارض الوجود ، ولا يتصف بهما إلّا الموجود الخارجي ، فانه الّذي قد يترتب عليه الأثر وقد لا يترتب ، نظير حرارة النار وبرودة الماء فلا يتصف به الطبيعي إلّا بنحو الفرض والتقدير ، فإذا قيل البحر من الزئبق سيال معناه إذا فرض ذلك في الخارج يكون سيالا ، وعليه فالصحة في المعاملة أيضا منتزعة من انطباق ما أخذ موضوعا في حكم الشارع بالملكية أو غيرها من الأحكام الوضعيّة على المأتي به في

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٨٩.

الخارج.

وبعبارة أخرى : ما يتعلق به الإمضاء الشرعي هو الطبيعي ، وهو لا يتصف بالصحّة والفساد ، والمتصف بهما الفرد بلحاظ انطباق الطبيعي عليه وعدمه.

فالذي ينبغي ان يقال : هو التفصيل بين الأحكام الواقعية وبين الأحكام الظاهرية ، فإذا أحرز المكلف بالقطع الوجداني اشتمال ما أتى به على جميع ما اعتبره الشارع في حكمه ، مثلا توضأ بماء مقطوع طهارته وإطلاقه واستقبل في صلاته القبلة المعلومة وهكذا من حيث بقية الاجزاء والشرائط وفقد الموانع ، فالصحة فيها تكون منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به.

واما لو فرضنا انه توضأ بماء مستصحب الطهارة أو إلى طرف أخبرت البينة بكونه إلى القبلة ، فهو وجدانا يحتمل ان لا تكون صلاته إلى غير القبلة أو بلا طهارة غاية الأمر حكم الشارع بصحة ما أتى به بمقتضى دليل حجية الاستصحاب أو البينة أو بمقتضى قاعدة التجاوز أو الفراغ ، فالصحة حينئذ تكون بحكم الشارع بانطباق المأمور به على ما أتى به خارجا ، والفساد عبارة عن عدم حكمه ، فهما بذلك مجعولان شرعيان.

وإلى هنا هذا التفصيل موافق لما ذكره الميرزا قدس‌سره ، وما نفترق معه فيه هو : انه في موارد الحكم الظاهري أيضا تارة : تكون الصحة صحة ظاهرية بحيث تنقلب الصحة إلى الفساد لو انكشف الخلاف ، وأخرى : تكون صحة واقعية لا تجب الإعادة حتى لو انكشف الخلاف ، كما في موارد ثبوت الاجزاء بحديث لا تعاد ، فالصحة والفساد في القسم الأول مجعولان دون القسم الثاني ، وذلك لأنّ اكتفاء الشارع بالفاقد للجزء أو الشرط واقعا ملازم لرفع اليد عن جزئية الفاقد أو شرطيته ، وإلّا لزم رفع اليد عن التكليف رأسا ، فكأنه من الأول تكون وظيفة هذا الشخص الإتيان بالفاقد ووظيفة غيره الإتيان بخصوص الواجد ، وإذا كان كذلك

فانطباق طبيعي المأمور به بالقياس إلى هذا الشخص على ما أتى به يكون قهريا ، فتكون الصحة أو الفساد فيها منتزعا.

وبالجملة فالصحة الظاهرية الثابتة للشاك المتقومة به التي تدور مدار الشك مجعولة شرعا ، وكذلك الفساد ، وامّا الصحة الواقعية التي ليس فيها انكشاف الخلاف فهي منتزعة لا محالة.

السادس : فيما يقتضيه الأصل عند الشك في دلالة النهي على الفساد.

فصل في الكفاية (١) بين المعاملات والعبادات ، فذهب إلى انّ الأصل في المعاملة هو الفساد وعدم ترتب الأثر عليها ، وفي العبادات فصلّ بين ما إذا كان الشك في أصل تعلق الأمر بعبادة ، وما إذا كان الشك في الأقل والأكثر ، وما إذا كان حدوث الشك في الصحة في الأثناء أو بعد الفراغ عن العمل.

والظاهر انّ جميع ذلك خارج عما هو محل البحث والنزاع ، فانّ المبحوث عنه انما هو الشك في الصحة والفساد من حيث دلالة النهي على ذلك وعدمه ، لا الشك فيهما من جميع الجهات.

فالأولى أن يقال : امّا الشك في ذلك من حيث المسألة الأصولية ، أعني دلالة النهي على الفساد والملازمة بين حرمة الشيء وفساده فليس فيها أصل يعول عليه عند الشك ، إذ الملازمة أزلية وجودا وعدما ، نظير ما مر في الأصل العملي عند الشك في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتصل النوبة إلى المسألة الفرعية. والصحيح فيها هو التفصيل بين المعاملات والعبادات.

امّا المعاملات ، فمقتضى الأصل فيها وان كان عدم ترتب الأثر عليها عند الشك في صحتها كبقاء كل من المالين على ملك مالكه في البيع ، إلّا انّ هناك

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٩٠.

إطلاقات في موارد خاصة كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) في البيع ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «النكاح جائز بين المسلمين» في النكاح ، أو في مطلق العقود أو الإيقاعات أيضا كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) وقوله عليه‌السلام «المؤمنون عند شروطهم» (٣) إلى غير ذلك ، فإذا تعلق النهي المولوي التحريمي بمعاملة وشككنا لأجله في صحتها فأصالة العموم أو الإطلاق تقتضي صحتها ، ومن الواضح انّ الأصل اللفظي حاكم على الأصل العملي.

وبعبارة أخرى : انّ الإطلاقات الواردة في المعاملات تامة ، فإذا أحرزنا فساد معاملة نخصص به تلك الإطلاقات ، وإذا احتملنا ذلك فالإطلاقات محكمة.

وامّا العبادات ، فهي توقيفية لو لم يثبت تعلق الأمر بها لا يجوز إسنادها إلى المولى ، لأنه تشريع محرم بالأدلة الأربعة على ما في كلام الشيخ قدس‌سره ، فيعتبر في صحة كل عبادة ثبوت الأمر فيها ، وعليه فإذا تعلق النهي التحريمي بعبادة لا محالة يقيد به إطلاق دليل الأمر بتلك العبادة ، إذ الأمر والنهي متضادان ، فلا تصح الإتيان بها حتى بالملاك كما ستعرف إن شاء الله.

السابع : انّ النهي تارة : يتعلق بحصة مما تعلق به الأمر أي بنفس ذلك العنوان كنهي الحائض عن الصلاة والنهي عن صوم العيدين ، وأخرى : يتعلق بجزء من العبادة.

اما الأول ، فهو داخل في محل النزاع ، ويدل النهي فيها على الفساد ، وذلك لأنّ النهي عن فرد من افراد الطبيعي يستلزم تخصيص ترخيص المكلف في تطبيق الطبيعي بغير مورد النهي ، إذ لا يحصل التقرب بالمبغوض ، فلا يتعلق به الأمر لا

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) المائدة ـ ١.

(٣) الكافي ـ ج ٥ ـ ٤٠٤.

محالة ، فيكون فاسدا.

وامّا تصحيح ذلك بالملاك ، ففيه :

أولا : ما ذكرناه من انّ الكاشف عن ثبوت الملاك في مورد ليس إلّا الأمر فإذا سقط من أين سينكشف الملاك؟

وثانيا : سلّمنا تحقق الملاك في الفرد المحرم أيضا ولكن كيف يمكن التقرب بملاك مغلوب للمفسدة الموجودة في مورده بحيث أثرت تلك المفسدة حتى حرمه الشارع.

وامّا الثاني ، أعني ما إذا تعلق النهي بجزء العبادة ، نظير ما لو أتى المكلف ببعض اجزاء الصلاة رياء ، فان لم يكن ذلك الجزء قابلا للاستبدال فلا محالة تفسد العبادة لفساد جزئها ، فانّ المركب ينتفي بانتفاء بعض اجزائه.

وامّا ان كان قابلا للاستبدال ، فتارة : يكون النهي مما يقيد أصل العمل أيضا كالرياء ، فانه مفسد في أي عمل تحقق بل هو شرك حقيقة كما في الروايات. وفي هذا الفرض تفسد العبادة ولو استبدل الجزء لا لمجرد النهي عنه بل لخصوصية في المورد.

وأخرى : لا يكون النهي كذلك ، وفي هذا القسم لو استبدل المكلف ذاك الجزء فلا وجه للفساد إلّا إذا استلزم الاستبدال ثبوت مانع عن الصحة كالزيادة العدمية المخلة في الصلاة ، بل الزيادة قد تتحقق بنفس الفرد المحرم على ما سنبين.

هذا ولكن غير الفرض الأول من الفروض المذكورة يكون البحث فيها صغرويا لا كبرويا كما هو ظاهر ، فما أفداه في الكفاية (١) من صحة العبادة التي تعلق النهي بجزء منها إذا استبدل الجزء المحرم بغيره بإطلاقه غير تام.

وبالجملة إذا تعلق النهي بنفس العبادة يدل على فسادها بالبيان المتقدم ، وإذا تعلق بجزء من اجزائها لا يلزم منه إلّا فساد ذاك الجزء ، فإذا أمكن استبداله بفرد

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٢٩٢.

غير محرم ولم تكن حرمة ذاك الجزء المأتي به محرما حرمة سارية إلى نفس العبادة نظير بعض الأمراض المسرية في الثمار وغيرها ولم يكن الاستبدال مستلزما للزيادة فيما توجب البطلان كالصلاة والطواف لا تستلزم منه فساد المركب.

ثم انا ذكرنا في محله انه يعتبر في تحقق الزيادة حتى في الأفعال قصد الجزئية ، فالزيادة متقومة بهذا القصد. نعم في خصوص السجدة ورد الدليل على كونها زيادة ولو أتى بها بغير قصد الجزئية ، ويثبت ذلك في الركوع بالأولوية. وامّا في غيرهما من الأفعال كالقيام والجلوس فالزيادة متقومة بما ذكرناه ، ولذا لو قام أحد في صلاته لأجل النّظر إلى الهلال أو جلس لغرض لا يكون ذلك زيادة في الصلاة ، فالزيادة في الصلاة في غير الركوع والسجود انما يتحقق فيما إذا أتى بالجزء المحرم بقصد الجزئية لا بغير ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول : استدل المحقق النائيني قدس‌سره على فساد العبادة التي تعلق النهي ببعض اجزائها بوجوه ثلاثة ، يعم واحد منها مطلق العبادات ، والاثنان الآخران مختصان بخصوص الصلاة.

امّا الوجه الأول : فحاصله انّ الأمر بالمركب لا يخلو الحال فيه من ان يكون لا بشرط بالقياس إلى ذلك الجزء المحرم ، أو يكون بشرط لا عن ذلك ، أي امّا يكون مطلقا بالقياس إليه أو يكون مقيدا بعدمه ، وحيث انّ الأول يستلزم الترخيص في المعصية فيتعين الثاني ، فإذا كان المأمور به مقيدا بعدم ذلك الجزء المحرم فلا محالة يكون الإتيان به مانعا عن العمل فيفسد بإتيانه.

وفيه : انه ان أراد من البشرطلائية كون الأمر الضمني المتعلق بالجزء مقيدا بغير الفرد المحرم فهو وان كان حقا إلّا انه لا يستلزم إلّا فساد الجزء ، والمفروض استبداله بغير الفرد المحرم ، وان أراد بها انّ المركب مقيد بعدم الإتيان بالجزء المحرم ، فهو ممنوع كما لا يقيد الواجب بعدم بقية المحرمات ، بل يكون الواجب مطلقا

بالقياس إلى ذلك من دون ان يلزم الترخيص في المعصية ، ولذا لم يقبل أحد بفساد الصلاة إذا اقترنت بالنظر إلى الأجنبية أو بالكذب ونحوه من المحرمات.

وحل المطلب هو : انّ ما ذكرنا من تقيد الواجب بغير الفرد المحرم انما هو في فرض وحدة وجود المأمور به مع المحرم ، وينحصر ذلك بما إذا تعلق الأمر بالطبيعي وكان بعض افراده محرما ، فانّ إطلاق الأمر به الملازم للترخيص في تطبيقه على أيّ فرد شاء يستلزم الترخيص في المعصية ، فلا بدّ وان يقيد بغير الفرد المحرم. وامّا إذا فرضنا انّ هناك وجودان أحدهما محرم وقد يقارن الواجب أو يسبقه أو يلحقه ، فلا مانع من كونه مطلقا بالقياس إليه أصلا ، بل لا مانع من ان يصرح المولى بالإطلاق بان يقول : صلّ سواء كذبت أم لم تكذب ، أو نظرت إلى الأجنبية أو لم تنظر. وهكذا ، فيكون الواجب لا بشرط بالقياس إليها ، ولا يلزم الترخيص في المعصية من ذلك أصلا.

الوجه الثاني : وهو مختص بغير الأذكار من اجزاء الصلاة أعني الركوع والسجود والقيام والجلوس ، فحاصله : انه لو أوجد المكلف شيئا منها في الفرد المحرم ، فلا يخلو الحال من انه يستبدله بفرد آخر ، أو لا يستبدله ، وعلى الثاني يبطل العمل لفساد الجزء ، وعلى الأول تفسد للزيادة العمدية فانها في الأفعال غير متقومة بقصد الجزئية ، انتهى (١).

وقد مر الجواب عنه فلا نعيد ، لأنك عرفت انّ الزيادة في الصلاة في غير الركوع والسجود متقومة بقصد الجزئية فتدور مدارها.

الوجه الثالث : وهو مختص بالأذكار من الصلاة ، وهو انه لو أتى المكلف بشيء من الأذكار الواجبة في الصلاة في ضمن فرد محرم كاللعن أو الدعاء على

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٣٩٨.

مؤمن فبما انّ كلام الآدمي الّذي يعم مطلق التكلم مبطل للصلاة كما ورد النص به ، وقد خرج عن ذلك القرآن والذّكر والدعاء لقوله عليه‌السلام «كلّما ناجيت به ربك فهو من الصلاة» وهذه الأدلة المخصصة لا تعم الدعاء والذّكر المحرم ، فانه يستحيل ان يكون من الصلاة ، لأنه منهي عنه على الفرض ، فيبقى تحت عموم كلام الآدمي ، فيكون مفسدا.

وفيه : انّ هذا انما يتم لو قلنا بأنّ كلام الآدمي يعم الدعاء والذّكر في نفسه ، فانّ المخصص كما ذكر لا يشمل الفرد المحرم على ما بين ، ولكن لو قلنا بأنّ كلام الآدمي منصرف إلى التكلم المتعارف فلا يعم في نفسه المناجاة وقراءة القرآن حتى لو لم يكن هناك دليل مخصص ، فلا مقتضى حينئذ للبطلان أصلا.

والحاصل : انّ النهي تارة : يتعلق بذات العبادة ، وأخرى : بجزئها ، وثالثة : بوصفها ، ورابعة : بشرطها.

امّا النهي المتعلق بذات العبادة فقد عرفت دلالتها على الفساد.

وامّا المتعلق بجزء العبادة فهو في نفسه لا يوجب إلّا فساد نفس الجزء دون المركب ، فإذا أمكن تبديله بجزء آخر لا يلزم فساد أصل العمل إلّا إذا استلزم محذورا آخرا من الزيادة العمدية ونحوها.

وامّا إذا تعلق النهي بوصف العبادة فذكروا : انه تارة : يكون وصفا ملازما للموصوف كالجهر أو الإخفات في القراءة ، فانّ القراءة وان كانت تنفك عن كل منهما إلّا انّ كلا منهما لا ينفك عن القراءة كما هو ظاهر ، وأخرى : يكون مقارنا له ، ففي الأول يكون النهي عن الوصف بمنزلة النهي عن الموصوف فيوجب الفساد دون الثاني.

ونقول : ان كانت الملازمة بين الوصف والموصوف من الطرفين بان كان الموصوف أيضا مستلزما للصفة ولم يمكن انفكاكه عنها كما هو ظاهر المفاعلة على

ما هو المعروف فيها ، فالنهي عن الصفة حينئذ لا ينافي الأمر بالموصوف لإمكان الإتيان بها في المثال إخفاتا ، وعليه فلا فرق بين اللازم بهذا المعنى والمقارن فيما نحن بصدده.

فالذي ينبغي ان يقال : هو انه تارة : تكون الصفة من الصفات المنوعة أو المصنفة أو المشخصة ، وبعبارة جامعة تكون متحدة مع الموصوف وجودا بنظر العرف ، وأخرى : تكون مغايرة معه وجودا كذلك. فالنهي عن الصفة في القسم الأول يدل على فساد الموصوف دون القسم الثاني ، والجهر أو الإخفات في القراءة من قبيل الأول ، فانّ شدة الصوت الناشئة من شدة ضغط الهواء وهكذا خفته لا يعد عرفا وجودا مغايرا لنفس الصوت ، فدلالة النهي عن الجهر في القراءة على فسادها انما هي من هذه الجهة لا من جهة الملازمة التي ذكرها القوم. ومن هنا لو فرضنا انّ النهي تعلق بمطلق الإجهار في الصوت مثلا لا تكون القراءة الجهرية مصداقا للمأمور به مع انّ الجهر حينئذ لا يكون ملازما للقراءة بل يكون من مقارناتها لإمكان انفكاكه عنها ، وليس ذلك إلّا من جهة اتحاد الوجود ، وهذا بناء على بساطة الاعراض أوضح فتأمل.

واما إذا نهى المولى عن النّظر إلى الأجنبية حال القراءة مثلا فبما انهما وجودان فلا دلالة للنهي عنه على فساد القراءة أصلا ، ففي النهي المتعلق بوصف العبادة لا بدّ وان يفصّل هكذا.

وامّا إذا تعلق النهي بشرط العبادة ، ومرادنا من الشرط مطلق ما اعتبر وجوده في العبادة ، سواء كان نفس فعل المكلف أو الأثر الحاصل منه ، فهو تارة : يكون عباديا ، وأخرى : غير عبادي.

امّا ان كان عباديا ، فالنهي عنه يوجب فساد الشرط ، ولأنه عبادة هو مستلزم لفساد المشروط لا محالة من غير فرق بين قسميه ، امّا فيما كان الشرط نفس

الفعل العبادي كما لو قلنا : بأنّ الشرط في الصلاة نفس الغسلات والمسحات مثلا دون الأثر الحاصل منها فواضح فانّ نفس الشرط حينئذ يكون عباديا فيفسد بسبب النهي ، واما لو فرضنا انّ الشرط في العبادة هو الأثر ، والأفعال محصلة له كما هو المشهور ، فلأنّ محصل الأثر عبادي على الفرض ، فالنهي عنه يوجب فساده ، فلا يترتب عليه الأثر ، فلا يتحقق شرط العبادة فتفسد. فلا وجه لما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ الشروط العبادية في العبادات كلها من قبيل الثاني ، فالنهي عنها لا يوجب الفساد ، لأنّ الأثر ليس عباديا.

واما الشرط غير العبادي فهو أيضا على قسمين : لأنه تارة : يكون نفس الفعل شرطا ، وأخرى : الأثر الحاصل منه.

امّا ان كان من قبيل الثاني فالنهي عن السبب حينئذ لا يدل على فساده وعدم ترتب الأثر عليه ، لأنه ليس عباديا على الفرض فيترتب الأثر عليه لا محالة ، فيتحقق شرط العبادة ، مثلا من شرائط الصلاة طهارة البدن التي هي أثر حاصل من الغسل فإذا فرضنا انّ الغسل محرم كما لو غسل جسده بالماء المغصوب يحصل الطهارة لا محالة فيتحقق شرط الصلاة ، وهكذا طهارة الأعضاء شرط في الوضوء وهي تتحقق ولو بغسلها بالماء المغصوب.

وامّا ان كان الشرط غير العبادي نفس فعل المكلف كاللبس في الصلاة على المختار من انّ نفس هذا العنوان شرط لا التستر فبما انّ النهي عن فرد من اللبس كلبس الحرير يوجب اختصاص الأمر المتعلق بالمشروط بغير المقيد بذاك الفرد فلا محالة لا يكون الثاني به في ضمنه مأمورا به ، فيفسد. فلا وجه لما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ المعتبر في الصلاة هو عنوان التستر ، واللبس محصل له كما عرفت في محله.

إذا عرفت هذه الأمور ، فيقع الكلام في أصل المطلب في مقامين :

الأول : في دلالة النهي على الفساد في العبادات.

والثاني : في المعاملات بعد الفراغ من انّ المراد من الدلالة ليست الدلالة اللفظية ، فانها منتفية ، بل المراد منها الملازمة بين الحرمة والفساد.

امّا المقام الأول : فالظاهر انّ النهي التحريمي الذاتي إذا تعلق بالعبادة يدل على فسادها امّا بناء على اعتبار قصد الأمر في عباديتها فواضح ، فانّ النهي لا يجتمع مع الأمر فإذا انتفى الأمر كيف يقصد؟

وامّا بناء على الاكتفاء بالملاك فكذلك لوجهين.

الأول : انّ عبادية كل شيء متقومة بأمرين : قابلية الفعل لأن يضاف إلى المولى ، وإضافته إليه بالفعل ، وعليه فالعبادة المنهي عنها لا يمكن إحراز قابليتها للإضافة إلى المولى وذلك :

أولا : لما عرفت من انه ليس لنا كاشف عن الملاك بعد سقوط الأمر.

وثانيا : لو فرضنا ثبوت الملاك فهو لا يوجب القابلية في العمل بعد ما كان مغلوبا للمفسدة الفعلية ، فهو نظير ما إذا كانت بعوضة على وجه المولى وارد العبد أن يزيلها بلطم خد المولى مثلا.

والثاني : انّ العبد لا يمكنه إضافة تلك العبادة إلى المولى فلا يضيفها ، اما مع الالتفات فواضح ، وبدونه أيضا كذلك ، لأنه صورة إضافة لا واقع لها ، فتفسد لا محالة ، وهذا كله ظاهر.

هذا في الحرمة الذاتيّة.

وامّا إذا تعلق النهي التشريعي بالعبادة ، فذهب في الكفاية إلى دلالته على الفساد أيضا ، لأنه يدل على عدم الأمر لا محالة.

ونقول : النهي التشريعي ان كان متعلقا بعبادة خاصة بخصوصها كما في قوله «لا صيام في السفر» (١) أو قوله عليه‌السلام : «الصلاة ركعتان ركعتان» ، فانه نهى عن الركعة

__________________

(١) التهذيب ـ ٤ ـ ٢٣٠.

الواحدة إلّا في صلاة الوتر ، فهو يدل على عدم الأمر بل على عدم الملاك أيضا ، وإلّا لما كان الإتيان بها تشريعا محرما ، فيدل على فسادها للوجهين المتقدمين.

وامّا لو كان النهي التشريعي متعلقا بالعبادة لا بعنوانها بخصوصه ، كما في موارد عدم ثبوت الأمر ولا الحرمة الذاتيّة ، فانّ اسناد العمل حينئذ إلى المولى تشريع محرم بالأدلة الأربعة ، وفي مثل ذلك لا مانع من الإتيان به رجاء ، إذ يحتمل ثبوت الأمر أو الملاك واقعا ، فإذا أتى به تشريعا وأسنده إلى المولى جزما فهل الحرمة التشريعية الثابتة فيه تدل على فساده أم لا؟

الظاهر هو الأول ، وذلك لأنه : اما ان ينكشف عدم الأمر والملاك فيه بعد العمل ، واما ينكشف وجوده فيه. امّا على الأول فالفساد واضح للوجهين المتقدمين ، وامّا على الثاني أي فيما إذا انكشف وجود الأمر أو الملاك فيه فكذلك ، لأنّ الملاك الذاتي الموجود فيه واقعا كان مزاحما بمفسدة التشريع الثابتة قبل انكشاف الخلاف فلم يكن مؤثرا وموجبا لقابلية العمل لأن يضاف به إلى المولى. هذا مضافا إلى انّ الإضافة الفعلية حينئذ لا تتحقق من الملتفت أصلا إلّا بنحو التشريع ، وهكذا من غيره لا تكون الإضافة إلّا صورية.

فالصحيح : دلالة النهي على فساد العبادة في جميع الصور ، فانه يستلزم سقوط الأمر وسقوط العبادة عن قابليتها الإضافة إلى المولى كما عرفت.

وامّا النهي المولوي إذا تعلق بالمعاملات من العقود والإيقاعات ، فهل يدل على الفساد ، أو على الصحة مطلقا ، أو لا يدل عليها مطلقا ، أو يفصل في ذلك؟

فنقول : قسموا النهي المتعلق بذلك إلى أقسام : فانه تارة : يتعلق بذات السبب ، وأخرى : بالمسبب ، وثالثة : بالتسبب ، ونظير ذلك في الأسباب الخارجية الخشب الّذي تسبب به العبد إلى إيجاد النار ، فانه تارة : ينهى عن التصرف في ذلك الخشب الّذي يتسبب به العبد إلى إيجاد النار وأخرى : يبغض المسبب أعني إيجاد النار ،

وثالثة : ينهى عن التسبب إلى النار بذاك الخشب من دون ان يكون نفس التصرف في الخشب أو إيجاد النار بغيره مبغوضا.

وهكذا الكلام في الأسباب الاعتبارية ، فانه ربما يتعلق النهي بإيجاد ذات السبب كما لو أنشأ البيع في أثناء الصلاة ، فانّ نفس الإنشاء واللفظ حينئذ يكون مبغوضا للمولى لكونه موجبا لفساد الصلاة. وقد يتعلق النهي بالمسبب أعني المبادلة دون اللفظ كالبيع وقت النداء ، فانّ إيجاد اللفظ حينئذ لا يكون مبغوضا وانما المبغوض هو المبادلة. وقد يتعلق النهي بالتسبب كالمراهنة بغير الآلات المعدة للقمار كما لو تراهنا بالمصارعة أو الحظ أو نحو ذلك ، فانّ نفس تملك المال ليس مبغوضا كما انّ مجرد المصارعة من دون المراهنة لا يكون منهيا عنه ، وانما المحرم التسبب بذلك إلى المراهنة ، وهذا واضح.

والمحقق النائيني قدس‌سره فصّل في دلالة النهي على الفساد بين ما إذا تعلق بالمسبب فيدل على الفساد دون ما إذا تعلق بالتسبب أو بالسبب. وذكر في بيان ذلك مقدمة وهي : انّ صحة المعاملة كالبيع متقوم بأمور (١) :

الأول : ان يكون البائع مالكا لإيجاد ذلك العقد بان يكون البائع مالكا للمبيع أو مأذونا ، وهكذا المشتري بالقياس إلى الثمن.

الثاني : ان لا يكون ممنوعا من التصرف فيه بحجر أو رهن أو نحو ذلك.

الثالث : أن يكون إيجاد تلك المعاملة بما جعله الشارع سببا لها لا بغيره ، مثلا إذا اعتبر الشارع في الطلاق لفظ «هي طالق» فإيجاده بلفظ «أنت خلية أو برية» ممنوع.

وبالجملة إذا انتفى أحد هذه الأمور تبطل المعاملة لا محالة. وعلى هذا فإذا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٠٤.

تعلق النهي بالمسبب فيكون ذلك ممنوعا عنه شرعا ، فتنتفي المقدمة الثانية من مقدمات الصحة ، فيكون نظير بيع المرهون أو المحجور عليه الممنوع عن التصرف.

وفيه انّ أصل هذا التقسيم لا وجه له فضلا عن التفصيل ، وذلك لأنّ المسبب أعني الإمضاء الشرعي أو العقلائي ليس فعل العبد بل هو فعل المولى أو فعل العقلاء ، فكيف يمكن تعلق النهي به ليبحث عن دلالته على الصحة أو على الفساد؟! فكل ذلك لا مجال له أصلا.

وتفصيل هذا ما مر عليك في بحث الإنشاء والاخبار من انّ ما يوجد في باب الإنشاء أمور ثلاثة : اعتبار المتعاملين فانه ثابت ولو لم يكن هناك عاقل غيرهما ، وإبراز هذا الاعتبار النفسانيّ ، وإمضاء الشارع لذلك أو إمضاء العقلاء له.

امّا الإمضاء الشرعي أو العقلائي فغير قابل لأن يتعلق به النهي كما هو واضح ، فلا يبقى في البين شيء يمكن تعلق النهي به إلّا نفس اعتبار المتعاملين ، أو إبرازهما ، أو هما معا ، فلا بدّ وان ننظر في انّ النهي عن ذلك يدل على الفساد أم لا؟ وحق المطلب ان يقسم المقام هكذا : ويقال : انّ ما يوجد في موارد الإنشاء أمور ثلاثة : اعتبار المتعاملين ، وإبرازهما باللفظ أو بغيره ، وإمضاء العقلاء أو الشارع. إمّا الإمضاء فغير قابل لأن يتعلق النهي به ، وامّا الاعتبار النفسانيّ المجرد عن الإبراز فلم نجد موردا تعلق النهي المولوي به ، كما لا يطلق عليه عناوين المعاملات من العقود والإيقاعات ، فلا يطلق البيع على اعتبار المتعاملين محضا.

وامّا الإبراز فمن حيث تعلق النهي به ينقسم إلى قسمين : لأنه امّا ان يتعلق بذاته بما هو لفظ كما إذا أنشأ البيع بلفظ «بعت» في أثناء الصلاة بناء على حرمة قطعها ، وهذا لا يدل على الفساد قطعا ، إذ النهي عنه غير متعلق بالمعاملة كما هو واضح.

وامّا ان يتعلق النهي به بعنوان كونه مبرزا للاعتبار النفسانيّ أي يتعلق النهي

بالتسبب وان لم يكن هذا التعبير خاليا عن المسامحة ، وهذا هو المورد للنزاع في أنّ النهي المولوي فيه يدل على الفساد ، أو على الصحة أو لا يدل على شيء منهما؟

فنقول : غاية ما يمكن ان يقال في تقريب دلالته على الفساد هو ما ذكره الميرزا قدس‌سره وتقدم بيانه من انه إذا تعلق النهي بمعاملة فلا محالة يكون المكلف ممنوعا عنها ، نظير موارد تعلق حق الغير بالمبيع ، فكما انّ المنع هنا يوجب فساد البيع كذلك في المقام.

ونقول : أولا : قياس المقام بموارد الحجر الشرعي قياس مع الفارق ، فانّ ملكية المالك هناك ليست ملكية تامة ، وانما هي ملكية ناقصة لكون المال متعلقا لحق الغير ، بخلاف المقام الّذي يكون المالك فيه تام الملكية.

وثانيا : انا انما نقول بفساد البيع هناك من جهة ورود الدليل على فساده لا من جهة الملازمة الفعلية بين الممنوعية والفساد ، ولذا في جملة من موارد كون المال متعلقا لحق الغير من قبيل الموقوفات ومورد اشتراط عدم البيع في ضمن العقد اللازم نقول بنفوذ البيع وجوازه مع ثبوت الحرمة المولوية ، أو كون المال متعلقا لحق الغير ، غاية الأمر يثبت خيار تخلف الشرط للشارط بعد تحقق البيع ومخالفة الشرط.

وبالجملة مورد كلامنا هو الملازمة بين الحرمة المولوية وفساد المعاملة ، وهي غير ثابتة ، ولذا يجوز ان يصرح بنهي المولى عن معاملة مولويا ، ويصرح بنفوذها إذا أوجدها المكلف.

فتلخص من جميع ما تقدم انّ النهي المولوي لا يدل على الفساد في المعاملات أصلا.

ثم انه نسب القول بدلالة النهي على الصحة في المعاملات إلى أبي حنيفة بدعوى : انّ متعلق النهي لا بدّ وان يكون مقدورا ، فإذا لم تكن المعاملة صحيحة لا

تكون مقدورة ، فلا يعقل تعلق النهي بها.

وجوابه : ظهر مما بيناه ، فانّ النهي لا يتعلق بالإمضاء الشرعي ، وانما هو متعلق بالاعتبار المبرز كما عرفت ، وهو مقدور للمكلف كان ممضى شرعا أو عرفا أم لم يكن.

بقي الكلام في روايات استدل بها من جهتين ، فبعض جعلها دليلا على دلالة النهي عن المعاملة على الفساد ، وبعض استدل بها على عدم دلالته على الفساد (١).

اما تقريب الاستدلال بها على دلالة النهي على الفساد ما ذكره الميرزا قدس‌سره (٢) وحاصله : انّ المراد بالعصيان في كلتا الفقرتين هو العصيان التكليفي ، فالمعنى انّ العبد لم يعص الله تعالى بفعله ابتداء لأنه لا يكون قابلا للزوال ، وانما عصى سيده فبالعرض عصى الله تعالى ، وبما انّ عصيان السيد قابل للزوال بإذنه وإجازته فإذا أجاز يسقط العصيان بقاء ، فيجوز تزويجه. فيستفاد من ذلك انّ العصيان إذا كان عصيان الله ابتداء وقد مثل له في الروايات بمثل النكاح في العدة ونكاح الشغار فبما انه غير قابل للزوال فلا يصح أصلا.

وامّا الاستدلال بها على عدم دلالة النهي على الفساد فتقريبه : انّ المراد بالعصيان في الفقرة الأولى هو العصيان الوضعي ، والمراد منه في الفقرة الثانية هو العصيان التكليفي ، فالمعنى حينئذ انّ العبد لم يأت بشيء لم يمضه الشارع كالأمثلة المذكورة من نكاح المرأة في عدتها ونحو ذلك ليكون فاسدا ، بل ما أتى به ممضى شرعا غايته مشروطا ، وانما عصى سيده تكليفا ، لأنه تصرف في ملكه بدون اذنه ، وهو حرام شرعا أيضا ، فإذا أجاز وحصل الشرط جاز له ، فيستفاد من ذلك انّ

__________________

(١) وهي ما ورد في العبد الّذي تزوج بغير اذن سيده فقال عليه‌السلام انه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز. الكافي ـ ٥ ـ ٤٧٨.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٠٦.

مجرد الحرمة لا تستلزم الفساد ، فانّ تزويج العبد بدون اذن سيده كان حراما شرعا ومع ذلك كان ممضى ومحكوما بالصحّة.

والظاهر عدم تمامية كلا الاستدلالين ، وانّ المراد من العصيان في كلتا الفقرتين هو العصيان الوضعي دون التكليفي ، وذلك لأنه لم يرد دليل على وجوب استئذان العبد من المولى في جميع أفعاله وأعماله ، نعم يجب عليه إطاعة أوامره ونواهيه ، فإذا فرضنا انه لم ينهه عن التزويج فتزوج لا يكون ذلك عصيانا تكليفيا للسيد ولا لله تعالى ، وهكذا لو فرضنا انه وكّل غيره لأن يزوج له أو وكله غيره في ذلك كل ذلك لا يكون عصيانا. وليس هذا النحو من التصرف من العبد بأعظم من بيع الفضولي مال غيره مع انه لا يكون معصية أصلا ، فلا بدّ وان يراد من العصيان في كلتا الفقرتين من الرواية العصيان الوضعي. فالمعنى حينئذ انّ العبد لم يأت بما ليس بمضي شرعا كالأمثلة المذكورة فيها ، وانما عصى سيده أي أتى بما لم يمضه السيد ولم يجزه ، وفي مثل ذلك يكون إمضاء الشارع مشروطا بإجازة السيد ، فإذا أجاز يحصل الشرط.

وبعبارة أخرى : يستفاد من الرواية انّ بعض المعاملات لا تكون ممضاة شرعا ، وبعضها تكون ممضاة مطلقا ، وبعضها مشروطا كما في موارد تعلق حق الغير فإذا حصل الشرط فيها تنفذ لا محالة ، وعليه فلا ربط للرواية بالنهي عن المعاملة أصلا. ويمكن ان يستدل بعموم العلة المستفادة منها على جواز بيع الفضولي أيضا. هذا كله في النهي الذاتي.

بقي الكلام في النهي التشريعي في المعاملة وانه يدل على الفساد أم لا؟ امّا لو أتى المكلف بمعاملة لا يعلم صحتها شرعا بعنوان الرجاء فلا إشكال في جوازه تكليفا ، وامّا لو أوجدها مسندا لها إلى المولى فلا إشكال في حرمة ذلك تشريعا ، إلّا انه لم يتوهم أحد فيها الدلالة على الفساد وحينئذ فما لم ينكشف صحة تلك المعاملة

شرعا يحكم بعدم ترتب الأثر عليها للأصل ، وامّا إذا انكشف صحتها فيترتب عليها الأثر بلا إشكال.

هذا تمام الكلام في النهي في العبادات والمعاملات.

مبحث المفاهيم

مفهوم الشرط.

مفهوم الوصف.

مفهوم الغاية.

مفهوم الحصر.

المفاهيم

المنطوق بحسب معناه الوضعي من صفات اللفظ ، إذ كما انّ الناطق من صفات اللافظ فيقال «نطق به» ويتعدى بالباء فيكون اللافظ ناطقا واللفظ منطوقا. والمفهوم بحسب ما له من المعنى وضعا من صفات المعنى.

وامّا بحسب الاصطلاح فهما من صفات الدلالة بيان ذلك : انّ الدلالة تارة : تكون في الألفاظ المفردة ، وأخرى : في المركبات. وعلى كل تارة : تكون دلالة مطابقية مستفادة من حاق اللفظ ، وأخرى : تكون دلالة التزامية وهي تشمل المعنى التضمني أيضا ، فانّ دلالة اللفظ على جزء معناه تكون بالالتزام ، نعم نفس المعنى ينقسم إلى المطابقي والتضمني والالتزامي لا الدلالة ، فانها : امّا مطابقية وامّا التزامية ، والدلالة الالتزامية تارة : تكون مستفادة من الوضع ، وأخرى : تكون مستفادة من قرينة عامة غير مختصة بمورد دون مورد ، وثالثة : تستفاد من خصوصية المورد.

امّا دلالة الألفاظ المفردة فهي خارجة عن محل الكلام.

واما دلالة المركبات فالدلالة المطابقية هي يعبر عنها بالمنطوق ، والدلالة الالتزامية المسندة إلى خصوصية المورد كما في قوله عليه‌السلام في جواب السائل عن الماء الّذي لا ينجسه شيء «كر من الماء» فانه بقرينة السؤال يدل على انّ الأقل من الكر ينفعل تكون خارجة عن محل الكلام ، ولا يتصف بشيء من المنطوق والمفهوم.

وامّا الدلالة الالتزامية المستندة إلى الوضع أو إلى القرينة عامة فهي المفهوم ، فالمتصف بعنوان المفهوم هي الحصة الخاصة من الدلالة الالتزامية أي في المركبات

المستندة إلى الوضع أو إلى قرينة عامة دون غيرها.

وعلى هذا فالمنطوق والمفهوم بمعناهما الاصطلاحي كلاهما من صفات الدلالة وان اتصف بهما المدلول واللفظ أحيانا مسامحة.

وبهذا ظهر انه لا فرق بين ان يقال : في تعريف المفهوم من «انه حكم غير مذكور» أو «حكم لغير مذكور» وكلاهما صحيح ، فانّ في قولك «ان جاءك زيد فأكرمه» الحكم المذكور في القضية هو الوجوب ، والمفهوم عدم الوجوب ، كما انّ الموضوع الأعم من المتعلق في المنطوق هو الإكرام ، وفي المفهوم عدمه. وهكذا في مفهوم الموافقة كما في قوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١) فانّ الحكم في المنطوق والمفهوم وان كان هو الحرمة إلّا انه في المنطوق حصة خاصة وهي حرمة القول الخاصّ ، واما في المفهوم فهي حرمة الضرب والشتم ، وكذلك متعلق الحكم في المنطوق هو القول ، وفي المفهوم عنوان الضرب والشتم ونحوه ، فكلا الأمرين ينطبق على ما ذكرناه من الدلالة الالتزامية.

إذا عرفت المراد من المنطوق والمفهوم فيقع الكلام في الموارد التي وقع النزاع في ثبوت المفهوم ، ودلالة الجملة التركيبية بالوضع أو القرينة العامة على المعنى الالتزامي أي الانتفاء عند الانتفاء وعدمه.

__________________

(١) الإسراء ـ ٢٣.

الجملة الشرطية

أعني تعليق شيء بشيء.

ونقول : لا إشكال في عدم جواز استعمالها في المقارنات الاتفاقية ، فلو قال : «ان كان زيد عالما فعمرو تاجر» يكون هذا الاستعمال غلطا إلّا ان يكون هناك ملازمة من جهة أخرى ولو من حيث الوقوع الخارجي ، والمثال المعروف لذلك قولهم «ان كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق».

وبالجملة فبحسب الوضع حيثية الجملة الشرطية لا تستعمل إلّا في موارد ثبوت ملازمة بين الشرط والجزاء ، امّا يكون الشرط علّة للجزاء ، كما في قولهم «ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» وامّا العكس كعكس المثال ، وامّا لكونهما معلولين لعلّة ثالثة كما يقال : «ان كانت حركة نبض زيد سريعة فهو محموم» فانّ كلا الأمرين معلول لفساد الأخلاط ، فجامع الملازمة أي المعنى العام الشامل للأمور الثلاثة بحسب الوضع معتبر في الجمل الشرطية.

وامّا اعتبار خصوص كون الجزاء علّة للشرط فهو أجنبي عن الوضع. نعم الغالب في الجملة الشرطية المستعملة في الأحكام الشرعية ذلك ، لأنّ الشرط فيها غالبا يرجع إلى الموضوع ، ونسبته إلى الحكم نسبة العلّة إلى معلولها ، إلّا انّ ذلك أيضا لا يكون بالوضع ، ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن الشرط موضوعا للجزاء بل كان حكما أيضا كما في قوله عليه‌السلام : «ان قصرت أفطرت وان أفطرت قصرت» فلا يستفاد علّية الشرط للجزاء حينئذ ، ولذا كررت القضية ولا يكون ذلك مجازا أيضا.

واما في غير الأحكام الشرعية فربما يستفاد علّية الشرط للجزاء من تبعية

مقام الإثبات للثبوت ، وذلك لأنّ الجزاء في مقام اللفظ والإثبات متفرع ومترتب على الشرط ، فالتبعية المذكورة يستكشف انّ مراد المتكلم واقعا هو أيضا التفريع والمعية.

وبالجملة فمن الوضع نستفيد اعتبار مجرد الملازمة بين الشرط والجزاء ، ومن تبعية مقام الإثبات للثبوت نستفيد اعتبار خصوص حصة منها ، فمن مجموع الأمرين نستظهر في الجمل الشرطية كون الشرط علّة للجزاء. وهل يكفي مجرد ذلك في تحقق تلك الدلالة الالتزامية المعبر عنها بالمفهوم أعني الانتفاء عند الانتفاء؟ الظاهر : لا ما لم يحرز انحصار العلّة بالشرط ، إذ لا يلزم ذلك لو كان له بدل ، مثلا لو قيل «ان شرب زيد السم فقد مات» لا يستفاد منه انه ان لم يشرب فلم يمت ، إذ لو لم يشرب أيضا يحتمل موته لعلّة أخرى من ذبح ونحوه ، فلا بدّ من بيان دلالتها على الانحصار وعدمها.

وبالجملة دلالة الجملة الشرطية على المفهوم مبتنية على مقدمات ثلاث :

الأولى : ان تكون الهيئة فيها موضوعة لتعليق أحد المتلازمين على الآخر ، وقد عرفت انها كذلك واستعمالها في المقارنات الاتفاقية امّا مجاز أو غلط ، ولذا التجئوا إلى التقدير والإضمار في قوله تعالى (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(١) أي فلا تحزن ، فأقيمت العلّة مقام المعلول ، وهكذا في قوله تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ)(٢) أو قوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)(٣) إلى غير ذلك.

والثانية : ان يكون الشرط علّة والجزاء معلولا دون العكس ، أو كونهما

__________________

(١) فاطر ـ ٤.

(٢) الزمر ـ ٧.

(٣) يوسف ـ ٧٧.

معلولين لعلّة ثالثة ، وذلك لأنّ انتفاء العلّة ولو ببعض اجزائها مستلزم لانتفاء المعلول لا محالة ، وامّا انتفاء المعلول فلا يستلزم إلّا انتفاء العلّة التامة دون المقتضي أو هو مع الشرط ، فإذا فرضنا انّ الشرط معلول والجزاء كان مقتضيا له ، فانتفاء المعلول لا يستلزم انتفائه كما هو واضح ، لاحتمال ان يكون انتفاء المعلول لعدم الشرط ، أو لوجود المانع مع ثبوت المقتضى.

وبهذا ظهر الحال فيما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة ، وقد عرفت انه يمكننا استفادة هذا المعنى من تبعية مقام الإثبات للثبوت ، مضافا إلى انّ الغالب في القضايا الشرطية المستعملة في الأحكام الشرعية من هذا القبيل ، لأنّ الشرط فيها موضوع والجزاء حكمه ، والموضوع بمنزلة العلّة للحكم.

الثالثة : مما يعتبر في دلالة القضية الشرطية على المفهوم كون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، وإلّا فلا يوجب انتفاؤه إلّا انتفاء المعلول من جهته لا مطلقا ، مثلا ورد في الاخبار «إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ» فإذا انتفى النوم مثلا لا يوجب إلّا انتفاء وجوب الوضوء من جهة النوم ، ولا ينافي ثبوته من ناحية البول.

فالعمدة في المقام إثبات دلالة القضية الشرطية على كون الشرط علّة منحصرة للجزاء. وأحسن ما قيل في ذلك هو استفادته من سياق الكلام. بيانه : انه ان قلنا : برجوع القيد إلى المادة كما عن الشيخ فلا دلالة للقضية على المفهوم ، لأنّ الحكم حينئذ غير معلّق على شيء لينتفي بانتفائه. وان قلنا : بأنه يرجع إلى الهيئة ، فان كان القيد قيدا عقليا ومما علق عليه الحكم واقعا سواء ذكر في القضية اللفظية أم لم يذكر فلا مفهوم لها أيضا ، إذ انتفاء الحكم حينئذ يكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع كما في المثال المعروف «ان رزقت ولدا فاختنه» فانّ بدون الولد لا معنى للختان ، ويعبر عن مثل هذه القضايا بما سيق لبيان الموضوع ، واما ان كان القيد قيدا غير معتبر في الحكم واقعا بل المولى أخذه فيه فمن إطلاق كلام المولى وأخذه

ذلك القيد يعلم دخله فيه.

وبالجملة إذا كان الشرط قيدا للحكم ولم يكن قيدا عقليا مسوقا لبيان الموضوع كالمثال المتقدم ، فانّ ترتب الحكم بالختان على وجود الولد من قبيل ترتب الحكم على موضوعه ، فمن الوضع نستفيد الملازمة بين الشرط والجزاء ، ومن تبعية مقام الإثبات للثبوت نستفيد انّ ترتب الجزاء على الشرط من قبيل ترتب المعلول على علّته لا العكس ، ولا من ترتب أحد المعلولين لعلّة واحدة على الآخر.

وامّا كون الشرط من قبيل العلّة المنحصرة فهو مستفاد من إطلاق الشرط أو الجزاء ، فانه بعد ما كان المتكلم في مقام بيان تمام الجهات وكان متمكنا من ذكر العدل لما علق عليه حكمه ولم يعلقه إلّا على خصوص ذلك يستفاد منه انّ ما أخذه قيدا هو الدخيل في الحكم الّذي يدور مداره وجودا وعدما ، وهذا نظير ما ذكرناه في التمسك بإطلاق الأمر لإثبات الوجوب التعييني ، فإنّ هناك قلنا : بما انّ المولى في مقام البيان ولم يبين عدلا للواجب فإطلاق الأمر يقتضي وجوب الإتيان بمتعلقه سواء أتى بشيء آخر أو لم يأت ، والمقام أيضا كذلك. ولو شك في كون المولى في مقام البيان من تمام الجهات فالأصل العقلائي يقتضي كونه كذلك.

وقد أورد عليه في الكفاية بما حاصله : انّ إثبات الوجوب التعييني من إطلاق الأمر انما كان من جهة انّ الوجوب التعييني والتخييري امران متباينان ، وبما انّ الثاني يحتاج إلى مئونة زائدة في مقامي الإثبات والثبوت من ذكر العدل ولحاظه فإذا لم ينبه المولى مقتضى إطلاق كلامه هو الأول. واما في المقام فترتب الجزاء على العلّة المنحصرة وعلى العلّة غير المنحصرة على حد سواء ولا يحتاج أحدهما إلى مئونة زائدة ، فالقياس مع الفارق (١).

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٠٦.

وفيه : انه وان لم يكن بين نحوي الترتبين فرق إلّا انا لا نريد التمسك بالإطلاق من حيث ترتب الجزاء على الشرط ، وانما نتمسك بإطلاق الحكم ، فانّ المولى كان له ان يقيده بخصوص القيد الخاصّ كما كان له ان يقيده بأحد القيدين ، وحيث انّ الثاني محتاج إلى مئونة زائدة فإطلاق الحكم إثباتا يكشف عن انحصار القيد المذكور في القيدية ، فينتفي الحكم بانتفائه ، فالمقام من قبيل الواجب التعييني كما عرفت.

ثم انّ الميرزا قدس‌سره ذكر تنظيرا في المقام وحاصله : انّ التمسك بإطلاق الشرط يمكن ان يكون من جهتين ، إحداهما : من حيث دفع احتمال كون الشرط مركبا من امرين بنحو الجمع بالعطف بالواو ، وثانيهما : من حيث احتمال وجود البدل للحكم مثلا فيما لو قال «ان جاءك زيد فأكرمه» إذا احتملنا كون الشرط مركبا من مجيئه وإكرامه بان يكون المراد «ان جاءك زيد وأكرمك فأكرمه» يدفع ذلك بإطلاق الشرط بغير شبهة ، وكذلك لو احتملنا كون المراد «ان جاءك زيدا وأكرمك فأكرمه» بالعطف بأو ، وهذا أيضا يدفع بإطلاق الشرط (١).

ونقول : ما أفاده وان كان متينا من حيث النتيجة إلّا انه لا يرجع في ذلك إلى إطلاق الشرط ، وانما المرجع فيه إطلاق الحكم ، فانه كان للمولى ان يقيد حكمه بالقياس إلى كل شيء يمكن ان يكون قيدا له ، فإذا لم يفعل ففي المقدار المتيقن نلتزم بالتقييد وفي أزيد من ذلك نتمسك بإطلاق الحكم.

والحاصل : انّ ثبوت المفهوم للقضية الشرطية من الأمور الواضحة عند العرف ، ولا يشك فيه أحد ولذا لو استأذن ابن أباه في زيارة كربلاء فقال له : «إذا كان يوم الجمعة فزر الحسين عليه‌السلام» يستفاد منه عدم الرخصة في غيره من الأيام ، فما

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤١٨.

ذكرناه انما هو تقريبات للفهم العرفي. وقد استدللنا في الدورة السابقة باستشهاد المعصوم عليه‌السلام بمفهوم قول أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث سئل عن جواز أكل المذبوح إذا لم يتحرك بعد الذبح فنهى عليه‌السلام عن ذلك مستشهدا بقول علي عليه‌السلام «إذا تحرك الذبيحة فكله».

فتحصل : مما ذكر انّ ثبوت المفهوم للقضية الشرطية وعدمه منوط برجوع القيد إلى الحكم أعني الهيئة ، ورجوعه إلى المادة ، فعلى الثاني لا يثبت لها مفهوم ، لأنه حينئذ يكون من قبيل مفهوم الوصف أو اللقب ، وعلى الأول كما هو المختار المحقق في بحث الواجب المشروط يثبت لها المفهوم لكون الحكم حينئذ مطلقا مربوطا بالشرط ، فإذا انتفى ينتفي الجزاء لا محالة بالظهور العرفي ، لا من جهة الاستناد وكون الشرط علّة منحصرة للجزاء ، لما عرفت من انّ الانحصار لا يستفاد منها لا بالوضع ولا بقرينة عامة ، وانّ غاية ما يستفاد من الوضع انما هو الملازمة بين الشرط والجزاء ، وعلّيته له انما يستفاد من السياق وتفريعه عليه. واما الانحصار فلا ، ولذا لا ينافي قولك «زيد ان شرب السم فقد مات» كونه ميتا بسبب آخر.

فالعمدة في ثبوت المفهوم هو الظهور العرفي المستفاد من تقييد الحكم مطلقا بالشرط لا الاستناد.

تنبيهات

التنبيه الأول : استشكل في رجوع القيد إلى الحكم فيما إذا كان مستفادا من الهيئة التي هي معنى حرفي ، فمن ثمّ فصلوا في ثبوت المفهوم بين ما إذا كان الحكم في الجزاء مستفادا من الفعل الماضي أو المضارع كقوله عليه‌السلام «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» فبما انه وجوب مستفاد من معنى اسمي قابل للإطلاق والتقييد علق على الزوال يستفاد انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء الشرط. وامّا إذا كان الحكم في الجزاء مستفادا من صيغة الأمر مثلا فليس لها مفهوم ، لأنّ الحكم

حينئذ جزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فهو ينتفي بانتفاء موضوعه ، سواء علّق على الشرط أم لم يعلق ، ولذا في القضية الحملية أيضا ينتفي شخص الحكم عند انتفاء موضوعه لا محالة.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه.

منها : ما حكي عن الشيخ قدس‌سره من انّ انتفاء الحكم سنخا مستفاد من كون الشرط من قبيل العلّة المنحصرة.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ انحصار العلّة انما يوجب انتفاء ما أريد من الجزاء لا غيره ، والمفروض انه حكم شخصي وهو واضح.

ومنها : ما في الكفاية من انّ المنشأ وهو المعلق على الشرط كلي ، وانما يصير شخصيا بالإنشاء (١).

ومنها : ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ المعلق على الشرط انما هو مفاد مجموع الجزاء ، وهو وجوب ذلك الشيء وهو معنى اسمي (٢).

وقد مر الكلام في جميع ذلك مفصلا في مبحث الواجب المشروط فلا نعيد.

والّذي ينبغي ان يقال : مضافا إلى انّ الإشكال غير منحصر بما إذا كان الحكم مستفادا من صيغة افعل لجريانه فيما إذا كان مستفادا من الفعل الماضي أو المضارع ، لأنّ الحكم حينئذ لا يستفاد من المادة فقط ليكون معنى اسميا ، وانما هو مستفاد من مجموع الهيئة والمادة ، ومفاد المركب من المعنى الحرفي يكون معنى حرفيا لا محالة ، هو انّ المعاني الحرفية أيضا كليات ، وذلك لأنّ المعروف بينهم انّ الإنشاء هو إيجاد المعنى باللفظ ، فان أريد بذلك انّ اللفظ وجود للفظ ذاتا وللمعنى عرضا فهذا امر موجود في المفردات أيضا ، ولذا يعد من الوجودات الوجود اللفظي ، فليس

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٠.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٢٠.

مرادهم من تعريف الإنشاء ذلك ، وان أريد به الإنشاء الخارجي ففيه : انه لا يوجد في الخارج شيء عند إنشاء الأمر أو البيع ونحوه سوى اللفظ ، وان أريد به إيجاد اعتبار العقلاء أو الشارع فهو أيضا خارج عن اختيار المكلف ويستحيل إيجاده باللفظ ، فلا يبقى إلّا اعتبار المنشئ ، ومن الواضح انّ اعتباره متقدم على الإنشاء باللفظ فيعتبر ثم ينشئ ، فلا مناص من القول بأنّ اللفظ أو الفعل ليس إلّا مبرزا لاعتبار المتعاملين ، والمعتبر قد يكون كليا سواء كان مبرزه هيئة فعل أو الجملة الاسمية أو غير ذلك.

وعليه فلا فرق في رجوع القيد إلى الحكم واستفادة المفهوم منه بين كونه مستفادا من هيئة افعل أو غيرها ، فما تعلق على الشرط هو نفس اعتبار اللابدية ، فإذا انتفى الشرط تنتفي اللابدية أيضا ، وهذا المعنى ثابت في جميع الإنشاءات ، غايته دل الإجماع على بطلان التعليق في المعاملات في غير الوصية.

التنبيه الثاني : إذا ذكر في الشرط أمورا ورتب الجزاء عليها ، كما لو قال : «إذا جاء زيد وأكرمك مثلا فأكرمه» فلا محالة يكون الشرط هو المجموع من حيث المجموع ، وعليه فدائرة المفهوم تكون أوسع ، إذ بانتفاء كل منها ينتفي الجزاء لا محالة.

نعم إذا فرضنا انّ بعض تلك الأمور مما يعلق عليه الجزاء عقلا يتضيق دائرة المفهوم بالإضافة إليه لا محالة ، مثلا لو قال «ان رزقت ولدا وكان يوم الجمعة فاختنه» فبالنسبة إلى تحقق الولد لا يتحقق للقضية مفهوم ، ويتحقق ذلك بالنسبة إلى انتفاء يوم الجمعة ، وهذا واضح.

التنبيه الثالث : إذا علق عموم الجزاء على الشرط فلا محالة يكون هو المنتفي عند انتفاء الشرط. وامّا إذا علق الحكم العام على الشرط كما في قوله عليه‌السلام «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» (١) فكان الجزاء سالبة كلية حينئذ هو العموم ، فيكون

__________________

(١) الاستبصار ـ المجلد الأول ـ ص ٦.

مفهومه موجبة جزئية ، أو انّ المنفي هو الحكم العام فيكون المفهوم موجبة كلية؟ وجهان بل قولان.

ذهب جماعة إلى الأول بدعوى : انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية ، والمفهوم هو نقيض المنطوق. وذهب بعض منهم الميرزا قدس‌سره (١) إلى الثاني ، وذكر انّ ما ذهب إليه المنطقي من انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية أجنبي عن مداليل الألفاظ ، لأنّ المنطقي غرضه انما هو جعل قواعد كلية ممهدة في مقام البرهان ، فلما رأى انّ الموجبة الجزئية هي التي تناقض السالبة الكلية بحيث لا يتصادقان ولا يتكاذبان ويستحيل اجتماعهما وارتفاعها فذكروا انّ نقيض السالبة الكلية هو الموجبة الجزئية دون غيرها ، وهذا لا ربط له بظهورات الألفاظ ومداليلها المبتنية على الاستظهارات العرفية.

وعليه فحيث انّ العموم في القضية مستفاد من معنى حرفي وهو وقوع النكرة في سياق النفي وليس مستفادا من معنى اسمي مثل لفظة «كل» ونحوه فهو غير قابل للتعليق على الشرط ، فالمعلّق عليه لا بدّ وان يكون مفاد جملة الجزاء ، وهو الحكم العام المنحل إلى أحكام عديدة بعدد افراد موضوعه ، فإذا انتفى الشرط تنتفي تلك الأحكام بأجمعها ، فمفهوم قوله عليه‌السلام «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» انه إذا لم يبلغ الكر ينجسه كل شيء.

ثم ذكر قدس‌سره انّ كلية المفهوم وعدمها لا يترتب عليها ثمرة في المثال ، لأنه إذا ثبت تنجس الماء القليل بشيء ما من النجاسات يثبت انفعاله بجميعها بعدم القول بالفصل. نعم يترتب الثمرة على ذلك في غير المقام.

ثم أجاب عنه بأنه يمكن ان يقال : بظهور الثمرة في ملاقاة القليل مع المتنجس

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٢١.

لعدم تحقق الإجماع بالقياس إليه.

ودفع ذلك أيضا : بأنه لا يمكن ان يراد من الشيء في الحديث كل ما يطلق عليه هذا العنوان ، فانّ لازمه ان ينفعل القليل بكل شيء حتى بملاقاته مع الطاهر أو بالتكلم ونحوه ، وهذا بديهي الفساد ، بل المراد منه ما يكون فيه قابلية التنجيس وشأنيته ، فقوله : «لا ينجسه شيء» من قبيل عدم الملكة ، وقابلية الشيء للتنجيس وعدمها لا بدّ وان يستفاد من دليل آخر. وعليه فدليل تنجيس المتنجس ان كان له إطلاق يثبت به تنجيسه للماء القليل وإلّا فلا ، سواء كان المفهوم كليا أو جزئيا.

هذا ملخص ما أفاده ، ولنا فيه مواقع للنظر.

اما : أولا : فلأنّ ما أفاده من استحالة رجوع القيد إلى العموم لكونه مستفادا من معنى حرفي قد عرفت ما فيه.

وثانيا : نسلم انّ المعلّق انما هو الحكم العام لا عموم الحكم ، إلّا انّ المنشأ فيه ليس إلّا حكما واحدا متعلقا بالطبيعة السارية ، فانّ اللفظ الواحد ليس له إلّا مدلول واحد غايته لبّا ينحل إلى أحكام عديدة ، فالانحلال مدلول التزامي له لا انه ينشأ به أحكاما عديدة ، كما في الاخبار أيضا فإذا أخبر أحد كذبا مثلا قال : «كل فرد ينقسم إلى متساويين» لم يكذب كذبا غير متناه بالبداهة ، لانحلال خبره إلى اخبار غير متناهية لعدم تناهي الاعداد ، وذلك لأنّ المخبر به هو امر واحد غايته بالالتزام ينحل إلى إخبارات عديدة ، وهذا امر ظاهر.

وعليه فإذا كان الحكم في المنطوق حكما واحدا فهذا الحكم الواحد ينتفي بانتفاء الشرط وتحقق انتفائه بالموجبة الجزئية كما هو واضح ، وقد مثلنا لذلك بمثالين عرفيين : أحدهما : ما إذا قيل «إذا لبس زيد درعه فلا يخاف أحدا» فانه ليس مفهومه انه لو لم يلبسه يخاف من كل أحد ، وكذا لو قيل «انّ الأمير إذا غصب لا يحترم أحدا» فانه ليس مفهومه انه إذا لم يغضب يحترم كل أحد ، والسر في جميع ذلك ما

ذكرناه من انّ المنفي عند انتفاء الشرط ليس إلّا الحكم المذكور في المنطوق أعني الحكم العام على ما عرفت.

وثالثا : ما ذكره من عدم ظهور الثمرة في تنجيس المتنجس للماء القليل.

وفيه : انه لو كان في البين دليل خاص على انفعال الماء القليل بملاقاته مع المتنجس كما يستفاد ذلك من بعض الاخبار الواردة في الوضوءات البيانية وانه عليه‌السلام اغترف بيده من الإناء وقال هكذا ان كانت الكف طاهرة ، فلا ثمرة ، كما انه لا ثمرة أيضا لو قلنا بوجود الدليل الخاصّ على عدم انفعال الماء القليل من المتنجس ، كما ذهب إليه في الكفاية ومال إليه بعض مشايخنا العظام قدس‌سرهم. ولكن لو فرضنا عدم الدليل على شيء من الأمرين فلا محالة تظهر الثمرة حينئذ ، لأنّ مفهوم الخبر المزبور ان كان موجبة كلية فيستفاد منه تنجسه بالمتنجس ، وان كان موجبة جزئية فلا.

وتوهم : انّ المراد من الشيء في الحديث خصوص ما يكون فيه شأنية التنجيس ذاتا لا مطلقا وإلّا فما فيه شأنية التنجيس بالعرض فغير متناه ، فلا ثمرة بين القولين في تنجيس المتنجس وعدمه.

مدفوع : إذ لا وجه لتخصيص الشيء بالنجاسات العينية أصلا.

وبالجملة فثمرة كلية المفهوم وجزئيته تظهر في المتنجسات ، فانّ عدم القول بالفصل غير تام بالإضافة إلى المتنجسات. نعم في نفس المتنجسات عدم القول بالفصل ثابت ، إذ لم يفصل في تنجس الماء القليل بمتنجس دون متنجس ، وهذا واضح.

التنبيه الرابع : فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء. والمثال المعروف لذلك قولهم «إذا خفي الأذان فقصر ، وإذا خفي الجدران فقصر» ولم يرد هذا المضمون في الروايات ، وما ورد في الاخبار انما هو تواري المسافر عن البلد ، الّذي أرجعوه إلى تواري البلد عنه وعدم سماعه للأذان ، ولا كلام لنا في ذلك.

وعلى أي حال تارة : يكون بين الشرطين ملازمة خارجا لا يتحقق أحدهما بدون الآخر ، بل يكونان عنوانين لأمر واحد ، نظير عنوان بريدين وثمانية فراسخ ومسيرة يوم وبياض يوم المأخوذ شرطا في وجوب القصر ، فانّ المراد من مجموعها شيء واحد ، ولا بأس بأن نعبر عن ذلك بالتساوي.

ونقول : تارة : يكون الشرطان متساويين لكن في الصدق ، وهذا الفرض خارج عن محل الكلام ، لأنه من قبيل اتحاد الشرط.

وأخرى : يكون أحد الشرطين أخص مطلقا من الآخر بمعنى انّ أحدهما أقل ويتحقق قبل الآخر ، كما لو حدد المسافة المعتبرة في القصر في رواية بميل وفي أخرى بميلين ، وقال في أحدهما «إذا سرت ميلا فقصر» وفي الآخر «إذا سرت ميلين فقصر» وفي هذا الفرض يقع المعارضة بينهما لا محالة ، فانّ مقتضى التحديد بالأقل عدم اعتبار الزائد فيه ، فلا بدّ من علاج التعارض إلّا إذا كانا معرفين للآخر أو كان أحدهما معرفا للآخر نظير ما ذكر في تحديد الكر بالأشبار من انه معرف للوزن وقيل ذلك في خفاء الجدران والأذان مطلقا. فانّ الظاهر ان خفاء الجدران جعل معرفا لخفاء الأذان ، حيث انّ النّظر غالبا لا يصادف أوقات الأذان والميزان في خفاء الأذان انما هو بالبلد المتعارف والمؤذن المتعارف والمحل المتعارف والهواء المتعارف وغير ذلك مما يوجب اختلافا فيه ، فانّ عدم سماع الأذان يختلف باختلاف قوة سامعة المسافر وصوت المؤذن ومكان الأذان من حيث كونه في آخر البلد أو وسطه وهكذا ، وحيث انّ ذلك غير مضبوط ويعسر إحرازه للمسافر غالبا جعل خفاء الجدران الّذي هو امر ميسور معرفا لذلك ، فلا يضر اختلافه في المقدار مع خفاء الأذان.

وهذا الفرض أيضا مطلقا غير داخل فيما بينه ، فما مثل به في الكفاية لمحل البحث بهما غير خال عن المسامحة ، إذ لا تجري فيه الوجوه المذكورة لرفع التنافي كما

ستعرف.

وثالثة : يكون الشرطان من قبيل المتباينين بمعنى استحالة اجتماعهما خارجا ، نظير ما لو قال «ان تولد ولدك الخاصّ في شهر المحرم فتصدق» وورد أيضا «ان تولد ذاك الولد في شهر الصيام فتصدق» وفي هذا الفرض أيضا لا مجال لجريان بعض الوجوه المذكورة لرفع التنافي على ما سنبينه.

ورابعة : يكون بين الشرطين عموم من وجه بمعنى إمكان تحقق كل منهما خارجا بدون الآخر وإمكان اجتماعهما ، وفي هذا أيضا لو لم نقل بثبوت المفهوم للقضية الشرطية مطلقا فلا تنافي بين القضيتين ، لأنه نظير الأمر بإكرام زيد وإيجاب إكرام عمرو ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، واما إذا قلنا بثبوت المفهوم لهما فلا محالة يقع التنافي بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر.

وبالجملة فمحل الكلام الّذي يجري فيه جميع الوجوه الآتية متقوم بأمرين.

أحدهما : ان يكون بين الشرطين عموم من وجه.

وثانيهما : ان يلتزم بثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، وحينئذ فبما انّ مفهوم كل منهما يقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط المذكور فيه مطلقا لا محالة يقع التنافي بين إطلاقه ومنطوق الآخر المثبت للجزاء عند تحقق الشرط الآخر.

وقد ذهبوا في دفع ذلك إلى جهات.

أحدها : انه لا تدل كل من القضيتين حينئذ إلّا على الثبوت عند الثبوت ، ولا تدلان على الانتفاء عند الانتفاء ، فلا مفهوم لهما ، وقد نسب ذلك إلى الجواهر.

وفيه : انه لا وجه لرفع اليد عن المفهوم رأسا مع كون المعارضة بين إطلاقه ومنطوق الآخر ، فأنّه انما يرفع اليد عن المتعارضين أو عن أحدهما بمقدار التنافي لا أزيد.

ثانيها : انه يقيد إطلاق كل من المفهومين بعدم تحقق الشرط الآخر.

وفيه : انّ المفهوم انما هو دلالة التزامية ثابتة بحكم العقل مستفادة من انحصار العلّة ، المستفاد من إطلاق الحكم وتعليقه على الشرط من دون ذكر عدل له ، نظير دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدمته من باب الملازمة ، ومع بقاء المنطوق على إطلاقه يستحيل تقييد المفهوم لأنه تخصيص في حكم العقل ، وهو مستحيل كاستحالة تخصيص وجوب مقدمة الواجب بمورد دون مورد.

ثالثها : ان يقيد إطلاق كل من القضيتين بالآخر بالواو ، فيكون الشرط حينئذ مركبا منهما ، فإذا تحققا معا يتحقق الجزاء ، وإذا انتفى أحدهما ينتفي الجزاء.

ورابعها : ان يقيد إطلاق كل من الشرطين بالآخر بأو ، فيكون الشرط أحدهما على البدل ، فإذا انتفيا معا ينتفي الجزاء.

خامسها : ما ذكره في الكفاية واستدل عليه ببرهان عقلي ، وهو كون الشرط هو الجامع بينهما ، لأنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد ، فتأثير كل منهما في تحقق الجزاء يقتضي ان يكون المؤثر امرا واحدا وهو الجامع بينهما (١).

وفيه : على فرض تسليم البرهان وانّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ولا يصدر إلّا من الواحد انّ ذلك لا يجري فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية التي ذكرنا مرارا انّ بابه أجنبي عن باب التأثير والتأثر ، وانما هي معرفات.

هذا مضافا إلى انّ ذلك انما يتم فيما إذا قلنا : بأنّ كلا من الشرطين شرط على البدل ، وامّا إذا قلنا : بأنّ مجموعهما شرط فلا مجال حينئذ لهذا البرهان والقول بأنّ الشرط هو الجامع أصلا.

فهذه الوجوه كلها فاسدة سوى الوجهين المتوسطين ، أعني تقييد كل من الشرطين بالآخر بأو أو بالواو ، ولا بدّ من اختيار أحدهما.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

امّا فيما إذا كان الشرطان متباينين فالعطف بالواو غير جار ، لاستحالة اجتماعهما على الفرض ، فيدور الأمر فيه بين رفع اليد عن المفهوم رأسا ، أو يقيد كل منهما بكلمة أو ، فيكون الشرط أحد الأمرين على البدل ، أو الجامع بينهما على مسلك الآخوند ، وحيث انّ الأول لا وجه له فيتعين الثاني. كما انّ العطف بأو أيضا لا يستقيم في الفرض الثاني أعني ما إذا كان بين الشرطين عموم مطلق ، لأنّ لازمه التخيير بين الأقل والأكثر الباطل ، فينحصر مورد دوران الأمر بين التقييد بأو أو بالواو في الفرض الرابع.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في المقام كلام نتيجته نتيجة الالتزام بالعطف بالواو وحاصله : انّ لكل من القضيتين إطلاقان ، أحدهما الإطلاق الّذي يستفاد منه كون الشرط علّة منحصرة ، ولازمه ان لا يكون له بدل ، ثانيهما : الإطلاق من حيث ترتب الجزاء على نفس الشرط الّذي لازمه استقلال كل منهما في الشرطية ، وحيث نعلم إجمالا بتقيد أحد الإطلاقين وليس في البين أصل لفظي يعين أحدهما ، فلا يمكننا الرجوع إلى شيء منهما فنأخذ بالمقدار المتيقن ، فإذا تحقق الشرطان معا نحكم بترتب الجزاء لثبوته حينئذ على التقديرين ، وإلّا فلا وهذا نتيجة التقييد بالواو ، بل نرجع إلى الأصول العملية ، أو إلى عام فوق ان كان هناك عام ، ففي المثال المعروف إذا خفي الجدران والأذان فقصر وإلّا فنتمسك بعمومات التمام ، ومن ثم اعتبر في حاشية العروة في مسألة خفاء الأذان اعتبار كلا الأمرين في وجوب القصر خلافا للسيد الماتن حيث اكتفى بتحقق أحدهما في ذلك (١).

هذا ولكن الظاهر تعين التقييد بأو ، وذلك لما بيناه في محله من انه إذا وقع التعارض بين ظاهرين لا من حيث سنديهما بل من حيث ظهورهما فلا بدّ في مقام

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٢٤.

الجمع من رفع اليد عن أضعف الظهورين الّذي هو طرف المعارضة.

وامّا لو فرضنا انّ هناك ظهور ثالث لا يكون طرفا لها ولكن يرتفع التنافي برفع اليد عنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع فلا يجوز رفع اليد عنه لعدم كونه طرفا للمعارضة ، مثال ذلك ما إذا ورد في دليل «أكرم العلماء» وفي دليل آخر «لا يجب إكرام زيد العالم» فمقتضى عموم العام وجوب إكرام زيد ، ومقتضى الخاصّ عدمه ، فيقع التنافي بينهما ، فيتقدم أقوى الظهورين ، وهو الخاصّ فيخصص به العام ، ولكن هناك ظهور ثالث ليس طرف المعارضة إلّا انه يرتفع التعارض برفع اليد عنه ، وهو ظهور الأمر في العام في الوجوب ، فانه لو حملناه على الاستحباب ارتفع التعارض ، فهل ترى من نفسك تجويز رفع اليد عنه مع انّ المعارضة ليس بينه وبين الخاصّ ، ولذا لا ينافي الخاصّ وجوب إكرام غير زيد من افراد العلماء ، وانما المعارضة بينه وبين عموم العام كما عرفت ، فلا بد من رفع اليد عنه دون الوجوب وهذا واضح.

وفي المقام نقول : انّ طرفي المعارضة فيه هما منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر المستفاد من انحصار العلّة ، وليس ظهور القضية في استقلال كل من الشرطين في الشرطية طرفا للمعارضة أصلا وان كان برفع اليد عنه يرتفع التعارض ، ولذا لو فرضنا ترتب الحكم على كل من الشرطين لكن لا في القضية الشرطية كما لو ورد خبر على انه يجب القصر عند خفاء الأذان وخبر آخر على الأمر بالقصر عند خفاء الجدران لا تنافي بينهما أصلا ، فطرف المعارضة انما هو المفهوم المستفاد من انحصار العلّة ، وبما انّ ظهور القضية فيه أضعف من ظهور الأخرى في المنطوق فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور كل من القضيتين في انحصار العلّة بالقياس إلى منطوق الأخرى ، فيثبت العطف بأو كما هو واضح.

ثم انه بما ذكرنا ظهر فساد ما في الكفاية من انتفاء التنافي برفع اليد عن مفهوم

إحدى القضيتين (١) ، لأنك قد عرفت انّ التعارض ليس بين المفهومين وانما هو بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الأخرى ، فهناك تعارضان كما لا يخفى ، والظاهر انما ذكره من سهو القلم.

التنبيه الخامس : انه ربما تعنون هذه المسألة من جهة أخرى بأن يقال : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل تتداخل المسببات ويجتزأ بإتيان الجزاء مرة واحدة أو تتعدد؟

وليعلم انّ المراد من اتحاد الجزاء في هذا الأمر هو الاتحاد بحسب الصورة لا واقعا ، وبهذا يظهر الفرق بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة ، فانّ البحث هناك في انه إذا اتحد الجزاء واقعا مع فرض تعدد الشرط بحسب ظاهر القضية فهل يحكم فيه بالتقييد بالواو أو بأو أو بغير ذلك ، وفي المقام اتحاد الجزاء ظاهري وتعدده واقعا مفروغ عنه على عكس ما فرض هناك ، فيبحث في انه إذا تحقق الشرطان خارجا هل يثبت هناك حكمان يجب امتثال كل منهما مستقلا أو يتداخلان؟ مثال ذلك ما إذا ورد في الخبر : «ان ارتمست في نهار شهر رمضان فكفر» وفي خبر آخر «ان جامعت فيه فكفر» ففعلهما المكلف ، فهل يكتفي بكفارة واحدة أو تجب عليه كفارتان؟

إذا عرفت ذلك نقول : تارة يكون الشرطان من جنس واحد ، كما لو أكل في نهار رمضان مكررا ، وأخرى : يكونان من جنسين كالمثال المتقدم. وتارة : يقع البحث في ذلك عما يقتضيه الأصل العملي ، وأخرى : عما يقتضيه الدليل.

وبالجملة البحث في المسألة السابقة انما كان في فرض اتحاد الجزاء واقعا بأن كان الجزاء حكما واحدا كلتا القضيتين ، ومن ثم كان تقع المعارضة بين مفهوم كل

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣١٣.

منهما ومنطوق الآخر ، وكانت تلك المسألة منعقدة لعلاجها ، ولذا كان موردها منحصرا بموارد ثبوت المفهوم وإلّا فلو فرض سقوط المفهومين في مورد لم تكن هناك منافاة بين القضيتين أصلا ، فالبحث فيه مختص بالقضايا الشرطية.

وامّا في هذه المسألة فبعد الفراغ عن تعدد الجزاء وانّ كلا من الشرطين إذا تحقق وحده يترتب عليه الحكم بلا شبهة يبحث عن تداخل الأسباب وتداخل المسببات ، ولذا لا يختص هذا البحث بالقضايا الشرطية بل يجري في القضايا الحملية أيضا فهو أجنبي عن مبحث المفاهيم ويذكر فيه استطرادا ، مثلا ثبت انّ الأغسال أنواع مختلفة ولو بالاعتبار وكانت كل منها على عنوان خاص فغسل الجنابة على المقاربة ونحوها ، وغسل الحيض على الحائض ، ومس الميت على من مس ميتا ، وهكذا. فيقع البحث في انه إذا تحقق عنوانان منهما هل تتداخل الأسباب بمعنى انه لا يثبت إلّا تكليف واحد بالغسل أو لا؟ وعلى فرض عدم التداخل وكون السبب الثاني مؤثرا في ثبوت فرد آخر من الغسل يبحث عن تداخل المسببات ، وانه هل يسقطان بامتثال واحد أم لا؟

ويقع الكلام تارة : فيما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب أو الشك في تداخل المسببات في الأحكام التكليفية أو الوضعيّة ، وأخرى : فيما يستظهر من الأدلة فنقول :

اما المقام الأول : فلو شككنا في تداخل الأسباب في الأحكام التكليفية لإجمال النص وتعارضه مثلا ولم يعلم انّ السبب الثاني ان تحقق أوجب ثبوت حكم تكليفي ثاني متعلق بفرد آخر من الطبيعي أم لا ، فمن حيث التداخل ليس لنا أصل عملي يعين أحد الاحتمالين ، إلّا انّ الأصل هو البراءة عن تحقق التكليف الثاني ، ونتيجته نتيجة تداخل الأسباب ، وهذا ظاهر.

واما لو شك في تداخل المسببات بأن علمنا من الخارج بتحقق حكمين ولكن

احتملنا سقوطهما بامتثال واحد ، ومقتضى الأصل حينئذ هو الاشتغال بعكس ما قلنا عند الشك في تداخل الأسباب ، وذلك لأنّ الشك في ذلك شك في مرحلة الامتثال بعد العلم بتكليفين كما هو واضح ، هذا في الأحكام التكليفية.

وامّا الأحكام الوضعيّة ، فإذا شككنا فيها من حيث تداخل الأسباب فالاستصحاب يقتضى بعدم تحقق الحكم الوضعي الثاني بتحقق سببه ، وإذا شك فيها من حيث تداخل المسببات ينعكس الأمر ، فانّ مقتضى الاستصحاب عدم سقوط الحكم الوضعي الثاني بسقوط الحكم الأول ، فلا فرق من هذه الجهة بين الأحكام التكليفية والوضعيّة ، فانّ مقتضى الأصل في كل منهما موافق للقول بتداخل الأسباب وعدم تداخل المسببات ، غاية الأمر انّ ذلك في الأحكام التكليفية يثبت بالبراءة والاشتغال ، وفي الأحكام الوضعيّة بالاستصحاب وجودا وعدما.

هذا كله في ما يقتضيه الأصل العملي.

وامّا المقام الثاني ، أي ما يقتضيه الأدلة الاجتهادية ، فتفصيل الكلام فيه يقع في أمرين :

أحدهما : في تحرير محل النزاع. فنقول : لا إشكال في انّ بحث تداخل الأسباب والمسببات غير مختص بموارد القضايا الشرطية بل يجري في القضايا الحملية أيضا ، كما ورد في دليل من ارتمس في نهار رمضان تجب عليه الكفارة وفي دليل آخر من أتى أهله في نهار رمضان تجب عليه الكفارة فأتى بهما مكلف في يوم واحد فهذا أيضا داخل في محل النزاع.

ثمّ انّ الحكم المترتب على كل من الشرطين ، تارة : يكون قابلا للتعدد حقيقة كوجوب الكفارة في المثال ، فانه لا مانع من وجوب كفارة ثانية على المكلف.

وأخرى : لا يكون قابلا للتعدد إلّا انه يكون قابلا للتقيد بجهة دون أخرى وحيث دون حيث ، ونعبر عنه بالتعدد الحكمي ، كما في الحكم بالخيار فانه عبارة عن

ملك فسخ العقد ولا معنى لثبوت ملكيتين في مورد واحد ، إلّا انّ الخيار قابل التقييد وان يكون ثبوته من حيث الغبن مثلا تارة ومقيدا بحيثية العيب أخرى ، فإذا فرضنا سقوطه من إحدى الجهتين يبقى من الحيثية الأخرى كما إذا كان له من إحدى الجهتين أثر زائد يترتب أيضا ، مثلا أثر خيار الغبن هو تخير من له الخيار بين فسخ العقد وإمضائه مجانا وأثر خيار العيب هو جواز أخذ الأرش ، فعند ثبوتهما يتخير المكلف بين الفسخ والإمضاء مجانا وأخذ الأرش ، ولا إشكال في دخول هذين القسمين في محل النزاع لإمكان التداخل وعدمه فيهما.

وثالثة : لا يكون الحكم قابلا للتعدد أصلا لا حقيقة ولا حكما إلّا انه قابل للتأكد ، كما لو فرضنا انه أوجد سببين لوجوب القتل فانّ ذلك ان كان من قبيل حق الناس والقصاص كما لو فرضنا انه قتل أب زيد وابن عمرو يكون وجوب القتل قابلا للتقيد ، ولذا يجوز لأحد الوليين ان يأخذ منه الدية وللآخر ان يقتله قصاصا ، ويجوز لأحدهما ان يعفو عنه والآخر يأخذ منه الدية أو يقتص وهكذا فهذا من قبيل الثاني وداخل في محل النزاع.

واما ان كان وجوب القتل من قبيل حق الله تعالى كما لو فرضنا انه ارتد وسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعوذ بالله فانّ كلا منهما سبب لوجوب القتل ولا معنى لتعدد الحكم به ، إلّا انه حينئذ يتأكد كما هو واضح ، وهذا الفرض خارج عن محل النزاع ، إذ لا معنى فيه للتداخل وعدمه.

وبهذا يظهر الحال في الصورة الرابعة وهي ما إذا لم يكن الحكم قابلا للتأكد أيضا كما في الأحكام الترخيصية ، مثلا لو فرضنا انه تحقق سببان للحكم بإباحة شرب المتنجس كالاضطرار والإكراه فانّ الإباحة لا تكون آكد منها فيما إذا لم يثبت إلّا الاضطرار فقط ، وهذا أيضا خارج عن البحث بطريق أولى ، وهكذا في الأحكام الوضعيّة مثلا إذا لاقى مع البول مرتين أو مع الدم مرة ومع جسد الكافر

ثانيا لا تكون النجاسة فيه آكد مما لم يلاق إلّا أحدهما.

هذا هو الأمر الأول.

ثانيهما : انّ المعروف من زمن فخر الدين قدس‌سره انّ القول بالتداخل وعدمه مبني على كون الأسباب الشرعية أسبابا حقيقة أو معرفات ، وانّ الأول مستلزم لعدم التداخل ، والثاني لثبوته.

إلّا انّ التحقيق : انّ هذا النزاع لغو محض مضافا إلى انّ المقام أجنبي عنه ، وذلك لأنّ القائل بكون الأسباب الشرعية أسبابا حقيقية لو أراد بذلك انّ السبب الّذي يرجع إلى الموضوع ويكون دخيلا فيه علّة لتحقق الحكم امّا علة فاعلية وامّا غائية ففساده واضح ، وذلك لما ذكرنا غير مرة من انّ الحكم الشرعي من افعال المولى الصادرة بإرادته واختياره ، فليس للموضوع وما يرجع إليه أدنى تأثير واقتضاء لثبوته ، فعلّته الفاعلية هو المولى ، وامّا علّته الغائية فبناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد فهي تلك الأمور لا الموضوع ، وامّا على مسلك غيرهم فليس هناك علّة غائية أصلا. وامّا عدم كونه علّة صورية أو مادية للحكم فواضح ، والعلّية لا تخلو من الأقسام الأربعة.

وامّا القائل بالمعرفية فان أراد بذلك انّ السبب ملازم لما هو الموضوع واقعا فتحققه معرف لثبوت ما هو الموضوع في الواقع مثلا زوال الشمس بنفسه ليس موضوعا لوجوب الصلاة وانما موضوعه امر لازم له كاقتران كوكبين في السماء مثلا فهذا خلاف ظاهر الدليل الّذي أخذ ذاك السبب فيه موضوعا للحكم.

وان أراد انه معرف لثبوت الملاك وتحققه أو لثبوت الحكم فلا تضايق في ذلك ، إلّا انه لا يستفاد من أخذه في الموضوع سوى ترتب الحكم على نفسه وموضوعيته له والمعرفية بهذا المعنى غير ملازم للتداخل ولا لعدمه.

فالمهم في المقام الّذي يدور التداخل مداره وجودا أو عدما هو دفع التنافي

الواقع بين ظهورين ثابتين لكل من القضيتين ، فانّ ظاهر كل منهما هو حدوث الحكم والجزاء عند تحقق موضوعه وهو الشرط ، لا حدوثه بعد ذلك أو قبله ، وهذا الظهور يستدعي تعدد الحكم وعدم التداخل ، هذا هو الظهور الأول ، وبما انه لا معنى لتعلق وجوبين مستقلين بطبيعة واحدة بنحو صرف الوجود إلّا إذا قيدت في الثاني بمرة ثانية مثلا فظاهر إطلاق القضيتين مع تعلقهما بالطبيعي بنحو صرف الوجود وعدم تقيدهما بشيء يقتضي التداخل ووحدة الحكم ولا بد من رفع اليد عن أحد الظاهرين أي عن أضعفهما ، فعمدة بحث التداخل يدور مدار ترجيح أحد الظهورين على الآخر.

وبالجملة قد عرفت انّ مقتضى الأصل العملي هو التداخل والبراءة عن التكليف الثاني. كما عرفت انّ هذه المسألة غير مختصة بالقضايا الشرطية ، وغير مبتنية على القول بمفهوم الشرط.

نعم المسألة المتقدمة مبتنية عليه على ما تقدم تفصيله.

ثم الأقوال في المقام ثلاثة ، قول بالتداخل مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا ، وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الشرطان أعني الموضوعين متحدين مختلفين شخصا ووجودا وبين ما إذا كانا مختلفين نوعا.

وليعلم انّ مورد الكلام انما هو ما إذا كان الشرط أو الموضوع بعنوانه قابلا للتعدد ولم يكن معرفا لما لا يفعل التعدد فانّ عنوان الإفطار الّذي هو بمعنى الكسر أو ناقض الوضوء أو مبطل الصلاة مثلا الّذي هو غير قابل للتعدد خارج عن محل البحث ، فنفرض الشرط عنوان الأكل في نهار رمضان أو عنوان الارتماس في الماء وأمثال ذلك.

فنقول : الظاهر انّ التفصيل لا وجه له ، بل ظاهر القضيتين هو تعدد الحكم وعدم التداخل مطلقا. امّا في فرض اختلاف الشرطين نوعا فلأنّ الشروط

الشرعية وان لم تكن أسبابا حقيقة إلّا انّ الظاهر كونها بأنفسها موضوعات لأحكام لا أنها معرفات محضة ، ومن الواضح انّ كل موضوع يترتب عليه حكمه لا محالة سواء قاربه الموضوع الآخر أو سبقه أو لحقه أو لم يكن شيء من ذلك. واما في فرض اتحادهما نوعا فبما انّ الأحكام الشرعية مطلقا من قبيل القضايا الحقيقية فيترتب على كل وجود حكم مطلق ، سواء تحقق الوجود الآخر أم لم يتحقق ، فظهور القضيتين في التعدد غير قابل للإنكار.

وانما الكلام في انه هل هناك ظهور آخر أقوى منه معارض له ليرجع إلى الأصل المقتضي للتداخل على ما عرفت بعد تساقط الظهورين أم لا؟

فنقول : ما يتوهم معارضته لهذا الظهور هو انّ متعلق التكليف في كل من القضيتين انما هو الطبيعي بنحو صرف الوجود على ما هو مقتضى إطلاقهما وعدم تقيدهما بعنوان مرة أخرى ونحوه ، ومن الواضح انّ تعلق حكمين بالطبيعي كذلك مستلزم لاجتماع المثلين ، وهو محال كاجتماع الضدين ، فلا بدّ من الالتزام بالتداخل وعدم التعدد ، فتقع المعارضة بين هذين الظهورين ، فيرجع إلى الأصل الّذي نتيجته نتيجة التداخل.

وفيه : انا ذكرنا في موارد عديدة انّ عنوان صرف الوجود أو أول الوجود ونحوه خارج عن مدلول الأمر بالطبيعي ، فانّ المادة لا تدل إلّا على نفس الطبيعي غير المقيد بالوحدة الّذي لا يتثنى ، فانّ الاثنينية انما تتحقق من ناحية العوارض الخارجية ، والهيئة على المعروف دالة على مطلوبية الطبيعي ، وعلى المختار فهي مبرزة لاعتبار اللابدّية على ذمة المكلف.

فما هو المعروف من انّ المطلوب هو صرف الوجود انما هو من جهة انّ الطبيعي يتحقق في الخارج بأول وجوده فيسقط الأمر حينئذ لا محالة وتفرغ الذّمّة عما اشتغلت به. على هذا فإذا تعدد الأمر يكون هناك اعتباران فتكون ذمة المكلف

مشغولة بهما كما في موارد الدين إذا استدان أحد من غيره مرتين ، فانه تشتغل به ذمته مرتين من دون ان يكون لكل منهما تعين حتى في علم الله تعالى ، ومقتضى ذلك هو لزوم تفريغ الذّمّة عنهما بالإتيان بالطبيعي مرتين كما في الدينين ، فإذا أتى بالطبيعي أولا يسقط أحد التكليفين ، وإذا أتى به ثانيا يسقطان معا من دون ان يكون لكل منهما تعين بعنوان المرة الأولى أو الثانية أو نحو ذلك كما في الدينين.

وعلى هذا فلا مانع من اجتماع حكمين وجوبيين في طبيعة واحدة وتعلق اعتبارين بها ليكون ظهور القضيتين في ذلك معارضا لظهورهما في التعدد.

ثم ذكر الميرزا قدس‌سره بعد التنزل عن ذلك وفرض كون متعلق التكليف هو صرف الوجود انّ التنافي بين الظهورين انما ينشأ من إطلاق متعلق الحكمين المتوقف على عدم بيان القيد ، فلو فرضنا ظهور القضيتين في التعدد فلا محالة يكون ذلك قرينة على التقييد ، فيرتفع الإطلاق لا محالة ، فلا يثبت التداخل.

هذا كله في التداخل من حيث الأسباب.

وامّا التداخل من حيث المسببات فيما إذا تعدد الحكم ، فهل يمكن امتثالهما بالإتيان بفرد واحد ، أو يمكن سقوطهما بذلك بغير الامتثال أم لا؟

وقد عرفت انّ مقتضى الأصل العملي في ذلك : هو انه تارة : يكون متعلق كل من الحكمين عين متعلق الآخر ، وأخرى : يكون غيره ، وعلى الثاني امّا يتصادقان في فرد واحد ، وامّا لا يتصادقان. وعلى الأول امّا يكون الصدق من جانب واحد ، وامّا يكون من جانبين.

وبعبارة أخرى : تارة : يكون المتعلقان متساويين ، وأخرى : متباينين ، وثالثة : يكون بينهما العموم المطلق ، ورابعة : العموم من وجه ، فهذه شقوق أربعة.

اما الصورة الأولى ، فلا مجال فيها لتداخل الامتثالين أصلا ، نعم يمكن ان يسقط فيها أحد التكليفين بامتثال الآخر إلّا انه يحتاج إلى دليل.

وامّا الصورة الثانية فتعدد الحكم فيها لغو محض ، إذ لا يترتب على الحكم الثاني أثر بعد اتحاد متعلقيهما أصلا ، وعلى فرض عدم اللغوية وتعدد الجعل فسقوط كل منهما بامتثال الآخر محتاج إلى دليل فتأمل.

وامّا الصورة الثالثة كما لو قال المولى «أكرم عالما» بنحو العموم البدلي لا الشمولي وقال أيضا «أكرم عالما هاشميا» فبما انّ الأمر فيهما لا يتعلق بالافراد وانما يتعلق بالطبيعي وهناك طبيعتان أحدهما أوسع من الآخر لا يلزم اللغوية من تعدد الحكم ، ومقتضى إطلاق الدليل العام كون المكلف مرخصا في تطبيق الطبيعي الوسيع على مورد الاجتماع أي على الطبيعي الضيق كما له ان يطبقه على غيره ويمتثل كلا منهما بامتثال مستقل ، فإذا فعل ذلك وأكرم العالم الهاشمي يتحقق كلتا الطبيعتين ويمتثل به كلا الأمرين ، إذ لم يكن المأمور به في شيء منهما مقيدا بالوحدة والتعدد.

وامّا الصورة الرابعة فالتداخل فيها أوضح ، مثلا لو ورد امر بإكرام عالم ، وامر ثان بإكرام عادل ، فإطلاق كل منهما يعم مورد الاجتماع قطعا ، فالمكلف مرخص في تطبيقهما على المجمع ، فإذا أكرم العالم العادل فقد تحققت الطبيعتان في الخارج وسقط الأمران ، كما له ان يمتثل كلا منهما بامتثال يخصه ، هذا كله في موارد الانطباق الواقعي التكويني واضح كما في الأمثلة المتقدمة التي لم تكن من العبادات.

واما فيما يكون الانطباق فيه قصديا لا يتحقق إلّا به كنافلة المغرب وصلاة الغفيلة مما يكون بين العنوانين عموم من وجه فللمكلف ان يقصد العنوانين بصلاة واحدة. وذكر في العروة إمكان الإتيان بصلاة جعفر في ضمن الفريضة فتأمل. وهكذا في الأغسال ، فمن كان عليه غسل الجنابة وغسل مس الميت مثلا يمكنه ان يقصدهما بغسل واحد مع انهما طبيعتان متباينتان ، كما له الإتيان بكل منهما مستقلا.

وامّا الوضوء فبما انه طبيعة واحدة واختلافه من ناحية الأسباب يكون من قبيل اختلاف الافراد لا الطبيعة ، فلو فرضنا انه تحقق له سببان وقصد المكلف

بإتيانه رفع الحدث الناشئ من أحدهما بالخصوص كالناشئ من البول دون النوم ، ففيه : قولان : قول بصحة ذلك وارتفاع الحدث به من جهة انّ الوضوء طبيعة واحدة وقصد ارتفاع الحدث الناشئ من السبب الخاصّ لغو. وقول : ببطلانه ، لأنّ مثل هذا القصد يرجع إلى قصد المتناقضين ، فانّ قصد ارتفاع الحدث الناشئ من البول وبقاء الحدث الناشئ من النوم مع انه ليس في البين إلّا حدث واحد مرجعه إلى قصد ارتفاع الحدث وبقائه. وقد ذهب الميرزا قدس‌سره (١) إلى الثاني.

ولكن الصحيح : هو الأول ، وذلك لأنّ مثل هذا القصد وان كان من قبيل قصد المتناقضين إلّا انّ قصد ارتفاع الحدث غير معتبر في صحة الوضوء أصلا ، وانما المعتبر فيها امران : الإتيان بالافعال الخاصة وإضافتها إلى المولى ، فمثل هذا الوضوء صحيح رافع للحدث مطلقا.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٣١.

مفهوم الوصف

هل يستفاد من تضييق موضوع الحكم بالوصف انتفاء سنخه عند انتفاء ذاك الضيق أم لا؟ ينبغي ذكر أمور :

الأول : انّ محل البحث انما هو الوصف المعتمد على الموصوف ، وامّا غير المعتمد فهو خارج عن محل النزاع كالجوامد ، فانه ليس فيه تضييق ، ليتخيل دلالته على انتفاء الحكم عند انتفائه ، وما هو المعروف من انّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّية وان كان صحيحا بل غير مختص بالوصف الاشتقاقي ويجري في الجوامد أيضا ، فإذا قال «الكذب حرام» مثلا يستشعر منه انّ عنوان الكذب علّة للحرمة لا انه معرف لما هو الموضوع لها ، إلّا انه ليس ظهورا عرفيا ، وعلى فرض تسليم الظهور العرفي كما لا يبعد هو أجنبي عن ثبوت المفهوم وعدمه ، فانّ ثبوت الحرمة للكذب وعليّته له لا ينافي ثبوتها لغير هذا العنوان بعلّة أخرى. وثبوت وجوب إكرام العالم لكونه عالما لا ينافي ثبوت وجوب غيره كالعادل بدليل آخر لعلّة أخرى ، فلا دلالة لعلّية العنوان سواء كان اشتقاقيا أو جامدا على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه.

ثم انه ظهر بما ذكرنا انّ محل البحث ليس مطلق الوصف المعتمد على الموصوف ، بل خصوص ما إذا كان موجبا لتضييق الموصوف ، فإذا فرضنا كون الوصف مساويا مع الموصوف أو أعم منه مطلقا كما لو قال : «أكرم هاشميا إنسانا» مثلا لا مجال لتوهم دلالته على المفهوم أصلا ، إذ ليس في ذلك الكلام تضييق ليستفاد منه المفهوم ، فينحصر مورد البحث بالوصف المعتمد على الموصوف فيما إذا أوجب تضييقه ، امّا مطلقا كما لو كان أخص منه مطلقا ، أو من جهة كما لو كان أخص من

وجه ، والأول مثل ما إذا قال : «أكرم إنسانا هاشميا» والثاني : مثل ان يقال : «أكرم رجلا هاشميا» أي منتسبا إلى هاشم فيمكن ان يقال فيه بانتفاء الحكم عن الموضوع الفاقد لذاك القيد ، وهذا معنى المفهوم.

وامّا انتفاء الحكم عن موضوع آخر غير الموضوع المذكور في الكلام إذا كان فاقدا للوصف فلا ربط له بمفهوم الوصف أصلا ، إذ لم يكن ذكر الوصف بالقياس إليه موجبا للتضييق ليستفاد انتفاء الحكم عنه عند انتفائه ، وقد توهم ذلك في قوله عليه‌السلام «في الغنم السائمة زكاة» فاستدل بعض بمفهومه على انتفاء الزكاة عن معلوفة الإبل ، وهو كما ترى.

هذا كله في تنقيح محل النزاع.

الثاني : أنهم ذكروا انّ الأصل في القيد ان يكون احترازيا. والمراد بكون القيد احترازيا دخله في متعلق الحكم أو موضوعه بحيث لو أتى المكلف بالفاقد لما امتثل ، وفي مقابله عدم كونه احترازيا ، والمراد منه كون الحكم ثابتا للمطلق أو متعلقا به والقيد انما جيء به لغرض آخر ، مثلا لو قال المولى «جئني بماء بارد» فكون القيد احترازيا معناه دخله في المتعلق ، وانه هو الحصة المقيدة بحيث لو أتى المكلف بالماء الحار لما أتى بالمأمور به. وعدم كونه احترازيا معناه انّ المأمور به هو الإتيان بمطلق الماء غاية الأمر أتى الأمر في كلامه بالقيد لأنّ المكلف غير متمكن من الإتيان بغير المقيد أو لغرض آخر. ومن الواضح انّ هذا أجنبي عن ثبوت المفهوم وعدمه إلّا انّ ظهور القيد في الاحترازية غير قابل للإنكار ، ولا يختص ذلك بما يكون من العناوين الاشتقاقية ، بل يجري في غيرها أيضا ، فلا يرفع اليد عن هذا الظهور إلّا لقرينة كما ادعيت في قوله تعالى «وربائبكم اللاتي في حجوركم» (١).

__________________

(١) النساء ـ ٢٣.

ثم لا فرق في ما ذكرناه من ظهور القيد في الاحترازية بين ما إذا كان في كلام واحد متصل كالمثال المتقدم ، أو في كلامين منفصلين في حكم الكلام الواحد المتصل كما لو قال «أعتق رقبة» وقال : «أعتق رقبة مؤمنة» وعلمنا من الخارج اتحاد الحكمين ، فلا بدّ حينئذ من حمل المطلق على المقيد سواء قلنا بمفهوم الوصف أم لم نقل.

الثالث : انّ المراد من الوصف ليس الوصف الاصطلاحي ، بل المراد منه مطلق القيد ولو مثل الجار والمجرور ونحوه مما يوجب تضييق الموضوع أو المتعلق ، فمثل قولك «صل في المسجد» داخل في محل البحث ، فانّ القيد فيه يضيق المتعلق ، ولذا لا يتحقق امتثاله بإتيان الصلاة في غير المسجد ، فكان الأنسب ان يعبر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد.

وكيف ما كان الظاهر انّ الوصف لا مفهوم له. وتفصيل ذلك : انّ القيد الوارد في الكلام ثبوتا يمكن ان يرجع إلى الهيئة أي الحكم ويعبر عنه بالمنشإ ، فيكون مقيدا من غير فرق بين إنشاء الطلب وغيره من العقود والإيقاعات فينشأ البيع معلقا على مجيء عمرو غاية الأمر ورد الدليل على مبطلية التعليق في غير الوصية والتدبير من العقود والإيقاعات ، كما يمكن ان يرجع إلى الموضوع أو المتعلق بان يقيد في المرتبة السابقة عن ثبوت الحكم ثم يتعلق به الحكم مقيدا فمهما كان القيد في الكلام من قبيل الأول فيثبت له المفهوم ويدل على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد وإلّا لم يكن وجه ليضيقه ويقيده به ، وهذا بخلاف ما إذا كان القيد راجعا إلى الموضوع أو المتعلق فانّ ثبوت الحكم لموضوع خاص لا يستلزم انتفائه عن موضوع آخر ولو كان تعليق الحكم على القيد في بعض الموارد مشعرا بعلّيته للحكم.

نعم إذا كان علّة منحصرة له لدل على انتفائه عند انتفائها ، إلّا انه لا دلالة للكلام على الانحصار كما هو واضح ، فان ثبت بقرينة خارجية يثبت المفهوم أيضا. هذا كله في مقام الثبوت.

وامّا بحسب مقام الإثبات فإنّ ظاهر القضية المشتملة على الوصف رجوعه إلى الموضوع لا الحكم ، بل الظاهر انّ استعمالها في مورد إرادة إرجاع القيد إلى الهيئة غلط محض كأن يقول أحد «أكرم رجلا عالما» وأراد به تعليق وجوب إكرام الرّجل على كونه عالما ، وانه يثبت وجوب إكرامه إذا كان عالما. وعليه فدلالة الوصف على المفهوم تنحصر بما إذا قامت قرينة من الخارج على كونه علّة منحصرة.

وقد ذكر الميرزا (١) قدس‌سره انّ الوصف يدل على المفهوم في موردين ، أحدهما : إذا كان قيدا للحكم ، والثاني : فيما إذا استفيد انحصاره في العلّية من الخارج.

وقد عرفت انّ الموارد الأول غير تام لاستحالة رجوع الوصف إلى المنشأ ، وامّا الثاني فهو تام إذا قامت قرينة على الانحصار.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٣٥.

مفهوم الغاية

الكلام في مفهوم الغاية : يقع في مقامين :

أحدهما : من حيث منطوق الكلام المشتمل على الغاية سعة وضيقا أعني دخول الغاية في المغيا وعدمه.

ثانيهما : من حيث المفهوم ودلالته على انتفاء الحكم عند تحقق الغاية وعدمها. ونؤخر التكلم في المقام الأول لنكتة ستظهر إن شاء الله فنقول :

امّا المقام الثاني : فثبوت المفهوم للكلام وعدمه يدور مدار رجوع القيد إلى الحكم ورجوعه إلى المتعلق أو الموضوع بحسب مقام الثبوت ، فعلى الأول ينتفي الحكم عند انتفاء القيد وإلّا لم يكن وجه لتقييده به على ما عرفت في مفهوم الشرط ، وقد استظهرناه هناك في مقام الإثبات أيضا خلافا للشيخ قدس‌سره حيث أنكر رجوع الشرط إلى الحكم لزعمه استحالته للوجهين المذكورين في كلامه. وامّا رجوع القيد إلى الحكم في القضية الشرطية بحسب القواعد العربية والظهور اللفظي فلم ينكره أحد حتى الشيخ قدس‌سره.

وبالجملة بحسب مقام الثبوت يمكن ان ترجع الغاية كغيرها من القيود إلى الحكم ، كما يمكن رجوعها إلى المتعلق أو الموضوع. وامّا بحسب مقام الإثبات فالغاية واسطة بين الشرط والوصف ، فانّ القضية الشرطية ظاهرة في تعليق مفاد جملة بجملة ، ومن ثم اخترنا دلالتها على المفهوم ، وامّا الوصف غير الغاية فالظاهر رجوعه إلى المتعلق أو الموضوع دون الحكم ، ولذا أنكرنا دلالته على المفهوم ، وامّا الغاية فكما ليس لرجوعها إلى الحكم أو الموضوع ضابط كلي ثبوتا ، ليس لها ضابط

إثباتا أيضا ، وعليه فان كان الكلام المشتمل عليها ظاهرا في رجوعها إلى الموضوع أو المتعلق كما في قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) فانّ ظاهره تحديد اليد التي تطلق على تمام اليد إلى المنكب وعلى المرفق فما دون وعلى الزند فما دونه بالمرفق لا تحديد الحكم ، فلا يثبت له مفهوم.

وإلّا فان كان الحكم مستفادا من الهيئة ومدلولا لمعنى حرفي لا يثبت له مفهوم أيضا ، وذلك لأنّ كل قيد مأخوذ في الكلام سواء كان وصفا اصطلاحيا أو ظرفا أو غاية أو غير ذلك التي يعبر عنها بالملابسات يرجع إلى المتعلق ، أعني العقل بحسب ظاهر اللفظ ، مثلا لو قال «صل في المسجد» فظاهره تقيد الصلاة بذلك لا الوجوب ، وكذا لو قال «صم إلى الليل» فيحدد الطبيعي أولا ثم يعلق به الحكم ، فلا يثبت حينئذ للكلام مفهوم ، بداهة انه لو اعترف أحد بأنّ الأرض الفلانية إلى المحل الكذائي ملك لزيد لا يستفاد منه انّ ما بعده ليس ملكا له ، وكذا لو قال المولى «الجلوس إلى الزوال واجب» لا يستفاد منه عدم وجوبه بعده.

واما ان كان الحكم مستفادا من معنى اسمي ، فان لم يكن متعلق الحكم مذكورا في الكلام كما لو قال «الخمر حرام إلى ان يضطر إليه» فبما انّ الخمر غير قابل لأن يقيد بتلك الغاية يدور الأمر بين ان تكون الغاية قيدا للمتعلق المقدر أعني الشرب ، وبين رجوعها إلى الحكم ، وحيث انّ الأول خلاف الأصل لأنه مبنى على الإضمار والتقدير يتعين الثاني ، فتكون راجعة إلى الحكم فيثبت المفهوم.

وان كان المتعلق مذكورا فلا بدّ من ملاحظة القرائن الخاصة الثابتة في الكلام ، فان دلت على رجوع الغاية إلى الحكم يثبت للكلام مفهوم ، كما انه إذا دلت على رجوعها إلى المتعلق أو إلى الموضوع لا يثبت له المفهوم ، وان لم يكن في البين قرينة

__________________

(١) المائدة ـ ٦.

معينة لذلك فلا يثبت له المفهوم أيضا لإجمال الكلام. فثبوت المفهوم للغاية وعدمه ليس تحت ضابط كلي ، بل لا بدّ فيه من التفصيل ، ولذا ذكرنا انه وسط بين مفهوم الشرط والوصف.

وبالجملة ثبوت مفهوم الغاية مترتب على كون الغاية غاية للحكم لا لغيره من الموضوع أو المتعلق ، وإلّا فتدخل الغاية في الوصف الّذي عرفت عدم دلالته على المفهوم.

ثم انه بناء على رجوع الغاية إلى الحكم لا مجال للنزاع في المقام الأول أعني كون الغاية داخلة في المعنى وعدمه ، وهذه هي النكتة التي أخرنا لأجلها التكلم في المقام الأول.

بيان ذلك : انه لو كانت الغاية غاية للموضوع كما في آية الوضوء فانّ قوله فيها «إلى المرافق» تحديد لما أخذ موضوعا فيها وهو اليد ، يمكن النزاع في انّ الغاية أعني المرفق وهو مجمع العظمين داخل في المعنى أعني الموضوع وهو اليد فتعمه حكمه أعني به «وجوب الغسل» أو خارج عنه وامّا إذا كانت غاية للمتعلق كما في قولك «صم إلى الليل» فلا معنى لكون الغاية أعني الليل داخلة في المعنى وهو الإمساك حقيقة.

نعم يمكن ان تكون داخلة فيه حكما بان يكون محكوما بحكمه ، وامّا إذا كانت غاية لنفس الحكم كما لو قال : «الجلوس واجب إلى الزوال» فلا معنى لدخول الزوال في الحكم لا حقيقة ولا حكما ، فتأمل.

وكيف ما كان الأقوال في دخول المغيا في المعنى وعدمه أربعة ، ثالثها : التفصيل بين ما إذا كانا من جنسين أو من جنس واحد ، ورابعها : التفصيل بين ما إذا كانت الغاية مدخولا لكلمة «إلى» وما إذا كانت مدخولة لكلمة «حتى» بدعوى انّ لفظ «حتى» انما يستعمل لبيان الفرد الخفي كقولك «مات الناس حتى الأنبياء» فانهم

من حيث الموت من الافراد الخفية للناس ، فلا محالة تكون داخلة في المعنى.

وفيه : ما لا يخفى فانّ كلمة «حتى» المستعملة لبيان الفرد الخفي كما في المثال أجنبية عن الغاية ، بل هي عاطفة بمعنى الواو ، ولذا لا يتعين الجر في مدخولها ، فهي خارجة عما نحن فيه ، فهذا التفصيل كالتفصيل السابق لا وجه له.

والصحيح : انه ليس لذلك ضابط كلي ، بل يختلف دخول الغاية في المغيا باختلاف الموارد والقرائن الخاصة ، ولو لم يكن في البين قرينة يكون الكلام مجملا من ذلك الحيث ، فيرجع إلى الأصل العملي.

مفهوم الحصر

الكلام في مفهوم الحصر بكلمة «انما» أو لفظ «إلّا» الاستثنائية لا ما يكون وصفا كما في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١).

وقد وقع الكلام في انّ لفظ «انما» كلمة مفردة أو مركبة من «انّ» و «ما» ولا أثر للبحث عن ذلك ، كما انه لا أثر للبحث عن كون دلالة أداة الحصر على الانتفاء عند الانتفاء دلالة منطوقية لكونها موضوعة لذلك ، أو انها دلالة مفهومية وانها موضوعة للحصر وبالالتزام تدل على ذلك.

فالمهم لنا استظهار دلالتها على الحصر. وكلمة «انما» وان لم نجد لها مرادفا في الفارسية إلّا انّ الظاهر عدم الخلاف عند أهل اللسان في دلالتها على الحصر كدلالة إلّا الاستثنائي عليه ، فانّ الاستثناء من النفي إثبات وبالعكس وقد خالف في دلالة لفظ «انما» على الحصر الرازي في تفسيره لقوله عزّ شأنه (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ)(٢) فانه على ما حكى بعد تسليمه نزول الآية في شأن علي عليه‌السلام أنكر دلالة «انما» على الحصر ، واستشهد في ذلك بقوله عزّ شأنه (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٣) بدعوى انّ الحياة الدنيا غير منحصرة بها ، إذ يمكن صرفها في غير تلك الأمور من الجهاد والعبادات ، فلا يتم الحصر.

وفيه : ما لا يخفى ، امّا أولا : فبالنقض بكلمة «إلّا» فانه سلّم دلالتها على

__________________

(١) الأنبياء ـ ٢٢.

(٢) المائد ـ ٥٥.

(٣) محمد ـ ٣٦.

الحصر ، وقد ورد في الآية الشريفة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُور)(١).

وثانيا : بالحل ، فانّ ما ذكره من الإشكال انما يتم لو كانت الحياة مضافة إلى الدنيا ، وهو أول الكلام ، بل الظاهر انّ الدنيا صفة للحياة أي الحياة الدنية ، فانّ الحياة تنقسم إلى عليا ودنيا ، والدنيا ليس إلّا متاع الغرور وليس إلّا لهو ولعب كحياة الحيوانات ، واما الحياة العليا فهي التي تصرف في مرضاته تعالى.

وبالجملة : بعد ما راجعنا ما ذكره في ذيل تفسيره لآية الولاية رأينا انه استشهد على ما أنكره من دلالة «انما» على الحصر بآيتين.

إحداهما : قوله عزّ شأنه (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ)(٢) بدعوى انّ لازم ظهور هذه الكلمة في الحصر ان يكون مثل الحياة منحصرا بما ذكر في الآية ، وهو واضح الفساد ، فانه يمكن تمثيل الدنيا بكل امر غير قار كالنوم ونحوه.

ثانيهما : قوله تعالى (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(٣) بدعوى انّ «انما» لو كان للحصر لزم ان يكون اللهو واللعب منحصرا بالحياة الدنيا دون غيرها من حياة الآخرة والبرزخ ، أو دون غيرها من الحياة العليا والوسطى لو كانت الدنيا صفة للحياة.

ويرد على الأول : انه انما يتم لو لم يكن الماء مدخولا لكلمة «لام» ، واما معه فلا مجال لذاك التوهم أصلا ، فإنّ معنى الآية حينئذ انّ مثل الحياة الدنيا بما يشبه الماء المنزل من السماء إلى آخر الآية ، أي من الأمور غير القارة لا في نفس الماء.

ويرد على الثاني : انّ الحصر في الآية المباركة حصر الحياة الدنيا باللهو واللعب لا العكس ، وقد ذكرنا انّ الحياة ليست مضافة إلى الدنيا ، بل الدنيا على

__________________

(١) آل عمران ـ ١٨٥.

(٢) يونس ـ ٢٤.

(٣) محمد ـ ٣٦.

وزن فضلي صفة لها بمعنى افعل التفضيل أي الحياة الأدنى كحياة الحيوانات ، وهي منحصرة في اللهو واللعب دون غيرها من الحياة الوسطى والعليا ، فالحصر ثابت في الآيتين ولا محذور فيه.

وخالف أبو حنيفة في دلالة «إلّا» الاستثنائية على الحصر بتوهم انه لو كان مفيدا للحصر لزم عدم صدق الصلاة على غير الطهور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا صلاة إلّا بطهور».

وفيه : انّ المستثنى لو كان مدخولا لحرف الجر فمفاد الاستثناء ليس إلّا عدم تحقق المستثنى منه بدونه لكونه دخيلا فيه شطرا أو شرطا كما في قوله عليه‌السلام «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» أو «إلّا إلى القبلة» فمفاده : انحصار تحقق المستثنى منه في فرض تحقق المستثنى ، وهذا ثابت واضح.

ثم انه قد استدل على دلالة الاستثناء على الحصر بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أسلم من قال لا إله إلّا الله» فإنّه لو لم يكن دالا على الحصر لما كان دالا على الإقرار بالتوحيد.

وأورد على ذلك : تارة : بأنّ قبوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك لعله كان للتعبد أو لقرائن خاصة.

ولكن الإنصاف : انّ ظهور الاستثناء في الحصر أوضح من ان يستدل عليه بهذا الاستدلال ليجاب عنه ، فانه امر ظاهر عند أهل اللسان ، وقد صرحوا به في كتب اللغة.

ثم انّ في كلمة الإخلاص إشكال معروف وهو انه لو قدر فيها خبر لا لفظ موجود لما دل على نفي إمكان تعدد الآلهة ، ولو جعل المقدر عنوان ممكن لما استفيد منه إثبات وجود الإله الواحد.

والجواب عنه واضح ، فانّ الإله واجب الوجود ذاتا وصفة ، فلو جعلنا الخبر ممكن لا يجوز ان يراد منه إمكان الخاصّ الّذي هو بمعنى سلب الضرورة من

الطرفين ، بل لا بدّ وان يراد منه الإمكان الخاصّ أي نفي الضرورة من ناحية عدمه فالمعنى لا إله ممكن بالإمكان الخاصّ إلّا الله ، فإذا أمكن وجب وجوده. كما انه لو جعل المقدر موجود فنفي الوجود عن المتعدد مستلزم لنفي إمكانه ، لأنّ الواجب بالذات لو كان ممكنا لوجب وجوده ، فعدم وجوده ملازم لعدم إمكانه ، كما انّ صفاته الذاتيّة أيضا كذلك ، فانّ كل صفة يمكن ثبوتها فيه تعالى تجب كالصفات الثبوتية من الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يمكن ثبوته فيه يجب عدمه كالصفات السلبية.

ثم انّ بعض أجرى ما ذكرناه في صفاته تعالى في أفعاله أيضا على ما حكاه شيخنا المحقق في حاشية الكفاية بدعوى : انه تعالى فياض ومنبع للفيض فان كان المحل قابلا يجب عليه الإفاضة ، وإلّا فيمتنع ، فإمكان الاستفاضة في المحل ملازم لوجوب الإفاضة.

وفيه : انّ الوجوب هناك ليس وجوبا ذاتيا وانما هو بمعنى ما لا ينبغي تركه على الحكيم ، فانا قد بينا في محله انّ أفعاله تعالى صادرة عنه بإرادته واختياره ، فهو فاعل مختار لا مجبور ، وهذا بخلاف الوجوب في ذاته وصفاته فانه وجوب ذاتي ، وأحد أدلة التوحيد التي استدل به ، فانهم ذكروا انّ تعدد الإله لو كان ممكنا لوجب وجوده ، فيلزم وجود الآلهة إلى ما لا نهاية له ، إذ لا ترجيح لبعض مراتب العدد على بعض.

هذا تمام الكلام في بحث المفاهيم.

مبحث العام والخاصّ

تعريف العام واقسامه.

حجية العام في الباقي بعد التخصيص.

حكم العام مع المخصص المجمل.

عدم حجية العام قبل الفحص عن المخصص.

اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه.

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعضه.

تخصيص العام بالمفهوم.

تعقب الاستثناء لجمل متعددة.

تخصيص العام القرآني بخبر الواحد.

النسخ والبداء.

العام والخاصّ

الكلام في العموم والخصوص يقع في جهات :

الجهة الأولى : انّ العموم لغة بمعنى الشمول. واصطلاحا عبارة عن شمول اللفظ لكل ما يصلح ان ينطبق عليه بالوضع ، سواء كان ذلك بدلالة اللفظ بمادته مثل «كل» أو بهيئته فقط كالجمع المحلى باللام ، ويعبر عنه بالعامّ الأصولي.

وبهذا القيد ظهر الفرق بينه وبين الإطلاق ، فانّ المطلق أيضا يشمل كل ما يمكن ان ينطبق عليه إلّا انه ليس بالوضع بل بمقدمات الحكمة ، كما في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(٢) فالبيع فيها يشمل كل ما يمكن انطباقه عليه من أفراده إلّا انه ليس لأجل وضع اللفظ لذلك ، بل هو من جهة عدم وجود قرينة في الكلام معينة لبعض الافراد ، وحلية الفرد غير المعين لا فائدة فيها ، فيحمل على العموم والشمول ، وهكذا الكلام في لفظ الماء في الآية الثانية.

وقد ظهر أيضا مما ذكرناه في تعريف العموم الاصطلاحي أعني الأصولي انّ المركب الشامل لأجزائه غير داخل فيه وان كان عاما لغويا كالدار والصلاة والاعداد ، فانها وان كانت تشمل اجزائها إلّا انّ كل منها ليس مما يصلح ان ينطبق عليه تلك العناوين ، فلا ينطبق عنوان الصلاة على كل من الركوع والسجود ونحو ذلك ، كما لا ينطبق عنوان الدار على كل من القبة والسرداب والسطح ، والعشرة لا

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) الفرقان ـ ٤٨.

تنطبق على كل من الوحدات وهكذا ، فلا يعمه التعريف الاصطلاحي. نعم يمكن ان يعم كل منها أفراده إذا ادخل عليه بعض أداة العموم كلفظ كل ، فقيل كل عشرة ينقسم إلى متساويين مثلا ، ولكن العموم حينئذ مستفاد من أداته لا من لفظ العشرة.

ثم انّ ثمرة هذا الاصطلاح تظهر في مبحث التعادل والتراجيح في مسألة التعارض بين العموم والإطلاق ، فانّ العام يتقدم على المطلق بلا إشكال. ولتوضيح ذلك اصطلحوا على العام بالعامّ الأصولي.

الجهة الثانية : انّ العموم ينقسم إلى أقسام من الاستغراقي والمجموعي والبدلي. ولا فرق بين هذه الأقسام من حيث الشمول الّذي هو الجهة المشتركة بينها ، فهذا التقسيم انما هو بلحاظ اختلاف كيفية جعل الحكم لا في نفسه ، فانّ الحاكم في مقام حكمه ، تارة : يلاحظ الطبيعي بما هو طبيعي فتكون القضية طبيعية ، فلا يحمل عليه سوى ذاتياته ، كقولك «الإنسان حيوان ناطق» ، وهو خارج عن محل الكلام ، وأخرى : يلاحظه فانيا في أفراده بنحو مطلق الوجود ، ومن هذا القبيل غالب القضايا الحقيقية فيقال «أكرم كل عالم» وثالثة : يلاحظه فانيا في الافراد من حيث المجموع ، ورابعة : يلاحظه فانيا فيها بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، ويعبر عنه بالعامّ البدلي. نعم العام البدلي شمولي من حيث مدلوله الالتزامي ، وهو ترخيص المكلف في تطبيق الطبيعي على أيّ فرد شاء.

ثم انه لا يشتبه العموم البدلي بالقسمين الأولين ، لأنّ أداته غالبا تكون كلمة «أيّ» ، ولكن ربما يشتبه كل منهما بالآخر فيما إذا كان أداة العموم هيئة الجمع المحلى باللام ، كما لو قال «أكرم العلماء» فإذا شككنا في انّ المراد هو العموم المجموعي أو الاستغراقي ولم يكن قرينة معينة لأحدهما ، فهل هناك أصل لفظي يعين لنا أحدهما ، أم لا؟

ذهب الميرزا قدس‌سره (١) إلى انّ الأصل في العموم ان يكون استغراقيا ، لأنّ المجموعي محتاج إلى مئونة زائدة في مقام الثبوت ، وهو لحاظ وحدة الكثرات ، فإذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه فالإطلاق يقتضي عدمه.

ويظهر الجواب عنه مما بيناه ، فانّ العموم المجموعي والاستغراقي ليسا من قبيل الأقل والأكثر ليحتاج أحدهما إلى مئونة زائدة ، بل كل منهما محتاج إلى لحاظ مباين للحاظ الآخر ، ففي العموم الاستغراقي لا بدّ من لحاظ الكثرات على ما هي عليها من الكثرة فتأمل ، وفي العموم المجموعي لا بدّ من لحاظها واحدة ، فليس في البين أصل لفظي يرجع إليه ، بل لا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي.

ثم انه لا إشكال في ثبوت ألفاظ موضوعة للعموم وسريان الحكم إلى مجموع الافراد ، كما لا إشكال في ثبوت ألفاظ للخصوص كلفظ «البعض». ولا وجه لما ذكر من انّ من ثبوت ذلك مستلزم لكثرة المجاز فانّ أغلب العمومات مخصصة حتى قيل انه ما من عام إلّا وقد خص ، فإذا كانت ألفاظه موضوعة للعموم يلزم ان تكون أغلب الألفاظ الموضوعة للعموم مستعملة في غير ما وضعت له لما ستعرفه ، مضافا إلى انّ إرادة خلاف الظاهر له من اللفظ غير مستلزم لمجازيته من انّ التخصيص بالمتصل لا ينافي عموم العام وشموله ، لأنّ المدخول أولا يقيد ثم يرد عليه لفظ العموم ، وهكذا في المنفصل ، فانّ عدم شمول الحكم لبعض الافراد لا ينافي استعمال العام في العموم كما سيتضح إن شاء الله.

ثم انه وقع الخلاف في انّ سعة الحكم وشموله لجميع أفراد الطبيعة هل يتوقف على إجراء مقدمات الحكمة في مدخول أداة العموم أم لا؟

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى الأول وتبعه الميرزا قدس‌سره في ذلك (٢) ، وتعرض

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٣.

(٢) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٤ ـ ٣٣٥. أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

لكل من لفظ «كل» و «الجمع المحلى باللام والنكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي» وذكر ما حاصله : انّ لفظ «كل» وان كان موضوعا لسراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله إلّا انه قد يكون المدخول وسيعا ، كما لو قال «أطعم كل حيوان» وقد يكون ضيقا كما لو قال : «أكرم كل إنسان» فسعة دائرة المدخول وكثرة أفراده أو ضيقه وقلة أفراده أجنبي عن لفظ «كل» فإذا قال «أكرم كل عالم» واحتملنا انه أراد منه خصوص الفقيه وأطلق عليه العالم من باب إطلاق المطلق على بعض أفراده ، ونصب عليه قرينة خفيت علينا ، فلفظ «كل» لا يدفع ذلك ، بل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قرائن خاصة أو عامة ، وهي مقدمات الحكمة.

وامّا المحلى باللام فكلمة «لام» لا تفيد العموم ، كما انّ مجرد الجمع أيضا لا يفيده ، بل العموم مستفاد من ورود مجموع تلك الهيئة على الطبيعي ، وإطلاقه لا بدّ وان يستكشف من إجراء مقدمات الحكمة في المادة. وامّا النكرة في سياق النفي أو النهي فانعدام الطبيعي وان كان بعدم جميع أفراده عقلا إلّا انّ كون متعلقه هو مطلق الطبيعي دون المقيد لا بدّ وان يستفاد من الإطلاق ومقدمات الحكمة.

هذا ونقول : ما أفاده في النكرة في سياق النفي أو النهي متين جدا ، فانّ لفظة «لا» انما تدل على انّ متعلقها مورد لزجر المولى أو لنفيه ، وامّا كون المتعلق مطلق الطبيعي أو الحصة الخاصة منه فهو أجنبي عن الهيئة كما في الإيجاب ، فلا فرق بين القضية الموجبة والسالبة من هذه الجهة ، فكما انّ شمول الحل في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) لجميع أفراده مبني على إجراء مقدمات الحكمة في المتعلق ، كذلك في قولك «لا تكرم فاسقا» إطلاق الفاسق وعدم تقيده بقيد لا بدّ وان يدفع بتلك المقدمات ، والهيئة لا دلالة فيها إلّا على الزجر عن ما أريد من المتعلق ، فالشمول في ذلك لجميع

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

الافراد مبني عليها.

ومن ثم لو وقع التعارض بين القضية السالبة والموجبة كما لو ورد «أكرم عالما» وفي آخر «لا تكرم فاسقا» لا يقدم الثاني على الأول ، بل يرجع فيه إلى مرجحات باب التعارض ، وليس هذا إلّا من جهة انّ السريان في كل منهما مستفاد من مقدمات الحكمة وان كان إطلاق الثاني شموليا والأول بدليا ، مع انّ كلامنا فعلا ليس من تلك الحيثية أعني الترجيح من حيث البدلية والشمولية ، وهذا في النكرة في سياق النفي أو النهي واضح.

واما لفظ «كل» فالظاهر انه بالوضع يدل على عدم تقيد مدخوله بغير ما ذكر في الكلام من القيود ، فما هو مستفاد من عدم التقيد في الإطلاق لعدم الدليل يستفاد من نفس كلمة «كل» بالوضع ، فهي دليل على العدم والشاهد على ذلك هو الاستعمالات العرفية ، فلو قال أحد لعبده «بع كل كتبي أو جميعها» فيسأل العبد مولاه بعد ذلك هل أبيع خصوص العربية منها أو جميعها يلومه مولاه ويقول له «أما قلت لك بع كلها».

وبالجملة فلفظ «كل وجميع وما بمعناه» بنفسها تدل على إطلاق المدخول وعدم تقيده بقيد زائد على ما ذكر في الكلام ، ومعه لا مجال للتمسك بمقدمات الحكمة ، وهذا هو السر في تقديم ذلك على المطلقات عند التعارض كما هو ظاهر.

وامّا الجمع المحلى باللام ، فلا ينبغي الريب في دلالته على العموم بالوضع كلفظ «كل» ، ولذا لو قال المولى «أكرم العلماء» لا مجال لسؤال المكلف عن انّ مرادك إكرام جميعهم أو خصوص حصة منهم؟

وانما الكلام في انّ العموم مستفاد من وضع خصوص المادة أعني بها الجمع ، أو من هيئة المجموع من حيث المجموع من اللام والجمع ، أو من خصوص الألف واللام.

امّا احتمال استفادته من خصوص الجمع فواضح الفساد ، ولم يقل به أحد. كما انّ احتمال وضع هيئة المجموع لذلك يدفعه صحة استعمال الجمع المحلى باللام في موارد العهد من الذهني والذكري بلا مسامحة ، ولو كانت تلك الهيئة موضوعة للعموم لكان استعمالها في ذلك مجازا ، مضافا إلى انه لا وجه لوضع مجموع الهيئتين بعد وضع كل منهما مستقلا ، لأنه خلاف المتعارف في باب الأوضاع.

فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو كون العموم مستفادا من كلمة «أل» ، بيان ذلك : هو انّ هذه الكلمة موضوعة للإشارة والتعريف ، فإذا أدخلت على المفرد أعني الطبيعي تكون إشارة إلى الجنس ومعرفا له ، سواء أريد به نفس الطبيعي كما في قولك «الإنسان نوع» أو أخذ بنحو السريان إلى الخارج كما في قولك «الرّجل خير من المرأة» واما إذا دخلت على الجمع فبما انّ الجمع لا يراد منه الطبيعي بل يكون ناظرا إلى الافراد لدلالته على العدد ، كما انه ليس المراد منه صرف وجود الطبيعي لدلالته على التعدد والكثرة ، وطبيعي الكثرة ليس إلّا جامعا مسامحيا انتزاعيا ، فلا بدّ وان يراد باللام الافراد الكثيرة وتعيين تلك الكثرة وتعريفها. فإذا كان في البين عهد ذهني أو ذكري يتعين به مقدار منها ، كما لو ذكر جماعة من العلماء ثم قال «أكرم العلماء» فهو ، وإلّا فلا بدّ وان يكون اللام إشارة إلى جميع الافراد ، لأنه المعين الّذي لا إبهام فيه ولا ترديد دون غيره من مراتب الكثرة.

فلا وجه لأن يقال : انّ أقل الجمع وهو الثلاثة هو المتعين ، لأنه وان كان معينا من حيث العدد إلّا انه نكرة مبهم من حيث الانطباق على كل ثلاثة من الطبيعي ، وهكذا احتمال تعيين أكثر مراتب الجمع وهو العشرة.

وبالجملة الافراد الكثيرة المتعينة من جميع الجهات إلّا جميع الافراد فيتعين باللام ، فدلالته على العموم تكون مستندة بالوضع بهذا البيان ، ولذا يتقدم الجمع المحلى باللام على المطلق عند المعارضة ولو كان إطلاقه شموليا فضلا عن ما إذا كان بدليا.

فصل : في العام المخصص وانه هل يكون مجازا أم لا؟

امّا على ما سلكه الآخوند (١) وتبعه في ذلك الميرزا قدس‌سره (٢) من استفادة العموم من إطلاق المدخول فعدم المجازية واضح ، اما في المخصص المتصل فلأنّ إطلاق المدخول يقيد ويضيق دائرته أولا ثم يرد العموم عليه ، فيكون العموم بمقدار سعة المدخول ، وعليه فإطلاق التخصيص على مثل ذلك غير خال عن المسامحة. وامّا في التخصيص بالمنفصل ، ففي غير الشارع المقدس العالم بالأشياء يكون التخصيص بالمنفصل من قبيل النسخ والبداء ، فلو قال «أضف جيراني» ثم قال «لا تضف البغدادي منهم» يكون الثاني نسخا للحكم الأول بالقياس إلى بعض مدلوله ، فلا يستلزم مجازية العموم واستعماله في غيره ، واما في الشارع المستحيل في حقه البداء فالتخصيص المنفصل يستكشف منه انّ مراده من المدخول من الأول لم يكن مطلقا ، بل كان مقيدا ، ومن الواضح كما سيأتي في بحث المطلق والمقيد انّ تقييد الإطلاق لا يستلزم المجازية وان كان خلاف الظاهر ، وذلك لأنّ شيئا من الإطلاق والتقييد ليس جزء مما وضع له اللفظ المطلق ، بل وكلاهما خارجان عن الموضوع له ، وظهور اللفظ في الإطلاق وان لم يكن قابلا للإنكار إلّا انه مستفاد من مقدمات الحكمة كما هو ظاهر.

وامّا على المسلك المختار ، فعدم المجازية في التخصيص بالمتصل واضح ، فانّ المدخول يقيد أولا ثم يدخل أداة العموم على المفهوم الضيق ، وقد عرفت ان لفظ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٥.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٤٧.

أداة العموم موضوعة للدلالة على عدم دخل خصوصية أخرى في الحكم غير ما ذكر في اللفظ. وامّا في التخصيص بالمنفصل ، فبيان عدم المجازية يتوقف على ذكر مقدمة وهي : انا قد ذكرنا في مبحث الوضع انّ الدلالة الوضعيّة انما هي الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على انّ المتكلم به أراد تفهيم معناه ، وهي التي تستند إلى الوضع ، واما الدلالة التصورية فهي مستندة إلى أنس الذهن وأجنبية عن الوضع ، وذلك لأنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، فالدلالة الوضعيّة دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وبيانه ، وهذه هي النعمة المهمة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان وذكرها بقوله عزّ شأنه (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) ولو لا تلك أي القدرة على البيان لاختل أمور الإنسان ولم يتمكن من تفهيم أكثر مقاصده بالإشارة ونحوها ، امّا في الكلمة ونحوها فظاهر ، وامّا في غيره فلعدم إمكان تفهيم جميع المقاصد بها كما هو واضح.

والظاهر انّ المراد بالناطق المستعمل في تعريف الإنسان هو القدرة على تفهيم مقاصده بالألفاظ ، لا مجرد التكلم ، فانه مشترك بينه وبين جملة من غيره من الحيوانات ، فالدلالة المستندة إلى الوضع هي دلالة اللفظ على قصد المتكلم للتفهيم ، وهناك دلالة أخرى للفظ مستندة إلى بناء العقلاء وهي الدلالة على انّ ما قصد تفهيمه هو مراده الجدي ، ويعبر عنها بالحجية.

إذا عرفت هذا فنقول : القرائن المنفصلة ومنها التخصيص انما تزاحم الدلالة الثانية وهي الحجية دون الدلالة الأولى ، مثلا إذا قال : «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» فالمخصص سواء كان حكما شخصيا أو كليا يكشف عن انّ المراد الجدي لم يتعلق بالعموم وجميع أفراد العالم ، ولا ينافي الدلالة الأولى أعني كون

__________________

(١) الرحمن ـ ٤.

المتكلم قصد تفهيم العموم لمصلحة في ذلك ، ومن الواضح انّ الحجية وكون المراد الاستعمالي مطابقا للمراد الجدي أجنبي عن الحقيقة والمجاز.

وبالجملة : قد ذكرنا في مبحث الوضع انّ الوضع في المفردات عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند قصد تفهيم المعنى ، فإذا استعمله عند عدم إرادة تفهيم المعنى يكون ذلك على خلاف التزامه وتعهده ، فالدلالة الوضعيّة هي دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى المعبر عنها بالدلالة التصديقية. وامّا هيئة الجمل الخبرية فموضوعة للحكاية بها عن النسبة إيجابا أو سلبا ، ولذا ذكرنا انّ الجملة الخبرية من حيث دلالتها الوضعيّة لا تتصف بالصدق والكذب ، وانما تتصف بهما من حيث مطابقة الحكاية مع الخارج وعدمها. واما هيئة الجمل الإنشائية فموضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ.

وامّا الدلالة على المراد الجدي وكونه مطابقا للمراد الاستعمالي فهي ثابتة ببناء العقلاء ، وهذه الدلالة ثابتة في الأفعال أيضا كما هو واضح.

إذا عرفت هذه المقدمة نقول : إذا كان التخصيص بالمتصل كالاستثناء ونحوه فلا مجال لتوهم مجازية العام ، لأنّ المدخول أولا يتضيق ثم يرد العام عليه من غير فرق بين الإخبارات والإنشاءات. وامّا إذا كان المخصص منفصلا فلا بدّ من التفصيل بين الجمل الخبرية والإنشائية ، ففي الجملة الخبرية كما لو قال «زارني جميع علماء البلد» ثم أخبر بأنه «ما زارني النحاة منهم» يحمل أحد الخبرين على الكذب عرفا ، كما يشهد به وجداننا ، ولا يحمل العام على الخاصّ لا من حيث المراد الجدي ولا الاستعمالي.

واما في الجمل الإنشائية فلا معنى للصدق والكذب ، بل يكون الخاصّ المنفصل مزاحما لحجية العام وكونه مرادا جديا للمتكلم فتأمل ، فيتقدم عليه لأظهريته ، فلا مجازية أصلا.

فيبقي الكلام في أمرين.

أحدهما : انّ المتكلم لما ذا يأتي باللفظ العام مع انّ مراده الجدي هو الخاصّ؟! ثانيهما : انّ غاية ما ذكر هو احتمال كون الخاصّ مزاحما للإرادة الجدية دون الاستعمالية ، ولكن يحتمل ان يكون الخاصّ قرينة على مجازية العام وعدم استعماله في العموم ، فيكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

امّا الأول فالوجه فيه في المتكلم العرفي يمكن ان يكون جهله بالحال ، وفي المولى الحكيم ربما يكون ذلك لمصلحة في تأخير بيان المخصص ، وربما يكون لمفسدة في ذكره من أول الأمر.

وامّا الثاني فجوابه : انّ بناء العقلاء ثابت في الرجوع إلى أصالة الحقيقة ما لم يثبت قرينة على الخلاف ، والمخصص غير صالح لذلك بعد ما يمكن رفع التنافي بينه وبين العام بجملة على خلاف الإرادة ، الجدية فتأمل.

حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص

فصل : لا ينبغي الريب في انّ العام المخصص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل حجة فيما بقي من افراد العام ، فيتمسك به لإثبات الحكم في الافراد الباقية.

امّا على مسلك الميرزا قدس‌سره من كون التخصيص تقييدا لإطلاق مدخول أداة العموم فلأنّ التخصيص بالمتصل حقيقة تضييق دائرة العموم ، مثلا لو قال «أكرم كل رجل عالم» أو «أكرم كل رجل إلّا الجهال» فهو بمنزلة ان يعبر عن ذلك المعنى الضيق بلفظ بسيط لو كان له لفظ بسيط ، فنفرض انّ لفظ القضية موضوع للرجل العالم فكأنه قال «أكرم كل فقيه» فهل يتوهم عدم جواز التمسك بعمومه؟ كلا. وبالجملة لا فرق بين ان يعبر عن المفهوم الضيق بلفظ مركب أو بلفظ بسيط في جواز التمسك بالعامّ ، وهذا ظاهر.

واما في التخصيص بالمنفصل على هذا المسلك فلأنّ تقييد المطلق من جهة لا يستلزم إجماله ، ولم يتوهم فيه ذلك ، لأنّ عدم كون المولى في مقام البيان من جهة لا ينافي كونه في مقام البيان من الجهات الأخرى ، فلو قال «أكرم كل رجل عالم» ثم قال «لا تكرم زيد العالم» يستكشف منه عدم كون المولى في مقام بيان العموم من حيث ذاك الفرد فقط ، دون غيره من الافراد ، وهكذا لو ورد «أكرم كل عالم» ثم ورد «لا تكرم فساق العلماء» فانّ عدم كونه في مقام البيان عند ذكر العام من حيث الفسق لا ينافي كونه في مقام البيان من سائر الحيثيات.

وامّا على المختار ، فالخاص انما يزاحم العموم ويعارضه من حيث كونه مرادا جديا للافظ المعبر عنه بالحجية ، ولا يعارض المراد الاستعمالي ، فانّ العام ينحل إلى أحكام عديدة إذا كان استغراقيا ، ويكون متعددا من حيث المتعلق إذا كان عمومه مجموعيا ، والخاصّ يزاحمه في الحجية بالقياس إلى بعض الافراد فيتقدم عليه لأقوائيته. ومن الظاهر انّ رفع اليد عن حجية الدليل في بعض مدلوله لمعارضته بما هو أقوى منه أو مساو له لا ينافي حجيته في الباقي ، نظير ما إذا أخبرت البينة بأنّ جميع كتب زيد لعمرو وعلمنا من الخارج اشتباهها في كتاب مفتاح الكرامة مثلا ، فانه لا يوجب رفع اليد عن حجيتها في غيره ، بل يؤخذ بها فيه كما عليه السيرة وبناء العقلاء ، وهكذا الحال في معارضة العامين من وجه.

فتحصل : مما ذكر انّ العام المخصص حجة في تمام ما بقي على مسلك الميرزا قدس‌سره من كون التخصيص يرجع إلى تقييد المتعلق ، وهكذا على المختار من انّ للفظ دلالتان : إحداهما : دلالته على انّ المتكلم قصد تفهيم المعنى الّذي تعهد ذكر ذلك اللفظ عند إرادة تفهيمه ، ثانيهما : دلالته على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي في مقابل السخر به والاستهزاء وأمثال ذلك ، وانّ المخصص انما يزاحم العام في الدلالة الثانية المعبر عنها بالحجية ، فانّ رفع اليد عن حجية العام في بعض افراده

لمعارضته بحجة أقوى أو مساو لا يقتضي إلّا رفع اليد عنه في ذاك المقدار.

وامّا على القول بمجازية العام المخصص فذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره ما حاصله : انّ هذا المجاز ليس كسائر المجازات ، فإنّ المجازية فيه ليس من جهة دخول ما دخل تحت العام ، وانما هي من جهة خروج ما خرج فيكون العام حجة في الباقي.

وقد أوضحه الميرزا قدس‌سره (١) بما حاصله : انّ العام كما انه منحل إلى أحكام عديدة عرضية أي غير متوقف ثبوت كل من تلك الأحكام على موضوعه على ثبوت الحكم لفرد آخر ، كذلك في مقام الإثبات يكون العام منحلا إلى دلالات عديدة عرضية ، بمعنى انّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير متوقفة على دلالته على ثبوت الحكم لفرد آخر ، وإلّا لزم الدور ، فانّ نسبة الافراد إلى العام على حد سواء ، وإذا كان كذلك فانتفاء الحكم عن فرد لا يستلزم انتفائه عن غيره ، وهكذا انتفاء الدلالة بالإضافة إلى فرد لا يستلزم انتفائها بالإضافة إلى بقية الأفراد ، كما انّ نسخ حكم لا يستلزم نسخ غيره.

ونقول : ما أفيد من المقدمة وان كان تاما ، فإنّ العام منحل إلى أحكام عرضية ، كما انّ الدلالة أيضا كذلك ، ولكن النتيجة لا تترتب عليها ، وذلك لأنّ جميع تلك الدلالات معلولات لعلّة واحدة وهي استعمال العام في العموم ، فإذا ثبت ذلك يثبت جميع الدلالات عرضا ، واما إذا لم يثبت ذلك فلا يثبت شيء منها.

وبعبارة واضحة : استكشاف مراد المتكلم من اللفظ لا بدّ وان يستند إلى أحد أمور ثلاثة : امّا إلى الوضع ، واما إلى القرينة الخاصة ، وامّا إلى القرينة العامة. امّا الوضع فمفقود في الفرض ، لأنّ العام غير مستعمل في معناه الحقيقي ، وهكذا القرينة العامة والخاصة ، وحينئذ فكما يمكن ان يكون العام مستعملا في تمام الباقي يحتمل ان

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٥٣.

يكون مستعملا في بعضه ، فما هو المعيّن للأول؟ فتأمل ، ولو في فرض القطع بعدم ورود مخصص آخر فضلا عما إذا احتمل ذلك ، فانّ القطع بعدم المخصص الآخر لا يستلزم استعمال العام في تمام الباقي فكيف بالأصل العقلائي ، فينحصر القول بحجية العام المخصص في تمام الباقي على البناء على أحد الوجهين المتقدمين.

هذا مضافا إلى انّ توجيه الميرزا قدس‌سره لا يتم إلّا في العام الاستغراقي دون المجموعي فانه غير منحل إلى أحكام عديدة عرضية كما هو واضح ، والظاهر انه لم يفصل أحد بين القسمين.

ثم انّ عدم العموم تارة : يكون من جهة ورود المخصص واستكشاف انّ العموم لم يكن مرادا جديا للمتكلم ، وقد عرفت الكلام فيه. وأخرى : يكون العموم مرادا جديا ويعلم من الخارج مطابقة الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية إلّا انا علمنا من الخارج اشتباه المتكلم وخطأه ، كما لو فرضنا انّ البينة أخبرت بنجاسة كل إناء في البيت وعلمنا بطهارة بعضها المعيّن وانّ العموم خطا واشتباه ، فهل يمكننا في مثل ذلك التمسك بالعامّ في الباقي ، أو انّ البينة تسقط عن الحجية رأسا؟

وبعبارة أخرى : ذكرنا في بعض المباحث المتقدمة انّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية ثبوتا وسقوطا ، فهل الدلالة التضمنية أيضا كذلك ، أم لا؟ الظاهر هو التفصيل بين موارد الانحلال بحيث يكون المخبر به أحكاما عديدة قد أديت بلفظ واحد للاختصار ، وعدمه كالعام المجموعي ، فيكون العام حجة في الباقي في الأول دون الثاني.

والحاصل : انه إذا أخبرت البينة بشيء ، فتارة : تشك في مطابقة الخبر للواقع من جهة الشك في مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي ، وهذا هو مورد بناء العقلاء على مطابقة ما قصد تفهيمه للمراد الجدي.

وأخرى : يشك في ذلك بعد العلم بمطابقة مراده الاستعمالي لمراده الجدي من

جهة احتمال غفلته واشتباهه ونحوه ذلك ، وهذا أيضا يدفع بأصالة عدم الغفلة ، وهذا هو معنى حجية البينة.

وثالثة : يقطع باشتباه البينة فيما أخبرت به بالإضافة إلى بعض مدلوله ، فهل تكون تلك البينة حجة في الباقي ، أو تسقط عن الحجية رأسا على ما بيناه في بحث الواجب المشروط من تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية؟

الظاهر هو التفصيل بين ما إذا كان اخبار البينة من قبيل العام الاستغراقي الّذي يكون لبّا منحلا إلى إخبارات عديدة ودلالات عديدة ، بل في الحقيقة يكون الجمع في اللفظ والتعبير للاختصار ، وما إذا كان من قبيل العام المجموعي الّذي ليس إلّا اخبارا واحدا ، فنلتزم بحجية البينة في الباقي على الأول دون الثاني. والسر في ذلك ما ظهر مما بيناه من انحلال الأول إلى إخبارات ، نظير ما لو أخبرت بأنّ جميع الكتب الموجودة في الدار ملكا لزيد ، فانه منحل إلى انّ هذا الكتاب له وذاك أيضا له وهكذا من دون ان يكون بينها انضمام وتوقف ، فإذا علمنا بكذب الخبر بالإضافة إلى بعضها المعيّن لا ينافي ذلك صدقه بالإضافة إلى الباقي لعدم ارتباط بينها ، وهذا نظير ما ذكرناه من انّ رفع اليد عن حجية العام في بعض افراده بحجة أخرى لا ينافي بقاء حجيته بالقياس إلى الباقي.

وهذا بخلاف ما لو كان اخباره من قبيل العام المجموعي ، كما لو أخبر العادل بوجوب صلاة أربع ركعات فإذا علمنا بعدم وجوب الركعة الرابعة من الخارج لا يمكننا العمل بالخبر في الثلاث الباقية ، لأنه لم يكن إلّا اخبار واحد لفظا ولبا ، فإذا كان كذبا لا يمكن ان يتصف بالصدق أصلا بل يسقط رأسا.

حجية العام مع المخصص المجمل

فصل : بناء على حجية العام المخصص في تمام الباقي إذا فرضنا إجمال المخصص فهل يسري إجماله إلى العام أم لا؟

اما في المخصص المتصل فلا إشكال في السراية على المسلكين ، وذلك لأنّ المخصص المتصل انما يوجب تقييد المتعلق ، اما بقيد وجودي نظير ما إذا كان بالوصف كما لو قال : «أكرم كل رجل عالم» ، أو عدمي كالتخصيص بالاستثناء كقوله : «أكرم كل عالم إلّا النحويين» أي العالم غير النحوي ، فإذا كان المخصص مبينا يتضيق به دائرة المتعلق ويكون مصب العام ضيقا ، فيقل افراده لا محالة ، كما لو كان له لفظ بسيط فعبر به. واما إذا فرضنا انّ المخصص مجمل مردد بين الأقل والأكثر أو بين متباينين ، فلا يعلم المراد الجدي من العام وان كان المراد الاستعمالي منه معلوما ، مثلا لو قال : «أكرم كل عالم عادل» ولم تدر انّ العدالة اسم للمجتنب عن خصوص الكبائر أو عنها وعن الصغائر ، فلا محالة يكون المراد الجدي من العام وهو «أكرم كل عالم عادل» مجملا مرددا بين ما يقل افراده وما يكثر ، وهذا معنى قولهم انّ إجمال المخصص يسري إلى العام.

وبالجملة إجمال المخصص المتصل ولو كان مرددا بين الأقل والأكثر يوجب التردد في المراد الجدي من العام ، امّا سعة وضيقا ، وامّا من حيث التردد بين متباينين.

واما في المخصص المنفصل فبما انّ العام ينعقد له الظهور في العموم وتثبت حجيته بناء العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي لا يرفع اليد عنه إلّا

بحجة أقوى ، فان كان إجمال المخصص من حيث دورانه بين متباينين فبما انه حجة أقوى يعلم منه ان العموم لم يكن مرادا جديا للمتكلم بالقياس إلى ما أريد من الخاصّ ، وحيث انه مردد بين شيئين وحجة في أحدهما لا محالة يكون المراد الجدي من العام أيضا مرددا ، وهذا معنى إجماله ، ونتيجته نتيجة السراية التي ذكرناها في المخصص المتصل ، وان كان بينهما فرق فإنه في المتصل لم ينعقد له ظهور في المراد الجدي أصلا ، وفي المنفصل قد انعقد له الظهور في ذلك إلّا انه يرفع اليد عنه بحجة أقوى ، ومثال ذلك ما إذا قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم زيدا» وتردد بين كونه ابن عمر أو ابن خالد فنتيجة الخطابين : «أكرم كل عالم إلّا أحدهما». هذا كله في المنفصل المردد بين متباينين.

وامّا ان كان المخصص مرددا بين الأقل والأكثر ، فالظاهر عدم سراية إجماله إلى العام ، وذلك لأنّ العام كما عرفت انعقد له الظهور الّذي هو حجة ببناء العقلاء ، فلا يمكن رفع اليد عنه إلّا بمقدار قامت الحجة الأقوى على خلافه ، والمخصص على الفرض لم يثبت حجيته إلّا في المقدار المتيقن وهو الأقل ، فلا وجه لرفع اليد عن العموم الّذي كان حجة بالإضافة إلى الأكثر ، مثلا لو قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» ولم نعلم انّ معنى الفاسق خصوص مرتكب الكبيرة أو أعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فمن حيث الوضع وان لم يكن في البين قدر متيقن ، ولا معنى لأن يقال : انّ وضعه للأقل متيقن وللزائد مشكوك ، بل الأمر من حيث الوضع دائر بين متباينين إلّا انه ينحل من حيث الظهور الاستعمالي ، فيقال : إنّ إرادة خصوص مرتكب الكبيرة منه قطعي ، فهو حجة فيه ، واما الزائد فلم يحرز إرادته منه لشبهة مفهومية فلم تثبت حجيته فيه.

وبعبارة أخرى : لم يرد من الفاسق في المثال مفهومه من حيث هو ، إذ لا معنى للنهي عن إكرام الطبيعي بما هو ، وانما أخذ هذا العنوان مرآة لما في الخارج ، فالمعنى

لا تكرم من ارتكب هذه المعصية وتلك المعصية وهكذا ، فمقدار من المعاصي نعلم بخروج مرتكبها عن العام ، واما الباقي فنشك في خروجه ، وأصالة العموم بالإضافة إليها محكمة. والسر الحقيقي لذلك ما ذكرناه من انه لا يجوز رفع اليد عن الحجة إلّا بحجة أقوى على خلافها ، ولم يثبت حجة على خروج المقدار الزائد.

وبما بيناه ظهر الجواب عما قيل : من انه إذا قال «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» فيكون العام معنونا بغير عنوان المخصص ، فالمراد من العالم وجوب إكرام كل عالم غير فاسق ، فإذا تردد الفاسق بين الأقل والأكثر في نفسه فلا محالة يتردد العام بينهما أيضا ، لما عرفت من انّ الفاسق عنوان مشير إلى الفساق الموجودين في الخارج ، فالمعنى حينئذ أكرم العلماء غير هذا وذاك وهكذا بقية الافراد المتيقنة الدخول في الخاصّ دون المشكوكة فانه لم يعلم خروجها.

وبالجملة ففي سراية إجمال المخصص المنفصل نفصل بين ما إذا كان إجماله من قبيل الدوران بين المتباينين فيسري ، وما كان من قبيل الأقل والأكثر فلا يسري ، من غير فرق بين القضايا الحقيقية كالمثال المتقدم والقضايا الخارجية كما لو قال «أكرم جيراني» ثم أشار إلى بعضهم وقال «لا تكرم هؤلاء» وتردد المشار إليه بين الأقل والأكثر.

التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية

ثم انه هل يجوز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية أم لا؟

امّا في ما إذا كان المخصص متصلا كما لو قال «أكرم كل عالم إلّا الفساق منهم» ولم نعلم كون زيد فاسقا أو غير فاسق لا لشبهة مفهومية بل لاشتباه خارجي فلا ينبغي الريب في عدم جواز التمسك بالعموم ، وذلك لأنّ الحكم لا يتكفل إثبات موضوعه ، وانما يثبت بعد فرض وجوده ، فإذا علمنا بكون زيد عالما غير فاسق يعمه الحكم العام وإلّا للزم جواز الرجوع إلى عموم العام في كل مورد شككنا في

دخوله تحت موضوع العام ولو لم يكن العام مخصصا ، كما لو ورد «أكرم كل عالم» أو احتملنا كون زيد عالما فنتمسك بالعموم ونحكم بكونه عالما ، وهذا بديهي الفساد. ومن الواضح انه لا فرق بين وحدة اللفظ وتعدده.

وامّا في ما إذا كان المخصص منفصلا ، فربما يتوهم جواز الرجوع إلى العام بدعوى : انّ الفرد المشتبه كان داخلا في عمومه وكان العام حجة فيه ، والآن لشبهة مصداقية لا نعلم كونه مصداقا للمخصص فلا نعلم حجية فيه ، فلا وجه لرفع اليد عن الحجة الأولى بالإضافة إليه.

وبالجملة : إذا ورد عام كقولك «أكرم كل عالم» ثم ورد خاص وشككنا في انطباقه على فرد ، فهل يمكننا التمسك فيه بالعموم أم لا؟

نسب إلى مشهور القدماء جوازه ، والظاهر انّ هذه المسألة غير معنونة في كلماتهم ، ومنشأ النسبة فتاواهم في فروع عديدة بما توهم توقفها على التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، ومن جملتها الحكم بالضمان فيما إذا تنازع المالك وصاحب اليد ، فادعى المالك انّ يده على العين التالفة كانت يد ضمان وادعى صاحب اليد كونها يد أمان تمسكا بعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» إلى غير ذلك من الفروع ، ونتعرض لبعضها ونبين عدم توقفها على التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية.

وهكذا نسب ذلك إلى السيد بتخيل توقف جملة من الفروع المذكورة في العروة عليه. وليس الواقع كذلك ، كما صرح به في كتاب النكاح في مسألة ما إذا تردد أمر المرأة بين الأجنبية واحد محارمه ، وحكم فيها بحرمة النّظر لا من جهة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

وكيف ما كان أحسن تقريب يمكن ان يقال في الاستدلال على جواز ذلك هو : انّ تنجز كل حجية متوقف على وصولها صغرى وكبرى كلتيهما ، فلو وصلت

الصغرى وعلمنا خمرية مائع ولكن لم يصل إلينا حرمة شرب الخمر لا عن تقصير لا يكون منجزا. امّا الثاني فواضح ، وامّا الأول فلأنّ كل حكم مجعول على نحو القضية الحقيقية ينحل إلى أحكام عديدة بحسب ما له من الافراد ، فقولك «لا تكرم الفساق» ينحل إلى النهي عن إكرام هذا الفاسق وذاك الفاسق وهكذا ، والعلم بثبوت الحكم لجملة من الافراد أي المعلومة منها لا يستلزم ثبوته للفرد المشكوك فيه ، فالتحرك عن امر المولى أو الانزجار والتجنب بنهيه انما يكون بعد وصوله من كلتا الحيثيتين.

إذا عرفت هذه المقدمة يقال : بعد ما ورد العام وثبت ببركة الوضع استعماله في العموم وثبتت حجيته ومطابقته للمراد الجدي ببناء العقلاء فلا محالة يكون العام حجة حتى في الفرد المشكوك فيه ، وبعد ما ورد الخاصّ نرفع اليد عن حجية العام بالمقدار الّذي يكون الخاصّ حجة فيه لأقوائيته ، وقد عرفت انحصار حجيته بالافراد المتيقنة التي يكون الحكم بالإضافة إليها وأصلا صغرى وكبرى ، وليس حجة بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، فحجية العام بالقياس إليها محكمة ، إذ لا يجوز رفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى.

هذا ونقول : انّ حجية الخاصّ تكون من جهتين وحيثيتين ، والتقريب المتقدم ناشئ من اشتباه إحداهما بالأخرى. بيان ذلك : انه تارة : يراد بحجية الخاصّ كونه قاطعا للعذر ومصححا لاحتجاج المولى ، وهي من هذا الحيث متقومة بالوصول صغرى وكبرى ، فلو فرضنا وصول الكبرى الكلية أعنى بها قوله «لا تكرم الفساق» ولكن الصغرى لم تكن واصلة بان شك في كون زيد فاسقا لا محالة يتمسك بالبراءة العقلية والشرعية المتفق عليها في الشبهات الموضوعية حتى عند الأخباريين سوى المحدث الأسترآبادي ، فيكون معذورا في إكرامه ، وهذا بخلاف ما إذا أحرزت الصغرى أيضا وعلم بكون زيد فاسقا فانه يصح للمولى الاحتجاج

حينئذ إذا خالف العبد ، وليس له عذر.

وأخرى : يراد بحجيته كونه موجبا لسقوط العام عن الحجية وعدم كون العموم مرادا جديا للمتكلم ، وهذه الجهة غير متوقفة إلّا على وصول نفس الكبرى ، ففي المثال يستفاد من الخاصّ انّ المراد الجدي من كل عالم هو العالم غير الفاسق ، فتنحصر حجيته فيه ، فإذا شك في انطباق الفاسق على شخص لا محالة يشك في انطباق ما أريد من العام عليه أيضا ، ومعه كيف يصح التمسك به؟!

ثم انّ الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية مما لا يكاد يخفى ، فانّ إجمال المخصص هناك انما كان في مرحلة الجعل وكان المجهول مرددا بين الوسيع والضيق ، ولذا قلنا بتخصيص العام بالمقدار المتيقن من الخاصّ ، واما في الزائد فالعام حجة لعدم قيام حجة أخرى على خلافها.

وهذا بخلاف المقام الّذي لا إجمال للمخصص في مرحلة الجعل ، وانما الإجمال من حيث الانطباق ، إذ لا نشك في ما هو المراد من الفاسق في المخصص أصلا وانّ العام قد قيد إطلاقه وسريانه بغير الفاسق الواقعي فتأمل ، غايته نشك في انطباقه على فرد إذ من الواضح انّ الموضوع في القضايا الحقيقية ليس هو الافراد الخارجية ، وهكذا في القضايا الخارجية في أمثال المقام مثل قولك «أكرم جميع جيراني» بل كثيرا ما لا يعرف الحاكم الافراد ولا مقدارها أصلا ، فتأمل.

وبالجملة : الفرق بين الشبهة المفهومية في دوران امر المخصص بين الأقل والأكثر وبين الشبهة المصداقية فيما إذا كان للمخصص افراد متيقنة وافراد مشكوكة بحيث يظهر به الجواب عن استدلال القائل بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية هو : انّ الحجية تارة : تكون في مقام العمل ، وأخرى : في مقام الاستناد والإفتاء ، والأولى متقومة بوصول الحكم صغرى وكبرى ، فلو لم يحرز حرمة شرب الخمر أو خمرية المائع المعيّن لا تكون حرمته منجزة. وامّا الثانية فغير متوقفة على

وصول الصغرى أصلا ، فانّ الفقيه بعد ما وصل إليه المخصص يفتى على طبقه ، ويكون له حجة على ذلك بنحو القضية الحقيقية ولو لم يكن لما أفتى به صغرى في الخارج فضلا عن إحرازها مثلا بعد ما ورد قوله عليه‌السلام «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء» ووصل إليه هذا العام ثم شك لشبهة حكمية في انّ القليل أيضا لا ينفعل بملاقاة النجس أو ينفعل فوصل إليه قوله عليه‌السلام «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» بمجرد ذلك يفتى على طبقه ويكتب في الرسالة حكمين بنحو القضية الحقيقية ، أحدهما : انّ الماء القليل ينفعل ، والآخر : انّ الكثير لا ينفعل بعد ما تصور طبيعي الماء القليل والماء الكثير من دون توقف على وجود صغرى لهما في الخارج فضلا على إحرازها ، فتكون هناك قضيتان حقيقيتان ، فإذا شككنا لشبهة مصداقية في فرد ولم يحرز انه مصداق للقليل أو للكثير لا يمكننا إدخاله تحت إحداهما ، لأنّ نسبته إلى كل من القضيتين نسبة واحدة فتأمل.

فالعبرة في الحجية في مقام الإفتاء انما هي بوصول الكبرى ، وهي في موارد الشبهة المصداقية مجعولة وواصلة وانما الشك في انطباقها على الفرد المشكوك ، فلا بدّ من الإفتاء على طبقها. وهذا بخلاف موارد الشبهة المفهومية ، فانّ الكبرى بالإضافة إلى الزائد على المتيقن لم يعلم جعلها أصلا ، فتأمل. فالاستدلال المتقدم منشؤه الخلط بين الحجيتين كما عرفت.

وان شئت قلت : انّ التخصيص نتيجته الحكومة ، فبعد وروده يعلم انّ المراد من العام كان من الأول هو الحصة المقيدة بغير عنوان المخصص كعنوان العالم غير الفاسق في المثال ، ولا فرق بين التخصيص والحكومة إلّا من حيث انّ هذا المعنى مدلول مطابقي للحاكم ومدلول التزامي للمخصص ، فإذا شك في صدق الخاصّ على فرد لا محالة يشك في صدق العام المخصص عليه أيضا ، فكيف يمكن التمسك به.

«تذنيب»

تقدم التفصيل في بحث سراية إجمال المخصص إلى العام بين المتصل والمنفصل ، وقلنا : بالسراية في المنفصل أيضا إذا كان الأمر فيه مرددا بين متباينين ، وعدمها إذا دار الأمر بين الأقل والأكثر بالبيان المتقدم.

وربما يدور الأمر بين التخصيص والتخصص ، فهل يرجح الثاني على الأول أم لا؟ الظاهر هو الأول ، لعين ما تقدم ، فانّ العام حجة في جميع ما يمكن ان يفرض له من الافراد ، ولا يرفع اليد عنها إلّا بحجة أقوى ، وما يحتمل كونه مخصصا لإجماله لا يكون حجة ، مثلا لو قال «أكرم كل عالم» ثم قال امّا متصلا أو منفصلا «لا تكرم زيدا» وتردد بين كونه زيد العالم أو زيد البقال ، فبما انّ العام حجة بالقياس إليه ، والخاصّ مجمل وليس بحجة أصلا لا بدّ من الرجوع إلى أصالة العموم فيثبت التخصص.

وقد يتوهم انّ العلم الإجمالي بحرمة إكرام أحد الشخصين فيما إذا كان الخاصّ حكما إلزاميا منجز لحرمة إكرام كليهما ، فلا يمكن الرجوع إلى العموم.

والجواب عنه واضح لما بيانه في محله من انّ العلم الإجمالي بنفسه لا يكون منجزا ، بل هناك واسطة بينه وبين التنجيز وهي تعارض الأصول وتساقطها. وفي المقام لا تعارض بين الأصلين لاختلاف مرتبتهما ، فانّ الأصل الجاري في مصداق العام انما هو أصل لفظي وهو أصالة العموم ، وفي الآخر أصل عملي وهو البراءة ، ولا معارضة بينهما ، بل الأصل اللفظي بالالتزام يثبت انّ المراد من زيد انما هو زيد الجاهل دون العالم ولوازمه حجة.

ثم انه ربما يتمسك للتمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية بقاعدة المقتضي والمانع بدعوى : انّ عنوان العام كالعلم في مثالنا مقتضي لوجوب الإكرام ، وثبوت الضيق مانع عنه ، وحيث انّ تحققه في الفرد المشكوك فيه غير معلوم تجري فيه

قاعدة المقتضي ، ويبنى على عدم المانع.

وفيه : أولا ـ انّ هذه القاعدة لا دليل عليها على ما سنبينه في مبحث الاستصحاب، لا من الاخبار ولا من بناء العقلاء.

وثانيا ـ انه يمكن ان لا يكون عنوان المخصص مانعا ، بل كان شرطا كأن يقول : يشترط في إكرام العالم ان يكون عادلا ، فالقاعدة على تقدير تماميتها غير مطردة ، فتأمل.

بقي الكلام فيما نسب إلى المشهور من جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية. وقد ذكرنا انّ منشأ ذلك فتاواهم في موارد توهم عدم استقامتها إلّا على القول بذلك ، منها : ما حكموا به من ضمان صاحب اليد في العين التالفة فيما إذا اختلف مع المالك وادعى المالك انّ يده كان يد ضمان وادعى صاحب اليد انه لم يكن كذلك ، فتوهم انّ هذا انما يستقيم تمسكا بعموم «على اليد» مع انّ الشبهة مصداقية ، لأنه خرج عن عموم الأيادي الأمانية مثل الوديعة ونحوها.

وقد تنظر الميرزا قدس‌سره (١) في ذلك وذكر :

أولا : ما حاصله : انّ الضمان في المقام من موارد إحراز أحد جزئي الموضوع المركب بالوجدان وجزئه الآخر بالتعبد ، وذلك لأنّ الموضوع للضمان مركب من استيلاء على مال الغير ومن عدم طيب نفسه ورضاه ، وفي المقام الاستيلاء محرز بالوجدان ، وعدم رضاء المالك يستصحب ، فانه لم يكن طيب النّفس ثابتا قبل استيلائه على العين فيستصحب ، ولا بأس بذلك ، فانّ الموضوعات المركبة كما يمكن أن تكون جميع اجزائها محرزة بالوجدان ويمكن ان يكون جميع اجزائها محرزة بالتعبد يمكن ان يكون بعضها محرزا بالوجدان وبعضها بالتعبد.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٢.

وثانيا : انّ مورد النزاع في جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية انما هو في المخصص المنفصل ، وامّا في المخصص المتصل فلم يتوهم أحد ذلك ، والمخصص في المقام من قبيل المتصل ، لأنّ ظاهر الأخذ انما هو الاستيلاء على الشيء مع القهر والغلبة ، فلا يمكن التمسك فيه بالعموم أصلا.

وفيه : أولا : انّ ما ذكره أولا من استصحاب عدم طيب النّفس وان كان جاريا في بعض الموارد إلّا انه غير مطرد ، إذ ليس النزاع دائما في حصوله ، بل ربما يتفق اتفاقهما على حصول الرضا وطيب النّفس ، كما لو ادعى المالك انّ العين كانت قرضا وصاحب اليد ادعى انها كانت هبة ، أو ادعى المالك انها كانت مبيعا وصاحب اليد قال كانت هبة ، فانّ الضمان يعم الضمان بالمسمى أيضا ، وفي هذا الفرض لا معنى للتمسك بالاستصحاب.

وما أفاده ثانيا : من انّ ظاهر الأخذ هو الغلبة والاستيلاء قهرا وعدوانا فغير مسلّم.

ولكن الظاهر انّ عموم «على اليد» في نفسه غير شامل لموارد اليد الأمينة كالودعي ، خصوصا إذا كان محسنا أو الموهوب مجانا ونحو ذلك قطعا ، إذ لا يتوهم عاقل ثبوت الضمان في هذه الموارد.

والحاصل : ما أجاب به المحقق النائيني قدس‌سره عن ما توهمه جمع من ابتناء الحكم بالضمان في الفروع المتقدمة على التمسك بالعامّ في الشبهات المصداقية من انّ ذلك من باب إحراز أحد جزئي الموضوع بالوجدان والجزء الآخر باستصحاب عدم الرضا وان كان متينا في الجملة إلّا انّ استصحاب عدم الاذن والرضا لا يجري في جميع الفروض ، وذلك لأنّ عدم الضمان في موارد الاستيلاء على مال الغير انما يكون بأحد وجوه ثلاثة.

الأول : ان يكون بإجازة المالك ، فلو اختلفا في الفرض فادعى صاحب اليد

انّ العين كانت هبة مجانية أو انّ الخبز أباحه له المالك فأكله وادعى المالك انه غصبها عدوانا ، ففي هذا الفرض يمكن التمسك باستصحاب عدم الرضا وعدم ثبوت الإجازة المالكية.

الثاني : ان يكون الاستيلاء بإجازة الشارع كما في مجهول المالك أو مال الغائب أو اللقطة ، مثلا ادعى صاحب اليد انّ العين ضاعت منه وانه أخذها لأن يردها إليه والمالك ادعى انه سرقها منه ، وفي هذا الفرض أيضا يجري استصحاب عدم إجازة الشارع واذنه.

الثالث : ان يكون اختلافهم في التسليط المجاني وعدمه ، بان اتفقا على كون استيلائه على المال كان بإذن المالك وإجازته ولكن اختلفا فادعى المالك انه باعه إياه وادعى صاحب اليد انه وهبه له مجانا ، فانّ التسليط المجاني مما يوجب زوال احترام المال وعدم الضمان ، أو ادعى صاحب اليد انه أباح له التصرف فيه مجانا وادعى المالك انه كان قرضا عنده الّذي حقيقته نقل العين إلى الذّمّة ، وفي أمثال هذه الفروض لا مجال لما ذكره قدس‌سره من استصحاب عدم الاذن والرضا ، بل لا بدّ فيها من التمسك باستصحاب العدم الأزلي الّذي صححناه في محله ، فانّ التسليط المجاني مسبوق بالعدم الأزلي فيستصحب ، ويترتب عليه عدم الضمان ، لأنه متقوم بعدم كون التسليط مجانيا من دون حاجة إلى التمسك بعموم «على اليد» ليتوهم اختصاصه بالاستيلاء على ملك الغير لا ملك نفسه وان كان الشيخ قدس‌سره في المكاسب أجاب عن مثل هذه الشبهة في التمسك بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(١) ولا يكون استصحاب عدم التسليط المجاني معارضا باستصحاب طرفه كالبيع ونحوه ، إذ لا يترتب على استصحاب عدم البيع ثبوت الضمان إلّا على القول بالأصل المثبت.

__________________

(١) البقرة ـ ١٨٨.

والبحث عن جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية من المباحث الشريفة التي يترتب عليه فوائد مهمة في كتاب الطهارة وغيره.

التعويض عن العام باستصحاب العدم الأزلي

ثم يبقى الكلام في إمكان إدخال الفرد المشكوك تحت العام باستصحاب العدم الأزلي ، وهذا هو نتيجة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية وعدمه.

امّا لو كان المخصص عنوانا وجوديا للعام ، كما لو قال «أكرم كل عالم عادل» أو قال «أكرم كل عادل» ثم بالمنفصل قال «يشترط ان يكون العالم عادلا» فاستصحاب العدم الأزلي ينتج عكس ذلك ، أي دخول الفرد المشكوك في المخصص دون العام.

وامّا لو كان موجبا لتقييد العام بعنوان عدمي ، كما لو قال : «أكرم كل عالم إلّا فساقهم» بالاستثناء أو قال بالمنفصل «لا تكرم فساقهم» فهل يمكن حينئذ إدخال الفرد المشكوك تحت العام باستصحاب عدم تحقق عنوان المخصص فيه أم لا؟ والمثال المعروف لذلك عموم ما ورد من انّ المرأة تحيض إلى خمسين ، وخصص ذلك بالقريشية والنبطية وانها تحيض إلى ستين ، فلو شككنا في المرأة انها قرشية أم لا ، فهل يمكن إدخالها تحت العموم باستصحاب عدم انتسابها إلى قريش أزلا أم لا؟

ذهب الآخوند قدس‌سره (١) إلى جواز التمسك باستصحاب العدم الأزلي في الشبهة المصداقية وإدخال الفرد المشكوك تحت العام في المخصص المتصل إذا كان استثناء ، وفي المنفصل إذا كان بعنوان وجودي (١).

__________________

[١] فان الفرد المردد كان مصداقا للعام يقينا ويشك في اتصافه بعنوان المخصص والأصل عدمه صحيح.

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٦.

وأنكره المحقق النائيني قدس‌سره ببيان مقدمات (١).

الأولى : انّ المخصص وان كان منفصلا يوجب تعنون العام وتضييقه بغير عنوان الخاصّ ، فانه يستحيل بقاء العام على سعته وإطلاقه مع ثبوت المخصص لاستلزامه اجتماع الضدين ، غايته في المخصص المتصل لا ينعقد ظهور للعام أصلا إلّا في المقدار الضيق ، وامّا في المنفصل فالظهور الجدي يكون ضيقا على المختار ، وإطلاق الوجوب يتقيد على مسلكهقدس‌سره ، ولا يكون التخصيص بالمنفصل من قبيل موت بعض افراد العام وانعدامه كما توهم ، خصوصا فيما يكون من قبيل القضايا الحقيقية التي ليس فيها نظر إلى الافراد الخارجية وانما هي أحكام معلقة على موضوعاتها المقدر وجودها.

الثانية : انّ الموضوع المركب ان كان مركبا من جوهرين كوجود الابن والأم في الإرث مثلا يمكن إحراز ذلك باستصحاب وجود كل منهما بنحو مفاد كان التامة ان كان متيقنا ، ويجري فيه استصحاب عدمه بنحو مفاد ليس التامة ان كان مسبوقا به. وهكذا ان كان مركبا من عرضين في محلين كركوع الإمام وركوع المأموم في الائتمام ، أو في محل واحد ككرية الماء وإطلاقه في زوال النجاسة به ، أو علم زيد وعدالته ، أو كان مركبا من جوهر وعرض في محل آخر كموت المورث بناء على عدم كونه من الاعراض وإسلام المورث ، فالظاهر في جميع هذه الموارد عدم اعتبار اتصاف الجزءين ، فانّ اعتباره فيهما يحتاج إلى مئونة زائدة ومن ثم يمكن فيهما إجراء الاستصحاب بنحو مفاد كان أو ليس التامة إذا كان امرا عدميا.

وامّا ان كان الموضوع مركبا من العرض ومحله فبما انّ انقسام الموضوع إلى اتصافه به وعدمه من الانقسامات السابقة للموضوع ، فانّ الرّجل مثلا في نفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٦٥.

قابل الاتصاف بالعلم أو الجهل والفسق أو العدالة وهكذا لا بدّ وان يكون أخذ العرض فيه بنحو مفاد كان أو ليس الناقصة دون التامة ، فان كان الاتصاف له حالة سابقة يجري فيه الاستصحاب وإلّا فإثباته باستصحاب الوجود أو العدم المحمولي من أوضح أنحاء المثبت ، وذلك لأنه لو كان العرض المأخوذ فيه بنحو مفاد كان التامة ، فاما ان يكون المعروض حينئذ في المرتبة السابقة مطلقا بالإضافة إلى اتصافه بهذا العرض أو مقيدا بعدمه فيلزم التضاد لما عرفت من استحالة بقاء العام على سعته مع ثبوت المخصص لأنه مستلزم لاجتماع الضدين ، واما ان يكون المعروض مقيدا بالاتصاف به فيكون حينئذ اعتبار العرض بنحو مفاد كان التامة لغوا ، ولا يقاس هذا القسم بالأقسام المتقدمة.

الثالثة : انّ الوجود والعدم المحمولين لا يمكن اجتماعهما لاستلزامه اجتماع النقيضين ، ولا ارتفاعهما لاستلزامه ارتفاع النقيضين ، وامّا النعتان فاجتماعهما غير ممكن أيضا ، فلا يقال زيد عالم وزيد ليس بعالم إلّا مع تعدد الجهة ، واما ارتفاعهما فممكن بنحو القضية السالبة المحصلة فيما لم يكن المحل قابلا للاتصاف بذاك الوصف ولا يلزم منه ارتفاع النقيضين ، فانّ نقيض الاتصاف بالوجود ليس هو الاتصاف بالعدم وانما هو عدم الاتصاف ، فيصح ان يقال : الجدار ليس بعالم وليس بلا عالم بنحو القضية المحصلة لا معدولة المحمول من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فانّ القضية المعدولة المحمول لا بدّ فيها من وجود الموضوع ، كما لا بدّ منه في القضية الموجبة لثبوت النسبة في كلتيهما ، فلا يقال زيد لا عالم إلّا في فرض وجوده.

ثم رتب قدس‌سره على هذه المقدمات عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية وعدم إمكان إحراز الموضوع فيما نحن فيه بضم الوجدان إلى الأصل.

ونقول : أمّا ما أفاده في المقدمة الأولى فمتين جدا.

وامّا ما ذكره في الثانية في الموضوع المركب من جوهرين ، أو عرضين في

محلين أو محل واحد ، أو جوهر وعرض في محل آخر من كونهما مأخوذين محموليا لا نعتيا فيجوز التمسك باستصحاب الوجود أو العدم المحموليين وإحراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل فكذلك متين. وهكذا ما ذكره في القسم الخامس أي الموضوع المركب من جوهر وعرض في ذلك المحل من انّ ظاهره اعتبار الاتصاف دون مجرد اجتماع الأمرين في زمان واحد ، لا لما ذكره من سبق مرتبة الاتصاف وانقسام الموضوع إليه على أخذ الغرض في الموضوع ، فانّ أخذ الوصف في الموضوع فيه يغني عن أخذ الاتصاف على ما ستعرفه ، بل لأنّ العرض ليس له وجودان ، وانما له وجود واحد غايته وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه ، فالاختلاف بالاعتبار ، فلا فرق بين أخذ الاتصاف في الموضوع أو أخذ الوصف فيه ، ولا فرق بين ان يقال زيد متصف بالعدالة أو العدالة موجودة فيه ، فمؤداها واحد والاختلاف في التعبير. فاذن لو كان لوجود العرض في ذاك المحل حالة سابقة فلا محالة يكون للاتصاف حالة سابقة وهكذا العكس ، بل عرفت انّ كلا من الأمرين في الحقيقة يرجع إلى الآخر ، لما ذكرنا من انّ وجود العرض لنفسه عين وجوده لموضوعه وهذا واضح. وعلى هذا لا مجال لما أفاده من انّ الموضوع في المرتبة السابقة امّا ان يكون مقيدا بالاتصاف فأخذ الوصف حينئذ لغو ، أو مطلق بالإضافة إليه أو مقيد بعدمه ، فيلزم التناقض ، فانّ أخذ الوصف في المحل مغني عن أخذ الاتصاف فيه.

ولكن عمدة خلافنا مع المحقق المزبور الّذي عليه يدور جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية هو : انّ هذا انما يتم في ما إذا كان الموضوع مركبا من وجود العرض ومحله ، لا في الموضوع المركب من الجوهر وعدم الوصف فيه ، فانّ العرض وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه ، وليس عدمه كذلك ، فحال الموضوع المركب من الجوهر وعدم العرض حال بقية الأقسام المتقدمة التي يحتاج أخذ الاتصاف فيها إلى مئونة زائدة ، وظاهر أخذه في الموضوع أخذه محموليا بنحو مفاد ليس التامة ، لا

الناقصة. وعليه ففي المقام بعد ورود المخصص يكون الموضوع في العام بحسب المراد الجدي مركبا من عنوان العام وعدم كونه معنونا بالعنوان المأخوذ في الخاصّ ، فيجري فيه استصحاب العدم الأزلي كما في المرأة التي يحتمل كونها قرشية فيستصحب عدم انتسابها إلى قريش قبل وجودها.

وبالجملة : ما أفاده في المقدمة الأولى صحيح ، فانّ الخاصّ يوجب تعنون العام بغير عنوان الخاصّ سواء كان متصلا أو منفصلا وهكذا ما ذكره في المقدمة الثالثة من إمكان ارتفاع الوجود والعدم النعتيين لعدم التناقض بينهما ، فانّ نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض الاتصاف بالوجود عدمه لا الاتصاف بالعدم ، فيصح ان يقال : زيد قبل وجوده لا عالم ولا لا عالم ، وهذه قضية محصلة سالبة بانتفاء الموضوع التي مفادها نفي الاتصاف ، وامّا الموجبة المعدولة المحمول فبما انّ مفادها الاتصاف بالعدم فلا تصح إلّا بعدم وجود الموضوع ، وهذا واضح.

وانما الكلام في المقدمة الثانية التي أفادها ، فانّ الموضوع المركب من الجوهر وصفة وان كان ظاهره دخل الاتصاف فيه كما عرفت إلّا انه لا يتم فيما إذا أخذ عدم الوصف في الموضوع ، فانّ طبع أخذ العدم في شيء يقتضي ان يكون بنحو السالبة المحصلة أي عدما محموليا لا الموجبة المعدولة المحمول أي العدم النعتيّ كما هو الحال فيما إذا أخذ الموضوع مركبا من جوهرين أو من وجود جوهر وعدم الآخر ، فأخذ عدم الوصف في الموضوع ناعتيا يحتاج إلى مئونة زائدة ولحاظ ارتباطه بينه وبين الجزء الآخر ، وبدون ذلك لا يتحقق المقسم لانقسام الموضوع إلى الإطلاق أو التقييد بالقياس إلى الاتصاف بالعدم ، فلا مجال فيه لشيء مما ذكره المحقق المزبور في الموضوع المركب من الجوهر ووصفه ، فانه انما يتم بالإضافة إلى الأوصاف التي ينقسم الموضوع إلى الاتصاف بها وعدمه في طبعه ونفسه لا في ما يتوقف تحقق المقسم على اعتبار الشارع كما في المقام ، فانه لو لم يعتبر ذلك لا يبقى مجال للانقسام

ولا لإطلاق الموضوع بالقياس إليه وتقييده.

نعم بعد ما اعتبر ذلك وتحقق المقسم والانقسام يمكنه رفض تقيده بالاتصاف فيثبت الإطلاق ، كما يمكنه أخذه وجودا أو عدما ولو لا هذا لانسد جريان الاستصحاب في الموضوعات المركبة مطلقا حتى الأقسام الأربعة المتقدمة ، لجريان ما ذكره قدس‌سره من انقسام الموضوع من حيث الاتصاف مع جزئه الآخر وعدمه فيها إلى آخر ما أفاد ، وهذه هي النكتة الوحيدة في جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية ، وقد أطلنا الكلام في بيان ذلك في مبحث اللباس المشكوك.

وكيف كان على هذا يكون العدم المأخوذ في الموضوع المركب من الجوهر وعدم وصفه عدما محموليا بحسب طبعه من دون لزوم لغوية ولا اجتماع ضدين أو نقيضين. ففي المثال المعروف المرأة التي تحيض إلى خمسين هي المرأة التي لا تتصف بهذه الصفة ، وعدم اتصافها بها أزلي يشك في تبدله حين وجودها ، فيستصحب ، فيلتئم الموضوع من دون ان يكون هذا الاستصحاب مثبتا.

ثم انه قدس‌سره أشكل على الآخوند بإيراد لفظي وهو انه لما ذا استصحب عدم الانتساب؟ فانه لو كان جاريا يستصحب نفس عدم القرشية. وفيه ما لا يخفى ، فانّ القرشية ليس إلّا الانتساب إلى قريش فما كان يفهم من ياء النسبة صرح به الآخوند قدس‌سره.

ثم انّ من جملة أمثلة المقام ، المثال المعروف وهو اللباس المشكوك كونه من غير المأكول ، فانه يجوز الصلاة في كل شيء خرج عنه عنوان اجزاء ما لا يؤكل ، فإذا شك في لباس انه من المأكول أو غيره ، فهل يمكن إحراز عدم كونه من غير المأكول بالاستصحاب أم لا؟

فصل في ذلك بين ما إذا كان هذا الوصف معتبرا في المصلي كالطهارة ، أو معتبرا في نفس الصلاة كما هو ظاهر حديث أبي بكير ، أو شرطا للباس ، فعلى الأول

يجري استصحاب عدم كون المصلي لابسا لغير المأكول ، وعلى الثاني يجري استصحاب كون الصلاة في غير المأكول فيما إذا احتمل وقوع شيء من اجزائه عليه في أثناء الصلاة ولم يحتمله من أول شروعه فيها ، وعلى الثالث يجري فيما إذا كان الشك في اللباس طارئا لأجل التصاق شيء به غير نفسه كالدكمة والقيطان ونحو ذلك.

ونقول : امّا على المختار من جريان استصحاب العدم الأزلي فتصح الصلاة فيه على جميع الفروض والتقادير كما هو واضح. وامّا بناء على عدم جريانه وكون الشرط معتبرا في اللباس كما هو ظاهر الفقهاء ، ومن ثم تعرضوا له في مبحث لباس المصلي ، فهل يمكن تصحيح الصلاة فيه باستصحاب العدم النعتيّ أم لا؟

المختار هو الأول ، وذلك لأنّ الاستصحاب لا يختص جريانه بالاعراض الخارجية وجودا أو عدما ، بل يجري في الصور النوعية أيضا ، فلو شككنا في زوال الصورة النوعية عن شيء واتصافها بصورة نوعية أخرى نقول تلك المادة كانت متصفة بالصورة الأولية ونشك في زوال اتصافها بها فنستصحبه ، وكانت متصفة بعدم الاتصاف بالصورة الأخرى فنستصحبه ، مثلا إذا احتملنا تبدل الخمر بالخل نجري استصحاب اتصاف المادة بالصورة الخمرية وعدم الخلية. والظاهر انّ جريان هذا الاستصحاب مما لا إشكال فيه ، كما انه في مورد العلم الإجمالي باتصاف المادة بإحدى الصورتين من الخمرية والخلية لا يكون استصحاب عدم اتصافها بالصورة الخمرية معارضا باستصحاب عدم اتصافها بالخلية ، فانه لا يثبت خمريتها إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولا يترتب عليه أثر آخر فلا يجري أصلا.

وبعد وضوح الأمرين من جريان الاستصحاب في الصورة النوعية ، وعدم كون معارضا في مورد العلم الإجمالي في نظائر المثال ، نقول : في ما نحن فيه بما انّ جميع اجزاء الحيوان متبدّلة مما يأكله أو يشربه من الغذاء والشراب ، ولا وجه لما

ذكره بعض المتكلمين في دفع شبهة اتحاد الآكل والمأكول من انّ غذاء الإنسان لا ينقلب جزء منه ، وانما يوجد الله تعالى اجزائه من غير شيء ، فانه مخالف للبداهة وللاخبار والروايات ، فمهما شككنا في كون شيء جزء من غير المأكول نقطع بأنّ مادته حين كانت متصورة بالصورة الغذائية قبل ان تؤكل كانت متصفة بعدم كونها من غير المأكول فنستصحب اتصافها بعدم تلك الصورة ، وهو عدم نعتي كما هو واضح ، ولا يعارضه استصحاب اتصافها بعدم الصورة المأكولية ، إذ لا أثر له كما عرفت.

وبالجملة يمكن تصحيح الصلاة في اللباس المشكوك بوجوه ثلاثة :

استصحاب العدم الأزلي ، وان أنكرناه ، فاستصحاب عدم اتصاف المادة بالصورة النوعية غير المأكولة ، وان منعناه ، فاستصحاب عدم مانعية ذلك اللباس بالخصوص بمعنى عدم تقيد الصلاة بعدم لبسه ، وقد بينا في مبحث البراءة انّ مرجع الشك في تقيد المركب بشيء هو البراءة دون الاشتغال.

هذا كله في اللباس المشكوك.

التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا :

ثم انه ذهب جماعة إلى جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا ، بدعوى : انّ مرجع التخصيص بحكم العقل إلى القطع بعدم إرادة العموم من اللفظ ، فلو ورد «أكرم كل عالم» وعلمنا بقبح إيجاب إكرام من يعمل بالقياس كأبي حنيفة فنعلم بخروجه وخروج أمثاله عن العموم بذاك الملاك ، فكل فرد علمنا بخروجه عن العام يخرج ، وما لم نعلم بخروجه يكون داخلا تحت العام. وهذا بخلاف المخصص اللفظي ، فانّ فيه يكون هناك حجتين نسبة الفرد المشكوك إلى كل منهما على حد سواء.

وقد تنظر المحقق النائيني قدس‌سره في ذلك ، وحاصل ما ذكره هو انّ المخصص اللبي

تارة : يكون حكما عقليا بديهيا ، فيكون بمنزلة المخصص المتصل ، كما لو ورد في الدليل «أكرم كل عالم» فانا نقطع بعدم شموله للعالم بالرقص والموسيقى مثلا ، بل المراد منه علماء الدين أو الدنيا مما ينفع الناس ، فلا ينعقد للعام ظهور إلّا في ذلك ، فإذا شككنا في فرد انه عالم ديني أو عالم بالرقص لا ينبغي الريب في عدم جواز الرجوع فيه إلى العام.

وأخرى : يكون من قبيل المخصص المنفصل كالإجماع مثلا ، فلو فرضنا تحقق الإجماع وانعقاده على عدم وجوب إكرام شارب الخمر منهم فانّ ذلك يكشف عن انّ المراد الجدي من العام غير شارب الخمر ، فمع الشك في فرد لا يمكننا التمسك بالعموم. وكان قدس‌سره يعبر ويقول الميزان انما هو المنكشف لا الكاشف ، والمنكشف ليس إلّا وجوب إكرام العالم غير الشارب للخمر ، فلا يعم الفرد المشكوك ، فلا فرق بين المخصص اللبي واللفظي.

نعم استثنى قدس‌سره عن ذلك موردا واحدا وهو ما إذا كان الشك في الفرد المشكوك من جهة الشك في الملاك ، فانه إذا علمنا بعدم اشتمال فرد على الملاك نقطع بخروجه عن العموم لا محالة ، بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح اما في نفسها أو في متعلقاتها. وامّا لو شككنا في ذلك فبما انّ كشف الملاك من وظائف المولى لا يعقل ان يكون الموضوع مقيدا بثبوت الملاك فيه عند الشك في ثبوت الملاك للمكلف ان يمتنع عن امتثال تكليف المولى معتذرا بعدم إحرازه الملاك ، فلا محالة في المقام يتمسك بالعموم ونحرز ثبوت الملاك للفرد المشكوك بذلك.

هذا والظاهر عدم تمامية ذلك على إطلاقه ، بل لا بدّ من التفصيل ، فنقول : امّا في القضايا التي تكون من قبيل القضايا الحقيقية مما يكون تطبيق الموضوع فيها موكولا إلى المكلف فإذا علمنا بعدم ثبوت الملاك في فرد مع كونه فردا من الموضوع ، فلا بدّ وان يكون ذلك لثبوت مانع في ذاك الفرد ، فلا يخلو امّا ان يكون

ذلك المانع معينا عندنا ، أو يتردد بين امرين أو أكثر ، مثلا نفرض انّ المانع عن ملاك وجوب إكرام العالم في زيد العالم كونه شارب الخمر أو تارك الصلاة مثلا ، فلا يخلو امّا ان يكون المانع خصوص الأول ، أو كلا الأمرين ، أو أحدهما معينا أو مرددا ، أو نعلم في مانعية الأول ونحتمل مانعية الثاني أيضا ، وعلى أيّ ما هو مانع في زيد من اشتماله على الملاك يكون مانعا عنه إذا وجد في فرد آخر أيضا لتساوي الافراد من هذه الجهة ، فلا بدّ حينئذ من ان يكون الحكم العام مقيدا بعدم تحقق تلك الخصوصية وان لم يكن الموضوع مقيدا بالملاك كما أفاد.

فعلى الأولين يكون العموم وهو قوله «أكرم كل عالم» مقيدا بغير شارب الخمر ، أو بان لا يكون تارك الصلاة وشارب الخمر ، أو بان لا يكون متصفا بأحد الوصفين على الثالث ، وقد عرفت عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية سواء كان المخصص لفظيا أو غير لفظي ، وعلى الرابع يكون ذلك من قبيل المخصص المجمل ، وقد عرفت انّ إجماله يسري إلى العام ، وعلى الخامس يلحق بدوران المخصص بين الأقل والأكثر ، وذكرنا جواز الرجوع فيه إلى العموم فيرجع إليه في المقام أيضا. وبالجملة : فتجري في الفرض جميع الوجوه المذكورة في المخصص اللفظي وتفاصيلها.

وامّا فيما يكون من قبيل القضايا الخارجية ، فبما انّ تطبيق الموضوع فيها بيد المولى ولا بدّ له ان يطبق حكمه على ما فيه الملاك دون غيره ، ولو علمنا بعدم اشتمال فرد من افراد موضوع حكمه على الملاك لا محالة نحكم باشتباه المولى وغفلته عن ذلك فيما كان من الموالي العرفية ، أو بثبوت مانع عن إخراجه أو مصلحة في إدخاله في الموضوع. واما لو شككنا في ذلك فكما ذكر قدس‌سره لا يمكننا رفع اليد عن امتثال تكليف المولى بعدم إحراز ثبوت الملاك ، بل نحرزه من تعلق التكليف به ، ومن هذا القبيل (لعن الله بني أمية قاطبة).

وحاصل الكلام في المقام انّ شيخنا الأنصاري قدس‌سره ذهب إلى جواز التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية فيما إذا كان المخصص لبيا ، ولا يقاس ذلك بالمخصص اللفظي ، وذلك لأنّ فيه يكون هناك حجتان ، ونسبة الفرد المشتبه إلى كل منهما نسبة واحدة ، ولا ترجيح في البين ، وهذا بخلاف المقام فانّ المخصص اللبي انما هو بمنزلة القطع الخارجي ، فلا يرفع اليد عن العام الّذي كان حجة في الفرد المشتبه.

وقد فصل الميرزا قدس‌سره بما يظهر الجواب عنه بما نبينه من المختار. وليعلم انّ هذه المسألة مما يتفرع عليها ثمر فرعي لكثرة تخصيص العام بالإجماع والسيرة ونحوهما من الدليل اللبي وان لم يكن تخصيص العمومات بحكم العقل كثيرا.

فنقول : تارة يكون العام المخصص بالدليل اللبي من قبيل القضايا الحقيقية ، كما هو الغالب فيما هو محل ابتلائنا من الأحكام الفرعية ، وأخرى ، يكون من قبيل القضايا الخارجية.

اما ما كان من قبيل الأول ، فلا فرق فيه بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي أصلا ، وذلك لأنه بعد ما قطعنا بخروج فرد عن عموم العام وحكم به العقل فبما انّ حكم العقل لا يكون جزافا ، فلا بدّ وان نفتش عن أوصاف الفرد الخارج لنرى ما هو السبب والملاك في خروجه ، فان تمكنا من تعيينه فلا محالة يكون المراد الجدي من العام ما لم يكن فيه ذاك الوصف سواء كان وجوديا أو عدميا كما في المخصص اللفظي ، ومن الواضح عدم شموله للفرد المشتبه ، فلا يمكن التمسك فيه بالعموم. وان لم نتمكن من تعيينه ، فاما ان يتردد بين متباينين فلا محالة إجماله يسري إلى العام على ما عرفت في المخصص اللفظي ، فيكون العام مجملا ، واما يكون مرددا بين الأقل والأكثر كما لو فرضنا انا أحرزنا كون وصف شرب الخمر والنّظر إلى الأجنبية معا مانعا عن وجوب الإكرام لكن احتملنا كفاية كل منهما في المنع عن وجوب الإكرام فنتمسك بالعموم في الزائد على المتيقن كما عرفت في المخصص اللفظي. هذا كله في

القضايا الحقيقية.

وامّا إذا كان العام من قبيل القضايا الخارجية التي هي خارجة عن محل ابتلائنا ، ونتعرض له تتميما للبحث ، فان وكلّ المولى مع ذلك تطبيق الموضوع إلى العبد كما لو فرضنا انه ورد بلدة لا يعرف أهلها فقال لعبده : «أضف علماء البلد» فانّ ظاهره إيكال تطبيق الموضوع على ما في الخارج إلى العبد ، يجري فيه ما قدمناه في القضايا الحقيقية حرفا بحرف ، فإذا قطع بعدم وجوب ضيافة أحدهم لا بدّ من الفحص والتفتيش على ما تقدم. وان تكفل المولى التطبيق أيضا كما لو قال لعبده «بع جميع الكتب الموجودة في الغرفة الخاصة» فان كان المخصص حينئذ حكما عقليا ضروريا فهو بمنزلة المخصص المتصل الّذي لا ينعقد معه ظهور للعام أصلا ، فلا معنى فيه للرجوع إلى العام في الفرد المشتبه ، وان كان حكما عقليا نظريا الّذي هو كالمخصص المنفصل فيرجع في الزائد عن متيقن الخروج إلى عموم العام لا محالة ، لأنّ المولى هو الّذي طبق الموضوع على جميع الافراد ، ففيما قطعنا خروجه لا بدّ لنا من الحكم بأنّ المولى غفل عن إخراجه أو كانت مصلحة في إدخاله ان كان المولى حكيما ، وامّا الفرد المشكوك فنرفع الشبهة فيه بتطبيق المولى موضوع حكمه عليه ، ففي المثال المتقدم لو علمنا بأنّ الكتاب الخاصّ وقف والمولى لا يأمر ببيعه لا محالة نقطع بأنه غفل عن استثنائه أو كان هناك مفسدة فيه ، واما لو شككنا في فرد آخر في انه وقف أم لا فنتمسك بكلامه ونحكم بعدم وقفيته ، لأنه أعرف بكتبه ، إذ لو كان وقفا لما امر ببيعه ومن هذا القبيل قوله «لعن الله بني أمية قاطبة» فانا لم نعثر على أمرهم عليهم‌السلام بلعن بني أمية ليكون من قبيل القضايا الحقيقية ، فليس في البين إلا ما صدر منهم عليهم‌السلام من لعنهم قاطبة ، ونقطع من الخارج بعدم جواز لعن المؤمن ، فان كان هذا حكما ضروريا بمنزلة المخصص المتصل ، فلا محالة لا يجوز لنا لعن من نشك في إيمانه منهم ، إذ لا ظهور على هذا لقولهم عليهم‌السلام «لعن الله بني أمية قاطبة» إلّا في لعن

غير المؤمن منهم. واما لو لم يكن كذلك بل كان عدم جواز لعن المؤمن منهم حكما لبيا نظريا ، فمن تيقنا بإيمانه منهم لا يجوز لنا لعنه ، ومن شككنا في إيمانه يجوز لعنه لعموم قولهعليه‌السلام «لعن الله بني أمية قاطبة».

هذا ومحصل ما ذكر انّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره من الرجوع إلى العموم في المخصص اللبي انما يتم هذا الفرض لو كان الحكم اللبي من الأحكام النظرية. كما انّ ما أفاده الميرزا أيضا مورده خصوص هذا الفرض فيما إذا كان المخصص من الأحكام الضرورية.

هذا تمام الكلام في التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

الشك في شمول العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص

ثم انّ بعضهم ذهب إلى جواز التمسك بالعموم فيما إذا شك في شمول الحكم العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص ، كما إذا نذر الإتيان بشيء من العبادات كالوضوء أو الغسل بمائع مضاف كماء الورد مثلا وشك في شمول دليل الوفاء بالنذر له وعدمه فيتمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر ويثبت به تعلق الأمر المولوي بذاك الوضوء أو الغسل ، وبما انّ المولى لا يأمر بالفاسد فينكشف منه صحته ، وحيث لا فرق في صحة العمل بين تعلق النذر به وعدمه تستفاد صحة الوضوء أو الغسل بالماء المضاف مطلقا تعلق النذر به أم لم يتعلق.

ونقول : أولا لا بدّ لنا من تحليل هذه الكبرى ، أعني الشك في شمول الحكم العام لفرد وعدمه من غير جهة احتمال التخصيص ، فانّ الشك في ذلك لا يخلو امّا ان يكون بعد شمول الموضوع العام له بماله من القيود ، فلا بدّ وان يكون الشك من جهة التخصيص واحتمال كونه مصداقا للمخصص ، فيجري فيه ما تقدم. واما ان يكون

من جهة الشك في شمول الموضوع المأخوذ في العام بماله من القيود له في نفسه ، فالشك في ذلك من غير جهة احتمال التخصيص منحصر بالثاني.

وعليه فان كان منشأ الشك في ثبوت الحكم لفرد أخذ أمر وجودي في موضوع العام يشك في ثبوته للفرد المشكوك فتكون الشبهة مصداقية مع اتصال المخصص ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم اتفاقا ، وان كان منشؤه أخذ أمر عدمي بمعنى إخراج بعض الافراد عن العموم الّذي هو من قبيل المخصص المنفصل وشك في ثبوت الحكم العام لفرد لاحتمال كونه منها ، فيلحقه حكم التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية في فرض انفصال المخصص وقد عرفت انّ المختار عدم جوازه.

فهذه الكبرى فسادها ظاهر بعد التحليل. نعم لو بنينا على جواز الرجوع إلى العموم في أمثال المقام. فبما أنّ أصالة العموم من الأصول اللفظية يثبت بها لوازمها ، فلو أمكن الرجوع إلى عموم دليل وجوب الوفاء بالنذر في المثال لثبت به صحة الوضوء أو الغسل التي هي من لوازمه.

هذا كله في الكبرى.

وامّا الصغرى والمثال المذكور فتفصيل الكلام فيها انّ الأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للعناوين الثانويّة تارة : يكون الموضوع فيها مقيدا بالرجحان أو بالجواز ، امّا بنفس ذاك الدليل ، أو بدليل منفصل آخر كما في دليل وجوب الوفاء بالنذر أو الشرط ، أو استحباب إجابة المؤمن ، أو الوالد أو الزوج لما ورد من أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، أو قولهعليه‌السلام «المؤمنون عند شروطهم إلّا ما أحل حراما أو حرم حلالا» وأمثال ذلك.

وأخرى : لا يكون الحكم الثابت للعنوان الثانوي مقيدا بشيء من ذلك أصلا.

امّا على الأول فإذا شككنا في شمول عموم الحكم الثابت بالعنوان الثانوي لمورد للشك في جوازه وحرمته ، كما لو أمر الوالد بشرب التتن ، وشككنا في إباحته ،

فان كان هناك أصل عملي يثبت به جوازه كما لو فرض الشبهة بدوية بعد الفحص فلا محالة يدخل المشكوك في موضوع دليل الحكم الثابت للعنوان الثانوي ويعمه حكمه ، وان لم يكن في البين أصل عملي كما لو فرضنا الشبهة في أطراف العلم الإجمالي ، نظير ما إذا امر مؤمن بشرب أحد المائعين المعلوم نجاسة أحدهما ، أو كانت حكمية قبل الفحص ، فلا يجوز التمسك بعموم ذاك الدليل أصلا ، لأنّ الدليل لا يتكفل إثبات موضوعه ، بل هو من التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية الّذي تقدم الكلام فيه ، خصوصا في أمثال المقام الّذي يكون المخصص فيه عنوانا وجوديا قد اعتبر في العام الّذي يكون بحكم المخصص المتصل والمثال من هذا القبيل.

وامّا على الثاني فتارة : يكون الحكم الثابت للشيء بعنوانه الأولي بنظر العرف في مقام الجمع حكما طبيعيا لموضوعه ، أي ثابتا له في طبعه وقد ذكرنا في مبحث اللباس المشكوك انّ المراد مما لا يؤكل لحمه المعتبر في اللباس هو ما يحرم أكله في نفسه وطبعه ، ولا يعم ما إذا فقد الحرمة لعارض ، فيثبت حينئذ الحكم الثابت له بالعنوان الثانوي ، إذ لا منافاة بينهما مثلا ثبتت إباحة أكل لحم الغنم في نفسه ، فإذا فرضنا انه كان مضرا بالنفس أو مستلزما لإفطار صوم يوم واجب صومه فبما انّ العرف في مقام الجمع بين الحكمين لا يرى معارضة بينهما ، بل يحكم بأنّ الإباحة حكم طبعي للّحم ، والحرمة حكم ثابت له بعنوان الإضرار أو الإفطار ، فيتقدم الحكم الثانوي.

واما لو كان كلا الحكمين فعليا كما هو ظاهر في موارد الأحكام الإلزامية فلا محالة يقع التنافي بينهما ، وقد ذهب الآخوند قدس‌سره إلى إدخال ذلك في باب التزاحم وتقديم أقوى الملاكين من ملاك الوجوب والحرمة. ولكنه مخدوش من وجهين :

الأول : انه يعتبر في المتزاحمين تمامية الحكمين من حيث مقام الجعل وإمكان جعلهما معا ، غايته انّ المكلف لا يقدر على امتثالهما فيقدم الأقوى ملاكا ، وفي المقام

تعلق حكمين بشيء واحد ولو بعنوانين مستحيل جعلا ، لأنه مستلزم لاجتماع الضدين ، فنعلم بعدم ثبوت جعل أحدهما لا محالة ، وهذا معنى التعارض ، فلا بدّ من علاجه ، فان كان بينهما جمع دلالي بان كان أحد الدليلين أخص مطلقا من الآخر يتقدم عليه ، وإلّا فيتساقطان ويرجع إلى أصل آخر.

الثاني : انه لو سلمنا ذلك والحق المقام بباب التزاحم فنقول : وجوب تقديم الأقوى ملاكا بإطلاقه غير صحيح ، وذلك لأنّ المقدار الزائد من الملاك الثابت في الأقوى إن كان ملزما يجب الترجيح ، وإلّا فيستحب ذلك.

بقي الكلام في الفرعين المذكورين في المقام من نذر الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر ، وانه كيف يصح ذلك بالنذر مع انه يعتبر الرجحان في متعلق النذر ، ولا رجحان في شيء منهما على ما صرح به في الاخبار ، وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة :

الأول ـ احتمال ان يكون كل من الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر مشتملا على مصلحة ، غاية الأمر هناك مانع عن امر المولى به ، وبالنذر يرتفع المانع.

وفيه : أولا ـ انه خلاف ظاهر الأدلة.

وثانيا ـ لازمه صحة الإتيان بكل منهما بدون النذر أيضا لاشتماله على المصلحة ، وعدم الأمر به لمانع لا يوجب فساده ، ولا يلتزم بذلك.

الثاني ـ انّ الرجحان المعتبر في متعلق النذر انما هو رجحانه في ظرف العمل لا في زمان النذر ، ولذا ينعقد من الحائض نذر صوم يوم بعد انقضاء حيضها ، وهو حاصل في المقام ولو بالنذر.

وقد ذكر ذلك السيد في العروة. وأورد عليه الميرزا قدس‌سره في حاشيته بما حاصله : انّ الرجحان الناشئ من قبل النذر لو كان كافيا لزمه صحة تعلق النذر بالمحرمات

أيضا ، فانها تكون راجحة بالنذر.

والظاهر انّ إيراده غير وارد ، وذلك لأنّ مراد السيد قدس‌سره وغيره من الرجحان في ظرف العمل ليس الرجحان الناشئ من قبل النذر ، بل المراد به الرجحان الثابت ولو بعد النذر غايته انّ ثبوته يحتاج إلى دليل ، وقد يكون الدليل عليه نفس ما دل على صحة النذر إذا تعلق به كما في المقام ، فإشكاله قدس‌سره على السيد غير وارد.

إلّا انّ ما ذكر خلاف ظواهر الأدلة.

الثالث ـ وهو الصحيح ، الالتزام بالتخصيص وانّ الرجحان معتبر في متعلق النذر إلّا في الموردين ولا بأس بذلك.

التمسك بالعامّ لإثبات التخصص

ثم انه قد تكرر منا انّ الأصول اللفظية حجة في مثبتاتها ، وعليه فإذا ورد عام وورد خاص أيضا وشككنا في كونه مخصصا له مثلا ورد «أكرم علماء البلد» وقال «لا تكرم زيدا» وتردد بين زيد العالم والجاهل ، فيتمسك بأصالة العموم في وجوب إكرام زيد العالم ، ولازمه ثبوت الحرمة لإكرام زيد الجاهل. ونظير هذا ما إذا قامت البينة على طهارة أحد الإناءين معينا المعلوم نجاسة أحدهما ، فانه يثبت به نجاسة الإناء الآخر ، وهذا واضح.

وامّا إذا علمنا حكم فرد وانه خارج عن حكم العام ولكن شككنا في انّ خروجه بنحو يوجب التخصيص في العام ، أو بنحو التخصص ، مثلا لو علمنا بأنّ زيدا يحرم إكرامه ولكن شككنا في انه عالم يحرم إكرامه ليكون تخصيصا في دليل إكرام العلماء ، أو انه جاهل يحرم إكرامه ليكون تخصصا ، فهل يمكن في مثل ذلك التمسك بأصالة العموم والحكم بجهله ليترتب عليه آثاره لو كان له آثار أم لا؟

ومثاله الفقهي ماء الاستنجاء ، فانه لا يتنجس قطعا للأدلة الخاصة ، ولكن يشك في انه متنجس لا ينجس ليكون ذلك تخصيصا لعموم انّ كل منجس يتنجس ، أو انه طاهر ولا ينجس ليكون تخصصا فيترتب عليه لوازم الطهارة من جواز الشرب ونحوه.

الظاهر عدم إمكان إثبات التخصص في المقام بأصالة العموم ، لا من جهة أنّ الأصول اللفظية لا تثبت مثبتاتها ، بل لعدم جريان أصالة العموم وعدم حجيتها في أمثال المقام ، فانّ دليل حجيتها ليس إلّا بناء العقلاء ، وبنائهم في الرجوع إليها انما هو فيما إذا شك في ثبوت الحكم العام لفرد وعدمه لا فيما إذا علمنا بخروج فرد عنه وتردد خروجه بين كونه بنحو التخصيص أو التخصص ، فلم يثبت حجية أصالة العموم في المقام ليترتب على ذلك آثار التخصص ولوازمه امّا بعكس النقيض أو بغيره.

التمسك بالعامّ قبل الفحص

وقع الكلام في جواز التمسك بالعامّ قبل الفحص. وهذا النوع غير مختص بالعمومات ، بل يجري في مطلق التمسك بالظهورات عند احتمال وجود قرينة على إرادة خلاف الظاهر منها ، ولذا يتعرض له في مبحث حجية الظواهر أيضا وهو جار في بحث المطلق والمقيد ونظائره. وقد ذكروا انه كما لا يجوز التمسك بالأصول العملية قبل الفحص كذلك لا يجوز التمسك بالأصول اللفظية قبل ذلك.

وهل هناك فرق بين الفحص في الموردين أم لا؟ ذهب صاحب الكفاية (١) إلى الأول ، وانّ الفحص في المقام فحص عن المانع والمزاحم الأقوى فانّ العام حجة في العموم وانما يفحص عن الحجة الأقوى المزاحمة له ، وامّا الفحص في التمسك بالأصول العملية فانما هو عن المقتضى ، فانّ العقلية منها وهي قبح العقاب بلا بيان موضوعها متقوم بالفحص ، وقبله لا موضوع له أصلا ، واما الشرعية منها كحديث الرفع فموضوعه في نفسه وان كان مطلقا غير مقيد بالفحص ولكنه مقيد به بالإجماع ، أو بالأخبار كقوله في بعضها «هلّا تعلمت» فيكون الفحص في مطلق الأصول العملية فحصا عن المقتضي والموضوع بخلاف المقام.

وقد أورد على ذلك بعدم الفرق بين الموردين ، وحاصل ما قيل : انّ بناء العقلاء والسيرة الثابتة على العمل بأصالة العموم ونحوها ان لم يكن مقيدة بالفحص فيجب العمل بالعموم قبل الفحص أيضا ، لأنه حجة ببناء العقلاء ما لم تثبت حجة أقوى على خلافها. وان كانت مقيدة به ففي الحقيقة يكون الفحص عن الموضوع

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٤.

والمقتضي كما في الفحص في الأصول العملية.

هذا والصحيح : عدم تمامية كل من القولين على إطلاقه ، وتماميتها في الجملة ، وذلك لأنّ منشأ لزوم الفحص ان كان هو العلم بأنّ المتكلم يعتمد في بيان مراداته على القرائن المنفصلة ، امّا لتصريحه بذلك وامّا للقطع الخارجي ، فالحق مع المستشكل لعدم ثبوت بناء من العقلاء على الرجوع إلى أصالة الظهور في مثل ذلك إلّا بعد الفحص ، فالفحص حينئذ يكون عن المقتضى.

وامّا ان كان منشؤه العلم الإجمالي بورود مخصصات وقرائن على إرادة خلاف الظاهر وكان العام الّذي نريد العمل به من أطرافه ، فالحق فيه مع المحقق الخراسانيّ ، لأنّ العام حينئذ مورد لأصالة العموم في نفسه ببناء العقلاء إلّا انّ العلم الإجمالي الموجود مانع عنها ، فالفحص بما يوجب انحلاله يكون فحصا عن المانع ، ونظيره ثابت في بعض موارد الرجوع إلى الأصل العملي أيضا كما في موارد العلم الإجمالي بحرمة أحد المائعين ، فانّ جريان أصالة الإباحة في كل منها مشروط بالفحص الموجب لانحلال العلم الإجمالي الّذي هو فحص عن المانع. فكل من الكلامين المتقدمين تام في مورد دون آخر ، والحق هو التفصيل.

وكيف كان فقد استدل على وجوب الفحص عن المخصص بوجوه :

الوجه الأول ـ انّ العمل بالعامّ انما هو من باب الظن بالمراد ، وهو لا يحصل إلّا بعد الفحص ، وهكذا الحال في كل ظاهر احتمل وجود قرينة منفصلة على إرادة خلافه.

وفيه : انه ممنوع صغرى وكبرى. امّا صغرى ، فلأنّ العام كغيره من الظهورات بنفسه موجب للظن النوعيّ بالمراد كما هو واضح. وامّا كبرى ، فلأنّ الوجه في العمل بالظواهر انما هو بناء العقلاء لا من باب افادته للظن بالمراد.

الوجه الثاني ـ انّ غالب العمومات تكون من قبيل الخطابات الشفاهية

وهي لا تعم الغائبين والمعدومين ، فإثبات مفادها لهم لا بدّ وان يكون بما دلّ على الاشتراك في التكليف من إجماع ونحوه ومؤداه انما هو ما يطمئن ثبوته للحاضرين ، ولا يحصل الاطمئنان بثبوت مؤدى العام لهم إلّا بعد الفحص.

وفيه : أولا ـ انّ دعوى كون أغلب العمومات من قبيل خطاب المشافهة المختص بالحاضرين مما لا شاهد عليها.

وثانيا ـ انّ حصول الاطمئنان بثبوت العموم بعد الفحص ممنوع بعد احتمال وجود مخصص لم نعثر عليه كما هو ظاهر ، فعلى ذلك لا يفرق بين ما قبل الفحص وبعده.

الوجه الثالث ـ العلم الإجمالي بورود مخصصات على جملة من العمومات الواردة في الكتاب والسنة ، وكما انّ العلم الإجمالي يمنع جريان الأصول العملية في الأطراف يمنع جريان الأصول اللفظية أيضا.

وفيه : انّ لازم هذا الاستدلال بهذا المقدار هو عدم جواز التمسك بالعمومات مطلقا ، وذلك لأنّ أطراف العلم الإجمالي على ما هو ظاهر المستدل انما هو جميع كتب الاخبار من المعتبرة وغيرها ، بل ومن كتب العامة أيضا بل الكتب الفقهية أيضا ، إذ يحتمل وجود مخصص مذكور فيها لم يذكر في الكتب المعدة لنقل الروايات ، ومن الظاهر انّ وقت الإنسان بأجمعه لا يسع الفحص عنها.

فلا بدّ وان يقال : انّ هذا العلم الإجمالي الكبير منحل بعلم إجمالي آخر صغير ، وهو العلم بصدور مخصصات من الأئمة عليهم‌السلام مذكورة في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، وانّ المعلوم بالإجمال فيها يكون بمقدار المعلوم بالتفصيل من حيث العدد ، مثلا المتيقن من المخصص الصادر للعمومات نفرضه خمسمائة فنعلم إجمالا بثبوت خمسمائة مخصص في الكتب المعتبرة ، فبهذا ينحل العلم الإجمالي بصدور مخصصات في ضمن جميع ما في كتب الروايات وغيرها من الكتب الفقهية كما هو الميزان في

الانحلال.

وقد أورد في الكفاية على هذا الاستدلال بأنه أخص من المدعى ، وذلك لأنّ هذا العلم الإجمالي انما يوجب الفحص عن المخصص إلى ان ينحل بالظفر على المقدار المعلوم بالتفصيل ، كما في بقية موارد العلم الإجمالي بما هو مردد بين الأقل والأكثر ، ففي الفرض المتقدم إذا فحصنا مقدارا من الكتب المعتبرة حتى ظفرنا على خمسمائة مخصص وخصصنا بها العمومات ، فليس لنا بعد ذلك علم إجمالي بالمخصص ، بل ينحل ويكون احتمال وجود المخصص في غير ذلك شكا بدويا يدفع بالأصل ، مع انّ المدّعى هو وجوب الفحص عن المخصص مطلقا.

وأورد عليه المحقق النائيني (١) قدس‌سره بما حاصله : انّ الانحلال بالظفر على المتيقن في موارد العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر انما يتم فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال معنونا بعنوان آخر غير عنوان العدد بل كان متمحضا في العدد ، واما إذا كان له عنوانان ، فانحلاله من حيث أحدهما لا يوجب انحلاله من الحيثية الأخرى ، وقد مثل لذلك بما إذا علم إجمالا بأنه مديون لزيد بمقدار مردد بين عشرة دنانير أو أكثر ولكنه عالم أيضا بأنّ مقدار دينه مسطور في الدفتر ، فحينئذ له علم إجمالي بعنوانين ، أحدهما عنوان العدد المردد بين الأقل والأكثر ، وثانيهما : بعنوان المسطور في الدفتر ، فانحلاله من حيث العدد لكونه من الشك في الأقل والأكثر لا يستلزم انحلاله من حيث العلم بكونه مديونا لزيد بمقدار مسطور في الدفتر وهل يمكن القول في مثل ذلك بأنه إذا رجع إلى دفتره وفحص إلى ان عثر بالمقدار المتيقن لا يجب عليه الفحص بعد ذلك ويرجع إلى أصالة البراءة ، فانه واضح الفساد. والمقام من هذا القبيل ، فانّ المعلوم بالإجمال وان كان مرددا بين الأقل والأكثر من حيث العدد إلّا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٥.

انه معنون بعنوان آخر ، وهو كونه مسطورا في الكتب المعتبرة.

هذا ونقول : ما أفاده انما يتم فيما إذا لم يكن المعلوم بالإجمال بالعنوان الآخر أيضا مرددا بين الأقل والأكثر ، كما إذا علمنا بنجاسة إناء زيد واشتبه بين إناءات ثم علمنا بوقوع قطرة من الدم في أحدها ، فانا نعلم حينئذ بنجاسة أحدها لكن بعنوانين ، فإذا فرضنا انا علمنا تفصيلا بعد ذلك بأنّ قطرة الدم وقعت في أحدها بخصوصه ، فانحلال العلم الإجمالي بذلك العنوان لا يوجب انحلاله بعنوانه الآخر أعني بعنوان انّ أحدها إناء زيد كما هو واضح ، وامّا لو كان المعلوم إجمالا بالعنوان الآخر أيضا مرددا بين الأقل والأكثر كما لو فرضنا في المثال انّ إناء زيد المعلوم نجاسته أيضا مردد بين الواحد والأكثر ، فينحل العلم الإجمالي حينئذ بكلا عنوانيه إلى معلوم تفصيلي ، وهو المتيقن والمشكوك البدوي.

وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ المعلوم بالإجمال من المخصصات الصادرة بعنوان كونها مذكورة في الكتب المعتبرة مردد بين الأقل والأكثر ، فينحل لا محالة بالظفر على المقدار المتيقن ، فيخصص به العمومات. واما احتمال وجود مخصص زائدا على ذلك فهو شك بدوي يدفع بالأصل ، فما أشكل به المحقق الخراسانيّ قدس‌سره متين جدا.

وامّا المثال المذكور في كلامه قدس‌سره ، فالعلم الإجمالي بالدين المردد بين الأقل والأكثر ينحل لا محالة بعد الظفر بالمقدار المتيقن ، امّا المقدار الزائد عليه فان كان ثبوته أو ثبوت بعضه مطمئنا به كما لو فرضنا انه ظفر على المقدار المتيقن بعد ما فحص حساباته في الدفتر إلى شهر شعبان مثلا ولكنه يطمئن بأنه استدان من هذا الشخص في شهر رمضان أيضا ، فاطمئنانه يمنع من الرجوع في ذلك إلى الأصل العملي. واما في غير ذلك مما يظن به أو يحتمله فلا مانع من الرجوع إلى الأصل العملي إلّا ما يمنع من الرجوع إليه في موارد احتمال الاستطاعة ، أو بلوغ المال حد

النصاب ، أو زيادة الربح على مئونة السنة وأمثال ذلك مما لا يحرز عادة إلّا بالفحص ، فان من لم يرزق مالا كثيرا ولم يربح ربحا فاحشا لا يمكنه إحراز استطاعته في سنته الأولى إلّا بالفحص ، وهكذا إحراز الأمرين الآخرين ، ففي مثل هذه الموارد يستقل العقل بوجوب الفحص ولا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل ذلك ، وهذا أجنبي عن العلم الإجمالي كما هو ظاهر.

والّذي يشهد لما ذكرناه من انحلال العلم الإجمالي في المثال هو : انه لو فرضنا انّ الدفتر المشتمل على الحساب ضاع يجوز له الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد ، ولا يجب عليه الاحتياط ، مع انه لو لم يكن العلم الإجمالي منحلا لوجب الاحتياط.

الوجه الرابع ـ ما ذكره الميرزا (١) قدس‌سره مبنيا على مختاره من انّ التمسك بالعموم يبتني على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، وحاصله : انّ من مقدمات الحكمة كون المولى في مقام بيان تمام مراده ، فلو فرضنا انّ المتكلم يعتمد على قرائن ومقيدات منفصلة لعدم تمكنه من إبراز جميع مقاصده كما كان هذا دأب أهل البيت عليهم‌السلام وحالهم على ما يظهر من مراجعة تاريخهم وحالاتهم ، فلا يمكننا إحراز أول مقدمة من مقدمات الإطلاق إلّا بعد الفحص ، وامّا قبله فلا يتحقق الإطلاق للمدخول لينعقد العموم للعام.

وفيه : أولا ـ انّ أداة العموم كما عرفت بنفسها متكفلة لبيان الإطلاق وعدم دخل قيد زائد في المدخول ، فهي بيان العدم والإطلاق الثابت بمقدماته ليس إلّا عدم البيان.

وثانيا ـ لو سلمنا توقف العموم والسريان على إجراء مقدمات الحكمة في المدخول فمن الظاهر انّ الظهور الإطلاقي ينعقد للفظ حتى لو كان معرضا للتقييد

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٧.

وكان المتكلم متكلا على القرائن المنفصلة غالبا كما هو ثابت ببناء العقلاء من باب تبعية مقام الإثبات لثبوت ، وظهور المقيد فيما بعد لا يكشف عن عدم انعقاد الظهور للمطلق من الأول ، وانما يكون تقديمه على المطلق من باب تقديم أقوى الظهورين كما سنبينه في المبحث الآتي. مع انّ ما ذكره قدس‌سره من انّ إجمال المخصص المنفصل لا يسري إلى العام لا يتم إلّا على ما بيناه ، مثلا لو ورد «أكرم كل عالم» وورد في دليل منفصل «لا تكرم فساقهم» وكان الفاسق مجملا من حيث شموله لمرتكب الصغيرة ، فذهب قدس‌سره إلى انّ العام حجة في ذلك ، فلو فرضنا انّ ظهور العام في العموم لا ينعقد إلّا بعد الفحص والعثور على المخصص يكشف عن عدم انعقاد الظهور للعام من الأول ، فكيف يمكننا التمسك به لإثبات وجوب إكرام العالم المرتكب للصغيرة.

فهذا الوجه أيضا غير تام.

الوجه الخامس : مما يستدل به على وجوب الفحص عن المخصص ما ذكروه في وجوب الفحص عن الأحكام الإلزامية في موارد الرجوع إلى البراءة ، وحاصله : انّ الرجوع إلى الأصل العملي قبل الفحص بما انه يكون معرضا لاندراس الأحكام أو جملة منها غير جائز ، لأنّ ديدن الشارع في الأحكام وبيانها والموالي العرفية في تبليغ قوانينهم ليس بإيصالها إليهم بالجبر والقهر ، وانما هو بيانها في معرض تمكن المكلف من الوصول إليها بالفحص ، فإذا لم يفحص يفوته ذلك عادة ولا يكون معذورا في جهله ، لأنّ العقل في مثله يستقل بلزوم الفحص والروايات تطابقه كقوله عليه‌السلام «يقال للعبد يوم القيامة هلّا تعلمت» وهذا الحكم العقلي والروايات المؤيدة له يقيد إطلاق دليل البراءة كحديث الرفع.

ونظير هذا البيان يجري في المقام أيضا ، فانه إذا أحرزنا انّ ديدن المتكلم انما هو على الاتكال على القرائن المنفصلة لتقية أو نحوها من المصالح أو المفاسد ، وانه لا يوصلها إلى المكلفين بالقهر والجبر وانما يجعلها في معرض الوصول إذا فحص العبد

عنها ، فمن الرجوع إلى الأصول اللفظية كأصالة العموم فيما نحن فيه قبل الفحص يلزم اندراس الأحكام خصوصا فيما إذا كان المخصص المحتمل إلزاميا ، فذلك الحكم العقلي بلزوم الفحص عن تلك القرائن المنفصلة ثابت ، كما انّ الروايات أيضا شاملة له ، فلا محالة ليس قبل الفحص بناء من العقلاء على حجية أصالة الظهور من عموم وغيره.

والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم بعد اشتراكهما في التوقف على المقدمة المذكورة انّ المدعى هناك كان عدم تحقق الظهور للعام في العموم ، وما ندعيه هنا انّ الظهور للعام في العموم منعقد ، وتقديم المخصص المنفصل عليه انما هو من باب تقديم أقوى الظهورين إلّا انه ليس بحجة قبل الفحص ، لعدم بناء من العقلاء على حجيته.

وبهذا الوجه يتم وجوب الفحص عن المخصص وغيره من قرائن إرادة خلاف الظاهر.

ثم يقع الكلام في مقدار الفحص. ذكر في الكفاية (١) انه على هذا لا بدّ وان يفحص حتى يخرج العام عن مرضية التخصيص.

ونقول : ما معنى خروجه عن المعرضية؟ فانّ معنى معرضيته لذلك هو كون ديدن الحاكم على الاتكال على القرائن المنفصلة ، ومن الواضح انّ الفحص عن المخصص العام حتى بعد القطع الوجداني بعدمه لا يوجب تبدل ديدن الحاكم وكونه متكلا على القرائن المنفصلة غالبا ، ولا نفهم معنى صحيحا لما أفاده إلّا ان يرجع إلى ما سنذكره.

والحاصل انّ محتملات المسألة ثلاثة :

الأول ـ ان يفحص إلى ان يحصل له القطع الوجداني بالعدم ، واعتبار ذلك يوجب عدم جواز العمل بالعمومات ، وذلك لأنّ حصول القطع بعدم المخصص

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٣.

مشكل جدا حتى بعد تبويب الاخبار فضلا عما قبل.

الثاني ـ ان يحصل له الظن ، ولا عبرة به بعد ان ورد انه لا يغني من الحق شيئا.

الثالث ـ ان يحصل له الاطمئنان بالعدم ، وهذا هو الصحيح ، إذ به يخرج العام عن كونه معرضا للتخصيص بمعنى كونه في مظان ورود المخصص عليه.

ثم لا يخفى انّ ما بيانه من وجوب الفحص عن المخصص بتفصيله ، وما ذكرناه في مقداره يجري في الفحص عن المعارض أيضا بالقياس إلى حجية السند ، فانه بعد ما كانت الرواية معرضا لورود المعارض له وعرفنا انّ ديدن الحاكم على ذكر المعارضات لتقية أو لمصالح أخر يستقل العقل بلزوم الفحص عنها كما تؤيده الاخبار أيضا ، فيكون ذلك مقيدا لأدلة حجية السند بما بعد الفحص عن المعارض.

اختصاص الخطاب بالمشافهين وعدمه

فصل : وقع الكلام في انّ الخطابات الشفاهية تعم الغائبين والمعدومين أم لا؟ وتظهر ثمرة هذا البحث بناء على ما ذهب إليه المحقق القمي من اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه بضميمة عدم كوننا مقصودين بالإفهام إذا لم تشملنا الخطابات ، فانه عليه يكون ظواهر الخطابات الشفاهية حجة لنا بناء على شمولها للغائبين والمعدومين ، وليست حجة بالإضافة إلينا بناء على عدمه. فلا بدّ حينئذ في إثبات مؤدياتها في حقنا من التمسك بما دل على الاشتراك في التكليف ، وهو لا يجري إلّا في فرض اتحاد في الصنف ، فإذا احتملنا الاختلاف لا يجري ذلك ، مثلا في قوله عزّ شأنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا (١) نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ)(١) نتمسك بإطلاقه ونثبت الحكم بوجوب صلاة الجمعة علينا لو قلنا بشمول الخطاب للمعدومين ، وإلّا فليس ظاهر الآية حجة بالقياس إلينا لنتمسك به ، وحيث انّ الحاضرين كانوا واجدين لخصوصية وهي كونهم في زمان الحضور ونحن نفقدها نحتمل دخلها في الحكم ، فلا تجري فيه قاعدة الاشتراك في التكليف أيضا لاختلاف الصنف ، فليس لنا دليل على وجوب صلاة الجمعة في حقنا. هذا على مسلك الميرزا القمي من عدم حجية الظواهر لغير المقصودين بالإفهام.

وتظهر الثمرة أيضا على المسلك الآخر الّذي سنبينه من حجية الظواهر حتى لمن لم يقصد افهامه في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه ، وذلك لأنه لو كانت الخطابات مختصة بالمشافهين الحاضرين ولم يكن غيرهم مقصودا بالإفهام منها فبما

__________________

(١) الجمعة ـ ٩.

انّ جميعهم في أمثال الآية الشريفة كانوا واجدين للقيد الّذي يحتمل دخله في الحكم لأنّ جميعهم كانوا في عصر الحضور فلا ملزم للمولى ان يقيد حكمه ، ولو كان مراده الواقعي مقيدا فلو لم يبين القيد لا يكون مخلا بمقصوده ، فمن عدم بيان القيد لا يستكشف إطلاق مراده الواقعي ، فلا ينعقد لكلامه إطلاق من تلك الجهة ، لعدم تمامية مقدماته.

ونظير ذلك في العرف لو كان حكمه مقيدا بالهاشميين واقعا وحيث انّ جميع المخاطبين الموجه إليهم الحكم هاشميون فيخاطبهم بقوله «افعلوا كذا» من دون تقييد ، بل يكون ذكر القيد في مثله لغوا.

وبالجملة : فعلى القول بعدم شمول الخطاب للمعدومين لا ينعقد له إطلاق لنتمسك به ، ولو قلنا بحجية الظواهر لغير المقصودين بالإفهام أيضا ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بشموله للمعدومين ، فانه حينئذ لا يجري البيان المتقدم ، لأنّ من المقصودين بالإفهام حينئذ من يكون واجدا لذاك القيد المحتمل دخله في الحكم كالكون في عصر الحضور في المثال فلا بدّ للمولى من بيان القيد وذكره لو كان مراده واقعا مقيدا ، فإذا لم يبين نتمسك بإطلاق كلامه لا محالة ، وننفي احتمال دخله في الحكم.

ومما يؤيد ثبوت الثمرة حتى على القول بعدم اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام انّ هذا البحث كان من الأبحاث القديمة ومتداولا بين العلماء السابقين على الميرزا القمي ، فانهم كانوا يبحثون فيه ، ويجعلون ثمرته صحة التمسك بظاهر الخطابات وعدمها. فهذه المسألة مسألة أصولية مهمة ولا وجه لنفي الثمرة عنها كما في الكفاية.

ثم انّ صاحب الكفاية (١) جعل البحث في مراحل ثلاثة ، بعضها عقلية

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٥٥.

وبعضها لفظية ، وذكر انّ فيه جهات :

الأولى ـ ان يبحث في انّ تكليف الغائبين والمعدومين ممكن عقلا أو مستحيل ، وهذا بحث عقلي.

الثانية ـ ان يبحث في إمكان توجيه الخطاب إلى الغائبين والمعدومين واستحالته ، وهذا أيضا بحث عقلي.

الثالثة ـ ان يبحث في أداة الخطاب وانها موضوعة بنحو يعم الغائبين والمعدومين أم لا؟ وقد جعل الميرزا (١) البحث في مرحلتين.

ولكن الصحيح : ان يجعل البحث في مرحلة واحدة ، إذ لا ينبغي النزاع في الأخريين أصلا ، بيان ذلك : انه لا ينبغي الإشكال في صحة تعلق التكليف بالمعدومين بعد ما بيناه في محله من انّ الحكم ليس إلّا اعتبار شيء على ذمة المكلف ، فكما يمكن تعلق الاعتبار بشيء معدوم يمكن الاعتبار لشيء معدوم كما نرى ذلك في باب الوصية والوقف على البطون اللاحقة ، ونرى ذلك في القوانين العرفية والدولية ، ومن ثمّ لم يستشكل أحد في ثبوت الأحكام المبينة بغير الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، وانها مجعولة بنحو القضايا الحقيقية. نعم فعلية الحكم منوط بفعلية موضوعه فهذه المرحلة مما لا نزاع فيها.

وامّا المرحلة الثانية وهي إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين واستحالته فكذلك ، لأنه ان أريد من الخطاب معناه الحقيقي أعني توجيه الكلام إلى الغير بداعي التفهيم والتفهم ، فهو مستحيل بالإضافة إلى غير الملتفت الشاعر من النائم والمغمى عليه ونحوه فضلا عن الغائب والمعدوم ، وان أريد به الخطاب الإنشائي أي توجيه الكلام لا بداعي التفهيم والإفادة بل بدواعي أخر ، فهو ممكن بالإضافة إلى الجماد

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٨٩.

والنبات والمعدوم والغائب أيضا كما في جملة من الإشعار وغيرها في جميع اللغات. فهذه أيضا مما لا ينبغي النزاع فيها.

انما البحث في المرحلة الثالثة ، وانّ أداة الخطاب هل هي موضوعة للخطاب الحقيقي ليستحيل شمولها للمعدومين والغائبين أو هي موضوعة للخطاب الإنشائي ليعم الغائبين والمعدومين أيضا؟ والظاهر هو الثاني ، وذلك لأنا لا نرى أي مسامحة في الخطابات المتوجهة إلى الجمادات ونحوها ، بل يصح قول الشاعر أيا جبلي نعمان ... إلخ. بلا عناية كالخطاب الموجه إلى الشاعر الملتفت فتأمل وهكذا نظائره من النثر والشعر ، فأداة الخطاب موضوعة للخطاب الإنشائي أعني به إبراز الخطاب وإنشائه ، ومع التنزل على ذلك وتسليم كونها موضوعة للخطاب الحقيقي فالخطابات الشفاهية الواردة في الكتاب ليست كذلك قطعا لعدم اختصاص مؤدياتها من الأحكام بخصوص الحاضرين مجلس التخاطب ، بل تعم غيرهم من الموجودين في ذلك الزمان يقينا ، فلا محالة يعمهم الخطاب أيضا ولو استلزم كون الاستعمال مجازيا.

ثم انّ هذا كله مبني على امر غير ثابت وهو ان تكون الخطابات الواردة في الكتاب المجيد مما أنشأه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله جل شأنه ليكون الخطاب خطابا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوجها إلى الحضار ، ولكن الثابت خلاف ذلك وانّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انما يحكي القرآن ويتلو ما نزل عليه من الله تعالى قبل ذلك كتلاوتنا إياه ، وإليه يشير قوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)(١) فليس هناك حضار لمجلس التخاطب ليختص بهم الخطاب دون غيرهم ، فلا بدّ وان تحمل الخطابات الواردة في القرآن على الخطاب الإنشائي بداعي تفهيم البشر ، نظير ما يقع من هذا القبيل في تأليف المؤلفين. هذا في الخطابات الشفاهية الواردة في القرآن.

__________________

(١) طه ـ ١١٤.

وامّا الاخبار المتكفلة للأحكام فلم نعثر فيها على خطاب شفاهي بعنوان يا أيّها الناس أو يا أيها الّذي آمنوا ونحو ذلك أصلا ليقع البحث عنها. وبالجملة فهذا النزاع مما ليس له صغرى أصلا.

تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض مدلوله :

فصل : إذا ورد لفظ عام وتعقبه ضمير في حكم آخر أو قضية أخرى يرجع إلى بعض افراد العام ، ودار الأمر بين الالتزام بالاستخدام وان يراد به بعض ما أريد بمرجعه حين التكلم به الّذي هو خلاف الظاهر فانّ الضمير بمنزلة الإشارة إلى لفظ بما له من المعنى ، فإذا أراد المتكلم منه حين تكلمه به معنى فالظاهر انّ ذاك المعنى هو المراد أيضا في إرجاع الضمير إليه ، وغيره خلاف الظاهر ، غاية الأمر انّ الاستخدام له مراتب ، إذ قد يكون الاستخدام بإرادة امر مباين مما أريد من المرجع أولا ، وقد يكون بإرادة بعض ما أريد منه ولكن كله خلاف الظاهر ، وبين الالتزام بالتخصيص وان المراد الواقعي من العام انما هو الخاصّ من أول الأمر؟ ومثل لذلك بقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ)(١).

وقد وقع الخلاف في ذلك ، وذهب بعض إلى الاستخدام تمسكا بأصالة العموم كما هو ظاهر الميرزا (٢) قدس‌سره ، وذهب بعض إلى التوقف وانّ الكلام حينئذ يكون من المحتف بما يصلح للقرينية ، فلا يتمسك بأصالة العموم ولا بأصالة عدم الاستخدام كما في الكفاية (٣) ، وبعض التزم بالتخصيص تحفظا على أصالة عدم الاستخدام وهو الأظهر.

وقد ذكر لعدم جريان أصالة عدم الاستخدام وجهان.

__________________

(١) البقرة ـ ٢٢٨.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٤٩٢.

(٣) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٢.

أحدهما : ما ذكره الميرزا قدس‌سره وليس بمهم.

وثانيهما : انّ الأصول اللفظية الثابتة ببناء العقلاء التي يعملون بها في مكالماتهم ، ويحتج بها بعضهم على بعض انما تجري فيما إذا كان الشك في المراد ، بان كان اللفظ موضوعا لمعنى أو ظاهرا فيه واحتمل إرادة خلافه تعويلا على قرينة ، فيتمسك حينئذ بأصالة الظهور ، وأصالة عدم القرينة ، أو أصالة الحقيقة ، ومرجع الجميع إلى شيء واحد ، فيحكم بأنّ المتكلم أراد الظاهر دون غيره. وامّا إذا كان المراد معلوما وشك في كيفية الإرادة ، فلم يثبت من العقلاء بناء على التمسك بتلك الأصول أصلا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ ما أريد من الضمير وهو بعض افراد العام معلوم ويشك في كيفية إرادته ، وانه بنحو الاستخدام الّذي هو خلاف ظاهر السياق أو بغيره ، فلا مجال لجريان أصالة عدم الاستخدام.

هذا كله في بيان المنع عن جريان أصالة عدم الاستخدام ومن هنا ينشعب القولان ، أي ما ذهب إليه الميرزا قدس‌سره وما ذكر في الكفاية ، فانّ القائل بالإجمال وسقوط أصالة العموم أيضا يرى بعد سقوط أصالة عدم الاستخدام انّ العام المتعقب بهذا الضمير يكون من الكلام المحتف بما يصلح للقرينة ، لصلاحية ذيله لذلك ، فلا تجري فيه أصالة العموم ، فيتساقطان معا ، وغاية الأمر سقوط أصالة عدم الاستخدام يكون من باب عدم المقتضي ، وسقوط أصالة العموم يكون لوجود المانع. والمحقق النائيني يدعى انّ العام كلام مستقل مشتمل على حكم كذلك ، وليس الذيل صالحا لصرفه عن ظاهره ، فتجري فيه أصالة العموم ، فكل من القولين مبني على المنع عن جريان أصالة عدم الاستخدام.

والجواب عن المنع هو انه لو كان التمسك بأصالة عدم الاستخدام لتعيين كيفية الإرادة وانّ ما أريد من الضمير وهو البعض كان بنحو الاستخدام أو بغيره لتم ما ذكر ، إلّا انّ الأمر ليس كذلك ، فانّ مرادنا من أصالة عدم الاستخدام هو انّ الظهور

السياقي يقتضي ان يكون المراد من الضمير عين ما أريد من مرجعه أولا لا غيره ، وهذا الظهور السياقي بمنزلة القرينة بالإضافة إلى المرجع المذكور سابقا ، ولذا نرى انّ هذا الظهور السياقي يتقدم على الوضع وأصالة الحقيقة فضلا عن غيره ، ومن ثم لو قال أحد «رأيت أسدا وعاملت معه» لا يشك أحد في انّ المراد من لفظ الأسد من الأول هو الرّجل الشجاع ، ولا يتمسك فيه بأصالة الحقيقة أصلا إلى غير ذلك من الأمثلة. وعلى هذا إذا جرت أصالة عدم الاستخدام وثبت هذا الظهور القوي نعين به أصل المراد من اللفظ العام ، فتأمل ، وانه أريد به الخاصّ من الأول ، فيرتفع به الشك في المراد.

فظهر انّ أصالة عدم الاستخدام جارية في المقام ، ولأقوائيتها تتقدم على أصالة العموم ، ويحكم في مثل المقام بالتخصيص وانّ المراد الجدي من لفظ العموم كان هو الخاصّ لا العام.

هذا كله في كبرى المسألة.

وامّا الآية المباركة فالظاهر عدم كونها من صغريات هذه الكبرى ، وذلك لأنه ليس في نفس الآية المباركة قرينة لا حالية ولا مقالية على انّ المراد من الضمير في قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(١) خصوص المطلقات الرجعية ، فلو كنا نحن والآية لحكمنا بأنّ ذلك حكم لجميع المطلقات ، فالمراد من الضمير العموم ، فهو بمنزلة تكرار المطلقات غاية الأمر قد خصص ذلك بمخصص منفصل من الاخبار ، وهو لا يوجب المجازية على ما عرفت ، فالآية الشريفة أجنبية عن الاستخدام بالكلية.

__________________

(١) البقرة ـ ٢٢٨.

تخصيص العام بالمفهوم

فصل : ذكر في الكفاية (١) انه لا خلاف في تخصيص العام بمفهوم الموافقة. وفي تخصيصه بالمفهوم المخالف خلاف ، ثم بين قدس‌سره كبرى كلية لا ترجع إلى محصل وهي : انه لو كان كل من عموم العام والمفهوم مستفادا من مقدمات الإطلاق فلا ينعقد لهما ظهور في المخصص المتصل ، ولو كان بالوضع فلا يستقر لهما ظهور ، وهكذا في المخصص المنفصل إلى آخر ما أفاد.

والتحقيق : انّ المفهوم ينقسم إلى موافق ومخالف ، والموافق ينقسم إلى قسمين : الأولوية القطعية والمساواة. والأولية أيضا على نحوين :

أحدهما : ان يكون ذلك مفهوم عرفيا من نفس اللفظ يعرفه كل عارف باللغة كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(٢) فانه يستفاد منه كل واحد حرمة الشتم والضرب والقتل أيضا بالأولوية القطعية ويعرف انّ ذكر كلمة «أف» انما هو من جهة كونه أدنى مرتبة التضجر.

وثانيهما : ان يحتاج استفادته إلى ضم مقدمة عقلية إليه ، كما لو قال المولى «سب الإمام موجب للكفر» فانه بعد علم من الخارج انّ ذلك انما هو لحرمة الإمام وليس لكونه بشرا مخلوقا يفهم منه حرمة سبه تعالى بالأولوية ، ولا بدّ فيه من كون المقدمة العقلية قطعية ، وإلّا فيكون استحسانا وليس بحجة.

وامّا المساواة ، وهي الملازمة بين ثبوت الحكم لموضوع وثبوته لموضوع آخر ، أي القطع بثبوت الحكم لموضوع على تقدير ثبوته لمورد آخر فهي أيضا على

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٣.

(٢) الإسراء ـ ٢٣.

قسمين.

الأول : ان يكون منصوص العلّة قد ذكرت العلة في دليل الحكم ، كما لو قيل للمريض «لا تأكل الرمان لأنه حامض» فيفهم منه حرمة أكل كل حامض ولو من غير الرمان ، وهذا معنى ما يقال : من انّ العلّة تكون معمما ومخصصا.

وللمحقق النائيني قدس‌سره في المقام كلام تعرض له في بحث اللباس المشكوك مفصلا وأصله : انّ العلّة التي تفيد المفهوم هي التي تكون كبرى كلية قابلة الانطباق على مصاديقها بحيث يتشكل منها بعد ضم صغراها قياس بنحو الشكل الأول ، كما في قولك «لا تشرب الخمر فانه مسكر» فيتشكل منه الشكل الأول ويقال : «هذا مسكر ، وكل مسكر يحرم شربه» كما في قولك «العالم متغير وكل متغير حادث» وهذا نظير ما ذكره الشيخ الرئيس في تعريف حد الوسط من انه «ما يصلح اقترانه بلام العلّة بان يقال العالم حادث لأنه متغير» وامّا لو لم تكن العلة المنصوصة كبرى كذلك فلا محالة يكون حكمه للحكم لا يتعدى بها إلى موضوع آخر ، كما لو قيل «لا تشرب الخمر لإسكاره» إذ من المحتمل ان يكون لعنوان الموضوع أعني الخمرية خصوصية في الحكم. ورتب على هذا فروعا ، منها : تخصيص ما ورد في كثير الشك في عدد الركعات وعدم الاعتناء به ، لأنه من الشيطان ، فإذا لم يعتن به يذهب بمورده وعدم التعدي عنه إلى غير ذلك.

وفيه : انا لا نرى فارقا بين القسمين ، فانّ احتمال الخصوصية موجود على كلا التقديرين ، والظهور العرفي في عدمه أيضا ثابت في كلا الفرضين ، ومن ثم انّ الفقهاء اتفقوا على حرمة كل مسكر تمسكا بما ورد في قوله عليه‌السلام «انّ الله لم يحرم الخمر لاسمه ، وانما حرمه لإسكاره» مع انّ العلّة ليست كبرى كلية على ما ذكره قدس‌سره. نعم قد لا يستفاد المفهوم والتعميم من العلّة القريبة كما لو قال : «أعطني هذا الرمان لكبره أو لأنه كبير» فلا يستفاد منه مطلوبية كل شيء كبير ، إلّا انه لا ربط له بكون العلّة كبرى

كلية وعدمه أصلا ، ولذا لا ينعقد الظهور في المفهوم حتى إذا كانت كبرى كلية كما في المثال.

الثاني : ان يحرز العلّة من الخارج. وهذا نادر جدا ، إذ ليس لنا في الغالب طريق للقطع بملاك الحكم وعلّته ، ومن الواضح اعتبار القطع به في هذا القسم دون الظن ، فانه قياس لا نعمل به ، كما كان ذلك استحسانا في الفرض الثاني من الأولوية.

إذا عرفت مفهوم الموافقة بأقسامه يقع الكلام في موردين :

المورد الأول : في مفهوم الموافقة ربما يقال بتقدمه على العموم ، بدعوى انّ العام قابل لأن يتصرف فيه حتى على القول بكون التخصيص مجازا ، بخلاف المفهوم فانّ التصرف في نفسه بلا تصرف في المنطوق مستحيل ، لأنه من اللوازم العقلية للمنطوق امّا بالمساواة وامّا بالأولوية غير منفك عنه ، وإلّا لما ثبت المفهوم أصلا ، فالتصرف فيه مع بقاء المنطوق على حاله خلف. واما التصرف في المنطوق فلا وجه له بعد عدم كونه معارضا للعام ، فالتصرف فيه مقتضى ، ولعله لهذا ذكر انّ تخصيص العام بمفهوم الموافقة مما اتفقوا عليه.

وفيه : انّ وجود الملزوم كما انه يستلزم وجود اللازم سواء كان لازما مساويا أو أعمّ كذلك عدم اللازم يستلزم انتفاء ملزومه على التقديرين وهو واضح ، مثلا إذا كان الأربعة ملزوما للزوجية يلزم من وجودها وجود الزوج ، فمن انتفاء الزوجية يلزم انتفاء الأربعة لا محالة ، وعلى هذا يبتني القياس الاستثنائي في البراهين المنطقية ، فانه بعد إثبات الملازمة فيها بين المقدم والتالي ينفى التالي فينفى المقدم ، فيقال : «ان كان هذا إنسانا فهو ضاحك بالقوة ، لكنه ليس بضاحك ، فليس بإنسان» ولو لم يكن انتفاء اللازم مستلزما لعدم الملزوم لما انتج القياس الاستثنائي.

وعلى هذا فإذا فرضنا وقوع المعارضة بين المفهوم والعام وتقديم العام على

المفهوم ، فانتفاؤه مستلزم لانتفاء ملزومه وهو الحكم المذكور في المنطوق لا محالة ، من دون حاجة إلى تصرف آخر في نفس المنطوق ، وهذا نظير ما إذا قامت البينة على ثبوت أحد المتلازمين ، أو على انتفائه ، فانها تثبت اللازم الآخر أو تنفيه من دون حاجة إلى قيام بينة أخرى على ذلك.

وان شئت فقل : انّ المعارضة حقيقة تكون بين العام والمنطوق في لازمه ، فالتصرف فيه ليس بلا مقتضى ، كما انّ التصرف في المفهوم بما انه بنفسه تصرف في المنطوق لا يكون مستحيلا ، وعليه فإذا وقع التعارض بين العام ومفهوم الموافقة فان كان المفهوم أخص مطلقا من العام يخصصه ، وان كان بينهما عموم من وجه يتقدم الأظهر منهما على الآخر فيما إذا كان أحد الظهورين بالوضع والآخر بالإطلاق أو كان أحدهما أقوى من جهة أخرى ، وإلّا فلا بدّ من الرجوع إلى مرجحات المعارضة ، أو القول بالتساقط والرجوع إلى إطلاق أو عموم فوقاني ، أو إلى الأصول العملية على ما بين في محله.

المورد الثاني : في تخصيص العام بالمفهوم المخالف. إذا تحققت المعارضة بين العام ومفهوم المخالفة ، هل يتقدم العموم على المفهوم ، أو ينعكس الأمر ، أو يفصل كما في الكفاية (١) بين ما إذا كان العموم بالوضع والمفهوم من مقدمات الحكمة فيتقدم العام ، وإذا انعكس الأمر ينعكس ، وان كان كلاهما بالإطلاق فلا ينعقد الظهور لشيء منهما إذا كانا في كلام واحد ، وان كانا معا بالوضع أو كانا في كلامين فلا يستقر لهما ظهور؟ وجوه.

والصحيح : انّ المفهوم إذا كان أخص مطلقا من العام يتقدم عليه مطلقا ، سواء كان العموم بالوضع وقلنا : بأنّ تخصيص العام مجازا ، أو كان بالإطلاق ، سواء قلنا :

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٣.

بأنّ المفهوم مستند إلى الوضع أو إلى الإطلاق ، أو كان مستفادا من الوضع ومقدمات الحكمة معا كما هو المختار ، فانه متوقف على امرين ، أحدهما : رجوع القيد إلى الحكم وهو مستند إلى الوضع ، ثانيهما : عدم العدل للشرط وهو مستفاد من جريان مقدمات الإطلاق ، وذلك لأنّ ترجيح أحد الظهورين على الآخر انما يكون فيما إذا تحققت المعارضة بينهما ، فيتقدم الأقوى منهما ظهورا على غيره.

وامّا إذا لم يكن بينهما تعارض بنظر العرف ، بل كان أحدهما قرينة على الآخر بالفهم العرفي ، فيتقدم القرينة ولو كان ظهورها في نفسه مع قطع النّظر عن كونه قرينة من أدنى الظهورات ومستفادا من الإطلاق على ظهور ذي القرينة ولو كان بالوضع ومن أقوى الظهورات في نفسه ، ومن ثمّ لم يتوهم احتمال تقدم ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس على ظهور الرمي في رمي النبل في قولك «رأيت أسدا يرمي» بعد ظهور كلمة يرمي في القرينية ، لكونها فضلة في الكلام.

وفيما نحن فيه بما انّ المفهوم على الفرض يكون خاصا ، لا محالة يكون قرينة على العام عرفا ، والشاهد على ذلك انه لو صرح بوجوب إكرام العالم مطلقا وقال : «يجب إكرام العالم أيّ عالم كان» ثم قال «لا تكرم زيد العالم» ووقعت المعارضة بين الحكمين بالعموم المطلق فيتقدم الثاني على الأول مع صراحته في الوجوب لعدم كونه بصيغة الأمر وكون الخاصّ ظاهرا في الحرمة ، إذ يحتمل حمل النهي فيه على بيان الفرد المرجوح ، ولا يتوهم عاقل من أهل العرف خلاف ذلك ، وعليه فيتقدم المفهوم فيما نحن فيه على تقدير تحققه وثبوته ولو كان في أدنى مراتب الحجية على العام ولو كان أقوى ظهورا في العموم ، فإذا كانا في كلام واحد لا ينعقد للعام ظهور أصلا ، وإذا كانا في كلامين لا يستقر له ظهور تصديقي على ما مر الكلام فيه.

ولهذا البحث ثمر مهم في الفقه لكثرة موارد المعارضة بين المفهوم والعموم في

الاخبار ، من جملتها قوله عليه‌السلام «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» (١) مفهومه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجسه شيء في الجملة ، وهو أخص من عمومات عدم انفعال الماء كقوله عليه‌السلام «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو ريحه» وفي بعض الاخبار «أو لونه» ولما ذكرناه لم يستشكل ظاهرا أحد من الفقهاء في تقديم المفهوم في هذه الروايات على تلك العمومات والإطلاقات.

وبالجملة : الخاصّ بمدلوله ولو كان معارضا مع العام إلّا انه بحجيته يكون حاكما عليه ، بمعنى انّ جريان أصالة الظهور والحجية الثابتة ببناء العقلاء في الخاصّ يمنع جريانها في العام لحكومتها عليها كما هو الشأن في كل قرينة وذي القرينة.

وبهذا ظهر عدم الفرق بين ما إذا كان المفهوم متصلا بالعامّ أو كان في كلام منفصل إلّا فيما بيناه كما وضح الحال أيضا فيما إذا كان المفهوم بمدلوله حاكما على العام ، كما في مفهوم آية النبإ وهي قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)(٢) بناء على ثبوت المفهوم لها وهو حجية خبر العادل وعدم لزوم التبين عنه ، فانّ في المقام آيات وروايات مانعة عن العمل بغير العلم ، وإطلاقها يعم العمل بخبر العادل إذا لم يفد العلم ، كما انّ التعليل المذكور في الآية وهو قوله «ان لا تصيبوا» ظاهر في عدم جواز العمل إذا كان جهالة ولم يكن عن علم ورشد ، وإطلاقه يعم العمل بخبر العادل فيما لا يفيد العلم ، ولكن المفهوم على فرض ثبوته في نفسه يكون حاكما على الإطلاقين أي معدما ونافيا لموضوعهما الّذي هو أحد أنحاء الحكومة ، فانها لو ثبت للآية مفهوم يكون العمل بقول العادل علما تعبدا وخارجا عن موضوع ما دل على حرمة العمل بغير العلم فيتقدم المفهوم على الإطلاقات بلا شبهة ، وبيان ذلك : انّ العام والمطلق لا يثبت موضوع نفسه وانما هو حكم مجعول

__________________

(١) الاستبصار ـ ج ٢ ـ ص ٦.

(٢) الحجرات ـ ٦.

على الموضوع المفروض وجوده ، بنحو القضية الحقيقية ، فثبوت العموم أو الإطلاق مبني على عدم ثبوت المفهوم ، وامّا المفهوم فغير متوقف على عدم العموم وإلّا لدار.

وبما بيناه ظهر فساد ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ مفهوم الآية وان كان يتقدم على عمومات ما دل على النهي عن العمل بغير العلم إلّا انه لا يمكن تقديمه على التعليل المذكور في الآية لأقوائيته في الظهور ، فانّ الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم كيف ما كان ضعيفا أو قويا على ما بين في محله. هذا كله فيما إذا كان المفهوم أخص من العام أو حاكما عليه.

وامّا إذا كان بينهما العموم من وجه ولم يكن في البين حكومة كما في مفهوم رواية الكر وإطلاق دليل الجاري كقوله عليه‌السلام «ماء النهر يطهر بعضه بعضا» وبإطلاقه يعم الكر والقليل ، كما انّ المفهوم بإطلاقه يشمل الجاري وغيره ، ومورد اجتماعهما الجاري القليل فانه ينفعل بمقتضى المفهوم ولا ينفعل بمقتضى إطلاقات الجاري ، وحينئذ ان كان في أحدهما مرجح كما هو كذلك في المقام فانّ تقديم المفهوم على روايات الجاري يوجب إلغاء عنوان الجاري بالكلية وكون أخذه لغوا ، فيتقدم الراجح وإلّا فان كان عموم المنطوق بالوضع فيتقدم على المفهوم وإلّا فيتساقطان ويرجع إلى الأصل العملي ، أن يحكم بالتخيير على الخلاف.

تعقب الاستثناء لجمل متعددة

فصل : إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، فهل يرجع إلى خصوص الأخير أو إلى المجموع ، أو انّ رجوعه إلى الأخير متيقن وامّا غيره من الجملات فلا يصح التمسك بعمومها أيضا لكونها من الكلام المحتف بما يصلح للقرينية فتكون مجملة؟ وجوه.

والظاهر انّ الاستثناء لا خصوصية فيه ، بل البحث يعم كل قيد تعقب جملا عديدة وأمكن رجوعه إلى البعض أو الجميع ، سواء كان استثناء أو ظرفا أو مجرورا أو غير ذلك.

والتحقيق : انّ تعدد الجمل واختلافها لا بدّ وان يكون لأحد أمور ثلاثة : امّا لتعدد محمولاتها مع وحدة الموضوع ، وامّا لتعدد الموضوعات ووحدة المحمول ، واما لتعددهما واختلافهما معا. مثال الأول ما لو قال «العلماء أكرمهم وأضفهم وأطعمهم» ، ومثال الثاني ما لو قال «أكرم العلماء والتجار والاشراف» ، ومثال الثالث ما لو قال «أكرم العلماء وجالس التجار وأضف الاشراف».

امّا القسم الأول ، فتارة : لا يتكرر ذكر الموضوع في شيء من تلك الجمل ، وأخرى : يتكرر في بعضها. فإذا لم يتكرر فالظاهر بحسب الفهم العرفي انّ المحمول في تلك الجمل امر واحد ، وحيث لم ير المتكلم جامعا بين المحمولات أعني الإكرام والضيافة والإطعام في المثال ليعبر به أطال الكلام وجاء بمحمولات عديدة ، فتلك الجمل وان كانت متعددة صورة ولبّا ويلحق كلا منها حكمه إلّا انها بالفهم العرفي تكون في حكم جملة واحدة ، وبمنزلتها ، فكأنّ المتكلم حكم دفعة بثبوت جميع المحمولات للموضوع الواحد ، فإذا تعقبها استثناء أو قيد آخر في هذا الفرض فلا محالة يرجع إلى الجميع لأنه تقييد أو تخصيص للموضوع بما له من الحكم.

وامّا إذا تكرر ذكر الموضوع في اللفظ مثلا قال «العلماء أكرمهم وأطعمهم ، والعلماء أضفهم» فلا بدّ وان يكون التكرار لعناية ، وهي بالنظر العرفي ليس إلّا قطع تلك الجملة وما بعدها عن الجمل السابقة وجعلها مستقلة من جميع الجهات ، فإذا تعقبها استثناء في هذا الفرض ، وقال «إلّا فساقهم» فلا محالة يرجع إلى خصوص الجملة التي كرر فيها ذكر الموضوع والجمل المذكورة بعدها دون الجمل السابقة عليها ، وهذا ظاهر بحسب الفهم العرفي. ولو تنزلنا عن ظهور ذلك ، فرجوع القيد

إلى خصوص تلك الجملة يقيني ، ورجوعه إلى ما سبقها مشكوك فيه ، فيجري فيها أصالة العموم أو الإطلاق.

وامّا توهم عدم جريانها لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ففساده مبني على بيان المراد من احتفاف الكلام بما هو صالح للقرينية ، فانه كلام كثير الدوران في الألسنة ولم يبين المراد منه ، فنحققه في المقام.

ونقول : ليس المراد بالصالح للقرينية وجود مطلق ما يحتمل السامع اتكال المتكلم عليه في إرادة خلاف الظاهر من اللفظ ، حتى مثل همس الصوت في مقام الأمر إذا احتمل السامع اتكال الآمر عليه في إرادة الندب مثلا ، فانّ هذا امر واضح الفساد ، فانّ الظهورات التي يحتج بها العقلاء في المحاورات يتمسك بها في استكشاف مرادات المولى لتبعية مقام الإثبات للثبوت ، إلّا إذا كان الكلام مجملا عرفا ، ولم يكن له ظهور بحسب المتفاهم العرفي ، فالمراد بالصالح للقرينية ما يحتمل السامع ظهوره عرفا في القرينية وهو لا يعلم بذلك لجهله بمعناه الظاهر فيه عرفا ، فيكون الكلام حينئذ مجملا عنده. وامّا إذا علم السامع بإجماله وعدم ظهوره في القرينية عند العرف أيضا فليس ذلك صالحا للقرينية أصلا ، إذ كيف يعقل ان يتكل المتكلم في إرادة خلاف الظاهر على امر مجمل ، بل لا بدّ له من الاتكال على امر ظاهر ليكون مبنيا لإرادة خلاف الظاهر من ذي القرينة ، إذ لا يرفع اليد عن الظاهر بالمجمل.

وبالجملة : فالمجمل عرفا لا يصلح لأن يكون مبينا وقرينة على إرادة خلاف الظاهر من لفظ آخر كما في العام المخصص بمجمل منفصل مردد بين الأقل والأكثر ، كما لو قال «أكرم العلماء» ثم قال «لا تكرم فساقهم» وتردد بين مطلق العاصي أو خصوص مرتكب الكبائر ، ولم يكن هناك ظهور عرفي في سراية إجمال المخصص إلى العام.

إذا عرفت المراد باحتفاف الكلام بالصالح للقرينية ، نقول : فيما نحن فيه بما انّ رجوع الاستثناء إلى الجمل السابقة مجمل عرفا ، فلا يوجب إجمالها ، ولا يكون ذلك من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، بل يجري فيها أصالة العموم ، والآية الشريفة من هذا القبيل ، فانّ ذكر الموصول في قوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١) بمنزلة تكرار الموضوع ، فالاستثناء يرجع إلى خصوص هذه الجملة دون الجمل السابقة ، فالحكم بالجلد وسقوط الشهادة لا يسقطان بالتوبة كما ورد ذلك في الاخبار أيضا. هذا كله في القسم الأول.

ويجري ما ذكرناه في القسم الثاني أيضا ، وهو فرض اختلاف الجمل بتعدد الموضوعات فقط مع وحدة المحمول ، فانّ الموضوع فيه حقيقة واحد ، وهو عنوان جامع لتلك الموضوعات ، والتكرار انما هو لعدم وجدانه عنوانا جامعا ، ويجري في القسمين المزبورين من تكرار المحمول وعدمه بجميع مزاياهما ، فلا نعيد.

وبهذا ظهر الحال في القسم الثالث الّذي هو خامس الأقسام على ما عرفت ، فانّ الاستثناء فيه يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة دون غيرها ، والاحتمال مندفع بالأصل كما تقدم.

وبالجملة الضابط في الكلام المحتف بما يصلح للقرينية هو انه بعد ما جرى بناء العرف والعقلاء على تفهيم مراداتهم بالظهور المستند إلى الوضع أو إلى قرائن عامة التي منها الإطلاق ومقدمات الحكمة لا يصح للمتكلم ان يتكل في إرادة خلاف الظاهر إلّا على ما يكون ظاهرا في ذلك بنظر العرف ، والمخالف يعد محكوما في محاكم العقلاء ويحتج عليه لا محالة. وعليه فان كان ما يحتمل السامع قرينيته على إرادة خلاف الظاهر مما يحتمل ظهوره في القرينية عرفا وهو جاهل فلا محالة يوجب

__________________

(١) النور ـ ٤.

إجمال اللفظ عنده ، إذ يحتمل ان يكون محتمل القرينة مما يصح اتكال المولى عليه في إرادة خلاف الظاهر. واما لو علم بإجمال محتمل القرينية حتى عند العرف ، فلا يوجب ذلك إجمال اللفظ أصلا ، لعدم جواز اتكال المتكلم على مثله في إرادة خلاف الظاهر كما عرفت ، ورجوع الاستثناء في محل الكلام إلى الجمل السابقة على مورد تكرار الموضوع أو المحمول أو إلى غير الأخيرة عند اختلافها موضوعا ومحمولا غير ظاهر ، فلا يجوز اتكال المتكلم عليه في إرادة خلاف الظاهر أعني الخاصّ منها ، فيجري فيها أصالة العموم ولا يوجب إجمالها.

ثم انه ربما يقال : كما قيل : انّ المعارضة في المقام انما هو بين عامين ، ويدور الأمر بين تخصيص أحدهما ، وذلك لأنّ مقتضى عموم تلك الجمل وان كان تخصيص الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة إلّا انّ عموم الاستثناء الّذي هو جمع محلّى باللام أو مضاف كقولك «إلّا فساقهم» يقتضي شموله لجميع الجمل ، فالامر دائر بين تخصيصين ، ولا ترجيح وهو يوجب الإجمال.

والجواب عنه واضح ، فانّ عموم الموضوع وخصوصه انما يكون بلحاظ الحكم المترتب عليه ، فسعة دائرة الفساق أو ضيقها دائرة مدار إخراجه عن الجميع أو عن البعض. وان شئت فقل : انها تدور مدار مرجع الضمير ، فان رجع إلى الجميع يكون وسيعا وإلّا فيكون ضيقا ، والمفروض انّ رجوعه إلى ما عدى الجملة الأخيرة غير معلوم ، فلم ينعقد للاستثناء عموم في زمان أصلا ليدور الأمر بين رفع اليد عنه أو عن الجمل المتقدمة.

تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد

فصل : وقع الكلام في جواز العمل بالخبر فيما إذا خالف عموم الكتاب أو إطلاقه. وهذه المسألة حقيقة من مباحث حجية الخبر ، فيبحث عن انّ دليل حجية

الخبر هل تثبت حجيته مطلقا حتى فيما إذا كان مخالفا لعموم الكتاب أو إطلاقه ، أو انه مختص بغير ذلك. وانما يتعرض لها في المقام لمناسبة كونه مستلزما لتخصيص الكتاب.

وكيف كان يقع البحث في موردين.

الأول : في حجية الخبر الموجب لتقييد الكتاب أو لتخصيصه من حيث المقتضى.

الثاني : من حيث المانع.

امّا المورد الأول ، فيقال : انّ دليل حجية الخبر انما هو الإجماع وسيرة المتدينين إلى أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ومن كان في عصرهم ، فانه يقطع بأنهم ما كانوا بأجمعهم يصلون بخدمة الإمام عليه‌السلام ، ويسألون مسائلهم منه عليه‌السلام بلا واسطة ، بل كان يصل إليهم أحكامه عليه‌السلام مع الواسطة خصوصا النساء وكانوا يعملون بها إذا كان المخبر موثقا ، وهما دليلان لبيان لا بدّ من الاقتصار فيهما على المتيقن الّذي هو صورة عدم مخالفة الخبر لعموم الكتاب.

وفيه : أولا ـ انا نطمئن بعدم الفرق بين القسمين في قيام السيرة على العمل بالخبر ، فانا نرى كل من ذهب إلى حجية خبر الواحد من الفقهاء وغيرهم يعتمدون على الخبر الموثق من غير فحص عن مخالفته لعموم الكتاب أو إطلاقه.

وثانيا ـ انّ دليل حجية الخبر غير منحصر بالإجماع وسيرة الأصحاب ، بل عمدته سيرة العقلاء ، ومن الواضح انّ العقلاء لا يفرقون بين القسمين أصلا.

وامّا المورد الثاني ، فتقريب وجود المانع من وجهين.

أحدهما : انه ولو كان الخبر في الموثق نفسه حجة إلّا انه ظني والكتاب قطعي ، فكيف يمكن رفع اليد عن القطعي بالظني؟؟!

وفيه : انّ هذا الاستدلال أشبه شيء بالخطابة ، وإلّا فلم يدع أحد رفع اليد

عن سند الكتاب بالخبر ليرد ذاك الإيراد ، بل يرفع اليد عن ظاهر الكتاب بالخبر ، وكلاهما ظنيان ، فترجيح قوله «لا ربا بين الوالد والولد» على إطلاق قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) يكون من رفع اليد عن ظني بظني آخر.

ويمكن ان يقال : انّ ذلك من قبيل ترجيح أحد القطعيين على الآخر ، بتقريب : انّ الخبر الموثق وان كان ظني الصدور إلّا انّ دليل حجيته لا بدّ وان يكون قطعيا ، فهو قطعي الحجية. وإلّا فكيف يمكن اعتماد العقلاء عليه مع عدم كونه مؤمنا؟ ومن هنا قلنا : انّ ما دل على المنع من العمل بغير العلم من الآيات والروايات كلها إرشاد إلى ما يحكم به العقل وليس شيء منها مخصصا ، فالمؤمن دائما يطلب المؤمن في اقتحامه في الأمور كما هو ظاهر قوله تعالى (الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ)(٢) فتأمل ، بخلاف المنافق فانه يرتكب كلما اقتضاه شهوته ولو لم يكن مؤمن في البين كما هو ظاهر قوله تعالى (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ)(٣) وهكذا ظهور الآية من عموم أو إطلاق وان كان ظنيا إلّا انه قطعي الحجية ببناء العقلاء ، ومن هنا لو سئل من أفتى بجواز الرّبا بين الوالد والولد عن مدركه لا يقول لأنّي ظان بالحكم الواقعي ، بل يقول لقيام الحجية القطعية على ذلك ، وهكذا العكس. فالمعارضة انما هي بين مقطوعي الحجية ، وفي الحقيقة بين دليل حجية سند الخبر وبين عموم الكتاب أو إطلاقه ، والنسبة بينهما وان كانت عموم من وجه لكنه يرجح عليه دليل حجية السند لحكومته عليه ، فانّ التعبد بصدور الخبر بنفسه يرفع الشك في العموم ، لأنه تعبد بعدمه كما هو الحال في التعبد بكل قرينة بالإضافة إلى ذيها. وهذا بخلاف العكس ، فانّ التعبد بالعموم ليس بنفسه تعبدا بعدم صدور الخبر ، نعم يدل عليه

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

(٢) الدخان ـ ٥١.

(٣) المدثر ـ ٤٥.

بالالتزام من باب استحالة اجتماع الحكمين.

وهذا البيان بعينه إيرادا وجوابا يجري في جميع موارد معارضة خبر الواحد الخاصّ مع عام أو مطلق مقطوع الصدور كالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية.

وتوضيح تقديم دليل حجية الخبر على العام الكتابي مع انّ النسبة بينهما عموم من وجه بالحكومة هو انّ الأصول اللفظية كأصالة العموم ونحوها يكون الشك في إرادة الظاهر من اللفظ مأخوذا في موضوعها ، ولذا يعبر عنها بالأصول العملية ، وعليه فالخاص بما انه قرينة على العام يكون التعبد به بنفسه رافعا للشك في إرادة العموم من العام ، بل هو في حكم القطع بتخصصه وعدم إرادة العموم منه ، فينتفي موضوع الأصل اللفظي وهو الشك في إرادة الظاهر ، وهذا معنى الحكومة من حيث الحجية فانّ الخاصّ تارة يكون بمدلوله المطابقي حاكما على العموم ، كما في قوله عليه‌السلام «لا ربا بين الوالد والولد» بالإضافة إلى الآية ، وقوله عليه‌السلام «لا شك لكثير الشك» بالإضافة إلى أدلة الشكوك ، وإلّا فدائما يكون بحجيته حاكما على العام كما لو ورد «لا بأس بالربا بين الوالد والولد». وهذا الوجه جار في التعبد بكل قرينة بالإضافة إلى ذيها ، وهو السر في حكومة الأمارات على الأصول العملية وتقديمها عليها ، وامّا العكس فالتعبد بالعموم بنفسه لا يذهب الشك في صدور الخاصّ ، وانما يدل عليه بالالتزام وحكم العقل باستحالة اجتماع الحكمين.

وربما يجاب عن هذا الإيراد أي عن تقديم دليل حجية الخبر على العام مع كون النسبة بينهما عموم من وجه بما أشير إليه في الكفاية (١) من انه لو قدم جانب الآية وخصص دليل حجية الخبر بغير موارد معارضته مع عموم أو إطلاق كتابي

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٦٦.

لزم تخصيصه بالموارد النادرة لمخالفة أغلب الاخبار له ، وقد بين في محله انّ من مرجحات تقديم أحد العامين على الآخر لزوم مثل هذا المحذور من عكسه.

وفيه : انه لا يمكننا المساعدة على ذلك ، إذ ليس في الكتاب عموم يستفاد منه إباحة كل فعل صادر عن المكلف ، وطهارة جميع الأشياء ، ونفوذ النكاح بأقسامه إلى غير ذلك من أحكام المعاملات والعبادات لتكون أغلب الاخبار الدالة على اعتبار بعض الخصوصيات فيها مخالفا للكتاب ، وهذا واضح لمن سبر أبواب الفقه. فالجواب الصحيح ما ذكرناه.

المانع الثاني : الروايات الواردة في انّ ما خالف قول ربنا لم نقله ، أو باطل ، أو زخرف (١) وأمثال ذلك ، فانّ دعوى عدم صدق المخالفة في التنافي بالعموم المطلق فاسدة فانّ التنافي بين العام والخاصّ موجود غاية الأمر تقدم الخاصّ على العام عرفا.

والجواب عنه : مضافا إلى انّ هذه المادة أعني المخالفة واردة في موردين ، أحدهما : هذه الاخبار وهي روايات العرض ، ثانيهما : الاخبار العلاجية ، والظاهر انه أريد منها في الموردين معنى واحد ، وسنبين انّ المراد منها في اخبار التعارض هو المخالفة بالعموم من وجه أو التباين بحيث لم يجمع بينهما عرفا ، فلا بدّ وان يراد ذلك أيضا في المقام.

انا نقطع بأنه لم يرد من المخالفة في تلك الاخبار ما يعم هذا التنافي ، للقطع بصدور المخالف للكتاب بهذا المعنى عن المعصومين مع انّ لسانها آبية عن التخصيص ، إذ لا معنى لأن يقال : ما خالف قول ربنا لم نقله إلّا في المورد الفلاني.

ويشهد لذلك المقبولة والمرفوعة الواردتان في تعارض الخبرين ، فانّ المقبولة

__________________

(١) الكافي ـ ج ١ ـ ص ٦٩.

بناء على ما هو الصحيح عدم كونها في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة كما ذهب إليه في الكفاية ظاهرة في حجية كل من الخبرين من قطع النّظر عن المعارضة ، والأمر بالترجيح بموافقة الكتاب كأنّه تقرير لحجيّة الخبر المخالف للكتاب أيضا في نفسه لو لا المعارضة ، وهذا ظاهر. وامّا المرفوعة فهي صريحة في ذلك ، لأنه جعل موافقة الكتاب فيها ثاني المرجحات والمرجح الأول هو الشهرة حيث قال «خذ بأشهرهما» فهي نصّ في الأخذ بالأشهر المخالف للكتاب وطرح الشاذ الموافق له ، فمن جميع ذلك يعلم انّ المراد بالمخالف في اخبار العرض ليس هو مطلق التنافي ، بل بحيث لم يكن بينهما جمع عرفي.

ويؤيد ذلك أيضا انّ في بعض الاخبار امر بعرض الاخبار على السنة النبوية أيضا على ما ببالي كالعرض على الكتاب ، فلو استفيد منها عدم جواز تخصيص عموم الكتاب بالخبر لزم عدم جواز تخصيص الخبر النبوي به أيضا ، وهو بديهي الفساد.

ثم انه ربما يستدل على عدم جواز تخصيص الكتاب بالخبر بما هو مبني على مقدمة وهي : انّ النسخ في الأحكام لا بدّ وان يكون تخصيصا في الأزمان وعدم إرادة ثبوت الحكم في الزائد على ذات الزمان من الأول ، كالتخصيص المصطلح الّذي هو تخصيص في الافراد ، فانّ النسخ الحقيقي مستحيل في الأحكام لاستلزامه جهل الحاكم ، وعليه فإذا جاز تخصيص الكتاب بالخبر لجاز نسخه به أيضا ، لأنه تخصيص زماني ، وهو باطل.

وفيه : انه لو أريد الملازمة بينهما إمكانا فهي ثابتة ولا مانع من نسخ الكتاب بخبر الواحد لو دل عليه دليل ، وامّا وقوعا فلا ، لقيام الإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ولعل السر فيه والله العالم عدم ورود ناسخ له من الأئمّة أي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو تحقق ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوصل إلينا بالتواتر وشاع ذلك لعدم

وجود داع على إخفائه كما لم يخف علينا نسخ القبلة الأولى والتوجه إلى الكعبة.

فالإنصاف وفاقا للفقهاء جواز تخصيص الكتاب وتقييده بخبر الواحد.

الشك في كون الخاصّ مخصصا أو ناسخا

فصل : إذا شككنا في كون الخاصّ مخصصا أو ناسخا ، فهل يحكم بالتخصيص ، أو بالنسخ ، أو بشيء آخر؟ وجوه.

ولا بدّ من بيان أقسام العام والخاصّ ، فانهما تارة : يكونان متقارنين زمانا ، وعليه لا بدّ من الالتزام بكون الخاصّ مخصصا للعام ولا يحتمل ناسخيته لعدم انعقاد الظهور للعام في الزائد على ذلك ، وأخرى : يكونان مختلفين زمانا ، وعليه امّا يكون العام سابقا على الخاصّ ، وامّا يكون الخاصّ متقدما على العام ، وعلى كل تارة : يكون صدور اللاحق بعد حضور وقت العمل السابق ، وأخرى : قبله ، فالأقسام أربعة.

امّا لو فرضنا تقدم العام على الخاصّ ووروده قبل حضور وقت العمل بالعامّ بالإضافة إلى مورد الخاصّ ، فيتعين في التخصيص ، ولا يحتمل النسخ ، لاستحالة النسخ قبل حضور وقت العمل ، لاستلزامه لغوية جعل الحكم إذا كان بداعي الجد أي البعث والزجر الحقيقي الّذي هو مورد الكلام دون الحكم الصوري الظاهري فانه لا يطلق على رفعه النسخ.

نعم يتصور النسخ الحقيقي قبل حضور وقت العمل بالإضافة إلى المولى الجاهل لجهله بالملاك ، فيجعل الحكم لتخيله بكونه ذا ملاك ثم بعد مضي زمان لا يفي بإتيان العمل يبدو له فيرى عدم كونه ذا ملاك ، فينسخ حكمه ، وامّا المولى الحكيم العالم بالغيب فكيف يجعل الحكم بداعي الجد مع علمه بأنه ينسخه قبل حضور وقت العمل به وتمكنه منه ، وهل هو إلّا لغو ظاهر ، فاذن لا مناص في مثل ذلك من

التخصيص.

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره ذهب إلى جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ ، واختار التخصيص في الفرض لوجه آخر وحاصل ما ذكره هو (١) : انّ الأحكام الشرعية قد تكون من قبيل القضايا الخارجية فيقول المولى : «أكرم زيدا أو هؤلاء» وقد تكون من قبيل القضايا الحقيقية ، وهي أيضا تارة : تكون موقتة بوقت خاص كالحكم بوجوب الحج في الموسم ، واستحباب العمرة في الأشهر الحرم ، والصلوات في أوقاتها ، وأخرى : لا تكون موقتة. امّا القسمان الأولان فعدم جواز النسخ فيهما قبل حضور وقت العمل.

وقد مر منه نظير هذا في مبحث جواز امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ، واعترضنا عليه هناك بأنّ انتفاء الشرط ان كان مستندا إلى ذلك الحكم ، كالحكم بالقصاص المترتب على قتل النّفس المحترمة إذا علم الحاكم بانتفاء ذلك لأجل حكمة بالقصاص وكثيرا يتفق ذلك في الأحكام التحريمية ، فيجوز جعله بل قد يقتضيه الحكمة ، وامّا لو كان انتفاء الشرط غير مستند إلى ذلك ، كما لو قال «يجب إعطاء دينار على من شرب جميع ماء البحر» مع علمه بأنّ أحدا لا يقدر عليه ، فهو لغو محض.

وبهذا البيان يظهر عدم إمكان جعل الحكم في المقام ولو بنحو القضية الحقيقية مع علمه بأنه ينسخه قبل حضور وقت العمل به ، فانه من اللغو الواضح ، واما جعل حرمة شرب الخمر وحرمة قتل النّفس بنحو القضية الحقيقية فحضور وقت العمل به انما هو بنفس تمكن المكلف من إيجاد ذلك. فتحصل انّ جعل الحكم ولو بنحو القضية الحقيقية مع علم الآمر بنسخة قبل حضور وقت العمل لغو قبيح ، فإذا ورد الخاصّ

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٥٠٧.

قبل حضور وقت العمل بالعامّ يتعين في التخصيص لا محالة.

وامّا إذا ورد الخاصّ بعد حضور زمان العمل بالعامّ فكونه مخصصا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقد ذهبوا إلى قبحه ، وحيث انّ الالتزام بالنسخ في هذه المخصصات على كثرتها فانّ غالبها صادرة عن الصادقين عليهم‌السلام والعمومات والإطلاقات غالبها صادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيد ، لا من جهة انّ النسخ لا يكون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانقطاع الوحي ، فانه امر ممكن ببيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمد الحكم لأوصيائه عليهم‌السلام وهم يبينونه للناس في وقته ، فثبوت النسخ عن الأئمة عليهم‌السلام أيضا ممكن إلّا انّ كثرة النسخ بهذا المقدار مستبعد جدا فتأمل.

ومن ثم وقعوا في الإشكال ، لأنّ الالتزام بالتخصيص مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، والمفروض انه قبيح ، والالتزام بالنسخ في هذه الموارد على كثرتها بعيد.

وقد أجاب شيخنا الأنصاري قدس‌سره عن ذلك بما حاصله : انّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة انما هو فيما إذا كان العموم من العام مرادا بالإرادة الجدية ، وامّا إذا كان مرادا استعماليا فقط لا بداعي الجد بل بداعي جعل القانون ليكون حكما ظاهريا يعمل به عند الشك ، فلا قبح حينئذ في تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وعليه يكون الخاصّ مخصصا بالإضافة إلى الحكم الواقعي وناسخا بالإضافة إلى الحكم الظاهري انتهى.

وقد تقدم في كون العام المخصص بالمنفصل مجازا وعدمه انّ صاحب الكفاية قدس‌سره ذكر ما حاصله : انه لا ملازمة بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ويمكن عدم مطابقتهما ، والميزان في الحقيقة والمجاز بالإرادة الاستعمالية ، والتخصيص انما يكشف عن الإرادة الجدية دونها ، ولذا لا يوجب مجازية العام.

وقد أورد عليه الميرزا قدس‌سره هناك بعدم تعددهما. وأجبنا عنه بما تقدم ، ولذا

اخترنا تبعا للكفاية عدم استلزام التخصيص لمجازية العام ، إلّا انّ اختلاف الإرادتين لا يرفع الإشكال في المقام ، بل هو أجنبي عنه ، وذلك لأنّ المتكلم الّذي تتخلف إراداته الجدية عن إراداته الاستعمالية امّا ان ينصب قرينة ولو عامة على ذلك ، وحينئذ لا ينعقد لكلماته من العمومات وغيرها ظهور أصلا حتى في الحكم الظاهري ليحتاج إلى النسخ أو التخصيص ، وامّا يتكلم بما له ظاهر ويريد خلافه من دون نصب قرينة عليه ، فهذا هو بنفسه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقد فرض قبحه ، إذ لا نعني به أزيد من ذلك.

وبعبارة أخرى ليس لاختلاف الإرادتين وكون العموم مرادا بالإرادة الاستعمالية دون الجدية دخل في قبح تأخير البيان وعدمه ، فانّ القبح ان كان يرتفع بوجود مصلحة في التأخير أو مفسدة في البيان فلا قبح عند تحققه ولو لم نقل باختلاف الإرادتين وان لم يرتفع فكذلك.

والصحيح في الجواب : انه بعد ما جرى بناء العقلاء على تفهيم مراداتهم الجدية باستعمال الألفاظ يكون استعمال اللفظ وإرادة خلاف ظاهره من دون نصب قرينة مخالفا لطريقة العقلاء وخروجا عن محاوراتهم ، فمع قطع النّظر عن بنائهم لا قبح في تأخير البيان أصلا ، ولكن بلحاظ هذا البناء يكون التخلف قبيحا كقبح خلف الوعد.

وانما الكلام في انّ قبح ذلك هل هو ذاتي كقبح الظلم بحيث يستحيل انفكاكه عن هذا العنوان ، أو هو قبح يعبر عنه يقبح في نفسه كقبح الكذب فانه في نفسه قبيح ، ولكنه قابل لأن يتصف بالحسن لطروء عنوان عليه كإنجاء مؤمن مثلا؟ والظاهر انه من قبيل الثاني ، وعليه فإذا فرضنا انّ في البين مانع عن التخصيص ، أو هناك مصلحة في تركه فلا قبح في تأخيره أصلا ، بل الحكمة قد يقتضيه ، ومثال ذلك في العرفيات واضح ، ومن هنا لم يبين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأحكام الإلهية إلّا تدريجا ،

ولا يبعد أن يكون ذلك لعدم تمكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من البيان أو لمانع آخر. ومن الواضح انّ الأئمّة عليهم‌السلام لم يتمكنوا من بيان الأحكام إلّا في عصر الصادقين ، فحصل لهم فرجة لبثّ الأحكام الإلهية ، فبينوا جملة من المخصصات وقد بقي مقدار منها محفوظا عند امام العصر (عجل الله فرجه) على ما في بعض الاخبار.

وبالجملة فتأخير البيان لغرض أو لمانع لا قبح فيه ، فلا مانع من الالتزام بالتخصيص في الفرض ، كما لا مانع من الالتزام بالنسخ أيضا في نفسه لو لا الكثرة التي يبعد الالتزام بها ، فيتعين التخصيص. هذا كله فيما إذا ورد الخاصّ بعد العام بقسميه.

وامّا إذا انعكس الأمر ، وورد العام بعد ورود الخاصّ ، فهو أيضا على قسمين : لأنّ العام تارة : يكون واردا قبل حضور وقت العمل بالخاص فيتعين التخصيص لاستلزام النسخ لغوية الخاصّ ، وأخرى : يكون العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فيدور الأمر بين كون الخاصّ المتقدم مخصصا للعام فيكون العمل على طبق الخاصّ ، وكون العام ناسخا للخاص فيكون العمل على طبق العام.

وقد ذكر في الكفاية لترجيح التخصيص ما حاصله : انّ التخصيص أكثر وأغلب ، والظن يلحق الشيء بالأغلب.

وفيه : انّ الأغلبية لا توجب قوة الظهور ، وانما يوجب الظن وهو لا يغني من الحق شيئا. والميزان في تقديم أحد الظاهرين على الآخر انما هو أقوائية الظهور. هذا مضافا إلى انّ ظهور الخاصّ في الاستمرار غالبا يكون بالإطلاق ، وظهور العام في العموم الأفرادي غالبا يكون بالوضع ، ولو كان بمقدمات الحكمة أيضا يكون أقوى كما هو ظاهر.

بل ذكر المحقق النائيني قدس‌سره في بحث دوران الأمر بين التمسك بعموم العام واستصحاب حكم المخصص انّ دليل جعل الحكم لا يمكن ان يتكفل لبيان استمراره

حتى بالإطلاق ، لأنّ الحكم باستمرار الحكم فرع ثبوته ، تفرع كل حكم على موضوعه ، فلا محالة يكون استمرار الأحكام ثابتا بالاستصحاب ، وعلى هذا فتكون المعارضة حقيقة في المقام بين الاستصحاب والعموم ، ومن الواضح انّ الأصل العملي لا يقاوم العموم اللفظي ، فيثبت النسخ لا محالة.

وقد أجبنا عن هذا بما تقدم في باب النواهي من إمكان جعل الاستمرار لنفس الحكم بان يكون هو الموضوع للاستمرار وان لم يمكن لما ذكر إلّا انه لا مانع من جعله وبيانه بنفس دليل جعل الحكم ، فانه كما يمكن لحاظ متعلق الحكم مطلقا وساريا من حيث الافراد العرضية يمكن لحاظه كذلك من حيث الافراد الطولية فيجعل له الحكم ، فيثبت الاستمرار ، ويمكن التمسك بإطلاقه في مقام الإثبات ، فالاستمرار أيضا ظهور لفظي وليس مفاد الاستصحاب ، إلّا انّ الكلام في وجه تقديمه على ظهور العام في العموم.

والّذي ينبغي أن يقال : في وجه ذلك هو انّ الأحكام الشرعية من عموم وغيره ليس مفاد دليلها ثبوت الحكم من حيث صدور الدليل ، بل مفاده ثبوت الحكم من أول الشريعة ، فمفاد العام المتأخر ثبوت الحكم العام من أول زمان ثبوت الخاصّ ، وعليه فيرتفع احتمال النسخ رأسا ، لأنّ النسخ على ما ذكرنا من انه تخصيص في الأزمان انما يكون فيما إذا كان مفاد الناسخ ثابتا من حين صدوره لا من الأول ، وإلّا فليس هناك تخصيص في الأزمان ، فيتعين التخصيص ولا مانع من تقديم البيان عن وقت الحاجة.

وعلى هذا فلا وجه للتقسيمات المتقدمة من سبق العام على الخاصّ ، أو عكس ذلك ، أو كون المتأخر واردا بعد حضور وقت العمل بالمتقدم ، أو قبله أصلا ، لأنّ احتمال النسخ منتف في جميعها.

والظاهر انّ هذه الإشكالات جميعها ناشئة من خلط الأحكام الشرعية

بالاحكام الخارجية الصادرة من الموالي العرفية التي يكون اللاحق منها ثابتا من حين ورود دليله ، فيحتمل فيه النسخ ، ولا نحتمل ذلك في الأحكام الشرعية ، إذ من الواضح انّ حكمه عليه‌السلام بفساد الصلاة في ما لا يؤكل لحمه في جواب السائل لا يكون حادثا حين سؤاله ، بل يكون حكما ثابتا من أول الشريعة المقدسة ، وكان موجبا لفساد الصلاة وإعادتها أو قضائها حتى بالإضافة إلى من فعلها قبل ذلك ، وبهذا يندفع الإشكال رأسا.

حقيقة النسخ والبداء

بقي الكلام في حقيقة النسخ والبداء :

امّا النسخ فتفصيل الكلام فيه انه تارة : يكون الحكم الثابت أولا صوريا ظاهريا بداعي الامتحان ونحوه ثم يصدر ناسخ له ، وهذا خارج عن النسخ المصطلح ، ولا إشكال في إمكانه بل وقوعه ، إذ لا مانع من ان يتكلم المولى لمصلحة فيه.

وأخرى : يكون حكما حقيقيا بداعي البعث والزجر. وهذا على أقسام : فانه امّا ان يكون في مقام الإثبات محدودا بحد خاص ، وهو أجنبي عن النسخ ، وامّا ان يكون مهملا في مرحلة الإثبات ثم يرد الثاني فيكون مبنيا لإجماله لا ناسخا له ، فجميع هذه الأقسام خارجة عن النسخ المصطلح. وامّا ان يكون بحسب مقام الإثبات مطلقا دالا على الاستمرار وضعا أو إطلاقا فيرد الدليل الثاني ويرفع ذاك الاستمرار ، فيكشف عن عدم كونه مرادا جديا من أول الأمر ، نظير التخصيص في الافراد ، وهذا هو المراد من النسخ اصطلاحا ، كما هو المناسب للفظه لغة ، فانه يقال «نسخت الشمس الظل» إذا رفعته.

وقد خالفنا في جوازه اليهود ، فذهبوا إلى استحالة النسخ في الأحكام الشرعية ، وتبعهم النصارى في ذلك ، حيث ذهبوا إلى انّ موسى عليه‌السلام أول من أتى بالشريعة ، وقبله لم تكن أحكام من الشارع سوى نفي الشرك ، وهو الّذي جاء بالناموس أي التابوت فيه أحكام الله ، وهي ثابتة لا تنسخ ، وقد وقعوا في الإشكال من حيث ذهابهم إلى نسخ بعض أحكام التوراة ، وليس لنا غرض بالتعرض لذلك.

وقد استدلوا على استحالة النسخ بأنّ الحكم لو كان ذا مصلحة وملاك فلم يرفعه ، وان لم يكن فيه ملاك فلما ذا يضعه.

وهذا انما يتم لو أريد من النسخ رفع الحكم ثبوتا ، ولا دافع له حينئذ أصلا ، ولكن قد عرفت انّ المراد من النسخ انما هو رفع الحكم المستمر إثباتا فقط ، فلا يلزم منه محذور أصلا.

وامّا البداء في التكوينيات فقد خالفنا فيه العامة أيضا تبعا لليهود ، وشنعوا الشيعة بها حتى نسبوا إليهم ما لا ينبغي جهلا بمرادهم من البداء. وقد ورد عن أئمتنا عليهم‌السلام في روايات مستفيضة انّ من لم يعتقد بالبداء لم يكمل إيمانه ، وفي بعضها ما بعث نبيا إلّا أخذ منه العهد والإقرار بالبداء ، فلا بد لنا من بيان امرين.

أحدهما : المراد من البداء الّذي نقول به.

ثانيهما : ما ورد من التخلف وعدم وقوع ما أخبر به بعض الأنبياء والأوصياء خارجا.

امّا الأمر الأول ، فلا ريب في قدرته تعالى على جميع الأشياء وانّ كل شيء تحت سلطانه عزّ شأنه ، وقد بينا في محله انّ علمه الذاتي وانكشاف افعال العباد لديه جل شأنه قبل وجودها وان لم نعرف حقيقته بعد علمنا بأنه ليس من قبيل الاعراض لا ينافي صدورها عنهم باختيارهم خلافا للمجبرة ، لأنّ العلم بالفعل ليس من مبادئ صدوره ، وانما يتعلق به على واقعه ، فلو فرضنا محالا عدم علمه بأفعالنا كيف كانت تصدر عنا بعد علمه أيضا كذلك لأنه متعلق بها على ما هي عليه واقعا ، نظير المرآة ونظير علمنا بصدور بعض الأفعال عن أنفسنا ، فليس للعلم أي دخل وتأثير في تحقق الفعل أصلا ، وكما لا يوجب علمه بافعال العباد سلب قدرتهم واختيارهم ، كذلك لا يوجب علمه بافعال نفسه سلب قدرته عنها كما قال عزّ شأنه «بل يداه مبسوطتان».

ثم انّ الأمور المتحققة واقعا غير منحصرة بالموجودات الخارجية ، بل هناك موجودات نفس الأمرية ثابتة في الواقع ، وليست من قبيل الفرض الممكن متعلقة بكل شيء ، كالإمكان الثابت للأمور الممكنة ، والامتناع الثابت للأمور المستحيلة ، فانهما امران واقعيان ، وليسا مجرد اعتبار كما توهم بدعوى انّ الإمكان لو كان موجودا فلا بدّ وان يكون ممكنا أيضا وهكذا إلى ان يتسلسل ، وانّ استحالة اجتماع النقيضين لو كانت موجودة لزم وجود موضوعها وهو خلف ، فانّ وجودهما ليس وجودا خارجيا ليلزم ذلك ، بل هو وجود وتحقق نفس الأمر كما بين. ومن هذا القبيل الملازمات فانها أيضا ثابتة واقعا بين المتلازمين ، فالموجودات على قسمين : موجودات خارجية وموجودات متحققة في الواقع ونفس الأمر وان لم يكن لها ما بحذاء في الخارج ، وكل منهما قابل لتعلق العلم به كما نشاهد ذلك وجدانا. ومن الواضح انّ عدم تحقق اللازم في الخارج لعدم تحقق ملزومه لا ينافي الملازمة ولا يستدعي أن يكون العلم بها جهلا.

إذا عرفت ذلك نقول : علمه تعالى باعتبار المعلوم ينقسم على ما يستفاد من الأدلة إلى ثلاثة أقسام :

الأول : علمه المكنون الّذي استأثر به نفسه ، ولم يخبر به أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ، وجهلهم بذلك لا يوجب منقصة فيهم ، فانّ المخلوق يستحيل ان يحيط بما أحاط به الخالق تبارك وتعالى ، وهذا هو العلم بالمشيئة.

الثاني : علمه المعبر عنه بالقضاء المحتوم ، وهو علمه بتحقق الأشياء خارجا حتما ، وقد أخبر به مخلوقاته وعباده كل بحسبه ، والأوفر حظا من ذلك أشرف مخلوقاته وهو خاتم النبيين ثم أوصياؤه المعصومون ، ويعبر عنه باللوح المحفوظ ، وهو الّذي يتنزل به الملائكة والروح في ليلة القدر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه.

الثالث : علمه جل شأنه بالملازمات وتحقق الأشياء في الخارج لو لا المشيئة

على خلافها ، وقد أخبر جل شأنه وبينها لأوليائه ، ويعبر عنه بالتقدير والقضاء المعلق ، فانه عالم بالملازمات والاعدام.

اما العلم الأول ، فلا يعقل فيه البداء ، ولكن يكون منه البداء ، أي يكون منشأ للبداء كما صرح به في بعض الاخبار الصادرة عن أهل البيت.

وامّا العلم الثاني فليس فيه البداء ، لأنه حتمي على الفرض ، والبداء فيه مستلزم لتكذيب الأنبياء وإفحامهم تعالى عن ذلك ، وهو جل شأنه لا يكذب نفسه ولا نبيه ، كما ليس منه البداء لأنه ظاهر واضح على الفرض ، وليس خفيا على العباد.

وامّا العلم الثالث ، ففيه البداء فانه اخبار بتحقق أمور معلقا على ان لا تكون المشية على خلافه ، كما انا نخبر بأمور تارة بنحو الحتم ، وأخرى : بتحققها معلقا على أن لا يتوسط في ذلك أحد مثلا ، فإذا كانت المشية على خلافها بحسب ما هو معلوم له جلّ شأنه بعلمه المكنون ولم يتحقق ذلك المخبر به يكون هذا بداء ، وهو لا يستلزم الجهل ولا غيره مما لا يليق بمقامه المقدس ، لما عرفت انّ العلم بالملازمة لا ينافي عدم تحقق الملزوم ، ولذا ورد عن الأئمة عليهم‌السلام [لو لا آية من كتاب الله لأخبرتك بما كان وما يكون وهي قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١)] وهذا المعنى مما يجب التدين به ، فانّ معناه قاهريته تعالى على كل شيء وكون جميع الأشياء تحت مشيته وقدرته.

ونمثل لما ذكرناه مثالا من القوانين الدولية ، فانّ كل من يعرف القانون إذا سألته عن حكم من قتل نفسا متعمدا يقول : انّ حكمه الشنق أو السجن ، وهذا امر على القاعدة إلّا انه معلق على عدم صدور الإرادة الملكية على خلاف ذلك ولا

__________________

(١) الرعد ـ ٣٩.

يعرف ذلك أحد حتى الملك نفسه. فالمشية الإلهية بمنزلة الإرادة الملكية ، والاخبار التعليقية نظير القوانين ، غاية الأمر في المقام مولانا جلّ شأنه عالم بعلمه المكنون بالمشية ، والملك غير عارف بإرادته قبل تحققها.

هذا كله في الأمر الأول.

وامّا الأمر الثاني ، وهو ما صدر عن بعض الأنبياء والأئمّة من الإخبارات التي لم تتحقق خارجا ، فنقول : انّ الاخبار بشيء تارة : يكون اخبارا حتميا منجزا فهو من القسم الثاني ، ولا بدّ وان يقع ، وإلّا يلزم تكذيب الأنبياء. وأخرى : يكون تعليقيا وقد صرح فيه بالتعليق على المشية صريحا فتكون تلك القرائن العامة كافية في كونه معلقا على المشية ، فلا يلزم من عدم تحقق المخبر به في الخارج محذور.

ثم لا يخفى انّ العامة الذين شنعوا على الشيعة بل استهزءوا بهم لالتزامهم بالبداء أيضا التزموا به ، والاخبار الواردة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرقهم في ذلك أكثر مما ورد من طرق الخاصة ، قد حكاها جماعة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كابن عباس وغيره منها : ما ورد في تفسير الآية الشريفة (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) ومنها : ما ورد في باب الأدعية إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم ، ولذا التزم جملة منهم بإمكان البداء في كل شيء ، واستثنى بعضهم من ذلك السعادة والشقاوة تمسكا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الشقي شقي في بطن أمه» وبما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انه رأى أحد الصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيده اليمنى كتاب وبيده اليسرى كتاب ، فسئل عما في يمينه ، فقال : كتاب فيه أسامي أهل الجنة ، وعما في يساره ، فأجاب : بأنه كتاب فيه أسامي أهل النار. ولكن يخالف ذلك ما رووه عن عمر من انه كان يدعو ويقول : «اللهم ان كنت سعيدا فثبتني ، وان كنت شقيا فامحني واجعلني سعيدا» وقد رووا عن كعب الأحبار ، انه قال لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون وهي قوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ).

فالبداء مما اتفق عليه الخاصة والعامة. وقد عرفت انه بالمعنى الّذي بيناه غير

مستلزم لمحذور أصلا ، بل هو مما لا بدّ منه عقلا ، والروايات إرشاد إلى حكم العقل ، فانه مستقل بأنه تعالى عالم بجميع الأشياء حتى الملازمات والمعدومات ، لأنه تعالى مجمع الصفات الحسنة التي منها العلم بجميع الأشياء.

بقي الكلام في وجه تسمية ذلك بالبداء. ويذكر له وجهان :

الأول : المشاكلة ، فانّ تعلق مشيته المقدسة بعدم تحقق ما تحقق المقتضي لثبوته شبيه بالبداء الحقيقي ، ومن هذا الباب قوله تعالى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١) مع انه كان عالما به ، وقوله تعالى (لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٢) مع انه كان مميزا عنده.

الثاني : وهو وجه دقيق بعيد عن الفهم العرفي ، وتوضيحه يكون ببيان مقدمة وهي : انه تعالى له علمان ، علمه الذاتي وهو انكشاف ذاته لديه ، وفي هذا يتحد العلم والعالم والمعلوم ، فانّ العالم ذاته والمعلوم ذاته والانكشاف أيضا ذاته المقدسة ، وعلمه الفعلي وهو علمه بمخلوقاته ، فانها حاضرة لديه جل وعلا بأعلى مراتب الحضور ، ونمثل لذلك بعلمنا ، فانّ الإنسان إذا تصور صورة شيء خارجي في ذهنه فيكون عالما به بالعلم الحصولي أي ترتسم صورة منه في الذهن ، وهذا هو المعبر عنه بالعلم الحصولي المستحيل فيه تعالى وتقدس. وامّا نفس تلك الصورة التي هي مخلوقة للنفس فهي بواقعها حاضرة لدى النّفس ، والنّفس عالمة بها لا بصورتها وإلّا لزم التسلسل ، كما انّ علم النّفس بنفسها أيضا حضوري ، فانّ النّفس بواقعها حاضرة لدى النّفس ، وفيه يتحد العالم والمعلوم. وعلم الباري جل شأنه بمخلوقاته حضوري نظير علم النّفس بمخلوقاتها ، وعلمه بذاته نظير علم النّفس بذاتها فانّ النّفس مرآة له تعالى ذاتا وفعلا وصفة ، وهذا معنى قوله تعالى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ

__________________

(١) الكهف ـ ١٢.

(٢) الأنفال ـ ٣٧.

مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)(١) فانّ جميع الأشياء بتحققها ووجوداتها حاضرة لديه بأعلى مراتب الحضور.

إذا عرفت هذا فنقول : إذا كان المقتضي لتحقق شيء موجودا فلم يوجد بل وجد خلافه بمشيته المكنونة فقد بدا وظهر له ما وجد ، لما ذكرنا من علمه الفعلي ، وانه بمعنى حضور الأشياء بوجوداتها لديه وظهورها عنده ، فيصدق انه بدا له تعالى لوجوده بعد ما كان خلافه ظاهرا عند الناس.

واما البداء الثابت في حق بعض الأئمة عليهم‌السلام وأولهم الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام بالإضافة إلى إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام ، وثانيهم الجواد عليه‌السلام ، وثالثهم الهادي ، ورابعهم الحسن العسكري عليه‌السلام كما هو وارد في زياراتهم فتوضيح الحال فيه : انّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا معينين بأشخاصهم ولم يكن العلم بهم من العلم المكنون ، بل أخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض عباده بذلك ، بل كانت أسماؤهم مذكورة في مصحف الصدّيقة عليها‌السلام ، وقد روى انّ رجلا دخل على أمير المؤمنين عليه‌السلام وشهد بإمامة الاثني عشر بأسمائهم عليهم‌السلام وكان هو الخضر عليه‌السلام إلّا انه لم يكن امرا ظاهرا لعامة الناس حتى الشيعة ، وانما كانوا يعلمون بأنّ الإمام اللاحق بعد السابق هو ولده الأكبر إذا كان صالحا للإمامة ، وانّ الإمامة لم تجتمع في أخوين إلّا في الحسنين عليهما‌السلام ، ولذا انتقلت الإمامة إلى الحسين عليه‌السلام من أمير المؤمنين لا من أخيه الحسن عليه‌السلام ، ولذا تقول في زيارته السلام عليك يا وارث علي أمير المؤمنين ، ويا وصي أمير المؤمنين ، وليس في زياراته السلام عليك يا وارث الحسن ، ولذا كان الحسن عليه‌السلام إماما في حياة أخيه الحسين غايته كان يلزم عليه متابعة الحسن لكبره.

وبالجملة هذه الكبرى الكلية وهي انّ الإمامة تنتقل إلى الولد الأكبر مع

__________________

(١) يونس ـ ٦١.

صلوحه كانت ظاهرة عند أغلب الشيعة ، ولم يكن بيان الإمام تفصيلا لعامة الناس ممكنا للأئمة عليهم‌السلام لابتلائهم بالتقية ، بل كانوا يخفون كثيرا كما هو ظاهر. ولهذه الكبرى كانت الشيعة تتخيل انّ الإمام بعد الصادق عليه‌السلام ولده إسماعيل لكبره وجلالة قدره لعدم علمهم بموته ، فإذا مات وتحققت في الخارج إمامة موسى بن جعفر بدا لله بوجوده وتحققه بعد ما كان امرا خفيا عند الناس فظهر لهم أيضا. هذا معنى البداء بالإضافة إلى مولانا موسى ابن جعفر ، وقد وقع نظيره في الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بالإضافة إلى السيد محمد عليه‌السلام ، فيجري فيه ما قدمناه. وامّا البداء في أبي جعفر الجواد والهادي عليهما‌السلام فيكون من جهة البداء الثابت في حق موسى ابن جعفر ، فانّ البداء في حقه بداء في حق أولاده أيضا بحسب الكبرى المتقدمة.

مبحث المطلق والمقيد

المجمل والمبيّن

تعريف الإطلاق والتقييد.

حمل المطلق على المقيد.

الإطلاق الشمولي والبدلي.

(المطلق والمقيد)

الظاهر انه ليس للقوم اصطلاح خاص في هذين اللفظين ، بل يريدون بالمطلق اللغوي وهو المرسل ، وبالمقيد خلافه ، ويتصف بكل منهما كل من اللفظ والمعنى ، فيقال : معنى مطلق أو لفظ مقيد ، وعلى هذا فلا وجه لتعريف المطلق والمقيد ثم الإشكال عليه بعدم الاطراد والانعكاس.

وقد تعرضوا بالمناسبة لبيان ما وضع له جملة من الأسماء.

منها : اسم الجنس. فنقول في توضيحه : انّ الإنسان قد يلحظ الماهية مقتصرا على ذاتياتها ولا يلاحظ معها شيء آخر أصلا حتى الاقتصار على الذات وعدمه ويعبر عنها بالماهية المهملة ، ولا يحمل عليها شيء سواء ذاتها وذاتياتها ، فيقال : الإنسان من حيث هو حيوان أو ناطق أو حيوان ناطق بنحو القضايا الأولية ، وهي موجودة في ضمن جميع الأقسام الآتية ، وهي المعبر عنها بالكلي الطبيعي. وقد تلحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتياتها ، ويعبر عنها حينئذ أي إذا لوحظت مع لحاظ الخارج عن ذاتياتها باللابشرط المقسمي ، وكأنّه قسم للطبيعة المهملة ، لأنها لم يكن يلحظ معها شيء خارج عن ذاتها ، وفي اللابشرط المقسمي يلحظ ذلك وهو مقسم للاقسام الآتية ، فانّ الماهية بعد ما لوحظت مع الخارج عن ذاتياتها.

فتارة : تلحظ موضوعيا بحيث لا تصدق على شيء من افرادها أصلا ، ويعبر عنها بالماهية المجردة وبشرط لا ، وهي الكلي العقلي ، ولا موطن لها إلّا في الذهن ، فلا يحمل عليها إلّا المعقولات الثانوية مثل عنوان نوع ان كان جامعا بين الافراد ، أو عنوان جنس ان كان جامعا بين الأنواع.

وأخرى : تلحظ مرآة لكن بحيث لا تصدق إلّا على بعض الافراد كصنف منها كالإنسان المقيد بالعلم ، ويعبر عنها بالماهية المخلوطة وبشرط شيء ، ولا يفرق في ذلك بين ان يكون القيد امرا وجوديا ، أو عدميا من قبيل عدم الملكة ، أو السلب في قبال الإيجاب ، وتوهم كون ذلك من قبيل بشرط لا إذا كان القيد عدميا خلاف الاصطلاح.

وثالثة : تلحظ الطبيعة فانية في جميع الافراد بإلغاء جميع القيود وعدم دخل شيء منها المستلزم لسريانها في جميع الافراد ، لا أخذ جميعها فان أريد التصريح بذلك يقال : أكرم كل إنسان سواء كان عالما أو لم يكن ، سواء كان فاسقا أو لم يكن ، فجميع القيود تكون ملغاة ، وهذه هي اللابشرط القسمي المعبر عنها بالطبيعة المطلقة.

وتحصل مما ذكر أمور :

الأول : فساد ما ذكره في الكفاية (١) من انّ اللابشرط القسمي وهي الطبيعة السارية كلي عقلي غير قابل للصدق على الافراد ، فانّ لحاظ السريان غير مأخوذ فيها ، بل الملحوظ هو إلغاء جميع القيود وطرحها ، وهو يستلزم السريان.

الثاني : فساد ما ذكره الميرزا قدس‌سره من انّ اللابشرط المقسمي ليس هو الكلي الطبيعي المنطبق على الافراد ، وانما هو اللابشرط القسمي ، فانّ اللابشرط المقسمي هو الجهة الجامعة بين ما ينطبق على ما في الخارج وما لا ينطبق ، فكيف يكون منطبقا عليه (٢).

ووجه الفساد انّ الكلي الطبيعي هو ما يكون قابلا للصدق على ما في الخارج ، ولا يعتبر فيه الصدق بالفعل ، فالمعتبر فيه قابلية الصدق ، ومن الواضح انّ القدر

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧٨.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٥٢٣.

الجامع بين ما ينطبق وما لا ينطبق قابل للصدق والانطباق ولو بلحاظ بعض أصنافه.

الثالث : انّ الماهية المهملة ليست هي اللابشرط المقسمي الّذي هو المقسم للابشرط القسمي وبشرط لا وبشرط شيء ، بل هو كالقسيم لها للحاظ الخارج عن الذاتيات معها ، وبعد لحاظ الخارج عن مقام الذات يحصل التقسيمات الثلاثة من المجردة والمخلوطة والمطلقة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّ اسم الجنس مطلقا ولو كان من قبيل الأمور الاعتبارية موضوع لنفس الذات ، والشاهد عليه صحة استعماله في جميع الأقسام بلا عناية ، فيقال : الإنسان نوع ، ويقال : الإنسان العالم يجب إكرامه ، ويقال : كل إنسان ضاحك بالقوة ، ويقال : الإنسان حيوان ناطق ، وعليه فلا يدل من حيث هو إلّا على الذات ، والإطلاق لا بدّ وان يستفاد من دليل آخر.

ومنها : علم الجنس كلفظ أسامة. والمعروف انه موضوع للطبيعة المتعينة بالتعين الذهني ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة. وقد أشكل على ذلك في الكفاية (١) بأنه على هذا يكون كليا عقليا ، ولا يكاد يصدق على الخارجيات لتقيده باللحاظ الذهني ، ولا فائدة لوضع اللفظ لمثل ذلك ، فلا يصدر من الحكيم.

ونقول : بعد وضوح انّ مراده من الكلي العقلي ليس هو المصطلح أعني الطبيعة المقيدة بالكلية ، بل أطلقه مسامحة على الطبيعة المقيدة باللحاظ الذهني ، فانّ كلا منهما غير قابل للصدق على ما في الخارج ، انّ الكلام في ذلك تارة : يقع في مرحلة الإمكان ، وأخرى : في الوقوع.

اما المقام الأول ، فالقيد المأخوذ في الشيء ، تارة : يكون جزء له ، كالدار فانه

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

مقيد بالقبة والسرداب والسطح ، وكل منها يكون جزء لها ، وأخرى : شرطا له ، كما في الرقبة المقيدة بالايمان ، وثالثة : يكون أخذ القيد والتقيد لمجرد المعرفية ، فيكون مشيرا محضا من دون ان يكون له دخل في المقيد أصلا ، نظير ما إذا قال «أكرم أخا عمرو أو والد بكر» فانّ الأخوة أو البنوة انما أخذ قيدا لأنّ المخاطب لا يعرف إلّا بهذا العنوان من دون ان يكون لهما دخل في الحكم بوجوب الإكرام.

وعليه ففي المقام ان كان اللحاظ الذهني في علم الجنس جزء للموضوع له بان كان أسامة موضوعا للحيوان المفترس ، والتعين في الذهن أو شرطا له بان كان موضوعا للحصة الخاصة من الحيوان المفترس وهي المتعينة في الذهن لكان الأمر كما ذكره ، فانه يستحيل صدق الموجود الذهني بما هو كذلك على ما في الخارج إلّا بالتجريد والمفروض خلافه ، ولكن إذا أخذ التعين الذهني بالتصور أو التصديق في معناه معرفا محضا فلا يلزم محذور أصلا ، ونظير هذا ان يقول أعط الدراهم لمن تعلم بفقره ، أو لمن تعرفه علويا ، فهل يتوهم أحد استحالة امتثال مثل هذا التكليف لأنّ المتعين في الذهن لا ينطبق على ما في الخارج ، وهكذا لو قال أعطني ما تعرف انه الكتاب الفلاني ، فهل يجيبه المكلف انّ الموجود في ذهني يستحيل انطباقه على الخارج؟ كلا ، وليس هذا إلّا لأنّ أخذ العلم والمعرفة انما هو من جهة المعرفية والمشيرية لا غير ، فلفظ أسامة يمكن ان يكون موضوعا للحيوان المفترس المعلوم في الذهن لكن بنحو يكون العلم معرفا لا غير ، ولا يلزم منه عدم صدقه على ما في الخارج ، فهو إمكانا ممكن.

وامّا المقام الثاني ، أعني مرحلة الوقوع ، فالظاهر عدم أخذ التعين الذهني فيه أصلا ، فانّ العارف باللسان لا يفهم من لفظ أسامة سوى ما يفهمه من لفظ الأسد ، كما انّ غير العارف باللغة لا يفهم منهما شيء أصلا ، فوقوعا لم يوضع علم الجنس إلّا لما وضع له اسم الجنس وهو الطبيعة المهملة ، والظاهر انّ ما ذهب إليه المشهور من

النحويين من أخذ التعين الذهني في علم الجنس انما هو من جهة انّ العرب يعاملون معه معاملة المعرفة ، فالتزموا بذلك ، ولا حاجة إلى هذا التكليف أصلا ، ضرورة إمكان ان يكون في اللغة العربية نكرات يعامل معها معاملة المعارف ، فتكون معارف سماعية ، كما ثبت فيها مؤنثات سماعية ، وهي أسماء يعامل معها معاملة التأنيث من دون ان تكون مؤنثات حقيقية أو لفظية كالمكرر من أعضاء الإنسان مثل اليد والرّجل والعين وأمثال ذلك ، فيقال اليد اليمنى أو الرّجل اليسرى وهكذا من دون ان يكون مؤنثا لفظا ولا معنى.

ومنها : المفرد المعرف باللام ، ذكر في الكفاية (١) انّ المعروف انّ اللام تكون موضوعة للتعريف ومقيدة للتعيين في غير العهد الذهني. ثم أورد على ذلك بما تقدم من انّ لازم أخذ التعين في المعنى عدم صدقه على ما في الخارج.

ويجري فيه ما ذكرناه حرفا بحرف ، ثم اختار بعد ذلك انّ اللام مطلقا تكون للتزيين ، والتعيين مستفاد من خصوصيات الموارد.

ونقول : الظاهر انّ اللام موضوعة للإشارة نظير لفظ «هو» أو «ذا» غاية الأمر كما انه تارة : يشار بلفظ «هو» إلى الكلي فيقال : «الكلي هو الّذي يكون قابلا للصدق على الكثيرين» ، وأخرى : يشار به إلى الموجود الخارجي ، وثالثة : إلى غير ذلك ، كذلك لفظ (أل) تارة : يشار به إلى الطبيعي فيفيد الاستغراق كما في قوله تعالى (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)(٢) أي جنسه ، فيعم جميع الافراد إلّا ما استثنى ، وأخرى : يشار به إلى المذكور في الكلام كما في قوله تعالى (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)(٣) ويعبر عنه بالعهد الذكري ، وثالثة : يشار به إلى الخارج ، فيقال «أكرم

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٨٠.

(٢) العصر ـ ١.

(٣) المزمل ـ ١٦.

الرّجل ويعبر عنه بالعهد الخارجي.

وكل من هذه الخصوصيات لا بدّ وان يستفاد من الخارج كما هو الحال في لفظ «هو» وبقية أسماء الإشارة ، واما العهد الذهني فلم نعرف له معنى محصلا ليمكن الإشارة إليه باللام ، فان أريد منه المقيد باللحاظ الذهني ، فيرد عليه ما في الكفاية من لزوم عدم صدقه على ما في الخارج ، وان أريد به نفس الطبيعة فهو الجنس لا شيء آخر.

والظاهر والله العالم انّ النحاة رأوا انه قد يعامل مع المعرف باللام معاملة النكرة فيوصفونه بالجملة مع انها بحكم النكرة ، فذهبوا في تصحيحه إلى الالتزام بالعهد الذهني.

والصحيح : انّ اللام في مثل ذلك يكون للتزيين كما في الكفاية وهو بدل لتنوين التمكين الّذي لا يتم الاسم المعرب إلّا به أو باللام ، والشاهد عليه انا لا نرى أي فرق بين قوله «ولقد امر على اللئيم يسبني» الّذي مثلوا به للعهد الذهني وبين ان يقال : «ولقد امر على لئيم» بالتنوين أصلا ، ولهذا يعامل معه معاملة النكرة.

هذا كله في المفرد المعرف باللام.

وامّا الجمع المعرف به ، فقد تقدم الكلام فيه ، وذكرنا انه إشارة إلى الجماعة ، وبما انه ليس في الكلام ما يعينها من عهد ذكرى أو خارجي فلا بدّ وان يراد به الاستغراق ، ويكون إشارة إلى جميع الافراد وإلّا فيكون مجملا ، وأقل الجمع انما هو متيقن لا متعين ، فلا وجه للاقتصار عليه.

ثم لا يخفى انّ الشارح الرضي قد صرح بما ذكرناه من عدم الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس معنى ، وانهما موضوعان للطبيعة المهملة إلّا انهم يتعاملون مع علم الجنس معاملة المعرفة ، فتعريفه نظير التأنيث في المؤنثات السماعية. كما انه قدس‌سره صرح أيضا بما بيناه في العهد الذهني ، وذكر انا لا نرى فرقا من حيث المعنى بين

المعرف باللام للعهد الذهني بان يقول «أعطه الدرهم» وبين الفاقد للام بان يقول : «أعطه درهما» ، ومن ثم يتعاملون معه معاملة النكرة.

ومنها : النكرة. وتطلق تارة : في مقابل المعرفة ، وأخرى : في مقابل اسم الجنس ، ومحل كلامنا هو الإطلاق الثاني.

وذكر في الكفاية (١) انّ النكرة بالحمل الشائع امّا هو الفرد المعين في الواقع غير المعين عند المخاطب كما في قوله تعالى (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى)(٢) أو حصة خاصة من الطبيعي أي الماهية المقيدة بقيد الوحدة كما في قولك «أعط زيدا درهما أو درهمين» فإنه لو كان المراد به الجنس لشمل الدرهمين أيضا ولم يكن وجه لذكره فانه المستفاد منه.

امّا ما ذكره أولا فلا يمكن المساعدة عليه ، فانّ الرّجل في الآية لم يستعمل إلّا في الحصة الخاصة من الطبيعي أو المقيد بقيد الوحدة ، والتعين انما هو من لوازم الاخبار بالتحقق الخارجي ، فانّ الجائي لا يعقل ان لا يكون معينا في الخارج.

فالصحيح : ما ذكره ثانيا ، وانّ النكرة في مقابل اسم الجنس هي اللفظ الموضوع للماهية المقيدة بالوحدة توضيح ذلك : انّ اسم الجنس الموضوع تارة : يستعمل مع اللام فيكون إشارة إلى الجنس فيفيد الاستغراق ، وأخرى : يستعمل بلا كلمة (أل) فلا بدّ وان يكون مع التنوين إلّا في حال الوقف. والتنوين تارة : يكون تنوين التمكن أي ما يستقر به الاسم المختص بالأسماء المعربة ، وأخرى : يكون تنوين التنكير ، وبينهما عموم من وجه ، فقد يكون التنوين متمحضا في التمكن كما في قولك «أكرم زيدا» ، وأخرى متمحضا في التنكير كما في أسماء الأفعال التي هي مبنيات ، وقد يجتمعان كما في قولك «أعط زيدا درهما أو درهمين» فيستفاد منه امران التمكن

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٨١.

(٢) يس ـ ٢٠.

والتنكير ، فيدل على الحصة الخاصة من الطبيعي وهي المقيدة بالوحدة ، فالنكرة عبارة عن اسم الجنس إذا لحقه تنوين التنكير ، ويدل على الماهية المقيدة بالوحدة ، وهذا كله ظاهر لا كلام لنا فيه.

وانما الكلام فيما يطلق عليه عنوان المطلق ، وقد عرفت عدم ثبوت اصطلاح خاص فيه وفي لفظ المقيد ، وانه يراد منهما معناهما اللغوي أي الإرسال فيقال : «فرس مطلق العنان» ، وفي قباله المقيد وهو خلافه ، فيتصف بكل منهما كل من اللفظ والمعنى كما تقدم ، وعليه فنطلق المطلق على اسم الجنس وعلى النكرة وعلى علم الشخص أيضا بلحاظ حالاته فانّ كلا منها مرسل بحسب اللفظ إذا لم يقيد بقيد لفظا ، وبحسب المعنى إذا لم يلحظ فيه قيد.

ثم بقي الكلام في انّ تقييد المطلق يوجب مجازيته أم لا؟

اما في عدم استلزامه المجازية في علم الشخص فواضح ، لأنه لم يوضع إلّا للشخص ، فلا ينافيه التقييد من حيث الحالات.

واما في اسم الجنس والنكرة ، فالأقوال ثلاثة : ثالثها : التفصيل بين التقييد بالمتصل وانه مجاز ، وبين التقييد بالمنفصل وانه حقيقة.

اما التفصيل فلا وجه له ، إذ لا دخل في اتصال القرينة وانفصالها في كون اللفظ مستعملا في معناه وعدمه ، فلا بدّ من القول بالحقيقة مطلقا ، أو بالمجاز كذلك ، ويبتنى القولان على الخلاف فيما وضع له اسم الجنس ، فان قلنا : بأنه موضوع للابشرط القسمي أو الطبيعة المطلقة التي لوحظ فيها رفض جميع القيود والخصوصيات فلا محالة يستلزم التقييد للمجازية ، فانّ المقيد غير مستعمل في الماهية كذلك بالضرورة ، واللابشرط القسمي يباين بشرط شيء. واما ان قلنا : بأنه موضوع للماهية المهملة كما هو المختار فالتقييد لا يستلزم المجازية ، لأنّ الماهية المهملة موجودة في جميع الأقسام ، وقد عرفت انه هو الصحيح ، وذلك لصحة استعمال اسم

الجنس في نفس الماهية في الحدود فيقال : «الإنسان حيوان ناطق» وفي المجرد فيقال : «الإنسان نوع» وفي المخلوطة فيقال «الإنسان الضاحك» وفي المطلقة فيقال : «أكرم كل إنسان» من غير حاجة إلى عناية ومسامحة. هذا مضافا إلى انّ حكمة الوضع أيضا تقتضي وضعه لذلك دون اللابشرط القسمي للحاجة إلى الاستعمال في جميع الأقسام دون خصوصية ، فالتقييد مطلقا لا يستلزم المجازية إلّا إذا لم يكن التقييد بنحو تعدد الدال والمدلول بل استعمل اللفظ في المقيد بما هو مقيد فيكون مجازا لا محالة.

ثم انه بعد ما أثبتنا كون اسم الجنس موضوعا للماهية المهملة ، وانّ كلا من التقييد المعبر عنه بشرط شيء والإطلاق المعبر عنه باللابشرط القسمي خارجان عما وضع له لفظه ، لا بدّ وان يكون استفادة كل منهما بقرينة خارجية حالية أو مقالية ، فإذا شككنا في مورد في الإطلاق والتقييد فحينئذ يدور الأمر بين قسمين أي اللابشرط القسمي أو بشرط شيء ، واما بشرط لا فهو غير محتمل في القضايا المتعارفة لما عرفت من انه غير قابل للطلب أصلا ، بل لا يحمل عليه شيء سوى ما كان من المعقولات الثانوية حيث لا موطن لها إلّا في الذهن.

وبالجملة إذا شك في الإطلاق والتقييد ، فهل يكون قرينة عامة يستفاد منها الإطلاق أم لا؟

المعروف هو الأول ، ويعبر عن تلك القرينة بقرينة الحكمة لاختصاص قرينتها بما إذا كان المتكلم حكيما ، ولا تنتج في المتكلم السفيه وما يلحق به ، وهذه القرينة مركبة من مقدمات.

المقدمة الأولى : ورود الحكم على المقسم وتمكن المتكلم من التقييد ، وتوضيح ذلك : وان كان قد تقدم الكلام فيه في مبحث التعبدي والتوصلي بما لا مزيد عليه هو : انا قد ذكرنا آنفا انّ الإطلاق والتقييد مما يتصف بهما كل من اللفظ والمعنى ،

فالإطلاق أو التقييد تارة : يكون ثبوتيا ، وأخرى : إثباتيا. امّا الثبوتيان فالتقابل بينهما ليس تقابل العدم والملكة كما توهم ، بل تقابل التضاد ، لأنّ كلا منهما امر وجودي متقوم باللحاظ ، فالتقييد عبارة عن لحاظ قيد وأخذه في الماهية وهي الماهية بشرط شيء ، والإطلاق عبارة عن لحاظ القيود ورفضها في مقام الحكم المعبر عنه سواء كان كذا أو كذا الّذي هو مستلزم للسريان لجميع الافراد وهي الماهية اللابشرط القسمي ، فهما ضدان ، ومن هنا ذكرنا في ما تقدم انّ استحالة أحدهما بعد وضوح استحالة الإهمال النّفس الأمري تستدعي ضرورية الآخر ، لا استحالته كما توهم مبنيا على التوهم السابق. وامّا الإطلاق والتقييد في مقام الإثبات فتقابلهما تقابل العدم والملكة ، فانّ الإطلاق عبارة عن عدم ذكر القيد في الكلام في مورد قابل للتقييد ، وعليه فإذا استحال التقييد في مورد ولم يتمكن المولى منه لتقية أو سعال أو عدم ورود الحكم على المقسم أو نحوه استحال الإطلاق أيضا ، فلا نتمكن من استكشاف إطلاق المراد من اللفظ أصلا. فالمقدمة الأولى للتمسك بالإطلاق هي تمكن المتكلم من التقييد لو كان مراده مقيدا.

المقدمة الثانية : كون المتكلم في مقام البيان ، فلو فرضنا انه في مقام الإهمال وأصل التشريع كما لو رأى طبيب مريضا في الطريق وقال له لا بدّ لك من شرب الدواء لا يتوهم عاقل جواز التمسك بإطلاق مثل ذاك الكلام وشرب مطلق ما يصدق عليه الدواء ، وهكذا لو كان في مقام البيان من جهة لا يمكن التمسك بإطلاق كلامه من الجهة الأخرى التي لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان منها ، مثلا قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ)(١) في مقام البيان قطعا من جهة عدم اعتبار التذكية بالذبح فيما يصطاده الكلب ، فهل يتوهم التمسك بإطلاقه من حيث عدم نجاسة

__________________

(١) المائدة ـ ٤.

موضع فم الكلب ، أو عدم وجوب غسله من دمائه أو غير ذلك؟! وهكذا ما ورد في العفو عن الدم إذا كان أقل من الدرهم في الصلاة ، فهل يمكن التمسك بإطلاقه من غير جهة النجاسة مثل كونه من غير المأكول أيضا؟! وكذلك ما ورد في العفو عن نجاسة مما لا تتم فيه الصلاة وحده ، فهل يمكن التمسك بإطلاقه من حيث الغصبية أيضا ، والقول بجواز الصلاة فيما لا تتم فيه الصلاة إذا كان متنجسا ولو كان مغصوبا إلى غير ذلك؟! فكون المولى في مقام البيان من جهة لا يصح إلّا بالتمسك بالإطلاق من تلك الجهة لا من تمام الجهات.

ثم لو شككنا في كون المتكلم في مقام البيان من جميع الجهات بعد إحراز كونه في مقام البيان من جهة خاصة معينة ، فهل هناك بناء من العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات أم لا؟

امّا إذا شك في أصل كون المولى في مقام البيان في مقابل كونه في مقام الإهمال ، فبناء العقلاء ثابت على كونه في مقام البيان ، فانّ الغرض من وضع الألفاظ انما هو بيان المرادات بها ، وهو واضح ، واما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة واحتملنا كونه في مقام البيان من بقية الجهات ، ويعبر عنه بالإطلاق الوارد في مقام بيان حكم آخر ، فلم يثبت بناء من العقلاء على إثبات ذلك أصلا ، بل كثيرا ما لا يلتفت المتكلم إلى جميع جهات الكلام فضلا عن ان يكون في مقام بيانها ، فلا بدّ حينئذ من الاقتصار في الأخذ بالإطلاق على الجهة التي أحرز كون المولى في مقام بيانها.

والفرق بين القسمين هو انه إذا شككنا في كون المتكلم في مقام البيان أو الإهمال ، فحيث انّ الإهمال الثبوتي غير معقول على ما تقدم الكلام فيه وانه لا بدّ من الإطلاق أو التقييد ، ومقام الإثبات واللفظ تابع لمقام الثبوت إبرازا وان كان الأمر بالعكس كشفا فانّ الألفاظ موضوعة لإبراز مقام الثبوت ، فلا محالة لا يكون

الإهمال ثابتا في مرحلة الإثبات واللفظ أيضا ، إلّا إذا كان هناك غرض على الإهمال ونصب عليه قرينة ، وإلّا فالمتكلم حينئذ خارج عن طرق المحاورات العرفية ، بل لا بدّ من الإطلاق أو التقييد ، ومن هنا استقر بناء العقلاء على الحكم بكون المتكلم في مقام البيان لا الإهمال مهما شك في ذلك. وهذا بخلاف ما إذا أحرزنا كونه في مقام البيان من جهة واحتملنا كونه في مقام البيان من جهات آخر ، فانّ الشك حينئذ في سعة مقام الثبوت وضيقه ، ومن ثم لم يستقر بناء من العقلاء على كونه في مقام البيان من جميع الجهات ، وهذا هو الفارق بين القسمين.

ثم انه ما المراد بالبيان المعتبر في مقدمات الحكمة.

لا ينبغي الريب في انه لم يرد منه كون المتكلم في مقام التفهيم في الجملة ، فانه ثابت في كلام كل متكلم ، ولو كان في مقام التشريع إلّا إذا كان غافلا أو نائما. كما انه لا يراد منه كونه في مقام بيان تمام ما له دخل في مراده الجدي ، فانه مناف لتأخير ذكر القرينة وانفصالها عن علم وعمد ، مضافا إلى انه غير ثابت في موارد ثبوت الوضع للفظ أي الدلالات الوضعيّة فضلا عن موارد الإطلاق والسكوت في مقام البيان ، فانّ الألفاظ على ما تقدم الكلام فيها غير موضوعة للمرادات الجدية ، وانما هي موضوعة للمرادات الاستعمالية وقصد التفهيم ، ومن هنا فصلنا في بحث العام والخاصّ بين الإرادتين أعني الإرادة الجدية والإرادة الاستعمالية ، وذكرنا انّ تطابقهما انما يكون ببناء العقلاء ، من باب تبعية مقام الثبوت للإثبات كشفا ، وانّ المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي سعة وضيقا ، وإلّا فيمكن في الواقع ان يكون المراد الاستعمالي عاما والمراد الجدي خاصا ، غاية الأمر إذا كان المراد الاستعمالي عاما بحسب وضع اللفظ وعدم نصب قرينة على التخصيص يثبت عموم المراد الجدي أيضا ببناء العقلاء المعبر عنه بأصالة الظهور على ما عرفت. وهكذا في المطلق إذا كان المتكلم في مقام بيان المراد الاستعمالي وتفهيمه وسكت عن ذكر القيد وبيانه ،

مثلا قال «أكرم عالما» فهو في قوة التصريح بقول «أكرم أي عالم» فيثبت إطلاق المراد الجدي ببناء العقلاء على مطابقة الإرادتين. فالمراد من كون المتكلم في مقام البيان امر وسط بين الأمرين ، وهو كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي أي تفهيم اللفظ.

هذا ويترتب على ما ذكرناه امران.

الأول : انّ المقيد المنفصل لا يكشف عن كون المتكلم في مقام الإهمال ، لأنّ التقييد انما يكشف عن تقيد المراد الجدي دون المراد الاستعمالي كما بيناه في المخصص المنفصل ، وهو لا ينافي إطلاق المراد الاستعمالي ، ومن هنا قلنا : انّ تخصيص العام لا يوجب مجازيته.

الثاني : انّ العثور على مقيد انما يوجب رفع اليد عن الإطلاق بمقدار ما عثرنا عليه من المقيد ، وامّا في الزائد عليه فالإطلاق محكم وهو واضح.

المقدمة الثالثة : ان لا ينصب قرينة على التقييد لا متصلا لأنه يمنع عن تحقق الظهور في الإطلاق ، ولا منفصلا لأنّ القرينة المنفصلة وان لم تكن مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق إلّا انها تمنع حجيتها ، فلا يترتب على المطلق حينئذ الثمر المرغوب منه ، وهو كشف إطلاق المراد الجدي.

فإذا تمت هذه المقدمات الثلاث ، أي كان المولى متمكنا من التقييد ، وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة ، وكان المتكلم حكيما ينعقد لكلامه الظهور في الإطلاق ، وينكشف بذلك ببناء العقلاء انّ مراده الواقعي أيضا مطلق ، إذ لو كان مراده في الواقع مقيدا وفعل ذلك لكان مخالفا لطريقة العرف والعقلاء ومحاوراتهم ، والحكيم لا يفعل ذلك. فلا نحتاج بعد هذه المقدمات إلى ضم ما ذكره في الكفاية من انّ المخالفة تكون نقضا للغرض ، ولا إلى غير ذلك أصلا ، بل يكفي مجرد المقدمات الثلاثة في الإنتاج.

واما اعتبار عدم وجود القدر المتيقن في التمسك بالإطلاق فتوضيح الكلام

فيه : انّ المراد من المتيقن ان لا يحتمل ثبوت الحكم لبعض الافراد أو الأصناف وعدم ثبوته لفرد أو لصنف خاص وان كان العكس بمعنى أولوية ثبوت الحكم لبعض الافراد بالإضافة إلى البعض الآخر. والمتيقن تارة : يكون متيقنا من الخارج من مناسبة الحكم والموضوع ونحوها ، ويعبر عنه بالمتيقن الخارجي ، وأخرى : يكون متيقنا من نفس الكلام وخصوصياته ، ويعبر عنه بالمتيقن في مقام التخاطب.

امّا القسم الأول : فكما لو قال المتكلم «أكرم عالما» فانّ العالم العادل هو المتيقن في ثبوت وجوب الإكرام له ، فانه لا يحتمل من مناسبة الحكم والموضوع ان يكون العالم الفاسق واجب الإكرام ولا يكون العالم العادل كذلك ، ويحتمل العكس ، ومن الواضح انه لا يضر بصحة التمسك بالإطلاق ، ولم يتوهمه أحد وإلّا لم يمكن التمسك بالإطلاق أصلا في أيّ مورد لوجود المتيقن بهذا المعنى في جميع الموارد.

وامّا القسم الثاني : فيتحقق بأمور ، منها : المورد أو مورد السؤال ، فانه كثيرا ما يكون السؤال مقيدا ويجب المتكلم بجواب مطلق يعم مورد السؤال ، وهو كثير في الاخبار ، مثلا يسأل عن حكم دم الرعاف في الصلاة ، فيجيب الإمام بنفي البأس عن الدم إذا كان أقل من الدرهم ، فانّ شمول الجواب لمورد السؤال ودخوله تحت الجواب متيقن في مقام التخاطب بحيث يفهمه المخاطب من نفس الجواب ، إذ يقبح على المتكلم ان يجيب عن السؤال بما لا يعمه لغير غرض وضرورة من تقية ونحوها.

وربما توهم انّ وجود المتيقن في مقام التخاطب يمنع عن الإطلاق.

وفيه : ما لا يخفى ، فانّ المعيار انما هو بالجواب ، ومورد السؤال انما هو من صغرياته ، وليس تيقنه إلّا لذلك لا لاختصاص الحكم به ، والفهم العرفي شاهد عليه ، ومن ثم قالوا : في العام انّ المورد لا يكون مخصصا.

ونقول في المقام : انه لا يكون مقيدا وإلّا لما أمكن التمسك بأغلب الاخبار الواردة في شرائط الصلاة وموانعها ، فانها مسبوقة بالسؤال ، وصاحب الكفاية قدس‌سره

أيضا غير ملتزم به في الفقه. فإذا تمت المقدمات المتقدمة فيتحقق الإطلاق ولو كان هناك متيقن في مقام التخاطب ، ويثبت به الإطلاق الثبوتي ببناء العقلاء على تبعيته له كشفا.

وامّا الانصراف ، فهل يكون مانعا عن الإطلاق أم لا؟

نقول : انصراف اللفظ عن فرد أو صنف تارة : يكون بدويا ناشئا من غلبة وجود بعض الأصناف دون بعض ، كانصراف لفظ الماء في النجف الأشرف إلى ماء الكوفة أو البئر مثلا لكونه متعارفا فيه دون غيره ، فلو قال أحد هناك يجب على كل أحد ان يشرب الماء في الساعة الفلانية ينصرف ذهن الأهالي إلى ماء النهر ، إلّا انه بدوي يزول بأدنى تأمل في ما وضع له لفظ الماء وتساويه من حيث الصدق عليه وعلى غيره من الأفراد ، وهذا لا يمنع عن تحقق الإطلاق أصلا.

وأخرى : يكون انصرافا حقيقيا ثابتا عند العرف ، كما في الماهيات التشكيكية التي يكون صدقها على بعض الأفراد أولى من صدقها على البعض الآخر ، وهذه الأولوية كالأولوية في قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(١) وهذا نظير انصراف الحيوان عن الإنسان ، فانّ الحيوان بمادته وهي الحياة بمعنى الحركة بالإرادة ، وهيئته وهي فعلان صفة مشبهة بمعنى المتصف بالحياة يصدق لغة على الإنسان أيضا إلّا انه لشرافته كأنه ليس من أفراده عرفا ، ولذا لو خوطب إنسان بلفظ أيّها الحيوان يغضب ، ولو قيل لأحد جئني بحيوان فجاءه برجل شريف معتبر ربما يضحك على فعله ، وليس هذا إلّا لانصراف الحيوان عن الإنسان عرفا ، وهذا النحو من الانصراف مانع عن الإطلاق جزما لمنعه عن تحقق أول مقدمة من مقدماته وهي ورود الحكم على المقسم ، فانّ الحيوان بالفهم العرفي غير

__________________

(١) الأنفال ـ ٧٥.

قابل للتقسيم إلى الإنسان.

وثالثة : يكون الانصراف من جهة الشك في الصدق على ما اصطلح عليه الشيخ قدس‌سره في قبال الشبهة المصداقية ، بان كان الشك في سعة المفهوم وضيقه في مقام التطبيق بعد وضوحه في الجملة ، وقد مثل له بلفظ الماء ، فإنه من أوضح المفاهيم العرفية ومع ذلك في مقام التطبيق يشك في صدقه على ماء الزاج والكبريت ، وانه ماء مخلوط بوحل وكدر حار أولا ينطبق عليه عنوان الماء.

والانصراف بهذا المعنى أيضا يمنع الإطلاق إذ معه يشك في تحقق المقدمة الأولى أعني ورود الحكم على المقسم لعدم إحراز كون العنوان مقسما حينئذ ، ولا بدّ من إحرازها في التمسك بالإطلاق ، وهذا كله واضح.

فصل : إذا ورد مطلق ومقيد ، فتارة : يكونان مثبتين ، وأخرى : نافيين ، وثالثة ، يكونان مختلفين ، وكأنّ حمل المطلق على المقيد في القسم الأخير فيما إذا كان المطلق مثبتا والمقيد نافيا مورد التسالم بينهم ، وقد وقع الاستدلال والنقض والإبرام في القسم الأول. ونقول : يقع الكلام في المقام في موردين.

الأول : ما إذا كان المطلوب في المطلق بنحو صرف الوجود.

الثاني : فيما إذا كان بنحو مطلق الوجود أي انحلاليا.

امّا المورد الأول : فكما لو ورد في دليل «أكرم عالما» وفي دليل آخر «لا تكرم فساقهم وأكرم العالم العادل» وقد عرفت انّ الاستدلال والإشكال وان وقع في خصوص الثاني إلّا انه غير منحصر به ، بل يجري في القسم الأول أيضا إيرادا وجوابا.

فمن جملة ما استدل به على ذلك انّ حمل المطلق على المقيد هو الّذي يقتضيه الجمع بين دليلين.

وأورد عليه بأنه غير منحصر بحمل المطلق على المقيد ، إذ يمكن الجمع بينهما

بحمل المقيد على الاستحباب أي على بيان الفرد أو الصنف الأفضل ، وهذا هو المراد من حمله على الاستحباب ، وإلّا فلا معنى لاستحباب بعض أفراد الواجب. ومن الظاهر جريان هذا الاستدلال والإيراد فيما إذا كان المقيد نافيا أيضا ، إذ لا ينحصر فيه الجمع بين الدليلين بحمل المطلق على المقيد ، إذ يمكن ذلك بحمل النهي على الكراهة وأردإ الأفراد.

وقد أجاب في الكفاية (١) عن الإيراد بأنّ ظهور الأمر في المقيد في الوجوب أقوى من ظهور الأمر في المطلق في الإطلاق. وهذا الجواب أيضا جار في المقيد المنفي ، ولكن صدوره منه عجيب ، فانه قدس‌سره صرح في مبحث الأوامر بأنّ التعينية والتعيينية والنفسيّة كل ذلك مستفاد من مقدمات الحكمة ، وعليه فالمعارضة في الحقيقة تكون بين إطلاقين ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

والظاهر انّ جميع الوجوه المذكورة اعوجاج من غير داع ، والّذي ينبغي ان يقال في المطلق والمقيد المثبتين هو انه إذا علمنا من الخارج وحدة الحكم وان كان بحسب الدليل متعددا ، فلا مناص حينئذ من حمل المطلق على المقيد ، فانّ المقيد يكون قرينة على المطلق ، وظهور القرينة مقدم على ظهور ذيها بلا شبهة ، والشاهد على قرينيته فرضهما في كلام واحد متصل ، فان قال متصلا «اشتر لي دارا أو اشتر لي دارا جامعة لخصوصيات كذا» فانّ العرف يفهم انّ مراده هو المقيد ، إذ لا فرق بين المتصل والمنفصل إلّا انّ الأول مانع عن انعقاد الظهور والثاني عن حجيته. ولا مجال في هذا الفرض لتوهم دوران الأمر بين رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب أو المطلق في الإطلاق ، فانّ المفروض قرينية المقيد على المطلق. وهذا كله واضح ، وانما المهم هو انه هل يمكن استفادة وحدة الحكم من نفس الدليلين أم لا يمكن؟

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٩٣.

والحاصل : انه إذا ورد مطلق ومقيد وكان المطلق مما يجتزئ فيه المولى بصرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، فان علمنا من الخارج وحدة الحكم ، فيدور الأمر بين تقييد المطلق وحمله على المقيد ، وبين رفع اليد عن ظهور الأمر في المقيد في الوجوب وحمله على أفضل الأفراد ، وبما انّ المقيد أظهر لقرينيته على المطلب يتعين حمله عليه.

وامّا إذا لم نحرز وحدة الحكم من الخارج ، فالمحتملات أمور.

اثنان منها الوجهان المتقدمان.

الثالث : ان يحمل الأمر في المقيد على وجوب القيد ، نظير الواجب في واجب ، كما لو نذر الإتيان بالصلاة الواجبة في المسجد ، فانّ الخصوصية أيضا واجبة غاية الأمر طرفها ، الواجب الآخر بحيث لو أتى بالواجب الأول فاقدا لتلك الخصوصية لا يبقى مجال بعده لامتثال الأمر بالقيد فيعصي لا محالة.

الرابع : ان يحمل المقيد على وجوب حصة أخرى من الطبيعي المقيدة بذاك القيد.

امّا الاحتمالان الأولان إذا دار الأمر بينهما ، فقد عرفت انّ المتعين منهما حمل المطلق على المقيد دون حمل الأمر بالمقيد على أفضل الأفراد ، فيبقى الاحتمالان الآخران.

امّا الاحتمال الثالث ، أي حمل الأمر بالمقيد على وجوب الخصوصية فهو خلاف الظاهر ، لأنّ الأمر على الفرض قد تعلق بالحصة من الطبيعي لا بالقيد.

واما الاحتمال الرابع ففي نفسه وان كان لا بأس به إلّا انه عليه نقول : إذا أتى المكلف أولا بالمقيد ، فامّا ان لا يسقط الأمر بالمطلق ، فهو مخالف لظاهر الأمر بالمطلق أي الطبيعة أينما سرت ، فانّ المطلق متحقق في ضمن المقيد ، ولازمه سقوط الأمر به بإتيان المقيد ، وامّا ان يسقط الأمر بالمطلق أيضا على ما هو مقتضى

الإطلاق فيثبت المطلوب أعني به وحدة الحكم.

وامّا إذا أتى بالمطلق أي الفاقد للقيد أولا فالامر بالمقيد باق على حاله ، ولا بدّ من امتثاله بالإتيان بالمقيد ثانيا ، ونتيجة ذلك ثبوتا هو التخيير بين الأقل والأكثر أي بين الإتيان بالمقيد ابتداء أو الإتيان بغير المقيد أولا ثم الإتيان بالمقيد ثانيا ، وهذا خلاف ظاهر كلا الدليلين ، بل أي عاقل يبين هذا الوجوب التخييري ثبوتا بمثل ذاك الدليل في مقام الإثبات فنفس الدليلان كافيان في إثبات وحدة الحكم.

فالاحتمالان الأخيران يسقطان ، فيبقى الأولان ، وقد عرفت انّ المتعين منهما هو حمل المطلق على المقيد.

وبما بيناه ظهر انه لو أحرزنا من الخارج تعدد الحكمين كما لو قال «ان ظاهرت فأعتق رقبة» وفي دليل آخر «ان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» فانّ تعدد السبب يكشف عن تعدد الحكم لا يجري ما ذكرناه ، بل يكون هناك حكمان أحدهما : متعلق بصرف وجود المطلق ، والآخر بصرف وجود المقيد ، فإذا أتى المكلف بالمقيد ابتداء يبقى الأمر بالمطلق باقيا على حاله. كما ظهر أيضا عدم جريان ما ذكرناه في العامين من وجه ، كما إذا ورد «أكرم عالما» وورد أيضا «أكرم هاشميا» فأكرم العالم الهاشمي ، فانه ليس هناك إلزام من الشارع بالمقيد ليكون منافيا مع إطلاق المطلق ، بل التخيير فيه عقلي في مرحلة التطبيق والامتثال ، وكل من الحكمين متعلق بذات الطبيعي الملغى عنه جميع الخصوصيات تعيينا ، وليست الخصوصية والتقييد أعني إكرام العالم الهاشمي تحت الإلزام المولوي أصلا ، ولذا قبلنا انّ التداخل فيه على القاعدة ، وهذا بخلاف المقام الّذي فرض فيه تعلق الأمر بالمقيد بخصوصه المنافي للأمر بالمطلق المستلزم لثبوت التخيير الشرعي بين الأقل والأكثر بالنحو المذكور المخالف لظاهر الدليل.

وبالجملة فنفس الدليلين في الفرض كافيان في استكشاف وحدة الحكم

المستلزم لحمل المطلق على المقيد ، ومن هنا في الفقه يحمل العلماء المطلقات على المقيدات من دون ان يستشكل أحد على غيره في استكشاف وحدة الحكم وطريقه أصلا ، وليس ذلك إلّا من جهة كفاية نفس الدليلين لاستكشاف وحدة الحكم.

والحاصل : إذا ورد امر بالطبيعي على إطلاقه وامر آخر بحصة منه وثبتت وحدة الحكم يحمل المطلق على المقيد. وامّا إذا تعلق الأمر الثاني بالتقيد كما لو قال «صل» وقال «ولتكن صلاتك قائما» ، فإمكانا يمكن ان لا يحمل المطلق على المقيد ، بل يكون الأمر الثاني متعلقا بتطبيق الطبيعي المأمور به على الصنف الخاصّ مع بقاء الأمر الأول على إطلاقه ، كما لو نذر الإتيان بالفريضة في المسجد ، فانه لا يوجب زوال إطلاق الأمر بالصلاة ، بل يكون هناك تكليفان وحكمان من قبيل الواجب في واجب ، ولا يجري فيه ما تقدم في ما إذا كان الأمر الثاني متعلقا بحصة من الطبيعي ولكن يحمل فيه المطلق على المقيد لوجه آخر ، وهو ظهور الأوامر والنواهي المتعلقة بخصوصيات العبادات أو المعاملات بالمعنى الأعم في الإرشاد عرفا ، بداهة انه لو امر أحد خياطا بخياطة ثوبه ثم قال ولتكن خياطته روميا لا يستفاد منه إلّا انّ الأمر بالخياطة مقيد بذلك ، وهكذا لو قال اطبخ التمن ولا تجعل فيه ملحا لا يستفاد منه التحريم المولوي ، بل العرف يفهم انّ الطبخ مقيد بان لا يجعل فيه الملح ، وهكذا ، فظهور الأمر والنهي ينقلب في موارد تعلقهما بخصوصيات المركبات أو المقيدات إلى الإرشاد ، فالامر يكون إرشادا إلى الجزئية فيما أمكن الجزئية ، كما لو امر بالصلاة ثم قال ولتكن مع الركوع ، أو إلى الشرطية ، كما لو قال ولتكن صلاتك قائما ، والنهي يكون إرشادا إلى المانعية ، وهذا هو السر في حمل الأمر أو النهي المتعلق باجزاء المركبات على الإرشاد في الفقه ، فحمل المطلق على المقيد في الفرض انما يكون من هذه الجهة وإلّا فبحسب الإمكان لا مانع من بقاء الحكمين على مولويتهما ، ولا يلزم منه المحذور المذكور في الفرض المتقدم.

بقي التنبيه على أمور :

الأول : انه لو كان الدليلان ظاهرين في تعدد الحكم المستلزم لتعدد الامتثال لا يحمل المطلق على المقيد ، وانما يكون ذلك فيما إذا كان الدليلان ظاهرين في وحدة الحكم أو استفيد ذلك من الخارج ، وتفصيل ذلك وان تقدم في بحث التداخل إلّا انّه لا بأس بالتكرار إجمالا. فنقول : تارة : يكون كل من المطلق والمقيد مطلقا غير مشروط بشيء بان قال «صل قائما» ، أو كانا مشروطين بشرط واحد كما لو قال «ان ظاهرت أعتق رقبة» وقال أيضا «ان ظاهرت أعتق رقبة مؤمنة» وفي هذين الفرضين يحمل المطلق على المقيد على ما عرفت ، والحمل في الثاني أظهر لظهوره في وحدة الحكم في نفسه.

وأخرى : يكون المطلق مطلقا غير مشروط والمقيد يكون مشروطا ، كما لو قال «أعتق رقبة» وقال أيضا «ان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» فانّ ظاهر ذلك تعدد الحكم وانّ عتق مطلق الرقبة واجب على كل مكلف ، ويجب أيضا عتق خصوص المؤمنة على من ظاهر ، فلكل منها إطاعة وامتثال مستقل. وهكذا لو كان كل من المطلق والمقيد معلقا على سبب مغاير للآخر كما لو قال : «ان ظاهرت فأعتق رقبة» وقال أيضا : «ان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» وهذا أظهر في التعدد من سابقه.

وبالجملة فحمل المطلق على المقيد في المقام لا وجه له بعد ظهور الدليلين في التعدد أصلا كما هو واضح.

الثاني : انّ حمل المطلق على المقيد غير جار في المستحبات ، ولذا كأنه انتقض بها على من حمل المطلق على المقيد في الواجبات ، فانه يقال : لو كان المقيد قرينة عرفية على المطلق فلا يفرق فيه بين الإلزام وغيره أصلا ، وقد أجيب عنه بأمور من التسامح في السنن ، والعلم بكون المستحبات ذات مراتب وغيره مما لا يرجع إلى محصل.

والّذي ينبغي أن يقال : هو انّ المستحب المقيد يتصور على أقسام : فانه تارة : يكون له مفهوم ينفي الحكم المطلق ، كما لو ورد في دليل «صم أول الشهر» وفي دليل آخر «إذا كان الهواء باردا صم أول الشهر» فانّ مفهومه عدم وجوب الصوم إذا لم يكن الهواء باردا ، وفي هذا الفرض يحمل المطلق على المقيد ، لأنّ الإطلاق كان متوقفا على عدم البيان ، والمفهوم نعم البيان على انّ المراد لم يكن مطلقا بل كان مقيدا.

وأخرى : لا يكون للمقيد مفهوم. وهذا ينقسم إلى قسمين : لأنّ فيه امّا ان يكون متعلقا بالحصة من الطبيعي المطلق ، وامّا يكون متعلقا بالتقيد. وعلى الأول منهما لا يحمل المطلق على المقيد أصلا ، لا لما ذكر من الوجوه الفاسدة ، بل لأنّ المقيد لم يتعلق به إلزام من قبل المولى على الفرض ليكون منافيا مع بقاء الأمر بالمطلق ويلزم حمله على الحكم التخييري بالبيان المتقدم في الواجبات ، أو رفع اليد عن إطلاقه بالحمل على المقيد ، أو حمل الأمر بالمقيد على بيان أفضل الأفراد ، بل يجوز ترك المقيد رأسا فيكون الطبيعي المطلق مستحبا والمقيد أيضا مستحبا ، فقهرا يكون هو أفضل الأفراد. والسر فيه ظاهر ، فانّ حمل المطلق على المقيد في باب الواجبات انما كان من جهة التنافي بين الإلزام بالمقيد وبقاء المطلق على حاله لما عرفت من انّ الإطلاق انما هو رفض القيود وإلغائها وهو ينافي الأمر ببعضها ، وامّا في المستحبات فلا إلزام بالمقيد ، بل يجوز ترك الطبيعة مطلقا ، فلا تنافي بينهما أصلا ، ولذا لا مانع من التصريح بالإطلاق والأمر بالمقيد في كلام واحد. هذا فيما إذا كان الأمر بالمقيد.

وامّا إذا كان الأمر بالتقيد فيحمل المطلق عليه ، وذلك لما عرفت من ظهور الأمر المتعلق بخصوصيات المركب أو المقيد في الإرشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وبعبارة أخرى : الأمر في نفسه ظاهر في الإلزام غايته انّ الإلزام تارة : يكون نفسيا ، وأخرى : شرطيا ، وفي المقام الإلزام النفسيّ غير مراد من الأمر بالتقيد قطعا ، فلا

محالة يكون الإلزام إلزاما شرطيا بمعنى انه إذا أراد الإتيان بالمستحب فيجب الإتيان به مقيدا بالقيد الخاصّ ، وإذا أمكن التحفظ على ظاهر اللفظ لا وجه لرفع اليد عنه.

وببيان ثالث انّ الأمر بالتقيد قرينة بالإضافة إلى الأمر بالمطلق ، ولا يفرق في ذلك كون الأمر إلزاميا أو غير إلزاميّ فيوجب تقييده.

وبهذا ظهر الحال في قسم رابع ، وهو ما إذا ورد امر استحبابي بمطلق ثم ورد النهي عن بعض أفراده ، فانه ظاهر في الإلزام والزجر ، وبما انا نعلم بعدم ثبوت الحرمة النفسيّة في متعلقه فلا محالة يحمل النهي على المانعية ، فيكون إرشادا إلى اعتبار عدم كون المأمور به مما تعلق به النهي. وكون المستحبات ذات مراتب لا يوجب سقوط النهي عن ظهوره ، ومن هنا اعتبرنا القيام والطهارة في الإقامة لما ورد من النهي عنها بدون الأمرين خلافا للمشهور.

وتحصل : انّ المطلق والمقيد في باب المستحبات ان كان للمقيد مفهوم ينافي الأمر بالمطلق لا بد من تقييده ، وإلّا فإن كان الأمر متعلقا بالمقيد لا يحمل المطلق عليه لعدم التنافي بينهما ، وان كان متعلقا بالتقيد لا بد من الحمل لكونه إرشادا ، وان كان النهي قد تعلق ببعض أفراد المطلق فهو إرشاد إلى المانعية على ما عرفت. هذا كله فيما إذا كان الأمر بالمطلق بنحو صرف الوجود.

وامّا ان كان بنحو مطلق الوجود والانحلال ، امّا من حيث الموضوع كما لو ورد «الخمر حرام» وورد «الخمر المتخذ من التمر حرام» أو من حيث المتعلق كما لو قال «لا تكذب» وقال : «لا تكذب على الأنبياء» فلا يحمل المطلق فيه على المقيد ، لأنّ الانحلال مستلزم لتعدد الحكم بعدد أفراد الموضوع أو المتعلق ، فهناك أحكام عديدة ، ولا مانع من بيان حكم بعض الأفراد مرة وبيان حكم جميع الأفراد مرة أخرى إلّا إذا كان للمقيد مفهوم ينافي الإطلاق كما لو قال «العصير إذا غلى حرام» ثم قال أيضا «العصير المغلي ان كان متخذا من العنب حرام» فانّ مفهومه ينفي حرمة

غير العصير العنبي ، فلا بدّ من حمله على المقيد ، وهكذا لو كان المقيد واردا في مقام التحديد كما ورد خلق الله الماء طهورا وورد أيضا «سألته عن الماء الّذي لا ينفعل فقال : كر من الماء» فانّ التقييد في مقام التحديد ظاهر في اختصاص الحكم به دون غيره ، فلا بدّ فيه أيضا من حمل المطلق على المقيد.

فتلخص من جميع ما ذكر انّ المطلق والمقيد إذا كانا مثبتين وكانا من قبيل صرف الوجود يحمل المطلق على المقيد في الواجبات إلّا إذا كان الدليلان ظاهرين في تعدد الحكم ، وفي المستحبات على التفصيل المتقدم ، وان كان الحكم بنحو مطلق الوجود فلا يحمل المطلق على المقيد لا في الواجبات ولا في المستحبات ولا في الأحكام الوضعيّة إلّا فيما إذا كان للمقيد مفهوم ، والمنفيان من هذا القبيل ، وامّا في المختلفين فيحمل المطلق على المقيد دائما ، وظهر وجهه مما تقدم.

ثم لا يخفى انا قد ذكرنا انّ الإطلاق والتقييد يتصف بكل منهما كل من اللفظ ومقام الإثبات ، والمعنى ومقام الثبوت. كما عرفت أيضا انه ليس للأصوليين في هذين اللفظين اصطلاح خاص ، بل يريدون بالإطلاق السعة والإرسال ، وبالتقييد الضيق ، وذكرنا أيضا انّ الإطلاق في مقام الإثبات يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت والمراد الجدي ، والتقييد في اللفظ يكشف عن تقييد المراد الجدي.

ونقول : هذه الكبرى وان كانت كلية بحسب الواقع إلّا انها بحسب الصورة ربما لا تكون كذلك ، بل يستفاد من التقييد في مقام اللفظ والإثبات السعة والإطلاق في مقام الثبوت وبالعكس ، وينحصر مورد ذلك بباب الأوامر وفي تقييد المولى كلامه بلفظ (أو) وعدمه ، مثلا لو قال المولى «أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا» فاللفظ وان كان مقيدا إلّا انه يستكشف به الإطلاق والسعة ثبوتا وانّ الواجب غير متعين في عتق الرقبة ، بل هو أوسع منه ومن الإطعام ، وامّا لو أطلق اللفظ ولم يقيده بهذا القيد يستكشف من إطلاقه انّ الواجب ضيق ثبوتا ومتعين في العتق ، لما بيناه في

مبحث الأوامر انّ الواجب لا بدّ وان يكون تعيينيا أو تخييريا ، والإطلاق فيه مما لا معنى له ، فإذا لم يبين العدل في الكلام يستكشف انّ الوجوب تعييني ، وهكذا الحال من حيث العينية والكفائية.

تنبيه : العموم المستفاد من الإطلاق تارة : يكون شموليا ، وأخرى : بدليا. اما الثاني فيتحقق في الواجبات ، فانه إذا تعلق الإيجاب بالماهية المهملة حيث يكون امتثاله بإيجاد أول وجود الماهية فإذا تمت هناك مقدمات الإطلاق يستفاد العموم البدلي وانّ المكلف مخير في تطبيقها على أي فرد شاء ، وامّا باب النواهي فهو من قبيل الأول ، والعموم فيها يكون شموليا ، وقد بينا وجهه في مبحث النواهي فراجع. وهكذا الأحكام الترخيصية وكذلك الأحكام الوضعيّة فالعموم في جميعها شمولي كما في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) فالعموم المستفاد من إجراء مقدمات الحكمة يختلف باختلاف الموارد مع انّ جريانها في جميعها على نهج واحد.

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

المجمل والمبين

فصل : الكلام في المجمل والمبين. ومعنى اللفظين مبين ، فانّ المبين بمعنى الظاهر ، والمجمل هو غير الواضح ، وليس للأصوليين فيهما اصطلاح خاص ، ولا يترتب على تحقيق معناهما اللغوي ثمر عملي بعد عدم ورودهما في شيء من الآيات والاخبار.

فنقول : ان كان اللفظ ظاهرا في ما قصد المتكلم تفهيمه فهو مبين ، فليس المعيار في المبين ظهوره من حيث المراد الجدي ولا المراد الاستعمالي ، بل الوسط بين الإرادتين وهو ما أراد المتكلم تفهيمه ، فان كان للفظ بما له من الخصوصيات ظاهرا في ذلك عرفا فهو مبين ، وإلّا فمجمل.

ثم انّ إجمال المجمل تارة : يكون ذاتيا كما في المشترك اللفظي بناء على عدم جواز استعماله في أكثر من معنى أو عدم وقوعه ، فانه إذا استعمل بغير قرينة معينة يكون مجملا.

وأخرى : يكون إجماله عرضيا ، كما في موارد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، نظير ما إذا قال «أكرم كل عالم إلّا فساقهم» وتردد الفاسق بين مرتكب الكبيرة فقط ومرتكب مطلق المعصية ، فانّ العالم مبين المعنى ولفظة «كل» كذلك إلّا انّ الكلام مجمل لاحتفافه بالاستثناء ، فهو مجمل بالعرض.

وثالثة : يكون الكلام مجملا حكما لا حقيقة ولا عرضا ، بل يترتب عليه نتيجة الإجمال ، وهو فيما إذا علمنا بكذب أحد الدليلين أو ورد عام وخصص بمنفصل مردد بين متباينين ، فانّ العام حينئذ لا يكون مجملا بكلا قسميه ، لأنه يكون

ظاهرا فيما قصد المتكلم تفهيمه إلّا انه بحكم المجمل.

وكل من المبين والمجمل بجميع اقسامه من الصفات الواقعية للفظ ، فاللفظ امّا يكون مبينا ظاهر المعنى ، وامّا يكون مجملا ، والعلم يكون طريقا إليه. فلا وجه لما ذكره في الكفاية (١) من انّ المجمل والمبين من الأمور الإضافية ، فربما يكون اللفظ مجملا عند شخص ومبينا عند آخر ، فانّ اللفظ إذا كان في نفسه مبينا عند أهل العرف لا يصير مجملا بسبب عدم علم الجاهل بمعناه وإلّا لكان القرآن مجملا بالإضافة إلى العجمي غير العارف باللغة العربية ، وهكذا كليات سعدي مع فصاحتها كانت مجملة بالإضافة إلى العربي غير العارف باللغة الفارسية. فالإجمال والتبين امران واقعيان صفتان للفظ ، والعلم طريق إليهما فتأمل.

وعليه فيمكن إقامة البرهان على كل منهما بالرجوع إلى العرف العارف بمعاني الألفاظ وظواهرها ، ولا وجه لما أفيد في الكفاية (٢) متفرعا على ما سبق من انهما من الوجدانيات فلا يمكن إقامة البرهان عليهما.

ثم انّ الألفاظ المجملة كثيرة.

منها : بعض المفردات ، كلفظ الصعيد ولفظ الكعب وأمثال ذلك.

ومنها : الهيئات ك (لا) النافي للجنس مثل «لا صلاة إلّا بطهور» فانها مجملة من حيث ظهورها في نفس الجنس فقط أو نفي الصحة أو الكمال.

ومنها : الأحكام المتعلقة بالأعيان كقوله «الخمر حرام» فانه يدور المحرم حينئذ بين ان يكون جميع آثارها ، أو خصوص الظاهرة منها إلى غير ذلك من الموارد ، وليس محل البحث عنها علم الأصول ، فمهما لم يثبت لها ظهور لا بدّ من

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٩٨.

(٢) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٩٨.

الرجوع إلى الأصول العملية.

والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قد وقع الفراغ ليلة الأربعاء العشرين من ربيع الثاني ،

سنة ١٣٧٢ هجرية بيد العبد الفقير إلى رحمة

ربه الغني علي الحسيني الشاهرودي.

فهرست الجزء الثاني

من كتاب دراسات في علم الاصول

مباحث التزاحم

الفرق بين التزاحم والتعارض.................................................... ٥ ـ ٨

حكم التعارض............................................................... ٨ ـ ٩

حكم التزاحم.................................................................... ٩

مرجحات باب التزاحم....................................................... ٩ ـ ٢٦

الكلام فيما اذا تعذر بعض اجزاء المركب ودار الامربين ترك بعضها دون بعض..... ٢٦ ـ ٣٠

ما ذكره المحقق النائيني من انقسام التزاحم الى اقسام ستة........................ ٣٠ ـ ٣٢

انقسام التزاحم على المختار الى اقسام ثلاثة................................... ٣٢ ـ ٣٤

بحث الترتب

مقدمات ذكرها المحقق النائيني لاثبات امكان الترتب................................. ٣٥

الاولى : في تحرير محل النزاع ، وأن الامر بالاهم هل هو بنفسه معجز عن المهم أو امتثاله

معجز عنه................................................................ ٣٥ ـ ٣٦

الثانية : العصيان المشروط به الامر بالمهم هل يعتبر بنحو الشرط المستقدم أو المستأخر أو

المقارن......................................................................... ٣٦

الثالثة : أنّ امتثال الامر هل لابدّ وان يكون مقارناً زماناً مع ثبوت الامر وهكذا عصيانه ، او يمكن امتثال الامر السابق المتقدم حال الامتثال أو الذي لم يحدث بعد.............................................. ٣٦ ـ ٣٧

الكلام في تمحيص هذه المقدمات............................................ ٣٧ ـ ٣٨

الرابعة : والتي يدور عليها حال الترتب........................................ ٣٨ ـ ٤٣

تنبيهات

الاول : القول بالترتب مستلزم لتعدد العقاب عند ترك كلا الامرين.................... ٤٥

الثاني : امكان الترتب كاف في وقوعه........................................ ٤٥ ـ ٤٦

الثالث : الترتب انما يتصور فيما اذا كانت القدرة في كلا الخطابين معتبرة بحكم العقل ٤٦ ـ ٤٧

الرابع : لا اشكال في صحة الاتمام في موضع القصر ، والاجهار في موضع الاخفات وبالعكس اذا لم يكن عن عمد لو كان الجاهل مقصراً................................................................... ٤٧ ـ ٥١

الخامس : لا تزاحم بين الواجب المضيق والموسع................................ ٥١ ـ ٥٢

تلخيص للقسم الاول من التزاحم الذي يكون بين الواجبين..................... ٥٢ ـ ٥٧

القسم الثاني من اقسام التزاحم : ان يكون الواجب متوقفاً على فعل محرم أو ترك واجب ٥٧ ـ ٦٠

القسم الثالث : ما اذا كان التزاحم من جهة اجتماع الامر والنهي................ ٦٠ ـ ٦٢

فصل : هل يجوز الامر مع علم الامر بانتفاء الشرط......................... ٦٣ ـ ٦٤

فصل : هل یتعلق الامر بالطبيعي أم بالافراد............................... ٦٥ ـ ٦٧

فصل : دلالة الأمر بعد فسخ الوجوب على الجواز وعدمه........................ ٦٨

الكلام في دلالة كل من دليل المنسوخ أو الناسخ على بقاء الجواز بالمعنى الاعم

مستقلاً ، وفي دلالتها عليه منضعاً........................................... ٦٨ ـ ٦٩

الكلام في امكان اثبات بقاء الجواز ـ بالمعنى الاعم ـ بالاستصحاب ام لا................ ٦٩

فصل : في الوجوب التخييري

امكان الوجوب التخييري ووقوعه في الشرع والعرف.................................. ٧٠

الوجوه التي ذكروها لتصوير الوجوب التخييري................................. ٧٠ ـ ٧٤

المختار في تصوير الواجب التخييري ثبوتاً واثباتاً................................ ٧٤ ـ ٧٥

التخيير بين الاقل والاكثر

الكلام في امكان التخيير بين الاقل الاكثر وعدمه................................... ٧٥

١ ـ لو لم يكن الاقل موجوداً ضمن الاكثر......................................... ٧٥

٢ ـ لو كان الاقل موجوداً في ضمن الاكثر.................................... ٧٦ ـ ٧٧

فصل : في الواجب الكفائي............................................. ٧٨ ـ ٨١

فصل : في بيان الواجب الموسع والمضية.................................... ٨٢ ـ ٨٧

الكلام فيما استشكل به في تصوير الواجب الموسع والمضيق والجواب عنه.......... ٨٢ ـ ٨٣

الواجب الموسع هل هو من قبيل تعدد المطلوب بحيث يدل عليه على لزوك الاتيان به بعد الوقت اذا لم يؤت به في الوقت ، أو انه يكون بامرجديد................................................................. ٨٣ ـ ٨٥

فيما لو شك في وجوب القضاء لشبهة حكمية................................ ٨٥ ـ ٨٦

فصل : هل الامر بالامر أمر ام لا........................................ ٨٨ ـ ٨٩

ثمرة المسألة في مشروعية عبادات الصبي............................................ ٨٩

فصل : الامر بعد الامر...................................................... ٩٠

النواهي

في بيان المراد من النهي..................................................... ٩٣ ـ ٩٤

ما هو السر في انَّ امتثال البعث يتحقق بصرف وجود الطبيعي ، وفي النواهي لا يتحقق الانزجار إلاّ بترك جميع افراد الطبيعي     ٩٥ ـ ٩٨

النهي عن الطبيعي هل يستفاد منه الاستمرار والزجر عن الافراد الطولية أيضاً ٩٨ ـ ٩٩

لو فرض أنَّ المكلف عصى النهي وأتى ببعض افراد الطبيعي المنهي عنه ، فهل يقتضي النهي

الزجر عن الافراد الآخر ام لا..................................................... ٩٩

اجتماع الامر والنهي

١ ـ تنقيح محل البحث......................................................... ١٠١

٢ ـ الكلام في كون المسألة كلامية أو فرعية أو أصولية أو من المبادئ الاحكامية أو من المبادئ التصديقية      ١٠١ ـ ١٠٤

٣ ـ البحث عن هذه المسألة عقلي.............................................. ١٠٤

٤ ـ هل يجري نزاع الاجتماع في التكاليف الغيرية او التخييرية أو الكفائية او يختص بالتكليف النفسي العيني التعييني     ١٠٤ ـ ١٠٧

هل يتصور الغيرية والتخييرية والكفائية في التحريم كما يتصور ذلك في الوجوب ام لا ١٠٥ ـ ١٠٦

في عدم ترتب الثمرة المطلوبة من هذا البحث على اجتماع الامر والنهي الغيري ، ولا على

اجتماع الامر الغيري مع النهي النفسي أو العكس.......................... ١٠٦ ـ ١٠٧

٥ ـ لا يعتبر وجود المندوحة في جريان هذا النزاع اصلاً على تقدير وجود المندوحة والقول

بجواز الاجتماع هل يكون مورد اجتماع الحكمين داخلاً في باب التزاحم ايضاً أم لا ١٠٧ ـ ١١

٦ ـ أنَّ ملاك النزاع في مبحث اجتماع الامر والنهي انما هو كون التركيب بين متعلقي الحكمين اتحاديا او انضمامياً      ١١١ ـ ١١٢

٧ ـ انَّ مورد النزاع في البحث انما هو امكان اجتماع الامر والنهي واستحالته.... ١١٢ ـ ١١٣

٨ ـ الكلام فيما اذا أتى المكلف بالمجمع عن عذر ، فهل يتحقق به الامتثال ام لا ١١٣ ـ ١٢٣

تحقيق أصل المسألة..................................................... ١٢٣ ـ ١٣٧

ما ذهب اليه صاحب الكفاية من استحالة الاجتماع........................ ١٢٣ ـ ١٢٦

المختار في المسألة...................................................... ١٢٦ ـ ١٣٠

تطبيق المسألة على الوضوء.............................................. ١٣٠ ـ ١٣٣

١ ـ الوضوء بالماء المغصوب.............................................. ١٣٠ ـ ١٣١

٢ ـ الوضوء في المكان المغصوب.......................................... ١٣١ ـ ١٣٢

٣ ـ التوضىء في آنية الذهب والفضة..................................... ١٣٢ ـ ١٣٣

تطبيق المسألة على الصلاة.............................................. ١٣٣ ـ ١٣٧

١ ـ تطبيقها من حيث المكان............................................ ١٣٣ ـ ١٣٦

٢ ـ الصلاة في اللباس المغصوب.......................................... ١٣٦ ـ ١٣٧

استدلال المجوزين بوقوع ذلك في الشريعة ـ في باب العبادات المكروهة ـ والجواب عنه..... ١٣٧

الكلام فيما ذهب اليه الميرزا القمي من جواز اجتماع الامر والنهي................... ١٤٣

بناءً على القول بالامتناع ، لو فرضنا ارتفااع النهي لعذر فهل يصح الاتيان بالمجمع حينئذ ام لا ١٤٣ ـ ١٤٧

الكلام فيما لو اضطر المكلف الى البقاء في ملك الغير أو اكره عليه فدخل وقت الصلاة ١٤٧

١ ـ اذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار.......................................... ١٤٨

٢ ـ اذا كان الاضطرار بسوء الاختيار...................................... ١٤٨ ـ ١٥٨

المقام الاول : في حكم نفس ما اضطر اليه ، كالخروج....................... ١٤٨ ـ ١٥٧

فيما لو اضطر المكلف بسوء اختياره الى ارتكاب محرم وكان مقدمة لواجب أهم. ١٥٥ ـ ١٥٧

المقام الثاني : في جواز الاتيان بالمأمور به كالصلاة وعدمه.................... ١٥٧ ـ ١٥٨

١ ـ فيما لو صلى حال الخروج صلاة تامة الاجزاء والشرائط......................... ١٥٨

٢ ـ فيما لو أتى بها ايماء حال الخروج............................................. ١٥٨

الكلام فيما ذكروه من الوجوه لتقديم جانب الحرمة على القول بامتناع اجتماع الامر والنهي أو في موارد اتحاد متعلقهما   ١٥٨ ـ ١٦٠

الكلام في انَّ الحكم بأراقة الانائين المشتبهين هل هو حكم على القاعدة أو انه تعبدي ١٦٠ ـ ١٦٢

الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية من انه لا يعتبر في باب اجتماع الامر والنهي تعلق كل

منهما بعنوان مستقل.................................................... ١٦٢ ـ ١٦٤

دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات

١ ـ الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الامر والنهي............................ ١٦٥

٢ ـ هذه المسألة اجنبية عن مباحث الالفاظ...................................... ١٦٥

٣ ـ هل يختص النزاع بالنهي التحريمي النفسي أو يعم النهي الغيري والنهي التنزيهي ١٦٥ ـ ١٦٦

٤ ـ المراد من العبادة والمعاملة في المقام...................................... ١٦٧ ـ ١٦٨

٥ ـ معنى الصحة والفساد وما يرجع اليهما................................. ١٦٨ ـ ١٧٢

الجهة الاولى : في بيان مفهومها.......................................... ١٦٨ ـ ١٧٠

الجهة الثانية : في انَّ الصحة والفساد امران واقعيان أو انتزاعيان أو حكمان جعليان ١٧٠ ـ ١٧٢

٦ ـ ما يقتضيه الاصل عند الشك في دلالة النهي على الفساد................ ١٧٢ ـ ١٧٣

٧ ـ لو تعلق النهي بحصة مما تعلق به الامر................................. ١٧٣ ـ ١٧٩

لو تعلق النهي بجزء من العبادة.................................................. ١٧٧

اذا تعلق النهي بوصف العبادة............................................ ١٧٧ ـ ١٧٨

اذا تعلق النهي بشرط العبادة............................................. ١٧٨ ـ ١٧٩

الكلام في تحقيق اصل المسألة............................................ ١٧٩ ـ ١٨٧

المقام الاول : في دلالة النهي على الفساد في العبادات...................... ١٨٠ ـ ١٨١

في تعلق النهي التحريمي الذاتي بالعبادة........................................... ١٨٠

المقام الثاني : في دلالة النهي على الفساد في المعاملات...................... ١٨١ ـ ١٨٧

الكلام في النهي المولوي................................................. ١٨١ ـ ١٨٤

ما نسب الى ابي حنيفة من دلالة النهي على الصحة في المعاملات............ ١٨٤ ـ ١٨٥

الكلام في النهي التشريعي في المعاملة وانه يدل على الفساد ام لا.............. ١٨٦ ـ ١٨٧

المفاهيم

الضابطة في تحديد المنطوق والمفهوم....................................... ١٩١ ـ ١٩٢

الجملة الشرطية........................................................ ١٩٢ ـ ٢١٨

المقدمات التي تبتني عليها دلالة الجملة الشرطية على المفهوم.................. ١٩٤ ـ ١٩٨

تنبيهات..................................................................... ١٩٨

الاول : الاشكال في رجوع القيد الى الحكم فيما اذا كان مستفاداً من الهيئة..... ١٩٨ ـ ٢٠٠

الثاني : فيما اذا ذكر في شرط اموراً ورتب الجزاء عليها.............................. ٢٠٠

الثالث : فيما اذا علّق الحكم العام على الشرط............................ ٢٠٠ ـ ٢٠٣

الرابع : فيما اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء.................................. ٢٠٣ ـ ٢٠٩

الخامس : اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل تتداخل المسببات ويجتزىء باتيان الجزاء

مرة واحدة أم تتعدد..................................................... ٢٠٩ ـ ٢١٨

المقام الاول : فيما يقتضيه الاصل العملي عند الشك في تداخل الاسباب أو المسببات في

الاحكام التكليفية أو الوضعية........................................... ٢١٠ ـ ٢١١

المقام الثاني : فيما يقتضيه الادلة الاجتهادية............................... ٢١١ ـ ٢١٨

١ ـ في تحرير محل النزاع.................................................. ٢١١ ـ ٢١٣

٢ ـ في انَّ القول بالتداخل وعدمه هل هو مبني على كون الاسباب الشرعية اسباباً حقيقة أو معرفات أم لا     ٢١٣ ـ ٢١٨

مفهوم الوصف..................................................... ٢١٩ ـ ٢٢٢

١ ـ تنقيح محل النزاع.................................................... ٢١٩ ـ ٢٢٠

٢ ـ فيما ذكره ومن أنَّ الاصل في القيد أن يكون احترازياً.................... ٢٢٠ ـ ٢٢١

٣ ـ المراد من الوصف مطلق القيد................................................ ٢٢١

المختار في المسألة...................................................... ٢٢١ ـ ٢٢٢

مفهوم الغاية........................................................ ٢٢٣ ـ ٢٢٦

الكلام في ثبوت المفهوم وعدمه........................................... ٢٢٣ ـ ٢٢٦

الكلام في دخول الغاية في المغيى وعدمه................................... ٢٢٥ ـ ٢٢٦

مفهوم الحصر....................................................... ٢٢٦ ـ ٢٣٠

العام والخاص

الجهة الاولى : تعريف العموم............................................. ٢٣٣ ـ ٢٣٤

الجهة الثانية : اقسام العموم.................................................... ٢٣٤

اذا شك في انَّ المراد هل هو العموم المجموعي أو الاستغراقي ولم يكن قرينة معينة لاحدهما ،

فهل هناك اصل لفظي يعين لنا احدهما ام لا............................... ٢٣٤ ـ ٢٣٥

الكلام في انَّ سعة الحكم وشموله لجميع افراد الطبيعة هل يتوقف على اجراء مقدمات

الحكمة في مدخول اداة العموم ام لا...................................... ٢٣٥ ـ ٢٣٨

فصل : في العام المخصم وانه هل يكون مجازاً ام لا....................... ٢٣٨ ـ ٢٤٢

بناءً على ما سلكه المحقق الخراساني والمحقق النائيني قدس سره من استفادة العموم من اطلاق

المدخول..................................................................... ٢٣٨

بناءً على المسلك المختار................................................ ٢٣٨ ـ ٢٤٢

فصل : في حجية العام في تمام الباقي بعد التفصيص..................... ٢٤٢ ـ ٢٤٦

فصل : في حجية العام مع المخصص المجمل................................... ٢٤٧

اجمال المخصص المتصل........................................................ ٢٤٧

اجمال المخصص المنفصل المردد بين متباينين................................ ٢٤٧ ـ ٢٤٨

اجمال المخصص المنفصل المردد بين الاقل والاكثر........................... ٢٤٨ ـ ٢٤٩

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية................................... ٢٤٩ ـ ٢٧١

١ ـ اذا كان المخصص متصلاً............................................ ٢٤٩ ـ ٢٥٠

٢ ـ اذا كان المخصص منفصلاً........................................... ٢٥٠ ـ ٢٥٢

الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية..................................... ٢٥٢ ـ ٢٥٤

لو دار الامر بين التخصيص والتخصص ، فهل يرجحّ الثاني على الاول ام لا......... ٢٥٤

التعويض عن العام ياستصحاب العدم الازلي............................ ٢٥٩ ـ ٢٦٦

اذا شك في لباس انه من الماكول أو غيره ، فهل يمكن احراز عدم كونه من غير الماكول بالاستصحاب أم لا    ٢٦٤ ـ ٢٦٦

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما اذا صار المخصص لبياً........... ٢٦٦ ـ ٢٧١

الشك في شمول العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص............... ٢٧١ ـ ٢٧٥

التمسك بالعام لاثبات التخصص..................................... ٢٧٥ ـ ٢٧٦

التمسك بالعام قبل الفحص.......................................... ٢٧٧ ـ ٢٨٥

الوجوه التي استدل بها وجوب الفحص عن المخصص....................... ٢٧٨ ـ ٢٨٤

مقدار الفحص........................................................ ٢٨٤ ـ ٢٨٥

اختصام الخطاب بالمشافهين.......................................... ٢٨٧ ـ ٢٩١

تعقب العام بضمير يرجع الى بعض مدلوله............................. ٢٩١ ـ ٢٩٣

تخصيص العام بالمفهوم............................................... ٢٩٤ ـ ٣٠٠

اقسام مفهوم الموافقة.................................................... ٢٩٤ ـ ٢٩٦

تخصيص العام بمفهوم الموافقة............................................. ٢٩٦ ـ ٢٩٧

تخصيص العام بالمفهوم المخالف.......................................... ٢٩٧ ـ ٣٠٠

تعقب الاستثناء لجمل متعددة........................................ ٣٠٠ ـ ٣٠٤

تخصيم العام الكتابي بخبر الواحد...................................... ٣٠٤ ـ ٣١٠

المورد الاول : في حجية الخبر الموجب لتقييد الكتاب او لتخصيصه من حيث المقتضي.. ٣٠٥

المورد الثاني : من حيث المانع............................................ ٣٠٥ ـ ٣١٠

الشك في كون الخاص مخصصاً او ناسخاً............................... ٣١٠ ـ ٣١٦

النسخ والبداء...................................................... ٣١٧ ـ ٣٢٤

حقيقة النسخ.......................................................... ٣١٧ ـ ٣١٨

حقيقة البداء.......................................................... ٣١٨ ـ ٣٢٣

١ ـ المراد من البداء الذي نقول به........................................ ٣١٨ ـ ٣٢١

٢ ـ ما ورد من التخلف وعدم وقوع ما اخبر به بعض الانبياء والاوصياء........ ٣٢١ ـ ٣٢٤

المطلق والمقيد

تعريف المطلق والمقيد........................................................... ٣٢٧

اسم الجنس............................................................ ٣٢٧ ـ ٣٢٩

فهرست الجزء الثاني........................................................... ٣٦٥

علم الجنس............................................................ ٣٢٩ ـ ٣٣١

المفرد المعرف باللام..................................................... ٣٣١ ـ ٣٣٣

النكرة................................................................ ٣٣٣ ـ ٣٣٤

هل انَّ تقييد المطلق بوجب مجازيته ام لا................................... ٣٣٤ ـ ٣٣٥

اذا شك في الاطلاق والتقييد، فهل توجد قرينة عامة يستفاد منها الاطلاق ام لا ٣٣٥ ـ ٣٤١

هل يكون الانصراف مانعاً عن الاطلاق ام لا.............................. ٣٤١ ـ ٣٤٢

الكلام فيما لو ورد مطلق ومقيد وكانا مثبتين............................... ٣٤٢ ـ ٣٤٧

تنبيهان...................................................................... ٣٤٧

١ ـ لو كان الدليلان ظاهرين في تعدد الحكم المستلزم لتعدد الامتثال ، لا يحمل المطلق على

المقيد........................................................................ ٣٤٧

٢ ـ حمل المطلق على المقيد غير جاز في المستحبات.......................... ٣٤٧ ـ ٣٥١

تنبيه : العموم المستفاد من الاطلاق قد يكون شمولياً وقد يكون بدلياً................ ٣٥١

المجمل والمبين....................................................... ٣٥٢ ـ ٣٥٤

دراسات في علم الأصول - ٢

المؤلف: آية الله السيّد علي الشاهرودي
الصفحات: 365
  • مباحث التزاحم
  • الفرق بين التزاحم والتعارض 5 ـ 8
  • حكم التعارض 8 ـ 9
  • حكم التزاحم 9
  • مرجحات باب التزاحم 9 ـ 26
  • الكلام فيما اذا تعذر بعض اجزاء المركب ودار الامربين ترك بعضها دون بعض 26 ـ 30
  • ما ذكره المحقق النائيني من انقسام التزاحم الى اقسام ستة 30 ـ 32
  • انقسام التزاحم على المختار الى اقسام ثلاثة 32 ـ 34
  • بحث الترتب
  • مقدمات ذكرها المحقق النائيني لاثبات امكان الترتب 35
  • الاولى : في تحرير محل النزاع ، وأن الامر بالاهم هل هو بنفسه معجز عن المهم أو امتثاله
  • معجز عنه 35 ـ 36
  • الثانية : العصيان المشروط به الامر بالمهم هل يعتبر بنحو الشرط المستقدم أو المستأخر أو
  • المقارن 36
  • الثالثة : أنّ امتثال الامر هل لابدّ وان يكون مقارناً زماناً مع ثبوت الامر وهكذا عصيانه ، او يمكن امتثال الامر السابق المتقدم حال الامتثال أو الذي لم يحدث بعد 36 ـ 37
  • الكلام في تمحيص هذه المقدمات 37 ـ 38
  • الرابعة : والتي يدور عليها حال الترتب 38 ـ 43
  • تنبيهات
  • الاول : القول بالترتب مستلزم لتعدد العقاب عند ترك كلا الامرين 45
  • الثاني : امكان الترتب كاف في وقوعه 45 ـ 46
  • الثالث : الترتب انما يتصور فيما اذا كانت القدرة في كلا الخطابين معتبرة بحكم العقل 46 ـ 47
  • الرابع : لا اشكال في صحة الاتمام في موضع القصر ، والاجهار في موضع الاخفات وبالعكس اذا لم يكن عن عمد لو كان الجاهل مقصراً 47 ـ 51
  • الخامس : لا تزاحم بين الواجب المضيق والموسع 51 ـ 52
  • تلخيص للقسم الاول من التزاحم الذي يكون بين الواجبين 52 ـ 57
  • القسم الثاني من اقسام التزاحم : ان يكون الواجب متوقفاً على فعل محرم أو ترك واجب 57 ـ 60
  • القسم الثالث : ما اذا كان التزاحم من جهة اجتماع الامر والنهي 60 ـ 62
  • فصل : هل يجوز الامر مع علم الامر بانتفاء الشرط 63 ـ 64
  • فصل : هل یتعلق الامر بالطبيعي أم بالافراد 65 ـ 67
  • فصل : دلالة الأمر بعد فسخ الوجوب على الجواز وعدمه 68
  • الكلام في دلالة كل من دليل المنسوخ أو الناسخ على بقاء الجواز بالمعنى الاعم
  • مستقلاً ، وفي دلالتها عليه منضعاً 68 ـ 69
  • الكلام في امكان اثبات بقاء الجواز ـ بالمعنى الاعم ـ بالاستصحاب ام لا 69
  • فصل : في الوجوب التخييري
  • امكان الوجوب التخييري ووقوعه في الشرع والعرف 70
  • الوجوه التي ذكروها لتصوير الوجوب التخييري 70 ـ 74
  • المختار في تصوير الواجب التخييري ثبوتاً واثباتاً 74 ـ 75
  • التخيير بين الاقل والاكثر
  • الكلام في امكان التخيير بين الاقل الاكثر وعدمه 75
  • 1 ـ لو لم يكن الاقل موجوداً ضمن الاكثر 75
  • 2 ـ لو كان الاقل موجوداً في ضمن الاكثر 76 ـ 77
  • فصل : في الواجب الكفائي 78 ـ 81
  • فصل : في بيان الواجب الموسع والمضية 82 ـ 87
  • الكلام فيما استشكل به في تصوير الواجب الموسع والمضيق والجواب عنه 82 ـ 83
  • الواجب الموسع هل هو من قبيل تعدد المطلوب بحيث يدل عليه على لزوك الاتيان به بعد الوقت اذا لم يؤت به في الوقت ، أو انه يكون بامرجديد 83 ـ 85
  • فيما لو شك في وجوب القضاء لشبهة حكمية 85 ـ 86
  • فصل : هل الامر بالامر أمر ام لا 88 ـ 89
  • ثمرة المسألة في مشروعية عبادات الصبي 89
  • فصل : الامر بعد الامر 90
  • النواهي
  • في بيان المراد من النهي 93 ـ 94
  • ما هو السر في انَّ امتثال البعث يتحقق بصرف وجود الطبيعي ، وفي النواهي لا يتحقق الانزجار إلاّ بترك جميع افراد الطبيعي     95 ـ 98
  • النهي عن الطبيعي هل يستفاد منه الاستمرار والزجر عن الافراد الطولية أيضاً 98 ـ 99
  • لو فرض أنَّ المكلف عصى النهي وأتى ببعض افراد الطبيعي المنهي عنه ، فهل يقتضي النهي
  • الزجر عن الافراد الآخر ام لا 99
  • اجتماع الامر والنهي
  • 1 ـ تنقيح محل البحث 101
  • 2 ـ الكلام في كون المسألة كلامية أو فرعية أو أصولية أو من المبادئ الاحكامية أو من المبادئ التصديقية      101 ـ 104
  • 3 ـ البحث عن هذه المسألة عقلي 104
  • 4 ـ هل يجري نزاع الاجتماع في التكاليف الغيرية او التخييرية أو الكفائية او يختص بالتكليف النفسي العيني التعييني     104 ـ 107
  • هل يتصور الغيرية والتخييرية والكفائية في التحريم كما يتصور ذلك في الوجوب ام لا 105 ـ 106
  • في عدم ترتب الثمرة المطلوبة من هذا البحث على اجتماع الامر والنهي الغيري ، ولا على
  • اجتماع الامر الغيري مع النهي النفسي أو العكس 106 ـ 107
  • 5 ـ لا يعتبر وجود المندوحة في جريان هذا النزاع اصلاً على تقدير وجود المندوحة والقول
  • بجواز الاجتماع هل يكون مورد اجتماع الحكمين داخلاً في باب التزاحم ايضاً أم لا 107 ـ 11
  • 6 ـ أنَّ ملاك النزاع في مبحث اجتماع الامر والنهي انما هو كون التركيب بين متعلقي الحكمين اتحاديا او انضمامياً      111 ـ 112
  • 7 ـ انَّ مورد النزاع في البحث انما هو امكان اجتماع الامر والنهي واستحالته 112 ـ 113
  • 8 ـ الكلام فيما اذا أتى المكلف بالمجمع عن عذر ، فهل يتحقق به الامتثال ام لا 113 ـ 123
  • تحقيق أصل المسألة 123 ـ 137
  • ما ذهب اليه صاحب الكفاية من استحالة الاجتماع 123 ـ 126
  • المختار في المسألة 126 ـ 130
  • تطبيق المسألة على الوضوء 130 ـ 133
  • 1 ـ الوضوء بالماء المغصوب 130 ـ 131
  • 2 ـ الوضوء في المكان المغصوب 131 ـ 132
  • 3 ـ التوضىء في آنية الذهب والفضة 132 ـ 133
  • تطبيق المسألة على الصلاة 133 ـ 137
  • 1 ـ تطبيقها من حيث المكان 133 ـ 136
  • 2 ـ الصلاة في اللباس المغصوب 136 ـ 137
  • استدلال المجوزين بوقوع ذلك في الشريعة ـ في باب العبادات المكروهة ـ والجواب عنه 137
  • الكلام فيما ذهب اليه الميرزا القمي من جواز اجتماع الامر والنهي 143
  • بناءً على القول بالامتناع ، لو فرضنا ارتفااع النهي لعذر فهل يصح الاتيان بالمجمع حينئذ ام لا 143 ـ 147
  • الكلام فيما لو اضطر المكلف الى البقاء في ملك الغير أو اكره عليه فدخل وقت الصلاة 147
  • 1 ـ اذا لم يكن الاضطرار بسوء الاختيار 148
  • 2 ـ اذا كان الاضطرار بسوء الاختيار 148 ـ 158
  • المقام الاول : في حكم نفس ما اضطر اليه ، كالخروج 148 ـ 157
  • فيما لو اضطر المكلف بسوء اختياره الى ارتكاب محرم وكان مقدمة لواجب أهم. 155 ـ 157
  • المقام الثاني : في جواز الاتيان بالمأمور به كالصلاة وعدمه 157 ـ 158
  • 1 ـ فيما لو صلى حال الخروج صلاة تامة الاجزاء والشرائط 158
  • 2 ـ فيما لو أتى بها ايماء حال الخروج 158
  • الكلام فيما ذكروه من الوجوه لتقديم جانب الحرمة على القول بامتناع اجتماع الامر والنهي أو في موارد اتحاد متعلقهما   158 ـ 160
  • الكلام في انَّ الحكم بأراقة الانائين المشتبهين هل هو حكم على القاعدة أو انه تعبدي 160 ـ 162
  • الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية من انه لا يعتبر في باب اجتماع الامر والنهي تعلق كل
  • منهما بعنوان مستقل 162 ـ 164
  • دلالة النهي على الفساد في العبادات والمعاملات
  • 1 ـ الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الامر والنهي 165
  • 2 ـ هذه المسألة اجنبية عن مباحث الالفاظ 165
  • 3 ـ هل يختص النزاع بالنهي التحريمي النفسي أو يعم النهي الغيري والنهي التنزيهي 165 ـ 166
  • 4 ـ المراد من العبادة والمعاملة في المقام 167 ـ 168
  • 5 ـ معنى الصحة والفساد وما يرجع اليهما 168 ـ 172
  • الجهة الاولى : في بيان مفهومها 168 ـ 170
  • الجهة الثانية : في انَّ الصحة والفساد امران واقعيان أو انتزاعيان أو حكمان جعليان 170 ـ 172
  • 6 ـ ما يقتضيه الاصل عند الشك في دلالة النهي على الفساد 172 ـ 173
  • 7 ـ لو تعلق النهي بحصة مما تعلق به الامر 173 ـ 179
  • لو تعلق النهي بجزء من العبادة 177
  • اذا تعلق النهي بوصف العبادة 177 ـ 178
  • اذا تعلق النهي بشرط العبادة 178 ـ 179
  • الكلام في تحقيق اصل المسألة 179 ـ 187
  • المقام الاول : في دلالة النهي على الفساد في العبادات 180 ـ 181
  • في تعلق النهي التحريمي الذاتي بالعبادة 180
  • المقام الثاني : في دلالة النهي على الفساد في المعاملات 181 ـ 187
  • الكلام في النهي المولوي 181 ـ 184
  • ما نسب الى ابي حنيفة من دلالة النهي على الصحة في المعاملات 184 ـ 185
  • الكلام في النهي التشريعي في المعاملة وانه يدل على الفساد ام لا 186 ـ 187
  • المفاهيم
  • الضابطة في تحديد المنطوق والمفهوم 191 ـ 192
  • الجملة الشرطية 192 ـ 218
  • المقدمات التي تبتني عليها دلالة الجملة الشرطية على المفهوم 194 ـ 198
  • تنبيهات 198
  • الاول : الاشكال في رجوع القيد الى الحكم فيما اذا كان مستفاداً من الهيئة 198 ـ 200
  • الثاني : فيما اذا ذكر في شرط اموراً ورتب الجزاء عليها 200
  • الثالث : فيما اذا علّق الحكم العام على الشرط 200 ـ 203
  • الرابع : فيما اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء 203 ـ 209
  • الخامس : اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل تتداخل المسببات ويجتزىء باتيان الجزاء
  • مرة واحدة أم تتعدد 209 ـ 218
  • المقام الاول : فيما يقتضيه الاصل العملي عند الشك في تداخل الاسباب أو المسببات في
  • الاحكام التكليفية أو الوضعية 210 ـ 211
  • المقام الثاني : فيما يقتضيه الادلة الاجتهادية 211 ـ 218
  • 1 ـ في تحرير محل النزاع 211 ـ 213
  • 2 ـ في انَّ القول بالتداخل وعدمه هل هو مبني على كون الاسباب الشرعية اسباباً حقيقة أو معرفات أم لا     213 ـ 218
  • مفهوم الوصف 219 ـ 222
  • 1 ـ تنقيح محل النزاع 219 ـ 220
  • 2 ـ فيما ذكره ومن أنَّ الاصل في القيد أن يكون احترازياً 220 ـ 221
  • 3 ـ المراد من الوصف مطلق القيد 221
  • المختار في المسألة 221 ـ 222
  • مفهوم الغاية 223 ـ 226
  • الكلام في ثبوت المفهوم وعدمه 223 ـ 226
  • الكلام في دخول الغاية في المغيى وعدمه 225 ـ 226
  • مفهوم الحصر 226 ـ 230
  • العام والخاص
  • الجهة الاولى : تعريف العموم 233 ـ 234
  • الجهة الثانية : اقسام العموم 234
  • اذا شك في انَّ المراد هل هو العموم المجموعي أو الاستغراقي ولم يكن قرينة معينة لاحدهما ،
  • فهل هناك اصل لفظي يعين لنا احدهما ام لا 234 ـ 235
  • الكلام في انَّ سعة الحكم وشموله لجميع افراد الطبيعة هل يتوقف على اجراء مقدمات
  • الحكمة في مدخول اداة العموم ام لا 235 ـ 238
  • فصل : في العام المخصم وانه هل يكون مجازاً ام لا 238 ـ 242
  • بناءً على ما سلكه المحقق الخراساني والمحقق النائيني قدس سره من استفادة العموم من اطلاق
  • المدخول 238
  • بناءً على المسلك المختار 238 ـ 242
  • فصل : في حجية العام في تمام الباقي بعد التفصيص 242 ـ 246
  • فصل : في حجية العام مع المخصص المجمل 247
  • اجمال المخصص المتصل 247
  • اجمال المخصص المنفصل المردد بين متباينين 247 ـ 248
  • اجمال المخصص المنفصل المردد بين الاقل والاكثر 248 ـ 249
  • التمسك بالعام في الشبهة المصداقية 249 ـ 271
  • 1 ـ اذا كان المخصص متصلاً 249 ـ 250
  • 2 ـ اذا كان المخصص منفصلاً 250 ـ 252
  • الفرق بين الشبهة المصداقية والمفهومية 252 ـ 254
  • لو دار الامر بين التخصيص والتخصص ، فهل يرجحّ الثاني على الاول ام لا 254
  • التعويض عن العام ياستصحاب العدم الازلي 259 ـ 266
  • اذا شك في لباس انه من الماكول أو غيره ، فهل يمكن احراز عدم كونه من غير الماكول بالاستصحاب أم لا    264 ـ 266
  • التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما اذا صار المخصص لبياً 266 ـ 271
  • الشك في شمول العام لفرد من غير جهة احتمال التخصيص 271 ـ 275
  • التمسك بالعام لاثبات التخصص 275 ـ 276
  • التمسك بالعام قبل الفحص 277 ـ 285
  • الوجوه التي استدل بها وجوب الفحص عن المخصص 278 ـ 284
  • مقدار الفحص 284 ـ 285
  • اختصام الخطاب بالمشافهين 287 ـ 291
  • تعقب العام بضمير يرجع الى بعض مدلوله 291 ـ 293
  • تخصيص العام بالمفهوم 294 ـ 300
  • اقسام مفهوم الموافقة 294 ـ 296
  • تخصيص العام بمفهوم الموافقة 296 ـ 297
  • تخصيص العام بالمفهوم المخالف 297 ـ 300
  • تعقب الاستثناء لجمل متعددة 300 ـ 304
  • تخصيم العام الكتابي بخبر الواحد 304 ـ 310
  • المورد الاول : في حجية الخبر الموجب لتقييد الكتاب او لتخصيصه من حيث المقتضي.. 305
  • المورد الثاني : من حيث المانع 305 ـ 310
  • الشك في كون الخاص مخصصاً او ناسخاً 310 ـ 316
  • النسخ والبداء 317 ـ 324
  • حقيقة النسخ 317 ـ 318
  • حقيقة البداء 318 ـ 323
  • 1 ـ المراد من البداء الذي نقول به 318 ـ 321
  • 2 ـ ما ورد من التخلف وعدم وقوع ما اخبر به بعض الانبياء والاوصياء 321 ـ 324
  • المطلق والمقيد
  • تعريف المطلق والمقيد 327
  • اسم الجنس 327 ـ 329
  • فهرست الجزء الثاني 365
  • علم الجنس 329 ـ 331
  • المفرد المعرف باللام 331 ـ 333
  • النكرة 333 ـ 334
  • هل انَّ تقييد المطلق بوجب مجازيته ام لا 334 ـ 335
  • اذا شك في الاطلاق والتقييد، فهل توجد قرينة عامة يستفاد منها الاطلاق ام لا 335 ـ 341
  • هل يكون الانصراف مانعاً عن الاطلاق ام لا 341 ـ 342
  • الكلام فيما لو ورد مطلق ومقيد وكانا مثبتين 342 ـ 347
  • تنبيهان 347
  • 1 ـ لو كان الدليلان ظاهرين في تعدد الحكم المستلزم لتعدد الامتثال ، لا يحمل المطلق على
  • المقيد 347
  • 2 ـ حمل المطلق على المقيد غير جاز في المستحبات 347 ـ 351
  • تنبيه : العموم المستفاد من الاطلاق قد يكون شمولياً وقد يكون بدلياً 351
  • المجمل والمبين 352 ـ 354