


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ
العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.
إنّ من أبرز خصائص
التشريع الإسلامي الخالد هي خصيصة السعة والشمول والمرونة وامتداد آفاقه ، فما من
صغيرة ولا كبيرة في حياة الفرد والدولة والمجتمع إلّا وتناولها التشريع الإسلامي
فنظمها ، وحدّد الموقف منها. غير أن أحكام الشريعة ليست بمستوى واحد من الوضوح
والصراحة في مصادرها وأدلتها ، مما تطلّب عملية الاجتهاد والاستنباط ، وقد مرت هذه
الممارسة العلمية كغيرها من الأعمال العلمية بمراحل تطور ، وتفاعل فكري متواصل ،
وكان لا بد لأي عمل علمي كالاجتهاد في الشريعة من ضوابط ومنهج علمي ينظم عمليات
الاجتهاد والاستنباط ، فوضع المسلمون علم أصول الفقه بشكله المبرمج المنظّر. وكان
أول من وضع أسس هذا العلم هما الإمامان الباقر وولده الصادق عليهماالسلام وقد جمع ما ورد عنهما في هذا المجال وبوّب وفق مباحث علم
الأصول في كتب مثل : (أصول آل الرسول) و (الأصول الأصليّة) وغيرهما. وأول من دوّن
في هذا العلم من علماء الشيعة الإمامية تدوينا متكاملا ومنظرا هو الشيخ المفيد ـ أعلى
الله مقامه ـ المتوفى (٤١٣ ه) وقد سبقه بعض من كتب في هذا العلم من أصحاب الأئمة عليهمالسلام كهشام بن الحكم الّذي كتب في مباحث الألفاظ ، ويونس بن عبد
الرحمن الّذي كتب كتاب (اختلاف الحديث) وكان محمد بن إدريس الشافعي المتوفى (٢٠٤ ه)
أول من صنف في هذا العلم من علماء المدرسة السنيّة ، مع التسليم بأن عمليات الاستنباط
في مراحلها الأولى كانت تجري بعفويتها وفق أسس أصوليّة.
وعلم أصول الفقه
هو علم الاستنباط أو منطق الفقه كما يعبر عنه بعض العلماء وعبر قرون عديدة بلغ هذا
العلم في مدرسة الشيعة الإمامية أوجه ورقيّه.
وقد شهد القرن
الأخير نضجا أصوليا فذا وآراء ونظريات أصولية عملاقة كشفت عن عبقرية العقل الأصولي
في المدرسة الإمامية.
ومن جملة العلماء
والمحققين الذين كان لهم الدور البارز في خدمة هذه المدرسة الأصولية وتنضيجها
وتطوير نظرياتها سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدسسره والّذي تزعم الحوزة العلمية في النجف الأشرف قرابة نصف قرن
وكان من أبرز أساتذتها ، وقد تخرج على دروسه في البحث الخارج المئات من العلماء
والمجتهدين كما وقرّرت آراؤه وأبحاثه في الفقه والأصول من قبل جملة من كبار
تلامذته ضمن دورات عديدة. وقد كان أول تقريرات بحثه على يد المرحوم آية الله السيد
علي الشاهرودي قدسسره والّذي كان من كبار تلامذته الأوائل تحت عنوان (دراسات في
علم الأصول) طبع منه الجزء الثالث قبل أربعين عاما في النجف الأشرف ، مع تقريرات
أخرى له أيضا في فقه المعاملات طبعت تحت عنوان (محاضرات في الفقه الجعفري) وقد كان
هذا التقرير متميزا فريدا في نوعه وكان موضع اعتماد وإقرار وإشادة من قبل الجميع
وبالأخص من قبل أستاذه السيد الخوئي قدسسره ، كما يظهر من تقريظه للتقريرين المطبوعين طبعتهما الأولى
وقتئذ.
ومؤسسة دائرة
المعارف إذ تقوم اليوم بطبع ونشر كامل هذا التقرير بأجزائه الأربعة ـ بعد أن أتحفنا
نجل المرحوم المقرّر سماحة آية الله السيد الهاشمي (دام ظله) رئيس المؤسسة ـ انما
تساهم في خدمة العلم وحفظ هذه الثروة الفكرية والعلمية لأبناء هذه المدرسة وتخليد
أمجادها.
نسأل المولى جلّ
شأنه ان يتقبّل هذا العمل ويوفقنا للسداد انه سميع مجيب ، وآخر دعوانا ان الحمد
لله ربّ العالمين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ
العالمين وصلّى الله على محمّد وآله ، واللّعنة على أعدائهم أجمعين.
غير خفي انّ
المتكفل للبحث عن المبدأ والمعاد وما يتعلق بالاعتقاديات هو علم الكلام ، كما انّ
المتكفل لما يتعلق بالعمل من الأحكام هو علم الفقه ، والمتكفل لتنقيح مبانيه هو
علم الأصول ، فلا بد للفقيه من البحث عنه إما في مقدمة الفقه كما كان عليه دأب
الفقهاء قبل زمان الشيخ الطوسي ، وإمّا مستقلا كما هو المتعارف في زماننا ، وليس
التعرّض له مستقلا من البدعة كما توهم ، فمن لم يجتهد في المباحث الأصولية ، لا
يكون مجتهدا ، بل هو مقلد ناقل للمسائل ولو كان قادرا على تطبيق القواعد الفرعية ،
وبهذا ظهرت أهميّة علم الأصول.
ثم في الأصول ،
تارة : يبحث عن الحكم المتعلّق بالشيء بلحاظ الشك في الواقع ، ويعبّر عن دليله
بالدليل الفقاهتي والأصل العملي ، وسيأتي بيان وجه التسمية.
وأخرى : يبحث فيه
عن لوازم الحكم الواقعي عقلا من دون نظر إلى الألفاظ أصلا ، كمبحث مقدّمة الواجب
وبحث النهي عن الضد ، ومسألة اجتماع الأمر
والنهي ، وتسمى
بالمباحث العقلية ، وكان المناسب أن يبحث عنها مستقلا في باب مخصوص ولا يدرج في
مباحث الألفاظ.
وثالثة : يبحث عن
ظهورات الألفاظ عرفا ، إمّا اللفظ الواحد كبحث الأوامر والنواهي ، وإمّا أكثر
كالبحث عن المطلق والمقيّد ، وما يفهم منهما عرفا من حمل المطلق على المقيّد ، أو
حمل المقيّد على الفرد الأفضل ، وبحث العام والخاصّ.
ورابعة : يبحث عن
دليليّة الدليل ، كالبحث عن حجّية الخبر وحجّية الظواهر والشهرة وأمثال ذلك.
وخامسة : في علاج
التعارض بين الأدلة ويسمّى بمسألة التعادل والتراجيح.
هذا وقد جرت سيرة
الأعلام سيّما المتأخرين منهم على البحث أولا في مبادئ علم الأصول عن تعريفه وبيان
موضوعه ، والبحث عن الحقيقة الشرعية ، والصحيح والأعم ، وبيان حقيقة الوضع ،
والبحث عن المشتق ونحوه ، فتكون مقدمة لهذا العلم.
والكلام فيها يقع
في أمور ، ثم نتكلّم في المقاصد.
الأمر الأول :
في بيان موضوع علم الأصول
عرف موضوع العلم
بأنه «ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة دون الغريبة». ولتوضيح ذلك لا بدّ من
التكلّم في جهات ثلاث :
إحداها : هل تتوقف
علميّة كلّ علم على أن يكون له موضوع جامع لموضوعات مسائله؟
ثانيها : في الفرق
بين العوارض الذاتيّة والغريبة.
ثالثها : على
تقدير ثبوت الموضوع للعلم هل يلزم ان يكون البحث في مسائله عن عوارض الموضوع الذاتيّة
فقط ، أو يبحث فيها عن عوارضه الغريبة أيضا؟
الجهة الأولى :
استدلوا على توقف كل علم على موضوع بما برهنوا عليه في الفلسفة العالية من أنّ
الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد ، وإلّا لزم توارد علّتين على معلول واحد ، وطبّقوه
على المقام بدعوى : أنّ الغرض المترتب على كل علم غرض واحد ، ويستحيل أن يكون
معلولا لمسائله المتباينة بما هي متباينة ، فلا بد وان يكون بينها جهة جامعة ، بها
تكون مؤثرة فيه.
وفيه : بعد تسليم
أصل البرهان في محلّه ، لا وجه لتطبيقه على المقام ، لأنه :
أولا : أخصّ من
المدّعى ، إذ لا ملزم لأن يكون في كل علم غرض مباين لنفس العلم وجودا مترتبا عليه
ترتّب المعلول على علّته أو المقتضى على مقتضية ،
أو المشروط على
شرطه ، بل ربما لا يكون الغرض من العلم إلّا نفس المعرفة وكمال النّفس ، كما في
التاريخ ونحوه ، ولا يستلزم ذلك كون البحث عنه سفهيا كما هو ظاهر.
وثانيا : ان
البرهان على فرض صحّته إنّما يصحّ فيما إذا كان الصادر واحدا شخصيا ، وأما الواحد
النوعيّ فمن البديهي أنه يصدر كل فرد منه من علّة مستقلة ليس بينها جامع في العلية
، كالحرارة الناشئة من النار تارة ومن الشمس أو الغضب أو الحركة أخرى.
وقد ذكرنا في بحث
التجزّي من الاجتهاد انّ القدرة على استنباط كل حكم ملكة مباينة مع
القدرة على استنباط حكم آخر ، فليس هناك غرض واحد يستكشف من وحدته وجود موضوع جامع
بين موضوعات المسائل.
وثالثا : لو سلمنا
انّ هناك غرضا واحدا شخصيا ، فمع ذلك نقول : انه انّما يلزم الإشكال فيما لو كان
ذاك الغرض الواحد الشخصي مترتبا على كل واحد من المسائل مستقلا ، وامّا إذا فرضنا
انّ العلّة لتحقّقه مجموع المسائل من حيث المجموع ، كالمصلحة في الصلاة المترتبة
على مجموع أجزائها التي لا يعقل وجود الجامع بينها ، فلا يلزم عندئذ من عدم وجود
الجامع بين موضوعات المسائل محذورا أصلا ، لأنّ المجموع سوف يكون علّة واحدة وكل
واحد منها يكون جزء العلّة.
ورابعا : انّ
المسائل بوجوداتها الواقعة في الوعاء المناسب لها لا تكون علّة لحصول الغرض ،
وإلّا لزم أن يكون كل أحد قادرا على حفظ اللسان عن الخطأ ، أو على الاستنباط فعلا.
وبعبارة أخرى :
لزم ان يكون الغرض من كل علم حاصلا لكل أحد ، ويكون كل شخص عالما بكل علم ،
فالعلّة انما هي معرفة المسائل والعلم بها ،
__________________
فلا بدّ من تصوير
الجامع بين افراد العلم ، ولو لا ذلك كان لا بدّ من تصوير الجامع بين محمولات
المسائل والنسب أيضا لا خصوص موضوعاتها ، وذلك واضح.
وخامسا : إنّا نرى
بالوجدان استحالة تصوير الجامع بين موضوعات مسائل كثير من العلوم.
فمثلا في علم
الفقه ربّما يبحث عن الأمر العدمي ، وأخرى عن الوجوديّ ، وعن الجواهر تارة ، وعن
الاعراض الحقيقية الداخلة تحت المقولات التسع العرفية أخرى ، وعن الأمور
الاعتبارية كالغصب مثلا ثالثة ، ومن الواضح انه لا جامع بين شيء من هذه الأمور.
فما ذكره بعض من
انّ موضوع الفقه هو فعل المكلّف خطأ ظاهر ، إذ البحث عن طهارة كثير من الجواهر
كالمياه وغيرها ، ومبحث الإرث والضمان من مباحث الفقه ومسائله مع انّ الموضوع فيها
ليس فعل المكلّف كما لا يخفى.
وبالجملة فلا وجه
للزوم وجود الموضوع للعلم أصلا.
وبهذا ظهر انه لا
وجه لما قيل من انّ تمايز العلوم انما يكون بتمايز موضوعاتها ، بل ربما يكون بذلك
كما لو فرضنا انّ المدوّن أراد البحث عن تاريخ نبي أو وصي خاصّ مثلا ، وربما يكون
بتمايز المحمول ووحدته كما لو فرضنا انه أريد البحث عن المتحرك مثلا ، فانه يبحث
حينئذ عن الأين والمتى والكيف وغيرها مما هو معروض الحركة ، فالموضوعات متغايرة
إلّا انّ المحمول يكون واحدا فتميز هذا العلم يكون بوحدة المحمول ، وثالثة : يكون
بالاعراض كما هو الغالب مثلا يأخذ المدوّن في نظره فائدة خاصة ، فيتعرض لكل مسألة
يكون لها دخل في تلك الفائدة ، ولو لم يكن بينها جامع أصلا كما في علم الأصول
والفقه ، فانّ غرض الأصولي انما هو البحث عن كل ما له دخل قريب في الاستنباط ،
وغرض الفقيه البحث عن كل ما يكون مقربا إلى المولى ومبعدا عنه ، ولذا يبحث فيهما
عن ذلك مع انه لا جامع بين
مسائلهما أصلا لا
موضوعا ولا محمولا.
الجهة الثانية :
قسّم اللواحق والمحمولات إلى الذاتي وغير الذاتي. وقد وقع هذا التقسيم في باب
الكليات تارة ، وفي كتاب البرهان أخرى.
اما الذاتي في باب
الكلّيات فالمراد منه ما يكون مقوّما للشيء ، وهو إمّا يكون مشتملا على ما به
الاشتراك وما به الامتياز معا ويسمى بالنوع ، أو على خصوص ما به الاشتراك ويسمى
بالجنس ، أو خصوص ما به الامتياز ويعبّر عنه بالفصل.
وفي مقابل الذاتي
بهذا المعنى العرض ، ويقسم إلى الخاصّ والعام ، والمقسم لهذا التقسيم مطلق اللاحق
والمحمول على الشيء الأعم من ان يكون من مقوماته أو لا.
واما ذاتي باب
البرهان فهو : العارض الّذي ينتزع من مقام ذات الموضوع ويكون وضعه كافيا في حمل المحمول
عليه.
وبعبارة أخرى : ما
يكون بيّن الثبوت له : كما أشير إليه في المنظومة بقوله :
«ذاتي شيء بيّن
الثبوت له» كالإمكان للماهيات الممكنة ، والزوجية بالقياس إلى
الأربعة.
فان العقل بمجرد
وضع الإنسان مثلا يحكم بتساوي نسبة الوجود والعدم إليه وهكذا في الأربعة حيث ينتزع
العقل منها الزوجيّة من دون حاجة إلى لحاظ شيء آخر معه.
وفي مقابله ما لا
يكون بيّن الثبوت ولا يكفي مجرّد وضع الشيء في انتزاعه عنه كالقائم مثلا ، والمقسم
في هذا التقسيم خصوص العوارض.
__________________
واما الذاتي في
المقام فليس المراد منه ذاتي باب الكليات ، لوضوح انّ محمولات المسائل ليست جنسا
للموضوع ولا فصلا له ، ولا ذاتي باب البرهان ، إذ ليست المحمولات بيّنة الثبوت
للموضوع بأجمعها ، بل المراد منه ما يكون عروضه بلا واسطة ، وفي مقابله الغريب أي
ما يكون عروضه مع الواسطة.
فالمقسم لهذا
التقسيم انما هو خصوص العوارض لا الذاتيات.
ثم انه ليس المراد
من الواسطة في المقام الواسطة في الثبوت أي علّة الوجود ، لأن المحمولات في مسائل
غالب العلوم تكون حادثة ومحتاجة إلى العلم.
نعم ربما يكون
ثبوت بعض المحمولات لموضوعاتها غير محتاج إليها كجملة من مباحث الفلسفة العالية ،
فمثلا ثبوت الإمكان للماهيات غير محتاج إلى العلّة والواسطة في الثبوت ، إلّا انه
في الغالب تكون محتاجة إليها.
ولا الواسطة في
الإثبات أي علّة العلم بالشيء ، فانّ مسائل العلوم غالبا لا تكون من البديهيات ،
وإلّا لعرفها كل أحد.
بل المراد من
الواسطة هو الواسطة في العروض ، فانّ اسناد جملة من المحمولات إلى بعض الموضوعات
يكون إسنادا حقيقيا ، وإلى البعض الآخر إسنادا مجازيا ، كما في اسناد المناعة إلى
زيد في قولك «زيد منع جاره» مثلا ، نعم اسناد مناعة الجار إليه يكون حقيقيّا.
وقد قالوا : بأنه
لا بدّ وان يكون البحث في كل علم عن عوارض موضوعه التي تكون من قبيل الأول دون
الثاني ، ولذا لو فرضنا انّ الموضوع لعلم كان هو الميزاب فالبحث عن الجريان في ذلك
العلم لا يكون من مسائله ، لأنّ اسناد الجريان إلى الميزاب يكون مجازيا وإلى غير
من هو له.
وبالجملة نقول في
بيان العرض الذاتي والغريب : انه تارة : يعرض الشيء على موضوع بلا واسطة في العروض
أصلا كعروض العلم والإدراك على النّفس
الناطقة ، وهذا
يكون عرضا ذاتيا بلا إشكال.
وأخرى : يكون مع
الواسطة ، والواسطة هذه تكون على ستة أقسام ، لأنها :
اما ان تكون امرا
داخليا أخص ، كعوارض الفصل بالنسبة إلى النوع فتأمّل ، مثل اسناد الإدراك إلى
الإنسان بواسطة النّفس الناطقة. واما أعم كعوارض الجنس بالقياس إلى النوع ، كما لو
أسند عارض الجسم إلى الإنسان من الطول والعرض مثلا.
واما أن تكون
الواسطة امرا خارجيا ، امّا مباينا للموضوع ، أو مساويا ، أو أعم ، أو أخص ، فهذه
أقسام ستة.
اما ما يكون عروضه
بواسطة امر داخلي أخص فقد تسالموا على كونه ذاتيا ، فالعلم عرض ذاتي للإنسان.
كما انهم تسالموا
على انّ ما يكون عروضه بواسطة امر خارج مباين يكون غريبا.
واما ما يكون
بواسطة امر داخلي أعم ، كعوارض الجنس بالقياس إلى النوع ، فقد وقع الخلاف في كونه
ذاتيا أو غريبا ، وذهب إلى كل من الأمرين فريق.
واما ما يكون
بواسطة امر خارج مساو ، أو أعم ، أو أخص ، فقد تسالموا على كونه غريبا ، وان وقع
الخلاف أيضا في خصوص المساوي.
ولا يخفى انه لا
ثمرة في البحث عن ذلك وتحقيقه.
الجهة الثالثة :
في الإشكال المعروف وهو انّ موضوعات المسائل غالبا تكون أخص من موضوعات العلوم ،
فمثلا موضوع النحو هو الكلمة وموضوعات مسائله هو الفاعل والمفعول والحال والتمييز
، وهي أخص من الكلمة ، ونسبتها إليها نسبة النوع إلى الجنس أو الصنف إلى النوع ،
وهكذا في الفقه فانّ الوجوب مثلا يعرض الصلاة ويحمل عليها حقيقة ، ولا معنى لأن
يقال : فعل المكلّف واجب مثلا إلّا
مسامحة ، حيث تكون
عوارضها ومحمولاتها عوارض عرفيّة لموضوع العلم ، مع انهم تسالموا على انّ العارض
بواسطة أمر خارج أخص يكون من العوارض الغريبة ، فكيف يجمع ذلك مع اتفاقهم على انّ
البحث في العلم لا بدّ وان يكون عن العوارض الذاتيّة لموضوعه؟! هذا ما يقع في أغلب
العلوم.
واما في خصوص علم
الأصول فالأمر بالعكس ، لأنّ عروض محمولاته على موضوعه يكون بواسطة امر داخلي أعم
فانّ موضوع علم الأصول هو الأدلة ، وموضوعات مسائله هي الأمر والنهي ونحو ذلك ،
ومن الواضح انها أعم منها ، ونسبتها إلى الدليل نسبة الجنس إلى النوع.
وعليه ، فان قلنا
: بأنّ العارض بواسطة الأمر الداخل الأعم يكون ذاتيا انتفى الإشكال بلحاظ هذا
العلم ، وإلّا فتجري فيه أيضا هذه الشبهة كما في غيره من العلوم ، فيكون الكل من
واد واحد.
وقد ذهب الأصحاب
في الجواب عنها يمينا وشمالا ، ولم يأت أحد منهم بما يشفي الغليل أصلا فانه بعد
اتفاقهم على انه لا بدّ وان تكون محمولات المسائل عوارض ذاتيّة لموضوع العلم ،
واتفاقهم على انّ العارض بواسطة امر خارج أخص من العوارض الغريبة وقعوا في الإشكال
، فانّ محمولات المسائل في غالب العلوم انما تعرض لموضوعها بواسطة امر خارج أخص
إلّا ما شذّ وندر.
وقد أجيب عنه
بوجوه ، نقتصر على ذكر واحد منها وهو ما أفاده المحقّق النائيني ، ولا يبعد ان
يكون أحسنها.
وحاصل ما أفاد : انّ الإشكال انما كان واردا لو كان الموضوع في العلوم
غير مقيّد بالحيثيّة ، كما لو قلنا انّ الموضوع في النحو والصرف نفس الكلمة
والكلام ،
__________________
وفي الفقه عنوان
فعل المكلّف ، بينما ليس الأمر كذلك ، بل الموضوع في كل علم يكون مقيّدا بالحيثيّة
، لوضوح انّه في الفقه مثلا لا يبحث عن فعل المكلّف من جميع حيثيّاته كحيثيّة كونه
من أي المقولات؟! وكذا الحال في مثل النحو والصرف فانّه يبحث عن حيثيّة الإعراب
والبناء في الأول وعن حيثيّة الصحّة والإعلال في الثاني.
اذن فالموضوعات
دائما تكون مقيّدة بالحيثيّات ، وما يكون للقيد والحيثية يثبت للمقيّد بها لا
محالة ، كما نرى وجدانا ان المقيد بالممتنع يكون ممتنعا ، مثلا الإنسان الفاعل
والتارك في آن واحد يكون ممتنعا لامتناع قيده ، والحيثيّات المأخوذة في موضوعات
العلوم تكون أمورا انتزاعيّة من موضوعات المسائل.
والأمور
الانتزاعيّة كالاعتبارية ـ ولا فرق بينهما فيما نحن فيه وان كان بينهما فرق ،
ولعلنا نتعرض لذلك في طيّ بعض المباحث ـ تكون على نحو بسائط ذهنيّة وخارجيّة ،
خلافا للجواهر والاعراض.
فان الجوهر يكون
مركّبا خارجا من المادّة والصورة ، ولذا نرى بقاء المادّة فيه وانقلاب صورته
النوعيّة كما في الكلب الواقع في المملحة ، وهذا يكشف عن تركبه خارجا ويكون مركّبا
ذهنا من الجنس والفصل ، فانّ العقل يحلّله إليهما.
والأعراض وان كانت
بسائط خارجيّة وغير مركبة من المادّة والصورة ، ولذا لا يعقل بقاء مادّة القيام
وتبدد صورته بالعقود ، بل إذا قعد القائم مثلا ينعدم ذاك العرض بأسره ويوجد عرض
آخر ، ولكنّها مركبات ذهنيّة ويحللها العقل إلى الجنس والفصل كما هو واضح.
واما الأمر
الانتزاعي والاعتباري فهو نحو وجود ضعيف بسيط خارجا وذهنا ، وعليه فيكون المقيّد
بالأمر الانتزاعي بسيطا انتزاعيا لا محالة ، ويكون ما به الامتياز فيه عين ما به
الاشتراك.
وحيث أنّ الأمر
الانتزاعي متّحد مع منشأ انتزاعه بمعنى انه لا وجود للأمر
الانتزاعي الا
بوجود منشائه ، فلا محالة ترتفع أخصيّة موضوعات المسائل عن موضوع العلم من البين ،
ولا تكون نسبة موضوع العلم إلى موضوعات مسائله نسبة الجنس إلى النوع ، فيندفع
الإشكال.
وفيه : مع كونه
امتن الوجوه المذكورة في المقام.
أولا : انّ
الحيثيّة لا تكون قيدا للموضوع وانما هي جهة البحث ، والموضوع ذوات تلك العناوين ،
مثلا يبحث عن الدار تارة من حيث مساحتها ، وأخرى من حيث قيمتها ، وثالثة من حيث
طول جدرانها ، والموضوع في الجميع نفس الدار وحيثيّة البحث تختلف. وفي علم النحو
مثلا يبحث عن الكلمة والكلام ، وحيثيّة البحث هي الإعراب والبناء لا الفصاحة
والبلاغة ، وهكذا في الفقه وغيره.
وثانيا : لو
سلّمنا انّ الحيثيّة تكون قيد الموضوع ولكن ان جعلنا المقيّد بالحيثيّة معرفا محضا
لموضوعات المسائل وعنوانا مشيرا إليها ، ففي الحقيقة لا يكون ذلك جامعا بين
موضوعات المسائل ، فمرجعه إلى إنكار موضوع العلم رأسا.
وان جعلناه جامعا
حقيقيّا بان يكون كليا وتكون موضوعات المسائل افراده ومصاديقه لا معرفا محضا كما
في جميع موارد الكلّي وافراده غاية الأمر إنه كلي انتزاعي لتقيده بأمر انتزاعي ،
فيكون الإشكال حينئذ أشد ، وذلك لأنّ المحمولات حينئذ تكون عارضة له بواسطة أمر
أخص ، فإذا كان العارض بواسطة النوع للجنس غريبا مع انّ الجنس متّحد مع النوع ذاتا
وخارجا فبطريق أولى يكون العارض بواسطة النوع عرضا غريبا للعنوان الانتزاعي ، لأنّ
اتحاده مع منشأ انتزاعه يكون أضعف من اتحاد الجنس مع النوع.
وثالثا : المقيّد
بالأمر الانتزاعي لا يكون انتزاعيا ولا يثبت كل ما للقيد للمقيّد ، نعم خصوص
امتناع القيد يسري إلى المقيد ، والمقيد بالممتنع يكون ممتنعا ، ولا يقاس عليه
سائر الخصوصيّات كالبساطة والانتزاعيّة ، والشاهد عليه : انّ
الإنسان المقيد
بالقيام ، أو الغرفة المقيدة بالفوقية ، أو الدار المقيّدة بالملكيّة لا تكون
بسيطة ولا انتزاعية مع تقيدها بالأمور الانتزاعية ، وهذا ظاهر.
ورابعا : سلّمنا
انّ الأمر الانتزاعي والمقيّد به أعني موضوع العلم بسيط ، ولكن من الواضح انّ
موضوعات المسائل لا تكون كذلك ، فالموضوع في قولك «كل فاعل مرفوع» هو عنوان الفاعل
وهكذا في «كل مفعول منصوب» وكذلك الموضوع للوجوب هو عنوان الصلاتية وموضوع الحرمة
هو الغيبة بهذا العنوان ، وموضوع الإباحة شرب الماء بهذا العنوان ، وليس الفعل
الجامع بين هذه العناوين موضوعا لحكم أصلا ، ومن الواضح ان هذه العناوين عناوين
متغايرة ، ولا يكفي في رفع الإشكال بساطة موضوع العلم مع تركب موضوعات المسائل
وتغايرها ، فانها حينئذ لا محالة تكون أخص من موضوع العلم.
فالتحقيق في
الجواب أن يقال : انّ الإشكال مبني على أمرين :
أحدهما : البحث في
تعريف الموضوع بكونه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة.
ثانيهما :
الالتزام بكون العارض للشيء بواسطة أمر خارج أخص أو أعم يكون غريبا. وكلاهما محل
منع.
أمّا الأول ـ فلأنّه
لم يرد دليل على ذلك ، فبعد ما ذكرنا من انّ علميّة العلم وتمايزه كما يمكن ان
يكون بموضوعه تارة وبمحموله أخرى ، كذلك يمكن ان يكون بغرض الباحث ، ولا مانع من
البحث في العلم عن العوارض الغريبة لموضوعه إذا كانت دخيلة في غرض الباحث.
مثلا : لو فرض انّ
موضوع العلم هو الميزاب وكان البحث عن اسناد الجريان إليه دخيلا في الغرض الّذي
دوّن لأجله العلم يبحث فيه عن ذلك ولو كان عرضا غريبا لموضوع العلم ولم يذكروا
لذلك الا مبعدات لا أساس لها أصلا.
واما الثاني : فلو
فرض ان الدليل قام على لزوم ان يكون موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة
لكن نقول : لا دليل على صحّة التقسيم المتقدم وان العارض بواسطة أمر خارج أخص أو
أعم من العوارض الغريبة بل هو عارض ذاتي.
فان الميزان في
الذاتيّة والغرابة هو ما ذكره أهل الأدب من كون الإسناد حقيقيا أو مجازيا ، فإذا
كان اسناد المحمول إلى الموضوع إسنادا إلى من هو له وكان المحمول وصفا له بحال
نفسه ، فلا محالة يكون عرضا ذاتيا له ولو كان مع الواسطة ، وان كان وصفا له بحال
متعلقه واسناده إليه إسنادا إلى غير من هو له فيكون غريبا.
فالميزان اذن هو
صحة الإسناد ، ونحن نرى ان اسناد أوصاف الجنس إلى النوع وإلى الفرد يكون حقيقيّا.
فالانقسام مثلا إلى الأبعاد الثلاثة يكون من لواحق الجسم ومع ذلك لو قلنا ان زيدا
قابل للانقسام يكون ذلك إسنادا حقيقيّا ، وهكذا لو قلنا بان الإنسان متحرّك
بالإرادة وحساس ، مع انهما من لواحق الجنس.
والسرّ فيه واضح ،
فان الجنس متّحد مع الشخص والنوع وجودا فعوارضه تكون عارضة لهما أيضا حقيقة وبلا
عناية ، وهكذا عوارض الفرد بالنسبة إلى النوع أو إلى الجنس ، فانها تكون عوارض
ذاتية له ويكون إسنادها إليه حقيقيا ، والشاهد عليه ما نرى من صحّة هذه
الاستعمالات العرفية بلا مسامحة ، فمثلا يقال : «أكلت الخبز» فيسند الأكل إلى
الكلي مع ان المأكول ليس إلّا فردا خاصا منه ، ويقال : «اشتريت اللحم» مع ان
المشتري ليس إلّا فردا خاصا ، ويقال «البشر نبي» مع ان النبي فرد منه ، وذلك لأن
المهملة تكون في قوّة الجزئية وهي متّحدة مع الفرد خارجا.
ويحتمل ان يكون
هذا هو مراد المحقق السبزواري مما ذكره في حاشية الأسفار
من اتحاد الكلي لا
بشرط مع الفرد. فالإشكال اذن غير وارد من أصله ، وأظن ان التسالم على هذين الأمرين
ناشئ من التقليد المحض ليس إلّا.
هذا كلّه في بيان
الموضوع.
الأمر الثاني :
في تعريف علم الأصول
عرّفه القوم بأنه
: «القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية» وقد ذهب المحقق الخراسانيّ إلى قصور هذا التعريف ، وأضاف إليه قوله : «أو التي ينتهي
إليها الفقيه في مقام العمل» فيقع الكلام في جهتين :
إحداهما : في وجه
الإشكال على تعريف القوم وإضافة هذا الذيل إليه.
والأخرى : في
تحقيق أصل المطلب.
[الجهة الأولى :
الظاهر ان الإشكال
ناشئ من تخيّل كون المراد من الأحكام في التعريف خصوص الأحكام الواقعيّة كما هو
المراد من الحكم في كلام الشيخ في أول الرسائل وهو قوله : «اعلم ان المكلّف إذا
التفت إلى حكم شرعي» فانه لو لم يكن المراد منه خصوص الواقعي لم يكن وجه لجعله
مقسما للاقسام الثلاثة ، إذ الحكم الظاهري دائما يكون متيقنا إلّا في موارد نادرة
مثل موارد الأصول العقليّة والظن الانسدادي
__________________
على الحكومة.
وبالجملة فحيث رأى
أن المراد من الحكم خصوص الواقعي أشكل عليه الأمر في كثير من المسائل الأصولية
التي لا يستنبط منها حكم شرعي واقعي أصلا ، كمباحث الأصول العملية فانها وظائف
مقرّرة للشاك في مقام التحير ، وكذا مبحث الظن الانسدادي على الحكومة ، فان من
تمّت عنده المقدّمات كذلك إذا سئل هل تعرف الحكم؟ يقول : لا ، ولكن أعرف وظيفتي
وان العقل حاكم لي بجواز العمل بالظن ولذلك أضاف إليه القيد ، وعليه فتكون المسائل
الأصولية هي الجامع بين الأمرين ، أي أحدهما كما لا يخفى.
الجهة الثانية :
التحقيق : ان
القيد الّذي أضافه قدسسره لغو وغير محتاج إليه ، فتعريف القوم لا قصور فيه ، وذلك
لأنهم قد عرفوا الفقه بأنه «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة»
فأخذوا في تعريفه العلم ، ويكشف ذلك عن ان مرادهم بالاحكام الأعم من الظاهرية
والواقعية لا خصوص الواقعية ، وإلّا لم يكن لأخذ العلم في تعريفه وجه أصلا ، إذ
الأحكام الواقعية لا تكون معلومة غالبا في الفقه ، والأصول قواعد ممهدة لاستنباط
تلك الأحكام ومقدّمة للفقه.
فالمراد من الحكم
في تعريفه أيضا هو الأعم فندفع الإشكال المزبور ولا يخفى انه ليس غرضنا مما قلناه
من كون المراد من الأحكام أعم من الواقعية والظاهرية إدخال موارد قيام الحجج
والأمارات في العلم بالحكم الظاهري ليقال انه على مختاركم ليس المجعول في تلك
الموارد إلّا الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات فأين هناك علم بالحكم الظاهري؟! بل
الغرض إدخال موارد الأصول العملية التي هي وظائف
مجعولة للمتحير
تحت تلك الكبرى ، واما في موارد الحجج فيعلم بالواقع غايته بالعلم التعبدي لا
الوجداني على ما هو البحث.
ولا يخرج عن
التعريف الا قبح العقاب بلا بيان ، ووجوب دفع الضرر المحتمل في أطراف العلم
الإجمالي ، ومسألة التخيير في دوران الأمر بين محذورين ، ومسألة حجية الظن
الانسدادي على الحكومة ، فان قبح العقاب بلا بيان ليس إلّا حكم العقل بعدم استحقاق
العقاب عند عدم البيان ، كما ان وجوب دفع الضرر المحتمل إدراك صحته عند عدم ثبوت
المؤمن ، والتخيير حقيقته حكم العقل بقبح الترجيح من دون مرجّح.
أما قبح العقاب
بلا بيان فهو ليس من المسائل الأصوليّة ، بل هو مما اتفق عليه الاخباري والأصولي ،
وانما النزاع في تماميّة اخبار الاحتياط وعدمها ، فلو تمّت الأخبار ينتفي موضوع
قبح العقاب بلا بيان ، كما انه لو لم تتم لا يكون نزاع في جريانه.
وهكذا وجوب دفع
الضرر المحتمل بهذا العنوان لا يكون معنونا في الأصول بل هو أمر مفروغ عنه في علم
الكلام ، وانما يبحث في الأصول عن جريان أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي ،
أما تعينا واما تخييرا.
وهكذا في التخيير
لا يبحث في علم الأصول عن قبح الترجيح بلا مرجح ، وانما يبحث عن جريان البراءة عند
دوران الأمر بين محذورين أو تقدم جانب الحرمة من جهة تقدم دفع الضرر على جلب
المنفعة أو العكس.
وأما حجّية الظن
على الحكومة فليست مبحوثا عنها بهذا العنوان ، وانما يبحث عن انه بعد تماميّة
مقدمات الانسداد هل تكون هناك حجّة لنا أم لا؟ وعلى الأول هل يستكشف العقل من المقدمات
ان الشارع جعل الظن حينئذ حجّة ، أو لا يستكشف ذلك وانما يحكم بالتنزل إلى
الامتثال الظنّي؟ ويترتب الاستنباط على هذه المسألة ولو بعض تقاديره دون بعض ، ولا
يلزم في المسألة الأصولية ان يترتب
الاستنباط على
جميع تقاديرها كما ان في مسألة حجّية الخبر لا يترتب الاستنباط إلّا على تقدير
ثبوت الحجّية لا على فرض عدم الحجّية ، وهذا ظاهر.
اذن لا قصور في
تعريف القوم من هذه الجهة.
يبقى في التعريف
إشكال آخر عليه وهو : انه ان كان المراد من الممهدة للاستنباط ان يترتب ذلك على
المسائل الأصولية مستقلا ومن دون انضمام مسألة أخرى إليها فقلّما توجد مسألة من
المسائل الأصولية تكون كذلك ، وإذا أريد منها دخلها في تحقيق الاستنباط فمبادئ
الاستنباط كعلم اللغة والنحو والصرف جميعهما كذلك.
والجواب عن ذلك :
انه لا بد وان يترتب الاستنباط على المسألة الأصولية مستقلا ودون حاجة إلى ضم
ضميمة لكن لا مطلقا ودائما بل في الجملة وموجبة جزئية ولو في مورد واحد ، وجميع
المسائل الأصولية كذلك ، مثلا مبحث حجّية الخبر يترتّب عليه الاستنباط كذلك فيما
لو فرضنا قيام خبر قطعي الدلالة غير مبتلى بالمعارض على وجوب شيء أو حرمته فانه
حينئذ يترتّب الاستنباط على نفس مسألة حجّية الخبر حينئذ من دون حاجة إلى ضم
ضميمة.
واما حجّية
الظواهر فليست من مسائل الأصول ، وانما هي من المسلمات ، وإلّا لانهدم أساس
الشرائع ، وانما المبحوث عنه في الأصول بعض خصوصياتها مثل اختصاص حجيّة الظاهر
بعدم الظن على خلافه ، أو بخصوص من قصد افهامه ، أو بغير الكتاب ، أما بدعوى ان
الكتاب ليس له ظاهر أو انّ ظاهره غير حجّة لقرائن على ذلك ، ويترتب الاستنباط
بالنحو المذكور على كل من هذه المسائل ، هذا في الحجج.
وأما مباحث
الألفاظ كمبحث الأمر والنهي فكذلك ، إذ يترتب عليه الاستنباط فيما لو ورد أمر قطعي
السند والدلالة غير مبتلى بالمعارض ، واما بعض
مباحث الألفاظ مثل
جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر وعدمه ، ففي الحقيقة مرجعه إلى البحث عن السند
وحجّية الخبر في هذا الفرض ، فيكون داخلا في ذلك المبحث ، وقد عرفت انطباق ما
ذكرناه عليه.
وأما المباحث
العقلية كمبحث الضد والترتب واجتماع الأمر والنهي ومقدمة الواجب فالأمر فيها واضح
، فجميع المسائل الأصولية تكون كذلك ، وهذا بخلاف غيرها من العلوم كمسائل اللغة
مثلا فلا يمكن استنباط حكم واحد من شيء منها مستقلا وبلا ضم ضميمة ، ففي اللغة
يبحث عن معنى الصعيد فهل يمكن استنباط الحكم من ذلك حتى فيما لو كان الدليل
المشتمل عليه قطعي السند والدلالة ولم يكن مبتلى بالمعارض؟ لا يمكن ذلك ، وسره
ظاهر ، فان الأحكام دائما تكون مستفادة من الهيئات ، واللغة انما تتكفّل بيان
الموضوعات فقط ، ولذا لا يمكن استنباط الحكم منها مطلقا مستقلا ، وهكذا غير اللغة
من العلوم ، وقد ألغى المتأخرون جملة من المباحث هي حاصلة في الكبرى التي ذكرناها
من جهة وضوح فسادها ، كمبحث حجّية القياس الّذي كان موردا للنزاع إلى زمان
العلّامة بل وبعده أيضا ، ومبحث الملازمة وان كل ما حكم به العقل حكم به الشرع
وهذا غير حجّية القطع كما سنعرفه إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فالميزان
في المسألة الأصولية ان تكون بحيث لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا كليا ولو
في الجملة قابلا للإلقاء إلى المقلدين ويكون تطبيقه على جزئياته بيدهم ، وعلى هذا
تكون قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية داخلة في المباحث الأصوليّة.
واما القواعد
الفقهية ، فهي بنفسها أحكام كلية قابلة للإلقاء إلى المقلدين ، ومن ضم صغرياتها
إليها تستفاد الأحكام الجزئية الشخصية كما هو ظاهر فظهر ان مثل قاعدة التجاوز
والفراغ وقاعدة اليد وقاعدة ما يضمن ، ونظائرها جميعها
داخلة في القواعد
الفقهيّة ، لأنها بأنفسها قابلة لأن تلقى إلى المقلدين كما هو واضح.
فتخلص : ان تعريف
القوم صحيح لا إشكال فيه ، وظهر بما بيناه أيضا انه لا حاجة لنا إلى تأويل لفظ
الاستنباط المذكور في التعريف كما عن بعض أعاظم مشايخنا قدسسره ، حيث جعله بمعنى تحصيل الحجّة بمعنى المنجز والمعذر ليدخل فيه البراءة العقلية ووجوب دفع
الضرر المحتمل والتخيير العقلي ، فان التعريف المشهور يتم لو جعلنا الحكم أعم من
الظاهري والواقعي من دون حاجة إلى التأويل وما ذكره قدسسره وان كان جامعا كما أفاد إلّا انه :
أولا : خلاف ظاهر
لفظ الاستنباط ، فان كلامنا في توجيه ذلك التعريف ، وإلّا فلا ننكر إمكان تعريف
الأصول بوجه آخر يكون مطردا ومنعكسا.
وثانيا : ان ذلك
انما يتم فيما إذا كان الحكم الواقعي إلزاميا وقامت الحجّة على وفقه أو على خلافه
، وأما لو فرض ان الواقع كان هو الإباحة فحينئذ لا معنى لتحصيل المعذر والمنجز
أصلا.
هذا تمام الكلام
في الأمر الثاني.
__________________
الأمر الثالث :
في الوضع
اختلفوا في أن
دلالة اللفظ على معناه هل هي ذاتية أم هي جعليّة؟ ذهب بعضهم إلى الأول.
وفيه : لو أريد من
الذاتيّة ان تكون تلك المناسبة الذاتيّة كالعلة التامة لدلالة اللفظ على معناه
فلازمه ان يكون كل شخص عالما بكل لغة ، لوجود علة الدلالة حينئذ دائما ، وهذا لا
يمكن الالتزام به.
ولو أريد من ذلك
علّة اختيار الواضع كل لفظ خاص لمعنى مخصوص بمعنى المرجح لاختباره ، فهذا وان كان
ممكنا إلّا ان الجزم به يحتاج إلى دليل ولا ، دليل عليه ، والاستدلال عليه بأنه لو
لا ذلك لزم الترجيح بلا مرجّح وهو قبيح ، ففيه :
أوّلا : انه لا
قبح في الترجيح بلا مرجّح بين الأفراد بعد ما كان أصل الجامع راجحا ، مثلا لو
فرضنا ان أصل المشي فيه مصلحة للشخص لمرض ونحوه فاختيار المشي إلى جانب اليمين دون
الشمال أو العكس لا يلزم أن يكون فيه مرجح أيضا.
وثانيا : لو سلمنا
قبح الترجيح بلا مرجح حتى في الافراد فنقول : لا يلزم لأن يكون المرجح هو المناسبة
الذاتيّة ، بل ربما يكون المرجح الأمور الخارجية ، ونظير ذلك في وضع الاعلام
الشخصية ، مثلا يضع الوالد لفظ محمد لولده لكونه متولدا في يوم الجمعة مثلا أو لأن
اسم جده كان ذلك وهكذا.
وبالجملة فلا معنى
لكون المناسبة بين اللفظ والمعنى ذاتية أصلا. هذا كله في الدلالة.
في حقيقة الوضع :
وأما الوضع فيظهر
مما ذكره في الكفاية بقوله : «الوضع نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى ناشئ ... إلخ»
، ان الوضع عنده أمر واقعي ينشأ من وضع الواضع تارة ومن كثرة الاستعمال أخرى ،
وهذا غير صحيح ، وذلك لأن الأمور الحقيقية لا تخلو عن أمور ثلاثة :
أحدها : أن تكون
من الأمور النّفس الأمرية ، بمعنى يدرك العقل تحققه من دون فرض فارض واعتبار معتبر
، ويكون الخارج ظرف نفسه لا ظرف وجوده ، كنفس الوجود ولوازم الماهيات ، كالزوجية
للأربعة والإمكان للماهيات الممكنة والاستحالة لاجتماع النقيضين وأمثال ذلك ، فان
الوجود ثابت في الخارج لكن بنفسه لا بوجود آخر وهكذا بقية المذكورات.
ثانيها : أن تكون
من قبيل الجواهر أي الوجودات المستقلة في الخارج.
ثالثها : أن تكون
من قبيل الاعراض.
والارتباط الناشئ
من الوضع أو من كثرة الاستعمال غير داخل في شيء من ذلك ، أما عدم كونه من قبيل
الأول ، فلأنه لو كان من قبيل الملازمة الثابتة بين الأربعة والزوجية فلا معنى
لكونه ناشئا من الوضع أو كثرة الاستعمال ، لأن الملازمة بين لوازم الماهية ونفسها
تكون قديمة أزلية ، فأي حاجة إلى الوضع؟ هذا أولا.
وثانيا : يلزم من
ذلك أن يكون كل أحد عالم بكل لغة كما عرفت.
__________________
وأما عدم كونه من الجواهر
فلاحتياجه في وجوده إلى الموضوع ، فانه لو لم يكن هناك لفظ ومعنى لم يكن مجال
لوجود الارتباط ، والجوهر غير محتاج في وجوده خارجا إلى موضوع.
وأما عدم كونه من
الاعراض فلأنّ العرض متقوم خارجا بالموضوع الخارجي ، وليس الارتباط بين اللفظ
والمعنى كذلك ، فان الارتباط ثابت بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى مع عدم وجودهما
في الخارج ، ولذا ترى ثبوته بين اللفظ والمعنى الممتنع ، مثلا إذا فرضنا وضع لفظ
مفرد لاجتماع النقيضين أو لشريك الباري يكون الارتباط بين ذلك اللفظ وهذا المعنى
موجودا مع كون المعنى من المستحيلات.
وبالجملة ، فلا
يمكن ان يكون الوضع من الأمور الحقيقية بهذا المعنى أصلا ، بل هو من الأمور
الاعتبارية.
وبالجملة الوجوه
المحتملة في حقيقة الوضع ثلاثة :
الأول ـ أن يكون
أمرا واقعيّا حادثا.
الثاني ـ أن يكون
أمرا اعتباريا.
الثالث ـ أن يكون
وسطا بين الأمرين.
ويقرب الثاني أي
الاعتبارية بوجهين :
أحدهما : أن يكون
عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى بان يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى بحيث لو
أريد إراءة المعنى يؤتى باللفظ ، ويكون اللفظ وجودا حقيقيا للكيف المسموع وفردا
منه ووجودا تنزيليا للمعنى ، وهذا مأخوذ مما ذكره أهل المعقول وأثبتوه من الوجود
اللفظي للأشياء في مقابل الوجود العيني والذهني والكتبي.
وفيه : أوّلا : أن
التنزيل وان كان خفيف المئونة إلّا انه لا يحسن إلّا فيما كان
بين المنزل
والمنزل عليه مناسبة تامة ، مثلا في باب الكنايات والاستعارات كثيرا ما يقع ذلك
مثلا بتنزيل الرّجل الشجاع منزلة الحيوان المفترس فيقال : زيد أسد لكونه مشابها
معه في أظهر خواصه وهو الشجاعة ، ولكن لا معنى لتنزيل البعوضة منزلة الأسد من غير
مناسبة ، وهذا واضح ، فنقول : أيّ مناسبة تكون بين اللفظ والمعنى قبل الوضع ليكون
التنزيل بتلك المناسبة؟
وثانيا : ان هذا
المعنى بعيد عن ذهن عامة الناس مع ان الوضع يتحقق خصوصا في الاعلام الشخصية من
جميع الناس بل من الأطفال بل من كثير من الحيوانات أيضا كما هو ظاهر.
وثالثا : التنزيل
لا بدّ وأن يكون بلحاظ ثبوت آثار المنزل عليه على المنزل ، كما نرى ذلك في جميع
موارد ثبوت التنزيل ، وفي المقام لا يثبت شيء من خواص المعنى للفظ ، مثلا لفظ
العدم موضوع لهذا المفهوم الممتنع تحقّقه في الخارج ، فهل يثبت هذا الأثر للفظ
العين والدال والميم وتكون مستحيلة أيضا؟! من الواضح عدمه ، فاذن هذا أيضا غير
ثابت في المقام ، فالاعتبارية بهذا المعنى واضحة الفساد.
ثانيهما : أن يكون
حقيقة الوضع اعتبار الوضع الحقيقي ، فان الوضع الخارجي عبارة عن المعنى المعروف
المعبر عنه في الفارسي (گذشتن) فالواضع يعتبر هذا المعنى أي وضع اللفظ على المعنى
في عالم اعتباره ليدل عليه ، كما ان في الخارج يوضع العلائم على بعض الأمكنة
للدلالة على أمور ، مثلا وضع العمود على رأس الفرسخ للدلالة على المسافة ، أو
العلم على الباب لكي يدل على انعقاد مجلس التعزية ، وغير ذلك :
وفيه : أولا : انه
أيضا بعيد عن ذهن العامّة.
وثانيا : ان في
الوضع الخارجي تكون أمور ثلاثة : الموضوع والموضوع عليه ، والموضوع له أعنى غاية
الوضع ، وفي المقام ليس إلّا أمران ، فالموضوع عليه
والموضوع له
متحدان ، فليست كيفية الوضع فيه ككيفيّة الوضع هناك ، مضافا إلى انه على هذا لا
بدّ وان يكون إطلاق الموضوع عليه على المعنى صحيحا من دون عناية مع انه غلط واضح ،
فالاعتبارية بكلا معنيها غير تام.
والصحيح : ان
الوضع أمر واقعي محض غايته من قبل الأفعال النفسانيّة ، فهو فعل النّفس ، وهو
التعهّد والالتزام بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، كما يتّفق هذا المعنى في
الأفعال أيضا ، نظير ما لو تعهّد المولى وقال لخادمه : بأني متى رفعت العمامة من
رأسي فانا أريد الشاي ، ففي الألفاظ أيضا كذلك لأجل تسهيل الإفادة والاستفادة
يلتزم الواضع ويتعهد بذكر اللفظ الخارجي عند إرادة المعنى المخصوص ، وهذا هو حقيقة
الوضع.
وأما ما أفاده
المحقق النائيني قدسسره من ان الوضع وسط بين التكوين والجعل ، فبيانه : ان الأمور
تكون على نحوين منها ما لا تحقق بها إلّا بالجعل والاعتبار كالاحكام والشرائع ،
وهي التي تحتاج إلى بعث رسل وإنزال كتب ، ومنها ما لا تحتاج إلى ذلك أصلا كالجواهر
والأعراض الموجودة في الخارج ، ومنها ما لا يكون من الأول لتحتاج إلى إرسال رسل
ولا من الثاني ليكون تكوينيا محضا ، بل يكون وسطا بينهما ، والوضع من هذا القبيل ،
فلما اقتضت الحكمة الإلهية أن يعلّم الإنسان البيان وقد أشير إليه في الآية
المباركة (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فألهم جلّ شأنه واضع كل لغة ان يوضع كل لفظ خاص لمعنى
مخصوص بمناسبة بينهما ذاتية تكوينيّة مجهولة عندنا ، وهذا هو السر فيما يقال من ان
الواضع هو الله تعالى ، فحقيقة الوضع ليست تكوينيّة محضة لأن لا يحتاج إلى شيء ،
ولا جعلية صرفة لتكون محتاجة إلى البعث
__________________
والإرسال ، انتهى.
وفيه : أولا : قد
عرفت ان المناسبة بين اللفظ والمعنى تكوينا مما لا دليل عليه في مقام الإثبات.
وثانيا : لا معنى
للواسطة بين التكوين والجعل ، فانه لو كان للشيء مطابق في الخارج فهو من الأمور
التكوينيّة ، وإلّا فهو من الأمور الاعتبارية.
وثالثا : ما
المراد من الإلهام في المقام؟ ان أريد منه ان الله تعالى أعطى الإنسان قوة الإدراك
وفهّمه كيفيّة استكشاف المجهولات ، وسهّل له مقدماته فهذا موجود بالقياس إلى مطلق
المعلومات ، ولذا يقول جلّ شأنه : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ) فجميع المعلومات بالنهاية تنجلي إليه تعالى وان أريد ثبوت
معنى آخر في الوضع غير ذلك فلا نتعقّله.
فالصحيح : ما
ذكرناه ، وعليه فيكون معنى اللفظ ومدلوله إرادة تفهيم المعنى لا ذات المعنى ،
وانسباق ذات المعنى إلى الذهن لا يكون مستندا إلى الوضع ، بل يكون من جهة أنس
الذهن كما يكون ذلك ثابتا في موارد يقطع بعدم إرادته ، مثلا لو قال المتكلّم :
رأيت أسدا في الحمام فلا يكون الحيوان المفترس مرادا له قطعا ولكن مع ذلك ينتقل
الذهن إليه من جهة أنس الذهن بذلك ، فالدلالة الوضعيّة منحصرة بما عرفت ، والظاهر
ان هذا هو مراد الشيخ النائيني قدسسره من كون الدلالة تابعة للإرادة ، وإلّا ففي الدلالة التصوّرية
الناشئة من الأنس لا مجال لتوهم ذلك لعاقل فضلا عن مثله قدسسره.
ويشهد على المختار
ان فعل الإنسان لا بدّ وان يتعلّق بما يكون مقدورا له ،
__________________
وليس ذلك إلّا
التعهّد والالتزام.
ويؤيّده أيضا ان
الغرض من الوضع لا يقتضي في الوضع أكثر من ذلك ، فان الغرض انما هو سهولة تفهيم
المرادات وتفهمه ، وهذا لا يقتضي إلّا ان يوضع اللفظ لتفهيم إرادة المتكلّم ذلك ،
فالتوسعة لغير المرادات أيضا بحيث تثبت الدلالة الوضعيّة فيما لو صدر اللفظ عن
لافظ بلا شعور يكون لغوا ولا يصدر من الحكيم.
هذا ، وانما أطلنا
الكلام في حقيقة الوضع لأنه يترتب عليه ثمرات مهمة ، في صحّة استعمال اللفظ في
أكثر من معنى واحد ، إذ على ما ذكرناه يكون جوازه من الواضحات ، إذ ليس معنى
الاستعمال الا العمل على وفق التعهّد وإعماله خارجا ، وكما يمكن ان يجعل الفعل
الواحد علامة لأمرين إذا تعهد المولى بإيجاده إذا أراد كلّا منهما كذلك في اللفظ
يمكن ان يجعل لفظ واحد علامة لإرادة تفهيم أمرين ، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله
تعالى.
ويترتّب عليه أيضا
تبعيّة الدلالة للإرادة ، وان الموضوع له ليس هو ذات المعنى بل هو قصد تفهيمه كما
عرفت ، وعلى هذا فالوضع غير مختص بالواضع ، بل كل أحد من أهل اللغة يكون ملتزما
ومتعهدا كالواضع ، غايته ان تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند إرادة المعنى
ابتكاري وابتدائي ، وتعهد تابعيه يكون بالتبع وبالارتكاز.
وبهذا ظهر انه لا
فرق بين الوضع التعييني والتعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال من حيث كونه في كليهما
بمعنى التعهّد ، إلّا ان المبرز لذلك في الأول هو قول الواضع ، وفي الثاني كثرة
الاستعمال.
هذا كلّه في حقيقة
الوضع.
واما اقسامه ، فلا
ريب في ان الواضع لا بدّ له من تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى عند إرادته الوضع ، اما
تصور اللفظ فسيأتي الكلام فيه ، واما تصور المعنى ولحاظه
فيعبر عنه اصطلاحا
بالوضع ، فتارة يكون الوضع عاما وكليّا ، وأخرى يكون خاصّا وجزئيّا ، وعلى كل من
التقديرين تارة يكون الموضوع له عاما ، وأخرى خاصا ، فالأقسام أربعة.
أما الوضع الخاصّ
والموضوع له كذلك ، فلا إشكال في وقوعه ، كوضع أعلام الأشخاص ، وهكذا الوضع عام
والموضوع له عام وأما الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فيقع الكلام فيه في مقامين
:
المقام الأول : في
إمكانه ، وقد أنكر إمكانه جماعة بدعوى انه لا بدّ في الوضع من تصور المعنى بجميع
خصوصياته ، وتصور العام والكليّ لا يكون وافيا بلحاظ افراده كذلك. وأثبته جمع آخر
، ولكن قاسوا عليه القسم الرابع ، أعني الوضع خاص والموضوع له عام ، وذكروا انه لو
كان لحاظ المعنى بالوجه والعنوان كافيا في مقام الوضع فيصح كلا القسمين ، إذا كما
يكون لحاظ الكلّي لحاظ افراده بالوجه كذلك يكون لحاظ الفرد تصوّر كلّيه بالعنوان ،
وان لم يكن ذلك كافيا فلا يكفي في كليهما ، فانه كما لا يكون تصوّر الفرد عين لحاظ
الكلّي بما هو كلّي ، كذلك لحاظ العام والكلّي ليس لحاظ الفرد بجميع خصوصياته.
هذا وفي كلا
الأمرين ما لا يخفى : فان الكلّي تارة : يلحظ من حيث هو أي الطبيعة المهملة ، ولا
يحمل عليه حينئذ الا الأحكام المختصّة به المعبّر عنها بالمعقولات الثانويّة ،
مثلا يقال الإنسان نوع أو الحيوان جنس ، ولا يحمل هذه الأحكام على افراده ، فلا
يقال زيد إنسان والإنسان نوع فزيد نوع كما هو واضح.
وأخرى : يلحظ بنحو
السريان أي الكلّي الموجود ، وحينئذ لا يحمل عليه إلّا أحكام الافراد ، ويعبّر عنه
في اصطلاح الأصوليّين باللابشرط القسمي كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ،
فيكون الحكم المترتّب عليه مترتّبا على افراده ، مثلا لو قيل الخمر حرام فمعناه ان
هذا الفرد منه حرام وذلك الفرد حرام وهكذا ، ولذا ذكرنا
انه لو قال أحد كل
مسلم فاسق فهو يعاقب بعدد أفراد المسلمين ، لأنه اغتابهم ، أو افترى عليهم.
وبالجملة فكما
يأتي القسمان في غير الوضع يتصوّر في الوضع أيضا فإذا تصوّر الواضع المعنى بنحو
السريان يكون متصوّرا للفرد ، وإذا وضع اللفظ له كذلك يكون الموضوع له ذوات
الأفراد مثلا يتصوّر عنوان المتولد في يوم الجمعة ويضع اللفظ لمصاديقه وأفراده ،
وهذا المعنى غير جار في تصوّر الخاصّ والجزئي ، فانه لو الغي عنه في مقام الوضع
الخصوصيات الشخصية حتى الوجود فلا محالة يكون المتصور عاما وكليا أي نفس الطبيعي ،
وإلّا فيكون الموضوع له خاصا كالوضع.
وما قيل : من انه
ربما لا يكون إلغاء الخصوصية أيضا موجبا للحاظ الطبيعي ، كما لو فرضنا انه يرى من
بعيد جسما ولا يميّزه ، وبمعرفيّته يضع اللفظ لطبيعي هذا الفرد ، فان الطبيعي
حينئذ لا يكون معلوما للواضع ليتصوره ، فمغالطة ظاهرة ، وذلك لأن الطبيعي في هذا
الفرض أيضا ملحوظا غايته بعنوان كلي هذا الفرد المعلوم عند الله سبحانه وتعالى
المجهول لديه ، فالمعنى العام ملحوظ ولكنه غير مميّز عنده.
فالصحيح : إمكان
الوضع العام والموضوع له الخاصّ بخلاف العكس.
المقام الثاني :
في وقوعه ، وربما يقال : ان وضع الحروف وما شابهها من الموصولات وأسماء الإشارة
ونظائرها من هذا القبيل ، فلا بدّ من البحث عن المعاني الحرفيّة ، وبيان ذلك
والفارق بينها وبين المعاني الاسمية ليعلم انها من هذا القبيل أم لا؟ فنقول :
المحتمل في المعاني الحرفية وجوه :
الأول : ما نسب
إلى الرضي من انها ليست إلّا علائم لكيفيّة استعمال المعاني الاسمية ولحاظها
كالإعراب والتقدّم والتأخّر ، فان المعنى الاسمي تارة : يلاحظ بما انه عين ومن حيث
هو فيقال : «الدار قيمتها كذا» وأخرى : يلاحظ بما هو أين وظرف مكان فيقال : «زيد
في الدار» فلفظ «في» يكون علامة على ان الدار
ملحوظة ظرفا لا
استقلالا كما ان الرفع يؤتى به ليكون علامة على الابتداء ، أو على الفاعلية إلى
غير ذلك ، ففي الحقيقة ليس للحروف معنى أصلا.
وفيه : انا نرى
بالوجدان ان دلالة الحروف على تلك الخصوصيّات ليست دلالة طبعية ولا دلالة عقلية
وإلّا لما اختصت بأهل اللسان ، ولعرفها الجاهل باللغة أيضا ، وقد نرى ان الجاهل
باللغة لا يميّز ما أريد من كلمة «من» عما أريد من كلمة «إلى» في قولك «سرت من
البصرة إلى الكوفة» كما ان الأمر في الإعراب والتقديم والتأخر أيضا كذلك ، فالجاهل
باللغة لا يعرف من تقديم موسى على عيسى في قولك «ضرب موسى عيسى» ان الأول فاعل
والمتأخّر مفعول ، فلا بدّ وان يكون للحروف وللحركات وللتقدم والتأخر معنى ووضعا
كما في الأسماء.
ويقابل هذا القول
ويكون على طرف نقيضه ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ من اتحاد المعاني الاسميّة مع المعاني الحرفيّة ، وان
اختلافهما يكون في ناحية الاستعمال وناشئا من اشتراط الواضع ، فانه وضع الأسماء
كلفظ الابتداء ليستعمل في الابتداء الملحوظ استقلالا ، ووضع لفظ «من» ليستعمل في
الابتداء الملحوظ آليا ، فالفرق بينهما يكون من ناحية الاستعمال واشتراط الواضع ،
وإلّا فكل من الآلية والاستقلالية يكون خارجا عن حريم المعنى الموضوع له.
هذا ويرد عليه :
أولا : انه لو كان
المعنى الحرفي متّحدا مع المعنى الاسمي وكان الموضوع له في الأسماء والحروف معنى
واحد للزم صحّة استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس ، لأن شرط الواضع ليس لازم
الاتباع حتى على نفسه ، إذ لم يكن في ضمن عقد لازم ، وليس له ولاية على غيره ليجب
اتباعه.
__________________
وعلى تسليم ذلك
فلتكن مخالفته موجبا للعقاب ومحرما ، مع انا نرى ان ذلك من أفحش الأغلاط ، مثلا لو
يقال بدل «سرت من البصرة إلى الكوفة» ، «سرت ابتداء التعريف الانتهاء التعريف
الكوفة» يكون فساده من أوضح الواضحات ، وهكذا لو يقال بدل ابتداء البصرة من
البصرة.
وقد وجه بعض
الأعاظم كلامه بما حاصله :
ان المعاني تارة
تكون ملحوظة باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى تلاحظ آليا ، كما انه تارة ينظر في المرآة
بما هي ويراد بذلك تمييز خصوصيات المرآة من طولها وعرضها ، وأخرى ينظر فيها ليرى
صورته.
وفي الأول يكون
النّظر إلى المرآة استقلاليا ، وفي الثاني يكون آليا ، والحروف تكون موضوعة لذوات
الحصص الملحوظة باللحاظ الآلي ، والأسماء موضوعة للحصص الملحوظة باللحاظ
الاستقلالي بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا لأن لا يلزم المحاذير المذكورة في
كلامه ، وعليه فيكون اتحادهما بالذات وبالنوع أي يكون المعنى الاسمي والمعنى
الحرفي من نوع واحد ، فالمراد من اتحادهما هذا المعنى.
وفيه : أولا ـ ان
لازم ذلك ان يكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا ، إذ يكون الملحوظ حال الوضع
المعنى الملحوظ استقلاليا أو آليا والموضوع له يكون افراد المعنى الملحوظة كذلك
ومصاديقه بمشيرية ذلك العنوان ، وهذا مخالف لمبناه.
وثانيا ـ يلزم عدم
صدقه على الخارج ، وذلك لأن في باب المقيّدات وان لم يكن القيد داخلا فيها إلّا ان
التقيد يكون داخلا في المقيد ، ومأخوذا فيه لا محالة ، مثلا لو قال : «أكرم العالم
العادل» فان نفس العدالة وان لم تكن مأخوذة في الموضوع ولكن التخصص والتقيد بها
يكون داخلا فيه ، وفي المقام التقيد باللحاظ لا محالة يكون داخلا في الموضوع له
على هذا والمعنى المقيد باللحاظ يكون من
الأمور الذهنيّة
وحسب قوله قدسسره هو من الكلّيات العقليّة ، وهي لا تصدق على الخارج.
والّذي ينبغي ان
يقال : في توجيه كلامه ، بل يظهر ذلك مما يذكره في المشتق من انه لو استعمل الأسماء
في موضع الحروف لما كان مجازا واستعمالا في غير ما وضع له وان كان بغير ما وضع له
، ان الواضع جعل اعتباره أو التزامه بذكر لفظ «من» مثلا في الحروف عند إرادة تفهيم
الابتداء مشروطا بكونه ملحوظا آليا ، وجعل اعتباره على المشهور أو التزامه على
المختار وضع لفظ الابتداء مشروطا بان يكون ملحوظا استقلالا ، وعليه فتكون العلقة
الوضعيّة ثابتة في حال دون حال ، ويكون أصل الوضع مشروطا ، وفي غيره لا محالة يكون
الاستعمال غلطا وبلا علقة وضعية ، وعلى هذا فيسلم ما أفاده من الإشكالات المذكورة
، وبما ذكرنا ظهر انه لا مجال لما أورده المحقق النائيني عليه .
ثانيا : من انه لا
معنى لإلغاء الآلية والاستقلالية معا ونفي كلا الأمرين عن الموضوع له ، مع ان
المعنى لا يخلو اما ان يكون آليا واما استقلاليا ، فيكون ذلك من قبيل ارتفاع
النقيضين ، وذلك لأن المنفي في كلامه ليس آلية المعني واستقلاليته ، وانما المنفي
تعلق اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي به وان الموضوع له ذات المعنى من دون دخل
اللحاظ فيه أصلا ، ومن الواضح ان بين الملحوظ آليا والملحوظ استقلاليا لهما واسطة
وثالث وهو ذات المعنى كما عرفت ، فنفي كلا الأمرين ليس مثل نفي القيام واللاقيام
والموجودية واللاموجودية ليكون ارتفاع النقيضين عن زيد مثلا ، بل يكون كنفي العلم
والجهل عن شيء واحد فلا إشكال فيه.
وبالجملة فالذي
يستفاد من ما ذكره قدسسره ان مراده من الاشتراط هو
__________________
اختصاص ثبوت
العلقة الوضعيّة بين اللفظ وذات الحروف بما إذا كان المعنى ملحوظا آلة وحالة للغير
، فالوضع يكون مشروطا.
هذا ويرد عليه :
انه ما المراد من الآلية والحالية؟
أما الآلية فان
كان المراد منها كون المعنى الحرفي آلة للحاظ طرفيه كالسير والبصرة في المثال
المعروف ، فيستحيل ان يكون الابتداء مرآتا لما هو مباين معه ويلحظ فانيا فيه ، إذ
لا مناسبة بين المتباينين ليجعل أحدهما مرآتا للآخر ، وان أريد منه آلية لحاظ
الكلي للحاظ أفراده ومصاديقه ، فان الكلي كما عرفت تارة يلحظ بما هو ويحمل عليه
المعقولات الثانوية ، وأخرى يلحظ مرآتا لافراده وساريا فيها ، ويحمل عليه الأحكام
الثابتة للافراد فيقال «النار حارة» أو «الماء يرفع العطش» وعليه فيلزم ان تكون
المعاني الاسمية حرفيا إذا لوحظت مرآتا لمصاديقها ، وفانية فيها ، ولا يمكن
الالتزام بشيء من ذلك.
وأما كون المعاني
الحرفية حالة للغير فالحالية هي التي تكون فارقة بين المعنى المصدري والمعنى الاسم
المصدري ، فان الاعراض حيث ان وجودها لنفسها عين وجودها لموضوعاتها فيمكن لحاظها
بما هي موجودات مستقلة ، ويمكن لحاظها بما هي أوصاف لغيرها ، والأول هو المعنى
الاسم المصدري كالحمرة ، ولذا لا يشتق منها الأفعال ، لأنها تكون من الجوامد بهذا
اللحاظ ، فلا يقال حمر يحمر. والثاني هو المصدر كالاحمرار ، وعليه فيلزم ان يكون
الاعراض الملحوظة بما هي صفات للغير أي المصادر معاني حرفية ، ولذا ذهب بعض
الإعظام إلى الاحتمال الثالث في المعاني الحرفية ، وذكر ان الحروف لا تكون علائم
محضة ، بل لها معنى هي موضوعة لها ، وهو النسب والربط ، إذ كما تقتضي حكمة الوضع
ان يوضع الألفاظ لتفهيم المعاني المستقلة كذلك تقتضي ان يوضع اللفظ لتفهيم النسب
الموجودة بينها ، فان الضرب مثلا تارة ينسب إلى الفاعل ، وأخرى إلى المفعول ،
وثالثة إلى الآلة ، ورابعة إلى
الظرف فيقال : «ضرب
زيدا عمرا بالعصا في الدار» فما يدل على ثبوت النسبة بين العصي والضرب بالآلة انما
هو لفظ «ب» وما يدل على النسبة بينه وبين الدار بالظرفية انما هو لفظ «في».
وهذه النسب وجودها
وجود ربطي ولا في نفسه ، وقد عبّر بعض الفلاسفة بأنها متدليات بأنفسها والدال
عليها هو الحروف ، وعليه فتكون مباينة مع الأسماء رأسا ونقول : ان هذا الوجه كان
جميلا لو لا صحّة استعمال الحروف في غير الجواهر والأعراض مما هو فوقها ودونها ،
مثلا يستعمل في البارئ ويقال : «قال الله تعالى لموسى» ويستعمل بين الشيء ونفسه
فيقال : «زيد في نفسه عادل» ويستعمل فيما دون الجواهر والأعراض من الاعتبارات
فيقال : «الإنسان ممكن في الخارج» أو المستحيلات فيقال : «اجتماع النقيضين مستحيل
في الخارج» إلى غير ذلك ، ومن الواضح انه لا معنى لوجود النسبة خارجا في هذه
الموارد أصلا ، فهذا الوجه أيضا لا يتم.
وبالجملة بناء على
ثبوت المعنى للحروف وكون معانيها مباينة مع الأسماء قد قيل في تعيين ذلك وجهان :
الأول : ما تقدم
من بعض أعاظم مشايخنا قدسسرهم من كون الحروف موضوعة لحقيقة النسب النّفس الأمرية ، وقد
عرفت ما فيه.
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني ، وحاصله : ان الأسماء كلها معانيها إخطارية وينتقل الذهن
من سماعها إلى معانيها ، مثلا ينتقل من لفظ زيد إلى تلك الذات ويكون حاكيا عنها ،
وأما الحروف فهي إيجادية ويوجد به الربط بين الألفاظ.
__________________
مثلا لفظ زيد يكون
أجنبيا عن الدار وبالعكس وإذا جيء بلفظ «في» يرتبط أحد اللفظين بالآخر ، فالحروف
موجدة للربط الكلامي وموضعة لذلك ، وعليه فكل من الربط اللفظي والنسبة الكلامية
الثابتة بالحروف والربط الخارجي أي النسبة النّفس الأمرية يكون مصداقا لمفهوم
النسبة والربط الّذي هو معنى اسمي ، فكلاهما يكونان مصداقا لذلك ، لا ان الربط
يكون من مصاديق الربط الكلامي ، وحينئذ فان كان الربط الكلامي مطابقا ومشابها مع
الربط النّفس الأمري بأن كانا تحت طبيعة واحدة وصنف واحد ، فيكون الربط الكلامي
صدقا ، وإلّا فيكون كذبا.
وإلى هذا أشار
المحقّق المير شريف حيث يقول : لو كانت النسبة الكلامية مطابقة مع النسبة الخارجية
تكون صادقة ، فالتعبير بالمطابقة أي تطابق الربطين يكون بهذا المعنى لا انطباق
الكلي على الفرد كما هو واضح.
هذا ونقول : ما
المراد من كون الحروف موجدة للربط الكلامي؟ فان أريد به ان الربط الكلامي يكون من
لوازمها الذاتيّة فهو مما نقطع بخلافه ، وإلّا لزم صحّة الإتيان بكل حرف مكان كل
حرف ، فتأمل. وان أريد ان ذلك ثابت بالوضع والجعل فما الموضوع له فيها.
وبعبارة أخرى : لو
أريد : ان الحروف موجدة للربط بين الألفاظ فقط من دون إيجاد تغير في معانيها ، فهو
ممنوع ، إذ لا معنى للربط بين أصوات يبقى جزء منها ، فيوجد الجزء الآخر. وان أريد
ان الربط بين الكلمات يكون من جهة إيجاد الربط بين معانيها ووجود معنى حرفي ،
فنسأل عن ذاك المعنى وانه أي شيء فيكون حاكية عنه.
فالصحيح ان يقال :
ان الأسماء والحروف متباينة سنخا ، ولكن معاني الحروف في أنفسها مختلفة ، فلا بدّ
من الاستقراء في ذلك ونعرف بمقدار ما استقرأنا ، ونقول : ما يكون من قبيل كلمة «في»
وأمثالها تكون موضوعة لتفهيم تضييق
المعاني الاسمية ،
فان المعاني الاسمية جزئية كانت أو كلّية معانيها غير مقيّدة بشيء ، ونعبر عنها بلا
شرط ـ فيكون لها حصص وأصناف ، وهذا التغيير في الجزئي غير خال عن مسامحة ، والمراد
واضح ـ بحيث لو كان المتكلّم بها في مقام البيان يستفاد منها الإطلاق ، وان لم يكن
في مقام البيان تكون تلك الأسماء المستعملة من قبيل المجملات كما لو قال : «أكرم
العالم» وهذه الأسماء قابلة للتخصيص والتقييد ، وحيث ان الغرض كثيرا ما يتعلق
بتفهيم الحصص وكان الوضع لكل من الحصص متعذرا لعدم تناهي الحصص ، أو متعسرا
لكثرتها فلا محالة وضعت الحروف للدلالة على إرادة تفهيم ذلك ، مثلا لفظ «في» في
قولك «الصلاة في المسجد خير» يدل على ان الموضوع ليس مطلق الصلاة بل الحصة الخاصة
منها ، وهذا يجري في جميع موارد استعمالاته ، مثلا يقال : «الغني في الله تعالى
ضروري» أي الحصة الخاصة منها ، أو «الفقر في الله تعالى مستحيل» أو «الفقر في
الممكنات ضروري» أو «اجتماع النقيضين في الخارج محال» أي الحصة الخاصة منه إلى غير
ذلك من الأمثلة ، فيقيد الموضوعات أولا ثم يحكم عليها بهذه الأحكام ، وبالجملة
فالأسماء معانيها مطلقة بهذا المعنى ، ولا يخلو هذا التعبير عن مسامحة خصوصا في
الأسماء الجزئية ، والحروف وضعت للدلالة على إرادة تضييق تلك المعاني وتخصصها ،
كما ان التوصيف والإضافة أيضا يكونان كذلك ، مثلا إضافة غلام إلى زيد يدل على
تضييق الغلام وتخصصه بزيد ، وهكذا في التوصيف.
وبالجملة نذكر قبل
بيان المعاني الحرفية مقدمة وهي : ان المفاهيم الاسمية الكلية أعم من ان تكون من
قبيل الجواهر ، أو من الاعراض ، أو من الأمور الاعتبارية التي تكون هي الموضوع له
لتلك الأسماء بنحو اللابشرط المقسمي على مسلك القدماء وبنحو الماهية المهملة على
ما هو الحق فهي غير مقيّدة بالوجود ولا بالعدم ولا بشيء آخر ، وهذه المفاهيم نفسها
تكون بعضها أوسع من بعض كما في
مفهوم الإنسان
ومفهوم الحيوان ، فان العقل يرى أضيقيّة الأول عن الثاني وأكثرية أصناف الثاني عن
أصناف الأول حتى مع قطع النّظر عن الوجود الخارجي فتأمّل.
فالأسماء الكلّية
غالبا تكون موضوعة لهذه المفاهيم ، ومن الواضح ان لكل من هذه المفاهيم حصص وأصناف
، مثلا الإكرام تارة يكون في الليل وأخرى في النهار ، وتارة يكون بالقيام وأخرى
بالضيافة أو بغيرها إلى غير ذلك بحسب اختلاف المكرم والمكرم ، وسبب الإكرام ونحوها
، وكما نحتاج في التفهيم والتفهّم إلى وضع الألفاظ لتلك المفاهيم الكلّية كذلك
يحتاج إلى ألفاظ تدل على تلك الحصص ، إذ كثيرا ما يتعلّق الغرض بتفهيمها ولم يوضع
للحصص لفظ مخصوص إلّا نادرا كما في القعود والجلوس ، فانهم يقولون ان الجلوس موضوع
لما إذا حصلت تلك الهيئة عن قيام أي لهذه الحصة منها ، والقعود لما إذا حصلت عن
اضطجاع ، وبعضهم قال بالعكس ، فالحروف غالبا موضوعة لإفادة التضييق وبيان الحصص ،
مثلا لو أراد المتكلم تفهيم حصة خاصة من القيام أي القيام على قدم واحد فيقول : «قام
فلان على قدم» وهكذا لو أراد بيان صوم خاص فيقول : «الصوم في يوم عاشوراء مكروه»
أو «صوم العيدين حرام» وهكذا ، وعلى هذا فيكون لهذا القسم من الحروف حيثيتان ، فهي
من حيث انها تكون مرحلة لتضييق المفاهيم تكون إيجادية ، وهي من حيث كونها دالة على
ان المتكلم أراد تفهيم الحصة الخاصة تكون حكائية ، ونعبر عن هذا القسم اصطلاحا
بالحروف الاختصاصية
، وعلى هذا
__________________
ينطبق ما نقل عن
علي عليهالسلام في تعريف الحرف «انه ما أوجد معنى في غيره» هذا هو القسم
الأول.
أما القسم الثاني
من الحروف ما يكون اسما حقيقة وان كان يعامل معه معاملة الحرف فهو يكون حرفا
اصطلاحا فقط ، وإلّا فمعناه مستقل اسمي ، كما انهم يعتبرون عن بعض الأسماء التي
يدخل عليها خواص الاسم كالتنوين باسم الفعل لاشتماله على معنى الفعل ، وهذا القسم
من الحروف كحروف التشبيه «مثل الكاف» فان معناه انما هو المثل ، أو الشبه بحسب
اختلاف الموارد ، إذ التشبه لو كان بلحاظ الذاتيات يعبر بالمثل ، وان كان من حيث
الصفات يعبر بالشبه.
وهذا المعنى اسمي
، ولذا لم نجد مرادفا للكاف في الفارسية ، مع انه لو كان حرفا حقيقة لكان مما
يحتاج إليه في جميع اللغات.
القسم الثالث ما
يكون لقلب ما يستفاد من الجملة الخبرية ـ على ما نبيّنه ـ من الإثبات إلى النفي
كما في لفظ «لا» ، و «ما» ، و «لن» وأمثال ذلك ، و «ليس» وان كان فعلا وينصرف منه
بعض الاشتقاقات إلّا انه أيضا معنى حرفي بهذا المعنى ، والجامع بين الجميع هو
التضييق.
والحاصل : بعد ما
أثبتنا ان الحروف لا تكون علامة محضة كالنصب ، ولا تكون متحدة مع الأسماء من حيث
المعنى ، بل يكونا متباينين من حيث المعنى ، وأبطلنا ما ذكره المحقق النائيني من
كون الحروف موضوعة لإيجاد الربط الكلامي ، وما ذكره بعض الأعاظم من كونها موضوعة
للنسب الخارجية ، فثبت مدّعانا لا محالة ، وان الأسماء موضوعة للمعاني المستقلة ،
والحروف لإيجاد التضييق بين تلك
__________________
المفاهيم والدلالة
على تخصصها ، فمعاني الحروف نفسها تكون غير مستقلة ومتدلية بالغير ، ففي قولك «الصلاة
في المسجد» لفظ الصلاة تدل على المفهوم الخاصّ والمسجد القيد ولفظ «في» على تقيد
الصلاة بهذا القيد ، فالحروف كلها موضوعة للتضييق ، غايته بعضها لتضييق المفرد كما
هو الغالب ، وبعضها لتقييد الجملة كأداة الشرط ، فانها تضيق مفاد الجملة إنشائية
كانت كقوله «ان جاءك زيد فأكرمه» أو إخبارية كما تقول «ان كانت الشمس طالعة
فالنهار موجود».
ولا يخفى ان
المعاني الحرفية على هذا تكون قابلة للّحاظ الاستقلالي كالأسماء ، بل ربما يكون
المقصود الأصلي في الكلام هو المعنى الحرفي كما لو سئل عن تحصص الصلاة بالأين أو «متى»
وقيل : «أين صلى زيد»؟ و «متى صلى زيد»؟ ولم يكن السؤال عن نفس الزمان والمكان.
ثم انا انما أطلنا
الكلام في المقام لأنه يترتب عليه ثمر مهم في مفهوم الشرط ، فان المنكرين له
استدلوا على مدعاهم بان مفاد الهيئة معنى حرفي وملحوظ آلي ، ولا يكون قابلا
للإطلاق والتقييد ، فلا يمكن رجوع القيد إليه ، بل لا بدّ وان يرجع إلى المادّة ،
فلا يتحقّق للشرط مفهوم ، وبما ذكرنا ظهر ان مفاد الهيئة وان كان معنى حرفيا إلّا
انه قابل للّحاظ الاستقلالي ، ولا ينافي ذلك كون المعنى غير مستقل ، لأن عدم
الاستقلال الذاتي لا ربط له بعدم الاستقلال في اللحاظ ، وعليه فيكون قابلا للإطلاق
والتقييد كالمعاني الاسمية فإذا لا مانع من رجوع القيد إلى الهيئة ، فيثبت مفهوم
الشرط ، وهذه ثمرة مهمة.
ثم ان الوضع في
الحروف عام ، فان الحصص كما ذكرنا كثيرة ، بل غير متناهية ، ولا يمكن تصور كل منها
بخصوصية لغير المتناهي ، فهل يكون الموضوع له فيها عاما أيضا أم لا؟
أما على مسلك
المحقق الخراسانيّ قدسسره فيكون الموضوع له فيها عام واضح ،
وأما على المختار
فالموضوع له فيها خاص ، فالواضع تصور عنوانا عاما كالتحصص من حيث الظرفية ، ووضع
كلمة «في» لمصاديقه أي لأصنافه ، فيكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا.
ثم انه روى عن
مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام انه قال : «الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن
حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره» ونقول : ان تعريف الاسم بأنه ينبئ عن
المسمّى واضح ، وهكذا تعريف الحرف على ما ذكرناه ، وأما تعريف الفعل ، فان كان
المراد بالحركة فيه ما يكون في مقابل السكون فمن الواضح ان غالب الأفعال لا تدل
على ذلك ، مضافا إلى ان الحركة بهذا المعنى مختصة ببعض الاعراض أعني الأين والمتى
ولا تجري في سائرها ، فما المراد من الحركة في تعريف الفعل؟!
ولبيان ذلك : لا
بدّ من التعرّض لمعنى الهيئات. والمشهور ان الهيئة في الجمل الاسمية تدل على ثبوت
النسبة الخارجية في الكلام الموجب ، وعلى سلبها أو النسبة السلبية في الكلام
المنفي ، ولكنه غير صحيح.
أما الأول : فلان
ثبوت النسبة فرع تحقق الطرفين في نفس الأمر الأعم من الخارج ووعاء الاعتبار ليشمل
مثل «الإنسان ممكن» ، لكن مع انّا نرى صحة استعمال الهيئة في مثل «الإنسان حيوان
ناطق» مما يكون الحمل فيه أوليّا ، فان الإنسان متّحد مع الحيوان الناطق في جميع
المراحل خارجا مفهوما وتصورا ، ولا فرق بينهما إلّا بالإجمال والتفصيل ، ولا معنى
لثبوت النسبة بين الشيء ونفسه ، وفي قولك «العنقاء معدوم» مع عدم تحقق طرفيها ،
فلا بدّ على مبنى المشهور من الالتزام بالتجريد ، أو بالمسامحة في أمثال هذه
الموارد ، مع انّا نرى صحّة الاستعمال فيها بلا عناية كاستعمال الهيئة في قولك «زيد
قائم».
وثانيها : ان
الواضع أي شخص كان لم يكن رجلا لاغيا وعابثا في مقام
الوضع بان يوضع
الألفاظ للمعاني بلا غرض وغاية ، بل كان غرضه سهولة التفهيم والتفهم ، وحينئذ نسأل
أي شيء يستفيده السامع وينتقل إليه من سماع هذه الهيئة؟ وجدانا نرى انا لا ننتقل
من سماعها الا إلى تصور نسبة المحمول إلى الموضوع مع احتمال وقوعها وعدم وقوعها في
الخارج ، ولا نستفيد منها أكثر من ذلك.
وهذا المعنى
نستفيده من الهيئات المفردة أيضا مثل «قيام زيد» مثلا ، ومن الجملة السلبية أيضا
كقولك «ما زيد بقائم» ، ولا كاشفية لها عن التصديق بثبوت النسبة ، والمفروض انها
من القضايا التصديقية ، فلا بد وان تكون موضوعة لمعنى آخر ، فما هو ذلك المعنى؟
والصحيح ان يقال :
انها موضوعة لقصد الحكاية والاخبار ، ويتضح هذا بما ذكرناه في حقيقة الوضع ، وانه
عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وفي وضع
الهيئة في الجمل الخبرية : التزام بالإتيان بها عند قصد الحكاية ، فهي تدل على ان
المتكلم قصد بإيجادها الحكاية والاخبار وان داعيه على الإتيان بها هو ذلك.
وعليه فالهيئة من
حيث مدلولها لا تحمل الصدق والكذب ، لأن دلالتها على قصد اللافظ تكون كدلالة لفظ
زيد على معناه ، وانما يكون الصدق والكذب فيها بلحاظ متعلق مدلولها وهو الاخبار
والحكاية من حيث مطابقتها مع المحكي وعدمها ، وحيث ان الداعي في الأفعال
الاختيارية يكون عنوانا للفعل ، مثلا إذا قام بقصد التعظيم يصدق على القيام انه
تعظيم ، وإذا فعله بداعي السخرية يكون الفعل سخرية وهكذا ، ففي المقام حيث ان
الداعي على الإتيان بالهيئة الخاصة يكون هو الاخبار ، فيصدق الحكاية والاخبار على
نفس الهيئة بلا عناية ، كما يصدق على رفع الرّأس والإشارة بالأعضاء في مقام
الحكاية والاخبار عن شيء ، فتكون الجملة كالفعل الخارجي بنفسها مصداقا للخبر.
وعلى هذا يتم ما
يقال : من ان معاني الهيئات حرفية ، إذ على ما ذكرناه تكون الهيئة موجدة للخبر
والحكاية في الخارج ، فتكون إيجادية كالحروف.
هذا في هيئة الجمل
الاسمية ، وأما غيرها من الهيئات فهي كثيرة ، منها هيئة الأفعال وتوابعها من
المشتقات.
وليعلم ان
المشتقات تكون مشتملة على مادة مشتركة بينها وعلى هيئة ، وقد وقع الخلاف في تعيين
تلك المادة المشتركة ، فذهب قدماء النحويين إلى انها هي المصدر ومتأخروهم إلى انها
اسم المصدر.
ولكن التحقيق :
عدم صحة ذلك لأن المادة المشتركة لا بد وان تكون موجودة في جميع المشتقات لاعتبار
وجود المقسم في الأقسام ، وإلّا لخرج عن كونه مقسما ، ونحن نرى ان كل واحد من
المشتقات من حيث الهيئة والمعنى يكون مشتملا على خصوصيّة لا توجد في غيره مثلا ضرب
مشتمل على معنى وخصوصية لا توجد في بقية المشتقات ، فلا وجه لتوهم كونه أصلا في
الكلام كما ذهب إليه الكوفيون من النحويين ، وهكذا المصدر معناه العرض الملحوظ بما
انه صفة للغير واسم المصدر معناه العرض إذا لوحظ بما هو موجود خاص ، وليس هذا
اللحاظ دخيلا في معاني المشتقات أصلا.
فإذا لا بد وان
تكون المادة المشتركة هو نفس المعنى اللابشرط الغير المقيد بشيء حتى من حيث
التقييد بعدم الاشتراط ، ويعبر عنه بالمهملة ، ومن حيث اللفظ للألفاظ المرتبة من
حيث التقديم والتأخير لا غير في مثل لفظ الضاد والراء والباء في ضرب ويضرب
ونظائره. هذا في مادة المشتقات.
وأما الهيئات ،
فهيئة فعل الماضي موضوعة لتفهم قصد الحكاية عن تحقق المبدأ خارجا أي قبل زمان
التكلّم ، وحينئذ ان كان المبدأ المشتمل عليه الفعل مسندا إلى الزمانيات فبالالتزام
يدل الفعل الماضي على الزمان الماضي ، فان لازم
تحققه قبل زمان
التكلم هو ذلك ، وان كان مسندا إلى نفس الزمان أو ما فوق الزمان فلا يدل إلّا على
مجرد التحقق كما في قولك «مضى الزمان أو الدهر أو علم الله» وأمثال ذلك ، فيكون
استعمال الماضي في هذه الموارد بلا عناية وتجريد ، لأن الزمان لم يكن مأخوذا في
معناه أصلا وانما كان مدلولا التزاميا له إذا كان فاعله من الزمانيات ، وهذا هو
الّذي أوجب توهّم جملة من النحويّين كون الزمان الماضي مأخوذا في مدلوله.
وأما المستقبل
فهيئته موضوعة للحكاية عن التلبس بالمبدإ فعلا وإذا دخل عليه السين أو سوف ينقلب
إلى الاستقبال ، وعلى هذا يظهر الوجه في كون مفاد هيئة الأفعال معنى حرفيا ، لأنها
تدل على تضييق تلك الصفة بالتحقيق في الفعل الماضي وبالتلبس في المستقبل.
وأما هيئة المصدر
واسم المصدر فقد ظهر الحال فيهما مما تقدم. وأما هيئة بقية المشتقات من اسم الفاعل
والمفعول والصفة المشبهة واسم الآلة والمكان والزمان ونحوها فهي موضوعة لقصد تفهم
ذات مبهمة من جميع الجهات سوى اسناد المبدأ وانتسابه إليه ، مثلا هيئة القائم تدل
على ذات متصفة بتلك الصفة أما إنسان وأما حائط وأما رمح وأما حيوان وأما غير ذلك.
نعم تختلف أنحاء
التلبسات فهيئة الفاعل دالّة على الذات المنتسب إليه المبدأ بالنسبة الصدورية ،
وفي المفعول بالنسبة الوقوعية ، وفي الآلة بالنسبة الآلية إلى غير ذلك.
وعلى هذا فتكون
الذات داخلة في مدلول المشتقات ، ولا وجه لما ذكره بعضهم من بساطة المشتقات بمعنى
خروج الذات عن مدلولها ، نعم البساطة بمعنى آخر صحيح كما سنتعرض لذلك إن شاء الله
تعالى في محله مفصّلا.
استدراك : ذكرنا
ان هيئة الجمل الاسمية تدل على قصد المتكلم الاخبار
والحكاية ، وليعلم
انه ليس مرادنا من ذلك ان معنى «زيد قائم» مثلا قصد الحكاية عن قيام لتحتمل الصدق
والكذب بحسب مدلوله ، فليس معناها الاخبار عن القصد ولا يكون بابها باب الاخبار عن
القصد وانما يكون بابها باب الدال والمدلول ، فان نظام العالم يتوقّف على تفهّم
المقاصد وتفهيمها ، ولذا نرى ان كثيرا ما يتعلق الجعل والمواضعة بتفهيم المقاصد
بالافعال كالتعظيم بالقيام عند طائفة ، وبرفع العمامة عند قوم ، وبوضع إحدى اليدين
على الأخرى عند آخرين إلى غير ذلك ، فيكون القيام ورفع العمامة أو اليد مصداقا
للتعظيم نظير الأفعال التوليدية ، وحيث انه من الأفعال الاختيارية فيدل على قصد
التعظيم أيضا.
فالقيام مثلا
بعنوانه الأولي قيام وبعنوانه الثانوي تعظيم ، ورفع الرّأس مثلا في بعض الأحيان
بعنوانه الأولى يكون فعلا خاصا وبعنوانه الثانوي يكون مصداقا للاخبار والحكاية ،
ولذا لا يبعد القول ببطلان الصوم بذلك إذا كان افتراء على النبي أو أحد الأئمة عليهمالسلام ، هذا في الأفعال الخارجية ، واما في الألفاظ فهيئة الجملة
الاسمية لم تجعل لثبوت النسبة ، وانما جعلت للحكاية والاخبار بالثبوت أو بالنفي ،
وحيث ان الحكاية والاعتبار من الأفعال القصدية فلا محالة تدل على قصد ذلك ، فان
شئت فعبّر بأنها موضوعة للاخبار القصدي ، وان شئت فقل بأنها موضوعة لقصد الاخبار ،
وعلى هذا فالصدق والكذب فيها ليس بلحاظ مدلولها بل بلحاظ مطابقة الحكاية مع المحكي
وعدمها.
وأما الأفعال
فالمادة المشتركة بينها انما هي المعنى اللابشرط من جميع أنحاء النسب ، وأما
هيئتها فهيئة فعل الماضي موضوعة للحكاية عن تحقق قيام المبدأ بالذات وسبقه على
زمان التكلم ان لم يكن الفعل مقيدا ، وان كان مقيدا فبالقياس إلى القيد مثلا لو
قال يجيئني زيد بعد عشرة أيام وقد صام قبله بيوم يكون السبق فيه بالقياس إلى
المجموع لا مطلقا ويكون الاستعمال بلا عناية.
وأما هيئة فعل
المستقبل فموضوعة للحكاية عن التلبس بالمبدإ ، أما حال أو الأعم منه ومن
الاستقبال.
وأما هيئة اسم
الفاعل ونظائره فهي موضوعة لذات مبهمة من جميع الجهات مقيدة من جهة الانتساب إلى
المبدأ ، فهي تدل على التضييق والتقييد كالحروف كما ان لفظ الخمر أيضا لا يدل إلّا
على شيء مسكر مبهم من حيث كونه مأخوذا من تمر أو عنب أو غيره ، وهكذا لفظ النار
تدل على ذاك العنوان المبهم من حيث كونه من خشب أو نفط أو غيره ، وما يقال من خروج
الذات عن حقيقة المشتق سيأتي انه غير تام بل الذات مقوم فيه.
وأما هيئة فعل
الأمر والنهي فهي موضوعة للدلالة على تعلق الطلب والبعث في الأول والزجر في الثاني
بالمعنى الّذي نبيّنه في حقيقة الطلب بالمادة فتكون من حيث دلالتها كدلالة الهيئة
في الجمل الخبرية ، فكما ان الجمل الخبرية من حيث مدلولها لا تتصف بالصدق والكذب ،
غايته حيث ان مدلولها وهو الاخبار والحكاية يكون من الأمور التعليقية ويكون له تعلق
بالخارج يحتمل فيه الصدق والكذب ، ومدلول فعل الأمر والنهي لا تعلق له بالخارج
أصلا ، وتكون نظير دلالة الكلمات المفردة مثل زيد على معناه ، فلا مجال فيها
للاتصاف بالصدق والكذب أبدا كما في الألفاظ المفردة.
إذا عرفت هذا
فنقول : ان الأسماء انما تدل على ذوات المعاني لا بشرط من حيث الوجود والعدم من
غير فرق بين الجوامد والمشتقات والمصدر وغير المصدر ، مثلا : لفظ الإنسان يدل على
الطبيعة الخاصة الغير المقيدة بالوجود والعدم القابلة للاتصاف بهما ، وهكذا لفظ
قائم يدل على ذات مبهم إلّا من حيث انتساب المبدأ إليه ، ومثله لفظ ضرب الّذي هو
مصدر معناه العرض الخاصّ بما انه صفة للغير ، فيصح ما يقال ان الاسم ما أنبأ عن
المسمى.
وأما الأفعال :
ففعل الماضي والمضارع يدلان على فعلية المعنى الّذي كان قابلا لكل من الفعلية
وعدمها ، فهما يدلان على حركة المبدأ من القوة إلى الفعلية.
وأما فعل الأمر
والنهي ، فهما يدلان على ان المعنى الّذي كان قابلا لتعلق الطلب به وجودا وعدما
تعلق به الطلب وصار كذلك فعلا ، وبهذا ظهر الوجه في كون معانيها حرفية ، فانها تدل
على تضييق المعنى الاسمي وتقييده بالوجود والفعلية تارة وبفعلية العدم أخرى كما في
الحروف ، والفرق بينهما هو ان التضييق في الحروف كان تضييق المفهوم بالمفهوم ، وفي
الأفعال يكون التضييق تضييقا بالوجود أو بالعدم ، وهما مشتركان من حيث أصل التضييق
، وبهذا يظهر بيان الخبر المسند إلى أمير المؤمنين عليهالسلام من «ان الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة
المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره».
بقي في المقام
أمران :
أحدهما : النقض
بأسماء الأفعال ، فانها أيضا تدل على حركة المسمّى بهذا المعنى.
وفيه : ان المعرّف
في الخبر انما هو الفعل أي الهيئة الفعلية ، ومن الواضح انه ليس لأسماء الأفعال
مادة موضوعة وهيئة موضوعة استقلالا ، بل المادة والهيئة معا فيها موضوعة لمعنى خاص
، فهي حقيقة من الجوامد غايته ان معناها معنى الفعل ، ولذا يدخل عليها خواص الاسم
من التنوين وغيره ، فهي كالخنثى فتأمل .
ثانيهما : ان هيئة
الجملة الاسمية أيضا تدل على حركة المسمى بهذا المعنى كما في «زيد قائم» فانها تدل
على فعلية القيام من زيد ، فالتعريف لا يكون مانعا.
وفيه : ان المعرّف
انما هو الكلمة ـ كما يستفاد من المقسم المذكور في الخبر ـ
__________________
والجمل الاسمية
تكون كلاما ، وبعبارة أخرى لم يرد في الخبر ان كلّ ما أنبأ عن حركة المسمى فهو فعل
لينتقض بالجمل الاسمية ، وانما قال : الفعل الّذي هو كلمة ما ينبأ عن حركة المسمى
، ولا ينافي ذلك ان يكون شيئا آخر أيضا دال على ذلك.
هذا كله في بيان
الخبر والفرق بين الاسم والفعل والحرف وبيان معانيها.
ثم انه يقع الكلام
في الفرق بين الاخبار والإنشاء ، وان ظهر إجماله مما تقدم ، فنقول : المشهور كما
في الكفاية انه لا فرق بين الاخبار والإنشاء من حيث المعنى ، وان
اختلافهما انما يكون باختلاف الدواعي ، بل ذكروا ان دلالة الجمل الخبرية المستعملة
في الطلب على ذلك يكون آكد من دلالة صيغة افعل عليه ، خصوصا إذا كانت بصيغة الماضي
وواقعة في جزاء الشرط كما في قولك «من قهقه في صلاته أعادها أو يعيدها» فان
المتكلم لكثرة اشتياقه بذلك الأمر كأنه يعتبره مفروض الوجود والتحقق فيخبر عن ذلك.
وكيف كان على ما
سلكناه في بيان الموضوع له في الجمل الخبرية وغيرها لا مجال لهذا التوهم أصلا.
بيان ذلك : هو ان
الإنشاء عندهم عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، والظاهر انه مجرد لقلقة لسان ولا
معنى لإيجاد المعنى باللفظ أصلا ، فان الموجودات على ما مرّ مرارا منحصرة في
الموجودات الحقيقة ، وهي وجود الجواهر والأعراض الشاملة للأمور الانتزاعية أيضا ،
وفي الموجودات الاعتبارية ولا ثالث.
فان أريد من إيجاد
المعنى باللفظ الإيجاد الحقيقي فبالبداهة نرى انه لا يوجد باللفظ إلّا فرد من
الكيف المسموع ليس إلّا ، ولا يكون اللفظ سببا ولا آلة لوجود المعنى أصلا ، وان
أريد إيجاده بالوجود الاعتباري في وعاء الاعتبار ، وحينئذ لا
__________________
يخلو الحال من ان
يراد وجوده في اعتبار المتكلم ، أو يراد وجوده في اعتبار الشرع أو العقلاء.
أما الأول : فلا
شبهة في انه متقوم باعتبار المعتبر وتوجه نفسه ، سواء كان هناك لفظ أو لم يكن.
وأما الثاني :
فاللفظ وان كان موضوعا لاعتبار الشارع والعقلاء ونسبة الموضوع إلى حكمه تكون كنسبة
العلة إلى معلوله فتحقق اللفظ يكون علّة لثبوت الاعتبار النوعيّ أو العقلائي بمعنى
انطباقه على المورد لا أصل ثبوته وإنشائه ، ولكن الموضوع لاعتبار الشارع والعقلاء
ليس هو اللفظ المجرد ، وانما هو اللفظ الّذي يكون مستعملا في المعنى ، فما هو ذلك
المعنى؟! فيكون القول بان الإنشاء إيجاد اللفظ بالمعنى لقلقة لسان كما ذكرناه.
والصحيح ان يقال :
ان الإنشاء انما هو إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فان حقيقة الإيجاب ليس إلّا اعتبار
الأبدية وثبوت متعلق طلبه على رقبة المكلف ، كاعتبار الدين في ذمة المديون والعمل
على رقبة الأجير ، ولذا ربما يتعدى ذلك بلفظ «على» كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
وينتزع من هذا
الاعتبار عنوان الإلزام من جهة كونه لازما على رقبة المكلف ، وينتزع منه الوجوب
بمعنى الثبوت لثبوته في ذمته ، والتكليف من جهة إيقاعه المكلف في الكلفة إلى غير
ذلك ، ولفظ افعل يكون بحسب تعهد الواضع مبرزا لهذا الاعتبار ، فكما ان الهيئة في
الجمل الخبرية تكون مبرزة لقصد الحكاية ، فليس فيها من حيث دلالتها احتمال الصدق
والكذب ، كذلك الهيئة في الجمل الإنشائية مبرزة لنفس الاعتبار ، فليس فيها احتمال
الصدق والكذب أصلا ، وليس معناها
__________________
الحكاية عن قصد
الإنشاء ليحتمل فيها الصدق والكذب ، بل بابها باب الدلالة ، فأما ان تدل أو لا تدل
، لا باب الاخبار والحكاية ، وحيث ليس لمدلولها تعلق بما في الخارج فلا مجال
لاحتمال الصدق والكذب فيها من تلك الجهة أيضا. وبالجملة ظهر ان حقيقة الإنشاء انما
هو إبراز الاعتبار.
هذا معنى الجمل
الإنشائية ، وأما الجمل الخبرية فمعناها قصد الحكاية ، والمعنيان متباينان ، وعليه
فلا مجال لتوهم اتحادهما وكون الاختلاف فيهما من حيث الداعي أصلا ، بل لا مناص من
كون اختلافهما بحسب المعنى الموضوع له.
هذا والحاصل : ان
ما ذكروه من ان المعنى والمستعمل فيه في الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام
الإنشاء تارة ، وفي الاخبار أخرى كفعل المضارع والماضي إذا وقع جزاء الشرط واحد في
كلا الاستعمالين وانما الاختلاف بينهما يكون من ناحية الداعي لا يمكننا المساعدة
عليه.
فان الموضوع له
للهيئات ليس ثبوت النسبة ونفيها ، وانما هو قصد الحكاية في الاخبار ونفس الاعتبار
النفسانيّ في الإنشاء على ما عرفت تفصيله.
ومما يؤيد ذلك انه
لو كان المستعمل فيه في الإنشاء والاخبار واحدا وكان الاختلاف من جهة الداعي لزم
صحة إنشاء الطلب بالجمل الاسمية مثل زيد قائم أيضا ، إذ لا خصوصية لفعل الماضي
والمضارع والظرف.
ومن الواضح ان ذاك
الاستعمال من أفحش الأغلاط ، نعم يصح استعمال الجملة الاسمية في إنشاء الطلب فيما
إذا كان الخبر ظرفا كما في قوله عليهالسلام «المؤمنون عند
شروطهم» ولو لم يكن ذلك من باب الكناية وأجنبيا عن المقام.
__________________
بقي في المقام فرع
وهو بيان معنى أسماء الإشارة والضمائر : صريح الكفاية ان لفظ ذا مثلا موضوع لكل مفرد مذكر عاقل ، وان كون المعنى
مشارا إليه ولحاظه كذلك انما يأتي من ناحية الاستعمال.
ونقول : لو سلمنا
ما ذكره في المعنى الحرفي من ان الآلية والاستقلالية ينشئان من ناحية الاستعمال من
دون ان يكون لشيء منهما دخل في الموضوع له لا نسلم ما ذكره في المقام ، فان
الاستقلالية والآلية يكونان من لوازم الاستعمال ، بخلاف كون المعنى ملحوظا بما انه
مشار إليه ، فان ذلك لا يكون من لوازم الاستعمال ، فلا وجه لاعتباره فيه ما لم يكن
دخيلا في الموضوع له.
ومما ذكرناه ظهر
فساد ما ذكره المحقق النائيني قدسسره ، من ان «ذا» موضوع للمفرد المذكر الّذي أشير إليه بهذا
اللفظ أي الحصة الخاصة بنحو دخول التقييد وخروج القيد .
فإنا نسأل إنه ما
المراد من الإشارة إلى المعنى باللفظ؟ إن أريد منها الإشارة الاستعمالية فبكل لفظ
يشار إلى معناه ففي استعمال لفظ الإنسان يشار إلى معناه ، وان أريد بها معنى آخر
فأي شيء ذلك؟
وهناك احتمال آخر
أدق من ذلك وهو ما أفاده بعض أعاظم مشايخنا وحاصله : إن «ذا» موضوع للمعنى الّذي
أشير إليه بإشارة خارجية بإحدى آلات الإشارة من الإصبع والرّأس العين كما يتفق ذلك
كثيرا عند استعمال هذه الألفاظ .
وفيه : ان هذا كان
يتم لو لم يكن استعمال أسماء الإشارة والضمائر والإشارة بها إلى غير المحسوسات
والمعاني صحيحا بلا عناية ومسامحة ، كما يقال ان كان المراد
__________________
من هذا المعنى ذلك
فهو باطل ، وبالجملة ما ذكره في الكفاية من ان اسم الإشارة كلفظ «ذا» موضوع لذات
المشار إليه ، وان الإشارة تنشأ من ناحية الاستعمال كاللحاظ الآلي في الحروف فقد
عرفت انه غير تام ، إذ لا معنى لكون الإشارة ناشئة من قبل الاستعمال أصلا إلّا ان
يراد منها الإشارة بمعنى الاستعمال التي هي موجودة في جميع الألفاظ.
وهكذا ظهر عدم
صحّة ما أفاده المحقق النائيني ، فأمتن الوجوه ما نقلناه عن شيخنا المحقّق قدسسره بان يكون اسم الإشارة موضوعا للحصة الخاصة من المعنى ، وهي
المعنى المقيد بكونه مشارا إليه بالإشارة الخارجية أو الذهنية ، إلّا ان الإشكال
فيه هو صحّة استعمال أسماء الإشارة في موارد غير قابلة للإشارة أصلا كما عرفت.
فالصحيح : في
معاني أسماء الإشارة ما ذكره ابن مالك وغيره من النحويين من كونها موضوعة لنفس
الإشارة لا للمشار إليه ، أي وضعت لأن يكون آلة للإشارة ، أي لأن يشار بها كما
يشار باليد والعين ونحو ذلك ، والإشارة في مقابل التصريح معناها بيان المعنى بنحو
الإبهام والإجمال ، كما ان التصريح هو البيان بنحو التفصيل ، ومن ثم سمّيت أسماء
الإشارة والضمائر والموصولات بالمبهمات ، فالمبين فيها يكون قرائن خارجية من الصلة
في الموصولات ، وذكر المشار إليه في الإشارة ، مثل ان تقول : «جئني بهذا الرّجل أو
القرينة العقلية أو غير ذلك ، وإلّا فنفس الإشارة يكون فيها نوع إجمال غالبا كما
لو أشير إلى الجدي وقيل «هذا الجدي» فانه لا يتعين ذلك بمجرد الإشارة.
وكيف كان ،
فالصحيح في أسماء الإشارة ما ذكره النحويون ، ولا يرد عليه ما يقال : من ان لازمه
عدم صحّة الحمل في مثل قولك «هذا زيد» أو «ذاك أخو عمر» وأمثال ذلك ، لأن لفظ «ذا»
على هذا يكون بمنزلة الإشارة باليد فلا يكون للقضية موضوع ، وذلك لأنه انما يؤتي
بلفظ «هذا أو ذاك» كما يؤتى بالإشارة
بالأعضاء طريقا
لإراءة المعنى ، فالموضوع يكون المعنى الّذي أحضر في ذهن السامع بتلك الإشارة أو
اللفظ ، فلا إشكال ، ولا ينبغي إطالة الكلام في المقام أكثر مما ذكر.
بقي الكلام في استعمال اللفظ في نوعه أو
صنفه أو مثله.
ونقول : قد ذكرنا
ان دلالة اللفظ على معناه لا تكون ذاتية ، وانما هي مستندة إلى الوضع والتعهد ،
فدلالة اللفظ على معناه الحقيقي تكون مستندة إلى الوضع من غير إشكال ، كما ان
دلالته على المعنى المجازي أيضا تكون مستندة إلى الوضع بمعنى انه لو لا وضع اللفظ
لما يناسب المعنى المجازي لما كان استعماله في ذاك المعنى المجازي صحيحا.
مثلا لو لم يكن
لفظ أسد موضوعا للحيوان المفترس بل كان موضوعا للبحر مثلا لما جاز استعماله في
الرّجل الشجاع ، إذ لا علاقة بين البحر والرّجل الشجاع أصلا ، فالمعنى المجازي
أيضا مستند إلى وضع الواضع لكن بهذا المعنى ، وهذا واضح.
انما الكلام في
انه مضافا إلى ذلك هل يكون اللفظ بالقياس إلى المعنى المجازي وضع على حدة أم لا؟
ويؤيد الثاني اتفاق المعاني المجازية في جميع اللغات ، فان اللفظ الموضوع للحيوان
المفترس في كل لغة يجوز استعماله في الرّجل الشجاع ، ويبعد اتفاق جميع اللغات في
هذا الوضع.
ثم ان المشهور
بينهم ان صحّة استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه لا يكون بترخيص
الواضع ووضعه ، وانما هي بالطبع ، وذلك لأن الوضع انما هو لإيجاد العلقة والربط
بين اللفظ والمعنى ، فإذا فرضنا في مورد ان العلقة والربط ذاتي فيه كما في اللفظ
ونوعه وصنفه ومثله وشخصه فأي حاجة إلى الوضع هناك ، وبعد ما ذكرناه في عدم الحاجة
إلى الوضع في المعاني المجازية لوجود المناسبة بينه
وبين المعنى
الحقيقي ذاتا فعدم الحاجة إليه في المقام بطريق أولى ويؤيد ذلك صحّة استعمال
الألفاظ المهملة في شخصها ونوعها وصنفها ، بان يقال : ديز لفظ أو ثلاثي ،
والالتزام بثبوت الترخيص فيها بعيد غايته لعدم تناهي المهملات ، وهذا ظاهر.
ثم انهم أشكلوا في
استعمال اللفظ في شخصه ، فمنعه بعض وصحّحه في الفصول بتأويل ، فانه لو كان اللفظ مستعملا في نفسه ودالا عليه
يلزم اتحاد الدال والمدلول ، وإلّا فيلزم تركب القضية اللفظية من جزءين أي من
المحمول والنسبة في مثل قولك : «زيد لفظ» ولذا ذهب في الفصول إلى تقدير لفظ «هو» ليكون
مبتدأ ويندفع به المحذور.
ولنا كلام في جميع
ما ذكر ويتضح ذلك ببيان أمرين :
الأول : ان الغرض
من الاستعمال انما هو إحضار المعنى المقصود في ذهن المخاطب ، فإذا كان إحضار
المقصود في ذهن السامع في مورد ممكنا من دون توسط لفظ أصلا فالاستعمال يكون لغوا.
وبعبارة أخرى :
المعاني تكون على نحوين :
منها : ما لا يمكن
إحضارها في ذهن السامع إلّا بتوسط اللفظ كما في المعقولات الثانوية ونظائرها.
ومنها : ما يمكن
إيجادها من دون ذلك بتوسط إشارة ، أو إحضار فرد منه ، مثلا يرفع رقيّا ويريه إلى
المخاطب ويقول ملك زيد والمقصود فيه يكون إحضار شخصه والحكم عليه أو يقول مبرد
مثلا فيكون المقصود إحضار طبيعي الرقي والحكم عليه ، وربما يكون المعنى بنفسه من
قبيل الألفاظ فبمجرد إيجاد اللفظ يوجد المعنى المقصود في ذهن السامع ، فلا حاجة
فيه إلى استعمال اللفظ أصلا ، والمقام من
__________________
هذا القبيل ، فانه
بمجرد التلفّظ بكلمة «زيد» يوجد شخصه في ذهن السامع ويوجد طبيعي زيد في ضمنه أيضا.
الثاني : إنّا
ذكرنا انه لم يوضع للحصص والخصوصيات ألفاظ خاصة مع انه كثير ما يتعلق غرض المتكلم
بها ، ولذا احتالوا في ذلك بوضع الحروف ، فهي تدل على التضييقات والحصص.
وبعد ما عرفت
الأمرين نقول :
لو كان غرض
المتكلم ومقصوده إيجاد شخص اللفظ أو نوعه والحكم عليه كما في قولك «زيد لفظ» أو
كان المقصود إحضار نوعه كما في قولك «ضرب فعل ماضي» فبمجرد الإتيان بهذا اللفظ
يوجد ذلك في ذهن السامع وبتبعه يحضر الطبيعي في ذهنه أيضا.
وأما لو كان
المقصود صنفه أو مثله فبالتكلم باللفظ يوجد الطبيعي في ذهن السامع ، ثم يضيق ذاك
الطبيعي الّذي ثبت في ذهن السامع بوجود فرده خارجا بالحروف. مثلا يقال : زيد في «قام
زيد» فاعل ، أو زيد في قولك «زيد قائم» مبتدأ ، فليس شيء من ذلك من قبيل استعمال
اللفظ في المعنى ، بل يستحيل استعمال اللفظ في شخصه لا لما في الفصول من استلزام
اتحاد الدال والمدلول فان ذلك قابل للدفع وقد وقع ذلك في بعض الأدعية ، حيث قال : «يا
من دلّ على ذاته بذاته» ، بل لأن الاستعمال سواء قلنا بأنه بمعنى إيجاد المعنى
باللفظ وجعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، أو قلنا بأنه جعل اللفظ علامة للمعنى
كما هو الأنسب بما ذكرناه في حقيقة الوضع متقوم بالتعدد والاثنينية ، فلا يعقل ان
يكون الشيء علامة لنفسه ، كما لا يعقل ان يكون الوجود الحقيقي وجودا تنزيليا أيضا.
وأما ما في الفصول
من الإش كال على عدم كون الألفاظ مستعملة في هذه الأمور بأنه مستلزم لتركّب
القضية من جزءين ، فالجواب عنه واضح ، فانه لم يرد هناك آية ولا رواية على لزوم
تركب القضية اللفظية من أجزاء ثلاثة ، بل المشاهد خلافه في كثير من الموارد.
هذا ، ثم انه إذا
أطلق اللفظ فله دلالات ثلاثة :
الأولى : دلالته
على معناه ، وانتقال السامع العالم بالوضع منه إلى المعنى الموضوع له ، وتسمى
بالدلالة التصورية ، وهي غير متوقّفة على ان يكون اللافظ شاعرا وملتفتا أصلا ، بل
يتحقق ولو صدر اللفظ من احتكاك حجر بحجر.
الثانية : الدلالة
التصديقية ، ولها مرتبتان :
إحداهما : تصديق
السامع بان المعنى كان مرادا للّافظ وقصد تفهيمه ، ومن ثم تسمى بالتصديقية.
ثانيهما : ان
المعنى المستعمل فيه اللفظ كان مراده الجدي ، بان لم يكن في مقام الهزل ونحوه ، إذ
ربما لا يكون ما استعمل فيه اللفظ مرادا جديّا للافظ ، بل يكون مرادا استعماليّا
فقط ، أو يكون المراد الجدي أمرا آخر كما في الكتابة ونحوها ، ومما يكون المراد
الجدي مباينا مع المراد الاستعمالي ففي قولك : «زيد كثير الرماد» فانه لم يرد منه
معناه الحقيقي ، وان لزيد مزبلة يجمع فيه الرماد ، بل المراد الجدي لازمه المباين
له وهو الجود ، كما ربما يكون بين المعنيين العموم المطلق كما في العمومات
المخصّصة بمنفصل وستعرف إن شاء الله تعالى ان ذكر تلك العمومات انما يكون لضرب
القانون ، والمراد الجدي منها هو الخاصّ من أول الأمر.
وكيف كان ذهب
المشهور من المتأخرين إلى ان الدلالة الوضعيّة منحصرة
__________________
بالدلالة التصورية
، واما التصديقية بكلا مرتبتيها تكون ببناء العقلاء وانهم بنوا على ان كل متكلم
يكون في مقام البيان ما لم يعلم خلافه ، وان ما استعمل فيه اللفظ هو مراده الجدي ،
ويجري ذلك في غير اللفظ من سائر الأفعال أيضا مثلا إذا أشار المولى إلى عبده بيده
ان أقبل فالظاهر عند العقلاء انه غير هازل في فعله وانه كان في مقام التفهيم والجد
، ولذا لو لم يقبل العبد يكون مذموما عندهم.
هذا ولكن العلمين
ذهبا إلى ان الدلالة الوضعيّة منحصرة بالدلالة التصديقية ، ومما ذكرنا في حقيقة الوضع
يظهر ان الحق ما أفاداه.
والتحقيق : هو ان
الدلالة التصديقية بالمرتبة الثانية تكون ببناء العقلاء ، ولذا نقول ثابتة في غير
الألفاظ أيضا ، فليست مستندة إلى الوضع ، فالدلالة الوضعيّة يدور أمرها بين ان
تكون هي الدلالة التصورية أو التصديقية بالمرتبة الثانية.
والصحيح : ان
الدلالة التصورية مستندة إلى أنس الذهن ، وأما الوضعيّة فهي الدلالة التصديقية
لوجهين :
الأول : ان الوضع
على ما عرفت هو الالتزام وجعل شيء لازما على نفسه ، فلا بد وان يكون متعلقه أمرا
مقدورا للواضع ، وانتقال السامع من سماع اللفظ مطلقا إلى معناه ليس كذلك ، وانما
المقدور له هو ذكر اللفظ عند قصد تفهيم معناه.
الثاني : ان
الواضع لا يكون لاغيا ، فلا بد وان يكون الوضع بأي معنى فرضناه سعة وضيقا بمقدار
الغرض المقصود منه ، ومن الواضح ان الغرض من الوضع ليس إلّا للفهم والتفهم ، فلا
بدّ من جعل العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى عند إرادة التفهيم وقصده لا مطلقا ،
فان الإطلاق يكون لغوا ، وهو أيضا يحتاج إلى مئونة زائدة كالتقييد.
وعليه فاللفظ
بالدلالة الوضعيّة يدل على قصد تفهيم المعنى وإرادته لكن طريقا إلى ذات المعنى لا
مستقلا ، ففي الحقيقة يكون الموضوع والمحمول في قولك «زيد قائم» ذات زيد وذات
القائم لا بما هما مراده ولا قصد الأمرين ، فلا يلزم المحاذير المذكورة في الكفاية
على هذا التقريب.
ثم انه هل يكون
للمركبات زائدا على وضع مفرداتها وضع مستقل أم لا؟ أما وضعها بما هي مركبات فممّا
لا يتفوّه به عاقل ، وذلك :
أولا : لأن
المحمولات والمعاني المركبة غير متناهية ، والوضع للغير المتناهي محال.
وثانيا : لا حاجة
لوضع المركب بما هو مركب بعد وضع مفرداته ، فهو لغو واضح.
وثالثا : نرى
بالوجدان صحّة تركيب الألفاظ بعضها مع بعض بحسب اختلاف مقاصد المتكلمين ومراداتهم
في كل لغة من غير توقف على ثبوت وضع واستعمال ، ولو كان للمركبات وضع مستقل لكان
صحة الاستعمال متوقفا على ثبوته وثبوت الاستعمال في تلك اللغة.
وأما وضع المركبات
بمعنى وضع الهيئة التركيبية فهو أمر قابل للنزاع ، ولذا وقع الخلاف بينهم في ان
الدال على النسبة والربط هل هو الهيئة ، أو هو الضمير المستتر ، أو هو الإعراب ،
والمحقق النائيني خصص ذلك بالجمل الاسمية ، ولا وجه لذلك.
والصحيح : ان
الهيئات التركيبية بأجمعها تكون موضوعة ، بداهة انا نستفيد من المركبات مزايا
وخصوصيات لا نستفيدها من المفردات ، كالحصر من تقديم ما
__________________
حقه التأخير في
مثل قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وكون السابق من الاسمين فاعلا والمسبوق مفعولا في قولك «ضرب
موسى عيسى» مع عدم ظهور الإعراب على لفظهما ، وليس هذه الدلالة عقلية ولا طبعية ،
فلا بد وان تكون وضعية ، والدال على ذلك ليس إلّا الهيئة التركيبية.
ثم المعروف جريان
المجاز والاستعارة والتشبيه في المركبات ، وقد مثلوا للأول بالمثال المعروف وهو
قولهم في المتحير «يقدم رجلا ويؤخر رجلا». وللثاني بقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً
فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ).
ونقول : أما
الاستعارة والتشبيه فتجري في المركبات كما في الآية ، فانه ربما يشبه الاجزاء
بالاجزاء بنحو العام الاستغراقي ، مثلا يشبه الإيمان بإيقاد النار أو بضوئه ،
وذهاب الإيمان بخمود النار إلى غير ذلك ، وربما يشبه المجموع بالمجموع بنحو العموم
المجموعي أي مفاد المركب بالمركب ، وأما المجاز واستعمال المركب في محل مركب آخر
مجازا فممنوع بعد ما عرفت من ان المركب بما هو مركب ليس له معنى حقيقي أصلا.
ثم انهم اصطلحوا
على ان وضع المواد يكون شخصيا ، ووضع الهيئات يكون نوعيا ، وقد أشكل على ذلك بأنه
لو كان الوجه في كون الوضع في المواد شخصية ان الموضوع فيها شخص المادة لا غيرها ،
ففي الهيئات أيضا يكون طرف العلقة الوضعيّة ذات الهيئة الخاصة كهيئة «فعل» لا
غيرها كهيئة «يفعل» مثلا ، وهكذا لو كان نوعية وضع الهيئات سريان الهيئة في المواد
، فهو ثابت في المواد أيضا ، فما هو الفارق بينهما ليكون الوضع في إحداهما شخصية
وفي الأخرى نوعية.
__________________
ونقول : أولا : ان
هذا مجرد اصطلاح ليس تحته أثر عملي.
وثانيا : يمكن ان
يقال : ان الهيئة لا تكون قابلة للّحاظ إلّا في ضمن إحدى المواد لا على التعيين ،
بخلاف المادة فانه يمكن لحاظها عاريا عن كل هيئة سوى تقدم بعض الحروف على بعض مثل «ضاد»
و «راء» و «باء» فتأمل.
الحقيقة الشرعية
ثم انه وقع النزاع
في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وحيث لا يترتب عليه ثمر مهم ، فان الثمرة التي رتبت
عليه هو حمل الأسامي الخاصة على معناها الشرعي لو ثبت ذلك وإلّا فتحمل تلك الألفاظ
في الروايات على معانيها اللغوية ، وقد أورد على هذه الثمرة بان اللازم على تقدير
عدم ثبوت الحقيقة الشرعية هو التوقف لا الحمل على المعنى اللغوي ، لاحتمال كونها
مجازا مشهورا في المعاني المستحدثة. وعلى أي تقدير لا يترتب على هذا البحث ثمرة ،
فان جلّ الأخبار صادرة عن الصادقين عليهماالسلام ، وفي زمانهما قطعا صارت الألفاظ حقائق في المعاني
المستحدثة ، ولم نجد رواية نبوية أو عن علي عليهالسلام شك في المراد منها من هذه الحيثيّة أصلا.
هكذا في ألفاظ
القرآن فنختصر في التكلّم في هذا المبحث ونقول : ثبوت الحقيقة الشرعية ، تارة :
يكون بالوضع التعييني ، وأخرى : بالوضع التعيّني.
اما بالوضع
التعييني ، فتارة : يدعى ان الشارع أعني النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صرّح بوضع هذه الألفاظ الخاصة للمعاني المستحدثة ، وأعلن
ذلك لأصحابه ، وهذا يكون بعيدا غايته ، إذ لو كان ثابتا لنقل ذلك ووصل إلينا ولم
يقع فيه الخلاف ، فمن عدم ثبوته يستكشف عدمه ، ولا يقاس ذلك بالتصريح بالولاية
والخلافة لعلي فتأمل.
فانه أولا : ثابت
لمن لم يتجاهل.
وثانيا : كان
لإخفاء ذلك دواعي وأسباب لا تكون في ثبوت الوضع.
وأخرى ندعي ثبوت
الوضع التعييني لا بالتصريح والاستقلال بل بنفس الاستعمال ، كما يقول من يريد
تسمية ولده : جئني بحسين مشيرا إلى ذاك الطفل ، فانه بنفس هذا الاستعمال يتحقق
الوضع أيضا ، ولا ضير في عدم كون هذا
الاستعمال حقيقيّا
ولا مجازيا كما في استعمال اللفظ في شخصه ، والظاهر ان ثبوت الوضع بالاستعمال أيضا
لا يتم لا لما ذكره المحقق من استلزامه الجمع بين اللحاظين ، فان اللفظ في مقام
الاستعمال يلاحظ طريقا وفانيا في معناه ، وفي مقام الوضع لا بد من أن يلحظ
استقلالا ، فان هذا قابل للدفع ، إذ لا مانع من تحققها كما لو فرضنا ان المتكلم
يريد بتكلمه بلفظ الماء مثلا ان يفهم السامع انه عارف باللغة العربية ويريد الماء
أيضا فيقول لعبده «جئني بالماء» ، بل لأن الوضع بأي معنى كان إما يكون اعتبارا أو
التزاما ، وهو فعل نفساني مستحيل ان يكون معلولا للاستعمال ، نعم يمكن ان يضع
الشارع اللفظ للمعنى ويجعل مبرزه الاستعمال بدل التصريح ، وهذا لا بأس به ولا يبعد
دعواه في الألفاظ المخترعة.
وأما ثبوت الحقيقة
الشرعية بالوضع التعيّني فهو مما يطمئنّ به ، إذ لا شبهة في كثرة استعمال هذه
الألفاظ المتداولة في الألسنة مثل الصلاة والصوم والحج في لسان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه في المعاني المستحدثة ، بل لا يبعد ان يقال : ان
استعمالها في ذلك الزمان كان أكثر بمراتب من استعمالها في هذه الأزمنة.
وما قيل : من ان
كثرة استعمالها في لسان خصوص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غير معلوم لا وجه له ، إذ لا يعتبر في ثبوت الحقيقة
الشرعية بالوضع التعيّني كثرة الاستعمال في لسان شخص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بل يكفي إذا تحقّق ذلك في لسانه ولسان تابعيه من حيث
المجموع.
ولا وجه أيضا لما
في الكفاية من ان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على كون هذه المعاني
مستحدثة في هذه الشريعة ، وعدم ثبوتها في الشرائع السابقة ، وظاهر الآيات ثبوتها
فيها كقوله عزّ شأنه :
__________________
(وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) ، إلى غير ذلك.
اما أولا : فلأن
الغرض من البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعية ليس إلّا حمل الألفاظ الواردة في الأخبار
على المعاني المستحدثة على تقدير ثبوتها ، وهذا يترتب على مجرد ثبوت الحقيقة
الشرعية ولو في الشرائع السابقة.
ثانيا : ان مجرد
ثبوت هذه الماهيات غير مستلزم لأن تكون مسمّاة بهذه الأسامي في تلك الشرائع ، بل
الظاهر خلافه ، فان لغة أهل تلك الشرائع لم تكن عربية وانما نقل أعمالهم في القرآن
باللغة العربية ترجمة مثل قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ، فان من البديهي ان هذه العبارات ليست كلمات موسى نفسها
بل هي نقل معاني كلامه باللغة العبرانيّة.
والمتحصّل من جميع
ما ذكر ان دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية اما بالوضع التعييني بالمعنى المتقدّم أو
بالوضع التعيّني غير بعيد ، واما الحقيقة المتشرعة فثبوتها في غاية الوضوح.
ثم إنا لا نتعرّض
لعلائم الحقيقة والمجاز لأنه انما كان للبحث عنها قيمة في سالف الأزمان في زمان
كانوا يعتمدون على أصالة الحقيقة ، ولكن المتأخرين انما يعتمدون على الظهورات
العرفية ، فان ثبت الظهور فهو حجّة سواء كان معنى مجازيا للّفظ أو حقيقيّا ، وإلّا
فلا ، وعليه فلا داعي لإطالة الكلام في علائم الحقيقة والمجاز.
__________________
الصحيح والأعم
لا إشكال في ان
الألفاظ الخاصّة تستعمل في زماننا هذا في الماهيّات المخترعة بنحو الحقيقة ، ولم
نعرف شخصا خاصا وضع تلك الألفاظ لهذه المعاني من الأئمة أو الخلفاء وغيرهم ، بل
وصل إلينا صحّة استعمالها فيها يدا بيد من زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد ذكرنا ان ثبوت الوضع التعييني منه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمعنى الثاني غير بعيد كما ان ثبوت الوضع التعيّني أيضا
في لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولسان تابعيه كان قويّا جدا. وعلى أي حال يقع البحث في ان
ما يستعمل فيه هذه الألفاظ بنحو الحقيقة هل هو الصحيح من هذه الماهيّات ليكون
استعمالها في الفاسد مجازا أو هو الأعم من الصحيح والفاسد وتكون شرائط الصحّة
دخيلة في المأمور به لا في المسمّى ، فتأمل.؟
وتظهر ثمرة البحث
فيما إذا تعلق الأمر بأحد هذه الألفاظ وشككنا في دخل قيد خاص في المأمور به ، فانه
على الأعم يكون العنوان صادقا على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط أيضا وشك في اعتبار
ذلك القيد في المأمور به ، ومقتضى الإطلاق عدمه ، وأما على الصحيح فصدق العنوان
على الفاقد يكون مشكوكا ولا يعلم كون الفاقد مصداقا للطبيعي أصلا ، فيكون الشك في
الصدق ، ومعه لا يمكن التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار القيد أصلا.
ثم لا بد لنا من
تصوير الجامع على القولين ، فعلى الصحيح لا بدّ من تصوير الجامع بين الافراد
الصحيحة ، وعلى الأعم لا بدّ من تصويره بين الافراد الصحيحة والفاسدة.
وما يقال : من ان
هذه الألفاظ يكون وضعها من قبيل الوضع عام والموضوع له خاص فلا تحتاج إلى تصوير
الجامع غير صحيح ، وذلك :
أولا : لأنّا نرى
وجدانا انها تكون كغيرها من الألفاظ الموضوعة للمعاني الكلّية نظير لفظ الإنسان
ولذا يحمل عليها محمولات تناسب الطبيعي مثلا يقال الصوم جنّة من النار أو الصلاة
معراج المؤمن ، أو تنهى عن الفحشاء.
وثانيا : لو كان
كذلك أيضا تحتاج إلى تصوير الجامع ، إذ الوضع عام على أي تقدير.
والمحقق النائيني ذكر في بيان عدم الحاجة إلى تصوير الجامع وجها آخر حاصله :
ان الصلاة مثلا موضوعة للمرتبة العالية منها واستعمالها في غيرها من المراتب يكون
في تنزيل تلك المرتبة منزلة المرتبة الكاملة بنحو الاستعارة على ما يذكره السكاكي
، فيكون التنزيل في المراتب الصحيحة هي الاشتراك في الأثر وفي الافراد الفاسدة
المشاكلة في الصورة.
وفيه : أولا :
إنّا نرى بالوجدان صحّة استعمال الصلاة في غير المرتبة الكاملة بلا عناية وتنزيل
أصلا نعم إطلاقها على صلاة الغريق ببعض مراتبها يكون مسامحة لا محالة فتأمل.
وثانيا : ان
المرتبة الكاملة أيضا تكون مختلفة باختلاف أصنافها ، فان المرتبة الكاملة من صلاة
الصبح ركعتان ، ومن المغرب ثلاثة ، ومن الظهرين أربعة ، ومن صلاة الآيات كيفية
خاصة ، ومن صلاة العيدين شكل خاص ، فإذا لا بدّ لنا من تصوير الجامع بين أصناف تلك
المرتبة أيضا.
ثم المراد من
الصحة في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة أو الأعم هل
__________________
الصحة من جميع
الجهات أو من حيث الاجزاء والشرائط فقط؟
الظاهر هو الثاني
، وذلك لأن الصحة من جميع الجهات ربما تتوقف على أمور لا يمكن أخذها في المسمّى.
مثلا يعتبر في صحّة العبادة ان لا تكون منهيّا عنها ، فان النهي في العبادة يوجب
الفساد ، ومن الواضح ان تقيد المسمّى بان لا يكون منهيا عنه غير ممكن ، فان النهي
عن العبادة فرع ان يكون هناك شيء سمّي بلفظ خاص وأمر به وتعلق النهي به أيضا كصوم
العيدين مثلا ، ومع هذا كيف يمكن دخل عدمه في المسمّى؟! ومثل عدم المزاحم بناء على
اعتباره في صحّة العبادة ، ومثل قصد القربة ، فان هذه الأمور معتبرة في الصحّة
الفعلية ولا يعقل أخذها في المسمّى.
فالمراد من الصحّة
هنا الصحّة من حيث الأجزاء والشرائط ، فالصحيحي يدّعي وضع الألفاظ للعمل المستجمع
للأجزاء والشرائط ، والأعمّي يدعي وضعها للأعم منه ومن الفاقد لبعض الاجزاء
والشرائط.
وبالجملة لا معنى
لأن يكون المراد من الصحيح في المقام الصحة الفعلية ومن جميع الجهات ، إذ يعتبر
فيها أمور متأخّرة عن المسمى مثل عدم النهي وعدم المزاحم وقصد القربة وأمثال ذلك.
والّذي يدل على
ذلك ان أحدا من القائلين بفساد العبادة في مورد اجتماع الأمر والنهي لم يستدل على
فسادها بعدم كونها مصداقا لذلك المسمّى ، حتى من القائلين بوضع الألفاظ للصحيح ،
فالظاهر انه لم يقل أحد بان المراد من الصحّة في المقام الصحّة من جميع الحيثيّات
، بل صرحوا بان المراد هو الصحة من حيث الأجزاء والشرائط فقط.
وكيف كان لا بدّ
من تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة على القول بذلك ، وبين الأعم منها ومن
الفاسدة على القول الآخر ، وما قيل في تصويره على الصحيح وجوه.
أحدها : ما ذكره
في الكفاية وحاصله : انه يترتب على الصلاة مثلا أثر بسيط وهو الانتهاء
عن الفحشاء ، ووحدة الأثر على ما برهن عليه في محلّه تكشف عن وحدة المؤثر ،
فيستكشف من ذلك ان هناك جامع بسيط يكون هو المؤثر في ذلك الأثر وان لم نعلم
بحقيقته فنشير بهذا العنوان إليه ، ويكون اللفظ موضوعا لذاك الجامع.
ثم ذكر ان تصوير
الجامع المركب للصحيحي غير معقول ، إذ كل مركب يفرض جامعا يكون صحيحا في بعض
الحالات وبالنسبة إلى بعض الأشخاص وفاسدا بالنسبة إلى البعض الآخر ، فلا بدّ وان يكون
الجامع أمرا بسيطا متحدا مع هذه المركبات لا مسببا عنها ، فلا مانع من إجراء
البراءة عند الشك في اجزاء العبادات وشرائطها على هذا القول إلى آخر ما أفاد.
ونقول يرد عليه :
أولا : انه لا
يمكن ان يراد من المؤثر المؤثر الفعليّ ، إذ يعتبر في ذلك أمور متأخرة عن المسمّى
التي عرفت انها غير مأخوذة في المسمّى ، مثل عدم النهي عنه ، فان الصلاة المنهي
عنها لا يعقل ان تكون ناهية عن الفحشاء مع إنها بنفسها تكون معصية وفحشاء ، فيعتبر
في المؤثر الفعلي ان لا يكون منهيا عنه ، وهذا غير داخل في الموضوع له قطعا ، فلا
بدّ وان يكون المراد من المؤثر بهذا الأثر ما يكون فيه قابلية التأثير لا فعليته ،
وإذا كان كذلك فجملة من الافراد الفاسدة كالصلاة بلا سورة يكون فيها قابلية
التأثير ولو بلحاظ بعض الحالات ، وعليه فيكون هذا الجامع جامعا للأعمي لا للصحيحي.
وثانيا : انه كيف
يعقل تصوير الجامع الحقيقي بين المركب الاعتباري من
__________________
مقولات متباينة من
الكيف النفسانيّ والكيف المسموع والفعل والوضع وغير ذلك ، فتصوير الجامع الحقيقي
بحيث يكون متّحدا مع الافراد اتحاد الطبيعي ومصاديقه مستحيل ، بل تصويره بين اجزاء
صلاة واحدة غير معقول فكيف بين افراد الصلاة.
وأما ما أفاده من
وحدة الأثر المترتب على هذه المركبات فلا يبعد ان يقال : انه ليس أمرا واحدا بسيطا
مترتبا على تلك المركبات ، بل كل جملة منها مترتب على جزء من المركب ، مثلا
الانتهاء عن الكذب مترتب على تكبيرة الإحرام ، وعن الغيبة مترتب على الركوع إلى
غير ذلك ، كما يمكن ان يقال بل هو الأقرب إلى فهمنا : ان باب التأثير والتأثّر بل
معناه ان المصلّي لا محالة ينتهي عن جملة من الفحشاء ، مثلا بعد التفاته إلى
اعتبار إباحة مكان المصلّي ولباسه لا محالة يجتنب عن السرقة والمعاملات الفاسدة
لأن لا تكون أمواله مغصوبة. وإذا التفت إلى اعتبار الطهارة عن الخبث فيها فلا
محالة يجتنب عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والميتة ونحو ذلك.
هذا مضافا إلى انه
يحتمل ان يكون المراد من الانتهاء حصول القرب الموجب لذلك ، وعلى أي حال من
الضروري انه ليس هناك أثر خاص بسيط يترتب على الصلاة ليستلزم وحدة المؤثر وثبوت
الجامع البسيط أصلا.
ومما ذكر في تصوير
الجامع الصحيحي ما أفاده بعض الأعاظم من المحقّقين وحاصله : تصوير الجامع بين هذه
المقولات لا من حيث ماهياتها بل من حيث وجودها ، فان الوجود يكون جامعا بينها
فيكون اللفظ موضوعا بإزاء الوجود أي يترتب على الأثر الخاصّ
وفيه : أولا : ان
مفهوم الوجود أمر جامع بين جميع الوجودات حتى بين
__________________
الوجود الممكن
والواجب على بعض الأقوال ، ونحن نريد تصوير الجامع بين أجزاء المركب الخاصّ.
ثانيا : انه لا
ريب في ان هذه المركبات كالصلاة مثلا من الماهيات وليست من قبيل الوجود ، ولذا
يحمل عليها الوجود تارة ، ويقال الصلاة موجودة ، والعدم أخرى ، فيقال الصلاة
معدومة.
وبالجملة المؤثر
انما هو الوجودات المتباينة ، فلا يمكن تصوير جامع حقيقي بين وجودات أجزاء صلاة
واحدة ، فكيف تصويره بين جميع افراد المركب.
ومما قيل في
تصويره أيضا ما عن بعض أعاظم مشايخنا قدسسره وهو أيضا تصويره من ناحية الأثر لكن لا بالتقريب المتقدم ،
وحاصل ذلك : ان من الألفاظ ما يكون موضوعا للماهية اللابشرط عن جميع العوارض
والخصوصيات كما هو الغالب ، مثل لفظ الإنسان والفرس والبقر ، ومنها ما يكون موضوعا
لشيء مبهم من جميع الجهات إلّا من حيث اتصافه ببعض الاعراض ، مثل لفظي الغداء
والعشاء ، فانهما موضوعان لما يؤكل في وقت خاص مبهم من حيث كونهما من الحنطة أو من
الشعير أو من الرز ، ومثل الخمر فانه موضوع لما يسكر مبهم من حيث كونه متخذا من
التمر ، أو من الزبيب ، أو من الشعير ، أو الحنطة ، وهكذا لفظ المعجون فانه على ما
قيل موضوع لما فيه أصل مبهم من سائر الجهات ، فألفاظ العبادات أيضا تكون من هذا
القبيل ، مثلا لفظ الصلاة موضوع لعبادة موظفة في وقت خاص أو مؤثر في الأثر المخصوص
، مبهم من سائر الجهات انتهى.
والحاصل : انّ
تصوير الجامع بالنحو المذكور في الكفاية يرد عليه مضافا إلى ما تقدم انه على فرض
الغض عن جميع الوجود المتقدمة ، وتسليم ان وحدة الأثر
__________________
كاشف عن وحدة
المؤثر ، وتمامية البرهان المزبور ، لا يمكن الالتزام بكون ذلك المؤثر هو الموضوع
له لهذه الألفاظ ، فان المسمى لها لا بدّ وان يكون أمرا يفهمه العرف والعامّة حتى
البدوي ، ومن الواضح ان هذا المعنى مما لا يعرفه الخواصّ فضلا عن العوام والأعراب.
واما تصويره من
حيث الوجود ، فقد ذكرنا ان مفهوم الوجود مفهوم عام جامع بين جميع الموجودات ،
مضافا إلى ان الصلاة مركبة من أمور وجودية وأمور عدمية فكيف يمكن ان تكون من قبيل
الوجود؟! بل لا بدّ وان تكون من قبيل الماهيات ، ولذا يحمل عليها ما يحمل على
الماهيات ، فيقال الصلاة موجودة تارة ومعدومة أخرى ، أو ثلثها الركوع وثلثها
الطهور.
وأما ما ذكره بعض
أعاظم مشايخنا قدسسرهم من انه تارة : يكون اللفظ موضوعا لذات معينة ماهية مهملة
من حيث جميع العوارض كلفظ الإنسان ، وهذا هو الغالب في الألفاظ الموضوعة للطبائع.
وأخرى : يوضع لماهية مهملة من حيث ذاتها مبينة من حيث بعض عوارضها كلفظ الغداء
والعشاء الموضوعين لما يسد به الجوع في الوقت الخاصّ أعم من ان يكون من الحنطة ،
أو من الشعير أو من غير ذلك ، ولفظ الخمر الموضوع لما يسكر العقل أعم من ان يكون
مأخوذا من الخشب أو من الشعير أو من التمر والزبيب أو من غير ذلك ، وهذه الألفاظ
تكون من قبيل الثاني. مثلا لفظ الصلاة موضوعة لما هو مؤثر في الأثر الخاصّ أو
للعبادة المفروضة في الوقت الخاصّ أعم من ان تكون ركعتين أو ثلاثة أو أربعة ، عن
قيام أو عن جلوس ، أو مستلقيا ، أو مضطجعا إلى غير ذلك ، انتهى.
وفيه : ان وضع
اللفظ للذات المبهمة إلّا من حيث اتصافها بالعرض الخاصّ وان كان ممكنا كما في
المشتقات على ما سيأتي بيانه مفصلا ، مثلا القائم الموضوع لذات متّصف بالقيام
مبهمة من حيث كونها إنسانا قائما ، أو فرسا أو حمارا أو جدارا
أو ذئبا إلّا ان
ذلك لا يصح في هذه الألفاظ ، إذ لو كانت موضوعة لمفهوم الماهية الناهية عن الفحشاء
، مثلا من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، فلازمه ان تكون مرادفة مع هذا
العنوان.
وفيه : أولا : وهو
خلاف ما يفهمه العرف منها ، فان أهل العرف لا يفهمون من لفظ الصلاة إلّا نفس
الأركان.
وثانيا : محل
الكلام تصوير الجامع الحقيقي الّذي تكون نسبته إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى
مصاديقه ، وليس هذا المعنى كذلك ، بل هو عنوان انتزاعي تكون الأشخاص منشأ لانتزاعه
، كما في عنوان القائم المنتزع من الذات المتصفة بذاك الوصف ، فانه ليس كلّيا منطبقا
على ما في الخارج ، إذ الموجود في الخارج ليس إلّا الذات وتلك الصفة لا غير ، ولو
كانت موضوعة لكل ما يكون ناهيا أي ناهيا عن الفحشاء والمنكر بنحو الوضع العام
والموضوع له خاص كما في وضع الحروف لواقع التقيدات ، فهو مخالف لمبناه من كون
الموضوع له فيها عاما كالوضع ، مضافا إلى انّا نرى وجدانا انه يحمل على معاني هذا
الألفاظ ما يحمل على نفس الطبيعي.
ومما قيل في تصوير
الجامع ما ذكره بعض المدقّقين من ناحية العناوين الثانوية وملخص ما أفاد : ان
للافعال عناوين أولية وعناوين ثانوية متولّدة منها ، والعناوين الأولية للافعال لا
تختلف ولا تنفك عنها باختلاف الأزمان والأمكنة والأشخاص أصلا ، مثلا القيام
بعنوانه الأولي قيام ، فهو قيام في كل مكان وفي كل زمان وبالنسبة إلى كل قوم ،
واما العناوين الثانوية فهي تختلف باختلاف الأزمان والأمكنة والعادات ، كعنوان
التعظيم والاستهزاء وأمثال ذلك ، فان القيام عند قوم يكون بالعنوان الثانوي تعظيما
وعند طائفة لا يكون كذلك ، وتعظيم العالم يكون بنحو وتعظيم الملك يكون بنحو آخر
وتعظيم الوالد يكون بكيفية ثالثة إلى غير ذلك ، بل يمكن ان يختلف بالجعل ، مثلا
يجعل الملك تعظيمه بلبس لباس مخصوص ،
أما مطلقا ، أو في
كل وقت بشكل خاص مثلا تعظيمه في يوم الجمعة بلبس اللباس الأحمر والتعظيم في يوم
السبت بلبس اللباس الأبيض إلى غير ذلك.
وبعد هذا ذكر ان
لفظ الصلاة مثلا يكون موضوعا للعنوان التوليدي وهو العطف والتوجه والرغبة وما
يرادف لفظ «المهرباني» في الفارسية وحيث انه من العناوين الثانوية فيختلف بجعل
الشارع ، ففي الفجر جعل التوجه إليه بصلاة ركعتين ، وفي الظهرين بأربعة ، وفي
المغرب ثلاثة ، وللقادر عن قيام ، وللعاجز عن جلوس ، وللمريض عن اضطجاع إلى غير
ذلك.
وفيه : مع كونه
امتن الوجوه صورة انه لو كان وضعها لعنوان العطف بنحو الوضع العام والموضوع له
العام ، فيرد عليه : مضافا إلى بعض الوجوه المتقدمة انه عليه لا يمكن التمسك
بإطلاقها لنفي جزئية ما يشك في جزئيته وشرطية ما شك في شرطيته في المأمور به ،
فتأمل ، وكان هذا هو الغرض من هذا البحث ولا يمكن التمسك بالبراءة أيضا عند الشك في
ذلك ، بل لا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال ، لأنه شك في مرحلة الامتثال بعد العلم
بالتكليف ، ولا يلتزم القائل بذلك في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين. وان كان
الموضوع له فيها خاصا فيرد عليه : مضافا إلى ما ذكر ان القائل غير ملتزم بذلك
فيها.
فتحصل مما ذكره انه
لا يمكن تصوير الجامع الصحيحي العرفي بين الأفراد أصلا.
هذا كله في تصوير
الجامع الصحيحي.
وأما تصوير الجامع
على الأعمي ، فقد ذكروا فيه وجوها.
منها : عن بعض
مشايخنا العظام قدسسرهم وهو ان ما تصورناه جامعا صحيحا
__________________
بعينه يكون جامعا
على الأعمي لو قطعنا النّظر عن صدوره عن الفاعل الخاصّ ، فان كل صلاة تكون صحيحة
من أي شخص يمكن ان تكون فاسدة إذا فرضنا صدورها عن شخص آخر.
بيان ذلك : هو ان
الصلاة التي هي مركبة من افعال خاصة لا تختلف تلك الأفعال من حيث عناوينها الأولية
، فان القيام قيام صدر من أي شخص ، والركوع ركوع كذلك ، وهكذا السجود وسائر
الأفعال ، ولكن تختلف من حيث صدورها عن المصدر ، فنفس الأفعال الخاصة إذا صدرت من
الحاضر تكون صحيحة بعينها ، وإذا صدرت من المسافر تكون فاسدة أو بالعكس. وعليه
فبإلغاء جهة الصدور من الجامع بين الافراد الصحيحة يكون جامعا بين الصحيحة
والفاسدة ، انتهى.
وفيه : ان هذا
يتوقف على مقدمتين :
الأولى : ان نتصور
الجامع الصحيحي ، وقد عرفت انه ممنوع.
الثانية : ان تكون
الكلّية من الطرفين ، بمعنى ان كل ما يكون صحيحا يمكن فرضه فاسدا وبالعكس كل ما
يكون فاسدا يمكن فرضه صحيحا. وهذا أيضا ممنوع ، فان الكلّية ليست إلّا من طرف واحد
، إذ كل ما يكون صحيحا يمكن فرضه فاسدا ، ولكن ليس كل ما يكون فاسدا يمكن فرضه
صحيحا ، كالصلاة بلا طهور أو بلا ركوع أو مع خمسة ركوعات فتأمّل.
ومنها : ما نقله
في الكفاية عن المحقق القمّي من ان المسمّى لهذه الألفاظ انما هو
الأركان وبقية الاجزاء والشرائط دخيلة في المأمور به لا الموضوع له ، وقد أورد
عليه بوجوه ثلاثة :
الأول : ان لازمه
ان يكون استعمال اللفظ في مجموع الأركان والاجزاء
__________________
والشرائط مجازا ،
لأنه ليس من قبيل إطلاق لفظ الكلي على فرده ، وانما هو من قبيل استعمال اللفظ
الموضوع للجزء في الكلام ، وهو مجاز اتفاقا.
الثاني : ان لازمه
عدم صدق اللفظ على الصلاة الفاقدة لبعض الأركان ولو كانت مشتملة على تمام الاجزاء
والشرائط ، ومن الواضح صدقه عليها عرفا.
الثالث : ان لازمه
ان تصدق الصلاة على مجرد الأركان فقط ، ولا يصدق عليها عرفا. هذا ونتعرض لهذه
الوجوه بعد إتمام الكلام في تصوير الجامع.
ومنها : ما حكاه
في الكفاية أيضا ، وهو ان يكون اللفظ موضوعا لما يدور مدار التسمية
عرفا.
وفيه : ان الصلاة
ليست أمرا عرفيا لتدور التسمية فيها مدار الصدق العرفي ، بل لا بدّ في تعيين
معناها من الرجوع إلى الشرع ، مضافا إلى ان ذلك إحالة إلى مجهول ، فهو بظاهره
فاسد.
والتحقيق ان يقال
: ان المركّبات على قسمين :
منها : ما يكون
مركّبا حقيقيا خارجيا أي يكون له وجود واحد في الخارج ، كالماهيات الحقيقية مثل
الإنسان والغنم والشجر ، وفي ذلك لا بدّ من ان تكون اجزائه مبينة ويستحيل الإبهام
فيها.
ومنها : ما يكون
مركبا اعتباريا بحيث تكون هناك وجودات عديدة اعتبرت شيئا واحدا كما في الدار
والمعاجن ، وممكن ان تكون مبهمة من حيث الاجزاء ، مثلا تكون الدار اسما لساحة يكون
بها حائط وغرفة لا يشترط من حيث السطح والسرداب والحوض ونحوه ، فان وجدت فيها
فيطلق الدار على مجموعها ، وان لم توجد فلا يضر بصدقها على الساحة المحاطة بجدار
مشتملة على غرفة ، وان
__________________
نقص من ذلك لا
يصدق هذا العنوان ، فيكون الموضوع له لا بشرط من حيث الزيادة ، وهذا نظير قولهم : «الكلمة
ما ركب من كلمتين فصاعدا» فلفظ «أحد» كلمة وان زيد عليه الميم وقيل : «أحمد»
والمجموع أيضا كلمة ، والصلاة أيضا من هذا القبيل ، فهي موضوعة لمعظم الاجزاء
فصاعدا ، ونظير ذلك عنوان البلد والقرية ونحوها.
وبهذا يندفع أحد
الإشكالات الثلاثة المذكورة في الكفاية ، وهو كون استعمال اللفظ الموضوع للجزء في
الكل ، إذ على ما ذكرناه يكون الموضوع له لا بشرط من حيث بقية الاجزاء ، فإطلاقه
على الصلاة الصحيحة التامّة يكون من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد لا استعمال
الموضوع للجزء في الكلّ.
ثم انه لا بدّ في
تعيين مقوم كل مركب من الرجوع إلى مخترعه ، ومخترع الصلاة هو الشارع ، فلا بدّ من
تعيين معظم الاجزاء الّذي هو المقوّم للمركب وهو المسمى والموضوع له من الرجوع
إليه ، فنرى ان في الأخبار ورد ان الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم فمن ذلك
نستكشف ان المقوّم الأول للصلاة هو تكبيرة الإحرام ، ومقومها الأخير هو التسليم ان
قلنا بان نسيان التسليم مبطل للصلاة ، كما ذهب إليه بعض الأعلام وذكر انه إذا وقع
الحديث بعد التشهّد وقبل التسليم يكون مبطلا لكونه واقعا في الأثناء ، وأما ان
قلنا بان نسيان التسليم لا يوجب بطلانها كما هو الحق ، لحديث لا تعاد ، فنلغي
مقوّمية التسليم ، ونقتصر على خصوص التكبير. وورد في الأخبار أيضا ان الصلاة ثلثها
الركوع وثلثها السجود ، فنستفيد منه ان الركوع والسجود أيضا من الأجزاء المقوّمة
لها ، هذا من حيث الأجزاء. ومن حيث الشرائط ورد ان ثلثها الطهور ، فنفهم ان
الطهارة شرط مقوّم للصلاة ، وعليه فيكون المقوّم لهذا المركب الاعتباري أمور أربعة
: «التكبير ، والركوع ، والسجود ، والطهور ، والسلام أيضا» على قول والهيئة
الاتصالية المعتبرة عرفا في جميع
المركّبات.
وهذه الأمور هي
الموضوع له للصلاة لكن كما عرفت فصاعدا من حيث سائر الأجزاء والشرائط ، وبهذا
تندفع بقية الإشكالات المذكورة في الكفاية أيضا.
أما ما ذكره من
لزوم صحّة إطلاق الصلاة على مجرّد الأركان ولو لم تكن منضمّة إلى غيرها من الأجزاء
مع انه لا يصدق عرفا.
فجوابه : انا
نلتزم بصحّة إطلاقها عليها ، بل ربما تكون صحيحة ومجزية كما في صورة نسيان سائر
الأجزاء. مثلا لو فرضنا انه كبّر ونسي القراءة فركع ونسي الذّكر فرفع رأسه وسجد
ونسي ذكر السجود والتشهّد إلى ان سلّم فبمقتضى حديث لا تعاد نقول : باجزاء تلك
الصلاة فضلا عن إطلاق الصلاة عليها.
واما اشكاله
الثالث ، وهو لزوم عدم صدق الصلاة على ما نقص من الاجزاء ركن واحد وان كانت مشتملة
على بقية الأجزاء والشرائط.
فجوابه : انه لو
لم يكن المأتي به مشتملا على بعض هذه الأركان أصلا ، ويكون فاقدا لطبيعي الركوع أو
السجود مثلا فهو ليس بصلاة حقيقية ، وانما هو شكل صلاة. واما لو كان مشتملا على
الطبيعي ولكن كان ناقصا من حيث العدد بان كان مشتملا على ركوع واحد فهو صلاة ، إذ
المعنى في المسمى كان طبيعي هذه الأمور لا خصوصياتها من حيث العدد وغيره.
هذا ويبقى الكلام
في انه ما المراد من الركوع أو السجود المعتبر في المسمّى ، هل المراد منه خصوص
الركوع الاختياري للقارئ أو أعم منه ومن غيره من المراتب؟! وعلى الثاني يلزم
التبدل في المقوم أيضا.
وبالجملة على
المختار من ان الموضوع له لفظ الصلاة انما هو الأجزاء الخاصة فصاعدا ولا بشرط عن
بقية الأجزاء من حيث المسمّى بحيث كلما وجد شيء منها يكون جزء الفرد كما هو الشأن
في كثير من المركّبات الاعتباريّة ، تندفع جميع
الإشكالات الثلاثة
أو الأربعة المذكورة في «الكفاية» وغيرها التي منها لزوم كون استعماله في جميع
الأجزاء مجازا ، فان أخذ المسمّى لا بشرط يدفع هذا الإشكال.
ثم ان مسمّى
الصلاة على ما ذكرنا انما هو التكبير والركوع والسجود والسلام على إشكال حيث ان
للركوع والسجود مراتب أربعة : «الركوع القيامي والركوع الجلوسي والإيماء بالرأس
والإيماء بالعين» وهكذا السجود ، فلا بدّ وان يكون المأخوذ في المسمّى بعد التكبير
أحد مراتب الركوع وأحد مراتب السجود بهذا العنوان عرفا في المسمّى لا طولا وبنحو
البدلية ، نظير المطلوب في الواجب التخييري وهو عنوان أحد الأمرين أو الأمور
ومتعلق غرض العطشان إذا أراد ما يرفع به عطشه. مثل لفظ «الحلو» الّذي هو موضوع لما
يتركب من شيء «حلو» وأحد الأمرين من طحين الحنطة أو التّمن بالكيفيّة الخاصة.
ولا يرد على هذا
البيان ما ذكر في الكفاية وقوّاه المحقق النائيني قدسسره من انه لا معنى للبدلية في المسمّى بان يكون شيء دخيلا فيه
وإذا لم يكن فبدله شيء ثاني ، وهكذا ، فان أحد المراتب على ما عرفت يكون دخيلا في
المسمّى عرضا من دون ان يكون بعضها بدلا عن بعض ليلزم التبدل في اجزاء المسمّى.
وهكذا لا يلزم
دخول جزء في الماهية على تقدير وجوده وعدم دخوله على تقدير عدمه على ما أفاده
المحقق النائيني لنحتاج في دفعه إلى الالتزام بالتشكيك في الوجود إلى آخر
ما ذكر في التقريرات. فان استحالة ذلك انما هي في المركبات الحقيقية لا
الاعتبارية.
نعم يرد على
المختار خروج صلاة الميت وصلاة الغريق عن عنوان الصلاة
__________________
ونلتزم بذلك ، أما
صلاة الميت فقد ورد في الأخبار انها ليست بصلاة ، وانما هي دعاء ، معلّلا بأنه ليس
فيها ركوع ولا سجود ، ولذا لا يعتبر فيها شيء ممّا يعتبر في الصلاة عدا ما دل
الدليل بالخصوص على اعتباره فيها كالقبلة.
وأما صلاة الغريق
، فهي أيضا ليست بصلاة ، وانما التكبيرات الأربعة التي هي وظيفته يكون كل تكبير
منها بدل من ركعة ، فهي وظيفة معيّنة غير الصلاة شرعت في حقّه ليشتغل في حال موته
بذكر الله تعالى ، وليس ذلك بصلاة ، ولا يكون الغريق مكلّفا بها أصلا ، وإلّا لكان
عليه الإتيان بما يقدر من اجزائها ولو بتكبيرة الإحرام والبسملة ، مع انه لم يقل
أحد بوجوبها عليه.
ثم انا بعد ما
أبطلنا إمكان تصوير الجامع على الصحيحي وبنينا على استحالته فلا نحتاج في مقام
الإثبات إلى دليل بعكس ما ذكره في «الكفاية» ، فانه بعد استحالة تصوير الجامع
الأعم يلتزم بالصحيح ونحن بالعكس.
وما استدلّ به
للصحيحي من الأخبار الواردة في ان الصلاة معراج المؤمن ، وعمود الدين ، وتنهى عن
الفحشاء وأمثال ذلك لا دلالة على شيء منها ، وذلك لأن المراد من الصلاة فيها هو
الصحيح لا المسمّى ، وفيها قرينة عقلية على ذلك ، مضافا إلى ان تلك الصلاة لا يمكن
ان تكون موضوعا له للفظ الصلاة حتى على الصحيحي ، لأنه يعتبر فيها الصحّة الفعلية
المتوقّفة على أمور لا يمكن أخذها في المسمّى ، على ان الصلاة كثيرا ما تستعمل في
الفاسدة ، فيقال يعيد صلاته أو النهي عن الصلاة في الحرير ونحوه ممّا لا يصحّ
الصلاة فيها ، فلا يخفى ان ما ذكرناه في الصلاة يجري في كل ماهية مخترعة يكون لها
مراتب ، وفيما ليس له إلّا مرتبة واحدة كالصوم مثلا ، فلا مجال للنزاع في الصحيح
والأعم أصلا ، وبهذا نختم الكلام فيما قيل في تصوير الجامع في المقام.
واما ثمرة البحث فالمشهور
ذكروا فيها أمرين :
الثمرة الأولى :
انه على الصحيحي عند الشك في شرطيّة شيء أو جزئيّته للمأمور به لا بدّ من الرجوع
إلى الاشتغال ، لأن الشك يكون في مرحلة الامتثال ، وأما على الأعمي فيرجع إلى
البراءة ، وقد أشكل الشيخ على ذلك بان الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال في الأقل
والأكثر الارتباطيين أجنبي عن ذلك وانما هو متوقّف على انحلال الأمر المتعلّق
بالمركب الارتباطي وعدمه ، فانه بناء على الانحلال يكون تعلق التكليف بالاجزاء
المعلومة متيقنا ويشكّ في تعلقه بالجزء المشكوك فيرفع بالبراءة ، وأما بناء على
عدم الانحلال المشكوك فثبوت أصل التكليف الوجداني يقيني ، ولكن يدور الأمر بين ان
يكون متعلقا بالأجزاء بشرط شيء أو بها لا بشرط بعد ضم مقدّمة إلى ذلك وهو استحالة
الإهمال في نفس الأمر ، وهما فردان للابشرط المقسمي ، وعليه فيكون المكلف به مرددا
بين ضدين ، ومقتضى القاعدة فيه هو الاشتغال فاذن يكون الرجوع إلى الاشتغال ، أو
البراءة أجنبيا عن هذا المبحث. هذا حاصل ما أفاد.
وأورد عليه المحقق
النائيني ، بان هذا ـ أعني الرجوع إلى الاشتغال على القول بعدم
الانحلال وإلى البراءة على القول بالانحلال ـ انما يتمّ في أحد الشقّين أي على القوم
بالأعم. واما على الصحيح ، فلا وجه للتفصيل أصلا ، بل يكون المرجع هو الاشتغال
دائما ، فان الشك عليه يكون في مرحلة الامتثال وهو مورد الاشتغال.
ونقول : ما أفاده قدسسره بإطلاقه غير صحيح ، وذلك لأن الأقوال في تصوير الجامع
الصحيحي ثلاثة :
قول : بأنه أمر بسيط
يكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلّي إلى مصاديقه كالإنسان وأفراده ، وهذا الّذي
اختاره في الكفاية ، غايته ذكر انه لا يمكننا العلم به
__________________
تفصيلا ، فلا بدّ
وان نشير إليه بآثاره من النهي عن الفحشاء ونحوه.
وقول : بأنه أمر
انتزاعي تكون الافراد منشأ انتزاعه كعنوان القائم والضارب المنتزع من الشخص المتصف
بالقيام أو الضرب.
وقول ثالث : بأنه
مسبب توليدي من الأفعال الخارجية كعنوان القتل المتولد من ضرب العنق ونحوه.
وعلى هذا فان قلنا
بان الجامع بين الافراد الصحيحة نسبته إلى المأتي به نسبة الطبيعي والفرد ، فحيث
ان الطبيعي متحد مع الفرد وجودا ، بل هو الفرد مع إلغاء الخصوصيات الفردية ،
فالأمر به بعينه امر بالافراد الخارجية ، فعلى القول بالانحلال يكون تعلق التكليف
بالأمور المعلومة متيقّنا فتأمل ، ويشك في تعلقه بالجزء المشكوك فيه فيرفع
بالبراءة ، بخلاف ما لو لم نقل بالانحلال.
هذا ولكن أصل
المبنى فاسد ، فان تصوير الجامع الحقيقي المنطبق على ما في الخارج انطباق الكلّي
على افراده يكون أردأ الوجوه المذكورة في المقام ، إذ الجامع بين الافراد الصحيحة
لا يمكن ان يكون مركبا ، لما ذكرنا من ان أي مقدار من الاجزاء إذا فرض جامعا يكون
صحيحا بالقياس إلى بعض المكلفين وفاسدا بالنسبة إلى البعض الآخر ، فلا بد وان يكون
بسيطا ، والجامع البسيط يستحيل انطباقه على المركب خصوصا من المقولات المتباينة
فانه يكون من قبيل انطباق الواحد على الاثنين وانطباق الجوهر على العرض ، فالمبنى
فاسد.
وأما على القولين
الآخرين ، فكما ذكره لا يمكن الرجوع إلى البراءة أصلا ، لأن الشك دائما يكون في
المحصل للأمر الانتزاعي أو للعنوان التوليدي بعد العلم بتعلق التكليف بهما ، وهو
مورد الاشتغال.
فتحصل : انه على
الصحيحي يكون الحق مع الشيخ مع بعض الأقوال ومع النائيني قدسسره على بعض ، فالصحيح هو التفصيل.
والتحقيق في
المقام : ان النزاع في البراءة والاحتياط في الشبهات التحريمية وان كان كبرويا
إلّا انه لا نزاع في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية إذا كان الشك في التكليف
دون المكلف به ، فكلما وقع النزاع فيه في الرجوع إلى البراءة والاشتغال من الشبهات
الوجوبية كالأقل والأكثر الارتباطيين يكون النزاع فيه صغرويا في ان الشك في ذلك هل
هو في أصل التكليف لتكون من صغريات مورد البراءة أو في المكلف به ليدخل في صغريات
مجرى الاشتغال.
إذا عرفت ذلك نقول
: على القول بالأعم يكون الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال متفرعا على الانحلال
وعدمه ، إذ.
على الأول ـ يكون
تعلّق التكليف بالمتبقي معلوما ويشك في وجوب الزائد ، والشك فيه في أصل التكليف ،
فيدفع بالبراءة.
وعلى الثاني ـ يكون
أصل التكليف ثابتا ويشك في المكلف به لتردده بين ضدين على ما ذكرنا ، فكلام الشيخ
على الأعمي واضح.
وأما على الصحيحي
، فلو التزمنا بان الجامع بين الأفراد الصحيحة نسبته إلى الافراد نسبة الكلي
الطبيعي إلى مصاديقه ، وقلنا بأن الطبيعي أمر بسيط يوجد في ضمن الأفراد ، فلا مجال
حينئذ للرجوع إلى البراءة ، لأن تعلق التكليف بذلك الأمر البسيط معلوم ، فيكون
الشك في حصول امتثاله بإتيان هذا الفرد ، وهو مورد الاشتغال. وأما لو قلنا بان
الكلّي لا وجود له في الخارج ، وانما هو مشير إلى الافراد وفي الحقيقة تكون
الافراد متعلقا للتكليف ، فيكون تعلق التكليف بالاجزاء المتبقّية معلوما ويشك في
تعلّقه بالجزء المشكوك ، فالشك في التكليف ، فيرجع إلى البراءة.
وأما على القول
بان الجامع عنوان توليدي أو عنوان انتزاعي فلا معنى حينئذ لدعوى الانحلال أصلا ،
بل لا بدّ من الرجوع إلى الاشتغال ، لأن الشك دائما يكون في المحصل ، فكلام المحقق
النائيني قدسسره تامّ إلّا في فرض واحد.
وتلخص ان الثمرة
الأولى للبحث ثابتة ، إذ على الصحيحي لا يرجع إلى البراءة إلّا في صورة واحدة ،
بخلافه على الأعمي فانه مبني فيه على الانحلال.
الثمرة الثانية :
التي ذكروها انه على الأعمي يمكن التمسك بإطلاق الألفاظ ، وعلى الصحيحي لا يمكن
ذلك.
ونقول في بيانه :
ان الإطلاق تارة : يكون إطلاقا مقاميا ، وأخرى : لفظيا.
والإطلاق المقامي
عبارة عن سكوت المولى عن بيان شيء مع كون المقام مقتضيا لبيانه لو كان دخيلا في
غرضه ، كما في رواية «حماد» الواردة في كيفية الصلوات ، وهذا هو الّذي يعبر عنه
بان «عدم الوجود دليل على العدم» أو ان «السكوت في مقام البيان بيان» ، وبالجملة
لو كان المولى في مقام بيان تمام غرضه ولم يبين شيئا يستكشف منه عدم المقتضى
بتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت.
ويجري ذلك في
التكاليف الاستقلالية والضمنية ، مثلا لو كان في مقام بيان كيفية الصلاة ولم يبيّن
وجوب القنوت فيها تمسك بالإطلاق المقامي لعدم دخله فيها. وهكذا لو كان في مقام
بيان الوظائف اليومية ولم يذكر صلاة الليل نستكشف عدم وجوبها إلى غير ذلك ، وهذا
الإطلاق جار على القول بالصحيح والأعم ، ولا يفرق فيه القولان.
وأما الإطلاق
اللفظي ، فأول مقدمة من مقدماته ان يكون صدق اللفظ بما له من المفهوم على المورد
والموجود الخارجي محرزا. فلو لم يكن الصدق محرزا ، أما لشبهة مفهوميّة ، أو لشبهة
موضوعية لا يكون مجال للتمسّك بالإطلاق. مثلا ورد في الآية : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً) ، وصدق الماء على اللزاج والكبريت مشكوك مفهوما ، فلو شك
في طهوريّة ذلك لا يمكننا التمسّك بإطلاق الآية أصلا ،
__________________
وهكذا لو شككنا في
طهوريّة المائع المردد بين الماء والنفط ، لا يمكننا الرجوع إلى إطلاق الآية ، لأنه
صدق الماء على ذلك المائع غير محرز وورد في الآية (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) [البقرة ـ ٢٧٥]
فلو شك في صحّة بيع وقع بغير العربية مثلا لأجل الشكّ في اعتبارها فيه بعد فرض صدق
البيع عليه لا مانع من الرجوع إلى إطلاق (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) سواء كانت الحلّية بمعنى الإقرار والإمضاء أو كانت بمعنى
الحلّية العقليّة ، وأما لو شككنا في صحّة بيع غير الأموال من جهة الشك في صدق
البيع على ذلك لأجل احتمال اعتبار مالية العوضين في عنوان البيع كما هو ظاهر تعريف
المصباح ، فانه لا يتوهم عاقل جواز التمسك بإطلاق الآية حينئذ لإثبات صحّة مثل ذلك
البيع ، لأن صدق الموضوع عليه يكون مشكوكا فيه. وبالجملة فأول المقدمات هو إحراز
صدق اللفظ على المورد ، وإذا ثبت ذلك يضم إليه بقية المقدمات الأخر ، فيتم الإطلاق
، وإلّا فلا مجال لذلك أصلا.
إذا عرفت هذا نقول
: على الصحيح لا يمكن التمسك بالإطلاق ، لا لما قيل من ان المكلّف به هو العمل
المقيد بالصحّة ، والصحّة مأخوذة فيه أما قيدا وأما تقيّدا ، ليقال ان ذلك غير
مأخوذ في المأمور به فتمسّك فيه بالإطلاق ، فانه غير تام إذ الصحّة عنوان منتزع من
انطباق المأمور به ، على المأتي به كما ان الفساد منتزع من عدم انطباقه عليه ،
فهما متأخّران عن تعلّق الأمر بالشيء وإتيانه خارجا ، فكيف يعقل أخذ الصحّة في
الأمر؟! بل لأن الموضوع له على ذلك يكون مجملا عرفا وقد أشير إليه بآثاره وإذا لم
يكن مبينا فلا محالة يشك في صدقه على العمل الفاقد للجزء أو الشرط المشكوك فلا
مجال فيه للتمسّك بالإطلاق.
وأما على الأعمّي
فصدق اللفظ على الفاقد يكون محرزا ويشك في دخل قيد زائد فيه ، فإذا انضم إليه بقية
المقدمات يتمسك بالإطلاق ، وهذا واضح ، فهذه الثمرة أيضا تامّة.
وقد أورد على ذلك
بوجهين :
الوجه الأول : ان
هذه الثمرة فرضيّة لا يترتب عليها أثر فقهي ، وذلك لأنه يعتبر في التمسك بالإطلاق
بعد فرض صدق اللفظ على المشكوك فيه ان يكون المتكلّم في مقام البيان ، وليس في
ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب والسنّة ما أحرز فيه ذلك بل نحتمل فيها كون
الشارع في مقام التشريع لا بيان الأجزاء والخصوصيّات.
وفيه : انه ان
أريد بذلك خصوص ألفاظ العبادات الواردة في الكتاب فالأمر كذلك ، وان أريد به ما في
الروايات أيضا فهو غير صحيح كما يظهر ذلك من مراجعتها.
الوجه الثاني ـ ان
ما ذكر من اعتبار صدق اللفظ بما له من المفهوم على المشكوك في التمسك بالإطلاق ليس
المراد منه صدق الطبيعي بما هو طبيعي ، بل بما له من القيود والخصوصيات المأخوذة
في الموضوع ، مثلا ورد في الأخبار ان الله خلق الماء طهورا لا ينجّسه شيء ، وقد
قيد ذلك بمفهوم قوله عليهالسلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء» ، فلو رأينا ماء غير معلوم كرّيته لا يمكن التمسك بإطلاق
الحديث الأول لإثبات طهوريّته ، لأن صدق الماء بما هو عليه وان كان محرزا إلّا ان
صدقه بما أخذ فيه من القيد بمقتضى الحديث الثاني غير محرز.
وبعبارة أخرى :
التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية غير جائز فضلا عن الإطلاق. وعليه فنقول على
الأعمي ولو كان الطبيعي بما هو صادقا على الفرد الفاقد للمشكوك إلّا ان المراد من
المأمور به ليس هو الطبيعي بما هو ، بل الطبيعي الصحيح ، إذ هو مطلوب المولى ،
وصدقه بهذا القيد على الفاقد مما لا يحرز فلا يمكن التمسك
__________________
بالإطلاق على الأعمّي
أيضا.
هذا وقد أطالوا
الكلام في الجواب عن هذه الشبهة.
ولكن جوابها اتّضح
بما بيّناه ، فانّ الصحّة التي هي أمر انتزاعي من انطباق المأمور به على المأتي به
لا يعقل أخذه في المأمور به على الصحيحي فكيف على الأعمي ، بل المأمور به هو
الطبيعي من دون ان تكون الصحّة مأخوذة فيه لا قيدا ولا تقيّدا ، فالثمرة ثمرة
مهمّة تامّة.
ثم انه من الموارد
التي ورد لفظ الصلاة في مقام البيان ويمكننا التمسّك بإطلاقه ما ورد في باب قضاء
الفوائت «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتت» ، فانه وقع الخلاف في اعتبار الترتيب
بين الفوائت في غير الصلوات المترتّبة ، فذهب بعض إلى اعتباره مطلقا ، والمحقق
النائيني إلى اعتباره في خصوص ما علم الترتيب ، وبعض آخر إلى عدم اعتبار الترتيب
فيها مطلقا ، كما في الصوم. فلو شككنا في ذلك ولم يكن هناك دليل خاص فيتمسك بإطلاق
دليل القضاء على الأعمّي ونحكم بعدم اعتبار الترتيب دون الصحيحي ، فانه على
الصحيحي لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي وهو الاشتغال ، فما قيل من ان الثمرة
في المقام ثمرة فرضيّة غير صحيح ، وإذا تتبّعت تعثر على غير ذلك أيضا.
ومن الثمرات التي
رتّبناها على هذا البحث في الدورة السابقة ما إذا حاذى الرّجل مع المرأة في الصلاة
ولم يكن بينهما مقدار ذراع واحد أو عشرة أذرع على الخلاف ، ولكن كان أحدهما سابقا
على الآخر في الشروع فيها ، فانه حينئذ تكون صلاة اللاحق محكومة بالفساد يقينا.
وأما فساد صلاة السابق منهما فمبني على هذا البحث ، فان قلنا ان الصلاة اسم للأعم فيصدق
ان السابق يصلي وبحذائه امرأة تصلّي ان كان رجلا وبالعكس ان كانت المرأة ، وأما
على الصحيح فلا يصدق هذا العنوان. وهكذا لو فرضنا ان صلاة أحدهما فاسدة من غير جهة
المحاذاة ، كما يقع
الابتلاء بذلك
كثيرا ، فيرى الإنسان ان هناك امرأة تصلي صلاة فاسدة ويريد ان يصلي بحذائها ، فهو
أيضا مبني على ما ذكر.
فهذا أيضا ثمر مهم
، إلّا ان ذلك لا يمكن ان تكون ثمرة لمسألة أصولية ، لما ذكرنا من ان المسألة
الأصولية لا بد وان تكون ثمرتها كبرى كلّية لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا
، وأما تطبيق الكلّي على ما في الخارج فلا يمكن ان يجعل ثمرة للمسألة الأصولية
نظير البحث عن معنى الصعيد ليترتّب عليه جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض ، أو
اختصاصه بخصوص التراب.
هذا تمام الكلام
في ثمرة البحث في العبادات.
وأما في المعاملات
فربما ينكر ثبوت هذه الثمرة أعني التمسّك بالإطلاق على الصحيح دون الأعم ، بل يتمسّك
بإطلاق ألفاظها على التقديرين ، وقد ذكر لذلك وجوه :
أحدها : انه ليس
للشارع معاملة تأسيسية أصلا ، بل جميع المعاملات إمضائية ، غاية الأمر قد زاد
الشارع فيها بعض الخصوصيّات ، أو ألغى بعض أقسامها كبيع المنابذة مثلا. فلا بدّ من
حمل ألفاظها إذا صدر من الشارع على المعاني العرفية مطلقا ، فما يعتبره العرف في
معاملة لا بدّ من اعتباره ، وما لا يعتبره فيها يتمسك بإطلاق اللفظ لعدم اعتباره
من غير فرق بين القول بالصحيح والقول بالأعم.
وفيه : ان هذا
انما يتم لو كانت الألفاظ موضوعة للأسباب ، وليس الأمر كذلك ، بداهة ان المراد من
النكاح في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم (النكاح سنّتي) ليس مجرّد قول
__________________
أنكحت ، وليس
المراد من (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) حلّية قول بعت واشتريت فقط ، وانما المراد المسببات
المترتبة على ذلك من الزوجية والنقل والانتقال وأمثال ذلك. وعلى هذا فلا يمكن
التمسّك بالإطلاق على المسلكين ، لما عرفت من انه يعتبر في التمسّك بالإطلاق تحقق
الطبيعي في الخارج وصدقه عليه ، وتحقّق المسبّب عند احتمال دخل قيد مفقود في السبب
غير محرز ، فكيف يمكن التمسّك بالإطلاق ، ولذا التجأ بعض للتمسّك بالإطلاق في باب
المعاملات إلى قوله تعالى : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) ، بدعوى ان العقد اسم للأسباب قطعا والآية بوحدتها جامعة
لجميع المعاملات.
وأورد على ذلك ان
العقد وان كان اسما للسبب إلّا انه لا بدّ من حملها في الآية على المسبّب للحكم
المترتّب عليه وهو «أوفوا» ، فان الوفاء ليس معناه ترتيب الأثر كما ذكره بعض
الأساطين بل معناه الإنهاء والإتمام يقال : «درهم واف» أي كامل ، فلا معنى للوفاء
بالسبب الّذي هو أمر يوجد وينصرم ، بل لا بدّ من ان يتعلّق بما يكون فيه قابليّة
الإتمام ، وليس ذلك إلّا المسبب ، فالمراد بالوفاء بالعهد إتمام الالتزام.
وهكذا في الوفاء
بالنذر وأمثال ذلك ، وعليه فمن الحكم بالوفاء بالعقود يستفاد ان المراد منها
المسبّبات دون الأسباب ، فيعود المحذور.
وقد ذكر المحقق
النائيني للتمسك بالإطلاق في المعاملات وجها آخر حاصله : ان نسبة
الإنشاءات إلى المعاملات ليست نسبة السبب إلى المسبّب ، وانما هي نسبة الآلة إلى
ذي الآلة ، وحيث انهما متّحدان وجودا يمكن التمسك بإطلاق ذي الآلة لنفي اعتبار
خصوصية في الآلة ، مثلا لو أمر بالقتل يمكن التمسّك بإطلاقه لنفي
__________________
احتمال اعتبار آلة
خاصة فيه من الخنق والغرق والحرق والقتل بالسيف وأمثال ذلك.
وفيه : على تقدير
تسليم الآلية نقول ان الآلة وذيها موجودان مستقلان بالبداهة ولا وجه للتمسّك
بإطلاق الآلة لنفي الخصوصيّة عن ذيها ، كما لا يمكن التمسّك بإطلاق المسبّب لنفي
القيد عن سببه ، وقياس المقام بالأمر بالقتل قياس مع الفارق ، فان القتل أمر
تكويني وآلاته أيضا أمور تكوينيّة ، واما المعاملات فآلاتها أيضا لا بدّ وان تثبت
بإمضاء من الشارع ، وإطلاق دليل ذي الآلة غير متكفّل لإمضاء الآلات كما لا يخفى.
فالتحقيق : يقتضي
ان ننظر فيما هو الموضوع له لألفاظ المعاملات أولا ، ثم تعيين المراد من الصحيح
والأعم فيها ، فنقول : الموجود في الخارج في مقام البيع وغيره من المعاملات أمور
ثلاثة : اعتبار المتعاملين ، وإبراز ذلك ، وإمضاء العقلاء والشارع. ومن الواضح ان
البيع مثلا ليس اسما لمجرّد اعتبار المتبايعين ، إذ لو اعتبر المعاوضة في نفسيهما
ولم يبرزاه أصلا بل علمنا ذلك من جفر أو رمل لا يقال انهما باعا مالهما ، وهكذا
ليس اسما لنفس قول «بعت» مجردا عن الاعتبار بحيث لو كان المتكلّم مازحا أو كان في
مقام التمثيل لصيغة المتكلّم وقال «بعت» يكون ذلك بيعا عرفا ، وهكذا لا يمكن ان
يكون اسما للإمضاء الشرعي أو للمقيد بذلك ، للعلم بان هذه الألفاظ كانت مستعملة
قبل ورود شرع وشريعة ، بل لا يعقل ذلك في مثل قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) إذ لو كان البيع اسما للبيع الممضى شرعا لما أمكن أخذه
موضوعا ل «أحلّ» فانّه لا معنى لأن يقال أحلّ الحلال ويؤخذ الحكم في الموضوع ،
فيدور الأمر بين ان يكون اسما للاعتبار المبرز مطلقا أو للاعتبار المبرز للمعنى
عند العقلاء وما يستفاد من اللغة وموارد الاستعمالات هو الأول ، وعلى التقديرين
بعد ما تحقق بيع مثلا وأحرزنا صدق عنوان البيع عليه عرفا وعند العقلاء
ولكن احتملنا دخل
قيد زائد في تأثيره نتمسّك بإطلاق (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) وننفي اعتباره من غير فرق بين القول بالصحيح أو الأعم ،
وبالجملة ففي المقام أمور أربعة : اعتبار المعاملين ، وإبرازهما ، وإمضاء العقلاء
فان العقلاء لا يمضون كل بيع وقع في الخارج كما في بيع مال الغير أو من لا يكون
مالكا له أو بيع المجنون والسكران فانه اعتبر في كثير من المعاملات كالبيع أمورا
لم يعتبرها العقلاء مثل عدم الغرر وعدم كون البيع كلبا أو خمرا مثلا وإمضاء
الشارع.
والبيع اسم
لاعتبار المبادلين الّذي يكون مبرزا في الخارج ، أما باللفظ وأما بالتعاطي الخارجي
أو بغير ذلك مما جعل مبرزا للاعتبار حتى مثل إلقاء الخمار على رأس الزوجة في طلاق
الأخرس مثلا.
وأما التقيّد
بالإمضاء الشرعي فقد عرفت ما فيه. وأما دخل الإمضاء العقلائي في المسمّى وأخذ
الصحّة بهذا المعنى فيه وان كان ممكنا إلّا انه على هذا أيضا لو تحقّق خارجا جامعا
للقيود المعتبرة عند العقلاء وشككنا في صحّته لاحتمال ان يكون الشارع قد أخذ فيه
قيدا آخر كالعربية مثلا يدفع ذلك بالإطلاق سواء ذهبنا إلى الصحيح بهذا المعنى ، أو
إلى الأعم وعدم دخل إمضاء العقلاء في المسمّى. نعم تظهر الثمرة بين القولين فيما
إذا شككنا في صحّة بيع لم نحرز كونه جامعا للشرائط المعتبرة في إمضاء العقلاء ،
فانه حينئذ على القول بالأعم يمكننا التمسّك بالإطلاق دون الصحيحي ، والثمرة
المهمّة لذلك تظهر في بعض أقسام البيع المستحدثة ، هذا كلّه في التمسّك بإطلاق
البيع والتجارة ونحو ذلك.
وأما التمسّك
بإطلاق (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) ، فالعقد المرادف في اللغة الفارسية
__________________
للفظ (كره) موضوع
للعهد والالتزام المشدد ، أي المبرز على ما ذكر في كتب اللغة ، فهو يشمل كل التزام
أبرز خارجا.
وأما الوفاء فهو
بمعنى الإتمام والإنهاء ، والأمر بذلك في الآية ليس أمرا مولويّا بحيث توجب
مخالفته ورفع اليد عن الالتزام العقاب والفسق ، وانما هو أمر إرشادي كما بيّن في
محلّه من كتاب البيع.
فللآية مدلول
مطابقي وهو الأمر بإتمام كل عقد ، ومدلول التزامي وهو صحّته وإمضائه شرعا وعليه ،
فمهما شككنا في صحّة عقد أو فساده يمكننا التمسّك بإطلاق «أوفوا» ، سواء كان البيع
الخارجي المشكوك صحّته جامعا للشرائط المعتبر في الصحّة عند العقلاء أم لم يكن.
نعم في مثل ذلك
على الأعمي يمكننا التمسّك بإطلاق «أحل الله البيع» و «تجارة عن تراض» وأمثال ذلك
أيضا ، بخلافه على الصحيحي فانه عليه يكون الإطلاق منحصرا بإطلاق «أوفوا» دون تلك
المكلّفات ، وهذا واضح.
هذا كلّه في ثمرة
البحث عن الصحيح والأعم في المعاملات.
ثم انك قد عرفت ان
المراد بالصحيح في العبادات ليس هو الصحيح من جميع الجهات ، بل المراد منه الصحيح
من حيث الأجزاء والشرائط المقوّمة للطبيعي ، ويعبّر عن الأول بجزء الطبيعي وعن
الثاني بشرطه.
وهناك أمور أخر قد
عبّر عنها في الكفاية بجزء الفرد وشرط الفرد بان لا يكون مقوّما للطبيعي الّذي
تعلّق به الأمر ، لكنّه إذا وجد في ضمنه يصدق على المجموع انه فرد للطبيعي المأمور
به ، فيكون مأمورا به بما هو فرد للطبيعي ومصداقه ، وقد يمثل لجزء الفرد
بالاستعاذة والتكبيرات الافتتاحية والقنوت ونحو ذلك ، ولشرط الفرد بإيقاع الصلاة في
المسجد أو جماعة وأمثال ذلك.
ولكن التحقيق : ان
جزء الفرد وشرط الفرد مما لا معنى له أصلا ، وذلك لأنه
بعد ما فرضنا ان
الطبيعي المأمور به مركب من أمور ليس هذا منها ، يستحيل ان يعمّه الأمر المتعلّق
بذاك الطبيعي فإذا كان مطلوبا لا بدّ وان يكون بطلب آخر غير الطلب المتعلّق
بالطبيعي ، غايته اما بنحو المطلوب في المطلوب نظير الأدعية الواردة في أيام شهر
رمضان التي يكون ظرف محبوبيتها تلك الأوقات بحيث يترتب على امتثالهما أجران
وثوابان.
وأخرى يكون إيجاد
الطبيعي الواجب في ضمن خصوصيّة خاصّة محبوبا ، وعليه يترتّب على امتثالها أجر قوي
لا أجران.
والفرق بينهما
اعتباري ، والمثال العرفي لذلك ما إذا طلب المولى من عبده الماء ، فان العبد لا
بدّ له عقلا من إتيانه في إناء لا محالة ، وتختلف الإناءات من حيث المحبوبية
والحزازة ، فامتثال ذاك التكليف مع بعض الخصوصيات كالإتيان به في ظرف نظيف يكون
محبوبا بخلاف الإتيان به في إناء غير نظيف ، وبهذا صحّحنا جملة من العبادات
المكروهة.
وبالجملة ليس
الفرد إلّا الطبيعي المضاف إليه الوجود ، فالأمر المتعلّق به يستحيل ان يعمّ
الخصوصيّات الفرديّة ، فإذا كان شيء منها مطلوبا لا بدّ وان يكون بطلب مستقل ، فجزء
الفرد أو شرط الفرد بالمعنى المتقدّم غير معقول ، ويترتّب على هذا ثمر مهم في بحث
النهي في العبادات.
هذا تمام الكلام
في الصحيح والأعم.
الاشتراك
الأقوال في
الاشتراك ثلاثة : قول بوجوبه ، وقول باستحالته ، وقول بإمكانه.
وليس المراد من
الوجوب والامتناع الوجوب الذاتي أو الامتناع الذاتي ، بداهة ان الاشتراك ليس مما
يوجب مجرد تصوره القطع بوجوبه أو استحالته ، بل المراد منه الوجوب الوقوعي بمعنى
ان يترتّب على عدمه محذور ، والاستحالة الوقوعية بمعنى ترتّب المحذور على تحقّقه
خارجا.
والقائل بوجوبه
استدل على ذلك بان الألفاظ متناهية لكونها مركّبة من حروف متناهية ، والمركّب من
المتناهي متناه ، والمعاني غير متناهية ، ولو لا الاشتراك لما تمّ الوضع ، إذ
يستحيل وضع اللفظ المتناهي للمعنى الغير المتناهي.
وقد أجاب عنه في
الكفاية بوجوه ثلاثة :
الأول : ان باب
المجاز واسع ، فلا حاجة لوضع اللفظ لجميع المعاني.
الثاني : ان
المعاني ولو لم تكن متناهية إلّا ان الاستعمال يكون متناهيا ، والوضع أيضا كذلك ،
لأن الوضع انما يكون بمقدار الاستعمال ، ولا حاجة لوضع اللفظ على معاني لا تستعمل
فيها.
الثالث : ان
المعاني الجزئية ولو كانت غير متناهية إلّا انها ليست موضوعا له للألفاظ ، وانما
الموضوع له المعاني الكليّة ، والكلّيات متناهية.
وهذا الجواب ليس
بشيء ، لأن الكلّيات الفرضية أيضا غير متناهية أيضا.
__________________
والصحيح هو الجواب
الثاني كما عرفت ، فان الوضع متناه لا محالة ، ويكفي في الوضع المتناهي اللفظ
المتناهي.
ويمكن ان يجاب عنه
بجواب آخر وهو ان يقال : ان المركّب من المتناهي لا بدّ وان يكون متناهيا إذا كان
التركيب خارجيا ، واما التركيب الفرضي فيمكن فرض التركيب الغير المتناهي من مبدأ
متناه. والمثال الواضح لذلك هو الأعداد ، فانها غير متناهية مع انها مركبة من
الواحد أو من الآحاد ، فان كل عدد يفرض إذا زيد عليه واحد تحقق عدد آخر لا محالة ،
بل الحروف في ذلك أولى من العدد. مثلا إذا زيد ألف على أول كل لغة مكتوبة في كتاب
القاموس يضاعف عددها لا محالة ، ويضاعف ذلك باختلاف حركات الألف المزيدة إلى غير
ذلك.
وتقريب آخر : نقول
الألفاظ وان كانت مركبة من الحروف المحدودة ، ولكن ربما يكون التركيب ثنائيا وربما
يكون ثلاثيا وهكذا ، وعلى التقادير تارة : يكون الحرف الأول مفتوحا ، وأخرى :
مكسورا ، وثالثة : مجرورا ، وهكذا الحرف الثاني إلى ما لا نهاية له ، فالتركيب
الفرضي في الألفاظ أيضا غير متناه ، فلا يتمّ الاستدلال المزبور ، فتأمّل.
وأما دليل القائل
بامتناع الاشتراك فهو : انه نقض للغرض ، وهو محال ، فان الغرض من الوضع انما هو
التفهم ، والاشتراك ينافي ذلك ، فانه لو استعمل اللفظ المشترك لا يعلم أي معنى من
معناه اراده اللافظ ، وهذا من غير فرق بين القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من
معنى وعدمه ، غايته على القول بالجواز تكون الأطراف والمحتملات أكثر كما هو واضح.
وفيه : ما ذكره في
الكفاية من ان الغرض كثيرا ما يتعلق بالإجمال ، على ان
__________________
باب القرنية واسع.
فإلى هنا لم يظهر
وجه لوجوب الاشتراك ، ولا لامتناعه ، وإذا كان ممكنا فلا مانع من استعمال المشترك
في القرآن كما يستعمل في غيره.
ولكن التحقيق ان
يقال : ان الوضع لا يكون من قبيل القضايا الحقيقة أصلا ، أما في الأوضاع الشخصية
فواضح ، وأما في غيرها فلان طبيعي لفظ الإنسان مهملا يكون موضوعا لطبيعي الماهية
الخاصة ، وليس فيه انحلال كما هو شأن كل قضية حقيقية بحيث يكون كل فرد من افراد
لفظ الإنسان موضوعا لفرد من افراد الماهية ليثبت الاشتراك.
فإذا عرفت ذلك
نقول : يختلف الاشتراك إمكانا وامتناعا باختلاف المباني في حقيقة الوضع ، فان قلنا
: بان الوضع عبارة عن اعتبار وضع اللفظ على المعنى كالوضع التكويني ، أو قلنا :
بأنه عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى ، أو علامة له فلا مانع من ثبوت
الاشتراك حينئذ.
وأما لو قلنا :
بان الوضع عبارة عن التزام الواضع وتعهّده بذكر اللفظ عند إرادة المعنى كما هو
الصحيح فيستحيل الاشتراك ، إذ بعد ما التزم الواضع بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
معنى خاص كيف يمكنه الالتزام بذكره عند إرادة معنى آخر إلّا برفع اليد عن التزامه
الأول ، وهذا نقل لا اشتراك.
وعليه ففي موارد
توهّم الاشتراك لا بدّ من أحد أمرين ، أما الجامع بين تلك المعاني كما هو الغالب ،
مثل لفظ الجنّ أي الجيم والنون المشدد ، وانه يستعمل في الجن وفي الجنين ، ويقال
جنة ومجنة ولكن عند القائل يظهر ان استعماله في كل من هذا انما هو للجامع بينها
وهو الستر ، واما من تعدد الوضاع ، ولذا ذكر بعض ان الاشتراك ناشئ من جمع اللغات
اما في كتاب ، أو في بلد كان مجمع القبائل ، فلفظ عين نفرض انه كان يستعمل عند
قبيلة في الجارية ، وعند قبيلة أخرى في الباكية ، وعند الثالثة في
الذهب وبعد جمع
اللغات توهّم اشتراكه بين المعاني ، والمستعملون لا بدّ وان يكونوا ملتزمين
باستعماله في أحد هذه الأمور.
وبالجملة
فالاشتراك بهذا المعنى أمر ممكن ، واما الاشتراك الاصطلاحي فهو مستحيل ، ولا
يترتّب على تطويل البحث ثمرة مهمّة ، فنتكلّم في جواز استعمال المشترك في أكثر من
معنى بعد تسليمه ، ولا يختص البحث باستعمال خصوص لفظ المشترك ، بل يعم استعمال
اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا واستعمال اللفظ في معنيين مجازيين
أيضا.
استعمال اللفظ في
أكثر من معنى :
وليعلم انه ليس
المراد من ذلك استعمال اللفظ في الجامع بين معنيين أو المعاني ، فان ذلك مما لا
إشكال في جوازه ، بل المراد استعماله فيهما معا مستقلا بان هناك لفظ واحد
واستعمالا فيه كما في تكرار اللفظ ، والحق جواز ذلك.
وربّما يستدلّ
للمنع عن ذلك بان حقيقة الاستعمال هي فناء اللفظ في المعنى ، فلا بدّ في كل
استعمال من لحاظ اللفظ آليا وفانيا ولحاظ المعنى استقلاليا كما في رؤية الوجه في
المرآة ولذا كثيرا يتّفق ان المتكلّم مع من لا يفهم الفارسي مثلا يتكلّم باللغة
الفارسية وليس ذلك إلّا من جهة ان النّظر يكون إلى المعنى وخصوصيات اللفظ تكون
مغفولا عنها ، فإذا كان المعنى متعددا لا مناص من لحاظ اللفظ بتصورين آليين ،
وتعلق لحاظين بملحوظ واحد في آن واحد محال.
هذا ونقول : لو
كان الاستعمال عبارة عن إفناء اللفظ في المعنى لكان ما ذكر تاما ، إلّا ان حقيقته
ليس إلّا إبراز المعنى باللفظ ، وعليه فيكون المعنى ملحوظا استقلالا ، ولا نقول ان
اللفظ دائما يكون ملحوظا استقلالا ، وانما نقول لا يلزم ان
يكون اللفظ
متصوّرا آليا في مقام الاستعمال ، بل يمكن ان يكون ملحوظا استقلالا كما في القصائد
والخطب ، فإذا لوحظ مستقلا كما يمكن ان يجعل مبرزا لمعنى واحد يمكن ان يجعل مبرزا
لمعنيين ، ولا يلزم منه المحذور المذكور.
ثم انه ذكر في
الكفاية ان في المقام روايات دالة على ان للقرآن سبعين بطنا أو
سبعة أبطن ، واحتمل ان يكون المراد من ذلك ان جبرئيل عليهالسلام حين إنزال القرآن على قلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد أمورا عديدة مستقلا لا من ألفاظ القرآن.
ونقول : بعد الفحص
في البحار والوسائل لم نظفر على رواية واحدة تدل على ذلك ، وانما ورد في الأخبار
ان للقرآن ظهرا وبطنا ، والمراد من الظهر هو الظاهر وما يعرفه كل عارف بلغة العرب
، والمراد من البطن هو المستتر من المعنى ، وقد فسّر بطن القرآن في الأخبار بوجهين
:
الأول : ان باطن
القرآن عظة ، أي ان ظاهره وان كان قصة وتاريخا ، ولكن ليس القرآن كتاب تاريخي
وانما ذكر فيه القصص لكي يتعظ به الناس.
الثاني : ان
القرآن يجري كجري الشمس والقمر ، وانه وان كانت الآية نازلة في مورد خاص إلّا انها
تجري في غيره أيضا ممن يشاكله ، فله باطن بهذا المعنى.
ثم على تقدير
تسليم ورود تلك الأخبار فلا معنى لأن يراد من البطون ما أراده جبرئيل عليهالسلام حين إنزاله على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فان بطن الشيء لا بد وان يكون له إضافة إلى الشيء ، ومجرد
إرادة جبرئيل امرا أجنبيا عن الآية حين إنزالها لا يصحّح إطلاق بطن الآية على ما
أراده.
والّذي يمكن ان
يراد منها هو مداليلها الالتزامية ، وليس المراد من السبعة أو السبعين خصوص هذا
العدد بلا زيادة ونقيصة ، فان السبعة والسبعين يستعملان
__________________
للمبالغة في الكثرة
، فالمراد ان للقرآن مداليل التزامية كثيرة ولا يفهمها إلّا الأئمة عليهمالسلام ، الذين هم العارفون بالملازمات والخصوصيات.
ومن الواضح انه
ربما يفهم أحد من اللفظ ما لم يفهمه غيره منه ، مثلا العالم البارع ربما يستفيد من
كتاب رسائل الشيخ مطالب لا يستفيده نوع الطلاب العارفين الذين يفهمون الرسائل ،
وهكذا لو أخبر أحد بان زيدا أكل سمّ الفأر فالطبيب العارف بان سمّ الفأر قتال
يستفيد من هذا الاخبار حكاية موت زيد بخلاف غير العارف بذلك ، وهكذا في القرآن.
المشتقّ
وقع الخلاف في ان
إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ هل يكون حقيقة ، أو يكون مجازا ، بمعنى انه
يكون من مصاديقه أم لا؟ بعد الوفاق على انه حقيقة في المتلبس بالفعل ، وعلى انه
مجاز فيمن لم يتلبس بعد.
تحرير محل النزاع
:
ثم ان المحمولات
التي تحمل على موضوعاتها تنقسم إلى أقسام ، لأن المحمول تارة : يكون مقوما للموضوع
أو من مقوماته كالإنسان أو الحيوان أو الناطق ويسمى اصطلاحا بذاتي باب الكلّيات ،
وأخرى : لا يكون كذلك ، وإذا لم يكن المحمول ذاتيا ومقوّما للموضوع ، فاما ان يكون
وضع الموضوع ولحاظه كافيا في انتزاع المحمول وحمله عليه من دون حاجة إلى ضم ضميمة
أصلا كالإمكان بالقياس إلى الممكنات ، فان تصور الممكن وانه مما يكون نسبة الوجود
والعدم إليه على حد سواء يكفي في حمل الممكن عليه ، ويعبر عن ذلك بخارج المحمول ،
لأنه خارج عن ذات الشيء ومحمول عليه ، وبذاتي كتاب البرهان.
وإما يتوقّف صحّة
الحمل وانتزاع المحمول منه إلى ضم ضميمة إليه ، وهذا أيضا ينقسم إلى أقسام ثلاثة ،
فالمجموع خمسة ، فان تلك الضميمة المصححة للحمل المعبّر عنها بالمبدإ تارة : يكون
مما له مطابق في الخارج كالبياض والقيام ونحو ذلك مما يكون من المقولات والأمور
الحقيقيّة ، وأخرى : لا يكون له مطابق خارجا
ولكن يكون من شئون
ما له مطابق كالفوقيّة ، فانه في حمل الفوق على ما قيل لا يكون في الخارج الا
الذات وتحيّزه في مكان مخصوص الّذي هو من مقولة الأين ، ومن انتسابه إلى شيء آخر
ينتزع عنوان الفوقيّة.
وهكذا في الأصغر
والأكبر ، ولذا لو سئل ان الشيء الفلاني أصغر أو أكبر أو فوق أو تحت ، ليس له جواب
إلّا ان يضاف إلى شيء آخر ، وثالثة : لا يكون له مطابق في الخارج ، ولا يكون من
شئون ما له مطابق ، وانما يكون أمرا اعتباريا قائما باعتبار من بيده الاعتبار
كالملكية والزوجية والرقية وأمثال ذلك ، فانه بعد ما اعتبر الشارع أو العقلاء
الملكيّة لزيد على ما استولى عليه يحمل عليه عنوان المالك فيقال : «زيد مالك» وذاك
المال مملوك.
وبالجملة فالمحمول
تارة : يكون ذاتيا للموضوع أو من ذاتيّاته ، وأخرى :
يكون خارج المحمول
، وثالثة : يكون من الأمور الحقيقيّة ، ورابعة : من الأمور الانتزاعية ، وخامسة :
من الأمور الاعتبارية ، إذا عرفت ذلك نقول :
لا إشكال في خروج
القسم الأول من حريم النزاع ، بداهة انعدام الذات بل زوال ذاتياته ، ولذا يكون
إطلاق الإنسان على التراب الّذي كان إنسانا غلطا لا مجازا ، وهكذا على من تلبّس
بالإنسانيّة بعد ، فكما انه لا نزاع أيضا في دخول القسم الثالث بأقسامه الثلاثة في
محل الخلاف ، فان إطلاق الأبيض مثلا على شيء كان أبيض صحيح كما ان إطلاق المالك
على من انقضى عنه صحيح أيضا ، فيقال للمعتق «هذا مملوك زيد» أو يقال «ذاك سلطان
حجاز» وهكذا فيقع البحث في كون ذاك الإطلاق الصحيح حقيقة أو مجازا.
وانما الكلام في
دخول خارج المحمول في محل الخلاف وعدمه ، وقد ذهب
المحقق النائيني إلى الثاني لعين ما ذكر في خروج القسم الأول ، فان زوال
العنوان الّذي هو من قبيل خارج المحمول مساوق لانعدام الذات للملازمة بينهما.
وفيه : ان محل
البحث في المقام انما هو الهيئات المشتقّة وليس لنا شغل بالمواد ، فلو كان لكل
صيغة بمادتها وضع يخصها لكان ما ذكره متينا إلّا ان الأمر ليس كذلك ، بل الهيئات
لها وضع نوعي بنحو الإطلاق ، فمحل الكلام في المقام هو ان هيئة فاعل مثلا موضوعة
لخصوص المتلبس ، أو للأعم منه ومن المنقضى عنه ، فعدم قابلية مادّة للبقاء بعد
زوال المبدأ عنها لا يوجب خروج هيئتها عن مورد النزاع ، مثلا غالب المشتقات التي
تطلق على ذات البارئ كالغني والعالم يكون زوال المبدأ فيه مستحيلا ، ولا يوجب ذلك
تخصيص البحث بغيرها.
ولا يجري هذا
الوجه في القسم الأول ، فانه لا يكون من قبيل المشتقات ليكون لهيئته وضع بنحو
الإطلاق.
ثم انه يلحق
بالمشتقات بعض الجوامد التي تكون منتزعة عن الشيء بلحاظ اتصافه بأمر اعتباري ولذا
تشابه المشتقات كالزوج والزوجة ، فهي داخلة في محل النزاع ، ولم ترد آية ولا رواية
في اختصاص النزاع بعنوان المشتق ، وعلى هذا بنى فخر المحققين الفرع المعروف وهو ما
إذا كان للرجل زوجة كبيرة فأرضعت زوجته الصغيرة.
(وتلخص) مما ذكر
ان المحمول لا يخلو من ان يكون من قبيل ذاتي كتاب الكليّات ، أو ذاتي كتاب البرهان
، أو لا يكون من الذاتي أصلا ، وعلى جميع التقادير لو كان المحمول من قبيل
المشتقّات الاصطلاحيّة أعني ما كان لهيئتها وضع ولمادّتها وضع آخر فهو داخل في محل
النزاع ولو كان من الذاتي في باب الكليات
__________________
كالناطق ، أو
الحيوان على وزن فعلان ، والسر فيه ما تقدم من ان وضع الهيئات نوعي ، فعدم قابلية
المادّة في مورد للبقاء بعد زوال العنوان لا يوجب خروجه عن محل النزاع.
وأما لو لم يكن
مشتقا ، فان كان من الذاتي بقسميه فهو خارج عن مورد البحث لا محالة كعنوان الحجر
مثلا ، فانه حيث تكون شيئية الشيء بصورته فبعد زوالها يزول الشيء أصلا ، واما
الجنس والمادة فليس بشيء.
نعم تنقسم الجوامد
في القسم الثالث إلى قسمين ، فانها تارة : تكون منتزعة عن ذات الشيء كالبياض
والسواد ونظائر ذلك من الجواهر والأعراض ، وهي خارجة عن محل البحث قطعا ، إذ لا
مجال لتوهّم صدق البياض بعد تبديله بما يضاده بل يناقضه ، فان ثبوت كل ضد يلازم عدم
الضد الآخر ، فلازم صدق البياض مثلا بعد انعدامه وقيام السواد مقامه هو اجتماع
النقيضين وقد رتّبنا على هذا ثمرة مهمّة في بحث الاستصحاب وعدم دلالة حديث لا تنقض
اليقين بالشك على قاعدة اليقين لعدم صدق عنوان اليقين بعد زواله بالشك فراجع ،
وأخرى : لا تكون منتزعة عن ذات الشيء كالعبد والزوج وأمثال ذلك ، فهي داخلة في محل
الكلام ، فالمشتقات بأجمعها محل الكلام وكذلك ما يلحق بها من الجوامد.
وبما ذكرنا ظهر
الجواب عن توهّم خروج بعض المشتقات كالساكن أو المتحرّك ، فان كون بعض المواد
ملازما للانقضاء. والتصرّم لا ينافي عموم وضع الهيئة ولا خصوصها ، وهكذا الكلام في
اسم الزمان ، فان صيغته غير موضوعة لخصوص زمان المادّة ، وانما هي موضوعة لوعاء
المادّة وظرفها ، فإذا قيل : «هناك مقتل زيد» يستفاد منه المكان بسبب القرينة ،
وإذا قيل : «يوم الجمعة مقتل زيد» يستفاد منه الزمان ولا ينبغي إطالة البحث في
تحقيق اسم الزمان ، بعد ما بيّناه.
ثمرة البحث :
ثم انه لا ثمرة
للبحث عن المشتق أصلا ، وذلك لأنّا ولو لم نقل بكونه حقيقة في خصوص المتلبّس ولكن
لا ريب في انه منصرف إلى خصوص المتلبّس وظاهر فيه عرفا ، وقد ذكرنا مرارا ان
المتّبع هو الظهور العرفي ولا غرض لنا بالمعنى الحقيقي ، مثلا لو قال المولى :
«يحرم إهانة المؤمن» ظاهره بنظر العرف حرمة إهانة من يتّصف بالايمان بالفعل لا من
كان متلبسا وقد كفر فعلا. وهكذا ما جعل ثمرا للبحث وهو ما ورد من كراهة البول تحت
الشجرة المثمرة ، فان ظاهره المثمرة بالفعل لا ما كانت مثمرة.
واما الفرع الّذي
ذكره فخر المحققين من انه لو أرضعت الزوجة الكبيرة الزوجة الصغيرة ، وقد فرض
العلّامة قدسسره ان للرجل زوجات ثلاثة إحداهن صغيرة واثنتان منهن كبيرتان ،
ويشترك الفرضان فيما هو المهمّ غالبا ، ونشير إلى ما يختصّ بفرض الثلاثة فهو أيضا
غير صحيح لأنه مورد النص الخاصّ ، وكيف كان فتارة تكون الكبيرتان مدخول بهما معا ،
وأخرى : غير مدخول بهما ، وثالثة : تكون إحداهما مدخولا بهما دون الأخرى ففي
المقام فروع ثلاثة ، وعلى التقادير : تارة : نتكلّم من حيث بطلان عقد الزوجة ،
وأخرى : من حيث لزوم الحرمة الأبديّة ، فنفرض الكلام فيما إذا لم تكون مدخولا بهما
أصلا.
وفي الفرض ذهب
المشهور إلى بطلان زوجيّة الكبيرة والصغيرة معا ، لصدق عنوان أم الزوجة على
الكبيرة وبنت الزوجة على الصغيرة في آن واحد ، وتحقيق الكلام في ذلك مبني على
مقدمتين :
الأولى : ان حرمة
الزوجة ، تارة : تكون حرمة عينيّة ، وأخرى : تكون الحرمة في الجمع كالجمع بين
أختين ، وفي الثاني إذا تقارنتا كما لو كان للرجل وكيلان
فعقدا له على
أختين في آن واحد فيدور الأمر بين القول بصحّتهما معا ، أو فسادهما معا ، أو صحّة
أحد العقدين معينا دون الآخر ، أو صحّة إحداهما لا بعينه وفساد الآخر ، ولا خامس.
اما صحتهما معا
فهي خلف واضح ، وصحّة أحدهما المعين ترجيح بلا مرجّح ، واحدهما لا بعينه ان رجع
تعينه إلى اختيار الزوج فلا دليل عليه ، وان لم يرجع إلى ذلك فلا معنى له ، لأنه
لا وجود للواحد الغير المعين ، فيتعيّن بطلانهما معا.
الثانية : ان ظاهر
قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) وان كان حرمة بنت الزوجة الفعليّة لا بنت من كانت زوجة ،
إلّا ان لازم ذلك هو جواز تزويج الرّجل بنت زوجته المطلّقة المولودة لها بعد
طلاقها وتزوّجها من رجل آخر ، ولم يلتزم الفقهاء بذلك ، ولذا لا بدّ من رفع اليد
عن ذلك الظهور ، وكذلك تسالموا على حرمة تزويج أم الزوجة التي صارت أم الزوجة
للشخص بعد طلاق البنت ، ولا بدّ ان يفرض ذلك في الرضاع ، ولا يعقل في الولادة بان
يفرض ان للإنسان زوجة صغيرة وبعد طلاقها ارتضعت من امرأة فتتصف المرضعة بأنها أم
زوجة هذا الرّجل لكن لا زوجته الفعلية ، بل ما انقضت عنها الزوجية.
إذا عرفت
المقدمتين. نقول : في الفرض لو فرضنا ان حرمة تزويج أم الزوجة وبنت الزوجة تكون في
الجمع بينهما لا حرمة عينيّة ، فبمجرّد تماميّة ارتضاع الصغيرة من الكبيرة ينفسخ
العقد بين الزوج وبينهما معا كما عرفت في المقدّمة الأولى ، وحيث ان الترتب بين
تحقق عنوان أم الزوجة وبنت الزوجة وانفساخ العقد ليس إلّا ترتّبا رتبيا ، وإلّا
فلم يتحقق زمان صدق فيه كون الكبيرة أمّا للزوجة ، ولم يمض وقت اتصف فيه الصغيرة
بأنها بنت الزوجة ، إذ ليس بين ذلك وبين بطلان
__________________
الزوجية ترتب
زماني ، فثبوت الحرمة الأبديّة للكبيرة مبني على ما بيّناه من تسالم الفقهاء على
حرمة تزويج أم من كانت زوجة ولو لم تكن زوجة حين الارتضاع منها. وأما الصغيرة فلا
تحرم مؤبدا كما هو ظاهر.
وأما لو فرضنا ان الحرمة
عينيّة والمحرم هو تزويج أم الزوجة كما هو ظاهر الأدلة وتزويج بنت الزوجة المدخول
بها ، فعليه بعد ارتضاع الصغيرة من الكبيرة تحرم خصوص الكبيرة مؤبدة دون الصغيرة ،
لأن حرمة بنت الزوجة مشروطة بالدخول وهو غير متحقّق على الفرض ، بخلاف حرمة أم
الزوجة ، فان اتصافها بذلك آناً ما يكفي في حرمتها إلى الأبد كما نظيره قيل في (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، وكما قيل في ما إذا حدّ الإمام ولو مرّة واحدة يسقط عن
قابلية الإمامة إلى الأبد.
(وبالجملة) تارة :
لا يكون في البين دخول بالكبيرتين أصلا ، وأخرى : تكون المرضعة الأولى مدخول بها
دون الثانية ، وثالثة : بالعكس.
واما الدخول بكلتا
الكبيرتين فلا أثر له ، أما في فرض عدم الدخول رأسا فان قلنا بان الجمع بين البنت
والأم محرم كالجمع بين أختين ، وعليه فبمجرد ما أرضعت الكبيرة الأولى الصغيرة تبطل
الزوجية في الصغيرة والكبيرة معا للوجه المتقدّم ، والكبيرة تحرم مؤبدا بخلاف
الصغيرة ، وأما المرضعة الثانية فحرمتها مبنية على ان تكون حرمة أم الزوجة السابقة
أي أم من كانت زوجة موردا للإجماع ـ كما ادعي الإجماع على حرمة بنت الزوجة اللاحقة
ـ وأما لو قلنا بالحرمة الذاتيّة وان أم الزوجة يحرم زواجها وبنت الزوجة كذلك ،
فبالإرضاع لا تبطل زوجية الصغيرة ، وانما تبطل زوجية المرضعة فقط ، لأن حرمتها غير
متوقّفة على شيء بخلاف حرمة
__________________
الصغيرة فانها
متوقّفة على الدخول بالأم ، ويتفرع على هذا فروع :
منها : إذا تقارن
وقوع عقد الزواج على الأم والبنت ، فانه عليه يحكم ببطلان عقد الأم دون البنت ،
وهكذا لو كان العقد الأم دون البنت ، يبطل نكاح الأم ، ويجري ما ذكرناه في المرضعة
الأولى في المرضعة الثانية أيضا.
واما لو فرض
الدخول بالمرضعة الأولى فبتمامية الارتضاع ينفسخ نكاح المرضعة والمرتضعة معا ،
وتحرمان مؤبدا ، اما الكبيرة فلأنها يصدق عليها أم الزوجة التي كانت زوجة قبل ان
وان لم يصدق عليها أم الزوجة بالفعل حقيقة ، لما ذكرنا من انه بمجرد تمامية
الارتضاع يحكم بانفساخ الزوجتين ، إلّا انه يتسامح في هذا المقدار القليل من
الزمان كما يذكره المحقق قدسسره فيصدق عليها أم الزوجة.
واما الصغيرة
فبناء على ثبوت الإجماع على حرمة بنت الزوجة ولو كانت البنتية لاحقة بالزوجية لا
مقارنة لها فكذلك تحرم مؤبدا ، وليست الحرمة في شيء من ذلك مبنيا على المشتق.
واما الكبيرة
الثانية في الفرض فلا يفرق بين كونها مدخولا بها ، أو غير مدخول بها ، فان الدخول
بها انما كان يجدي في حرمة الصغيرة والمفروض انها محرمة بارتضاعها من الكبيرة
الأولى التي كانت مدخولا بها.
وبالجملة فحرمتها
مبنية على ثبوت الإجماع على حرمة أم الزوجة ، ولو كانت الأمومة حادثة بعد زوال
زوجية البنت ، فهي أيضا غير مبنى على المشتق ، فان المشتق ظاهر في المتلبس بلا
خلاف.
واما الفرع الثالث
وهو ما إذا كانت الثانية مدخولا بها دون الأولى ، فظهر الحال فيه مما تقدم ، فانه
تحرم الكبيرة المرضعة الأولى بالارتضاع دون الصغيرة ، ويجري ما ذكر في المرضعة
الأولى في الفرض المتقدم في المرضعة الثانية بلا زيادة ونقيصة.
هذا كلّه في الفرع
من حيث الحرمة الأصولية أي عدم بنائه على أساس ، وظهر ان شيئا من شقوقه لا يتوقف
على مسألة المشتق أصلا ، وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محلّه.
اختلاف المشتقات :
ثم ان صاحب
الكفاية ذكر ان اختلاف المشتقّات من حيث المبادئ من جهة كون المبدأ
في بعضها فعلا ، وفي بعضها حالا وفي بعضها آلة وفي بعضها ملكة أو صنعة وحرفة لا
يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها في المقام
، بل يكون الاختلاف فيها من حيث المادّة ، مثلا المفتاح اسم لآلة الفتح ، فمادّته
موضوعة لعنوان الآلية لا يزول ذلك بزوال فعلية الفتح بها ، وانما يزول ذلك بانكسار
بعض أسنانه بحيث لا يمكن فتح الباب به بعد ذلك. وهكذا المجتهد بمعنى من له ملكة
الاستنباط ، فزوال ذلك لا يكون بالنوم ونحوه ، وانما يكون بزوال القوّة ، وهذا بخلاف
زوال النوم عن النائم الّذي هو من قبيل الأفعال وانه انما يكون برفع اليد عن ذلك
الفعل.
ولنا في المقام
كلام ، إذ لا معنى لأن يراد من مادة واحدة الفاء والتاء والحاء أعني الفتح في ضمن
هيئة الفاعل أعني الفاتح الفعل ، وفي هيئة مفتاح الآلة لذلك ، فعلى ما ذكره قدسسره لا بدّ وان يكون استعمال المادّة في الموارد مجازا ، مع
انه لا يصحّ هذا الاستعمال المجازي في ساير اشتقاقاته. مثلا القاضي يطلق على
المتّصف بهذا المنصب ولو لم يحكم بشيء بعد ، ولا يصح استعمال هذه المادّة في الفعل
الماضي أو المضارع كقضى يقضي في ذاك المعنى ، فاذن لا يمكن ان يكون اختلاف
المشتقّات لأجل
__________________
اختلاف معنى
الموادّ بل لا بدّ وان يكون مستندا إلى الهيئات.
فنقول : الصيغ
المبالغة كالبكّاء والأكول ونحو ذلك لم توضع للمتلبس بالأكل أو البكاء الفعلي ،
وانما هي موضوعة للمنتسب إلى كثرة المادة من البكاء ونحوه ، فمعنى البكّاء الّذي
إذا بكى بكى كثيرا ، والأكول هو الّذي إذا أكل أكل كثيرا ، وزوال هذا الانتساب ليس
بزوال الفعل ، بل يكون بزوال ذاك الانتساب ، فإذا عرض له عارض لا يبكي بعد ذلك
كثيرا أو لا يأكل كثيرا. يقع النزاع في ان إطلاق البكّاء أو الأكول عليه بعد ذلك
حقيقي أو مجازي؟
واما اسم الآلة
كالمفتاح فهو موضوع لما انتسب إليه المادّة بالنسبة الآلية وواقع في طريق حصول
المادّة ، ففعلية ذلك انما يكون بتمامية صنع الآلة ولو لم يستعمل في تحصيل المادّة
بعد ، وزواله يكون بزوال البتة لذلك ، ولذا يطلق المفتاح على الآلة قبل ان يستعمل
في الفتح.
واما مثل القاضي
والتاجر وأمثال ذلك فالهيئة فيها موضوعة لما أسند إليه المادة صدورا ، وكيفيّة
الانتساب مختلفة ، فربما تكون بالاتصاف بالفعل ، وربما تكون بالاتصاف الشغلي
الفعلي ، وربما يكون بالاتصاف المنصبي إلى غير ذلك بحسب اختلاف الموارد.
فكيفيّة الانتساب
مستفادة من ذلك لا من المادّة ، فزوال الانتساب المنصبي لا يكون إلّا بزوال المنصب
اما شرعا أو عرفا ، كما ان ثبوته لا يكون بفعلية الحكم ، وانما يكون بفعلية
المنصب.
وبالجملة فجميع
المشتقات داخلة في محل البحث ، ويلحق بها بعض الجوامد أيضا.
وللمحقق النائيني قدسسره في المقام كلام وهو : انه استثنى عن محل البحث اسم الآلة واسم المفعول
بدعوى ان اسم الآلة يطلق على الآلة قبل تلبسها بالمبدإ فكيف بعد انقضائه عنه.
وهذا ظهر جوابه
بما مرّ ، إذ عرفت ان التلبّس في اسم الآلة انما هو باتصافه بالآلية للمبدإ وهو
متحقّق بعد تمام صنعه.
واما اسم المفعول
فلأنه موضوع لمن وقع عليه الفعل خارجا والشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، فالمضروب
مضروب إلى الأبد وهكذا المقتول.
وفيه : أولا ـ النقض
باسم الفاعل كالضارب فانه أيضا موضع لمن صدر عنه الفعل ، والشيء لا ينقلب عما وقع
عليه.
وثانيا ـ كأنه قدسسره تخيّل ان اسم المفعول موضوع لمن وقع عليه الفعل خارجا مع
ان الأمر ليس كذلك ، بل هو كسائر المفاهيم الكلّية مثل الإنسان والحجر والشجر
موضوع للمفهوم الكلّي ، والوجود أو العدم خارج عنه ، ولذا يحمل عليه الوجود تارة
والعدم أخرى ، وهو المتلبس بالمبدإ بالتلبس الوقوعي.
نعم هذا المفهوم
منتزع عن الموجود الخاصّ بما وقع عليه الفعل كما تنتزع جميع المفاهيم الكلّية من
الوجودات الخاصّة على القول بتأصل الوجود.
فالنزاع في ان
هيئة المفعول موضوعة للمفهوم الضيّق أعني المتلبس بالمبدإ وقوعا عليه بالفعل أو موضوعة
للمفهوم الوسيع الأعم من المتلبس بالفعل وما انقضى عنه التلبس ، فجميع المشتقات
داخلة في محل البحث.
__________________
المراد بالحال في
محل النزاع :
ثم ما المراد
بالحال المأخوذ في محل النزاع؟
ذكر في الكفاية انه ليس المراد منه حال النطق وانما المراد منه حال
التلبّس بالنسبة ، ضرورة ان مثل «كان زيد ضاربا أمس» أو «سيكون ضاربا غدا» حقيقة
إذا كان متّصفا بذلك في ذاك الزمان واقعا وإلّا فيكون مجازا ، ثم قال : ولا ينافي
ما ذكرناه ما ادعي من الاتفاق على ان «زيد ضارب غدا» مجاز ، وذلك لأن المراد منه
ما إذا كان الإسناد بالفعل ويكون لفظ غد قرينة على زمان التلبّس.
ونقول : كلامه غير
خال عن التشويش ، اما ما ذكره من الاتفاق على ان «زيد ضارب غدا» مجاز فهو أول
الكلام ، ولم ينقل ذلك إلّا عن العضدي ، بل الصحيح ان ذلك الاستعمال غلط أصلا ،
لأن القيد في الجملة يرجع إلى المحمول أعني الضارب ، ولا معنى لحمل الضارب غدا على
الذات فعلا ، واما بيان صدور الضرب عن زيد في الغد فلا بدّ من ان يكون بتعبير آخر
غير هذا.
واما ما ذكره في
المثالين من ان المشتق بهما حقيقة إذا كان الاتصاف متحققا في ظرفه وإلّا فيكون
مجازا.
ففيه : ان الاتصاف
الحقيقي وعدمه لا يكون مناطا للحقيقة أو المجاز بل يكون ذلك ميزانا للصدق والكذب ،
فحمل الضارب على زيد والأخبار بذلك في المثالين يكون صدقا على فرض تحقق النسبة
وكذبا على تقدير عدمه ، وأما الاستعمال فحقيقي في ما وضع له على التقديرين ، ويجري
ذلك في الجوامد أيضا ، مثلا لو قيل : «الإنسان جماد بعد موته» فان كان الأمر كذلك
واقعا فالإخبار صدق وإلّا كذب ، وعلى التقديرين لفظ الجماد حقيقة لكونه مستعملا في
معناه الحقيقي ، وهذا
__________________
الاختشاش انما نشأ
من أخذ الحال في محل النزاع فالحق إسقاطه.
وتحرير النزاع
بوجه آخر بان يقال : ان المشتق حقيقة في المفهوم الوسيع أو الضيق وقد ظهر بيانه
مما تقدم.
ونزيد وضوحا فنقول
: قد عرفت ان الوجود والعدم كليهما خارجان عما وضع له الألفاظ في الجوامد
والمشتقات بل هي موضوعة لنفس الماهيّة ، فيقع النزاع في ان المشتق موضوع لمفهوم
ضيق منحصر مطابقه في الخارج بخصوص المتلبس أو لمفهوم عام يكون مطابقه أعم من
المتلبس ومن المسبوق بالتلبس ، فلا نأخذ الحال في ذلك ليلزم الاختلال.
التمسك بالأصل
العملي :
ثم انه لو لم يتم
دليل على إثبات أحد الطرفين ، فهل يكون في البين أصل عملي يعين أحدهما؟ الظاهر
عدمه ، فان أصالة عدم لحاظ خصوصية التلبس غير جارية وذلك :
أولا : لأن الوضع
بأي معنى كان هو فعل اختياري للواضع مسبوق بالعدم ، فوضع المشتق لكل من الخاصّ
والعام في حد نفسه مورد للاستصحاب فيتعارضان ، وليس هناك قدر متيقن في البين ليجري
الا في المقدار الزائد ، وأصالة عدم لحاظ خصوصية التلبس لا يثبت تحقق الوضع للعام.
ثانيا : ان لحاظ
خصوصيّة التلبس مما لا بدّ منه على التقديرين ، لما أثبتناه من ان الإطلاق انما هو
بمعنى رفض القيود ، ففي الإطلاق أيضا لا بدّ من لحاظ القيد ليرفض ، ومعه لا معنى
لأصالة عدم لحاظ الخصوصية.
وثالثا : ان
الاستصحاب بناء على ان يكون مستفادا من الأخبار لا بدّ في
جريانه من ترتيب
أثر عملي عليه ، ولا أثر لذلك في المقام إلّا إذا كان المكلف ناذرا بشيء لو كان
المشتق حقيقة في المتلبس أو في الأعم.
فالصحيح : انه ليس
في هذه المسألة اللغوية أصل عملي. فلا بد فيها من الرجوع في موردها إلى الأصل
الجاري في الحكم الفرعي ، فنقول : ذكر في الكفاية ان مقتضى الأصل العملي في الحكم الفرعي يختلف في المقام ،
فان كان المورد حين تعلق الحكم بالمشتق متلبسا بالمبدإ ثم زال عنه الاتصاف فيرجع
فيه إلى الاستصحاب ، لأن الشك فيه يكون شكّا في ارتفاع الحكم بعد ثبوته سابقا بسبب
زوال المبدأ ، فيستصحب ذلك ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن متلبسا حين صدور الحكم بل كان
منقضيا عنه المبدأ حينئذ ، فلا مجال للاستصحاب ، فلا بدّ من الرجوع إلى البراءة.
ونقول : اما
الرجوع إلى البراءة في الفرض الثاني فلا كلام لنا فيه ، وأما الرجوع إلى الاستصحاب
فان أريد منه الاستصحاب الحكمي فبناء على تسليم جريانه في الأحكام ففي خصوص المقام
لا يجري ، وذلك لأنه يعتبر في جريانه إحراز اتحاد القضية المتيقّنة والمشكوكة عرفا
، وإلّا فيكون صدق عنوان نقض اليقين بالشك مشكوكا ، فالشبهة تكون مصداقية ، ولا
يمكن الرجوع فيها إلى عموم العام.
ومن الواضح ان
الموضوع في قولك «أكرم العلماء» بنظر العرف انما هو عنوان العالم لا ذاته ، وبزوال
العلم ينتفي الموضوع جزما ولا أقل من احتماله ، ونظير هذا في الجوامد ما إذا وقع
الكلب في المملحة فصار ملحا فلا يمكن التمسك فيه باستصحاب النجاسة ، فان موضوعها
كان عنوان الكلب لا ذاته ، وهو منتف يقينا ، والموجود الفعلي وهو الملح لم يكن محكوما
بالنجاسة أصلا ، فبقاء العنوان الّذي هو الموضوع
__________________
بنظر العرف معتبر
في جريان الاستصحاب سواء كان العنوان ذاتيا أو كان اشتقاقيا وبدونه لا يجوز
الاستصحاب لأنه من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية.
وان أريد منه
الاستصحاب الموضوعي ، أي استصحاب صدق العنوان على الذات بعد زوال اتصافه بالمبدإ
كما يستصحب بقاء نفس المبدأ والاتصاف به إذا شك في زواله.
ففيه : أولا :
النقض بالصورة الثانية أعني بها ما إذا كان الاتصاف بالمبدإ منقضيا عن الذات حين
صدور الحكم ، فانه على هذا يجري استصحاب بقاء صدق العنوان عليه فيدخل في موضوع
الحكم ، فلما ذا يرجع فيها إلى البراءة.
وثانيا : بالحل ،
وهو انا ذكرنا في بعض مباحث الاستصحاب ان مورده انما يكون ما إذا شك في حدوث حادث
لم يكن حادثا قبلا أو في ارتفاع أمر كان موجودا سابقا ، وفي المقام ليس لنا حادث
نشك في انعدامه ، أو في حدوثه نظير الشك في بقاء النهار بعد استتار القرص وعدم
ذهاب الحمرة ، وقد بيّنا في محله انه لا يمكن الرجوع فيه إلى الاستصحاب بعين هذا
التقريب ، والسرّ في الجميع هو انه ليس في هذه الموارد متيقّن ومشكوك ، بل نعلم
بان زيدا كان عالما مثلا في السابق وزال عنه العلم فعلا يقينا ، فليس هناك امر نشك
فيه إلّا سعة الوضع وضيقه ، والاستصحاب أجنبي عن ذلك ، ومن ثم قلنا بعدم جريانه في
جميع الشبهات المفهومية ، وعليه فلا بدّ من التمسك بالبراءة في كلا الفرضين من غير
فرق بينهما.
المختار في المسألة
:
ثم ان المسألة عند
القدماء كانت ذات قولين ، والأقوال الأخر حادثة من المتأخرين كالتفصيل بين ما إذا
كان المشتق محكوما عليه فهو يكون حينئذ للأعم أو
كان محكوما به
فيكون لخصوص المتلبس.
ولا وجه لشيء من
ذلك فان المشتق ليس له وضعان أحدهما للأعم إذا كان مبتدأ وثانيهما لخصوص المتلبس
إذا كان محكوما به ، بل هو موضوع بوضع واحد ، فان كان للمتلبس فهو كذلك مطلقا وان
كان بالعكس فكذلك.
والحق مع القدماء
حيث لم يذهبوا فيه إلّا إلى قولين ، والحقّ منهما انه موضوع لخصوص المتلبس وحقيقة
فيه وفاقا للأشاعرة وخلافا للمعتزلة ، والدليل عليه :
أولا : هو التبادر
، ولا يخفى ان التبادر في المشتقات وموارد الأوضاع النوعيّة يكون أوضح صحّة وأسهل
تحصيلا من التبادر في الجوامد التي يكون وضعها شخصيّا مثل لفظ صعيد ، وذلك لأن
الوضع النوعيّ الثابت للمشتق غير مختص بلغة دون لغة ، فهيئة الماضي في جميع اللغات
موضوعة لمعنى واحد ، ولا اختلاف فيها باختلاف الألسنة ، ولذا يكون التبادر فيها
سهلا ، وهذا بخلاف الجوامد المختصّة بلغة دون لغة.
وثانيا : صحّة
السلب عن المنقضي عنه المبدأ ، إذ يصح ان يقال : ان المنقضي عنه النوم ليس بنائم ،
وإثبات ذلك أيضا سهل في المشتقات بخلاف الجوامد لما تقدم.
ثم ان صحّة المشتق
عن ما انقضى عنه المبدأ بناء على ما ذهب إليه السيد الشريف والمحقّق الدواني
والميرزا النائيني من اتحاد المبدأ والمشتق ذاتا وان الفرق بينهما اعتباري بلحاظ
اللابشرطيّة ولحاظ للشرط اللائية في غاية الوضوح ، إذ كما لا يصح إطلاق البياض بعد
انعدام اللون الخاصّ المفرق للبصر كذلك يصح سلب الأبيض عن الشيء بعد زوال صفة
البياض عنه ، لأن الأبيض والبياض حقيقة واحدة على الفرض ، فمهما لم يصدق المبدأ لا
يصدق المشتق أيضا ، وإلّا لزم صدق المبدأ بعد زواله ، وهو بديهي البطلان.
واما على القول
بعدم بساطة المشتق بهذا المعنى ، وانه موضوع للذات المندمجة
من جميع الجهات
كلفظ الموصول مثل الّذي يستعمل في الواجب والممكن والممتنع ويكون معرفه صلته ،
فالمشتقات أيضا موضوع لذات مبهمة ومعرفها يكون اتصافها بالمبدإ ، وعليه فالمبدأ
يكون مأخوذا في المشتق بنحو الركنية وان لم يكن هو الموضوع له لذلك ، فبانتفائه
ينتفي صدق المشتق ، ويصح سلبه بعد ذلك لا محالة ، فعلى كلا القولين تتم دعوى
التبادر وصحّة السلب.
نعم يبقى إشكال
وهو احتمال ان يكون ذلك من الانصراف لا من حاق اللفظ كما قيل ، والجواب عنه :
أولا : انه يكفينا
إثبات معنى المشتق ولو بمجرد ما يكون اللفظ منصرفا إليه عرفا ، فانه الّذي يترتّب
عليه الأثر العملي لإثبات خصوص المعنى الحقيقي المقابل للمجازي.
وثانيا : ان
الانصراف لا يتحقّق من دون سبب خارجي وليس ذلك إلّا كثرة الاستعمال ، وعلى الأعمي
لا يكون المشتق أكثر استعمالا في المتلبس من المنقضي ، وذلك لأن المشتق كثيرا ما
يستعمل بلحاظ الماضي والمستقبل ، فيقال : «زيد كان ضاربا» أو «سيكون ضاربا» وهذا
الاستعمال بناء على القول بان المشتق حقيقة في خصوص المتلبس لا بدّ وان يكون
الإطلاق فيه بلحاظ حال التلبس.
ولكن على القول
بوضعه للأعم فلا وجه للالتزام بذلك ، لأن كلا من حال التلبس وحال الانقضاء يكون من
مصاديقه الحقيقيّة ، وعلى هذا فلا وجه لحمل الإطلاق على ان يكون بلحاظ حال التلبس
من الماضي والاستقبال ، بل يكون الإطلاق بلحاظ حال النطق وهو حال الانقضاء ، وعليه
فينبغي أن يكون استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ كثيرا.
وبعبارة أخرى بنحو
الجدل نقول للمستشكل : انه على مبناك من وضع المشتق للأعم يكون استعماله في
المنقضي أقل من استعماله في المتلبس ، فليس هناك
وجه للقول بان
التبادر بسبب الانصراف أو صحّة السلب لذلك.
هذا كلّه في الوجوه
العرفيّة.
ويمكن ان نقيم
البرهان على المنع عن وضع المشتق للأعم ، بتقريب : انه ليس الزمان مأخوذا في
المشتق أصلا ، بل كما ان الجوامد مثلا «الإنسان» موضوع للحيوان الناطق كذلك المشتق
يكون موضوعا للمفهوم الخاصّ ونعبّر عنه بالمتّصف بالمادّة ، ومن ثم ذكرنا ان في
قولك «زيد كان قائما» أو «يكون قائما» يكون استعمال المشتق حقيقة سواء كان صدقا أو
لم يكن ، لأنه مستعمل في معناه وهو عنوان الاتصاف.
وعليه ففي مقابل
المتصف غير المتصف ، وتصوير الجامع بين المتصف وغير المتصف كما ترى ، إلّا ان
يتصور بعنوان الماضي ، كما حكي عن العلّامة انه موضوع لمن تحقق منه المبدأ أعم من
ان يكون باقيا أو لا يكون باقيا ، ولازمه :
أولا : دخل الزمان
في المشتق ، وهو غير صحيح.
وثانيا : عدم صحّة
ان يقال «زيد سيكون ضاربا» إذ لم يتحقق منه الضرب بعد ، وانما يتحقق منه فيما بعد
، وإذا لم يكن هناك جامع للأعم فما معنى الوضع للأعم ، وهذا نظير ما تقدم من دعوى
عدم وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة.
وبما ذكرنا ظهر
الحال فيما نقل في الكفاية من انه ان أريد من صحّة السلب سلب المشتق مطلقا فهو غير
صحيح ، وان أريد سلب المقيد فهو غير مفيد.
فان الجواب عنه ،
انا نريد صحّة سلبه بما له من المعنى بحسب المرتكز العرفي.
واستدلّ لوضع
المشتق للأعم من المتلبس والمنقضي بوجوه :
الأول : تبادر
الجامع عند إطلاقه.
__________________
وفيه : أولا ـ ان
تبادر الأعم فرع تصوير الجامع بين المتلبس والمنقضي ، وقد عرفت امتناعه.
وثانيا ـ انه
مخالف لما ذكرناه من ان اتصاف الذات بالمبدإ وهو الركن والمقوم لصدق المشتق ، وهو
معرفه ومع ذلك كيف يمكن القول بتبادر المنقضي عنه الاتصاف عند إطلاقه.
الثاني : عدم صحّة
سلب المشتق عن المنقضي عنه المبدأ.
وفيه ـ انه ان
أريد منه السلب بلحاظ حال التلبّس ، فهو وان كان متينا إلّا انه لا يثبت الوضع
للأعم ، وان أريد منه السلب بلحاظ حال الانقضاء ، فهو غير صحيح ، بل يصح السلب عنه
بهذا اللحاظ ، بداهة عدم حمل الصبي على الشيخ الكبير بلحاظ اتصافه بالصباوة في وقت
، أو إطلاق المجنون على العاقل من جهة اتصافه بالجنون في زمان ، وهذا واضح جدّاً.
الثالث : ان
المشتقّات كثيرا ما تطلق على ما انقضى عنه المبدأ ، فلو كانت موضوعة لخصوص المتلبس
يلتزم كثرة المجاز ، وهو مستهجن.
وفيه : أولا ـ لا
نتصوّر مانعا من كثرة المجاز ، بل ان المجاز أكثر من الحقيقة.
وثانيا ـ ان إطلاق
المشتق على المنقضي عنه المبدأ يكون بلحاظ حال تلبسه ، فهو مستعمل في معناه
الحقيقي ، أعني المتلبس غايته ان الحمل يكون بلحاظ الحالة السابقة ، مثلا لو أطلق
عنوان القاتل على من كان قاتلا سابقا ، فالقتل مستعمل في معناه الحقيقي إلّا ان
الحمل يكون بذاك اللحاظ ، فهو بمنزلة ان يقال : «زيد كان قاتلا في اليوم الفلاني».
نعم يكون ذلك خلاف
ظاهر الإطلاق ، ولذا يحتاج إلى قرينة كما في المثال ، والقرينة العامّة موجودة في
جميع موارد الاستعمال ، وهي عدم اشتغاله بالقتل حين التكلّم ، ولذا كان يطلق قاتل
الحسين عليهالسلام على اللعين ابن سعد قبل قتل الحسين عليهالسلام
بأعوام ، وقد
ذكرنا ان الاستعمال في جميع هذه الموارد حقيقي غايته لو لم يكن الاخبار مطابقا
للواقع يكون كذبا.
ثم انهم ذكروا ان
من هذا القبيل استعمال لفظ السارق في قوله تعالى : (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، ولفظ الزاني في قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، بداهة ان القطع أو الجلد لا يتحقّق حين التلبس بالسرقة
والزنا ، فلا بدّ وان يكون المراد من الموضوع فيهما هو المنقضي.
ونقول ان الحكم
المترتب على السارق أو على الزاني ليس وقوع المادّة ، وانما هو نفس وجوب قطع اليد
والرجم ، وهو ثابت من حين التلبس بالسرقة أو الزنا ، غاية الأمر تارة يكون بقاء
الحكم تابعا لبقاء الموضوع كما هو الغالب ، وأخرى يكون تحقّق الموضوع حدوثا كافيا
في بقاء الحكم ، وهو خلاف الظاهر ولا بدّ من قيام قرينة عليه ، أما قرينة خاصة كما
في قولك «أكرم زائر الحسين عليهالسلام في يوم الأربعين إلى آخر شهر رمضان» ، فان موضوع وجوب
الإكرام هو الزائر ولكن الوجوب فيه ثابت بعد انقضاء الزيارة عنه بقرينة خاصة ،
وأما قرينة عامة كما في المقام ، فانه لو كان وجوب القطع مختصا بحال التلبس
بالسرقة لكان تحقق ذلك امرا نادرا وهكذا في الجلد.
ومن ذلك يستفاد ان
وجوب ذلك باقي بعد زوال الاتّصاف أيضا.
الرابع : مما
استدل به للأعم استشهاد الإمام عليهالسلام بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) لعدم لياقة الثلاثة للخلافة ، لكونهم مشركين قبل إسلامهم ،
__________________
بدعوى انه لو لم
يكن الظالم شاملا لمن انقضى عنه الظلم لما تم الاستشهاد ، فانهم لم يكونوا مشركين
في زمان خلافتهم وقد جعل النفي في دلالة هذه الآية على ذلك مبنيّا على كون المشتق
حقيقة في الأعم وأنكر ذلك.
ونقول لا يترتب
لياقتهم للخلافة وعدمها على وضع المشتق للمتلبس أو للأعم لا ثبوتا ولا إثباتا ،
أما ثبوتا فواضح ، وأما إثباتا فلأنه ولو قلنا بالوضع للأعم إلّا ان انصراف
المتلبس منه غير قابل للإنكار ، ومعه لا يمكن إثبات عدم لياقتهم لذلك بالآية.
والصحيح : ان
الآية ناظرة إلى ما حكم به العقل في عصمة النبي والأئمة عليهمالسلام ، فانهم بعد تلبسهم بذلك لا بدّ وان يكونوا معصومين عن كل
عصيان حتى الإتيان بالمكروهات بل بغير الراجح ولو بالعرض ، واما قبل ذلك فلا بد
وان يكونوا معصومين عما ينافر عنه طبع العقلاء من الرذائل النفسانيّة وما يوجب
الخفة كما بيّن في محله من الكلام ، وإلّا لكان النبي أو الإمام موردا لتنقيصهم.
ومن أعظم الرذائل
مسألة الشرك الّذي لا يغفر ، وعليه فمن كان متلبسا به في زمان لا يليق بالخلافة
أبدا بحكم العقل ، والآية ترشد إلى ذلك.
وبالجملة فلا دليل
على الوضع للأعم أصلا.
تنبيهات :
التنبيه الأول
في تركب معاني المشتقات وبساطتها
ذكر شارح المطالع عند تعريف الفكر بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل الأمر
المجهول ، والإيراد على ذلك بأنه ربما تحصل معرفة المجهول بأمر واحد كما في تعريف
الإنسان بأنه ضاحك ، ان المشتق ليس أمرا واحدا ، بل هو أمور عديدة ، لأن معناه شيء
أو ذات ثبت له المبدأ ، فهو مركّب من الذات والمبدأ والنسبة بينهما.
وأورد عليه السيد
شريف في الحاشية بأنه يستحيل أخذ الشيء في المشتق ، لأنه ان أريد من الشيء مفهومه
فيلزم أخذ العرض العام في الذاتي ، أعني الفصل في مثل ناطق ، وان أريد منه مصداق
الشيء وواقعه فيلزم انقلاب القضيّة الممكنة إلى الضرورية في مثل قولك «الإنسان
ضاحك» ، فان ثبوت الشيء لنفسه ضروري.
وليعلم أن مورد
النزاع انما هو بساطة معنى المشتق وتركّبه بالتعمل والتحليل العقلي لا ابتداء ،
فان ما يفهم ابتداء من المركبات المسلّمة كلفظ الدار أو ألف مثلا ليس مركّبا ،
فكيف بالمشتق الّذي تركبه محل خلاف ، بداهة انه لو قيل «زيد اشترى دار عمر» لا
ينتقل السامع من لفظ الدار ابتداء إلى الحائط والقبة والسرداب ، وهكذا لا ينتقل من
استماع لفظ «ألف» إلى عشرين خمسين ، أو
__________________
خمسين عشرين ،
وهكذا مع ان الألف مركب من ذلك ، فمورد النزاع انما هو التركب والبساطة التحليلية.
وعليه فصاحب
الكفاية يوافق شارح المطالع في الذهاب إلى التركب على ما يصرح في
أواخر كلامه في المقام من ان المشتق بالتعمل العقلي ينحل إلى ما ذكر ، فلا وجه مع
ذلك لإيراده عليه وذهابه إلى البساطة.
وكيف كان ، نقول :
اما أخذ مصداق الشيء في المشتق فهو واضح الفساد ، لا لاستلزامه انقلاب القضية
الممكنة إلى الضرورية ، بل لأن لازمه ثبوت الاشتراك اللفظي في جميع المشتقات ، اما
بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ أو بنحو الوضع والموضوع له الخاصّ ، بل ربما
يستلزم على الثاني الأوضاع الغير المتناهية لإمكان فرض الافراد الغير المتناهية
للمشتقات ، مثلا يقال الحرف قائم والإنسان قائم والبحر قائم إلى نحو ذلك ،
والماهيات غير متناهية ، فلا وجه لإطالة الكلام في ذلك.
وأما أخذ مفهوم
الشيء في ذلك فلا محذور فيه.
أما ما ذكره السيد
الشريف من استلزامه أخذ العرض في الذاتي ، وهو الفصل في مثل ناطق :
ففيه : ان الناطق
ليس فصلا للإنسان حقيقة سواء كان بمعنى النطق والتكلم ، أو بمعنى إدراك الكليات ،
فان الطفل من أول وجوده إنسان ولا يتكلم ولا يدرك الجزئيات فكيف بالكليات ، وانما
هو فصل منطقي ، فانهم يعبرون عن أظهر خواص الماهية المميز لها عن غيرها من
الماهيات بالفصل ، واما الفصل الحقيقي فلم يعرف إلى الآن ، ولذا ربما يجعل فصلان
لماهية واحدة كالحساس والمتحرك بالإرادة مثلا ،
__________________
ولا معنى لأن يكون
فصلان لماهية واحدة حقيقة ، وهكذا في الصاهل والناهق وأمثال ذلك ، وعليه فلا يلزم
من أخذ مفهوم الشيء في المشتق إلى أخذ العرض العام في الخاصة ، ولا مانع من ذلك ،
إذ ربما يكون المقيد خاصة للشيء ، مثلا يقال «الخفاش طائر ولود» فان الطائر المطلق
لا يكون خاصة للخفاش ولكن إذا قيد بالولود يكون مميّزا له ، فالشيء المقيد بالنطق
يكون مميزا للإنسان.
ثم ان المحقق
النائيني قدسسره ، ذكر ان مفهوم الشيء ليس عرضا عاما ، وانما هو جنس
الأجناس وهو الجامع بين المقولات ، وعليه فلا يلزم من أخذه في
المشتق أخذ العرض العام في الفصل ، بل يلزم أخذ الجنس في الفصل أو في الخاصة
وانقلاب الفصل إلى النوع والتكرار اللغو إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة.
ونقول : يستحيل ان
يكون الشيء جنسا ، وذلك لأن الجنس هو الجهة المشتركة بين الماهيات المنتزعة عن
ذاتها في مقابل الفصل الّذي هو الجهة المميزة لكل منها ، وفي قبال النوع الّذي هو
تمام الذات ، والشيء بما له من المفهوم يطلق على الوجود والعدم والماهية ، فيقال :
الوجود شيء يستحيل اتصافه بالعدم ، أو الماهية الفلانية شيء ممكن ، أو العدم شيء
غير قابل لأن يوجد ، ويطلق على الواجب ، فيقال : شيء لا كالأشياء ، وعلى المستحيل
، فيقال : اجتماع النقيضين شيء محال ، وعلى الاعتباريات فيقال : الملكية شيء اعتباري
إلى غير ذلك ، ولازمه تركب الواجب ، لأن الشيء جهة جامعة بينه وبين غيره ، فيحتاج
إلى جهة مائزة ، وهو محال ، ومن الواضح انه لا يعقل الجامع الذاتي بين هذه الأمور
فكيف يعقل ان يكون جنسا لها؟!
فالصحيح : انه
عنوان عرضي بمعنى (جيز) في الفارسية ، ومرادف لفظ
__________________
الموصول الّذي
يعرفه ما بعده. وعليه فلا يلزم من أخذه إلّا ما ذكره السيد الشريف ، وقد عرفت
الجواب عنه ، وبالجملة أخذ مصداق الشيء في المشتق غير صحيح ، لما عرفت انه مستلزم
لأن يكون المشتقات من قبيل المشترك اللفظي ، واما أخذ مفهوم الشيء فيه فلا يلزم
منه محذور ، وما يوهم من المحاذير اللازمة من ذلك أمور :
الأول : ما ذكره
المير سيد شريف من انه يستلزم أخذ العرض في المقوّم في مثل الناطق.
وقد عرفت الجواب
عنه بان الناطق ليس فصلا وانما هو عرض خاص.
الثاني : انه لو كان
المشتق مشتملا على النسبة فيشبه الحروف من حيث المعنى ، فيلزم ان يكون مبنيّا.
وفيه : أولا ـ النقض
بالمصادر خصوصا المزيد فيها فانها تشتمل على النسبة لا محالة في مقابل اسم المصدر
ومع ذلك ليست مبنية.
وثانيا ـ بالحل ،
وهو أن كون الشبه بالحرف موجبا للبناء ليس من القواعد العقلية الغير القابلة
للتخصيص ، فيمكن تخصيصه بغير المشتق.
وثالثا ـ ان تلك
القاعدة انما هي فيما إذا كان للاسم وضع شخصي ولهيئته ومادّته أشبه الحروف ، وليس
المشتق كذلك ، فان مواد المشتقات غير مشتملة على النسبة ، وانما النسبة تستفاد من
الهيئة ، وهذا الشبه لم يقل أحد بكونه موجبا للبناء.
الثالث : انه لو
كان الشيء مأخوذا في المشتق لزم ان يكون المدرك منه قضيتان ، إحداهما : ضرورية ،
والأخرى : ممكنة في مثل قولك «زيد قائم» إذ معناه زيد شيء بالضرورة له القيام
بالإمكان.
وفيه : ان المحمول
انما هو الشيء المقيد بالقيام ، وحمل ذلك ليس ضروريا وان كان ثبوت الشيئية المطلقة
لكل شيء ضروريا ، فالنتيجة تابعة لأخس المقدمتين.
وربما تختلف الجهة
إذا قيّد المحمول ، مثلا لو قيل «الشاة حيوان» فحمله عليه يكون ضروريا ، وان قيل «حيوان
ناطق» بهذا القيد يكون الحمل ممتنعا.
وبهذا ظهر الجواب
عن الإيراد الرابع الّذي ذكره المحقق النائيني من لازم أخذ مفهوم الشيء في المشتق
هو ان يكون المدرك منه نسبة تامة ، وانقلاب النسبة التصوريّة إلى النسبة
التصديقيّة ، فانه عرفت ان النسبة في المشتق انما هي نسبة تقييديّة ومعناها هو
الشيء المقيّد بالاتصاف بالمبدإ ، فاذن لا مانع من أخذ مفهوم الشيء فيه أصلا.
واما وقوع ذلك
فبالوجدان نرى انّ المستفاد من المشتقات ينحل إلى ذات مبهمة من جميع الجهات عدى
قيام المبدأ به كما في المفتاح والقائم والضارب ونحو ذلك.
واما دعوى بساطة
المشتق لاتحاد معناه ومعنى المبدأ ، وانّ الفرق بينهما اعتباري ، بتقريب : انّ
العرض حيث انّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه فله حيثيّتان ، فتارة : يلحظ بما
انه موجود مستقل في قبال الجوهر فيعبر عنه بالمصدر ، وأخرى : يلحظ لا بشرط وربما
انه في موضوعه ، فيعبر عنه بالمشتق ، وقد عبر بعد ذلك تعبيرات وانّ العرض يكون من
شئون الذات ومن أطوارها فكيف يمكن ان يكون مغايرا معها إلى آخر ما قيل ، فالجواب
عنه :
أولا : انا نرى
وجدانا انّ العرض وجود مغاير للذات ، فكيف يمكن اتحاده ، ومجرد كونه من شئونه لا
يوجب الاتحاد ، وفي الفصول ذكر ان لحاظ العلم لا بشرط ولو ألف مرة لا يجعله عالما
كما هو واضح.
وثانيا : لا ينحصر
المشتق بالمبادئ العرضية ، بل ربما يكون مبدأ المشتق امرا اعتباريا كالممكن
والممتنع والواجب ، أو اعتباريا عقلائيا كالزوجية والملكية ، وليست الأمور
الاعتبارية ذات عنوانين ، ولا يمكن القول باتحاد الملكية والدار
مثلا.
وثالثا : ان
الخالق والرازق ونحوه من صفات الفعل تطلق على الباري تعالى ، ويستحيل اتحاد الخلق
والخالق والرزق والرازق ، ومضافا إلى جميع ذلك انّ لحاظ العرض لا بشرط أو بشرط لا
مما لا يفهمه إلّا الفيلسوف ، فلا يمكن ان يكون ذلك معنى المشتق ، وهذا ظاهر.
والحاصل : انّ ما
فهمه في الفصول من كلام المحقق الدواني وغيره ممن ذهب إلى اتحاد المبدأ
والمشتق وانّ اختلافهما باللابشرطية والبشرط اللائية هو الاعتبارية منهما ، وانّ
موردهما ماهية واحدة ، ولذا أشكل عليهم بأنّ لحاظ العلم لا بشرط لا يوجب اتحاده مع
الذات الّذي هو مصداق للعالم.
وأورد عليه في
الكفاية بما حاصله : ان مرادهم من اللابشرطية والبشرط اللائية هو
الذاتيّة منهما ، فانّ المشتق بمفهومه غير آب عن الحمل لاتحاده مع الذات بخلاف
المبدأ فانه بنفسه عاص عن ذلك ، واستشهد لذلك بما ذكروه في الفرق بين الجنس
والمادة ، والفصل والصورة.
ونقول : ما فهمه
صاحب الفصول هو الصحيح لتصريحهم بذلك كما يظهر من عبارة الدواني من انّ العرض من
أطوار موضوعه ومن شئونه وأنحائه فكيف يعقل أن يكون مباينا له ، وأصرح من ذلك ما
ذكروه في الفرق بين الجنس والمادة ، والفصل والصورة.
بيان ذلك : انّ كل
ماهية تكون مركبة من جهة مشتركة بينها وبين الماهية الأخرى أو الماهيات الأخر وجهة
مميزة لها عن غيرها ، ويعبر عن الأولى بالمادة
__________________
تارة وبالجنس أخرى
، وعن الثانية بالصورة أو الفصل ، والمراد من المادّة هو القوّة والاستعداد ومن
الصورة فعلية تلك القوة ، فالفعلية لا معنى لها بدون القوّة ، كما ان تحقق القوة
أيضا متوقّفة على الفعلية ، والدليل على تحقق كلا الأمرين ما يرى وجدانا من بقاء
المادة مع تبدل صورها النوعية كالخشب رمادا ، مثلا النواة جماد ولكن فيها قوة
الترقي إلى الشجرية أو الخشبية أو غير ذلك ، وذلك الاستعداد هو المادة وتحققه يكون
بالفعلية كما لا يخفى.
وقد وقع الخلاف
بينهم في انّ التركيب بينهما هل يكون اتحاديا بحيث تكون الماهية ماهية واحدة ووجود
فارد والعقل يحللها إلى الأمرين ، أو انضماميا كالتراكيب الخارجية؟
وذهب المير
الداماد إلى الثاني ، وجملة من المحققين إلى الأول ، وانّ الوجود الواحد يسري من
الفعلية إلى القوة ، فكأنه أقرب إلى الوجود منها.
وقد استدل عليه
بعضهم بأنه لو كان التركيب انضماميا ننقل الكلام إلى كل من الصورة والمادة ، فيلزم
التسلسل.
ثم انّ كلّا من
الاستعداد والفعلية ان لوحظ لا بشرط عن الآخر فيعبر عن الأول بالجنس ، وعن الثاني
بالفصل ، ويحمل كل منهما على الآخر ، وعلى المجموع المركب منهما فيقال : «الناطق
حيوان» وبالعكس أو «الإنسان حيوان» أو ناطق للاتحاد بينها ، وأما ان لوحظ بشرط لا
عن الآخر فيعبر عن الأول حينئذ بالهيولى ، وعن الثاني بالصورة كالبدن والنّفس في
الإنسان ، فيستحيل حينئذ حمل كل منهما على الآخر أو على المجموع وليس هناك جهتان
مشتركتان متباينتان ذاتا يعبّر عن إحداهما بالجنس وعن الأخرى بالمادة ، وهكذا في
الجهة المميّزة كما هو واضح.
إذا عرفت هذا ،
فالأمر في المشتق ومبدئه أيضا كذلك على زعمهم ، فلا وجه لحمل كلامهم على الاختلاف
الذاتي بينهما أصلا ، فاذن يرد عليهم ما أورده صاحب
الفصول.
وأما ما ذكره في
الكفاية ، ففيه :
انّ كل مفهوم يكون
قابلا ذاتا للحمل على كل ما يكون من مصاديقه وآبيا عنه ذاتا بالإضافة إلى كل ما لا
يكون من مصاديقه ، والمشتق ومبدئه أيضا من هذا القبيل.
ثم يرد على
الاتحاد المزبور مضافا إلى ما تقدم انّ المشتقات ليست جميعها موضوعة لما هو معروض
لعرض في اسم الزمان والمكان والآلة ، مثلا مفتاح ليس اسما لمعروض الفتح بل لآلته ،
فلا يجري في مثله ما ذكروه في اتحاد المبدأ والذات من كون العرض من شئون موضوعه
وأطواره فلا بدّ وان يتحد معه خارجا.
فالصحيح : ما تقدم
من انّ معنى المشتق هو من له المبدأ.
التنبيه الثاني
يعتبر في الحمل
أمران ، الاتحاد بين الموضوع والمحمول من جهة والتغاير من جهة أخرى ، فلا يصح
الحمل بين متحدين من جميع الجهات ، أو المختلفين من جميع الجهات ، فلا يقال زيد
عمر مثلا.
ثم انه تارة :
يكون الاتحاد بينهما ذاتيا والتغاير بما هو خارج عن مقام الذات ، كما في حمل حيوان
ناطق على الإنسان ، فانّ مفهوم الإنسان متحد ذاتا مع مفهوم حيوان ناطق ، والاختلاف
بينهما اعتباري بالإجمال والتفصيل.
وليس المراد من
الاعتبار مجرد الفرض كما هو ظاهر ، وهكذا في حمل أحد المترادفين على الآخر كقولك
الإنسان بشر أو العكس ، فانّ مفهومهما متحد ذاتا واختلافهما بالاعتبار ، إذ
الإنسان مشتق من الأنس فيطلق على هذه الطبيعة في مقابل غيره من أصناف الحيوان التي
ليس لها هذه المنزلة ، ويطلق البشر عليها في مقابل الملك ، ويعبر عن هذا الحمل
بالحمل الأولي.
وأخرى : يكون
الاختلاف بينهما ذاتيا والاتحاد بما هو خارج عن مقام الذات ، كما في حمل المشتقات
على مصاديقها ، فانّ مفهوم زيد مغاير ذاتا مع مفهوم ضارب مثلا واتحادهما انما هو
في الوجود الّذي هو خارج عن مقام الذات ، ويعبر عنه بالحمل الشائع ، لكونه هو
المتعارف بين الناس في المحاورات ، وبالصناعي لاستعماله في العلوم ، فانّ الحمل في
الشكل الأول يكون من هذا القبيل ، كما انّ حمل الفصل على الجنس ، أو الجنس على
الفصل ، أو كل منهما على النوع وبالعكس يكون من هذا القبيل كقولك : الإنسان ناطق ،
أو حيوان ، أو الحيوان ناطق ، وبالعكس.
وصاحب الفصول حيث ذهب إلى ان التركيب بين الجنس والفصل انضمامي لا
اتحادي وقع في الإشكال من حيث عدم تحقق الاتحاد بينهما ، لا ذاتا كما هو واضح ،
ولا خارجا ، لكون التركيب بينهما انضماميا.
وتمحل للجواب عنه
بأنّ للعقل ان يعتبرهما في وعاء الاعتبار أمرا واحدا ، وبذلك الاتحاد الاعتباري
يصح الحمل ، وأورد عليه في الكفاية بما هو مذكور فيه.
والحق في الإيراد
عليه : انّ اعتبارهما في وعاء الذهن والتصوّر واحدا انما يصحح الحمل بلحاظ الوجود
الذهني لا الخارجي ، مع انا نرى صحّته خارجا أيضا.
__________________
التنبيه الثالث
ذهب صاحب الفصول إلى اعتبار مغايرة المبدأ مع الذات في المشتقات ، ومن ثمّ
أشكل في إطلاق بعض المشتقات التي هي من صفات الذات كالعالم والقادر لا صفات الفعل
كالخالق والرازق على ذاته جلّ وعلا ، حيث انّ المبدأ فيها متحد مع ذاته المقدسة ،
فالتزم في ذلك بالمجاز أو النقل.
وأجاب عنه في
الكفاية بأنّ المعتبر من التغاير بينهما انما هو التغاير المفهومي
، وهو ثابت فيها ، فانّ مفهوم القدرة مغاير ذاتا مع ما يفهم من لفظ «الله» ، نعم
مصداقهما في الخارج متحد.
وأضاف المحقق
النائيني إلى ما في الفصول انّ لازمه تعطيل العقل عن إدراك معاني
هذه المشتقات التي تطلق عليه تعالى.
ونقول : لا وجه
للتعطيل أصلا ، فانّ الالتزام بالنقل أو التجوز معناه ان يكون لفظ العالم أو
القادر مثلا مستعملا عند إطلاقه عليه في نفس العلم والقدرة ، وهذا غير مستلزم
لوقوف العقل عن الإدراك كما هو واضح.
وأمّا ما ذكره في
الكفاية من اعتبار التغاير الذاتي بين المبدأ والذات فهو أيضا غير تام ، بل لا
يعتبر فيهما التغاير أصلا لا الذاتي ولا الوجوديّ ، وانما المعتبر هو تغاير
المحمول والموضوع من بعض الجهات ، بداهة توقف صحة الحمل على ذلك ،
__________________
واما تغاير المبدأ
والذات فلا ملزم له أصلا ، ولذا يقال : الضوء مضيء ، والنور منير ، والوجود موجود
، إلى غير ذلك ، مع اتحاد المبدأ مع الذات فيها مثلا.
ثم انه يرد على
هذه الموارد إشكال آخر من جهة استحالة تحقق النسبة بين الشيء ونفسه ، وسيظهر دفعه
بما نذكره في التنبيه الخامس في صدق المشتق.
وذكر في الكفاية انه مبدأ لعدم اعتبار قيام المبدأ بالذات ، ولذا يطلق
الضارب والمؤلم على الفاعل ، مع ان قيام الضرب والألم يكون بالمضروب والمؤلم.
وفيه : انّ هذا
بديهي الفساد ، وإلّا فلما ذا يطلق الضارب على من صدر عنه الضرب ولا يطلق على غيره
وهكذا المؤلم ، فلو لم يكن التلبس بالمبدإ معتبرا في صدقه لزم صحة إطلاق مثله على
كل شخص ، مع انه بديهي الفساد ، فالتلبس معتبر في صدقه غاية الأمر انّ أنحاء
القيام مختلفة ، قيام صدور ، أو حلول ، أو وقوع عليه أو فيه وبه ، أو غير ذلك.
ثم انّ صاحب
الفصول حيث اعتبر تحقق القيام والتلبس في المشتق أشكل عليه الأمر
في إطلاقها على ذاته تعالى في صفات الذات كالعالم والقادر ، حيث لا معنى لتحقق
النسبة بين الشيء ونفسه ، فبناء على ما هو الحق من عينية صفاته ليس هناك اثنينية
ليعقل التلبس والنسبة ، فالتزم بالمجاز فيها.
وذكر في الكفاية
وتبعه المحقق النائيني انّ لازمه تعطيل العقل عن الإدراك وكون هذه الأذكار مجردة
لقلقة اللسان . وهذا الكلام مأخوذ مما ذكره السبزواري في حاشية منظومته
في مقام الاستدلال على اشتراك الوجود بين الواجب والممكن من انه يطلق الموجود على
ذات البارئ.
__________________
فان أريد منه
معناه المتعارف فقد ثبت الاشتراك ، غايته فيه تعالى يكون الوجود حقيقيا ، وفي
الممكن ظليا ، وان أريد منه ضده وما يقابله وهو العدم فهو كفر وزندقة ، وان لم يرد
منه المعنى أصلا يلزم التعطيل ، وفي الكفاية ذكر ذلك في إطلاق هذه المشتقات عليه
تعالى.
والظاهر انّ هذا
البيان في الوجود والموجود تام ، ولكن لا يجري في المشتقات ، إذ المجازية كما عرفت
معناها استعمال المشتق وإرادة نفس المبدأ منه ، فمعنى يا عالم يا عليم بمعنى
الانكشاف ، وهذا غير مستلزم للتعطيل.
والجواب عن أصل
الإشكال يظهر ممّا مرّ منا في المعاني الحرفية ومبحث المشتق ، فقد ذكرنا انّ
الحروف وكذا الهيئات موضوعة لتضييق المفاهيم الاسمية بعضها ببعض ، كما في التوصيف
والإضافة ، ويضم إلى ذلك ما اخترناه من انّ المأخوذ في المشتقات انما هو مفهوم
الشيء لا مصداقه ، وعليه فالتضييق والنسبة فيها تكون بين المفهومين لا بين
المصاديق الخارجية ، فمعنى العالم الشيء المقيد أي من له العلم ، والقادر أيضا من
له القدرة ، وهكذا في الموجود ، وفي إطلاقها على ذات البارئ أيضا تكون مستعملة في
معانيها غاية الأمر انّ مصداقها خارجا وجود واحد بسيط لا تركب فيه.
بقي هناك إشكال
آخر وهو انه نسب إلى صدر المتألّهين انّ المفهوم الواحد يستحيل انتزاعه من ماهيات
متباينة بما هي متباينة ، وذكروا انّ عكسه أيضا مستحيل وهو انتزاع مفاهيم عديدة من
ذات واحد بسيط ، فوقعوا في الإشكال من حيث الصفات الجارية على ذاته تعالى مع
بساطته.
والجواب عن ذلك
انّ هذه الإطلاقات والتوصيفات انّما هي في مقام اللفظ وضيق التعبير ، وإلّا فليس
هناك صفة وموصوف ، وإلّا للزم التركب كما تشير إليه بعض خطب مولانا أمير المؤمنين
: (وكمال التوحيد نفي الصفات عنه) ، وبعض
الاخبار أيضا.
وبالجملة حكي عن
بعض الفلاسفة دعوى بداهة استحالة انتزاع مفهوم واحد عن وجودات متباينة بما هي
متباينة من دون ثبوت جهة مشتركة فيها ، وبهذا أثبت اشتراك الواجب والممكن في
الوجود غايته انّ وجود الواجب قديم ووجود الممكن ظلي حادث ، ثم ادعي البداهة في
عكس ذلك أيضا ، أي في انتزاع مفاهيم متباينة من وجود بسيط من جميع الجهات ، ولذا
وقعوا في الإشكال من حيث انتزاع المفاهيم المتباينة من ذاته المقدسة.
والجواب عن ذلك
انّ ما يدركه العقل وينتزعه ويكون له تحقق نفس أمري غير منحصر بالوجود الخارجي ،
ولذا يكون العدم حقيقة معدوما واستحالة اجتماع النقيضين حقيقة متحققة مع استحالة
اتصاف العدم والاستحالة بالوجود ، وهكذا الملازمات بين الأشياء ثابتة في نفس الأمر
مع انه ليس لها ما بحذاء خارجي ، فتعدد المفهوم الانتزاعي الثابت في نفس الأمر
حقيقة وبلا عناية غير مستلزم لتعدد الوجود الخارجي ، ولذا ينتزع العقل مفاهيم
عديدة نفس أمرية من وجود واحد ، حتى قالوا انّ أول ما يدركه الإنسان بل كل حيوان
انه هو ، وثانية انه ليس غيره ، وهما مفهومان متغايران ، فتعدد المفاهيم
الانتزاعية يكون بتعدد الاعتبار لا بتعدد الوجود ، مثلا الكم الواحد نفرضه عشرة
مثلا ، أو جسم مستطيل واحد يكون أصغر بالإضافة إلى ما هو أكبر منه طولا وينتزع منه
الأكبر باعتباره مع شيء أصغر منه ، وعلى هذا فصفاته المقدسة أيضا بأجمعها تنتزع عن
الذات البسيط الّذي ليس فيه شائبة النقص والتركيب ، فباعتبار ذاته واستجماعه لجميع
الكمالات ينتزع منه مفهوم الله ، وباعتبار كونه محيطا بكل شيء ينتزع مفهوم عالم ،
وباعتبار انّ مرجع جميع الأشياء إليه ينتزع مفهوم قادر ، وهكذا ولا ينافي شيء من
ذلك مع بساطة الذات ، وقد ذكرنا انّ التقييد والتضييق الثابت في المشتق انما هو في
المفهوم ، أعني
الشيء المأخوذ فيه
، وهو أجنبي عن الخارج لكي يلزم التركب ، نعم بناء على ما ذهب إليه الأشعري من
مغايرة ذاته المقدسة مع صفاته يلزم التركيب وغير ذلك من المحاذير ، وأما على ما هو
الحق المستفاد من الأخبار من نفي الصفات الزائدة عنه فلا إشكال ولا كلام.
التنبيه الرابع
ذكر في الفصول انه يعتبر في صدق المشتق على الذات حقيقة تلبسها بالمبدإ ،
وإلّا فيكون الجري مجازا ، وأورد عليه في الكفاية بأنّ إطلاق المشتق على غير المتلبس يكون من قبيل المجاز في
الإسناد لا في الكلمة كما في قولك : جرى الميزاب.
وذكر المحقق
النائيني انّ ذلك مبني على بساطة المشتق وتركبه ، فعلى الأول يكون
المجاز اللازم في الإسناد ، وعلى التركب يكون في الكلمة ، وذلك لأنّ المشتق على
الثاني يكون مشتملا على نسبة ناقصة هي نتيجة النسبة التامة الخبرية ، لأنّ الأخبار
بعد العلم بها أوصاف ، فإذا فرضنا انّ اسناد الجري إلى الميزاب بقولك «جرى الميزاب»
كان مجازا في الإسناد فإطلاق الجاري على الميزاب المشتمل على نتيجة ذلك الإسناد
المجازي أيضا يكون مجازا. ثم ذكر انّ الصحيح هو كون التركب ثابتا بالتحليل العقلي
، وإلّا فالمفهوم الابتدائي من المشتق انما هو امر بسيط.
ونقول : لا وجه
لشيء مما ذكراه ، بل لا بد وان يفهم مراد الفصول ، فان أراد من الجري والصدق ما هو
ظاهر العبارة أعني توقف مصداقيّة الشيء للمشتق على تلبّسه بالمبدإ حقيقة ، فالأمر
كذلك ، إذ الجاهل بالضرورة لا يكون مصداقا للعالم ، وان أراد منه الاستعمال والحمل
بمعنى انّ إطلاق المشتق على غير المتلبس مجاز ، ففيه : انّ الحقيقة والمجاز تابع
لإرادة المتكلم ، فان أراد من اللفظ ـ مشتقا كان أو
__________________
جامدا كلفظ حجر
عند إطلاقه على غيره ـ معناه الحقيقي فالاستعمال حقيقي غاية الأمر انّ الأخبار كذب
، وان أراد منه غير معناه فهو مجاز.
وبالجملة فالحقيقة
أو المجاز يتبع إرادة اللافظ لا كون الذات متلبسا بالمبدإ أو غير متلبس ، فانّ ذلك
مناط الصدق والكذب ليس إلّا.
هذا تمام الكلام
في المقدمات.
المقصد الأول
في الأوامر
وفيه مقامات :
المقام الأول
في مادة الأمر
وفيه جهات
الجهة الأولى :
تستعمل هذه المادة
في معان منها الطلب والشأن والغرض والحادثة والفعل وغير ذلك وقد ارجع بعضهم جميع
هذه المعاني إلى جامع وهو مفهوم الشيء.
وفي الكفاية انها مشتركة بين الشيء والطلب.
وذهب النائيني قدسسره إلى كونها موضوعة للشيء المهم .
أمّا كونها موضوعة
لمفهوم الشيء ، ففيه : انّ الأمر ربما يستعمل في موارد لا
__________________
يمكن استعمال
الشيء فيها ، مثلا يقال : جاء زيد لأمر كذا ، ولا يقال : جاء لشيء كذا ، وربما
ينعكس الأمر ، مثلا يطلق لفظ الشيء على الواجب تعالى ، وعلى الذوات والصفات
والأفعال ، بخلاف الأمر فانه لا يطلق إلّا على ما فيه جهة حدوث من الأفعال والصفات
، فلا يطلق الأمر على الحجر ، هذا مضافا إلى انّ مفهوم الشيء جامد غير قابل
للاشتقاق بخلاف لفظ الأمر ، على انّ الأمر تارة يجمع على أمور ، وإذا أريد منه
الطلب يجمع على أوامر ، فلا يعقل ان يكون موضوعا لمفهوم الشيء فقط.
واما كونها موضوعة
للشيء المهم وأخذ مفهوم المهم فيه ، فيرده صحة توصيف الأمر بغير المهم ، فيقال : «جاءه
لأمر غير مهم» أي بسيط باصطلاحنا.
والصحيح ان يقال :
انّ هذه المادة تستعمل في الطلب يقينا ، وفي الواقعة ، وفي الشور ومنه المؤامرة ،
وفي العجب على ما في أساس البلاغة ، وامّا استعماله في الفعل لقوله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) فغير تام ، لأنّ المراد من الأمر بقرينة صدر الأمر به هو
الطلب ، حيث يقول تعالى : «واتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد» ، والظاهر انهم
اتبعوا أمره لا فعله ، ولا يهمنا التعرض لبيان انّ أي من هذه المعاني معنى حقيقيا
لها بعد عدم ترتب ثمر عليه ، إذ لم نجد موردا في الأحكام استعمل هذا اللفظ لنشك في
المراد منه.
وانما نقول : انّ
مادة الأمر تستعمل بلا مسامحة في الطلب المبرز أعم من أن يكون بصيغة افعل ، أو
بالماضي ، أو بمادة الأمر ، أو بمادة الطلب ، أو بالفعل ، أو بغير ذلك ، كل ذلك
مصداق للأمر كما في لفظ البيع.
__________________
فما في الكفاية من
تفسيره بالقول المخصوص لا وجه له ، ولا يهمنا انّ استعمالها في المعاني الأخر هل
هو حقيقة أو مجاز ، بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أصلا.
الجهة الثانية :
اعتبر بعضهم في
صدق الأمر العلو والاستعلاء. أما العلو ، فهو معتبر يقينا ، ولذا يتأذى الإنسان لو
قال له السافل أو المساوي أمرك بكذا ، وأما الاستعلاء فان أريد به المولوية ، فهو
أيضا معتبر ، إذ لو لم يكن الأمر في مقام المولوية بل كان في مقام الشفاعة أو
المزاح أو غير ذلك يكون ما أتى به مصداقا لتلك العناوين ، والشاهد على ذلك خبر
بريدة ، وان أريد منه الجبروتية ، فهو غير معتبر في صدق الأمر قطعا ، بداهة صدق
الأمر ولو أمر المولى عبده مؤدبا في غاية الخضوع والأدب.
الجهة الثالثة :
الأمر حقيقة في
الوجوب على النحو الّذي نبيّنه في الطلب المبرز ، لما عرفت انّ الطلب المبرز
بأنحاء الإبراز هي مصاديقه ، فيلحقه حكمها ، فان كانت تلك الصيغ المبرزة للطلب
للوجوب فكذلك لفظ الأمر ، وان لم تكن للوجوب فكذلك المادة ، وسنبيّن إن شاء الله
تعالى انها للوجوب بنحو نتعرض له إن شاء الله تعالى ، فالأمر أيضا كذلك.
__________________
الجهة الرابعة :
يقع البحث فيها عن نقاط أربع :
الأولى ـ في انّ
الطلب والإرادة هل هما موضوعان لمفهوم واحد كما في الكفاية ، أو انّ مفهوم كل منهما مغاير مع مفهوم الآخر؟
الثانية ـ في بيان
معاني الجمل الإنشائية والجمل الخبرية ، والبحث عن هاتين الجهتين لغوي لفظي.
الثالثة ـ في إنه
هل لنا وجدانا غير الصفات النفسانيّة الوجدانية من الحب والشوق والعزم والإرادة
صفة أخرى تسمى بالكلام النفسانيّ كما ذهب إليه الأشاعرة أم لا؟
الرابعة ـ في انّ
العباد في أفعالهم هل يكونون مقهورين بالإرادة القاهرة الأزلية أو انّ القوة
والقدرة من الله والأفعال تصدر بإرادة العبد واختياره؟ والبحث عن هاتين الجهتين
بحث كلامي كما هو واضح.
النقطة الأولى :
فدعوى اتحاد الطلب والإرادة يمكن ان تكون من جهتين.
فتارة : يدعى
انهما متحدان مفهوما نظير المترادفين وهذا الّذي يظهر من الكفاية ، وأخرى يسلم : تغايرهما مفهوما ولكن يدعى اتحادهما مصداقا
وانّ ما يصدق عليه الطلب خارجا بعينه تصدق عليه الإرادة وبالعكس ، أي يكون بينهما
من النسب الأربع التساوي ، نظير لفظ الكاتب بالقوة والضاحك بالقوة أو لفظ الإنسان
والبشر ، لو لم يكونا مترادفين.
وكلتا الدعوتين
باطلتان ، ومفهومهما مفهومان متباينان لا ارتباط بينهما
__________________
أصلا ، وذلك لأنّ
الإرادة اسم للصفة أو الفعل النفسانيّ ـ على خلاف في ذلك يبيّن إن شاء الله ـ قائم
بالنفس ولا يعبر عن ذلك بالطلب أصلا ، بل الطلب اسم للتصدي نحو المحبوب ، ولذا لا
يقال طالب الدنيا لمن يحبها ، ولا طالب الضالة لمن لم يتصد نحو ضالته ، ولا طالب
العلم لمن يحبه ، وإلّا لأطلق ذلك على جميع العقلاء ، إذ لم نر أحدا لا يحب العلم
أو لا يحب الدنيا.
نعم بعد ما تصدى
الإنسان نحو محبوبه ومراده يقال : طلب العلم ، أو الدنيا أو الضالة ، ويطلق عليه
الطالب والتصدي نحو المراد لو كان من الأمور الاختيارية التي هي تحت قدرة المحب
والمريد بان كان المشتاق إليه فعل فتصديه نحوه يكون بعمله الخارجي.
وأمّا لو لم يكن
ما اشتاقه فعل نفسه بل كان فعل غيره وخارجا عن اختياره ، أو كان تحت اختياره أيضا
، كما في الشارع ، ولكن المشتاق إليه لم يكن صدور الفعل كيف ما اتفق ، بل كان
المصلحة في صدوره عن اختيار العبد ، فالتصدي نحوه حينئذ يكون بأمره بذلك بقول افعل
وأمثال ذلك.
وعليه فقول افعل
ونحوه يكون حقيقة مصداقا للطلب ، لأنه غاية ما يمكنه المولى في مقام تصديه نحو
مراده ، وبهذا ظهر فساد ما في الكفاية من انّ مفهوم الطلب ينشأ باللفظ ، فانّ المفهوم غير قابل
للإنشاء ، بل الإنشاء بنفسه مصداق للطلب كما عرفت.
فالصحيح : انّ
الطلب والإرادة مفهومان متباينان ، وان أراد الأشعري من تغايرهما ذلك فهو المتين
جدا ، بل الظاهر انّ الطلب لا يطلق على مطلق التصدي نحو المراد ولو كان تحقق
المطلوب وترتبه على المقدمات مسلما يقينيا ، مثلا لو
__________________
تصدى الإنسان نحو
طبخ الطعام بإيجاد مقدماته لا يقال طلب الطبخ ، وهكذا فيما إذا كان عدم ترتب
المطلوب على المقدمات يقينيا وانما يطلق الطلب على التصدي نحو شيء يحتمل حصوله
ويحتمل عدم حصوله ، هذا كله في مغايرة الطلب والإرادة.
النقطة الثانية : وهي التكلم في مدلول
الجمل الخبرية والجمل الإنشائية ، فالمشهور ذهبوا إلى انّ الهيئة في الجمل الخبرية دالة على النسبة النّفس
الأمرية الأعم من الخارجية والذهنية وغير ذلك ، إثباتا أو نفيا ، وفي الجمل
الإنشائية موضوعة لإيجاد المعنى باللفظ أي إيجاد المفهوم في ذهن السامع.
ونقول : ذكرنا انّ
الوضع ليس إلّا التعهد والالتزام ، فلا بدّ وان يتعلق بأمر مقدور للواضع أي ما
يكون فعل نفسه ، وليس ذلك إلّا قصد تفهيم المعنى عند إطلاق اللفظ ، أو ذكر اللفظ
عند قصد تفهيم المعنى الخاصّ ، وعليه فهيئة الجمل الاسمية موضوعة لقصد الحكاية
فمهما يلفظ بها اللافظ تنتقل بالانتقال التصديقي إلى انه قصد الحكاية بمقتضى تعهد
الواضع ، واستعمالها بدونه يكون على خلاف التعهد ، ولا فرق في ذلك بين صورة الصدق
والكذب.
وأمّا هيئة الجمل
الإنشائية فلا معنى لكونها موضوعة لإيجاد المعنى باللفظ ، إذ لو أريد من الإيجاد
الإيجاد الخارجي ، فهو لا بد وان يكون مستندا إلى علله الخارجية ، وليس اللفظ منها
، وان أريد به الإيجاد الذهني الاعتباري ، فهو أمر قائم باعتبار المعتبر وأجنبي عن
مقام اللفظ ، فلا بدّ وان تكون موضوعة لقصد إبراز الأمر الاعتباري كما بيّناه.
وإلى هنا نجد
الهيئة في الجمل الخبرية والإنشائية في كونها موضوعة للقصد ومبرزة عنه ، ولكن يفرق
بينهما في انّ متعلق القصد في الأولى يكون له تعلق إلى الخارج دون الثانية ، ولذا
يجري في الأولى احتمال الصدق والكذب دون الثانية حيث ليس لها تعلق بأمر خارج.
النقطة الثالثة :
هناك قول ثالث منسوب إلى الأشعري وهو أيضا يشاركنا في كون المدلول فيهما أمرا
نفسانيا إلّا انه يخالفنا في تعيين ذلك ، فانهم التزموا بأنّ في النّفس صفة أخرى
غير الصفات المشهورة من العلم والشجاعة والعزم والجزم والإرادة ، ونحو ذلك ، تكون
نظير هذه الصفات وعبّروا عنها بالكلام النفسيّ ، وذهبوا إلى انها مدلول الكلام
اللفظي ، وعبروا عنه في الجمل الخبرية بالكلام النفسيّ وفي الإنشائية بالطلب ،
واستشهدوا لذلك بأمور مثل الإنسان يقول لمخاطب انّ في نفسي كلاما أريد ان أبديه ،
أو انه لو لم يكن الكلام منظما في النّفس فكيف ينشئه اللافظ مرتبا.
وليعلم قبل بيان
استدلالهم انه لو سلمنا صحة الكلام النفسيّ وأثبتناه مع ذلك يستحيل ان يكون ذلك
موضوعا له للجمل ، لما بيناه من انّ الوضع بمعنى التعهد ، ولا مناص من تعلقه بأمر
مقدور للواضع ، وليس ذلك إلّا ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.
ثم انه بعد التأمل
ظهر لنا انّ القائل بالكلام النفسيّ لا يدّعي وضع الألفاظ لذلك كما يظهر من
كلماتهم ، فهم موافقون مع المشهور فيما وضع له الألفاظ ، وانما يدعون دلالة الكلام
اللفظي على الكلام النفسيّ دلالة المعلول على علّته كدلالة الفحش على ثبوت البغض
في نفس الفحاش مثلا ، لا الدلالة الوضعيّة ، فما يظهر من الكفاية من اسناده إلى الأشعري دلالة الكلام اللفظي على الكلام
النفسيّ بالدلالة الوضعيّة غير صحيح.
وكيف كان ذهب
الأشاعرة إلى ثبوت حروف وألفاظ في النّفس نظير الحروف والكلمات ، غايته انّ الحروف
في الألفاظ الخارجية متعاقبة ويوجد منها
__________________
جزء في الخارج
وينصرم ، ثم يوجد جزء آخر ، بخلاف الكلمات النفسيّة ، فانّ جميعها موجودة في
النّفس عرضا نظير من نظر إلى مكتوب دفعة.
وقد استدلوا على
ذلك بأمور.
منها : ما يرى في
العرف من انه يقول أحد لآخر انّ في نفسي كلام لا أحب أن أبديه.
ومنها : انّ ناظم
القصيدة لا بدّ له من نظم القصيدة في نفسه ، وإلّا فلا تتحقّق الألفاظ في الخارج
منظمة.
وفيه : انّ ما
يكون في النّفس ليس إلّا العلم وتصوّر الألفاظ والمعاني ، وهذا موجود في جميع
الأفعال الاختيارية ، فانّ المصلي قبل الإتيان بصلاته يتصوّر الصلاة إجمالا ثم
يأتي بها خارجا ، وهكذا في جميع الأفعال ، ولو كان ذلك كلاما نفسيا لزم الالتزام
بالصلاة النفسيّ والأكل النفسيّ وغير ذلك.
ومنها : انه أسند
الكلام إلى الله تعالى في قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) ، ولو أريد منه الكلام اللفظي فهو حادث ، واتصاف القديم
بالحادث محال ، لاستلزامه حدوث القديم أو قدم الحادث ، فلا بدّ وان يكون هناك كلام
نفسي قديم يمكن اتصاف القديم به.
وفيه : أولا : انّ
ظاهر الآية ان التكلّم كان مع موسى عليهالسلام ، وموسى حادث يقينا ، والكلام مع الحادث حادث ، إلّا ان
يلتزم بقدم موسى أيضا ، والقول بأنّ الكلام كان قديما وتعلقه بموسى كان حادثا خلاف
ظاهر الآية.
وثانيا : انّ
البارئ تعالى يتصف بغير التكلّم من الصفات كالخلق والرزق ونحو ذلك ، فلا بدّ من
الالتزام بخلق نفسي ورزق نفسي.
__________________
وثالثا : وهو الحل
، انّ الصفات المنتسبة إلى ذاته المقدّسة مختلفة فمنها : ما تنتزع من ذاته تعالى
وتسمى بصفات الذات ، ومنها : ما تنتزع من أفعاله ويعبر عنها بصفات الفعل ، وما
يتحد مع الذات ولا بدّ من ان يكون قديما انما هو صفات الذات ، وهي منحصرة في العلم
والقدرة والحياة ، وهي منتزعة عن العلم والقدرة ، وأمّا الصفات المنتزعة من الفعل
فهي كنفس الفعل حادثة كالخلق والرزق والاحياء ونحوها ، وقد دلّ على ذلك بعض
الأخبار ، ومضمون الرواية انه عليهالسلام يقول للراوي : (أو لست تقول انّ الله أراد كذا ولم يرد كذا)
يقول : نعم فيقول عليهالسلام ما حاصله : (انّ هذا من صفات الفعل ، وهل يمكن ان نقول كان
عالما بكذا ولم يكن عالما بكذا) فيقول : لا ، فيقول عليهالسلام : (هذا من صفات الذات).
ثم انّ تميّز صفات
الذات عن صفات الفعل هل يكون بصحّة اتصاف الذات بضد تلك الصفة وعدمها ، أو يكون
بصحّة اسناد الإرادة وعدمها إلى ذلك ، أو يكون بجواز نفيها عنه وعدمه؟
الظاهر هو الثالث
: ففي الخلق يصح ان يقال : خلق الإنسان ذو رأس واحد ولم يخلق إنسانا ذي رأسين ،
ولا يمكن ان يقال : انه قادر على الأمر الفلاني وغير قادر على الأمر الكذائي ،
وهكذا في الفعل ، فالمائز بين صفة الذات وصفة الفعل هو صحة تعلق القدرة به تارة
وعدمها أخرى في الثاني وعدم صحته في الأول.
وبالجملة ذهبت
الأشاعرة إلى انّ الكلام ينقسم إلى قسمين ، أحدهما : ما يكون مندرج الحصول بنحو
التعاقب ، ويسمى بالكلام اللفظي ، وثانيهما : ما يكون بسيطا ومن قبيل الألفاظ وغير
قابل للانقسام أصلا ، وهو قائم بالنفس نظير سائر الصفات النفسانيّة ويسمى بالكلام
النفسيّ ، وانقسامه إلى الخبرية والإنشائية ونحو ذلك يكون بلحاظ تعلقه بالكلام
اللفظي ، وقد استدلوا عليه بوجوه أحسنها وجوه أربعة :
الأول : انه تعالى
أسند إلى ذاته المقدّسة التكلم في قوله عزّ شأنه : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) ، أو القول بأنّ ما اتصف به من الكلام هو الكلام اللفظي
مستلزم لاتصاف القديم بالحادث ، وهو محال ، فلا بدّ وان يراد منه الكلام النفسيّ
القديم المتحد مع الذات.
وفيه : ما تقدم
فلا نعيد.
الثاني : انه يطلق
«المتكلم» عليه تعالى كما يطلق عليه «المريد والقادر» ، ولا يطلق هذا المشتق إلّا
على من قام به المبدأ قيام حلول واتصاف لا قيام فعل وصدور ، وإلّا يصدق عليه
المتحرك أيضا ، لأنه خالق الحركة ، ومن الواضح انّ الكلام اللفظي لا يعقل اتصافه
تعالى به لأنه حادث ، فلا بدّ وان يراد منه كلاما قديما وهو الكلام النفسيّ.
وفيه : انه ما
المراد من المادة في المتكلم ، فان كانت مادته الكلام أعني الصوت ، فهو حال في
الهواء والهواء متصف به اتصاف حلول ، لأنّ الصوت منشأ من موج الهواء على ما قيل ،
وعليه فلا بدّ من صدق المتكلم على الهواء ، وهو بديهي البطلان ، وان كانت المادة
هي التكلم كما ذكره (روزبهان) بعد اطلاعه على فساد جعل مادته الكلام ، فهو وان كان
صفة للمتكلم إلّا انه بمعنى إيجاد الكلام فالمتكلم من أوجد الكلام ، وأما ما ذكره
من انّ اسم الفاعل لا يطلق على من قام به المبدأ قيام صدور فهو غير صحيح ، لإطلاق
النائم على من صدر عنه النوم والخالق والرازق والمحيي والمميت عليه تعالى بلحاظ
صدور تلك الأفعال عنه.
وقد ذكرنا انّ صفة
الذات المتحدة معه تعالى ليس إلّا العلم والقدرة والحياة ، وهي قديمة ، وأمّا
بقيّة الصفات فهي من صفات الفعل وحادثة كنفس الفعل ، إذ
__________________
ليست تلك الصفة
إلّا نفس الأفعال ، فكما انّ الفعل حادث فالفاعلية والموجدية لها أيضا حادثة ،
والتكلم من هذا القبيل.
الثالث : انّ
الإنسان حينما يريد الدخول على السلطان أو على العالم يرتّب في قلبه ما يريد
إلقائه بمحضر السلطان ، وهو الكلام النفسيّ.
وفيه : انّ ذلك
ليس إلّا تصور ، وهو موجود في جميع الأفعال الاختيارية.
الرابع : استشهدوا
بالكلمات العرفيّة وظواهر الآيات كقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ
فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها) ، وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) ، إلى غير ذلك.
وفيه : انه لا ربط
بشيء من ذلك بالكلام النفسيّ كما هو واضح.
ومضافا إلى جميع
ما تقدم انه بالوجدان نرى انه ليس في اللفظ إلّا أمور سبعة :
الأول : الألفاظ
المفردة ، الثاني : معانيها ، الثالث : الهيئة التركيبية ، الرابع : مفادها ،
الخامس : تصور المعنى ، السادس : التصديق بالنسبة نفيا أو إثباتا ، السابع :
مطابقة الخبر في مثل «زيد قائم» ، للواقع وليس شيء منها كلاما نفسيا كما هو ظاهر
غير محتاج إلى التطويل ، ويؤيد ما ذكر انّ غير الأشعري ممن سبقه ولحقه يستعملون
الكلام اللفظي من غير ان ينتقلوا إلى الكلام النفسيّ أصلا ، فنحن لا نتصوّر للكلام
النفسيّ معنى معقولا حتى نبحث عنه.
النقطة الرابعة : في الجبر والاختيار ،
وهو من مهمّات المباحث الكلامية ، ولو لا انّ صاحب الكفاية تعرّض له في المقام لما
تعرضنا له ، فذهب الأشاعرة فرارا من لزوم الشرك بزعمهم إلى انّ افعال العباد كلها
مخلوقة لله تعالى ، وليس لإرادة
__________________
العبد واختياره
تأثير فيها أصلا ، لأن لا يلزم تعدد الآلهة بعدد افراد الفاعلين ، والتزموا بأنّ
العباد كاسبون ، وإلّا فالفعل مخلوق له تعالى ، غايته في الاختيارية من الأفعال
أوجد الله القدرة للعبد على إتيان العمل مقارنا لفعله من دون ان يكون مستندا إليها
دون الفعل الغير الاختياري ، فتأمل.
ولذا ذكر بعض
المعتزلة انّ حمار الأشعري أعقل منه ، لأنه يفرق بين الفعل المقدور وغير المقدور ،
فإذا وصل إلى نهر صغير تمكن من عبوره حيث يطفر عنه بخلاف ما إذا وصل إلى النهر
العريض الّذي لا يمكنه الطفرة عنه ، والأشعري لا يفرق بين الأمرين ، ومن الواضح
انّ لازم هذا القول هو نسبة الظلم إليه تعالى في عقابه العباد على معاصيهم ، فهم
فرارا من الشرك بتخيّلهم وقعوا في الظلم.
وذهب جمع من
الفلاسفة إلى ما ذكر في الكفاية من انّ الأفعال الاختيارية تكون مستندة إلى
الإرادة ، وبذلك فرقوا بين الفعل الإرادي وغيره ، إلّا انهم التزموا بأنّ إرادة
العبد تنتهي إلى الإرادة الأزلية ، وهذا أيضا جبر نتيجة.
وأما المعتزلة
فذهبوا إلى انّ ، العباد مستقلون في أفعالهم ، وعزلوا الله جلّ شأنه عن التأثير في
ذلك زعما منهم كفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول أيضا ، وهم فرارا من الظلم
وقعوا في الشرك.
والإمامية تبعا
لأئمّتهم عليهمالسلام ذهبوا إلى الأمر بين الأمرين والمنزلة بين منزلتين ، بحيث
لا يلزم شيء من المحذورين ، وقد مثلنا سابقا للجبر بحركة يد المرتعش إذا شدّ بيده
سيف وجيء بإنسان تحت السيف ، فانّ حركة يد المرتعش تكون غير اختيارية ولو كان
ملتفتا إلى انّ من تحت السيف يقتل بذلك ، بل ولو كان في نفسه محبا لذلك أيضا ،
ومثلنا للتفويض بما إذا كان سبع في سجن ، فأرسله
السجان ، وبذلك
خرج عن قدرته واختياره ، أو بإرسال حاكم إلى البلد وتفويض أمر البلد إليه بحيث لا
يتدخل السلطان في أفعاله وأحكامه وتصرفاته ولو كان قادرا على عزله كما كان ذلك
متعارفا في زمان الاستبداد ، وامّا الأمر بين الأمرين ، فمثاله ما إذا فرضنا انّ
إنسان مصاب بالفلج لا يقدر على الحركة أصلا ، ولكن أوصل الطبيب السلك الكهربائي
إلى يده فتحركت ما دامت متّصلة بالسلك ، فانّ المريض بعد ذلك يكون مختارا في
أفعاله إلّا انّ إفاضة القدرة عليه يكون من السلك آناً فآنا ، ففي كل آن هو غير
مستغن عن الطبيب ومهما رفع الطبيب يده عن «سويج» الكهرباء تفلج يد المريض وتسقط عن
الحركة ، وفي هذا الفرض لو فعل المريض فعلا بلا مسامحة يكون الفعل مستندا إلى
المريض لصدوره عن مشيئته واختياره ، ويستند إلى الطبيب أيضا ، لأنه كان بإفاضة
القدرة عليه آناً فآنا ، وافعال العباد كلها من هذا القبيل ، فانّ الإنسان غير
مستغن عن المؤثر دائما.
والحاصل : أصول
الأقوال في المقام أربعة :
الأول : ما ذهب
إليه أكثر الفلاسفة من انّ الأفعال الاختيارية معلولة للإرادة ، فهي إرادية غير
انّ الإرادة تنتهي إلى ما ليس بالاختيار فهي غير اختيارية.
الثاني : ما ذهبت
إليه الأشاعرة من انّ الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى ، وليس لقدرة العبد واختياره
تأثير فيها أصلا ، وانّ العبد معرض ومحل للفعل نظير الجسم الّذي يعرضه السواد ،
وانما الفرق بينهما في انّ خلق الفعل في الإنسان يكون مقارنا لقدرته بخلاف خلق
السواد في الجسم.
الثالث : ما ذهب
إليه المعتزلة من استغناء العباد في أفعالهم عن المؤثر ، وانهم لا يستمدون فيها من
الله تعالى وان كان إيجاد مبادئ الفعل فيهم ابتداء من الله ، وهو قادر على إعدام
ما أوجده فيهم من المبادئ إلّا انه بعد ما أعطاهم الحياة والقدرة
وبقية المقدمات
فما لم يسترجعها يكونون مستلقين في أعمالهم.
الرابع : ما
اختاره الإمامية من الأمر بين الأمرين.
أما الأشاعرة فيرد
عليهم :
أولا : انا
بالوجدان نفرّق بين حركة يد المرتعش وغيرها من الحركات الاختيارية ، وبين حركة
النبض وتحريك الإصبع اختيارا ، والوجدان أعظم البراهين ، فحينئذ نسأل من الأشعري
ونقول : ما الفرق بين الحركة الاختيارية والغير الاختيارية؟
فان قال : بعدم
الفرق بينهما ، فهو إنكار للوجدان ، وإثبات المطلب على منكر الوجدانيات ممتنع نظير
من أنكر استحالة اجتماع النقيضين.
وان قال : بأنّ
الفرق بينهما بمقارنة الفعل الاختياري مع القدرة ، نقول : ما المراد من القدرة؟ ان
أريد بها الإرادة والاختيار على الفعل فمعها لا معنى لأن يكون الفعل مخلوقا لله
تعالى مع صدوره عن اختيار الفاعل ، وان كان المراد منها مجرد الشوق وحب الفعل فهو
غير موجب لاختيارية الفعل ، ولذا لا تكون حركة النبض اختيارية مع انّ الإنسان
يحبها وهو يشتاق إليها لأنها سبب حياة الإنسان ، فما هو الفارق بين الفعلين؟
وثانيا : انه على
هذا المبنى يكون العقاب والثواب ظلما وقبيحا ، نظير عقاب العبد على طول قامته ، مع
انّ الأشعري بنفسه يعاقب من ضربه بالحجر ولا يعاقب الحجر الواقع بنفسه من مكان
مرتفع على رأسه ، وقد أورد هذا على رئيس الأشاعرة ، وهو أبو موسى الأشعري ، وأجيب
عنه بجوابين :
الجواب الأول :
انّ العقاب يكون على الكسب.
وفيه : انه ما
المراد من الكسب ليكون العقاب عليه ، ان أريد منه معناه المتعارف الظاهر من اللفظ
في الاستعمالات العرفية كما في قوله تعالى : (لَها ما
كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وأمثال ذلك فهو الفعل ، والمفروض انه غير اختياري ، ولذا
ذكر بعضهم انه معنى لا يعقل ولا يمكن بيانه ، وقد وجهه بعضهم بوجهين :
أحدهما ـ انّ
العقاب يكون على تقارن الفعل مع القدرة.
وفيه : انّ
التقارن غير اختياري أيضا ، وليس العقاب عليه إلّا كالعقاب على تقارن أمر غير
اختياري مع قصر قامة العيد أو سواد وجهه.
ثانيهما ـ ما ذكره
الباقلاني من انّ العقاب والثواب يكون على الإطاعة والعصيان ، فانّ للفعل حيثيتين
، فانه بما هو فعل مخلوق لله تعالى وبما هو إطاعة أو عصيان يوجب الثواب أو العقاب.
وفيه : انّ
الإطاعة والعصيان ليسا إلّا عنوانين انتزاعيين ولا حقيقة لهما إلّا بمنشإ
انتزاعهما ، فالإطاعة تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به والمعصية عن
انطباق المنهي عنه عليه ، ولا معنى للعقاب على ذلك.
وبعبارة أوضح : ان
كانت الإطاعة أو العصيان فعلا مستقلا فننقل الكلام فيها ، إذ لو كانت مخلوقة للعبد
يلزم الشرك المتوهم عند الأشعري ، ولو كانت مخلوقة لله فالعقاب لما ذا؟
وان أريد من الكسب
الإرادة والاختيار فننقل الكلام في ذلك ونقول : ان كان الاختيار فعلا نفسانيا
مخلوقا للعبد فقد وقع المحذور وهو الشرك المتوهم عنده ، وعليه فلما ذا لم يكن أصل
الفعل مخلوقا للعبد؟! وان كان هو أيضا فعل الله تعالى فالعقاب عليه أيضا ظلم قبيح.
الجواب الثاني :
عن إشكال الظلم هو إنكارهم الحسن والقبح في الأفعال
__________________
رأسا ، بدعوى :
انّ الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى ، وتصرّفه يكون في ملكه وسلطانه ، والظلم انما
هو التصرّف في سلطان الغير ، فلا موضوع للظلم في أفعاله تعالى ، وعلى هذا حملوا
الآيات النافية للظلم عنه كقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فقالوا المراد منه انه لا معنى للظلم منه تعالى ، لا انه
معقول ولا يفعله ، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا معنى لإثبات التكليف له
تعالى بان يقال : يجب ان يفعل كذا وان لا يفعل كذا ، إذ ليس للعبد تكليف المولى
وبيان الوظيفة له وإلزامه بشيء ، فلا مانع ان يدخل النبي في أسفل دركات الجحيم
ويدخل المشرك العاصي في أعلى درجات الجنة إلى آخر ما يسطروه من الخرافات.
ونقول : أما قولهم
بأنه ليس للعبد ان يحكم على المولى بشيء فهو حق ، إلّا انّ المراد من الحكم في
المقام ليس هو الإلزام وجعل الوظيفة ، وانما المراد منه الإدراك ، فالحكم بأنه
عادل كالحكم بأنه عالم وقادر.
واما قولهم بأنّ
الظلم هو التصرف في سلطان الغير ولا معنى له في افعال الباري.
ففيه : انه مغالطة
واشتباه بالغصب ، فانّ الغصب هو التصرّف في سلطان الغير ولا يعقل بالقياس إلى مالك
الملوك ، واما الظلم فهو بمعنى الاعوجاج والخروج عن العدالة والاستقامة إلى حد الإفراط
أو التفريط ولو في ملكه أو نفسه ، مثلا انّ الإنسان على نفسه حقوقا فلا بدّ وان
يصرف مقدارا من زمانه في الأمور الأخرويّة ومقدارا منه في الأمور الدنيويّة يقال
انه ظلم نفسه ، وهكذا لو كان للإنسان عبدان وكان أحدهما مطيعا لمولاه في تمام عمره
والآخر عاصيا له كذلك لو أثاب المولى العبد العاصي وعاقب المطيع فهو ظالم ويعد عند
العقلاء مجنونا.
__________________
وأما قولهم يجوز
ان يدخل الله نبيّه في الجحيم ويخلد عدوّه في الجنّة فهو أيضا كالمثال المتقدم مما
لا يجوّزه العقل والعقلاء ولو كان تصرفا في ملكه وسلطانه.
هذا مضافا إلى انه
عليه يكون بعث الرسل وإنزال الكتب لغوا ، إذ لا مانع من ان يدخل جميع المؤمنين في
النار ، ويسكن جميع الكفار في الجنان ، فلا يبقى لهذا دافع إلّا القول بأنّ الوعد
والوعيد ينفي ذلك ، فانه لا يخلف الميعاد.
والجواب عنه واضح
على مشربهم ، إذ خلف الوعد بل الكذب الّذي ليس إلّا ظلما في الكلام لا يكون قبيحا
، واما توهم انّ عادة الله جارية على ذلك.
ففيه : انه متى
عاشرنا مع الله تعالى وكم مدّة كنّا معه حتى علمنا عادته في الأمور الدنيويّة؟ ومن
رجع من الآخرة وأخبر عن عادته تعالى فيها؟ فهذه الكلمات مما تضحك الثكلى.
ثم انهم استدلوا
على مطلبهم بوجهين.
أحدهما : عقلي.
ثانيهما : استظهار
من ظواهر الكتاب كقوله تعالى : و (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) ، وافعال العباد شيء فهو خالقها ، وغير ذلك مما دلّ على
نفي الشرك.
وفيه : أولا : انّ
المسألة عقلية لا يمكن الرجوع فيها إلى الظهورات.
وثانيا : يخالف
هذه الظهورات ظهورات أخر على خلافها مما أسند الفعل فيها إلى العبد كقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ، وقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ، وقوله عزّ شأنه : (فَتَبارَكَ اللهُ
__________________
أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) ، وقوله تعالى : (وَتَخْلُقُونَ
إِفْكاً) إلى غير ذلك ، وقد صرّح فيها بإسناد الخلق إلى الله تعالى
، فلا بدّ وان يراد من قول الله خالق كل شيء الأشياء الموجودة في نفسها غير
الأفعال ، وأعجب من هذا استدلالهم بقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) ، فانّ صدر الآية (قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ، أي الّذي تعملونه وهو الخشب فانّ ال «ما» موصول بمعنى
ومعرفة صلته ، فالمعنى الله خلقكم وما تنحتونه من الأخشاب لا انّ الله خلق نفس
عملكم وفعلكم.
واما العقلي
فأمران :
الأول : انّ الله
تعالى عالم بأفعال العباد ، وإلّا لزم الجهل في ذاته المقدّسة ، وهو محال ، فإذا
تعلق علمه بأنّ زيدا يفعل العمل الكذائي وعمرا يتركه ، فبالضرورة لا بدّ وان يتحقق
ذلك ، وإلّا لانقلب علمه جهلا ، وهو محال.
وهذا الوجه ذكره «الفخر
الرازي» ، وأرعد بذلك حيث قال ما حاصله : انه لو أجمع أهل العالم والعلماء لما
أجابوا عن هذه الشبهة ، وافترى على هشام وقال : إلّا ان يختار ما ذهب إليه هشام من
نسبة الجهل إليه تعالى.
وقد أضاف إلى
الشبهة بعضهم ما مضمونه انّ الله تعالى أخبر عن دخول أبي لهب النار بقوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) ، فلو لم يكن كفر أبي لهب ضروريا وأمكن إيمانه ، والإيمان
يجبّ ما قبله ، يلزم الكذب والجهل في ذاته المقدّسة.
وفيه : انّ العلم
عبارة عن الانكشاف ، والانكشاف يتعلّق الواقع المنكشف
__________________
على ما هو عليه
واقعا ، فالعلم تابع للمعلوم ، لا انّ المنكشف تابع للعلم ، نظير من وقف امام
المرآة فانّ ما يرتسم في المرآة يكون تابعا لصاحب الرسم لا العكس ، فالرسم يكون
رسم إنسان يتبع كون الواقف امام المرآة إنسانا ، لا انّ الإنسان إنسان لأنّ رسمه
رسم إنسان.
وبالجملة لا فرق
بين علمه تعالى وعلمنا بالأشياء في ذلك ، فكما انا لو علمنا بأنّ زيدا يصلي غدا لا
يؤثر ذلك في فعله ، وكلنا نعلم بأنه في الغد تطلع الشمس ولكن لا يؤثر علمنا في
طلوعها ، كذلك علمه تعالى بافعال عباده لا يؤثر في تحققها فهو عزّ شأنه يعلم بصدور
الفعل أو الترك من العبد بقدرته واختياره ، لأنه يصدر منه كذلك.
وأما ما ذكروه من
قياس علمه تعالى بعلم البنّاء والخيّاط بعمله ، وتأثير ذلك فيه.
ففيه : انّ هذا
العلم هو العلم الفعلي باصطلاح بعضهم أي ما يكون في طريق للفعل وهو عبارة عن تصوّر
، فتحقق كل فعل اختياري يكشف عن تعلق علم الفاعل به كشف المعلول عن علته ، فهذا
العلم مؤثر في الفعل ، ولكن لا ربط له بالعلم بمعنى انكشاف الواقع.
والّذي يؤيد ما
ذكرناه هو انه تعالى عالم بالملازمات وباستحالة الأمور المستحيلة كاجتماع النقيضين
مع انه لا دخل لعلمه في شيء من ذلك ، فاستحالة اجتماع النقيضين ثابتة لا من جهة
علمه تعالى بذلك ، هذا في الحل.
والنقض : انه تعالى
كما هو عالم بافعال العباد عالم بافعال نفسه من إنزال المطر في الوقت الخاصّ ،
وإرسال الريح في الزمان المعيّن ، وخلق زيد في الساعة الفلانيّة إلى غير ذلك ،
فيلزم ان يكون تحققها ضروريا ، وان يكون جلّ شأنه مضطرّا في افعال نفسه ، ولا
يلتزم به الأشعري ، وبالجملة بعد فرض تحقق الفعل من العبد
وتعلق علم البارئ
به بهذا العنوان يكون صدوره منه ضروريا لكن من قبيل الضرورة بشرط المحمول ، واما
في حد نفسه فصدور الفعل الاختياري وعدمه من العبد يكون بالنسبة إليه على حد سواء.
وأما ما ذكروه من
انه بعد تعلق علمه بصدور الفعل عن الشخص لو لم يكن ضروريا ينقلب علمه إلى الجهل
فهو فاسد ، إذ لو فرضنا تعلق علمه بصدور الفعل من العبد اختياريا فصدوره عنه
بالاضطرار مستلزم لانقلاب علمه جهلا.
الثاني : انّ نسبة
الفعل والترك في كل فعل اختياري إلى الفاعل يكون على حد سواء ، لأنّ المفروض انّ
الفعل ممكن فلا بدّ في تحقق أحد طرفيه من ثبوت مرجح لذلك ، وإلّا لزم الترجيح بلا
مرجح ، فان ثبت مرجح لأحد الطرفين وأوجب تحققه ، فقد خرج إلى حد الوجوب فيجب تحققه
، وهذا هو المطلوب ، وإلّا فهو باق على حد الإمكان وداخلا تحت قدرة الفاعل ، ولا
بدّ في تحقق أحد طرفي الممكن من مرجّح ، فان كان ذلك المرجّح الثاني أيضا موجبا
فقد ثبت المطلوب ، وإلّا فالفعل باق على إمكانه إلى ان يتسلسل أو يتحقق مرجح موجب.
وفيه : انّ هذه
الشبهة أيضا موهونة بعد التأمل.
فنقول : نحن لا
شغل لنا بالألفاظ والاصطلاحات ، بداهة انّ نزاع الجبر والتفويض غير مبني على وضع
لفظ الإرادة ونظائره ، بل نريد ان نتأمل الواقع ونرى ما يتحقق في أنفسنا وجدانا
عند صدور الفعل عنّا ، لا شبهة في انه :
أولا : لا بدّ لنا
من ملاحظة الفعل وتصوّره ، ثم بعد ذلك لا بدّ من إدراك كون الفعل والترك ملائما
لإحدى قوانا الظاهرية أو الباطنية وربما يعبرون عنه بالتصديق بالفائدة ، ثم إدراك
ما يترتب عليه من المفسدة ودفعها أو توطين النّفس عليها ، ثم نشتاقه ونميل إليه ،
وبعد ذلك نرى انّ لنا قدرة على الفعل وعلى الترك ، وبعد ذلك ليس إلّا إعمال القدرة
فتحريك العضلات من دون ان يكون هناك مرجح إلى كونه
ملائما للطبع ،
ونعم ما عبّروا عن إعمال القدرة بالاختيار أي طلب الخير والملائم للطبع ، فلو كان
هناك مرجح موجب لم يكن مجال للاختيار أصلا ، ولا ملزم للالتزام بوجوب المرجح
الملزم غير الملاءمة للطبع أصلا.
وما قيل : من
استحالة الترجيح بلا مرجح فليس معناه إلّا توقف كل فعل على فاعل كما يشير إليه
قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) ، ولذا نرى بالوجدان انا إذا وصلنا في سيرنا إلى طريقين في
أحدهما سبع يفترس من ذهب إليه ، وفي الآخر رجل يقيم بشئون المسافرين ، فمن جهة
ملائمة الثاني لطبعنا وحبنا لحياتنا نسير فيه ، ولكن مع ذلك لنا القدرة في الذهاب
من الطريق الآخر وتكون قدرتنا بالنسبة إلى السير من الطريق الثاني كالقدرة على أن
نسير في الطريق الأول ، وهذا ظاهر واضح.
وبالجملة نرى
بالوجدان انا نفرّق بين حركة نبضنا مثلا ، وتحريك إصبعنا بالاختيار ، والأول يتحقق
ولو لم نكن ملتفتين إليه وشاعرين به بخلاف الثاني ، فانه لا بدّ في تحققه أولا :
من الالتفات إليه ، ولذا ربما يموت الإنسان جوعا أو عطشا مع وجود الطعام والشراب
عنده لعدم التفاته إليهما ، وثانيا : إلى ملائمته لإحدى القوى وإلى عدم مزاحمته بما
ينافي النّفس من الجهات الأخر ، فيشتاقه ويميل إليه ثم بعد ذلك بيني على فعله أو
على تركه بسبب ملائمة ذلك لإحدى قواه ، ولا يبعد ان يكون هذا هو المراد من الإرادة
أو المشيئة أو الاختيار ، فيقال : أردت ففعلت ، وفي الفارسية يقال : (خواستم پس
كردم) وربما يكون البناء متعلقا بأمر حالي كما قد يتعلق بأمر استقبالي فيقال أريد
زيارة الحسين عليهالسلام يوم عرفة ، أي انا بان على ذلك ومتهيّئ له في نفسي ، وربما
يعبر عنه بعقد القلب.
__________________
ثم انّ المراد من
الإرادة المستندة إلى غير ذوي الشعور ، كما في قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) ، هو أيضا البناء والتهيؤ غايته انّ التهيؤ هناك يكون
طبعيا ، فانّ كل ثقيل يميل إلى الأرض طبعا لو لم يكن له مانع ، وفي الفعل
الاختياري البناء اختياري ، وهذا هو المراد من القصد والجزم والعزم ونحو ذلك من
العبارات والإحاطة بجميع مزايا لغات هذه الكلمات غير ميسور لنا ، وما ذكرناه هو
الّذي نراه في أنفسنا ، ثم بعد ذلك تعمل النّفس قدرتها في إيجاد الفعل خارجا ،
ويكون المرجّح لذلك مجرّد ملائمة ما اختارته مع بعض قواها ، وليس في نفسنا وراء
ذلك شيء أصلا ، وكأنّ توهم الأشعري ناشئ من مغالطة واضحة وهي الخلط بين مرجّح
الوجود ومرجّح الإيجاد ، فمرجّح الوجود لا بدّ وان يكون موجبا ويستحيل صدور الفعل
من غير فاعل ، وهذا بخلاف مرجّح الإيجاد فانّ أدنى مرجّح يكفي في ترجيح الفاعل
الفعل على الترك أو العكس وهو الملاءمة للطبع ، ولذا لو سئل الفاعل عن سبب فعله
يقول فعلته لكونه موافقا لميلي وشهوتي ، فلا نعني بالفعل الاختياري الا الفعل
المسبوق بالعلم أو القدرة وليس في مقدماته سوى الالتفات وإدراك ملائمته للطبع
والبناء ، ثم إعمال القدرة وهو الفعل أو الترك.
واما معنى لفظ
الإرادة والاختيار لغة ، فالإرادة مشتقة من الرود ومنه الرائد ، أي طالب الماء
والكلاء ، وهي على ما في اللغة تستعمل تارة : بمعنى المشيئة وهي بمعنى إعمال
القدرة ، وأخرى : في التهيؤ للفعل ، ولذا ربما تسند الإرادة إلى الجدار كما في
قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) أي كان مشرفا على ذلك ، ولم نر من ذكر من معانيه الشوق
الأكيد المحرّك للعضلات.
__________________
وأما الاختيار فهو
بمعنى طلب الخير أو قبوله ، والروايات أيضا تساعد ما ذكرنا ، ففي بعضها سأل الإمام
عليهالسلام عن الراوي : (أتقول افعل ذلك ، ثم إن شاء الله قال : نعم ،
فقال عليهالسلام : أتقول افعل ان علم الله ، قال : لا) ، فيظهر من بيانه عليهالسلام انّ الإرادة انما هي بمعنى المشيئة التي هي من أفعاله
تعالى لا صفاته ، ثم انّ المشيئة أعني إعمال القدرة بنفسها مقدورة ، والفعل
المترتّب عليها مقدور بسببها ، وقد أشير إلى ذلك في قوله عليهالسلام : (انّ الله خلق المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة)
فظاهره ان المشيئة بنفسها مقدورة وسائر الأفعال بها ، ومن الغريب ما حكاه في
الوافي عن المير الداماد من تفسيره الرواية بأنّ المراد انه تعالى خلق مشيئة العباد
بنفسها ثم خلق سائر الأفعال بها ، ولا ندري بأي وجه استظهر ذلك من الرواية.
وكيف كان لم يرد
دليل على انّ الإرادة تجيء بمعنى الشوق المحرّك للعضلات ، لنقع في محذور الجبر ،
بل المحرك للعضلات هو النّفس والروح.
ثم لا يخفى انّ
المشتاق إليه حقيقة وما هو المقصود واقعا انما هو الفعل الجوارحي ، وأما قصده
والعزم أو الجزم والبناء عليه وغير ذلك من الأفعال الجوانحية فليست مقصودة
بالاستقلال ، وانما هي أمور آلية نظير الواجب النفسيّ أو الغيري ، ولذا كثيرا ما
تكون مغفولا عنها ، فنريد أن ندعي انّ الفعل الجوارحي الاختياري ما يكون مسبوقا
بالعلم والقدرة ، وهذا هو الميزان في الاختيارية وغيرها.
ثم انّ هنا
للأشعري شبهة ثالثة ، حاصلها : ان الإرادة الأزلية لو كانت متعلقة بصدور الفعل من
العبد فيصدر لا محالة ، وان كانت متعلقة بعدم صدوره فلا يصدر بالضرورة ، وهذه
الشبهة هي التي ذكرها المحقق الخراسانيّ فأجاب عنها بأنّ
__________________
الإرادة الأزلية
انما تعلّقت بصدور الفعل أو بعدمه عن الفاعل بالاختيار.
ونقول : هذا
الجواب ليس إلّا جوابا عن الشبهة في مقام اللفظ والاصطلاح ، ولا يرفع الإشكال واقعا
، فانّ تعلق الإرادة الأزلية بصدور الفعل عن اختيار العبد لازمه ضرورية الصدور
والاختيار ، نعم حيث انّ الفعل حينئذ يكون مسبوقا بالإرادة يكون اختياريا اصطلاحا.
والصحيح في الجواب
انّ الإرادة بمعنى البناء والمشيئة وما شئت فعبر انما تتعلق بفعل نفس الإنسان فإذا
التفت امّا ان يريد فعل شيء أو تركه. واما الفعل الاختياري للغير فلا معنى لتعلق
إرادة الإنسان به أصلا ، وعليه فما يصدر من العبد اضطرارا من غير اختياره كحركة
النبض مثلا لا مانع من تعلق الإرادة الأزلية به وجودا أو عدما ، وامّا الفعل
الصادر عن اختياره فلا تتعلق الإرادة الأزلية به أصلا من قبيل السالبة بانتفاء
الموضوع ، إذ لم يكن مجال لتعلقها به ، وما ورد من قبيل قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فالمراد منه ظاهر بعد ما بيّناه ، فانّ معنى مشيئته
بالنسبة إلى الأفعال الاختيارية للعبد انما هو الإقدار آناً فانا ، والإفاضة دائما
كالسلك الكهربائي بحيث لو انفصل أقل من آن ينطفئ الضوء ويخمد النور ، وهذا معنى
كلمة (لا حول ولا قوّة إلّا بالله) ، فتحصل بحمد الله اندفاع شبهات الأشاعرة
بحذافيرها.
وأما الفلاسفة
فذهبوا إلى انّ الأفعال الاختيارية معلولة للإرادة تترتب عليها كترتب الصفرة على
الوحل ، لا فرق بينهما إلّا في انّ الأول مسبوق بالإرادة ولذا يسمى بالاختياري دون
الثاني ، زعما منهم انّ كل فعل لا بد له من علّة تامة موجبة ، لأنّ الشيء ما لم
يجب لم يوجد ، وهذا هو الوجه الّذي يستلزم الجبر والقول
__________________
بقدم العالم
لجريان هذا الكلام هناك أيضا ، وقد ذكر العلّامة قدسسره في منهجه انّ الفرق بين الفلسفة والإسلام هو ذلك ، فانّ
الفلاسفة يقولون بان كل فعل متوقف على موجب ، لأنه ما لم يجب لم يوجد ، بخلاف
الإسلام إذ ليس من هذه العناوين كعنوان العلّية والمعلولية في الأخبار عين ولا أثر
، والمذكور فيها انما هو احتياج الفعل إلى الفاعل وإلى الصانع ، واحتياج الخلق إلى
الخالق.
وبالجملة الفارق
المذكور في كلامهم لا يكون مؤثرا في دفع شبهة الجبر وقدم العالم مثقال ذرة ، وانما
هو فرق اصطلاحي لمجرد التعبير.
فالجواب الصحيح عن
كلامهم هو ما تقدم من انّ ما يتوقف عليه الفعل انما هو الفاعل ولو كان مختارا ،
فان شاء يعمل قدرته ويجعلها فعلها أي بفعله ، وان لم يشأ لم يفعله ، نعم لا بدّ
وان يكون ذلك لفائدة مترتّبة عليه ، امّا راجعة إلى نفسه أو إلى غيره ، وامّا الموجب
فلم يدل دليل على اعتباره لا شرعا ولا عقلا.
وبهذا تندفع شبهة
الجبر وشبهة قدم العالم ، وما تخيّلوه من ترتب عقول عشرة وانّ المخلوق الأول هو
العقل الأول ، ثم بقية العقول بحسب الترتيب إلى ان ينتهي الأمر إلى النفوس الفلكية
، ثم إلى عالم الطبيعة ، فانّ كل ذلك مبني على الجبر وانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد
، وإلّا فالبارئ فاعل مختار إذا رأى المصلحة في إيجاد شيء قبل ألف سنة يوجده في
ذلك الظرف ، وإذا رأى المصلحة في إيجاده بعد ألف سنة يوجده في ذلك الزمان ، فلا
يلزم القدم ، وهذا هو الّذي يستفاد من الأخبار ويراه الإنسان وجدانا ولذا ذكر
الشيخ في الرسائل انّ ضرورة الأديان قد دلّت على حدوث العالم ، فان كانت هناك شبهة
، كاستحالة الخلق المعلول عن العلّة ، فهي شبهة في مقابل البديهيّة .
__________________
ثم بما ذكرناه ظهر
الخلل في كثير من عبارات الكفاية في المقام ، ونحن نتعرّض إلى موردين منها :
أحدهما : ما ذكره
من انقسام الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة ، فان الإرادة على ما عرفت بمعنى
البناء القلبي ، ولا يعقل تعلّقه بفعل الغير. نعم ربما يتعلّق الشوق بذلك ، وأما
العزم والمشيئة والبناء فلا ، وعليه فالفاعل دائما تكون إرادته تكوينيّة ، غايته
تارة : تتعلّق بالفعل الخارجي التكويني ، وأخرى بالجعل وتشريع الحكم ، فالفرق في
المتعلّق.
ثانيهما : ما ذكره
من انّ اختيار السعادة والشقاوة بالآخرة ينتهي إلى الذاتي ولا يسأل عنه ،
فانّ الاختيار فعل النّفس ولا معنى لكونه ذاتيا ولذا يتخلف ويتبدل ، فربما يكون
الإنسان في أول عمره يختار المعاصي وفي أواخر عمره يختار الطاعات وربما ينعكس
الأمر ، فالتخلف أقوى دليل على عدم كونه ذاتيا.
ثم انّ بعض أعاظم
تلامذته وجّه كلامه ببيان مقدّمة ، وحاصل ما ذكره : انّ الأعراض تارة : تكون لازمة
أما من عوارض الماهية ، وأما من عوارض الوجود ، وأخرى : تكون مفارقة اتفاقيّة
كالبياض بالقياس إلى الجسم ، فما كان من قبيل الأول لا يحتاج إلى جعل مستقل ، بل
لا معنى لجعله مستقلا ، بل ينجعل بجعل ملزومه.
وأما القسم الثاني
فجعله يكون بجعل مستقل ، ثم طبق هذه المقدّمة على المقام ، وذكر انّ العلم بالنسبة
إلى الإنسان يكون من العوارض المفارقة ، ولذا لا يكون الإنسان عالما ، ثم يعلم.
وأما الاختيار فهو
من لوازمه ، فانّ الإنسان الملتفت الشاعر من أول وجوده
__________________
يكون مختارا ،
فثبوت الاختيار في الإنسان غير محتاج إلى جعل مستقل ، وعليه فحيث انّ الاختيار فعل
العبد ويكون دخيلا في تحقق فعله الاختياري يستند الفعل إلى العبد ، وحيث انّ بعض
أسبابه وهو العلم والإدراك يكون جعله من الله تعالى يستند الفعل إليه جلّ شأنه ،
وهذا معنى أمر بين أمرين ، وفي كلامه صغرى وكبرى وتطبيقا نظر.
والحاصل : انه
تلخّص مما ذكر ان أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى كما ذهب إليه الأشاعرة ، ولا
هي معلولة للإرادة كما ذهب إليه الفلاسفة ، بل هي فعل العبد صادرة باختياره.
نعم القدرة على
ذلك آناً فآنا تكون من الله تعالى ، حتى في حال العصيان ، وهذا معنى الأمر بين
أمرين ، كما ورد في الروايات ، وفي بعضها سئل عن الإمام ما حاصله : انه هل يكون
الفاعل هو الله ، فقال عليهالسلام ما مضمونه : هو أعدل من ذلك ، فقال : فالعبد هو الفاعل ،
فقال عليهالسلام : هو أعجز من ذلك.
ومنشأ ما ذهب إليه
الفلاسفة انما هو ذهابهم إلى احتياج كل فعل إلى علّة تامّة يستحيل تخلّفها عن
المعلول ، وقد ذكرنا انه لا دليل عليه ، وانما الفعل يحتاج إلى الفاعل ليس إلّا ،
وبهذا ظهر ما في الكفاية من الخلل ، وذكرنا من مواردها موردين :
الأول : تقسيمه
الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعيّة ، فانّ ذلك على مسلكهم من انّ الإرادة من
الصفات تام ، حيث لا معنى لها في البارئ إلّا العلم ، فعلمه تعالى تارة : يتعلّق
بما له دخل في النظام الأتم فيعبّر عنه بالإرادة التكوينيّة ، وأخرى : بما له دخل
في مصلحة شخص خاص ويسمى بالإرادة التشريعيّة ، ولكن على ما اخترناه من انّ الإرادة
هي من افعال النّفس ، فالإرادة دائما تكون تكوينيّة ، والفرق يكون في متعلّقها.
الثاني : ما ذكره
من انتهاء الإرادة إلى الذات ، والذاتي لا يعلل ، فانّ الله تعالى ما جعل المشمش
مشمشا ، بل أوجده ، فانه لا معنى لأن تكون الإرادة جنسا ولا فصلا للإنسان ، وقد
وجّه كلامه بعض أعاظم تلاميذه بذكر مقدّمة ، وهي : انّ الاعراض ، تارة : تكون من
أعراض الماهيّة ، وأخرى : من أعراض الوجود ، وعلى الثاني أما تكون دائمة ، واما
تكون مفارقة ، وجعل العرض اللازم مطلقا يكون بتبع جعل معروضه وليس له جعل مستقل ،
بخلاف العرض المفارق فانه مجعول بجعل مستقل ، ثم طبق ذلك على المقام وذكر انّ
الاختيار من عوارض الإنسان الغير المفارقة بخلاف العلم والشوق ، فالاختيار غير
مجعول في الإنسان مستقلا بخلاف العلم ، والفعل المتوقف على هاتين المقدّمتين من
حيث دخل العلم المجعول من الله تعالى فيه يكون مستندا إليه ، ومن حيث توقّفه على
الاختيار الّذي ليس بمجعول مستقلا يستند إلى الفاعل ، وهذا معنى الأمر بين أمرين ،
انتهى.
وهو غير تام صغرى
وكبرى وتطبيقا.
أما كبرى فلأنّ
تقسيم العارض بمعنى اللاحق ، لا الانتزاع إلى عارض الماهية والوجود وان كان من
الفلاسفة إلّا انه غير تام ، فانّ الماهيّة ليست بشيء أصلا ، فهي ليست حرف فكيف
يمكن ان يلحقها أمر آخر ، بل العرض دائما يعرض الوجود ، غايته تارة : يعرض كلا
الوجودين الخارجي والذهني كالزوجيّة للأربعة مثلا ، ويسمى بلازم الماهية أيضا ، وأخرى
: يعرض أحد الوجودين دون الآخر كالمعقولات الثانوية والحرارة للنار.
وأما ما ذكره من
انّ العرض اللازم يكون مجعولا بجعل المعروض.
ففيه : انه لا ريب
في تغاير العارض والمعروض وتعددهما خارجا وان كلّا منهما موجود له وجود خاص به ،
وحيث انّ الإيجاد والوجود متّحدان ذاتا واختلافهما يكون بالاعتبار ، فكل وجود
إيجاد لو قيس إلى فاعله ، فلا محالة يكون
هناك إيجادان
ويستحيل اتحادهما.
ومع التنزل عن ذلك
، نقول : ما المراد من الاعتبار الّذي جعله من العوارض الدائميّة وما المراد من
العلم الّذي جعله مفارقا؟ فان كان المراد من الاختيار قابلية الاختيار ، فجميع
صفات الإنسان تكون كذلك ، فانّ الكاتب بالقوّة والعالم بالقوّة والصانع بالقوّة ،
تكون من لوازم الإنسان الغير المنفكة عنه حتى عرف الإنسان في المنطق بالكاتب
بالقوة ، فما وجه الفرق بينهما؟ وان أراد من الاختيار الاختيار الفعلي الّذي هو
محل كلامنا فهو مفارق بالنسبة إلى الإنسان ، فانه ربما يريد شرب الماء وربما لا
يريده ، فكيف يكون لازما له ، وهو يتخلّف عنه.
هذا مضافا إلى انه
نسلّم جميع ما تقدّم ، ولكن نقول : لو كان هناك فعل مترتّب على مقدّمتين. إحداهما
: تكون مجعولة بجعل المولى تبعا ، والأخرى : تكون مجعولة بجعله استقلالا ، فمع ذلك
كيف يمكن ان يكون الفعل اختياريا مع انّ كلتا مقدّمتيه كانتا بغير اختياره؟ وهل
هذا إلّا مجرّد تسمية واصطلاح ، فالشبهة لا ترتفع بهذا التوجيه ، فدافع الشبهة
منحصر بما ذكرناه واستفدناه من أئمتنا عليهمالسلام ، وهو الأمر بين الأمرين.
واما التفويض فلا
نطيل الكلام فيه ، فانه مبنى على انّ الوجه في احتياج الممكن إلى المؤثر هل هو
حدوثه أو إمكانه؟ والصحيح هو الثاني ، وعليه فالحادث في بقائه أيضا محتاج إلى
المؤثر لبقاء ملاك حاجته وهو الإمكان ، هذا تمام الكلام في التفويض.
تنبيهان
الأول : انّ قولك
في الصلوات «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد» يشير إلى ما
ذكرناه من الأمر
بين الأمرين ، وانّ إفاضة القدرة دائما يكون من المولى ، وهكذا جميع مبادئ الفعل
من الإدراك والحب والاشتياق والقدرة يكون منه تعالى ، وانّ البناء والاختيار يكون
من العبد ، ولذا أسند الفعل في قول «بحول الله أقوم» إلى نفس العبد ، والحول
والقوة إلى الله تعالى ، وأما قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، فقد ذكر بعض المفسّرين انّ الاستثناء يكون من المنهي عنه
، وانّ المعنى هو النهي عن قول اني فاعل ذلك غدا بتا ، وعدم النهي عنه إذا انضم
إليه قول إلّا انّ يشاء الله ، ولكنه محتاج إلى التقدير وهو خلاف الظاهر ، بل
الظاهر ان يكون المراد هو النهي عن مجموع تلك الجملة بان يكون الاستثناء أيضا مقول
القول ، فقول إلّا ان يشاء الله يكون هو المنهي عنه ، وذلك لأن ظاهره التفويض.
وبعبارة أخرى ،
تارة : يخبر الإنسان عن فعل عمل بتا من دون تعليق ، وربما يكون ذلك مع الالتفات
إلى لوازمه مستلزما للكفر. وأخرى : ربما يخبر معلقا على حول الله وقوّته ومشيئته ،
وهذا هو المحبوب. وثالثة : يخبر ويجعل إرادة الخلاف من الله تعالى مانعا عن ذلك
بان يقول : «افعل ذلك غدا إلّا ان يشاء الله خلافه ويمنع عنه» وكثير ما يستعمل ذلك
في محاورات أعضاء الدولة ، مثلا يقول الوزير «اخرج غدا ان لم يمنعني السلطان» ،
ومعنى ذلك هو الاستقلال في العمل والاستغناء عن السلطان والاخبار بأنه أقدر منه
فان شاء منعه ، وهذا تفويض محض ، وهو المنهي عنه في الآية المباركة ، فتأمل.
الثاني : انه لا
ينافي ما ذكرناه من الأمر بين الأمرين ما ورد في بعض الآيات والأخبار من إسناد فعل
العبد إلى الله تعالى أو تعليقه على مشيئته كما في قوله
__________________
تعالى شأنه في
سورة هل أتى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) فانه واقع في ذيل قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً) ، وحيث انه أمر خير أسند ذلك إلى الله ، وهكذا ما ورد في
الحديث القدسي وما مضمونه «بمشيئتي أنت الّذي تشاء».
وبالجملة لا
منافاة بين ثبوت الأمر بين الأمرين ، وكون نسبة الأعمال من المعاصي والطاعات إلى
المولى وإلى العبد على حد سواء بحسب الدقّة العقلية ، وكون إسناد الطاعة إلى الله
جلّ شأنه أولى عرفا ، وإسناد المعصية إلى العبد أولى كذلك ، ونوضّحه بمثال عرفي ،
فانه لو أعطى الوالد لولده مالا وبيّن له طرق التجارة وطرق الملاهي ، وأمره
بالتجارة ونهاه عن صرف المال في الملهى وحذّره ذلك ، فان صرف الولد المال في
التجارة وربح منها يسند الربح إلى المولى عرفا ، ويقال هذا الخير وصل إلى الولد من
والده ، وأما لو صرفه في اللهو والخسران يسند ذلك عرفا إلى الولد ، ويقال هو خسّر
نفسه ، ونظير ذلك إسناد الطاعات إلى المولى الحقيقي والمعاصي إلى العبد ، وهذا
معنى الأولويّة.
واما ما ورد في
الأخبار من انّ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، فلا ينافي ما اخترناه من الأمر
بين الأمرين ، فانّ المراد منه الصفات والملكات النفسانيّة ، وكما تختلف القوى
الجسمانية في الأشخاص من الباصرة والسامعة ونحو ذلك ، فترى إنسانا لا يقدر على حمل
منّ وإنسانا آخر يقدر على حمل وزنة أو أكثر ، وقد سمعنا بمن كان قادرا على حمل
عشرين وزنة ، كذلك يختلف الأشخاص من حيث المحامد والرذائل النفسيّة ، فنرى إنسانا
يكون في ذاته كريما أو سخيّا أو شجاعا ونرى الآخر بخيلا لئيما ، وربما تتبدّل تلك
الصفات بالرياضات.
فقد يكون الإنسان
قريبا من الطاعات والخيرات وترى الآخر قريبا من
__________________
المعاصي من غير
اختياره ، مثلا يكون أحد الناس ابن عالم عادل ويربّى في بيت العبادة ويكون الآخر
ابن فاسق ويربّى في بيت لا يرى فيه إلّا المعصية وأنحاء الفسوق فبحسب طبعه يميل
الأول إلى الطاعة ويأنس بها ، والثاني إلى المعاصي ويأنس بها ، ولكن كل ذلك لا
ينافي الاختيار في الأفعال ولا يستلزم الجبر.
وبالجملة نحن لم
ندع كون الأفعال بجميع مباديها اختيارية ، ولم ننكر كون أغلب مبادئ الفعل خارجا عن
تحت اختيار المكلّف ، وكيف يمكننا ذلك مع ما نشاهده من خلافه وجدانا ، ولكن نريد
ان ندّعي انّ ذلك لا ينافي الاختيار فمن تهيّأ له مجموع مقدّمات الطاعة يكون
متمكّنا من المعصية والطاعة ، وهكذا العكس ، فتهيئة أسباب الخير أو الشرّ لا يسلب
اختيار العبد ، وهذا واضح جدّاً.
وكيف كان فالرواية
تشير إلى الصفات والملكات التي يناسب بعضها الطاعة وبعضها العصيان.
وأما الرواية
الثانية المرويّة في الخصال ومضمونها «السعيد سعيد في بطن أمّه ، والشقي شقيّ في
بطن أمّه» فمن الواضح انه ليست السعادة أو الشقاوة ذاتية للإنسان من قبيل ذاتي
كتاب الكلّيات ، إذ ليست جنسا له ولا فصلا ، ولا من قبيل ذاتي كتاب البرهان ، لأنّ
السعادة والشقاوة انما تنتزعان عن جري العبد على طبق أوامر مولاه ونواهيه بعد ثبوت
التكاليف عليه ، فلا معنى لكونهما ذاتيين للعبد في بطن أمه.
فان قلنا : بثبوت
عالم الذر وخلق الأرواح بأجمعها في ذلك العالم وتكليفهم بالايمان كما هو مقتضى
جملة من الأخبار ، فعليه لا إشكال في مفاد الرواية لحصولهما له بالاكتساب
والاختيار في ذاك العالم.
وان لم نقل به ،
فاما ان يراد من السعادة والشقاوة أسبابهما القريبة من الصفات والملكات ونحو ذلك ،
أو يراد منهما كتابتهما في لوح المحو والإثبات أو
المحفوظ بحسب علمه
تعالى ، بأنّ العبد يختار السعادة أو يختار الشقاوة ، وقد ورد في بعض الأدعية طلب
محو الاسم من ديوان الأشقياء وإثباته في ديوان السعداء ، وفي بعض الأخبار انّ
السعيد ربما يدخل في الأشقياء بحيث يتخيّله منهم كل من يراه ، ولكن ينقلب إلى
السعادة ولو في آخر عمره ، وفي بعضها ينقلب في أقل من زمان الفواق وما يمكث الحالب
من الحلب بين الحلبتين.
وبالجملة لا ينافي
شيء من هذه الأخبار مع الأمر بين الأمرين أصلا.
المقام الثاني
في صيغة الأمر
ذكر في الكفاية ما حاصله : انها موضوعة لإنشاء الطلب وتستعمل في ذلك دائما
، وانما الاختلاف من حيث كونها للإرشاد تارة وللسخريّة أو الامتحان أو التهديد أو
غير ذلك أخرى انما هو لاختلاف الدواعي ، ثم بنحو التسليم ذكر انه يمكن ان يقال :
بكونها موضوعة لإنشاء حصّة خاصّة من الطلب ، وهو خصوص ما إذا كان بداعي الجدّ لا
غيره من الدواعي ، وحينئذ يكون استعمالها فيما إذا لم يكن الإنشاء بذلك الداعي ،
بل كان بسائر الدواعي مجازا.
هذا وقد بيّنا في
المعنى الحرفي وفي أول هذا المبحث انّ الطلب انما هو بمعنى التصدّي نحو المقصود ،
فلا يقال طالب الضالة لمن يشتاق وجدانها ويميل إليه إلّا ان يقوم بصدده بإيجاد
مقدّماته.
والتصدّي فيما إذا
كان المقصود فعل نفس الإنسان يكون بالاشتغال بمقدّمات تحصيله ، وفيما إذا كان فعل
الغير الصادر منه اختيارا يكون التصدي بالبعث وتحريك الغير نحو المقصود ، وعليه
فيستحيل إنشاء مفهوم الطلب بصيغة الأمر.
نعم يوجد بمادة
الطلب بالوجود اللفظي ، فقول «افعل» يكون من مصاديق الطلب حقيقة لا إنشاء لمفهوم
الطلب ، وكم فرق بين تعلّق الصيغة بمفهوم الطلب
__________________
وكونه بنفسه من
مصاديقه ، وهذا من غير فرق بين صيغة الأمر وغيرها من الجمل التي يطلب بها كقولك «أطلب
منك كذا».
ولا مانع من اتحاد
المفهوم والمصداق في مثل المقام كما يتّحدان في إنشاء التمليك بلفظ ملّكتك مثلا.
فصيغة الأمر لا
بدّ وان تكون موضوعة لإبراز الأمر النفسانيّ على ما هو مقتضى ما اخترناه من تعريف
الوضع بالتعهّد ، ولزوم تعلّقه بما هو مقدور الواضع.
كما ذكرنا أيضا :
انّ هيئة الجمل الخبرية موضوعة لقصد الحكاية ، وبيّنا عدم الفرق بينهما من حيث مدلولهما
، ولا يتّصف مفاد الهيئة الخبريّة في نفسه بالصدق والكذب أصلا ، كالإنشاء ، فلو
استعمل جملة «زيد قائم» في غير مورد قصد الحكاية كما في صورة المزاح لا يكون ذلك
كذبا وانما يكون على خلاف تعهد الواضع.
فالجملة الإنشائية
مطلقا مبرزة للأمر النفسانيّ ، وصيغة افعل موضوعة لإبراز اعتبار المادّة على ذمّة
المكلّف ، كما في الدين ، فالشارع بمولويّته يعتبر المكلّف مديونا له بالعمل ،
ولذا إطلاق الدين على الحج في قوله عليهالسلام : (دين الله أحقّ ان يقضى).
وما قيل : من انها
مبرزة لنفس الشوق الّذي هو أيضا امر نفساني وان كان في نفسه ممكنا إلّا انه غير
مطّرد ، ولا يجري في الواجبات المشروطة التي ليس في موردها شوق أصلا كما لو امر
الميّت أولاده بان يعطوا ثلثه لشخص بعد وفاته ، فانه لا يتحقّق للأمر في هذا الفرض
شوق أصلا ، لا فعلا لأنه مشروط على الفرض ، ولا عند تحقق الشرط لأنه الموت. فمعنى
الصيغة هو اعتبار اللابدّيّة ليس إلّا.
وبالجملة بعد ما
تعهّد الواضع بذكر اللفظ الخاصّ عند إرادة المعنى المخصوص ، وحصلت العلقة بينهما
بالجعل والمواضعة ، ودلّ اللفظ عند الاستعمال على قصد تفهيم ذلك المعنى بالدلالة
الوضعيّة يمكن ان يكون ذلك اللفظ الدال على
ذاك المعنى مصداقا
حقيقيّا لمعنى آخر ، مثلا إذا استعملت هيئة «زيد قائم» ، فمدلولها الوضعي ليس إلّا
انّ المستعمل قصد الاخبار ولا ينافي ذلك ان تكون مصداقا واقعيا للحكاية والأخبار ،
فكون الدلالة بالجعل والاعتبار لا يستلزم ان يكون مصداقية الكلام للمعنى ، الآخر
اعتباريا.
وفي ما نحن فيه
بعد ما وضعت صيغة افعل لإبراز الاعتبار فدلالتها على ذلك تكون جعليّة ولكنّها تكون
طلبا حقيقة وبعثا وتحريكا واقعا لا اعتبارا.
إذا عرفت ذلك ،
فأمر الموضوع له في صيغة افعل يدور بين الاعتبار والشوق النفسانيّ ، والثاني ممنوع
، لأنّ الصيغة تستعمل في الوجوب ، فتأمل ، وهو امر اعتباري يجري فيه الاستصحاب
وليس امرا واقعيّا كالشوق ، هذا مضافا إلى انها تستعمل في الوجوب الظاهري وليس
هناك شوق ، وكذلك في الواجبات المشروطة التي ليس في موردها شوق فعلا بل ولا إلى
الأبد ، كما لو أمر المكلّف بتقسيم ماله بعد موته ، فيتعيّن الثاني ، وعليه
فاستعمالها في التهديد والتسخير والتعجيز وأمثالها يكون مجازا.
ويؤيّد ذلك عدم
جواز استعمالها في معناها الحقيقي واحد هذه الأمور بان يقال : «صم شهر رمضان ويوم
العيد» مثلا.
ثم انه لا بدّ وان
نتكلّم في ما هو الفارق بين الوجوب والندب ليعلم انّ الصيغة هل تكون موضوعة للأول
أو للثاني أو لهما معا أو للجامع بينهما أو كلا منهما يكون خارجا عن معناها؟
ويترتّب على ذلك ثمر مهمّ كما هو واضح.
فنقول : ذكر
القدماء انّ الوجوب مركّب من الطلب مع المنع من الترك ، والندب مركّب من الطلب مع
الترخيص في الترك ، وقد أوردوا عليه بأنّ الوجوب والندب أمران بسيطان وليس فيهما
تركيب ، ومن ثم فرّق في الكفاية بينهما بالشدّة والضعف ، فذكر انّ الطلب الشديد هو
الوجوب ، والطلب الضعيف هو الندب.
وفيه : أولا : انّ
الطلب كما عرفت عبارة عن التصدّي نحو المقصود ، وليس في ذلك شدّة ولا ضعف.
وثانيا : انّ
الطلب يكون منتزعا عن الصيغة فكيف يمكن أن تكون مستعملة فيه؟! نعم الشوق يتصوّر
فيه الشدّة والضعف ، إذ ربما يشتاق الإنسان شيئا بحيث يتحمّل المشاق في تحصيله ،
وربما يشتاقه بمرتبة ضعيفة بحيث لو توقّف تحصيله على أدنى مشقّة لا يطلبه ، إلّا
انّ الشوق لا يمكن ان يكون مدلولا للصيغة لما عرفت.
وذكر المحقق
النائيني قدسسره انّ الفرق بين الوجوب والندب انما يكون من حيث الملاك
والمصلحة الملزمة والغير الملزمة .
وفيه : انّ هذا
الفرق وان كان ثابتا إلّا انّ الوجوب والندب ثابت على رأي الأشعري المنكر لتبعيّة
الأحكام للمصالح والمفاسد أيضا ، ويجري في التكاليف العرفيّة الناشئة من غير مصلحة
أيضا.
وبالجملة لا ريب
في انّ الأحكام من الأمور المجعولة التي هي تحت اختيار جاعلها كغيرها من الأفعال
الاختيارية ، وليست من قبيل الصفات النفسانيّة الخارجة عن الاختيار كالشوق ، وعليه
فلا يمكن ان يفرّق بين الوجوب والندب بكون الأول شوقا شديدا والثاني شوقا ضعيفا ،
فان الوجوب أو الندب من الأحكام ، وهي غير الشوق.
وكذلك لا يصحّ
الفرق بينهما بالذهاب إلى ان الوجوب هو الطلب القوي ، والندب هو الطلب الضعيف ،
وذلك :
أولا : فلأنّ
الطلب انما هو بمعنى التصدّي ، ولا معنى فيه للشدّة والضعف.
وثانيا : انّ
الطلب متأخر عن الوجوب وعن استعمال الصيغة فكيف يعقل
__________________
استعمالها فيه.
وهكذا لا وجه لما
ذكره المحقق النائيني من الفرق بينهما من حيث المصلحة والملاك بدعوى انّ التكليف
الناشئ عن المصلحة الملزمة وجوب والناشئ عن المصلحة الغير الملزمة ندب ، فانّ
الوجوب والندب ثابتان في الأحكام الظاهرية مع انّ المصلحة فيها ليس واحد وهو
أغلبيّة مطابقة الطريق للواقع.
فالذي ينبغي ان
يقال : هو ان الصيغة موضوعة لإبراز اعتبار اللابديّة على ذمّة المكلّف كالدين ،
فإذا أبرز ذلك الاعتبار النفسانيّ ، فتارة. يرخص المولى في مخالفته ويجعل للمكلّف
مخرجا من ذلك ، وأخرى : لا يجعل له ذلك وينتزع العقل الوجوب عن الاعتبار الّذي لم
يرخص في مخالفته المولى ، فالوجوب يكون بحكم المولى فانه يثبت العمل ويلزمه على
ذمّة المكلف ويعبر عنه في الفارسي ب (چسبانيدن) ، ولا يعتبر الوجوب لغة الا الثبوت
، يقال : أوجبه أي أثبته ، وبهذا المعنى استعمل لفظ الوجوب في الأخبار وهكذا
الإلزام ، مثلا لو جعل شخص أحدا في حبس ولم يجعل له طريقا للخروج عنه يقال ألزمه
في المحبس ، وهذا بخلاف ما لو جعل له مخلصا عنه.
وبالجملة فالإيجاب
فعل المولى وليس بحكم العقل كما توهّم ، كما انه ليس مدلولا للّفظ أيضا ، ويترتب
على ما ذكر أمور مهمّة.
منها : انه على
هذا لا مجال للبحث عن انّ الصيغة موضوعة للوجوب أو للندب أو للجامع بينهما وان
الوجوب يستفاد من انصراف الصيغة ونحو ذلك ، لأنها على الفرض موضوعة لإبراز
الاعتبار النفسانيّ.
ومنها : انه على
هذا لو ورد امر من المولى ولم يثبت ترخيص على مخالفته يثبت الوجوب لا محالة من غير
توقّف على ثبوت قرينة على أحد الأمرين ، وهذا بخلاف القول بكون الصيغة موضوعة
للجامع بين الوجوب والندب ، إذ عليه يكون
اللفظ مجملا ما لم
تقم قرينة على التعيين.
ومنها : بل أهمّها
انه لو ورد امر بأمور عديدة فان كان بنحو العام المجموعي كما ورد انه لا صلاة إلّا
بأذان وإقامة ، ثم ورد ترخيص في ترك بعضها فلا محالة ينتفي الوجوب عن الجميع ، إذ
المفروض انه لم يكن في البين إلّا اعتبار واحد ، وقد رخّص في مخالفته ، وان كان
بنحو العام الاستغراقي كما في قوله «اغتسل للجمعة والجنابة» ودلّ الدليل على جواز
ترك الجمعة فلا وجه لرفع اليد عن وجوب الآخر أيضا كالجنابة في المثال ، لأنّ الوجوب
لم يكن مدلولا للصيغة ، بل كان مستفادا منها ومن عدم الترخيص بنحو تعدد الدال
والمدلول ، وثبوت الترخيص في مورد لا يستلزم ثبوته في المورد الآخر.
ثم انّ المحقق
الخراسانيّ ذهب إلى انّ الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء لا
تستعمل في غير معانيها ، فالمعنى متّحد على التقديرين والاختلاف انما هو من ناحية
الدواعي ، فإذا استعملت الجملة الخبريّة بداعي الحكاية يكون اخبارا وتتّصف بالصدق
والكذب ، وإذا استعملت بداعي البعث تكون إنشاء ولا تتّصف بالصدق والكذب ، كما
تختلف كيفيّة الصدق والكذب في إرادة المعنى الثاني من اللفظ ، فلو قيل زيد كثير
الرماد وأريد منه الاخبار عن الجود يكون صدقه بتحقق الجود فيه ولو لم يكن في داره
رماد ، ولو أريد منه معناه الحقيقي يكون صدقه بثبوته.
ونقول : قد ذكرنا
انّ اختلاف معاني الأخبار والإنشاء سنخا ، وانّ الهيئة في الجمل الخبريّة موضوعة لقصد
الحكاية وفي الإنشائية لقصد إبراز الأمر النفسانيّ ، فلا بدّ من الامتثال فيما نحن
فيه بالاشتراك اللفظي أو بالحقيقة والمجاز ، والأول هو الأظهر ، والشاهد لما
اخترناه عدم جواز استعمال الجمل الاسمية في الإنشاء
__________________
وانحصار ذلك
بالفعل الماضي والمضارع المتلو لأداة الشرط الّذي يرجع إلى الماضي أيضا ، ولو كان
الاختلاف بمجرد اختلاف الدواعي لأمكن ذلك في الجمل الاسميّة أيضا.
وكيف كان على هذا
تكون الجمل الخبريّة المستعملة في الإنشاء دالّة على الوجوب كصيغة افعل ، ولا فرق بينهما
إلّا في احتياج الجملة الخبريّة في دلالتها على ذلك إلى القرينة.
المقام الثالث
في دلالة الأمر على التعبّدية والتوصّلية
وقد فرّق في
الكفاية بينهما بأنّ التعبّدي ما لا يحصل الغرض منه إلّا بإضافته
إلى المولى بخلاف التوصّلي ، وكلامه غير خال عن المسامحة ، فانّ في موارد الأمر
غرضان : أحدهما في طول الآخر ، فالآمر الملتفت العاقل إذا رأى المصلحة في فعل
عبيده لا محالة يشتاقها ، فتكون هي الغرض الأولي ، وحيث انه مترتّب على فعل العبد
الصادر باختياره فينقدح له غرض آخر وهو إيجاد الداعي ولو إمكانا في نفس العبد
وبعثه وتحريكه ، وهذا هو الغرض الثاني ، وهو مترتّب على نفس الإيجاب وفعل المولى.
وفي هذا الغرض لا
يفرّق بين التوصّليات والتعبّديات ، وانما اختلافهما يكون في الغرض المترتّب على
فعل العبد وهو المصلحة ، ففي التعبّدي لا يترتّب ذلك إلّا إذا أضيف العمل إلى المولى
وجيء به خضوعا وعبوديّة كالإمساك مثلا ، وفي الثاني يترتّب على مجرّد تحقق الفعل
في الخارج كإعطاء الماء للعطشان ، أو الخبز للجائع ليشبع.
وقد فسّر التعبّدي
بمعنى آخر وهو : انّ التعبدي ما اعتبر فيه الشارع أمورا ثلاثة ، المباشرة
والاختيار وإيجاد العمل في ضمن الفرد المباح ، وفي قباله التوصّلي
__________________
ما لم يعتبر فيه
ذلك.
وبين التفسيرين
عموم من وجه ، ومادّة الافتراق من ناحية المعنى الأول على الظاهر منحصر بقضاء
الولي صلاة والديه ، فانه مما يعتبر فيه الخضوع والإضافة إلى المولى ولكنه يسقط
بفعل الغير بالاستنابة أو بالتبرّع ، فلا يعتبر فيه المباشرة ولا الاختيار.
ومورد الافتراق من
ناحية المعنى الثاني على الظاهر هو ردّ السلام ، فانه لا يعتبر فيه التقرّب ولكنه
لا يسقط بفعل الغير وبغير الاختيار وبالفرد المحرم فتأمّل.
ثم إذا شك في
تعبّدية واجب وتوصّليّته ، فهل مقتضى الأصل هو الأول أو الثاني؟
لا يخفى أنه تارة
: يعلم من الخارج اعتبار القصد والاختيار في متعلّق تكليف المولى بان يعلم بكون
المأمور به من العناوين القصديّة كعنوان التعظيم الّذي لا يتحقّق إلّا بقصده ، أو
يعلم اعتبار قصد القربة في الواجب كما في الإمساك ، فانّ مجرّد ترك الأكل والشرب
وبقيّة المفطرات لا يكون واجبا إلّا إذا انضمّ إليها قصد القربة ، ولا ريب في خروج
ذلك عن حريم النزاع.
وأخرى : يعلم بعدم
دخل القصد والاختيار ولا الخضوع في المأمور به كالأمر بغسل الجسد عن الخبث للصلاة
، وهو أيضا خارج عن مورد النزاع ، فانّ الواجب في غسل الثوب يحصل ، ولو بفعل الغير
أو بالوقوع في البحر ولو عن إكراه أو سهو ، وانما البحث فيما إذا لم يعلم ذلك وشك
بعد الإتيان بالعمل ، اما عن غير اختيار ، أو بدون قصد القربة في كونه مسقطا
للواجب يمكن الأجزاء به وعدمه ، وهذا بحث كثير الفائدة في الفقه ، فهنا فيما إذا
شك يمكن الاجزاء به وعدمه ، ويقع الكلام فيه في مقامين ، الأول في ما يقتضيه الأصل
اللفظي ، والثاني في مقتضى الأصل العملي.
أما النقطة الأولى
فقد استدل على اعتبار الاختيار في المأمور به بوجوه.
الأول : انّ
الهيئة منصرفة إلى إسناد الفعل الاختياري إلى الفاعل ، فهيئة «ضرب زيد» ظاهرة في
ثبوت النسبة الاختيارية بين الضرب وفاعله ، وهكذا الهيئة في صيغة افعل فانها
موضوعة للنسبة الإيقاعية الاختيارية.
وفيه : انّ
الاختيار والقصد خارج عن مفاد الهيئة على جميع الأقوال فيها ، سواء كانت موضوعة
لثبوت النسبة ، أو للحكاية عنه ، فكون المحكي اختياريا أو غير اختياري لا يستفاد
من الهيئة أصلا ، ولذا يمكن استعماله في كلامين مثل «أكل زيد» الّذي هو فعل
اختياري ومثل «مات عمر» والّذي هو أمر غير اختياري.
الثاني : انّ
المادة منصرفة إلى الحدث الصادر عن الاختيار.
وفيه : انّ
الانصراف لا يكون بلا وجه وبلا ملاك ، وملاكه انما هو خروج الفرد عن كونه مصداقا
للطبيعة بنظر العرف ، ولو كان فردا لها حقيقة ، اما لضعفه ، واما لقوّته ، والأول
مثل انصراف الغصب عن مثل دقّ باب الغير ومس حائطه ، والثاني مثل انصراف الحيوان عن
الإنسان الكامل مع انه مصداقه حقيقة ، وليس شيء من الأمرين متحقّق فيما نحن فيه ،
فانّ نسبة الطبيعي إلى الفرد الاختياري والغير الاختياري تكون على حدّ سواء ، مثلا
الحركة التي هي القسم للاختيارية والقسرية والطبعية تكون كليا متواطئا لا مشككا ،
وهكذا عنوان الضرب.
وقد استدل المحقق
النائيني على كون المأمور به اختياريا بوجهين :
أحدهما : أنّ ملاك
الوجوب الّذي يتّبعه ليس هو الحسن العقلي الثابت في الاختياري منه والاضطراري ،
وانما هو الحسن الفاعلي المتقوّم بالاختيار ، فالمأمور به دائما يكون هو الفعل
الاختياري.
وفيه : أولا : انّ
كون ملاك الوجوب هو الحسن الفاعلي لا العقلي هو أول
__________________
الكلام ، وقول بلا
دليل.
وثانيا : على ذلك
يلزم سد باب التوصليّات بالكلّية ، فانّ الإتيان بالواجب التوصّلي كالإنفاق على
الزوجة بغير قصد القربة لا يوجب حسن فاعله ، فليس فيه ملاك الوجوب ليكون مصداقا
للواجب.
ثانيهما : انّ نفس
البعث والتحريك يقتضي إمكان الانبعاث والتحرك ، إذ لا معنى للبعث نحو الأمر الغير
المقدور ، فالقدرة على المأمور به تكون من مقتضيات نفس الأمر ، فالأمر بالدلالة
الالتزامية يدل على كون متعلّقه خصوص الحصّة الاختياريّة.
وبعبارة أخرى :
كما ان البعث التكويني لا يعقل نحو غير المقدور ، مثل ان يبعث تكوينا أحد إنسانا
إلى الطيران إلى السماء ، كذلك لا يعقل البعث التشريعي نحو امر غير مقدور للمكلّف
، وعليه فمقتضى إطلاق دليل الواجب لو كان له إطلاق هو الإتيان بالفرد الاختياري
حتى في فرض تحقق الفرد الغير الاختياري ، ولو لم يكن للدليل إطلاق فالاستصحاب أو
الاشتغال يقتضي ذلك.
هذا ونقول : لا
يتم ما أفاده من اعتبار القدرة في الأمر مطلقا على جميع الأقوال في حقيقة الأمر ،
فانّ ذلك انما يتم لو قلنا بأنّ حقيقة الأمر ومدلول الصيغة هو البعث والتحريك ، أو
قلنا بأنه الطلب ، أو قلنا بأنه النسبة الإيقاعيّة بداعي التحريك ، فانّ جميع ذلك
يقتضي إمكان التحرك والانبعاث ، وأما لو قلنا بأنّ الأمر هو اعتبار اللابدية فلا
وجه لاعتبار القدرة فيه أصلا.
بيان ذلك : انه
تارة يكون الطبيعي خارجا عن اختيار المكلّف بجميع افراده بحيث لا يكون له فرد
مقدور أصلا ، وأخرى يكون بعض افراده مقدورا دون بعض.
امّا على الأول ،
فاعتبار لابدّيته وان كان ممكنا في نفسه إلّا انه لغو لا يصدر
من الحكيم ، فلو
امر المولى عبده بالطيران إلى السماء بغير آلة يقال له انك مجنون.
وأما الثاني ، فان
كان الغرض مترتّبا على خصوص الحصّة الاختياريّة من الطبيعي ، فهو خارج عن محل
الكلام ، واما ان كان الغرض مترتبا على الجامع وكان كل من الفرد الاختياري وغير
الاختياري متساوي الأقدام من حيث الوفاء بغرض المولى فتقييد أمره حينئذ بخصوص
الحصّة الاختياريّة يكون بلا موجب ، فلا محالة يأمر بالطبيعي على الإطلاق والسريان
بمعنى رفض القيود وهو الإطلاق اللحاظي ، فتبقى جهة لغوية ذلك ويدفعها انّ ذلك يكون
للتوسعة على العبيد فيما إذا صدر منهم الفعل بغير اختياره فانه لو كان المأمور به
مطلق الطبيعي لحصل الامتثال بذلك ولم يحتج إلى الإعادة.
وهذا بخلاف ما إذا
كان متعلّق التكليف خصوص الفرد الاختياري ، فانّ الاجتزاء بغير المأمور به عن
المأمور به يحتاج إلى دليل.
والحاصل على هذا
فلو كان للآمر إطلاق نتمسّك به لنفي تقيد المأمور به بالاختيار ، فالمتيقّن هو
تعلّق التكليف بالجامع ، وتقييده بخصوصيّة الاختيارية مشكوك ، فيكون من قبيل دوران
الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل عدم تقيّد المأمور به بذلك.
ويترتّب على ما
ذكرناه من عدم اعتبار القدرة في جميع متعلّق افراد التكليف ثمر مهم في باب التزاحم
على القول بعدم الترتب ، فانّ تصحيح العبادة المهم من ناحية الملاك يتوقّف على عدم
اعتبار القدرة في متعلّق الأمر وثبوت إطلاق له ليعم الفرد الغير المقدور أيضا ،
وإلّا فليس لنا طريق لإثبات الملاك في الفرد المزاحم بواجب أهم.
المسألة الثانية :
إذا صدر الواجب وتحقّق خارجا عن غير المكلّف وشككنا في كونه مسقطا للواجب عن ذمّة
المكلّف فهناك صور ، فانه تارة يكون صدور
الفعل عن غير
المكلّف أجنبيا عن المكلف من دون ان يقصد به إتيانه عن المكلّف أو يتبرّع عنه ،
وأخرى يأتي بالفعل من قبل المكلّف.
أما على الأول ،
فلا وجه للقول بسقوط الواجب عن المكلّف بمجرد عمل شخص آخر أجنبي عنه ، كما لو
فرضنا انّ زيدا مديون لعمر بعشرة دراهم فدفع بكر إليه عشرة دراهم من غير ان يقصد
به النيابة عن زيد ، أو إبراء ذمّته ، فهل يتوهّم في مثل ذلك سقوط الدين عن ذمّة
المديون بلا وجه؟!
والسرّ فيه هو انّ
سقوط التكليف عن ذمّة المكلّف بفعل غيره انما يتصوّر في فرضين ، الأول : ان يكون
الواجب مشروطا بان لا يأتي به غيره ، الثاني : ان يكون الواجب كفائيا ، وإطلاق
الأمر يدفع كلا الأمرين ومع عدم الإطلاق فحيث انّ ثبوت التكليف الجامع بين الكفائي
والعيني كان متيقّنا ، فيشك في سقوطه بفعل الغير فمقتضى الاستصحاب والاشتغال عدمه
ولزوم الإتيان بالواجب.
وأما على الثاني ،
وهو ما إذا قصد التبرّع أو النيابة ، فان قلنا باعتبار القدرة في متعلّق الأمر ،
أمّا عقلا واما لكونه من مقتضيات نفس الأمر ، فلا محالة بكون الواجب هو خصوص
الحصّة المباشرية من الفعل ، فانّ فعل الغير خارج عن تحت اختيار المكلّف فلا يكون
مأمورا به ، والاجتزاء به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، وأما على المختار من عدم
اعتبار كون طبيعي المأمور به مقدورا بجميع افراده فإمكانا تعلق التكليف بالجامع
بين الفعل المباشري والصادر من قبله وان كان ممكنا ، كما هو الحال في وجوب أداء
الدين حتى بنظر العرف والعقلاء ، فكأنّ المديون ملزم بدفع الدين اما مباشرة ، واما
من قبله إلّا انّ ظاهر الأمر عرفا هو المباشرة ولذا لو قال المولى لعبده تعال ،
فلم يأت العبد بنفسه بل بعث غيره على الإتيان من قبله يعاقب على ذلك ويقال للغير
الآتي انك لم تكن مأمورا بالإتيان فلما ذا أتيت.
فمقتضى الظهور
اللفظي عدم الاجتزاء بفعل الغير.
وأما لو لم يكن
هناك إطلاق لفظي في صورة الاستنابة وكان دليل الواجب منحصرا بإجماع ونحوه ، فمقتضى
القاعدة هو الاجتزاء بفعل النائب ، فانّ المتيقّن وجوبه انما هو الجامع بين فعل
المكلّف بالمباشرة أو بالاستنابة ، وخصوصيّة المباشرة تكون اعتبارها مشكوكا ،
والأصل عدمه.
وملخّص الكلام انا
ذكرنا انّ التوصّلية والتعبّدية تستعملان بمعنيين : تارة بمعنى اعتبار قصد القربة
وعدمه ، وأخرى بمعنى اعتبار المباشرة والاختيار وإتيان العمل في ضمن الفرد المباح
وعدم اعتبار ذلك.
أما الشك في
التوصّلية بالمعنى الثاني ففيه فروع ثلاثة :
الأول : ما إذا صدر الفعل من المكلف من
دون اختياره وشك في سقوط التكليف بالفرد الغير الاختياري وعدمه ، فان قلنا بأنّ الإيجاب ليس بمعنى البعث والتحريك وانما هو
بمعنى اعتبار ما فيه الثقل على ذمّة المكلّف كاعتبار الدين ، فلا يقتضي مقدوريّة
متعلّقة ، بل يمكن تعلّقه بالطبيعي بنحو الإطلاق ولو كان بعض افراده خارجا عن تحت
اختيار المكلّف وقدرته ، ولا يلزم تقييده بخصوص الحصّة الاختياريّة ، وعليه فمقتضى
إطلاق الدليل هو الاجتزاء بالفرد الغير الاختياري ، وهكذا مقتضى الأصل العملي.
الفرع الثاني : ما إذا أتى بالواجب غير
الشخص المكلّف وشك في سقوط تكليفه بفعل الغير وعدمه ، فتارة يكون الغير آتيا بالفعل بعنوان نفسه ، وأخرى قد أتى
به من قبل المكلّف ، اما تبرعا واما نيابة ، وعلى الأول لا مجال لتوهّم سقوط
التكليف عن المكلّف أصلا ، وذلك لأنّ سقوطه عنه بذلك لا يكون إلّا بأحد وجهين ،
اما بان يكون الواجب كفائيا أو يكون مشروطا بعدم إتيان الغير بذلك العمل ، وإطلاق
الأمر ينفي كلا الأمرين.
وأما إذا لم يكن
في البين إطلاق ، فيختلف مقتضى الأصل العملي باختلاف
كيفيّة اشتراط
الواجب ، فانّ الواجب المشروط تارة : يكون مشروطا بشيء حدوثا وبقاء بان يكون حدوث
الشرط في كل آن موجبا لفعليّة التكليف في ذلك الزمان فإذا انتفى بعد ذلك تنتفي
فعليّة التكليف حين انتفاء الشرط ، وذلك كاشتراط وجوب الستر وغيره مما يعتبر في
الصلاة بالتمكن منه ففي كل زمان كان التمكن ثابتا يكون الوجوب فعليّا ، فإذا لم
يأت المكلّف بالصلاة حتى فات التمكن يسقط الوجوب عن الفعلية.
وأخرى : يكون
التكليف مشروطا بوجود الشرط في مجموع الزمان المعيّن ، بحيث لو انعدم الشرط في آخر
الوقت كشف ذلك عن عدم تحقق الوجوب من أول الأمر ، وهذا نظير اشتراط وجوب الصوم على
المرأة بان لا تحيض إلى آخر اليوم ، فإذا حاضت قبل الغروب بآن يكشف ذلك عن عدم
فعليّة وجوب الصوم عليها أصلا.
ويختلف الأصل
الجاري عند الشك في بقاء التكليف على اختلاف الكيفيّتين ، فلو شك المكلف في بقاء
التكلف عند فقدان الشرط لدوران الأمر بين كون التكليف مطلقا أو مشروطا على النحو
الأول ، فحيث انّ ثبوت التكليف الفعلي كان متيقّنا على التقديرين لكون الشرط حاصلا
سابقا فالشك يكون مجرى للاستصحاب ، فيستصحب بقاء التكليف أو يرجع إلى الاشتغال.
وأما على الثاني ،
فالمرجع هو البراءة ، لأنّ ثبوت التكليف الفعلي لم يكن متيقّنا ، لاحتمال كونه
مشروطا بشرط غير حاصل ، وهذا هو الميزان الكلّي في جريان الأصل في جميع الواجبات
المشروطة ، ومنها ما نحن فيه ، فان كان اشتراط التكليف بعدم فعل الغير المحتمل
ثبوته من قبل الأول ، ففعله غير المكلف فالمرجع في ذلك هو استصحاب بقاء التكليف
الفعلي المتيقّن سابقا ، وإلّا فالأصل هو البراءة للشك في ثبوت التكليف الفعلي.
واما لو أتى بقصد
النيابة عن المكلف والتبرع عنه ، فان كان للواجب دليل لفظي يكون منصرفا إلى الفعل
المباشري ، وإلّا فالأصل العملي يقتضي عدم تقيّد الواجب بكونه فعلا مباشريا
للمكلّف ، فانّ المقدار المتيقّن من التكليف هو المتعلّق بالجامع بين المباشرة
والاستنابة أي صدور الفعل من قبله وهذا النحو من الاعتبار موجود في الاعتبارات
العرفيّة فانه ثابت على ذمّة المديون بهذا النحو بحيث يسقط لو تبرّع عنه متبرّع ،
وفي هذا الفرض مقتضى القاعدة عدم السقوط إلّا في فرض واحد.
الفرع الثالث : ما إذا أتى المكلّف
بطبيعي الواجب في ضمن فرد محرم ، وشك في سقوط التكليف بذلك ، فتارة : يكون إيجاد الطبيعي في ضمن الفرد بحيث يكون لكل منهما
وجود مستقل غايته ثبتت بينهما الملازمة خارجا ، ومثاله ما إذا امر المولى بتعظيم
زيد ونهى عن تعظيم عمر فأوجدهما المكلف في ضمن قيام واحد. وأخرى : يكون التركيب
اتحاديا بان يكون المأمور به والمنهي عنه موجودين بوجود واحد كما في غسل الثوب
بالماء المغصوب.
وعلى الأول يبنى
الاجتزاء بالفرد المحرم على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، فعلى القول به وانّ
مجرّد إلصاق المحرم بالواجب وضمّه إليه لا يوجب منقصة في الواجب فيجتزئ به. وأما
لو قلنا بعدم جوازه وانّ النهي يسري إلى الواجب ، فيلحق الفرض بالفرض الثاني ولا
يمكن الاجتزاء فيه عن الواجب ، فانّ الفرد المبغوض يستحيل ان يكون مطلوبا للشارع
فلا محالة تخصص الفعل الطبيعي المأمور به بغير الفرد المحرم والاكتفاء بغير
المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك إلّا في بعض الموارد
التي يعلم بحصول الغرض فيها ، مثل غسل المني بالماء المغصوب ، فانّ الغرض من الغسل
انما كان هو حصول الطهارة وقد تحقّق.
واما الكلام في
التعبّدية بالمعنى الآخر فلو شككنا في واجب انه توصّلي أو
تعبّدي فهل يحكم
بتوصّليته أو لا؟ ويقع الكلام في ذلك في مقامات ثلاثة :
الأول : في مقتضى
الدليل الأول ، أعني دليل وجوب الواجب ، كدليل وجوب الخمس مثلا لو شك في توصّليته.
الثاني : في انه
هل يكون في البين عموم يقتضى كون كل واجب تعبّدي إلّا ما خرج بالتخصيص وقام الدليل
على توصّليته؟
وليعلم انّ المراد
من إطلاق دليل الواجب هو الإطلاق الموجب لتوصّلية الواجب وعدم اعتبار قصد الأمر
فيه ، وهكذا المراد من المقام الثاني وجود دليل من الخارج على انّ كل واجب توصّلي
إلّا ما خرج لا من نفس دليل الواجب.
الثالث : انه لو
لم يكن لدليل الواجب إطلاق فهل يقتضي الأصل العملي عدم تقيّد الواجب بقصد القربة
أو لا يقتضي ذلك؟
اما المقام الأول فنسب
المحقق النائيني إلى الشيخ قدسسره ـ وان لم نعثر على ذلك في كلمات الشيخ ـ انه تمسّك بإطلاق
دليل الواجب لإثبات التوصّلية بدعوى انّ الدليل لو لم يكن مقيدا بشيء لا بدّ وان
يكون مطلقا بالقياس إليه ، وأورد عليه الميرزا قدسسره بأنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة التقيّد ، لأنّ
الإطلاق متوقّف على مقدمات منها ان يكون المتكلّم في مقام البيان ، وكان متمكّنا
من التقييد ، ولم ينصب قرينة عليه ، فيستكشف من مقام الإثبات انّ الواجب مطلق
ثبوتا فإذا لم يمكن التقييد لا يبقى مجال للإطلاق أصلا.
ولكن الشيخ قدسسره ادّعى على ما نسبه إليه الميرزا قدسسره انّ استحالة التقييد تستلزم ضرورية الإطلاق.
__________________
وبالجملة عدم
إمكان التمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات التوصّلية مبتن على مقدمتين :
إحداهما : عدم
إمكان تقييد الواجب بقصد الأمر.
ثانيهما : عدم
إمكان الإطلاق ما لم يمكن التقييد.
وقد ذكروا
لاستحالة التقييد وجوها أمتنها وجهان :
أحدهما : ما أفاده
المحقق النائيني ، وتوضيحه : انّ للحكم مرحلتين ، مقام الإنشاء ومقام الفعلية ،
وفي مقام الإنشاء لا بدّ من فرض وجود الموضوع بجميع قيوده وخصوصيّاته ، وهذا هو
الشأن في جميع الأحكام المنشأة على نحو القضية الحقيقية حتى الإخبارات ، مثلا لو
أخبر أحد بأنّ بحرا من زئبق بارد بالطبع لا بدّ للحاكم من فرض وجود البحر من زئبق
ثم الحكم عليه بأنه بارد ، وهكذا في الأحكام الوضعيّة ففي مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يفرض المولى البيع ، ثم يحكم بكونه موجبا للملكية وحصول
النقل والانتقال ، وكذا الحال في الأحكام التكليفيّة ، فإذا حكم المولى بوجوب حج
البيت لا بدّ له من فرض وجوده ثم الحكم بوجوب الحج إليه.
فما لا بدّ منه في
مقام الإنشاء ليس إلّا فرض وجود الموضوع ، وامّا وجوده حقيقة فغير معتبر في مقام
إنشاء الحكم أصلا ، ولذا يمكن إنشاء وجوب الحج قبل وجود البيت ، ويجوز إنشاء وجوب
الصلاة عند الزوال قبل تحقق الزوال ، وهكذا فإذا شكّ في ثبوت الإنشاء وارتفاعه
بالنسخ يتمسك بإطلاق الدليل ويحكم ببقائه.
وأما مرحلة
الفعليّة فمتوقّفة على فعليّة الموضوع ووجوده حقيقة بما له من القيود والخصوصيات ،
فما لم يتحقق الزوال لا يكون وجوب الصلاة عنده فعليّا ،
__________________
وما لم يوجد البيت
لا يكون وجوب حجّه فعليّا ، وما لم يتحقق البيع لا يكون النقل والانتقال فعليّا ،
وهكذا ، ولا يتحقّق ذلك بفرض وجود الموضوع أصلا ، وهذا هو مراد الشيخ الرئيس من ان
الموضوع في القضايا الحقيقية ما صدق عليه عنوانه بالفعل ، وتخلّف أحد المقامين عن
الآخر لا بأس به على ما اخترناه من انّ حقيقة الوجوب ليس إلّا الاعتبار ، إذ لا
مانع من اعتبار الدين بعد سنة على ذمة المكلّف.
ونظير ذلك باب
الوصيّة ، فالموصي يوصي بماله لزيد بعد موته ، فيعتبر المال فعلا ملكا له بعد
مماته وهكذا يأمر ابنه فعلا بدفنه في المحل الخاصّ بعد وفاته ، وسيأتي تفصيل
الكلام فيه في بحث الواجب المشروط.
هذا كله في موضوع
الحكم.
واما متعلقه فنفس
متعلّق التكليف لا يعقل ان يجعل مفروض الوجود في مقام التكليف ، وكيف يمكن ذلك مع
انه هو المطلوب إيجاده ، ومع فرض وجوده هل يكون طلبه إلّا من قبيل تحصيل الحاصل.
واما قيود
المتعلّق فيمكن ان تجعل مفروضة الوجود ، كما في وجوب الوفاء بالنذر ، فانّ النذر
بحسب التفاهم العرفي قد جعل مفروض التحقق في الأمر بالوفاء به ، ويمكن ان يتعلّق
به الطلب أيضا كما في وجوب الصلاة مع الطهارة ، فانّ الطهارة أيضا واجبة التحصيل.
هذا إذا كان القيد
اختياريا ، واما لو لم يكن اختياريا ، فدائما لا بدّ وان يكون مفروض الوجود في
مقام إنشاء التكليف ، ولا بدّ وان يكون فعليّا عند فعليّة التكليف.
إذا عرفت هذه
الكبرى الكلّية فنقول في تطبيقها على المقام : انه لو قيّد الواجب بقصد الأمر فنفس
المأمور به كالصلاة مثلا مقدور للمكلّف ، والقصد أيضا بنفسه مقدور ، واما الأمر
فهو غير مقدور له ، لأنه فعل المولى ، فلا بدّ في مقام
الإنشاء من فرض
وجوده ثم الأمر بالعمل المقيد به ، وفي مرحلة الفعليّة انما يصير الأمر به فعليّا
بعد فعليّة الأمر ، فيلزم تأخّر الشيء عن نفسه ، وهو محال.
وبما بيّناه ظهر
انه لا مجال لما ذكره بعض الأساطين ردّا على كلام النائيني قدسسره ، من انّ التكليف انما يتوقّف على فرض وجود الموضوع لا
وجوده الخارجي ، إذ عرفت انّ فرض الموضوع انما يكتفى به في مقام الإنشاء لا
الفعليّة.
وفيه : انّ أخذ
الموضوع والقيود المعتبرة فيه ، أو في المتعلّق مفروض الوجود في مقام الحكم وتوقّف
فعليّته على فعليّتها انما يكون في موردين.
أحدهما : ان يكون
الظهور اللفظي مقتضيا لذلك كما في موارد القضايا الشرطيّة ، فلو قال المولى «ان
نمت فتوضّأ» فظاهره ثبوت التالي على تقدير تحقّق المقدّم.
ثانيهما : ان يكون
البرهان العقلي قائما على ذلك بان يكون التكليف من دون ثبوت القيد تكليفا بما لا
يطاق ، فانّ العقل حينئذ يحكم بكون ذلك القيد مفروض الوجود في مقام الحكم ، لقبح
التكليف بغير المقدور ، كما لو أمر المولى بالصلاة إلى القبلة ، فانّ وجود القبلة
لا بدّ وان يكون مفروض الوجود في ذلك ، وهكذا فيما لو أمر بالصلاة عند الزوال ، إذ
المكلّف غير قادر على إيجاد القبلة أو إيجاد الزوال ، فلا محالة يكون التكليف
مشروطا بتحقّقه.
وأما في غير ذلك
فلا دليل على اعتبار كون الموضوع وقيوده مفروض الوجود وتأخر الحكم عنها أصلا ، ومن
ثم فرقنا في مسألة اللباس المشكوك بين التكاليف الوجوبيّة والتحريميّة ، وذكرنا
انّ التكليف التحريمي يمكن ان يكون فعليّا قبل فعليّة موضوعه ، مثلا لا تشرب الخمر
فعلي وان لم يكن خمر في الخارج ، ولا يتوقّف فعليّة حرمته على ان يوجد خمر خارجا ،
بل يكون شرب الخمر حراما قبل تحقّق الخمر من قبيل التكليف المعلّق ، فانّ الظهور
العرفي يساعد على ذلك في
المحرمات دون
الواجبات. ويمكن امتثال التكليف بترك مقدّمات شرب الخمر من إيجاد الخمر ونحوه ،
فالتكليف به من دون وجود الموضوع ليس تكليفا بغير المقدور فيصح ذلك.
إذا عرفت هذا
فنقول : فيما نحن فيه يكون التكليف على الفرض متعلّقا بإتيان العمل بقصد الأمر ،
كالأمر بالصلاة بقصد الأمر ، ففي مقام الإنشاء يتمكّن المولى من لحاظ الصلاة ومن
لحاظ قصد الأمر وإنشاء وجوب الصلاة بقصد الأمر ، والمكلّف بعد إنشاء ذلك يكون
قادرا على إتيان العمل كالصلاة بداعي الأمر أعني المنشأ والمعتبر لا الإنشاء الّذي
ليس إلّا مجرد اللفظ ، لأنّ الأمر بذلك يصير فعليّا لو كان المكلف جامعا لشرائط
التكليف من البلوغ والعقل ونحوه ، وان لم يكن الأمر فعلا اختياريا للعبد ولم يدل
دليل على اشتراط فعليّة التكليف بفعليّة الأمر ليلزم تأخّر الشيء عن نفسه.
وبالجملة فكأنّ
المولى أمر بجزءين ، بالصلاة وبإتيانها بقصد الأمر ، وهذا الأمر بمجرّد تحققه مع
كون المكلف جامعا للشرائط يصير فعليّا ، فيتمكّن المكلّف من امتثاله.
فما أفاده المحقق
النائيني قدسسره وان كان متينا ، إلّا انه مختص بموردين كما ذكرناه ، ولا
يجري في المقام ، فهذا الوجه غير تام.
الوجه الثاني :
لاستحالة تقييد الأمر بقصد الأمر ما أفاده بعض أعاظم مشايخنا قدسسره ، وحاصله : انّ المراد بقصد الأمر كون الأمر داعيا للمكلف
ومحركا له على الإتيان بمتعلّقه ، فإذا امر المولى بشيء من غير ان يأخذ فيه قصد
الأمر لا محالة يكون الأمر داعيا له نحو العمل ، وأما إذا أخذ قصد الأمر أيضا في
المأمور به فالأمر بقصد الأمر انما يدعو إلى داعوية نفسه ويحرّك نحو محرّكية نفسه
، وهذا مستحيل كاستحالة سببية الشيء لسببيّة نفسه ، وعلّية الشيء لعلّية نفسه ،
فانّ السبب موجود
في الخارج والمسبب
كذلك ، واما السببيّة التي هي أمر انتزاعي فهي ذاتية للسبب وليست مجعولة ، ولا
معنى لأن يكون الشيء علّة لعلّية نفسه ، كما لا يعقل ان يكون الشيء علّة لنفسه ،
انتهى.
وفيه : انّ المراد
بقصد الأمر ان يجعل المكلّف داعيه نحو العمل وغرضه منه امتثال أمر المولى لا سائر
الدواعي النفسانيّة ، فانّ الفعل لا يصدر من العاقل الملتفت بغير غرض وداعي ، فقصد
الأمر فعل جوانحي فإذا أمر المولى بالصلاة مثلا بقصد الأمر فلا محالة ينحل ذلك
الأمر الواحد إلى أمرين ضمنيّين ، ويتعلّق حصّة منه بذات العمل وحصّة أخرى بقصد
الأمر ، كما هو الشأن في جميع موارد تعلق الأمر بالمركبات الخارجيّة.
نعم فرق بينهما
وبين ما نحن فيه ، فانّ الأمر بالمركّب الخارجي يكون عرضيا من حيث اجزائه ، بخلاف
الأمر بإتيان الفعل بقصد الأمر فانه طولي لا من حيث تعلّق الأمر ، بل من حيث انّ
مجرد الإتيان بذات العمل بقصد أمره الضمني يوجب امتثال الأمر بقصد الأمر أيضا ،
فيسقط ذلك الأمر.
وهذا بخلاف الأمر
بالمركب الخارجي ، فانّ الإتيان بكل جزء من إجزاءه لا يكون امتثالا للأمر إلّا إذا
انضم إليه بقيّة الأجزاء.
إذا عرفت هذا
ففيما نحن فيه بحسب اللب والواقع يكون امران ضمنيّان.
أحدهما : متعلّق
بذات العمل ، والآخر : بإتيانه بقصد الأمر الضمني المتعلّق به. فالأمر الثاني انما
يدعو إلى داعوية الأمر الأول لا إلى داعوية نفسه ليلزم المحذور ، وان شئت فقل :
انّ إحدى الحصّتين تدعوا إلى داعوية الحصّة الأخرى ، فلا محذور.
وبالجملة : عمدة
الوجوه المذكورة لاستحالة أخذ قصد الأمر في المتعلق أمور أربعة :
أولها : ما تقدم
عن المحقق النائيني قدسسره.
ثانيها : ما أفاده
بعض مشايخنا المحقّقين قدسسرهم ، من انّ كلّ أمر يدعو إلى ما تعلّق به ذاتا ، فإذا فرضنا
تعلّقه بالعمل بقصد الأمر فلازمه داعويّته إلى داعوية نفسه ، وهو محال.
ثالثها : ما في
الكفاية ، وحاصله : انّ المأمور به انما هو قصد الأمر الحقيقي لا التشريعي ، فانه
لا معنى للأمر بالتشريع الّذي هو قبيح عقلا وشرعا ، وقصد الأمر الحقيقي انما
يتمكّن منه المكلّف لو تعلّق أمر بذات العمل ، والمفروض انّ الأمر لم يتعلّق بذات
العمل وانما تعلّق به مقيدا بقصد الأمر ، فيكون تكليفا بما لا يطاق.
رابعها : ما أفاده
بعض أعاظم مشايخنا قدسسرهم ، ووضّحه بعض الأساطين من أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق
وان لم يكن مستلزما للدور لعدم ثبوت التوقّف فيه من الطرفين ، وانما التوقّف في
ذلك يكون من طرف واحد كما هو واضح ، وليس في البين تأثير وتأثّر ، ولكن لازم ذلك
هو الخلف ، وذلك لأنّ لازم الأمر بالعمل المقيد بقصد الأمر هو تعلّق الأمر بذات
العمل لأن لا يكون التكليف تكليفا بغير المقدور.
ومعنى الأمر
بالعمل المقيّد بقصد الأمر ان ذات العمل لا يكون مأمورا به ، وهذا خلف ظاهر.
وهذه الوجوه
الأربعة عمدة ما ذكر في المقام.
والجواب عن جميعها
يظهر بالانحلال ، وتوضيح ذلك ببيان مقدّمة ، وهي :
انا نرى بالوجدان
انّ غرضنا تارة : يتعلّق بذات العمل كما لو عطش المولى فأراد الماء ليشربه ، وأخرى
: يتعلّق الغرض بحصّة خاصّة من العمل ، وأعني العبادة والخضوع وإتيان العمل بقصد
الأمر ، فيكون في مقام أمره مظهرا لمولويّته وعبوديّة عبيده ، وحينئذ لا يسقط غرضه
بإتيان العمل كيف ما اتفق ، وفي عالم الاعتبار أيضا لا مانع من اعتبار الفعل في
ذمّة العبد مطلقا ، ولا مانع من اعتباره بعنوان الخضوع
والعبوديّة ، وفي
مرحلة الإبراز يمكن ان يبرز اعتبار العمل بنحو الإطلاق ، كما يمكن ان يبرز اعتباره
على النحو الخاصّ ، فجميع هذه المراحل الثلاثة ممكنة ، فلا يبقى ما يوهم استحالة
أخذ قصد الأمر في متعلّقه الا الأمور المتقدمة ، وكلها تندفع بما فصلناه في مبحث
الأقل والأكثر من انّ الأمر بالمركب التحليلي العقلي أي بالمقيد ينحل إلى أمرين :
الأمر بذات المقيد ، وأمر بتقيده ، كما ينحل الأمر بالمركب الخارجي.
اما إشكال دعوة
الأمر إلى داعوية نفسه ، فلأنه على الانحلال يكون هناك امران ضمنيان : امر بذات
العمل ، وامر آخر بإتيانه بداعي أمره الضمني ، والأمر الثاني يكون في طول الأمر
الأول ، أي ناظرا إليه ، فيدعو إلى داعوية ذلك الأمر لا داعوية نفسه ليلزم
المحذور.
وبعبارة أخرى :
الأمر الضمني المتعلّق بذات العمل كان بحسب ذاته قابلا للداعوية ، والأمر الضمني
الثاني يدعو إلى داعويته الفعليّة.
واما إشكال عدم
قدرة المكلف على الامتثال فإنّا قد ذكرنا مرارا انّ القدرة المعتبرة في صحّة
التكليف انما هي القدرة حين العمل لا حين الأمر ، وعلى الانحلال يكون المكلّف
قادرا على إتيان الفعل بقصد أمره الضمني حين الامتثال.
واما إيراد الخلف
فكذلك مندفع على ما بيّناه ، لأنّ ما لا بدّ منه انما هو تعلّق الأمر الضمني بذات
العمل في مقام فعليّة التكليف ، ولا يلزم من الأمر بالمقيد انتفائه ، وامّا في
مقام إنشاء الأمر بالمقيّد بقصد الأمر فلا يعتبر إلّا تصور الأمر ولحاظه لا وجوده
الخارجي ، والتصوّر سهل المئونة.
هذا كله في
المقدّمة الأولى.
واما المقدّمة
الثانية : وهي كون استحالة التقييد موجبة لاستحالة الإطلاق ،
فهي أيضا ممنوعة ،
إذ لا منشأ لها سوى ما ذكره المحقق النائيني من انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة
، وقد أفاد في بيان ذلك مقدّمة حاصلها : انّ لكلّ من موضوع التكليف ومتعلّقه
انقسامات سابقة ينقسم إليه مع قطع النّظر عن ورود شرع وشريعة ، كانقسام المكلّف
إلى الأبيض والأسود ، وإلى الطويل والقصير ، إلى غير ذلك ، وانقسام المشي إلى
البطيء والسريع ، وانقسامات لا حقة لا ينقسم إليها الموضوع أو المتعلّق إلّا بعد
ثبوت الحكم وتحقّقه ، كانقسام المكلّف إلى العالم بالحكم والجاهل به ، وإهمال
الحكم ثبوتا بالنسبة إلى الانقسامات الأولية مستحيل ، إذ لا معنى لأن يكون الحاكم
الملتفت إلى تلك الانقسامات جاهلا بما تعلّق به حكمه أو بما رتب حكمه عليه ، فلا
مناص فيه من الإطلاق أو التقييد ، نعم إثباتا يمكن الإهمال وان لا يبيّن المولى
موضوع حكمه أو متعلّقه.
وامّا بالقياس إلى
الانقسامات الثانوية ، فالإهمال ضروري ، ويستحيل كل من الإطلاق والتقييد ، اما
استحالة التقييد فلما مر من لزوم الدور وتقدم الشيء على نفسه ، واما استحالة
الإطلاق فلأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فانّ الإطلاق انما هو بمعنى
عدم التقييد فيما شأنه ذلك ، فإذا لم يكن للتقييد شأنيّة في مورد فلا مجال فيه
لعدم تقييد ما من شأنه ذلك وانقسام المأمور به إلى ما يقصد به الأمر وما لا يقصد
من الانقسامات الثانوية المتفرّعة على تحقق الأمر.
هذا ونقول : ما
أفاده في استحالة إهمال الحكم من حيث الانقسامات الأولية بعينه يجري في الإهمال
بالقياس إلى الانقسامات الثانوية ، فانه لا يعقل ان يكون الحاكم الملتفت إلى
انقسام متعلّق حكمه ولو في مقام العمل ـ لا في مقام جعل الحكم ـ ان يكون جاهلا بما
اراده أو رتّب عليه حكمه ، فانه من قبيل ان يكون الحاكم طالبا
__________________
للمجهول المطلق ،
فيدور الأمر حينئذ بين الإطلاق والتقييد ، فإذا استحال أحدهما يتعيّن الآخر.
وما أفاده من انّ
تقابل الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة وان كان صحيحا من حيث الصغرى إلّا
انّ الكبرى التي أفادها غير تامّة ، وذلك لأنّ الشأنيّة وان كانت معتبرة في العدم
والملكة إلّا انها ليست هي الشأنيّة الشخصية ، بل هي أعم من الشأنية بحسب الصنف أو
النوع أو الجنس ، ومن ثم يتّصف العقرب بالعمى مع انه بحسب نوعه غير قابل لأن يبصر
، فالمصحح لذلك ، انما هو شأنيته بحسب جنسه وجهل البارئ مستحيل ، فعلمه ضروري وعلم
الإنسان بكنه البارئ وبحقائق أغلب الأمور ممتنع ، فيكون جهله بها ضروري ، والسر ما
ذكرناه.
وعليه ففي المقام
تقييد المأمور به بخصوص الإتيان به بقصد الأمر وان كان مستحيلا إلّا انه حيث يكون
قابلا للتقييد بنوع القيود فإذا استحال تقيّده بقيد خاص لا محالة يكون مطلقا
بالقياس إليه بعد ما بيّناه من استحالة الإهمال ، أو مقيدا بضده وقصد الأمر في
الصلاة إذا امتنع تقييد الصلاة به مثلا ، فيدور الأمر بين تقييدها بعدمه أو
إطلاقها ، وحيث انّ الأول مقطوع العدم ، فيتعين الثاني ويحرم بالإطلاق لا محالة.
فتحصل انه على
تقدير تسليم المقدمة الأولى ، فالمقدمة الثانية ممنوعة.
وقد حكى انّ الشيخ
قدسسره ، كان يتمسّك بهذا الإطلاق.
ولا يخفى انّ
الإطلاق المدعى انما هو الإطلاق الثبوتي ، أعني المنكشف ، لا الإطلاق في مقام
الكاشف والإثبات ليقال انه لا أثر لهذا الإطلاق. وعدم التقييد الّذي يكون منشؤه
عدم تمكن المولى من التقييد ، فانّ ذلك انما يكون في الإطلاق الإثباتي ، فانّ من
مقدّماته ان يكون المولى في مقام البيان وقادرا على التقييد ، فإذا لم يقيد يكون
ذلك الإطلاق كاشفا عن إطلاق المراد. واما الإطلاق في مرحلة
الثبوت فيترتّب
عليه الأثر بعد إثبات استحالة الإهمال واستحالة التقييد ، فيجزم بأنّ المراد
الواقعي مطلق ويترتب عليه الأثر.
ثم ليعلم انّ كلتا
المقدّمتين المذكورتين في الاستدلال ممنوعتان ، ويترتب على إنكار كل منهما ثبوت
إطلاق ، إلّا انّ النتيجة تختلف على إنكار كل منهما. فان أنكرنا المقدمة الأولى
وذهبنا إلى جواز تقييد الأمر بقصد الأمر يترتب عليه جواز التمسك بالإطلاق اللفظي
في مقام الإثبات ، فيمكن ان يقال : انّ المولى كان في مقام البيان وكان متمكّنا من
التقييد ومع ذلك أطلق ولم يقيد امره بالصلاة بقصد الأمر ، فيتمسك بإطلاق كلامه
ويثبت به إطلاق المراد الواقعي ، وهذا بخلاف ما إذا سلمنا تلك المقدمة وأبطلنا
المقدمة الثانية ، وقلنا انّ استحالة التقييد لا تستدعي استحالة الإطلاق ، فانه
عليه لا يمكن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات ، بل يكون المرجع في ذلك عند الشك
هو الأصل العملي.
ولكن بعد إثبات
استحالة الإهمال النّفس الأمري ثبوتا يدور الأمر بين ان يكون الحكم مقيدا بضد ذلك
القيد أو مطلقا ، فإذا علم بعدم تقييده بذلك يقطع ثبوت الإطلاق النّفس الأمري ،
وعلى هذا المسلك يلزم ان تكون جميع الواجبات توصّلية إلّا ما دل الدليل الخاصّ على
تعبّديته.
هذا كله في أخذ
قصد الأمر.
وامّا الكلام في
بقيّة الدواعي القربية من قصد المصلحة أو المحبوبية أو أهلية المولى وأمثالها ،
فذكروا انّ أخذها في المأمور به وان كان ممكنا إلّا انا نقطع بعدم أخذ شيء منها في
العبادات ، وإلّا للزم عدم جواز الاقتصار على قصد الأمر فيها ، وهو بديهي الفساد ،
فلا يحتمل دخل تلك الأمور فيها ليمكن التمسك لدفعه بالإطلاق.
وفيه : ان دخل كل
من هذه الأمور بشخصه وان كان مقطوع العدم ، إلّا انه يحتمل ان يكون الجامع بينها
وبين قصد الأمر ـ ونعبر عنه بالإضافة إلى المولى ، أو
بالقربة ـ دخيلا
في المأمور به ، وأخذ ذلك في المأمور به ممكن بناء على الانحلال ، ولو سلمنا جميع
الإيرادات المتقدمة الواردة على أخذ قصد الأمر وذهبنا إلى استحالته ، حينئذ يتمسك
بإطلاق كلام المولى بعد كونه قادرا على ان يأخذ جامع القربة في متعلق أمره ويحكم
بعدم دخله فيه ، فهذا أيضا من طرق تصحيح التمسك بالإطلاق في المقام.
فنلخص من جميع ما
ذكر انه :
أولا : ننكر
المقدّمة الأولى ثم ننكر المقدّمة الثانية ، وعلى تقدير التنزل على ذلك نتمسّك
بالإطلاق من حيث عدم اعتبار المولى جامع القربة في متعلّق تكليفه مع تمكنه من ذلك
، ومع التنزل عن هذا أيضا نقول : لا بدّ وان يكون مائز بين التعبّديات والتوصّليات
، وليس المائز بينهما حكم العقل كما نبيّنه إن شاء الله تعالى ، بل المائز حينئذ
لا بدّ وان يكون بالأمر الثاني أي بتعدّد الأمر ، وتفصيل ذلك : انّ الأمرين تارة :
يكون كل منهما ناشئا عن غرض مستقل بحيث يكون هناك بعثان مستقلّان ، ولكل منهما
إطاعة مستقلّة وعصيان مستقل ، يمكن إطاعتهما ، ويمكن عصيانهما ، ويمكن إطاعة
أحدهما وعصيان الآخر ، وذلك كما لو نذر المكلّف بإتيان المكتوبة في أول وقتها أو
في المسجد أو مع الجماعة ، فانّ أصل الصلاة حينئذ تكون واجبا ، وإتيانها على النحو
الخاصّ يكون واجبا آخر ثبت وجوبه بإلزام المكلف ذلك على نفسه بالنذر ، ولكل منهما
إطاعة وعصيان.
ويمكن تصوير ذلك
في قصد القربة أيضا كما لو نذر المكلّف ان يغسل بدنه للصلاة مضافا به إلى المولى
وحينئذ يكون وجوب إضافة الغسل إلى المولى وجوب مستقل ناشئ عن غرض مستقل.
وأخرى : يكون كلا
الأمرين ناشئين من غرض واحد ، كما في الأوامر المتعلّقة باجزاء الواجب وشرائطه ،
فانّ الأمر الثاني حينئذ يكون ناشئا من عين
الغرض الموجب
للأمر الأول ، مثلا قوله عليهالسلام «صلّ إلى القبلة»
بعد قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وحينئذ يكون الأمر الثاني إرشادا إلى اعتبار الاستقبال
في المأمور به بالأمر الأول. وليس هذا الإرشاد إرشادا إلى حكم العقل لينافي
المولويّة ، بل يكون المرشد إليه فيه امرا مولويّا كما لا يخفى.
إذا عرفت القسمين
فنقول : تعدّد الأمر في قصد القربة لا يمكن ان يكون من قبيل الأول بان يكون الأمر
بنفس العمل ناشئا من غرض مستقل ، والأمر بإتيانه بقصد القربة ناشئا من غرض آخر ،
بداهة عدم سقوط الأمر بإتيان العبادة بلا قصد القربة ولكانت من قبيل تعدد المطلوب
للزم سقوطه بذلك كما عرفت في باب النذر ، كما لا يمكن ان يكون من قبيل الثاني ،
لأنّ المانع عن أخذ قصد الأمر لم يكن مانعا إثباتيا ليندفع بتعدد الأمر بل كان المانع
ثبوتيا ، فثبوتا كان اعتبار وجوب المقيّد بقصد الأمر مستحيلا ، فكيف تعقل ان يكون
الأمر الثاني إرشادا إلى دخل قصد الأمر في الواجب ، ولا معنى لأن يعتبر وجوب ذات
العمل ابتداء ثم يعتبر اعتبار قصد الأمر فيه ، فيبرز ذلك ، فلا بدّ وان يكون الأمر
الثاني في المقام ناشئا من شخص الغرض الأول ، ولكن يكون إرشادا إلى بيان متعلّق
غرضه ، وانّ غرضه سنخ غرض لا يسقط إلّا بإتيان العمل بقصد الأمر.
ومن الواضح انه
إذا ثبت تقيد الغرض فيكون الحكم باقيا ما لم يؤتى بمتعلّقه ، فانّ الحكم حدوثا
وبقاء يتبع الغرض ، وهذا الأمر الثاني هو الّذي عبّر عنه المحقق النائيني قدسسره بنتيجة التقييد ، فإذا أمكن ذلك وكان المولى في مقام بيان
غرضه ، ولم يبيّن ذلك نتمسّك بالإطلاق المقامي ، ويستكشف منه عدم تقيد متعلق غرضه
بقصد الأمر.
__________________
ولا يذهب عليك
الفرق بين هذا الإطلاق والإطلاق الثابت بناء على إنكار المقدّمة الأولى وهي
استحالة تقييد المأمور به قصد الأمر ، فانّ الإطلاق هناك لفظي ، وفي المقام حالي
ومقامي كما لا يخفى.
وبالجملة بناء على
القول بإمكان أخذ قصد الأمر أو الجامع في متعلّق الأمر الأول لا إشكال في التمسك
بالإطلاق ، وهكذا بناء على ان يكون المائز بين التعبّديات والتوصّليات هو تعدد
الأمر غايته انّ الإطلاق على الأول لفظي وعلى الثاني مقامي ، ولذا يعبّر عنه
بنتيجة الإطلاق.
واما على القول
بعدم إمكان كلا الأمرين وكون المائز بين العبادات والتوصّليات حكم العقل من ناحية الغرض
، فلا معنى للرجوع إلى الإطلاق ، إذ عليه يكون اعتبار قصد القربة امرا واقعيّا لا
أمرا اعتبره الشارع في متعلّق تكليفه ، فلا محالة تصل النوبة إلى الأصل العملي ،
وذهب في الكفاية إلى انه هو الاشتغال ، فيقع البحث في ذلك.
ولا يخفى عدم
اختصاص وصول النوبة إلى الأصل العملي بهذا الفرض ، بل تصل النوبة إليه على الفرضين
الأولين ، مع إمكان ثبوت الإطلاق فيهما ، وذلك من جهة انّ الأوامر الواردة في
العبادات أغلبها لا يكون في مقام البيان من حيث الاجزاء وانما هي في مقام التشريع
والإهمال ، فالبحث عن مقتضى الأصل العملي يجري على جميع الفروض.
اما على الفرض
الأول ، فيكون المقام من صغريات الأقل والأكثر الارتباطيين ، وقد اخترنا فيه
الرجوع إلى البراءة لا الاشتغال.
واما على الفرض
الثاني ، فالرجوع إلى البراءة يكون أوضح ، فانه في الفرض الأول ، أي فرض وحدة
الأمر ربما يجري إشكال يتوهّم منه الرجوع إلى الاشتغال ، من حيث عدم انحلال العلم
الإجمالي بدعوى انّ المتيقّن من مورد التكليف هو الأقل
بنحو الإهمال أو
الإطلاق ، وانما العلم الإجمالي متعلّق بالأقل لشرط لا أو الأكثر بشرط شيء ، وهما
متباينان ، فلا انحلال لتجري البراءة عن الأكثر ، ونحن وان أجبنا عن هذه الشبهة في
محلّه ، إلّا انها غير جارية في فرض تعدد الأمر أصلا ، إذ عليه يكون تعلّق التكليف
بالأقل متيقّنا ، اما بنحو الإطلاق أو الإهمال ، ويكون تعلّق التكليف الثاني
مشكوكا فيه بالشك البدوي ، فتجري عنه البراءة بلا إشكال.
واما على الفرض
الثالث ، فالبراءة الشرعيّة غير جارية لاختصاص أدلتها كقوله عليهالسلام : «رفع ما لا يعلمون» بما يكون قابلا للوضع والرفع ، واعتبار قصد القربة في
متعلّق الأمر محال على الفرض ، ودخله في الفرض امر واقعي أجنبي عن اعتبار الشارع
فإذا لم يكن قابلا للوضع الشرعي لا يكون قابلا للرفع أيضا. واما البراءة العقلية
وهي «قبح العقاب بلا بيان» ، فهي جارية فيه ، وذلك لأن العبد وان كان في غاية
الانقياد لمولاه ، لا يتحرّك إلّا عن تحريك المولى ، فإذا لم يكن في البين بعث
وتحريك لا يكون هناك ملزم له على الانبعاث ، فيحكم العقل فيه بقبح العقاب بلا
بيان. وبعبارة أخرى : لا اختصاص للبراءة العقلية بباب التكاليف ، بل تجري في
الأغراض أيضا.
نعم يبقى إشكال ،
وهو انه إذا لم يكن البيان ممكنا ، فكيف يجري قبح العقاب بلا بيان؟! والجواب عنه :
أولا : انه لا وجه
لاعتبار التمكن من البيان في ذلك ، ولذا لو كان المولى في السجن وممنوعا عن التكلم
واحتملنا تعلّق غرضه بشيء تجري البراءة عن ذلك ولا يكون العبد ملزما بإتيان ما
احتمل تعلق غرض المولى به.
وثانيا : في
المقام يمكن للمولى البيان ولو بالأخبار ، وعليه فلا تصل النوبة إلى
__________________
حكم العقل
بالاشتغال أصلا.
فتحصل من جميع ما
ذكر انه يمكن أخذ قصد الأمر في المتعلّق ، وعلى فرض التنزل لا مانع من أخذ قصد
القربة الجامع بين قصد الأمر وقصد سائر الدواعي القربية فيه ، وعلى ذلك فلو كان
المولى في مقام البيان يتمسك بالإطلاق ، وينفي احتمال اعتبار قصد الأمر في المأمور
به ، ولو لم يحرز كونه في مقام البيان فيرجع إلى أصالة البراءة على المختار في
الأقل والأكثر الارتباطيين ، فانّ المقام من صغرياته.
بل نترقى عن ذلك
ونقول : لو تنزّلنا عن ما ذكروا ، قلنا بأنّ اعتبار قصد القربة ليس بأمر الشارع ،
وانما هو من ناحية دخله في غرض المولى ، فالبراءة الشرعية حينئذ وان لم تكن جارية
، لأنّ الرفع انما يكون فيما يكون امر وضعه بيد الشارع ، إلّا انّ البراءة العقلية
وهي قبح العقاب بلا بيان جارية في ذلك ، فانه لا اختصاص للأصول العملية بالتكاليف
، بل تجري في الأغراض أيضا ، فيقال : انّ دخل قصد الأمر في غرض المولى غير معلوم ،
وكان المولى في مقام البيان ولم يبيّن ذلك ، فيجري فيه قبح العقاب بلا بيان. فعلى
جميع التقادير لا تصل النوبة إلى الاشتغال.
ثم انه قد دلّ
الدليل على عدم سقوط الأمر في بعض الواجبات بالإتيان بمجرّد العمل من دون إضافة
إلى المولى ، كالصلاة والصوم ونحوه ، فيستفاد من ذلك اعتبار قصد القربة فيها ، كما
ورد الدليل على سقوط التكليف في بعض الموارد من دون حاجة إلى قصد القربة.
وهناك واجبات لم
يعلم اعتبار قصد القربة فيها ، ولا عدم اعتباره ، فهل يوجد دليل عام يستفاد منه تعبّدية
كل واجب إلّا ما خرج بالدليل أو لا؟
وقد استدل على
الأول بوجوه :
الوجه الأول :
الوجه العقلي ، وهو أمتن الوجوه ، وحاصله : انّ الأمر فعل
اختياري للمولى
فلا بدّ وان يكون صادرا عن غرض وغاية ، فانّ الفعل لا يصدر عن العاقل الملتفت بلا
غرض ، ومن الواضح انّ الغرض من الأمر ليس إلّا حصول الفعل خارجا ولا يعقل ان يكون
الغرض منه خصوص الحصّة من الفعل الصادرة بغير داعي الأمر ، فان ذلك أجنبي عن الأمر
فكيف يعقل ان يكون هو الغرض منه ، كما لا يعقل ان يكون الغرض حصول مطلق الفعل لعين
هذا البيان ، فينحصر ان يكون الغرض من الأمر خصوص الفعل الصادر بداعي ذلك الأمر
وغرض المولى يجب تحصيله.
والجواب عنه بمنع
الكبرى والصغرى.
اما منع الكبرى ،
فلأنّا ولو سلمنا انّ الغرض من الأمر هو حصول الفعل كذلك ، إلّا انه لا يحكم العقل
بلزوم تحصيل غرض المولى من فعله وما يستقل به العقل الحاكم في باب الإطاعة ، وانما
هو امتثال تكاليف المولى لا تحصيل كل غرض يريده من فعله ، ولذا لا يعتبر قصد
القربة في النواهي ولا في الواجبات التوصّلية مع انّ هذا البيان يجري فيها.
وامّا منع الصغرى
بعد تسليم الكبرى فلأنّ الغرض من الشيء هو العلّة الغائية المتقدّمة على الشيء تصوّرا
والمتأخرة عنه خارجا ، المترتبة عليه ، ومن الواضح انّ حصول الغرض لا يترتّب على
الأمر به غالبا لكثرة العصاة وقلّة المطيعين ، فليس الغرض من الأمر ذلك لتجري فيه
الشقوق الثلاثة المذكورة ، بل الغرض من الأمر ليس إلّا إيجاد ما يمكن ان يكون
داعيا للمكلف أو زاجرا له ، وهذا الغرض يترتب على الأمر لا محالة سواء أطاع المكلف
أو عصى من غير فرق بين التوصّليات والتعبّديات ، وهو أجنبي عن التعبّدية فالمولى
لمصلحة راجعة إلى نفسه كما في الموالي العرفية أو إلى عبيده كما في الشارع يوجد ما
يمكن ان يكون محركا للمكلف ان لم يكن له محرك من نفسه ، أو زاجرا عنه ان كان له
داعي نحو الفعل في
نفسه.
وبهذا البيان
يندفع إشكال اللغوية في أمر العصاة وتكليفهم ، وفي النهي عما يتنفّر عنه الطباع
كأكل القاذورات مثلا ، فان الفائدة والغرض المراد من الأمر والنهي ليس إلّا إمكان
الداعويّة والزاجريّة ، وهي موجودة فيها.
نعم يبقى إشكال
آخر ، وهو انّ إمكان الداعويّة أو الزاجريّة انما يتعلّق به الغرض طريقيا ، وأي
فائدة يترتب على إيجاد ما يمكن ان يكون زاجرا عن شيء يتنفّر عنه طبع المكلف في
نفسه؟!
والجواب عنه هو
انّ فائدته تمكن المكلف من إضافة عمله حينئذ إلى المولى ، وبه يحصل له التقرب
وكمال النّفس ، وهو الغرض الوحيد من التشريع.
الوجه الثاني :
مما استدل به على أصالة التعبّدية قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) ، فانّ ظاهر الآية هو الحصر ، فيستفاد منها انّ جميع
الأوامر تعبّدية إلّا ما خرج بالدليل.
وفيه : أولا : انّ
تفسير الآية بهذا المعنى يستلزم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، فانّ الواجبات أكثرها
توصّلية خصوصا الواجبات النظامية المعروفة ، بخلاف العبادات فانها منحصرة في
الأمور المعدودة المعروفة ، فلا بدّ وان نفسّر الآية بمعنى لا يلزم منه التخصيص
المستهجن وان لم نعرف نحن ذلك المعنى.
وثانيا : انّ
الآية أجنبيّة عن التعبّدية رأسا بقرينة صدرها وذيلها كقوله عزّ شأنه : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) إلى آخر الآيات ، فظاهرها التعريض على أهل الكتاب الذين
تفرّقوا وابتدعوا البدع من عبادة علمائهم ورهبانهم والسجود إلى قبور أنبيائهم إلى
غير ذلك ، فكأنه سبحانه
__________________
يقول هم ما أمروا
بذلك وانما أمروا بان يعبدوا الله مخلصين ، فهي أجنبية عن ما نحن فيه.
الوجه الثالث :
ممّا استدل به ما ورد من انّ الأعمال بالنيّات ، ولا عمل إلّا بنيّة ، فانّ ذلك
بالحكومة يدل على انّ العمل الغير المشتمل على النيّة ـ أي القربة ـ ليس بعمل.
وفيه : أولا : ما
تقدم من استلزامه التخصيص المستهجن.
وثانيا : انّ
النيّة لغة انما هي بمعنى قصد الفعل ، فظاهر الروايات هو انّ روح العمل يكون بقصد
الفاعل ، فانّ الفعل الصادر عن الفاعل لا يكون حسنا بالذات ، وليس الفعل كالعناوين
مثل الظلم والعدل ليكون حسنا ذاتا أو قبيحا كذلك.
فربما يكون صدور
الفعلين المتضادّين حسنا من شخصين باختلاف قصدهما ، كما لو فرضنا انّ أحدا رفع
الحجر من الطريق لأن لا يعثر به أحد ، وأرجعه الآخر إلى مكانه بقصد ان يراه
المحتاج ويأخذه إذا أراد ، فكلا الفعلين يكون حسنا.
فالمراد بهذه
الأخبار هو انّ روح العمل هو القصد ، فإذا كان القصد حسنا فالفعل الصادر بذلك
القصد يكون حسنا لأنّه من آثاره. وهكذا العكس ، فضرب اليتيم بقصد التأديب حسن كما
انّ عين ذلك الضرب بقصد التشفي قبيح.
هذا على انه قد
ورد ما يظهر منه تفسير هذه الأخبار في باب الجهاد من انّ المجاهد إذا قصد بخروجه
وجه الله يكون أجره على الله ، وان خرج بقصد تحصيل المال فأجره هو المال ، وهذا
معنى قوله عليهالسلام : «انما الأعمال بالنيّات».
فتحصل : انه لا
دليل على أصالة التعبّدية في الواجبات ، بل مقتضى الإطلاق والأصل العملي هو
التوصّلية على ما عرفت.
المقام الرابع
في دلالة الأمر على النفسيّة والتعيّنيّة والعينيّة
إذا علمنا بوجوب
شيء وشككنا في كونه نفسيّا أو غيريّا ، أو في كونه تعيّنيّا أو تخييريّا ، أو في
كونه عينيّا أو كفائيّا ، فالبحث عما يقتضيه الأصل العملي ينحصر بما إذا كان دليل
الواجب لبيا ، أو كان مجملا فيما إذا كان لفظيّا.
والبحث عن مقتضى
الأصل العملي بالنسبة إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير أو دورانه بين
العينيّة والكفائية موكول إلى أواخر مبحث البراءة ، وبالنسبة إلى دوران الأمر بين
النفسيّة والغيريّة موكول إلى بحث مقدّمة الواجب. فالكلام فعلا فيما يقتضيه الأصل
اللفظي أعني إطلاق الدليل.
وقد ذكر المحقق
الخراسانيّ وغيره انّ مقتضى ذلك هو النفسيّة والعينية والتعينية ،
بدعوى : انّ ما يحتاج إلى المئونة الزائدة انما هو الغيرية والتخيرية والكفائية ،
فإذا كان الآمر في مقام البيان وكان متمكّنا من نصب القرينة على التقييد ولم يفعل
يتحقق الإطلاق ، وبتبعية مقام الإثبات للثبوت طبعا كما عليه بناء العقلاء أيضا
يحكم بإطلاق المراد الواقعي.
هذا وقد نوقش في
ذلك بأنّ تبعية الإثبات لمقام الثبوت انما يكون فيما إذا كان
__________________
الإطلاق الواقعي
محتملا كما في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) ، فانه نحتمل ان يكون مطلق البيع حلالا ونافذا ، واما إذا
تيقنا بعدم الإطلاق في المراد الواقعي فلا أثر حينئذ للإطلاق اللفظي أصلا ، كما لو
فرضنا انا نعلم بأنّ الإطلاق غير مراد في الآية وانما المراد منها اما خصوص البيع
المشتمل على العقد العربي ، أو خصوص المشتمل على العقد الفارسي ، فلا يمكن التمسك
بإطلاق الآية ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ كلا من العدلين يكون قسيما للآخر
ومقيدا بخصوصية مغايرة لما قيد به الأول ، مثلا الوجوب النفسيّ هو الوجوب الّذي لم
يكن مترشحا من الغير ، وفي قباله الوجوب الغيري ما يكون مترشحا من وجوب شيء آخر ،
كما انّ الوجوب التعييني ما تكون الخصوصية معتبرة في متعلقه ، بخلاف التخييري فانه
الوجوب الّذي ليس لخصوصية متعلّقه دخل فيه ، وانما هو متعلّق بالجامع ، وهكذا
الكلام في التعيني والكفائي.
وعليه فالمراد
الواقعي لا بدّ وان يكون مقيدا بإحدى الخصوصيّتين ، ولا معنى حينئذ للإطلاق
الإثباتي والتمسّك به.
هذا والجواب عن
الشبهة هو : انا إذا أجرينا الإطلاق وتمسكنا به في نفس المشكوك لكان ما ذكر تاما ،
إلّا انا انما نتمسك بالإطلاق في ملزوم مشكوكنا ثم نثبت لازمه وهو المشكوك أيضا
بنحو الأصل المثبت فانّ الأصول اللفظية مثبتاتها حجة ، ويثبت بها لوازمها العقلية
وملزوماتها أيضا إذا كانت متساوية.
بيان ذلك : هو انّ
لازم عدم ترشح الوجوب من الغير هو لزوم الإتيان بالواجب على المكلف ، كان هناك
وجوب آخر أم لم يكن ، كما انّ لازم الوجوب التعييني هو لزوم الإتيان لمتعلّقه على
المكلف ، أتى بشيء آخر أم لم يأت ، ولازم
__________________
الوجوب العيني هو
لزوم الإتيان بالمأمور به سواء أتى به شخص آخر أم لم يأت ، فمقتضى إطلاق دليل
الواجب في مدلوله الالتزامي هو ذلك لا اللزوم على تقدير خاص دون تقدير ، فإذا ثبت
هذا اللازم يثبت ملزومه أيضا ، وهو كون الوجوب نفسيا وعينيا وتعينيا لأنه ملزومه
المساوي لما ذكرنا انّ الأصول اللفظية حجة في مداليلها الالتزامية ولا تنحصر
حجيّتها بمداليلها المطابقية.
المقام الخامس
في دلالة الأمر عقيب الحظر
إذا ورد امر عقيب
الحظر أو توهّمه ، فسواء قلنا بأنّ الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب ، أو قلنا بأنها
موضوعة لإيقاع النسبة ، أو قلنا بكونها موضوعة لإبراز الاعتبار النفسانيّ ، وسواء
قلنا بأنها ظاهرة في الوجوب وضعا ، أو انصرافا ، أو قلنا بأنّ الوجوب يكون بحكم
العقل من جهة عدم ثبوت الترخيص. وعلى جميع هذه التقادير لا يستفاد الوجوب منه
حينئذ ، لأنّ ورودها في مقام الحظر صالح لأن يكون قرينة صارفة لها عن معناها ، فلا
يستفاد منها الوجوب ، كما لا يستفاد منها الإباحة بمعناها الخاصّ بل تكون مجملة ،
نعم يمكن إثبات الإباحة حينئذ بأصالة الإباحة التي هي من الأصول العملية.
وهكذا الكلام في
النهي الوارد عقيب الأمر أو في مقام توهّم الوجوب ، فلا يستفاد منه الحرمة ولا
الإباحة.
المقام السادس
في دلالة الأمر على المرة أو التكرار
تارة : يراد من
المرّة الفرد ومن التكرار الافراد ، وأخرى : يراد من المرة الدفعة ومن التكرار
الدفعات ، وربما يتحد المعنيان خارجا فيما إذا لم يكن للواجب افراد عرضية ،
كالصلاة فانه لا يمكن إيجاد افراد منها دفعة واحدة ، فالتكرار فيها من حيث الافراد
لا بدّ وان يكون بالتكرار بحسب الدفعات.
ثم انّ الفرق بين
مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو بالفرد وبين هذا البحث بناء على إرادة الفرد من
المرّة والافراد من التكرار غير خفي. فانّ البحث في تلك المسألة انما هو عن دخل
الخصوصيات الفردية وعدمه في متعلق الأمر ، وفي المقام يكون البحث عن انّ متعلق
الأمر هل هو وجود واحد أو وجودات؟
كما انّ الفرق بين
القول بالتكرار والقول بالانحلال لا يكاد يخفى. فانّ معنى الانحلال ان يكون الحكم
الواحد لفظا منحلا بعدد افراد موضوعه ، امّا بالظهور اللفظي كما في موارد العمومات
مثل ان يقول المولى «أكرم كل عالم» ، واما بالقرينة الخارجية كما في قوله تعالى: (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فانه غير مشتمل على أداة العموم إلّا انه حيث لا معنى
لحلّية بيع ما لا بدّ وان يكون الموضوع كل فرد من افراد البيع ، وعلى كل تقدير
التكرار في موارد الانحلال انما يكون في نفس الحكم ، وهذا
__________________
بخلاف التكرار في
المقام فانه يكون في متعلق الحكم.
وكيف كان البحث في
المقام تارة يقع عما يقتضيه الإطلاق اللفظي ، وأخرى : عما يقتضيه الأصل العملي.
اما ما يقتضيه
الإطلاق اللفظي أي فيما إذا كان المولى في مقام البيان فتحقيق الكلام فيه انا مهما
نشك في مادة الأمر أو في مواد هيئة المشتقّات ، فلا نشك في انها مشتركة مع مواد
سائر المشتقات ، كما لا نشك أيضا في عدم دخل شيء من المرة والتكرار في مادة غير
صيغة الأمر من المشتقات ، ولذا لو قيل «زيد أكرم عالما» لا يعلم منه انّ إكرامه
كان دفعة واحدة أو دفعات ، أو انه أوجد فردا من الإكرام أو أتى منه بافراد ، وهكذا
لا نشك في انّ كل من المرة والتكرار أجنبي عن مفاد الهيئة على جميع الأقوال ،
وعليه فمفاد الصيغة ليس إلّا طلب الطبيعي والبعث نحوه ، ويمكن إيجاده مرة واحدة أو
مرات ، إلّا انه من الخارج معلوم انه لا يمكن الامتثال عقيب الامتثال.
فلو أتى المكلف
بطبيعي المأمور به بما له من القيود والخصوصيات دفعة واحدة فقد سقط التكليف ،
وإلّا لزم الخلف ، ولا يبقى مجال للامتثال الثاني بعد فرض سقوط الأمر ، وما ورد في
تكرار الصلاة جماعة أجنبي عما نحن فيه كما سنبيّنه في بحث الأجزاء.
وامّا ما ذكر
المحقق الخراسانيّ من بقاء الغرض الأقصى وإمكان الامتثال عقيب الأمثال من تلك
الجهة.
ففيه : ما لا يخفى
فإنّا لسنا بمكلّفين بتحصيل الغرض الأصلي ، وانما يلزمنا الخروج عن عهدة تكاليف
المولى وتحصيل المصلحة المترتبة على المأمور به ،
__________________
فالتكرار من حيث
الافراد الطوليّة لا يمكن لهذه الجهة.
واما ما تقتضيه
الأصول العمليّة ، فهو انه لو لم يكن المولى في مقام البيان وأمر بشيء وشككنا في
تقيد المأمور به بكل من المرة والتكرار فمقتضى الأصل العملي عدم كونه بشرط لا عن
الزيادة ، وعدم كونه بشرط شيء بالإضافة إلى التكرار ، وعليه فالاقتصار على المرة
جائز ، كما انّ الإتيان بأكثر من المرة أيضا لا يكون مضرّا بالامتثال.
المقام السابع
في دلالة الأمر على الفور أو التراخي
والكلام فيه تارة
: يقع من حيث دلالة دليل الوجوب أو الندب على ذلك ، أو دلالة دليل آخر عليه.
وأخرى : في انه
على الفور لو أخل به فهل يجب الإتيان به بعد ذلك أم لا؟
وثالثة : في انه
على ذلك هل يجب الإتيان به فورا ففورا أم لا؟ فهنا مقامات ثلاثة :
أما المقام الأول
: فالصيغة لا دلالة لها على الفور أصلا ، لما عرفت من انّ مادتها مشتركة مع مواد
بقية المشتقات ، وهيئتها لا تدلّ إلّا على الإبراز ونحوه.
نعم ربما يستفاد
الفور من قرينة خارجيّة ، كما لو علمنا بأنّ المولى عطشان وأمرنا بإحضار الماء ،
فانّ القرينة حينئذ دالة على الفور.
واما استفادة ذلك
من دليل خاص فربما يستدل عليه بقوله عزّ شأنه : (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ).
وقد أورد عليه في
الكفاية بأنه لا يستفاد من الأمر الوارد في الآيتين
__________________
الوجوب ، إذ لو
كان الفور والمسارعة لازما لكان التحذير عن استتباع تركه الغضب والشر أنسب.
ونقول : ما هو
المراد من كلامه؟ فان أراد من ذلك انه لا بدّ في بيان الوجوب من ان يكون ذلك
بالتحذير لا بصيغة افعل ، فهو مضافا إلى فساده جار في جميع الواجبات.
وان أراد به انّ
الأمر في خصوص الآيتين له خصوصيّة وهي تعلّقها بالمغفرة والخير ، فيستفاد منها انه
عند ترك المسارعة أيضا يكون العمل خيرا فليس هناك غضب وشر ، ولا معنى لثبوت الخير
عند ترك الواجب ، فلا بدّ وان لا يكون الأمر فيهما للوجوب.
ففيه : انّ هذا
انما يتم لو كان وجوب الفور بنحو وحدة المطلوب بان لا يكون ذات العمل خيرا ، واما
ان كان بنحو تعدد المطلوب كما هو الظاهر من الآية فلا مانع من كون المسارعة واجبة
وكون الإتيان بذات العمل مع التراخي أيضا مغفرة وخيرا.
ثم أورد عليه ثانيا : بأنّ الأمر بالمسارعة والاستباق لا بد وان يحمل
على الإرشاد لاستقلال العقل بحسب ذلك كالأمر بالإطاعة.
وفيه : انّ ملاك
الحمل على الإرشاد انما هو عدم إمكان الحمل على المولويّة لا مجرد الحسن العقلي ،
ولذا ترى ثبوت الأمر المولوي في كثير من الموارد التي استقل العقل فيها بالحسن
كوجوب أداء الدين ، وهكذا يثبت النهي المولوي في مورد استقلال العقل بالقبح كحرمة القتل
من غير حق ، وفي باب الإطاعة لا يعقل ثبوت الأمر المولوي.
__________________
ثم أورد عليه
ثالثا : بأنّ الأمر يدور بين رفع اليد عن ظهور الأمر في الآيتين في الوجوب وحمله
على الاستحباب وبين تخصيصه لغير المستحبات ، فانّ الفور غير لازم فيها ، ولازمه
التخصيص المستهجن ، ولا ريب في انّ الأول لو لم يكن أولى ليس بأدون من الثاني.
وهذا الإشكال وارد
جدا.
ولكن التحقيق :
انّ آية المسارعة أجنبيّة عن الفور بالكلّية ، فانّ المغفرة انما هي فعل الرب ولا
معنى للمسارعة إليها الا بالمسارعة إلى مقدماتها وأسبابها ، وليس إتيان كل واجب أو
مستحب سببا للمغفرة إلّا بعض الأعمال الخاصّة التي ثبت فيها ذلك بالدليل كزيارة
الحسين عليهالسلام. فما هو سبب المغفرة انما هو الندم والتوبة ، فالمراد من
المغفرة ذلك ومن الأمر وجوب المسارعة إليها.
المقام الثاني :
على فرض تسليم الفور فوجوب الإتيان بذات العمل إذا لم يؤت به فورا وعدمه مبني على
كون وجوب الفور بنحو وحدة الطلب وتعدده ، فان كان من قبيل الأول فلا يجب الإتيان
به ثانيا ، لأنّ المقيد يزول بزوال قيده ، وامّا ان كان من قبيل الثاني فيجب ذلك ،
لأنّ عصيان أحد الخطابين لا يستدعي سقوط الخطاب الآخر.
ثم انه لو استفدنا
وجوب الفور من نفس دليل الواجب ، فيكون ذلك بنحو وحدة المطلوب. واما لو استفدناه
من الآيتين يكون بنحو تعدد المطلوب ، لا لمجرد كون الدليل المقيد منفصلا ، فانّ
التقييد المنفصل كالمتصل في ظهوره في وحدة المطلوب وهو كاشف عن تقيد المطلوب بذلك
القيد من أول الأمر ، بل لخصوصية في الآيتين وهي ما تقدم من انّ تعليق المسارعة
إلى المغفرة والاستباق إلى الخيرات ظاهر في ثبوت الخير مع عدم المسارعة أيضا ، ولا
يتم ذلك إلّا على تعدد المطلوب ، فعليه يجب الإتيان بذات العمل وان لم يأت به
فورا.
وأما المقام
الثالث : وهو وجوب الإتيان به فورا ففورا فهو مما لا دليل عليه أصلا لا من الصيغة
ولا من الخارج ، وكون الفور من قبيل الواجب في واجب وتعدد المطلوب لا يستلزم الفور
ففورا كما تخيله في الكفاية.
نعم ربما يتوهّم
انّ نفس آية المسارعة والاستباق يدل على ذلك ، لأنّ الإتيان بالزمان الثاني مسارعة
بالإضافة إلى الإتيان في الزمان الثالث ، وهكذا.
والجواب عنه واضح
، فانّ المسارعة لا تصدق عرفا إذا لم يؤت بالشيء في أول وقته العرفي ، مثلا لو أدى
المديون دينه بعد سنة ، فهو وان كان مسارعا فيه بالإضافة إلى ردّه بعد سنتين إلّا
انه لا يقال عرفا سارع في أداء دينه ، وهكذا لو صلّى قبل ساعة من آخر وقتها.
وبعبارة أخرى :
ظاهر المسارعة هو المسارعة بقول مطلق لا المسارعة الإضافية ، وهي لا تتحقق إلّا
بإتيان العمل في أول وقته عرفا ، فلا دليل على مسألة فورا ففورا أصلا.
المقام الثامن
في الاجزاء
وقع الكلام في
الأجزاء وانّ الإتيان بالمأمور به على ما ينبغي بما له من القيود المعتبرة فيه
عقلا أو شرعا يقتضي سقوط امره أم لا؟
ولا يخفى انّ
البحث عن ذلك بهذا المعنى لا وجه له أصلا ، فانّ سقوط الأمر بالإتيان بمتعلّقه
كذلك ، فمما لا ريب فيه ومعه لا يبقى مجال للقول بعدم الاجزاء والإتيان بالمأمور
به ثانيا لا إعادة ولا قضاء.
والأمر في القضاء
أوضح ، لأنه فرع الفوت بل هو استدراك ما فات ، وفي المقام على الفرض لم يفت من
المكلف شيء ليتدارك خارج الوقت.
نعم يمكن البحث عن
انّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري أو بالأمر الاضطراري يقتضي الاجزاء عن
الأمر الواقعي لكونه وافيا بالغرض الواقعي والمصلحة الواقعيّة أو لا يقتضي ذلك
لعدم وفائه بهما؟
والفرق بين هذه
المسألة ومسألة التكرار ، وتبعيّة القضاء للأداء واضح ، فانّ البحث عن المرة
والتكرار بحث عن مدلول الدليل ، وفيما نحن فيه يكون البحث عن وفاء المأتي به
بالغرض أو المصلحة ، نعم يتّحد التكرار مع عدم الاجزاء بحسب النتيجة لكن بملاكين ،
كما هو واضح.
والبحث عن تبعيّة
القضاء للأداء وعدمها انما هو عن كون وجوب الواجب في
الوقت بنحو وحدة
المطلوب الّذي لازمه احتياج الوجوب في خارج الوقت إلى دليل آخر ، أو بنحو تعدد
المطلوب لأن لا يحتاج إلى ذلك ، وعليه فلا جامع بين المسألتين أصلا.
ثم ليعلم امران :
الأول : انّ القول
بالاجزاء يتوقّف على ان لا يكون لدليل الواجب الواقعي إطلاق يقتضي بقاء الوجوب حتى
بعد الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري ، وإلّا فلا مجال
للاجزاء لقصور المقتضي من أول الأمر.
الثاني : انّ
القول بعدم الاجتزاء يبتني على ان لا يكون للأمر الظاهري أو الاضطراري إطلاق
يستفاد منه البدليّة المطلقة وكون متعلّقه وافيا بالغرض الواقعي ، وإلّا فلا مجال للقول
بالاجزاء أيضا ، وعليه فعمدة البحث عن المقام مبتن على هذين الأمرين ، وانّ
المستفاد من الدليل بحسب الفهم العرفي أي منهما.
وبالجملة : لا
يعقل النزاع في اجزاء الإتيان بالمأمور به الواقعي بما له من الخصوصيات عن الأمر
الواقعي فانّ الاجزاء حينئذ يكون ضروريا ، وهكذا اجزاء المأمور به الظاهري أو
الاضطراري عن أمره.
نعم يمكن النزاع
في اجزاء الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري عن الأمر الواقعي
، وعليه فيكون الفرق بين مسألتنا ومسألة التكرار أو تبعيّة القضاء للأداء واضح ،
فانّ البحث في تلك المسألة انما هو عما يستفاد من الدليل من المرّة والتكرار ،
وفيما نحن فيه بعد وضوح مدلول الدليل يبحث عن وفاء المأمور به الاضطراري أو
الظاهري بالغرض والمصلحة الواقعية وعدمه ، وفي مسألة تبعيّة القضاء للأداء يبحث عن
كفاية الأمر الأول في وجوب العمل في خارج الوقت بعد فوت الواقع في الوقت ، فلا
جامع بين هذه المسائل ليبحث عن وجه الفرق بينهما.
نعم بعد وضوح
اجزاء الإتيان بالمأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي وجواز الاكتفاء به يبقى
الكلام في جواز تبديل الامتثال ، وانه هل يمكن ذلك أو انّ الاجزاء والاكتفاء
بالامتثال الأول واجب؟
وقد ذكرنا في بحث
المرّة والتكرار انه لا يعقل جواز تبديل الامتثال ، لأنه بعد الامتثال الأول ان
كان الأمر باقيا فالامتثال الثاني واجب ، وان سقط الأمر فلا معنى للامتثال الثاني.
وما ذكره في
الكفاية من المثال العرفي وجواز تبديل الامتثال فيه لبقاء الغرض
ففيه:
أولا : انّ الغرض
من فعل المأمور به ليس إلّا ما يترتّب عليه من تمكّن المولى من رفع عطشه من تلك
الناحية في المثال ، وليس الغرض منه رفع العطش ، وهو حاصل بمجرد الإتيان بالماء.
وثانيا : انّ بقاء
الغرض بعد الامتثال على فرض تسليمه انّما يتصوّر في الموالي العرفية فيما إذا كان
الغرض من الأمر مصلحة عائدة إلى الأمر فيمكن القول ببقاء الفرض ما لم يستوف الأمر
مصلحته وان امتثل العبد ، وهذا بخلاف المولى الحقيقي فانّ المصلحة في موارد امره
انما تكون عائدة إلى المكلفين ، وتحصل لا محالة بمجرد الامتثال.
وامّا الموارد
التي توهم فيها ذلك في الشريعة كإعادة صلاة الآيات ما دامت الآية باقية ، واستحباب
إعادة الصلاة جماعة إذا صلى المكلف منفردا ، أو صلى إماما وطلب منه الإمامة ثانيا
، أو صلى مأموما فأريد منه ان يصلى بهم إماما ، فلا بد من حملها على أحد وجهين على
سبيل منع الخلو.
__________________
اما على استحباب
الصلاة الثانية كما هو المتيقّن في إعادة صلاة الآيات ، وامّا على كون الثانية
قضائية لما فات منه يقينا أو احتمالا ، والروايات الواردة في إعادة الفريضة في
الموارد المذكورة قابلة الانطباق على ذلك ، فانّ في بعضها ذكر عنوان الفريضة فقط ،
وفي بعضها صرّح بعنوان القضاء ، فيكون ذلك مبيّنا لما أريد من الفريضة في غيرها ،
وامّا ما ورد في بعضها من انّ الله يختار له أحبهما فانما هو في مقام الاحتساب
والكتابة في الديوان ، ولا مانع من ان يكتب غير الفريضة مكان الفريضة تفضلا إذا
كانت أكمل كما يكتب عمل المغتاب لكن في ديوان المغتاب ـ بالفتح ـ وبالجملة ليس في
الروايات ظهور في كون الإعادة من باب تبديل الامتثال أصلا. ثم لا يتوهّم انّ
الجماعة غير مشروعة في الصلوات المستحبة ، فان ذلك انما هو في المستحبات الذاتيّة
لا العرضية إذا قام الدليل على مشروعيتها فيها.
إذا عرفت ذلك ،
فلنشرع في المطلب ، ويقع البحث في مقامين :
الأول : في اجزاء
الاضطراري عن الواقع.
الثاني : في اجزاء
الظاهري عن الواقع.
وفي المقام الأول
: يقع الكلام في موردين :
أحدهما : في
الاجزاء من حيث القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت.
الثاني : في
الاجزاء من حيث الأداء.
اما المورد الأول
: فالظاهر هو الاجزاء ، وقد وقع التسالم عليه ، والوجه فيه هو انّ القضاء لو كان
تابعا لفوت الفريضة الواقعية ففيما نحن فيه لم تفت الفريضة من المضطر ، لأنّ
فريضته انما كان الوظيفة العذرية وغيرها لم تكن فريضة عليه كما يستفاد ذلك من
الأدلة ، فانّ ظاهر قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا) انّ
__________________
الوضوء فريضة على
الواجد دون غيره.
وان كان تابعا
لفوت ملاك الواقع فهو في المقام مشكوك فيه ، إذا يحتمل كون المأمور به الاضطراري
وافيا بتمام ملاك الواقع ومصلحته ، فموضوع وجوب القضاء غير محرز. هذا مضافا إلى
انّ ظاهر الأدلة الاضطرارية وفاء متعلقاتها بتمام الغرض بالإضافة إلى المضطر كما
عرفت.
هذا كلّه في
المورد الأول.
وأما المورد
الثاني : وهو اجزاء الاضطراري عن الأمر الواقعي بالإضافة إلى الأداء فيما إذا
ارتفع العذر في الوقت ، فبالنسبة إلى خصوص التقية قد ورد الدليل عليه ، بل على
أفضليّته. وامّا النزاع في ذلك بالنسبة إلى بقية الاعذار فهو مبتن على القول بجواز
البدار الّذي هو فرع فقهي ، فانه على القول بعدم جواز البدار لا معنى للبحث عن
الاجزاء ، إذ البحث عن ذلك انما هو في اجزاء المأمور به ، وعلى القول بعدم جواز
البدار لا يكون المأتي به مصداقا للمأمور به أصلا حتى يبحث عن كونه مجزيا عن
الواقع أو غير مجز.
نعم على القول
بجواز ذلك يبحث عن الأجزاء إذا زال العذر والوقت باق.
وذهب السيد في
العروة إلى جواز البدار في خصوص التيمّم ، تمسّكا بالرواية
الظاهرة في ذلك دون غيره ، وذهب بعض إلى جواز البدار في غير التيمم من العبادات ،
تقديما لما ورد في عدم جواز البدار في خصوص التيمم.
والتحقيق : انّ
مقتضى القاعدة عدم جواز البدار ، لأنّ الأمر إذا تعلق بإيجاد الطبيعي بين المبدأ
والمنتهى فان كان جميع افراده الطولية متساوية الإقدام من حيث الوجدان للاجزاء
والشرائط وفقدانه لها فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين جميع
__________________
الأفراد.
وأما إذا لم تكن
جميع الأفراد متساوية ، كما إذا فرضنا انّ بعض افراد الطبيعي كان فاقدا لبعض ما
اعتبر في المأمور به دون بعض ، فلا يحكم العقل حينئذ بالتخيير الا بين خصوص
الافراد الواجدة ، فلا يكون غيرها مأمورا به أصلا ، مثلا لو فرضنا انّ المكلّف غير
قادر على الصلاة الواجدة لما اعتبر فيها في ساعة من آخر النهار ، فلا محالة يتقيّد
المأمور به بالنسبة إليه إلى غير ذاك الحد ، وهكذا من حيث المبدأ ، فإذا فرض انّ
المكلّف عاجز عن الطهارة المائية مقدار من أول الزوال ، ولكنه تمكن منها في وسط
الوقت فيتعيّن المأمور به في ما يؤتي به في ذاك الوقت ، فلا يكون غيره مأمورا به ،
وهذا معنى عدم جواز البدار ، فجوازه لا بدّ وان يكون مستندا إلى أحد أمور ثلاثة :
اما ان يدل دليل
خاص على ذلك ، فيكون جواز البدار حينئذ جوازا واقعيّا ، كما في التيمم والصلاة عن
جلوس لمقتضى ظاهر قوله عليهالسلام : «إذا قوي فليقم» .
وأما ان يطمئنّ
المكلف ببقاء العذر واستمراره إلى آخر الوقت ، فيكون جواز البدار حينئذ بحكم العقل
واعتقاديا.
واما ان يشك
المكلف في استمرار عذره ، فيستصحب ذلك ، فيكون جواز البدار حينئذ ظاهريا بحكم
الاستصحاب.
اما ما كان جواز
البدار فيه من قبيل الثالث ثم ارتفع العذر في أثناء الوقت وانكشف الخلاف فلا إشكال
في خروجه عما نحن فيه ، إذ عليه بانكشاف الخلاف يعلم انه لم يكن مضطرا ، وما أتى
به لم يكن مأمورا به بالأمر الاضطراري ، وانما كان مأمورا به بالأمر الظاهري ،
فيكون داخلا في المسألة الآتية.
__________________
وامّا لو كان
المستند في جواز البدار الاطمئنان وكان من قبيل القسم الثاني ، فلا إشكال حينئذ في
عدم الاجزاء وخروج ذلك عن مورد النزاع ، لأنّ ما أتى به لم يكن مأمورا به واقعا
أصلا ، وانما اعتقد وتخيّل كونه مأمورا به ، فلا وجه فيه للاجزاء.
واما فيما كان
مستند الجواز الدليل الخاصّ وكان جواز البدار واقعيا ، ففي خصوص الصلاة اليومية
التي دل الدليل من الإجماع وغيره على عدم وجوب كل من الصلوات الخمس في اليوم
والليلة إلّا مرة واحدة يحكم بالاجزاء ، وذلك لأنه إذا قام الدليل على جواز البدار
وان احتمل زوال العذر كاشف عن انّ وظيفة المضطر ما لم يرتفع اضطراره انما هو الأمر
الاضطراري واقعا وزوال العذر يكون من قبيل تبدل العنوان ، نظير ما إذا صار المسافر
حاضرا في أثناء الوقت ، فلو أتى المضطر بوظيفته في أول الوقت فقد سقط تكليفه وليس
عليه الإعادة بعد ذلك.
وهذا معنى الاجزاء
، إلّا انه مختص بالصلوات اليوميّة ، مما دلّ الدليل على عدم وجوب أزيد من خمس
صلوات على المكلف في كل يوم وليلة.
واما في غيرها مما
يحتمل فيه ثبوت التكليف الواقعي بعد زوال العذر ، إذا لم يكن المأتي به الفاقد
لبعض الاجزاء أو الشرائط اضطرارا وافيا بتمام المصلحة الملزمة فلا يجري ذلك.
والصحيح فيه انّ
كلا من الاجزاء وعدمه ممكن فيه ثبوتا ، إذ لا مانع من ان يكون المأمور به
الاضطراري وافيا بتمام المصلحة الواقعية فيجزي ، كما يمكن ان لا يكون وافيا
بتمامها ويبقى منها بمقدار ملزم فيجب استيفائها إذا ارتفع العذر ، واما في مقام
الإثبات ، فان كان للأمر الاضطراري إطلاق من حيث عدم لزوم الإعادة فيما إذا ارتفع
العذر في أثناء الوقت ، ولو بترك الاستفصال فيتمسك به ويحكم بالاجزاء ، واما لو لم
يكن لذاك الدليل إطلاق فتصل النوبة إلى الأصل العملي وهو البراءة لأنّ
الشك انما هو في
حدوث تكليف جديد بعد زوال العذر ، إذ التكليف الثابت بنحو الطلاق قد امتثل وسقط
بذلك ، ودليل تقيّده بالقيد الفاقد انما كان يقيده به في حال التمكّن دون حال
الاضطرار ، فلا يكون وافيا لإثبات التكليف بعد زوال العذر ، وعليه فبعد الاضطرار
يكون الشك في حدوث تكليف آخر ، والأصل هو البراءة عنه.
ونمثل لذلك مثالا
عرفيا ، وهو ما إذا امر المولى عبيده بان يأتوه في يوم الجمعة ، ثم أمرهم بان يلبس
كل منهم العمامة حال مجيئه إلّا من لم يكن متمكّنا من ذلك فانه يأتي بلا عمامة ،
فإذا فرضنا انّ بعضهم لم يكن متمكّنا فأتاه بلا عمامة ، ثم زال عذره وتمكن ، فهل
يمكن توهم وجوب الإتيان عليه ثانيا بنفس ذاك الأمر الأول؟! والمقام من هذا القبيل.
ثم لا يخفى انه لا
ينتقض ما ذكرنا بما إذا عجّز المكلف نفسه اختيارا فأتى بما هو وظيفة العاجز ثم زال
عذره ولم يقل أحد فيه بالاجزاء ، وذلك لأنّ أدلة الاضطرار كقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) لا يعم إلّا العاجز بطبعه دون من عجّز نفسه اختيارا ،
فأدلة الاضطرار غير شامل لمثل ذلك.
وفي العرف لو امر
المولى عبده بضيافة أحد فقال له ان كنت متمكّنا فأطعمه طبيخا وإلّا فتمّنا ، فإذا
كان العبد قادرا على الأول وكان عنده ما يلزم طبخ التمن ولكن أتلفه اختيارا ،
فأطعم الضيف الخبز لا يكون عرفا ممتثلا.
هذا كلّه في أجزاء
الأمر الاضطراري عن الواقع.
المقام الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري
عن الواقعي.
كما إذا فرضنا انّ
الأمارة قامت على عدم وجوب السورة في الصلاة فأتى بها
__________________
المكلف بلا سورة ،
ثم انكشف الخلاف ، اما في الوقت واما في خارجه ، فهل يكتفي بما أتى به أم لا؟
وانكشاف الخلاف
تارة : يكون قطعيا ، وأخرى : يكون بأمارة أخرى أقوى كما في تبدل رأي المجتهد مثلا
، فالكلام يقع في موردين :
المورد الأول : في ما لو انكشف الخلاف
قطعا.
وقد ادّعى الإجماع
على عدم الاجزاء في الفرض ، بل جعل القول بالاجزاء فيه من فروع القول بالتصويب
المجمع على بطلانه.
والإنصاف : انّ ما
ذكره من عدم الاجزاء في غاية المتانة من غير فرق بين موارد الشبهة الحكمية كما في
المثال المتقدم ، وبين موارد الشبهة الموضوعيّة كما لو قامت البيّنة على طهارة ثوب
فصلّى فيه ثم انكشف مخالفتها للواقع. وذلك لأنه لو فرضنا بقاء الواقع على حاله
وعدم انقلابه بقيام الأمارة على خلافه ـ بناء على ما هو الحق من الطريقية أو
المصلحة السلوكية ـ فسقوطه لا يكون إلّا بأحد أمرين :
امّا الإتيان بما
هو المأمور به واقعا ، وامّا بقيام الدليل على الاجتزاء بغيره عنه ، وكلاهما مفقود
في المقام ، فالقول بالأجزاء فيما نحن فيه في موارد الشبهات الحكمية مستلزم
للتصويب واختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها.
وأما في الشبهات
الموضوعيّة ، فأخذ العلم في موضوعات الأحكام بان يكون معلوم البولية نجسا أو معلوم
الخمرية حراما ، وان كان في نفسه ممكنا ، وعليه فيمكن القول بالأجزاء في موارد
الشبهات الموضوعيّة ، إلّا انه يدفع ذلك امران :
أحدهما ـ انّ ظاهر
الأدلة ثبوت الأحكام للعناوين الواقعية من غير دخل لعلم المكلف وجهله فيها ، فنفس
البول نجس لا ما علم بوليّته.
ثانيهما ـ انّ
دليل حجّية الأمارة وارد على نهج واحد ، فاما ان يستفاد منه الطريقية مطلقا ، أو
يستفاد منه السببية مطلقا ، والتفصيل لا وجه له.
وبعبارة أخرى :
القول بالأجزاء فيها ان كان من جهة أخذ العلم في الموضوعات فيدفعه إطلاقات الأدلة
، وان كان من جهة قيام الأمارة ففيه : انّ لسان دليل حجّيتها لسان واحد ، فلا معنى
لأن يدل على الطريقيّة في بعض الموارد ، وعلى السببية في بعضها.
هذا كلّه فيما إذا
كان مستند الحكم الظاهري هو الأمارة.
واما ان كان
مستنده الأصل العملي ، فهل يجري فيه ما تقدّم أم لا؟
ظاهر الكفاية هو التفصيل ، ولنقدّم أولا ما أفاده في وجه ذلك ثم نذكر ما
فيه ، وحاصل ما أفاد : ان الأمارة تكون ناظرة إلى وجود الواقع في باب الاجزاء والشرائط
أو عدمه كما في موارد الموانع ، فمفاد الأمارة القائمة على طهارة الثوب مثلا هو
الاخبار عن الطهارة الواقعية بحيث لو انكشف الخلاف يستكشف انه لم يكن هناك شيء
أصلا بل كان المخبر مخطئا في اخباره ، وهذا بخلاف الأصل العملي ، فانّ مفاده جعل
الحكم بعنوان الشاك نظير جعل الأحكام الواقعية على موضوعاتها النّفس الأمرية ،
فكأنه هناك حكمان ، أحدهما : ثابت للعنوان الواقعي ، وثانيهما : لعنوان الشاك ،
ونتيجة ذلك هو التوسعة في دليل الشرطية بالحكومة ، كقوله عليهالسلام : «لا صلاة إلّا بطهور» فيكون المراد من الطهور فيه الأعم
من الطهارة الواقعية والظاهرية.
وعليه فلو اعتمد
المكلّف على قاعدة الطهارة أو استصحابها ـ على القول بكونه من الأصول ـ وصلّى في
الثوب المحتمل نجاسته مثلا ، فصلاته مشتمل على ما هو الشرط واقعا غايته الشرط
الظاهري لا الواقعي ، وهذا بخلاف كشف الخلاف في باب الأمارات ، فانه يعلم منه انه
لم يكن هناك شرط أصلا ، ولذا التزم بالأجزاء في
__________________
موارد الأصول دون
الأمارات.
وقد أورد عليه
المحقق النائيني بوجوه على ما في التقريرات ، ونحن نتعرّض لوجهين منها :
أحدهما ـ النقض
بأمور.
منها : إذا طهّرنا
الشيء المتنجّس بماء طاهر بحكم القاعدة ، ثم انكشف نجاسته ، فان لازم القول بحكومة
الأصل العملي على دليل الشرطية هو ثبوت شرط المطهرية في الماء ، أعني الطهارة ،
ولازمه ان يكون المغسول به طاهرا حتى بعد انكشاف الخلاف.
وبعبارة أخرى : لا
فرق بين شرطية طهارة الثوب والبدن في الصلاة وبين شرطية طهارة الماء في باب الغسل
، فان اقتضى قيام الأصل على طهارة الثوب أو البدن تحقق الشرط في الصلاة حتى لو
انكشف الخلاف لزم اقتضائه لذلك فيما إذا استندنا إلى الأصل في طهارة الماء المغسول
به المتنجس ، وان كان اقتضاؤه للطهارة محدودة إلى زمان انكشاف الخلاف لجرى ذلك في
الموردين.
ومنها : ما إذا
لاقى شيء مع النجس الواقعي المحكوم بالطهارة بحكم الأصل ، فانّ لازم ذلك ان لا
يكون الملاقي محكوما بالنجاسة حتى بعد انكشاف نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ في زمان
تحقق الملاقاة ، وذلك لأنّ في وقت الملاقاة كان الملاقي محكوما بالطهارة على الفرض
وبعد ما علم نجاسته لم تتحقق ملاقاة ، فلا تصدق ملاقاة هذا الشيء مع النجس.
ومنها : ما إذا
بعنا الدهن المتنجس واقعا تمسكا بالأصل في طهارته ، ثم انكشف نجاسته ، فانّ لازم
ما تقدم صحّة البيع حتى على القول باعتبار الطهارة في
__________________
صحة بيع الدهن ،
لأنه حين تحقق البيع كان محكوما بالطهارة ، ولا يضر بها ثبوت نجاسته بعد ذلك
بانكشاف الخلاف ، كما يحكم بالاكتفاء بالصلاة المأتي بها في الثوب المتنجس ، أو مع
نجاسة البدن مستندا في طهارته إلى الأصل عند انكشاف الخلاف في الوقت وقابلية
التكليف للاستمرار ، إلى غير ذلك مما ينتقض به في المقام.
وثانيهما ـ الحل ،
وهو انّ الحكومة على قسمين ، فانّ الدليل الحاكم تارة : يوجب التوسعة أو التضييق
في الدليل المحكوم واقعا كما في حكومة قوله عليهالسلام : «كل مسكر خمر» على قوله عليهالسلام : «الخمر حرام» ، ويعبر عنه : «بالحكومة الواقعية» ، وأخرى
: يوجب التوسعة أو التضييق في المحكوم ما دام الشك موجودا ، ويعبر عن ذلك «بالحكومة
الظاهرية» ، والمقام من قبيل الثاني ، وعليه فبعد انكشاف الخلاف تنعدم الحكومة ،
فيكون التكليف بالطبيعي الواجد للشرط باقيا على حاله ، فتجب الإعادة.
ثم انّ الاجتزاء
بالصلاة في الثوب المتنجس انما هو من جهة النص الخاصّ لا لكون الاستناد في طهارته
على الأصل العملي ، ولذا يحكم بالاجزاء في ذلك أيضا وان كان المستند في الطهارة
غير الأصل من البيّنة والقطع الوجداني وغير ذلك بل في فرض الغفلة أيضا ، فينكشف من
ذلك انّ المانع من الصلاة انما هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.
المورد الثاني : أعني ما إذا كان انكشاف
الخلاف بقيام الأمارة على خلاف الحكم الظاهري لا بالقطع الوجداني.
وتارة : يتصوّر
ذلك في الشبهة الموضوعية ، كما لو اعتمد المصلي في الثوب النجس أو المتوضئ بماء
متنجس واقعا على القاعدة ، أو على قول ذي اليد فقامت البينة على نجاسته ، أو استند
المتوضئ في حلّية الماء على أصالة الحل ـ بناء على ما هو المختار من اعتبار
الحلّية الواقعية في ما يتوضّأ به ـ ثم قامت حجّة أقوى على كونه
مغصوبا.
وأخرى : يتصوّر في
الشبهة الحكمية ، كما في موارد تبدل رأي المجتهد الّذي هو مورد بحثنا هنا.
والمشهور ذهبوا
إلى عدم الاجزاء في الأول ، والاجزاء في الثاني.
والصحيح : انه لا
وجه للتفصيل ، وذلك :
أولا ـ فلأنّ دليل
حجّية الطرق والأمارات واحد بلسان واحد ، فكيف يستفاد منه الاجزاء في الشبهة
الحكمية وعدمه في الشبهات الموضوعية؟! وهذا هو النقض.
وثانيا ـ وهو الحل
، انّ الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال يكون بأحد أمرين : أما الإتيان بما هو
المأمور به واقعا ، وحينئذ يكون الاجزاء عقليا. وأما ورود الدليل على اكتفاء
الشارع بالمأتي به في مقام الامتثال كما وقع ذلك في موارد قاعدة التجاوز والفراغ ،
وإلّا فالعقل يحكم بالاشتغال لا محالة.
ثم انّ ما ذكرناه
مستمر حدوثا وبقاء ، فكما نحتاج إلى أحد الأمرين في الاجتزاء بالمأتي به والحكم
بحصول الامتثال حدوثا نحتاج إلى ذلك في مرحلة البقاء أيضا ، فإذا انكشف الخلاف في
الحكم الظاهري المعتمد عليه في مقام الامتثال لا بدّ من الحكم بعدم حصول الامتثال
بقاء من غير فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية ، فيجب الإعادة أو القضاء.
توضيح ذلك : انّ
المجتهد تارة : يستند في مقام الفتيا على قطعه الوجداني ، ثم ينكشف له الخلاف في
ذلك ، كما لو اعتقد ظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه الأرض فقام بعد ذلك عنده دليل على
انه خصوص التراب ، أو اعتقد انّ الراوي الفلاني ثقة عدل ، ثم ظهر خلافه ، وهذا
الفرض خارج عما نحن فيه ، إذ لم يكن هناك حكم ظاهري أصلا ، وانما تخيل المجتهد
ثبوته.
وأخرى : يستند في
مقام الفتيا إلى أصل لفظي ، كأصالة العموم بعد الفحص عن المخصص وعدم الظفر به ، أو
أصل عملي ، ثم عثر على المخصص بعد ذلك ، أو قامت عنده أمارة على خلاف مؤدى الأصل
العملي ، وفي مثل ذلك وان كان الامتثال ثابتا بحكم الشارع حدوثا لثبوت الحكم
الظاهري واقعا ما دام الجهل موجودا ولذا لا تعقل الشبهة المصداقية في الأحكام
الظاهرية بخلاف الحكم الواقعي ، إلّا انّ ذلك يرتفع بقاء بانكشاف الخلاف على ما
بيّناه ، فتجب الإعادة ان كان في الوقت ، والقضاء ان كان في خارج الوقت.
وان شئت فقل :
تبدل رأى الفقيه يكون على أقسام ثلاثة :
الأول : ان يكون
فتواه الأولى ناشئة من تطبيقه الكبرى على الصغرى باعتقاده انها من افرادها ، مثلا
اعتقد كون اللفظ الخاصّ ظاهرا في المعنى المخصوص ، كما كان أكثر العلماء فيما تقدم
يعتقدون ظهور كلمة «ما» الموصولة في العموم ، أو اعتقد قيام حجة على حكم ، أو كون
راوي الحديث الكذائي هو «أبو بصير» الثقة ، ثم بعد العمل على طبق قطعه انكشف له
الخلاف ، وفي هذا القسم لا مجال لتوهم الاجزاء أصلا ، لأنه لم يكن هناك حكم لا
ظاهري ولا واقعي ، بل كان تخيّل لثبوت الحكم.
الثاني : ان يكون
المستند في فتواه الأولى حجة شرعية ، كما لو فرضنا انه ظفر على رواية معتبرة دالة
على حكم شرعي وبعد الفحص لم يعثر على ما يعارضها ، فأفتى على طبقها ، ثم ظفر بعد
ذلك على ما يسقطها عن الحجيّة ، كما لو فرضنا انه بعد مدّة ظفر على معارض لها بحيث
سقطا معا عن الحجّية ، فرفع المجتهد يده عن فتواه الأولى من دون ان يعدل إلى ما
يوافق مؤدى الحجة الثانية لسقوطها بالمعارضة والتعبير بتبدل الرّأي في الموردين
غير خال عن المسامحة أيضا.
الثالث : ان يكون
في فتواه الأولى مستندا إلى حجّة شرعيّة ثم عثر على حجّة
أقوى منها من دليل
مخصص أو حاكم أو وارد على الدليل الأول ، بحيث عدل إلى مفادها ، مثلا كان معتمدا
على عموم «حرم الرّبا» ولم يكن عاثرا على قوله عليهالسلام : (لا ربا بين الوالد والولد) ، وكان بانيا على حرمة
الرّبا بينهما مدّة ، وكان عاملا على ذلك إلى أن ظفر بالمخصص فتبدل رأيه.
فعلى الأول لا
مجال للقول بالاجزاء كما عرفت.
وعلى الثاني لا بد
من التفصيل بين انكشاف الخلاف في الوقت وخارجه أي بين القضاء والأداء ، فان انكشف
الخلاف في الوقت تجب الإعادة بمقتضى حكم العقل بقاعدة الاشتغال لكون الشك في الامتثال
بقاء بعد العلم بالتكليف ، واما لو انكشف الخلاف بعد انقضاء الوقت فالتكليف الثابت
في الوقت سقط قطعا ، لأنّ الصحيح انّ القضاء يكون بأمر جديد لا بالأمر الأول ،
وثبوت الأمر بالقضاء في حق هذا الشخص مشكوك لعدم إحراز موضوعه ، وهو فوت الواقع ،
لأنه يحتمل وجدانا كون ما أتى به موافقا للواقع وان سقطت الحجّة القائمة على ذلك
بقاء ، إذ لم تقم حجّة على خلافه أيضا كما هو المفروض ، فيدفع احتمال التكليف
بالقضاء بالبراءة.
وأما على الثالث ،
فالصحيح هو عدم الاجزاء مطلقا ، وسواء انكشف الخلاف في الوقت أو في خارجه. اما في
الوقت ، فواضح ، واما في خارج الوقت ، فلأنّ مفاد الحجّة الأقوى القائمة على خلاف
الحجّة الأولى انما هو كون الواقع من أول الأمر مطابقا لمؤداها ، فغاية الأمر كان
الحكم الظاهري ثابتا إلى زمان وصول الحجّة الثانية ، فإذا كان الحكم الواقعي من
أول الأمر كذلك والمفروض انه لم يأت به ، ففاته ذلك ، فيتحقق موضوع القضاء وهو
الفوت لا محالة من دون حاجة إلى الاستصحاب ولا إلى غيره.
وحاصل الكلام في
المقام هو انّ منشأ رأي المجتهد الّذي ينكشف له فيه
الخلاف تارة :
يكون هو القطع الوجداني فيرى بعد مدة خطأه في ذلك ، وفي الحقيقة يكون التعبير
حينئذ بتبدل الرّأي غير خال عن المسامحة ، وأخرى : يكون حجّة شرعيّة ، ثم يعارضها
حجّة أخرى بحيث تسقط كلاهما عن الحجّية من دون ان يستلزم قيام الحجّة الثانية تبدل
رأي الفقيه على طبق مؤداها ، وثالثة : يكون قيام الحجّة الثانية موجبا لذلك ، كما
إذا كانت الحجّة الثانية مخصّصة للدليل الأول ، أو واردا أو حاكما عليه.
امّا على الأول ،
فلا مجال للبحث عن الاجزاء أصلا ، لانتفاء كل من الحكم الواقعي والظاهري في مورده.
وامّا على الثاني
، فيفصل بين كون الانكشاف في الوقت أو في خارجه ، فإذا كان الانكشاف في الوقت تجب
الإعادة ، لأنّ الحجّة الثانية وان لم توجب عدم حجّية الدليل الأول حدوثا إلّا
انها توجب سقوطها عن الحجيّة بقاء فمن حيث البقاء ليس له دليل شرعي على اكتفاء
الشارع بما أتى به ولو لم يكن موافقا للواقع ، فكما يحتمل حصول الامتثال لاحتماله
مطابقة ما أتى به مع الواقع كذلك يحتمل عدم حصوله لاحتماله عدم المطابقة ، ومقتضى
حكم العقل بالاشتغال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم هو الإتيان بما يحرز معه
الامتثال ولا يخفى انّ هذا انما يكون فيما إذا كان التبدل في رأي المجتهد واجتهاده
لا فيما إذا كان التبدل في المدرك من دون حصول تبدل في الرّأي ، كما لو فرضنا انه
كان بانيا على عدم وجوب السورة في الصلاة معتمدا على الروايات الواردة في ذلك ، ثم
عثر على معارضها ، ولكن كان مستمرا على رأيه معتمدا على البراءة ، ففي مثل ذلك لا
تجب الإعادة في الوقت أيضا ، لثبوت الحجّة على الاجتزاء بقاء أيضا ، وهذا واضح.
وامّا إذا كان
الانكشاف في خارج الوقت ، فحيث انه يعلم بسقوط التكليف السابق ، امّا بالامتثال لو
كان المأتي به موافقا مع الواقع ، وامّا بخروج الوقت لو لم
يكن الأمر كذلك ،
وتعلق التكليف بالقضاء به مشكوك لعدم إحرازه الفوت ، فيدفع بالبراءة ، وقد عرفت
انّ استصحاب عدم الإتيان بالواقع لا يثبت عنوان الفوت.
وامّا في القسم
الثالث ، فلا يفرق بين القضاء والأداء ، فيحكم بعدم الاجزاء فيهما ، اما فيما إذا
انكشف الخلاف في الوقت فواضح ، واما إذا انكشف الخلاف في خارج الوقت ، فلأنّ نفس
الحجّة الثانية المفروض كونها أقوى تثبت انّ الحكم الواقعي من أول الأمر كان على
طبق مؤداها ، غاية الأمر انّ المكلّف كان ممتثلا بحكم الشارع إلى الآن ، والمفروض
انه لم يمتثل الواقع الثابت بمقتضى الحجة الثانية وفاته ذلك فيجب القضاء.
وان شئت فقل : انّ
لازم قيام الحجّة الأقوى تحقق الفوت ، وهي حجّة في لوازمها العقلية ، لأنها من
الأمارات ، فيتحقق موضوع القضاء.
هذا كله بناء على
الطريقية المحضة.
واما على السببية
، فتارة : يقع الكلام فيما يمكن الالتزام به من اقسامها ، وأخرى : في ما يترتب
عليها من الأجزاء وعدمه.
فنقول : امّا
السببية المنسوبة إلى جملة من الأشاعرة ، وهي كون الواقع تابعا لرأي المجتهد ، فهو
غير معقول كما أفاد العلّامة ، إذ لو لم يكن في الواقع حكم فعمّا يفحص المجتهد؟
وبما ذا يتعلّق رأيه؟
واما السببية
المنسوبة إلى المعتزلة ، فهي وان لم تكن بهذه المثابة من الفساد ، ولا تكون
مستحيلة ، إذ يمكن ان يتبدل الواقع بقيام الأمارة على خلافه كما تتبدل الأحكام
بطرو العناوين الثانوية ، كنذر الأمر المباح والشرط في ضمن العقد وأمثال ذلك ، فلا
مانع من ان يكون خبر العادل مثلا لموضوعيّته في نظر الشارع موجبا لانقلاب الواقع ،
إلّا انه مخالف للإجماع وللاخبار ، مثل قوله عليهالسلام : «للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد» أي أجر الانقياد فقط ،
فعلى الأول لا مجال للبحث عن
الاجزاء أصلا ،
لأنه ليس هناك حكم واقعي غير مؤدى الأمارة ليبحث عن اجزاء امر آخر عنه.
وامّا على الثاني
، وان كان مجال للنزاع إلّا انه لا بدّ فيه أيضا من القول بالأجزاء ، لأنّ ما أتى
به كان هو الواقع بالنسبة إليه حين الإتيان بالعمل ، فما أفاده الشهيد من كون
القول بالأجزاء من فروع التصويب تام لا شبهة فيه.
بقي الكلام في
القسم الثالث من أقسام السببية ، وهو ما ذهب إليه بعض الإمامية على ما يستفاد من
كلام الشيخ قدسسره ، من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، ويقع الكلام تارة : في
بيان ذلك واستلزامه للقول بالاجزاء وعدمه ، وأخرى : من حيث صحّة الالتزام به
وعدمها.
فنقول : تختلف
السببية بهذا المعنى من حيث السعة والضيق ، أعني الطول والقصر ، فانّ المصلحة
السلوكية التي يتدارك بها ما يفوت من المكلّف من المصلحة الواقعية لا بدّ وان تكون
بالمقدار الّذي يكون فواته مستندا إلى سلوك الطريق ، فإذا فرضنا ثبوت انكشاف
مخالفة الأمارة للواقع بعد فوات وقت الفضيلة فقط لا محالة يكون السلوك بذاك
المقدار ، فتكون المصلحة السلوكية أيضا كذلك ، وإذا فرضنا تحقق انكشاف الخلاف بعد
انقضاء أصل الوقت فالترك في الوقت يكون مستندا إلى سلوك الطريق دون ترك القضاء في
خارجه ، فيتدارك بالمصلحة السلوكية مصلحة أصل الوقت ، كما انه ربما لا ينكشف
الخلاف إلّا في وقت لا يمكنه القضاء أيضا ، فيوصي ذلك إلى وصيه ، فلا بدّ وان يتدارك
ذلك المقدار من المصلحة ، وربما لا ينكشف الخلاف إلى الأبد ، فتمام مصلحة الواقع
تتدارك بالمصلحة السلوكية بسبب الانقياد.
وبالجملة فالمصلحة
السلوكية لا يتدارك بها أصل المصلحة الواقعية ، وعليه فمهما انكشف الخلاف يكون
الواقع باقيا على حاله من اشتماله على المصلحة ، غاية
الأمر المقدار
الفائت من المصلحة بسبب السلوك يكون متداركا ، فيجب الإتيان به من غير فرق بين كون
انكشاف الخلاف في الوقت أو في خارجه ، فعدم الاجزاء واضح على القول بالسببية بهذا
المعنى بخلاف القول بالسببية بالمعنيين المتقدمين المستلزمة للاجزاء والتأمل يقتضي
التفصيل في الأجزاء وعدمه بين القضاء والأداء على السببية بهذا المعنى أيضا ، وذلك
لأنه لو كان وجوب الصلاة في الوقت مثلا بتعدد الأمر أمكن ان يقال فيما إذا انكشف
الخلاف بعد الوقت انّ مصلحة الوقت متداركة بالسلوك ومصلحة أصل الواجب باقية غير
متداركة فيجب تداركها ، وامّا على المختار من كون القضاء بأمر جديد وانّ الصلاة في
الوقت قد تعلّق بها تكليف واحد ، فلا معنى لاستيفاء مصلحة الوقت وبقاء مصلحة أصل
الواجب ، إذ لا معنى للتفصيل ، بل لا بدّ حينئذ من الالتزام ببقاء تمام المصلحة
وعدم تداركها أصلا ، وهو خلف ، أو الالتزام باستيفائها جميعها ، أي مصلحة أصل
الواجب ، وهو المتعيّن ، وعليه فلا يبقى مجال للإعادة ، فيجري ما أتى به عن القضاء
، وهذا بخلاف الانكشاف في الوقت ، فتأمّل.
هذا كلّه في بيان
السببية بالمعنى الثالث.
واما الالتزام بها
فالظاهر انه غير ممكن وذلك لاستلزامها التصويب وانقلاب الواقع خلافا للمحقق
النائيني ، لأنه لو كان هناك فعلان وكان كل منهما وافيا بالمصلحة نفرضهما صلاة
الجمعة وصلاة الظهر ، لا يمكن للشارع جعل الوجوب لأحدهما تعيينا ، بل لا بدّ له من
إيجاب أحدهما بنحو التخيير ، وفيما نحن فيه إذا فرضنا انّ قيام الأمارة على الخلاف
أوجب حدوث مصلحة في مؤداها بالقياس إلى الجاهل بالواقع فلا بدّ من ان يكون التكليف
الواقعي بالقياس إليه تخييريا ، اما التكليف الاستحبابي فيما إذا كان السلوك في
مقدار فوت فضيلة الوقت ، واما التكليف الأدائي فيما إذا كان السلوك في تمامه ، وامّا
أصل التكليف حتى القضائي لو
كان السلوك إلى
آخر العمر ، وهذا هو التصويب المجمع على بطلانه ، غاية الأمر انه فرق بين الانقلاب
اللازم من هذه السببية والسببية على النحوين المتقدّمين ، إذ عليهما يكون الانقلاب
في أصل الحكم وفي المقام في خصوصيّته ، أعني التعينيّة وانقلابها إلى التخيير فلا
يمكن الالتزام به.
ثم لو تنزّلنا عن
ذلك وقلنا بإمكانها ثبوتا ، فمن الواضح عدم كفاية الإمكان الثبوتي في الحكم
بالواقع ، بل لا بدّ له من قيام دليل في مقام الإثبات ، ولا دليل عليه ، وذلك لأنه
لو كنت هذه الطرق والأمارات أمور تأسيسية من الشارع لأمكن استظهار السببية من أدلة
حجيّتها بدعوى ظهورها في الموضوعية ، ولكن الأمر ليس كذلك ، بل جميعها طرق عقلائية
قد أمضاها الشارع كما هي عند العقلاء ، ومن الواضح انه ليس للعقلاء جعل حكم في
مواردها ، بل انما يرونها طرقا محضة وبنوا على طريقيتها حفظا للناظم ، فالإمضاء
الشرعي أيضا يكون كذلك.
فالصحيح انّ
السببية بجميع معانيها مما لا يمكن الالتزام بها.
والجواب عن شبهة
ابن قبة ، يكون بأمور أخر تعرّضنا لها في مجالها.
تنبيهات
التنبيه الأول : فصل المحقق الخراسانيّ
في الكفاية
على القول بالسببية المستلزمة للإجزاء بين ما إذا قامت الأمارة على الحكم ثم انكشف
الخلاف ، وبين ما إذا قامت على بيان متعلق التكليف فانكشف خلافها ، فذهب إلى القول بالاجزاء في الثاني دون الأول بتخيل انه
لا مانع من ثبوت تكليفين بعد قيام الأمارة ، أحدهما مشترك بين العالم والجاهل وهو
الحكم الواقعي ، والآخر ثابت للجاهل الّذي قامت الأمارة عنده على الخلاف بعنوان
ثانوي ، فلا تنافي بينهما ، وعليه فبعد انكشاف الخلاف يكون الواقع باقيا على حاله
، فيجب الخروج عن عهدته ، وهذا بخلاف ما إذا قامت على تعيين متعلّق التكليف.
وفيه ـ انه لو
كانت الأمارة ناظرة إلى تعيين الواقع المجهول إلى مؤداها فلا بدّ من القول
بالاجزاء من غير فرق بين الصورتين ، وذلك لأنها حينئذ بالدلالة الالتزامية تدل على
نفي الواقع عن غير مؤداها ، مثلا لو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة فبالدلالة
الالتزامية يعيّن المعلوم وهو وجوب إحدى الصلاتين في مؤداها ، وينفى وجوب صلاة
الظهر ، فيسقط لا محالة وينقلب كما هو المفروض ، كما انه ينقلب الواجب فيما إذا
قامت الأمارة على متعلق التكليف ، مثل كون الواجب للمسافر إلى أربع فراسخ هو القصر
مثلا ، فينفي بالالتزام وجوب التمام عنه ، فيجزي المأتي به لا محالة.
واما لو لم تكن
ناظرة إلى تعيين الواقع المجهول في المؤدى ، فلا وجه للاجزاء على الفرضين ، إذ كما
يحتمل ثبوت تكليفين عند قيام الأمارة على الخلاف فيما إذا
__________________
قامت على الحكم ،
يحتمل تعلق التكليف بأمرين ، أحدهما بعنوان ثانوي لمصلحة حادثة في المتعلق بسبب
قيام الأمارة ، فالتفصيل بين الحكم والمتعلق بلا وجه.
التنبيه الثاني : إذا شك في الطريقيّة
والسببية المجزية ، فالقاعدة هل تقتضي الاجزاء أو عدمه؟
التحقيق : هو
التفصيل بين كون انكشاف الخلاف في الوقت وبين كونه في خارجه ، وذلك لأنه لو كان
الانكشاف في خارج الوقت فلا يتمكن المكلف من إحراز موضوع وجوب القضاء ، وهو الفوت
، إذ المفروض انه يحتمل السببية ، وكون ما أتى به وافيا بتمام المصلحة ، وهذا
بخلاف ما إذا كان انكشاف الخلاف في الوقت ، إذ عليه لو كان لدليل التكليف الواقعي
إطلاق من حيث العالم والجاهل فيؤخذ به في الحكم بعدم الاجزاء ، إلّا انه خلف فرض
السببية وتبدل الواقع ، وإلّا كما هو المفروض فيحكم بعدم الاجزاء للعلم الإجمالي.
فانّ المكلف بعد
انكشاف الخلاف يعلم إجمالا بأنه من أول الأمر كان مكلّفا بأمر مردّد بين الواقع ومؤدى
الأمارة ، ومقتضى ذلك هو التخيير والإتيان بكلا الأمرين تحصيلا للفراغ ، مثلا لو
فرضنا انّ المجتهد بنى على وجوب صلاة الجمعة ثم تبدل رأيه في الوقت ، فبعد انكشاف
الخلاف والإتيان بصلاة الجمعة يحدث له العلم بأنه من أول الأمر كان مكلّفا بصلاة
مرددة بين الظهر والجمعة ، إذ على السببية يكون تكليفه الإتيان بالجمعة ، وعلى
الطريقية يكون تكليفه الإتيان بالظهر ، فلا بدّ له من الإتيان بالظهر أيضا بمقتضى
تنجز العلم الإجمالي ، فلا فرق بين إحراز السببية والشك فيها من حيث القضاء ، نعم
تظهر الثمرة بالنسبة إلى الأداء كما عرفت.
التنبيه الثالث : استدلّ بعض على
الاجزاء بأمور :
منها : انّ عدم
الاجزاء يستلزم الحرج والعسر والهرج والمرج.
وفيه ـ انّ الحرج
لا يستلزم القول بالاجزاء مطلقا ، لأنّ الميزان في الحرج هو
الحرج الشخصي ،
ويختلف لزومه من القول بعدم الاجزاء باختلاف الأشخاص والأحوال والخصوصيات ، فأيّ
حرج يلزم من عدم الاجزاء ، فيما إذا رأي المجتهد عدم جزئية السورة في الصلاة ،
وعمل على طبقه يوما وليلة ، ثم انكشف له الخلاف ، وهكذا في المقلّد ، فربّ شخص ليس
له شغل وهو فارغ البال يمكنه ان يعيد إعمال تمام عمره من غير ان يعسر ذلك عليه ، ثم
على تقدير لزومه ، نرفع اليد عن التكاليف بمقدار يلزم منه الحرج لا أكثر ، وهذا
غير مختص بموارد الاجزاء ، بل لو فرضنا انّ أحدا علم بأنّ ما صلى به في مجموع عمره
كان إلى غير القبلة ، أو في حال الجنب فانه يجب عليه القضاء والإعادة حينئذ بلا
كلام ، فإذا كان وجوب القضاء عليه حرجيا يرفع اليد عن ذلك لا محالة.
وتوهّم كون
الميزان في الحرج هو الحرج النوعيّ مدفوع ، إذ ليس من الحرج النوعيّ أو الضرر
النوعيّ وأمثاله في الأخبار عين ولا أثر ، وانما ظاهر أدلتها الحرج الشخصي ، وإلّا
لكان اللازم عدم وجوب الوضوء على من لم يكن الوضوء بالقياس إليه حرجيا فيما إذا
كان حرجا على نوع أهل بلده ، ولا يمكن الالتزام به.
نعم يمكن ان يكون
الحرج النوعيّ حكمة وداعيا للشارع في ان يجعل الحكم بنحو العموم ، كما في جعل
الشفعة أو الطهارة للحديد أو عدم إيجاب السواك ونحو ذلك ، ولكن لا ربط لذلك
بالفقيه كما هو واضح.
ومنها : انه لا
ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول ليستلزم تكرار ما أتى به على طبقه ،
فأحدهما يكون معارضا للآخر ولا ترجيح.
وفيه : أولا : انّ
لازم ذلك جواز العمل على طبق الاجتهاد السابق بالقياس إلى الأعمال اللاحقة أيضا ،
ولم يقل به أحد.
وثانيا : انّ
الاجتهاد الثاني يوجب زوال الاجتهاد الأول وسقوطه عن الحجّية بقاء فهو أقوى ، اما
بالورود ، أو بالحكومة ، ونحو ذلك ، كما هو المفروض.
ومنها : ما في
الفصول من انه لا معنى لتبدل الرّأي وثبوت حكمين للواقعة الواحدة
، ونقل الآشتياني انّ الشيخ سئل من صاحب الفصول بالمكاتبة ما اراده من كلامه ، فلم
يبين له شيئا ، فهو بظاهره لا معنى له أصلا.
ومنها : انّ تبدل
الرّأي يكون من قبيل النسخ في الأحكام الواقعيّة ، فكما لا يستلزم ذلك تكرار العمل
كذلك النسخ الظاهري فانه لا يكشف عن عدم حجيّة الرّأي الأول ، وانما يسقطه عن
الحجّية بقاء ، فلا وجه للتكرار.
وفيه : انّ ما
ذكره من عدم كشف الاجتهاد الثاني عن عدم حجّية الاجتهاد الأول وان كان صحيحا إلّا
انّ الاجزاء وعدمه لا يدور مدار ذلك ، ولا نريد إثبات عدم الاجزاء بالاستظهار من
الدليل الثاني ، وانما يدور الأمر في الاجزاء مدار تحقق الامتثال ، امّا حقيقة
بإتيان الواقع ، وامّا بقيام الدليل على اكتفاء الشارع بغير المأمور به عنه تعبدا
، وبعد تبدل رأي المجتهد لا يكون في البين شيء من الأمرين ، فانّ الاجتهاد الثاني
يسقط الاجتهاد الأول عن الحجّية في مرحلة القيام ، والمفروض انه لم يأت بالواقع ،
ولا دليل على اكتفاء الشارع بما أتى به المكلّف ، فيحكم بعدم الاجزاء.
ومنها : التمسك
للاجزاء بالإجماع واتفاق الأصحاب على ذلك ، وقد فصل المحقق النائيني في المقام وجعل مورد الاجزاء على أنحاء ثلاثة ، لأنّ مورده
تارة : يكون من التعبّديات ، كما لو صلّى قصرا ، ثم تبدل رأيه إلى وجوب الإتمام ،
وأخرى : يكون من الأحكام الوضعيّة ، اما مع بقاء الموضوع ، كما لو فرضنا انّ أحدا
اشترى دارا بالمعاطاة فتبدل رأيه عن صحّته وبنى على فساده مع بقاء الدار ،
__________________
وامّا مع تلفه كما
لو اشترى خبزا بالمعاطاة فأكله وبعد ذلك تبدّل رأيه بحيث لا يكون هناك أثر للقول
بعدم الاجزاء إلّا الضمان.
فذكر انّ مورد
الإجماع على الاجزاء انما هو الفرض الأول ، ومورد الإجماع على عدم الاجزاء هو
الفرض الثاني ، والفرض الثالث لم يعلم ثبوت الإجماع فيه على أحد الطرفين ، فيجري
فيه ما كان تقتضيه القاعدة من استصحاب عدم حصول النقل والانتقال ، فيحكم فيه
بالضمان.
ولكن الصحيح عدم
جواز التمسّك بالإجماع في شيء من هذه الموارد ، لأنّ الإجماع انما يعنى به من جهة
كشفه عن قول المعصوم ، وإلّا فلا اعتبار بأقوال الاعلام ، وضم غير الحجّة إلى مثله
لا يوجب الحجيّة ، فهو متقوّم بأمرين :
الأول : ثبوت
الاتفاق من جميع العلماء أو من جماعة منهم يعتد بهم على اختلاف المسالك في منشأ
حجيّته.
الثاني : ان لا
يحتمل اعتمادهم في فتاواهم على مدرك يحتمل فساده أو يقطع بفساده ، وإلّا فلا يكون
اتفاقهم كاشفا عن رأي المعصوم ، فلا يكون حجّة كما عرفت ، ومن ثم ذهب الشيخ قدسسره ومن لحقه إلى عدم تنجّس البئر مع ذهاب المشهور من القدماء
بل كلّهم إلى تنجّسه بوقوع النجاسة فيه ، وليس ذلك إلّا من جهة انهم رأوا انّ
اعتماد القدماء في فتاواهم انما هو على الروايات في ذلك ، فلما رأوا عدم دلالتها
عليه عدلوا عما كان القدماء متّفقين عليه.
وكلا الأمرين غير
ثابت في المقام.
اما الأول : فلأنّ
مسألة الاجزاء في تبدل رأي المجتهد لم تكن معنونة في كلمات القدماء.
واما الثاني :
فلأنّا نحتمل ان يكون مدرك القائلين بالاجزاء أو بعدمه بعض الأمور المذكورة ،
فالتمسك بالإجماع في ذلك غير تام.
بقي أمور :
الأمر الأول : انه لا فرق فيما ذكرناه من القول بعدم الاجزاء بين المقلد
والمجتهد ، فكما لا يمكن القول بالاجزاء في المجتهد عند تبدل رأيه ، لا يمكن
الالتزام به عند تبدل تقليد المقلد ، فإذا رجع المقلد عن تقليد من كان يقلده لموته
، أو لكون الثاني اعلم ، أو اختيارا بناء على ان يكون التخيير في التقليد
استمراريا يجري فيه ما ذكرناه في تبدل رأي المجتهد كما هو واضح.
وتوهم السببية في
خصوص التقليد من جهة انه يجوز تقليد الحي ولو كان مخالفا للمشهور في فتواه ، ومن
الواضح انّ المقلد حينئذ يظن بمخالفة فتواه للواقع إذا الأمر دائر بين خطأ شخص
واحد أو اشخاص عديدين ، فلو كان حجّية قول المجتهد للمقلد من باب الطريقية لكان
اللازم عدم حجيّة مع الظن بالخلاف مدفوع :
أولا ـ بأنه
مستلزم للتصويب المجمع على بطلانه.
وثانيا ـ انّ رجوع
العالم إلى الجاهل من الأمور العقلائية ، وقد أمضاه الشارع على ما هم عليه ، فهو
امر إمضائي ، لا تأسيسي ، وقد ذكرنا انه ليس للعقلاء في العمل بالطرق جعل حكم ولا
مصلحة سلوكية أصلا.
واما ما ذكر من
الدليل ففيه : انه لا مانع من ان يعتبر الشارع شيئا في باب الطرق وحجّيتها كالحياة
في المجتهد بحيث يلزم منه ثبوت الحجّية حتى مع الظن بالخلاف.
الأمر الثاني : قد ذكرنا انّ مورد البحث في الاجزاء ما إذا كان هناك حكم
ظاهري للمكلف وانكشف فيه الخلاف ، واما فيما إذا لم يكن ذلك كما في موارد الخطأ في
الاعتقاد أو في الظنون الاجتهادية ، مثل ما إذا ظن بكون اللفظ الخاصّ ظاهرا في
المعنى الكذائي ، أو ظن بصحّة الرواية إلى غير ذلك من موارد التطبيقات التي هي
الغالب في موارد تبدل الرّأي ، أو ظن بكون مورد محلا للبراءة العقلية أو النقليّة
،
فانكشف الخلاف ،
فكلها خارجة عن محل البحث ، فتأمل.
هذا كله في
الاجزاء وعدمه عند انكشاف الخلاف في الحكم الظاهري بالإضافة إلى شخص واحد ، وقد
عرفت انّ مقتضى القاعدة فيه عدم الاجزاء.
واما اجزاء الحكم
الظاهري الثابت لشخص ونفوذه بالقياس إلى شخص آخر وعدمه ، فيقع الكلام فيه في موارد
ثلاثة :
الأول : في خصوص
النكاح.
الثاني : في باب
الطهارة والنجاسة.
الثالث : في بقيّة
الموارد من العبادات والعقود والإيقاعات.
امّا باب النكاح ،
نظير ما إذا كان أحد يرى جواز النكاح بالعقد الفارسي اجتهادا أو تقليدا ، فتزوّج
امرأة بالعقد الفارسي ، وكان الشخص الآخر يرى فساد ذلك ، فلا ريب في نفوذ ذاك
التزويج عليه أيضا ، وليس له ان يزوج تلك المرأة لنفسه ، بحيث يكون لها زوجان ،
ولو فرضنا المرأة من الكفار ، وانها لا تعتني بتعدد الزوج.
والوجه في الاجزاء
في ذلك ما ورد من انّ لكل قوم نكاح ، فانّ إطلاقه يعم المجتهد الّذي يرى صحّة
النكاح بالعقد الفارسي أو مقلّده ، فانّ ظاهر الحديث انّ الشارع أمضى نكاح كل قوم
ظاهرا وما لم ينكشف لهم الخلاف وان كان فاسدا في الواقع ، ولذا لو فرضنا انّ
المجوسي تزوّج بأخته على مسلكه ليس لشخص ثاني ان يزوجها لنفسه ، لأجل فساد نكاحها
، وهكذا لو زوّج المرأة أخوها مع عدم رضاها ، وكان من العامة الذين يرون للأخ
ولاية على تزويج الأخت ، ليس لغيره ان يزوجها لنفسه لفساد النكاح إلى غير ذلك.
ويقابل هذا المورد
باب الطهارة والنجاسة ، فانّ الطهارة الظاهرية الثابتة عند شخص لا تكون نافذة في
حق غيره ، مثلا لو كان أحد يرى طهارة الغسالة ، لا يجوز
لمن يرى نجاسته ان
يشربها ، ولو غسل أحد ثوبه بماء قليل مرّة واحدة بناء منه على عدم اعتبار التعدد
ليس لمن يرى اعتباره ان يصلي في ذلك الثوب ، لإطلاق الأدلة.
نعم في كون الغيبة
موجبة للحكم بالطهارة حتى في فرض عدم اعتقاد من عنده العين بنجاسته كلام ، ولا
يبعد ذلك ، إلّا انه حكم فرعي خارج عن محل الكلام وهذا واضح.
واما المورد
المتوسط بينهما ، أعني بقية العبادات والمعاملات ، كما لو فرضنا انّ أحدا اشترى
خبزا بالمعاطاة ، وكان بانيا على صحّتها ، فهل يجوز لمن يرى فساد المعاطاة ان يتصرّف
في ذلك الخبز أم لا؟ الظاهر هو الثاني وعدم الاجزاء في ذلك لإطلاق الأدلة.
ومن فروع هذا
الفرض جواز ائتمام من يرى بطلان صلاة الإمام إذا كان الإمام بانيا على صحّة صلاته
، كما لو فرضنا انه يرى كفاية التسبيحة الواحدة من التسبيحات الأربع ، فاكتفي بها
، فانه بناء على الاجزاء يصح الائتمام به ، ولو لم يكن هناك دليل خاص على جواز ذلك
، وإلّا فلا يجوز الائتمام.
هذا تمام الكلام
في مبحث الاجزاء.
المقام التاسع
في مقدّمة الواجب
البحث في مقدّمة
الواجب يقع في أمور :
الأمر الأول : انّ هذه المسألة من
المسائل الأصولية لوقوع نتيجتها في
طريق استنباط الحكم الفرعي ، كما سيظهر لك عن قريب. ولا وجه للقول بكونها فرعية ،
ولكن توهم ذلك من تقريب صاحب المعالم عنوان المسألة. هكذا «وما لا يتم الواجب إلّا به واجب» ،
فتخيل بعض انّ ما لا يتم الواجب إلّا به من الموضوعات الخارجية والوجوب حكم شرعي ،
فالمسألة فقهية.
ولكنه توهم فاسد ،
لا لما ذكره المحقق النائيني قدسسره ، من ان الحكم الفرعي لا بدّ وان يكون حكما ثابتا للعنوان
الذاتي الّذي يكون تحته افراد متّفقة الحقيقة ، فالبحث عن وجوب عنوان انتزاعي قابل
الانطباق على المقولات المتباينة لا يكون بحثا عن الحكم الفرعي ، ووجوب ما لا يتم
الواجب إلّا به يكون من قبيل الثاني ، إذ ربما يكون مقدّمة الواجب بيعا ، وربما
يكون أكلا أو شربا ، وذلك لأنه لا دليل على اعتبار ذلك في المسألة الفرعية أصلا ،
ولذا يبحث في الفقه عن وجوب الوفاء بالنذر مع انه تارة يتعلّق بالصلاة ، وأخرى
بالصوم ، وثالثة بغير ذلك. وهكذا وجوب
__________________
الوفاء بالعهد
والشرط ، وكذلك وجوب إطاعة الوالد ، فانّ الإطاعة امر انتزاعي من أمثال الأمر
الّذي هو قابل لأن يتعلّق بأمور متباينة.
بل انما ننكر كون
مبحث وجوب المقدّمة بحثا فرعيا لأجل انّ المبحوث عنه فيه انما هو الملازمة بين
مطلوبية ذي المقدمة ومحبوبيّته ، وبين مطلوبية مقدمته ، الجامع بين الوجوب والندب
، ومن الواضح انه في الفقه لا يبحث عن المطلوبية الجامعة بين الوجوب والاستحباب ،
وانما يبحث فيه عن كل من الأحكام الخمسة بخصوصها.
وعليه فهذه
المسألة تكون من المسائل الأصولية العقلية الغير المستقلة ، بحيث انه يحتاج في
استنباط الحكم الفرعي منها إلى ضم مقدمة أخرى شرعية إليها ، فانّ مجرد ثبوت
الملازمة غير كاف في ثبوت اللازم ، لأنه مترتب على الملازمة وتحقق الملزوم ، وهو
لا يثبت إلّا بدليل شرعي ، فيقال بالقياس الاستثنائي إذا ثبت وجوب ذي المقدمة يثبت
وجوب مقدمته ، لكن وجوب ذي المقدمة ثابت فوجوب المقدمة ثابت ، كقولك «إذا كان
الشمس طالعة فالنهار موجود ، لكن الشمس طالعة ، فينتج انّ النهار موجود».
وهذا بخلاف
الأحكام العقلية المستقلة التي يستنتج منها الحكم الشرعي بنحو اللم من دون حاجة
إلى ضم مقدمة شرعية إليها كباب التحسين والتقبيح العقليين.
وبالجملة على هذا
لا وجه للقول بأنّ هذه المسألة من المسائل الكلامية وقد وقع البحث عنها استطرادا ،
أو انها من المبادئ بعد إمكان جعلها من مسائل علم الأصول ، كما عرفت.
الأمر الثاني : المحتمل في المراد من
الوجوب المبحوث عنه في المقام أمور :
الأول : ان يراد
منه اللزوم واللابدية العقلية ، وعليه فالنزاع عنه لغو محض لبداهته.
الثاني : ان يراد منه صحة اسناد الوجوب الشرعي إلى مقدمة الواجب ، ولو مجازا بان
يقال : مقدمة الواجب واجبة شرعا ، والبحث عن ذلك لا يناسب الأصول ، وانما يناسب
علم المعاني والبيان.
الثالث : ان يراد
منه الوجوب الاستقلالي الترشحي بمعنى كونه معلولا لوجوب المقدمة كما ذكره الميرزا
القمي قدسسره ، وهذا لا يناسب عمومية البحث للأحكام العرفية ، فانه ربما
يأمر المولى العرفي بذي المقدمة مع غفلته عن مقدمته ، بل مع اعتقاد بأنه غير متوقف
على شيء ، ومن الواضح انّ الوجوب الاستقلالي متوقف على الالتفات.
الرابع : وهو
المتعين ان يراد منه الوجوب الترشحي التبعي الإجمالي الارتكازي ، بحيث لا ينافيه
الغفلة وعدم الالتفات ، فانّ كل آمر بذي المقدمة يأمر بمقدماته أيضا بالارتكاز ،
ولو كان غافلا.
الأمر الثالث : في الثمرة المترتّبة على
هذه المسألة وقد تعرض لها
المحقق الخراسانيّ في آخر البحث لنكتة في ذلك ، وان كان التقديم هو الأولى.
الأمر الرابع : قسّموا المقدّمة إلى الداخلية وهي الاجزاء الخارجية وإلى
المقدمة الخارجية وهي ما يتوقف عليه الشيء أعم من المقتضي والشرط وعدم المانع.
ووقع الخلاف في دخول المقدمات الداخلية في محل النزاع.
فذهب بعض إلى عدم
صدق المقدّمة عليها أصلا ، لتوقفه على تعدد الوجودين وتوقف أحدهما على الآخر
المفقود في المقام.
وذهب جماعة بعد
تسليم الصغرى وصدق المقدّمة عليها إلى خروجها عن محل النزاع لاتصاف الاجزاء
بالوجوب النفسيّ ، ولا مجال بعد ذلك لاتصافها بالوجوب المقدمي.
وهناك قول ثالث
بدخولها في محل النزاع وإلحاقها بالمقدمات الخارجية.
ونقول : ينقسم
المركب إلى أقسام ثلاثة :
أحدهما : المركب
الاعتباري.
ثانيهما : المركب
الحقيقي ، وهو أيضا منقسم إلى قسمين ، لأنه تارة : يكون مركبا عقلا وبسيطا خارجا ،
وأخرى : يكون مركبا بالتحليل العقلي وفي الخارج أيضا.
اما المركب الحقيقي
العقلي فكالأعراض ، فانها بسائط خارجية غير مركبة من مادة وصورة ، ولكن العقل
يحللها إلى جهة مشتركة وجهة مميّزة ، فهو خارج عن محل النزاع ، إذ ليس له جزء
خارجي ليبحث عن دخوله في محل البحث.
واما المركب
الخارجي فكالجواهر ، فانّ الأجسام كما انها مركبة عقلا من جنس وفصل ، فهي مركبة
خارجا من مادة وصورة ، ولذا ترى بقاء المادة مع تبدل الصور المختلفة وطروها عليها
، مثلا يصير التراب الّذي هو من الجماد نباتا ، والنبات حيوانا ، والحيوان إنسانا
، إذ من الواضح انّ هذه التبدلات ليست من قبيل انعدام جوهر بالكلية وحدوث جوهر آخر
، كما هو واضح.
وهذا القسم من
المركب أيضا خارج عن مورد النزاع ، وذلك :
أولا ـ فلأنّ
الجوهر لا يتصف بالوجوب ، إذ التكليف انما يتعلق بفعل المكلف ، وهو من الاعراض.
وثانيا ـ لو
أغمضنا عن ذلك ، فالتركيب بين المادة والصورة ليس انضماميا ، كانضمام أحد الإصبعين
إلى الآخر ، وانما هو تركيب اتحادي ، فانّ المادة هي ما بالقوة والصورة فعليته على
ما بيّن في محلّه ، فليس في الخارج وجودان مستقلان ليكون أحدهما مقدمة للآخر.
واما القسم الثالث
ـ أعني المركب الاعتباري كالدار والصلاة مثلا ـ فهو عبارة عن وجودات متباينة ،
بداهة انّ الحصى غير الأجر والخشب ، وكلها غير
الحديد ، وهكذا ،
واتحادها انما هو لتعلق الأمر الوحدانيّ بها ، أو لدخلها في غرض واحد ، أو للحاظها
بلحاظ واحد ، فالنزاع في كون الاجزاء مقدمة للمركب وعدمه لفظي ، فانّ المقدمة
المشتقة من التقدم تارة : يراد منها التقدم بالعلّية ، بان يكون هناك وجودان يترتب
أحدهما على الآخر بنحو الترتب والعلّية ، فيقال وجد فوجد ، وعليه لا ريب في عدم
صدق المقدمة على الاجزاء ، إذ ليس المركب وجودا منحازا عن وجود الاجزاء ومتفرعا
عليها.
وان أريد منها
التقدم بالتجوهر ، ويعبر عنه بالتقدم بالطبع ، والمراد به استحالة وجود اللاحق
خارجا ـ وهذا هو السر في التعبير عنه بالتقدم بالطبع ـ أو في مقام التجوهر من دون
تحقق السابق بدون العكس ، فمن الواضح صحّة إطلاقها بهذا المعنى على الاجزاء ، كما
هو ظاهر ، فالنزاع في صدق المقدمة عليها يكون لفظيّا.
واما دخولها في محل
النزاع ، فالظاهر عدمه ، وذلك لأنّ في المقدمات الخارجية نرى بالوجدان انّ أحدا
إذا اشتاق زيارة الحسين عليهالسلام يشتاق بالتبع إلى ركوب السيارة ونحوها من المقدمات. واما
إذا اشتاق إلى إيجاد المركب الخارجي فبالضرورة ليس له شوق مستقل ترشحي إلى إيجاد
الاجزاء ، بل الإرادة المتعلقة بنفس المركب بعينه تتعلق بالاجزاء ، ولا فرق بين
الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة في ذلك ، فالفرق بين المقدمة الداخلية والخارجية
في غاية الوضوح.
وبالجملة : ما
يتعلّق به التكليف ، وهو الفعل يكون من الاعراض ، وقد عرفت انّ الاعراض بسائط
خارجية غير مركبة من مادة وصورة ، وان كانت مركبات تحليلية ، فلا مجال لاحتمال
دخوله في محل النزاع أصلا.
واما الأجسام فهي
وان كانت مركبة خارجا أيضا ، إلّا انها غير قابلة لتعلق التكليف بها ، مضافا إلى
انّ التركيب بين جزأيها اتحادي لا انضمامي.
وامّا المركبات
الاعتبارية ، فنفس عنوان المركب ليس إلّا امرا انتزاعيا من
الوجودات
المتغايرة ، اما المتباينة من حيث الطبيعة ، بان تكون من أنواع متباينة ، وامّا
المتغايرة من حيث الصنف والحصص والاتحاد بينها ، سواء كان من ناحية تعلق الأمر
الواحد بها بنحو الانضمام ، أي الاجتماع لا الترتيب لعدم اعتباره في كثير من
المركبات ، أو كان من حيث ترتب غرض واحد عليها ، أو تصورها بلحاظ واحد ، انما يكون
اعتباريا بداهة انّ تعلق الطلب الواحد بالأمور المتباينة ، أو ترتب غرض واحد عليها
لا يوجب اتحادها حقيقة ، وعليه فالتكليف المتعلق بالمركب بعينه ينبسط على الاجزاء
لا محالة ، وقد عرفت صدق المقدمة على اجزائه على تقدير ولكنه لا يستلزم اتصافها
بالوجوب المقدمي ، بل الوجدان الّذي كان هو الدليل على اتصاف المقدمات الخارجية
بالوجوب المقدمي ينفي ثبوته للاجزاء ، كما هو واضح.
ثم انّ بعض
الأساطين ذكر ثمرة عليه للقول باتصاف الاجزاء بالوجوب المقدمي وعدمه في انحلال
العلم الإجمالي في باب الأقل والأكثر ، وحاصل ما أفاده هو : انه لو شككنا في انّ
الصلاة الواجبة مثلا اسم لنفس الركوع ، أو له وللسجود مثلا ، فعلى القول باتصاف
الاجزاء بالوجوب ، لا ينحل العلم الإجمالي بالوجوب المردد بين تعلّقه بالركوع فقط
، أو به منضما إلى السجود ، وذلك لأنّ وجوب الركوع حينئذ وان كان متيقنا تفصيلا ،
إلّا انّ المعلوم بالتفصيل انما هو الجامع بين الوجوب النفسيّ والغيري ، أعني
المردد بينهما ، فانّ الركوع في الفرض يكون واجبا نفسيا لو لم يكن السجود جزء للصلاة
، ويكون وجوبه غيريا لو كان جزء لها. ومن الواضح انّ المعلوم بالإجمال انما كان
وجوبا نفسيا ، فالمعلوم بالتفصيل يكون مغايرا لما هو المعلوم بالإجمال ، فلا يوجب
انحلاله ، فيكون موردا للاشتغال.
وهذا بخلاف ما إذا
لم نقل بوجوب الاجزاء بالوجوب المقدمي ، فانه عليه يكون تعلق التكليف النفسيّ
بالجزء المعلوم متيقنا ، ويشك في انبساطه على الجزء
المشكوك فيه ،
فيجري فيه البراءة على القول بجريانها في الأقل والأكثر ، انتهى.
وفيه : أنّ ذلك
انما يتم لو كان المثبت للوجوب المقدمي للاجزاء نافيا وجوبها النفسيّ ، كما ينسب
إلى الميرزا القمي قدسسره بل الظاهر عدم تمامية ما ذكره حتى على هذا المسلك ، فانّ
عدم جواز الرجوع إلى البراءة حينئذ ، انما هو لعدم انحلال الأمر النفسيّ ، لا لكون
الاجزاء واجبة بالوجوب المقدمي ، إلّا انّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الالتزام بانبساط
الوجوب المتعلق بالمركب على اجزائه ضروري ، لا بدّ من الالتزام به ، سواء قلنا
بوجوبها الغيري أيضا أم لم نقل. وعليه فيتحقق الانحلال لا محالة من غير فرق بين
القولين أصلا.
فالإنصاف : انه لا
ثمرة للبحث عن وجوب الاجزاء غيريا أصلا ، ولو قلنا به وأغمضنا النّظر عما ذكروا عن
كونه مستلزما لاجتماع المثلين.
ثم انه تارة :
يراد من المقدمات الداخلية خصوص الاجزاء الأعم من الخارجية والعقلية كالتقييد ،
وتقيد بالداخلية المحضة أو بالمعنى الأخص ، وأخرى : يراد منها الأعم من ذلك ومن
نفس القيد والشرط ، أي مطلق ما يعتبر في المأمور به شرعا أعم من ان يكون المعتبر
نفسه أو التقيد به ، فيشمل نفس القيد أيضا ، وعلى هذا الاصطلاح تقيد بالداخلية
بالمعنى الأعم والخارجية بالمعنى الأعم. وعلى أي حال تنقسم المقدمة إلى الخارجية
المحضة ، والداخلية المحضة ، والوسط بينهما.
وقد عرفت دخول
الأولى في محل النزاع ، وخروج الثانية عنه ، وامّا الثالثة فهل تكون داخلة في مورد
البحث أم لا؟ فيه تفصيل ، وذلك لأنّ الشرط المقيد به الواجب تارة : يكون خارجا عن
تحت اختيار المكلف وإرادته نظير القبلة والوقت ، ولا ينافي ذلك كون التقيد به
اختياريا ، كما هو ظاهر ، وأخرى : يكون القيد أيضا تحت قدرة المكلف كنفس التقيد ،
أعني الحصة الخاصة.
اما ما كان من
الشرائط من قبيل الأول ، فلا مجال لتوهم دخوله في مورد
البحث ، إذ لا
معنى لوجوب امر خارج عن الاختيار.
واما ما كان من
قبيل الثاني ، فالظاهر إلحاقه بالمقدمات الخارجية المحضة ، فيكون واجبا بوجوب
ترشحي على القول بوجوب مقدمة الواجب.
ثم انّ التقسيمات
التي قسموا المقدمة إليها امّا ان ترجع إلى أحد المذكورات أو تكون خارجة عن مورد
النزاع.
ومن التقسيمات ،
تقسيمهم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية.
اما العقلية فهي
التي عبّرنا عنها بالخارجية ، أعني ما يكون توقف الواجب عليه عقليا غير مستند إلى
الشارع ، كالمشي بالإضافة إلى الحج.
واما الشرعية فهي
المقدمات الداخلية بالمعنى الأعم ، أعني بها ذات القيد والشرط الّذي يكون توقف
الواجب عليه لأجل أخذ الشارع التقيد به في المأمور به.
واما العادية ،
فان أريد بها مجرد ما جرت العادة عليها فقط من دون ان يكون هناك توقف ومقدمية ،
نظير الأكل باليد اليمنى الّذي جرت عليه العادة من غير توقف الأكل على ذلك ، فلا
ريب في خروجه عن حريم النزاع ، فالأمر بالأكل ليس امرا بالأكل باليد اليمنى أصلا.
وامّا ان أريد به
المقدمة العقلية التي كان منشأ مقدميتها الأمر الطبعي والعادي ، كنصب السلّم أو
الدرج بالقياس إلى الكون على السطح الّذي يتوقف الواجب عليه عقلا إلّا انّ منشأه
انما هو عدم كون الإنسان ذا جناح ، بحسب العادة والطبع ، وإلّا لم يكن صعوده
متوقفا على نصب السلم عقلا ، فهو داخل في المقدمات الخارجية.
واما تقسيمها إلى
مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ، فيرجع إلى ما ذكرناه أيضا ، إذ المراد من مقدمة
الوجود المقدمات العقلية ، أعني الخارجية التي يتوقف
عليها الواجب عقلا
، والمراد من مقدمة الصحة هو الاجزاء والشرائط المعبر عنها بالمقدمات الداخلية
بالمعنى الأعم ، فانّ الصحّة ليست إلّا مطابقة المأتي به مع المأمور به من حيث
الأجزاء والشرائط.
واما تقسيمها إلى
مقدمة الوجوب ومقدمة الواجب ، فأجنبي عن المقام ، لأنّ مقدّمة الوجوب لا يعقل
دخولها في محل البحث ، فانّ الوجوب متوقف على ثبوتها في ظرفها ، فلا وجوب قبل
تحققها ليترشح منه الوجوب المقدمي إليها ، وبعد فرض تحقق الوجوب لا محالة تكون
المقدمة مفروض التحقق ، فلا يعقل طلبها لأنه طلب الحاصل.
واما المقدمة
العلمية ، فهي أيضا خارجة عن محل البحث ، وذلك لأنّ تحصيل العلم بإتيان المأمور به
ليس من الواجبات الشرعية ، وانما هو واجب عقلا بعد العلم بالاشتغال ، فمقدماته
كالصلاة إلى أربع جهات أيضا تكون واجبة عقلا ، بمعنى صحة العقاب من المولى إذا لم
يصادف المأتي به الواقع.
وبالجملة فالصحيح
في التقسيم ما بيّناه لا غيره.
[الشرط المتأخر]
ثم يقع البحث عن
الشرط المتأخر ، ولكن موضوع البحث فيه أعم من مقدمة الوجوب ومقدمة الواجب
استطرادا.
فنقول : يقسم
الشرط إلى المتقدم والمتأخر والمقارن ، والشرط المتأخر تارة : يكون شرطا للحكم
التكليفي ، وأخرى : يكون شرط الحكم الوضعي ، كالإجازة في البيع الفضولي ، وثالثة :
يكون شرطا للواجب مع إطلاق الوجوب.
وتظهر ثمرة البحث عن
إمكان الشرط المتأخر في مثل الإجازة بالقياس إلى
العقد الفضولي ،
فان ظاهر أدلتها هو الكشف الحقيقي. فان أثبتنا إمكان الشرط المتأخر نأخذ بظواهر
الأدلة ، ونقول بكاشفية الإجازة بالكشف الحقيقي ، وان قلنا باستحالته فلا بدّ من
رفع اليد عن ظاهر الدليل والقول بالنقل ، أو بالكشف الحكمي كما ذهب إليه الشيخ قدسسره.
ثم لا يخفى ما في
كلام المحقق الخراسانيّ قدسسره ، في الكفاية في موردين :
الأول : ما ذكره
في أول دخوله في البحث عند بيان استحالة الشرط المتأخر ، من انّ الشرط حيث انه من
اجزاء العلّة لا بدّ من تقدمه على المشروط ، فيستحيل الشرط المتأخر.
ونقول : إن أراد
من تقدم الشرط تقدمه زمانا ، فهو مضافا إلى كونه خلاف الواقع ، إذ ربما يكون الشرط
مقارنا زمانا مع المشروط ، مناقض لما صرح به بعد ذلك من لزوم تقارن الشرط مع
المشروط زمانا.
وان أراد به
التقدم الرتبي أي بالطبع ، فهو وان كان صحيحا إلّا انه لا يناسب ما فرعه عليه من
استحالة الشرط المتأخر زمانا ، إذ لا تنافي بين التقدم الرتبي والتأخر الزماني ،
كما لا منافاة بين السبق بالشرف والتأخر بالزمان ، كما انّ نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم مقدم بالشرف على سائر الأنبياء ومتأخر عنهم بالزمان ،
فالعبارة غير خالية عن المسامحة. اللهم إلّا ان يراد من ذكر السبق الرتبي بيان كون
الشرط من اجزاء العلّة ليرتب على ذاك استحالة تأخره.
وكيف كان فانّ
بيان استحالة الشرط المتأخر بتقريب أحسن كان ممكنا ، بان يقال : لو وجد المشروط
حينئذ قبل وجود شرطه ، فاما ان يكون الشرط باقيا على شرطيته ودخيلا في العلّة ، أو
لا ، وعلى الأول يلزم وجود المعلول قبل وجود علّته ،
__________________
أي تأثير المعدوم
في الموجود وهو محال ، وعلى الثاني يلزم الخلف وعدم شرطية ما فرض شرطيّته.
الثاني : ما ذكره
بعد ذلك من انّ الشرط لا بدّ وان يكون مقارنا مع المشروط ، فالشرط
المتقدم أيضا مستحيل كالشرط المتأخر.
وهذا بظاهره واضح
الفساد ، فانّ ما يعتبر فيه التقارن انما هو المفيض والمقتضي دون بقيّة اجزاء
العلة ، ولذا ترى بالوجدان انّ تقدم وجود آدم عليهالسلام زمانا علينا من انّ وجوده مما يتوقف عليه وجودنا ، والصعود
على الدرج الأول مقدم على الصعود على السطح ، مع كونه من اجزاء علته ، فالشرط كما
يمكن ان يكون مقارنا مع المشروط ، يمكن ان يكون متقدما عليه إذ الشرط اما ان يكون
مؤثرا في اقتضاء المقتضي ، أو يكون مؤثرا في قابلية المحل ، فيمكن ان يتحقق سابقا
على تحقق المعلول ويؤثر اثره فيعدم حين تحقق المعلول ، مثلا الجسم المدهون لا يقبل
اللون ، فيغسل أولا ، ثم بعد ذلك يصبح باللون.
وبالجملة ليس لنا
كلام في معنى لفظ الشرط ، وانما الكلام فيما يتوقف عليه الشيء سواء سمي بالشرط أو
بالمعد ، فيمكن ان يكون ما له دخل في تأثير المقتضي أو في قابلية الصورة للعروض
على المادة أو في قابلية المادة لطرو الصورة عليها مقدما على تحقق ذلك الشيء زمانا
، كما يمكن ان يكون مقارنا معه.
نعم الشرط المتأخر
مستحيل لاستلزامه تأثير المعدوم في الموجود كما ذكر ، اللهم إلّا ان يكون مراده قدسسره بيان المعنى الاصطلاحي ، وما هو الفارق بين الشرط والمعدّ
بحسب الاصطلاح ، وهو بعيد من ظاهر كلامه قدسسره.
وكيف كان يقع
الكلام أولا : في الشرط المتأخّر بالإضافة إلى الواجب ، وقد
__________________
عرفت انّ ثمرة
البحث انما هي الأخذ بظاهر الدليل على تقدير إمكانه ، ولزوم رفع اليد عنه على
تقدير استحالته.
وقد ذكر في إمكان
ذلك وجوه :
١ ـ منها : ما
ذكره في الكفاية ، من انّ شرط الواجب ليس من قبيل الشرط في العلل الخارجية
ليكون مؤثرا فيها ، وانما هو بمعنى ما يتصف الواجب بالإضافة إليه بالحسن
والمحبوبية ، أو بالوفاء بالغرض ، ومن الظاهر انّ حسن الأفعال وقبحها يختلف
بالوجوه والاعتبار ، ومنها الإضافات ، مثلا الفعل الواحد كالنظر إلى امرأة معيّنة
بالإضافة إلى زوجها حسن وبالإضافة إلى الأجنبي قبيح ، وأمثلته في العرفيات كثيرة ،
فانّ كثيرا من الأفعال تكون بالإضافة إلى الأشخاص المتعارفين حسنا ، وبالإضافة إلى
زعيم القوم قبيحا ، أو بالعكس ، ومن الوجوه عنوان الفعل بعمل آخر مثلا رفع عمامة
أحد في الملأ عن رأسه قبيحا ، إلّا إذا كان متعقبا بقتل العقرب الّذي رآه في
عمامته ، فانه حينئذ يكون حسنا ، أو عنوان مسبوقيته بشيء ، مثلا ضرب المؤمن بلا
جهة قبيح ، وإذا كان مسبوقا بصدور عمل قبيح منه يكون حسنا ، والمقام من هذا القبيل
، فانّ ملحوقية الواجب بشيء يمكن ان يكون دخيلا في اتصافه بالحسن وإضافة العمل إلى
الفعل المتأخر موجبا لمحبوبيّته.
ونقول : ما أفاده
صحيح بالقياس إلى الحسن أو القبح الّذي هو من الأمور الاعتبارية ، ولكنه لا ربط له
بالواجبات على ما هو الصحيح عندنا من تبعية الأحكام لمصالح في متعلقاتها ، فانّ
الواجب حينئذ يكون مؤثرا في المصلحة ، فيلحق بالعلل الخارجية ويجري فيه ما تقدم.
__________________
٢ ـ ومنها : ما
أجاب المحقق النائيني عن الإشكال ، بأنّ الامتثال لا يحصل إلّا بعد إيجاد الشرط
المتأخر ، ببيان انّ الأمر بالعنوان الانتزاعي لا محالة يرجع إلى الأمر بمنشئه ،
إذ لا وجود إلّا لمنشئه ، فالأمر الضمني المتعلق بالتقيد الّذي هو أمر انتزاعي
متعلق بنفس القيد لا محالة ، فكأنّ الأمر متعلق بالمركب من الاجزاء ومن القيد ،
ومن ثم لا يحصل الامتثال الملازم لإتيان المأمور به إلّا بعد إيجاد الشرط المتأخر
، فلا يلزم المحذور.
وما أفاده مبني
على مقدمتين :
الأولى : انه لو
تعلّق الوجوب بالأمر الانتزاعي فلا محالة يكون متعلّقا بمنشإ انتزاعه ، إذ لا وجود
في الخارج إلّا له.
الثانية : انّ
التقيد انما ينتزع من ذات القيد ، فالأمر المتعلق بالتقيد متعلق بذات القيد ،
فيكون الشرط المتأخر نظير الاجزاء التدريجية في المركب ، وكما لا يحصل الامتثال في
ذلك إلّا بعد الإتيان بالجزء الأخير من المركب كذلك لا يحصل الامتثال في الشرط
المتأخر إلّا بعد الإتيان به خارجا.
وعليه ففي الحقيقة
يرجع الشرط المتأخر إلى الشرط المقارن ، فيندفع الإشكال من أصله ، لأنه انما كان
يلزم بناء على حصوله قبل تحقق الشرط.
وفي كلتا
المقدمتين نظر.
أما الأولى : أعني
أصل الكبرى ، فلأنّه لو أريد من الأمر الانتزاعي العناوين الاعتبارية ، كالعناوين
الاشتقاقيّة ، مثل عنوان العالم والقائم ونحوه ، فهو متين جدا ، إذ ليس لهذه
العناوين ما بإزاء في الخارج ، وانما الموجود في الخارج هو الذات والوصف ويسند
وجودهما إلى العنوان الاشتقاقي بالعناية والمسامحة ، فالأمر بها أمر
__________________
بمنشإ انتزاعها.
واما ان أريد بها
مقولة الإضافة ، كعنوان الفوق والأكبر والأصغر والأبوّة والبنوّة ، وأمثال ذلك مما
هي من المقولات الحقيقية ، ويكون لها وجود مستقل ، وهي خصوصيات ثابتة في محالها
غايته انّ وجودها أضعف من وجود سائر المقولات ، غير وجود الهيولى ، فانه أضعف من
وجود مقولة الإضافة المتقومة بذاتها بطرفين ، فهي متحققة سواء كان هناك عاقل
ومعتبر أم لم يكن ، فالسماء متصف بالفوقية المنتزعة من كون الشيء في جهة العلو
حقيقة ولو لم يكن معتبرا أصلا ، وهكذا الأرض متصفة بالتحتية ، والجبل أكبر من
النملة ، وهكذا سواء كان مدرك أم لم يكن.
فالعقل في هذه
الموارد يدرك الأمر الواقعي ، لا انه يعتبر الفوقية أو التحتية أو الكبر والصغر ،
ومن هذه الجهة تعد الإضافة من المقولات الحقيقية ، فالأمر بهذه العناوين يكون امرا
بذواتها ، وتكون أطرافها مقدمة لتحققها خارجا.
واما المقدمة
الثانية : وهي بيان الصغرى وتطبيق الكبرى على المقام ، فقد عرفت انّ التقيد أمر
واقعي ، وليس منتزعا من القيد ، وانما القيد مقدمة لحصوله ، ومن ثم يمكن الأمر
بالمقيد مع عدم قدرة المكلف على إيجاد القيد فيما إذا كان إيجاد المقيد ممكنا
كالأمر بالصلاة في الوقت أو إلى القبلة ، مع انه على ما أفاده يستدعي ذلك الأمر
بما لا يطاق.
هذا مضافا إلى انّ
لازم ما ذكره قدسسره ان لا يكون في البين فرق بين الجزء والشرط ، لأنّ الجزء ما
هو دخيل في المركب قيدا وتقيدا ، والشرط ما يكون دخيلا فيه تقيدا لا قيدا ، وعلى
ما أفاده يلزم ان يكون جميع الشروط أيضا دخيلة في المركبات قيدا أيضا.
على انه قدسسره فرّق بين الجزء والشرط في خروج الأول عن حريم النزاع بخلاف
الثاني ، وبناء
على ما ذكره لم يبق فرق بينهما أصلا ، فما أفاده غير تام ، فليس ذات القيد مما
تعلق به الأمر النفسيّ ، وعليه فيحصل الامتثال قبل حصول الشرط ، غايته يكون مراعى
من حيث الكشف ، فيعود الإشكال.
٣ ـ والتحقيق ان
يقال : في حل الإشكال انه ليس المراد من شرط الواجب معناه الاصطلاحي ، وانما
المراد منه ما يكون الواجب مقيدا ومربوطا به من دون ان يكون للشرط تأثير فيه أو في
وفائه بالغرض أو في ترتب المصلحة عليه ، وانما الواجب هو الحصّة الخاصة من الطبيعي
، ومن الواضح انّ التحصص كما يحصل بتقيد المأمور به بالأمور المقارنة يحصل بالأمور
السابقة واللاحقة أيضا. مثلا القيام له صنفان ، وينقسم إلى القيام الملحوق
بالمطالعة ، والقيام الغير الملحوق بها ، فيمكن ان يكون خصوص الصنف الأول وافيا
بالغرض والمصلحة دون ان يكون لثبوت القيد في ظرفه دخل في ذلك أصلا حتى بنحو
المقدمة ، فانّ السبق واللحوق لهما خصوصية من بين سائر أنواع الإضافات ، فيتحقق كل
منهما حقيقة مع عدم تحقق الآخر. مثلا الآن الأول سابق على الآن الثاني ومتصف
بالسبق واقعا قبل وجود الآن الثاني ، وهكذا العكس.
والمقام من هذا
القبيل ، فصوم المستحاضة يكون ملحوقا بالغسل حقيقة من أول تحققه فيما لو أتت
المرأة بالغسل في الليل ، فالغسل انما يكون كاشفا عن ملحوقية الصوم به ليس إلّا ،
نظير اشتراط خياطة الثوب في ضمن البيع مثلا ، فانّ الإتيان به في ظرفه يكشف عن
صحّة البيع ونفوذه من أول الأمر.
توضيح ذلك : انّ
ما يتصف ذاتا بالسبق واللحوق انما هو التدريجيات كأجزاء الزمان الغير القابلة
للاجتماع في الوجود ، وانما ينعدم منها جزء ثم يوجد الجزء الآخر ، فالجزء الأول
متصف بالسبق حقيقة ويكون متقدما على الجزء الثاني قبل تحققه.
واما الأمور الزمانية
كالأفعال ، فهي انما تتصف بالسبق واللحوق بالعرض ، ومن حيث تقيدها بالزمان السابق
أو اللاحق ، فالفعل المقيد بكونه واقعا في الجزء الأول من الزمان حقيقة متصف
بالتقدم بالإضافة إلى الجزء الثاني من الزمان وبالقياس إلى الزماني الآخر المقيد
بالزمان الثاني ، ولا مانع من تقيد الفعل بالزمان المعبر عنه اصطلاحا بمقولة «متى»
، كما لا مانع من تقيده بالمكان المعبر عنه بمقولة «الأين» ، وعليه فكما يمكن ان
يكون الفعل المقارن لزمان خاص كالصلاة المقارنة للزوال مثلا ، أو المسبوق بزمان
خاص كالصلاة بعد المغرب ، أو الملحوق بزمان معين كالصلاة قبل المغرب وافيا بالغرض
أو المصلحة ، كذلك يمكن ان يكون العمل المقارن لفعل خاص أو السابق عليه أو اللاحق
به وافيا بالمصلحة ومتعلقا للأمر ، فيكون المطلوب حينئذ هو الحصة الخاصة من
الطبيعي.
وان شئت فعبر عنها
بالمشروط أو بالمقيد ، كالصوم المتعقب بالغسل في الليل من دون أن يكون للغسل دخل
وتأثير في المأمور به وفي ترتب المصلحة عليه أصلا ، ولا نعني بالشرط في الواجب
إلّا أخذ التقيد به في المأمور به ، ومن الظاهر انّ الصوم حقيقة يتصف بالتعقب من
حين تحققه فيما إذا أتت المرأة بالغسل في الليل ، فلا يبقى حينئذ إشكال أصلا.
هذا كله في الشرط
المتأخر بالقياس إلى الواجب.
واما بالقياس إلى
الحكم كاشتراط الملكية الحاصلة بالبيع الفضولي بالإجازة المتأخرة فقد وقع الخلاف
بين المحققين في إمكانه واستحالته ، وحيث انّ جملة من العلماء ذهبوا إلى استحالته
لم يمكنهم الالتزام بالكشف الحقيقي في إجازة الفضولي ، فاختار بعضهم الكشف الحكمي
، وبعضهم القول بالنقل ، إذ لا يلزم فيه إشكال إلّا من حيث تقدم الشرط ، أعني
العقد وانعدامه حين ثبوت الأثر ، وقد عرفت انه ليس في ذلك كثير إشكال ، كما نشاهد
ثبوت مثله في الأمور التكوينيّة.
وكيف كان فقد ذهب
صاحب الكفاية رحمهالله إلى إمكان ذلك أيضا.
وقد أفاد في وجهه
بما وحاصله : انّ الأمور الخارجية يستحيل دخلها بما هي خارجية في الأفعال
الاختيارية وإلّا لخرجت عن الاختيارية فيما إذا كانت تلك الأمور خارجة عن الاختيار
، بل المؤثر في الفعل الاختياري انما هو الأشياء بوجوداتها العلمية ، أي لحاظها ،
ولذا كثيرا ما يتخلف من الطرفين ، مثلا يكرم زيدا باعتقاده انه هو الّذي أكرمه
سابقا والحال انه لم يكن ذاك الشخص ، وربما ينعكس الأمر ، فالمؤثر انما هو الوجود
العلمي ، وكما يمكن تعلق العلم واللحاظ بالوجود المقارن يمكن تعلقه بالأمر السابق
أو المتأخر ، مثلا يكرم زيدا بلحاظ انه كان قد أكرمه سابقا ، أو يكرمه باعتقاد انه
يعطيه المال بعد ذلك ، ومن الواضح انّ الأحكام من الأمور الاختيارية ، فلا يؤثر
فيها الأمور الخارجية ، وانما المؤثر فيها هو اللحاظ ، فيلحظ البيع المتعقب بالإجازة
فيحكم بكونه موردا للملكية.
وبالجملة : ارجع
صاحب الكفاية شرائط الحكم بأجمعها إلى شرطية اللحاظ ، بدعوى : استحالة دخل الأمور
الخارجية في الأفعال الاختيارية سوى ما يكون دخيلا في القدرة عليها ، نظير دخل
الحبل الخارجي في الاستقاء ، والشاهد عليه ما نراه من التخلف من طرفين.
ونقول : ما أفاده
وان كان متينا في نفسه ، إلّا انه لا يرتفع به الإشكال ، وذلك لأنّ للحكم بأيّ
معنى كان مقامين : مقام الجعل ، ويعبر عنه بمقام الإنشاء. ومقام المجعول المعبر
عنه بمرحلة الفعلية.
والحكم في مقام
جعله كما أفاده لا يعقل ان تكون الأمور الخارجية بوجوداتها الواقعية دخيلة فيه ،
وانما المؤثر فيه هو الأمور النفسانيّة من التصور
__________________
واللحاظ والتصديق
بالفائدة والعزم والجزم والإرادة ونحوها ، وتأثير تلك الأمور فيه تأثير حقيقي ،
فإطلاق الشرط على لحاظ المتعلق بما له من القيود إطلاق حقيقي لا مسامحي فيلاحظ
المولى الحج ، ويلاحظ المستطيع من حيث الزاد والراحلة وبقية الأمور ، فيجعل وجوب
الحج على المستطيع ، وارتفاع ذلك لا يكون إلّا بالنسخ.
وهذا بخلاف الحكم
في مقام الفعلية ، فانّ ما يكون دخيلا في فعلية الحكم انما هو تحقق موضوعه وما أخذ
فيه خارجا ، كما انّ ارتفاعها يكون بارتفاعه ، ولا يكفي فيها مجرد اللحاظ ، ولذلك
ترى انّ وجوب الحج مثلا يكون فعليا بالإضافة إلى من تحققت له الاستطاعة ولا يكون
فعليا في حق غيره ، مع انّ نسبة اللحاظ إلى الجميع على حد سواء. على انه لو كان
اللحاظ هو الموجب لفعلية الحكم لزم ان يكون وجوب الحج فعليا حين جعله قبل ألف
وأربعمائة سنة تقريبا.
والحاصل : لا يعقل
ان تكون نجاسة الملاقي للنجس فعلية قبل حصول الملاقاة ، كما لا يعقل فعلية حرمة
شرب الخمر قبل وجوده في العالم ، ولا يعقل فعلية الحج قبل حصول الاستطاعة ، وانما
تكون فعلية الحكم بفعلية موضوعه بماله من القيود.
ولا يخفى انّ
التعبير بالموضوع في بعض الموارد وبالشرط في بعض الموارد الأخر وبالسبب في غير ذلك
ليس مبنيا على ملاك ، ولم نفهم إلى الآن وجها لتعبيرهم بهذه العناوين في الموارد
المختلفة ، ولذا يصح لك التعبير بأي منها شئت ، وسر ذلك واضح ، فانّ جميع هذه
الأمور دخيلة في فعلية الحكم ، فلا مانع مع التعبير عنها بالموضوع ، أو بالسبب ،
أو بالشرط.
وأوضح مثال يتضح
به الفرق بين مرحلة الجعل ومقام المجعول ، ما إذا أوصى أحد ان يكون داره لزيد بعد
موته ، فانّ الملكية في مقام الجعل قد تحققت بمجرد ذلك ، ولكن لا تثبت الملكية
الفعلية لزيد إلّا بعد تحقق الموت ، فانّ المنشأ انما كان
مقيدا بذلك.
إذا عرفت هذا نقول
: جعل الشارع الملكية في التجارة عن تراض بقوله عزّ شأنه : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) فالملكية الجعلية تمّت بذلك ، ولكن لا معنى للقول بثبوت
الملكية الفعلية قبل تحقق التجارة خارجا ، أو قبل حصول شرطها وهو التراضي ، فإذا
وقع العقد الفضولي يستحيل ثبوت الملكية الفعلية قبل تحقق رضاء المالك الّذي فرض
دخله فيها ، ومن هذه الجهة التزم المحقق النائيني بالكشف الحكمي في العقد الفضولي
دون الحقيقي ، ورفع اليد عن ظاهر تلك الآية.
وتوضيح ما تقدم هو
: انه تارة يكون الحكم مجعولا بنحو القضايا الخارجية الشخصية ، مثلا يلاحظ فقر زيد
فيقول لعبده أعط زيدا درهما ، وأخرى يكون الحكم مجعولا بنحو القضايا الحقيقية بان
يجعل الحكم على العنوان من دون ان يلحظ الخارج أصلا ، بل ربما يكون جاهلا أو غافلا
بما ينطبق عليه ، مثلا يقول لا تدخل في سفرك على كافر مثلا مع انه لا يدري كيفية
سفره ومنازله ومن يرد عليه في أثناء الطريق أصلا.
اما ما كان من
قبيل الأول ، فليس له مرتبتان ، لأنه بنفس الجعل يكون فعليا لا محالة ، كما انه لا
يكون للموجود الخارجي دخل فيه أصلا ، بل جميع مباديه تكون من الأصول النفسانيّة من
اللحاظ ونحوه ، ولذا يكون انتفاء الشرط المتأخر فيه من قبيل السالبة بانتفاء
الموضوع.
واما ما كان من
قيل الثاني ، فنفس الجعل فيه لا يتوقف الا على لحاظ الموضوع بما له من القيود
والخصوصيات ، واما فعليته فمتوقّفة على وجود
__________________
موضوعه ، خارجا إذ
لا معنى للبعث الفعلي من غير وجود المبعوث ، فيستحيل التخلف بينهما كما يستحيل
تخلف العلّة عن المعلول وبالعكس.
وحيث انّ القيود
المأخوذة في الحكم بأجمعها ترجع إلى الموضوع كما ذكره المحقق النائيني قدسسره ففعلية الحكم تتوقف على فعلية قيود الموضوع وشرائطه أيضا ،
مثلا كما لا يمكن فعلية الحكم المجعول بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) بدون تحقق عقد خارجا هكذا تستحيل فعليته من دون تحقق
التراضي أيضا.
وكيف كان فالنزاع
في الشرط المتأخر للحكم انما هو في المرحلة الثانية كما صرح به في الفصول وغيره ،
ولهذا مثلوا لذلك بالإجازة في بيع الفضولي ، وذهب جماعة ممن يرى استحالة الشرط
المتأخر إلى الكشف الحكمي في ذلك دون الكشف الحقيقي.
تلخص من جميع ما
ذكر انّ الوجه في استحالة الشرط المتأخر هو ما أفاده المحقق النائيني قدسسره من انّ كل قيد أخذ في الحكم يرجع إلى الموضوع لا محالة ،
فإذا أمكن فعلية الحكم من دون تحقق شرطه لزم تحقق الحكم من دون فعلية موضوعه ، وهو
نظير تحقق المعلول من دون حصول علّته التامة. وان شئت قلت : انّ الشرط المتأخر ان
لم يكن دخيلا في الموضوع فهو خلف ، وان كان دخيلا فيه ومع ذلك تحقق الحكم الفعلي
من دون تحققه يلزم فعلية الحكم مع عدم فعلية الموضوع.
والجواب عنه انّ
فعلية الموضوع بقيوده وان كانت معتبرة في فعلية الحكم لأخذها مفروضة التحقق فيه ،
إلّا انّ كيفية الأخذ مختلفة ، فانه كما يمكن أخذ بعض القيود مفروض التحقق في
الحكم بنحو التقارن كما هو الغالب ، يمكن أخذ القيد
__________________
مفروض الوجود في
الزمان المتقدم أو في الزمان المتأخر.
وبعبارة أخرى :
تارة يكون المفروض هو الوجود المتقدم ، وأخرى الوجود المقارن ، وثالثة الوجود
المتأخر. ففي مرحلة الإمكان كل ذلك ممكن ، مثلا يحكم المولى بوجوب الحج متسكعا على
من كان عاصيا للتكليف بالحج عن الاستطاعة في ظرفها ، ومن الواضح انّ العصيان امر
حدث وانعدم في ظرفه ، وليس له بقاء حين إيجاب الحج متسكعا أصلا ، وهكذا من فات منه
الصوم يجب عليه القضاء وان لم يكن الفوت مقارنا ، وكذلك الحال في جميع الأمور التي
يكفي حدوثها لثبوت الحكم بقاء أيضا كالحد بالقياس إلى رد الشهادة أو عدم جواز
الائتمام به ، إلى غير ذلك ، فإذا أمكن أخذ الأمر المتقدم وفرضه في الموضوع ، أمكن
فرض تحقق الأمر المتأخر في ظرفه في الموضوع أيضا ، ومثاله الواضح عرفا انّ مالك
الحمام يكون راضيا فعلا بدخول الرّجل في الحمام وتصرفه فيه إذا دفع الأجرة إليه بعد
فراغه وحين خروجه من الحمام ، فتعلق رضائه بعنوان من يدفع الأجرة حين الخروج وعدم
رضائه بمن لا يدفع ذلك ، ومثاله الواضح ما إذا أوصى الميت بدفع ثلثه إلى ولده
الصغير إذا اشتغل بالتحصيل بعد بلوغه ، فانه يملك المال من حين موت الموصي لو كان
محصلا حين بلوغه فيما بعد ، ولذا يدخل نماء ذلك المال في ملكه من حين موت الموصي ،
وهذا الّذي ذكرنا تصويره في القضايا الخارجية يكون أوضح من القضايا الحقيقية.
وعلى أي حال فإذا
كان الشرط مفروض الوجود في الزمان المتأخر فلا محالة يكون الحكم فعليا لو تحقق ذلك
الشرط في ظرف وجوده.
هذا كله في مرحلة
الإمكان.
واما في مقام
الإثبات ، ففي جملة من الموارد لا بدّ من الالتزام بالشرط المتأخر ، لظهور الدليل
في ذلك ، كما في موت المورث الّذي له ولد وهو حمل في بطن أمه ، فانه يرث أباه ،
إلّا انه مشروط بان يولد حيا ، فإذا ولد حيا يكشف عن كونه
مالكا من أول
الأمر ولذا يملك نماء الإرث أيضا. ومن ذلك إسلام الوارث قبل قسمة الإرث ، فانه
يملك من أول الأمر لو أسلم قبل القسمة.
وفي جملة من
الموارد لا بدّ من الالتزام بذلك عقلا كما في الواجبات التدريجية كالصلاة والصيام
، فانّ الصلاة حيث انها مركبة من أمور تدريجية ارتباطية فوجوب الجزء الأول منها
مشروط بحياة المكلف وقدرته على آخر جزء من اجزائه ، فلو مات في أول الوقت قبل مضي
مقدار من الوقت يتمكن فيه من إتمام الصلاة يكشف ذلك عن عدم كونه مكلفا بالصلاة من
أول الأمر ، وهكذا في الصوم ، فالحائض في أثناء النهار لا تكون مكلفة بالصوم أصلا
، فأمرها بالإمساك في أول النهار مشروط بتمكنها من الصوم إلى آخر الغروب.
وفي بقية الموارد
لا بدّ من مراجعة الأدلة والاستظهار منها ، كالإجازة ونحوها ولا بأس بتوضيح المقال
في الإجازة.
فنقول : ظاهر قوله
تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) هو اعتبار الرضا المقارن للملكية ، كما هو ظاهر دليل
اعتبار القبض في بيع الصرف والهبة ، فانّ الملكية الفعلية في الموردين لا تتحقق
إلّا بعد تحقق القبض ، إلّا انه فرق بين الرضا والقبض ، فانّ الرضا حيث انه من
الأمور النفسانيّة التعلقية ذات الإضافة كما يمكن تعلقه بأمر مقارن يمكن تعلقه
بأمر متأخر وبأمر سابق.
ففي العقد الفضولي
يتعلق الرضا والإجازة المتأخرة بالعقد السابق ، فذاك العقد من حين تعلق الإجازة به
يستند إلى المجيز ، ويكون عقده ، فيتوجه إليه خطاب (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) أي بعقودكم ، ومعنى ذلك لزوم ترتيب آثار العقد
__________________
السابق عليه
والحكم بثبوت الملكية السابقة من حين تحقق الإجازة بان يعتبر من حين تحققها
الملكية السابقة للمشتري على المبيع ، وللبائع على الثمن.
وهذا هو معنى
الكشف ، وبه يجمع بين الأخبار الواردة في ذلك ، مثل ما ورد في ما إذا وقع النكاح
الفضولي بين صغيرين فمات أحدهما وكبر الآخر فأجازا العقد من انه يستحلف المجيز على
رضائه بالزوجية ، فإذا حلف يرث من الطرف ، وينتقل إليه الإرث منه من حين موته.
ولكنه قد أورد على
ما ذكرناه بوجوه ثلاثة :
الأول : ما ذكره
الشيخ وتبعه النائيني قدسسره من أنّ الملكية المنشأة بعقد البيع الواقع فضوليا لم تكن
ملكية مقيّدة بكونها من حين العقد وانما هي طبيعي الملكية ، فالرضا بها وإجازتها
غير مستلزم لثبوت الملكية السابقة أصلا.
وفيه : أولا : إنا
ننقل الكلام فيما إذا كان العقد الواقع فضولة إجارة ، بان آجر أحد دار زيد من أول
الشهر فأجازه المالك في آخره مثلا ، فانّ المنشأ بالإجارة انما هو تمليك المنفعة
المقيدة بزمان سابق ، فلا يجري الإشكال فيه.
وثانيا : انّ
الملكية المنشأة بالبيع وان لم تكن مقيدة ، إلّا انها لم تكن مقيدة بالعدم أيضا ،
فلا بدّ وان تكون مطلقة ، لاستحالة الإهمال النّفس الأمري ، ولازم إطلاقها ثبوتها
من حين العقد ، والمفروض انّ الإجازة قد تعلقت بتلك الملكية المطلقة ، فلا بدّ من
الحكم بثبوتها كلها.
الثاني : انّ هذا
مستلزم للانقلاب وكون المملوك الواحد ملكا لشخصين في زمان واحد.
وفيه : انه لا ضير
في ذلك إذا كان زمان الاعتبارين متعددا وان كان زمان
__________________
المعتبرين وظرفه
متحدا ، إذ لا يلزم منه حينئذ اجتماع الضدّين وثبوت مالكين لمملوك واحد في زمان
واحد كما هو واضح.
الثالث : ما ذكره
المحقق النائيني قدسسره من انه إذا أمكن ثبوت الملكية السابقة بالإجازة لأمكن
إنشائها ابتداء أيضا بان يبيع أحد ماله لشخص من قبل سنة.
وفيه : انه لا
مانع من ذلك عقلا لو كان عليه دليل في مقام الإثبات ، فالمنع عن ذلك انما هو
لانصراف دليل صحّة البيع عن مثل ذلك لا من جهة امتناعه عقلا ، فالحق ما قدمناه ،
وتمام الكلام به موكول إلى محله.
ثم لا يخفى انّ
لكاشفية الإجازة معنيان :
أحدهما : ان تكون
الملكية متحققة من حين العقد لكنها تكون مراعاة إلى زمان حصول الإجازة ، نظير
اشتراط التكليف بأول جزء من اجزاء الواجب التدريجي بالقدرة على الإتيان بآخر
اجزائه ، فانّ ثبوت القدرة على ذلك في ظرفه يكشف عن ثبوت التكليف وتعلقه به من أول
الأمر.
ثانيهما : ما
اخترناه من ثبوت الملكية السابقة من حين العقد واعتبارها عند تحقق الإجازة ، وقد
عرفت انه لا يرد عليه إشكال إلّا من حيث اجتماع اعتبار ملكيتين لشخصين في آن واحد
لمملوك واحد ، وقد أجبنا عنه بأنّ الاعتبار لا يزيد عن الأوصاف الحقيقية ، فكما
يمكن تعلق الرضا والسخط في زمانين بأمر واحد في زمان واحد ، وتعلق الجهل والعلم به
، كذلك يمكن تعلق اعتبارين به في زمانين ، ولا إشكال في ذلك ، لأنه يعتبر في
التناقض وحدة الزمان كما هو ظاهر.
هذا كله في الشرط
المتأخر.
__________________
الواجب المطلق والواجب المشروط
قسموا الواجب إلى
القسمين. وقد اختلفت كلماتهم في بيان معنى الإطلاق والاشتراط ، والظاهر انه ليس
لهم في العبارتين اصطلاح خاص ، وانما أرادوا منهما معناهما اللغوي ، فالإطلاق
بمعنى الإرسال ، والاشتراط بمعنى الارتباط ومن ثمّ أطلق الشريط على الخيط الّذي
يربط به بين شيئين.
ثم انّ التعبير
بالواجب المطلق والواجب المشروط في المقام غير خال عن المسامحة ، لأنه يكون من
الوصف للشيء بحال متعلقه ، إذ ليس المراد منه اشتراط الواجب وإطلاقه كاشتراط
الصلاة بالقبلة وإطلاقه من بعض الجهات الأخر ، وانما المراد إطلاق الحكم أعني
الوجوب أو الحرمة أو الإباحة واشتراطها بحيث لا يكون الحكم ثابتا من دون تحقق
الشرط.
ثم انّ الإطلاق
والاشتراط يكونان من الأمور الإضافية ، وإلّا فلا معنى لكون الحكم مطلقا حقيقة ،
إذ لا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة من العقل والبلوغ والحياة والقدرة ، كما انه
قد يكون الوجوب مشروطا بشيء مطلق بالقياس إلى شيء آخر ، ويكون الشيء الواحد شرطا
لواجب ولا يكون شرطا لواجب آخر كالوقت بالقياس إلى وجوب الصلاة وبالقياس إلى وجوب
الزكاة ، فانه شرط في الأول دون الثاني ، وتمام الحول على عكس الوقت.
وكيف كان حيث عرفت
انّ المراد في المقام الواجب المشروط أو المطلق هو الوجوب كذلك نقول : وقع الخلاف
في انّ القيود المأخوذة في الكلام هل ترجع إلى الحكم أعني الهيئة أو ترجع إلى
المادة أعني الواجب؟ نسب الثاني إلى الشيخ في
تقريراته ، وقد
حكى الميرزا قدسسره عن السيد الشيرازي كذب هذه النسبة ، ويظهر ذلك أيضا من ما
ذكره قدسسره في بحث التعليق في العقد حيث التزم برجوع القيد في العقد
المعلق إلى المنشأ أعني الملكية ، ولذا تمسك في بطلان التعليق في البيع إلى
الإجماع ، كما يظهر ذلك أيضا من بعض كلماته في مبحث الاستصحاب ، وعلى أي حال
فالمسألة ذات قولين قال الشيخ بذلك أم لم يقل.
ثم انّ القول
برجوع القيود إلى المادة دون الهيئة تارة يكون من جهة توهم استحالة رجوعها إلى الهيئة
، وأخرى لضرورية رجوعها إلى المادة.
وبالجملة ما ذكره
الشيخ قدسسره من لزوم رجوع القيد مطلقا إلى المادّة دون الحكم وجهين على
ما حكى في تقرير بحثه ، والأول منهما أخص من المدعى ، لاختصاصه بما إذا كان الحكم
أعم من ان يكون وجوبا ، أو حرمة ، أو إباحة مستفادا من الهيئة التي هي معنى حرفي
كصيغة الأمر ، أو بسائر الهيئات المستعملة في مقام الطلب من هيئة الماضي والمضارع
ونحوها. ولا يعم ما إذا كان مستفادا من المادة أعني المعنى الاسمي ، كما في قوله عليهالسلام : «إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور» [١].
ثم انّ ما ذكره من
رجوع القيد إلى المادّة لا يلازم كون القيود المأخوذة في الحكم بأجمعها واجبة
التحصيل ، فانه قدسسره يدعي ان القيود سنخان : فبعض منها واجب التحصيل كالطهارة
بالقياس إلى الصلاة التي ثبت وجوب تحصيلها ، وبعضها غير لازم التحصيل ، ولا يستفاد
من نفس القضية لزوم تحصيل القيد أصلا ، إذ لا معنى لوجوب تحصيل ما أخذ مفروض
الوجود في الواجب.
وكيف كان فالوجه
الأول : من الوجهين هو انّ معنى الهيئة حيث انه من
__________________
المعاني الحرفية
فلا محالة يكون جزئيا ، ولا معنى للإطلاق والتقييد في الجزئي أصلا ، فلا بدّ من
رجوع القيود المأخوذة في القضية إلى المادة.
والظاهر انّ ما
ذكره لا يتم سواء أراد من الجزئي الجزئي الخارجي ، أو الذهني ، أو الإضافي.
بيان ذلك : انه ان
أراد انّ المعاني الحرفية جزئيات حقيقية ولذا لا تكون قابلة للإطلاق ولا للتقييد.
ففيه : أولا : انّ
المعاني الحرفية لا يلزم ان تكون جزئيات خارجية ، إذ قد تكون معاني كلية ، وليس
الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي بالكلية والجزئية ، بل الفرق بينهما بالاستقلال
وعدمه على ما بين في محله.
وثانيا : انّ
الجزئي الخارجي أيضا قابل للتقييد من حيث الحالات ، وانما لا يكون قابلا للتقييد
من حيث الافراد ومن ثم نقول : «زيد الجائي أكرمه».
وثالثا : لو
سلّمنا كون المعاني الحرفية التي منها مفاد الهيئات جزئيات خارجية ، وسلمنا
استحالة تقييد الجزئي حتى من حيث الحالات نقول : انّ ما ذكر من استحالة تقييد
الجزئي مغالطة منشأها مجرد الاشتراك في الاسم ، إذ الإطلاق أو التقييد المستحيل في
الجزئي ما يكون بمعنى السعة والضيق لا ما يراد منه الإرسال والارتباط ، فانّ من الواضح
إمكان ارتباط الموجود الخارجي بشيء حتى في الخارج ، ولا مانع من ان يقال انّ تمام
الموجودات الممكنة مربوطة بخالقها وغير مستغنية عنه.
فالتقييد بمعنى
الربط وعدمه امر ممكن في الجزئي وغيره ، نعم لا معنى فيه للسعة والتضيق كما هو
واضح.
وان أراد من
الجزئي الجزئي اللحاظي وعدم استقلال المعاني الحرفية في اللحاظ لكونها آلية ، فهو
ان سلم من الإيرادات الثلاثة المتقدمة كما لا يخفى إلّا انه
أيضا غير تام.
وبالجملة الوجوه المذكورة لاستحالة رجوع
القيد إلى الهيئة أمور :
الوجه الأول : ما
ذكر من كون المعاني الحرفية جزئيات خارجية ، فلا تكون قابلة للتقييد.
وقد عرفت انّ
الجزئي لا يكون قابلا للتقييد بمعنى التضييق من حيث الافراد ، لا للتقييد من حيث
الحالات.
الوجه الثاني : ما
ذكره النائيني قدسسره من ان المعاني الحرفية ملحوظات آلية وتبعية لا استقلالية ،
فهي كالمغفول عنها ، ومعه كيف يمكن تقييدها؟
وفيه : أولا : قد
عرفت فيما تقدم انّ المعاني الحرفية قابلة للحاظ الاستقلالي ، بل ربما تكون متعلقا
للغرض ، كما لو أريد السؤال عن وقوع صلاة زيد في المسجد فيقال : «زيد صلّى في
المسجد» فليس الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي من حيث تبعية اللحاظ واستقلاليته ،
بل المعنى الحرفي بنفسه معنى تبعي بخلاف المعنى الاسمي.
وثانيا : لو سلمنا
كون المعاني الحرفية ملحوظات باللحاظ التبعي ، فاللحاظ التبعي وان لم يكن مصححا
للإطلاق والتقييد إلّا انّ الملحوظ بذاك اللحاظ لا بدّ وان يكون مطلقا ، أو مقيدا
في مرتبة سابقة على اللحاظ ، لاستحالة الإهمال النّفس الأمري.
فهذا الوجه أيضا
غير تام.
الوجه الثالث : هو
تخلّف الإنشاء عن المنشأ ببيان : انّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى في الوعاء
المناسب له ، وعليه فإذا تحقق الإنشاء ، فاما ان يوجد المنشأ أيضا أعني الحكم
ويكون متعلقه امر تقديريا فهو المطلوب ، واما ان لا يوجد المنشأ
__________________
فيلزم تخلف
الإنشاء عن المنشأ ، وهو بمنزلة تخلف الإيجاد عن الوجود ، وهو خلف واضح ، فانّ
الإيجاد والوجود حقيقة أمر واحد والفرق بينهما اعتباري.
وقد أجاب عن
الإشكال في الكفاية بما حاصله : انّ الإنشاء انما هو كالاخبار ، فكما يمكن
الاخبار والحكاية عن أمر متأخر تقديري لحكاية المنجز الجزمي مثلا تارة نقول «زيد
ابن عمر» وأخرى نقول «مات زيد ان شرب السم» كذلك الإنشاء تارة يتعلق بأمر منجز
فينشأ الحكم المنجز كما لو قال «أكرم زيدا» ، وأخرى يتعلق بثبوت الحكم على تقدير
دون تقدير فيقال «أكرم زيدا ان جاءك» ، فعلى الثاني لا بدّ وان يتأخر المنشأ عن
الإنشاء وإلّا يلزم الخلف ، لأنّ المنشأ بهذا الإنشاء كان امرا تقديريا لا منجزا ،
والمفروض انه لم يتعلق إنشاء بالمنشإ الفعلي المنجز.
هذا والظاهر انه
ليس جوابا عن الإشكال ، فانه انما كان من حيث استحالة تخلف الإيجاد عن الوجود
وامتناع تعلق الإنشاء الفعلي بالمنشإ التقديري.
نعم لو كان ذلك
ممكنا فالتخلف يكون خلفا ، إلّا انّ الكلام فعلا في إمكانه واستحالته ، ولا وجه
لقياس الإنشاء بالأخبار ، إذ الاخبار ليس بابه باب الإيجاد وانما هو حكاية ، فيمكن
تعلقه بأمر استقبالي أو سابق أو مقارن.
فالصحيح ان يقال :
ان الإنشاء على ما عرفت ليس إلّا إبراز الاعتبار النفسانيّ ، كما انّ الاخبار أيضا
كاشف عن قصد الحكاية لا عن النسبة الخارجية ، بداهة عدم استلزامه التصديق بالمخبر
به أصلا ، ولذا لو أخبر أحد بعدم الصانع لا نتيقن من اخباره بذلك وانما نحكم بكفره
وقد ذكرنا انه غير متّصف بالصدق والكذب إلّا من جهة كون المبرز به متعلقا بما في
الخارج ، فالصدق والكذب فيه انما
__________________
يكون من حيث
مطابقة المخبر به مع الخارج وعدمه ، وهذا بخلاف الإنشاء ، فانّ المبرز به ليس له
تعلق بأمر خارجي أصلا.
وعليه فإذا أبرز
اعتبار اللابدية الفعلية يكون الإبراز والمبرز والمبرز ومتعلق الاعتبار جميعها
موجودة فعلا ، وإذا أبرز الاعتبار المتعلق باللابدية على تقدير فالإبراز والمبرز
والمبرز بأجمعها موجودة فعلا إلّا انّ متعلق المبرز أعني الاعتبار امر تقديري بلا
مانع من ذلك.
ويتّضح ما ذكرناه
بملاحظة الأحكام الوضعيّة ، كاعتبار الملكية واقسامها عند العقلاء حتى مع قطع
النّظر عن ورود الشرع ، فانه تارة : يعتبر الملكية الفعلية المتعلقة بمال فعلي
ويبرزه في الخارج كما في الهبة ، وأخرى : يكون الإبراز فعليا والاعتبار أيضا فعليا
والمعتبر أيضا كذلك إلّا انّ متعلق المعتبر يكون امرا متأخرا ، كما في الإجارة
المتعلقة بالمنافع المتأخرة ، فانّ المستأجر بالإجارة يملك جميع تلك المنافع
بالفعل ولذا يجوز نقلها إلى الغير وتورث منه ، فيكون المعتبر في باب الإجارة أعني
الملكيّة فعلية إلّا انها متعلقة بالمنافع المتأخرة. وثالثة : يكون الإبراز
والمبرز والمبرز أعني الاعتبار فعليا فقط دون المعتبر ودون متعلقه بحيث يكون
الاعتبار متعلقا بالملكية المتأخرة كما في الوصية ، فانّ الموصي إذا أوصى بمنافع
أملاكه لشخص بعد موته لا تكون الملكية موجودة وانما توجد الملكية للموصى إليه بعد
موت الوصي ، وانما الموجود بالفعل اعتبار الملكية المتأخرة المتعلقة بأمر متأخر
ولا مانع في شيء من ذلك ، لأن الاعتبار يكون كالبناء الّذي هو قابل للمتعلق بأمر
متأخر ، فيبني الإنسان على الإتيان بعمل خاص في الغد أو بعده.
فإذا أمكن ذلك في
الأحكام الوضعيّة أمكن في التكاليف أيضا ، فلا مانع من ان يعتبر المولى فعلا
اللابدية على تقدير على ذمة المكلف كالدين على تقدير.
والحاصل انّ إشكال
تخلف الإيجاد عن الوجود متفرع على ان يكون الإنشاء
إيجادا للمعنى ،
فيقال حينئذ انه لا فرق بين التكوينيات والتشريعيات في استحالة تخلف الإيجاد فيها
عن الوجود ، وقد عرفت انّ الإنشاء انما هو اعتبار نفساني ، فيصح تعلقه بأمر متأخر
كما يصح تعلق سائر الصفات التعلقية به من التصور واللحاظ والرضا والبناء ونحو ذلك.
الوجه الرابع :
لاستحالة رجوع القيد إلى الهيئة ما ذكره المحقق النائيني من انّ أهل الأدب ذكروا انّ أداة الشرط موضوعة لربط جملة
بجملة ، فالشرط في قولك «ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» يعلق مفاد التالي وهو
وجود النهار على مفاد المقدم وهو طلوع الشمس ، وهكذا لو قال «إذا زالت الشمس فصلّ»
فمفاد صلّ أعني وجوب الصلاة أو اتصافها بالوجوب معلق على زوال الشمس ، وعليه
فالقيود لا ترجع إلى المادة ولا إلى الهيئة ، وانما ترجع إلى مفاد الجملة وهي
النسبة الإيقاعية.
هذا ويرد عليه.
أولا : انّ هذا
عين ما أنكره من رجوع القيد إلى الهيئة غايته بتقريب آخر ، فانّ القائل برجوع
القيد إليها لا يقول برجوعه إلى طبيعي الوجوب مطلقا ، وانما يدعي رجوعه إلى الوجوب
الخاصّ المتعلق بما ذكر في القضية كوجوب الصلاة في المثال ، فعلى القولين يكون
المعلق وجوب الصلاة ، فليس بينهما فرق إلّا لفظي.
وثانيا : انّ مفاد
الجملة لا محالة يكون مستفاد من مجموعها المركب من المعنى الاسمي والحرفي ،
والمتحصل منهما لا بدّ وان يكون معنى حرفيا غير قابل للحاظ الاستقلالي على مسلكهم
، فكيف يكون قابلا للتقييد ، فلا محصل له.
الوجه الخامس : ما
ذكره الشيخ قدسسره من الرجوع إلى الوجدان ، فانّ من تصور
__________________
امرا ، فأما ان لا
يطلبه أصلا ، أو يطلبه مطلقا ، ولا كلام لنا فيهما ، أو يطلبه على تقدير دون تقدير
، وعليه فاما ان لا يكون ذاك التقدير اختياريا للمكلف ، أو يكون تحت اختياره ،
وعلى الثاني فامّا يكون ذاك القيد مما يجب تحصيله على المكلف كالطهارة في الصلاة
فيكون واجب التحصيل فعلا كنفس العمل ، أو لا يكون واجب التحصيل فحينئذ يطلبه فعلا
على تقدير تحقق ذاك القيد خارجا ، ففي جميع الصور يكون الطلب فعليا بالوجدان.
هذا وأجاب عنه في
الكفاية بما حاصله : تسليم ذلك من حيث المقتضي وتمامية الحصر لو لا
المانع ، إلّا انه ذكر انه ربما يكون في البين مانع عن الطلب الفعلي ، فلا محالة
يكون الطلب مشروطا ، كما في الأحكام الواقعية إذا أدى الأصل والأمارة على خلافها ،
فانّ ذلك يمنع عن فعليتها مع تمامية المقتضي لفعليتها ، وكما في الأحكام التي لم
تبين وأخر بيانها إلى امام العصر (عجل الله فرجه) ، فانّ المقتضي فيها تام ولم
يبيّن لمانع.
والتحقيق : عدم
تمامية ما أفاده ، لأنا نرى بالوجدان انّ واجباتنا المشروطة ليست تعليقية الطلب في
جميعها مستندا إلى وجود المانع عن الطلب فعلا مع تمامية مقتضية ، كما في طلب ترك
العبادة عن الحائض ، فانّ الحيض هو المقتضي لترك عبادتها فطلبه قبل ذلك لا بدّ وان
يكون مشروطا بالحيض مع كونه مقتضيا له وهكذا اشتراط التكليف بالبلوغ والعقل
ونحوهما مقتضيا له.
واما المثالان فلا
ربط لهما بالمقام. اما الأحكام الواقعية فهي فعلية ، غاية الأمر انها لا تكون
منجزة للجهل بها ، فيكون المكلف معذورا فيها ، وإلّا لزم التصويب المجمع على
بطلانه. واما ما أخر بيانه إلى زمان الحضور فكما يحتمل فيه ان يكون التأخير لمانع
عن الفعلية يحتمل ان يكون ذلك لعدم المقتضي لها فعلا ، لإمكان
__________________
ان يكون أبناء هذه
الأزمنة بالنسبة إلى اشخاص ذاك الزمان نظير غير البالغ بالإضافة إلى البالغين ،
فلا يكون عدم فعليتها لوجود المانع عن ذلك ، كما يحتمل ان يكون بعضها من هذا
القبيل وبعضها من قبيل الأول.
وأجاب المحقق
النائيني عما نسب إلى الشيخ قدسسره بأنّ الطلب في جميع هذه الصور وان كان فعليا إلّا انّ
الطلب سنخان : فعلي ، وتقديري.
وفيه : انه لا
معنى للوجود التعليقي في التكوينيات أصلا ، فان الشيء ان تحققت علّة وجوده يكون
موجودا لا محالة ، وإلّا فيكون معدوما.
نعم الوجود
التعليقي بمعنى الوجود الشأني الاقتضائي بمعنى الاستعداد والقابلية ثابت ، فانّ
النواة شجر اقتضاء ، بمعنى انّ فيه الاستعداد والقابلية لأن يكون نخلا مثمرا بخلاف
الحصاة التي ليس فيها تلك القابلية ، ولكن الثابت في ذلك أيضا فعلي وهو القابلية
دون غيرها ، فاذن لا معنى للطلب التعليقي الموجود بالفعل.
فالذي ينبغي ان
يقال : انّ لنا في مقام الطلب أمور ثلاثة : الشوق والإرادة بمعنى إعمال القدرة في
تحريك العضلات ، والاعتبار ، فنفتّش عن كل منها لنرى أي منها قابل للتعليق.
اما الشوق فليس
قابلا للتعليق أصلا ، بداهة انّ الإنسان إذا توجه نحو شيء ولو كان امرا متأخرا ان
كان ملائما لقواه يشتاقه بالفعل كاشتياقنا إلى الجنة ، وإلّا فلا يشتاقه أصلا فما
أفاده الشيخ قدسسره من فعلية الطلب على كل تقدير تام فيه إلّا انه غير الطلب ،
لأنّ الشوق من صفات النّفس بخلاف الطلب فانه من الأفعال القائمة بالفاعل.
واما إعمال القدرة
في تحريك العضلات فهو أيضا لا بدّ وان يتعلق بأمر فعلي ،
__________________
ولا يعقل تعلقه
بما يكون ظرف تحققه متأخرا لا يعقل تعلقه بفعل الغير وبما هو خارج عن الاختيار.
واما الاعتبار فهو
بنفسه أيضا غير قابل للتعليق ، ولكن متعلقه الّذي نعبر عنه بالمجهول يمكن ان يكون
امرا تقديريا لا يوجد ظرفه بعد ، كما يمكن تعلقه بأمر فعلي كما عرفت في الوصية
والإجارة.
وعليه فتارة يكون
ذلك القيد والتقدير مما له دخل في اتصاف الفعل بالمصلحة كالمرض بالقياس إلى شرب
الدواء أو البلوغ بالقياس إلى الأحكام الشرعية ، وأخرى يكون مما له دخل في استيفاء
المصلحة منه ووفائه بها.
وان شئت فقل : انّ
القيد تارة يكون له دخل في أصل الحاجة إلى الفعل بحيث لا يكون الفعل بدونه محتاجا
إليه ، وأخرى يكون له دخل في ارتفاع الحاجة به ككون شرب الدواء مفيدا ووافيا
بالغرض إذا شربه المريض في هواء بارد ، ونظير دخل الوقت في وفاء الصلاة بالملاك
ونحو ذلك.
فان كان القيد من
قبيل الأول ، فلا محالة يكون المعتبر معلقا على حصوله ، إذ لا معنى لاعتبار لا
بدّية شرب الدواء وثبوته فعلا على ذمّة المكلف قبل حصول المرض ولو متعلقا بالشرب
بعد حصول المرض ، إذ لا معنى للحكم من دون ثبوت ملاكه ، وهو لغو هذا مضافا إلى انّ
لازمه وجوب تحصيل المقدمات ، وربما يقع المكلف بسببه في كلفة زائدة بلا وجه ،
وربما لا يتصف أصل الفعل بالمصلحة إلى الأبد ، وهذا أيضا لغو محض.
وان كان القيد من
قبيل الثاني ، فلا محالة يكون المعتبر هو اللابدّية الفعلية متعلقا بإيجاد العمل
على تقدير خاص ، سواء كان ذلك التقدير اختياريا أم لم يكن.
وبالجملة فالمجعول
قابل لأن يكون فعليا ، وقابل لأن يكون تقديريا ، فلا مانع من رجوع القيد إلى
الهيئة ، كما لا مانع من رجوعه إلى المادة.
ومما تقدّم ظهر
الفرق بين الواجب المشروط والواجب المعلّق.
ثم انّ المقدمات
الوجودية للواجب المشروط وان كانت في نفسها داخلة في مورد النزاع ، إلّا انه لا
ثمرة لذلك أصلا ، فانها بعد تحقق الشرط وان كانت تتصف بالوجوب الفعلي تبعا لأصل
الواجب إلّا انه بعد حصول الشرط يكون واجبا مطلقا ، وامّا قبل ذلك فاتصافها
بالوجوب الفعلي مستحيل ، لأنّ ذيها بعد غير متّصف بالوجوب ، فكيف يعقل اتصاف
مقدماته بالوجوب المقدمي؟!
نعم يعقل اتصافها
بالوجوب المقدمي التقديري أي المشروط بتحقق شرط الواجب ، ولا أثر لذلك أصلا ، فما
أفاده المحقق الخراسانيّ وان كان صحيحا إلّا انه لا يترتب عليه أثر.
نعم الواجب
المشروط على مسلك الشيخ أي المعلّق يتّصف مقدماته بالوجوب المقدمي الفعلي لفعلية
وجوب ذيها كما هو ظاهر ، وهذه هي الثمرة بين المسلكين كما لا يخفى.
والحاصل : انّ
الشرط في الواجب المشروط بالمعنى المتعارف الّذي قيد الحكم به لا يكون واجب
التحصيل ، امّا لو لم يكن اختياريا فواضح ، واما لو كان اختياريا كما في قوله «ان
سافرت فقصّر» فلأنّه أخذ مفروض الوجود في تحقق الحكم ، فكيف يمكن ترشح الوجوب منه
، اللهم إلّا ان يكون وجوبه لأمر آخر كنذر وحلف ونحوه ، واما مقدماته الوجودية
فكذلك لا تتصف بالوجوب المقدمي لعدم وجوب ذيها.
المقدمة المفوّتة
يقع الكلام في انّ
العقل هل يستقل بلزوم الإتيان بها تحفّظا على الملاك الملزم في ظرفه ، أم لا؟
وبعبارة واضحة لو كان الإتيان بأمر كأخذ الپاسپورت أو شراء المركب مثلا أو التحفظ
على شيء كالتحفظ على الماء دخيلا في تحقق ما يكون واجبا فيما بعد كالحج في الموسم
، أو الصلاة بعد دخول الوقت ، أو كان دخيلا في بعض قيوده كالطهارة المائية في
الصلاة مثلا ، فهل يحكم العقل بلزوم ذلك حفظا للملاك أم لا؟
ولم نعثر على من
تعرض لهذه الكبرى الكلّية مستقلة إلّا المحقق النائيني قدسسره نعم تعرضوا لذلك في أبواب متفرقة إجمالا.
فنقول : لو قلنا
بإمكان الواجب التعليقي ، ورجوع القيود إلى المادة دون الهيئة وقام دليل على وقوعه
أيضا ـ فان الإمكان أعم من الوقوع فمجرده لا يكفي في تحقق الشيء ـ فلا إشكال في
اتصاف مقدماته الوجودية بالوجوب المقدمي ولو كان ظرف الواجب متأخرا ، لأنّ وجوبه
فعلي على الفرض ، فيترشح منه وجوب المقدمات لا محالة.
واما لو لم يثبت الواجب
التعليقي ، اما إمكانا أو وقوعا ، وكان القيد راجعا إلى الهيئة ، فهل يجب عقلا حفظ
مقدمات الواجب إذا كانت حاصلة ، أو تحصيلها فيما إذا علم المكلف بعدم تمكنه من
إيجادها في ظرفه بحيث يفوت الواجب ، أو بعض ما يعتبر فيه مع عدم التحفظ على مقدمته
عقلا؟ مثلا يعلم المكلف بأنه إذا نام لا يقوم لصلاته في وقته ، أو إذا أجنب نفسه
لا يتمكن من الاغتسال قبل الفجر ليصح
صومه ، أو لا
يتمكن من الطهارة المائية لصلاته إلى غير ذلك.
وقبل بيان ذلك لا
بدّ من تقديم مقدّمة وهي : انهم ذكروا انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ،
وقد تعرضوا لذلك في موردين :
أحدهما : في علم
الكلام.
وثانيهما : في
مبحث اجتماع الأمر والنهي.
اما ما ذكر في علم
الكلام فهو أجنبي عما نحن فيه ، لأنه انما هو في رد الأشاعرة الذين أنكروا الأفعال
الممكنة بدعوى انّ الفعل ان وجدت علّته التامّة فهو ضروري الوجود ، وإلّا فهو
ممتنع الثبوت ، فردهم الخواجة والعلّامة قدسسرهما بأنّ الامتناع أو الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ،
بمعنى انّ الفعل وان كان بعد تعلق الإرادة به وإعمال القدرة في إيجاده يكون واجبا
وإلّا فيكون ممتنعا إلّا انه حيث يكون ذلك بسبب الإرادة والاختيار فهو وجوب أو
امتناع بالعرض ، فلا ينافي الاختيار.
واما ما ذكروه في
مبحث اجتماع الأمر والنهي فالمراد منه انّ الامتناع الحقيقي إذا كان ليس باختيار
العبد لا ينافي الاختيار فانّ من ألقى نفسه من شاهق وان امتنع عليه عدم الوقوع على
الأرض حقيقة ولا معنى لتكليفه بذلك ، إلّا انّ العقاب عليه ليس بمستحيل لكون الفعل
فعله اختيارا. والأقوال فيه ثلاثة ، فالمشهور على انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار عقابا فقط ، فانّ من ألقى نفسه من الشاهق يكون تكليفه بعدم الوقوع على
الأرض لغوا ، إلّا انّ العقاب عليه صحيح.
ونسب إلى أبي هاشم
انه لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ، ولازم كلامه جواز التكليف بالجمع بين نقيضين
مشروطا بإتيان عمل اختياري في الخارج كالصعود إلى السطح مثلا بان يقول إذا صعدت
السطح فاجمع بين نقيضين.
ويقابله ما نسب
إلى بعض من انّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار عقابا وخطابا.
والصحيح منها هو
الأول ، لأنّ تكليف العاجز لغو ، وبقاء العقاب حينئذ امر وجداني يستفاد من بناء
العقلاء وعملهم في أمورهم العادية ، فانّ من رمى ابن المولى وان كان بعد الرمي
عاجزا عن عدم قتل ابن المولى فلا يصح تكليفه به إلّا انّ استحقاق العقاب لا يسقط
عنه عقلا ، وليس له ان يعتذر عند المولى بأني بعد الرمي كنت عاجزا ، وكان ترك
القتل ممتنعا بالقياس إليّ.
إذا عرفت هذا
فنقول : ذكر المحقق النائيني انّ ما نحن فيه يتصوّر على صور :
الأولى : ان تكون
القدرة على العمل في ظرفه دخيلة في اتصافه بالملاك والمصلحة ، ويعبر عنها بالقدرة
الشرعية بحيث يكون الملاك الملزم التام ثابتا في ظرفه ، كان العبد قادرا على
الإتيان بالعمل حينئذ أم لم يكن بان يكون عدم امر المولى به لمانع منه ، ويعبر عن
هذه القدرة بالقدرة العقلية ، فالعقل في ذلك يلزم بتحصيل مقدماته قبل وصول ظرف
العمل ، لأنّ تركه مستلزم لتفويت الملاك الملزم التام في ظرفه اختيارا ، وهو قبيح
على حد قبح المعصية ، لأنّ الملاك هو روح التكليف ، فيستقل العقل باستحقاق العقاب
على ذلك ، ويشهد لذلك الرجوع إلى ما عليه بناء العقلاء في أمورهم وسياساتهم كما
عرفت.
وما أفاده قدسسره من استقلال الفعل بذلك متين جدا ، إلّا انه ذهب إلى
استتباع هذا الحكم العقلي لثبوت وجوب شرعي في مورده قد عبر عنه بمتمم الجعل ، ونحن نعبر عنه بالوجوب بالغير ، بدعوى انه إذا استقل
العقل بحسن شيء أو قبحه فبما انّ الشارع رئيس العقلاء فلا بدّ ان يحكم به أيضا ،
وليس حكمه بالحسن إلّا إلزامه بالفعل ، كما ان حكمه بقبح شيء ليس إلّا إلزامه
بالترك.
__________________
ونقول : الظاهر
عدم ثبوت الحكم الشرعي في هذا المورد أصلا ، لما عرفت من انّ الحكم العقلي
المستتبع للحكم الشرعي انما هو حكمه في مرحلة ملاكات الأحكام بان أدرك العقل ثبوت
المصلحة ، أو المفسدة في شيء ، كما أدرك المفسدة في الظلم وانه موجب لاختلال
النظام وفناء النوع ، وأمثال ذلك ، فالشرع أيضا حكم بحرمته ، وأمّا حكمه باستحقاق
العقاب في مورد فلا يستتبع الحكم الشرعي أصلا ، لأنه حكم واقع في سلسلة معلول
الحكم الشرعي وملاكه فكيف يعقل ان يكون مستتبعا له ، مضافا إلى انّ ثبوت الحكم
المولوي في مثل ذلك لغو محض بعد استقلال العقل باستحقاق العقاب على الترك كما فيما
نحن فيه ، وهو واضح ، فما هو ثابت بالوجدان انما هو حكم العقل لا الشرع.
فالكبرى الكلية
التي أفادها مع قطع النّظر عن ما ذكره من استتباع الحكم الشرعي تامة ، ويترتب
عليها فروع كثيرة ، إلّا انّ الكلام في تحقق صغراها ، فانه ذكر قدسسره في وجه عدم دخل القدرة في الملاك ما حاصله : انه لو امر
المولى بشيء فمدلول كلامه مطابقة انما هو وجوب ذلك الشيء ، ومدلول ذلك التزاما هو
ثبوت ملاك الوجوب فيه ، فمدلوله المطابقي وهو التكليف يقيد عقلا بالقدرة لقبح
تكليف العاجز. واما مدلوله الالتزامي وهو ثبوت الملاك الملزم في العمل فلا وجه
لتقييده بحال القدرة ، فيبقى على إطلاقه ، فيستكشف منه ثبوت الملاك حتى في فرض عجز
المكلف ، انتهى.
وفيه : انّ
المدلول الالتزامي يتبع المدلول المطابقي ثبوتا وسقوطا ، وحجّية وإطلاقا وتقييدا
على ما سنبيّنه في بحث الضد ، فإذا قيد المدلول المطابقي فلا يبقى المدلول
الالتزامي على إطلاقه ، فيحتمل سقوط الملاك عند العجز كما يحتمل بقائه ، فما ذكره
من استظهار بقاء الملاك عند العجز في جميع الواجبات غير تام ويزيد ما ذكرناه انه
لو كان الأمر كذلك وأحرز إطلاق القدرة حتى في حال العجز لكان اللازم
التحفظ حتى عن ما
يحتمل كونه مفوتا. فلو فرضنا انه لو نام يحتمل فوات صلاته لحرم عليه النوم ، إذ لا
يفرق بين صورة القطع بتفويت الملاك وبين احتماله فيما لم يكن مؤمن.
نعم فيما أحرز
بقاء الملاك يتم ما أفاده من الكبرى الكلّية ، ولزوم حفظ القدرة قبل مجيء ظرف
العمل كما لو علم المكلف بتوجه خطر نحو الإمام بعد يوم ، أو توقف حفظ بيضة الإسلام
فيما بعد على الإتيان بأمر فعلا لوجب ذلك ، للقطع ببقاء ملاك وجوبه على إطلاقه.
وبما ذكرنا ظهر
الحال في الواجبات التي ثبت فيها القضاء ، فانّ المستفاد من الأدلة انّ التكليف
فيها ينحل إلى تكليفين ، تكليف بأصل العمل ، ولا معنى لفواته بفوت الوقت ، وتكليف
آخر بإيقاعه في الوقت ، ويكون حاله حال بقية الواجبات من حيث اعتبار القدرة في
ملاكه وعدمه.
فاذن لا فرق بين
الواجبات التي ثبت فيها القضاء وغيرها من حيث احتمال اعتبار القدرة في ملاكها ،
هذا كلّه في الصورة الأولى ، وبما بيناه فيها ظهر الحال في بقية الصور ، ولكن لا
بأس ببيانها استطرادا.
الصورة الثانية :
ما إذا كانت القدرة ـ في الجملة أعم من القدرة قبل حصول الشرط وتحقق ظرف الواجب أو
القدرة بعد ذلك ـ دخيلة في ملاك الواجب في ظرفه ، ويجري في هذه الصورة جميع ما
ذكرناه في الصورة المتقدمة من تمامية الكبرى ، وعدم الدليل على صغراها في مقام
الإثبات.
الصورة الثالثة :
ما إذا كان حصول بعض المقدمات دخيلا في ملاك الواجب دون بعضها الآخر ، ومثلوا لذلك
بالاستطاعة في باب الحج ، وانها دخيلة في ملاك الحج بخلاف غيرها من مقدماته ،
فذهبوا إلى انّ ملاك الحج لا يكون فعليا قبل الاستطاعة. وزاد عليها المحقق
النائيني قدسسره حضور أشهر الحرم وبعد ذلك يكون
ملاكه تاما ، فلا
يجوز تفويت بقية مقدماته من المشي وأخذ الراحلة ، ونحو ذلك.
ولا يخفى انّ كون
ذلك من قبيل المقدمات المفوتة انما يتم بناء على إنكار الواجب التعليقي ، واما على
المختار من إمكانه فظاهر الآية هو فعلية وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة ، فيجب
تحصيل مقدماته مقدمة ، لا من باب حفظ المقدمات المفوتة كما هو واضح.
الصورة الرابعة :
ما إذا كانت القدرة في ظرف العمل دخيلة في الواجب ، كما في جميع الواجبات المأخوذ
فيها القدرة شرعا في لسان الدليل ، ولا إشكال في عدم وجوب حفظ القدرة فيها ، فانّ
المكلف حينئذ لو كان عاجزا عن العمل في ظرفه يكون خارجا عن الموضوع تماما ، فلا
يكون هناك فوت ملاك أصلا.
فتحصّل مما ذكر
انّ الإشكال في جميع الصور الثلاثة المتقدمة التي حكم فيها بالمقدمات المفوتة ،
انما هو من ناحية الصغرى وفي مرحلة الإثبات.
ثم انه ينبغي
التنبيه على امر وهو : انّ الميرزا قدسسره فرق في لزوم حفظ الطهارة المائية بين ما إذا كان المكلف
واجدا للماء قبل الوقت وعلم بأنه لو لم يحفظه لم يتمكن من الطهارة المائية في
الوقت وبين ما إذا كان متطهرا وعلم انه لو أحدث لا يتمكن من تحصيلها في الوقت ،
فذهب إلى وجوب حفظ الماء في الأول دون الثاني ، وذكر انّ الفارق في ذلك هو الصحيحة
، والظاهر كما اعترف به قدسسره بعد مراجعته انّ ذلك اشتباه منه ، وليس في المقام صحيحة ،
وحيث انه أولا كان يدعي ذكر الصحيحة في العروة لا يبعد ان يكون منشأ اشتباهه هو
الفرع الآخر المذكور في العروة قبل هذا الفرع ، وهو التفصيل في الوقت بين ما إذا
كان واجدا للماء أو كان متطهرا وأراد الجماع ، فيجوز الثاني دون الأول لورود
الصحيحة على جواز الإجناب حينئذ مع انّ القاعدة كانت قاضية بعدم جوازه ، كما لا يجوز
إتلاف الماء لثبوت التكليف الفعلي المنجز بالصلاة عن طهارة مائية.
هذا كله في
المقدمات المفوتة.
وجوب التعلم
واما التعلم
فيتصور فيه صور ثلاثة ، لأنّ ترك التعلم.
تارة : لا يترتب
عليه شيء أصلا ، لا ترك الامتثال ولا ترك إحرازه ، كما لو فرضنا انه تمكّن من التعلّم
في الوقت أو من الاحتياط. مثلا لو لم يتعلق حكم القصر والإتمام يمكنه ان يحتاط
بالجمع بينهما. وفي هذا القسم لا ينبغي الإشكال في عدم وجوب التعلم أصلا ، وتوهم
طولية الامتثال الإجمالي عن الامتثال التفصيليّ مدفوع.
أولا : بأنه لا
دليل على الطولية أصلا.
وثانيا : على
تقدير تسليمها فهي انما هو فيما إذا كان المكلف متمكنا من الامتثالين في ظرف العمل
، وامّا التمكن منهما قبل العمل بحيث يجب حفظ القدرة على الامتثال التفصيليّ فلم
يقل به أحد.
وأخرى : يترتب على
ترك التعلم عدم إحراز الامتثال لا أصل الامتثال ، كما في موارد دوران الأمر بين
المحذورين إذا لم يتعلم حكمها قبل الوقت ، أو كانت الشبهة غير محصورة بحيث لا
يتمكن المكلف من الإتيان بجميع أطرافها في الوقت وفرضنا عدم تمكن المكلف من
المعرفة في الوقت.
وفي هذا الفرض
يستقل العقل بلزوم حفظ القدرة ، للزوم دفع الضرر المحتمل بعد عدم ثبوت مؤمن عنه
كما في المقام ، فانّ أدلة البراءة تقيد بما دل على لزوم التعلم ، فلا يعم ما إذا
كان التفويت من ناحية تركه ، فاذن لا يبقى مؤمن في البين.
وحينئذ ان لم
يتعلم فان صادف المأتي به للواقع فلا يبقى في البين إلّا عقاب
التجري ، وإلّا
فاستحقاق العقاب ثابت بحكم العقل.
وثالثة : يترتب
على ترك التعلم فوت أصل الامتثال ، نظير ما إذا لم يكن المكلف عارفا بالقراءة مثلا
، ولم يكن قادرا على تعلمها في الوقت لو لم يعرفها قبله. وعليه فان قلنا بأنه
يستفاد من الاخبار الواردة في التعلم كقوله : «هلّا تعلمت» وجوبه النفسيّ غايته
وجوبا للغير كما هو الصحيح ، فيتحقق استحقاق العقاب بمجرد ترك التعلم وان كان ذلك
على ترك الواجب في ظرفه ، فيكون العقاب على ما ينتهي بالاختيار ، وامّا لو لم
نستفد من تلك الأدلة الوجوب النفسيّ ، فيرد الإشكال من حيث احتمال كون القدرة في
طرف العمل دخيلة في ملاك الواجب ، فلا يتحقق له ملاك في ظرفه بالإضافة إلى العاجز
أصلا ، فلا يكون هناك وجه لاستحقاق العقاب أصلا ، ولا دافع للإشكال غير ما ذكره
المحقق الأردبيلي قدسسره.
والحاصل : انه يجب
التعلّم فيما إذا تيقن المكلف بترتب ترك الواجب على تركه ، أو احتمل ذلك ، كما في
موارد دوران الأمر بين المحذورين أو الشبهة الغير المحصورة ، لقاعدة لزوم دفع
الضرر المحتمل ، فلا فرق بين الصورتين ، فيثبت استحقاق العقاب على مخالفة الأمر
بالتعلم ووجوبه النفسيّ ولو كان مصلحته التحفظ على فوت الواقع.
ثم انّ ما ذكرناه
انما يتم فيما إذا كانت الوقائع المجهولة مما يعم الابتلاء بها بحيث يظن مكلف ما
بالابتلاء بها كالشكوك المتعارفة ، ولذا حكم الشيخ بفسق من ترك تعلم حكمها.
واما لو كانت
الواقعة مما يندر الابتلاء بها بحيث يحتمل المكلف ان لا يبتلى بها أصلا ، فهل يجب
تعلم حكمها لغير المفتي أم لا؟
الظاهر انّ ذلك
مبني على جريان الاستصحاب في الأمر المتأخر وعدمه ، فان قلنا بجريانه فلا مانع من
استصحاب عدم ابتلائه بها فيما بعد ، ويترتب عليه عدم
لزوم التعلم الّذي
كان وجوبه طريقيا ، وإلّا فمقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل يكفي مجرد احتمال ابتلائه
بها في وجوب التعلم.
وما يتوهم كونه
مانعا عن جريان الاستصحاب في الأمر المتأخر امران :
أحدهما : توهم
لزوم اختلاف زمان اليقين والشك ، وتقدم الأول على الثاني في جريان الاستصحاب.
ويندفع : ذلك بما
بيناه في بعض تنبيهات الاستصحاب من انّ المعتبر انما هو سبق زمان المتيقن على المشكوك
لا سبق نفس إحدى الصفتين على الأخرى ، ولذا قد يحدث اليقين والشك في مورد
الاستصحاب في آن واحد ، كما قد يتقدم الأول على الثاني ، وقد ينعكس الأمر ، وفي
جميعها يجري الاستصحاب لو كان زمان المتيقن سابقا على زمان المشكوك.
ثانيهما : ما ذكره
النائيني قدسسره من انّ المستصحب لا بدّ من ان يكون أثرا شرعيا أو موضوعا
لأثر شرعي.
وفيه : انّ هذا
انما يتم على مسلك صاحب الكفاية من كون المجعول في موارد الاستصحاب هو الحكم
المماثل ، إذ عليه لا بدّ من أحد الأمرين حتى يصح جعل الحكم المماثل لنفس المستصحب
على الأول ، والمماثل لحكمه على الثاني ، وامّا على ما حققناه من كون المجعول في
الاستصحاب هو نفس الطريقية لليقين السابق في ظرف الشك ، ومن ثمّ قدمنا الاستصحاب
على البراءة وقاعدة الحل والطهارة ، فالمجعول فيه بنفسه أثر شرعي ولو لم يكن
المستصحب أثرا شرعيا ولا موضوعا لأثر شرعي.
نعم ، لا بدّ وان
يكون هناك أثر مترتب على واقع المستصحب لا على الشك فيه ليترتب ذلك الأثر على
جريان الاستصحاب لأن لا يكون لغوا ، وهو ثابت في المقام ، وهو عدم وجوب التعلم
عقلا ، ويكون هذا نظير استصحاب وجوب ذي
المقدمة الّذي
يترتب عليه وجوب المقدمة ، وليس هذا من الأصل المثبت ، لأن المثبت انما هو ترتيب
الأثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي للمستصحب ، وهذا انما هو ترتيب الأثر
العقلي على المستصحب كما في المثال.
وبالجملة ، فهذا
الاستصحاب في نفسه لا مانع منه ، إلّا انّ الأدلة الواردة في التعلم كقوله : «هلا
تعلمت» تكون رادعة عن جريان الاستصحاب في أمثال المقام ، وذلك
لأنّ أغلب موارد الجهل يكون مما يحتمل المكلف عدم ابتلائه بها في مدة حياته ، فإذا
خصصنا مورد تلك الاخبار بصورة القطع بالابتلاء لزم تخصيصها بالمورد النادر ، فلا
يمكن ذلك ، وعليه فتعم موارد ثبوت الاستصحاب أيضا ، فتكون رادعة عنه.
ويمكن إبداء مانع
آخر عن جريان الاستصحاب في المقام ، وهو دعوى ثبوت العلم الإجمالي بالابتلاء ببعض
الوقائع المحتملة إلى آخر العمر ، وعليه فيتعارض استصحاب عدم الابتلاء بكل منها
باستصحاب عدم الابتلاء بالآخر ، فيسقط لا محالة فيبقى حكم العقل بلزوم التعلم دفعا
للضرر المحتمل. ولا يخفى انّ تنجيز هذا العلم الإجمالي غير مبني على تنجيز العلم
الإجمالي في التدريجيات ، فانّ هذا العلم منجز وان لم نقل بذلك لأنّ أثر فعلي وهو
وجوب التعلم.
وبعبارة أخرى :
التكليف المعلوم بالإجمال فعلي وهو وجوب المعرفة غايته متعلق ما تعلق به الوجوب
أمور تدريجية ، فانّ المكلف يعلم إجمالا بوجوب تعلم بعض المسائل عليه إجمالا ،
فيكون منجزا سواء قلنا بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات أو لم نقل ، فاذن لا
فرق في وجوب التعلم بين القطع بكون الواقعة مما يبتلى بها واحتماله.
__________________
ثم بعد ما ثبت
وجوب التعلم بالفعل لا يبقى مجال لاستصحاب بقاء قدرته على التعلم فيما بعد ليترتب
عليه جواز تأخيره ، فانّ وجوب التعلم حكم عقلي مترتب على احتمال الضرر ، ولا يترتب
على الاستصحاب. فتحصل انّه لا يقاس التعلم ببقية المقدمات.
بقي امران :
الأول : ان
استحقاق العقاب عند ترك التعلم أو تعجيز النّفس بتفويت المقدمة وعدم التحفظ عليها
هل يكون عند ترك التعلم أو المقدمة الأخرى ، أو يكون ذلك عند تحقق المخالفة
والعصيان؟
فصل الميرزا قدسسره بين ترك التعلم والتعجيز بتفويت سائر المقدمات ، فذهب إلى
انّ استحقاق العقاب في الثاني يتحقق بمجرد تعجيز النّفس ، وفي الأول لا يتحقق إلّا
بعد العصيان ، بدعوى انه في التعجيز لا يكون المكلف قادرا على الامتثال وانما لا
يكون قادرا على إحرازه.
وفيه : أولا : انه
في ترك التعلم أيضا ربما لا يكون المكلف قادرا على أصل الامتثال كما عرفت سابقا.
وثانيا : انّ
استحقاق العقاب انما يكون بتفويت الملاك ، ومن الواضح انّ بالتنجيز لا يفوت الملاك
وانما يفوت بعدم الإتيان به في ظرفه ، فالصحيح انّ استحقاق العقاب لا يكون إلّا
عند العصيان.
نعم لا يبعد ان
يكون الاستحقاق ثابتا عند ترك التعلم لكونه واجبا نفسيا على ما عرفت.
الثاني : انّ
الشيخ أفتى في رسالته العملية بفسق من لم يتعلم أحكام الشك وقد احتمل في وجه ذلك
وجوه :
أحدها : ان يكون
من باب ذهابه إلى وجوب التعلم نفسيا.
وفيه : انه على
فرضه ليس تركه من الكبائر.
ثانيها : ان يكون
ذلك من جهة التجري.
وفيه : انّ التجري
لا يكون حراما شرعا ، وعلى فرض تسليمه فليس من الكبائر قطعا.
ثالثها : ان يكون
ذلك للتفصيل بين الشكوك وغيرها لكثرة الابتلاء بها.
وفيه : انّ اسناد
ذلك إلى الشيخ بعيد غايته كما هو ظاهر ، فانّ غيرها من الواجبات أيضا يكثر الابتلاء
بها مع انّ الفسق لا يتحقق بمجرد ترك الواجب ما لم يكن كبيرة.
والّذي ينبغي ان
يقال : انّ الوجه لما أفاده أحد امرين :
الأول : انّ الشيخ
يذهب إلى انّ العدالة ملكة راسخة في النّفس ، أي هو البناء العملي على إتيان
الواجبات وترك المحرمات ، وهذا البناء ينافيه ترك تعلم الشكوك مع الاطمئنان
بالابتلاء بها الّذي يترتب على تركه ترك امتثال الواجب ، فلا تتحقق الملكة في مثل
هذا الشخص.
الثاني : انّ وجوب
التعلم حيث انه للغير فيتبع ذلك الغير من حيث كون تركه كبيرة أو غير كبيرة ، وحيث
انّ ترك تعلم الشكوك يؤدي إلى ترك الصلاة الّذي هو من الكبائر فيكون كبيرة ويوجب
الفسق ، والصحيح هو ما أفاده قدسسره في المقام.
الواجب المعلّق
ثم انه قسم صاحب
الفصول الواجب المطلق إلى المنجز والمعلّق ، والمراد من المعلّق ما إذا كان الوجوب
فعليا والواجب امرا مقيدا بقيد استقبالي ، ويترتب عليه دفع الإشكال عن وجوب مقدمات
جملة من الواجبات التي يكون ظرف وجودها متأخرا عن ظرف وجود مقدماتها ، كالحج
بالإضافة إلى شراء الزاد والراحلة والمشي ، والصوم بالقياس إلى غسل الجنابة
والأغسال النسائية فانّ الالتزام بوجوبها نفسيا مستلزم لتعدد العقاب ولا دليل عليه
، ومقدميا لا يعقل إذا لم يكن ذيها متصفا بالوجوب بعد.
وعلى القول
بالواجب المعلّق وكون الوجوب في مثل هذه الموارد فعليا والواجب استقباليا كما هو
المستفاد من ظواهر الأدلة أيضا كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) يندفع الإشكال من أصله من غير حاجة إلى التمحّلات التي
ذكرها المحقق النائيني من متمم الجعل أو المقدمات المفوتة ، فلا وجه لنفي الثمرة
عن تصوير الواجب المعلق كما عن الكفاية.
وشيخنا الأنصاري قدسسره حيث ارجع القيود المأخوذة في القضية إلى المادة وأنكر
رجوعها إلى الهيئة قد وافق صاحب الفصول في تصوير الواجب المعلّق ، فهو في الحقيقة
منكر للواجب المشروط كما ذكر في الكفاية.
وكيف كان تارة :
يتكلم في إمكان الواجب المعلّق ، وأخرى : فيما ذكره في
__________________
الفصول.
اما أصل الواجب
المعلّق ورجوع القيد إلى الواجب دون الوجوب ، فهو بمكان من الإمكان بعد ما عرفت من
انّ الوجوب ليس إلّا اعتبار اللابدية على ذمّة المكلف ، فقد أجاد صاحب الفصول في
تصوير الواجب المعلّق وبيان إمكانه ، إلّا انه أخطأ في جعل المقسم الواجب المطلق ،
فانّ الوجوب المتعلق بأمر استقبالي لا محالة يكون مشروطا بالبلوغ والقدرة والعقل
في ظرف العمل بل بمجيء ذاك الزمان. فوجوب الحج مثلا مشروط بكون المكلف في الموسم
بالغا عاقلا حيا قادرا على الإتيان بالمناسك ، ومشروط بمجيء زمان الحج ، ولذا لو
جنّ المكلف في الموسم أو مات قبل ذلك يكشف عن عدم وجوبه عليه من أول الأمر. فلا
يجب أخذ النائب عنه.
فالصحيح في
التقسيم ان يقال : انّ الواجب المشروط بالنحو المتعارف تارة : يكون مشروطا بشرط
مقارن ، ولا كلام لنا فيه ، وأخرى : يكون مشروطا بشرط متأخر على النحو الّذي بيناه
بان يكون تحقق الشرط في ظرفه كاشفا عن فعلية الوجوب من أول الأمر ، وعليه ففيما
كان القيد امرا خارجا عن اختيار المكلف ، تارة : يكون القيد قيدا للواجب أيضا وهذا
معنى الواجب المعلّق ، وأخرى : لا يكون قيدا للواجب ، فالمقسم لهذا التقسيم انما
هو الواجب المشروط بالشرط المتأخر لا الواجب المطلق ، إذ يستحيل ان لا يكون الوجوب
المتعلق بالأمر المتأخر مشروطا بتحقق ذاك الزمان أو ذاك القيد كما عرفت.
والحاصل : انّ
الالتزام بالواجب المعلّق مستلزم للالتزام بالشرط المتأخر ، وذلك لأنّ الأمر
المتأخر الغير الاختياري لو كان قيدا للواجب لا بدّ وان يكون تحققه قيدا للوجوب
أيضا بنحو الشرط المتأخر ، فالمعلّق قسم من المشروط لا من المطلق.
فالواجب ينقسم إلى
قسمين : مطلق ومشروط ، والمشروط تارة : يكون مشروطا بشرط مقارن ، وأخرى : بشرط
متأخر ، وذاك الشرط تارة : يكون قيدا للواجب أيضا وهو المعلّق ، وأخرى : لا يكون
كذلك ، فالتثليث لا وجه له. هذا كلّه في كلام الفصول.
واما أصل إمكان
الواجب المعلّق ، فقد ذكر لاستحالته وجوه :
منها : ما في
الكفاية من انه تعتبر قدرة المكلف على إتيان الواجب ، ومن الواضح
انه لو كان مقيدا بأمر متأخر لا يتمكن المكلف من إيجاده قبل تحقّقه.
وفيه : انّ القدرة
المعتبرة في صحّة التكليف انما هي القدرة في ظرف الامتثال لا القدرة حين التكليف ،
وهي حاصلة على الفرض.
ومنها : ما ذكره
المحقق النائيني من انّ القيد المتأخر الغير الاختياري المأخوذ في القضية الّذي
يرجع إلى المادة ان لم يرجع إلى الهيئة يلزم التكليف بما لا يطاق ، لأنّ الأمر
بالمقيد ينحل إلى الأمر بالقيد ، فلو أمر المكلف بالصلاة حين دلوك الشمس وكان
القيد قيدا للواجب دون الوجوب لانحل ذلك الأمر إلى الأمر بإيجاد الدلوك ، وهو غير
مقدور للمكلف ومحال ، وان رجع القيد إلى الهيئة أيضا فلا بدّ وان يكون دخله فيها
بنحو الشرط المتأخر ليكون الوجوب فعليا لو كان القيد متحققا في ظرفه في نفس الأمر
ويتحقق الواجب المعلّق ، وقد عرفت استحالة الشرط المتأخر ، فالواجب المعلّق محال
على كلّ تقدير.
وفيه : أولا : انّ
ما ذكره من انبساط الأمر بالمقيد إلى إيجاد القيد قد عرفت فساده ، وان الّذي تحت
الطلب انما هو التقيد لا القيد ، ولا منافاة بين كون التقيد اختياريا وكون القيد
خارجا عن تحت الاختيار كما في المثال بعينه ، فليس التكليف
__________________
في مثله تكليفا
بما لا يطاق.
وثانيا : انّ ما
أفاده من استلزام رجوع القيد إلى الهيئة للشرط المتأخر وان كان متينا كما عرفت ،
إلّا انّ الشرط المتأخر امر ممكن كما مرّ بيانه ، وعليه ففي كل مورد دلّ الدليل
عليه يلتزم به ، كما في وجوب الحج على المستطيع الّذي استفدناه من الآية المباركة
بضميمة ما ورد في تفسير الاستطاعة المأخوذة فيها بالزاد والراحلة وتخلّيه السرب.
نعم مجرد إمكان الواجب المعلّق أو الشرط المتأخر غير كاف في الالتزام بوقوعه.
ومن الوجوه
المذكورة لاستحالة الواجب المعلّق ما هو مبنى على مقدمتين :
الأولى : وهي
بمنزلة الكبرى انّ ما يستحيل تعلق الإرادة التكوينية به يمتنع تعلق الإرادة
التشريعيّة به أيضا ، فهناك ملازمة بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة
إمكانا وامتناعا ، فكلما يمتنع تعلق الإرادة التكوينيّة به امتنع تعلق الإرادة
التشريعية به أيضا.
الثانية : التي هي
بمنزلة الصغرى لتلك الكبرى انه يمتنع تعلق الإرادة التكوينية بالأمر المتأخر ،
ونقرب ذلك بتقريبين :
أحدهما : ما ذكر
في الكفاية وغيره من انّ الأمر المتأخر بما انه متأخر غير مقدور للمكلف ، فيستحيل
تعلق الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة.
وهذا بظاهره واضح
الفساد ، بداهة انّا نرى تعلق إرادتنا بإيجاد ذي المقدمة قبل الإتيان بمقدماته ،
بل لو سألنا عن وجه تحمل المشاق والإتيان بالمقدمات كمقدمات زيارة الحسين عليهالسلام نجيب ونقول : تحملنا ذلك لإرادة الزيارة ، فإمكان إرادة
الأمر المتأخر واشتياق إيجاد ذي المقدمة قبل حصول مقدمته بمكان من الإمكان.
ومن ثمّ ذكر
المحقق النائيني قدسسره انّ مجرد التأخر مع كون القيد المتأخر اختياريا لا يوجب
سلب اختيار المكلف وقدرته على إيجاد المتأخر ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ،
كالصلاة مع الطهارة بالإضافة إلى غير المتطهر ، فانها متأخرة عن الزمان الّذي
يتطهر فيه ومع ذلك تكون مقدورة للمكلف ، ففصّل بين ما إذا كان القيد المتأخر
مقدورا ، وما إذا كان غير مقدور.
ولذا عدل إلى
التقريب الثاني وحاصله : انّ المقيد بالزمان المتأخر حيث انّ قيده خارج عن اختيار
المكلف ، ولا يعقل تعلق الإرادة التكوينيّة من المولى والعبد به ، فالمقيد أيضا
كذلك.
هذا ونقول : امّا
المقدمة الثانية ، فيرد على التقريب الأول انه ما المراد من الإرادة؟ والمحتمل
فيها في المقام امران : فان أريد بها الشوق النفسانيّ الّذي هو من صفات النّفس فهو
يتعلق بأمر متأخر بلا إشكال ، كما يتعلق بالأمر الغير المقدور كما هو ظاهر ، وان
أريد بها الاختيار وتحريك العضلات فلا يعقل تعلقها بأمر متأخر كما يستحيل تعلقها
بغير المقدور.
وبهذا ظهر الحال
في التقريب الثاني ، فانه لو أريد من الإرادة الشوق فيمكن تعلقه بغير المقدور كما
يمكن تعلقه بالأمر المتأخر ، وان أريد بها الاختيار فهي وان امتنع تعلقها بغير
المقدور ، إلّا انه يستحيل تعلقها بالأمر المتأخر أيضا وان كان قيده اختياريا
كالمثال المتقدم ، فلا وجه للتفصيل الّذي ذكره المحقق النائيني قدسسره ، هذا كله في المقدمة الثانية.
واما المقدّمة
الأولى ، فلا بدّ أولا من السؤال عن ما يراد من الإرادة التشريعية؟ فان أريد بها
الشوق النفسانيّ المتعلق بفعل الغير فتعلقه بالأمر المتأخر
__________________
كغير المقدور وان
كان بمكان من الإمكان ، إلّا انه ليس حكما وتكليفا ولا فعلا للمولى ، وانما هو من
صفاته. وان أريد بها اختيار فعل الغير فهو في الموالي العرفية مستحيل ، لخروج فعل
الغير عن اختيار شخص آخر ، وفي المولى الحقيقي وان كان ممكنا إلّا انه ينافي
التكليف بذلك الفعل ، لأنه حينئذ يكون حتى ضروري الوجود.
وعلى أي حال لا
يمكن ان يراد من الإرادة التشريعية شيء من الاحتمالين ، فليس لنا شغل بهذه العبارة
، بل لا بدّ لنا من ملاحظة إمكان تعلق الإيجاب بالأمر المتأخر وعدمه :
فنقول : ان
الإيجاب ليس إلّا اعتبار اللابدية في ذمة المكلف ، ولا مانع من اعتبار ثبوت
اللابدية المتعلقة بالأمر المتأخر على ذمة المكلف نظير الإجارة ، هذا من حيث
التأخر. وامّا من حيث عدم مقدورية القيد ، فقد مرّ غير مرة انّ نفس القيد لا يدخل
تحت الطلب ، وانما التقييد يكون مطلوبا ، وإلّا لانقلب الشرط جزء ، فإيجاب المقيد
بأمر غير اختياري لا مانع منه إذا كان التقيد اختياريا كما هو واقع خارجا.
نعم إذا لم يكن
التقيد أيضا اختياريا كالصلاة في السماء الرابعة مثلا فإيجاب مثل ذلك يكون قبيحا
كما لا يخفى ، لكنه خارج عن محل الكلام ، فهذا الإشكال أيضا ليس بشيء.
تنبيهان
الأول : يستفاد من كلام الفصول انّ القيد في موارد الواجب المعلّق
يكون غير اختياري دائما ، كما في الحج فانه مقيد بمجيء الموسم الّذي هو خارج عن
اختيار المكلف ، وأشكل عليه بأنه لا وجه لحصره في ذلك ، فانه ربما يكون القيد في
الواجب المعلّق اختياريا للعبد كما في مثل قوله «ان سافرت فقصّر» فانّ وجوب القصر
ثابت بالفعل للمسافر ولو فيما بعد مع انّ السفر امر مقدور ولكن لا يجب تحصيله لأنه
أخذ مفروض الوجود.
وبالجملة عمدة
الوجه في توهم استحالة الواجب المعلّق انما هو أخذ الأمر المتأخر فيه مفروض الوجود
بنحو الشرط المتأخر من غير فرق بين كونه مقدورا للمكلف أو غير مقدور له ، وهذا هو
منشأ إشكال المانعين ، فالاختصاص لا وجه له.
الثاني : ذكر صاحب الكفاية انه لو تم ما ذكره صاحب الفصول لكفى في دفع الإشكال في
وجوب مقدمات الحج وأمثاله قبل مجيء زمان الواجب ، لأنه لو كان الوجوب فعليا وظرف
امتثال الواجب متأخرا لسرى الوجوب الفعلي من ذي المقدمة إلى مقدماته ، إذ عليه
تكون المقدمة متأخرة عن ذيها وجوبا ومتقدمة عليها وجودا كما هو الحال في غالب
المقدمات ، لكن دفع الإشكال غير منحصر بذلك ، بل يمكن دفعه بالالتزام بالشرط
المتأخر أيضا. ولو لم نقل بالواجب المعلّق ، فانّ ما ينفعنا في دفع الإشكال انما
هو فعلية الوجوب قبل تحقق زمان الواجب ليمكن سريانه إلى المقدمات الحالية ، وفعلية
الوجوب كما تكون بناء على الوجوب التعليقي تثبت
__________________
بناء على الشرط
المتأخر أيضا ، والفرق بين الأمرين انما هو في انّ القيد على الواجب المعلّق يرجع
إلى المادّة ، وفي الواجب المشروط بالشرط المتأخر يرجع إلى الهيئة ، والأثر
المترتب عليهما شيء واحد ، انتهى.
وفيه : انّ القيد
المتأخر في الواجب المشروط ان لم يكن قيدا في الواجب بان كان ظرف امتثاله حاليا
وكان القيد راجعا إلى الهيئة فقط دون المادة فهو خلاف المفروض ، فان محل كلامنا
انما هو فيما إذا كان زمان الواجب أيضا متأخرا وكان القيد قيدا له.
وان كان القيد
قيدا له أيضا فهو بعينه الواجب المعلّق ، لأنّ القيد المتأخر حينئذ يكون دخيلا في
المادّة والهيئة معا. توضيحه : انّ في الواجب المعلق لا بدّ وان يكون القيد راجعا
إلى المادة لكن بنحو لا يجب تحصيله لأخذه فيه مفروض الوجود ، فيكون الفعل المطلوب
هو الحصّة الخاصّة الواقعة في الظرف الخاصّ ، مثلا القصر حال السفر واجب لا مطلقا
ولو بعد الحضر واعتبر إيقاع الصلاة عند الزوال لا مطلقا ، كما انّ القيد المتأخر
يرجع إلى الهيئة أيضا فيكون الوجوب الفعلي مقيدا به بنحو الشرط المتأخر بحيث لو لم
يتحقق الشرط في ظرفه لانكشف عدم الوجوب من أصله.
فكل واجب معلق
واجب مشروط بالشرط المتأخر ، والقيد فيه راجع إلى الهيئة من جهة كما انه راجع إلى
المادّة أيضا لكن بنحو لا يجب تحصيله ، اما لكونه غير مقدور أو لأخذه مفروض
الوجود.
فما أفاده في
الكفاية من تصوير وجه آخر يفيد فائدة الواجب المعلّق خارج عن الفرض على بعض صوره ،
وعين الواجب المعلق على بعض الصور.
فتحصل انّ الواجب
المعلّق والمشروط كلاهما بمكان من الإمكان ، فحينئذ وقوع كل منهما في كل مورد يتبع
ظهور الدليل ، فان كان ظاهره اختلاف زمان
الحكم وظرف الامتثال
، وهذا معنى الوجوب التعليقي كما في الحج لظاهر الآية وفي باب النذور وأمثاله فهو
وان كان ظاهر الدليل تعلق الحكم على تحقق القيد بنحو الشرط المقارن كتعلق وجوب
صلاة الظهر على مجيء الزوال في قوله عليهالسلام «إذا زالت الشمس
وجب الطهور والصلاة» يحكم به فلا محالة يتّحد الوقتان أعني وقت الوجوب
والامتثال. وهذا كلّه واضح.
وانما الكلام فيما
إذا كان الدليل مجملا ، وتردد امر القيد بين ان يرجع إلى الهيئة بنحو الشرط
المقارن وبين رجوعه إلى المادّة ، ففي مثله يقع الكلام في مقامين :
أحدهما : فيما
يقتضيه الأصل اللفظي.
ثانيهما : من حيث
مقتضى الأصل العملي.
اما المقام الأول
: فتارة يبحث عما كان القيد فيه متصلا ، وأخرى عما كان القيد منفصلا. فأولا نتكلم
في الثاني فنقول : ان كان لكل من الهيئة والمادة إطلاق فلا محالة يدور الأمر بين
تقييد أحدهم ، وقد ذهب الشيخ إلى تقديم إطلاق الهيئة وتقييد إطلاق المادة ، لأنّ
إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، ومهما دار الأمر بين تقييد أحدهما قدم
الثاني.
فالبحث يقع في
المقام من جهتين :
إحداهما : في
تعيين الصغرى ، وانّ إطلاق الهيئة شمولي والمادة بدلي أو لا؟
ثانيتهما : في
بيان الكبرى ، وانه عند الدوران قدم الثاني.
اما الصغرى :
فالحق فيها ما ذهب إليه العلّامة الأنصاري ، لأنّ مفاد الهيئة وهو الوجوب ثابت على
ذمّة المكلف في جميع حالاته ولا يخرج عن عهدته إلّا بامتثاله ، فالصلاة تجب على
المكلف قائما كان أو جالسا ، ماشيا كان أو راكبا إلى
__________________
غير ذلك من
الطوارئ والعوارض ، وهذا معنى الإطلاق الشمولي. واما إطلاق المادّة فهو عبارة أخرى
عن تعلق التكليف بالطبيعي ، ولازمه كون المكلف مخيرا في تطبيقه على أي فرد من
افراده شاء.
واما الكبرى : فقد
تبع المحقق النائيني شيخنا الأنصاري ، فما ذهب إليه من تقديم الإطلاق الشمولي على
الإطلاق البدلي عند دوران الأمر بينهما أوضحه بتوجيهات ثلاثة :
أحدهما : انه لو
قال المولى : «أكرم عادلا» وقال أيضا : «لا تكرم فاسقا» تكون النسبة بينهما عموما
من وجه ، وحيث انّ إطلاق الأول بدلي ، لأنّ الحكم المستفاد منه واحد ، وهو إكرام
طبيعي العالم والمكلف مخير في تطبيقه على أي فرد أراد ، وإطلاق الثاني شمولي يعم
جميع افراد الفاسق بنحو الاستيعاب ، فالحكم واحد صورة ومنحل لبّا إلى أحكام عديدة
بحسب ما للفاسق من الافراد ، فلا محالة يقيّد الإطلاق البدلي ويبقى الإطلاق
الشمولي على حاله ، وذلك لأنه لو انعكس الأمر لزم رفع اليد عن الحكم وتخصيص المطلق
الشمولي في بعض افراده ورفع اليد عن مدلوله ، وهو على خلاف القاعدة ولا يصار إليه
إلّا لضرورة ، وهذا بخلاف ما ذكر فانه لا يلزم منه محذور ، إذ لم يكن الحكم في المطلق
البدلي متعددا وانما كان دائرته قبل التقييد موسعا ويضيق بعد ذلك من دون ان يتصرف
في مدلوله.
وفيه : أولا : انّ
للمطلق البدلي في المقام دلالتان ، دلالة مطابقية ودلالة التزامية ، امّا الدلالة
المطابقية فهي إيجاب المادّة على المكلف ، واما مدلوله الالتزامي فهو ثبوت الترخيص
الشرعي للمكلف في تطبيقه المأمور به على أيّ فرد من افراد الطبيعي شاء. فانّ هذا
الترخيص أيضا شرعي مستفاد من إطلاق الدليل في مقام الإثبات وعدم تقييد الطبيعي
بخصوصية خاصة.
فانّ الأمر
المتعلق بالطبيعي وان كان لا بدّ في امتثاله من إيجاد الطبيعة في ضمن
خصوصية ما ،
لاستحالة إيجادها خالية عن جميع الخصوصيات ، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، إلّا
انّ تلك الخصوصية التي وجد في ضمنها الطبيعي لا تكون دخيلة تحت الأمر ، ولذا يمكن
ان يتعلق تكليف بالخصوص والخصوصية من الوجوب كما في ما لو نذر المكلف إيقاع الفريضة
في المسجد ، والحرمة كما في الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الكراهة أو الاستحباب
على ما تقدم توضيحه في باب الكراهة في العبادات ، أو الإباحة بالمعنى الأخص
الاصطلاحي وهي الترخيص الشرعي.
والترخيص فيما نحن
فيه ـ أي ترخيص المكلف به على أي فرد شاء ـ مستفاد من إطلاق المادة بالدلالة
الالتزامية عن عدم تقيدها بخصوصية خاصة ، وإطلاقها من هذه الجهة شمولي لا بد لي
لأنه سار إلى جميع الافراد والخصوصيات فالترخيص المستفاد منه منحل إلى ترخيصات
عديدة.
وعليه فرفع اليد
عن إطلاق المادّة وتقديم المطلق الشمولي على البدلي وان لم يستلزم التصرف في
مدلوله المطابقي إلّا انه مستلزم للتصرف في مدلوله الالتزامي ، فانّ شموليته كانت
تقتضي جواز تطبيق طبيعي المأمور به على ذاك الفرد.
وثانيا : لو
أغمضنا عن هذا المدلول الالتزامي أيضا وقلنا بأنّ الترخيص في التطبيق في المقام
عقلي لا شرعي. نقول : كما انّ تقديم المطلق البدلي على الشمولي كان مستلزما للتصرف
في مدلول المطلق الشمولي كذلك العكس مستلزم للتصرف في مدلول المطلق البدلي ، فانه
كما يكون ظاهر المطلق الشمولي هو السريان وانحلال الحكم إلى جميع الافراد ، كذلك
المطلق البدلي ظاهر في تعلق الحكم بنفس الطبيعة على سعتها الغير المقيدة بقيد
القابلة للانطباق على جميع الافراد ، ورفع اليد عن ذلك مخالف لظاهره وموجب لرفع
اليد عن سعته التي كانت مدلولا له ، وكلا الظهورين في عرض واحد.
نعم لو كان أحد
الظهورين أقوى من الآخر بان كان أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة قدم الأول
على الثاني بلا كلام ، وهذا بخلاف ما إذا كان كل من الإطلاقين بمقدمات الحكمة.
وان كان أحدهما
شموليا دون الآخر فانّ تقديم كل منهما يستلزم التصرف في الآخر ، امّا بالتخصيص
الأفرادي ، وامّا بالتخصيص الأنواعي وتضييق دائرة الحكم كما في تقديم المطلق
البدلي على الشمولي.
فهذا الوجه ليس
بشيء.
الوجه الثاني :
انّ الحكم في المطلق الشمولي ينحل إلى أحكام عديدة بعد تمامية مقدمات الإطلاق فيه
، فتكون هناك أحكام عديدة أداها المولى ببيان واحد.
وامّا في المطلق
البدلي فالحكم متعلق بالطبيعة الملغى عنها جميع الخصوصيات ، وعليه فالعقل يرى
تساوي اقدام الافراد من حيث الوفاء بغرض المولى ، فيحكم بالتخيير. فحكم العقل
بالتخيير انما هو بعد إحرازه التساوي ، ومن الواضح انّ المطلق الشمولي يصلح
للقرينية وإثبات عدم تساوي مورد الاجتماع مع بقية الافراد في الوفاء بالغرض
والملاك ، ومعه كيف يحكم بالتساوي أو بالتخيير في تطبيق الطبيعي المأمور به عليه؟!
وفيه : انّ
الترخيص في المقام شرعي لا عقلي ، والحاكم بالتساوي هو نفس إطلاق الدليل ، والشاهد
عليه انه لو قال : «أكرم عادلا» وتعلق الحكم بالطبيعي الملغى عنه الخصوصيات فشك في
جواز تطبيقه على فرد خاص أو قال : «أعط الخمس للسيد» فشك في جواز تطبيقه على السيد
الفاسق وعدمه وانّ العلوي الفاسق وأف بالملاك أم لا؟ فنفس إطلاق الخطاب يكفي في
ثبوت الترخيص وتساوي اقدام الافراد في الوفاء بغرض المولى ، وعليه فكما انّ مقتضى
الإطلاق البدلي وفاء الفرد الّذي هو مورد الاجتماع بالملاك كذلك مقتضى الإطلاق
الشمولي
عدم وفائه بذلك ،
فتقع المعارضة بينهما لا محالة ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر كما تقدم.
الوجه الثالث :
انّ الأمر في المطلق البدلي متعلق بالطبيعة المعراة عنها الخصوصيات الفردية ، فتعم
كل واحد من الافراد بنحو البدلية ، وظهوره في ذلك متفرع على عدم ثبوت مانع من
شموله لبعض الافراد ، والمطلق الشمولي صالح للمانعية عن شموله لمورد الاجتماع
لسريانه ، بخلاف العكس ، فانّ حجّية المطلق الشمولي في الإطلاق غير متوقّفة على
عدم المطلق البدلي وإلّا لدار. فالتوقف يكون من المطلق البدلي على الشمولي لا
العكس ، فمن هذه الجهة نقدم الإطلاق الشمولي على البدلي.
وفيه : ما تقدم ،
ونزيده وضوحا : انه ان أريد من التوقف توقف الحكم المستفاد من المطلق البدلي وهو
الوجوب ثبوتا على عدم الحكم المستفاد من المطلق الشمولي وهو الحرمة ثبوتا ، بمعنى
انّ ثبوت الوجوب لفرد متفرع على عدم حرمته واقعا فهو غير تام. وذلك لأنه وان
سلّمنا تضاد الأحكام الخمسة إلّا انه ليس بين ثبوت كل حكم وعدم الآخر ترتب ، ولا
توقف أصلا ، بل كل حكم مع عدم الآخر يكونان في مرتبة واحدة.
وان أريد من
التوقف انّ حجّية الظهور في المطلق البدلي متوقفة على عدم المانع الإثباتي عنها ،
بمعنى انّ حجّية الظهور فيها ما دامية فمتى قامت أمارة على الخلاف سقطت عن الحجّية
في الظاهر ، فهو في محله وان كان تاما ، إذ حجّية كل ظهور متوقفة على عدم قيام
أمارة على خلافه ، وقيامها على خلافه يوجب سقوط حجّيته لو كانت منفصلة وعدم انعقاد
الظهور له إذا كانت متّصلة ، بداهة انّ أصالة العموم متفرعة على عدم وجود الخاصّ ،
وأصالة الإطلاق فرع عدم وجود المقيد. إلّا انّ الكلام في مانعيّة المطلق الشمولي
عن المطلق البدلي دون العكس ، إذ بعد ما
عرفت من كون
الإطلاق في كل منهما مستفادا من مقدمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر أصلا ،
كما انّ نسبة المقيد إلى كل منهما نسبة واحدة.
فتحصل مما ذكر انّ
في امتثال المقام لا يمكن تقديم أحد الإطلاقين على الآخر ، والوجوه التي ذكرت لا
تثبت شيئا ، فبعد قيام العلم من الخارج على تقييد أحد الإطلاقين حيث انّ القرينة
منفصلة على ما هو المفروض يسقط كلا الإطلاقين عن الحجّية.
ومنه يعلم انّ ما
أفاده النائيني وصاحب الكفاية من انه لو وقعت المعارضة بين العام والمطلق قدم
العام ، لأنّ دلالته بالوضع بخلاف دلالة المطلق فانّ ظهوره انما هو بمقدمات الحكمة
التي لا تجري فيما إذا كان العام قابلا للبيانية غير صحيح وذلك لأنّ صاحب الكفاية
ذهب إلى انّ أداة العموم لا تدل إلّا على تسرية الحكم إلى افراد مدخوله ، ولا تكون
متكفلة لإثبات ما أريد من المدخول سعة وضيقا إطلاقا وتقييدا. فقولنا : «أكرم كل
عالم» لا يدل إلّا على وجوب إكرام كل فرد من افراد ما أريد من الدخول ، فان أراد
المتكلم منه مطلق العالم فالعموم يسري إلى جميع افراده ، وهكذا. فإطلاق المدخول لا
بدّ وان يستفاد من مقدمات الحكمة ، وامّا نفس الأداة فلا تكون متكفلة لذلك ، هذا
هو الّذي ذكره في باب العام والخاصّ ، وارتضاه النائيني قدسسره.
وعلى هذا فكون
العموم مستفادا من مقدمات الحكمة امر مشترك بين العموم والإطلاق ، وعليه فلا وجه
لتقديم العام على المطلق فيما إذا وقعت المعارضة بينهما ، إذ ليست المعارضة حينئذ
إلّا بين إطلاقين كما هو واضح ، وهو إطلاق مدخول أداة العموم وإطلاق المطلق ، وليس
بينه وبين نفس أداة العموم معارضة أصلا. بداهة انّ
__________________
اجتماع الحكمين
المتضادين الّذي هو منشأ المعارضة انما يلزم من إطلاق المدخول ، ولو كان مقيدا لم
يلزم ذلك أصلا ، فطرف المعارضة هو ذلك لا العموم ، فلا وجه للتقديم.
نعم بناء على
المختار من أنّ أداة العموم بالوضع تدل على إطلاق المدخول وسعته وانها موضوعة لذلك
، فلو قال المولى «أكرم كل عالم» وأريد من العالم خصوص الفقهاء لكان مستعملا للفظ
في غير ما وضع له ، وكان غلطا ، فأداة العموم تدل بالوضع على ما كان نتيجة الإطلاق
من إطلاق المدخول وعمومه ، يكون ما ذكراه وجيها ، إذ دلالة العام على تسرية الحكم
حينئذ تكون بالوضع بخلاف دلالة المطلق عليه ، فانها تكون بمقدمات الحكمة ، فيكون
العام بيانا بالإضافة إلى المطلق دون العكس ، ولعلّه إلى هذا أشار الشيخ قدسسره بقوله في باب العام : «انّ دلالة العام تنجيزية ودلالة
المطلق تعليقية».
هذا كلّه في
الكبرى.
واما الصغرى
وتطبيق هذه الكبرى على ما نحن فيه على فرض تسليمه ، فالظاهر انها غير منطبقة عليه
، وذلك لأنّ التنافي في المطلقين في غير المقام انما كان بين نفس الدليلين غايته
في بعض مدلوليهما لعدم إمكان الجمع بينهما لاستحالة الحكم بوجوب إكرام العالم
الفاسق وحرمته فلم يكن مناص من رفع اليد عن أحدهما.
واما في المقام
فلا تنافي بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة أصلا ، وانما التنافي حصل من الخارج ،
ونسبته إلى كل منهما نسبة واحدة.
وبعبارة أخرى : في
ما تقدم كان التنافي بين نفس الإطلاقين ، ومن تنافيهما ذاتا علمنا بأنّ أحد
الإطلاقين غير مراد في مقام الثبوت ، فلم يكن لنا بد من تقديم أحد الإطلاقين على
الآخر بترجيح الأظهر ، أو رفع اليد عنهما معا.
واما فيما نحن فيه
فليس بين نفس الإطلاقين تناف أصلا ، وانما المنافاة بينهما
ناشئة من العلم
الخارجي لورود المقيد على أحدهما فيعلم منه عدم إرادة كلا الإطلاقين. ومن الواضح
انّ نسبة العلم الإجمالي إليهما على حد سواء ، وأقوائية أحدهما في الظهور لا توجب
تقدمه على الآخر ، إذ لم يكن التعارض بين الظهورين كي يتقدم الأظهر على الظاهر ،
مثلا لو ورد من المولى «أكرم زيدا» ثم نقل عنه «أكرم عالما» بنحو العموم البدلي
وعلمنا من الخارج إجمالا بكذب أحد الدليلين ، أو انه لم يرد الظاهر من أحد
الخطابين واما استعمل لفظ زيد في غير معناه مجازا أو لم يرد الإطلاق من المطلق.
فلا وجه لتقديم ظهور لفظ زيد في معناه ، ورفع اليد عن إطلاق المطلق لأقوائيته حيث
انه بالوضع لا بمقدمات الحكمة ، وهكذا لو علمنا بطهارة أحد الإناءين وجدانا وحكمنا
بطهارة الإناء الآخر بقاعدة الطهارة ثم علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فلا وجه
لرفع اليد عن طهارة الإناء التي كان مستند طهارته هو القاعدة ، لأقوائية العلم
الوجداني عن القاعدة.
وكذا الحال لو
علمنا إجمالا بإرادة خلاف الظاهر ، امّا من الدليل الحاكم وامّا من الدليل المحكوم
مثل قوله عليهالسلام «لا شك لكثير الشك»
مع أدلة الشكوك ، فلا يتقدم ظهور الدليل الحاكم لكونه أقوى.
وبالجملة لا عبرة
لأقوائية أحد طرفي العلم الإجمالي على الآخر في تقديمه عليه ، والوجه فيه واضح ،
فانّ التعارض ليس بين نفس الظهورين وانما هو من جهة العلم الإجمالي ، ونسبته إلى
أضعف الحجج وأقواها على حد سواء.
والمثال الواضح
لذلك هو انّ البيّنة لا تعارضها اليد ، لأنها تتقدم عليه على كل حال ، فلو قامت
البيّنة على عدالة زيد وحكمنا بقاعدة اليد بأنّ الدار الفلاني ملك عمرو ثم علمنا
بكذب أحد الدليلين ومخالفته للواقع ، فلا وجه لتقديم البيّنة على اليد لكونها أقوى
منه ، بل لا بدّ في ذلك من العمل بما يقتضيه العلم الإجمالي ، ومقتضى العلم
الإجمالي فيما نحن فيه سقوط كلا الإطلاقين عن الحجّية بعد ثبوتها لفرض انفصال
القرينة.
الواجب النفسيّ والغيري
وقد قسم الواجب
إليهما ، وتظهر ثمرة البحث والتقسيم في بيان ما يقتضيه الأصل اللفظي أو العملي
فيما إذا شك في كون واجب نفسيّا أو غيريّا مع سقوط ما وجب هذا الواجب لأجله على
تقدير غيريته عن الوجوب لعجزه عنه ونحوه.
فانه لو كان
الواجب نفسيا يكون باقيا على وجهه ، ولو كان غيريا لسقط وجوبه لا محالة لسقوط ذي
المقدمة وما وجب لأجله عن وجوبه. وعلى أي حال يقع الكلام في مقامات ثلاثة :
الأول : في تعريف
الواجب النفسيّ والغيري.
الثاني : فيما
يقتضيه الأصل اللفظي عند الشك في الوجوب النفسيّ والغيري.
الثالث : فيما
يقتضيه الأصل العملي.
أما المقام الأول : فالمشهور عرفوا الواجب النفسيّ بأنه ما وجب لا لواجب آخر ،
والغيري بما وجب لواجب آخر.
وقد أورد على ذلك
بأنّ لازمه ان تكون جل الواجبات بل كلها غير وجوب المعرفة غيرية بناء على مسلك
العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فانه عليه جميع الواجبات انما وجبت
لترتب تلك المصالح الملزمة اللازم استيفائها عليها ، فهي واجبة لواجب آخر أعني
استيفاء المصلحة. نعم يتم ذلك على مسلك الأشاعرة.
وكأنّ المحقق
الخراسانيّ سلم الإشكال ولذا ، عدل عن تعريف المشهور إلى تعريف آخر
وهو : انّ الواجب النفسيّ ما وجب لحسنه النفسيّ أي كان الداعي على إيجابه هو حسنه
الذاتي وان كان مشتملا على المصلحة الملزمة أيضا. والواجب الغيري ما وجب لترتيب واجب
آخر عليه كاستيفاء المصلحة الملزمة وكان الداعي على إيجابه ذلك وان كان حسنا ذاتا
أيضا إلّا انّ الداعي على إيجابه لم يكن ذلك.
وفيه : انه ما
المراد بالحسن الذاتي؟
فان أريد به الحسن
الناشئ من ترتب الملاك والمصلحة عليه فهو عين المصلحة والواجب لأجله واجب غيري على
ما ذكره.
وان أريد به حسن
نفسي مستقل ، فأولا : أي دليل دل على اشتمال الواجبات النفسيّة على الحسن الذاتي
زائدا على ترتب المصلحة عليها ، بل هو امر مقطوع العدم في غير الركوع والسجود من
العبادات الذاتيّة الحسنة بالذات ولو لم تكن في البين مصلحة مترتبة عليها ، بداهة
انه لا حسن في دفن الميت غير عدم انتشار جيفته ، وهكذا في غسله.
وثانيا : بناء على
ذلك لا يبقى في البين واجب متمحض في النفسيّة ، بل جميع الواجبات النفسيّة تكون
مرددة بين النفسيّ والغيري ، وذلك لوجود كلا الملاكين فيها ، أي ملاك الوجوب
النفسيّ وهو الحسن الذاتي ، وملاك الوجوب الغيري وهو ترتب المصلحة عليها. ولا معنى
لأن يجعل المولى داعيه لإيجابه الحسن الذاتي مع وجود الملاك الآخر التام للداعوية
فيها ، فانه ترجيح بلا مرجح ، ولا يمكن الالتزام بذلك.
فهذا التعريف أيضا
مخدوش ، فنرجع إلى تعريف المشهور فنظر في انه هل
__________________
يترتب عليه
المحذور المتقدم أم لا؟
وقد أجاب المحقق
النائيني عن الإشكال بما حاصله : ان الأحكام وان كانت تابعة للمصالح
أو المفاسد في متعلقاتها إلّا انّ نسبة تلك المصالح إلى الواجبات ليست نسبة
المسببات إلى أسبابها ، والمعلولات إلى عللها التامّة لتكون مقدورة للمكلف ولو مع
الواسطة ، بل نسبتها إليها نسبة المعاليل إلى عللها المعدّة ، بداهة عدم ترتب
الانتهاء عن الفحشاء على مجرد الصلاة ، بل تتوسط في ذلك إرادة الغير ، نظير زرع
الحنطة وصيرورتها سنبلا ، فانه يتوسط بينه وبين فعل الزارع أمور خارجة عن اختيار
الزارع ، ومن ثم يقبح تكليف الزارع بذلك واستشهد على ذلك بظواهر أدلة الواجبات
وتعلق الأمر فيها بالافعال دون المصالح المترتبة عليها مع انها لو كانت مقدورة
لكان تعلق الأمر بها ابتداء أولى. وعليه فلا يمكن تعلق الإيجاب بالمصالح لتكون
الأفعال الخارجية واجبة لواجبات أخر.
ثم انه أنقض على
تعريف المشهور بالواجبات التهيئية المعبر عنها بالواجب للغير ، كالغسل الواجب على
الجنب ، والحائض في الليل لمن يجب عليه صوم غده فانها واجبة لواجب آخر.
هذا ونقول : ما
ذكره من الجواب ومن النقض كلاهما غير تام.
اما جوابه : فلأنه
انما يتم لو كان الداعي على الإيجاب هو الغرض الأقصى ، وليس كذلك ، بل الداعي لذلك
ليس إلّا الغرض الأدنى الّذي يترتب على الفعل لا محالة وهو الاعداد والتهيؤ لترتب
المصلحة القصوى ، ونسبته إلى العمل نسبة المسبب إلى سببه ، والمعلول إلى علته
التامة فيكون مقدورا للمكلف بالواسطة ، فيعود المحذور.
__________________
واما نقضه ففيه :
أولا : انّ ظاهر
تعريف المشهور بأنّ الواجب الغيري ما وجب لواجب آخر ان يكون ذو المقدمة أيضا واجبا
في عرض وجوب المقدمة ، بل يترشح الوجوب منه إليها ، فلا يعم الواجبات التهيئة
المتقدم وجوبها على وجوب ذيها.
وثانيا : لا مانع
من دخولها في التعريف بعد ما عرفت من انّ الغرض من هذا التقسيم ليس مجرد الاصطلاح
، وانما هو الأثر المترتب على ذلك عند الشك في الوجوب النفسيّ والغيري مع سقوط
وجوب ذي المقدمة. فانه لو كان مقتضى الأصل اللفظي أو العملي الوجوب النفسيّ لبقي
وجوب ذاك الواجب ، وإلّا لسقط ، فانّ هذه الثمرة تجري في الواجب للغير أيضا ، فلا
مانع من دخوله في مورد البحث وان لم يعبر عنه اصطلاحا بالواجب الغيري.
فالصحيح : في
الجواب عن أصل الإشكال هو انه بناء على القول بأنّ الأمر المتعلق بالمسبب بنفسه
متعلق بالسبب كما ذهب إليه بعض فلا إشكال كما هو ظاهر.
واما بناء على
المعروف من انّ العلّة والمعلول وجودان مستقلان وانّ الأمر المتعلق بكل منهما لا
يكون امرا بالآخر كما هو الصحيح ، ففيما نحن فيه نقول : انّ الغرض الأدنى المترتب
على الفعل الواجب وان كان اختياريا للمكلف إلّا انه مضافا إلى العلم الوجداني بعدم
تعلق التكليف بالأغراض والمصالح ، حيث انها مما لا يلتفت إليها ولا يعرفها عامّة
الناس ، بل لا يعرف حقيقتها إلّا المعصومون لا يعقل تعلق التكليف بها ، إذ لا يفهم
البدوي إيجاد ما هو معد ومهيئ للانتهاء عن الفحشاء ، فانه يعتبر في متعلق التكليف
ان يكون مما يعرفه عامة المكلفين ، فاذن لا يكون استيفاء المصلحة الملزمة واجب
شرعا ليكون إيجاب سببه لذلك الواجب ، فلا إشكال أصلا.
هذا ويمكن ان نقول
: انه بناء على مسلك الأشاعرة من عدم ثبوت مصلحة في
الواجبات فانتفاء
الإشكال يكون من السالبة بانتفاء الموضوع. وامّا على مسلك العدلية من التبعية
فنعرف الواجب النفسيّ بأنه : «ما وجب لغرض في غيره مترتب عليه» والواجب الغيري
بأنه : «ما وجب لغرض في غيره مترتب على الغير».
المقام الثاني : لا ريب في انه لو كان لدليل الواجب إطلاق فمقتضاه هو
النفسيّة. كما ان مقتضى إطلاق الهيئة هو العينيّة والتعيّنية على ما تقدم الكلام
فيه. وقد نسب إلى الشيخ قدسسره إنكار التمسك بالإطلاق لإثبات النفسيّة ، ولعل منشأه على
تقدير صحّة الإسناد هو المنشأ لما نسب إليه أيضا من إنكار الواجب المشروط ، بدعوى
انّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفية التي هي غير قابلة للإطلاق والتقييد ، وقد
ذكرنا في ما تقدم عدم تمامية الإسناد ، وانّ الشيخ قائل بالواجب المشروط كما يظهر
من كلماته قدسسره في رسائله ومكاسبه.
وعلى أي تقدير لو
كان ما نسب إليه من إنكار الواجب المشروط ثابتا أيضا لا يمكننا المساعدة على ما
أسند إليه في المقام ، وذلك لأنّ الشيخ لا يمكنه إنكار الواجب الغيري مع كثرة
المقدمات ، والالتزام بوجوبها النفسيّ المستلزم لتعدد العقاب عند تركها كما ترى ،
فلا مناص له من تصوير الواجب الغيري ، وحينئذ نقول : ما المائز بين الوجوبين في
نظر الشيخ في مقام الإثبات بعد وضوح المائز بينهما ثبوتا على أي تعريف؟
وما يمكن استفادة
الوجوب الغيري منه انما هو أحد امرين على سبيل منع الخلو :
اما تقييد الواجب
بقيد كما لو قال المولى «صلّ عن طهارة» فيستفاد منه وجوب ذاك القيد غيريا ، ولو
كان لوجوبه دليل آخر أيضا فانه يقيد إطلاقه بذاك الدليل المقيد ، لو لم نحتمل تعدد
الوجوب ، فانّ مثبتات الأصول اللفظية حجّة.
واما تقييد الوجوب
وتعليقه على وجوب آخر كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ
إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...) ، أي إذا وجبت الصلاة. والتقييد في مثل ذلك يكون في مفاد
الهيئة على المختار وفي المادّة المنتسبة على مسلك الميرزا قدسسره وفي المادّة على ما نسب إليه الشيخ غايته بنحو لا يجب
تحصيل القيد.
وفي المقام القيد
وهو الإيجاب غير مقدور للمكلف دائما ، فلو ثبت أحد التقيدين يثبت الوجوب الغيري لا
محالة ، وامّا لو لم يتحقق تقييد الواجب ولا تقييد الوجوب بأحد المعاني المزبورة
فيستفاد من إطلاق أحدهما ان لم يكن الآخر مطلقا بان كان مهملا لا مقيدا أو من
إطلاق كليهما الوجوب النفسيّ. فإنكار إمكان التمسك بالإطلاق لإثبات الوجوب النفسيّ
مما لا يمكن على جميع التقادير والأقوال.
المقام الثالث : لو لم يكن للفظ إطلاق أو كان دليل الوجوب لبيا ، فهل مقتضى
الأصل النفسيّة أو الغيريّة؟
ذهب المحقق
الخراسانيّ قدسسره إلى الثاني بدعوى انه من الشك في التكليف ، فيكون موردا
للبراءة.
وأشكل عليه
النائيني قدسسره بما حاصله : انّ المقام يكون نظير الشك في الأقل والأكثر
الارتباطيين ، فالشك فيه يكون موردا للاشتغال ، لأنّ تعلق التكليف الجامع بين
النفسيّ والغيري به معلوم ، فلا مجال فيه للبراءة.
ونقول : الظاهر
انّ مورد كلام الآخوند مغاير لمورد كلام الميرزا ، وكل من القولين صحيح في مورده ،
بيانه : انّ الشك في الوجوب النفسيّ والغيري له صورتان : فانه تارة : يكون الشك في
ذلك مع علم المكلف بكونه فاقد لبعض شروط وجوب ذي المقدّمة ، كما لو شكت الحائض في
انّ وجوب الوضوء نفسي أو غيري مقدمة للصلاة التي سقط وجوبها عنها قطعا لانتفاء
شرطه وهو الطهر ، ففي
__________________
هذه الصورة يتم ما
ذكره الآخوند ، فانه ليس للمكلف علم بتوجه تكليف إليه بالقياس إلى الوضوء ، فتجري
البراءة بالإضافة إليه.
وأخرى : لا يكون
المكلف فاقدا لشرط وجوب ذي المقدمة إلّا انّ وجوبه المحتمل ثبوته غير واصل إليه ،
كما لو فرضنا انه علم بوجوب المشي إلى السوق عليه لكنه تردد بين كونه نفسيا وكونه
طريقيا لشراء اللحم الواجب ، وفي هذه الصورة يتم ما ذكره الميرزا النائيني ، وذلك
لأنّ المكلف متيقن بتعلق الوجوب بالمشي إلى السوق غايته تردد بين النفسيّة
والغيرية ، ووجوب ذي المقدمة وان لم يكن واصلا إليه ومنجزا عليه بل يكون موردا
للبراءة إلّا انا قد ذكرنا في بحث الأقل والأكثر إمكان كون التكليف الواجب وأصلا
ومنجزا من ناحية دون أخرى ، ففي موارد الشك في الأقل والأكثر تفويت الواقع من
ناحية الأكثر أعني الجزء المشكوك لا يوجب العقاب لعدم تنجّزه من تلك الناحية.
وفي المقام أيضا
كذلك تفويت الواجب النفسيّ من جهة الإخلال بهذه المقدمة موجب للعقاب ، بخلاف
تفويته من جهة أخرى.
وحل المطلب ما
ذكرناه هناك من انحلال حرمة الترك إلى الجهات ، فلا مانع من كون الترك من جهة
حراما دون الترك من جهة أخرى.
وبعبارة أخرى :
المشي إلى السوق في المثال واجب على كل تقدير يقينا ، ومعه لا مجال لإجراء البراءة
عنه ، فلو تركه العبد فسأله المولى لم تركت ما كنت عالما بوجوبه؟ ليس له جواب
ومؤمن عن ذلك.
وبعبارة أخرى :
يعلم حين ترك المقدمة بأنه يخالف الواجب النفسيّ على التقديرين.
وان شئت فقل : حيث
انّ ثبوت الوجوب الغيري مستلزم لثبوت الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة فلا
محالة يتولد من العلم بوجوب الشيء مرددا بين
النفسيّ والغيري
علم إجمالي آخر وهو العلم بوجوب المقدمة نفسيا أو وجود ذيها كذلك ، وحيث انّ كلا
من الطرفين في نفسه مورد للبراءة لا محالة تسقط فيهما بالمعارضة ، ونتيجته
الاحتياط ولزوم الإتيان بكل منهما.
هذا ولكن المختار
هو انحلال هذا العلم الإجمالي بالعلم بوجوب المقدّمة تفصيلا غايته مرددا بين كونه
نفسيا أو غيريا ، وهذا نظير انحلال العلم الإجمالي في الأقل والأكثر بالعلم
التفصيليّ لوجوب الأقل على كل تقدير مرددا بين ان يكون ضمنيا أو استقلاليا ، فمن
قال بالانحلال هنا يقول به في المقام ، ومن قال بأنه لا ينحل بذلك لا يقول به في
المقام أيضا.
ومن هذه الجهة
ذكرنا انّ ما نحن فيه يكون نظير الشك في الأقل والأكثر ، ونتيجة الانحلال هو وجوب
الإتيان بالمقدمة فقط ، فعلى أي حال لا تصل النوبة إلى البراءة عن وجوبها كما هو
واضح.
وهناك صورة ثالثة
للشك في الوجوب النفسيّ والغيري ، وهي ما إذا علم المكلف بوجوب شيئين وتردد امر
أحدهما بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا. وبعبارة أخرى شك المكلف في تقيد أحد
الواجبين بالآخر.
وقد ذهب الشيخ
والميرزا قدسسرهما إلى جريان البراءة عن التقييد في ذلك.
والتحقيق انه يكون
لهذه الصورة أقسام :
القسم الأول : ان
يعلم المكلّف باتحاد الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط وتلازمهما في ذلك كما في
وجوب الوضوء والصلاة المستفاد من قوله عليهالسلام : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» وحيث انّ
المكلف في هذا القسم يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو تقيد الصلاة به ، وكل من
الخصوصيّتين في نفسه مورد للبراءة ، فلا محالة تسقط البراءتان بالمعارضة ، فلا بدّ
من الاحتياط العقلي حيث لا رافع لاحتمال التقيّد.
القسم الثاني : ان
يكون أحدهما مطلق والآخر مقيّد ، كما لو علمنا بأنّ الوضوء لو كان واجبا نفسيا فهو
مطلق بالقياس إلى خارج الوقت وداخله ، وان كان غيريا فوجوبه مقيد بدخول الوقت
وقبله ليس بواجب ، والاجتزاء بغير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.
وذهب النائيني قدسسره في هذا الفرض إلى جريان البراءة عن النفسيّة التي لازمها
الإطلاق ، فيرد عليه : انّ البراءة انما تجري عن التضييق لا عن الإطلاق والتوسعة ،
فلا وجه لما أفاد.
فالصحيح انّ العلم
الإجمالي المتعلق بالوجوب النفسيّ أو التقيد بما بعد الوقت يمنع عن جريان البراءة
عن كل من الأمرين ، فتصل النوبة إلى الاشتغال لا محالة.
القسم الثالث : ما
إذا كان أحد الوجوبين على تقدير ثبوته مقيدا بالوقت والآخر بقبل الوقت ، كما لو
فرضنا انّ الوضوء لو كان واجبا نفسيا فهو مقيد بما قبل الوقت ، وان كان غيريا فهو
مقيد بما بعد الوقت.
وفي هذا الفرض
أيضا تقع المعارضة بين البراءة عن كل من التقييدين بعد العلم الإجمالي ، فتسقط ،
فلا بدّ من الاشتغال بالإتيان بوضوءين أحدهما في الوقت والآخر قبل دخوله.
هذا ملخّص الكلام
في أقسام الشك في الغيريّة. وقد عرفت انّ المرجع في بعضها هو البراءة كما في
الصورة الأولى ، وفي جملة منها الاشتغال كما في بقيّة الصور.
ثم لا ريب في ترتب
الثواب على امتثال الوجوب النفسيّ وترتب العقاب على مخالفته ، إلّا انه ليس المراد
من استحقاق الثواب ان تكون الإثابة واجبة على المولى ، بداهة انّ العقل يلزم العبد
بالقيام بوظيفة العبودية ، فهو من وظائفه ، مضافا إلى انّ ما أتى به العبد
وامتثاله من تكاليف المولى ، لا يساوي بعض ما أنعم المولى عليه في الدنيا فكيف
يطالب به الثواب من المولى بل المراد من استحقاق الثواب
الأهلية بمعنى ان
المولى ، إذا أثاب العبد المطيع فقد وضع الثواب في محله ، بخلاف ما إذا أثاب العبد
على فعل مباح فانه واقع في غير محله.
اما الواجب الغيري
فقد وقع الخلاف في ترتب الثواب على امتثاله ، وفصل المحقق القمي في ترتب الثواب
على امتثاله وترتب العقاب على مخالفته بين ما إذا كان الوجوب الغيري موردا لخطاب
مستقل وما إذا لم يكن كذلك وعبر عنه بالوجوب التبعي.
ولكن الصحيح هو
التفصيل بين ترتب الثواب على امتثال الوجوب الغيري وترتب العقاب على عصيانه ،
والقول بترتب الأول دون الثاني وذلك : لأنّ العقاب انما يترتب على عصيان الوجوب
النفسيّ سواء أتى بمقدماته كلا أو بعضا أو لم يأت ، كما انه لو فرضنا انّ المكلف
امتثل التكليف النفسيّ من دون الإتيان بمقدماته لا يكون مستحقا للعقاب أصلا.
وهذا بخلاف
استحقاق الثواب على إطاعته ، فانّ الواجب الغيري لكونه واقعا في طريق الإتيان
بالواجب النفسيّ يمكن إضافته إلى المولى ، فالإتيان به بداعي طريقيته لما هو واجب
نفسيا ، وليس كالمباحات الصرفة التي لا تكون قابلة للإضافة إلى المولى.
ومن الواضح انّ
الثواب مترتب على ما يؤتي مضافا به إلى المولى ، فلا يعتبر في إضافته إليه قصد
الأمر الغيري أصلا ، فلا وجه لما ذكره في الكفاية من انّ الأمر الغيري لا يكون
مقربا فكيف يكون الواجب الغيري مقربا إلى المولى.
وبما ذكرنا ظهر
انّ الثواب يترتب على الإتيان بمقدمة الواجب بداعي وقوعه في طريق إتيان الواجب
النفسيّ سواء قلنا بوجوب المقدمة شرعا أم لم نقل به ، كما هو الصحيح على ما نبيّنه
إن شاء الله. لما عرفت من انّ ترتب الثواب على امتثاله ليس من جهة قصد امره
الغيري.
وبهذا ظهر الجواب
عن الميرزا القمي ، إذ عرفت أنه لا حاجة في ترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري
، ونعبر بالمقدم ليكون أعم إلى الوجوب فكيف بالخطاب المستقل ، ويؤيد ما ذكرناه
الروايات الواردة في ترتب الثواب على الإتيان ببعض المقدمات كالمشي إلى زيارة
الحسين عليهالسلام أو إلى الحج ونحو ذلك.
ثم انه استشكل في
الطهارات الثلاث من جهات :
أحدها : انّ الأمر
الغيري يكون توصليا ، فمن أين نشأت عبادية الوضوء والغسل والتيمم؟! ثانيها : انّ
ظاهر بعض الاخبار ترتب الثواب عليها ، كما ورد في الوضوء «انّ الوضوء على الوضوء
عشر حسنات» إلى غير ذلك.
اما الجواب عن
الجهة الثانية فقد ظهر بما تقدم.
واما الجهة الأولى
فأجيب عنها بوجوه :
منها : ما في
الكفاية من انها عبادات ذاتية ، وليست عباديتها لأجل امرها الغيري ، بل العبادة بما هي
كذلك تكون مقدمة للصلاة مثلا نظير امر الوالد بصلاة الليل أو نذرها.
وقد أشكل المحقق
النائيني عليه بوجوه :
الأول : انّ
الاستحباب الذاتي ان تم فإنما يتم في الغسل والوضوء ، ولا دليل عليه في التيمم.
وفيه : انه ورد في
الحديث «انّ التراب أحد الطهورين» وفي خبر آخر
__________________
«التيمم أحد
الطهورين» وكلاهما صحيح ، فانّ الطهور تارة يستعمل فيما يتطهر به كما
استعمل بذاك المعنى في الخبر الأول ، وأخرى يستعمل بمعنى الفعل الناشئ منه الطهارة
وقد استعمل بهذا المعنى في الخبر الثاني ، وبهذين الخبرين يثبت الموضوع والصغرى
أعني كون التيمم طهورا ، وإذا ثبت ذلك فيعمه إطلاق ما دل على محبوبية الطهارة
كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وغير ذلك.
نعم كونه طهورا
انما هو في فرض عدم وجدان الماء كما هو واضح ، ولا ينافي ما ذكرناه شيء من الأحكام
المخصوصة بالتيمم أصلا كما هو ظاهر.
الثاني : انه ولو
سلّمنا الاستحباب الذاتي فيها إلّا انه يزول بعد ثبوت الوجوب الغيري لها ، فلا
يبقى منشأ للعبادية.
وفيه : بعد
الإغماض عما هو المختار من إمكان اجتماعهما كما نتعرض لبيانه في مورد مناسب ، انّ
الاستحباب لا يزول حقيقة بالكلية بمجيء الوجوب ، وانما تتبدل المرتبة الضعيفة من
الطلب إلى المرتبة القوية ، فالقربيّة تكون باقية على حالها.
الثالث : انه على
هذا يلزم ان لا تكون الطهارة متحققة فيما إذا غفل الفاعل عن استحبابها النفسيّ ،
ولم يقصده ، وقصد امرها الغيري ، فانه لا يكون حينئذ آتيا به على وجه القربة ، وقد
نظّر كلامه بما إذا صلّى الظهر لا بداعي وجوبها بل بداعي مقدميتها لصلاة العصر.
وحيث انّ صاحب
الكفاية كان ملتفتا إلى هذا الإشكال ذكر في المتن ما حاصله : انه يمكن حصول القربة
بقصد امرها الغيري ، وذلك لأنه لا يدعو إلّا إلى ما كان مقدمة للواجب ، والمفروض
انّ المقدمة هو العمل المأتي به بداعي امره
__________________
الاستحبابي
النفسيّ فيكون قصده ثابتا بالإجمال ، ولذا أجاب عنه المحقق المذكور بأنه يستحيل
ذلك ، فانه عليه في المرتبة السابقة لا بدّ وان يتّصف العمل بالعبادية ويقصد امره
الاستحبابي النفسيّ ليتعلق به الأمر الغيري ويمكن قصده ، فقصد الأمر الاستحبابي لا
محالة متقدم رتبة على الأمر الغيري فكيف يحصل به.
والإنصاف انّ هذا
الإشكال وارد على هذا الجواب ولا يمكن التفصي عنه.
ومنها : ما ذكره
النائيني قدسسره من انه لا مانع من ان يكون الأمر الواحد عباديا من جهة
وتوصّليا من جهة أخرى ، ومثّل لذلك بما إذا نذر المكلف ان يعطي درهما إلى زيد
ويصلي ركعتين بنحو الانضمام لا الانحلال ، فانّ الأمر الواحد بوفاء النذر يكون
توصليا بالقياس إلى الأول وتعبديا بالقياس إلى الثاني ، وذكر انّ ذلك بالنسبة إلى
اجزاء الواجب غير واقع في الشريعة ، وامّا بالإضافة إلى الشرائط فهو متحقق ثابت ،
فانّ الأمر بالصلاة من حيث الستر والاستقبال توصلي ومن حيث الطهارة تعبدي.
وفيه : ما قدمناه
في مبحث التعبدي والتوصلي من انّ الشرائط والقيود لا تكون متعلقة للأمر ، ولذا قد
تكون امرا خارجا عن الاختيار وإلّا لما أمكن اتصافها بالوجوب الغيري كما لا تتصف
به الاجزاء. نعم التقيد يكون كالأجزاء متصفا بالوجوب النفسيّ ، واما ذات القيد فلا
، وعليه فينتفي الجواب من أصله.
والتحقيق ان يقال
: في الجواب عن الإشكال انّ اعتبار القربة في الطهارات الثلاث ناشئ من نفس
مقدميتها فانّ مقدميتها للصلاة ونحوها انما هي بجعل الشارع ، والشارع جعلها كذلك
مقدمة لا ذواتها ، فهي مع قصد القربة مقدمة لها ، فذواتها تكون جزء من المقدمة لا
تمامها ، نظير بعض اجزاء كل منها كغسل الوجه
__________________
مثلا في الوضوء ،
فلا يترتب ذي المقدمة على ذواتها ، لا لعدم كونها مقدمة أصلا ، بل لعدم كونها تمام
المقدمة.
واما حصول
العبادية فيها فيكون بأحد امرين : اما الإتيان بها بداعي امرها النفسيّ وهو واضح ،
واما الإتيان بها بداعي وقوعها في طريق الواجب النفسيّ وكونها مقدمة له ، سواء قصد
بها الوجوب الغيري أم لم يقصد ، بل سواء قلنا بوجوب المقدمة شرعا أم لم نقل به ،
وقلنا بأنّ الخطابات المتعلقة بالمقدمات كلها إرشاد إلى وجوبها العقلي كما هو
المختار وذلك لما عرفت من انّ مجرد وقوع العمل في طريق الوصول إلى مطلوب المولى
كاف في قابليته للإضافة إليه ، وبقصد هذا العنوان تتحقق الإضافة والتقرب.
وعلى هذا لا يرد
شيء مما أورد على ما سلكه المحقق الخراسانيّ والنائيني قدسسرهما وبتحقق العبادية فيما إذا كان الآتي بها غافلا عن امرها
النفسيّ أو لم يكن معتقدا به أصلا.
بقي فرعان :
أحدهما : انه لو
توضأ المكلف قبل دخول الوقت بداعي امرها النفسيّ الندبي لا إشكال في صحّة وضوءه ،
ويجوز له الإتيان بالفريضة بعد دخول الوقت من دون إعادة الوضوء ، لأنّ الأمر
بالوضوء عند القيام إلى الصلاة المستفاد من الآية الشريفة إرشاد إلى اعتبار
الطهارة في الصلاة والمفروض انها حاصلة في مورد الكلام ، فلا وجه للإعادة.
وثانيهما : انه لو
توضأ بعد دخول وقت الفريضة بداعي الوجوب الغيري فلا إشكال. واما لو توضأ بداعي
امره الندبي أو لغاية مندوبة ولم يكن قاصدا للإتيان بالفريضة ، بل كان بانيا على
عدم الإتيان بها ، فهل يصح هذا الوضوء ويجوز له الاجتزاء به لصلاة الفريضة إذا بدا
له ان يصليها أو يجب عليه الإعادة؟
ربما يستشكل في
صحّته بدعوى انّ الأمر الاستحبابي قد زال بطرو الوجوب على الوضوء ، فما قصده
المتوضئ لم يكن وما كان لم يقصده.
وفيه : أولا : انه
متوقف على القول بوجوب المقدمة شرعا ، وهو خلاف التحقيق كما سنبيّنه.
ثانيا : قد عرفت
انّ طرو الوجوب لا يوجب زوال الاستحباب ولا انقلابه إلى مرتبة أخرى كما قيل وانما
يوجب زوال الترخيص في الترك الثابت قبل مجيئه ، وعليه فاصل الطلب والشوق الثابت
قبل ذلك يكون باقيا بعد مجيء الوجوب أيضا ، فلا مانع من قصده.
بقي فرع لا بأس
بالإشارة إليه وهو : انه لو توضأ المكلف لغاية واجبة ، أو مستحبة فلم يأت بها ،
فهل يصح وضوءه ليجوز له الدخول في غيرها مما يشترط بالطهارة أم لا؟
ربما يستشكل في
ذلك من حيث انّ عدم ترتب تلك الغاية عليه يكشف من عدم كونه مقدمة له وعدم مطلوبيته
لتلك الغاية.
ولا يخفى ان البحث
عنه علمي محض ، وربما تبتني صحّته على القول بالمقدمة الموصلة وعدمه ، ولكن الحق
صحته مطلقا على التقديرين ، وذلك لأنه لا يعتبر في عبادية العبادة إلّا امران :
أحدهما : ان يكون
العمل قابلا لأن يضاف به إلى المولى.
ثانيهما : ان
يضيفه العبد إلى المولى ويأتي به متقربا إلى الله تعالى.
وكلا الأمرين
موجود في المقام.
اما إضافته إلى
المولى فظاهر ، لأنه أتى به للتوصل إلى تلك الغاية المطلوبة.
واما قابليته
للإضافة فقد يستشكل فيها من حيث عدم ترتب الغاية ، فيتوهم انه لم يكن قابلا لذلك
وانما تخيل المكلف قابليته ، إلّا انه خلاف الواقع ،
وذلك لأنّ
محبوبيّته النفسيّة ثابتة سواء ترتبت عليه الغاية أم لم تترتّب ، قلنا بالمقدمة
الموصلة أم لم نقل.
نعم خطأ المكلف من
حيث جهة الإضافة وهو لا يضر بالعبادية ، نظير ما إذا غفل المكلف عن نذره لصلاة
الليل فأتى بها بداعي الاستحباب ، أو تخيل استحباب امر واجب فأتى به بداعي
الاستحباب ، فانّ الظاهر صحّة العمل في جميع ذلك.
اختصاص وجوب المقدّمة بالمقدّمة الموصلة وعدمه
ثم انه وقع الخلاف
في انّ وجوب المقدمة على القول به أو محبوبيّته هل يكون مختصّا بالمقدمة الموصلة ،
أو التي قصد بها الإيصال ، أو انّ مقدمة الواجب محبوبة مطلقا؟
ولا يخفى انّ
الأنسب تأخير هذه المسألة عن البحث عن أصل وجوب المقدمة ، فذكرها في المقام من
قبيل تقديم ما حقّه التأخير ، وكيف كان الأقوال فيها خمسة :
الأول : هو القول
بكونها تابعة لذيها من حيث الإطلاق والاشتراط.
الثاني : ما نسب
إلى المعالم من انّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة الإتيان بذي المقدّمة ، وعليه
فتكون إرادة الإتيان بذي المقدّمة شرطا لوجوب المقدمة لا قيدا للواجب فقط.
الثالث : ما نسب
إلى الشيخ من انّ الواجب هو الحصّة الخاصّة من المقدّمة وهي ما قصد به الإيصال إلى
ذي المقدّمة.
الرابع : ما نسب
إلى الفصول من انّ الواجب خصوص الموصلة منها التي يترتّب عليها ذو المقدّمة.
الخامس : ما ذهب
إليه بعض أعاظم مشايخنا قدسسرهم من اعتبار كلا الأمرين فيها.
ونقول : اما ما
ذكره في المعالم ففساده واضح ، وذلك لأنه لا منشأ للقول بوجوب المقدّمة شرعا إلّا
دعوى الملازمة بين محبوبية ذي المقدّمة ومحبوبيّة مقدّمته ، وعليه فنسأل من صاحب
المعالم بعد وضوح استحالة التعليق في الملازمة انه لو لم
يرد المكلف ان
يصلي الفريضة مثلا فهل يكون وجوبها فعليا أو لا؟ وعلى الثاني يلزم ان يكون التكليف
تابعا لاختيار المكلف ، ولا يمكن الالتزام به ، فلا بدّ من الالتزام بالأول ،
وعليه فان كان ذو المقدّمة واجبا يستحيل عدم وجوب مقدّمته بعد فرض الملازمة لأنه
خلف.
وامّا ما نسب إلى
الشيخ من اعتبار قصد الإيصال ، فقد استدل عليه على ما في التقريرات بأنّ الواجب
ليس ذات المقدّمة ، بل بعنوان المقدمية وإذا كان العنوان تحت الأمر لا يتحقق
المأمور به إلّا إذا قصد ذات العنوان ، نظير عنوان التعظيم والتأديب ونحو ذلك.
وقد أوضح بعض
مشايخنا قدسسرهم ما في التقريرات في ضمن مقدمتين.
إحداهما : انّ
الجهة التعليلية للأحكام العقلية ترجع إلى الجهة التقييديّة ، وبعبارة واضحة انّ
علّة الحكم العقلي في الحقيقة تكون عنوانا لموضوعه ، والحكم حقيقة يكون ثابتا لذاك
العنوان ، وثبوته لموضوع القضيّة كما في الشكل الأول الّذي ترجع جميع القضايا إليه
انما هو من باب تطبيق الكبرى على الصغرى وكون ذاك الموضوع من مصاديق ذاك العنوان ،
من غير فرق بين الأحكام النظرية أي ما ينبغي ان يعلم كحكمه بالإمكان أو الاستحالة
، والأحكام العملية أي ما ينبغي ان يعمل كحكمه بالحسن والقبح ، مثلا إذا حكم العقل
باستحالة اجتماع الأمر والنهي لكونه مستلزما لاجتماع الضدين أو النقيضين ففي
الحقيقة يكون الموضوع لحكمه بالاستحالة هو اجتماع النقيضين ، ويثبت ذلك لاجتماع
الأمر والنهي بما انه من أحد مصاديقه وصغرياته ، ومن ثم ذكر الشيخ الرئيس انّ
الكبرى هي التي يدخل عليها لام التعليل.
ثانيهما : انّ
الإلزام من المولى لا بدّ وان يتعلق بالحصّة الاختيارية من الطبيعة ، فلا يكون الغير
الاختياري منها مصداقا للمأمور به وان كان وافيا
بالغرض أحيانا
ومسقطا للأمر.
ثم بضم إحدى
المقدمتين إلى الأخرى استنتج انّ وجوب المقدّمة متعلّق بعنوان المقدمية لأنه
العلّة لثبوته لا بذات المقدّمة.
وإذا ثبت ذلك
فمقتضى المقدمة الثانية انّ ما يكون مصداقا للواجب منها هو المقدمة التي قصد بها
عنوان المقدمية والإيصال إلى ذي المقدّمة ، لأنه إذا لم يؤت بها بهذا العنوان لا
تكون المقدّمة بعنوان المقدّمية صادرة عن الاختيار وان صدر ذاتها اختيارا ، إلّا
انها لم تكن متعلقا للأمر والوجوب وان كان مسقطا له.
هذا ونقول : ما أفاده
من الكبرى الكلية مبتن على الأحكام العقلية ولا يصغى إلى ما نسب إلى بعض الأساطين
من انّ باب العلل في الأحكام العقلية كبقية العلل والمعاليل لا باب الحكم والموضوع
إلّا انه أجنبي عن المقام ، فانّ وجوب المقدمة المبحوث عنها ليس من الأحكام
العقلية وانما هو شرعي ، والعقل يستكشف ثبوته من الملازمة ، وإلّا فالحاكم هو
الشرع والحكم شرعي ومن ثم ذكرنا انّ الأنسب تأخير هذا البحث عن مسألة وجوب
المقدّمة ، إذ بعد إثبات الوجوب الشرعي لها نتكلم في انه مطلق ، أو الواجب مطلق ،
أو مشروط ، ولا يلزم رجوع الجهات التعليليّة في الأحكام الشرعية إلى الجهات
التقييديّة.
فعلّة حكم الشارع
بوجوب المقدّمة وان كان عنوان المقدمية ، وتوقف ذي المقدّمة عليه ، إلّا انه مع
ذلك يمكن ان يجعل الوجوب على ذوات المقدمات ، لأنها المتوقف عليه لا على عنوان
المقدميّة ثم انه لو سلمنا ذلك وفرضنا ثبوت الوجوب لعنوان المقدمة لا لذاتها نمنع
المقدمة الثانية ونقول : لا يعتبر في اختيارية الفعل إلّا العلم والالتفات إلى
العنوان ، وامّا قصده بان يكون الداعي لتحصيله تحقق العنوان ، فلا يعتبر فيها أصلا
، ولذا لو قلنا بأنّ مقدمة الحرام حرام وأتى بها المكلف مع العلم والالتفات ولم
يقصد بها التوصل إلى المحرم قد أتى بالحرام قطعا ، وعليه ففي المقام لو
كان المكلف ملتفتا
إلى المقدميّة ، وأتى بها فقد حصلت المقدّمة بعنوانها اختيارا ، قصد بها التوصل أم
لم يقصد.
ثم انه ذكر لهذا
القول ثمرات.
منها : ما في
التقرير من ظهور ثمرة البحث عن اعتبار قصد الإيصال في من أراد الصلاة إلى بعض
الجهات الأربع دون جميعها عند تردد القبلة بينها ، فانه على القول باعتبار قصد
الإيصال بطلت الصلاة ولو صادفت القبلة الحقيقية ، بخلافه لو لم نقل بذلك ، فانه
تصح صلاته حينئذ وتكون مجزية.
وفيه : ما ذكره
الميرزا من انّ ذلك خارج عن محل الكلام ، لأنّ الصلاة إلى القبلة الواقعيّة واجبة
نفسيا ، والصلاة إلى بقيّة الجهات غير واجبة أصلا لا نفسيا ولا غيريا ، لأنها ليست
مقدمة لوجود الواجب وانما هي مقدمة علمية ، ولا ربط لها بمحل البحث وقد تعرض لصحّة
ذلك وجعلها مبتنية على القول بلزوم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي وعدمه
والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية بناء على اعتبار الجزم في النية.
ومنها : ما في
التقرير أيضا من ظهور الثمرة فيما إذا توضأ لخصوص غاية ، فانه على القول باعتبار
قصد الإيصال لا يمكن ترتيب الغايات الأخر عليها ، مثلا إذا توضأ للصلاة وصلّى لا
يمكنه مس المصحف مع ذاك الوضوء ، لعدم تحقق مقدمة جوازه لعدم قصد الإيصال إليه.
ثم تنظر فيما ذكره
بأنّ الوضوء طبيعة واحدة فإذا تحققت تترتب عليها جميع آثارها ، فأجاب بأنّ الثمرة
انما تترتب في الغسل لأنه ماهيات مختلفة ، ونقول :
أولا : انّ الغسل
أيضا ماهيّة واحدة.
وثانيا : بناء على
اختلافها انما تختلف باختلاف أسبابه ، مثلا غسل الجنابة ماهية مباينة لغسل الحيض ،
ولا تختلف ماهية الغسل باختلاف الغايات ، ولم يقل
أحد بذلك.
فالصحيح من
الثمرات هو الّذي ذكره في الكفاية من انه لو توقف واجب أهم على مقدمة محرمة في
نفسها ، كما لو توقف إنقاذ الغريق على التوسط في الأرض المغصوبة فدخلها المكلف لكن
لا بقصد التوصل ، فانه بناء على اعتباره قد فعل حراما ، وبناء على عدمه لم يأت
بالحرام ، إذ لا يعقل ثبوت الحرمة الفعلية لما يتوقف عليه الواجب الفعلي ، هذا
ولكن كفاية مجرد قصد التوصّل في محبوبيّة المقدمة مما يأباه الذوق السليم والوجدان
الّذي استدل به الشيخ قدسسره.
فالصحيح ما ذهب إليه الفصول من اعتبار
الإيصال الخارجي في وجوب المقدّمة ، بداهة انّ وجوب المقدمة انما هو لترتب ذي المقدمة عليها ، فالمحبوب ما يقع
في طريق الإيصال إليه لا ذات المقدمة ، وهذا وجداني كما ذكره في الفصول.
وتوضيح ذلك بمثال
عرفي ، وهو انه لو فرضنا انّ بعض محارم الرّجل غرق في البحر وتوقف إنقاذه على ان
يمس رجل أجنبي جسدها ، فلا محالة يكون ذلك محبوبا لمحبوبية الإنقاذ ، ولكن لو مس
أحد جسدها من دون ان ينقذها لا يكون ذلك محبوبا له بالضرورة ، وانما يجب المس
الّذي يترتب عليه إنقاذها.
فالوجدان أقوى
دليل على اعتبار الإيصال في المقدمة الواجبة.
ثم انّ صاحب
الفصول بعد ما استدل على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة دون غيرها بالوجدان أيّد
دعواه بجواز ان ينهى المولى عن غير المقدمة الموصلة وعدم جواز نهيه عن خصوص
الموصلة أو عما يعمها أي عن مطلق المقدّمة ، وذكر انّ ذلك أيد اختصاص الوجوب
بالموصلة دون غيرها.
وقد أورد عليه في
الكفاية بوجهين :
__________________
أحدهما : انه لا
مانع من نهي الشارع عن بعض افراد المقدمة ، فانه يوجب ذلك انصراف وجوبها إلى غير
المنهي عنه ، نظير ما إذا توقف الواجب على المشي في طريقين فنهى الشارع عن المشي
في أحدهما ، فلا يكون في صحّة النهي دليل على الاختصاص.
ثانيهما : انه لو
اختص وجوب المقدمة بالمقدمة الموصلة لزم التكليف بغير المقدور ، وجواز ترك الواجب
النفسيّ اختيارا فيما إذا لم يرد المكلف الإتيان بذي المقدمة في فرض انحصار
المقدمة بالمحرم ، وذلك لأنه حينئذ لا تكون المقدمة مرخصا فيها ، لأنّ جوازها انما
يكون في فرض إيصالها وإرادة الإتيان بذيها ، فتبقى على حرمتها ، وإذا كانت محرمة
فهي ممتنعة شرعا ، وإذا امتنعت المقدمة يمتنع ذوها أيضا ، فيكون التكليف به تكليفا
بغير المقدور.
وفي كلا الإيرادين
ما لا يخفى.
اما الإيراد الأول
ففيه :
أولا : انه يمكن
ان يغير صاحب الفصول تقريبه بان يقول : انّ الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة
ووجوبها انما هو الحكم ، فالعقل ـ بعد ما بينا غير مرة من انّ الإهمال النّفس
الأمري غير معقول ، وانّ الحاكم لا يعقل ان يكون شاكا في موضوع حكمه ـ اما ان يحكم
بثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مطلق المقدمة ، واما ان يحكم بالملازمة
بينه وبين وجوب حصّة خاصة من المقدمة ، وعلى الثاني يثبت المطلوب ، وعلى الأول
يستحيل ان يخصص حكم العقل بالنهي الشرعي ويرتفع به إطلاق وجوب المقدمة ، فمن صحّة
النهي يستكشف انّ طرف الملازمة من أول الأمر انما كان غير المنهي عنه.
ولا يخفى انّ
مرادنا من الإطلاق والتقييد انما هو إطلاق فرد واحد وتقييده بالإضافة إلى حال
الإيصال وعدمه ، فلا يقاس ذلك بأصل وجوب المقدمة في
الجملة أي افراد
ما منها على نحو القضية المنفصلة ليكون التطبيق باختيار المكلف الّذي هو قابل
للتقييد بالنهي الشرعي عن بعض الافراد.
وثانيا : لو سلمنا
ذلك فنقول : يكتفي صاحب الفصول بما التزم به الخراسانيّ قدسسره من إمكان النهي عن بعض افراد المقدمة أو أصنافها ، لأنه
إذا أمكن ذلك ففي مورد ظهور الثمرة ـ وهو فرض انحصار المقدمة بالمحرم ـ مجرد إمكان
النهي يكفي في ثبوته بمقتضى إطلاق دليل حرمة الغصب مثلا ، ولا يخرج عن ذلك إلّا
بالمقدار المتيقن ، وهو خصوص المقدمة الموصلة ، وعليه فلا يفرق بين قول الفصول
وبين ما ذكر في الكفاية من حيث اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، إلّا انه على
مسلك الآخوند يكون ذلك لأجل المانع عن الشمول ، وهو نهي الشارع ، وعلى مسلك الفصول
يكون الاختصاص لقصور في المقتضي لثبوت الوجوب بنحو الإطلاق.
واما الإيراد
الثاني ، فهو من كبوة الجواد ، وذلك لأنّ ما ذكره انما يتم لو كان التعليق والقيد
راجعا إلى الجواز كما ذهب إليه المعالم وردّه في الكفاية. واما بناء على رجوع
القيد إلى الجائز ، فالحكم مطلق غير مقيد بإرادة ذي المقدمة ولا بشيء آخر ، فتكون
الحصّة الموصلة من المقدمة محكومة بالجواز ، أتى به المكلف أم لم يأت ، والمفروض
انه قادر على الإتيان بها ، فلما ذا يكون ذيها غير مقدور ، فيكون الترك اختياريا.
ثم انه استدل على
عدم اختصاص الوجوب بالموصلة بوجوه :
منها : ما في
الكفاية وحاصله : انّ وجوب المقدمة لا بدّ وان يكون بملاك وغرض
مترتب عليها ، وهو غير مختص بالموصلة ، بل هو موجود في غيرها أيضا ،
__________________
فيعم الوجوب
الجميع.
وتوضيح ذلك
بمقدمتين :
إحداهما : انّ
الغرض من إيجاب المقدمة انما هو حصول ما لولاه لما أمكن ذي المقدمة.
ثانيهما : انّ هذا
الغرض ثابت في مطلق المقدمة ولو لم تكن موصلة وهو واضح ، واما فعلية الترتب والوصول
فليست هي الغرض من المقدمة ، وإلّا لاختص وجوب المقدمة بالعلّة التامّة ، وهو
بديهي الفساد.
وفيه : انّ الصحيح
كما ذكرنا انّ ملاك وجوب المقدمة ليس إلّا استحالة انفكاك ذيها عنها وتوقفه عليها
، واما ما ذكره ، فان أريد به ظاهر عبارته أعني «حصول ما لولاه إلخ ...» فهو غير
المقدمة لا الغرض المترتب من إيجابها ، وان أريد بذلك معنى آخر أعني به التمكن من
الإتيان بذي المقدمة فهو واضح الفساد ، بداهة انّ إمكان ذي المقدمة ليس مترتبا على
حصول مقدمته في الخارج وانما هو متوقف على إمكان مقدمته ، نعم حصوله مترتب على
حصولها ، ومن ثم يصح الأمر بذي المقدمة مع عدم الإتيان بمقدماته.
وقد ذكر بعض أعاظم
مشايخنا بعد ما أورده عليه انّ الغرض من إيجاب المقدمة انما هو القابلية
والاستعداد لإيجاد ذي المقدمة من ناحيتها ، وان شئت فعبر عن ذلك بسد باب عدم ذي
المقدمة من قبلها ، وهذا مترتب على مطلق المقدمة ولو لم تكن موصلة.
وفيه : انّ هذا
وان كان ممكنا ثبوتا إلّا انه لا دليل عليه في مرحلة الإثبات ، إذ كما يحتمل ان
يكون الغرض من إيجاب المقدمة ذلك يحتمل ان يكون الغرض منه امرا آخرا لا يتحقق إلّا
بعد انضمام بقية المقدمات إليها ، نظير ما إذا أراد المولى طبخ الطعام فأمر بعض
عبيده بإحضار الماء وبعضهم بإحضار الحطب والقدر إلى غير
ذلك ، فانه ليس
غرضه من امر كل منهم بذلك سد باب العدم من قبله ، وانما غرضه طبخ الطعام الّذي لا
يترتب على جميع المقدمات.
وإذا كان الغرض
كذلك فلا محالة ينحصر الواجب بخصوص المقدمة الموصلة ، وان شئت فعبر عنها بالعلّة
التامّة وان كانت العبارة غير خالية عن المسامحة.
ومنها : ما ذكره
في الكفاية أيضا ، وحاصله : انه لو أتى المكلف بالمقدمة ولم يأت بعد
بذيها فيكون التكليف بها ساقطا لا محالة ، ولا بدّ ان يكون سقوطه بالإطاعة كما هو
المطلوب ، أو بالعصيان ، أو بزوال الموضوع ، أو بحصول الغرض ، وعلى الأول يثبت
المطلوب ، والوسطان غير محتملين ، وعلى الرابع لا بدّ من ان يكون مطلوبا ، لأنّ
الوافي بالغرض يؤمر به لو لا المانع.
والجواب عن ذلك.
أولا : بالنقض بما
إذا شرع المكلف في الواجب التدريجي وأتى ببعض إجزاءه ، فانه تجري فيه الشقوق
المتقدمة.
وثانيا : الحل في
الجميع هو انّ الإطاعة والسقوط فيها يكون مراعى على الإتيان ببقية الاجزاء بنحو
الشرط المتأخر ، فان أتى بها المكلف يستكشف سقوط التكليف من الأول بالإطاعة ،
وإلّا فيستكشف عدم كون ما أتى به مصداقا للمأمور به من أول الأمر ، وهذا واضح.
ومما أورد على
اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ما ذكره المحقق النائيني من الدور ، ويمكن تقريبه
بوجهين :
__________________
الأول : ما
استفدناه من مجلس بحثه وهو تقريب الدور من ناحية الوجوب ، بان يقال : انّ الإيصال
وعدمه امران منتزعان من ترتب ذي المقدّمة على مقدمته ، فإذا قيدنا المقدمة الواجبة
بالإيصال فلا محالة يترشح من وجوبها وجوب غيري يتعلق بالواجب النفسيّ وهو ذي
المقدمة ، والمفروض انّ وجوبها كان مترشحا منه ، فيلزم تقدم المتأخر وبالعكس ، وهو
معنى الدور.
والجواب عنه واضح
: فانّ الموقوف غير الموقوف عليه ، بداهة انّ وجوب المقدمة وان كان مترشحا من
الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة إلّا انّ الوجوب المترشح من وجوبها ليس هو
الوجوب النفسيّ ليلزم الدور ، وانما هو وجوب غيري آخر ، فلا يلزم من ذلك إلّا
اجتماع وجوبين على واجب واحد ، ويندفع محذوره بالالتزام بالتأكد على المشهور.
الثاني : من
التقريبين تقريب الدور من ناحية المقدمية بأن يقال : انّ المقدمية لو كانت مختصة
بالإيصال فلا محالة يكون تحققها متوقف على ترتب ذي المقدمة ، فيلزم الدور.
والجواب عنه : انّ
الإيصال ليس دخيلا في عنوان المقدمية أصلا ، وانما هو دخيل في الواجب وقيد له لا
للمقدمية ، فإشكال الدور مندفع بتقريبيه.
فلا يبقى إلا لزوم
اجتماع وجوبين في الواجب النفسيّ الّذي هو مخالف للوجدان ، بداهة انّ من يطلب ذي
المقدمة ليس في نفسه طلبان متعلقان به ، أحدهما نفسي والآخر غيري.
ويندفع ذلك بما هو
الجواب الصحيح عن إشكال الدور أيضا وهو : انّ القائل بالمقدمة الموصلة لا يجعل
الإيصال وترتب الواجب قيدا للمقدمة الواجبة أصلا ،
__________________
وانما يجعله
عنوانا مشيرا ومعرفا عن ذات المقدمة التي هي ملازمة مع تحقق ذي المقدمة خارجا من
دون ان يكون هناك تقيد أصلا ، فلا يلزم شيء من المحذورات المتقدمة.
فالصحيح انّ وجوب
المقدمات الّذي هو وجوب وجداني لا تعدد فيه متعلق بذوات المقدمات التي تلازم وجود
ذي المقدمة خارجا ، وليس لكل مقدمة وجوب مستقل ، إذ الغرض كما عرفت مترتب على
المقدمات بنحو الانضمام من المقتضي والمعد وعدم المانع التي نعبر عنها بالعلّة
التامّة ولو مسامحة ، لتوسط الاختيار بينها وبين تحقق الواجب خارجا.
هذا بناء على
القول بوجوب المقدمة شرعا ، ولكن لو لم نقل بذلك كما هو الصحيح أيضا يترتب على بحث
المقدمة الموصلة ثمر مهم في فرض انحصار المقدمة بالفرد المحرم ، فانّ العقل لا
محالة يحكم بالترخيص فيما إذا كان الواجب أهم ، فيبحث عن ان المرخص فيه هل هو خصوص
الموصلة أو الأعم.
فثمرة هذا البحث
غير منحصرة بالقول بوجوب المقدمة شرعا ، وقد عرفت انّ الصحيح ما ذهب إليه الفصول
من اختصاص ثبوت الترخيص العقلي بالمقدمة الموصلة أي التي تلازم وجود ذيها خارجا.
بقي الكلام فيما
اختاره صاحب الحاشية والميرزا النائيني قدسسره مما يكون نتيجته عدم وجوب غير الموصلة من المقدمة بعد
إنكارهما اختصاص وجوبها بالموصلة ، وحاصل ما ذكراه مبتن على مقدمتين :
الأولى : انه بعد
ما ثبت على مبناهما استحالة تقييد الواجب بخصوص الموصلة ، فاستحالة التقييد يستلزم
استحالة الإطلاق ، لأنّ التقابل بينهما تقابل
__________________
العدم والملكة ،
ويفترق هذا التقابل في ذلك عن غيره من تقابل التضاد وتقابل السلب والإيجاب ، فانّ
استحالة أحد المتضادين يستلزم ضرورية الضد الآخر أو أحد الأضداد ، كما انّ استحالة
أحد النقيضين يستدعي ضرورية النقيض الآخر ، وهذا بخلاف العدم والملكة فانّ استحالة
الملكة تستلزم استحالة عدمها أيضا ، وعليه فإذا ثبتت استحالة تقييد المقدمة
الواجبة بخصوص الموصلة فيستحيل ان تكون مطلقة من حيث الإيصال وعدمه ، فلا بدّ وان
يكون وجوب المقدمة مهملة.
المقدمة الثانية :
انّ الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا ترتب ذيها عليها ، ومن الواضح انّ هذا الغرض
انما يكون مترتبا على خصوص المقدمة الملازمة لترتب الواجب عليها دون مطلق المقدمة
، فالغرض مختص بخصوصها ، وعلى هذا ففي المقدمة المحرمة يتحقق خطابان بنحو الترتب.
أحدهما : الأمر
بإيجاد المقدمة بنحو الإهمال.
وثانيهما : حرمة
الإتيان بها على تقدير عصيان الخطاب النفسيّ وترك الإتيان بذي المقدمة أو ترك
الإتيان بالمقدمة التي يترتب عليها ذوها على الخلاف في ذلك ، وعلى هذا فتبقى
المقدمة الغير المترتب عليها ذو المقدمة على حرمتها ، وهذا هي ثمرة القول بالمقدمة
الموصلة.
وإلى هنا يشترك
المحققان ، ولا فرق بين ما ذكراه إلّا من ناحية المرتب عليه ، فانّ الظاهر مما
ذكره صاحب الحاشية في مبحث الضد هو انّ وجوب الصلاة مترتب على عصيان الأمر بترك
الصلاة المترتب عليه وجود الإزالة ، وقد ذكرنا في محله انّ الترتب وان كان من
الواضحات إلّا انه انما يعقل مع تعدد الموضوع لا مع وحدته واما المحقق النائيني
فجعل المترتب عليه عصيان الخطاب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة ، وهذا هو الصحيح في
بحث الترتب.
هذا ولكن على فرض
إنكار القول بالمقدمة الموصلة لا يتم شيء من
المقدمتين :
اما الأولى : فلما
مرّ تفصيله في بحث التعبدي والتوصلي من استحالة ان يكون الحاكم جاهلا بموضوع حكمه
، فالإهمال الواقعي غير معقول ، وذكرنا انّ استحالة التقييد لا تستلزم استحالة
الإطلاق وان كان بينهما تقابل العدم والملكة ، فانّ استحالة الملكة ربما تستلزم
وجوب عدمها كما في العلم والجهل بكنهه تعالى ، وعليه فالموضوع لوجوب المقدمة لا
بدّ وان يكون مطلقا أو مقيدا بالإيصال ، أو بعدمه. والثالث بديهي البطلان ،
والثاني أبطلوه على فرضهم ، فيتعيّن الإطلاق.
وبالجملة قسم صاحب
الفصول المقدمة إلى الموصلة وغير الموصلة وجعل متعلق الوجوب خصوص الأولى ، أعني
المقدمة بشرط لا عن ترتب ذيها عليها ، فهي باقية على حكمها الأول من إباحة أو حرمة
أو غير ذلك.
وصاحب الحاشية حيث
رأى استحالة ذلك ذهب إلى انّ الواجب ذات المقدمة من حيث ترتب الواجب عليها بمعنى
انّ الحيثية تكون تعليلية لا تقييدية ، وقد بينا انّ ما ذكره وتبعه فيه المحقق
النائيني مبنى على مقدمتين :
الأولى : انه كما
يستحيل تقييد متعلق الوجوب بخصوص الموصلة كذلك يستحيل ان يكون مطلقا بالقياس إليه
، بدعوى انّ استحالة التقييد تستدعي استحالة الإطلاق ، لأنّ التقابل بينهما تقابل
العدم والملكة ، فلا محالة يكون متعلق الوجوب المقدمة بنحو الإهمال.
الثانية : انّ
الغرض من إيجاب المقدمة ليس إلّا الوصول إلى ذي المقدمة ، وهو لا يترتب إلّا على
المقدمة الملازمة لترتب الواجب النفسيّ عليها خارجا دون غيرها ، فيستكشف من مجموع
ذلك ثبوت تكليف ، أو ترخيص معلق بإيجاد المقدمة من حيث ترتب الغرض عليها خارجا ،
وثبوت تحريم متعلق بإيجادها بنحو الترتب على عصيان الوجوب الغيري على ما سلكه صاحب
الحاشية على ما حكي
عنه ، أو على
عصيان الوجوب النفسيّ على ما ذهب إليه النائيني ، فيكون مفادهما على مسلك صاحب
الحاشية انه يجب عليك الإيجاد بالمقدمة من حيث ترتب الغرض عليها وان عصيته ولم
توجد المقدمة من ذاك الحيث ، فيحرم عليك إيجادها. وعلى مسلك النائيني انه يجب
الإيجاد بالمقدمة وان عصيت الوجوب النفسيّ المتعلق بذيها ، فيحرم عليك الإتيان بها
، وذلك لأنّ إمكان الترتب يكون مستلزما لوقوعه كما هو مبيّن في محلّه ، فتكون
النتيجة حرمة المقدمة المحرمة التي لا يترتب عليها ذي المقدمة خارجا.
ونقول : اما
المقدمة الأولى ، فقد عرفت عدم تماميتها وانّ الإهمال النفسيّ الأمري مستحيل ، فلا
مناص من إطلاق متعلق الوجوب أو تقييده بأحد الأمرين ، وانّ استحالة التقييد في
مقام لا يستلزم استحالة الإطلاق.
نعم إذا استحال
التقييد في مقام الإثبات بان قال المولى «أعتق رقبة» وبمجرد ذلك عرض له مانع عن
التكلم فامتنع عليه التقيد لا يتحقق للفظ إطلاق نستكشف منه إطلاق مراد المولى
ثبوتا.
وهذا مضافا إلى
انّ تقابل الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل تقابلهما من تقابل
التضاد ، وذلك لأنّ الإطلاق الثبوتي امر وجودي وهو لحاظ السريان ورفض القيود ، ومن
الواضح انّ استحالة أحد الضدين يستلزم ضرورية الضد الآخر.
واما المقدمة
الثانية ، فهي صحيحة كما ذكر ، بداهة انّ المحبوب ليس إلّا المقدمة التي يترتب
عليها المحبوب النفسيّ في الخارج دون غيرها.
ثم مع تسليم صحّة
المقدمتين هل يتم الترتب في المقام أم لا؟.
الظاهر هو الثاني
، اما على مسلك الحاشية فواضح ، لما ذكرنا من انّ الترتب انما يتم إذا كان الحكمان
في موضوعين ، وامّا ثبوت حكمين لموضوع واحد بنحو
الترتب فلا يعقل
بان يقول يجب عليك الصلاة وان غصبت ولم تأت بها فتحرم عليك ، إذ لا معنى للحرمة مع
فرض الترك ، أو للإيجاب مع فرض تحقق الفعل كما هو واضح.
واما على مسلك
النائيني قدسسره فحيث انّ شرط حرمة المقدمة انما هو عدم الإتيان بذي
المقدمة. والمفروض انّ ذا المقدمة دائما يكون متأخرا عن مقدمته زمانا ، فلا بدّ
وان يكون دخل عدمه في حرمتها بنحو الشرط المتأخر. فبناء على استحالته كما يظهر من
الميرزا يستحيل الترتب لذلك ، ومع تسليمه وإرجاعه إلى وصف التعقب كما فعله قدسسره في موارد ثبوت الدليل عليه فلا يمكن الالتزام به في المقام
أيضا ، وذلك لأنه لو كانت حرمة المقدمة مشروطة بعدم الإتيان بذي المقدمة ، فلا بدّ
وان يكون جوازها مشروطا بالإتيان بذي المقدمة بالملازمة ، كما انّ كل ضدين إذا
اشترط وجود أحدهما بأمر فلا محالة يكون وجود الآخر مشروطا بعدمه.
وعليه فيكون
الإتيان بذي المقدمة شرطا للحكم ، أعني الجواز دون الجائز كما توهمه صاحب المعالم
، فيرد حينئذ إشكال الكفاية ، فيلزم محذوران :
الأول : ان يكون
طلب ذي المقدمة من طلب الحاصل ، لأنّ فرض جواز المقدمة الّذي هو فرض القدرة عليها
وعلى ذي المقدمة وفرض تعلق الأمر به انما هو فرض الإتيان به وحصوله خارجا ، ومعه
كيف يمكن طلبه ، وهل هو إلّا طلب الحاصل.
الثاني : ان يجوز
تركه اختيارا كما تقدم بيانه ، إذ لا يجب على المكلف إيجاد شرط الوجوب في الخارج ،
وهو واضح.
فالصحيح ما ذهب
إليه صاحب الفصول من اختصاص الوجوب بالمقدمة الملازمة لوجود ذي المقدمة أي المنضمة
إلى بقية المقدمات وان أخطأ في تعبيره عنها بالموصلة كما مر بيانه ، بداهة انّ
المقدار المتيقن الّذي يكون محبوبا انما هو ذلك دون
غيره ونحن نأخذ به
ونرفع اليد عن المنشأ به.
ثم انه لا تختص
ثمرة البحث عن الموصلة بما إذا قلنا بوجوب المقدمة شرعا ، بل يجري على القول بعدمه
أيضا في ما إذا كانت المقدمة منحصرة بالمحرم ، فانّ الترخيص الثابت بحكم العقل على
القول بالموصلة مختص بها ، وإلّا فهو مطلق كما هو ظاهر.
فإذا أجر أحد نفسه
للدخول في الدار المغصوبة فدخلها ، وترتب عليه إنقاذ غريق أو واجب آخر أهم يحكم
بصحّة الإجارة وان كان الأجير متجريا في ذلك.
هذا تمام الكلام
في المقدمة الموصلة.
ثم انّ صاحب
الفصول جعل من ثمرات المقدمة الموصلة صحّة العبادة المضادة لواجب أهم ، كالصلاة
المزاحمة بالإزالة ، بدعوى انه لو كانت المقدمة مطلقا واجبة فترك الصلاة يكون
واجبا ، وحيث انّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام ، فلا محالة يكون فعل
الصلاة منهيا عنه ، والنهي في العبادة يوجب الفساد ، وهذا بخلاف ما لو اختص الوجوب
بخصوص الترك الموصل ، فانّ فعل الصلاة حينئذ عند عدم إرادة الإزالة لا يكون محرما
فلا يبطل ، فيمكن تصحيحه بالأمر بنحو الترتب أو من ناحية الملاك.
وقد أورد عليه
الشيخ على ما في التقريرات بأنّ الصلاة في الفرض فاسدة على القولين ، وذلك لأنّ
نقيض كل شيء رفعه ، فنقيض الوجود المطلق عدمه ، وامّا الوجود المقيد بأمر خاص
كالقيام في الدار مثلا هو عدمه ، وهو يتحقق بأمرين عدم القيام رأسا وعدم الخصوصية
، وهكذا العكس.
وعليه ففيما نحن
فيه. نقيض الترك الخاصّ انما هو عدم الترك الخاصّ ويكون له فردان ، أحدهما : الترك
المجرد ، وثانيها : فعل الصلاة ، فكل منهما يكون منهيا عنه.
وأورد عليه في
الكفاية بما توضيحه : انه ليس معنى القول المعروف من انّ نقيض كل
شيء رفعه انّ نقيض كل شيء عدمه وإلّا لتسلسل ، فانّ نقيض الوجود هو العدم ، ونقيض
العدم هو عدم العدم وهكذا ، ولزال التضايف بين المتناقضين مع وضوح التضايف بين
المتناقضين ، فلا بدّ وان يراد من الرفع معناه الحقيقي أعني القطع ، فانّ الوجود
يكون ناقض العدم بمعنى انه يقطع الهيئة الاتصالية الثابتة للعدم الأزلي ، وكذلك
العدم الطارئ يقطع الهيئة الاتصالية الثابتة للوجود الواحد وان انعدم بعد ذلك
أيضا. وعلى هذا فنقيض الوجود هو العدم ، ونقيض العدم هو الوجود. ففيما نحن فيه
نقيض الترك الخاصّ ليس إلّا الفعل الخاصّ ، واما الترك المجرد فليس نقيضا للترك
الخاصّ ، وأقوى شاهد عليه هو إمكان اجتماعهما ، والنقيضان لا يجتمعان.
وفي عبارة الكفاية
في هذه الجملة مسامحة واضحة ، حيث يعبر عن نقيض الترك بترك الترك فراجع ، وعليه
فلا يتم ما ذكره الشيخ قدسسره.
هذا وما أفاده
متين جدا مع قطع النّظر عن المسامحة في التعبير ، إلّا انه يرد على الفصول انّ ما
ذكره مبني على مقدمات باطلة بأجمعها.
الأولى : ان يكون
ترك الضد مقدمة لفعل ضده ، وهو فاسد.
الثانية : ان تكون
المقدمة واجبة شرعا.
الثالثة : ان يكون
الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده العام.
وجميع تلك
المقدمات فاسدة كما مر وسيأتي إن شاء الله.
هذا مضافا إلى
جميع ذلك انّ النهي الّذي يوجب فساد العبادة انما هو النهي النفسيّ الناشئ عن
مفسدة ومبغوضية في الفعل. واما النهي الغيري والمبغوضية
__________________
الفرضية فلا وجه
لاقتضائه فساد العبادة أصلا ، لعدم تماميّة الملاك فيه كما سيأتي بيانه إن شاء
الله.
فالثمرة الصحيحة
للمقدمة الموصلة ما ذكرناه من المقدمات المحرمة فراجع.
الواجب الأصلي والتبعي
ثم انّ المحقق
الخراسانيّ قدسسره تعرض لتقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي ، والظاهر انّ
تعرضه له في المقام من سهو القلم ، وكان محله عند ما قسم الواجب إلى المشروط
والمطلق وغيرهما ، ونحن نتبعه في ذلك فنقول : المحتمل في المراد من الأصلي والتبعي
أمور ثلاثة :
الأول : ان يراد
الأصلية والتبعيّة في مقام الإثبات والدلالة. فانه تارة. يكون وجوب الشيء مقصودا
بالإفهام في مقام الإثبات ، اما بالدلالة المطابقية أو الالتزامية بالمعنى البين
الأخص بحيث يعرف الملازمة الآمر وأهل العرف ، وأخرى : لا يكون كذلك بان يكون
اللزوم الثابت بيّنا بالمعنى الأعم بحيث لا يعرفه العرف.
الثاني : ان يراد
من الأصلية والتبعية الارتكاز والتفصيل. فلأنه تارة : يكون الآمر ملتفتا إلى انه
مريد للشيء الفلاني تفصيلا ، وأخرى : لا يلتفت إليه إلّا إجمالا وهذا التقسيم بهذا
المعنى مباين مع تقسيم الواجب إلى النفسيّ والغيري ، ولذا يتّصف كل منهما
بالقسمين.
اما انقسام الواجب
الغيري إليهما فواضح ، فانّ الآمر تارة : يكون ملتفتا إلى كون الشيء الفلاني مقدمة
لمراده ، فيكون مرادا تفصيلا ، وأخرى : لا يكون ملتفتا إلى مقدميّته فيكون مرادا
إجمالا وارتكازا.
وأما انقسام
الواجب النفسيّ إليهما ، فلأنه لو التفت المولى إلى اشتمال العمل
__________________
الخاصّ على مصلحة
ملزمة فأمر به فلا محالة يكون وجوبه تفصيليا ، وان لم يلتفت إليه كما لو غرق ابنه
وهو يتخيّل كونه عدوه مثلا فلا يأمر بإنقاذه ، فلا محالة يكون إنقاذه حينئذ واجبا
بالارتكاز ، إلّا انّ التعبير عنه بالوجوب التبعي غير خال عن المسامحة.
وبالجملة لا وجه
للقول باختصاص هذا التقسيم بهذا المعنى بالواجب الغيري كما تخيّله في الكفاية.
الثالث : ان يراد
الأصلية والتبعيّة في مقام الثبوت والواقع ، فان كان الوجوب ثابتا لمصلحة في نفس
الواجب كان هناك واجب آخر أم لم يكن ، فلا محالة يكون أصليا ، وان كان مترشحا عن
وجوب آخر ، وناشئا عن مصلحة فيه يكون تبعيا.
والأصلي والتبعي
بهذا المعنى متحدان مصداقا مع النفسيّ والغيري في الخارج ، وانما الفرق بينهما
اعتباري ، فانّ التعبير بالغيرية انما هو باعتبار الغاية والنهاية وهي ترتب ذو
المقدمة عليه ، والتعبير بالتبعية باعتبار المبدأ والمنشأ أعني ترشح الوجوب من
وجوب آخر.
إذا عرفت ذلك
فاعلم انّ هذا التقسيم يترتب عليه الأثر بالمعنى الأخير ، وقد ظهر لك رجوعه إلى
التقسيم إلى الواجب النفسيّ والغيري.
واما بالمعنيين
الأوليين فلا يترتب عليه أثر أصلا ، وان كان حينئذ فرق بينهما فلا وجه له أصلا.
ثمرة القول بوجوب المقدمة
ثم انه هل يترتب
على القول بوجوب المقدمة شرعا أثر عملي أم لا؟ الظاهر هو الثاني ، لبطلان جميع
الثمرات التي يوهم ترتبها عليه وهي كما يلي.
الأولى : ما في
الكفاية من انّ ثمرة البحث الأصولي وهو البحث عما يقع في طريق
الاستنباط هو كبرى كلية لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا ، وفي المقام نتيجة
البحث هو وجوب المقدمة ، فإذا انضم إليه الصغرى وقلنا هذا مقدمة للواجب الفلاني
ومقدمة الواجب واجبة ، يحكم بوجوبه لا محالة.
وفيه : انه لا
يترتب على ذلك ثمر عملي بعد ثبوت اللابدية للمقدمة عقلا ، فلا يقاس المقام ببقية
الأحكام كوجوب الصلاة مثلا ، فانه ان ثبتت يؤتي بها وإلّا فلا ، وهذا بخلاف وجوب
المقدّمة.
الثانية : فساد العبادة
المضادة لواجب أهم كالصلاة والانتهاء له ، فانها تبطل بناء على وجوب المقدمة لو
قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.
وقد عرفت الجواب
عنه.
الثالثة : انّ
الثمرة تظهر في ما لو نذر ان يعطي درهما لمن أتى بواجب ، فانه يبرأ من نذره إذا
أعطى لمن أتى بمقدمة الواجب بناء على وجوبها ، بخلاف ما لو لم نقل بوجوبها.
وفيه : أولا : انه
لو قلنا بوجوب المقدمة فالواجب منها خصوص الموصلة ،
__________________
وهي لا تنفك عن
ترتب ذيها عليها خارجا ، فيكون الآتي بها آتيا بالواجب لا محالة ، فيبرأ من النذر
بإعطاء الدرهم إياه.
وثانيا : انّ
النذر تابع لقصد الناذر إلّا ان يكون مقصوده من أتى بما هو واجب واقعا.
وثالثا : انّ
تطبيق الكبرى على الصغرى لا يمكن ان يكون ثمرا للبحث الأصولي ، لأنّ نتيجته انما
هو حكم كلي كأصل وجوب الوفاء بالنذر ، وإلّا لكان البحث عن كل شيء مسألة أصولية ،
كالبحث عن المسافة بين النجف والخندق ، لظهور ثمرته في ما لو نذر أحد انّ يعطي
درهما لمن مشى في زيارة الحسين عليهالسلام فرسخا مثلا.
الرابعة : ظهور
الثمرة في قصد القربة.
وقد عرفت انّ
إمكان التقرب بالمقدمة غير متوقف على وجوبها أصلا ، وانّ القابلية لذلك ثابتة
بمجرد وقوعها في طريق الإيصال ، فلا نطيل.
الخامسة : دعوى
ظهور الثمرة في حصول الفسق بترك الواجب الّذي له مقدمات عديدة إذا لم يكن الواجب
الأصلي من الكبائر ، فانه على القول بوجوب مقدمة الواجب شرعا يحصل به الإصرار على
الصغيرة فيثبت الفسق ، وهذا بخلاف ما إذا لم نقل بوجوب المقدمة فانه لا يحصل به
الإصرار على الصغيرة كما هو واضح.
وقد أورد عليه في
الكفاية بعدم تحقق الإصرار حتى على القول بوجوب المقدمة ، وذلك لأنه سقط وجوب ذي
المقدمة بترك أول مقدمة من مقدماته لامتناعه عليه بذلك ، فيسقط وجوب بقيّة
المقدمات أيضا ، فلا يتحقق في الخارج إلّا ترك واجب واحد ، فلا يتحقق الفسق بترك
المقدمات ولو قلنا بوجوبها.
ونقول : ما أفاده
يتم على تقدير دون تقدير ، فانه لو قلنا بأنّ المراد من الإصرار هو العصيان دفعات
ومرات ، فيتم ما أفاده ، إذ لا يبقى مجال للعصيان مرة
ثانية أو ثالثة
بعد سقوط وجوب ذي المقدمة ، وان قلنا بأنّ معناه تكرار المعصية ولو دفعة واحدة ،
فلا يتم ما ذكره ، لأنه بترك المقدمة الأولى يتحقق عصيان جميع المقدمات وذيها على
القول بوجوبها ، وهنا يترتب عليه العقاب ، لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار عقابا.
والصحيح في الجواب
انّ العصيان انما يكون بمخالفة التكليف النفسيّ الناشئ عن غرض ملزم في متعلقه
وتفويته ، وامّا الوجوب الغيري فليس له عصيان لعدم ثبوت الغرض الملزم فيه فلا
تفويت.
والشاهد على ذلك
انه لا فرق في المعصية بين ما إذا أتى المكلف ببعض مقدمات الواجب ولم يأت بالواجب
وما إذا لم يأت بشيء منها أصلا.
السادسة : ظهور
الثمرة في جواز أخذ الأجرة على المقدمة وعدمه. وقد ذكر النائيني قدسسره ما حاصله : انه تارة : يكون الواجب هو إيجاد العمل أي المعنى
المصدري دون المعنى الاسم المصدري ، وأخرى : ينعكس الأمر.
وعلى الأول يبقى
العمل على ماليته كما في وجوب إعطاء الطعام عند المخمصة والمجاعة ، فانّ الواجب
حينئذ على المحتكر ليس إلّا الإعطاء بالمعنى المصدري واما نفس المال فهو باق على
ماليته ولذا يجوز أخذ البدل عليه. وهكذا في باب الإجارات عند وجوبها.
وعلى الثاني فان
كان وجوبه عينيا فالظاهر سقوط العمل عن المالية ، لكونه مملوكا له تعالى بإيجابه
ذلك ، وان كان كفائيا فان لم يكن قابلا للنيابة فكذلك ، وان كان قابلا لها كما في
الجهاد ، فانه يمكن ان يستنيب أحد غيره للجهاد إذا كان مريدا للحج ، فلا مانع من
أخذ الأجرة عليه ، والمقدمات تابعة لذيها في ذلك.
__________________
هذا ونقول في
كلامه قدسسره مواقع للنظر :
أولا : انه لا فرق
بين المصدر واسم المصدر إلّا بالاعتبار وان كان لفظهما مختلفا غالبا في اللغة
الفارسية ، فانه إن لوحظت الماهية بما هي يقال له اسم المصدر ، وان لوحظت مسندة
إلى فاعل ما يطلق عليها المصدر ، واما مصداقهما في الخارج فليس إلّا امر واحد ،
فلا معنى للتقسيم المزبور أصلا.
وثانيا : انه ما
المراد من كون الواجب العيني ملكا له تعالى؟! ان أريد منه الملكية الاعتبارية فأيّ
دليل على ذلك ، لأنّ الإيجاب لا يستلزمها ، وان أريد بها الملكية بمعنى الإحاطة
فهي لا تنافي جواز أخذ الأجرة أصلا لثبوتها في كل شيء.
وثالثا : أي دليل
دل على الملازمة بين حرمة أخذ الأجرة على واجب وحرمة أخذ الأجرة على مقدمته؟!
والتحقيق في
الجواب : انّ المانع من أخذ الأجرة على الواجب ان كان جهة عباديتها وكون ذلك
منافيا لقصد التقرب به ، فهو امر غير مختص بالواجبات ، بل يجري في المستحبات
العبادية ، وهو أجنبي عما نحن بصدده فعلا ، وسنبحث عنه في باب النهي عن العبادة إن
شاء الله.
وان كان المنع من
حيث منافاته مع الوجوب ، ففيه : انه ليس المطلوب في الواجبات إلّا إيجاد العمل في
الخارج ، واما كونه مجانيا فلا يستفاد من مجرد الإيجاب ، فإذا أتى المكلف بالواجب
يتحقق مطلوب المولى ولو أخذ الأجرة عليه ، نعم دل الدليل الخاصّ على عدم جوازه في
بعض الموارد كباب الصلاة. وبالجملة فمجرد الإيجاب لا يلازم المجانية ، وعليه فلا
مانع من هذه الجهة من أخذ الأجرة على الواجب النفسيّ ، فكيف بالواجب الغيري.
والحاصل : انّ منع
أخذ الأجرة على الواجب ، تارة : يكون من جهة العبادية ومنافاته لقصد القربة ، وهو
خارج عما نحن بصدده فعلا ، بل يجري في المقدمات
العبادية ، قلنا
بوجوبها أم لم نقل.
وأخرى : يكون من
جهة نفس الوجوب ، وهو غير مستلزم للمجانية ، فلا مانع من إيجاد الواجب خارجا وأخذ
الأجرة عليه ، كما انّ اعتبار القدرة على التسليم في الإجارة لا ينافي الوجوب ،
وذلك لأنّ المراد بالقدرة على التسليم إمكان صدور العمل عن الأجير اختيارا ، وهو
ثابت في الواجبات ، ولا ينافيه سلب قدرته عن الترك تشريعا.
واما عدم جواز أخذ
الأجرة على المحرمات فهو انما يكون من جهة انّ النهي يمنع عن شمول دليل «أوفوا»
وأمثاله لمورده ، فلا يكون نافذا.
مانعية العبادة عن
أخذ الأجرة :
ثم لا بأس بالتعرض
للجواب عن توهّم مانعيّة العبادية عن أخذ الأجرة بنحو الاختصار ، فنقول : في باب
الإجارة بنفس العقد يملك الأجير الثمن ، ويملك المستأجر العمل على ذمّة الأجير وان
لم يكن له حقّ المطالبة بالثمن ما لم يسلّم العمل ، وعليه فالإتيان بالعمل بعد
الإجارة ليس بداعي تملك الثمن ، لأنه حاصل فلو لم يكن عليه مراقب للإتيان بالعمل ،
فلا بدّ وان يكون إتيانه به لمجرد فراغ ذمته والوفاء بعقده لأن لا يبقى مشغول
الذمّة خوفا من العقاب وهو من الدواعي القربية ، ولو كان عليه رقيب فلا إشكال أيضا
في انّ إتيانه بالعمل صحيحا ليس إلّا بذاك الداعي القربي ، لتمكنه من الإخلال ببعض
ما يعتبر فيه بحيث لا يعلم به الرقيب. هذا في الإجارة.
واما في الجعالة
فربما يتوهم انّ الإتيان بالعمل انما هو بداعي ان يملك حق الجعالة ، إذ بدون
الإتيان بالعمل لا يملكه ، إلّا انه توهم فاسد ، وذلك لأنه يمكن
للإنسان ان يدّعي
انه أتى بالعمل ويأخذ الجعالة مع عدم الإتيان به واقعا فيما لم يكن هناك مراقب
عليه.
واما مع فرض
المراقب فيمكنه ان يأتي بصورة العمل العبادي فاسدا ، ويأخذ مال الجعالة ، لعدم كون
من يحفظ عليه عمله عالما بالغيب ، فبالأخرة لا يكون الداعي على الإتيان بالعمل
صحيحا إلّا حلية مال الجعالة له ، ومرجعه إلى الخوف من عقابه تعالى ، وهو داعي
قربي فكيف يخل بعباديته.
فتحصل انه لا مانع
من أخذ الأجرة على الواجبات عبادية كانت أو توصلية ، عينية كانت أو كفائية ، إلّا
فيما إذا دل دليل من إجماع ونحوه على اعتبار المجانية في العمل ، كما لا يبعد دعوى
ذلك في أخذ الأجرة على الأذان. فهذه الثمرة أيضا غير تامّة.
السابعة : الثمرة
الأخيرة للقول بوجوب المقدمة هي التي تظهر في المقدمة المحرمة وحاصلها : دخول
المقدمة المحرمة على القول بوجوبها تحت كبرى اجتماع الأمر والنهي ، فعلى القول
بالجواز تصح تلك المقدمة ، وهذا بخلاف القول بعدم جواز الاجتماع ، أو القول بعدم
وجوب مقدمة الواجب.
ولا يخفى انه لا
بد وان يفرض ذلك في المقدمة العبادية ، ضرورة انّ الوجوب التوصلي يسقط بالإتيان
بما يفي بغرض المولى ولو كان ذلك محرما ، من غير فرق بين القول بجواز اجتماع الأمر
والنهي وعدمه.
وقد أجيب عن هذه
الثمرة بوجوه :
منها : ما في
الكفاية ، وحاصله : انّ وجوب المقدمة على القول به انما يتعلق بذات المقدمة ،
وعنوان المقدمية انما هو جهة تعليلية لا تقييدية ، ومن الواضح مورد البحث في مسألة
اجتماع الأمر والنهي انما هو ما إذا تعلق كل من الأمر والنهي بعنوان وكان ذلك
العنوان جهة تقييدية ، فمحل الكلام خارج عن بحث اجتماع الأمر والنهي
بالكلية.
وقد أورد عليه
المحقق النائيني قدسسره بما حاصله ، انّ مورد الكلام انما هو ما إذا كان عنوان
مقدمة لواجب ، فلا محالة يكون الواجب حينئذ هو ذاك العنوان ، فإذا انطبق عليه
عنوان محرم يدخل في باب اجتماع الأمر والنهي ، وليس المراد من عنوان الواجب عنوان
المقدمية ليقال انه جهة تعليلية لا تقييدية.
وما أفاده متين
جدا ، فهذا الجواب عن الثمرة غير تام.
ومنها : ما ذكره
في الكفاية وارتضاه الميرزا قدسسره وحاصله : انه تارة : تكون المقدمة منحصرة في المحرم ،
وأخرى : لا تكون منحصرة ، فان كانت منحصرة فلا محالة تدخل في باب التزاحم ، فلا
بدّ اما من سقوط وجوب ذي المقدمة ، أو سقوط حرمة المقدمة ، فيبقى الأهم من
التكليفين ويسقط المهم منهما ، وإلّا يلزم التكليف بما لا يطاق ، إذ لا يتمكن
المكلف حينئذ من امتثالهما. وان لم تكن منحصرة فالوجوب لا يتعلق إلّا بالفرد
المباح من افراد المقدمة ، ولا يتصف الفرد المحرم بالوجوب أصلا. فعلى التقديرين
يكون المقام أجنبيا عن اجتماع الأمر والنهي.
وفيه : انه لا وجه
لتخصيص الوجوب المقدمي المستكشف بحكم العقل بخصوص الفرد المباح بعد كونه مساويا مع
الفرد المحرم من حيث وفائه بالغرض والملاك. ومجرد كون الفرد المحرم مقارنا ومنضما
إلى جهة محرمة لا يمنع عن اتصافه بالوجوب ، فيكون واجبا من جهة وان كان منضما إلى
قرين خبيث محرم ، كما في الواجبات النفسيّة. وهذا واضح على القول بجواز اجتماع
الأمر والنهي المبني على كون التركيب في مورد الاجتماع انضماميا لا اتحاديا كما هو
مبنى الامتناع.
ومنها : ما ذكره
المحقق النائيني من انّ هذه الثمرة انما تتم لو اعتبرنا في العبادة خصوص قصد الأمر
، واما لو اكتفينا في ذلك بمطلق إضافة العمل إلى المولى ، فلا مانع من الإتيان
بالفرد المحرم بداعي كونه وافيا بالملاك ، ويصح ذلك حتى بناء على
القول بامتناع
اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانبه ، وعليه فلا دخل لوجوب المقدمة في صحتها.
وفيه : أولا : انّ
الفرد المحرم على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي الملازم لكون التركيب اتحاديا
وتقديم جانب النهي مستلزم لمبغوضية ذات العمل ، ومن الواضح انه لا يحصل التقرب من
المولى بإيجاد مبغوضه ولو فرضنا اشتماله على الملاك.
وثانيا : قد ذكرنا
مرارا انه لا يمكن استكشاف الملاك بعد فرض سقوط الخطاب إلّا لمن هو عالم بالغيب.
فهذا الجواب أيضا
ساقط.
والصحيح ان يقال :
انّ المقدمة العبادية التي هي منحصرة في الطهارات الثلاث ان قلنا بأنها مستحبات
نفسية ، فالفرد المحرم فيها يكون داخلا في باب اجتماع الأمر والنهي ولو لم نقل
بوجوب المقدمة من جهة استحبابها النفسيّ ، إذ لا اختصاص لبحث اجتماع الأمر والنهي
بخصوص الأمر الإيجابي ، ولذا لا يفرق الحال في حكم الصلاة في الدار المغصوبة بين
كونها فريضة أو نافلة.
وامّا لو قلنا
بأنّ عباديتها انما تكون بقصد الإيصال ، فكذلك يمكن الإتيان بها صحيحة بقصد الملاك
، بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وكون التركيب انضماميا من غير حاجة
إلى إثبات وجوب المقدمة أصلا.
الثامنة : ومن
الثمرات التي ذكرت لوجوب المقدمة انه بناء على القول به لو امر أحد غيره بعمل له
مقدمات فأتى المأمور بجملة من المقدمات ولكن لم يأت بذيها ، اما اختياريا أو لعذر
، فعلى المشهور من انّ الأمر مستلزم للضمان لو قلنا بوجوب المقدمة يستحق العامل
أجرة مثل ما أتى به من المقدمات على الآمر وله ان يطالبه بذلك لكونه ضامنا له ،
وهذا بخلاف ما لو لم نقل بوجوب المقدمة فانّ ما أتى به
حينئذ يكون أجنبيا
عن الأمر ، فلا يضمن له شيء أصلا.
وفيه : أولا : انّ
هذا انما يتم لو قلنا بوجوب المقدمة مطلقا ، واما لو خصصناه بالمقدمة الموصلة فلا
تتم الثمرة ، وذلك لأنه حينئذ ان أتى بمجرد المقدمة ولم تكن موصلة فلم يأت
بالمأمور به ، وان كانت موصلة فلا تختلف عن ذيها فتستحق الأجرة على أصل العمل.
ومن الواضح انه
تختلف أجرة العمل من حيث الكثرة والقلّة باختلاف قلّة مقدماته وكثرتها ، مثلا أجرة
إيصال المكتوب إلى بلدنا أكثر من أجرة إيصاله إلى شخص في نفس البلد ، وعليه فلا
يترتب تعدد الأجرة ووحدتها على القول بوجوب المقدمة الموصلة وعدمه كما هو واضح.
وثانيا : انّ كون
الآمر بالعمل مستلزما للضمان لم يرد عليه دليل لفظي ، وانما مدركه سيرة العقلاء ،
فلا بدّ وان ننظر هل السيرة ثابتة على تحقق الضمان وثبوت أجرة المثل فيما إذا أتى
المأمور ببعض المقدمات ولم يأت بأصل العمل ، مثلا جاء الطبيب إلى الدار لمعالجة
المريض وعرض عليه مانع من التداوي بعد وصوله إلى الدار ، هل تثبت السيرة على
استحقاقه للأجرة في ذلك أم لا؟
فان كانت ثابتة
نقول بثبوت الأجرة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل ، ولو لم تكن ثابتة لا
نقول بها على التقديرين.
فالإنصاف ان هذه
الثمرة أيضا غير تامة فتلحق بغيرها.
فالصحيح انه لا ثمرة
للبحث عن أصل وجوب المقدمة.
نعم يترتب على
الأبحاث المتقدمة التي منها المقدمة الموصلة ثمرة فقهية على ما تقدم.
أدلّة وجوب المقدمة
ثم انا نتعرض لما
ذكر دليلا على وجوب المقدمة تبعا للاعلام. وقبل ذلك نذكر ما يقتضيه الأصل العملي
عند الشك في وجوبها فالبحث في مقامين :
المقام الأول : في مقتضى الأصل العملي. وهو تارة يجري في المسألة الأصولية وأخرى في المسألة
الفرعية اما الرجوع إلى الأصل العملي في المسألة الأصولية ، أعني بها الملازمة بين
وجوب شيء ووجوب مقدمته فغير ممكن فانها ان كانت ثابتة فهي ثابتة أزلا ، وان لم تكن
كذلك فليس فيها حالة سابقة متيقّنة شك في بقائها.
وامّا من حيث
المسألة الفرعية ، أعني وجوب المقدمة ، فقد ذكر في المنع عن الرجوع فيه إلى الأصل
العملي وجوه :
منها : ما في
الكفاية وحاصله : انّ وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهية ، فليس
امرا مجعولا بالجعل البسيط ولا بالجعل التأليفي.
ثم أجاب عن ذلك
بأنه وان لم يكن مجعولا ذاتا ، ولكنه مجعول تبعا لجعل وجوب ذي المقدمة ، ويكفي ذلك
في جواز الرجوع إلى الأصل العملي.
هذا ولكن الإشكال
والجواب كلاهما فاسد.
اما فساد الإشكال
، فلما بيّناه في أول المبحث من انّ وجوب المقدمة المبحوث عنه في المقام انما هو
وجوب مستقل مترشح من وجوب ذي المقدمة ، فهو وجوب مجعول مستقل غايته معلول لوجوب ذي
المقدمة نظير بقيّة العلل ومعلولاتها ،
__________________
فليس ذلك من قبيل
لوازم الماهية وهي الأمور الانتزاعية عن الماهية المعبر عنها باللوازم.
وبهذا ظهر الإشكال
في جوابه أيضا ، إذ لا مجال بعد ما ذكرنا للقول بأنه مجعول تبعا لجعل وجوب ذي
المقدمة.
ومنها : انّ
الرجوع إلى أدلة الأصول العملية انما هو في مقام الإثبات بعد الفراغ عن مقام
الثبوت وإمكان نفي التكليف وإثباته ، واما لو لم يكن أصل الإمكان محرزا بان احتمل
استحالة ذلك فلا معنى للرجوع إلى الدليل في مقام الثبوت ، وفيما نحن فيه يحتمل
استحالة عدم وجوب المقدمة في فرض وجوب ذيها.
وهذا الإشكال قد
ذكر نظيره في بحث حجّية الخبر عند التعرض لإشكال ابن قبة واستحالة التعبد بخبر
الواحد ، وقد ذكرنا هناك انّ بناء العقلاء والسيرة القطعية ثابتة على عدم رفع اليد
عن الظهور بمجرد احتمال الاستحالة ، بل يبنون على إمكان ذلك الشيء ما لم يثبت
امتناعه.
ففي المقام أيضا
لا بدّ من التمسك بإطلاق أدلة الأصول وشمولها لفرض احتمال الإمكان ، فلا يرفع اليد
عنه. فهذا الإشكال أيضا غير وارد.
وعمدة الإشكال في
التمسك بالأصل العملي في المقام هو انه لا بدّ في جريان الأصل العملي من أثر عملي
مترتب عليه ، ولا أثر كذلك في المقام بعد لا بدّية الإتيان بالمقدمة عند إرادة
الإتيان بذيها ، ومن هذه الجهة لا مجال لجريان الأصل العملي في نفي وجوب المقدّمة
أصلا.
المقام الثاني :
استدل على وجوب المقدمة بوجوه :
منها : الوجدان
وانّ الإنسان في إرادته التكوينية إذا أراد شيئا يريد مقدماته أيضا ، ويأتي بها لا
محالة ، فالوجدان شاهد على ذلك ، وهذه الملازمة ثابتة في الإرادات التشريعية أيضا
، إذ لا فرق بينهما إلّا في انّ الأولى متعلقة بفعل نفس
الإنسان والثانية
بفعل غيره.
وفيه : انّ
الملازمة ثابتة بين تعلق الشوق بذي المقدمة وتعلق الشوق بمقدماته ، إلّا انه خارج
عن محل الكلام ، إذ الشوق غير الوجوب ، فانه من الصفات الخارجة عن تحت الاختيار ،
بخلاف الوجوب فانه فعل اختياري للأمر ولذا يتمسك في نفيه عند الشك بالبراءة ، واما
ثبوت الملازمة بين الوجوبين فهي غير معلومة.
اما ان أريد به
الإبراز والإنشاء فواضح ، فانا نرى بالوجدان عدم استلزام إنشاء وجوب ذي المقدمة
لإنشاء وجوب مقدمته وعدم ترشحه منه.
واما ان أريد به
الاعتبار النفسانيّ فكذلك ، مضافا إلى انّ اعتبار الوجوب لشيء لا بدّ فيه من علّة
غائية وإلّا فيكون اعتباره لغوا ، وفي المقام لا يترتب أثر على اعتبار الوجوب
للمقدمة بعد كون الإتيان بها مما لا بدّ منه بحكم العقل.
ولا يقال : انّ
وجوب المقدمة وجوب قهري ، فلا يتوقف على ثبوت أثر فيه.
لأنا نقول : قد
عرفت فيما تقدم انّ الوجوب ليس بمعنى الشوق الّذي هو صفة نفسانية ربما تتحقق وربما
لا تتحقق ، وخارجة عن اختيار الإنسان ، وانما هو بمعنى الاعتبار المبرز الّذي هو
فعل اختياري للإنسان ، فلا يكون حصوله قهريا. وبالجملة قياس الإرادة التشريعية
بالإرادة التكوينية انما يتم لو أريد بها الشوق لا الحكم.
هذا بل يمكن ان
يفرق بين الشوقين أيضا بان يدّعى عدم الملازمة حتى بين الشوق بذي المقدمة وشوق
مقدمته في الإرادات التشريعية ، وانّ الإرادة التشريعية لا تقاس بالإرادة التكوينية
أصلا ، وذلك لأنّ في الإرادة التكوينية حيث انّ متعلق الشوق فعل نفس الإنسان ، ولا
يتحقق ذلك خارجا إلّا بإيجاد مقدماته ، فلا محالة تتعلق إرادة المشتاق بإيجاد
المقدمة أيضا ، وهذا بخلاف الإرادة التشريعية ، فانّ
المشتاق إليه فيها
انما هو فعل الغير الّذي هو مشتمل على المصلحة ، والمشتمل على المصلحة ليس إلّا
نفس الفعل دون مقدماته بحيث لو تمكن المكلف فرضا من إيجاده من دون الإتيان
بمقدماته ، وأوجده كذلك كان وافيا بغرض الآمر ، فليس للآمر غرض بالمقدمة ليأمر بها
أصلا.
فالإنصاف ان قياس
الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية في غير محله.
ومنها : ما ذكر في
الكفاية من انه قد تعلق الأمر الغيري بجملة من المقدمات وحيث يستحيل ثبوت الأمر من
دون ملاك فلا بدّ وان يكون مشتملا على الملاك ، وملاكه موجود في جميع المقدمات.
وفيه : انّ ذلك
انما يتم لو ثبت كون تلك الأوامر أوامر غيرية ، ولكنه أول الكلام ، فانّ أغلب تلك
الأوامر إرشادية إلى الجزئية أو الشرطية في العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ،
ولذا ربما يتعلق باجزاء الواجب مع استحالة اتصافها بالوجوب الغيري على ما هو محقق
في محله.
وجملة منها مما لا
تكون إرشادية تكون تأكيدا للأمر النفسيّ ، مثلا يقول المولى لعبده «اشتر اللحم»
فإذا تسامح في ذلك يقول له «قم والبس ثيابك واخرج من الدار» إلى غير ذلك ، وليس
ذلك إلّا تأكيدا للأمر النفسيّ المتعلق بشراء اللحم.
ومنها : ما ذكره
أبو الحسن وحاصله : انه لو لم تكن المقدمة واجبة لجاز تركها وحينئذ ان بقي الواجب
على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وان سقط عن وجوبه لخرج الواجب المطلق عن
كونه واجبا مطلقا.
وفيه : انه ما
المراد من قوله : «حينئذ» ان أراد به نفس الترك فمن الواضح انّ الترك الاختياري لا
ينافي القدرة ولا ينافي صحّة التكليف والعقاب على مخالفته ، وان أراد به نفس جواز
الترك فمن الواضح انّ مرادنا من جواز ترك المقدمة ليس إلّا عدم وجوبها ، وعدم
الوجوب الشرعي لا ينافي اللابدية العقلية ، ولا معنى لأن
يكون للجواز
الشرعي دخلا في القدرة على ذي المقدمة.
نعم الحكم بإباحة
المقدمة شرعا من جميع جهاتها والأمر بذيها مما لا يجتمعان كما هو واضح ، فتحصل انه
لا دليل على وجوب المقدمة أصلا.
ثم انّ في المقام
تفصيلات
الأول : التفصيل
بين السبب وغيره من المعد والشرط ، والقول بوجوب الأول دون الثاني ، بدعوى انّ
المسبب غير مقدور مع قطع النّظر عن إيجاد السبب.
وفيه : انه مقدور
بالواسطة ، ولا فرق بين السبب وغيره من المقدمات في توقف الواجب عليها.
الثاني : عكس هذا
التفصيل ، والقول بكون السبب واجبا بوجوب نفسي ، وغيره من المقدمات واجبة بوجوب
غيري ، بدعوى انّ المسبب غير مقدور للمكلف لأنه عند وجود السبب ضروري الوجود وعند
عدمه ممتنع الوجود ، فلا بدّ وان يكون الأمر به بعينه متعلقا بسببه ، وهذا بخلاف
بقية المقدمات.
وفيه : ما عرفت من
انّ المسبب أيضا في نفسه مقدور مع الواسطة ، وليس متعلق الوجوب المسبب بشرط تحقق
سببه أو بشرط عدم تحقق سببه ليكون واجبا ، أو ممتنعا.
الثالث : التفصيل
بين الشرط الشرعي وغيره.
وفيه : انّ
الشرطية منتزعة من تعلق الأمر بالمقيد ، كما انّ الجزئية منتزعة من تعلق الأمر
بالمركب ، فذات القيد لا فرق بينه وبين بقية المقدمات إلّا انها مقدمة زيدت بأخذ
الآمر التقيد به في متعلق امره.
فهذه التفصيلات لا
يرجع شيء منها إلى محصل ، فعلى القول بوجوب المقدمة تجب مطلقا من هذه الجهات ،
وعلى القول بعدمه لا تجب كذلك.
مقدمة الحرام :
ثم انه يجري جميع
ما بيّناه في مقدمة المستحب أيضا فلا نطيل.
فنتكلم في مقدمة
الحرام والمكروه. والبحث في مقدمة الحرام يقع في مقامين :
أحدهما : حرمتها
النفسيّة.
ثانيهما : في حرمتها
الغيرية.
ونحن ندرجهما في
مقام واحد ، ونقول : تارة تكون مقدمة الحرام متّحدة مع ذيها خارجا ، بمعنى ان
يكونان من قبيل العنوان والمعنون ، بان تكون المقدمة منشأ لانتزاع ذي المقدمة ،
كعنوان التعظيم المنتزع من القيام فانه امر منتزع من القيام مثلا ، وليس هناك
وجودان. ولا إشكال في خروج ذلك عن محل النزاع ، بل هو من قبيل النهي في العبادة ،
فانّ التكليف المتعلق بالأمر الانتزاعي بعينه متعلق بمنشئه ، فإذا حرم تعظيم
الكافر فنفس القيام يكون محرما نفسا ، فليس هناك في الحقيقة مقدمة وذي المقدمة.
وأخرى : يكون هناك
وجودان ، أحدهما مقدمة للآخر ، وفي هذا أيضا تارة تكون مقدمة الحرام من قبيل
العلّة التامّة بحيث لا يتوسط بينهما وبين تحقق ذي المقدمة اختيار فاعل مختار ، بل
يترتب ذو المقدمة على المقدمة قهرا ، نظير عنوان الذبح المترتب على فري الأوداج ،
ويلحق بذلك ما إذا علم المكلف بأنه إذا أتى بتلك المقدمة يقع في المحرم لا محالة
اما باختياره أو بإجبار الغير له ، وفي هذا وان كان اختيار الفاعل أو اختيار غيره
واسطة بين ثبوت المقدمة وترتب ذي المقدمة عليها ، إلّا انه حيث يعلم بترتبه عليها
لا محالة يجري فيه ما نقوله في العلّة التامّة وان كان خارجا عنها موضوعا.
وأخرى : لا يفرق
الإتيان بالمقدمة في اختياره على ترك ذي المقدمة وفعله
كما كان مختارا
قبل ذلك ، وهذا ينقسم إلى قسمين ، لأنه اما ان لا يقصد الفاعل بإتيانه بتلك
المقدمة الإيصال إلى الحرام ، وامّا يقصد به التوصل إليه ، وهذه جملة الأقسام المتصورة
في مقدمة الحرام.
اما القسم الأول :
فقد عرفت خروجه عن محل الكلام.
واما القسم الثاني
: أي ما كانت المقدمة من قبيل العلّة التامّة ، فحرمتها النفسيّة في قبال حرمة
المعلول مما لا وجه له أصلا ، لاستلزامه تعدد العقاب ولا يلتزم به ، فيدور الأمر
بين حرمتها الغيرية وكونها حراما نفسيا دون معلولها ، وقد ذهب المحقق النائيني قدسسره إلى الثاني على خلاف ما التزم به في مقدمة الواجب.
وفيه : ما لا يخفى
بعد ما عرفت انّ المعلول والمسبب مقدور مع الواسطة ولو بالقدرة على سببه ، فلا وجه
للقول بتعلق الأمر المتعلق بالمعلول بعلّته ، فينحصر المحتمل في حرمتها الغيرية ،
فيجري فيها ما تقدم في مقدمة الواجب ، فانه كما كان امتثال الواجب هناك متوقفا على
الإتيان بالمقدمة كذلك في المقام الانزجار عن الحرام وامتثال النهي متوقف على
الانزجار عن مقدمته وعدم الإتيان بها ، فيجري فيها ما ذكرناه هناك.
واما القسم الثالث
: وهو ما إذا كان اختيار المكلف باقيا بعد الإتيان بالمقدمة ، ففيما لا يقصد بها
المحرم فلا إشكال في ذلك أصلا ، كما لو اشترى أحد سكينا من دون ان يقصد به قتل
النّفس ، ومثل هذه المقدمة يوجدها كل أحد مرات في كل يوم وليلة.
واما إذا قصد بفعلها
المحرم ، كما لو اشترى العنب بقصد ان يعمله خمرا ، ففيما ورد النص على حرمته كما
في المثال حيث ورد عنهم عليهمالسلام «لعن الله بائعها
__________________
وغارسها» لا كلام
لنا فيه ، واما في غير موارد النص فاحتمال ثبوت الحرمة الترشحية فيها بعيد غايته
حتى لو قلنا بوجوب مقدمة الواجب ، وذلك لأنّ امتثال النهي والانزجار عن زجر المولى
عن الحرام النفسيّ غير متوقف على ترك تلك المقدمة ، بخلاف مقدمة الواجب فانّ
امتثاله متوقف على الإتيان بها لا محالة ، وهذا واضح.
واما ثبوت الحرمة
النفسيّة لها فمنشأ احتماله أحد امرين :
الأول : حرمتها من
باب نية السوء ، فانّ الشيخ قدسسره جمع بين الأخبار الواردة في انّ نية السوء لا تكتب
والواردة في انها تكتب بحمل الطائفة الثانية على النية التي اشتغل الفاعل ببعض
مقدمات الحرام كما في المفروض.
وفيه : انّ هذا
الجمع كما ذكرناه في محلّه خلاف ظاهر الأدلة ، وانّ الصحيح هو الجمع الثاني الّذي
ذكره الشيخ قدسسره أيضا وحاصله : حمل أدلّة العفو على ما إذا ارتدع المكلف
بنفسه عن نيته وحمل الطائفة الثانية على ما إذا أردعه مانع خارجي ، ويشهد لهذا
الجمع ما ورد في رجلين اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فقال عليهالسلام «كلاهما في النار
فقال السائل : ما بال المقتول قال عليهالسلام : لأنه أراد قتل صاحبه فلم يقدر» .
وبالجملة فمن هذا
الحيث لا يثبت حرمتها النفسيّة.
الثاني : حرمتها
من حيث الإعانة على الإثم ، وهي محرمة في إعانة الغير ، وبعين ذاك الملاك نقول
بحرمتها في الإعانة على النّفس.
وفيه : أولا : انّ
فيما نحن فيه ليس إلّا إعانة على تخيل الإثم لا على الإثم الواقعي.
وثانيا : انّ
الإعانة على الإثم لا دليل على حرمتها ، وانما المحرم هو التعاون
__________________
على الإثم على ما
يستفاد من الآية الشريفة ، والمراد من التعاون ان يقيم جماعة معصية واحدة بحيث لا
يقدر على إيجادها واحد منهم ، كما لو اشتركوا في قتل مؤمن مثلا.
وثالثا : انه لو
سلّمنا حرمة الإعانة على الإثم ، فانما هي في إعانة الغير على الإثم لا في إعانة
الإنسان نفسه على المعصية ، والظاهر انه لا يمكن الالتزام بحرمة إعانة النّفس على
الإثم ، وإلّا فلا بدّ من تحقق معاصي عديدة وعقابات متعددة عند الإتيان بحرام واحد
، فالحرمة النفسيّة غير ثابتة في مفروض المقام كما لم تثبت الحرمة الغيرية.
هذا كلّه في
مقدّمة الحرام.
المقام العاشر
الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضد أم لا؟
وليعلم انه ليس
المراد من الضد في المقام معناه الاصطلاحي ، بل المراد منه معناه اللغوي ، وهو
مطلق المنافي الجامع بين الضد الخاصّ والضد العام ، فللبحث مقامان :
المقام الأول : في الضد العام ، وفيه أقوال : قول بعدم الاقتضاء ، وقول : بالاقتضاء بنحو
العينية ، أو الجزئية أو الملازمة ، وقول : بالتفصيل.
ونقول : تارة يراد
من النهي معناه المعروف أعني طلب الترك ، وأخرى يراد به الزجر ، وعلى الأول
فالمعنى انّ الأمر يقتضي طلب ترك تركه ، وقد عرفت مرارا انّ المتحقق في دار التحقق
ونفس الأمر حقيقة في مقابل فرض الفارض ليس إلّا أمران : الوجود ، ونقيضه وهو العدم
، فيصح ان يقال انّ الوجود متحقق حقيقة أو العدم متحقق كذلك ، وامّا بقية العناوين
مثل عدم العدم أو عدم عدم العدم فكلها أمور انتزاعية من الوجود والعدم ، ولا بأس
في انتزاع العدم من الوجود ، فانّ الانتزاع ليس بمعنى الانطباق كما هو واضح.
وعليه ففي الحقيقة
ترك الترك في الخارج ليس إلّا الوجود ، فيكون معنى عنوان البحث انّ الأمر بالشيء
يقتضي الأمر بنفسه ، وهذا ينطبق مع العينية إلّا انه ليس قابلا للبحث والنزاع ،
وهل يعقل ان يقال انّ القيام يقتضي القيام أم لا؟
وعلى الثاني فتوهم
العينية واضح الفساد ، لأنّ البعث والزجر امران متقابلان ، كما انّ الشوق والكراهة
صفتان متقابلتان يستحيل عينيتهما كما يستحيل ان يكون أحدهما جزء للآخر.
نعم لتوهم
الاقتضاء بمعنى اللزوم وجه ، ولكن اللزوم البين بالمعنى الأخص واضح الفساد لعين ما
ذكره الميرزا (قده) في دفع توهم العينية من انّ الآمر كثيرا ما لا يكون ملتفتا إلى
ضد ما امر به ، فكيف يكون اللزوم بينا بحيث يستلزم تصور الأمر بالشيء تصور النهي
عن ضده.
واما اللزوم البين
بالمعنى الأعم أعني الجزم باللزوم بعد تصور اللازم والملزوم والملازمة ، فهو في
نفسه قابلا لأن يدعى ، إلّا انه أيضا غير صحيح ، لأنّ الأحكام على المسلك الصحيح
ليست جزافية وانما الأمر يكون ناشئا عن مصلحة في متعلقه. كما انّ النهي ناشئ عن
المفسدة ، ومن الواضح انّ ثبوت المصلحة في الفعل غير مستلزم للمفسدة في تركه وانما
الثابت فيه عدم النّفع ، وإلّا لتسلسل.
ويشهد لذلك ما
تراه وجدانا في إرادتنا التكوينية ، فانه ليس لنا شوق إلى الفعل وبعض من الترك كما
نرى بالوجدان انّ المخالف لأمر سيده لا يكون عاصيا له بعصيانين : عصيان لأمره ،
وعصيان لنهيه ، وهذا واضح.
والحاصل : انه لو
فسرنا النهي بطلب الترك فمعنى طلب ترك الضد العام أعني الترك ليس إلّا الأمر
بالفعل ، فهو يناسب العينية ، إلّا انّ البحث عنه مما لا معنى له.
واما دعوى الجزئية
، أو اللزوم فغير معقول ، لأنّ الشيء يستحيل ان يكون جزء لنفسه أو لازم ذاته.
واما لو فسرناه
بالزجر عن الترك فدعوى العينية والجزئية ممنوعة كما عرفت ، كما انّ دعوى اللزوم
البين بالمعنى الأخص كذلك ، واما اللزوم البين بالمعنى الأعم فيمكن دعواه في نفسه
، إلّا انه أيضا فاسد لما نرى بالوجدان انّ في إرادتنا
التكوينية ليس لنا
شوق بالفعل وكراهة متعلقة بالترك ، كما انه ليس لنا في إرادتنا التشريعية بعث وزجر
بحيث يكون هناك حكمان.
نعم مبغوضية الترك
، أو النهي عن الترك بالعرض وبنحو المسامحة والمجاز ثابتة ، وامّا المبغوضية
المستتبعة للنهي المولوي بحيث يترتب على المخالفة عصيانان وعقابان ، فبديهي
البطلان.
هذا كله في المقام
الأول.
المقام الثاني : في الضد الخاصّ أي
الأضداد الوجودية.
اما دعوى اقتضاء
الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ بنحو العينية ، أو الجزئية فواضحة الفساد ، إذ
لا معنى لكون الأمر بشيء عين النهي عن شيء آخر أجنبي عنه أو جزء له.
واما بنحو اللزوم
البين بالمعنى الأعم فيقرب على وجهين. وليعلم انّ المراد من النهي في المقام هو
طلب الترك الأول ان المتلازمين يستحيل اختلافهما في الحكم ، فإذا كان استقبال
القبلة واجبا يستحيل ان يكون استدبار الجدي مثلا حراما ، لأنه مستلزم للتكليف بما
لا يطاق ، ويستحيل ان يكون مباحا أو مستحبا مثلا لأنّ جعل ذلك له لغو محض ، فلا
بدّ وان يكون متحدا معه في الحكم ، فترك الضد الملازم لفعل الضد الواجب لا بدّ وان
يكون مطلوبا ، وهذا هو المراد من النهي عن الضد.
وفصل المحقق
النائيني في المقام بين الضدين اللذين ليس لهما ثالث وبين ما لهما
ثالث ، فذهب إلى اللزوم في الأول وألحقه بالضد العام لكون الملازمة ثابتة فيه
__________________
من الطرفين ،
بخلاف الثاني فانّ ترك الضد فيه غير مستلزم لثبوت الضد المأمور به لإمكان اجتماعه
مع الضد الآخر.
ونقول : اما
استحالة اختلاف المتلازمين في الحكم فهو ثابت واضح كما ذكر ، واما لزوم اتحادهما
فلا وجه له ، لإمكان ان لا يكون اللازم أو أحد المتلازمين محكوما بحكم شرعي أصلا ،
بل يكون محكوما باللابدية العقلية فقط ، بل ربما يقال : بأنّ جعل الحكم المماثل له
لغو محض لا يترتب عليه أثر ، فلا معنى لجعل الوجوب على استدبار الجدي بعد جعل وجوب
استقبال القبلة. ونظير هذا ما ذكرنا في استحالة جعل عدم شيء مانعا في الصلاة بعد
اعتبار شرطية ذلك الشيء فيها ، فانه من اللغو الظاهر.
ثم انه على تقدير
تسليم لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم لا يختص ذلك باللازم المساوي ، بل يجري في
اللازم الأعم أيضا كالحركة بالنسبة إلى القيام ، فلا وجه لتخصيص ذلك بالضدين
اللذين ليس لهما ثالث الملحقين بالنقيضين في الحكم من حيث استحالة ارتفاعهما
كالحركة والسكون بناء على انّ السكون أيضا أمر وجودي.
وذلك لأنّ الوجه
في لزوم اتحاد المتلازمين في الحكم أو عدم اختلافهما انما هو استلزام الملزوم
للازم وعدم إمكان تحققه بدون تحقق لازمه ، لا استلزام اللازم للملزوم ، فانّ ذلك
كالحجر في جنب الإنسان ، وعليه فلا يفرق الحال بين اللازم المساوي واللازم الأعم
كما في الضدين اللذين لهما ثالث.
ثم انّ إرجاع
الضدين اللذين لهما ثالث إلى الضدين اللذين ليس لهما ثالث بدعوى انّ التضاد حينئذ
انما يكون بين كل من الضدين والجامع بين بقية الأضداد كعنوان أحدهما ، ومن الواضح
انّ الجامع ليس إلّا امر واحد ، فدائما تكون المضادة بين امرين لا ثالث لهما.
توهم فاسد ، وذلك
: لأنه ان كان التضاد حقيقة بين الجامع كما في الجامع بين المراتب من حقيقة واحدة
كمضادة البياض للجامع بين مراتب السواد ، فهو امر معقول ، وامّا فيما كان التضاد
حقيقة بين واقع الجامع والأفراد الخارجية فلا معنى لأن يقال انّ طرف التضاد هو
الجامع الانتزاعي مثلا طرف التضاد في المثال انما هو ذات السواد وواقع الخضرة
وهكذا ، واما عنوان أحدهما فليس ضدا للبياض أصلا ، فإرجاع الضد في مثل ذلك إلى
الجامع مما لا معنى له.
بقي الكلام في
امرين أحدهما : في المتماثلين. ثانيهما : في العدم والملكة. إذ عرفت ان المراد
بالضد في عنوان البحث هو العام أعني مطلق المنافي ، فيعم الأمرين.
اما المثلان
فيلحقان بالضدين ، بل يطلق عليهما الضدان في كلمات الفقهاء كالحركة إلى كربلاء إذا
امر بها والحركة إلى البصرة مثلا.
واما العدم
والملكة فيلحقان بالضد العام ، لأنهما حقيقة من المتناقضين أي الوجود والعدم غايته
قيّدا بالمورد القابل ومن هنا أمكن ارتفاعهما ، ففي المورد القابل هما بمعنى
الوجود والعدم وهما نقيضان ، فيلحقهما حكمهما المتقدم.
هذا كله في اقتضاء
الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاصّ من جهة الملازمة.
واما اقتضاؤه له
من غير جهة الملازمة فيختص بالمقدمية وكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الواجب ، فيجب
الترك بوجوب مقدمي ، وهذا معنى النهي عن الضد ، ولا بدّ في ذلك من إثبات امرين :
أحدهما : كون الضد
مانعا عن الضد الآخر بحيث يكون تركه متقدما على وجود الضد بالرتبة.
والثاني : كون عدم
المانع من المقدمات كالشرط والمقتضى.
اما الكبرى فمسلمة
، ولكن الصغرى ممنوعة كما ستعرفها إن شاء الله والأقوال في ذلك خمسة :
الأول : عدم كون
ترك الضد مقدمة لفعل ضده وبالعكس ، وهذا هو المختار.
الثاني : توقف فعل
الضد على ترك ضده وتوقف الترك على فعله ، أي ثبوت التوقف من الطرفين ، وكأنّ
القائل به غفل عن استلزامه الدور. ويظهر هذا القول من العضدي والحاجبي ، فانهما في
هذا المبحث سلّما كون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر ، وانما أنكرا وجوب المقدمة
، وفي شبهة الكعبي من إنكاره المباح بدعوى انّ ترك الحرام واجب ، وهو متوقف على
فعل أحد أضداده ، فيجب ذلك سلّما التوقف وأنكرا وجوب مقدمة الواجب ، فيظهر منهما
الالتزام بثبوت التوقف من الطرفين.
الثالث : ما نسب
إلى بعض ولم يعرف قائله : توقف عدم الضد على وجود الضد الآخر بلا عكس.
الرابع والخامس :
عكس ذلك أعني الالتزام بتوقف وجود الضد على عدم الضد الآخر ، اما مطلقا ، واما في
خصوص الضد الموجود.
هذه ملخص الأقوال
في المقام. فأولا : نتكلم فيما ذكر لإبطال المقدمية ، وهو وجوه:
منها : ما في
الكفاية من انّ فعل الضد وترك الضد الآخر بينهما كمال الملاءمة ،
فكيف يمكن ان يكون وجوده مانعا عنه؟!
وفيه : انه ما
المراد بالملاءمة؟ فان أريد بها الملاءمة من حيث الوجود الخارجي بمعنى تحققهما في
الخارج ، ففيه : انّ الملاءمة بهذا المعنى غير مانع عن المقدمية ، بل هي ثابتة في
اجزاء العلّة ومعلولها ، ولو لا ذلك لما تحققت العلية والمعلولية.
وان أريد بها
الملائكة في الرتبة واتحادهما كذلك ، ففيه : انه أول الكلام ، فانّ من يرى مقدمية
ترك الضد لوجود ضده يرى اختلافهما في الرتبة.
__________________
ومنها : ما في
الكفاية أيضا من الاستدلال بقياس المساواة الّذي هو من البديهيات ومن الأصول
الموضوعية في علم الهندسة ، وتقريبه بمقدمتين.
إحداهما : انّ
وجود الضد مساو في الرتبة مع وجود الضد الآخر ، وذلك لأنّ المضادة ترجع إلى
المناقضة ، ومن الواضح انّ النقيضين في مرتبة واحدة لاعتبار الوحدة من حيث الرتبة
في التناقض ، فانه يصح ان يقال انّ المعلول في مرتبة علته معدوم.
ثانيهما : انّ
وجود الضد مساو في الرتبة مع عدمه لأنهما نقيضان ، وقد عرفت الوجه في اتحادهما من
حيث المرتبة فيثبت بقياس المساواة انّ الضد مساو في الرتبة مع عدم ضده ، فيستحيل
مقدميته وتقدمه عليه رتبة.
وفيه : انّ قياس
المساواة انما يجري في التقدم والتأخر الزماني وفي الزيادة والنقصان في الأجسام
وغيرها ، فيقال زيد ولد مع عمر في زمان واحد وعمر مساو في الزمان مع بكر فزيد مساو
مع بكر ، أو يقال زيد متأخر عن عمرو زمانا ، وعمر متأخر عن بكر زمانا فزيد متأخر
عن بكر زمانا ، وهكذا في التقدم أو الزيادة والنقصان أو التساوي من حيث المقدار.
واما في الرتبة
فلا يجري قياس المساواة أصلا ، فانّ التساوي أو السبق واللحوق في المرتبة لا يكون
بلا ملاك ، فانّ ملاك التساوي من حيث الرتبة امر عدمي ، وهو عدم تحقق ملاك التقدم
والتأخر ، وملاك التقدم الرتبي هو كون تحقق المتأخر مترشحا من وجود المتقدم ،
وملاك التأخر عكس ذلك ، ففي كل مورد ثبت الملاك يثبت التقدم ، وفي كل مورد لم يثبت
الملاك لم يثبت التقدم والتأخر أيضا ولو كان مساويا في الرتبة مع ما ثبت فيه
الملاك.
وأوضح مثال لذلك
العلّة والمعلول ، فانّ العلّة متقدمة على معلولها في الرتبة ، ومن الواضح انّ عدم
العلة مساو مع وجودها في الرتبة.
ولا يمكن ان يقال
: انّ عدم العلّة سابقة على وجود المعلول وفي السبق بالتجوهر الثابت في اجزاء
الماهية بالنسبة إليها ، كالحيوان والناطق بالقياس إلى الإنسان ، فانّ عدم الحيوان
وعدم الناطق لا يكونان سابقين على الإنسان بالتجوهر ، وفي السبق بالطبع كما في
اجزاء المركب الاعتباري كتقدم الواحد على الاثنين.
وجامعه استحالة
تحقق المتأخر بدون تحقق السابق بلا عكس ، فانّ الاثنين يستحيل تحققه بدون تحقق
الواحد فانه متحقق في ضمنه ولكن يمكن تحقق الواحد بدون تحقق الاثنين ، فوجود
الواحد متقدم بالطبع على وجود الاثنين ، ولكن ليس عدم الواحد سابق على وجود
الاثنين بالطبع مع مساواته مع وجود الواحد طبعا.
وعليه فكون وجود
الضد مساويا في الرتبة مع وجود الضد الآخر لعدم تحقق ملاك السبق واللحوق بينهما
وقياس المساواة غير جار فيه كما عرفت.
ومنها : ما ذكره
النائيني قدسسره ويظهر من الكفاية وحاصله : انّ في كون أحد الضدين مانعا عن
الآخر المستلزم لكون ترك كل منهما مقدمة لفعل الآخر ان كان تعاند الضدين وتنافرهما
، فهو متحقق في النقيضين بطريق أولى ، فانّ استحالة اجتماع الضدين انما هي من جهة
رجوعه إلى اجتماع النقيضين ، فلازم ذلك ان يكون عدم كل من النقيضين مقدمة لتحقق
الآخر ، ولا يلتزم به.
وفيه : انّ مانعية
أحد الضدين عن الآخر انما هي مبتنية على مقدمتين : إحداهما : تعاندهما ، والأخرى :
تغاير عدم كل منهما مع وجود الآخر فانه يعتبر ذلك في المقدمة وذيها ، ومن ثم قلنا
باستحالة اتصاف الاجزاء بالوجوب المقدمي ، وهذا المعنى مفقود في النقيضين ، فانه
عدم كل منهما عين الآخر ، فانّ عدم العدم هو عين الوجود كما انّ عدم الوجود عين
العدم على ما مر عليك بيانه ، فيستحيل ان يكون أحدهما مقدمة للآخر.
ومنها : ما ذكره
الميرزا النائيني قدسسره ويوجد في كلمات غيره أيضا بنحو الإجمال وحاصله : انّ اجزاء
العلّة وان كانت مشتركة في ثبوت المعلول وترتبه عليها إلّا انها مختلفة في أنفسها
، فالمقتضي المعبر عنه بالسبب هو الّذي يسند إليه الأثر ، كالنار بالنسبة إلى
الإحراق ، فانه مستند إليه وهو بنفسه غير كاف في التأثير ، بل لا بدّ وان يكون
المحل قابلا للاحتراق وإلّا فالتراب لا يحترق بالنار ، كما انه لا بد ان تتحقق
المحاذاة بينهما ويعبّر عنهما بالشرط ، وجامعهما ان يكون دخيلا في فعليّة الأثر
وان لم يكن الأثر مستندا إليه وبعد ذلك تصل النوبة إلى عدم المانع ، أي المزاحم
للمقتضي في تأثيره كالرطوبة الموجودة في المحل ، وهذه الأمور طولية في اسناد عدم
المعلول إلى عدمها.
فإذا فرضنا انّ
المقتضي لتحقق شيء لم يكن موجودا لم يصح اسناد عدمه إلى عدم تحقق شرطه ، أو إلى
وجود المانع ، بل لا بد وان يكون مستندا إلى عدم مقتضية ، مثلا لو لم تكن النار
موجودة لا يقال انّ هذا الجسم لم يحترق لوجود المانع فيه وهو الرطوبة ، فانه لو لم
يكن المانع موجودا لم يكن محترقا أيضا لعدم وجود مقتضي للإحراق ، وكذلك لا يصح
استناده إلى عدم تحقق الشرط ، فانّ الشرط لو كان متحققا أيضا لم يتحقق الاحتراق ،
وهذا واضح.
نعم بعد وجود
المقتضي إذا لم يتحقق المعلول يستند ذلك إلى عدم تحقق الشرط ، وفي هذا الفرض لا
يمكن الاستناد إلى وجود المانع ، وانما يصح ذلك في ما إذا ثبت المقتضي وتحقق الشرط
ولم يوجد المعلول لا محالة يكون ذلك من جهة وجود المانع.
ومن ذلك ذكروا
استحالة جعل أحد الضدين شرطا والضد الآخر مانعا في
__________________
الصلاة ، فانه
يستحيل ان يسند عدمها إلى وجود المانع مع فرض عدم تحقق الشرط ، فدائما يكون فساد
الصلاة عند الإخلال بذلك مستندا إلى عدم الشرط ، فكيف يمكن ان يكون الضد الآخر
مانعا ، ومن ثم لا بدّ من رفع اليد عن رواية أبي بكير الواردة في الصلاة فيما لا
يؤكل لحمه ، الظاهر صدرها في شرطية وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل ، وذيلها في
مانعية وقوعها في غير المأكول ، وتمام الكلام فيه موكول إلى محلّه.
وبالجملة طبق
المحقق النائيني ما تقدم على المقام ، فذكر انه لو لم يكن المقتضي لوجود الضد
موجودا فلا محالة يكون عدمه مستندا إلى عدم المقتضي ، ويستحيل في ذاك الفرض كون
وجود الضد الآخر مانعا عنه ، كما لو فرضنا انه لم يرد السفر إلى البصرة وأراد
السفر إلى كربلاء ، فلا معنى لأن يقال كانت الحركة إلى كربلاء مانعة عن السفر إلى
البصرة.
وان كان المقتضي
لوجود الضد موجودا وهكذا شرطه فإسناد عدمه حينئذ إلى وجود الضد وان كان صحيحا فيتم
المانعية إلّا انه حينئذ مستحيل ثبوت المقتضي لاجتماعهما ، وهو محال واضح بمنزلة
ثبوت المقتضي لاجتماع المتناقضين المحال ذاتا ، فانّ الممتنع بالذات لا يستند عدمه
إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط أو إلى وجود المانع ، وانما يجري ذلك في الممتنع
بالغير أي الممكن ذاتا فانّ امتناعه بالغير أي عدمه يستند إلى عدم تحقق مقتضية أو
شرطه أو وجود المانع عنه ، كما يستند وجوبه بالغير إلى وجود علّته.
وحاصل ما أفاد :
انّ مرتبة المقتضي سابقة على مرتبة الشرط تقدم القوة على الفعلية ، فانّ المقتضي
كأنّه قوة والشرط فعليتها ، فهو متأخر عنه تأخر الفعلية عن القوة ، واما عدم
المانع فهو غير مؤثر في تحقق المعلول ، إذ العدم غير قابل لذلك ، فدخله في العلّة
انما هو من جهة انّ وجود المانع يزاحم المقتضي في تأثيره. فعدمه
أيضا متأخر رتبة
عن المقتضي والشرط ، وعليه فإذا وجد أحد الضدين أو ثبت المقتضي لوجوده فان لم يكن
مقتضي للضد الآخر ، فعدمه مستند إلى عدم المقتضي دون وجود المانع ، إذ لو كان الضد
موجودا أيضا لم يوجد هذا العدم المقتضي له أصلا. وإلّا فان ثبت له مقتضي فيستحيل
ثبوت المقتضي للضد الآخر ، وذلك لأنه مستلزم لثبوت المقتضي لاجتماع الضدين وهو
محال ، فانّ عدم الممتنع ذاتا لا بدّ وان يستند إلى استحالته الذاتيّة لا إلى وجود
المانع ، ومن الواضح انه لو فرضنا ثبوت المقتضي لاجتماع الضدين فعدمه لا محالة
يكون مستندا إلى وجود المانع.
هذا ونقول : ما
أفاده انما يتم فيما إذا كان المقتضي مقتضيا لتحقق كل من الضدين مع فرض تحقق الآخر
، وليس المدعى ذلك.
وامّا تحقق
المقتضي لوجود كل منهما في نفسه فلا مانع منه ، لأنه ليس وجود كل منهما كذلك امرا
مستحيلا ، بل هو ممكن فلا مانع من ان يستند عدمه إلى وجود المانع ، وذلك كما لو
فرضنا انّ أحدا يجر شيئا إلى طرف اليمين وشخصا آخر يجره إلى طرف الشمال فانّ كلا
من الجرين يكون مقتضيا لأحد الضدين والآخر يمنع عن تأثيره ، ولو لا ذلك لانسد باب
التمانع رأسا.
وبالجملة لا مانع
من ان يفرض وجود المقتضي مع شرطه لكل من الضدين غاية الأمر يحصل التمانع بينهما
فيستحيل تحققهما ، وهذا واضح ، ولا يبعد إرجاع ما في الكفاية في أواخر المبحث إلى
ما ذكره الميرزا قدسسره ، وقد عرفت الجواب عنه.
ومن الوجوه
المذكورة لإبطال المقدمية ما ذكره المحقق النائيني قدسسره
وهو
__________________
الصحيح الّذي نبني
عليه وحاصله : انه لو فرضنا تحقق المقتضي لكل من الضدين ، فان كانا متساويين في
القوّة والضعف فلا يتحقق شيء منهما ، وان كان أحدهما أقوى ، فيوجد مقتضاه دون ما
يقتضيه الضعيف. ومن الواضح انّ عدم تحقق ما يقتضيه الضعيف في الفرض الثاني انما
يستند إلى نفس ثبوت المقتضي القوي وهو المانع عن تأثيره دون ثبوت مقتضى القوي ، بل
لو فرضنا عدم تحققه أيضا لما كان يؤثر الضعيف ، ولما وجد مقتضاه لمزاحمته بالمقتضي
القوي كما عرفت في فرض التساوي وعدم وجود كل منهما في الخارج ، وعليه فالتمانع
انما هو بين السببين والمقتضيين دون المسببين والمعلولين وذلك واضح.
فتحصل عدم التمانع
بين نفس الضدين ، فيندفع توهم مقدمية ترك الضد لفعل الآخر بهذا الوجه ، ولا وجه
لإطالة الكلام في التعرض لبقية الوجوه.
ويؤيد ما ذكرناه
انه لو ثبت التمانع بين ضدين وتوقف وجود كل منهما على عدم الآخر لتوقف عدم الآخر
أيضا على وجود الضد ولو في الجملة لفرض التمانع ، فانّ دخل عدم المانع في العلة
انما من جهة كون المانع مزاحما في تأثير المقتضي ، فعدم الضد ربما يستند إلى وجود
الضد الآخر ، وإنكار ذلك يرجع إلى إنكار التمانع رأسا.
ثم انّ المحقق
الخوانساري فصل بين الضد الموجود وغيره ، وذهب إلى ثبوت توقف الضد على عدم الضد
الآخر في الأول دون الثاني ، أي فصلّ بين الرفع والدفع.
وقد مال إليه
الشيخ على ما في التقريرات بدعوى انّ قابلية المحل شرط في عروض الضد ، فلو كان
الضد الآخر موجودا لا يمكن وجود الضد إلّا بعد رفع الضد الأول ليكون المحل قابلا ،
وهذا بخلاف ما إذا لم يكن الضد الآخر موجودا أصلا.
وفيه : انه لو
قلنا بأنّ العلّة المحدثة كافية في بقاء المعلول أيضا لأمكن توجيه ذلك بان يقال
انّ الضد الموجود غير محتاج في بقائه إلى مقتضي ليزاحمه مقتضي الضد
الثاني ، بل الضد
الموجود يزاحم مقتضي الضد الآخر في تأثيره ، فيكون مانعا عنه ، وعدم المانع من
اجزاء العلّة.
ولكن لو لم نقل
بذلك وقلنا انّ الممكن كما هو محتاج إلى المؤثر في حدوثه محتاج إليه في بقائه أيضا
، فلا فرق بين الضد الموجود وغيره ، فانّ الضد الموجود أيضا في الآن الثاني محتاج
إلى المقتضي ، والمفروض ثبوت المقتضي للضد الآخر أيضا في ذاك الآن ، فان كانا
متساويين لا يوجد شيء منهما ، وان كان أحدهما أقوى يتقدم على التفصيل المتقدم.
هذا ولو سلمنا كون
العلّة المحدثة كافية في بقاء المعلول أيضا إلّا انه انما يتم في الأمور التكوينية
، ولا يتم في الأفعال الاختيارية التي هي المهم في محل البحث ، فانّ من البديهي
انّ الفعل الاختياري بقاء أيضا متقوم بالاختيار ومحتاج إليه ثبوتا ، فهذا التفصيل
لا وجه له.
واما شبهة الكعبي
ففيها ان الملازمة بين ترك الضد ووجود أحد الأضداد وان كانت ثابتة إلّا انّ
المقدمية ممنوعة.
نعم عرفت انه لو
علم المكلف بأنه لو لم يشتغل بالعمل المباح الكذائي يقع في المحرم لا محالة يلزمه
العقل به تحفظا على ان لا يقع في الضرر والمفسدة ، وامّا الحكم الشرعي أو اللابدية
العقلية التي التزمناها في مقدمة الواجب فلا.
هذا كله في اقتضاء
الأمر بالشيء للنهي عن الضد.
ثمرة البحث :
بقي الكلام في
ثمرة البحث ، وذكر لها امران :
الأول : ما إذا
تزاحم واجبان مضيقان وكان أحدهما أهم ، كما إذا وقع
التزاحم بين صلاة
العصر وصلاة الكسوف وكانتا مضيقين ، فانه لا إشكال في أهميّة صاحبة الوقت أعني
صلاة العصر ، وحينئذ فان قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده تكون صلاة
الكسوف منهيا عنها ، والنهي في العبادة يوجب الفساد ، فلا تصح إذا أتى بها ، وهذا
بخلاف ما إذا لم نقل بذلك ، فانها تصح حينئذ.
هذا وقد أورد عليه
شيخنا البهائي قدسسره بأنها لا تصح على التقديرين ، ولو لم نقل بكون الأمر
بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، وذلك لأنها ولو لم يكن منهيا عنها إلّا انها غير
مأمور بها ، لاستحالة الأمر بالضدين ، وإذا لم تكن مأمورا بها لا تصح لذلك.
ونقول : ما ذكره قدسسره يتم لو لم نكتف في العبادة بالملاك أو لم نحرز وجوده فيها
ولم نقل بالترتب ، والظاهر انّ بحث الترتب حادث ، وأول من تنبه عليه كاشف الغطاء قدسسره وان أنكره إلّا انه تنبه عليه.
فما أفاده من عدم
تمامية الثمرة صحيح ، لكنه يحتاج إلى تتميم بان يقال : لو اكتفينا بالملاك في صحّة
العبادة وعباديتها ، وأثبتنا وجوده في الفرض فتصح صلاة الكسوف في المثال ، سواء
قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أم لم نقل ، اما على الثاني فواضح ،
واما على الأول فلأنّ النهي الغيري لا يكشف عن مبغوضية متعلقه ، فليس دالا على
فساد العبادة. نعم يكون مانعا عن تعلق الأمر به والمفروض هو الاجتزاء بالملاك ،
فلا حاجة إلى الأمر ، واما لو اعتبرنا فيها قصد الأمر فلا تصح تلك الصلاة على
التقديرين ، إذ يستحيل تعلق الأمر بها بعد الأمر بضدها ، سواء كان مقتضيا للنهي عن
ضده أم لم يكن ، فهذه الثمرة غير تامّة.
الثاني : ما حكى
عن المحقق من انه إذا تزاحم واجب مضيق مع واجب موسع كصلاة الكسوف مع صلاة الظهر في
أول وقتها ، فانه بناء على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده تكون صلاة الظهر
في أول الوقت منهيا عنها ، فيقيد به
إطلاق دليل وجوبها
الشامل لما بين المبدأ والمنتهى بغير هذا الفرد ، فيتضيق وقتها بهذا المقدار لا
محالة ، فإذا أتى بها المكلف في ذلك الوقت لا تكون مصداقا للواجب فلا تجرّي ، وهذا
بخلاف ما إذا لم نقل بالاقتضاء ، فانّ الأمر فيما كان المطلوب منه صرف الوجود لا
يكون متعلقا بالفرد الّذي يأتي به المكلف خارجا بحيث لو فرض بالفرض الحال انه أتى
بغيره لم يكن آتيا بالمأمور به ، بل هو متعلق بنفس الطبيعة الملغى عنها جميع
الخصوصيات. فالفرد من حيث انه ، فرد لا يكون مأمورا به وعليه فما هو متعلق للأمر
وهو الطبيعة غير مزاحم بشيء ، وما هو مورد التزاحم وهو الفرد لا يكون مأمورا به ،
فيبقى الأمر بالطبيعي باقيا على حاله ، فإذا أتى به في أول الوقت يكون مجزيا لا
محالة ، لأنّ الانطباق قهري والاجزاء عقلي.
هذا وهو انما يتم
لو لم نكتف في صحّة العبادة بالملاك واعتبرنا منها الأمر ، وإلّا فتكون الصلاة
المأتي بها في أول الوقت في المثال مجزيا حتى على القول باقتضاء الأمر بالشيء
للنهي عن ضده ، فالذي ينبغي ان يقرّب به كلامه قدسسره ان يقال : انه لو ثبتت كبرى الاكتفاء بالملاك في العبادة
وأحرزت صغراها أيضا لا فرق بين المسلكين ، وان لم يتحقق أحد الأمرين من الصغرى أو
الكبرى كما هو الصحيح فهذه الثمرة صحيحة ، وكان يقول المحقق النائيني بمثل هذه
التحقيقات سمى المحقق محققا.
وقد أشكل عليه
بوجوه :
الأول : انّ
الطبيعي المتعلق به التكليف لا يخلو حاله بالإضافة إلى القيود عن أحد أنحاء ثلاثة
: لأنه اما يكون بالقياس إلى القيد بشرط شيء ، أو يكون بشرط لا بالنسبة إليه ، أو
يكون لا بشرط بنحو اللابشرط القسمي لا المقسمي الجامع بين الأقسام الثلاثة فانه
غير قابل لتعلق التكليف به.
وعليه فطبيعي
الصلاة المأمور به بالقياس إلى أول الوقت أعني المبتلى بالمزاحم ان كان من قبيل
الأول أي بشرط شيء فيستحيل تعلق التكليف به ، لأنه
مستلزم لطلب
الضدين وهو محال ، وان كان من قبيل الثالث أي لا بشرط المعبر عنه بالطبيعة المطلقة
، أو السارية فكذلك ، لأنه إذا استحال التقييد يستحيل الإطلاق أيضا ، فيتعين
الثالث ، فلا محالة يكون المأمور به بشرط لا عن تلك الخصوصية ، فلا يكون ذلك الفرد
المزاحم بالإزالة مصداقا للمأمور ، فلا تتم الثمرة المذكورة كما هو واضح.
وفيه : انا قد
ذكرنا مرارا انّ الإطلاق البدلي ليس بمعنى أخذ القيود ، وانما هو بمعنى رفض القيود
وإلغائها في مقام تعلق الطلب بالطبيعي وان كان في الخارج لا ينفك عنها.
وعليه فالفرد
المزاحم بالأهم بما هو فرد لا يكون واجبا ليلزم طلب الضدين ، بل الواجب نفس
الطبيعي ، وهو غير مزاحم بشيء ، وقد عرفت انّ انطباقه قهري والأجزاء عقلي ، ولهذا
ذكرنا انّ استحالة التقييد في بعض الموارد يستدعي ضرورية الإطلاق على ما مر بيانه
في بحث التعبدي والتوصلي.
الثاني : انّ
الممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، ومن الواضح اعتبار القدرة على متعلق التكليف عقلا ،
وإلّا فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، فالعقل يقيد التكليف المتعلق
بالطبيعي بغير الفرد الممتنع عقلا أو شرعا.
وفيه : انّ الجامع
بين الممتنع والممكن ممكن ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، فلا وجه لأن
يقيده العقل بغير الافراد الممتنعة أصلا.
ومن ثمّ بين
المحقق النائيني وجها آخر لاعتبار القدرة في متعلق التكليف غير حكم العقل
وهو : انّ نفس البعث وتحريك إرادة المكلف يقتضي ان يكون متعلقه امرا تحت اختياره
باعتبار القدرة من مقتضيات نفس التكليف والخطاب ،
__________________
وعليه فإذا تعلق
البعث بطبيعي وكان له افراد مقدورة وافراد غير مقدورة للمكلف يتعلق ذلك التكليف
بالمقدورة من افراده لا محالة ، نظير ما إذا فرضنا انّ هناك جسمان أحدهما قابل
لقبول الحرارة دون الآخر فإذا تحقق سببها لا محالة يتأثر منه القابل دون غيره ،
فلا يثبت إطلاق ليحتاج إلى تقييد العقل أصلا.
هذا ونقول :
الظاهر عدم تماميّة ما ذكره أيضا ، وذلك لأنّ الإيجاب ليس بمعنى البعث ولا التحريك
أصلا ، وانما هما من العناوين الانتزاعية ، فحقيقة الإيجاب ليس إلّا الاعتبار
المبرز ، ومن الواضح ان الاعتبار لا يستدعي كون متعلقه مقدورا للمكلف أصلا ،
فاعتبار القدرة فيه لا بد وان يكون من الخارج ، اما من حيث لزوم التكليف بما لا
يطاق ، وامّا من جهة اللغوية.
اما التكليف بما
لا يطاق فقد عرفت انّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور لا محالة. كما عرفت أيضا انّ
استحالة التقييد انما يستلزم استحالة الإطلاق في مقام الإثبات لأنّ تقابلهما تقابل
العدم والملكة ، واما الإطلاق الثبوتي وهو لحاظ عدم تقيد الطبيعي بكل من الأمر
الوجوديّ ، أو العدمي المعبر عنه باللابشرط القسمي في قبال بشرط بشيء ، وهو المقيد
بالأمر الوجوديّ وبشرط لا أعني المقيد بالأمر العدمي ، فقد يكون ضروريا إذا استحال
التقييد.
فلا يبقى في البين
إلّا مسألة اللغوية ، إذ ربما يقال انّ لحاظ الطبيعة بنحو اللابشرط القسمي أي لحاظ
عدم تقيدها بالأمر الوجوديّ ولا بعدمه لغو إذا كان بعض افراده غير مقدور للمكلف.
والجواب عنه : انّ
ذلك انما يتم بالإضافة إلى الممتنع العقلي الّذي يستحيل صدوره من الفاعل ، واما
الممنوع شرعا الّذي قد يتفق صدوره عن الفاعل لنسيان أو عصيان ، فليس الإطلاق
بالإضافة إليه لغوا ، إذ ربما يأتي به المكلف فيكون حينئذ مصداقا للمأمور به ويسقط
به ، الأمر من هذه الجهة لا من جهة الملاك ونحوه.
ومن ثم ذكرنا انّ
ثبوت الإطلاق وشموله لما يصدر عن المكلف لكن لا باختياره كما في الأمر بغسل البدن
فانه يشمل ما إذا وقع الإنسان في الحوض من غير اختيار فيسقط الأمر حينئذ بتحقق
المأمور به لا بحصول الغرض ، فلا يكون الإطلاق لغوا.
وبالجملة فشمول
الإطلاق الثبوتي الّذي هو محل كلام المحقق ـ لا الإثباتي الّذي تقابله مع التقييد
تقابل العدم والملكة ـ للممنوع شرعا لا مانع منه ، فيفصل بين الممتنع عقلا
والممتنع شرعا من هذا الحيث وليسا سيان من هذه الجهة.
الثالث : انّ
الطبيعي بجميع افراده ممتنع في زمان الإزالة ، فالأمر به حينئذ امر بغير المقدور.
والجواب عنه : انه
انما يتم لو أنكرنا الواجب التعليقي ، واما لو صححنا ذلك واكتفينا بالقدرة في ظرف
العمل في صحة الأمر فلا مانع من الأمر بالطبيعي الجامع بين جميع الافراد إذا كان
المكلف متمكنا من بعض افراده بين المبدأ والمنتهى أي في ظرف العمل.
فالإنصاف ان هذه
الثمرة متينة لو لم نكتف بالملاك. ومن ثم لا نحتاج إلى الالتزام بالترتب عند وقوع
التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق وان كان صحيحا في نفسه.
ثم انّ تمامية هذه
الثمرة حيث انها متوقفة على عدم كشف الملاك في الفرد المزاحم بالأهم ، أو عدم
الاكتفاء بالملاك في صحّة العبادة ، فلا بأس للتعرض لذلك.
اما الكبرى
والاكتفاء بقصد الملاك في صحّة العبادة ، فقد مر الكلام فيه مفصلا في بحث التعبدي
والتوصلي ، وذكرنا هناك انه لم يرد دليل على اعتبار خصوص قصد الأمر في الصلاة ، بل
الدليل وارد على الاجتزاء بكل نية صالحة ، كما ورد في الوضوء يأتي به بنية صالحة
يقصد بها ربه ، فيكفي مطلق إضافة العمل إلى المولى بأي
نحو كان.
واما الصغرى وكشف
الملاك في أمثال المقام ، فقد ادعى المحقق الخراسانيّ القطع بأنه لا فرق بين الفرد
المزاحم بالأهم وغيره من حيث الوفاء بالغرض والملاك ، وانّ خروجه عن الطبيعي
المأمور به ليس من باب التخصيص أو التخصص ، وانما هو من باب عدم قدرة المكلف وعجزه
عن الامتثالين.
وفيه : انه لا
منشأ لهذا القطع أصلا ، إذ كما نحتمل ان يكون الفرد المزاحم بالأهم وافيا بالملاك
نحتمل عدمه أيضا بان لا يكون في علم الله ذا ملاك أصلا ، فلا بدّ من إقامة الدليل
على ثبوته ، وقد استدل عليه بوجهين :
الأول : انّ كل
كلام له دلالتان مطابقية والتزامية بالمعنى الأعم الشامل للتضمن أيضا وان كانت
إحداهما لفظية والأخرى عقلية. والسيرة القطعية وبناء العقلاء جار على الأخذ
بالثانية كما يأخذون بالأولى في الأقارير وغيرها ، ولذا لو أقر من بيده المال من
المتخاصمين بأنه اشتراه من الآخر يؤخذ بإقراره ولا بد له من إثبات الشراء.
وقد استدل الإمام عليهالسلام لها في عدم ثبوت التحليل بالمتعة بقوله عزّ شأنه «فان
طلقها فلا جناح عليهما ان يتراجعا» فانه بالالتزام يدل على اعتبار عقد الدوام في المحلل ، كما
انه استفيد أقل الحمل من الآيتين إلى غير ذلك.
ومن ثم قلنا
بحجّية مثبتات الأمارات ولوازمها ، فلو أخبرت البينة بملاقاة شيء مع ما نعلم
بنجاسته ترتب عليها آثار الأخبار عن النجاسة ، ولو لم تكن البينة عالمة بنجاسة
الملاقي.
وعليه ففي المقام
إذا امر المولى بطبيعي الصلاة فمدلوله المطابقي هو وجوبه ،
__________________
ومدلوله الالتزامي
اشتمال كل فرد منها على الملاك ، فإذا قيد الوجوب والمدلول المطابقي بالإضافة إلى
بعض افراده لعدم القدرة عليه مثلا فلا وجه لرفع اليد عن المدلول الالتزامي بالنسبة
إليه أصلا بل هو باق على حالة.
وقد ذكر المحقق
النائيني قدسسره ما يمكن ان يرجع إلى هذا وحاصله : انّ القدرة لو اعتبرها
الشارع في لسان الدليل كما في آية الحج وآية التيمم فسنكشف عدم ثبوت الملاك عند
عدمها ، وامّا لو كانت معتبرة بحكم العقل ، اما من جهة استحالة التكليف بما لا
يطاق ، واما من حيث اقتضاء نفس البعث لذلك ، فحيث انّ الموضوع في المرتبة السابقة
على ثبوت التكليف وترتبه عليه مطلقا ، لأنّ التقييد انما يرد مقارنا لتحقق التكليف
وتعلقه بالموضوع ، ففي المرتبة السابقة عن وروده يكون الموضوع مطلقا فنتمسك
بإطلاقه.
وبالجملة : لو
اعتبرت القدرة في لسان الدليل كما في آية الحج وفي آية التيمم فانّ الأمر بالوضوء
وان كان مطلقا ، إلّا انّ الأمر بالتيمم حيث أخذ فيه عنوان من لم يجد ، والتفصيل
قاطع للشركة ، يستفاد من ذلك اختصاص التكليف بالوضوء لواجد الماء ، فلو فرضنا انّ
العاجز عن استعمال الماء شرعا توضأ لا يكون وضوءه مشتملا على الملاك ، ولو فرضنا
انّ غير المستطيع حج متسكعا لا يكون حجّه مشتملا على الملاك الملزم ، فلا يجزي عن
حجّة الإسلام إذا حصلت له الاستطاعة. والوجه في ذلك ظاهر فانّ ظاهر أخذ القدرة في
الخطاب اختصاص الملاك بالقادر أيضا.
واما لو لم تعتبر
القدرة في لسان الدليل ، وكان اعتبارها بحكم العقل ، اما من جهة قبح التكليف بما
لا يطاق ، وأمّا من حيث انّ إمكان التحريك يستلزم إمكان
__________________
التحرك ، لأنهما
متضايفان وهما متلازمان إمكانا وتحققا ، فحيث انّ حكم العقل بتقيد الموضوع انما هو
في مرتبة ثبوت التكليف ، ففي مرتبة الملاك التي هي سابقة على مرحلة الحكم يكون
إطلاق الموضوع باقيا فيؤخذ به ، فيثبت الملاك للقادر وغيره.
ثم أوضح قدسسره ذلك بأنّ نسبة الملاك إلى الحكم نسبة العلة إلى معلولها ،
وتقيد المعلول لا يستلزم تقييد علته ، هذا ملخص ما أطال الكلام فيه.
ونقول : اما أصل
الكلام وانّ سقوط الدلالة المطابقية عن الحجّية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية
ففيه : انّ الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقية ثبوتا وحجّية ، فإذا سقط الأولى
تسقط الثانية أيضا لا محالة ، وعلى ذلك سيرة العقلاء في المحاكم العرفية وغيرها ،
مثلا لو كان مال تحت يد زيد فقامت البينة على انه لعمر فمدلولها المطابقي كونه
ملكا له ومدلولها الالتزامي عدم كونه ملك زيد ، فلو فرضنا سقوط الدلالة المطابقية
بإقرار عمر بعدم كونه مالكا له ، فهل تبقى الدلالة الالتزامية على حالها ويعامل مع
ذلك المال معاملة مجهول المالك كلا؟!
وكذلك لو قامت
البينة على ملاقاة الإناء مع الكلب مثلا فمدلولها الالتزامي نجاسة الإناء فلو
علمنا بعدم ملاقاته مع الكلب واحتملنا نجاسته لملاقاته مع نجس آخر ، فهل يتوهم
بقاء المدلول الالتزامي على حجّيته والحكم بنجاسة الإناء؟ من الواضح خلافه.
والسر في ذلك ما
ذكرناه في بحث التعادل والتراجيح من انّ المخبر لا يخبر عن المدلول الالتزامي
مطلقا وانما يخبر عن الحصة الملازمة مع المدلول المطابقي ، ففي المثال الثاني تخبر
البينة عن النجاسة الناشئة من ملاقاة الإناء مع الكلب ، وفي المثال الأول تخبر عن
عدم ملكية زيد الملازم لملكية عمر لا مطلقا. فإذا علم عدم تحقق المدلول المطابقي
أو سقط عن الحجّية لمعارضة ونحوها لا يبقى حينئذ مدلول التزامي
أصلا ، وهذا واضح
جدا.
واما ما أفاده
الميرزا قدسسره فان رجع إلى ذلك كما لا يبعد استفادة ذلك مما ذكره في آخر
كلامه من انّ نسبة الحكم إلى الملاك نسبة المعلول إلى علته فجوابه ما تقدم ، وإلّا
فالجواب عنه أوضح. فانّ أول مقدمات التمسك بالإطلاق كون المولى في مقام البيان ،
ومن الواضح انّ الحاكم كثيرا ما يكون غافلا عن الملاك فضلا من ان يكون في مقام
بيانه ، ومع التنزل يكون الحكم العقلي صالحا للقرينية على تقييد الملاك أيضا ،
فيحتمل اعتماده عليه ، فيكون الكلام من المحتف بما يصلح للقرينية ، فلا يتم هناك
إطلاق.
فالإنصاف انّ ما
هو المشهور من عدم وجود الكاشف عن ثبوت الملاك هو الصحيح لو لم نقل بتمامية إطلاق
الأمر وشموله للفرد المبتلى بالمزاحم أيضا.
إلّا انّ الصحيح :
كما ذهب إليه المحقق قدسسره استكشاف الملاك فيه من نفس الأمر ، لأنّ الأمر متعلق
بالطبيعي مطلقا ، وانطباقه على ذلك الفرد ، فيستكشف منه الملاك.
وتوضيح ذلك ببيان
مقدمة وهي : انّ عدم المقدورية العقلية تكون على أنحاء ثلاثة ، كما انّ عدم القدرة
الشرعية على قسمين ، فالمجموع خمسة :
الأول : ان لا
يكون الطبيعي مقدورا بجميع افراده الطولية والعرضية كالطيران في الهواء ، ولا
إشكال في استحالة تعلق الأمر به ، لأنه تكليف بما لا يطاق.
الثاني : ان يكون
بعض حصصه وافراده خارجا عن قدرة المكلف ، كما لو امر المولى بأكل حيوان في مجلس
واحد فانّ أكل الحيوان الكبير كالجاموس غير مقدور في مجلس واحد ، وإطلاق الأمر
بأكل الحيوان الجامع بين الحصص المقدورة وغيرها ليس تكليفا بما لا يطاق ، نعم يكون
إطلاقه لغوا لا يصدر من الحكيم.
الثالث : ان يكون بعض
افراد الطبيعي خارجا عن تحت اختيار المكلف
وان أمكن صدوره
منه بغير اختياره ، كالأمر بغسل الثوب أو البدن ، فانّ إطلاقه يعم الغسل المتحقق
قهرا على المكلف ، وإطلاق الأمر بالإضافة إلى هذه الحصة لا مانع منه أصلا.
واما عدم القدرة
الشرعية ، فتارة : تكون بالإضافة إلى جميع افراد الطبيعي عرضا وطولا ، كما لو وقع
التزاحم بين واجبين مضيقين كصلاة الخسوف وبعض الصلوات اليومية عند ضيق وقتها ،
فانّ صاحبة الوقت تتقدم لأهميتها ، ولكن صلاة الخسوف بجميع افرادها تكون خارجة عن
اختيار المكلف شرعا ، ومن الواضح عدم صحّة تعلق الأمر بتلك الطبيعة في عرض الأمر
بالأهم لامتناع جميع افرادها ، كما لا يمكن استكشاف الملاك لها في عرض ثبوت الملاك
للأهم ، نعم يمكن تعلق الأمر بها بنحو الترتب كما يمكن كشف الملاك لها كذلك.
وأخرى : يكون بعض
افراد الطبيعي غير مقدور للمكلف شرعا كموارد وقوع التزاحم بين الواجب المضيق
والموسع ، فانّ الطبيعي غير مقدور للمكلف شرعا ، فانّ الطبيعي الموسع يكون بعض
افراده مقدورة شرعا ، فلا مانع من تعلق الأمر بنفس الطبيعي الجامع للافراد
المقدورة وغيرها ، إذ لا يلزم منه التكليف بالمحال ، كما لا يلزم اللغوية أيضا على
ما عرفت فيما تقدم ، وعليه فيثبت الملاك في الفرد المزاحم للأهم أيضا لانطباق
الطبيعي عليه ، فيثبت له الأمر والملاك عرضا من دون حاجة إلى الترتب.
هذا تمام الكلام
في المقام.
المحتويات
كلمة
الموسسة................................................................ ٥
ـ ٦
تمهيد........................................................................ ٧
ـ ٨
الأمر الأول ، في بيان موضوع علم الاصول..................................... ٩ ـ
٢٠
الجهة الأولى : هل تتوقف علمية كل علم
أن يكون له موضوع جامع لموضوعات مسائله ٩
ـ ١٢
الجهة الثانية : الفرق بين العوارض
الذاتية والغريبة............................... ١٢
ـ ١٤
الجهة الثالثة : على تقدير ثبوت الموضوع
للعلم هل يلزم أن يكون البحث في مسائله عن عوارض الموضوع الذاتية فقط ، أو يبحث
فيها عن عوارضه الغريبة أيضا.................................................... ١٤
ـ ٢٠
الأمر الثاني : تعريف علم الاصول........................................... ٢١
ـ ٢٦
الجهة الاولى : في وجه الاشكال على
تعريف القوم............................. ٢١
ـ ٢٢
الجهة الثانية : في تحقيق أصل المطلب......................................... ٢٢
ـ ٢٤
اشكال على تعريف القوم مع الجواب عنه.................................. ٢٤ ـ ٢٦
الأمر الثالث : في الوضع................................................... ٢٧
ـ ٦٥
بطلان
الدلالة الذاتية.................................................... ٢٧
ـ ٢٨
حقيقة الوضع............................................................. ٢٨
ـ ٣٣
ـ ما يظهر من الكفاية من أن الوضع أمر
واقعي ، والجواب عنه................ ٢٨
ـ ٢٩
ـ احتمال أن يكون الوضع أمراً اعتباريا..................................... ٢٩
ـ ٣٠
ـ احتمال أن يكون حقيقة الوضع اعتبار
الوضع الحقيقي...................... ٣٠
ـ ٣١
ـ ما أفاده للمحقق النائيني من أن الوضع
وسط بين التكوين والجعل............ ٣١
ـ ٣٢
ـ المختار في حقيقة للوضع................................................ ٢٢
ـ ٣٣
ـ ثمرات تترتب على حقيقة للوضع.............................................. ٣٣
أقسام الوضع :
المقام الأول : في امكان الوضع العام
والموضوع له الخاص........................ ٣٤
ـ ٣٥
المقام الثاني : في وقوع الوضع العام
وللموضوع له الخاص وتحقيق الكلام عن المعاني الحرفية ٣٥ ـ ٤٦
ما نسب الى الرضي من أن المعاني الحرفية
علائم لكيفية استعمال المعاني الأسمية ولحاظها ٣٥
ـ ٣٦
ما ذكره صاحب الكفاية من اتحاد المعاني
الاسمية مع المعاني الحرفية ، والجواب عنه ٣٦
ـ ٤٢
المختار في بيان المعاني الحرفية............................................. ٤٢
ـ ٤٥
الثمرة اللتي تترتب في المقام.................................................... ٤٥
هل يكون الموضوع له في الحروف عاماً
أيضاً ام لا........................... ٤٥
ـ ٤٦
الهيئات................................................................... ٤٦
ـ ٥٣
الفرق بين الأخبار الانشاء............................................... ٥٣
ـ ٥٥
ـ ما ذكره المشهور من أن الاختلاف
بينهما يكون باختلاف الدواعي........... ٥٣
ـ ٥٤
ـ الصحيح في بيان حقيقة الاخبار الانشاء.................................. ٥٤ ـ ٥٥
ـ معنى أسماء الاشارة والضمائر............................................ ٥٦
ـ ٥٨
ـ الصحيح ما ذكره النحويون من أن أسماء
الاشارة موضوعة لنفس الاشارة....... ٥٧
ـ ٥٨
استعمال اللفظ في نوعه او صنفه او مثله..................................... ٥٨ ـ ٦١
أقسام الدلالة............................................................... ٦١
ـ ما ذهب اليه المشهور من انحصار
الدلالة الوضعية بالدلالة االتصورية.......... ٦١
ـ ٦٢
ـ ما ذهب اليه بعض المحققين من انحصار
الدلالة الوضعية بالدلالة التصديقية......... ٦٢
ـ المختار في المقام........................................................ ٦٢
ـ ٦٣
ـ وضع المركبات......................................................... ٦٣ ـ
٦٤
ـ جريان العجاز والاستعارة والتشبيه في
المركبات................................... ٦٤
ـ الكلام فيما اصطلح عليه من أن وضع
المواد يكون شخصياً ووضع الهيئات نوعياً ٦٤
ـ ٦٥
الحقيقة الشرعية........................................................... ٦٦
ـ ٦٨
ـ ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني.................................... ٦٦ ـ
٦٨
ـ ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعيني..................................... ٦٧
ـ ٦٨
ـ ثبوت الحقيقة المتشرعية...................................................... ٦٨
ـ لا حاجة للبحث عن علائم الحقيقة
والمجاز..................................... ٦٨
الصحيح والأعم........................................................... ٦٩
ـ ٩٦
ـ ثمرة البحث................................................................ ٦٩
ـ الكلام فيما ذ كر من عدم الحاجة الى
تصوير الجامع............................. ٧٠
ـ معنى الصحة.......................................................... ٧٠ ـ
٧١
ـ الوجه المذكورة لتصوير الجامع الصحيحي.................................. ٧١ ـ ٧٧
ـ الوجوه المذكورة لتصوير الجامع الاعمى.................................... ٧٧ ـ
٨٣
ـ ثمرة البحث........................................................... ٨٣
ـ ٩٦
الثمرة الاولى : ما قيل من أنه على
الصحيحي عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته لللمأمورية به لابد من الرجوع الى
الاشتغال ، وعلى الاعمى يرجع الى البراءة............................................... ٨٤
ـ ٨٧
الثمرة الثانية : على الاعمى يمكن
التمسك باطلاق الالفاظ وعلى الصحيحي لا يمكن ذلك ٨٧
ـ ٩٠
ـ ثمرة البحث في المعاملات................................................ ٩١
ـ ٩٥
الاشتراك................................................................ ٩٧
ـ ١٠٢
ـ المراد من الوجوب والامتناع................................................... ٩٧
ـ القول بوجوب الاشتراك ، والجواب عنه.................................... ٩٧ ـ
٩٧
ـ القول بامتناع الاشتراك ، والجواب عنه.................................... ٩٧ ـ
٩٩
ـ المختار في المقام...................................................... ٩٩
ـ ١٠٠
ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى..................................... ١٠٠
ـ ١٠٢
المشتق................................................................ ١٠٣
ـ ١٠٤
تحرير محل النزاع........................................................ ١٠٣
ـ ١٠٦
ـ لحوق بعض الجوامد بالمشتقات....................................... ١٠٥
ـ ١٠٦
ـ ثمرة البحث........................................................ ١٠٧ ـ
١١١
ـ اختلاف المشتقات.................................................. ١١١
ـ ١١٣
ـ الكلام في صيغ المبالغة واسم الآلة........................................... ١١٢
ـ الكلام فيما
استثناء المحقق النائيني عن محل البحث............................. ١١٣
ـ المراد بالحال
في محل النزاع............................................ ١١٤
ـ ١١٥
ـ ما ذكره صاحب
الكفاية من أن المراد بالحال التلبس بالنسبة..................... ١١٤
ـ التمسك بالأصل
العملي............................................ ١١٥
ـ ١١٧
ـ الصحيح عدم وجود
أصل عملي في المقام ، بل لابد من الرجوع الى الأصل الجاري في الحكم الفرعي ١١٦ ـ
١١٧
ـ المختار في المسألة................................................... ١١٧
ـ ١٢٣
ـ الحق أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس
وحقيقة فيه.................... ١١٨
ـ ١٢٠
ـ ما استدل به لوضع المشتق للاعم ،
والجواب عنه........................ ١٢٠
ـ ١٢٣
تنبيهات.............................................................. ١٢٤
ـ ١٤٠
التنبيه الأول : في تركب معاني المشتقات
وبساطتها.......................... ١٢٤
ـ ١٣١
التنبيه الثاني........................................................... ١٣٢
ـ ١٣٣
التنبيه الثالث : فيما ذهب اليه صاحب
الفصول من اعتبار مغايره المبدأ مع الذات في المشتقات ١٣٤ ـ ١٣٨
التنبيه الرابع : ما ذهب اليه صاحب
الفصول من أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات حقيقة تلبسها بالمبدأ ١٣٩ ـ ١٤٠
المقصد الأول ، الأوامر........................................................ ١٤١
المقام الأول : في مادة الأمر.............................................. ١٤١
ـ ١٧٣
الجهة الأولى : في المعاني التي تستعمل
فيها مادة الأمر..................... ١٤١
ـ ١٤٣
الجهة الثانية : في اعتبار العلو
والاستعلاء في صدق الأمر........................ ١٤٣
الجهة الثالثة : في أن الأمر حقيقة في
الوجوب.................................. ١٤٣
الجهة الرابعة........................................................ ١٤٤ ـ
١٦٩
النقطة الاولى : الطلب والارادة هل هما
موضوعان لمفهوم واحد أو ان مفهوم كل منهما مغاير مفهوم الآخر ١٤٤ ـ ١٤٦
النقطة الثانية : في بيان معاني الجمل
الانشائية والجمل الخبرية........................ ١٤٦
النقطة الثالثة : في الكلام النفسي........................................ ١٤٦
ـ ١٥١
ـ أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي...................................... ١٤٨
ـ ١٥١
النقطة الرابعة : في الجبر والاختيار........................................ ١٥١
ـ ١٦٩
ـ الرد على
الاشاعرة الذين ذهبوا الى أن الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى........ ١٥٤ ـ
١٥٧
ـ أدلة الاشاعره ،
والجواب عنها........................................ ١٥٧
ـ ١٦١
ـ معنى الارادة والاختيار لغة........................................... ١٦٢
ـ ١٦٣
ـ ما اذهب اليه الفلاسفة من أن الافعال
الاختيارية معلولة للارادة.......... ١٦٤
ـ ١٦٥
ـ مناقشة صاحب الكفاية فيما ذكره من
انقسام الارادة الى التكوينية والتشريعية...... ١٦٦
ـ مناقشة صاحب الكفاية فيما ذكره من أن
اختيار السعادة والشقاوة والشقاوة ينتهي الى الذاتي ١٦٦ ـ ١٦٩
تنبيهان............................................................... ١٦٩
ـ ١٧٠
الأول : في أن قولنا في الصلاة «بحول الله
وقوته» يشير الى المختار في الأمربين الأمرين ١٦٩
ـ ١٧٠
الثاني : لا منافاة بين الأمر بين
الأمرين وما ورد في بعض الآیات والروایات من اسناد
فعل العبد الى الله تعالى وتعليقه على مشيئته................................................................... ١٧٠
ـ ١٧٣
المقام الثاني : صيغة الأمر................................................ ١٧٤
ـ ١٨٠
ـ الفارق بين
الوجوب والندب................................................ ١٧٦
ـ الكلام فيما ذكره القدماء من أن
الوجوب مركب من الطلب مع المنع من الترك والندب مركب من الطلب مع الترخيص في الترك................................................................... ١٧٦
ـ ١٧٧
ـ الكلام فيما ذكره المحقق النائيني من
الفرق بين الوجوب والندب من حيث المصلحة الملزمة وغير الملزمة ١٧٧ ـ ١٧٨
ـ المختار في أن الصيغة موضوعة لابراز
اعتبار اللابدية على على ذمة المكلف....... ١٧٨
ـ امور مهمة تترتب في المقام........................................... ١٧٨
ـ ١٧٩
ـ الكلام فيما ذهب اليه صاحب الكفاية من
أن الجمل الخيرية المستعملة في مقام الانشاء لا تستعمل في غير معانيها ١٧٩ ـ ١٨٠
المقام الثالث : في دلالة الأمر على
التعبدية والتوصلية....................... ١٨١
ـ ٢٠٨
ـ الفرق بين التعبدي والتوصلي......................................... ١٨١
ـ ١٨٢
ـ مقتضى الأصل فيما اذا شك في تعبدية
واجب وتوصليته................. ١٨٢
ـ ٢٠٨
ـ الشك في التوصلية بمعنى اعتبار
المباشرة والاختيار واتيان العمل في ضمن الفرد المباح وعدم اعتبار ذلك ١٨٧ ـ ١٨٩
الفرع الأول : اذا صدر الفعل من المكلف
من دون اختياره وشك في سقوط التكليف بالفرد غير الاختياري وعدمه ١٨٧
الفرع الثاني : إذا أتى بالواجب غير
الشخص المكلف به وشك في سقوط تكليفه بفعل الغير وعدمه ١٨٧ ـ ١٨٩
الفرع الثالث : إذا أتى المكلف بطبيعي
الواجب في ضمن فرد محرم وشك في سقوط التكليف بذللك ١٨٩
ـ الشك في التعبدية والتوصلية بمعنى قصد
القربة وعدمه.................... ١٨٩
ـ ٢٠٨
المقام الاول : فيما يقتضيه دليل وجوب
الواجب............................ ١٩٠
ـ ٢٠٥
المقام الثاني : في أنه هل يكون في
البين عموم يقتضى كون كل واجب تعبدي إلاّ ما خرج بالتخصيص وقام الدليل على توصليته ٢٠٥ ـ ٢٠٨
المقام الرابع : في دلالة الأمر على
النفسية والتعينية والعينية................... ٢٠٩
ـ ٢١١
المقام الخامس ، في دلالة الأمر عقيب
الحظر...................................... ٢١٢
المقام السادس ، في دلالة الأمر على
المرة أو التكرار......................... ٢١٣
ـ ٢١٥
ـ الكلام فيما يقتضيه الاطلاق اللفظي.................................. ٢١٤ ـ ٢١٥
ـ الكلام فيما يقتضية الأصل العملي.......................................... ٢١٥
المقام السابع : في دلالة الأمر على
الفور أو التراخي........................ ٢١٦
ـ ٢١٩
١ ـ في دلالة دليل الوجوب أو الندب على
ذلك أو دلالة دليل آخر علیه... ٢١٦ ـ ٢١٨
٢ ـ على فرض تسليم
الفور فلو أحل به فهل يجب الاتيان به بعد ذلك أم لا....... ٢١٨
٣ ـ وجوب الاتيان
فوراً ففواً وعدمه........................................... ٢١٩
المقام الثامن : الاجزاء................................................... ٢٢٠
ـ ٢٤٧
ـ الفرق بين هذه
المسألة ومسألة التكرار ، وتبعية القضاء للاداء............ ٢٢٠
ـ ٢٢٣
المقام الأول : في اجزاء الأمر
الاضطراري عن الواقع......................... ٢٢٣
ـ ٢٢٧
١ ـ الاجزاء من
حيث القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت............... ٢٢٣
ـ ٢٢٤
٢ ـ الاجزاء من
حيث الاداء فيما إذا ارتفع العذر في الوقت............... ٢٢٤
ـ ٢٢٧
المقام الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري
عن الواقع............................ ٢٢٧
ـ ٢٣٩
١ ـ فيما لو انكشف
الخلاف قطعاً..................................... ٢٢٨
ـ ٢٣١
٢ ـ فيما لو انكشف
الخلاف بقيام الامارة على خلاف الحكم الظاهري..... ٢٣١
ـ ٢٣٩
تنبيهات.............................................................. ٢٤٠
ـ ٢٤٧
التنبيه الأول : فصل في الكفاية على
القول بالسببية المستلزمة للاجزاء بين ما إذا قامت الامارة على الحكم ثم انكشف
الخلاف ، وبين ما اذا قامت على بيان متعلق التكليف فانكشف خلافها ، فذهب الى القول
بالاجزاء في الثاني دون الاول ٢٤٠ ـ ٢٤١
التنبيه الثاني : إذا شك في الطريقة
والسببية العجزية فالقاعدة هل تقتضي الاجزاء او عدمه ٢٤١
التنبيه الثالث : أدلة استدل بها البعض
على الاجزاء........................ ٢٤١
ـ ٢٤٤
ـ الكلام في اجزاء الحكم الظاهري الثابت
لشخص ونفوذه بالقياس الى شخص آخر عدمه ٢٤٦
ـ ٢٤٧
المقام التاسع : في مقدمة الواجب......................................... ٢٤٨
ـ ٣٦٤
الأمر الأول : في ان هذه المسألة من
المسائل الاصولية....................... ٢٤٨
ـ ٢٤٩
الأمر الثاني : في المراد من الوجوب
المبحوث عنه في المقام.................... ٢٤٩
ـ ٢٥٠
الأمر الرابع : في دخول المقدمات
الداخلية في محل النزاع وعدمه.............. ٢٥٠
ـ ٢٥٥
ـ تقسيم المقدمة
الى العقلية والشرعية والعادية................................... ٢٥٥
ـ تقسيم المقدمة
الى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة....................... ٢٥٥
ـ ٢٥٦
ـ تقسيم المقدمة
الى مقدمة للوجوب ومقدمة الواجب............................ ٢٥٦
ـ المقدمة العلمية............................................................ ٢٥٦
الشرط المتأخر......................................................... ٢٥٦
ـ ٢٧١
الكلام في الشرط
المتأخر بالقياس الى الواجب........................... ٢٥٨
ـ ٢٦٢
الكلام في الشرط
المتأخر بالقياس الى الحكم............................. ٢٦٣
ـ ٢٧١
الواجب المطلق والواجب المشروط......................................... ٢٧٢
ـ ٢٨٢
ـ معنى الاطلاق والاشتراط................................................... ٢٧٢
ـ الكلام في أنّ القيود المأخوذة في
الكلام هل ترجع الى الهيئة أو العادة...... ٢٧٢
ـ ٢٨١
ـ الكلام فيما ذكره الشيخ (قده) من لزوم
رجوع القيد مطلقاً الى المادة....... ٢٧٣
ـ ٢٧٥
ـ الوجوه المذكورة لاستحالة رجوع القيد
الى الهيئة.......................... ٢٧٥
ـ ٢٨١
المقدمة المفوقة.......................................................... ٢٨٣
ـ ٢٨٨
وجوب التعلم.......................................................... ٢٨٩
ـ ٢٩٤
الواجب المعلق......................................................... ٢٩٥ ـ ٣١٠
ـ المراد من الواجب المعلق.............................................. ٢٩٥
ـ ٢٩٦
ـ الكلام في الوجوه المذكورة لاستحالة
الواجب المعلق...................... ٢٩٧
ـ ٣٠٠
ـ تنبيهان............................................................ ٣٠١
ـ ٣٠٢
ـ الكلام فيما إذا كان الدليل مجملاً ،
وتردد أمر القيد بين أن يرجع الى الهيئة بنحو الشرط المقارن وبين رجوعه الى المادة ٣٠٣ ـ ٣١٠
الواجب النفسي والغيري................................................ ٣١١
ـ ٣٢٦
المقام الأول : في تعريف الواجب النفسي
والغيري........................... ٣١١
ـ ٣١٥
المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل
اللفظي عند الشك في الوجوب النفسي والغيري ٣١٥
ـ ٣١٦
المقام الثالث : فيما يقتضيه الأصل
العملي................................ ٣١٦
ـ ٣١٩
ـ الكلام في ترتب الثواب على امتثال
الواجب الغيري وعدمه............... ٣٢٠
ـ ٣٢٦
المقدمة الموصلة......................................................... ٣٢٧ ـ ٣٤٤
ـ الاقوال في المسألة......................................................... ٣٢٧
ـ الكلام فيما نسب الى الشيخ من اعتبار
قصد الايصال.................. ٣٢٨ ـ
٣٣٠
ـ الكلام في الثمرات المترتبة على القول
باعتبار قصد الايصال.............. ٣٣٠
ـ ٣٣١
ـ الصحيح ما ذهب اليه صاحب الفصول من
اعتبار الايصال الخارجي في وجوب المقدمة ٣٣١
ـ ٣٣٣
ـ الكلام فيما استدل به على عدم اختصاص
الوجوب بالموصلة............. ٣٣٣ ـ ٣٣٧
ـ الكلام فيما اختاره صاحب الحاشية
والميرزا النائيني مما يكون نتيجة عدم وجوب غير الموصلة من المقدمة ٣٣٧ ـ ٣٤١
ـ الكلام فيما جعله صاحب الفصول من
ثمرات المقدمة الموصلة صحة العبادة المضادة لواجب أهم ٣٤٢ ـ ٣٤٤
الواجب الاصلي والتبعي................................................ ٣٤٥
ـ ٣٤٦
ثمرة القول بوجوب المقدمة............................................... ٣٤٥
ـ ٣٤٦
أدلة وجوب المقدمة..................................................... ٣٥٦
ـ ٣٦٠
المقام الأول : في مقتضى الاصل العملي
عند الشك في وجوب المقدمة......... ٣٥٦
ـ ٣٥٧
المقام الثاني : في ما ذكر دليلاً على
وجوب المقدمة.......................... ٣٥٧
ـ ٣٦٠
ـ تفصيلات ذكرت في المقام.................................................. ٣٦٠
مقدمة الحرام........................................................... ٣٦١
ـ ٣٦٤
المقام العاشر : الأمر بالشيء هل يقتضي
النهي عن الضد أم لا.............. ٣٦٥
ـ ٣٨٧
المقام الأول : في الضد العام............................................. ٣٦٥
ـ ٣٦٧
المقام الثاني : في الضد الخاص............................................ ٣٦٧
ـ ٣٧٧
ـ أقوال المسألة....................................................... ٣٦٩ ـ ٣٧٠
ـ الأدلة التي ذكرت لابطال المقدمية.................................... ٣٧٠
ـ ٣٧٦
ـ تفصيل المحقق الخونساري بين الضد
الموجود وغيره....................... ٣٧٦
ـ ٣٧٧
ثمرة البحث............................................................ ٣٧٧
ـ ٣٨٧
|